كتاب :تحفة الفقهاء
المؤلف : علاء الدين السمرقندي

وإن أكل مع الخبز عنبا وسائر الفواكه أو البقول لا يحنث بالاتفاق لأنها لا تؤكل إداما مقصودا بل هي تبع للأكل مع الإدام
وإن أكل مع الخبز الجبن واللحم والبيض فعلى قول أبي حنيفة و أبي يوسف لا يحنث ولا يكون ذلك إداما
ولو أكل الخبز مع اللحم يحنث لأنه تبع
ولو أكل الأرز والعصائد لا يحنث لأنه يؤكل مقصودا في العرف
وإن كان في موضع يؤكل تبعا للخبز يكون إداما عند محمد والمسألة معروفة
ولو حلف لا يأكل شواء ونوى أكل كل مشوي يحنث لأنه نوى حقيقة كلامه
وإن لم يكن له نية ينصرف إلى اللحم المشوي لأن الاسم له عادة
ولو حلف لا يأكل طبيخا ولا نية له ينصرف إلى اللحم المطبوخ وإلى المرقة المتخذة منه لما فيها من أجزاء اللحم لأن الطبيخ في العرف اسم لهذا والعبرة للعرف في الباب

باب من اليمين
على أشياء مختلفة في الباب فصول مختلفة ومسائل متفرقة إذا قال الرجل عبده حر إن وهبت لفلان شيئا أو تصدقت عليه أو أعرته أو أعطيته أو نحلته أو أقرضته ثم فعل ذلك ولم يقبل المحلوف عليه فإنه يحنث
وإن حلف على عقد فيه بدل مثل البيع والإجارة والصرف والسلم ونحوها ففعل الحالف ولم يقبل الآخر لا يحنث لأن الأول تمليك من أحد الجانبين إلا أن القبول شرط لثبوت الحكم في حقه فقد وجد ما ينطلق عليه الاسم فيحنث
والفصل الثاني تمليك من الجانبين لغة وشرعا فلا يتحقق الاسم إلا بوجود الإيجاب من أحدهما والقبول من الآخر
ولو باع بيعا فاسدا يملك به إذا قبض أو صحيحا وقبل يحنث لأن اسم البيع لغة يقع على الفاسد والصحيح جميعا
ولو باع بيعا فيه خيار البائع أو المشتري حنث عند محمد وعند أبي يوسف لا يحنث لأنه مع الخيار لا ينعقد سببا
و محمد يقول إنه انعقد سببا لكن تأخر حكمه فهو كالبيع الفاسد
ولو قال والله لا أتزوج اليوم ولا نية له فتزوج نكاحا فاسدا لا يحنث استحسانا لأن المقصود هو الحل في العقد المضاف إلىالمستقبل فيقيد بالصحيح بخلاف البيع لأن المقصود ثم هو الملك
وكذلك إذا حلف لا يصلي يقع على الصحيح لأن المقصود هو التقرب ولا يحصل في الفاسد
أما إذا حلف في الماضي بأن قال والله ما تزوجت أو ما صليت فإنه يقع على الفاسد أيضا لأن الغرض هو الإخبار والاسم يقع عليهما
ولو حلف لا يصلي فكبر ودخل في الصلاة لا يحنث ما لم يقيد بالسجدة استحسانا لأنه أفعال مختلفة فما لم يوجد الكل لا يسمى مصليا
ولو حلف لا أصلي صلاة لا يحنث ما لم يصل ركعتين لأن أدنى الصلاة ركعتان
ولو حلف لا يصلي الظهر لا يحنث ما لم يقعد القعدة الأخيرة لأن صلاة الظهر مقدرة بالأربع
ولو حلف لا يصوم فأصبح صائما يحنث لأنه يسمى صائما
ولو حلف لا يصوم صوما لم يحنث ما لم يصم اليوم لأن أقل الصوم الشرعي يوم كامل
ولو حلف لا يحج أو لا يحج حجة لا يحنث حتى يطوف طواف الزيارة لأن الحج عبارة عن أجناس أفعال فيكون اسم الحج واقعا على الكل حقيقة لا على البعض وللأكثر حكم الكل
ولو حلف لا يعتمر وأحرم فطاف أربعة أشواط حنث لأنه وجد الأكثر
ولو جامع حتى فسد الحج لا يحنث لأن اليمين انعقدت على الحج الذي هو قربة والفاسد ليس بقربة
وكذلك إذا حلف لا يصوم صوما ثم أفطر لا يحنث لأنه لم يوجد الصوم التام
ولو حلف لا يصوم فصام ساعة ثم أفطر يحنث لأن الحنث قد حصل بصوم ساعة فبالإفطار لا يبطل الحنث وإن فسد الصوم من الأصل
ولو حلف ليفطرن عند فلان فأفطر بالماء في منزله ثم تعشى عند فلان حنث لأن شرط بره الإفطار عند فلان وهو اسم لما يضاد الصوم وذلك حصل في منزله بالماء
وإن نوى به العشاء عند فلان لا يحنث لأنه نوى به المتعارف يقال فلان يفطر عند فلان إذا كان يتعشى عنده وإن كان أصل الفطر يقع في منزله
وإذا حلف لا يلبس من غزل فلانة شيئا ولا نية له فلبس ثوبا قد غزلته فلانة يحنث في يمينه لأن الغزل عينه لا يلبس فيقع على ما يصنع منه وهو الثوب
ولو نوى الغزل بعينه لا يحنث إذا لبس ذلك الثوب لأنه نوى حقيقة كلامه
ولو حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة يقع على الثوب
ولو نوى الغزل لا يصدق
ولو حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها لا يحنث لأن الثوب اسم لشيء مقدر فلا يقع على بعضه
ولو حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها حنث لأن البعض يسمى غزلا
ولو حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا دخاريصه أو تلابيبهمن غزل فلانة يحنث لأن هذا القدر صار ملبوسا من غزلها بلبس الثوب
ولو لبس زرا وعروة من غزلها لا يحنث لأن الزر لا يصير ملبوسا بلبس القميص
ولو لبس تكة من غزلها لا يحنث عند أبي يوسف لأنه يقال شد التكة ولا يقال لبس
وعند محمد يحنث
ولو حلف لا يلبس مما يشتريه فلان فاشتراه فلان مع غيره لم يحنث لأنه لبس بعض ثوب اشتراه فلان لا كله
ولو حلف لا يأكل مما يشتريه فلان فاشتراه فلان مع غيره فأكل منه حنث لأنه قد أكل ما اشتراه فلان لأنه يقع مع البعض
ولو حلف لا يلبس من نسج فلان فنسجه فلان مع غيره يحنث
ولو قال لا يلبس من ثوب نسجه فلان لا يحنث إذا نسجه مع غيره لما قلنا
ولو حلف لا يأكل من طبيخ فلان فأكل مما طبخ فلان وغيره حنث لأن كل جزء من الطبيخ طبيخ
ولو قال لا آكل من قدر طبخها فلان فأكل مما طبخ فلان مع غيره لا يحنث لأن كل جزء من القدر ليس بقدر
ولو قال لا آكل خبز فلان فأكل خبزا مشتركا بينه وبين غيرهحنث لأن كل جزء يسمى خبزا
ولو حلف لا يأكل لفلان رغيفا فأكل رغيفا مشتركا لا يحنث لأن بعضه لا يسمى رغيفا
ولو حلف لا يأكل مما خبز فلان ومما طبخ فالخباز هو الذي يضرب الخبز في التنور دون من عجنه وبسطه والطابخ هو الذي يوقد النار دون الذي ينصب القدر ويصب الماء واللحم فيه وإنما ذلك مقدماته لأن الطبخ ما ينضج به اللحم وذلك يحصل بالإيقاد
ولو حلف لا يأكل من كسب فلان فالكسب ما يصير ملكا للإنسان بفعله أو بقوله مثل الاستيلاء والاصطياد والبيع وغيرها لأنه لا بد من القبول في حق الحكم في الأسباب الشرعية التي يثبت بها الملك فأما الميراث فليس بكسب لأنه يثبت به الملك من غير صنعه
ولو مات المحلوف عليه وترك أكسابه فورثه الحالف فأكل حنث لأنه أكل من أكساب المحلوف عليه لأنه لا يصير كسبا للوارث فلم تنقطع الإضافة عن الأول
ولو باع المحلوف عليه كسبه من رجل فأكل منه الحالف لا يحنث لأنه صار كسبا للمشتري فانقطعت الإضافة عن الأول
وإن حلف لا يجلس على الأرض
فجلس على شيء حائل بينه وبين الأرض كالبوري والبساط فإنه لا يحنث لأنه يقال جلس على البساط دون الأرض
ولو جلس على ثيابه حنث لأنها تبع للجالس سمي جالسا علىالأرض لا على ثيابه
ولو حلف لا يجلس على هذا الفراش فجعل فوقه بساطا آخر فجلس عليه لا يحنث لأنه انقطعت الإضافة عن الأول
ولو حلف لا يجلس على هذا الفراش أو لا ينام فجعل فوقه فراشا آخر فنام عليه لا يحنث عند محمد لما قلنا
وقال أبو يوسف يحنث لأنه يحصل به زيادة توطئة ولين فيكونان مقصودين بالنوم عليهما
وأجمعوا أنه إذا حلف لا يجلس على الفراش فجعل فوقه محبسا أو قراما حنث لأنه تبع للفراش
ولو حلف لا يجلس على هذا السرير أو الدكان أو السطح فجعل فوقه مصلى أو فراشا أو بساطا ثم جلس عليه حنث لأن السرير يجلس عليه هكذا غالبا
ولو جعل فوق السرير سريرا أو فوق السطح سطحا آخر لا يحنث لأن الجلوس يضاف إلى الثاني دون الأول
ولو نوى الجلوس على اللوح والأرض والسطح يصدق فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء لأنه خلاف المعتاد وإن كان حقيقة
ولو حلف لا يجلس على ألواح هذا السرير فجلس على بساط فوقه لا يحنث لأنه لم يجلس على اللوح
ولو حلف لا يجلس على الأرض فجلس على صحن السطح يحنث لأن ذلك يسمى أرض السطح
ولو حلف لا يفعل كذا فأمر غيره ففعل ينظرإن كان فعلا له حقوق تتعلق بالفاعل فإنه يشترط وجود الفعل من الفاعل حقيقة ولا يقوم فعل المأمور مقام فعل الآمر كالبيع والشراء والإجارة والقسمة لأن حقوق هذه العقود تختص بالعاقد المباشر دون الآمر ولهذا قالوا إن الوكيل إذا كان هو الحالف يحنث لأن حقوق العقد راجعة إليه إلا إذا كان الحالف ممن لا يلي هذه الأفعال بنفسه كالقاضي والسلطان ونحوهما
وإن كان فعلا لا يتعلق حقوقه بالعاقد وإنما يتعلق بالآمر أو ليس له حقوق كالنكاح والطلاق والكتابة والضرب والذبح والقتل والهبة والصدقة والكسوة والقضاء والاقتضاء والخصومة والشركة بأن قال لا أشارك فلانا فأمر إنسانا بأن يشارك مع فلان ويعقد معه عقد الشركة نيابة عنه إذا فعل هذه الأفعال بنفسه أو أمر غيره ففعل يحنث
وروي عن أبي يوسف في الصلح روايتان فإن قال فيما لا يتعلق حقوقه بالمباشر نويت أن أباشر ذلك بنفسي قال في الجامع الصغير يدين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء لأنه نوى غير الظاهر
وقال أبو يوسف و محمد إذا حلف لا يضرب عبده أو لا يذبح شاته فأمر إنسانا أن يفعل ذلك ففعل وقال عنيت أن أباشر ذلك بنفسي فإنه يصدق في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه
ولو حلف لا يشتري دابة أو لا يركب دابة فهي على ما يركبه الناس في حوائجهم وهو الفرس والحمار والبغل دون البقر والإبل لأنها في حقيقة اللغة اسم لما يدب على وجه الأرض وإنه غير مراد فكان المراد ما هو المعتاد عند الناس
ولو حلف لا يركب فرسا فهو على العربي لا غير والبرذونيقع على الأعجمي والخيل اسم جنس يقع عليهما
ولو حلف لا يركب مركبا ولا نية له فهو على كل ما يركب من السفينة والدواب وغيرها
وهذا في عرفهم وأما في عرفنا فيقع على الفرس
ولو حلف لا يكلم فلانا فناداه من بعيد وهو حاضر في مكان بعيد فإن كان في موضع لو أصغى إليه أذنه يسمعه فإنه يحنث في يمينه وإن لم يسمعه لاشتغاله بأمر آخر وإن كان في موضع لا يسمعه لبعده فإنه لا يحنث
وكذا إذا كان أصم بحيث لو أصغى إليه أذنه لا يسمع لا يحنث لأن تكليم فلان عبارة عن إسماع كلامه إياه إلا أن الإسماع أمر باطن فأقيم السبب الظاهر مقامه وهو ما ذكرنا
ولو كان نائما فناداه حتى أيقظه حنث في يمينه لأنه أسمعه كلامه
وإن لم يوقظه لا يحنث وهو الصحيح لأن الإنسان لا يعد مكلما للنائم إذا لم يتيقظ بكلامه كما لا يعد متكلما مع الغائب
ولو سلم على قوم والمحلوف عليه فيهم حنث في يمينه لأنه كلمه وكلم غيره أيضا فإن قصد بالسلام عليهم دونه تصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى تخصيص كلامه
ولو سلم في الصلاة والمحلوف عليه معه في الصلاة فإن كان الحالف إماما ينظر إن كان المحلوف عليه على يمينه لا يحنث لأن التسليمة الأولى كلام في الصلاة لأنه بها يخرج عن الصلاة ولا تفسد الصلاة فلا يكون من كلام الناس
وإن كان على يساره فقد اختلف المشايخ فيه
وإن كان الحالف مقتديا فعلى قول أبي حنيفة و أبي يوسف كذلكلأن المقتدي لا يصير خارجا عن الصلاة بسلام الإمام عندهما وعلى قول محمد يحنث كيفما كان لأنه صار خارجا عن صلاته بسلام الإمام فوجد كلامه خارج الصلاة مع فلان فيحنث
ولو كاتب فلانا أو أشار إليه بالإصبع فإنه لا يحنث لأن هذا ليس بكلام
ولو حلف لا يتكلم اليوم ولا نية له فصلى وكبر وقرأ وسبح لا يحنث استحسانا لأن هذا لا يسمى كلام الناس في العرف
ولو قرأ خارج الصلاة
أو سبح أو هلل أو كبر يحنث عندنا خلافا للشافعي لأن هذا كلام حقيقة لكن حالة الصلاة مستثناة بدلالة الحال وقيل هذا في عرفهم
وأما في عرفنا فلا يحنث لأن هذا لا يسمى متكلما كما في الصلاة
ولو حلف لا يكلم فلانا عاجلا أو آجلا فالعاجل يقع على أقل من الشهر والأجل يقع على الشهر فصاعدا
ولو حلف لا يكلمه إلى بعيد ولا نية له فإنه يقع على أكثر من الشهر
ولو قال إلى قريب يقع على الشهر فما دونه
ولو حلف لا يكلم فلانا أياما كثيرة فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه يقع على العشرة وعلى قولهما يقع على سبعة أيام
وعلى هذا الخلاف لو حلف لا يكلم فلانا لأيام عند أبي حنيفة يقع على العشرة وعندهما على سبعة
ولو حلف لا يكلمه أياما ففي رواية الجامع يقع على ثلاثةأيام
وفي رواية
كتاب الأيمان
يقع على العشرة عنده وعندهما على سبعة
وعلى هذا الخلاف إذا حلف أن لا يكلمه الشهور أو السنين ( بالألف واللام ) فعند أبي حنيفة يقع على عشرة
وعندهما في الشهور يقع على اثني عشر شهرا وفي السنين يقع على الأبد
ولو حلف لا يكلمه شهورا أو أشهر فعلى ثلاثة أشهر بالاتفاق
ولو حلف لا يكلمه جمعا أو الجمع ففي المنكر يقع على ثلاثة بالاتفاق وفي المعرف عند أبي حنيفة على عشرة جمع وعندهما على جمع الأبد
والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله أن المعرف يقع على الجنس وعندهما على المعهود إن كان وإلا فيقع على الكل وفي المنكر يقع على أقل الجمع بالإجماع وهو ثلاثة
ولو حلف لا يكلمه دهرا أو الدهر فعندهما يقع في المنكر على ستة أشهر وفي المعرف يقع على العمر وقال أبو حنيفة رحمه الله إن كان له نية فعلى ما نوى وإن لم يكن له نية فما أدري ما الدهر
ومن أصحابنا من قال لا خلاف في الدهر أنه على الأبد وإنما قال أبو حنيفة لا أدري ما الدهر إذا قال دهرا
ولو حلف لا يكلم فلانا حينا أو زمانا أو الحين أو الزمان فإنه يقع على ستة أشهر لأنه يستعمل في أربعين سنة وفي الزمان القليل أيضا يستعمل ويستعمل في ستة أشهر فحمل على ستة أشهر لأنا لا نعلم أنه لا يريد به القليل والكثير فحمل على الوسط
ولو حلف ليضربن عبده عشرة أسواط فجمع عشرة أسواط وضربه مرة واحدة
وأصاب الجميع جلده لا يحنث لأنه ضربه عشرةأسواط
فأما إذا لم يصب كل سوط جلده فإنه يحنث لأنه لا يسمى ضاربا عشرة أسواط
ولو حلف لا يقتل فلانا في المسجد أو يضربه أو لا يرمي إليه أو لا يشتمه فكل فعل له أثر في المفعول يعتبر وجود الأثر ويتعلق بمكان المفعول وإن لم يكن له أثر يعتبر مكان الفاعل ففي القتل والضرب والرمي يعتبر مكان المفعول حتى لو كان الفاعل خارج المسجد والمفعول في المسجد يحنث ولو كان على عكسه لا يحنث
وفي الشتم لو كان الشاتم خارج المسجد والمشتوم في المسجد لا يحنث وعلى عكسه يحنث
ولو قال لا أتزوج في مكان كذا أو في يوم كذا فزوجه الفضولي امرأة في مكان آخر أو في يوم آخر فبلغه الخبر فأجازه في المكان الذي حلف وفي اليوم الذي حلف يحنث ويعتبر مكان الإجازة لأن له أثرا وهو الحكم
وكذا في البيع والشراء يعتبر مكان الإجازة ويوم الإجازة
وقال محمد في العقد الشرعي يعتبر مكان الفاعل وزمانه وفي القتل كما قال أبو يوسف لأن الحكم يثبت من وقت العقد
ولو حلف لا يدخل هذا الفسطاط وهو مضروب في مكان فقلع وضرب في مكان آخر فدخله حنث لأن اليمين يقع على العين والعين باق
ولو حلف لا يجلس إلى هذه الأسطوانة وهي مبنية أو إلى هذا الحائط فهدما ثم بنيا بنقضهما فجلس إليه لا يحنث لأن العائد غير الأول
ولو حلف لا يكتب بهذا القلم فكسر القلم بحيث لم يبق لهصورته ثم براه فكتب به لم يحنث لأن بعد الكسر هو أنبوبة فإذا براه فهو غير الأول
وكذا إذا حلف على مقص أو سكين أو سيف فكسر ثم أعاده ثانيا لا يحنث لأنه غير الأول
ولو نزع مسمار المقص ونصاب السكين وجعل مكانه مسمارا آخر أو نصابا آخر يحنث لأن الأول باق إنما فات وصف التركيب
ولو حلف لا يدخل هذه الدار فجعلها بستانا أو حماما أو مسجدا لا يحنث لأنه صارت شيئا آخر من حيث الانتفاع والغرض
ولو حلف لا يدخل هذا البيت فهدمه ثم بناه ثانيا فدخل لا يحنث لأن البيت اسم للمبنى وهذا غير بناء الأول بخلاف الدار إذا هدمها ثم بناها ثانيا فدخلها أو دخل وهي مهدومة يحنث لأن الدار اسم للعرصة والبناء تابع
ولو كان اليمين على خف أو قميص أو جبة ففتقها ثم أعادها حنث لأن العائد عين الأول
ولو فتق القميص فجعله جبة محشوة لم يحنث لأن الجبة غير القميص
ولو حلفت المرأة لا تلبس هذه الملحفة فخيط جانباها فجعلت درعا وجعلت لها جيبا فلبستها لم تحنث لأن الدرع غير الملحفة
ولو حلف لا أكلم عبد فلان أو لاأدخل دار فلان أو لا أركب دابة فلان أو لا ألبس ثوب فلان ولم يعين ثم زال الملك فكلم العبد أو دخل الدار أو ركب الدابة أو لبس ذلك الثوب لا يحنث بالإجماع
بخلاف الزوجة والصديق لأنه يحتمل أن يكون الحلف لمعنى فيهما
فأما إذا عين فقال لا أكلم عبد فلان هذا أو لا أدخل دار فلان هذه أو لا أركب دابة فلان هذه أو لا ألبس ثوب فلان هذا قال أبو حنيفة و أبو يوسف تبقى اليمين ببقاء الإضافة فإذا زالت بزوال الملك تبطل اليمين إلا أن يعين سكنى هذه الدار خاصة
وقال محمد يحنث وإن زال ملك فلان إلا أن يعني ما دام ملكا لفلان
ولو حلف لا يكلم زوجة فلان هذه أو صديق فلان هذا وزال النكاح والصداقة فكلم حنث بالإجماع
ولو حلف لا أكلم هذا العبد أو لا أدخل هذه الدار أو لا أركب هذه الدابة يعتبر العين بالإجماع
ف أبو حنيفة رحمه الله اعتبر الإضافة شرطا لليمين لأن الظاهر بهذه الإضافة الامتناع من الكلام لمعنى في المالك كما إذا لم يكن معينا ومحمد رحمه الله جعل الإضافة للتعريف بمنزلة الاسم إذا وجد التعيين حتى لا يلغو التعيين كما في الزوجة والصديق عند التعيين
ولو حلف لا يدخل دار فلان ولا يلبس ثوب فلان ولا يركب دابة فلان ولا يكلم عبد فلان ولا يأكل عند فلان ولا يأكل طعام فلان ولا يشرب شراب فلان فهذا على ما في ملكه يوم فعل الذي حلف عليه ولا يشترط قيام الملك يوم حلف هذا جواب ظاهر الروايات عن أصحابنا
وروى ابن سماعة عن محمد أنه يقع على ما في ملكه يوم حلف ولا يحمل على ما يحدث فيه الملك
وروي عن أبي يوسف أنه قال فيما يستدام فيه الملك ولا يتجدد ساعة فساعة فاليمين على ما في ملكه كالدار والعبد والثوب وما يتجدد فيه الملك حالا فحالا في العادة فإنه يقع على ما في ملكه يوم فعل كالطعام والشراب
والصحيح جواب ظاهر الروايات لأن هذه اليمين عقدت على المنعمن الفعل في ملك فلان فيعتبر يوم الفعل
ولو حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا هو ساكنها بالملك أو بالإجارة أو بالإعارة فهو سواء ويحنث لأن الدار تضاف إلى المستأجر والمستعير في العرف
ولو حلف من بشرني من عبيدي بقدوم فلان فهو حر فبشره جماعة من عبيده فإن كانوا معا عتقوا وإن سبقهم واحد منه ثم الباقون يعتق السابق
وإن حصل له العلم بقدوم فلان بخبر غيرهم أو بالمشاهدة منه ثم أخبره من العبيد الذين حلف بعتقهم فإنه لا يعتق واحد منهم لأن البشارة خبر سار ليس عند المخبر به خبره وهذا لا يحصل إذا كان له علم قبل خبره
وإذا لم يكن عالما حصل العلم بخبر الجماعة معا فيحنث
باب النذر
إذا نذر لله سبحانه وتعالى بما هو قربة وطاعة يجب عليه الوفاء به ولم يجب عليه غير ذلك
وإن كان مباحا لا يجب عليه شيء
وإن كان معصية لم يجب عليه الوفاء به وعليه كفارة اليمين إذا فعله
وأصله قوله عليه السلام من نذر نذرا أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه وقال عليه السلام النذر يمين وكفارته كفارة يمين
وهذا على الرواية المشهورة عن أصحابنا فيمن قال لله علي أن أصوم سنة ونحوها يلزمه الوفاء بها ولا يجزئه كفارة اليمين
وفي رواية تجزئه كفارة اليمين
وقالوا رجع أبو حنيفة رحمه الله عن الجواب الأول إليه وهو قول الشافعي
والمسألة معروفة
ولو قال لله علي أن أحج ماشيا يلزمه الحج ماشيا فلو حج راكبا يجزئه وعليه إراقة الدم لأن النذر ملحق بالأمر والحج الواجب راكبا لا ماشيا فخرج عن نذره لكن يلزمه الدم لأنه أدخل نقصا وفيه ورد الحديث هكذا
ولو قال لله على أن أصلي ركعتين يوم كذا أو في موضع كذا فصلى قبل ذلك اليوم أو في موضع آخر أجزأه عنه
ولو قال لله علي أن أتصدق يوم كذا أو علي مساكين بلد كذا فإنه لا يتقيد بذلك
ولو قال لله علي أن أصوم رجب فصام شهرا قبل ذلك جاز عند أبي حنيفة و أبي يوسف وعلى قول محمد لا يجزئه
أما الصلاة فلا تتقيد بالمكان واليوم لأن معنى القربة في نفس الفعل وكذا الصدقة وأما الصوم ف أبو حنيفة و أبو يوسف رحمهما الله يقولان إن ذكر الوقت لتقدير لا لتعين الواجب لأن الأوقات في معنى العبادة سواء
ولو قال علي طعام مساكين ولم يكن له نية فعليه أن يطعم عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من بر
ولو قال لله علي صدقة ولم يكن له نية فعليه نصف صاع
ولو قال لله علي صوم فعليه صوم يوم
ولو قال لله علي أن أصلي صلاة فعليه ركعتان لأن النذر معتبر بالأمر فإذا لم يذكر فيه التقدير اعتبر أدنى ما ورد في الأمر وهو ما ذكرنا
باب كفارة اليمين
الحانث لا يخلو إما إن كان موسرا أو معسرا
فإن كان موسرا فهو مخير بين ثلاثة أشياء بين الإطعام والكسوة والإعتاق لقوله تعالى { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة }
فإن اختار الطعام يعطي كل مسكين نصف صاع من حنطة أو صاعا من شعير أو دقيقهما أو صاعا من تمر أو قيمة هذه الأشياء دراهم ودنانير أو عروضا كما في صدقة الفطر على ما ذكرنا
ولو دعا عشرة مساكين فغداهم وعشاهم مشبعا خبزا مع الإدام أو بغير الإدام أو سويقا أو تمرا كان جائرا لأن الله تعالى أمر بالإطعام وهو اسم للفعل إلا أن التمليك عرفناه بدلالة النص والإطعام في حق الأهل قد يكون مع الإدام وقد يكون بغيره
ولو أطعم مسكينا واحدا عشرة أيام غداء وعشاء أو أعطى مسكينا واحدا عشرة أيام كل يوم نصف صاع جاز لأن المقصود سد خلةعشرة مساكين عشرة أيام وقد حصل
ولو أطعم عشرة مساكين في يوم غداء وأعطى كل واحد مدا من الطعام جاز لأنه جمع بين التمليك وطعام الإباحة
وكذا لو غدى رجلا واحدا عشرين يوما أو عشى رجلا في رمضان عشرين يوما جاز لأن المقصود قد حصل
ولو أعطى مسكينا واحدا طعام عشرة في يوم واحد لم يجز لأن الله تعالى أمر بسد جوعة عشرة مساكين جملة أو متفرقا على الأيام ولم يوجد
ولو أطعم فقراء أهل الذمة جاز وفقراء المسلمين أفضل كما ذكرنا في صدقة الفطر خلافا لأبي يوسف
وإن اختار الكسوة كسا كل مسكين ثوبين
وإن كساهم ثوبا جامعا نحو القميص والقباء والملحفة والكساء جاز لأن الله تعالى أمر بالإكساء فكل ثوب يصير به كاسيا دخل تحت النص
ولو ساه قلنسوة أو عمامة لا يجوز لأنه لا يسمى به كاسيا
ولو كسا سراويل قال لا يجوز
ولو كساه إزار جاز ولكن أراد به أن يكون من الرأس إلى القدم
وأما إذا كان يستر به العورة لا يستر البدن لا يجوز وهذا جواب ظاهر الرواية
وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال إذا كان مما يستر به العورة وتجوز فيه الصلاة يجوز
والمعتبر في ظاهر الرواية ما يسمى لابسا ولابس السراويل يسمى عريانا
ولو أن قيمة العمامة والسراويل بلغت قيمة الطعام هل يقع عنالطعام عند محمد يقع بغير نية إذا وجدت منه نية الكفارة
وعند أبي يوسف لا يقع ما لم ينو الكسوة عن الطعام
وأما إذا اختار التحرير فإن أعتق رقبة مطلقة كاملة الذات وكاملة الرق بنية الكفارة بأي صفة كانت جاز صغيرا كان أو كبيرا مسلما كان أو ذميا لأن الله تعالى أمر بإعتاق رقبة مطلقة بقوله { أو تحرير رقبة } وكذا في كفارة الظهار وهذا عندنا
وعند الشافعي لا يجوز إلا المؤمنة كما في كفارة القتل
ولو أعتق رقبة معيبة فالأصل فيه أن كل عيب يوجب فوات جنس المنفعة يمنع عن الكفارة وإلا فلا
إذا ثبت هذا نقول إذا أعتق عبدا أعور أو مقطوع إحدى اليدين أو الرجلين أو اليد والرجل من خلاف أجزأه لأن منفعة الجنس باقية
ولو أعتق الأعمى أو المقطوع اليدين أو الرجلين أو المقطوع اليد والرجل من جانب واحد لا يجوز لأن منفعة الجنس معدومة
وأما المجنون المغلوب فلا يجوز لأن منفعة الأجناس معدومة
ولو أعتق مفلوجا يابس الشق لا يجوز لأنه فات منفعة الجنس
ولو أعتق الحمل لا يجوز وإن ولد حيا بعد يوم لأنه في معنى الأجزاء من وجه
وأما الأصم فالقياس أن لا يجوز
وفي الاستحسان يجوز لأنه إذا بولغ في الصياح يسمع فلا يفوت جنس المنفعة
وأما الأخرس فلا يجوز لما قلنا
ولو أعتق حلال الدم جاز لأنه رقبة كاملة لوجود الملك واسم الرقبة ووجوب القصاص لا يمنع جواز التكفير به وإنما وجب عليه حق
ولو أعتق عبدا مديونا جاز وللغرماء حق الاستسعاء
ولو أعتق ذا رحم محرم منه عن الكفارة جاز عندنا خلافا للشافعي
ولو أعتق المكاتب جاز عندنا خلافا له
ولو أدى بعض بدل الكتابة لا يجوز بالإجماع
ولو أعتق عبدا مشتركا بينه وبين شريكه وهو موسر واختار الشريك الضمان حتى عتق كله عن المعتق لا يجوز عند أبي حنيفة وعندهما يجوز لأن الإعتاق لا يتجزأ عندهما فيقع الكل عن الكفارة وثبت الملك بالضمان سابقا وعند أبي حنيفة الإعتاق يتجزأ فإذا أعتق النصف جاز وينتقص فإذا ضمن ملك النصف الناقص وإعتاق الناقص لا يجوز
وبمثله لو أعتق نصف عبده عن الكفارة ثم أعتق النصف الباقي جاز وبين الأمرين فرق بعيد
وإن كان معسرا حتى وجبت السعاية على العبد لا يجوز لأنه يجب عليه السعاية فيصير كالعتق بعوض وهذه مسألة معروفة
ولو قال لعبده إن اشتريتك فأنت حر ثم اشتراه بنية الكفارة لا يجوز لأنه لم توجد النية منه عند اليمين وإنه يصير معتقا بذلك الكلام حتى لو قال له إن اشتريتك عن يمين فأنت حر عن كفارة يميني جاز
ولو أعتق المدبر أو أم ولد عن الكفارة لا يجوز لأنه ناقص الرق
أما إذا كان الحالف معسرا فعليه صوم ثلاثة أيام متتابعة عندنا وعند الشافعي يجوز متفرقا وقد ذكرنا هذا ولو أفطر لمرض أو المرأة تحيض استقبلا لأنهما يجدان ثلاثة أيام لا تحيض فيها ولا مرض في الغالب فيبطل التتابع بخلاف صومه شهرين متتابعين فإن ثم لا ينقطع التتابع لأجل العذر وينقطع بالمرض لأن الغالب أن الشهرين لا يخلوان عن الحيض أو عن المرض
ولو أن المعسر إذا أيسر في خلال الصوم يجب عليه الإطعام أو الإعتاق أو الكسوة ويبطل الصوم لأنه قدر على الأصيل قبل حصول المقصود بالبدل
ولو أيسر بعد الصيام لا يبطل الصوم بخلاف الشيخ الفاني إذا أطعم مكان الصوم ثم قدر يبطل لأن ذلك بدل ضروري
ولو أعتق رجل بأمر رجل أو أطعم عنه أو كسا جاز وإن لم يعطه الدراهم والدنانير
وإن فعل بغير أمره ثم أجازه لم يجز لأن الإعتاق بأمره كإعتاقه ويكون مليكا للعبد منه وأمره بذلك قبول منه فجاز
فأما إذا فعل بغير أمره لا يتوقف على إجازته لأنه وجد نفاذا على مالكه وهو التقرب إلى الله فلا يتوقف
ولو صرف قيمة الطعام والثياب بنية الكفارة إلى بناء المساجد أو أكفان الموتى أو قضاء دين رجل فقير فإنه لا يقع عن الكفارة لأن الواجب هو التمليك ولم يوجد
ولو كان الحانث له مال وعليه دين مستغرق أجزأه الصوم لأنه مستحق الصرف إلى الدين
ولو كان له عبد وعليه دين لم يجزئه الصوم لأنه قادر على إعتاقه عن الكفارة وقيل من أصحابنا من قال يجوز لكونه فقيرا
كتاب الإجارة
الإجارة نوعان إجارة على المنافع وإجارة على الأعمال
ولكل نوع شروط وأحكام
أما الإجارة على المنافع فكإجارة الدور والمنازل والحوانيت والضياع وعبيد الخدمة والدواب للركوب والحمل والثياب والحلي للبس والأواني والظروف للاستعمال
والعقد جائز في ذلك كله
وشرط جوازه أن تكون العين المستأجرة معلومة والأجرة معلومة والمدة معلومة بيوم أو شهر أو سنة لأنه عقد معاوضة كالبيع وإعلام المبيع والثمن شرط في البيع فكذلك ههنا إلا أن المعقود عليه ههنا هو المنافع فلا بد من إعلامها بالمدة والعين والذي عقدت الإجارة على منافعه
وأما أحكام هذا النوع من الإجارة فكثيرة منها أنه يجب على الآجر تسليم المستأجر عقيب العقد
وليس له أن يحبس المستأجر لاستيفاء الأجرة كما في باب البيع لأن الأجرة لا تجب بنفس العقد عندنا لكون المعقود عليه وهو المنافع معدومة وإذا لم يجب الأجر فليس له حق حبس المستأجر لأخذ الأجر وأما في البيع فالثمن واجب
وإنما يجب الأجر ويملك بأحد معان ثلاثة إما بأن يشترط تعجيله في نفس العقد وإما أن يعجل بغير شرط وإما باستيفاء المنافع شيئا فشيئا أو بالتمكين من الاستيفاء بتسليم المستأجر إليه وبتسليم المفتاح إليه أيضا
وعند الشافعي تجب الأجرة كلها بنفس العقد والمسألة معروفة
ثم إن وقع الشرط في عقد الإجارة أن لا يجب الأجر إلا بعد انقضاء مدة الإجارة فذلك جائز فيكون تأجيلا للأجرة بمنزلة تأجيل الثمن
وأما إذا لم يشترط في العقد شيئا فقال أبو حنيفة أولا وهو قول زفر لا تجب الأجرة إلا في آخر المدة ثم رجع وقال تجب حالا فحالا كلما مضى يوم يسلم أجرته وهو قول أبي يوسف و محمد لأن الأجرة تملك على حسب ملك المنافع ساعة فساعة والاستيفاء على هذا الوجه متعذر فقدره باليوم
وذكر الكرخي في الإجارة على قطع المسافة أنه يسلم أجرة كل مرحلة
ومنها أنه يعتبر ابتداء المدة من حين وقع العقد فإذا أجر شهرا أو شهورا أو سنين معلومة فإن وقعت الإجارة في أول الشهر يعتبر بالأهلة وإن وقعت في بعض الشهر يعتبر بالأيام كل شهر ثلاثون يوما
وكذلك في الشهور والسنين
وذكر في الأصل إذا استأجر دارا سنة مستقبلة في بعض الشهر فإنه يسكن بقية هذا الشهر وأحد عشر شهرا بالأهلة ويتم الشهر الأول بالشهر الثاني فيكون في المسألة روايتان
ولو أضاف الإجارة إلى زمان في المستقبل بأن قال في رمضان أجرتك هذه الدار سنة أولها غرة المحرم يجوز
وقال الشافعي لا تجوز الإجارة ما لم يكن أول المدة عقيب العقد
ولهذا قلنا إن المؤاجر لو باع هذه الدار لا يصح في حق المستأجر وإن لم يجيء الوقت الذي أضيف إليه الإجارة لكن لا يجب عليه تسليم الدار ما لم يأت ذلك الوقت
ومنها أنه إذا استأجر دارا أو حانوتا أو غير ذلك من العقار غير المزارع فله الانتفاع بها كيف شاء من السكنى وله أن يسكن فيها من أحب بالإجارة والإعارة وله أن يعمل فيها أي عمل شاء غير أنه لا يجعل فيها حدادا ولا قصارا ولا ما يضر بالبناء ويوهنه
ولا تفسد الإجارة وإن لم يسم ما يعمل فيها لأن منافع السكنى غير متفاوتة إذا لم يكن فيها ما يوهن البناء وذلك مستثنى فصارت المنافع معلومة بخلاف ما إذا استأجر أرضا للزراعة حيث لم يجز العقد حتى يبين ما يزرع فيها أو يجعل له أن يزرع فيها ما شاء لأن منافع الزراعة مختلفة
ولو استأجر دابة ولم يسم ما يحمل عليها أو عبدا ولم يبين العمل لا يجوز لأن ذلك مما يتفاوت وإن اختصما يفسخ العقد وإن مضت المدة أو حمل عليها أو استعمل العبد فالقياس أن يجب أجر المثل لأنه استوفى المنفعة بعقد فاسد وفي الاستحسان يجب المسمى لأنه يتعين المعقود عليه ويصير معلوما بالعمل والحمل فيعود العقد جائزا
ومنها أنه يجب على المؤاجر تسليم المستأجر سليما عن العيب الذي يضر بالانتفاع خاليا عن الموانع التي تمنع من الانتفاع في جميع المدة حتى يجب عليه جميع الأجر
فإن كان به عيب يضر بالانتفاع فالمستأجر بالخيار إن شاء فسخ الإجارة وإن شاء مضى عليهافإن مضى عليها مع العيب يجب عليه جميع المسمى لأنه رضي بالمعقود عليه مع العيب
وإن زال ذلك العيب أو سقط حائط فبناه المؤاجر فلا خيار للمستأجر لأن العيب زال
فإن كان المؤاجر غائبا فليس له أن يفسخه لأن الفسخ لا يجوز إلا بحضور العاقدين أو من قام مقامهما
وإن سقطت الدار كلها أو انهدمت فله أن يخرج من الدار كان المؤاجر حاضرا أو غائبا
واختلفت إشارة الروايات في أن العقد ينفسخ أو يثبت له حق الفسخ والصحيح أنه ينفسخ لأنه فات جنس الانتفاع المعهود بالدار وإنما يمكنه أن ينتفع بضرب الخيمة ونحوها والعقد ينفسخ بهلاك المعقود عليه
وأما إذا استأجر دارين صفقة واحدة فسقطت إحداهما أو منعه مانع من إحداهما أو كانت الدار المستأجرة واحدة وامتنع رب الدار عن تسليم بيت منها فله أن يفسخ العقد لأن الصفقة تفرقت في المنافع وتفريق الصفقة يثبت الخيار
أما إذا حدث مانع يمنع من الانتفاع بعد التسليم في المدة كما إذا غصبه غاصب أو حدث الإباق أو المرض المعجز عن الانتفاع أو انقطاع الماء في الرحا أو الشرب في الأرض فإنه تسقط الأجرة في المستقبل ما لم يسلم إليه ويلزمه أجر ما مضى لأن الأجر يجب شيئا فشيئا بمقابلة استيفاء المنافع
ثم تطيين الدار وإصلاح ميازيبها وما وهى من بنائها على رب الدار دون المستأجر حتى تكون صالحة للانتفاع ولكن لا يجبر على ذلكلأن المالك لا يجبر على إصلاح ملكه لكن يثبت الخيار للمستأجر لأن هذا في معنى العيب
وكذا إصلاح بئر الماء والبالوعة والمخرج على رب الدار وإن امتلأ من فعل المستأجر لكن لا يجبر عليه لما ذكرنا
وإذا انقضت مدة الإجارة وفي الدار تراب من كنس المستأجر فعليه أن يرفعه لأنه حدث بفعله
والقياس في امتلاء المخرج والبالوعة كذلك وفي الاستحسان لا يلزمه لأن العادة جرت أن كل ما كان مغيبا في الأرض فنقله على صاحب الدار
وإن أصلح المستأجر شيئا من ذلك يكون متبرعا إلا إذا فعل ذلك بأمر رب الدار أو بأمر من هو نائب عنه
وعلى المستأجر في إجارة الدار والحانوت تسليم المفتاح إلى المؤاجر بعد انتهاء المدة
فأما في الدابة التي استأجرها للركوب في حوائجه في المصر وقتا معلوما فليس عليه أن يسلمها إلى صاحبها بأن يذهب بها إلى منزله وعلى المؤاجر أن يقبضها من منزل المستأجر لأنه حصل له المنفعة بالتسليم إلى المستأجر وهو الأجر فلم يكن عليه الرد كما في الوديعة حتى لو أمسكها أياما ولم ينتفع بها فهلكت في يده لم يضمنها وفي العارية والغصب يجب الرد على المستعير والغاصب
