كتاب : النكت والعيون
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُم } يعني فبرحمة من الله ، و { مَا } صلة دخلت لحسن النظم .
{ وَلَو كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } الفظ : الجافي ، والغليظ القلب : القاسي ، وجمع بين الصفتين ، وإن كان معناهما واحداً للتأكيد .
{ فَاعْفُ عَنهُم وَاسْتَغْفِرْ لَهُم وَشَاوِرْهُم فِي الأمْرِ } وفي أمره بالمشاورة أربعة أقاويل :
أحدها : أنه أمره بمشاورتهم في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيه ، قال الحسن : ما شاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم .
والثاني : أنه أمره بِمشاورتهم تأليفاً لهم وتطيباً لأنفسهم ، وهذا قول قتادة ، والربيع .
والثالث : أنه أمره بمشاورتهم لِمَا علم فيها من الفضل ، ولتتأسى أمته بذلك بعده صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول الضحاك .
والرابع : أنه أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنياً ، وهذا قول سفيان .
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ } قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وأبو عمرو بفتح الياء وضم العين ، وقرأ الباقون يغل بضم الياء وفتح الغين .
ففي تأويل من قرأ بفتح الياء وضم الغين ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانزل الله تعالى هذه الآية ، وهذا قول عكرمة ، وسعيد بن جبير .
والثاني : أنها نزلت في طلائع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجههم في وجه ، ثم غنم الرسول فلم يقسم للطلائع فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ لنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ } أي يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القسم ، وهذا قول ابن عباس ، والضحاك .
والثالث : أن معناه وما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله إليهم لرهبة منه ولا رغبة فيهم ، وهذا قول ابن إسحاق .
وأما قراءة من قرأ يُغّل بضم الياء وفتح الغين ففيها قولان :
أحدهما : يعني وما كان لنبي أن يتهمه أصحابه ويخوَّنوه .
والثاني : معناه وما كان لنبي أن يغل أصحابه ويخونهم ، وهذا قول الحسن ، وقتادة . وأصل الغلول الغلل وهو دخول الماء في خلال الشجر ، فسميت الخيانة غلولاً لأنها تجري في المال على خفاء كجري الماء ، ومنه الغل الحقد لأنه العداوة تجري في النفس مجرى الغلل .
{ لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِن أَنُفُسِهِمْ } وفي وجه المنة بذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : ليكون ذلك شرفاً لهم .
والثاني : ليسهل عليهم تعلم الحكمة منه لأنه بلسانهم .
والثالث : ليظهر لهم علم أحواله من الصدق والأمانة والعفة والطهارة .
{ يَتْلُو عَلَيهِمْ ءَآيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } فيه ثلاث تأويلات :
أحدها : أنه يشهد لهم بأنهم أزكياء في الدين .
والثاني : أن يدعوهم إلى ما يكونون به أزكياء .
والثالث : أنه يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها ، وهو قول الفراء .