ولو استأجر من موضع مسمى في المصر إلى مكان معلوم ذاهبا وجائيا فإن على المستأجر أن يأتي بها إلى ذلك الموضع الذي قبضها منه لأن انتهاء الإجارة إلى هذا الموضع فعليه أن يأتي بها إليه لأن الرد واجب على المستأجر فإن حملها إلى منزله فأمسكها حتى عطبت يضمن لأنهتعدى في حملها إلى غير موضع العقد حتى لو قال المستأجر اركبها من هذا الموضع إلى موضع كذا وارجع إلى منزلي فليس على المستأجر أن يردها إلى منزل المؤاجر لأن الإجارة انتهت فبقيت أمانة في يده فلا يجب عليها الرد كما في الوديعة
وأما الإجارة على الأعمال فكاستئجار القصار والإسكاف والصباغ وسائر من يشترط عليه العمل في سائر الأعمال من حمل الأشياء من موضع إلى موضع ونحوها
وهو نوعان استئجار الأجير المشترك والأجير الخاص الذي يسمى أجير الوحد فالأجير المشترك كاسمه الذي يتقبل الأعمال من الناس كالصباغ والقصار ونحوهما
وأجير الوحد كاسمه الذي يعمل للواحد مدة معلومة وللأول أن يعمل لهم جميعا وليس لمن استأجره أن يمنعه عن العمل لغيره
وفي أجير الوحد ليس له ذلك وللمستأجر أن يمنعه
ثم أحكامهما تختلف في بعض الأشياء وتتفق في البعض فأجير الوحد لا يكون ضامنا للعين التي تسلم إليه للعمل فيها كما إذا استأجر يوما أو شهرا قصارا أو خياطا ليعمل له لا غير حتى لو هلك في يده لا بصنعه لا يضمن بالإجماع
وكذلك لو تخرق بصنعه الذي هو من العمل المأذون فيه
فأما الأجير المشترك فلا يكون ضامنا وتكون العين التي في يده أمانة عند أبي حنيفة و زفر
وفي قول أبي يوسف و محمد يكون مضمونا لو هلك بغير صنعه يضمن إلا إذا هلك بحرق غالب أو بغرق غالب ونحو ذلك
ولو تخرق بصنع معتاد بأن دق مثله أو ألقاه في النورة فاحترق أو الملاح إذا غرقت السفينة من عمله والحمار إذا سقط وفسد الحمل أو الراعي المشترك إذا ساق الدواب فضرب بعضها بعضا في حالسياقه حتى هلك يكون مضمونا عندنا وقال زفر و الشافعي لا يضمن والمسألة معروفة
ولو استأجر البزاغ والفصاد والختان فعملوا عملهم ثم سرى إلى النفس ومات فلا ضمان عليهم لأنه ليس في وسعهم الاحتراز من ذلك
ولو تخرق بدق أجير القصار لا ضمان عليه ولكن يجب الضمان على الأستاذ لأن عمله ينتقل إليه كأنه فعل بنفسه
ولو وطىء على ثوب من ثياب القصارة فخرقه يضمن لأن هذا ليس من توابع العمل
ولو وقع من يده سراج فأحرق ثوبا من ثياب القصارة فالضمان على الأستاذ لا عليه لأن الذهاب والمجيء بالسراج عمل مأذون فيه
وكذلك لو وقع الكذينق من يده فخرق ثوبا من ثياب القصارة فالضمان على الأستاذ لأن هذا من عمل القصارة
ولو وقع على ثوب وديعة عند الأستاذ فخرقه ضمنه الأجير وكذا في السراج إذا حرقه
ولو هلك العين المعمول فيه هل يسقط الأجر فهذا لا يخلو إما إن كان العين المعمول فيه في يد الأجير أو في المستأجر
فإن كان في يد الأجير فهو على وجهين إما إن كان لعمله أثر في العين كالقصارة والصباغة فإنما يجب الأجر بتسليم ذلك الأثر فإذا هلك قبل التسليم في يده سقط الأجر لأنه لم يسلم المعقود عليه
وإن لم يكن لعمله أثر في العين كالحمال والملاح فكما فرغ من العمل يجب الأجر وإن لم يسلم العين إلى صاحبه لأن المعقود عليه المنفعة ونفس العمل فإذا انتهت المدة فقد فرغ من العمل وصار مسلما في العين التي هي ملك صاحبها فلا يسقط الأجر بالهلاك بعده ولهذا قالوا إن كل عمل له أثر في العين هو الذي ملك صاحبه كان له حق حبس العين حتى يستوفي الأجر لأن البدل مستحق بمقابلة ذلك الأثر وما لا أثر له لا يثبت فيه حق الحبس لأن العمل المعقود عليه ليس في العين ولهذا قالوا إن الحمال إذا حبس المتاع الذي في يده ليستوفي الأجر فهلك يضمن لأن العين أمانة في يده فإذا حبس صار غاصبا فيضمن
وأما إذا كان العين المعمول فيه في يد المستأجر بأن عمل الأجير في ملك المستأجر أو فيما في يده من فناء ملكه ونحو ذلك فإذا فرغ من العمل يستحق كل الأجر وإن لم يفرغ وعمل بعضه يستحق الأجر بقدره ويصير ذلك مسلما إلى صاحبه حتى إنه إذا استأجر إنسانا ليبني له بناء في داره أو فيما في يده أو يعمل له ساباطا أو جناحا أو يحفر له بئرا أو قناة أو نهرا في ملكه أو فيما في يده فانهدم البناء أو انهارت البئر أو سقط الساباط لم يسقط شيء من الأجر إن كان بعد الفراغ وإن كان قبل الفراغ يجب بقدر حصة العمل
وأما إذا كان الحفر أو البناء في غير ملكه ويده فلم يصر مسلما إليه بالعمل فما لم توجد التخلية من الأجير بين المستأجر وبينه لا يصير قابضا للمعقود عليه فإذا فسد قبل ذلك أو هلك سقط الأجر
وعلى هذا إذا استأجره ليضرب له لبنا في ملكه فرب اللبن لا يصير قابضا حتى يجف اللبن وينصبه في قول أبي حنيفة وعندهما حتى يشرجهوإن كان ذلك في غير ملكه أو في غير يده لم يكن له الأجر حتى يسلمه إليه منصوبا عنده وعندهما مشرجا لأنه لم يكن في يده حتى يصير العمل مسلما إليه فلا بد من التخلية بعد الفراغ من العمل
وعلى هذا الخياط يخيط له في منزله قميصا فإن خاط بعضه لم يكن له أجر لأن هذا العمل لا ينتفع ببعضه فإذا فرغ منه ثم هلك فله الأجر لأنه صار مسلما للعمل عنده
باب الإجارة الفاسدة
وما يكون به مخالفا المستأجر إذا كان مجهولا أو الأجر مجهولا أو العمل أو المدة فالإجارة فاسدة لأنها جهالة تفضي إلى المنازعة كما في البيع
وإجارة المشاع فيما يقسم أو لا يقسم فاسدة عند أبي حنيفة و زفر
وعلى قولهما جائزة وهو قول الشافعي
وأجمعوا أنها من الشريك جائزة
وأجمعوا أنه لو أجر من رجلين جاز ولو مات أحدهما حتى بطلت الإجارة في حصته وصارت ملكا للوارث فيصير شيوعا طارئا فإنه لا تبطل الإجارة فالشيوع المقارن مفسد والطارىء غير مفسد هذا هو المشهور من الرواية والمسألة تعرف في الخلافيات
والإجارة على القرب والطاعات كالحج والإمامة والآذان ونحوها فاسدة عندنا خلافا للشافعي
والإجارة على المعاصي كما إذا استأجر مغنيا أو نائحة فهي فاسدة
ولا يجوز إجارة النهر والبئر والقناة مع الماء ولا إجارة المراعي والآجام لأن هذه إجارة على استهلاك العين والإجارة لاستيفاء المنافع مع بقاء العين
ولو أستجر نهرا يابسا أو موضعا من الأرض معلوما ليسيل فيه ماء المطر أو ماء الزراعة لا يجوز لتفاوت في قلة الماء وكثرته وذلك مما يضر بالنهر وروي عن محمد أنه يجوز
ولو استأجر طريقا في دار غيره ليمر فيها وقتا معلوما لم يجز في قياس قول أبي حنيفة ويجوز في قياس قولهما بناء على أن إجارة المشاع فاسدة عنده خلافا لهما
وإذا استأجر رجلا للبيع والشراء لا يجوز لأنه لا يقدر على ذلك إلا بفعل غيره وأما إذا استأجره شهرا ليبيع له ويشتري جاز لأن الإجارة وقعت على منفعة المدة وهي معلومة
ولو استأجر أرضا فيها رطبة سنة لا يجوز لأنه لا يمكن تسليمها إلا بضرر وهو قلع الرطبة فإن قلع رب الأرض الرطبة وسلم أرضا بيضاء جاز ويجبر على القبول كما إذا اشترى جذوعا في سقف
ولو استأجر عبدا للخدمة أو دابة للحمل وشرط المستأجر نفقتها فهي فاسدة لأن قدر النفقة مجهول
ثم في الإجارة الفاسدة إذا استوفى المنفعة يجب أجر المثل مقدرا بالمسمى عندنا وعند زفر يجب أجر المثل تاما على ما مر
وأما بيان ما يصير به مخالفا وما لا يصير به مخالفا فنقول إذا استأجر دابة ليحمل عليها شيئا فحمل عليها غيره ينظر إن كان ضرر الدابة من حيث الخفة والثقل فإن كان ذلك الشيء مثل المأمور به أو أخف فلا شيء عليه لأن التعيين لا فائدة فيه
وإن كان أثقل فإن كان بخلاف جنسه بأن حمل مكان الشعير الحنطة فعطبت الدابة فهو مخالف وضامن ولا أجر عليه لأنها هلكت بفعل غيرمأذون فيه فوجب الضمان دون الأجر لأنهما لا يجتمعان
وإن كان من جنسه فحمل المسمى وزاد عليه بأن حمل أحد عشر قفيزا مكان العشرة فإن سلمت الدابة فله ما سمى من الأجر وإن عطبت فهو ضامن لجزء من أحد عشر جزءا من أجزاء الدابة وعليه الأجر الذي سمي لأنها ماتت بفعل مأذون وغير مأذون فيقسم على قدر ذلك
فأما إذا كان ضرر الدابة لا من حيث الخفة والثقل بأن يستأجر دابة ليحمل عليها مائة من من قطن فحمل عليها مثل وزنه حديدا أو أقل ضمن لأن ثقل القطن يكون على جميع العضو لأنه ينبسط على الموضع الذي حمل عليه فأما ثقل الحديد فيكون في موضوع واحد فيكون أثره أقوى في الضرر
وعلى هذا إذا استأجرها ليركبها فأركب من هو مثله في الثقل أو أخف ضمن لأن ذلك يختلف بالحذق والخرق ولو ركبها وأركب مع نفسه غيره فعطبت فإن كانت الدابة مما يمكن أن يركبها اثنان يضمن نصف قيمتها لأن التلف حصل بركوبهما فصار كما لو تلفت بجراحتهما وأحدهما غير مأذون وإن كان لا يمكن فعليه جميع قيمتها لأن هذا إتلاف منه
وعلى هذا إذا استأجر دابة بإكاف فأسرجها لا ضمان عليه لأن الضرر أقل لأنه يأخذ من الظهر أقل
وإن استأجر حمارا بسرج فأسرجه سرجا آخر فإن كان مثل الأول بأن يسرج به الحمار لا يضمن وإن أسرجه بسرج الفرس يضمن
فإن أوكفه ذكر في الأصل أنه يضمن بقدر ما زاد الإكاف على السرج وفيالجامع الصغير على قول أبي حنيفة يضمن الكل
وعندهما بقدر ذلك
وإن استأجر حمارا عريانا فأسرجه فإن استأجر ليركب خارج المصر لا يضمن
وإن استأجر ليركبه في المصر فإن كان رجلا من الأشراف أو الأوساط لا يضمن لأن مثله لا يركب من غير سرج فيكون إذنا دلالة وإن كان من الأسافل يضمن لأن مثله يركب بغير سرج بالجل ونحوه والسرج أثقل فيضمن
ثم الإجارة تفسخ بالاعذار المخصومة عندنا وإن وقعت الإجارة صحيحة لازمة بأن لم يكن ثمة عيب ولا مانع من الانتفاع
وقال الشافعي لا تفسخ والمسألة معروفة
ثم العذر ما يكون عارضا يتضرر به العاقد مع بقاء العقد ولا يندفع بدون الفسخ بيان ذلك إذا أراد المستأجر أن ينتقل عن البلد أو يسافر فله أن ينقض الإجارة في العقار وغيره
وكذا مستأجر الحانوت إذا ترك ذلك العمل أو التجارة وانتقل إلى غيره
وكذا إذا أفلس
وليس للمؤاجر عند السفر والنقلة عن البلد عذر لأنه لا ضرر عليه في تبقيه العقد
ومرض الحمال والجمال بحيث يضره الحمل عذر في رواية أبي يوسف لأن غيره لا يقوم مقامه إلا بضرر وذكر محمد في الأصل وقالمرض الجمال لا يكون عذرا لأن خروجه مع الإبل ليس بمستحق
وكذا الدين الذي لا طريق للمؤاجر في قضائه إلا بيع المستأجر يكون عذرا
وكذا المستأجر إذا كان لا يحصل له النفع مما استأجر إلا بضرر يدخله في ملكه أو بدنه فبدا له ذلك فله فسخه كمن استأجر رجلا ليقصر له ثيابا أو يقطعها أو يخيطها أو ينقض دارا له أو يقطع شجرا أو يحدث في ملكه شيئا من بناء أو حفر أو ليحتجم أو يفتصد أو يقلع ضرسا له أو ليزرع أرضا له ببذره ونحو ذلك لأنه إذا بدا له من ذلك ظهر أنه له فيه ضررا
ثم الإجارة تبطل بموت المستأجر أو المؤاجر عندنا خلافا للشافعي ونعني به موت من وقع له عقد الإجارة دون العاقد حتى إذا كان وكيلا لا تبطل
فأما هلاك المستأجر فإن كان شيئا بعينه يبطل
وإن كان بغير عينه بأن وقعت الإجارة على دواب بغير عينها للحمل أو الركوب وسلم إليه الدواب فهلكت فعلى المؤاجر أن يأتي بغيرها ليحمل المتاع وليس له أن يفسخ لأنه لم يعجز عن وفاء ما التزمه بالعقد وهو حمل متاعه إلى موضع كذا
ثم إجازة الظئر مثل إجارة عبد الخدمة لا بد من بيان الوقت وبيان الأجر ونحو ذلك إلا أن في الظئر إذا استأجرها بكسوتها ونفقتها جاز من غير بيان عند أبي حنيفة استحسانا وعند أبي يوسف و محمد والشافعي لا يجوز لأن هذه جهالة تفضي إلى المنازعة غالبا
وإنها بمنزلة أجير الوحد لا يجوز لها أن ترضع غيره
وعليها الرضاع والقيام بأمر الصبي فيما يحتاج إليه من غسله وغسلثيابه وطبخ طعامه وتهيئة ذلك والطعام على الأب
وذكر وما يعالج به الصبيان من الريحان والدهن فعلى الظئر وهذا من عادة بلدهم فأما في بلادنا بخلافه فعلى الأب
ثم الإجارة تتوقف على إجازة المالك ثم ينظر إن أجاز العقد قبل استيفاء المنفعة جاز وتكون الأجرة للمالك
وإن أجازه بعد استيفاء المنفعة لم يجز بإجازته وكانت الأجرة للعاقد لأن المنفعة الماضية تلاشت فلا يبقى العقد بعد فوات محله فلا يلحقه الإجازة ويصير العاقد غاصبا بالتسليم فصار كالغاصب إذا آجر وقالوا في الغاصب إذا آجر وسلم ثم قال المالك أجزت ما آجرت إذا انقضت المدة فالأجر للغاصب وإن أجاز في نصف المدة فالأجر كله للمالك في قول أبي يوسف وقال محمد أجر ما مضى للغاصب وأجر الباقي للمالك
وكذا قال محمد فيمن غصب أرضا فأجرها للزراعة فأجاز رب الأرض قال إن أعطاها مزارعة وأجازها صاحب الأرض جازت وإن كان الزرع قد سنبل ما لم ييبس فلا شيء للغاصب من الزرع لأن المزارعة كالشيء الواحد لا ينفصل بعض عملها عن بعض فإذا أجازها قبل الفراغ فجعل كالابتداء وأما إذا يبس الزرع فقد انقضى عمل المزارعة فلا تلحقه الإجازة فيكون للغاصب
ثم تفسير الاستصناع هو عقد على مبيع في الذمة وشرط عمله على الصانع
والقياس أن لا يجوز
وفي الاستحسان جائز لتعامل الناس فلا جرم اختص جوازه بما فيه تعامل كما في الخف والقلنسوة والأواني ونحوها بعد بيان القدر والصفة والنوع
وهو عقد غير لازم ولكل واحد منهما الخيار في الامتناع قبل العمل وبعد الفراغ من العمل لهما الخيار حتى إن الصانع لو باعه قبل أن يراه المستصنع جاز لأنه ليس بعقد لازم فأما إذا جاء به إلى المستصنع فقط سقط خياره لأنه رضي بكونه للمستصنع حيث جاء به إليه
فإذا رآه المستصنع فله الخيار إن شاء أجاز وإن شاء فسخ عند أبي حنيفة ومحمد
وقال أبو يوسف لا خيار له لأنه مبيع في الذمة بمنزلة السلم
وهما يقولان إنه بمنزلة العين المبيع الغائب
فإذا ضرب الأجل في الاستصناع ينقلب سلما عند أبي حنيفة خلافا لهما لأنه إذا ذكر فيه الأجل يكون فيه جميع معاني السلم والعبرة للمعنى لا للفظ ولهذا لو استصنع ما لا يجوز استصناعه حتى يكون استصناعا فاسدا وشرط فيه الأجل ينقلب سلما بلا خلاف كذا هذا والله أعلم ب 3
كتاب الشركة
الشركة نوعان شركة أملاك وشركة عقود
الشركة الأملاك على ضربين أحدهما ما كان بفعلهما مثل أن يشتريا أو يوهب لهما أو يوصى لهما فيقبلا
والآخر بغير فعلهما وهو أن يرثا
والحكم في الفصلين واحد وهو أن الملك مشترك بينهما
وكل واحد منهما في نصيب شريكه كالأجنبي لا يجوز له التصرف فيه إلا بإذنه
وأما شركة العقود فعلى ثلاثة أوجه شركة بالأموال وشركة بالأعمال وشركة بالوجوه ويدخل في كل واحد منها شركة العنان وشركة المفاوضة فنذكر في كل نوع كيفيته وشرائطه وأحكامه
وأما الشركة بالأموال فلها شروط عنانا كانت الشركة أو مفاوضة منها أن يكون مال الشركة حاضرا إما عند العقد أو عند الشراءولا يجوز بمال غائب أو دين في الحالين لهذا قالوا فيمن دفع إلى رجل ألف درهم وقال اخرج مثلها واشتر بها وبع فما ربحت كان بيننا فأخرج ألفا واشترى بها جاز وإن لم يوجد المال المعين عند العقد وإنما وجد عند الشراء
وإنما كان كذلك لأن الشركة لا تتم إلا بالشراء فوجود المال عنده كوجوده في الابتداء
ومنها أن يكون رأس مال الشركة أثمانا مطلقة من الدراهم والدنانير عند أكثر العلماء ويصح عقد الشركة فيهما بالإجماع ولو كان من أحدهما دراهم ومن الآخر دنانير جازت الشركة عندنا
وعند زفر لا يجوز
وأما التبر فلا تصح الشركة به وجعله كالعروض في هذا الكتاب وفي كتاب الصرف جعله ثمنا
وخلط المالين ليس بشرط عندنا وعند زفر شرط
وأما المكيل والموزون والعدديات المتقاربة فلا تصح الشركة بها قبل الخلط بالإجماع لأنها ليست بأثمان عند التعيين والشركة لا تصح فيها إلا وهي ثمن وإنما هي أثمان في الذمة أما بعد الخلط فقال أبو يوسف لا تصح الشركة وإنما صارت شركة أملاك وقال محمد صحت الشركة بالخلط
وإنما يظهر الخلاف فيما إذا كان المكيل نصفين وقد شرطا أن يكون الربح أثلاثا فخلطاه واشتريا به قال أبو يوسف الربح على قدر المالين وقال محمد على ما شرطا
وأما الشركة بالعروض فلا تجوز عندنا خلافا ل مالك لأن الشركة تقتضي الوكالة والتوكيل على الوجه الذي تضمنه الشركة لا يصح بالعروض فإنه لو قال لغيره بع عرضك على أن ثمنه بيننا لميصح
ولو قال لرجل اشتر بألف من مالك على أن ما اشتريته بيننا وأنا أشتري بألف من مالي على أن ما أشتري بيننا جاز فلهذا افترقا
وأما شركة العنان فتفسيرها أن يشارك صاحبه في بعض الأموال التي ذكرنا لا في جميع الأموال ويكون كل واحد منهما وكيلا عن صاحبه في التصرف في النوع الذي عينا من أنواع التجارة أو في جميع أنواع التجارة إذا عينا ذلك أو أطلقا ويبينان قدر الربح
وهذه الشركة جائزة بلا خلاف لأنها تقتضي الوكالة في التصرف عن كل واحد منهما لصاحبه والتوكيل صحيح
ولهذا تجوز هذه الشركة بين كل من كان من أهل التجارة مأذونا فيها كالعبد المأذون والصبي المأذون والمكاتب والذمي كما تجوز بين الأحرار البالغين المسلمين لأن قبول الوكالة صحيح منهم
ويجوز أن يشترط العمل عليهما بان اشتركا على أن يبيعا ويشتريا على أن ما رزق من ذلك فهو بينهما على كذا ويجوز أن يشترطا العمل على أحدهما دون الآخر
ثم لا شك أنهما إذا شرطا الربح بينهما نصفين جاز بالإجماع إذا كان رأس مالهما على السواء سواء شرط العمل عليهما أو على أحدهما لأن استحقاق الربح بالمال أو بالعمل وقد وجد التساوي في المال
وإن شرطا الربح بينهما أثلاثا فإن كان العمل عليهما جاز سواء كان فضل الربح لمن كان رأس ماله أكثر أو أقل لأنه يجوز أن يكون له زيادة حذاقة فيكون الربح بزيادة العمل
وإن شرطا العمل على أحدهما فإن شرطا العمل على الذي شرط له فضل الربح جاز لأن عامل في ماله وربحه له وعامل في مالشريكه ببعض ربحه والربح يستحق بالعمل
وإن شرطا العمل على أقلهما ربحا خاصة لا يجوز لأنه شرط للآخر فضل ربح بغير عمل ولا ضمان والربح لا يستحق إلا بمال أو عمل أو ضمان ولا نعني بقولنا العمل وجوده بل نعني به شرط العمل
وإذا اشترك الرجلان بمال على أن يشتريا ويبيعا فما كان من الربح فهو بينهما ولم يخلطا المال فضاع مال أحدهما قبل الشراء فقد انتقضت الشركة لأن الشركة تعينت في المالين فإذا هلك أحدهما قبل الشراء بطلت الشركة فيه وبطلت في المال الآخر لأن صاحبه لم يرض بمشاركة شريكه فيه إلا بشرط الشركة في مال وإذا بطلت الشركة فما يشتريه بماله يكون له خاصة
ولو اشترى بأحد المالين ثم هلك المال الآخر فما اشتراه فهو بينهما لأنه اشتراه مع بقاء الشركة فملكا المشترى فهلاك المال بعده لا يغير حكم الملك
ثم لكل واحد من شريكي العنان بعدما اشتريا برأس المال أعيانا أن يبيع مال الشركة بالنقد والنسيئة ويشتري بالنقد والنسيئة وإنما أراد بالشراء بالنسيئة فيما إذا كان في يده دراهم أو دنانير أو مكيل أو موزون فاشترى بذلك الجنس شيئا لأن الشريك وكيل بالشراء والوكيل بالشراء يملك الشراء بالنسيئة
فإذا لم يكن في يده ما ذكرنا وصار مال الشركة كله أعيانا وأمتعة فاشترى بدراهم أو بدنانير نسيئة فالمشتري له خاصة دون شريكه لأنه لو صح في حق شريكه صار مستدينا على مال الشركة
والشريك شركة عنان والمضارب لا يملكان الاستدانة إلا أن يؤذن لهما في ذلك
وكذا لكل واحد منهما أن يبضع ويودع ويوكل بالبيع ويحتال بالثمن ويستأجر ويسافر بمال الشركة عند أبي حنيفة و محمد في أصح الروايات
وكذا يقبض ما باع بنفسه ويخاصم فيه ولا يقبض ما باع صاحبه ولا يخاصم فيه إلا إذا قال كل واحد منهما لصاحبه اعمل فيه برأيك فلهما أن يعملا في ذلك ما كان من التجارة وتوابعها من الرهن والارتهان ودفع المال مضاربة والسفر بالمال في قولهم إلا القرض والهبة والكتابة والتزويج ونحو ذلك لأن هذا من باب التبرع وليس من جنس التجارة
وأما شركة المفاوضة فشرط صحتها أن تكون في جميع التجارات ولا يختص أحدهما بتجارة دون شريكه وأن يكون ما يلزم أحدهما من حقوق ما يتجران فيه لازما للآخر وما يجب لكل واحد منهما يجب للآخر
ويكون كل واحد منهما فيما وجب لصاحبه بمنزلة الوكيل وفيما وجب عليه بمنزلة الكفيل عنه ويتساويان مع ذلك في رؤوس الأموال في قدرها وقيمتها ويتساويان في الربح فإن تفاوتا في شيء من ذلك لم تكن مفاوضة وكانت عنانا فصارت المفاوضة مشتملة على الوكالة والكفالة والتساوي في الربح والمال الذي يقع به الشركة ولهذا لا تجوز إلا بين المسلمين الحرين البالغين العاقلين لتساويهما في أهلية الكفالة وأهلية سائر التصرفات بخلاف العبد والصبي والمكاتب والذمي والمجنون
ثم كل ما يجوز لشريك العنان أن يفعله يجوز للمفاوض أن يفعله أيضا لأن شركة المفاوضة أعم
ثم كل ما هو شرط في صحة شركة العنان فهو شرط في صحةالمفاوضة وكل ما فسدت به شركة العنان فهو مفسد لشركة المفاوضة
ويجوز للمفاوض أيضا ما لا يجوز لشريك شركة عنان فمما يختص به المفاوض أن يجوز إقراره بالدين على نفسه وعلى شريكه ويطالب المقر له أيهما شاء ليكون كل واحد منهما كفيلا عن صاحبه وكذلك كل ما وجب على كل واحد منهما من دين سائر العقود التي تكون في التجارة من الشراء والبيع والاستئجار وغير ذلك من سائر ما يضمنه أحدهما من الأموال بالغصوب والبيوع الفاسدة والخلاف في الودائع والعواري والاستهلاكات والإجارات الرهن والارتهان والكفالة بالمال عند أبي حنيفة خلافا لهما والقبض والخصومة وإقامة البينة والاستحلاف على العلم والكتابة والإذن في التجارة لعبد الشركة وتزويج الأمة ونحو ذلك
ولا يجوز أن يعتق شيئا من عبيد التجارة ولا أن يزوجهم
وإذا اشترى أحدهما طعاما لأهله أو كسوة أو ما لا يتهم فيه فذلك جائز وهو له خاصة دون صاحبه وللبائع أن يطالب بثمن ذلك أيهما شاء إلا أنهم قالوا إن الشريك يرجع على شريكه بنصف ثمن ذلك لأنه قضى دينه من ماله بإذنه دلالة
وليس له أن يشتري جارية للوطء أو للخدمة بغير إذن الشريك وإذا اشترى أحدهما جارية ليطأها بإذن شريكه فهي له خاصة ولا يرجع عليه بشيء من الثمن ولم يذكر الخلاف في كتاب الشركة وذكر في الجامع الصغير فقال عند أبي حنيفة لا يرجع عليه بشيء من الثمن
و عندهما يرجع عليه بنصيبه على ما عرف ثم
وأما الشركة بالوجوه فأن يشترك الرجلان ولا مال لهما على أن يشتريا ويبيعا بوجوههماعلى أن ما اشتريا أو اشترى أحدهما فهو بينهما نصفان وسميت شركة الوجوه لأنه لا يشتري بالنسيئة إلا من له وجه عند الناس
وهي عقد جائز عندنا خلافا للشافعي لتعامل الناس في الأعصار من غير نكير
ثم كيفما شرطا وقوع الملك في المشترى بينهما إما نصفان أو كان لأحدهما أكثر فهو جائز ويقع الملك بينهما كذلك ويكون الربح على قدر ملكهما ولا يجوز أن يفضل أحدهما على ربح حصته شيئا لأن الربح يستحق في هذه الشركة بالضمان لا بالمال والعمل والضمان على قدر الحصة فيكون الربح كذلك إذ لو شرط زيادة الربح فإنه يشترط من غير عمل ومال وضمان وهذا لا يجوز
ثم هما في جميع ما يجب لهما وما يجب عليهما وما يجوز فيه فضل أحدهما على شريكه وما لا يجوز بمنزلة شريكي العنان لأنهما اطلقا الشركة والشركة المطلقة تقتضي العنان فإذا اشتركا بوجوههما شركة مفاوضة فذلك جائز لأنهما ضما إلى الوكالة المطلقة الكفالة وذلك جائز إلا أنه لا بد من التساوي فيما يتبايعانه لأن المفاوضة تمنع من التفاضل
وأما الشركة بالأعمال فهي تسمى شركة الصنائع وتسمى شركة الأبدان لأن العمل بالبدن يكون وهو أن يشترك اثنان في عمل القصارة والصباغة على أن يتقبلا الأعمال ويعملا فما أخذا من الأجر فهو بينهما
وهذه الشركة جائزة عندنا خلافا للشافعي وهي مما جرى به التعامل في جميع الأعصار
ثم هي قد تكون مفاوضة وقد تكون عنانا
فالمفاوضة ما ذكرا فيه لفظة المفاوضة أو ذكرا ما هو في معنى المفاوضة بأن اشترط الصانعان على أن يتقبلا جميعا الأعمال وأن يضمنا جميعا العمل على التساوي وأن يتساويا في الربح والوضيعة وأن يكون كل واحد منهما كفيلا عن صاحبه فيما لحقه بسبب هذه الشركة فهي مفاوضة
وإن شرطا على أن ما قبلا من الأعمال وضمنا العمل فعلى أحدهما الثلثان من العمل وعلى الآخر الثلث والآخر والوضيعة على قدر ذلك فهذا شركة عنان لوجود معنى شركة العنان
وكذا إذا ذكرا لفظة العنان
وكذا لو أطلقا فهي شركة عنان أيضا استحسانا لأنهما جميعا قبلا الأعمال وضمنا تسليم ذلك إلى صاحبه فيكون ذلك جاريا مجرى المفاوضة في أن العمل عليهما ولصاحب العمل أن يطالب بالعمل أيهما شاء ولكل واحد منهما أن يطالب بأجرة العمل وإلى أيهما دفع صاحب العمل برىء وعلى أيهما وجب ضمان العمل فكان لصاحب العمل أن يطالب الآخر ولكن لا تكون مفاوضة حقيقة ما لم تذكر لفظة المفاوضة أو يوجد معناها وهو ما ذكرنا حتى قالوا في الدين إذا أقر به أحدهما من ثمن صابون أو أشنان أو أجر أجير أو حانوت قد مضى فإنه لا يصدق على صاحبه إلا بإقراره أو ببينة قامت عليه ويستوي أن تكون الشركة في نوع عمل فيعملان ذلك أو يعمل أحدهما عملا والآخر غير ذلك أو لم يعمل بعد أن ضمنا جميعا العملين جميعا لأن الإنسان قد يعمل بنفسه وأجيره
فإن عمل أحدهما دون الآخر والشركة عنان أو مفاوضة فالأجر بينهما إن شرطا العمل عليهما والتزما ذلك فيكون أحدهما معينا للآخر كالقصار إذا استعان برجل في القصارة
وكذلك إذا شرطا لأحدهما زيادة أجر أو شرطا العمل على قدر الأجر والوضيعة كذلك فهو جائز وإن كان عمل الذي شرط له الأجر القليل أكثر لأن الربح بقدر ضمان العمل لا بحقيقة العمل
وإن شرطا الوضيعة نصفين لا يصح ويبطل وتكون الوضيعة على ما شرطا من ضمان العمل والأجر كذلك
ولو جنت يد أحدهما فالضمان عليهما جميعا لأن ذلك بناء على ضمان العمل وقد ضمنا جميعا
باب الشركة الفاسدة
وهي أنواع منها الاشتراك في جميع المباحات التي تملك بالأخذ مثل الاصطياد
والاحتطاب والاحتشاش والاستقاء واجتناء الثمار وحفر المعادن
فإن اشتركا على أن ما أصابا من ذلك فهو بينهما فالشركة فاسدة ولكل واحد منهما ما أخذه لأن الشركة تقتضي الوكالة والوكالة في الاصطياد ونحوه لا تصح وإذا فسدت فالأخذ سبب الملك فيكون ملكا له ثم ينظر إن أخذا جميعا معا فهو بينهما لاستوائهما في سبب الملك وإن أخذ كل واحد منهما شيئا بإنفراده وخلطاه وباعاه فإن كان مما يكال ويوزن يقسم الثمن على قدر الكيل والوزن الذي لكل واحد منهما وإن كان مما لا يكال ولا يوزن يقسم الثمن بينهما بالقيمة فيأخذ كل واحد منهما بقيمة الذي له وإن لم يعرف الكيل والوزن والقيمة يصدق كل واحد منهما فيما يدعي إلى النصف وإن ادعى أكثر من النصف فعليه البينة
وإن عمل أحدهما وأعانه الآخر في عمله فله أجر المثل بالغا ما بلغ عند محمد وعند أبي يوسف له أجر مثله لا يجاوز به نصف المسمى أو قيمته أي نصف ذلك الشيء الذي أعانه فيه أو قيمته كمن قاللآخر بع هذا الثوب على أن نصف ثمنه لك فإنه يجب أجر المثل مقدرا بنصف ذلك الثمن
ومنها أن يكون لأحدهما بغل وللآخر حمار فاشتركا على أن يأجرا ذلك فما رزق الله من شيء فبينهما فأجراهما جميعا بأجر معلوم في عمل معلوم وحمل معلوم فإن هذه الشركة فاسدة لأن الوكالة على هذا الوجه لا تصح بأن قال الآخر أجر بعيرك على أن أجره بيننا فإنه فاسد فكذا الشركة
وإذا فسدت الشركة فالإجارة صحيحة لوقوعها على منافع معلومة ببدل معلوم فيقسمان ما أخذا من الأجر على قدر أجر مثل البغل والحمار
ومنها أنه لو دفع إلى رجل دابة ليأجرها على أن الأجر بينهما كان ذلك فاسدا والأجر لصاحب الدابة وكذلك السفينة والدار لأنه عقد على ملك الغير بإذنه ويجب أجر المثل لأنه استوفى منفعة بعقد فاسد
ونوع آخر رجل اشترى شيئا فقال له الآخر أشركني فيه فهذا بمنزلة البيع والشراء بمثل ما اشترى في النصف والتولية أن يجعل كله له بمثل ما اشترى على ما مر في كتاب البيوع فإن كان قبل أن يقبض الأول لم يجز لأنه بيع المبيع المنقول قبل القبض وإن كان بعده جاز ويلزمه نصف الثمن فإن كان لا يعلم بمقدار الثمن فهو بالخيار إذا علم إن شاء أخذ وإن شاء ترك
ولو اشترى رجلان عبدا فأشركا فيه رجلا بعد القبض فالقياس أن يكون للشريك النصف لأن كل واحد منهما لو أشركه في نصيبه على الانفراد استحق نصفه فكذا إذا أشركاه جميعا معا وفيالاستحسان يكون له الثلث لأن الشركة تقتضي المساواة فإذا قالا له أشركناك فيه فكأنهما قالا شاركناك
فإن أشركه أحدهما في نصيبه ونصيب صاحبه فأجاز شريكه ذلك كان للداخل النصف وللأولين النصف لأنه لما أجاز شريكه في نصيبه صار نصف نصيبه له وقد أشركه في نصيب نفسه هذا فيكون للثاني النصف وبقي لكل واحد منهما الربع
كتاب المضاربة
يحتاج إلى معرفة تفسير المضاربة والألفاظ التي بها تنعقد المضاربة وإلى بيان شروط صحتها والشروط المفسدة وإلى بيان أحكامها
وأما تفسير المضاربة فهو دفع المال إلى غيره ليتصرف فيه ويكون الربح بينهما على ما شرطا فيكون الربح لرب المال بسبب ماله لأنه نماء ماله وللمضارب باعتبار عمله الذي هو سبب وجود الربح
وأما ألفاظ المضاربة فأن يقول دفعت هذا المال إليك مضاربة أو مقارضة أو معاملة أو خذ هذا المال واعمل فيه على أن ما رزق الله من شيء فهو بيننا نصفان أو على أن لك ربعه أو خمسه أو عشره ولم يزد على هذا فهو مضاربة
ثم هي نوعان مطلقة وخاصة
أما المطلقة فأن يدفع المال إلى رجل ويقول دفعت هذا المال إليك مضاربة على أن الربح بيننا نصفان
وأما الخاصة فأن يدفع إليه ألف درهم مضاربة على أن يعمل بها فيالكوفة أو أن يعمل بها في البز أو الخز أو قال خذ هذا المال مضاربة بالنصف على أن تشتري به الطعام ونحو ذلك
وأما شرائط صحتها فمنها أن يكون رأى رأس المال من الأثمان المطلقة فكل ما يصلح رأس مال الشركة ويصح به عقد الشركة تصح به المضاربة وإلا فلا وقد ذكرنا هذا في كتاب الشركة
وأما المضاربة برأس مال الدين فهو على وجهين أحدهما أن يكون الدين لرب المال على رجل فيقول له اعمل بديني الذي في ذمتك مضاربة بالنصف فإن اشترى بها وباع فجميع ما اشترى وباع يملكه وله ربحه وعليه وضيعته والدين في ذمته بحاله عند أبي حنيفة بناء على أصله فيمن وكل رجلا ليشتري بالدين الذي في ذمته لم يجز
وعلى أصلهما يجوز هذا التوكيل ويبرأ من الدين فيكون ما اشترى وباع لرب المال له ربحه وعليه وضيعته والمضاربة فاسدة لأن الشراء وقع للموكل فيكون مضاربة بالعروض
وأما إذا قال له اقبض مالي على فلان من الدين واعمل به مضاربة فقد جاز لأنه أضاف المضاربة إلى المقبوض الذي هو أمانة في يده
ومن شرط صحتها أن يكون الربح جزءا مشاعا من الجملة
أما إذا عين بأن قال على أن لك من الربح مائة درهم أو نحوها فلا يصح لاحتمال أن الربح لا يكون إلا هذا القدر فلا يحصل الربح لرب المال
وكذا الوصي لو دفع مال الصبي مضاربة وشرط عمل الصغير فالمضاربة فاسدة لبقاء يد المالك على المال
ومنها انقطاع يد رب المال عن رأس المال شرط صحتها حتى قالوا في المضارب إذا دفع المال لي رب المال مضاربة بالثلث فالمضاربة الثانية فاسدة
ومنها إعلام قدر الربح لأن الربح هو المقصود فجهالته توجب فساد العقد
فكل شرط يؤدي إلى جهالة الربح يفسد المضاربة
وإن كان لا يؤدي إلى جهالة الربح يبطل الشرط ويصح العقد مثل أن يشترط أن تكون الوضيعة على المضارب أو عليهما فالشرط يبطل ويبقى العقد صحيحا والوضيعة في مال المضاربة وكذا لو دفع ألفا مضاربة على أن الربح بينهما نصفان وعلى أن يدفع إليه رب المال أرضه ليزرعها سنة أو على أن يسكنه داره سنة فالشرط باطل والمضاربة جائزة
و أما الأحكام فنقول المضاربة تشتمل على أحكام مختلفة إذا دفع المال إلى المضارب فهو أمانة في يده في حكم الوديعة لأنه قبضه بأمر المالك لا على طريق البدل والوثيقة
فإذا اشترى به فهو وكالة لأنه تصرف في مال الغير بإذنه
فإذا ربح صار شركة لأنه ملك جزءا من المال بشرط العمل والباقي نماء مال المالك فهو له فكان مشتركا بينهما
فإذا فسدت المضاربة بوجه من الوجوه صارت إجارة لأن الواجب فيها أجر المثل وذلك يجب في الإجارات
فإن خالف المضارب صار غاصبا والمال مضمون عليه لأنهتعدى في ملك غيره
ثم من حكم المضاربة المطلقة العامة أن يتصرف المضارب في مال المضاربة ما بدا له من أنواع التجارات وله أن يدفع بضاعة ووديعة ويستأجر الأجير والدواب والبيوت وأن يبيعه بالنقد والنسيئة ويوكل وكيلا في الشراء والبيع وله أن يرهن ويرتهن في المضاربة وله أن يسافر بالمال في الطريق الذي يسافر فيه التجار
وليس له أن يقرض وأن يستدين على المضاربة وإن يأخذ سفتجة حتى يأمره بذلك وليس له أن يدفع المال إلى غيره مضاربة وأن يشارك به وأن يخلطه بماله ولا بمال غيره في قولهم جميعا
وفي الرواية المشهورة له أن يأذن لعبد المضاربة في التجارة لأنه عادة التجار
وأما المضاربة الخاصة فهي فيما ذكرنا من الأحكام مثل المضاربة العامة وإنما تفارقها في قدر الخصوص وهو أن يتقيد بالمصر الذي قيده بها بأن دفع المال مضاربة ليعمل بها في الكوفة فليس له أن يخرج المال من الكوفة بنفسه ولا يعطيها أيضا بضاعة لمن يخرج بها عن الكوفة فإن أخرجها من الكوفة ضمن فإن اشترى بها وباع فما اشترى فهو لنفسه وإن لم يشتر بها شيئا حتى يرده إلى الكوفة برىء من الضمان ورجع المال مضاربة على حالها كالمودع إذا خالف في الوديعة ثم عاد إلى الوفاق
ولو دفع إليه على أن يعمل في سوق الكوفة فعمل بالكوفة في غير سوقها فهو جائز على المضاربة استحسانا لأنه لا يفيد غالبا
ولو قال له لا تعمل إلا في سوق الكوفة فعمل في غير السوق فباع واشترى فهو ضامن لأن هذا حجر والأول تخصيص وإنما يصح التخصيص إذا كان مفيدا والحجر عن التصرف في ملك نفسه جائز ولا يصح التصرف بدون إذنه
ثم في المضاربة المطلقة إذا نهى رب المال أن يخرج المال من المصر الذي اشتراه منه وعلم بالنهي فليس له أن يخرجهه وحاصل هذا أن في المضاربة المطلقة إن خصصها رب المال بعد العقد فإن كان رأس المال بحاله أو اشترى به متاعا ثم باعه وقبض ثمنه دراهم ودنانير فإن تخصيصه جائز كما لو خصص المضاربة في الابتداء لأنه يملك التخصيص إذا كان فيه فائدة
أما إذا كان مال المضاربة عروضا فليس يصح نهي رب المال حتى يصير نقدا وذلك نحو أن يقول لا تبع بالنسيئة لأن المضاربة تمت بالشراء ولو أراد العزل عن البيع لم يصح عزله فكذلك عن صفته
ومنها أن المضارب ليس له أن ينفق من مال المضاربة ما دام في مصره وإذا سافر أنفق من مال المضاربة لنفقته وكسوته ومركوبه وعلف دوابه ونفقة أجيره ومؤونته وما لا بد في السفر منه عادة إلا مؤونة الحجامة والخضاب والنورة فهو من ماله
وروى الحسن أن كل ما يثبت فيه نفقة الإنسان كان فيه الدواء والحجامة في قياس قول أبي حنيفة و أبي يوسف وكذلك الدهن وقال محمد الدهن في ماله
ولو أقام في مصر من الأمصار للبيع والشراء ونوى الإقامة خمسة عشر يوما فنفقته من مال المضاربة ما لم يتخذ من المصر دارا للتوطين
ثم إذا دخل مصره فما فضل من نفقته وكسوته يرده إلى مال المضاربة
ثم مقدار النفقة التي أنفق يحتسب كله من الربح إن كان ربح وإن لم يكن فهو من رأس المال
وما أنفقه من ماله فيما له أن ينفقه من مال المضاربة على نفسه فهو دين في المضاربة كالوصي إذا أنفق على الصغير من مال نفسه لأن تدبير ذلك مفوض إليه
ومنها أن قسمة الربح قبل قبض رأس المال لا تصح حتى أنهما لو اقتسما الربح ورأس المال في يد المضارب فهلك فما أخذ رب المال من الربح يكون محسوبا من رأس المال ويرجع على المضارب فيما قبضه حتى يتم رأس المال فإن فضل فهو ربح بينهما
ولو هلك رأس المال في يد المضارب قبل أن يشتري به شيئا يهلك أمانة وتنفسخ المضاربة لأن المال يتعين في المضاربة
والقول في المضاربة الصحيحة قول المضارب وفي الفاسدة قول رب المال
فأما إذا اشترى بالمال رقيقا فهلك الرقيق فهو على المضاربة
ولو كان رأس المال ألفا فاشترى به شيئا فهلك الألف قبل التسليم فإنه يرجع هو بالألف على رب المال ثانيا وثالثا ورابعا وذلك كله رأس المال لأن المضاربة قد تمت
لو مات المضارب ينفسخ عقد المضاربة لعجزه عن العمل بهفصار كلما لو عزله إلا أن في العزل لا بد من العلم وفي الموت ينفسخ وإن لم يعلم لأنه فسخ حكمي كذلك إذا مات رب المال ينفسخ سواء علم المضارب بموته أولا لأنه فسخ حكمي
وهذا إذا كان المال نقدا فأما إذا كان المال عروضا فإن بيع المضارب جائز حتى يصير نقدا فيؤدي رأس المال ولا ينعزل بالعزل صريحا وكذلك بالموت
ثم المضاربة متى فسدت وقد ربح فيها فالربح لرب المال وللمضارب أجر المثل لأن استحقاق رب المال الربح لكونه نماء ماله والمضارب إنما يستحق بالشرط وقد فسد العقد لكن عمل له بحكم عقد فاسد فيلزمه أجر المثل
وكذا إذا لم يربح لأنه استعمله مدة في عمله فكان عليه أجر العمل
وفي المضاربة الصحيحة إن لم يكن ربح فلا شيء للمضارب لأنه عامل لنفسه فلا يستحق الأجر والله أعلم
كتاب الصرف
الصرف اسم لبيع الذهب والفضة والتبر والمضروب والمصوغ في ذلك سواء وكذلك الجنس وخلاف الجنس والمفرد والمجموع مع غيره
يسمى هذا العقد صرفا لاختصاصه بالتقابض والصرف من يد إلى يد
وحكمه حكم سائر الموزونات والمكيلات في جريان ربا الفضل والنسا وذلك عند اتحاد الجنس والقدر
إنما اختص من سائر البياعات بثلاثة أشياء أحدها أنه لا يصح بدون تقابض البدلين قبل افتراق العاقدين بأنفسهما فإذا عقدا عقد الصرف بأن باع دينارا بدينار أو دينارا بعشرة دراهم سواء كانا حاضرين وقت العقد أولا فإنه ينعقد العقد وينفذ إذا وجد التقابض قبل افتراق العاقدين
وكذلك إذا كان مجموعا مع غيره بأن باع ذهبا وثوبا بفضة أو ذهب فالفضة تنقسم على الذهب والثوب فما يكون بمقابلة الذهب يكون صرفا وما يقابل الثوب يكون بيعا فإذا قبض حصة الذهب من الفضة وقبض الآخر الذهب بحصة الفضة جاز وإن لم يقبض حصة الثوب لكن الشرط افتراق العاقدين سواء كانا مالكين أو نائبينكالوكيل والأب والوصي لأن القبض من تمام عقد الصرف فيعتبر بالعاقدين فإن وجد أحد البدلين زيوفا أو نبهرجة فحكم المسألة مع فروعها قد ذكرناه في كتاب البيوع
والثاني أن لا يكون فيه خيار شرط لهما أو لأحدهما
الثالث أن لا يكون لهما أو لأحدهما أجل في الصرف
فإذا أبطلا الخيار أو مات من له الخيار قبل افتراق العاقدين يجوز الصرف استحسانا عندنا خلافا ل زفر
وكذا إذا أبطلا الأجل في المجلس عند أبي حنيفة و محمد وعن أبي يوسف روايتان
وإن افترقا ولأحدهما خيار رؤية بأن كان مصوغا أما في المضروب فلا يثبت خيار الرؤية لأنه لا فائدة فيه كما في المسلم فيه فلا يفسد العقد لأنه خيار حكمي
وكذا خيار العيب
وكذا خيار الإجازة بأن وجد الصرف من الفضوليين على غيرهما فإذا بلغه كان له خيار الإجازة وإنه لا يفسد لأنه خيار يثبت حكما
والمفسد خيار الشرط لا غير ولو تصارفا دينارا بدينار وسلم أحدهما الدينار وأبرأ صاحبه عن الدينار أو وهب منهفإن قبل الذي عليه الدين ما أبرأه أو وهب له بطل الدين عنه وانتقض الصرف لأن البراءة توجب سقوط القبض الذي هو مستحق حقا للشرع في الصرف فإذا اتفقا على إسقاطه بطل العقد بفواته
وإن لم يقبل عليه الدين البراءة لا تصح لأنها سبب للفسخ فلا يثبت بقول أحد المتعاقدين بعد صحة العقد ولو استبدل عن ذلك الدينار شيئا بخلاف جنسه فالبيع فاسد لأن فيه تفويت القبض الذي هو حق الشرع وإذا لم يصح هذا بقي عقد الصرف وقد وجد قبض أحد البدلين فعليه أن يقبض الآخر ويتم العقد الأول بينهما
وإن أخذ عن الدينار الذي عليه دينار أردأ مما سمى أو زيوفا فإنه يجوز ولا يكون استبدالا لأنه من جنس حقه إلا أنه ناقص الوصف والجيد والرديء سواء ههنا
فإن امتنع الواهب والمبرىء أن يأخذ ما وهب له أو أبرأ فإنه يجبر على ذلك لأن في ترك قبض ذلك فساد عقد الغير
ولو باع دينارا بعشر دراهم وسلم الدينار ولم يقبض العشرة وكان لمشتري الدينار على بائعه عشرة دراهم فأراد المقاصة فهاهنا ثلاث مسائل أحدها أن العشرة التي على البائع وجبت عليه قبل الصرف بقرض أو غصب أو من ثمن مبيع فأراد أن يجعلا ثمن الدينار وهو العشرة قصاصا بذلك الدين فإن أجمعا على ذلك جاز وكان قصاصا وإن لم يجمعا على ذلك لم يكن قصاصا وهذا جواب الاستحسان والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر
والثانية أن يصير قصاصا وإن لم يتقاصا وهو أن تكون العشر دينا على بائع الدينار بقبض مضمون بعد عقد الصرف بأن غصبمنه عشرة أو أقرضه عشرة وسلمها إليه فيصير قصاصا بثمن الصرف وإن لم يتقاصا
والثالثة وهو أن تجب العشرة على بائع الدينار بعقد متأخر عن عقد الصرف فلا يصير قصاصا بثمن الصرف وإن تقاصا
وهذه المسائل ذكرناها في البيوع
باب آخر منه أصل الباب
أن ما يجوز البيع فيه متفاضلا يجوز فيه البيع مجازفة وما لا يجوز فيه البيع متفاضلا لا يجوز فيه البيع مجازفة
إذا باع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مجازفة لا يجوز لأنه لا يجوز البيع فيه متفاضلا فكذلك المجازفة لاحتمال الزيادة في أحدهما
ويستوي الجواب بين أن لا يعرف المتبايعان وزن كل واحد منهما أو كانا يعرفان وزن واحد دون الآخر أو كان أحدهما يعرف والآخر لا يعرف
فإن وزنا في المجلس فكانا سواء في الوزن فالبيع جائز استحسانا وإن تفرقا قبل الوزن ثم وزنا واستويا في الوزن فالبيع فاسد
وقال زفر إذا استويا في الوزن جاز في الحالين
والقياس ما قاله لأن الفساد لأجل احتمال الفضل وقد تبين أنه لا فضل ولكنا نقول إن علم المتعاقدين بالتساوي بين البدلين شرط جواز العقد فيعتبر عند العقد إلا أن للمجلس حكم حالة واحدة فكان كالعلم عند العقد
وأما إذا كان بخلاف الجنس بأن باع الذهب بالفضة مجازفةجاز لأنه جاز البيع فيهما متفاضلا ولهذا قالوا إذا باع قلب فضة محشوا بدرهم ولا يعلم قدر وزن القلب فالبيع باطل وقال زفر جائز إلا أن يعلم التفاضل
وعلى هذا القسمة إذا قعت فيما يجري فيه الربا لا تجوز مجازفة في الجنس الواحد وتجوز في مختلفي الجنس
ولو باع السيف بالسيف وأواني الصفر بجنسها مجازفة جاز لأنه جاز التفاضل
ولو باع فضة فيها غش بفضة مثلها والفضة غالبة فحكمها حكم الفضة لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا سواء بسواء يدا بيد
وإن كان الغش هو الغالب فحكمها حكم النحاس الخالص لا يباع بالنحاس إلا مثلا بمثل يدا بيد
وإن كان الغش مع الفضة سواء فيكون حكمه حكم الفضة في أنه لا يجوز أن يباع إلا وزنا ولا يجوز بيعه مجازفة وعددا وإذا قوبل بالفضة الخالصة في البيع يراعى فيه طريق الاعتبار إن علم أن الفضة الخالصة أكثر حتى تكون الفضة بإزاء الفضة وزنا والزيادة بإزاء الغش جاز البيع
وإن كانت الفضة الخالصة أقل من الفضة التي في المغشوش أو مثلها أو لا يدري لا يجوز لما فيه من الربا
ولو باع سيفا محلى بذهب أو فضة إن باع بجنس الحلية والثمن أكثر من الحلية جاز وتكون الحلية بيعا بمثل وزنها والفضل بإزاء الجفن والحمائل لأن الأصل عندنا في تقسيم الثمن على المبيع إذا كان أشياء بعضها من جنس الثمن والبعض لا صرف الثمن إلى جنسه بمثل وجه فيه تصحيح العقد ما أمكن وذلك في صرف بعض الثمنإلى جنسه بمثل وزنه والبعض إلى خلاف الجنس على طريق الاعتبار وذلك ما قلنا
وأما إذا كان الثمن مثل الحلية أو أقل فلا يجوز لأنه يبقى الجفن والحمائل فضلا في بيع الربا
وكذلك إذا كان لا يعلم أو اختلف التجار في ذلك فإن علم أن الحلية أقل في المجلس يكون جائزا عندنا وإن علم بعد الافتراق لا يجوز عندنا خلافا ل زفر كما في بيع المجازفة
وهذا إذا قبض حصة الحلية في المجلس فأما إذا تفرقا قبل أن يتقابضا أو قبض أحدهما دون الآخر فإنه ينظر إن كانت الحلية مما لا يتخلص عن السيف إلا بضرر فسد البيع كله
وإن كانت تتخلص بغير ضرر جاز في السيف وفسد في الحلية لأن العقد بقدر الحلية يكون صرفا وفي حق السيف يكون بيعا مطلقا والتقابض شرط صحة الصرف لا غير فإذا كانت تتخلص الحلية من غير ضرر فكأنهما شيئان منفصلان ولهذا جاز العقد في أحدهما دون الآخر ولذا جاز أن يبقى
فأما إذا كانت لا تتخلص إلا بضرر فاسد كله في حصة الحلية لعدم التقابض وفي حصة السيف لأنه بيع شيء لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحق البائع وابتداء البيع على هذا الوجه مفسد للبيع فكذا في حالة البقاء كما إذا باع جذعا في سقف حتى لو فصل الحلية عن السيف وسلم جاز ويجبر المشتري لتغير صفة المبيع
ولو باع السيف المحلى بجنس الحلية أو بخلاف جنسها من الذهب والفضة والثمن أكثر من الحلية ولأحدهما خيار الشرط في البيع أوكان شرط تأجيل الثمن في العقد ثم تفرقا عن قبض
فإن كانت الحلية مما لا يتميز إلا بضرر فسد البيع في الحلية بالتأجيل والخيار المفسدين للصرف وفسد في السيف لأنه لا يجوز إفراده بالعقد لما فيه من إلحاق الضرر بالبائع بالتسليم منفصلا
وإن كانت تتميز من غير ضرر فسد العقد فيهما عند أبي حنيفة و أبي يوسف لأن الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد والفساد في نفس المعقود عليه وفي مثل هذا يشيع الفساد في الكل عندهما وعند محمد يجوز البيع في السيف ويبطل في الحلية لأن الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد وللفاسد قيمته فيصح في الصحيح ويفسد في الفاسد
وإذا اشترى من الرجل قلب فضة وزنه عشرة بعشرة وافترقا عن قبض ثم حط البائع عنه درهما أو زاده المشتري درهما وقبل الآخر ذلك فالبيع فاسد عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف الحط والزيادة فاسدان والعقد الأول صحيح
وقال محمد الحط جائز والزيادة فاسدة والعقد الأول صحيح وهذا فرع اختلافهم في الشرط الفاسد يلتحق بالعقد ويفسده عند أبي حنيفة فإذا وجدت الزيادة والحط والتحقا بالعقد يجعل كأن العقد في الابتداء على هذا الوجه فيفسد للتفاضل في مال الربا وإنما شرط القبول في الحط ههنا عنده لأنه يتعلق به فسخ العقد فلا يملكه أحد العاقدين إلا برضا الآخر ومن أصل أبي يوسف أن الشرط الفاسد لا يلتحق بالعقد فيسقط اعتبار الزيادة والحط جميعا وأما محمد فقوله مثل قول أبي يوسف إلا أنه يقول الزيادة فاسدة فلا نلتحق بالعقد والحط صحيح لأنه يمكن أن يجعل هبة مبتدأة كحط جميع الثمن
فأما إذا كان بخلاف الجنس بأن باع قلب فضة وزنه عشرة بدينار والمسألة بحالها صح الحط والزيادة بالإجماع ويلتحقان بأصل العقدفيشترط قبض هذه الزيادة في المجلس حتى لو افترقا قبل قبض الزيادة في مجلس الزيادة يفسد العقد في حصة الزيادة لأن الزيادة صارت ثمن الصرف
وفي الحط تفرقا أول لم يتفرقا فهو صحيح لأن الفضل في خلاف الجنس جائز ويجب عليه رد ما حط
ولو باع دينارا ودرهما بدرهمين ودينارين جاز عندنا ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس خلافا ل زفر و الشافعي
وعلى هذا الخلاف إذا قوبل أبدال من جنسين مختلفين بأبدال من جنسين مختلفين في أموال الربا في المكيل والموزون فإنه يصرف الجنس إلى خلاف الجنس والمسألة معروفة
ولو كسر حلية سيف أو سوارا فإنه يضمن قيمة الصياغة بخلاف جنسه لأن هذه جودة متقومة لحصولها بصنع العباد ولكن لا يمكن تضمينه من جنسه لأنه يؤدي إلى الربا فيجب التضمين بخلاف الجنس
فصل القرض جائز
فيما له مثل من جنسه لأنه يجب عليه رد المثل
والأجل في القرض باطل شرط في الأصل أو طرأ عليه لأن أحذ مثل القرض كعين القرض فيكون فاضلا في العين وهو باطل
ولو استقرض فلوسا أو دراهم ثم كسدت فعند أبي حنيفة يجب عليه رد مثلها وعند أبي يوسف و محمد رد قيمتها لكن عند أبي يوسف تعتبر القيمة يوم القرض وعند محمد في آخر وقت نفاقها قبل أن تكسد وهذا كالاختلاف بينهما فيمن عصب مثليا وانقطع قال أبو يوسف تجب قيمته يوم الغصب وعند محمد يوم الانقطاع
فإذا باع الفلوس بخلاف جنسها فإنها لا تتعين إن كان ما يقابلها من العروض بمنزلة الدراهم وإن كان ما يقابلها من الدراهم والدنانير لاتتعين أيضا لكن إذا افترقا من غير قبض أحدهما يفسد العقد لأنه افتراق عن دين بدين وإن قبض أحدهما جاز ولا يشترط قبضهما لأنه ليس بصرف
وأما إذا باع الفلوس بعضها ببعض
فإن كان عينا بعين فإنه يجوز عند أبي حنيفة و أبي يوسف متفاضلة أو متساوية لأنها إنما لا تتعين لعدم الفائدة وفي التعيين فائدة وهو جواز العقد وعند محمد لا يجوز متفاضلة لأنه ثمن فيكون كبيع الدرهم بالدرهمين
فأما إذا كان الكل دينا أو أحدهما فالمشهور من الرواية عنهم أنه لا يجوز وعن أبي يوسف يجوز والمسألة تذكر في الخلافيات
كتاب الرهن
يحتاج إلى بيان شرعية عقد الرهن يحتاج إلى وإلى بيان ركنه وإلى بيان شرائط جوازه وإلى بيان ما يصلح مرهونا وإلى بيان ما يكون مرهونا به وإلى بيان حكم الرهن وما يتعلق به من الأحكام
أما الأول فنقول الرهن عقد شرع وثيقة بمال
عرفت مشروعيته بالنص وهو قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } إلى أن قال { فرهان مقبوضة }
وروي عن النبي عليه السلام أنه اشترى من يهودي طعاما نسيئة ورهن به درعه
وأما بيان ركنه فهو الإيجاب والقبول قوله رهنتك هذا بمالك علي من
فمنها القبض وهو عندنا
وقال مالك يصح بالإيجاب والقبول
وهو خلاف النص قال الله تعالى { فرهان مقبوضة }الدين أو قوله خذ هذا الشيء رهنا بدينك ونحو ذلك
ومنها دوام القبض بأن يكون محوزا في يده لأن مقصود الرهن هو الاستيثاق وذلك لا يحصل إلا بهذا
ومنها أن يكون منفصلا عن غيره غير متعلق بما لم يقع عليه عقد الرهن
وعلى هذا قلنا إن رهن المشاع لا يصح
وقال الشافعي يصح
والصحيح ما قلناه لأنه لا يقدر على تسليمه إلا بالتهايؤ وذلك يوجب فوات القبض على الدوام
ويستوي الجواب في المشاع الذي ينقسم والذي لا ينقسم ومن الشريك وغيره
وأما الشيوع الطارىء فيبطل الرهن في رواية الأصل
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه لا يبطل
وأما إذا رهن بيتا بعينه من دار بعينها جاز لأنه ليس بشائع ولهذا قلنا إنه لا يجوز رهن ثمرة في شجرة بدون الشجرة ولا الشجرة بدون الكرم حتى يحوزه ويسلمه إلى المرتهن وكذا رهن شجر في أرض بدون الأرض وكذا إذا رهن زرعا دون الأرض أو الأرض دون الزرع لأن الرهن متصل بما ليس برهن فلا يصح التسليم وإن رهن النخل والشجر والكرم بمواضعها من الأرض جاز لأنه لا يمكنقبضها بما فيها بالتخلية
ولو قال رهنتك هذه الدار أو هذه الأرض أو هذه القرية يدخل في الرهن كل ما كان متصلا بالمرهون من البناء في الدار والشجر مع الثمر والزرع والرطب في الأرض لأن الرهن لا يجوز بدون ما يتصل به فكان إطلاق العقد ينصرف إلى ما فيه تصحيحه
ولو رهن دارا وفيها متاع قليل أو كثير أو حبوب أو شيء مما ينتفع به دون هذه الأشياء لم يصح الرهن حتى يسلم الدار فارغة عنها
ولو رهن الدار بما فيها صح إذا سلم الدار إليه وخلى بينه وبين الدار بما فيها ويصير الكل رهنا
ولو رهن دارا والراهن والمرتهن في جوفها فقال رهنتها منك وسلمتها إليك وقال المرتهن قبلت لم يتم الرهن حتى يخرج الراهن من الدار ثم يقول الراهن قد سلمتها إليك لأنه لا يصح التسليم إلى المرتهن وهو في الدار فإذا خرج فلا بد من تسليم جديد
ثم قبض الأب والوصي ووكيل المرتهن كقبضه
وكذا قبض العدل كقبضه لأنه يمسك الرهن للمرتهن ولكن لا يملك نقض يده والرد إلى يد الراهن
وليس له أن يقبضه المرتهن إلا بإذن الراهن لأنه لم يرض بإمساك المرتهن حيث جعلاه في يد العدل وشرطا في عقد الرهن أو بعد الرهن
فأما إذا شرطا أن يكون في يد العدل وأن يبيعه بدينه ويقضي به دينه فيصح ولكن لا يملك الراهن نقض هذه الوكالة إلا برضا المرتهن لأن البيع صار حقا من حقوق الرهن زيادة وثيقة في حق المرتهن بطلبه
ولو لم يكن مشروطا في الرهن ثم أمر العدل بعد ذلك ببيعه فهذاتوكيل بالبيع فيملك الراهن عزله والنهي عن البيع وإذا مات الراهن ينعزل هذا الوكيل وفي الفصل الأول لا يملك الراهن عزله ولو مات لا ينعزل الوكيل عن البيع
وأما بيان ما يصلح مرهونا فكل مال متقوم يجوز أن يكون مبيعا لأن حكمه ملك الحبس بالدين ليقضي منه الدين إذا عجز عن القضاء إلا به فلا بد من أن يكون مالا متقوما
ولهذا لا يجوز أن يكون المدبر وأم الولد والمكاتب والحر رهنا لأنه لا يمكن استيفاء الدين من هؤلاء
وكذلك لا يجوز أن يكون الخمر والخنزير رهنا سواء كان العاقدان مسلمين أو أحدهما مسلما والآخر ذميا لأن الرهن للإيفاء والاستيفاء وإيفاء الدين من الخمر والخنزير لا يجوز من المسلم وكذا الاستيفاء من المرتهن المسلم
ثم في حق أهل الذمة يجوز الرهن والارتهان بالخمر والخنزير لأنهما مال عندهم ولا يجوز بالميتة والدم لأنهما ليسا بمال أصلا
وكذا المشاع والثمرة المعلقة من الشجرة والزرع النابت في الأرض لا يصح رهنا لأنه لا يتحقق فيه التسليم
وأما بيان ما يجوز أن يكون مرهونا به فنقول الدين يصلح أن يكون مرهونا به على كل حال سواء كان ثمة بيع أو ضمان إتلاف ونحو ذلك لأن الرهن للاستيفاء واستيفاء الدين من ثمن الرهن متحقق
وأما الأعيان المضمونة فعلى وجهين ما كان مضمونا بنفسه كالمغصوب فيجوز الرهن به والمضمونبنفسه ما يجب عند هلاكه مثله إن كان مثليا وقيمته إن لم يكن له مثل
وأما الأعيان المضمونة بغيرها فلا يجوز الرهن بها كالمبيع في يد البائع مضمون بالثمن لا بنفسه على معنى أن المبيع إذا هلك يسقط الثمن إذ لا يجب بهلاكه شيء على الضامن ويصير به مستوفيا للدين
واما الأعيان التي ليست بمضمونة كالودائع والعواري والمستأجر ومال المضاربة والشركة فلا يجوز الرهن بها لأن ما ليس بمضمون لا يصير المرتهن مستوفيا بهلاكه
ويجوز الرهن ببدل الصلح عن دم العمد وببدل الخلع والمهر لأنها مضمونة بأنفسها فإنها إذا هلكت يجب مثلها إن كان لها مثل وقيمتها إن لم يكن لها مثل
ثم إذا هلك الرهن والعين المضمونة قائمة في يد الراهن يقال له سلم العين التي في يدك وخذ من المرتهن الأقل من الدين ومن قيمة الرهن لأن المرهون مضمون عندنا كذلك
وإن هلكت العين المضمونة قبل هلاك الرهن فيصير الرهن رهنا بقيمة العين المضمونة فإذا هلك الرهن بعد ذلك هلك بالأقل من قيمته ومن قيمة العين التي كانت رهنا بها
ولا يجوز الرهن بقصاص في نفس أو فيما دونها لأنه لا يمكن استيفاء القصاص من الرهن
وإن كانت الجناية خطأ جاز الرهن بأروشها لأنه يمكن الاستيفاء من الرهن
وأما حكم الرهن فعندنا ملك العين في حق الحبس حتى يكون المرتهن أحق بإمساكه إلى وقت إيفاء الدين
وإذا مات الراهن فهو أحق به من سائر الغرماء فيستوفي منه دينه فما فضل يكون لسائر الغرماء والورثة
ولهذا لا يجوز للراهن أن يتصرف فيه تصرفا يبطل حق المرتهن من البيع والإجارة والهبة وغيرها
ولهذا لا يجوز له أن ينتفع بالمرهون نوع انتفاع من الاستخدام والركوب ونحو ذلك
وكذلك زوائد الرهن تكون رهنا عندنا وهو أحق بالإمساك ويكون أحق به بعد وفاته كما في حق الأصل إلا أن الزوائد غير مضمونة عليه حتى لا يسقط الدين بهلاكها
وليس للمرتهن أن يبيع الرهن بدينه إلا إذا سلطه الراهن على بيعه أو سلط العدل على ذلك
فإن أعار المرتهن الرهن من الراهن أو الراهن من المرتهن فإنه يجوز ويخرج الرهن من ضمان المرتهن وعقد الرهن على حاله ولكل واحد منهما أن يبطل العارية ويرده إلى الرهن لأن العارية غير لازمة
وعلى هذا إذا غصبه غاصب يخرج عن ضمان المرتهن ولكن الرهن قائم حتى إن للمرتهن أن يأخذه من الغاصب ويرده إلى الرهن
وأما إذا آجره الراهن من المرتهن فيخرج من الرهن ولا يعود أبدا لأن الإجارة عقد لازم فالإقدام عليه يكون فسخا للرهن
وكذلك لو آجر الراهن من غير المرتهن فأجازه المرتهن أو المرتهن من غيره فأجازه الراهن جازت الإجارة ويخرج من الرهن لما قلنا
ولو باع الراهن أو المرتهن وأجاز صاحبه فإنه يجوز البيع ويصير الثمن رهنا مكانه قبض من المشتري أو لم يقبض لأن الثمن قائم مقام الرهن وإن كان الثمن في ذمة المشتري ولا يجوز رهن الدين ابتداء ولكن يجوز البقاء كالعبد الرهن إذا قتل تكون قيمته رهنا حتى لو نوى الثمن في ذمته أو هلك المقبوض فإنه يهلك من مال المرتهن ويسقط الدين بقدره كما لو كان في يده
وللمرتهن أن يطالب الراهن بإيفاء الدين مع عقد الراهن إذا لم يكن مؤجلا لأن الرهن شرع لتوثيق الدين فلا يسقط حق المطالبة إلا بالأداء
ويجوز للراهن أن يوكل المرتهن ببيعه واستيفاء الدين منه
ولو قال الراهن إن جئتك بحقك إلى وقت كذا وإلا فهو لك لم يجز وهو رهن على حاله لأن التمليك لا يتعلق بالشرط
ولا يجوز للحاكم أن يبيع الرهن بدينه بعد حلول الأجل إذا كان مفلسا عن أبي حنيفة ولكن يحبس الراهن حتى يبيعه وعند أبي يوسف و محمد يبيعه
وهذا فرع مسألة الحجر على الحر

وأما نفقة الرهن فعلى وجهين فكل نفقة ومؤونة كانت لمصلحة الرهن وتبقيته فعلى الراهن
وكل ما كان لحفظه أو لرده إلى يد المرتهن أو لرد جزء منه فات بسبب حادث فعلى المرتهن
بيانه أن الرهن إذا كان حيوانا فنفقته وكسوته على الراهن
وإن كان الرهن أمة فولدت فأجر الظئر على الراهن
وإن كان الرهن بستانا فيه أشجار وكرم فسقيه وتلقيح نخله وجداده والقيام بمصلحته على الراهن وكذا الخراج فأما العشر ففي الغلة والزرع يأخذ الإمام والباقي رهن عنده
وكذا أجر الراعي عليه لأنه يحتاج إليه لعلف الحيوان فهو كالطعام والشراب
ويستوي الجواب فيه بين أن يكون الرهن مضمونا أو أمانة كزوائد الرهن أو ما فضل من قيمة الرهن على الدين لأن كله ملكه فعليه كفايته ومؤونته
وأما ما يحتاج إليه للحفظ كأجرة المسكن وأجرة الحافظ ومأوى البقر والغنم فعلى المرتهن
وكذا ما يحتاج لرد العين إلى يد المرتهن كجعل الآبق فعليه إن كان قيمة الرهن والدين سواء وأن كان بعضه أمانة فعليهما على قدر الأمانة والضمان
وأما ما يجب لرد جزء من العين إلى يد المرتهن الذي فات بسبب عارض كمداواة الجراح والقروح والأمراض فهو منقسم عليهما فما كان من حصة المضمون فعلى المرتهن وما كان من حصة الأمانة فعلى الراهن
وما وجب على الراهن ففعله المرتهن بغير أمر الحاكم فهو متبرع فيه
وإن كان بأمره يرجع به على الراهن
وكذا ما وجب على المرتهن فأداه الراهن بغير أمره فهو متبرع
ثم للراهن أن يمتنع من إيفاء الدين عند محل الأجل حتى يحضر المرتهن الرهن لأنه ربما يكون هالكا أو غائبا
فإذا أحضر الرهن يقال للراهن سلم الدين إليه أولا ثم اقبض الرهن
حتى يتعين حقه فيكون عينا بعين كما في البيع
ولو جنى المرتهن على الرهن أو غيره جناية يجب عليه قيمته أو مثله إن كان الرهن مثليا ثم إن لم يكن الدين حالا يكون رهنا مكانه وإن كان الدين حالا أو حل فإن كان مثل دينه في الجنس والصفة يصير المرتهن مستوفيا لدينه
وإن كان هو المتلف يصير قصاصا بقدر الدين ويترادان الفضل
وإن كان الرهن عبدا فجنى على إنسان خطأ فإن ضمان الجناية على المرتهن ويقال للمرتهن أولا أفد العبد عن أرش الجناية وإنما يخاطب هو بذلك أولا لما أن فيه إبقاء حقه وهو الرهن لأنه إذا فدى طهر العبد عن الجناية فجعل كأن الجناية لم تكن فيبقى الدين والرهن على حاله ولا يرجع على الراهن بشيء من الفداء لأنه أصلح الرهن باختياره وليس للمرتهن أن يدفع العبد بحال لأن الدفع تمليك الرقبة وهو لا يملك تمليك مال الغير بغير إذنه
وإن لم يفد وأبى ذلك يقال للراهن ادفع أو أفده فأيهما اختار بطل الرهن والدين لأن عين العبد أو بدله وهو الفداء صار مستحقا بسبب كان عند المرتهن فجعل كأنه هلك الرهن
ولو استهلك العبد المرهون مال إنسان وذلك يستغرق الرقبة فإن أدى المرتهن الدين الذي لزم العبد المرهون بقي الرهن والدين على حاله وفرغ عن الدين وإن أبى أن يؤدي الدين قيل للراهن بعه في دينه أو اقض دينه فإن قضى دينه بطل دين المرتهن على الراهن ويخرج العبد عن الرهن لأنه استحق بسبب كان عند المرتهن فيكونعليه وإن لم يقض دين العبد يباع العبد في الدين الذي لحقه فيأخذ صاحب دين العبد دينه ويبطل بمقدار ذلك من دين المرتهن فإن كان دين المرتهن أقل كان ما بقي من ثمن العبد للراهن وإن كان دين المرتهن أكثر من دين الغريم استوفى المرتهن ما بقي من دينه وما فضل من ثمن العبد للمرتهن إن كان الدين حل وإلا أمسك ما فضل رهنا في يده إلى أن يحل الدين فيأخذه قصاصا بدينه
ولو رهن عبدين أو ثوبين بألف درهم كل واحد منهما بخمسمائة فأدى خمسمائة لم يكن له أخذ واحد منهما حتى يؤدي كل الدين وكذلك في العبد الواحد لأن كل جزء من الرهن محبوس بكل الدين فما لم يقبض الكل يكون له حق حبس الكل
وإن كان الرهن شيئين أو أكثر فإنه ينقسم الدين عليهما على قدر قيمتهما يوم القبض لأنه صار مضمونا بالقبض
ولو زاد في الرهن شيء بأن ولدت الأمة المرهونة ولدا أو نحو ذلك فإنه ينقسم الدين على الأصل يوم القبض وعلى الزيادة يوم الفكاك لأن الزوائد تكون مضمونة وإن كانت محبوسة إلى يوم الفكاك
ثم الزيادة في الرهن جائزة عندنا خلافا ل زفر كالزيادة في المبيع وينقسم الدين عليهما جميعا ويعتبر قيمة الأصل يوم قبضه ويعتبر قيمة الزيادة يوم الزيادة
فأما الزيادة في الدين فلا تجوز عند أبي حنيفة و محمد رحمهما الله
وعند أبي يوسف تجوز وهذه المسألة من مسائل الخلافيات
ولو استعار من رجل شيئا ليرهنه بدينه فأعاره منه مطلقا ليرهنه فله أن يرهنه بأي صنف من الدين وبأي قدر قليلا أوكثيرا لأن هذا بمنزلة الإذن له بقضاء الدين من مال هو عنده وديعة قد أذن مطلقا فيجب العمل بإطلاقه
وإن سمي له قدرا أو إنسانا بعينه أو في بلد بعينه فليس له أن يفعل بخلافه ولو فعل كان لصاحبه أن يأخذ الرهن لأنه لم يأت بما أمر به فلم يصح الرهن فإن عجز الراهن عن قضاء الدين فقضاه المعير فله أن يرجع لا يكون متبرعا لأنه مضطر في ذلك لوصوله إلى ماله بمنزلة الوارث إذا قضى دين الميت لتسلم له التركة يرجع في التركة لما قلنا
ولو رهن عبدا من إنسان ثم جاء برهن آخر حتى يكون مكان الأول وقبل المرتهن الرهن الثاني جاز ويصير الثاني هو الرهن إذا قبض الراهن الأول لأنه ما رضي بالجمع بينهما رهنا ولا يصير الثاني رهنا إلا بعد انفساخ الأول ضرورة عدم الجمع
وإنما تقع الضرورة إذا قبض الأول فأما إذا لم يقبض بقي الأول رهنا دون الثاني حتى لو هلكا يكون الثاني أمانة والأول هلك بدينه
ولو أعتق الراهن العبد المرهون ينفذ عتقه عندنا خلافا للشافعي وهي مسألة معروفة
كتاب الشفعة
يحتاج فيه إلى بيان ما تجب به الشفعة وإلى بيان شرائط الوجوب وإلى بيان كيفية الوجوب وإلى بيان الأحكام المتعلقة بالشفعة
أما الأول فنقول سبب استحقاق الشفعة أحد الأشياء الثلاثة الشركة في البقعة والشركة في الحقوق والجوار على سبيل الملاصقة وهذا عندنا
وعند الشافعي لا يستحق إلا بالشركة في البقعة وهي مسألة معروفة
ثم إنما تستحق الشفعة بها على الترتيب فالشريك في البقعة أولا ثم الشريك في الحقوق ثم الجار الملاصق لأن الشفعة إنما تجب لدفع ضرر الدخيل عن الأصيل والضرر على هذا الترتيب في العرف
فإن سلم الشريك في البقعة ثبتت للشريك في الحقوق وإن سلم هو تثبت للجار الملاصق
ولا يثبت للجار المقابل لأن ضرره دون ضرر هؤلاء والشرع ورد بالشفعة في حق هؤلاء فلا يقاس عليهم غيرهم مع التفاوت في الضرر
وأما شرائط الوجوب فمنها عقد المعاوضة عن المال بالمال فإنها لا تجب بهذه الأسباب إلا عند عقد البيع أو ما هو في معناه من الصلح والهبة بشرط العوض إذا وجد قبض البدلين فأما إذا قبض أحدهما دون الآخر فلا شفعة وهذا عندنا خلافا ل زفر إنها تجب بنفس العقد وهذا فرع مسألة بينهم أن الهبة بشرط العوض عقده عقد هبة وجوازه جواز البيع فما لم يتقابضا لا يكون في معنى البيع وعنده عقده عقد بيع وهي مسألة كتاب الهبة
ولو وهب ثم عوض بعد العقد فلا يجب الشفعة فيه ولا فيما هو عوض عنه بأن جعل العوض دارا لأن هذا ليس في معنى البيع لأنه ليس بمشروط في العقد
ولهذا لا يجب في المملوك بمقابلة المنافع بأن جعل الدار مهرا أو أجرة
ولهذا لا يجب في الدار المملوكة بغير بدل كالهبة والصدقة والوصية أو ببدل ليس بمال كبدل الخلع والصلح عن دم العمد
ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله إن من تزوج امرأة على دار على أن ترد عليه ألفا فلا شفعة في شيء من الدار
وقال أبو يوسف و محمد رحمهما الله تجب الشفعة
واستحقاق الشفعة في البيع بشرط الخيار قد ذكر في البيوع
وفي البيع الفاسد إذا ملك عند القبض لا يستحق الشفعة ما لم يبطل حق الفسخ إما لاتصال المبيع بزيادة أو بزوال ملك المشتري لأن حق الفسخ ثبت لحق الشرع
وإذا أخذ الشفيع المشتري شراء فاسدا بالشفعة يأخذه بقيمته يوم قبض لأن القيمة فيه بمنزلة الثمن في الشراء الصحيح
ومنها أن يكون المبيع عقارا أو في معناه وقال مالك يثبت في المنقول الذي هو نظيره وهو السفن ولهذا قال إذا بيعت الضيعة ببقرها ومماليك يعملون فيها يجب الشفعة في الكل
وعندنا لا يستحق فيما ليس بعقار من البقر والعبيد
وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال لا شفعة إلا في ربع أو حائط
ويستوي الجواب عندنا في العقار الذي تجوز قسمته والذي لا تجوز قسمته كالحمام والرحى والبئر والنهر والدور الصغائر
وعند الشافعي لا يجب فيما لا يقسم
وإذا بيع سفل عقار دون علوه أو علوه دون سفله تجب الشعفة أما في بيع السفل فلا يشكل لأنه عقار
وأما في بيع العلو وحده فقياس واستحسان لأنه ليس بعقار ولكن في معناه لأن حق التعلي يتعلق بالبقعة على التأييد فهو بمنزلة البقعة
وأما بيان كيفية الوجوب فنقول إن حق الشفعة يجب على طريق الفور عندنا نظرا من الجانبين
وعند الشافعي يجب وجوبا ومؤبدا
واختلف الرواية في تفسير الفور في بعضها أنه إذا علم بالبيعينبغي أن يطلب الشفعة ساعتئذ فإذا سكت ولم يطلب بطلت شفعته وفي بعضها أنه على المجلس فإن محمدا ذكر في الأصل إذا بلغ الشفيع البيع إن لم يطلب الشفعة مكانه بطلت الشفعة
وذكر الكرخي أن هذا ليس باختلاف رواية وإنما هو على المجلس كخيار المخيرة والقبول
ثم الطالب نوعان أحدهما طلب مواثبة وهو ما ذكرنا فكما علم ببيع الدار يطلب الشفعة فيقول طلبت الشفعة وأنا طالبها أو قال ادعيت الشفعة وأنا على شفعتي ويشهد على ذلك حتى يتأكد الوجوب بالطلب على الفور ويعلم أنه ليس بمعرض حتى يحصل المطالبة من الخصم بعد ذلك من غير اشتغال بشيء مع القدرة على المطالبة