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

{ أَوَ لَمّآ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا } يعني بالمصيبة التي أصابتهم يوم أحد ، وبالتي أصابوها يوم بدر .
{ قُلْتُمْ : أَنَّى هَذَا ، قُلْ : هُوَ مِن عِنْدِ أَنفُسِكُمْ } في الذي هو من عند أنفسهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : خلافهم في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتحصنواْ بها ، وهذا قول قتادة ، والربيع .
والثاني : اختيارهم الفداء من السبعين يوم بدر على القتل ، وقد قيل لهم إن فعلتم ذلك قُتِلَ منكم مثلُهم ، وهذا قول علي ، وعبيدة السلماني .
والثالث : خلاف الرماة يوم أحد لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ملازمة موضعهم .
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَومَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبإِذْنِ اللهِ ولِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } فيه قولان :
أحدهما : ليرى المؤمنين .
والثاني : ليُمَيَّزُوا من المنافقين .
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ } يعني عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه .
{ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ } يعني جاهدواْ .
{ أَوِ ادْفَعُوا } فيه قولان :
أحدهما : يعني تكثير السواد وإن لم يقاتلواْ وهو قول السدي وابن جريج .
والثاني : معناه رابطواْ على الخيل إن لم تقاتلواْ ، وهو قول ابن عوف الأنصاري .
{ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لآَّتَّبَعْنَاكُمْ } قيل إن عبد الله بن عمرو ابن حزام قال لهم : [ اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم فقال له ابن أبي ] : عَلاَمَ نقتل أنفسنا؟ ارجعواْ بنا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم .
{ هُمْ لِلْكُفْرِ يَؤمَئِذٍ أَقْربُ مِنهُم لِلإِيمَانِ } لأنهم بإظهار الإيمان لا يحكم عليهم بحكم الكفار ، وقد كانوا قبل ذلك بإظهار الإيمان أقرب إلى الإيمان ، ثم صارواْ بما فعلوه أقرب إلى الكفر من الإيمان .
{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } يعني ما يظهرونه من الإسلام وليس في قلوبهم منه شيء .
وإنما قال : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } وإن كان القول لا يكون إلا به لأمرين :
أحدهما : التأكيد .
والثاني : أنه ربما نسب القول إلى الساكت مجازاً إذ كان به راضياً .
{ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِم وَقَعَدُواْ : لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ } يعني عبد الله بن أُبَيّ وأصحابه حين انخذلوا وقعدوا ، وكانوا نحو ثلثمائة وتخلف عنهم من قُتل منهم ( فقالواْ ) لو أطاعونا وقعدواْ معنا ما قُتِلواْ .
{ قُلْ فَادْرَؤُواْ عَن أَنفُسِكُم الْمَوتَ } أي ادفعواْ عن أنفسكم الموت ، ومنه قول الشاعر :
تقول وقد درأتُ لها وضيني ... أهذا دينه أبداً وديني
{ إِن كُنتُم صَادِقِينَ } فيه قولان :
أحدهما : يعني في خبركم أنهم لو أطاعواْ ما قُتِلواْ .
والثاني : معناه إن كنتم محقين في تثبيطكم عن الجهاد فراراً من القتل .

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَآءٌ } يعني أنهم في الحال وبعد القتل بهذه الصفة ، فأما في الجنة فحالهم في ذلك معلومة عند كافة المؤمنين ، وليس يمتنع إحياؤهم في الحكمة . وقد روى ابن مسعود وجابر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُم بِأُحدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُم فِي حَوَاصِلِ طَيْر خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهارَ الجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِن ثِمَارِها
» . وفي { أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ } تأويلان :
أحدهما : أنهم بحيث لا يملك لهم أحد نفعاً ولا ضراً إلا ربُّهُم .
والثاني : انهم أحياء عند ربهم من حيث يعلم أنهم أحياء دون الناس .
{ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِنْ خَلْفِهِمْ } فيه قولان :
أحدهما : يقولون : إخواننا يقتلون كما قتلنا فيصيبون من كرامة الله ما أصبنا ، وهو قول قتادة ، وابن جريج .
والثاني : أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه فيبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب في الدنيا بقدومه ، وهذا قول السدي .
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوهُم } أما الناس في الموضعين وإن كان بلفظ الجمع فهو واحد لأنه تقدير الكلام جاء القول من قِبَل الناس ، والذين قال لهم الناس هم المسلمون وفي الناس القائل قولان :
أحدهما : هو أعرابي جُعِل له على ذلك جُعْل ، وهذا قول السدي .
والثاني : هو نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهذا قول الواقدي .
والناس الثاني أبو سفيان وأصحابه . واختلفوا في الوقت الذي أراد أبو سفيان أن يجمع لهم هذا الجمع على قولين :
أحدهما : بعد رجوعه على أُحُد سنة ثلاث حتى أوقع الله في قلوب المشركين الرعب كفّوا ، وهذا قول ابن عباس ، وابن إسحاق ، وقتادة .
والثاني : أن ذلك في بدر الصغرى سنة أربع بعد أحد بسنه ، وهذا قول مجاهد .
{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } التخويف من الشيطان والقول من الناس ، وفي تخويف أولياءئه قولان :
أحدهما : أنه يخوف المؤمنين من أوليائه المشركين ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنه يخوف أولياءَه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين ، وهذا قول الحسن ، والسدي .

وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

{ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } فيهم قولان :
أحدهما : هم المنافقون وهو قول مجاهد وابن إسحاق .
والثاني : قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام .
{ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيئاً ، يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرةِ } في إرادته لذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن يحكم بذلك .
والثاني : معناه أنه سيريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط إيمانهم بكفرهم .
والثالث : يريد أن يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم ، وهذا قول ابن إسحاق .
{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } الطيب المؤمنون ، والخبيث فيه ها هنا قولان :
أحدهما المنافق ، وهو قول مجاهد .
والثاني : الكافر ، وهو قول قتادة ، والسدي .
واختلفوا في الذي وقع به التمييز على قولين :
أحدهما : بتكليف الجهاد ، وهذا قول من تأوّل الخبيث بالمنافق .
والثاني : بالدلائل التي يستدل بها عليهم وهذا قول من تأوله للكافر .
{ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيبِ } قيل إن سبب نزول هذا أن قوماً من المشركين قالواْ : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن ومن لا يؤمن ، فنزلت هذه الآية .
قال السدي : ما أطلع الله نبيه على الغيب ، ولكنه اجتباه فجعله رسولاً .
قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَآتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيرُ لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُم } فيه قولان .
أحدهما : أنهم مانعو الزكاة ، وهو قول السدي .
والثاني : أنهم أهل الكتاب وبخلواْ أن يُبيِّنوا للناس ما في كتبهم من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قول ابن عباس ، قال ألم تسمع أنه قال : { يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } ، أي يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان .
{ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَومَ الْقِيَامَةِ } فيه قولان :
أحدهما : أن الذي يطوَّقونه شجاع أقرع ، وهذا قول ابن مسعود .
والثاني : أنه طوق من النار ، وهذا قول إبراهيم .

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

قوله تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفِسُكُمْ وَلَتْسَمُعنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً } . وفي هذا الأذى ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما روي أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويحرض عليهم المشركين حتى قتله محمد بن مسلمة ، وهذا قول الزهري .
والثاني : أن فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع لما سئل الإمداد قال : احتاج ربكم إلى أن نمده ، وهذا قول عكرمة .
والثالث : أن الأذى ما كانوا يسمعونه من الشرك كقول اليهود : عزيز ابن الله ، وكقول النصارى : المسيح ابن الله وهذا قول ابن جريج .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب } الميثاق : اليمين . وفي الذين أتوا الكتاب هاهنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود خاصة ، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي .
والثاني : أنهم اليهود والنصارى .
والثالث : انهم كل من أوتى علم شيءٍ من كتاب فقد أخذ أنبياؤهم ميثاقهم . { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } فيه قولان :
أحدهما : ليبين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول سعيد بن جبير ، والسدي .
والثاني : ليبين الكتاب الذي فيه ذكره ، وهذا قول الحسن ، وقتادة .
قوله تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل الكتاب فرحوا بالاجتماع على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وإخفاء أمره ، وأحبواْ أن يحمدواْ بما ليس فيهم من أنهم أهل نسك وعلم ، وهذا قول ابن عباس ، والضحاك .
والثاني : أنهم أهل النفاق فرحوا بقعودهم عن القتال وأحبواْ أن يحمدوا بما ليس فيهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول أبي سعيد الخدري ، وابن زيد .

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)

قوله تعالى : { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَن ءَامِنُوا ِبربِّكُمْ فَآمنّا } في المنادي قولان :
أحدهما : أنه القرآن وهو قول محمد بن كعب القرظي قال : ليس كل الناس سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : انه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول ابن جريج وابن زيد .
{ يُنَادِي لِلإِيمَانِ } أي إلى الإيمان ، كقوله تعالى : { الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذا } [ الأعراف : 43 ] بمعنى إلى هذا . ومنه قول الراجز :
أوحى لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثُّبّتِ
يعني أوحى إليها كما قال تعالى : { بِأنَّ ربكَ أوحى لها } [ الزلزلة : 5 ] أي إليها .
قوله تعالى : { رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ } فإن قيل فقد علمواْ أن الله تعالى منجز وعده فما معنى هذا الدعاء والطلب ، ففي ذلك أربعة أجوبة :
أحدها : أن المقصود به ، مع العلم بإنجاز وعده ، الخضوع له بالدعاء والطلب .
والثاني : أن ذلك يدعو إلى التمسك بالعمل الصالح .
والثالث : معناه أجعلنا ممن وعدته ثوابك .
والرابع : يعني عّجل إلينا إنجاز وعدك وتقديم نصرك .