وليس الإشهاد بشرط لصحة الطلب ولكن للتوثيق حتى إذا أنكر المشتري طلب الشفعة حين علم فيقول لم تطلب الشفعة حين علمت بل تركت الشفعة وقمت عن المجلس والشفيع يقول طلبت فالقول قول المشتري فلا بد من الإشهاد وقت الطلب توثيقا لحقه
ولو لم يكن الشهود حاضرين فبعث في طلبهم ومكث في المجلس لا تبطل شفعته كما في خيار المخيرة
وعن أبي بكر الرازي أنه قال إذا طلب الشفعة ثم قام عن المجلس إلى الشهود وأشهدهم على ذلك جاز لأن الطلب يحتاج إليه لثبوت الشفعة فيما بينه وبين ربه والشهود يحتاج إليها للتوثيق الذي ذكرنا
والطلب الثاني المطالبة من الخصم لأن المطالبة لا بد لها من مطالب ومطلوب
فإن كان المبيع لم يقبض بعد فالشفيع بالخيار بين مطالبة البائع أوالمشتري أو الطلب عند المبيع والإشهاد عليه لأن المشتري مالك والبائع صاحب يد فيصح من الشفيع المخاصمة معهما لنقل الملك واليد فأما المبيع
فيتعلق الشفعة به فيقوم الطلب عنده مقام الطلب منهما باعتبار الحاجة
فأما إذا كان المبيع في يد المشتري لم يصح الإشهاد على البائع لأنه خرج من أن يكون خصما لزوال يده وملكه ولكن له الخيار في الإشهاد على المشتري أو عند العقار
ثم ما ذكرنا من الاختيار إذا كان الشفيع حاضرا عند وقوع البيع بحضرة الدار والبائع والمشتري
وأما إذا عقد البيع في غير الموضع الذي فيه الدار والشفيع حاضر فلم يطالبهما بالشفعة وحضر موضع الدار وأشهد ثم بطلت شفعته حيث ترك المطالبة مع القدرة عليها
وإن كان الشفيع غائبا عن مجلس البيع فعلم فحضر موضع الدار ولم يطلب الشفعة وذهب حتى يجد البائع أو المشتري تبطل شفعته لأنه ترك الطلب مع القدرة عليه
فأما إذا بيعت الدار في المصر الذي هي فيه والشفيع في مصر آخر فعلم بذلك فالجواب في حقه والجواب في حق الحاضر سواء في أنه يطلب على الفور ويشهد ثم يشتغل بالطلب من البائع أو المشتري أو الإشهاد عند الدار إلا أن له الأجل بمقدار المسافة التي بينه وبين المصر الذي وقع فيه البيع من المتعاقدين حتى يذهب إليه بنفسه فيطلب الشفعة أو يبعث وكيلا لطلب الشفعة والإشهاد عليه وذلك الأجل من وقت العلم بالبيع وطلب المواثبة فإذا مضى الأجل ولم يذهب بنفسه ولا بعث وكيلا لمطالبته الشفعة تبطل شفعته
وإذا وجد كلا الطلبين وصح الإشهاد على الوجه الذي ذكرنا فبعد ذلك له أن يشتغل بالمرافعة إلى باب القاضي والخصومة لأخذ الدار بالشفعة
فإن كان المبيع في يد البائع فالقاضي يحضر البائع والمشتري جميعا ولا يقضي له بالشفعة حتى يحضرا لكونهما خصمين أحدهما بيده والآخر بملكه لأن القضاء لا يجوز بدون حضرة الخصم
وإن كان المبيع في يد المشتري فالقاضي يحضره لا غير ويقضي عليه لأن البائع خرج من أن يكون خصما لزوال يده
فإذا قضى القاضي بالشفعة والدار في يد البائع انتقض البيع الذي بينه وبين المشتري وينعقد البيع بينهما في المشهور من الرواية وينتقل الصفقة إليه
وروي عن أبي يوسف أن البيع لا ينتقض
فعلى الرواية المشهورة يسلم الشفيع الثمن إلى البائع ويكون عهده الشفيع على البائع وهي الرجوع بالثمن عند الاستحقاق ويرجع المشتري على البائع بالثمن إن نقده
ثم الشفيع يأخذ الدار بالثمن الذي وقع عليه البيع من الدراهم والدنانير والمكيل والموزون في الذمة لأن تلك الصفقة انتقلت إليه
وإن كان الثمن من العروض فيأخذ بقيمته
ثم القاضي يقضي بالشفعة سواء أحضر الشفيع الثمن أو لا في المشهور من الرواية عن أبي حنيفة و أبي يوسف رحمهما الله ويأمر الشفيع بتسليم الثمن إليه للحال فإن لم يسلم يحبسه ولا ينقض الأخذ بالشفعة لأنه بمنزلة الشراء فإن طلب منه حتى يذهب ويحضر الثمن فالقاضي لا يحبسه لأنه لم يوجد منه المطل
وإن طلب الأجل يوما أويومين فالقاضي يؤجله إن رضي الخصم وإلا فيحبسه
وقل محمد لا ينبغي للقاضي أن يقضي بالشفعة حتى يحضر الثمن
فإذا أحضر الثمن يقضي بالشفعة ويأمر الشفيع بتسليم الثمن إلى المشتري
فإن قضي القاضي له بالشفعة قبل إحضار الثمن إليه من ساعته فقال لا أنقده إلى يوم أو يومين أو إلى شهر وأبى المشتري أن يقبل ذلك لا يفسخ قضاؤه ولا ينقض الأخذ بالشفعة ولكن يحبسه
والاحتياط من القاضي أن لا يقضي بالشفعة ما لم يؤجل للشفيع أجلا ويقول له إن لم تأت بالثمن إلى هذا الأجل فلا شفعة لك حتى إذا امتنع وفرط في الأداء تبطل شفعته فأما بدون ذلك إذا قضي بالشفعة لا تبطل شفعته بالتأخير
ولو أن الشفيع بعد وجود الطلبين والإشهاد إذا أخر المرافعة إلى باب القاضي ولم يخاصم هل تبطل شفعته فقد اختلفت الروايات عن أصحابنا والحاصل أن عند أبي حنيفة رحمه الله لم تسقط الشفعة بالتأخير بعد الإشهادين إلا أن يسقطها بلسانه فيقول تركت الشفعة
وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف وفي رواية أخرى عنه إذا ترك المخاصمة إلى القاضي في زمان يقدر على المخاصمة فيه بطلت شفعته ولم يوقت
وقال محمد و زفر إذا أخر المطالبة بعد الإشهاد شهرا من غير عذر بطلت شفعته
وعن الحسن أنه قال وهذا قياس قول أبي حنيفة و أبي يوسف و زفر وبه نأخذ
وذكر الكرخي أنه إذا حال بين الشفيع وبين الإشهاد عند الدار أو على البائع أو المشتري حائل لا يستطيع الشفيع أن يصل إلى ذلك معه ولا أن يبعث وكيلا فهو على شفعته إلى أن يزول الحائل المانع له ثم يعود الأمر بينهم على ما ذكرنا لأنه ترك المطالبة مع المانع لا يدل على الإعراض ولهذا قالوا إن حق الشفعة يجب عند البيع
ويتأكد بالطلب ويثبت الملك به بقضاء القاضي أو بالتراضي من الخصمين
وأما الأحكام فكثيرة نذكر بعض المشهور منها فمن ذلك بيان ما تبطل به الشفعة وما لا تبطل مما يحدث من الشفيع
بيان ذلك إذا اشترى الرجل دارا لها شفيع فساوم الشفيع المشتري في الدار لنفسه أو لغيره أو سأله أن يوليه إياها أو يشركه فيها أو يؤاجرها منه أو كانت أرضا فطلب منه المزارعة أو نخلا أو كرما فسأله المعاملة وذلك كله بعدما علم بالشراء فذلك كله تسليم للشفعة لأن ذا دلالة الإعراض عن طلب الشفعة لأن حكمها ينافي حكم أخذ الدار بالشفعة
ولو باع الشفيع داره التي يشفع بها بعد الشراء للمشتري تبطل شفعته سواء علم بالشراء أو لم يعلم لأنه بطل الجوار الذي هو سبب الاستحقاق قبل أخذ الدار بالشفعة
ولو سلم الشفعة قبل البيع لا يكون تسليما لأن الشفعة لم تثبت بعد فلا يصح إبطاله
ولو سلم بعد الشراء تبطل الشفعة سواء علم أو لم يعلمبخلاف المساومة والاستئجار
ولو أخبر الشفيع أن الشراء بألف درهم فسلم الشفعة ثم ظهر أن الثمن أكثر أو أقل أو على خلاف جنسه فالأصل في هذه المسائل أنه إذا لم يحصل غرض الشفيع على الوجه الذي سلم لم يصح التسليم وإن حصل صح فإذا ظهر أن الثمن أكثر مما أخبر به لم يبطل التسليم لأن الشفيع إذا لم يصلح له الشراء بالألف فأولى أن لا يصلح بأكثر منه فلا يفوت غرضه بما ظهر بخلاف ما أخبر
ولو ظهر أن الثمن أقل لا تبطل الشفعة لأن التسليم يكون لكثرة الثمن عنده وأنها لا تساوي بها ويصلح له الدار بالأقل
ولو أخبر أن الثمن ألف درهم فإذا هو مائة دينار فإن كان قيمتها ألف درهم أو أكثر صح التسليم وإن كان أقل فله الشفعة عندنا خلافا لزفر لما قلنا
ولو أخبر أن الثمن ألف درهم أو مائة دينار ثم ظهر أنها بيعت بمكيل أو موزون قيمته مثل ذلك أو أقل فتسليمه باطل لأنه يجوز أن يكون سلم لأنه لا يقدر على ذلك الجنس الذي أخبر وهو يقدر على الجنس الذي بيعت به
وكذا إذا أخبر أنها بيعت بالحنطة ثم ظهر أنها بيعت بشعير قيمته مثل الحنظة أو أقل فله الشفعة لما ذكرنا
ولو أخبر أن الثمن دراهم أو دنانير ثم ظهر أن الثمن عرض من العروض الذي تجب الشفعة بقيمته فإن كان مثله أو أكثر فالتسليم صحيح وإن كان أقل فلا يصلح لأن القيمة دراهم أو دنانير
وإن أخبر أنها بيعت بعرض ثم ظهر أنها بيعت بجنس آخر من العروض فهو على شفعته لما ذكرنا
ولو بلغه أنها بيعت نصفها فسلم ثم ظهر أنه باع الكل فله الشفعة
وإن كان على عكس هذا فلا شفعة له لأن الإنسان ربما لا يرضى مع الشريك فكان التسليم بناء عليه ويرضى بالدار كلها
وفي رواية الجواب على ضد ما ذكرنا
ولو أخبر أن المشتري زيد فسلم ثم ظهر أنه عمرو فله الشفعة
وإن كانا قد اشترياها جميعا أخذ نصيب الذي لم يسلم الشفعة فيه لأن الإنسان قد يرضى بشركة واحد ولا يرضى بشركة غيره
ولو اشترى الرجل دارا صفقة واحدة فأراد الشفيع أن يأخذ بعضها دون بعض أو يأخذ ما يليه من الدار ليس له ذلك وإنما له أن يأخذ الكل أو يدع لأن فيه تفريق الصفقة على المشتري
ولو اشترى دارين صفقة واحدة فأراد شفيعهما أن يأخذ إحداهما ويترك الأخرى فليس له ذلك سواء كانت الداران متلاصقتين أو لا وسواء كانتا في مصر واحد أو في مصرين لأن فيه تفريق الصفقة على المشتري
وقال زفر له الخيار بين أن يأخذهما أو يأخذ إحداهما
ولو كان الشفيع شفيعا لإحداهما دون الأخرى وقد وقع البيع صفقة واحدة فعلى قول أبي حنيفة و أبي يوسف له أن يأخذهما وليس له أن يأخذ التي تجاوره بالحصة وقال محمد يأخذ التي تليه بالشفعة ولا شفعة له في الأخرى لما ذكرنا
ولو أن الشفيع وجد الدار المبيعة منقوضة بعد الشراء أو مهدومة فإنه ينظر إن كان بفعل المشتري أو الأجنبي فهو بالخيار إن شاء أخذ العرصة بالحصة وإن شاء ترك
وإن انتقضت أو انهدمت بنفسها فله الخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن وإن شاء ترك لأن أخذ الدار بالشفعة بمنزلة الشراء فيثبت الملك بالشفعة في العرصة والبناء جميعا لكونه تبعا لها والأتباع لا حصة لها من الثمن إذا فاتت لا بصنع أحد فأما إذا فاتت بصنع المشتري أو الأجنبي فصار مقصودا بالإتلاف والقبض فيصير لها حصة من الثمن وقد تغير المبيع فكان له الخيار على الوجه الذي ذكرنا
وإن كان المشترى كرما وفيه أشجار وثمار فقطع المشتري شجرها أو جد ثمرها أخذ بحصة الكرم ويحط قيمة ما أخذ منه
وإن ذهبت بآفة سماوية أخذها بجميع الثمن أو ترك لما قلنا
فإن لم يكن في وقت الشراء فيه ثمر ثم أثمرت فجدها المشتري فإن الشفيع يأخذها بجميع الثمن إن شاء أو يترك ولا يدفعل له بحصة الثمر لأنه لم يكن في أصل البيع فإن كان الثمر في أصل البيع فهو كما ذكرنا من البناء والنخل
وإن كان المشتري أرضا فيها زرع فإنه يأخذها الشفيع بزرعها بقلا كان أو مستحصدا لأنه تبع الأرض فإن حصد المشتري الزرع ثم جاء الشفيع فإنه أقسم الثمن على قيمة الأرض وعلى قيمة الزرع وهو بقل يوم وقع عليه العقد فيأخذ الشفيع الأرض بما أصابها من الثمن ولا يقسم الثمن على قيمة الزرع وهو مستحصد هذه رواية عن أبي يوسف
وروي عن محمد أنه قال أقوم الأرض وفيها الزرع وأقومها ليسفيها ذلك الزرع فما كان بين ذلك فهو قيمة الزرع ولا أقوم الزرع وهو بقل محصود
ولو كان للدار شفعاء بسبب الشركة فحضروا فهي بينهم على عد الرؤوس عندنا
وعند الشافعي على قدر الأنصباء وهي مسألة معروفة
فإن سلم الشركاء إلا واحد فله أن يأخذ الدار كلها
وإن سلم البعض دون البعض فالدار كلها بين من لم يسلم على قدر عددهم
فإن سلم الشركاء كلهم فللجيران الشفعة على عددهم
وعلى هذا إذا بيعت دار في زقاق غير نافذ فأهله جميعا شركاء في الشفعة وهم أولى من الجيران المتلاصقين الذين لا طريق لهم في الزقاق لأن الشريك في الطريق أولى
فإن سلم الشركاء في الطريق فالشفعة للجوار المتلاصقين
ولو اختلف الشفيع والمشتري في الثمن فقال المشتري اشتريتها بألفين وقال الشفيع بألف فالقول للمشتري في الثمن مع يمينه وعلى الشفيع البينة فإن أقام الشفيع البينة يقضي ببينته وإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة الشفيع عند أبي حنيفة و محمد وقال أبو يوسف البينة بينة المشتري وهي تعرف في الخلافيات
ولو اشترى الرجل ساحة فبناها ثم جاء شفيعها وطلب الشفعة فإنه يقضي له بالعرصة ويقال للمشتري اقلع بناءك وسلم الساحة إلى الشفيع عندنا وروي في رواية عن أبي يوسف أنه يقال للشفيع خذ الدار بالثمن وبقيمة البناء أو اترك وهو قول الشافعي وهي مسألة معروفة
ولو أخذ الشفيع الدار بالشفعة فبناها ثم استحقت الدار فإن المستحق يأخذ الدار ويقال للشفيع اهدم بناءك ولا يرجع على المشتري بقيمة البناء إن كان أخذ الدار من يده ولا على البائع إن كان أخذها منه لأنه ليس بمغرور ولكن يرجع على المشتري بالثمن لأنه لم يسلم له المبيع
ولو اشترى الرجل دارا بثمن مؤجل فالشفيع بالخيار إن شاء أخذها بثمن حال وإن شاء انتظر إلى مضي الأجل فإذا مضى الأجل أخذها وليس له أن يأخذ بثمن مؤجل لأن الأجل إنما يثبت بالشرط ولم يوجد بين المشتري والشفيع
ولو مات الشفيع بعد طلب الشفعة والإشهاد على المشتري قبل أن يقضى له بالشفعة تبطل الشفعة عندنا ولا تثبت للورثة
وعند الشافعي يثبت للورثة
فحق الشفعة لا يورث عندنا كالخيار وعنده يورث
ولو اشترى رجل دارا لم يرها فبيعت بجنبها دار فأخذا بالشفعة لم يبطل خياره ولو كان له فيها خيار الشرط يبطل خياره لأنه لو قال أبطلت خياري قبل الرؤية لم يبطل خيار الرؤية فلا يبطل بدلالة الإبطال ولو قال أبطلت خيار الشرط يبطل فكذا بالدلالة
ثم الحيلة في إبطال الشفعة هل هي مكروهة روي عن أبي يوسف أنها لا تكره
وعن محمد أنه قال أكره ذلك أشد الكراهة
وعلى هذا الخلاف في إسقاط الزكاة قبل مضي الحول والله أعلم
كتاب الذبائح
يحتاج إلى بيان ما يباح أكله من الحيوان وما لا يباح وما يكره
وإلى بيان شرائط الإباحة
وإلى بيان محل الذبح وكيفيته وإلى بيان ما يذبح به وإلى بيان أهلية الذبح
أما الأول فنقول إن الحيوان على ضربين ما لا يعيش إلا في الماء وما لا يعيش إلا في البر
أما الذي لا يعيش إلا في الماء فكله محرم الأكل إلا السمك خاصة بجميع أنواعه سوى الطافي منه فإنه مكروه لقوله عليه السلام أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال وهذا عندنا
وقال الشافعي السمك الطافي وجميع ما في البحر حلال
ثم عندنا الطافي على وجهين إن مات بسبب حادث يؤكل وإن مات حتف أنفه لا يؤكل
وأصله ما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي عليه السلام نهى عن أكل الطافي
فأما الذي مات من الحر أو البرد أو كدر الماء ففيه روايتان
وقالوا في سمكة ابتلعت سمكة إنها تؤكل لأنها ماتت بسبب حادث
وهو حلال في حق المحرم والحلال جميعا
وكذلك اصطياد ما في البحر حلال في حق المحرم والحلال
وأما ما لا يعيش إلا في البر فعلى نوعين منه ما ليس له دم سائل ومنه ما له دم سائل
أما ما ليس له دم سائل فكله حرام إلا الجراد مثل الذباب والزنبور وسائر هوام الأرض وما يدب عليها وما يكون تحت الأرض من الفأرة واليربوع والحيات والعقارب لأنها من جملة الخبائث إلا أن الجراد يحل بالحديث الذي كذكرنا
وأما ما له دم سائل فعلى ضربين مستوحش ومستأنس
فالمستأنس منه لا يحل أكله من البهائم سوى الأنعام وهو الإبل والبقر والغنم لقوله تعالى { أحلت لكم بهيمة الأنعام } واسم الأنعام خاص فيما ذكرنا عند أهل اللغة
فأما ما لا يحل فالحمير والبغال والخيل وهذا قول أبي حنيفة
وقال أبو يوسف و محمد كذلك إلا أنهما قالا يحل الفرس خاصة وهي مسألة معروفة
وأما المستأنس من الطيور كالدجاج والبط والأوز فيحل بإجماع الأمة
وأما المستوحش منه فيحرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطيور إلا الأرنب خاصة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه ابن عباس أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وخص منه الأرنب لحديث عمر
فذو الناب من السباع الأسد والذنب والنمر والفهد والثعلب والضبع والكلب والسنور البري والأهلي
وكذلك الفيل وابن عرس من جملة ذي الناب ونحوها
وذو المخلب من الطيور الصقر والبازي والنسر والعقاب والشاهين ونحوها
وما سوى ذلك من المستوحش من البهائم والطيور فهو حلال كالظبي وبقر الوحش وحمر الوحش والإبل ونحوها
ومن الطيور الحمام والعصفور والعقعق وغراب الزرع الذي يأكل الزرع ولا يأكل الجيف ونحوها إلا أنه يكره أكل الغراب الأبقع والغراب الأسود الذي يأكل الجيف
ويكره الجلالة من الإبل والبقر والغنم لأن الغالب من أكلها النجاسة
فأما الدجاجة المخلاة التي تأكل النجاسة أيضا قالوا لا يكره لأنها تخلطها بغيرها ولأن الجلالة ينتن لحمها ويتغير ولحم الدجاجة لاينتن ولا يتغير
ثم الجلالة إذا حبست أياما حتى تعتلف ولا تأكل النجاسة تحل
وعن أبي حنيفة روايتان في رواية محمد لم يوقت الحبس بل يحبس حتى يطيب لحمها ويذهب نتنه وفي رواية أبي يوسف مقدر بثلاثة أيام
فأما الدجاجة فقد روي عن أبي يوسف أنها لا تحبس لأنه لا ينتن لحمها ولكن المستحب أن تحبس يوما أو يومين
أما جنين ما يؤكل لحمه إذا خرج ميتا لا يحل عند أبي حنيفة و زفر والحسن
وقال أبو يوسف و محمد و الشافعي يحل والمسألة معروفة
وأما شرائط الحل فمنها الذبح أو النحر في جميع ما يشترط فيه الذبح لكن النحر في الإبل والذبح في الشاة أحب
وأصله قوله تعالى { إلا ما ذكيتم } واسم الذكاة يقع عليهما جميعا
ومنها التسمية حتى لو تركها عامدا لا يحل عندنا وعند الشافعي يحل
وأجمعوا أنه لو تركها ناسيا يحل والمسألة معروفة
ثم في ذكاة الاختيار تجب التسمية لكل ذبيحة عند الحز والقطع
وفي ذكاة الاضطرار يشترط عند الرمي والإرسال لا عند الإصابة
ولا يشترط التعيين لكل صيد بخلاف الأهلية بيانه أنهلو أضجع شاة ليذبحها فسمى ثم بدا له أن لا يذبحها فأرسلها وأضجع أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يحل
ولو رمى صيدا وسمى فأخطأه وأصاب آخر فقتله فلا بأس بأكله لأن التسمية عند الذبح تشترط عند القدرة وعند العجز أقيم الإرسال والرمي مقام الذبح إذا اتصلت به الآلة
وكذا لو أرسل كلبا على صيد بعينه وسمى فأخذ غير الذي هو سمى عليه من غير أن مال عن سنن الأولى يحل
ولو ذبح شاة وسمى ثم ذبح أخرى فظن أن التسمية الأولي تجزي عنهما لم يؤكل فيجب أن يحدث لكل ذبيحة تسمية
ولو رمي سهما وسمى فقتل به من الصيد اثنين أو أرسل كلبا وسمى فقتل صيدين يحل كله لما قلنا
ولو سمى وتكلم بكلام قليل أو فعل فعلا قليلا ثم ذبح فلا بأس به ويجعل كالمتصل للضرورة أما إذا تكلم بكلام طويل أو فعل فعلا كثيرا بين التسمية والحز لا يحل
ومنها تجريد اسم الله عند الذبح عن اسم غيره حتى لو قرن باسم الله اسم غيره وإن كان اسم النبي عليه السلام فإنه لا يحل
وتجريده عن الدعاء مستحب وليس بشرط بأن قال باسم الله اللهم تقبل عني أو عن فلان ولكن ينبغي أن يدعو بهذا وبمثله قبل التسمية أو بعد الفراغ عن التسمية منفصلا عنها ولكن لا يوجب الحرمة
ولو سبح أو هلل أو كبر وأراد به التسمية على الذبيحة يحل أما لو أراد به الحمد على سبيل الشكر لا يحل
وكذا لو سمى ينبغي أن يريد به التسمية على الذبيحة
أما لو أراد به التسمية عند افتتاح العمل لا يحل
وأما محل الذبح وكيفيته فنقول الذكاة نوعان ذكاة اختيار وذكاة اضطرار
أما ذكاة الاضطرار فمحله جميع البدن فيحل بوجود الجرح أينما أصاب على ما نذكره
وأما ذكاة الاختيار فمحله ما بين اللبة واللحيين لقوله عليه السلام الذكاة ما بين اللبة واللحيين
ثم الذكاة هي فري الأوداج والأدواج أربعة الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء فالحلقوم مجرى النفس والمريء مجرى الطعام والشراب والعرقان مجرى الدم
فإذا قطع الأوداج الأربعة فقد أتى بالذكاة المأمور بها بتمامها
فأما إذا نقص من ذلك فقد اختلفوا فيه
روي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه إذا قطع أكثر الأوداج حل وفسر ذلك بأن قطع ثلاثة منها من أي جانب كان وبه أخذ ثم رجع فقال لا يحل ما لم يقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين
وروي عن محمد عن أبي حنيفة أنه قال ما لم يقطع الأوداج الأربعة أو الأكثر من كل واحد منها لا يحل حتى أنه إذا قطع الثلاثة أو الأكثر منها وقطع نصف الرابع أو أقل لا يحل وبه أخذ محمد
فصار الحاصل أن عند أبي حنيفة الأكثر على رواية أبي يوسف يرجع إلى الثلاثة منها وعلى رواية محمد الأكثر يرجع إلى كل واحد من الأربعة وقال محمد إنه لا يحل ما لم يقطع الكل أو الأكثر من كلواحد منها
وقال أبو يوسف يحل إذا قطع ثلاثة منها الحلقوم والمريء وأحد الودجين
وقال الشافعي إذا قطع الحلقوم والمريء يحل
ولو أبان رأس البعير أو الشاة بالسيف فإن كان من قبل الحلقوم أكل وإن كان من قبل القفا فإن صار بحال لا يعيش قبل قطع الأوداج لا يحل وإن كان بحال يعيش يحل
ويكره في حال الذبح أن يجرها برجلها إلى المذبح أو يضجعها ويحد الشفرة بين يديها
ويكره أن يذبحها على وجه يبلغ النخاع وهو العرق الأبيض الذي في عظم الرقبة
ويكره أن يسلخ قبل أن تموت لأن هذا زيادة ألم لا يحتاج إليه
فإن نخع أو سلخ قبل أن تبرد فلا بأس بذلك لأنه لم يوجد فيه ألم ذكره الكرخي
وبعض المشايخ قالوا يكره النخاع بعد الموت قبل أن يبرد ويكره السلخ
وعن مجاهد أنه قال كره رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة من الشاة المذبوحة الذكر والأنثيين والقبل والغدد والمثانة والمرارة والدم
ثم أبو حنيفة فسر هذا وقال الدم حرام للنص القاطع وأما الحكم في السبعة فمكروه لأنه مما لا تستحسنه الأنفس وإنه أراد به الدم المسفوح فأما دم الكبد والطحال ودم اللحم فليس بحرام
وأما بيان ما يذكي به وهو الآلة فعلى ضربين آلة تقطع وآلة تفسخ
فالآلة التي تقطع على ضربين حادة وكليلة
فالحادة يجوز الذبح بها حديدا كان أو غير حديد من غير كراهة
والكليلة التي تقطع يجوز الذبح بها مع الكراهة حديدا كانت أو غير حديد
وأصله قوله عليه السلام كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فهو ذكاة
وقال أصحابنا إذا ذبح بظفر منزوع أو بسن منزوع جاز مع الكراهة
وقال الشافعي لا يجوز
وأما الآلة التي تفسخ فهو نحو الظفر القائم والسن القائم إذا ذبح به لا يحل لأنه يعتمد على المذبوح من وجه فيختنق ويتفسخ حتى قالوا إذا كان الظفر طويلا فأخذ إنسان آخر بيده وذبح بظفره وأمر عليه كما يمر السكين يحل لأنه لم يعتمد عليه حتى يكون فيه معنى التخنيق
وأما بيان أهلية الذبح فنقول يشترط أن يكون من أهل الملة التي يقر عليها ويعقل الذبح ويضبطه ويقدر عليه لأنه إذا كان من أهل الملة وهو عاقل فالظاهر أنه يأتي باسم الله تعالى عند الذبح وإذا لم يكن عاقلا فإجراء اسم الله تعالى على لسانه وعدمه سواء ولهذا لا يصح الإسلام منه
والقدرةعلى الذبح لا بد منها حتى يتحقق فعل الذبح على وجهه
فيصح الذكاة من المسلم والكتابي إذا عقلا الذبح ولا يتركان التسمية عمدا سواء كان ذكرا أو أنثى صغيرا أو بالغا
ولا يجوز ذبح المجوسي ولا المرتد
ولا ذبح الصبي والسكران والمجنون إذا لم يعلقوا ولم يضبطوا الذبح
هذا الذي ذكرنا في غير الصيد فأما في الصيد فيشترط أن لا يكون محرما ولا الذبح بأمر المحرم ولا في الحرم حتى لا يؤكل ما يذبح المحرم من الصيد أو يأمر به ولا ما يذبحه الحلال في الحرم من الصيد ويكون ذلك كالميتة
فأما ذبح المحرم لغير الصيد فسبب الحل في الحل والحرم
كتاب الصيد
الاصيطاد مباح في البحر في حق كافة الناس وفي البر في حق غير المحرم على كل حال إلا في الحرم وفي حق المحرم لا يباح في الحل ولا في الحرام
وأصله قوله تعالى { أحل لكم صيد البحر } ولأن الكسب مباح في الأصل وما يصيده قد يؤكل وقد ينتفع بجلده وبشعره ونحو ذلك
ثم ما يباح أكله من الصيد المأكول بأخذ الجوارح والرمي وغير ذلك من فعل العباد إذا مات قبل أن يقدر عليه له شرائط أحدها أن تكون الآلة التي بها يصطاد جارحة تجرح الصيد وهو السهم والسيف والرمح والحيوان الذي له ناب أو مخلب فيجرح به فيموت هذا هو الرواية المشهورة
أما إذا لم يجرح الكلب أو البازي فلا يحل
وروي عن أبي حنيفة أن الكلب إذا خنق يحل ولو لم يخنفه ولم يجرحه ولكنه كسره فمات ففيه روايتان
ولو أصاب السهم ظلف الصيد أو قرنه فإن وصل إلى اللحم فأدماه أكل وإلا فلا
واختلف المشايخ في الشاة إذا اعتلفت بالعناب فذبحت ولم يسل منها الدم فقال أبو القاسم الصفار لا يحل
وقال أبو بكر الإسكاف يحل
وهذا إذا مات بجرحه غالبا
فأما إذا وقع الشك فلا يحل إذا كان يمكن الاحتراز عنه بأن رمي صيدا في الهواء فسقط على جبل أو سطح أو شجر أو على سنان رمح مركوز في الأرض أو على حرف آجرة أو صخرة أو في الماء ثم سقط على الأرض لا يحل احتياطا لجانب الحرمة
وإذا وقع على آجرة مطبوخة على الأرض أو على أرض صلبة فالقياس أن لا يحل وفي الاستحسان يحل لأنه لا يمكن الاحتراز عن الأرض
والثاني أن يكون الحيوان الجارح معلما لقوله تعالى { وما علمتم من الجوارح مكلبين }
وتعليم ذي الناب أنه إذا أرسل يتبع الصيد وإذا أخذه أمسكه على صاحبه ولم يأكل منه شيئا
وتعليم ذي المخلب أن يستجيب إذا دعي ويتبع الصيد إذا أرسل وإن أكل منه فلا بأس به
ثم أبو حنيفة في ظاهر الرواية لا يوقت في التعليم ولكن ينبغي أن يقول أهل العلم بذلك إنه معلم
وروى الحسن عنه أنه قال لا يأكل أول ما يصيد ولا الثاني ثم يؤكل الثالث وما بعده
وقال أبو يوسف و محمد إذا صاد ثلاث مرات ولم يأكل فهو معلم
ثم إذا صار معلما من حيث الظاهر وصاد به صاحبه ثم أكل بعد ذلك من صيد يأخذه فقد بطل تعليمه ولا يؤكل بعد ذلك صيده حتى يعلم تعليما ثانيا بلا خلاف
فأما ما صاده قبل ذلك هل يؤكل جديده وقديمه عند أبي حنيفة لا يؤكل لأنه ظهر أنه صار معلما
وعندهما يحل لأنه العالم قد ينسى
والثالث أن لا يكون الحيوان الجارح الذي يصطاد به محرم العين كالخنزير فإنه وإن كان معلما لا يحل صيده
فأما ما سواه من الجوارح إذا علم يحل صيده كالفهد والأسد والذئب والنمر وابن عرس
الرابع أن يكون الإرسال ممن هو أهل للذبح لأن الإرسال والرمي بمنزلة الذبح فلا بد من أن يكون المرسل أهلا من مسلم أو كتابي مع سائر الشرائط
والخامس أن يكون الإرسال على ما هو صيد مشاهد معاين بأن رأى صيدا أو جماعة فرمى إليهم
فأما التعيين فليس بشرط حتى أنه لو أصاب صيدا آخر سوى ما عاين يحل لأن الإرسال وجد إلى الصيد وفي التعيين حرج
ولو أرسل إلى ما ليس بصيد من الإبل والبقر والغنم أو الآدمي فأصاب صيدا لا يحل لأنه لم يوجد الإرسال إلى الصيد
ولو سمع حس صيد فظنه صيدا فأرسل عليه كلبه أو رمىسهمه إليه فأصاب صيدا وبان له أن ما ظنه صيدا فهو غنم أو آدمي لا يحل لأنه ما أرسل إلى الصيد لكنه ظنه كذلك
ولو سمع حسا ولا يعلم أنه حس صيد أو آدمي فأرسل فأصاب صيدا لا يحل
ولو سمع حسا فظنه آدميا فرماه وأصاب الذي سمع حسه فإذا هو صيد قالوا يحل لأنه رمى إلى محسوس معين لكنه ظن أنه آدمي وقصد الآدمي فظهر أنه بطل قصده ولكن الرمي صادف محله وهو الإرسال إلى محسوس معين وهو الصيد فصح إرساله وتسميته كمن أشار إلى امرأته وقال هذه الكلبة طالق تطلق وإن أخطأ الاسم
ولو ظن حسن صيد فرماه أو أرسل فإذا هو حسن صيد غير مأكول أو مأكول وأصاب صيدا آخر يحل
وقال زفر إن كان صيدا لا يؤكل لحمه ولا يحل
وروي عن أبي يوسف أنه قال إن كان خنزيرا لا يحل خاصة
والصحيح قولنا لأن الصيد اسم للمأكول وغيره
والسادس أن يكون فور الإرسال باقيا ولا ينقطع إلى وقت الأخذ والإصابة حتى إنه إذا أرسل إلى صيد وسمى فما أخذ في ذلك الفور من الصيد فقتله يحل فإذا انقطع الفور بأن جثم على صيد طويلا ثم مر به صيد آخر فقتله لا يحل الثاني
وكذلك في الرمي إذا تغير بأن رمى إلى الصيد فذهب به الريح يمنه أو يسرة فأصاب صيدا لا يحل
ولو أصاب السهم حائطا أو صخرة فرجع السهم وأصاب الصيد فإنه لا يؤكل وهذا لأن الإرسال انقطع فاحتمل أنه حصل بقوةغيره ولا يحل مع الشك
فأما إذا مر على سننه فإن أصاب الحائط فلا بأس به
ولو أرسل رجلان كلبين أو رميا سهمين فأصابا معا صيدا فقتلاه فهو بينهما ولوجود السبب منهما جميعا
ولو سبق أحدهما فهو له لأن سبب الملك والذبح وجد منه سابقا وهو الإرسال بأثره فكان أولى
والسابع التسمية في حال الإرسال إذا كان ذاكرا لها لأن الإرسال والرمي ذبح من الفاعل تقديرا فيشترط التسمية عنده كما في الذبح ألا أنه لا يشترط على كل صيد بعينه بخلاف الذبح على ما مر
والثامن أن يلحقه المرسل والرامي أو من يقوم مقامهما قبل انقطاع الطلب أو التواري عنه وهذا استحسان والقياس أن لا يحل لاحتمال أنه مات بسبب آخر لكن ترك القياس بالأثر والضرورة لأنه لا يمكن الاحتراز عنه
فأما إذا قعد عن طلبه ثم وجده بعد ذلك ميتا فلا يؤكل لأنه لا ضرورة
وأصله ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال كل ما أصميت ودع ما أنميت وقال أبو يوسف الإصماء ما عاينه والإنماء ما توارى عنه
والتاسع أن لا يدرك ذبحة الاختيار بأن كان ميتا
فإن كان بحال لا يعيش ولم يذبحه ففيه اختلاف بناء على مسألة المتردية والنطيحةوالموقوذة إذا ذبحت هل تحل أم لا وهي على وجهين إن كان فيها حياة مستقرة حلت بالذبح في قولهم جميعا
وإن كانت فيها حياة ولكنها غير مستقرة تحل بالذبح عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف إن كان فيها من الحياة ما يعيش مثلها تحل وإن كان لا يعيش مثلها لا تحل
وقال محمد إن بقي حيا أكثر من بقاء المذبوح بعد الذبح يحل
إذا ثبت هذا ففي هذه المسألة إذا وجد حيا تبطل الذكاة الاضطرارية عند أبي حنيفة وإن لم يكن فيه حياة مستقرة وعندهما على الوجه الذي قلنا
ولو أبان رأس الصيد وسمي يحل كله
ولو قطع عضوا منه سوى الرأس فمات لم يؤكل العضو المبان ويحل الباقي لأن الأوداج تنقطع بإبابنة الرأس فيكون ذبحا
وإذا قطع عضوا غيره لا يؤكل الجزء المبان لأن الموت حصل والجزء مبان قال عليه السلام ما أبين من الحي فهو ميت
ولو قطع نصفين طولا أو عرضا يحل أكله لأن الموت يحصل بهذا الفعل فيكون الكل مذكى ذكاة اضطرار
وإن كان أحد النصفين أكثر فإن كان مما يلي الرأس أقل يؤكل كله وإن كان أكثر أكل مما يلي الرأس ولا يؤكل ما سواه لأن الأوداج متصلة من القلب إلى الدماغ فمتى كان النصف الذي يلي الرأس أقل يكون ذكاة بقطع الأوداج ومتى كان أكثر كان ذكاة الاضطرار فيكون ذلك عند الموت فيكون الجزء الذي بان فات حياته قبل الذكاة فيكون ميتة
ولو قطع أقل الرأس لا يحل المبان ويحل الباقي لأن هذا ذكاة الاضطرار فلا يحل المبان قبل الموت
ولو بقي أقل الرأس وقطع الأكثر يحل كله لأنه صار ذكاة بقطع العروق
ولو قطع الرأس نصفين فعلى قول أبي حنيفة و محمد يحل كله وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع وقال لا يحل المبان فكان عنده أن العروق متصلة بالنصف الذي يلي البدن وعندهما متصلة بالدماغ فتصير مقطوعة بقطع النصف
كتاب الأضحية
يحتاج إلى بيان أن الأضحية واجبة أم لا وإلى بيان شرائط الوجوب
وبيان شرائط الأداء وإلى بيان كيفية القضاء وإلى بيان ما يجوز في الأضحية وما لا يجوز وإلى بيان ما يكره
أما الأول فنقول قال أصحابنا إن الأضحية واجبة على المقيمين من أهل الأمصار والقرى والبوادي من الأعراب والتركمان
وقال الشافعي سنة وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف
وأجمعوا أنها لا تجب على المسافرين
والصحيح قولنا لقوله تعالى { فصل لربك وانحر } قال أهل التفسير المراد منه صلاة العيد ونحر الأضحية والأمر للوجوب والنص ورد في حق المقيم لأن الخطاب للرسول عليه السلام وهو حكم لا يعرف بالقياس فلا يتعدى إلى المسافر كما في الجمعة والعيدين
وأما شرائط الوجوب فمنها اليسار وهو اليسار الذي تعلق به وجوب صدقة الفطر دون اليسار الذي تعلق به وجوب الزكاة على ما ذكرنا في كتاب الزكاة
ومنها الإسلام لأنها عبادة وقربة
ومنها الوقت فإنها لا تجب قبل أيام النحر
ولهذا لو ولدت المرأة ولدا بعد أيام النحر لا تجب الأضحية لأجله ولو مات الولد في وسط أيام النحر لا تجب الأضحية لأن الوجوب يتأكد في آخر الوقت
وكذا كل من مات من أهل وجوب الأضحية لما ذكرنا
وأما البلوغ والعقل هل يشترط فعند أبي حنيفة و أبي يوسف ليس بشرط حتى تجب على الصغير إذا كان غنيا في ماله حتى لو ضحى الأب أو الوصي من ماله لا يضمن
وعند محمد و زفر لا يجب على الصغير حتى يضمن الأب والوصي
ولو كان مجنونا موسرا تجب في ماله ويضحي عنه الولي هذا هو المشهور كما في صدقة الفطر
وفي رواية فرق بين صدقة الفطر وبين الأضحية وقال لا تجب الأضحية في ماله
ولا خلاف بين أصحابنا أنه تجب الأضحية على الموسر بسبب أولاده الصغار دون الكبار بمنزلة صدقة الفطر إذا لم يكن للصغار مال لكن إذا ضحى من مال الصغير لا يتصدق به لأن الواجب هو الإراقة فأما التصدق باللحم فتطوع ومال الصغير لا يحتمل التبرع فينبغي أن يطعم الصغير ويدخر له أو يستبدل لحومه بالأشياء التي ينتفع بها الصغير مع بقاء أعيانها كما في جلد الأضحية
وأما شرائط الأداء وكيفية القضاء فمنها وقت الفجر فإنه لا يصح التضحية إلا في أيام النحر ولو ذهب الوقت تسقط التضحية
إلا أن في حق المقيمين في الأمصار يشترط شرط آخر وهو أن يكون بعد صلاة العيد بالحديث حتى إن في حق أهل القرى تجوز التضحية في أول الوقت
وإن دخل الرستاقي المصر لصلاة العيد وأمر أهله بأن يضحوا عنه لهم أن يضحوا عنه قبل صلاة العيد
والمعتبر مكان الذبيحة لا مكان المذبوح عنه في ظاهر الرواية
وفي رواية مكان المذبوح عنه وهو قول الحسن
وكذلك إذا ترك الصلاة يوم النحر لعذر أو لغير عذر يجوز أن يضحي بعد انتصاف النهار
وفي اليوم الثاني والثالث سواء صلوا صلاة العيد أو لم يصلوا لهم أن يضحوا قبل صلاة العيد لأن الترتيب في اليوم الأول ثبت بالحديث غير معقول المعنى فاقتصر عليه إذا صلى أو مضى وقت الصلاة
ثم أيام النحر ثلاثة يوم الأضحى وهو العاشر من ذي الحجة والحادي عشر والثاني عشر يجوز التضحية في نهار هذه الأيام ولياليها بعد طلوع الفجر من اليوم الأولى إلى غروب الشمس من اليوم الثاني عشر غير أنه يكره الذبح بالليل وهذا عندنا
وعند الشافعي أربعة أيام وزاد اليوم الثالث عشر
والصحيح قولنا لما روي عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وأنس رضي الله عنهم وغيرهم أنهم قالوا أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها فإذا مضت هذه الأيام فقد فات الذبح في حق من لم يذبح حتى لا يجوز له أن يذبح
ثم إن كان أوجب شاة بعينها أو اشتراها ليضحي بها فمضت أيام النحر قبل أن يذبحها تصدق بها حية ولا ينقص منها شيئا من الشعر واللبن ولا يأكل من لحمها لأنه انتقل الواجب من إراقة الدم إلى التصدق
وإن لم يوجب أو لم يشتر والرجل موسر وقد مضت أيام النحر فإن عليه أن يتصدق بقيمة الشاة التي تجوز في الأضحية لما قلنا
وأما بيان ما يجوز في الأضحية وما لا يجوز وما يكره وذلك أنواع منها أنه لا يجوز في الضحايا والهدايا إلا الثني من الإبل البقر والغنم والجذع من الضأن خاصة إذا كان عظيما
ثم الثني من الإبل عند الفقهاء ابن خمس سنين ومن البقر ابن سنتين ومن الغنم ابن سنة والجذع من الإبل ابن أربع سنين ومن البقر ابن سنة ومن الغنم ابن ستة أشهر هكذا حكى القدوري
وذكر الزعفراني في الأضاحي وقال الجذع ابن سبعة أشهر أو ثمانية فأما ابن ستة أشهر فهو حمل
ولا يجوز الحمل والجدي والعجل والفصيل في الأضحية
ولا يجوز في الأضاحي شيء من الوحش لعدم ورود الشرع وإنكان متولدا من الوحش والإنسى فالمعتبر فيه جانب الأم
والإبل والبقر يجوز من سبعة نفر على ما روى جابر أنه قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة
ولا تجوز الشاة عن أكثر من الواحد وإن كانت عظيمة قيمتها قيمة شاتين لأن القربة إراقة الدم وذلك لا يتفاوت
ولكن إنما يجوز بشرط أن يكون قصدهم من التضحية التقرب إلى الله تعالى سواء كان من نوع واحد كما إذا كانوا شركاء في الأضحية أو في الهدي أو من أنواع مختلفة بأن كان نوى أحدهم الأضحية والآخر الهدي والآخر دم الكفارة ونحو ذلك ولكن الأفضل أن تكون الشركة في نوع واحد
فأما إذا كان أحد الشركاء أراد بالذبح اللحم لا التقرب أو كان أحدهم ذميا لم يقع عن الأضحية لأنها مما لا يتجزأ فإذا لم يكن البعض قربة بطل الكل
والنوع الثاني ما لا يجوز بسبب العيب وما يكره فنقول العيب القليل لا يمنع والكثير يمنع فذاهبة العين الواحداة وهي العوراء ومقطوعة الأذن الواحدة ومقطوعة الإلية والذنب كلها لا تجوز
فأما إذا كان الذاهب بعض بصر العين أو بعض الأذن الإلية والذنب ففيه ثلاث روايات في ظاهر الرواية الثلث وما دونه قليل وما زاد عليه فهو كثير
وفي رواية الثلث وما زاد فهو كثير وما دون الثلث قليل
وفي رواية أبي يوسف وهو قوله النصف وما زاد فهو كثير وما دون النصف قليل
ولا يجوز السكاء التي لا أذن لها في الخلقة وإن كانت صغيرة يجوز
والهتماء التي لا أسنان لها لا يجوز فإذا كان لها بعض الأسنان فإن كانت لا تعتلف ويصب في حلقها لا يجوز وإن كانت تعتلف يجوز
والعجفاء التي لا تنقي لا يجوز
وكذلك العرجاء التي لا تمشي إلى المنسك وإن كانت تقدر على المشي مع العرج جاز
والثولاء وهي المجنونة جاز وكذا الجرباء السمينة جاز
وكذلك الخصي جاز وعن أبي حنيفة إنه أحب إلي لأنه أطيب لحما
وما جاز مع العيب فهو مع الكراهة وإنما المستحب هو السليمة عن العيوب الظاهرة
ولو اشترى سليمة للأضحية أو أوجب على نفسه ذبح شاة بعينها ثم ظهر بها عيب يمنع عن الجواز يوم النحر فإنه لا يجوز لأن العبرة لوقت الذبح لكن إذا اعترضت آفة عند الذبح بإصابة السكين عينها ونحو ذلك فلا بأس به لأنه من ضرورات الذبح وهذا في حق الموسر لأنه وجب عليه أضحية كاملة بإيجاب الله تعالى
فأما إذا كان معسرا اشتراها للأضحية أو أوجبها بعينها ثم اعترضت آفة مانعة عن الجواز يجوز له أن يضحي بها لأنها معينة في حقه ففوات بعضها كفوات كلها حتى لا يجب عليه شيء لكونهامعنية حتى لو أوجب الفقير أضحية بغير عينها فاشترى صحيحة ثم تعيبت قبل الذبح بعيب مانع فضحى لا يسقط عنه الواجب لما قلنا
ولو ذبح إنسان أضحية صاحبه بغير أمر جاز من صاحبه استحسانا
وكذلك لو غلطا فضحى كل واحد منهما أضحية صاحبه لأن الإذن ثابت من حيث العادة دلالة يوترادان اللحم فإن جواز ذلك لصاحبه بالإذن فإن لم يرض كل واحد منهما بفعل صاحبه صريحا يكون أضحية كل واحد ما ضحى بنفسه وجاز عنه ويضمن لصاحبه وصار غاصبا له بالأخذ ويصير مالكا سابقا على الذبح فيصير مضحيا ملك نفسه فجاز
وكذا من غصب شاة إنسان وضحى بها يضمن قيمتها وتجوز عن أضحيته في الرواية المشهورة لما ذكرنا بخلاف المودع إذا ذبح الشاة الوديعة وضمن لا يجوز لأنها لم تكن مضمونة وقت الذبح لهذا افترقا
ويكره له أن يحلب لبن الأضحية وأن يجز صوفها قبل التضحية لأنها من أجزاء الأضحية ولو فعل يتصدق بها
ولو باع شيئا منها يتصدق بثمنها
وأما بعد الذبح فلا بأس بذلك ولو ولدت قالوا يذبح ولدها معها
وقال بعضهم بأنه لا يذبح ولكن يتصدق بالولد لأنه ليس بمحل للأضحية
وللمضحي أن يأكل من أضحيته إن شاء كلها وإن شاء أطعم الكل والأحب أن يتصدق بالثلثين ويأكل الثلث إن كان موسرا
وإنكان ذا عيال وهو وسط الحال في اليسار فله أن يتوسع بها على عياله ويدخر منها ما شاء وينتفع بجلدها وشعرها وله أن يستبدلها بشيء ينتفع بعينه كالجراب والمنخل والثوب
ولو باع ذلك أو باع لحمها فإنه يجوز بيعه ولا ينقض البيع في جواب ظاهر الرواية لكن يتصدق بالثمن وعلى قول أبي يوسف له أن ينقض البيع لأنه بمنزلة الوقف عنده في قول
كتاب الغصب
مسائل الغصب تبتنى على معرفة حد الغصب وبيان حكمه
أما حد الغصب الموجب للضمان فنقول هو إزالة يد المالك أو صاحب اليد عن المال بفعل في العين فأما إثبات اليد على مال الغير على وجه التعدي بدون إزالة اليد فيكون غصبا موجبا للرد لا موجبا للضمان وهما عندنا
وقال الشافعي حده إثبات اليد على وجه التعدي
ولهذا قلنا إن من سكن دار غيره بغير إذنه وأخرج صاحبها عنها لو كان فيها أو زرع أرض غيره بغير إذنه يكون غصبا موجبا للرد ولا يكون موجبا للضمان عند أبي حنيفة و أبي يوسف
وعلى قول محمد و الشافعي يجب الضمان لو خربت الدار أو غرق العقار والمسألة معروفة
ولو استخدم مملوك رجل بغير إذنه أو بعثه في حاجة أو ركب دابته أو حمل عليها شيئا فهلكت فهو ضامن لما قلنا
وإن لم ينقل شيئا مما يحتمل النقل كما إذا جلس على بساط الغير لا يضمن
ولهذا قلنا إن زوائد الغصب متصلة كانت أو منفصلة من الولدواللبن والصوف والسمن لا تكون مغصوبة خلافا للشافعي لعدم إزالة اليد
ولو جاء المالك وطلب الزوائد فمنعها يضمن بالإجماع
فأما لو باعها وسلمها إلى المشتري ففي المنفصل المالك بالخيار إن شاء ضمن البائع وإن شاء ضمن المشتري قيمته يوم البيع والتسليم
فأما في الزوائد المتصلة فللمالك أن يضمن الغاصب قيمة المغصوب يوم الغصب وليس له أن يضمنه قيمة الزوائد يوم البيع إنما له أن يضمن المشتري قيمة الغصوب مع الزوائد المتصلة يوم القبض بالشراء وهذا قول أبي حنيفة وعلى قولهما له أن يضمن البائع أو المشتري قيمته يوم البيع والتسليم مع الزوائد
وكذلك الخلاف في إتلاف الزوائد المتصلة في غير الآدمي هذا هو الصحيح
وأما في القتل فله الخيار بين أن يضمنه بالغصب يوم الغصب وبين أن يضمنه بالقتل والمسألة معروفة
ولهذا قلنا إن المنافع لا تضمن بالغصب والإتلاف خلافا للشافعي
وصورة الغصب أن يحبس عبد إنسان بغير إذن مالكه شهرا ولم ينتفع به وكذا الدواب
وصورة الإتلاف أن يغصب عبدا أو دابة وانتفع بها والمسألة معروفة
ولهذا لو أجر المغصوب من إنسان شهرا وأخذ الأجرة فإن الأجرةملك الغاصب دون المالك لأن المنافع تحدث في يد الغاصب
وأما حكم الغصب فمن حكمه وجوب رد العين المغصوبة ما دامت قائمة من غير نقصان لقوله عليه السلام على اليد أخذت حتى ترد
ومن حكمه أيضا وجوب ضمان النقصان إذا انتقص
ثم لا يخلو إما أن يكون النقصان بسبب تراجع السعر أو بفوات جزء من العين أو بفوات وصف أو معنى مرغوب في العبد تزداد قيمته به
أما النقصان بسبب السعر فغير مضمون في الغصب لأنه فتور يحدثه الله تعالى في قلوب العباد لا معنى يرجع إلى العين
ولهذا لا يعتبر في الرهن والمبيع إذا كان في يد البائع حتى لا يسقط الدين بقدره ولا يثبت الخيار للمشتري لما قلنا
وأما النقصان الذي يرجع إلى العين أو الوصف فلا يخلو إما إن كان في أموال الربا كالمكيل والموزون الذي لا يجوز بيع البعض بجنسه متفاضلا أو في غير ذلك
فإن كان في أموال الربا بأن غصب حنطة ونحوها فصب فيها ماء أو غصب دراهم أو دنانير فانكسرت في يده وصارت قراضة فصاحبه بالخيار إن شاء أخذه ولا شيء له غير ذلك وإن شاء تركه وضمنه مثله وزنا ولا يضمن نقصان الضرب
وإن كان إناء فضة فهو بالخيار أيضا إن شاء أخذه ولا شيء له غير ذلك وإن شاء ضمنه قيمته من الذهب
وإن كان الإناء من الذهب إن شاء أخذه مهشوما وإن شاء ضمنه قيمته من الفضة لأن الصياغة متقومة ولحصولها بصنع العباد ولا يمكن تضمينه بجنسه لأنه يؤدي إلى الربا فيضمن بخلاف جنسه حتى لا يفوت حقه
وكذلك آنية الصفر والنحاس والشبه إن كان يباع وزنا لأنه يدخلها الربا
فأما إذا كان يباع عددا لم يكن من مال الربا
فأما إذا كان التآلف ليس من أموال الربا فنقصان الجزء من العور والشلل ونقصان الوصف كذهاب البصر والسمع أو ما يفوت به من معنى من العين كنسيان الحرفة ونحوه أو حدث به عيب ينقص قيمته كالإباق والجنون والكبر في العبد والجارية فمضمون عليه
أما نبات اللحية في الغلام الأمر فليس بنقص فيقوم العبد صحيحا لا عيب فيه ولا نقص يقوم وبه العيب والنقص فيضمن قدر ذلك لصاحبه لأنه فات حقه
وعلى هذا إذا غصب عصيرا فصار خلا أو عنبا فصار زبيبا أو لبنا فصار رائبا أو رطبا فصار تمرا فصاحبه بالخيار إن شاء إخذه عينه ولا شيء له وإن شاء ضمنه مثله وسلم له ذلك كله لأنه من أموال الربا
وإن كان تبر ذهب أو فضة فصاغ منه إناء أو حليا أو دارهم أو دنانير فإنه يأخذ ذلك كله في قول أبي حنيفة ولا يعطيه لعمله شيئا
وعندهما لا سبيل له على المصوغ
وعليه مثله فعند أبي حنيفة هذا الوصف لا قيمة له في مالية العين لأنه لا يزيد في العين بخلاف الصنعة في غير أموال الربا
ولو غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه فهو بالخيار إن شاء أخذه ناقصامقطوعا وضمنه ما نقص بالقطع وإن شاء تركه وضمنه قيمة الثوب يوم غصبه لأنه فوت عليه منفعة معتبرة وهو ليس من أموال الربا
وكذلك إذا غصب شاة فذبحها ولم يشوها فله الخيار بين أن يأخذ الشاة وأخذ قيمة ما نقصها وإن شاء تركها وأخذ قيمتها منه
وروي عن أبي حنيفة أن المالك بالخيار إن شاء أخذها ولا شيء له غيرها وإن شاء تركها وضمنه قيمتها يوم غصبها لأن الذبح زيادة
فأما إذا زاد المغصوب سمنا فنفقة الغاصب أو كان مريضا فداواه حتى صح أو كان زرعا أو أشجارا فسقاها حتى نما وانتهى فإنه يأخذه ولا شيء عليه بسبب الزيادة لأن ذلك لم يحصل بفعله
أما إذا كان زيادة حصلت بفعله ظاهرا فهي أنواع نوع منه ما يكون استهلاكا للعين معنى ونوع هو استهلاك من وجه
والجواب في الفصلين واحد في أنه ينقطع حق المالك عن العين ويصير ملكا للغاصب ويضمن الغاصب مثله أو قيمته
ولكن يختلفان في أحكام أخر حتى إن الزيادة في الثمن والمثمن لا تجوز في الفصل الأول لصيرورة المبيع هالكا وتجوز في الفصل الثاني وهذا عندنا
وعند الشافعي تكون الزيادة ملكا للمالك ولا ينقطع حقه عن العين بالضمان
أما نظير الاستهلاك فبأن كان حنطة فطحنها الغاصب أو بيضا فخضبه أو دقيقا فخبزه أو قطنا فغزلها أو غزلا فنسجه أو سمسما فعصره أو حنطة فزرعها
ونظير الفصل الثاني أن قطع الثوب قميصا أو قباء فخاطبه أو كانلحما فشواه أو غصب ساجة فأدخلها في بنائه أو لبنا أو آجرا فجعلها في أساس حائطه أو غصب فسيلا فكبر ونحو ذلك
ثم هذه الزوائد التي صارت ملكا للغاصب لا يباح له الانتفاع به وعليه أن يتصدق لأنه حصل بسبب خبيث
ولو باع أو وهب يجوز لكونها ملكا له
وروي عن أبي يوسف و زفر أنه يباح له الانتفاع بها إلا أن عند أبي يوسف بعد إرضاء صاحبه بأداء الضمان وعند زفر كيفما كان
وما قالا قياس وجواب ظاهر الرواية استحسان
ونوع آخر ما هو زيادة في العين وليس بإتلاف من وجه وهو الصبغ إذا صبغه أصفر أو أحمر أو أخضر ونحوها فأما إذا صبغه أسود فهو نقصان عند أبي حنيفة وعندهما زيادة
ثم الجواب في الصبغ الذي هو زيادة أن صاحب الثواب بالخيار إن شاء ترك الثوب عليه وضمنه قيمته أبيض وإن شاء أخذه مصبوغا وضمن له ما زاد الصبغ فيه
ولو غصب صبغ إنسان فصبغ به ثوبه فعليه مثله والثوب المصبوغ له
ولو وقع ثوب رجل في صبغ إنسان فانصبغ فصاحب الثوب بالخيار إن شاء أخذه وأعطى ما زاد فيه الصبغ
وإن شاء يبيع الثوب فيأخذ رب الثوب من الثمن قيمة ثوب أبيض ويأخذ صاحب الصبغقيمة صبغة في الثوب للحال لأن الصبغ ينقص ولا صبغ له فيه
فأما إذا قصر الثوب المغصوب فيأخذه صاحبه ولا شيء عليه لأنه ليس فيه زيادة في الثوب
ولو غصب خمر مسلم فخلله لا ينقطع حق المالك وله أن يأخذه لأنه ليس فيه مال قائم
ولو استهلك الغاصب الخل فإنه يضمن خلا مثله
ولو غصب عصير مسلم فتخمر عنده يضمن قيمة العصير لأنه صار مستهلكا في حق المسلم معنى
ولو غصب خمر مسلم فاستهلكه لا ضمان عليه لأنه لا قيمة لها
ولو استهلك خمر ذمي أو عصب فهلكت عنده يضمن قيمتها
ولو أتلفها الذمي يضمن مثلها وهذا عندنا
وعند الشافعي لا يضمن
وكذا إذا أتلف الخنزير فهو على هذا الاختلاف والمسألة معروفة
ولو غصب جلدا فدبغه فإن كان جلدا لمذكى ودبغه بما لا قيمة له مثل الماء والتراب فلصاحبه أن يأخذه ولا شيء عليه لأنه ليس فيه عين مال من جهة الغاصب بل هو بمنزلة الغسل
وإن دبغه بما له قيمة مثل العفص والقرظ فصاحبه بالخيار إن شاء ضمنه قيمته غير مدبوغ وإن شاء أخذه وأعطاه ما زاد الدباغ فيه لأن له فيه عين مال قائم فصار كالصبغ في الثوب
وإن كان جلد ميتة أخذه من بيت صاحبه
فدبغه بما ليس لهقيمة فلصاحبه أخذه بلا شيء
وإن دبغه بما له قيمة فلصاحبه أن يأخذه ويغرم له ما زاد الدباغ فيه لأن الجلد صار مالا بمال الغاصب وهو عين قائم
ولو هلك عند الغاصب لا ضمان عليه بالإجماع لأن الدباغ ليس بإتلاف
فأما إذا استهكله فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف و محمد يضمن قيمة الجلد مدبوغا وبنقص عنه ما زاد الدباغ فيه والمسألة تذكر في الخلافيات
وأما إذا أتلف الغاصب المغصوب على وجه يبقى منتفعا به أو هلك على وجه لا ينتفع به بأن احترق ونحوه ينظر إن كان مثلثا يضمن مثله وإن لم يكن مثلثا يلزمه قيمته يوم الغصب لأنه صار متلفا من ذلك الوقت ومتى ضمن واختار المالك الضمان فإنه يملك المغصوب من وقت الغصب بطريق الظهور أو بطريق الإسناد على حسب ما قيل فيه وهذا عندنا
وعند الشافعي لا يملك
وكذلك إذا أبق العبد لم يعرف قيامه بتصادقهما أو قامت البينة على الموت فهو على هذا الخلاف
ولو ظهر حيا لا يعود ملك المالك فيه عندنا خلافا للشافعي
ولقب المسألة المضمونات هل تملك بأداء الضمان أم لا وهي مسألة معروفة
ولو أنه هلك المغصوب المثلي أو انقطع المثلي عن أيدي الناس واختصما في حال انقطاعه فإن القاضي يقول له إن شئت تتربص حتىتأخذ مثل حقك في أوانه وإن شئت تأخذ القيمة فإن اختار أخذ القيمة كيف يحكم بذلك قال أبو حنيفة يحكم على الغاصب بقيمته يوم الخصومة وقال أبو يوسف يوم الغصب
وقال محمد يحكم بقيمته عند آخر انقطاعه
والصحيح قول أبي حنيفة لأنه حقه عن العين إنما ينقطع يوم الخصومة حيث اختار القيمة فيجب اعتبار القيمة في هذا الوقت
ولو غصب جارية فولدت عند الغاصب ولدا وانتقصت بالولادة فردها على المالك هل يضمن نقصان الولادة إن كان في الولد وفاء به أو قيمته أكثر فإنه ينجبر النقصان به وعليه أن يرد الجارية مع الولد ولا يضمن النقصان عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر يضمن
وإن لم يكن في الولد وفاء به أو قيمته أكثر فإنه ينجبر النقصان به وعليه أن يرد الجارية مع الولد ولا يضمن النقصان عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر يضمن
وإن لم يكن في الولد وفاء به فإنه ينجبر بقدره ويضمن الباقي
ولو ماتت من الولادة وبقي ولدها فإنه يضمن قيمتها يوم الغصب ولا ينجبر النقصان بالولد في ظاهر الرواية وفي رواية أخرى ينجبر
ولو هلك الولد قبل الرد يجب عليه نقصان الولادة وجعل كأن الولد لم يكن
هذا إذا كان الحبل عند الغاصب من الزنا فأما إذا كان الحبل من المولى أو من الزوج فإنه لا يضمن الغاصب وإن ماتت الجارية لأنالتلف حصل بسبب من جهة المولى فصار كما لو قتلها المولى في يد الغاصب والله أعلم
كتاب الديات
يحتاج إلى بيان القتل الموجب للقصاص والقتل الموجب للدية
وإلى بيان مقدار الدية وكيفيتها في النفس وما دون النفس وعلى من تجب
أما بيان الأول فنقول إن الجناية على الآدمي نوعان في النفس وما دون النفس
وكل واحد منهما على نوعين موجب للقصاص وموجب للمال
أما الجناية في النفس الموجبة للقصاص فنوع واحد وهو القتل العمد الخالي عن الشبهة لقوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } وقوله عليه السلام العمد قود وهذا عندنا
وقال الشافعي في قول يجب به أحدهما إما القتل أو الدية والخيار إلى الولي وفي قول الواجب هو القصاص عينا لكن للولي حق العدول إلى المال من غير رضا القاتل
ولا خلاف أنه إذا لم يقدر على استيفاء القصاص من كل وجه فإن له حق العدول إلى المال فإن من قطع يد إنسان ويد القاطع شلاء أو منقوصة بإصبع أو شج رأس إنسان ورأس الشاج أصغر أو أكبر فإنه لا يجب القصاص عينا بل الولي بالخيار في ذلك والمسألة معروفة
وكذلك إذا تعذر استيفاء القصاص لمعنى فإنه يجب المال حتى إن القصاص إذا كان مشتركا بين رجلين فعفا أحدهما فإنه ينقلب نصيب الآخر مالا
وكذلك الخاطىء مع العامد أو الصغير الكبير أو المجنون والعاقل إذا اشتركا في القتل وتعذر استيفاء القصاص في حق أحد الشريكين فإنه يجب المال عليهما نصفين
وأما الآب والأجنبي إذا اشتركا في قتل الابن فلا يجب القصاص على الأب بالإجماع ولا يجب على الشريك عندنا ولكن يجب المال وعند الشافعي يجب القصاص على الأجنبي والمسألة معروفة
ولو وجد القتل العمد من الجماعة في حق الواحد فإنهم يقتلون به بالإجماع قال عمر رضي الله عنه لو اجتمع أهل صنعاء على قتله لقتلتهم به
وأما الواحد إذا قتل جماعة فإنه يقتل ولا يجب شيء من الدية
وعند الشافعي يجمع بين القتل والدية فيكون القتل بمقابلة الواحد وتجب الدية في حق كل واحد من الباقين والمسألة معروفة
ولو قطع جماعة يد واحد لا تقطع أيديهم بها ولكن يجب عليهم دية اليد
وأما الواحد إذا قطع يد جماعة فإنه تقطع يده ويجب عليه الدية في الباقين
وعند الشافعي الأيدي تقطع بيد واحدة والمسألة معروفة
ولهذا قلنا إن الحر يقتل بالعبد خلافا للشافعي
والعبد يقتل بالحر بالإجماع ويجري القصاص بين الصغير والكبير والذكر والأنثى والمسلم والذمي في النفس لما تلونا من النص خلافا للشافعي
وأجمعوا أن المسلم لا يقتل بالمستأمن وكذلك الذمي
وأما المستأمن هل يقتل بالمستأمن فيه روايتان
ولو قتل إنسان رجلا عمدا فحق استيفاء القود إلى الولي الكبير إن كان واحدا ولو كانوا أكثر فللكل
فأما إذا كان الكل صغارا فقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا الاستيفاء إلى السلطان وبعضهم قالوا ينتظر إلى بلوغهم أو بلوغ أحدهم
أما إذا كان البعض كبارا والبعض صغارا فقد قال أبو حنيفة للكبير ولاية الاستيفاء وعلى قولهم يأخر إلى وقت بلوغ الصغار والمسألة معروفة
وأما اللقيط إذا قتل عمدا فولاية استيفاء القصاص إلى السلطان عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لا يستوفي ولكن تجب الدية وهي مسألة كتاب اللقيط
وأما القتل الموجب للمال فأنواع عمد محض فيه شبهة وشبه العمد وقتل الخطأ والقتل بطريق التسبيب
أما الأول فما ذكرنا من قتل المستأمن ونحوه
وعلى هذا قال أبو حنيفة من له القصاص في الطرف إذا استوفى الطرف وسرى إلى النفس ومات لا يجب القصاص لأجل الشبهة وتجب الدية وعلى قولهم لا يجب شيء
وأجمعوا أن الإمام إذا قطع يد السارق أو البزاغ أو الختان والفصاد والمأمور بقطع اليد إذا سرى فعلهم لا يجب عليهم شيء وهي تعرف في الخلافيات
ولهذا قال أبو حنيفة من له القصاص في النفس إذا استوفى في الطرف ثم عفا عن النفس وبرأ لا يقطع طرفه ولكن يجب أرش اليد عند أبي حنيفة وعندهم لا يجب شيء
ولو سرى إلى النفس لا يجب شيء وعلى هذا قال أبو حنيفة من شج رأس إنسان فعفى عنها ثم سرى إلى النفس تجب الدية دون القود
وقالوا لا يجب شيء
ومن قال لغيره اقتلني فقتله عمدا أم خطأ تجب الدية دون القود في ظاهر الرواية
وروي عن أبي حنيفة أنه لا يجب شيء
ولو قال اقتل عبدي فقتله لا يجب شيء لأنه أمره فيما هو حقه
ولو قال له اقتل ولدي ولا وارث له سوى الأب فقتله يقتل القاتل لأنه لا حق له في دم ولده بخلاف نفسه وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال تجب الدية استحسانا
ولو عفا المجروح عن الجراحة ثم مات منه صح عفوه استحسانا
وكذلك الوارث إذا عفا قبل موت المجروح يصح العفو استحسانا لأن له حقا
ولو قال الرجل اقتل أخي وهو وارثه فقتل لا يجب القود استحسانا وتجب الدية وعند زفر يقتل ولهذا نظائر
وأما الثاني فهو القتل بآلة لم توضع له ولم يحصل به الموت غالبا مثل السوط الصغير والعصا الصغيرة فإنه يوجب المال دون القصاص بالإجماع
فأما القتل بالعصا الكبيرة وبكل آلة يحصل بها الموت غالبا لكنها لا تجرح فعند أبي حنيفة هو شبه العمد لا يوجب القود وعندهما يوجب القود وهو قول الشافعي
وعلى هذا إذا ضرب بالسوط الصغير ووالى في الضربات حتى مات لا يجب القود عند أبي حنيفة وعندهم يجب والمسألة معروفة
وأما القتل الخطأ فهو أن يرمي سهما إلى صيد فأصاب آدميا أو أراد أن يطعن قاتل أبيه فتقدمه رجل فوقع فيه ونحو ذلك
وهو موجب للمال دون القصاص بالإجماع لقوله تعالى { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة }
وأما القتل بطريق التسبيب فنحو من حفر بئرا على قارعة الطريق فوقع فيه إنسان ومات فإنه يجب عليه الدية دون القصاص بالإجماع لأنه مسبب للقتل وليس بمباشر لأن الحفر ليس بقتل
وعلى هذا شهود القصاص إذا رجعوا لا يجب عليهم القصاص ولكن تجب عليهم الدية عندنا خلافا للشافعي لأنه لم يوجد منهم القتل مباشرة وإنما وجد منهم سبب القتل
وأما بيان حكم ما دون النفس فنقول كل ما يمكن فيه القصاص وهو الفعل العمد الخالي عن الشبهة فإنه يوجب القصاص
وكل ما لا يمكن القصاص وهو الفعل الخطأ وما فيه شبهة ففي بعض الأعضاء تجب دية كاملة وفي بعض الأعضاء يجب أرش مقدر وفي البعض تجب حكومة العدل فنقول لا خلاف بين أصحابنا أنه لا يجري القصاص فيما دون النفس بين العبيد ولا بين الأحرار والعبيد ولا بين الذكر والأنثى لأن القصاص فيها مبني على التساوي في المنافع والأروش ولا مساواة بين هؤلاء في منافع الأطراف والأروش ولهذا لا تقطع اليد الصحيحة بالشلاء ولا بمنقوصة الأصابع
وكذا لا تقطع اليمنى إلا باليمنى ولا اليسرى إلا باليسرى
وكذلك في أصابع اليدين والرجلين يؤخذ إبهام اليمنى بإبهام اليمنى والسبابة بالسبابة والوسطى بالوسطى ولا يقطع الأصابع إلا بمثلها من القاطع
وكذلك لا تؤخذ العين اليمنى باليسرى ولا العين اليسرى باليمنى
جب القوكذلك في الأسنان الثنية بالثنية والناب بالناب والضرس بالضرس ولا يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لما ذكرنا من التفاوت في المنافع وإنما يجري القصاص فيما يمكن فيه التساوي لا فيما لا يمكن
ولهذا لو قطع الكف من المفصل أو من المرفق أو من الكتف يجب القصاص
ولو قطع من الساعد أو من العضد لا يجب لأنه لا يعرف التساوي
وكذلك كل ما كان في غير المفاصل
وكذلك في الأسنان إذا قلع أو كسر يجب القصاص فيقلع سن القالع ويكسر بقدره بالمبرد
وأما العين إن قورت فلا يمكن القصاص فيها فإن كانت العين قائمة وذهب ضوءها فالقصاص ممكن بأن يجعل على وجه القطن المبلول وتحمى مرآة وتقرب من عينه حتى يذهب ضوءها
وروي عن أبي يوسف أنه لا يجب القصاص في الأحول لأن الحول نقص في العين والمماثلة شرط
وفي الأذن إذا قطعت كلها أو بعضها معروفا يقتص
وأجمع أصحابنا على القصاص في الحشفة والمارن
واختلف أبو يوسف ومحمد في الأنف والذكر واللسان إذا استوعب كل واحد منهما فعند أبي يوسف يجب القصاص وعند محمد لا يجب
وإنما يريد بقطع الأنف كل المارن فأما قصبة الأنف فعظم وأجمعوا أنه لا يجب القصاص في العظم لعدم الإمكان
وفي حلق اللحية والرأس والحاجب والشارب إذا لم ينبت لايجب القصاص وروي في النوادر أنه يجب القصاص
وأما في الشجاج فلا خلاف أنه يجب القصاص في الموضحة بأن ينتهي السكين إلى العظم ولا خلاف أنه لا يجب القصاص فيما بعد الموضحة من الهاشمة وغيرها
وأما فيما قبل الموضحة فقد ذكر في الأصل أنه يجب القصاص لأنه يمكن تقدير غور الجراحة بمسمار ثم يعمل حديدة على قدرها فتغمد في اللحم إلى آخرها فيستوفى مثل ما فعل
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجب به القصاص
وأما بيان وجوب الدية ومقدارها وكيفيتها فنقول الجناية الموجبة للدية إما إن كانت في النفس أو فيما دونها
أما إذا كانت في النفس ففيما بين الأحرار تجب دية كاملة يستوي فيها الصغير والكبير والوضيع والشريف والمسلم والذمي
وقال الشافعي في دية اليهود والنصارى أربعة آلاف درهم فضة وفي المجوس ثمانماثة درهم
ثم مقدار الدية في الأحرار ألف دينار أو عشرة آلاف درهم فضة أو مائة من الإبل كل واحدة أصل وهو الظاهر في قول أبي حنيفة
وقال أبو يوسف و محمد كذلك وقالا من البقر مائتا بقرة ومن الغنم ألفا شاة ومن الحلل مائتا حلة كل حلة ثوبان إزار ورداء
وروي عن أبي حنيفة في كتاب المعاقل ما يدل على مثل قولهم فإنه قال إذا صالح الولي على أكثر من مائتي بقرة أو مائتي حلة لم يجز في قول أبي حنيفة و أبي يوسف و محمد ولو لم تكن هذه الأشياء أصولا لجازالصلح على أكثر منها كما لو صالح على عروض أخر تزداد قيمتهاعن على الدية وهذا عندنا
وقال الشافعي من الإبل والدنانير مثل قولنا وفي الدراهم قال اثني عشر ألفا
وأصله ما روى عبيدة السلماني عن عمر أنه قضى في الدية من الدراهم بعشر آلاف ومن الدنانير بألف ومن الإبل بمائة ومن البقر بمائتين ومن الشياه بألفين ومن الحلل بمائتين
وأما كيفية الأسنان في الإبل فقال أصحابنا في دية الخطأ إنها خسمة أنواع عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وهو قول ابن مسعود
وقال الشافعي عشرون ابن لبون مكان ابن مخاض
وأما دية شبه العمد فقال أبو حنيفة و أبو يوسف أرباعا خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهو قول ابن مسعود
وقال محمد في شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خلقة وهو قول عمر وأبي موسى الأشعري والمغيرة رضي الله عنهم
وذكر في الأصل وعن علي رضي الله عنه أنه قال في شبه العمد أثلاث ثلاثة وثلاثون حقة وثلاثة وثلاثون جذعة وأربعة وثلاثون خلفة في بطونها أولادها
وأما حكم الجناية فيما دون النفس خطأ فنقول قد تجب دية كاملة بتفويت العضو وقد تجب الدية بتفويت معنى في النفس تفوت به النفس حكما في حق جنس المنفعة وقد يجب أرش مقدر وقد تجب حكومة العدل
فأما العضو الذي يجب كمال الدية بتفويته فهو العضو الذي لا نظير له في البدن يفوت به جمال كامل أو منفعة بها قوام النفس وذلك نحو اللسان كله والأنف كله والذكر كله
وتجب أيضا بقطع الحشفة والمارن وبعض اللسان إذا كان يمنعه من الكلام وكذا الإفضاء بين السبيلين بحيث لا يستمسك البول والغائط
وكذا حلق شعر رأس الرجل والمرأة وحلق لحية الرجل بحيث لا ينبت وهذا عندنا
وعند الشافعي تجب حكومة العدل
وأما حلق لحية العبد ذكر في الأصل تجب فيه حكومة العدل وفي رواية الحسن تجب قيمة العبد
وقال أبو جعفر الهندواني إنما تجب الدية بحلق اللحية إذا كانت كاملة يتجمل بها فإن كانت طاقات لا يتجمل بها فلا شيء فيها
وكذلك في لحية تشين ولا تزين بأن كانت على ذقنه شعرات
وإن كانت لحية يقع بها الجمال في الجملة ولا يقع بها الشين تجب فيها حكومة العدل
وأما فوات المعنى فهو ذهاب العقل والبصر والسمع والشم والذوق والكلام والجماع مع قيام الآلة التي تقوم بها هذه المنافع صورة فتجب بكل واحد منها الدية
وإنما يعرف فوات البصر بأن يلقى بين يديه حية فإن هرب يعلم أن بصره باق
وفي السمع يتغفل ثم ينادي فإن أجاب يعلم أنه لم يفت سمعه
وأما العضو الذي في البدن منه اثنان كالعينين والأذنين والشفتين والحاجبين إذا حلقا على وجه لا ينبتان واليدين والرجليين وثديي المرأة وحلمتيهما ففيها الدية وفي واحد من ذلك نصف الدية
وفي الأنثيين إن قطعهما مع الذكر جملة من جانب واحد في حالة واحدة فإنه يجب عليه ديتان دية بإزاء الذكر ودية بإزاء الأنثيين
وإن قطع الذكر أولا ثم الأنثيين يجب ديتان أيضا لأن بعد قطع الذكر منفعة الأنثيين قائمة وهي إمساك المني
وأما إذا قطع الأنثيين أولا ثم الذكر تجب الدية بقطع الأنثيين لزوال منفعة مخصوصة وتجب بقطع الذكر حكومة العدل لأن منفعة الإيلاد بطلت بفوات الأنثيين
وفي أشفار العينين كلها الدية وفي كل واحد منهما ربع الدية إذا لم ينبت
وكذا في قطع الأجفان مع الأشفار تجب دية كاملة وتصير الأجفان تابعة للأشفار
فأما إذا قطع الأجفان التي لا أشفار لها تجب حكومة العدل وصاركقطع الأصابع وحدها يوجب دية كاملة لأن الكف تبع
ولو قطع الكف بدون الأصابع تجب حكومة العدل
ولو قطع الكف مع الأصابع تجب دية واحدة لأن الكف تبع كذا هذا
وفي أصابع اليدين أو الرجلين كلها الدية الكاملة
وفي كل إصبع عشر الدية لا فضل للكبيرة على الصغيرة
ثم ما كان من الأصابع فيه ثلاثة مفاصل ففي كل مفصل ثلث دية الإصبع وما كان فيه مفصلان ففي كل واحد منهما نصف دية الإصبع
وإصبع اليد والرجل في الأرش سواء
وفي الأسنان في كل سن إذا سقطت خمسمائة درهم استوى فيه الأضراس والثنايا وغيرها
فإذا اسودت السن من الضربة أو احمرت أو اصفرت ففيه الأرش تاما عند أبي حنيفة
وقد روى أبو يوسف عنه أنه قال فيها حكومة العدل
وروى محمد عنه أنه قال إن كان حرا فلا شيء عليه وإن كان عبدا ففيه حكومة العدل
وقال فيها حكومة العدل
ثم هذا الحكم في الأسنان بعد أن يستأنى بها سنة فإن نبتت بيضاء مستقيمة فلا شيء عليه
وإن نبتت سوداء أو حمراء أو صفراء أو خضراء جعلت كأن لم تكن لأنه لم يحصل بها الجمال والمنفعة
وأما الشجاج فقد ذكر المشايخ أن الشجاج إحدى عشرة شجةأولها الخادشة وهي التي تخدش الجلد
وبعدها الدامعة وهي التي يخرج منها ما يشبه الدمع
وبعدها الدامية وهي التي يخرج منها الدم
وبعدها الباضعة وهي التي تبضع اللحم
وبعدها المتلاحمة وهي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب الباضعة هكذا روي عن أبي يوسف
وقال محمد المتلاحمة قبل الباضعة وهي التي يتلاحم فيها الدم ويسود
وبعدها السمحاق وهي التي تصل إلى جلدة رقيقة فوق العظم تلك الجلدة تسمى السمحاق
ثم الموضحة وهي التي توضح العظم
ثم الهاشمة وهي التي تهشم العظم
ثم المنقلة وهي التي يخرج منها العظم على وجه النقل
ثم الآمة وهي التي تصل إلى أم الدماغ وهي جلدة تحت العظم فوق الدماغ
ثم الدامغة وهي التي تخرق الجلدة وتصل إلى الدماغ
فهذه أحدى عشرة شجة
ولم يذكر محمدا لخادشة ولا الدامغة لأن لا يتصل بهما الحكم غالبا لأن الخادشة لا يبقي لها أثر ولا حكم للشجة التي لا يبقى لها أثر والدامغة لا يعيش معها الإنسان فيكون حكمه حكم القتل
ثم في الشجاج التي قبل الموضحة تجب حكومة العدل
وفي الموضحة تجب خمس من الإبلوفي الهاشمة عشر من الإبل
وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل
وفي الآمة ثلث الدية