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

قوله تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } حكى مجاهد ، وعمرو بن دينار أن سبب نزول هذه الآية أم سلمة قالت : يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء ؟ فنزلت هذه الآية .
{ بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ } أي الإناث من الذكور ، والذكور من الإناث .

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)

قوله تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ } فإن قيل : فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه الاغترار فكيف خوطب بهذا ، فعنه جوابان :
أحدهما : أن الله عز وجل إنما قال له ذلك تأديباً وتحذيراً .
والثاني : أنه خطاب لكل من سمعه ، فكأنه قال : لا يغرنك أيها السامع تقلب الذين كفروا في البلاد .
وفي تقلبهم قولان :
أحدهما : يعني تقلبهم في نعيم البلاد .
والثاني : تقلبهم غير مأخوذين بذنوبهم .

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } اختلفوا في سبب نزولها على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في النجاشي ، روى سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أُخْرُجُوا فَصَلُّواْ عَلَى أخٍ لَكُم فَصَلَّى بِنَا أَرْبَعَ تَكْبِيراتٍ ، فَقَالَ هَذَا النَجَّاشِيُّ أصحمة » فَقَالَ المْنَافِقُونَ : انظرواْ إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وهو قول قتادة .
والثاني : أنها نزلت في عبد الله بن سلام وغيره من مُسلمة أهل الكتاب ، وهذا قول مجاهد ، وابن جريج .
قوله تعالى : { يَاَ أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُوا } فيه أربعة تأويلات : -
أحدها : اصبرواْ على طاعة الله ، وصابرواْ أعداء الله ، ورابطواْ في سبيل الله ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، وابن جريج ، والضحاك .
والثاني : اصبرواْ على دينكم ، وصابرواْ الوعد الذي وعدكم ، ورابطواْ عدوي وعدوكم ، وهو قول محمد بن كعب .
والثالث : اصبرواْ على الجهاد ، وصابرواْ العدو ، ورابطواْ بملازمة الثغر ، وهو مأخوذ من ربط النفس ، ومنه قولهم ربط الله على قلبه بالصبر ، وهو معنى قول زيد بن أسلم .
والرابع : رابطوا على الصلوات بانتظارها واحدة بعد واحدة : روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَلاَ أَدُلَّكُم عَلَى مَا يَحِطُّ بِه اللهُ الخَطَايَا ويَرْفُعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُواْ بَلَى يَا رَسُولَ الله ، قَالَ : إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ عَلَى المَكَارِهِ ، وَكَثْرةُ الخُطَا إلىَ المَسَاجِدِ وَانتِظار الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ ، فَذّلِكُمُ الرَّباط
» .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُم الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم ، وفي ذلك نعمة عليكم لأنه أقرب إلى التعاطف بينكم .
{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يعني حواء ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن خلقت من ضلع آدم ، وقيل الأيسر ، ولذلك قيل للمرأة : ضلع أعوج .
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثيراً وَنِسَاءً } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها عليه : « خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فَهَمَّهَا فِي الرَّجُلُ مِنَ التَّرابِ فَهَمُّهُ فِي التُّرابِ
» . { وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ } ومعنى قوله تساءلون به ، هو قولهم أسألك بالله وبالرحم ، وهذا قول مجاهد وإبراهيم ، وقرأ حمزة والأرحام بالكسر على هذا المعنى .
وفي الأرحام قولٌ آخر : أنه أراد صِلُوها ولا تقطعوها ، وهو قول قتادة ، والسدي ، لأن الله تعالى قصد بأول السورة حين أخبرهم أنهم من نفس واحدة أن يتواصلواْ ويعلمواْ أنهم إخوة وإن بعدواْ .
{ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيباً } فيه تأويلان :
أحدهما : حفيظاً ، وهو قول مجاهد .
والثاني : عليماً ، وهو قول ابن زيد .