ثم مواضع الشجاج عندنا هو الرأس والوجه في مواضع العظم مثل الجبهة والوجنتين والصدغين والذقن دون الخدين ولا تكون الأمة إلا في الرأس وفي الوجه في الموضع الذي يخلص منه إلى الدماغ
والصغيرة والكبيرة في ذلك سواء لقوله عليه السلام في الموضحة خمس من الإبل من غير فصل
ثم الجراح في سائر البدن ليس في شيء منها أرش معلوم سوى الجائفة وهي الجراحة النافذة إلى الجوف والمواضع التي تنفذ الجراحة منها إلى الجوف هي الصدر والظهر والبطن والجنبان دون الرقبة والحلق واليدين والرجلين وفيها ثلث الدية
فإذا نفذت إلى الجانب الآخر فهي جائفتان وفي كل واحدة منهما ثلث الدية فإنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه حكم في جائفة نفذت إلى الجانب الآخر بثلثي الدية وذلك بحضرة الصحابة من غير خلاف
وأما ما يجب حكومة العدل فيه فقد ذكرنا بعضه
ومن ذلك كسر الضلع وكسر قصبة الأنف وكسر كل عظم من البدن سوى السن فيه حكومة العدل
وكذا في ثدي الرجل وفي حلمة ثدييه حكومة عدل دون ذلك وفي أحدهما نصف ذلك
وفي لسان الأخرس وذكر الخصي والعنين والعين القائمة الذاهب نورها والسن السوداء واليد الشلاء والذكر المقطوعالحشفة والكف المقطوع الأصابع وكسر الظفر وقلعة بحيث لا ينبت أو نبت مع العيب
وأما الصبي الطفل ففي لسانه حكومة عدل ما لم يتكلم
وفي يده ورجله وذكره إذا كان يتحرك مثل الكبير وفي المارن والأذن المقصود هو الجمال فحكمه حكم الكبير وفي المعين إذا وجد ما يستدل به على البصر كالكبير
وفي حلق رأس إنسان إذا نبت أبيض على قول أبي حنيفة لا يجب شيء إذا كان حرا لأن الشيب ليس بعيب وإن كان عبدا يجب ما نقصه وقال أبو يوسف تجب حكومة العدل فيهما
وفي ثدي المرأة المقطوعة الحلمة والأنف المقطوع الأرنبة والجفن الذي لا أشفار له حكومة العدل
ثم الشجة إذا التحمت ونبت الشعر لا يجب فيها شيء على الشاج عند أبي حنيفة لأن الشين الذي لحقه بسببه قد زال
وقال أبو يوسف تجب عليه حكومة عدل في الألم
وقال محمد يلزمه أجرة الطبيب
واختلف المتأخرون من أصحابنا في كيفية الحكومة فقال الطحاوي يقوم المجني عليه لو كان عبدا صحيحا ويقوم وبه الشجة فما نقص بين القيمتين كانت أرشا في شجة الحر
وكان أبو الحسن الكرخي يقول يقرب من الشجة التي لها أرش مقدر بالحزر والظن يحكم بذلك أهل العلم بالجراحات
وأما حكم النساء فنقول إن دية المرأة على النصف من دية الرجل بإجماع الصحابة مثل عمروعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وغيرهم فإنهم قالوا دية المرأة على النصف من دية الرجل إلا أن ابن مسعود قال إلا في الموضحة والسن فإنها كالرجل
وأما فيما دون النفس من المرأة فإنه يعتبر بديتها فيتنصف كديتها لأن المرأة في ميراثها وشهادتها بمنزلة النصف من الرجل فكذا في الدية
وقال ابن مسعود تعاقل المرأة الرجل فيما كان أرشه نصف عشر الدية يعني ما كان أقل من ذلك فالرجل والمرأة في ذلك سواء واستدل بالغرة
وقال سعيد بن المسيب تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث ديتها يعني ما كان أقل من ثلث الدية فالرجل والمرأة فيه سواء
وروي أن ربيعة الرأت سأل سعيد بن المسيب عن رجل قطع إصبعامرأة فقال فيها عشر من الإبل قال فإن قطع ثلاثا قال فيها ثلاثون من الإبل قال فإن قطع أربعة قال فيها عشرون من الإبل فقال ربيعة لما عظم ألمها وزادت مصيبتها قل أرشها فقال له أعراقي أنت قال لا بل جاهل متعلم أو عالم متبين فقال هكذا السنة يا ابن أخ أراد بذلك سنة زيد بن ثابت
وما قال ربيعة فهو حجتنا في المسألة أن ما قالوا يؤدي إلى أن يقل الأرض عند كثرة الجناية وهذا لا يصح لأن ما دون النفس معتبر بدية النفس بدلالة ما زاد على ثلث الدية
وأما في العبد إذا قتله حر خطأ فإن كان قليل القيمة فإنه يجب قيمته بالإجماع فأما إذا كان كبير القيمة بأن زادت قيمته عن دية الحر قال أبو حنيفة و محمد يجب عشرة آلاف إلا عشرة وقال أبو يوسف و الشافعي تجب قيمته بالغة ما بلغت إلا أن عند الشافعي تجب بمقابلة المالية وعند أبي يوسف تجب بمقابلة الدم ولهذا قال مقدار الدية يجب على العاقلة ويجب مؤجلا في ثلاث سنين ويدخل فيه الإبل كما قالا والمسألة معروفة
وأما إذا قتله عبد خطأ فإنه يجب الدفع أو الفداء
وأما إذا جنى العبد على حر أو على عبد غير المولي فإن كان عمدا يجب القصاص وإن كان خطأ في نفس أو فيما دونها قل أرشها أو كثر فذلك في رقبة الجاني وليس في ذمة المولى منه شيء ويكونالمولى بالخيار إن شاء دفع العبد بالجناية وإن شاء فدى عنه بجميع الأرش لإجماع الصحابة على ذلك
فإن مات العبد قبل أن يختار الفداء فلا شيء على لمولى لأن الحق متعلق بالعين فيزول بزواله وإن كان بعد اختيار الفداء لم يبطل لأنه انتقل الحق إلى ذمة المولى بالتزامه
وإن جنى العبد على جماعة فالمولى بالخيار بين أن يدفع العبد إليهم وكان مقسوما بينهم على قدر ما لكل واحد منهم من أرش الجناية وبين أن يمسك العبد ويفدى بأرش الجنايات كلها لما ذكرنا
ولو تصرف المولى في العبد الجاني بعد العلم بالجناية تصرفا يخرجه عن ملكه نحو البيع والهبة والإعتاق أو أقر به لرجل أو كانت أمة فاستولدها فإنه يصير مختارا للفداء بالدية إن كانت الجناية في النفس وبالأرش إن كانت الجناية فيما دون النفس لأن المخير بين الشيئين إذا فعل ما يدل على اختيار أحدهما أو منع من اختيار أحدهما تعين الآخر للاختيار ومع هذه التصرفات تعذر الدفع
وإن كان لا يعلم بالجناية يلزمه قيمة عبده إذا كانت أقل من الأرش لأنه لا يصير مختارا بلا علم ولكن امتنع التسليم إلى الولي بفعله مع تعلق حق الولي به فيصير متلفا عليه هذا القدر فليزمه ذلك القدر ولا حق لولي الجناية فيما زاد عليه
وأما جناية المدبر وأم الولد ففي مال المولى دون عاقلته يعتبر الأقل من أرش الجناية ومن قيمته لأن الأصل في جناية العبد هو دفع الرقبة إلا أنه بالتدبير والاستيلاد صار مانعا من التسليم من غير اختيار فكأنه دبره وهو لا يعلم بالجناية فيلزمه الأقل من ذلك لما ذكرنا
ولا يلزم المولى بجنايتهما أكثر من قيمة واحدة وإن كثرت الأروش يستوي فيه من تقدم أو تأخر في الجناية لأن المنع منع واحد والضمان يتعلق به فجعل كأن الجنايات اجتمعت ثم دبره وهو لا يعلم بها
ويعتبر قيمة المدبر لكل واحد منهم يوم جنى عليه ولا يعتبر القيمة يوم التدبير لأنه صار مانعا بالتدبير السابق عن تسليمه في حال الجناية
وأما جناية المكاتب فعلية دون سيده ودون عاقلته يحكم عليه بالأقل من قيمته ومن أرش جنايته
وهذا لأن الواجب الأصلي هو دفع الرقبة وتسليم رقبته ممكن في الجملة بأن عجز نفسه فيكون متعلقا برقبته على طريق التوقف فلا ينتقل الحق من رقبته إلى ذمته ليؤدي من كسبه إلا بأحد معان ثلاثة إما بحكم الحاكم بأرشها عليه أو يصطلحوا على الأرش أو يموت ويترك مالا أو ولدا وهذا الذي ذكرنا مذهبنا
وقال زفر إن جنايته تجب في ذمته بمنزلة الحر
وثمرة الخلاف تظهر في مواضع من ذلك أن المكاتب إذا عجز قبل انتقال الجناية من رقبته يقال للمولى ادفعه أو افده وعند زفر يباع في الأرش
ومن ذلك أيضا أن المكاتب إذا جنى ثم جنى قبل القضاء بالجناية الأولى عليه يقضي عليه بقيمة واحدة لأن الجناية تتعلق بالرقبة والرقبة الواحدة تتضايق عنهما كجنايتي العبد
وعند زفر يحكم في كل جناية بقيمته لأنها تجب عنده في الذمة ولا تضايق فيها
وأما جناية العبد والمدبر وأم الولد على مولاهم أو على ماله خطأ فتكون هدرا لأنه لو وجب الضمان يجب على العبد للمولى والمولى لا يجب له مال على عبده
وكذا الجناية من المولى عليهم تكون هدرا أيضا إلا أن في المدبر يجب عليه أن يسعى في قيمته إذا قتل المولى خطأ لأن العتق وصية فلا يجوز أن يسلم للقاتل
وأما جناية المكاتب على مولاه وجناية مولاه عليه خطأ فلازمة لأن المكاتب أحق بمنافعه وأكسابه فيكون كالحر سواء
وأما الجنين فنقول إذا ضرب الرجل بطن امرأة حرة فألقت جنينا ميتا فعليه الغرة وهي عبد أو أمة تعدل خمسمائة درهم ذكرا كان الجنين أو أنثى
وكان القياس فيه أن لا يجب شيء لأنه يحتمل أنه لم يكن فيه حياة وقت الضرب ولهذا لو ضرب بطن دابة فألقت جنينا ميتا لا يجب الضمان وفي الاستحسان يجب لإجماع الصحابة على ذلك
ويكون على العاقلة
ولو ألقته حيا فمات من ساعته فعليه الدية كاملة على العاقلة لأن صارت نفسا من كل وجه
ولو ماتت الأم بالضرب ثم خرج الجنين ميتا لا يلزمه الغرة لاحتمال أنه مات بسبب الخنق فزاد هاهنا احتمال آخر
وأصل الوجوب ثبت بخلاف القياس فلا يقاس عليه ما ليس نظيره
ولو ضرب بطن أمة فألقت جنينا ميتا يغرم نصف عشر قيمته منإن كان ذكرا وعشر قيمتها إذا كان أنثى وقال الشافعي فيه عشر قيمة الأم
وهذا لما ذكرنا أن الواجب في الجنين الغرة بالنص وهو خمسمائة درهم وذلك عشر دية الأنثى ونصف عشر دية الذكر والقيمة في الأمة كالدية في الحرة فوجب عشر قيمتها إن كانت أنثى ونصف عشر قيمته إن كان ذكرا بناء على الحر إلا أن ما وجب في جنين الأمة فهو في مال الضارب حالا لأن ما دون النفس من الرقيق ضمانه ضمان الأموال وذلك مما لا تتحمله العاقلة بخلاف جنين الحرة
وأما بيان من تجب عليه الدية فنقول كل دية وجبت بنفس القتل في خطأ أو شبة عمد أو في عمد دخلته شبهه تجب في ثلاث سنين على من وجبت عليه في كل سنة الثلث
فالخطأ وشبه العمد على العاقلة
وأما العمد الذي تدخله الشبهة فيتحول مالا فهو في مال الجاني في ثلاث سنين وذلك مثل قتل الأب ابنه والمولى عبده
وكذلك إذا صولح من الجناية على مال لا يجب على العاقلة ويجب على القاتل في ماله حالا لأنه ما وجب بنفس القتل وإنما وجب بعقد الصلح فإن جعلاه مؤجلا يكون مؤجلا وإلا فيكون حالا كثمن المبيع
وكذا من أقر على نفسه بالقتل خطأ فالدية في ماله في ثلاث سنين لا على العاقلة
وكذلك ما وجب بجناية العبد فإنه لا يكون على العاقلة
وأصل ذلك حديث عمر رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة إلا أن في الصلح تجب حالا وفي الإقرار والعمد الذي فيه شبهة تجب عليه ولكن مؤجلا في ثلاث سنين لإجماع الصحابة أن الدية تجب مؤجلة في ثلاث سنين في كل سنة الثلث عند انقضائها
وكذلك الحكم في الحر من بدل النفس فهو في ثلاث سنين كالعشرة إذا قتلوا واحدا خطأ فعلى عاقلة كل واحد منهم عشر الدية في ثلاث سنين
ولا يغرم كل رجل من العاقلة إلا ثلاثة دراهم أو أربعة في ثلاث سنين فإن قلت العاقلة حتى صار نصيب كل واحد منهم أكثر من ذلك يضم إليهم أقرب القبائل منهم في النسب من أهل الديوان كانوا أو من غيرهم حتى لا يلزم الرجل منهم أكثر من ذلك لأنه يجب عليهم بطريق الإعانة تخفيفا على قريبهم فلا يجوز أن يجب عليهم على وجه فيه تعسير عليهم
وأما أرش ما دون النفس خطأ إذا بلغ نصف عشر الدية فهو على العاقلة في سنة
وكذا في المرأة إذا بلغ نصف عشرة ديتها يكون على العاقلة في سنة لأن ما دون النفس معتبر بالدية
ثم ما زاد في نصف العشر إلى أن يبلغ ثلث الدية ففي سنة قياسا على ما يجب على العاقلة في السنة الأولى
فإن زاد على الثلث فالزيادة تجب في سنة أخرى إلى الثلثين
فإن زاد على الثلثين فهي في السنة الثالثة
ثم العاقلة من هم فعندنا العاقلة هم أهل الديوان في حق من له الديوان وهم المقاتلة ومن لا ديوان له فعاقلته من كان من عصبته في النسب
وعند الشافعي لا يلزم أهل الديوان إلا أن يكونوا من النسب
والصحيح قولنا لما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال كانت الدية على القبائل فلما وضع عمر رضي الله عنه الدواوين جعلها على أهل الديوان وذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم من غير خلاف
وتبين أنه إنما كان على أهل القبائل للتناصر فلما صار التناصر بالديوان اعتبر الديوان لوجود المعنى ولهذا لا تكون المرأة والصبي والعبد والمدبر والمكاتب من جملة العاقلة لأنهم ليسوا من أهل التناصر ولا من أهل الإعانة بالشرع والله أعلم
باب ضمان الراكب
ومن كان في معناه أصل الباب أن السير في ملك نفسه مباح مطلق والسير في طريق المسلمين مأذون بشرط السلامة فما تولد من سير تلف مما يمكن الاحتراز عنه فهو مضمون وما لا يمكن الاحتراز عنه فليس بمضمون إذ لو جعلناه مضمونا لصار ممنوعا عن السير وهو مأذون
ولهذا قال أصحابنا رضوان الله عليهم إن ما أثار من الغبار بالمشي أو بسير الدابة لا يضمن ما تولد منه لأنه لا يمكن الاحتراز عنه
وكذا ما أثارت الدابة بسنابكها من الحصى الصغار وأما الحصى الكبار فإن الراكب يضمن ما تولد منه لأنه لا يكون سببا إلا بالعنف في السير فيمكن الاحتراز عنه
وإذا ثبت هذا فنقول من سارت دابته في طريق المسلمين وهو راكب عليها أو قائد أو سائق فوطأت دابته رجلا بيدها أو برجلها أو كدمت أو صدمت بصدرها أو خبطت بيدها فهو ضامن لأنه يمكن الاحتراز عنه
وكذلك السائق والقائد لأنه مقرب للدابة إلى الجناية
والرديف كالراكب إلا أن الفرق أن الراكب قاتل بوطء الدابة بثقله وفعله هو ليس بمسبب والسائق مسبب حتى تجب الكفارة علىالراكب دون السائق والقائد
ولو نفحت الدابة برجلها وهي تسير أو بذنبها فلا ضمان في ذلك على راكب ولا رديف ولا سائق ولا قائد لأن الاحتراز عنه غير ممكن
ولو أوقف الدابة في الطريق فهو ضامن لما تولد من وقوف الدابة من الوطء والنفحة بالرجل والذنب وما عطب بروثها وبولها ولعابها
وكذا إذا أوقفها على باب مسجد من مساجد المسلمين فهو بمنزلة الطريق لأنه من جملته والسير مأذون في الطريق دون الوقوف والإيقاف
فإن جعل الإمام للمسلمين عند باب المسجد موقفا لوقوف الدواب فما حدث من الوقوف غير مضمون لأن مأذون فيه
ولكن ساق الدابة فيه أو قاد أو سار فيه على الدابة يضمن لأن الإذن في حق الوقوف لا غير فبقي السير على ما كان بشرط السلامة
وعلى هذا وقوف الدواب في سوق الخيل والدواب لأن ذلك مأذون من جهة السلطان
وعلى هذا الفلاة وطريق مكة إذا كان وقوف الدابة في غير المحجة في ناحية منه لأن هذا مما لا يضر بالناس فلا يحتاج فيه إلى الإذن وأما الوقوف في المحجة فهو كالوقوف في طريق المسلمين
فأما إذا كان الطريق ملكا خاصا له فساق فيه دابتة أو سار بها وهو راكب أو في ملكه في الجملة فما تولد من سيره فهو غير مضمون عليه إلا وطء الدابة لأنه تصرف في ملكه فلا يتقيد بشرطالسلامة لكن الوطء بمنزلة فعله لحصول الهلاك بثقله ومن تعدى على الغير في دار نفسه يضمن
ولو نفرت الدابة أو انفلتت منه فما أصابت في فورها ذلك لا ضمان عليه وسواء كان الانفلات في ملك صاحبها أو في الطريق أو في ملك الغير لأنه لا صنع له فيه ولا يمكن الاحتراز عنه
وقد قالوا فيمن أرسل دابته فما أصابت في فورها ضمن وإن مالت يمينا أو شمالا ثم أصابت فهو على وجهين إن لم يكن لها طريق آخر يجب الضمان على المرسل لأنها باقية على الإرسال وإن كان لها طريق آخر فانعراجها باختيارها يقطع حكم الإرسال فتصير كالمنفلتة
ولو حفر بئرا في طريق المسلمين أو أخرج جناحا أو نصب فيه ميزابا أو بنى دكانا أو وضع حجرا أو خشبة أو متاعا أو صب ماء في الطريق أو قعد ليستريح أو لمرض أصابه فعثر بشيء من ذلك عابر فوقع فمات أو وقع على غيره فقتله أو على مال إنسان فهلك فهو ضامن لأنه متعد لأن الطريق مأذون فيه للسير لا غير فما تولد منه يكون مضمونا
ثم ما كان من الجناية على بني آدم فهو على العاقلة على ما ذكرنا وما كان على المال فهو عليه في ماله حالا
ولو كان الرجل سائرا على دابته أو واقفا عليها في ملكه أو في طريق العامة فنخس دابته رجل فضربت بذنبها أو برجلها أو نفرت فصدمت إنسانا في فور النخسة فالناخس ضامن دون الراكب إذا فعل ذلك بغير أمره لأنه متعد في النخس فما تولد منه مضمون عليه والراكب ليس بمتعد
فأما إذا انقطع الفور فذاك مضاف إلى اختيار الدابة لا إلى الناخس
وكذلك لو ضربها رجل بغير أمره
فأما إذا نخس بأمر الراكب أو ضرب فنفحت برجلها إنسانا فقتلته فإن كان الراكب يسير في الطريق أو كان واقفا في ملكه أو في موضع قد أذن فيه بالوقوف من هذه الأسواق ونحوها فلا ضمان في هذا على راكب ولا سائق ولا ضارب ولا ناخس لأنه فعل بأمر الراكب فعلا يملكه الراكب فصار فعله كفعله ولو فعل الراكب لا يضمن ما أصابت الدابة بالرجل فكذا هذا
ولو كان الراكب واقفا في بعض طرق المسلمين التي لم يؤذن بالوقوف فيها فأمر رجلا أن يضرب دابته فضربها فنفحت رجلا فقتلته فالدية عليهما نصفان هكذا ذكر الكرخي
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف في هذا أن الضمان على الراكب لا غير لأن ضربه له بأمر الراكب كضرب الراكب ولو فعل الراكب فتولد منه شيء برجلها يضمن فكذا هذا
ووجه ما ذكر الكرخي أن كل واحد منهما متعد بطريق التسبيب فصارا شريكين
ولو كان الرجل يسير على دابته فأمر رجلا حتى ينخسها أو يضربها فوطئت إنسانا فمات فالضمان عليهما
وكذلك لو فعل بغير أمر الراكب فوطئت إنسانا فمات فالضمان عليهما لأن الموت حصل بسبب فعل الناخس وثقل الراكب فيكون الضمان عليهما
ولو قاد الرجل قطارا فما أوطأه أوله أو أوسطه أو آخره فهو ضامن له
وكذلك إن صدم إنسانا فقتله لأن القائد مقرب للبهيمة إلى الجناية وهذا مما يمكن الاحتراز عنه في الجملة بأن يذود الناس عن الطريق
فإن كان معه سائق فالضمان عليهما كيفما كان السائق في وسط القطار أو في آخره لأنه قد يكون سائقا وقائدا وقد يكون سائقا لا غير والأول قائد فهما مسببان في هذه الجناية
ولو كان على القطار محامل فيها أناس نيام أو غير نيام فإن كان منهم القود والسوق فهم شركاء السائق والقائد وعلى الركبان الكفارة لا غير
فأما إذا لم يكن منهم فعل في القود فهم كالمتاع فلا شيء عليهم
ولو أن حائطا من دار إنسان مال إلى نافذ أو إلى دار رجل فهذا على وجهين
إن بني الحائط مائلا إلى ملك غيره أو إلى الطريق فهو ضامن لما عطب بسقوطه وإن لم يطالب بنقضه لأنه متعد بالبناء في هواء غيره وهواء طريق المسلمين حقهم أيضا فما تولد منه وهو ممكن الاحتراز عنه يؤاخذ به
فأما إذا بنى في ملكه وحقه ثم مال البناء إلى الطريق أو إلى دار إنسان فلم يطالب بنقضه ولم يشهد عليه فيه حتى سقط على رجل فقتله أو على مال إنسان فأتلفه فلا يضمن لأنه شغل هواء غيره ووقع في يده بغير صنعه وهو ميلان الجدار فيكون في يده أمانكثوب ألقته الريح في يده فما تولد منه لا يؤخذ به وإن طولب بنقضه وأشهد عليه ثم سقط بعد ذلك في مدة أمكنه نقضه فيها فهو ضامن لأن بعد المطالبة يجب عليه التفريغ فإذا لم يفعل مع الإمكان صار متعديا كما في الثوب الذي هبت به الريح إذا طلبه صاحبه فامتنع عن الرد يجب الضمان عليه إذا هلك
أما إذا لم يفرط في نقضه وذهب حتى يستأجر من يهدمه فسقط فأفسد شيئا فلا شيء عليه لأنه يجب عليه إزالة يده بقدر الممكن
والإشهاد أن يقول الرجل اشهدوا أني قد تقدمت إلى هذا الرجل في هدم حائطه هذا
والمعتبر عندنا المطالبة بالهدم وإنما يحتاج إلى الإشهاد ليثبت به المطالبة عند الإنكار كما قلنا في الشفعة إن المعتبر هو الطلب وإنما الإشهاد ليثبت الطلب بالشهادة عند الإنكار حتى لو اعترف صاحب الدار أنه طولب بنقضه وجب عليه الضمان وإن لم يشهد عليه
ثم إن كان الميلان إلى دار إنسان فالإشهاد إلى صاحب الدار إن كان فيها أو لم يكن فيها ساكن وإن كان فيها سكان فالإشهاد إلى السكان
وإن كان الميلان إلى طريق العامة فالإشهاد إلى كل من له حق المرور فيه المسلم والذمي فيه سواء
ولكن أنما يصح الإشهاد على مالك الحائط أو الذي له ولاية النقض مثل الأب والوصي ولا يصح الإشهاد على المرتهن والمستأجر والمستعير والمودع لأنه ليس لهم ولاية النقض فكان الإشهاد عليهم وعدمه سواء
ولو أشهد من له حق الإشهاد على صاحب الحائط المائل أو على من يصح عليه الإشهاد فطلب منه التأجيل أو الإبراء فأجل وأبرأ فإن كان أميل إلى الدار صح لأنه أبطل حقه
فأما إذا كان الميل إلىالطريق فأبرأ أو أجل الذي أشهد عليه ممن له حق المرور أو القاضي فإنه لا يصح لأنه هذا حق العامة فإبراء الواحد وتأجيله يصح في حقه لا في حق الناس
ولو باع صاحب الدار بعد الإشهاد فسقط الحائط بعدما قبضه المشتري أو بعدما ملكه في زمان لا يتمكن من نقضه فلا ضمان على البائع فيما هلك بسقوطه لأنه لا يملك النقض فسقط حكم الإشهاد وإن كان بعد التفريط لا يسقط الضمان
باب القسامة
يحتاج في هذا الباب إلى بيان مشروعية القسامة وإلى تفسيرها وإلى بيان من تجب عليه
أما الأول فالقسامة مشروعة في القتيل الذي يوجد وبه علامة القتل من الجراح وغيرها ولم يعرف له قاتل بالأحاديث وقضاء عمر رضي الله عنه وإجماع الصحابة في خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله عليه
وأما تفسير القسامة وبيان من تجب عليه فهو ما روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله عليهما أنه قال في القتيل يوجد في المحلة أو في دار رجل في المصر إن كانت به جراحة أو أثر ضرب أو أثر خنق فإن هذا قتيل وفيه القسامة على عاقلة رب الدار إذا وجد في الدار وعلى عاقلة أهل المحلة إذا وجد في المحلة يقسم خمسون رجلا كل رجل منهم بالله ما قتلته ولا علمت له قاتلاثم يغرمون الدية في ثلاث سنين على أهل الديوان في كل سنة الثلث مقدار ما يصيب كل واحد منهم ثلاثة دراهم أو أربعة في ثلاثة سنين فإن زاد ضموا إليهم أقربهم منهم من القبائل نسبا لا جوارا فإن نقصوا عن خمسين كررت عليهم الأيمان
ثم لا يدخل في القسامة إلا العاقل البالغ الحر فأما المرأة فهل تدخل ذكر الطحاوي أنه لا يدخل في القسامة إلا رجل عاقل بالغ حر
وذكر محمد عن أبي حنيفة في القتيل يوجد في قرية امرأة لا يكون بها غيرها وليس لها عاقلة قريبة قال تستحلف ويكرر عليها الأيمان وعلى عاقلتها التي هي أقرب القبائل إليها في النسب
وقال أبو يوسف ينظر إلى أقرب القبائل إليها وتكون القسامة عليهم ولا قسامة على المرأة لأنها ليست من أهل النصرة كالصبي والجنون والعبد
وهما يقولان إن المرأة من أهل الاستحلاف في الحقوق ومن أهل المشاركة في الدية فإنها إذا قتلت رجلا خطأ تشارك العاقلة في الدية
ويدخل في القسامة الأعمى والمحدود في القذف والذمي لأنهم من أهل الاستحلاف والنصرة
ويكون الاختيار في رجال القسامة إلى أولياء القتيل لأن ذلك حقهم ولهم في الاختيار فائدة
هذا الذي ذكرنا مذهب علمائنا رحمهم الله
وقال مالك و الشافعي رحمهما الله إذا كان هناك لوث أي علامة القتل من واحد بعينه أو بينهما عداوة ظاهرة فإنه يستحلف الأولياء خمسين يمينا
ثم يقتص من المدعي عليه عند مالك
وعند الشافعي يقضي لهم على المدعي عليه بالدية
ولكن هذا خلاف الأحاديث المشهورة وإجماع الصحابة
ثم إذا وجد القتيل في دار رجل فالقسامة على رب الدار وعلى جيرانه إن كانوا عاقلته وإن لم يكونوا فعلى عاقلته من أهل المصر وعليهم الدية كذا ذكر محمد في الأصل ولم يذكر إذا كانت العاقلة غيبا
وذكر في اختلاف زفر و يعقوب أن القسامة عليه وعلى عاقلته غيبا كانوا أو حضورا
وعلى قول أبي يوسف لا قسامة على العاقلة
وذكر الكرخي إن كانت العاقلة حاضرة في المصر دخلوا في القسامة وإن كانت غائبة فالقسامة على صاحب الدار يكرر عليه الإيمان والدية عليه وعلى العاقلة
ثم القسامة والدية على الأقرب فالأقرب من عاقلة من وجد فيهم القتيل فرب الدار وقومه أخص ثم أهل المحلة ثم أهل المصر
وكذلك القبائل الأقرب فالأقرب وإن كانت المحلة فيها من قبائل شتى فإن الدية والقسامة على أهل الخطة وليس على المشتري شيء عند أبي حنيفة و محمد لا قسامة ولا دية ما بقي واحد من أهل الخطة
وعلى قول أبي يوسف على أهل الخطة والمشترين جميعا
وقيل إنما أجاب أبو حنيفة على عادة أهل الكوفة فإن أهل الخطة هم الذين يدبرون أمر المحلة و أبو يوسف بني على عادة أهل زمانه أن التدبير إلى الأشراف من أهل الخطة كانوا أولا
وأما إذا لم يكن في المحلة أحد من أهل الخطة وفيها ملاك وسكان فعند أبي حنيفة ومحمد علىالملاك دون السكان
وقال أبو يوسف عليهم جميعا
ولو وجد القتيل في السوق فعند أبي حنيفة و محمد على أربابها وعند أبي يوسف على سكانها
وإن كنت السوق للعامة أو للسلطان فالدية في بيت المال
ولو وجد في المسجد الجامع أو الجسور العامة أو النهر العام كدجلة والفرات فالدية في بيت المال ولا قسامة على أحد
فأما في النهر الخاص الذي يقضي فيه بالشفعة للشريك فعلى عاقلة أرباب النهر
ولو وجد في السجن ولا يعرف من قتله فعند أبي حنيفة و محمد على بيت المال وعند أبي يوسف تجب القسامة والدية على أهل السجن
وإن وجد في السفينة فالدية والقسامة على من في السفينة من ركبها أو يمدها من المالك وغيره بخلاف الدار لأنها مما ينقل من موضع إلى موضع فيعتبر فيه اليد دون الملك
وكذلك العجلة أو الدابة إذا وجد عليها قتيل ومعها رجل يحملها وهو قائد أو سائق أو راكب فإنه يكون القسامة عليه
وإن اجتمع رجال بعضهم قائد وبعضهم سائق
وبعضهم راكب فيكون عليهم لأنه في أيديهم فصار كوجوده في دارهم
وإن وجد في فلاة من الأرض ينظر إن كانت ملكا لإنسان فالقسامة والدية على المالك وعلى قبيلته
وإن كان ذلك الموضع لا مالك له وكان موضعا يسمع فيه الصوت من مصر من الأمصار أوقرية من القرى فعليهم وإن كان لا يسمع فيه الصوت وليس بملك لأحد فهو هدر لأنه لا يد لأحد عليه
وكذلك في الدجلة والفرات أراد في حق القسامة فأما الدية ففي بيت المال إذا ظهر أولياؤه
فأما إذا وجد على شط نهر عظيم مثل دجلة والفرات فعلى أقرب القرى من ذلك الموضع من حيث يسمع الصوت القسامة والدية
ولو وجد القتيل في عسكر في الفلاة فإن كانت ملكا فعلى أرباب الفلاة وإن لم يكن لها مالك فإن وجد في خباء أو فسطاط فعلى من يسكن الخباء والقسطاط وعلى عواقلهم وإن وجد خارجا من الفسطاطا والخباء فعلى أقرب الأخبية والفساطيط
وإن كان العسكر لقوا قتالا فقاتلوا فلا قسامة ولا دية في قتيل وجد بين أظهرهم لأن الظاهر أنه قتيل العدو
ولو وجد قتيل في دار نفسه فديته على ورثته وعلى عاقلتهم وتكون ميراثا لهم لو فضل من ديته عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما لا شيء فيه وهو هدر وبه أخذ زفر
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة مثله لأن وجود القتيل في الدار بمنزلة مباشرة القتل من صاحبها فإذا وجد القتيل في دار نفسه فيصير كأنه قتل نفسه و أبو حنيفة يقول إن المعتبر في القسامة والدية حال ظهور القتيل بدليل أن مات قبل ذلك لا يدخل في الدية وحال ظهور القتيل الدار للورثة فيكون عليهم وعلى عاقلتهم كمن وجد قتيلا في دار ابنه أو بئر حفرها ابنه أليس أن القسامة والدية على ابنه وعواقله كذا هذا
ثم يثبت الميراث له بعدما صار للمقتول حتى يقضي دينه فما فضل يكون للورثة بسبب القرابة والله أعلم
هذا الذي ذكرنا إذا لم يدع الأولياء على رجل بعينه من أهل المحلة
فأما إذا ادعوا على رجل بعينه فالقسامة والدية بحالهما في جواب ظاهر الرواية
وروى عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة و محمد أنه يسقط
وقال أبو يوسف القياس أنه يسقط وفي الاستحسان أنه لا يسقط للأثر
وجه ظاهر الرواية أن الظاهر أن القاتل أحد أهل المحلة والولي يدعي إلا أنه عين وهو متهم في التعيين فلا يعتبر
فأما إذا ادعى الولي القتل على رجل من غيرهم فيكون إبراء لهم عن القسامة والدية لأنه نفي القتل عنهم بدعواه على غيرهم
ولو شهد اثنان من أهل المحلة للولي بهذه الدعوى لم تقبل شهادتهما في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد تقبل وإنما قال أبو حنيفة هذا لأن أهل المحلة صاروا خصما في هذه الدعوى فلا تقبل شهادتهم وإن خرجوا عن الخصومة بالإبراء كالوكيل إذا خاصم ثم عزل فشهد لا تقبل شهادته كذا هذا
وكذا لو ادعى الأولياء القتل على واحد من أهل المحلة بعينه فشهد شاهدان من أهل المحلة عليه لم تقبل شهادتهما بالاتفاق لأن الخصومة قائمة عليهم بعد هذه الدعوى على ما بينا فتكون هذه شهادة لأنفسهم فلا تقبل
كتاب الحدود
جمع في هذا الكتاب بين حد الزنا وحد القذف وبين التعزير فيحتاج إلى بيان سبب وجوب كل واحد منها وإلى بيان شرائط الوجوب
وإلى بيان كيفية الحد ومقداره
أما حد الزنا فنوعان الرجم و الجلد مائة
وسبب وجوبهما جميعا هو الزنا إلا أن لوجوب الرجم شرائط إذا وجد الكل يجب وإلا فيجب الجلد
ولو أسقط الجلد للشبهة يجب العقر إذ الزنا في دار الإسلام لا يخلو عن عقوبة أو غرامة
فنذكر الزنا الموجب للحد
وشرائط وجوب الرجم
وطريق ثوبته عند القاضي
أما الزنا فهو الوطء الحرام الخالي عن حقيقة الملك وحقيقة النكاح وعن شبهة الملك وعن شبهة النكاح وعن شبهة الاشتباه أيضا
أما الوطء ففعل معلوم وهو إيلاج فرج الرجل في فرج المرأة
وإنما شرطنا كونه حراما فإن وطء المجنون ووطء الصبي العاقل لا يكون زنا لأن فعلهما لا يوصف بالحرمة
وكذلك الوطء في الملك والنكاح وإن كان حراما لا يكون زنا كوطء الحائض والنفاس ووطء الجارية المجوسية والأخت من الرضاع والجارية المشتركة ونحوه
وقوله الخالي عن شبهة الملك فإن وطىء جارية ابنه وجارية مكاتبه وجارية عبده المأذون المديون والجارية من المغنم في دار الحرب أو بعد الإحراز قبل القسمة فليس بزنا فإن شبهة الملك وهو الملك من وجه ثابت في هذه المواضع حتىلا يجب الحد وإن قال علمت أنها علي حرام
وقولنا عن شبهة العقد فإن وطء امرأة تزوجها بغير شهود أو أمة تزوجت بغير إذن مولاها أو عبد تزوج بغير إذن مولاه لا يكون زنا
وكذا من تزوج أمة على حرة أو تزوج مجوسية أو خمسا في عقد أو جمع بين أختين أو تزوج من محارمه فوطئها وقال علمت أنها علي حرام لا حد عليه عند أبي حنيفة وعندهما يجب الحد في كل وطء حرام على التأبيد فوجود التزوج فيه لا يوجب شبهة وما ليس بحرام على التأبيد فالعقد يوجب شبهة كالنكاح بغير شهود ونحوه والمسألة معروفة
وأما شبهة الاشتباه وهي أنه إذا وطىء فقال ظننت أنها تحل لي لا يجب الحد
وإذا قال علمت أنها علي حرام فإنه يحد
وجملة هذا أن دعوى الاشتباه معتبرة في سبعة مواضع جارية الأب وجارية الأم وجارية الزوجة والمطلقة ثلاثا ما دامت في العدة وأم الولد ما دامت تعتد منه والعبد إذا وطىء جارية مولاه والجارية المرهونة في رواية كتاب الرهن
وفي أربعة مواضع لا يحد وإن قال علمت أنها علي حرام جارية الابن وإن سفل والجارية المبيعة إذا وطئها البائع قبل القبض والجارية المتزوج عليها إذا كانت في يد الزوج والمطلقة طلاقا بائنا والجارية بين الشريكين
وفيما سوى ما ذكرنا يجب الحد ولا يعتبر شبهة الاشتباه
ومن وجد على فراشه أو في بيته امرأة
فوطئها وقال ظننت أنها جاريتي أو امرأتي يحد لأنه لا يحل له الوطء مع الاشتباه
فأما الأعمى إذا وجد على فراشه امرأة فوطئها فكذلك الجواب عند أبي حنيفة و أبي يوسف
وقال زفر لا يجب عليه الحد كما في المرأة المزفوفة إلى بيت زوجها
وقال محمد إذا دعا الزوج الأعمى امرأته فأجابته امرأة فقالت أنا فلانة امرأتك فوطئها لا حد عليه فأما إذا أجابته ولم تقل أنا فلانة يجب الحد لأنه في وسعه أن يتحفظ أكثر من هذا فلا يصير شبهة فيجب الحد
وأما شرائط وجوب الرجم فأن يكونا محصنين
والإحصان عندنا عبارة عن استجماع سبعة اشياء البلوغ والعقل والإسلام والحرية والنكاح الصحيح والدخول على وجه يوجب الغسل من غير إنزال وهما على صفة الإحصان
وروي عن أبي يوسف إن الإسلام ليس بشرط وهو قول الشافعي
وكذا روي عن أنه لا يعتبر الدخول بها وهما على صفة الإحصان حتى قال إن المسلم إذا وطىء الكافرة صار بها محصنا
وإذا وجد الوطء قبل الحرية ثم أعتقا صارا محصنين بالوطء المتقدم والمسألة معروفة
فإذا فات شرط من شرائط الإحصان يجب الجلد لا الرجم لقوله تعالى { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة }
ولا يجمع بين الجلد والرجم بالاتفاق
واختلفوا في الجمع بين الجلد والتغريب فقال أصحابنا رحمهم الله لا يجمع
وقال الشافعي يجمع والمسألة معروفة
فأما طريق ثبوته عند القاضي فشيئان البينة والإقرار
أما مشاهدة القاضي الزنا في حالة القضاء أو قبل القضاء فلا يعتبر في حق الحدود الإجماع وإن كان بين العلماء اختلاف في غيرهما من الأحكام
أما البينة فشهادة أربعة رجال عدول أحرار مسلمين على الزنا
ولا تقبل فيها شهادة النساء مع الرجال بلا خلاف
وأما الإحصان فيثبت بشهادة الرجال مع النساء عندنا خلافا ل زفر
وأما الإقرار فهو أن يقر المقر أربع مرات بالزنا عند الإمام في أربعة مواطن عندنا خلافا للشافعي
وينبغي للإمامإذا جاء الرجل وأقر بالزنا أن يزجره عن الإقرار ويظهر الكراهية من ذلك ويأمر بتنحيته عن المجلس فإن عاد ثانيا فعل به مثل ذلك
وإن عاد ثالثا فعل به مثل ذلك
فإذا أقر أربع مرات نظر في حاله هل هو صحيح العقل وأنه ممن يجوز إقراره على نفسه فإذا عرف ذلك سأله عن الزنا ما هو وكيف زنى وبمن زنى ومتى زنى وأين زنى لاحتيال الشبهة في ذلك
فإذا بين ذلك سأله هل هو محصن فإن قال هو محصن سأله عن الإحصان ما هو فإن فسره ووصفه بشرائطه حكم عليه بالرجم وأمر بإقامته عليه
ويعتبر اختلاف مجلس المقر لا اختلاف مجلس القاضي حتى إن القاضي إذا كان في مجلسه فأقر الزاني أربع مرات في أربعة مجالس من مجلس المقر يقام عليه الحد وسواء تقادم العهد أو لا
وإنما يعتبر التقادم مانعا في الشهادة إذا شهدوا بعد تقادم العهد لا تقبل لأجل التهمة ولا تهمة في الإقرار
ولو أقر بالزنا عند غير الإمام أو عند من ليس له ولاية إقامة الحد أربع مرات فإنه لا يعتبر حتى إنه لو شهد الشهود على إقراره أربع مرات في مجالس مختلفة في حضرة من ليس له ولاية إقامة الحد فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة لأن الزاني إن كان منكرا فقد رجع عن الإقرار وإن كان مقرا فلا عبرة لشهادة مع الإقرار
ولو أنه إذا أقر أربع مرات عند القاضي ثم رجع بعد الحكم بالرجم أو قبله أو رجع بعدما رجم قبل الموت إن كان محصنا أو بعد ما ضرب بعض الجلد إذا لم يكن محصنا أو هرب فإنه يدرأالحد عنه لأن النبي عليه السلام لقن ماعزا الرجوع حين أقر بين يديه بالزنا لعلك مسستها لعلك قبلتها فلو لم يصح الرجوع لم يكن لهذا التلقين فائدة
ثم إذا ثبت وجوب الرجم بالشهادة فالقاضي يأمر الشهود أولا بالرجم فإذا رجموا رجم الإمام بعدهم ثم الناس
وقال الشافعي البداءة بالشهودة ليس بشرط
فإن امتنع الشهود أو بعضهم عن الرجم سقط الرجم في قول أبي حنيفة و محمد وفي إحدى الروايتين عن أبي يوسف لأن امتناعهم عن الرجم أورث شبهة الكذب في شهادتهم
وفي الجلد لا يؤمر الشهود به لأن كل واحد لا يعرف الجلد على وجهه
ولو جن الشهود أو خرسوا أو عموا أو ارتدوا أو ماتوا سقط الحد لما قلنا
ثم ينصب الرجل قائما ولا يربط بشيء ولا يحفر له حفيرة
لأنه ربما يفر فيكون دلالة الرجوع
وفي المرأة يحفر لها حفيرة للستر وفي رواية لا بأس بترك الحفر
فأما في الجلد فإنه يقام الرجل وتضرب المرأة قاعدة وينزع عن الرجل ثيابه إلا الإزار في الزاني وفي التعزيز ولا ينزع في القاذف إلا الفرو والحشو وفي الشارب روايتان وأشهرهما أنه يجرد
فالحاصل أن أشد الضرب هو التعزير ثم الجلد في الزنا ثم في الشرب ثم في القذف
وفي المرأة لا ينزع الثياب إلا الفرو والحشو لأن كشف العورة حرام والزجر واجب
ويضرب الحد في الأعضاء كلها متفرقا إلا في العضو الذي هو مقتل وهو الرأس والوجه والصدر والبطن والمذاكير وهذا في حق الصحيح
فأما المريض فلا يجلد حتى يبرأ وكذا الحامل حتى تضع حملها وتخرج عن النفاس لأن النفاس مرض بخلاف الحيض
فأما الرجم فيقام في الأحوال كلها إلا في الحامل لأنه لا جناية من الحمل
ولا تقام الحدود في المسجد وإنما تقام في موضع يشاهده الإمام أو يبعث أمينه حتى يقام بين يديه
وإذا مات المرجوم يدفع إلى أهله حتى يغسلوه ويكفنوه ويصلوا عليه هكذا قال النبي عليه السلام في ماعز اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم
وأما حد القذف فيحتاج إلى بيان كيفيته وبيان مقداره وإلى تفسير القذف الموجب للحد وإلى بيان شرائطه
وإلى بيان أحكامه
أما الأول فحد القذف مقدر بثمانين سوطا لقوله تعالى { فاجلدوهم ثمانين جلدة }
وأما تفسير القذف فهو نوعان أحدهما أن يقذفه بصريح الزنا الخالي عن شبهة الزنا الذي لو أقام عليه أربعة من الشهود أو أقربه المقذوف يجب عليه حد الزنا فإذا عجز القاذف عن إثباته بالحجة فينعقد سببا لوجوب حد القذف
الثاني أن ينفي نسب إنسان من أبيه المعروف فيقول لست بابن فلان أوهو ليس بأبيك فهو قاذف لأمه كأنه قال أمك زانية أو زنت أمك
ولو قال يا ابن الزاني أويا ابن الزانية يكون قاذفا
ولو قال لست لأمك لا يكون قذفا
ولو قال أنت ابن فلان لعمه أو خاله أو لزوج أمه في غير حال الغضب لا يكون قذفا لأنه ينسب إليه في العرف
وإن كان في حال الغضب على سبيل الشتم يكون قذفا
ولو قال لرجل يا زانية لا يجب الحد عن أبي حنيفة و أبي يوسف خلافا ل محمد
ولا قال لامرأته يا زاني يحد بالإجماع
ولو قال يا زانىء باهمزة وعنى به الصعود يحد لأن العامة لاتعرف هذا
ولو قال زنأت في الجبل وعنى به الصعود فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يحد لما قلنا خلافا لمحمد
ولو قال زنأت على الجبل يحد بالإجماع لأنه لا يستعمل لفظه على الصعود
وأما الشرائط فشروط وجوب الحد أن يكون المقذوف محصنا
وشرائط إحصان حد القذف خمسة العقل والبلوغ والحرية والإسلام والعفة عن الزنا
وأما شرط ظهور حد القذف عند القاضي بالبينة أو بالإقرار فهو خصومة المقذوف ومطالبته وحضرته عند الإقامة لأن فيه حق العبد وحق العبد لا يثبت إلا بمطاليته وخصومته
ثم حق الخصومة والطلب للمقذوف إذا كان حيا سواء كان حاضرا أو غائبا وليس لأحد حق الخصومة إلا بإنابته عند أبي حنيفة ومحمد
وعند أبي يوسف لا تصح وكالة في حد ولا قصاص
وأجمعوا أنه لا يصح الوكالة في استيفاء الحدود والقصاص وعنوا بهذا أنه لا بد من حضرة المقذوف وحضرة ولي القصاص للاستيفاء
فأما إذا حضر ففي حد القذف الاستيفاء إلى الإمام وفي القصاص إلى الولي
لكن إذا وكل إنسانا بالاستيفاء بين يديه لعجزه وضعف قلبه جاز بالإجماع
ولو أنه طلب المقذوف الحد وخاصم بين يدي القاضي وحكم القاضي به ثم مات أو مات قبل أن يطالب أو مات بعدما ضرببعض الحد بطل وبطل ما بقي وإن كان سوطا واحدا ولا تبطل شهادة المقذوف وهذا عندنا
وعند الشافعي يقول الوارث مقامه في الخصومة والحضرة
فالحاصل أن المغلب في حد القذف حق الله تعالى عندنا
وعنده المغلب حق العبد فلا يورث عندنا خلافا له
وعلى هذا لا يصح الصلح والعفو من المقذوف عندنا خلافا له والمسألة معروفة
هذا إذا قذفه في حال الحياة فأما إذا قذفه بعد الموت بالزنا فإن حق الخصومة فيه للوالد وإن علا وللولد وإن سفل ولا حق للأخ والعم والمولى وهذا قول أبي حنيفة و أبي يوسف حتى يدخل فيه أولاد البنات عندهما وعند محمد لا يدخل إلا من يرث بالعصوبة
وأما بيان الأحكام فنقول إذا رفع المقذوف الأمر إلى القاضي والقذف صحيح فلا يخلو إما أن ينكر القاذف أو يقر
فإن أنكر وطلب المقذوف من القاضي أن يؤجله حتى يقيم البينة وادعى أن له بينة حاضرة في المصر فإنه يؤجله إلى أن يقوم من المجلس ويحبس المدعى عليه القذف فإن أقامها إلى آخر المجلس وإلا خلى سبيله ولا يأخذ منه كفيلا بنفسه وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف يأخذ منه كفيلا بنفسه حتى يحضر الشهود ولا يحبسه
وعن محمد أنه قال أكفله ثلاثة أيام ولا أحبسه فإن أقام شاهدا واحدا عدلا فإنه يحبس حتى يحضر الشاهد الآخر وإن أقام شاهدا غير عدل فإنه يؤجله إلى آخر المجلس
وإن قال المقذوف بينتي خارج المصر أو غائبون فإن القاضي يخلي سبيل القاذف على ما ذكرنا
وإن أقام رجلا وامرأتين أو
الشهادة على الشهادة
أو كتاب القاضي في إثبات القذف فلا يقبل لأن الذكورة شرط في الحد
ولو أقام القاذف رجلا وامرأتين على أن المقذوف صدقة في قذفه له يقبل لأنها قامت على درء الحد
وإن طلب المقذوف من القاضي أن يستحلف القاذف فإنه لا يحلفه عندنا خلافا للشافعي بناء على أن حد القذف حق العباد عنده
فإذا أقام البينة على القذف أو أقر القاذف فإن القاضي يقول للقاذف أقم البينة على صحة قولك
فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا أو على إقراره بالزنا على الوجه الذي ذكرنا يقيم حد الزنا على المقذوف ولا يقيم حد القذف على القاذف لأنه ظهر أنه صادق في مقالته
فإن عجز عن إقامة البينة للحال وقال للقاضي أجلني حتى أحضر البينة ولي بينة في المصر فإنه يؤجله إلى قيام المجلس فإن أقام البينة إلى آخر المجلس وإلا أقام عليه حد القذف ولا يأخذ منه كفيلا حتى يذهب فيطلب شهوده ولكن يحبسه ويقول له ابعث إلى شهودك
وعلى قول أبي يوسف يؤجل إلى المجلس الثاني
وعن محمد أنه قال إن لم يجد أحدا يبعثه إلى الشهود أتركه حتى يذهب ويحضر الشهود وأبعث معه شرطا حتى يحفظوه ولا أدعه حتى يفر فإن عجز أقيم عليه الحد
فإن ضرب بعض الحد فحضر الشهود وشهدوا بطل الحدالباقي وأقبل شهادتهم
وإن شهدوا بعد إقامة الحد على صدق مقالته تقبل شهادتهم ويظهر في حق الشهادة حتى لا يرد شهادته بعد ذلك
وأما التعزير فيجب في جناية ليست بموجبة للحد بأن قال يا كافر أو يا فاسق أو يا فاجر ونحو ذلك
ويكون التعزير على قدر الجناية وعلى قدر مراتب الجاني قد يكون بالتغليظ في القول وقد يكون بالحبس وقد يكون بالضرب
وأقل التعزير ثلاثة أسواط فصاعدا ولا يبلغ أربعين بل ينقص منه سوط وهذا عند أبي حنيفة و محمد
وقال أبو يوسف في العبد ينقص من أربعين أسواط وفي الحر لا يبلغ ثمانين وينقص منه خمسة أسواط
وأصله قوله عليه السلام من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين
ولا يؤخذ فيه الكفالة
ولا يثبت بشهادة النساء مع الرجال ولا بالشهادة على الشهادة
وعند محمد يؤخذ فيه الكفيل وتقبل فيه الشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال وروي عنه أنها تقبل في حق الحبس أياما ثم يخرج ولا تقبل في حق الضرب
كتاب السرقة
قال رحمه الله جمع في الكتاب بين السرقة وقطع الطريق وتفسير البغاة وأحكامهم
أما الأول فنقول يحتاج إلى تفسير السرقة الموجبة للقطع في الشرع وإلى بيان حكمها
أما الأول فهو أخذ مال الغير على سبيل الخفية مع شرائطها منها أن يكون السارق عاقلا بالغا
ومنها أن يكون المسروق مالا متقوما حتى لو سرق الخمر والخنزير وجلد الميتة فإنه لا قطع عليه
ولو سرق حرا صغيرا فمات في يده أو مرض فلا شيء عليه ولو أصابته آفة من الوقوع في البئر أو افتراس السبع يضمن لأنه تضييع له
ومنها أن يكون المال المسروق مقدرا عندنا بعشرة دراهم
وعند مالك بثلاثين درهما
وعند الشافعي بربع دينار
وتكلم العلماء في صفة الدراهم العشرة ذكر أبو الحسن الكرخي أنه يعتبر عشرة دراهم مضروبة
وكذا روي عن أبي يوسف و محمد أنه لا يقطع في عشرة دراهم تبرا ما لم تكن مضروبة
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا سرق عشرة مما يروج بين الناس قطع فهذا يدل على أن التبر إذا كان رائجا يقطع فيه
ويجب أن يكون وزن الدراهم العشرة وزن سبعة مثاقيل كما في نصاب الزكاة
ويجب أن يكون قيمة المسروق عشرة من وقت السرقة إلى وقت القطع ولا ينتقص من حيث السعر
وروي عن محمد أنه لا يعتبر نقصان السعر بعد الأخذ
ولو سرق في بلد وأخذ في بلد أخرى لا يقطع ما لم تكن القيمة في البلدين عشرة
فأما نقصان القيمة بانتقاص العين بعد الأخذ فلا عبرة به فيقطع لأنه لو هلك كله لقطع فكذا إذا انتقص
وهذا الذي ذكرنا شرط في سرقة عشر من حرز واحد فإن أخذ عشرة من حرز واحد يقطع سواء كانت العشرة لواحد أو لجماعة لأنها سرقة واحدة من حرز واحد
ولو أخرج عشرة لرجل بعضها من دار وبعضها من دار أخرى لا يجب القطع لأنه سرقتان بلا نصاب
ولو أخرج من دار واحدة عشرة مرة خمسة ومرة خمسة لايقطع ما لم يوجد إخراج العشرة جملة مرة واحدة
ولو حمل اللصوص جملة متاعا من الحرز دفعة واحدة فإن بلغ قيمة المتاع مقدار ما تكون حصة كل واحد منهم نصابا كاملا يجب القطع وإلا فلا
ومنها أن يكون المال المسروق محفوظا محرزا على الكمال
وإنما يكون محرزا بأحد أمرين إما أن يكون في مكان معد للإحراز عادة كالدور والبيوت والحوانيت والصناديق
وإما أن يكون محرزا بالحافظ
وفي القسم الأول يكون المكان حرزا بنفسه سواء كان ثمة حافظ أو لا وذلك أن يكون في الأمصار والقرى والخيام والأخبية في المفاوز مع جماعة ممتنعة إلا إذا كان الباب مفتوحا في الليل والنهار وليس ثمة حافظ فهذا لا يكون حرزا في العادة
وأما القسم الثاني فأن لا يكون المكان حرزا بنفسه وإنما يكون حرزا بالحافظ وذلك نحو قارعة الطريق والمفازة والمساجد فإن كان ثمة حافظ قريب من المال يكون حرزا سواء كان نائما أو يقظانا
ولو كان العدل والجوالق على الدابة في حال السير فسرق رجل من العدل يقطع
ولو سرق والعدل نفسه والجوالق لا يقع لأن هذا غير محفوظ بالسائق
ولو دخل السارق الحرز وأخذ منه متاعا فقبل أن يخرجه علم به صاحب الحرز فأخذه لا يقطع لأنه لم يوجد منه الإخراج من الحرز
ولو أخذه السارق ورمى به إلى خارج الحرز فأخذه صاحبه ثم إن صاحب الحرز أخذ السارق من الحرز لا يقطع لأنه لم تثبت يده عليهعند الخروج لثبوت يد غيره
ولو رماه من الحرز ثم خرج وأخذه يجب القطع عندنا خلافا لزفر لأن هذا في حكم يده إذا لم يأخذه غيره
ولو أخذ المتاع من الحرز وناول صاحبا له خارج الحرز فلا قطع عليهما عند أبي حنيفة كيفما كان وقال محمد إن أخرج الداخل يده من الحرز ونال الخارج يقطع الداخل دون الخارج وإن أدخل الخارج يده في الحرز وأخذ فلا قطع عليهما
وقال أبو يوسف إذا أخرج الداخل يده لا قطع عليه لأن عنده دخول الحرز ليس بشرط إذا أمكن السارق أخذ المال المحرز
وعلى هذا إن السارق إذا نقب الجدار وأخد المال المحرز
وعلى هذا إن السارق إذا نقب الجدار وأدخل يده وأخذ متاعا يساوي عشرة دراهم لا قطع عليه عند أبي حنيفة و محمد
وقال أبو يوسف يقطع
وكذا لو دخل الحرز وجمع المتع عند النقب ثم خرج وأدخل يده وأخرج فهو على هذا الخلاف
وكذا لو دخلوا الحرز وحملوا الأمتعة على ظهر رجل منهم أو رجلين حتى أخرجا الأمتعة وخرج الباقون من غير حمل شيء القياس أن لا يقطع غير الحامل وفي الاستحسان يقطعون لأن السرقة من الجماعة هكذا تكون عادة
وكذا لو حملوا على دابة حتى خرجت بها من الحرز يجب القطع
وإن كان معهم صبي أو مجنون لا قطع على الكل عند أبي حنيفة و محمد وقال أبو يوسف إن باشرا الإخراج دون الكبار العاقلين لاقطع على الكل وإن باشر الإخراج غيرهما يجب القطع على الكبار
ومنها أن يكون المسروق أعيانا قابلة للإدخار والإمساك ولا يتسارع إليها الفساد حتى لو سرق ثمارا مجدودة محرزة في حظيرة عليها باب مغلق أو كان ثمة حافظ ولكن يتسارع إليها الفساد نحو العنب والتين والسفرجل والرطب والبقول لا يقطع
ولو كانت مما يبقى مثل الجوز واللوز والتمر اليابس والفواكه اليابسة يجب القطع
ولو كانت الثمرة الباقية على الشجر والحنطة في السنبلة لم تحصد في حائط موثق أو ثمة حافظ لا يجب القطع لأنه لم تستحكم ماليته بعد
وعلى هذا لو سرق اللحم الطري أو اليابس لا يجب القطع لأنه مما يتسارع إليه الفساد
وعلى هذا
النبيذ الحلال والعصير واللبن بخلاف الخل والدبس
ومنها أن لا يكون المسروق شيئا يوجد مباح الأصل كالطيور والخشب والقصب والنورة واللبن إلا إذا كان شيئا له خطر عند الناس كالذهب والفضة واللعل والفيروزج والساج والعاج ونحوها أو يحدث فيه صنع كالسرير ونحوه
ومنها أن لا يكون مأذونا بالدخول في الحرز أو فيه شبهة الإذن كالسرقة من ذوي الرحم المحرم
وكذلك عبد الرجل ومدبره ومكاتبه وخادمه وخادم امرأتهوأجيرهما وضيفهما ونحو ذلك
وكذلك لو سرق العبد من ابن مولاه وأبويه لأنه يدخل عليهم عادة
وإن سرق من غريمه فإن كان من جنس دينه وهو حال لا يقطع وإن كان الدين مؤجلا لا يقطع استحسانا
وإن كان المسروق أكثر من الدين وتلك الزيادة تكون نصبا فكذلك لأن حقه ثابت في الجملة شائعا
وإن كان من خلاف جنسه يقطع خلافا للشافعي
وبعض أصحابنا قالوا لا يقطع لاختلاف العلماء فيه من السلف
ومنها أن لا يكون المسروق شيئا له تأويل الأخذ أو الإتلاف كما إذا سرق مصحفا أو صليبا أو نردا أو شطرنجا من ذهب أو فضة
ومنها أن لا يكون النصاب تبعا لما لا يقطع بسرقته كما إذا سرق كلبا أو سنورا وفي عنقه طوق ذهب أو فضة أو مصحفا مرصعا بالذهب والياقوت أو سرق صبيا حرا عليه حلى أو ثياب ديباج لا يجب القطع
وكذلك لو سرق إناء فضة فيه طعام وأخرجه من الحرز كذلك لا يجب القطع
ولو صب الطعام وأخرج الإناء يقطع
ومنها شرط ظهور السرقة الموجبة للقطع عند القاضي وهو خصومة المسروق منه حتى لو شهدوا على السرقة من غير خصومة أو أقر السارق فإن القاضي لا يقطع
ولو جاء السارق ثانيا إلى المالك ورد إليه قبل المرافعة إلى الحاكم سقط الحد في المشهور عندنا
وأما إذا ردها بعد المرافعة وسماع البينة لا يسقط القطع سواءكان قبل القضاء أو بعده
وأما إذا وهبها من السارق أو ملكها السارق بوجه ما سقط القطع قبل القضاء وبعده عندنا خلافا للشافعي
ثم الشرط خصومة المسروق منه بأن كان صاحب ملك أو صاحب يد أمانة أو يد ضمان ويثبت السرقة في حق الاسترداد أما في حق القطع فعندنا كذلك وعند زفر لا يثبت
و الشافعي يقول لا يعتبر خصومة غير المالك أصلا
وأما السارق من السارق فإن خصومته لا تعتبر في حق القطع بالإجماع
وهل تعتبر في حق الاسترداد فيه روايتان
وإنما تعتبر الخصومة إذا لم يتقادم العهد
فأما إذا تقادم عهد السرقة فلا يسمع الخصومة كما في حد الزنا على ما ذكرنا
وأما قطاع الطريق والبغاة فنقول إن قطاع الطريق الذين لهم أحكام مخصوصة لهم شرائط أحدها أن يكون لهم منعة وشوكة بحيث لا تمكن للمارة المقاومة معهم وقطعوا الطريق عليهم سواء كان بالسلاح أو بالعصا الكبيرة والحجر وغيرها
والثاني أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عنه
فأما في المصر وقريبا منه أو بين مصرين فلا يكون قطع الطريق وهو قول أبي حنيفة و محمد وخلافا لأبي يوسف
والثالث أن يكون ذلك في دار الإسلام على أهل دار الإسلام
والرابع أن يوجد فيه جميع ما شرط في السرقة الصغرى حتى إن ما أخذوا لو قسم على القطاع فأصاب كل واحد منهم عشرة دراهميجب القطع وإلا فلا
ويشترط أن يكون القطاع كلهم أجانب في حق أصحاب الأموال وأن يكون كلهم من أهل وجوب القطع حتى إذا كان أحدهم ذا رحم محرم أو صبيا أو مجنونا لا يجب عليهم القطع عند أبي حنيفة و محمد خلافا لأبي يوسف
وإذا كان معهم امرأة ففيه روايتان والأصح أنه لا يقطع
والخامس أن يظفر بهم الإمام قبل التوبة ورد الأموال إلى أربابها
أما أحكامهم فنقول إن قطع الطريق على أربعة أنواع إن أخذوا المال لا غير تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا كانوا صحيحي الأطراف
وإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا
وإن أخذوا المال وقتلوا فالإمام بالخيار إن شاء قطع وقتل وإن شاء قتل لا غير ثم هو مخير بين أن يقتله صلبا وبين أن يقتله بلا صلب
ثم الكرخي يقول يصلب حيا ثم يقتل و الطحاوي يقول يصلب مقتولا
وإن خوفوا بقطع الطريق لا غير يحبسون ويعزرون حتى يتوبوا وهو تفسير النفي لقوله تعالى { أو ينفوا من الأرض }
ثم إذا أقيم الحدان القطع والقتل فلا شيء عليهم من ضمان ما هلك من الأموال وضمان الجراحات والقتل لأن الحد مع الضمان لا يجتمعان
وأما إذا فات شيء من الشرائط حتى لا يقام الحد عليهم فإنه يحكم القاضي بما هو حكم ذلك الفعل بدون قطع الطريق حتى إذا أخذوا المال لا غير يجب الرد أو الضمان فإن قتلوا لا غير يجب القصاص لا الحد حتى إذا قتلوا بالسلاح يقتلوا ولا يقتلوا إذا قتلوا بغير السلاح
ولا يقتل الردء والمعين
وإن خرجوا إن أمكن استيفاء القصاص يقتص منهم وإلا فيجب الضمان
وأما البغاة فقوم لهم شوكة ومنعة وخالفوا المسلمين في بعض الأحكام بالتأويل كالخوارج وغيرهم وظهروا على بلدة من البلاد وكانوا في عسكر وأجروا أحكامهم
فإذا قطعوا الطريق على أهل العدل من المسافرين فلا يجب عليهم الحد لأنهم يدعون إباحة أموالهم عن تأويل ولهم منعة
ولو جاء رجل من أهل البغي تائبا وأتى بسارق قد سرق ماله من أهل البغي لا يقطعه الإمام العدل
ولو كان رجل منهم في دار أهل العدل فسرق مال أهل العدل يقطع وإن استحله لأنه لا منعة له والله تعالى أعلم
كتاب الهبة
يحتاج إلى بيان مشروعية عقد الهبة
وإلى بيان ركنه وإلى بيان شرائط صحته وإلى بيان حكمه
أما الأول فنقول الهبة عقد مشروع مندوب إليه بالكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فقوله تعالى { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا }
وأما السنة فقوله عليه السلام تحابوا وقال عليه السلام العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه
وعليه الإجماع
وأما ركن الهبة فهو الإيجاب والقبول فالإيجاب قوله وهبت هذا الشيء منك أو جعلته لك أو هذا لك أو نحلته لك أو قال جعلت هذه الدار لك عمري أو عمرك أو حياتي أو حياتك فإذا مت فهو رد علي فهذا كله هبة وهي له حياته وموته والشرط الذي شرطه باطل على ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال امسكوا عليكم أموالكم لا تعمروها فإن من أعمر شيئا كان لمن أعمره
ولو قال هذه الدار لك رقبي أو حبيسة ودفعها إليه فهي عارية في يده ويأخذها منه متى شاء وقال أبو يوسف إذا قبضها فهي هبة وقوله رقبي وحبيسة باطل
ولو قال هذه الدار لك سكنى أو هذه الشاة أو هذه الأرض لك منحة فهي عارية في قولهم جميعا لأن المنحة عبارة عن بذل المنافع فإذا أضاف إلى عين ينتفع بها مع قيامها عمل بحقيقته فأما إذا أضاف إلى شيء لا ينتفع به إلا باستهلاكه كما إذا منحه طعاما أو لبنا أو دراهم أو دنانير فإنه يكون هبة لأنه لا منفعة له مع قيام عينه
وعلى هذا قالوا إن عارية الأعيان تمليك المنافع وعارية المكيل والموزون قرض ويكون تمليك العين
وكذا لو قال هذه الدار لك سكنى عمري أو عمري سكنى فهي عارية
وكذا إذا قال هبة سكنى أو سكنى هبة فهي عارية
وإن قال هذه الدار لك عمري تسكنها أو صدقة تسكنها فهي هبة وصدقة وقوله تسكنها أو تؤاجرها أو تعيرها يكون مشورة فيكون شرطا فاسدا والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة
كذا لو قال هي لك هبة تسكنها فهي هبة جائزة لما ذكرنا
ولو وهب الرجل أمة على أن لا يبيعها فالهبة جائزة والشرط باطل عند أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف أيضا
وكذا لو شرط أن يتخذها أم ولد أو أن يبيعها من فلان أو يردها عليه بعد شهر كانت الهبة جائزة والشرط باطل وكان ينبغي أن لا يكون الشرط الفاسد مفسدا للعقد وإنما جاء الفساد لأجل النهي والنهي ورد في البيع وما ورد في غيره فبقي غيره على الأصل إلا إذا كان في معناه وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر
أما شرائط الصحة فمنها القبض حتى لا يثبت الملك للموهوب له قبل القبض وهذا عندنا
وقال مالك القبض ليس بشرط
وأصله ما روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قالوا لا تجوز الهبة إلا مقبوضة محوزة
ومنها أن تكون الهبة مقسومة إذا كان يحتمل القسمة وتجوز إذا كان مشاعا لا يحتمل القسمة سواء كانت الهبة للشريك أو غيره
وقال الشافعي هبة المشاع جائزة
وكذلك الخلاف في التصدق بالمشاع
وأصله ما روينا عن الصحابة أنهم قالوا لا تجوز الهبة إلا مقبوضة محوزة والحيازة يراد بها القسمة هاهنا بالإجماع
ومنها أن تكون الهبة متميزة عن غير الموهوب وغير متصلة به ولا مشغولة بغير الموهوب حتى لو وهب أرضا فيها زرع للواهب دون الزرع أو نخلا فيها ثمرة للواهب معلقة به دون الثمرة لا يجوز وكذلك لو وهب ثمرة النخل دون النخل أو الزرع دون الأرض وقبض النخيل والثمرة والأرض والزرع لا يجوز
وكذا لو وهب دارا فيها متاع للواهب أو ظرفا فيه متاع للواهب دون المتاع أو وهب دابة عليها حمل للواهب دون الحمل وقبضها فإنه لا يجوز ولا يزول الملك عن الواهب إلى الموهوب له لأن الموهوب غير متميز عما ليس بموهوب فيكون بمنزلة هبة المشاع
ولو قسم المشاع وسلم ما وهب جاز
وكذا في هذه الفصول إذا سلم الدار فارغة عن المتاع
وكذا إذا حصد الزرع وجز الثمر ثم سلم النخل والأرض جاز لأن الملك يثبت عند القبض فيعتبر حالة القبض وتكون الهبة موقوفة في حق ثبوت الملك إلى وقت الإفراز وفي كون الهبة في الحال فاسدة أو لا خلاف بين المشايخ ولكن لا خلاف أنه إذا وجد التسليم بعد القسمة والإفراز جاز
ولو وهب دارا من رجلين أو كرا من طعام أو ألف درهم أو شيئا مما يقسم فإنه لا يجوز عند أبي جنيفة وعندهما جائز
والحاصل أن عند أبي حنيفة الشيوع متى حصل عند القبض فإنه يمنع صحة الهبة وإن حصل القبض في غير مشاع جاز فجوز هبة الاثنين من الواحد ولم يجوز هبة الواحد من الاثنين
واعتبر أو يوسفومحمد في فساد العقد حصول الشيوع في الطرفين جميعا فجوزا هبة الواحد من اثنين وهبة الاثنين من الواحد
ولو وهب عبدا من رجلين أو شيئا مما لا يقسم جاز بالإجماع لأنه لا عبرة للشيوع فيما لا يحتمل القسمة في باب الهبة
ولو وهب رجل لرجلين وقال وهبت لكما هذه الدار لهذا نصفها ولهذا نصفها فهو على الخلاف الذي ذكرناه
ولو قال وهبت لك نصفها ولهذا نصفها لم يجز بالإجماع لأن العقد وقع في المشاع في كل نصف
ولو قال وهبت لكما هذا الدار لهذا ثلثها ولهذا ثلثاها جاز عند محمد وعند أبي حنيفة و أبي يوسف لا يجوز فهما مرا على أصلهما و أبو يوسف فرق عند مخالفة النصيبين كما لو رهن عينا واحدة من اثنين لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان فكذلك هذا
ثم إن عند أبي حنيفة إذا قسم وسلم إلى كل واحد منهما حصته مفرزة جاز لما قلنا
ولو تصدق بعشرة دراهم على مسكينين جاز ولو تصدق على غنيين لم يجز عند أبي حنيفة كالهبة من اثنين لأن الصدقة تقع من المتصدق لله تعالى لا للفقير فلا يتحقق الشيوع والصدقة من الغنيين هبة فلم تجز وقيل على قوله تجوز الصدقة من الغنيين لأنه يحل لهما صدقة التطوع
ولو وهب رجل لرجل ما في بطن جاريته أو غنمه أو ما في ضروعها أو وهب له سمنا في لبن أو زبدا قبل أن يمخض
أو دهنا في سمسم قبل أن يعصر أو زيتا في زيتون أو دقيقا في حنطة وسلطه على قبضه عند الولادة وعند استخراج ذلك فإنه لا يجوز لأن بعض هذهالأشياء معدوم عند العقد أو معجوز التسليم لمعنى في المحل أو مجهول حتى لا يكون محلا للبيع وإذا كان هكذا فيكون فاسدا لا موقوفا بخلاف ما ذكرنا من هبة المشاع والموهوب المتصل بغيره حيث يجوز إذا سلم بعد الإفراز والفصل لأن المشاع قابل لحكمه لكن المانع هو العجز عن التسليم لمعنى في غيره فإذا زال المانع فينقلب جائزا
ولو وهب جارية أو حيوانا واستثنى الحمل جازت الهبة في الأم والحمل جميعا وبطل الاستثناء
وجملة هذا أن العقود على ثلاثة أضرب أحدها إذا عقد على الأم دون الحمل فسد العقد وبطل الاستثناء وهو كالبيع والإجازة والرهن لأن الحمل تبع للأم في هذه العقود فكان موجبه ثبوت الحكم في الكل فإذا استثنى الحمل فقد نفى بعض موجب العقد ففسد العقد
والثاني أن يصح فيه العقد ويبطل الاستثناء وذلك مثل النكاح والخلع والصلح عن دم العمد والهبة لأن موجبه أن يثبت الحكم في الكل
وقد نفى بعض الموجب بالاستثناء فيكون شرطا فاسدا والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة
الثالث يجوز العقد والاستثناء وهو الوصية إذا أوصى بجارية إلا حملها صحت الوصية في الجارية وبقي الحمل للورثة لأن الحمل أصل في حق هذا التصرف حتى تجوز الوصية بالحمل فجاز الاستثناء
ولو أعتق ما في بطن جاريته ثم وهبها جازت الهبة في الأم
ولو دبر ما في بطن جاريته ثم وهبها لم يجز فمن أصحابنا منقال في المسألة روايتان ومنهم من فرق بين التدبير والإعتاق
ولو وهب عبدا أو ثوبا أو عينا من الأعيان مفرزا مقسوما ولم يأذن له في قبضه فقبضه الموهوب له فإن كان بحضرة الواهب يجوز استحسانا والقياس أن لا يجوز ذكرنا في الزيادات
وإذا قام من المجلس ثم قبض لا يصح لأن القبض في الهبة بمنزلة القبول في حق إثبات الحكم وذلك يصح في المجلس لا بعده كذلك هذا
ولو وهب دينا له على رجل لرجل وأذن له بقبضه ممن عليه جازت الهبة إذا قبض ذلك استحسانا والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر ولو لم يأذن له في قبض الدين لم تجز الهبة وإن قبضه الموهوب له بحضرة الواهب
ولو وهب العارية أو الوديعة وكل أمانة في يد إنسان من صاحب اليد فإنه يجوز ويثبت الملك للموهوب له وينوب قبض الأمانة عن قبض الهبة وهذا استحسان والقياس أن لا يكون قابضا حتى يتمكن من قبضه بالخلية ووجه الاستحسان أن الهبة تبرع وقبض الأمانة ينوب عنه بخلاف ما إذا باع من المودع لأن البيع عقد ضمان وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الضمان
ولو كانت العين مضمونة في يد إنسان بالمثل أو بالقيمة كما في الغصب والمقبوض على سوم الشراء فوهبها من صاحب اليد تصح الهبة ويبرأ عن الضمان فيكون قبضا غير مضمون
ولو كانت مضمونة بغيرها كالرهن والمبيع فوهبها المالك لمن هي في يده فإنه لا يكون قابضا بذلك ما لم يقبضها قبضا مستأنفا بعد عقد الهبة لأنها إذا كانت مضمونة بغيرها لم تصح البراءة عنها بالهبة فلا يصير قبض أمانة ولا بد من تجانس القبضين حتى يتساويا
ثم إذا صحت الهبة عند وجود شرائطها واحتجنا إلى بيان الحكم فنقول حكم الهبة ثبوت الملك للموهوب له غير لازم حتى يصح الرجوع والفسخ عندنا
وعند الشافعي يقع الملك لازما إلا في هبة الولد لولده
لكن يكره الرجوع في الهبة لأن من باب الدناءة
وللموهوب له أن يمتنع عن الرد
ولا يصح الرجوع إلا بتراض أو بقضاء القاضي لأنه فسخ بعد تمام العقد فصار كالفسخ بسبب العيب بعد القبض
وإنما يمتنع الرجوع بأسباب منها العوض للحديث الواهب أحق بهبته ما لم يثبت منها أي يعوض
ولكن العوض نوعان عوض مشروط في العقد وعوض متأخر عن العقد
أما المشروط في العقد بأن قال وهبت لك هذا العبد على أن تعوضني هذا الثوب فحكمه أن لكل واحد أن يرجع في السلعتين جميعا ما لم يتقابضا
وإن قبض أحدهما دون الآخر كان للقابض وغير القابض الرجوع
فإذا تقابضا جميعا انقطع الرجوع وصار بمنزلة البيع وإن كان عقده عقد هبة حتى يرد كل واحد منهما بالعيب ويرجع في الاستحقاق وتثبت الشفعة وهذا عندنا وعند زفر عقده عقد بيع حتى يشترط القبض عندنا لثبوت الملك في هذه الهبة ولا يصح في الشيوع وعنده بخلافه
فأما العوض المتأخر عن العقد فهو لإسقاط الرجوع فلا يصير في معنى المعاوضة لا ابتداء ولا انتهاء وإنما يكون المال الثاني عوضا عن الأول بالإضافة إليه نصا بأن أعطى للواهب شيئا وقال هذا عوض عن هبتك أو قد نحلتك هذا عن هبتك أو كافأتك أو جازيتك أو أثبتك أو قال هذا بدل هبتك أو مكان هبتك أو قد تصدقت بهذا عليك بدلا من هبتك فإن هذا عوض في هذه الوجوه إذا وجد قبض العوض ويكون العوض هبة تصح بما تصح به الهبة وتبطل بما تبطل به الهبة
فأما إذا لم يضف العوض إلى الهبة الأولى فإنها تكون هبة مبتدأة ويثبت حق الرجوع في الهبتين جميعا
ومنها العوض من حيث المعنى وهو ليس بعوض مالي كالثواب في الصدقة فإنه يكون عوضا مانعا من الرجوع وكصلة الرحم المحرم وصلة الزوجية حتى لا يصح الرجوع في هبة ذوي الأرحام المحارم وهبة الزوجين لأنه قد حصل العوض معنى
ومنها إذا زادت في الهبة زيادة متصلة بفعل الموهوب له أو بفعل غيره بأن كانت جارية مهزولة فسمنت أو كانت دارا فبنى الموهوب له فيها بناء أو كانت أرضا فغرس فيها أشجارا أو نصب فيها دولابا وهو مثبت في الأرض مبني فيها أو كان ثوبا فصبغه بعصفر أو قطعه قميصا وخاطه لأن الموهوب اختلط بغيره والرجوع لا يمكن في غير الموهوب فامتنع أصلا
أما الزيادة المنفصلة كالأرش والولد والعقر فلا تمنع الرجوع لأنه يمكن الفسخ في الأم والأصل دونها بخلاف زوائد المبيع لأن ثم يؤدي إلى الربا لأنها عقد معوضة بخلاف الهبة
وأما نقصان الموهوب فلا يمنع الرجوع لأنه فات بعضه ولو كان الكل قائما فرجع في البعض دون البعض جاز فكذا هذا
ومنها خروج الموهوب عن ملك الموهوب له بأن باع أو وهب لأن اختلاف الملكين كاختلاف العينين
وكذا إذا مات الموهوب له لأن الملك ينتقل إلى ورثته
وكذا إذا مات الواهب لأنه ينتقل إلى ورثته
وكذا لو هلك الموهوب لأنه زال الملك فلا يحتمل الفسخ
ثم الرجوع في الهبة بغير القضاء فسخ عندنا حتى يجوز في المشاع ولا يشترط القبض خلافا لزفر والمسألة معروفة
ولو وهب رجل لابنه الصغير شيئا صحت الهبة لأن قبض الأب كقبضه وكذا قبض جده بعده وقبض وصي الأب والجد بعدهما حتى لو وهب هؤلاء من الصغير والمال في أيديهم صحت الهبة ويصيرون قابضين للصغير وعلى هذا قالوا إذا باع الأب ماله من ابنه الصغير ثم هلك المبيع عقيب البيع كان الهلاك على الصغير لأنه صار قابضا بقبض الأب
وكذلك لو وهب أجنبي للصغير شيئا فقبض ذلك أحد هؤلاء الأربعة لأن لهم ولاية التصرف في ماله
ومن غاب منهم غيبة منقطعة فالولاية تنتقل إلى الأبعد كما في ولاية النكاح
ولا يجوز قبض غير هؤلاء عنه أجنبيا كان أو ذا رحم منه لأنه لا ولاية لهم عليه إلا إذا كان الصغير في حجره وعياله فيكون قبضه للهبة بمنزلة إيصال النفع إليه ويكون من باب الحفظ
ولو قبض الصغير العاقل ما وهب له واحد من هؤلاء الأربعة جاز قبضه استحسانا والقياس أن لا يجوز لأن هذا من باب النفع وقبض هؤلاء عليه أيضا وإن كان عاقلا لأن النظر الكامل في هذا أن يملك كل واحد منهما ذلك
ولو وهب الأب مال الصغير لا يجوز لأنه تبرع ولو وهب بشرط العوض وقبل الآخر العوض لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة و أبي يوسف وقال محمد يجوز ف أبو حنيفة اعتبر نفس الهبة وهي من باب التبرع ولا يملك الأب ذلك و محمد يقول هذا بمعنى البيع
وعلى هذا الخلاف المأذون والمكاتب إذا وهبا بشرط العوض لم يجز عندهما خلافا له
ولو وهب رجل لعبد رجل فإن القبول والقبض إلى العبد دون مولاه ويكون الملك لمولى بحكم أنه كسب عبده لأن الغرض هو وجه العبد فيكون هبة له ولا يجوز قبض المولى وقبوله عنه سواء كان على العبد دين أو لم يكن لأنه هبة للعبد
وكذلك الجواب في المكاتب أن قبول الهبة وقبضها إليه دون مولاه لأنه أحق بكسبه
ويكون للواهب الرجوع إذا كان العبد أجنبيا في حقه وإن كان انتقل الملك إلى مولاه لأن ملك العبد غير مستقر فيه فكأن الملك وقع للمولى ابتداء
وكذلك في المكاتب إن عتق فظاهر لأنه استقر ملكه وإن عجز وصار كسبه للمولى فله حق الرجوع في قول أبي يوسف ولم يجز الرجوع في قول محمد بناء على أن عند أبي يوسف كأن الملك وقع للمولى من الابتداء وعند محمد كأنه ثبت من وقت العجز
ولو وهب الرجل لعبد رجل هبة والواهب ذو رحم محرم من العبد دون المولى فإنه يرجع بالاتفاق
وأما إذا كان المولى ذا رحم محرم من الواهب دون العبد فعند أبي حنيفة يرجع أيضا وعندهما لا يرجع وهذا بناء على أن الملك في الهبة يقع للمولى فيكون هبة من المولى عندهما وإن كان ذا رحم محرم لا يرجع وإن كان أجنبيا يرجع ولا عبرة لجانب العبد وعند أبي حنيفة هذا هبة للمولى من وجه وللعبد من وجه فلا تكون صلة كاملة في حق كل واحد على الانفراد والصلة الكاملة مانعة للرجوع فلا تتعدى إلى الصلة من وجه
فأما إذا كانا جميعا ذوي رحم محرم من الواهب ذكر أبو الحسن الكرخي عن محمد أن قياس قول أبي حنيفة أن يرجع لأنه لم يكن لكل واحد منهما صلة كاملة
وقال أبو جعفر الهندواني ليس له أن يرجع في قولهم جميعا لأن الهبة لأيهما كانت تمنع الرجوع
وعلى هذا التفريع لو وهب للمكاتب وهو ذو رحم محرم من الواهب أو مولاه ذو رحم محرم من الواهب فإن أدى المكاتب اعتبر حاله لأنه استقر ملكه بالعتق
فإن عجز ففي قياس قول أبي حنيفة يعتبر حال المولى كأن الهبة وقعت له من الابتداء
وعند محمد لا يرجع لأن الكسب كان للمكاتب وعند العجز ينتقل إلى المولى
ولو وهب الرجل أولاده فسلم إلى الكبار حصتهم وقبض هو حصة الصغار جاز لما قلنا
ولكن ينبغي أن يسوي بين أولاده في الهبة في قول أبي يوسف وفي قول محمد يجزيه إن أعطاهم على قدر مواريثهم والله أعلم بالصواب
كتاب الوديعة
اعلم أن عقد الوديعة مشروع ومندوب إليه لأن فيه إعانة لصاحبها لحفظ ماله والله تعالى يقول { وتعاونوا على البر والتقوى }
ثم عقد الوديعة استحفاظ من المودع وائتمان له فتكون الوديعة أمانة في يد المودع لوجود الائتمان من المودع يلزمه حفظها إذا قبل الوديعة لأنه التزم الحفظ فيجب عليه أن يحفظ على الوجه الذي يحفظ ماله بحرزه وبيده وبيد من كان ماله في يده نعني بحرزه الذي هو ملكه أو يستأجره أو يستعيره وليس الشرط أن يحفظه في الحرز الذي يحفظ فيه ماله ونعني بيد من كان ماله في يده كل من كان في عياله حتى المتسأجر الذي استأجره مشاهرة بنفقته وكسوته دون الذي استأجره بالدراهم أو المستأجر مياومة ويدخل فيه العبد المأذون الذي في يده ماله وشريك المفاوضة والعنان وإن لم يكونوا في عياله
ثم إذا أخرجه من يده ودفعه إلى غيره وديعة يصير ضامنا لأنه رضي بحفظه دون حفظ غيره من غير ضرورة حتى إذا وقع الحريق ونحوه في داره فأودع غيره لا يضمن
وأما مودع المودع هل يضمن لو هلكت الوديعة فعند أبي حنيفةلا يضمن وعند أبي يوسف و محمد يضمن و المالك بالخيار إن شاء ضمن المودع الأول وإن شاء ضمن الثاني فإن ضمن الأول لا يرجع على الثاني وإن ضمن الثاني يرجع على الأول
ولو استهلك الثاني الوديعة فلصاحب الوديعة الخيار في تضمينها فإن ضمن الأول يرجع الأول على الثاني لأنه يصير ملكا له بالضمان فكأنه أودع ماله عنده وإن ضمن الثاني لا يرجع على الأول والمسألة معروفة
فإن استرد المودع الأول من الثاني وحفظه بنفسه يبرأ عن الضمان عندنا خلافا للشافعي
وعلى هذا إذا استعمل الوديعة بأن ركب الدابة ولبس الثوب ثم نزل ونزع يعود أمينا عندنا خلافا للشافعي والمسألة معروفة
وفي المستأجر والمستعير إذا خالفا ثم تركا الخلاف بقي الضمان وعند بعضهم هذا بمنزلة المودع
ولو سافر بالوديعة لا يضمن عند أبي حنيفة ولو أودع إنسانا ضمن وعندهما يضمن والمسألة معروفة
ولو رد الوديعة إلى بيت المودع من غير حضرة المودع يضمن
وكذا إذا رد إلى يد من في عيال المالك لأنه لم يرض بيدهم حيث أودع وفي الإجارة والعارية لا يضمن لعادة الناس حتى إن العارية إذا كانت شيئا نفيسا قالوا يضمن وقيل أيضا في الثياب كذلك وإنما العادة في بعض آلات البيت
ولو بعث الوديعة مع من كان في عياله لا يضمن
ولو قال له احفظ في هذه الدار ولا تحفظ في هذا البيت وإنه مثل غيره في الحرز فلو حفظ في غيره لا يضمن بخلاف الدارين
ولو قال احفظ في هذا المصر ولا يخرج يجب عليه الحفظ في ذلك المصر إلا إذا كان ثمة عذر ظاهر بأن قصد السلطان أخذه فأخرجه مع نفسه
ولو قال المودع هلكت الوديعة عندي أو رددتها إليك وأنكر المودع وقال لا بل أتلفتها فالقول قول المودع لأنه أمين في ذلك ولكن مع اليمين لأنه لو أقر بذلك يلزمه فإن أقام المودع البينة على الإتلاف يضمن المودع وكذا إذا حلف المودع على الإتلاف فنكل
فلو أقام المودع البينة على أنه أتلفها المودع وأقام المودع البينة على أنها هلكت فبينة المودع أولى لأنها أكثر إثباتا
ولو أقام على إقرار المودع أنها هلكت يقبل ويكون إكذابا لبينته
ولو طلب المودع يمين المودع بالله ما يعلم أنها هلكت فالقاضي يحلفه فإن حلف يقضي بالضمان وإن نكل يقضي بالبراءة
وعلى هذا إذا جحد الوديعة فالقول قوله
ولو أقام المودع البينة على الوديعة يضمن المودع فإن أقر بالوديعة وأقام المودع البينة على أنها هلكت قبل جحوده الوديعة لا يقبل لأنه بالجحود أكذب بينته وإن أقام على إقرار المودع بذلك يقبل
ولو طلب من القاضي أن يحلف المودع بالله ما يعلم أن الوديعة هلكت قبل جحوده إياها يحلفه فإن حلف يقضي بالضمان وإن نكل يقضي بالبراءة
ولو أودع رجلان عند رجل وديعة وغابا ثم حضر أحدهما فليس له أن يدفع إليه حصته
ما لم يجتمعا وإن طلب منه عند أبيحنيفة وقال أبو يوسف و محمد له أن يقسم ويدفع إليه حصته ولا تصح القسمة في حق الغائب حتى لو هلك النصف الباقي في يده يكون للغائب في أن يأخذ المودع نصفه الآخر
ولو أودع رجل عند رجلين وديعة مما يقسم فلهما أن يقسماه ويأخذ كل واحد نصفه للحفظ لأنه رضي بحفظهما وأمكن من هذا الوجه
ولو دفع أحدهما إلى صاحبه ضمن النصف عند أبي حنيفة لأنه رضي بحفظهما لا بحفظ أحدهما وعندهما لا يضمن
وأجمعوا أنها إذا كانت لا تقسم لا يضمن لأنه لا يمكن حفظهما في مكان واحد فكان راضيا بحفظ أحدهما
وعلى هذا الخلاف في المرتهنين والوكيلين بالقبض
ولو خلط الودية بمال نفسه إن كان يمكن التمييز لا شيء عليه ويميز وإن كان لا يمكن التمييز يضمن الحافظ عند أبي حنيفة مثله لصاحبه
وكذلك إذا كانت وديعتان فخلط إحداهما بالأخرى يضمن مثل ذلك لصاحبهما وإذا أدى الضمان حل له ذلك وعندهما في الدراهم والدنانير إن شاء المالك ضمنه مثله وإن شاء أخذ نصف المخلوط
وكذا في الوديعتين وفي سائر المكيلات والموزونات إن شاء ضمنه كل واحد مثل حقه وإن شاء باعا المخلوط وقبضا الثمن ويأخذ صاحب الحنطة ثمن الحنطة غير مخلوط بالشعير ويأخذ صاحب الشعير ثمن الشعير غير مخلوط بالحنطة
ولو مات المودع ولم يبين الوديعة فإن كانت معروفة وهيقائمة ترد إلى صاحبها
وإن لم تعرف يضمن ويكون صاحبها شريكا للغرماء والله تعالى أعلم
كتاب العارية
أعلم أن إطلاق اسم العارية في العرف بطريقتين بطريق الحقيقة وبطريق المجاز
أما بطريق الحقيقة فهو إعارة الأعيان التي ينتفع بها مع قيامها كالدور والعبيد والدواب ونحوها وهو تمليك منافع الأعيان عند عامة المشايخ
وقال الكرخي إنه عقد إباحة فإنه ليس للمستعير أن يؤاجر ولو كان تمليكا لملك الإجارة كالمستأجر يملك أن يؤاجر
لكن هذا ليس بصحيح فإنه يملك أن يعير ولو كان إباحة لكان لا يملك كالمباح له الطعام لا يملك الدفع إلى غيره إلا أنه لا يملك الإجارة لأنه عقد لازم والعارية تبرع فكيف يملك به ما هو لازم فيؤدي إلى تغيير المشروع ثم العارية أمانة عندنا وعند الشافعي مضمونة وهي مسألة معروفة
ولو شرط الضمان في العارية هل يصح المشايخ مختلفون فيه وأما بطريق المجاز فهو إعارة المكيل والموزون وكل ما لا يمكن الانتفاع به إلاباستهلاكه فهو قرض حقيقة ولكن يسمى عارية مجازا لأنه لما رضي بالانتفاع به باستهلاكه ببدل كان تمليكا له ببدل وهو تفسير القرض ولا يلزم الأجل فيه كما في العارية
ثم العارية قد تكون مطلقة وقد تكون مقيدة فالمطلقة
أن يستعير شيئا ولم يبين أنه يستعمله بنفسه أو بغيره ولم يبين كيفية الاستعمال
وحكمها أنه ينزل منزلة المالك فكل ما ينتفع به المالك ينتفع به المستعير من الركوب والحمل وله أن يركب غيره ولكن يحمل بقدر المعتاد لا زيادة عليه لأن الزيادة تكون إتلافا
فأما إذا بين أنه يستعمل بنفسه فهذا على وجهين إن كان مما يتفاوت الناس في استعماله كالركوب واللبس فإنه يختص به ولا يجوز له أن يركب غيره وأن يلبس غيره
وإن كان شيئا لا يتفاوت كسكنى الدار فله أن يعير غيره
وكذا إذا سمي وقتا أو مكانا فجاوز ذلك المكان أو زاد على الوقت يضمن لأن التخصيص مفيد
فأما إذا بين مقدار الحمل والجنس فإن حمله عليه أو زاد يضمن بقدر الزيادة
ولو حمل عليه شيئا بخلاف جنسه فإن كان مثله في الخفة أو أخف منه لا يضمن وإن كان أثقل منه يضمن إلا إذا كان شيئا فيه زيادة ضرر بالدابة فيضمن وإن كان مثله في الوزن والثقل بأن استعار دابة ليحمل عليها مائة من من القطن فحمل عليها مائة من من الحديد فإنه يضمن لأن ثقل الحديد يكون في موضع واحد وثقلالقطن يتفرق على جميع ظهرها وبدنها
وإن كان أثقل منه فإن كان من الجنس المذكور يضمن بقدر الزيادة وإن كان من خلاف الجنس يضمن كل القيمة
وليس للمستعير أن يؤاجر لما ذكرنا فإن فعل فهو ضامن من حين سلمه إلى المستأجر ويكون المعير بالخيار إن شاء ضمن المستعير وإن شاء ضمن المستأجر لوجود التعدي منهما فإن ضمن المستعير لم يرجع على المستأجر لأنه ملك العين بالضمان فكأنه آجر ملك نفسه فهلك وإن ضمن المستأجر فإن كان لا يعلم أنه عارية يرجع على المستعير لأنه ضمن الدرك بإيجاب عقد فيه بدل فيكون غرور فأما إذا كان يعلم فلا يرجع لأنه لا غرور فيه والرجوع بحكم الغرور
ولو استعار أرضا على أن يبني فيها بناء أو يغرس فيها غرسا فإما إن كان مطلقا أو مؤقتا إلى عشر سنين ونحوه
فإن كان مطلقا فبنى فيها أو غرس فلصاحب الأرض أن يستردها في أي وقت شاء لأن العارية غير لازمة وعلى المستعير أن يأخذ غرسه وبناءه لأنه شغل أرض غيره ولم يرض صاحبه بذلك وليس للمستعير أن يضمن المعير قيمة غرسه وبنائه ويترك ذلك عليه لأنه لم يوجد منه الغرور لأن العارية تسترد على كل حال
وعلى قول مالك له أن يرجع عليه
وإن كان مؤقتا فله أن يسترد أيضا لكن المستعير بالخيار إن شاء ضمن المعير قيمة غرسه وبنائه ويترك ذلك عليه لأنه غره حيث وقت وقتا طويلا ثم استرد قبل مضيه وإن شاء أخذ غرسه وبناءه إن لم يضرالقلع بأرض المعير فأما إذا كان يضر به فالخيار للمعير إن شاء أخذ الغرس والبناء بالضمان وإن شاء رضي الله بالقطع فأما إذا أعار الأرض ليزرع فزرع ثم أراد أن يسترد والزرع غير مدرك فليس له ذلك وتبقى الأرض في يده بطريق الإجارة إلى أن يأخذ الغلة لأن هذه مدة يسيرة معلومة فيه وفيه نظر من الجانبين بخلاف الغرس والبناء فإنه لو انقلبت إجارة يتضرر به المعير لطول المدة
وإن اختلف المعير والمستعير في عدد الأيام أو في مقدار الحمل أو في المكان فالقول قول المعير لأن المستعير قابض لنفسه فيكون سقوط الضمان بناء على الإذن له
كتاب الدعوى والبينات
الدعوى نوعان صحيحة وفاسدة
أما الصحيحة فأن يوجد فيها شرائط الصحة بأن يدعى على خصم حاضر وأن يكون المدعى به شيئا معلوما معينا وأن يتعلق به حكم على المطلوب منه
والفاسدة أن لا يكون الخصم حاضرا وأن يكون المدعى به مجهولا لأنه لا يمكن للشهود الشهادة ولا للقاضي القضاء به وأن لا تلزم المطلوب منه ذلك بأن ادعى أنه وكيل فلان
والقاضي لا يسمع دعواه إذا أنكر الآخر لأن يمكنه عزله للحال
ثم إنما يصير المدعى به معلوما إما بالإشارة إليه عند القاضي بأن كان منقولا في الدعوى وبالشهادة وإن لم يكن منقولا نحو العقار والرحى ونحوهما مما يمكن معرفته بالتحديد فإعلامه بذلك وهو في العقار
وما لا يمكن معرفته بالتحديد كحجر الرحى فينصب القاضي أمينا حتى يسمع الدعوى والبينة عند ذلك بالإشارة
ثم المدعي من يلتمس بدعواه إثبات ملك على غيره في العين أو في الدين أو يثبت حقا
والمدعى عليه من يدفع ذلك عن نفسه وينفيه
وقيل المدعى من إذا ترك الدعوى يترك والمدعي عليه من إذا ترك الدعوى لم يترك
وذكر محمد أن المدعى عليه وهو المنكر
إذا ثبت هذا فنقول إذا جاء المدعي إلى القاضي مع خصمه فالقاضي يسأله ماذا يدعي عليه فإذا ادعى المدعي دعوى صحيحة على خصم حاضر سأل المدعى عليه عن جواب المدعي وقال أجب خصمك بلا أو نعم وما ذكرنا استحسان والقياس ما ذكر في الزيادات أن المدعي إذا جاء إلى القاضي مع خصمه فإنه لا يسأل المدعي ماذا يدعي حتى يبدأ المدعي بدعواه ثم إذا ادعى دعوى صحيحة وسمعها لا يسأل المدعى عليه عن جواب ما لم يسأل المدعي منه أن يسأل المدعى عليه عن جوابه لأنه إنشاء الخصومة
لكن الصحيح هو الاستحسان لأن الخصمين ربما يعجزان عن ذلك لمهابة مجلس القاضي
فإذا سأل المدعى عليه عن الجواب فإذا أقر به أمره بتسليم المدعى به إلى المدعي وإن أنكر سأل المدعي عن البينة عند أبي حنيفة وعندهما يحلف المدعى عليه إذا طلب المدعي منه الحلف لأن عنده إذا قال المدعي لي بينة حاضرة في المصر فالقاضي لا يحلفه وعندهما يحلفه فلذلك يسأل
فإذا قال لا بينة لي أو ليس لي بينة حاضرة فإنه يحلف المدعى عليه إذا طلب المدعي اليمين لأن اليمين حقه فلا بد من طلبه
فإذا حلفه فإن حلف تنقطع الخصومة إلى وقت إقامة البينة وإن نكل يقضي عليه بالنكول عندنا في الأموال وعند الشافعي يرد اليمين إلى المدعي فإذا حلف يقضي له
وفي القصاص فيالطرف يقضي بالنكول أيضا عند أبي حنيفة وعندهما يقضي بالدية وأما في النفس فعندهما يقضي بالدية أيضا
وعنده لا يقضي بالقصاص ولا بالدية ولكن يحبس حتى يقر أو يحلف وكذا لا يقضي بالنكول في الأشياء السبعة عند أبي حنيفة وعندهما يقضي وأجمعوا أنه لا يقضي بالنكول في الحدود
وعلى هذا الاستحلاف عنده لا يستحلف في الأشياء السبعة وهي النكاح والرق والولاء والنسب والرجعة والفيء في الإيلاء والاستيلاد لأن الاستحلاف لأجل النكول وهو بذل وإباحة عند أبي حنيفة ولا يجري ذلك في هذه الأشياء
وعندهما هو بمعنى الإقرار الذي فيه شبهة وهذه الأشياء مما يثبت بدليل فيه شبهة وهذا مما يعرف في الخلافيات
ثم الدعوى إما أن تكون في ملك مطلق أو بسبب مع التاريخ أو بدون ولا يخلو إما إن كانت من الخارج على ذي اليد أو من الخارجين على ذي اليد أو من صاحبي اليد أحدهما على صاحبه
أما إذا كان الدعوى في ملك مطلق فنقول إن كانت من الخارج على ذي اليد بلا تاريخ فبينة الخارج أولى عندنا وعند الشافعي بينة اليد أولى وهي مسألة معروفة
وعلى هذا الخلاف إذا أرخا وتاريخهما سواء لأنه لم يثبت سبق أحدهما فبقيت دعوى ملك مطلق
فأما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق فهو أولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهو قول محمد أولا ثم رجع بعد رجوعه من الرقة وقال لا تقبل بينة ذي اليد على وقت ولا غيره إلا في التاج كذا ذكر ابن سماعة
وذكر محمد هذه المسألة في كتاب الدعوى وقال عند أبيحنيفة يقضي بها للخارج ثم رجع وقال يقضي بها لصاحب اليد وهو قول محمد أي قوله الأول لأن بينة صاحب اليد أثبتت أنه أول المالكين
وأما إذا وقت أحدهما
ولم يوقت الآخر فعند محمد لا عبرة لتاريخ صاحب اليد
فالخارج أولى
وعند أبي يوسف بينة صاحب الوقت أولى وعن أبي حنيفة روايتان في رواية مع محمد وفي رواية مع أبي يوسف
وأما إذا كانت الدعوى من الخارجين في ملك مطلق بلا تاريخ أو تاريخهما سواء والشيء في يد الثالث فهو بينهما نصفان عندنا
و للشافعي فيه قولان في قول تهاترت البينتان وتبقى في يد صاحب اليد قضاء ترك وفي رواية يقرع بينهما ويقضي للذي خرجت له القرعة والمسألة معروفة
وأما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق فهو أولى بالاتفاق لأن بينة الخارجين مسموعة فيترجح أحدهما بالتاريخ
وأما إذا وقت أحدهما دون الآخر فهما سواء عند أبي حنيفة ولا عبرة بالتاريخ لجواز أن يكون الآخر لو وقت كان تاريخه أسبق
وعند أبي يوسف صاحب الوقت أولى
وعند محمد الذي أطلق أولى لأن الملك المطلق ملك من الأصل حكما حتى يستحق الزوائد به
وأما إذا كان الشيء في أيديهما فأقام كل واحد منهما البينة أنه له فإنه يقضي لكل واحد منهما بنصف ما في يد صاحبه لأنه خارج في ذلك النصف
ولو أقام أحدهما البينة يقضي له بنصف ما في يد صاحبه وما في يده يترك في يده قضاء ترك
ولو لم يكن لهما بينة قضى بينهما نصفين قضاء ترك حتى لو أقام أحدهما البينة على صاحبه بعد ذلك تقبل
وكذا إذا أرخا وتاريخهما سواء
وأما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق فعند أبي حنيفة و أبي يوسف صاحب الوقت الأول أولى
وقال محمد لا يعتبر الوقت في حق صاحب اليد فكان بينهما
وأما إذا كان لأحدهما وقت دون الآخر فعند أبي حنيفة و محمد لا عبرة للوقت فيكون بينهما
وقال أبو يوسف هو لصاحب الوقت في حق صاحب اليد فكان بينهما
وأما إذا كان لأحدهما وقت دون الآخر فعند أبي حنيفة و محمد لا عبرة للوقت فيكون بينهما وقال أبو يوسف هو لصاحب الوقت
وأما إذا كان دعوى الملك بسبب فإن كان السبب هو الإرث فإن كان أحدهما خارجا والآخر صاحب اليد وأقام كل واحد منهما البينة أنه ملكه مات أبوه وتركه ميراثا له فهو للخارج في قول أصحابنا جميعا لأن كل واحد منهما يثبت الملك للميت مطلقا فصار كما لو حضر المالكان وادعيا ملكا مطلقا يكون للخارج كذا هذا
وكذا إذا أرخا وتاريخهما سواء أو ذكر أحدهما الوقت دون الآخر
وأما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق فهو لصاحب الوقت الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف
وفي قول محمد الآخر للخارج
وأما إذا كانا خارجين في دعوى الميراث على ثالث ووقت أحدهما أسبق فهو له في قول أبي حنيفة و أبي يوسف وعند محمدروايتان في ظاهر الرواية قال في الميراث ذلك كله سواء وهو بينهما نصفان
وفي نوادر هشام إن لم يؤرخا ملك الميتين فهو لصاحب التاريخ الأول
وكان أبو بكر الرازي يفرق لمحمد بين الميراث من اثنين وبين الشراء من اثنين قال في الميراث بينهما نصفان وفي شراء الخارجين من رجل واحد إنه لصاحب الوقت الأول لأن المشتري يثبت الملك لنفسه والوارث يثبت الملك للميت
لكن روي عن محمد في الإملاء في الخارجين إذا أقاما البينة على الشراء من واحد وأرخا أن التاريخ لا يقبل إلا أن يؤرخا ملك البائع وسوى بينه وبين الميراث
وأما إذا كان السبب هو الشراء بأن ادعى الخارج الشراء من صاحب اليد وهو منكر يقبل
ولو ادعى صاحب اليد الشراء من خارج يقبل أيضا لأنه يصح تلقي الملك من جهته
فأما إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من صاحبه من غير تاريخ فلا يقضي بالبينتين عند أبي حنيفة و أبي يوسف وترك المدعى به في يد صاحب اليد
وعند محمد يقضي بالبينتين جميعا لأنه يمكن تصحيحهما ويجعل كأن الخارج باع من صاحب اليد وسلم إليه ثم باع صاحب اليد منه ولم يسلم إليه فيؤمر بالتسليم إليه ولا يمكن على العكس لأن بيع العقار قبل القبض عنده لا يجوز
وأما إذا أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فإنه يقضي لآخرهما وقتا أيهما كان والبيع الثاني ينقض البيع الأول عندهما وقال محمد يقضيبها للخارج وفي المسألة تفصيل لم يذكره الكرخي
وأماإذا أقاما البينة على الشراء والقبض فعندهما تهاترت البينتان والمدعي لمن هو في يده وعند محمد يقضي بها للذي في يده والثمن بالثمن قصاصا كأن الخارج اشتراها من الداخل فقبضها ثم اشتراها الداخل منه وقبض لأن المذهب عنده أن القبض الموجود مهما أمكن أن يجعل قبض بيع يجعل حملا لأمر العاقل على الصحة
وأما الخارجان إذا ادعيا الشراء على صاحب اليد فإن كان واحدا وأقاما البينة على الشراء منه بثمن معلوم ولم يذكرا التاريخ ولا القبض فإنه يجعل بينهما نصفين عندنا
وعند الشافعي في قول تهاترت البينتان
وفي قول يقرع بينهما
فأما إذا أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فهو له
وكذا إذا وقت أحدهما دون الآخر فهو لصاحب الوقت لأنه ثبت سبق بيع أحدهما وبيع الآخر معنى حادث ولا يعلم تاريخه فيحكم به للحال
وأما إذا لم يكن لواحد منهما تاريخ ولكن له قبض بأن كان في يد أحدهما فهو أولى لأنه يحمل على قبض البيع والبيع الثاني حادث ولم يعرف تاريخهما فجعل كأن بيع صاحب القبض أسبق
فإن ذكر الآخر تاريخا ولأحدهما تاريخ وللآخر قبض لم يعتبر التاريخ إلا أن يشهدوا أن بيعه كان قبل بيع الذي الشيء في يده فيقضي له به ويرجع الآخر بالثمن على البائع
فأما إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من رجل غير الذي ادعىعليه صاحبه وأقاما البينة فهو بينهما نصفان لأن المشتريين قاما مقام البائعين كأنهما حضرا وأقاما البينة والمال بينهما نصفان
ولو أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يكون له عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وهذه رواية الأصول
وقد ذكرنا فرق أبي بكر الرازق ورواية الإملاء عن محمد في هذا الفصل فلا نعيده
ثم في هذه المسائل في الشراء يثبت الخيار لكل واحد من مدعي الشراء لأنه يدعي شراء الكل فلا يرضى بالنصف مع الشركة وهي عيب فإن اختار أخذ النصف يرجع على البائع بنصف الثمن لاستحقاق نصف المبيع وإن اختار الرد رجع بجميع الثمن لانفساخ البيع
وإن اختار أحدهما الرد والآخر الأخذ فإن كان قبل تخيير الحاكم لهما والحكم لهما نصفين فإنه يأخذ جميع المبيع بجميع الثمن لأنه استحقه بحكم العقد وإنما امتنع لأجل المزاحمة فإذا ترك الآخر الخصومة فله ذلك بحكم العقد
فأما إذا كان بعد حكم الحاكم بينهما فيأخذ النصف بنصف الثمن لأنه بحكمه ينفسخ العقد في النصف ولا يعود إلا بالتجديد
وأما دعوى النتاج فإن ادعى الخارج وذو اليد النتاج في دابة فهي لصاحب اليد لأنهما ادعيا أولية الملك فاستويا في الدعوى فيرجح باليد وفي عين هذه المسألة ورد حديث جابر عن النبي عليه السلام
وإن ادعى أحدهما النتاج فهو لصحب اليد أيهما كان لما ذكرنا
وإن كان خارجان ادعيا النتاج وهو في يد ثالث يدعي ملكا مطلقا فهي بين الخارجين نصفان لاستوائهما
ثم ظاهر مذهبنا أنه يقضي لصاحب اليد لا أن يترك في يده بلا قضاء
وروي عيسى بن أبان أنه تتهاتر البينتان ويترك في يده صاحب اليد قضاء ترك وهذا خلاف مذهبنا فإن الخارجين يقضي بينهما ولو كان ترك في يد صاحب اليد لا بطريق القضاء ينبغي أن يكون لصاحب اليد إذا تهاترت البينتان
فإن أرخا فإنه ينظر إن كان سن النتاج يوافق أحد التاريخين فهو له
وإن أشكل الأمر سقط حكم التاريخ وجعل كأنهما لم يذكرا التاريخ
وإن خالف الوقتين ذكر في ظاهر الرواية أنه لا عبرة للتاريخ والحكم فيه ما ذكرنا من غير تاريخ
وذكر الحاكم أن في رواية أبي الليث تهاترت البينتان ويبقى النتاج في يد صاحب اليد قضاء ترك وهو الأصح
كذا الجواب في كل ما لا يتكرر فيه سبب الملك ولا يعاد ولا يصنع مرتين فهو كالنتاج
وما يتكرر فيه سبب الملك ويصنع مرتين فهو على التفصيل الذي ذكرنا من دعوى الملك المطلق وبالسبب
وإذا كان حائط بين دارين وليس لواحد منهما عليه جذوع ولا له اتصال بالبناء فإنه يكون بينهما لاستوائهما في الاستظلال
وإن كان لأحدهما عليه جذوع فالحائط له لأنه مستعمل له
وإن كان لهما جذوع على السواء فهو لهما لاستوائهما
وإن كان لأحدهما أكثر ذكر الكرخي أنه إذا كان لأحدهما ثلاثة فصاعدا وللآخر كثير فهما سواء
أما إذا كان لأحدهما ما دون الثلاثة وللآخر أكثر فهو لصاحب الكثير وكذا ذكر محمد في كتاب الإقرار وذكر في كتاب الدعوى أن لكل واحد منهما ما تحت خشبته ولا يكون له كل الحائط
وإن لم يكن لهما جذوع ولأحدهما اتصال بالبناء من جانب واحد
أي يكون بعض ألبان الحائط المدعى به في حائط مملوك له قال صاحب الاتصال أولى
وذكر في الأصل أنه إذا كان اتصال تربيع فهو أولى من صاحب الجذوع
وروي عن أبي يوسف أنه إذا كان الاتصال من الطرفين كان أولى من صاحب الجذوع
والمراد من اتصال التربيع أن يكون بعض الألبان متداخلا في البعض كالأزج والطاقات وأبو يوسف اعتبر هذا في جانبي الحائط المدعى به متصلا بحائطيالمدعي لأن هذا دليل على أن باني الحائط هو ثم لصاحب الجذوع حق وضع الجذوع في هذه المسألة
وكذا إذا كان له جذع واحد فالحائط لصاحب الأكثر وله حق الوضع وليس لصاحبه أن يرفع إلا إذا أقام البينة أن الحائط له فحينئذ يرفع لأن البينة دليل مطلق
وإن كان خصا بين شخصين والقمط إلى أحدهما وادعى كل واحد الخص فهو بينهما عند أبي حنيفة ولا يرجح بكون القمط في جانبه
وقالا بأن صاحب القمط أولى
ولو كان وجه البناء أو الطاقات على الحائط في أحد الجانبين فلا يرجع هذا بالإجماع لأن هذا لا يختص بالملك
ولو كان لأحدهما سفل وللآخر علو فليس لصاحب السفل أن يتصرف تصرفا لم يكن في القديم وإن كان لا يتضرر به صاحبه عند أبي حنيفة
وعندهما لا بأس به إذا لم يكن فيه ضرر وكذا صاحب العلو
ولو انهدما فامتنع صاحب السفل عن البناء لا يجبر عليه لأن الإنسان لا يجبر على عمارة بيته لكن يقال لصاحب العلو ابن بمالك السفل وضع عليه علوك وارجع عليه بقيمته مبنيا وامنع الآخر عن السكن حتى يدفع القيمة
وكذا الجواب في الحائط بين الدارين
ولو هدمه أحدهما يجبر على العمارة والله تعالى أعلم
كتاب الإقرار
قال رحمه الله يحتاج في هذا الكتاب إلى بيان كون الإقرار حجة وإلى بيان ألفاظ الإقرار وإلى بيان شرائط صحته وإلى بيان المقر به وما يتصل بذلك من الفرق بين حالة الصحة وحالة المرض
أما بيان كون الإقرار حجة فإنه خبر صدق أو راجح صدقه على كذبه فإن المال محبوب المرء طبعا فلا يقر به لغيره كاذبا
وأما بيان ألفاظ الإقرار فنقول إذا قال لفلان علي كذا أو لفلان قبلي كذا فهو إقرار لأن علي كلمة إيجاب لغة والقبالة والكفالة اسم للضمان
وكذا إذا قال لفلان في مالي ألف درهم فهو إقرار له بذلك في مال
لكن لم يبين محمد في الأصل أنه يكون مضمونا أو لا وذكر أبو بكر الرازي أنه إقرار بالشركة فيكون ذلك القدر المقر به عنده أمانةوقال بعض مشايخ العراق إن كان ماله محصورا فهو إقرار بالشركة وإن كان غير محصور فهو إقرار في ذمته
وإن قال له من مالي ألف درهم فهو هبة لا تصير ملكا له إلا بقبوله والتسليم من المقر
ولو قال له عندي ألف درهم فهو وديعة
وكذا لو قال معي أو في منزلي أو في بيتي أو في صندوقي أو في كيسي لأنها لا تختص بالإيجاب فيحمل على الأدنى
هذا الذي ذكرنا إذا ذكر هذه الألفاظ مطلقا
فأما إذا قرن بها لفظا آخر مخالفا للأول في المعنى بأن قال لفلان علي أو قبلي ألف درهم وديعة يكون وديعة لأنه بيان معتبر فيصح بشرط الوصل كالاستثناء
أما إذا ذكر مطلقا وقال عنيت به الوديعة لا يصدق لأنه خلاف الظاهر فلا يصدق على الغير
وإن قال لفلان عندي أو معي ألف درهم قرضا فهو إقرار لأنه بيان معتبر
ولو قال عندي كذا وأعني به الإقرار صدق وإن فصل لأن هذا إقرار على نفسه فلا يتهم
ولو قال له من مالي ألف درهم لا حق لي فيها فهو إقرار
ولو قال لفلان عندي ألف درهم وديعة قرضا أو وديعة دينا أو مضاربة قرضا أو دينا أو بضاعة قرضا أو دينا فهو إقرار إذا ادعى المقر له الدين لأن الضمان قد يطرأ على الأمانة
ولو قال لفلان عندي ألف درهم عارية فهو قرض
وكذا في كل ما يكال أو يوزن لأن إعارة ما لا ينتفع بأعيانها إلا بالاستهلاك يكون قرضا في العرف
وأما بيان الشرائط فالعقل والبلوغ شرط بلا خلاف لأنه لا يصح بدونهما التصرف الضار
وأما الحرية فهي شرط في بعض الأشياء دون بعض على ما نذكر
وكذا الرضا والطوع شرط حتى لا يصح إقرار المكره بشيء على ما يعرف في كتاب الإكراه
وأما بيان أنواع المقر به فهو نوعان في الأصل حقوق الله تعالى والثاني حقوق العباد
أما حقوق الله تعالى فنوعان أحدهما أن يكون خالصا لله كحد الشرب والزنا والسرقة والإقرار به صحيح من الحر والعبد
ولو رجع المقر عن ذلك قبل الاستيفاء بطل الحد لاحتمال الصدق في الرجوع فأورث شبهة
ويكتفي في ذلك بالإقرار مرة إلا في الزنا فإنه يشترط العدد أربع مرات لحديث ماعز بخلاف القياس
وروي عن أبي يوسف أنه اعتبر عدد الإقرار بعدد الشهادة فشرط في السرقة والشرب الإقرار مرتين لكن روي عنه أنه رجع
ويستوي الجواب في الإقرار بالحدود بين تقادم العهد وعدمه إلا في شرب الخمر فإنه لا يؤخذ به عند أبي حنيفة و أبي يوسف بعد ذهاب رائحة الخمر استحسانا لحديث ابن مسعود وعند محمد يؤخذ به وهو القياس
فأما حد القذف فقد ذكرناه في كتاب الحدود
وأما حقوق العباد فأنواع منها القصاص والدية
ومنها الأموال
ومنها الطلاق والعتاق وحق الشفعة ونحو ذلك
والمال قد يكون عينا وقد يكون دينا وقد يكون معلوما وقد يكون مجهولا وقد يكون الإقرار في الصحة وقد يكون في المرض فنذكر جملة ذلك إن شاء الله تعالى
أما إقرار العبد فنذكره في كتاب المأذون إن شاء الله تعالى
وأما الحر فإقراره بالمال صحيح كيفما كان سواء كان بالمال المقر به عينا أو دينا وسواء كان معلوما أو مجهولا وعليه البيان
فجهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار وجهالة المشهود به تمنع صحة الشهادة والقضاء لأنه لا يمكن القضاء بالمجهول فأما في الإقرار فيؤمر بالبيان والقول قوله بيانه
إذا أقر أنه غصب من فلان مالا أو لفلان عليه شيء أو حق فإنه يؤمر بالبيان فإذا بين شيئا له قيمة ويجري فيه المنع والشح يصدق
وإن كان بخلافه يجبر على بيان شيء له قيمة
في الغصب إذا قال غصبت منه شيئا فبين ما لا قيمة لهبأن قال غصبت منه صبيا حرا صغيرا أو خمرا لمسلم أو جلد ميتة يصدق لأن هذا مما يغصب عادة
ولو قال غصبت شاة أو عبدا أو جارية فبين سليما أو مع العيب أو قال غصبت دارا فبين في بلدة قريبة أو في بلدة بعيدة يصدق لأن الغصب يكون على ما يتفق فيكون القول قوله إلا أن في غصب الدار إن أمكنه تسليمها إليه يسلم ولا ضمان عليه إن خرجت أو عجز عن التسليم إلا عند محمد فإنه يجب عليه القيمة عند العجز وهي مسألة معروفة
ولو قال علي قفيز حنطة فهو بقفيز البلد الذي أقر فيه فكذلك الرطل والأمنان والصنجات فذلك كله على وزن البلد
ولو قال علي ألف درهم فهو على ما يتعارفه أهل البلد من الأوزان أو العدد وإن لم يكن شيئا متعارفا فيحمل على وزن سبعة فإنه الوزن المعتبر في الشرع وكذلك في الدينار يعتبر وزن المثاقيل إلا في موضع يتعارف فيه بخلافه
ولو قال لفلان علي دريهم أو دنينير فعليه التام لأن التصغير قد يذكر لصغر الحجم وقد يكون لاستحقار الدرهم وقد يكون لخفة الوزن فلا ينتقص الوزن بالشك
ولو قال لفلان علي دراهم أو دنانير يقع على ثلاثة لأنها أقل الجمع
ولو قال علي دراهم كثيرة يقع على عشرة عند أبي حنيفة وعندهما على النصاب وهو مائتا درهم
ولو قال علي مال عظيم أو كثير أو كبير فعليه مائتادرهم بلا خلاف عند بعضهم
وقيل على قول أبي حنيفة يقع على العشرة
وقيل يعتبر حال المقر إن كان غنيا يقع على ما يستعظم عند الأغنياء وإن كان فقيرا يقع على النصاب
ولو قال غصبت إبلا كثيرة أو شياها كثيرة يقع على أقل النصاب من جنسه
وإن قال علي حنطة كثيرة يقع عندهما على خمسة أوسق وعند أبي حنيفة البيان إليه
وإن قال علي أموال عظام روي عن أبي يوسف أنه يقع على ستمائة لأن أقل الجمع ثلاثة
ولو قال علي ثلاثة دراهم غير درهم يلزمه درهمان لأن كلمة غير بالنصب للاستثناء
وكذا إذا قال علي ثلاثة آلاف درهم غير ألف يلزمه ألفان لما قلنا
وكذا لو قال علي ثلاثة دراهم إلا درهما فعليه درهمان
ولو قال علي عشرة إلا ثلاثة يلزمه سبعة
ولو قال إلا سبعة يلزمه ثلاثة لأن الاستثناء تكلم بالباقي
وفي الاستثناء من الاستثناء يكون الاستثناء من المستثنى لا من المستثنى منه ويلحق ذلك بالمستثنى منه
إذا قال علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما يلزمه ثمانية لأن ثلاثة وصارت مستثناة من العشرة ثم الاستثناء الثاني من الثلاثة
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5