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)

قوله تعالى : { وَءَاتُواْ اليَتَامَى أَمْوَالَهُم وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : الحرام بالحلال ، وهو قول مجاهد .
والثاني : هو أن يجعل الزائف بدل الجيد ، والمهزول بدل السمين ويقول درهم بدرهم ، وشاة بشاة ، وهو ابن المسيب والزهري والضحاك والسدي .
والثالث : هو استعجال أكل الحرام قبل إتيان الحلال ، وهو معنى قول مجاهد .
والرابع : أن أهل الجاهلية كانواْ لا يورثون الصغار والنساء ويأخذه الرجل الأكبر ، فكان يستبدل الخبيث بالطيب لأن نصيبه من الميراث طيب ، وأخذه الكل خبيث ، وهو قول ابن زيد .
{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } أي مع أموالكم ، وهو أن يخلطوها بأموالهم لتصير في ذمتهم فيأكلوا ربحها .
{ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } والحُوب : الإثم ، ومنه قولهم تحوّب فلانٌ من كذا ، إذا توقى ، قال الشاعر :
فإن مهاجرين تكنفاهُ ... غداة إذٍ لقد خطئنا وحَابَا
قال الحسن البصري : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم يعزل ماله عن ماله فشكواْ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُم فَإِخْوَانُكُم } [ البقرة : 220 ] أي فخالطوهم واتقوا إثمه .
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَآءِ } فيه أربع تأويلات :
أحدها : يعني إن خفتم ألا تعدلواْ في نكاح اليتامى ، فانكحوا ما حَلَّ لكم من غيرهن من النساء ، وهو قول عائشة رضي الله عنها .
والثاني : أنهم كانواْ يخافون ألاّ يعدلوا في أموال اليتامى ، ولا يخافون أن لا يعدلواْ في النساء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، يريد كما خفتم ألاّ تعدلواْ في أموال اليتامى ، فهكذا خافوا ألا تعدلوا في النساء ، وهذا قول سعيد بن جبير ، والسدي ، وقتادة .
والثالث : أنهم كانوا يتوقَّون أموال اليتامى ولا يتوقَّون الزنى ، فقال كما خفتم في أموال اليتامى ، فخافواْ الزنى ، وانحكوا ما طاب لكم من النساء ، وهذا قول مجاهد .
والرابع : إن سبب نزولها ، أن قريشاً في الجاهلية كانت تكثر التزويج بغير عدد محصور ، فإذا كثر على الواحد منهم مؤن زوجاته ، وقَلَّ مالُه ، مدّ يده إلى ما عنده من أموال الأيتام ، فأنزل الله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَاءِ } .
وفي قوله تعالى : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَاءِ } قولان :
أحدهما : أن ذلك عائد إلى النساء وتقديره فانحكوا من النساء ما حلَّ . وهذا قول الفراء .
والثاني : أن ذلك عائد إلى النكاح وتقديره فانحكوا النساء نكاحاً طيباً . وهذا قول مجاهد .

{ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } تقديراً لعددهن وحصراً لمن أبيح نكاحه منهن وهذا قول عكرمة .
{ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } معدول به عن اثنين وثلاث وأربع ، وكذلك أُحاد وموحد ، وثناء ومثنى ، وثلاث ومثلث ، ورباع ومربع ، وهو اسم للعدد معرفة ، وقد جاء الشعر بمثل ذلك ، قال تميم بن أبي مقبل :
ترى العثرات الزُّرْق تحت لَبَانِه ... أُحاد ومثْنى أضعفتها كواهِله
وقال آخر :
قتلنا به من بين مَثْنى وموحد ... بأربعة منكم وآخر خامس
قال أبو عبيدة : ولم يسمع من العرب صرف ما جاوز الرباع والمربع عن جهته إلا في بيت للكميت ، فإنه قال في العشرة عُشار وهو قوله :
فلم يَسْتَرِيَثُوكَ حتى رَمِدْ ... ت فوق الرجال خِصالاً عشاراً
وقال أبو حاتم : بل قد جاء في كلامهم من الواحد إلى العشرة ، وأنشد قول الشاعر :
ضربت خماس ضربة عبشمي ... أدار سداس ألاَّ يستقيما
{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا } يعني في الأربع ، { فَوَاحِدَةً } يعني من النساء .
{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني في الإماء .
{ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أَلاَّ يكثر مَنْ تعولون ، وهو قول الشافعي .
والثاني : معناه ألاّ تضلواْ ، وهو قول ابن إسحاق ، ورواه عن مجاهد .
والثالث : ألا تميلوا عن الحق وتجوروا وهو قول ابن عباس ، وقتادة ، وعكرمة .
وأصل العول الخروج عن الحد ومنه عول الفرائض لخروجها عن حد السهام المسمّاة ، وأنشد عكرمة بيتاً لأبي طالب :
بميزان قسط لا يَخيسُ شعيرةً ... ووازن صِدْقٍ وزنهُ غير عائل
أي غير مائل .
وكتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : إني لست بميزان قسطٍ لا أعول .
قوله تعالى : { وءَآتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ . . . } اختلف فِيمَنْ توجَّه إليه هذا الخطاب على قولين :
أحدهما : أنه متوجه إلى الأزواج ، وهو قول الأكثرين .
والثاني : أنه متوجه إلى الأولياء ، لأنهم كانواْ يتملكون في الجاهلية صداق المرأة ، فأمر الله بدفع صدقاتهن إليهن ، وهو قول أبي صالح .
وأما النَّحلة فهي العطية من غير بدل ، وسمي الدين نِحْلَةَ ، لنه عطية من الله ، وفي تسميه النّحْل بذلك قولان :
أحدهما : أنه سمي نحلاً لما يعطي من العسل .
والثاني : لأن الله تعالى نَحَلهُ عباده .
وفي المراد بالنَّحلة في الصداق أربعة تأويلات :
أحدها : يعني فريضة مُسَمَّاة ، وهو قول قتادة ، وابن جريج .
والثاني : أنه نحلة من الله عز وجل لهن بعد أن كان ملكاً للأولياء ، وهو قول أبي صالحٍ .
والثالث : انه نهى لِما كانوا عليه من خِطْبة الشغار ، والنكاح بغير صداق ، وهو قول سليمان بن جعفر بن أبي المعتمر .
والرابع : انه أراد أن يطيبوا نفساً بدفعه ، كما يطيبون نفساً بالنحل والهبة ، وهو قول بعض المتأخرين .
{ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً } يعني الزوجات إن طبن نفساً عن شيء من صداقهن لأزواجهن في قول من جعله خطاباً للأزواج ، ولأوليائهن في قول من جعله خطاباً للأولياء .
{ فَكُلُوهُ هُنِيئاً مَّرِيئاً } الهنيء ما أعقب نفعاً وشفاء ، ومنه هنأ البعير للشفاء ، قال الشاعر :
متبدلاً تَبْدُو مَحاسنه ... يَضَعُ الهناءَ مَواضِعَ النُّقبِ

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

قوله عز وجل { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } اختلفوا في المراد بالسفهاء في هذا الموضع على أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم الصبيان ، وهو قول سعيد بن جبير ، والحسن .
والثاني : أنهم النساء ، وهو قول ابن عمر .
والثالث : أنه عنى الأولاد المسرفين أن يقسم ماله فيهم فيصير عيالاً عليهم ، وهو قول ابن عباس ، وابن زيد وأبي مالك .
والرابع : أنه أراد كل سفيه استحق في المال حَجْراً ، وهو معنى ما رواه الشعبي عن أبي بردة ، عن أبي موسى الأشعري أنه قال : ثلاثة يَدْعون فلا يستجيب الله لهم : رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل أعطى مالاً سفيهاً وقد قال الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } ، ورجل له على رجل دين لم يُشْهِد عليه .
وأصل السفيه خفة الحِلْم فلذلك وصف به الناقص العقل . ووصف به المفسد لماله لنقصان تدبيره ، ووصف به الفاسق لنقصانه عند أهل الدين ، والعلم .
{ أَمْوَالَكُمُ } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني أموال الأولياء ، وهو قول ابن عباس .
والثاني : أنه عنى به أموال السفهاء ، وهو قول سعيد بن جبير .
{ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً } قرأ نافع وابن عُمر { قِيَماً } ومعناهما واحد ، يريد أنها قُوامُ معايشكم سفائكم .
{ وَارْزُقُوهُمْ فيها وأكسوهم } فيه قولان :
أحدهما : أي أنفقوا أيها الأولياء على السفهاء من أموالهم .
{ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } فيه تأويلان :
أحدهما : أنه الوعد بالجميل ، وهو قول مجاهد .
والثاني : الدعاء له كقوله بارك الله فيك ، وهو قول ابن زيد .
{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى } أي اختبروهم في عقولهم وتمييزهم وأديانهم .
{ حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } يعني الحُلُم في قول الجميع .
{ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً } فيه أربع تأويلات :
أحدها : أن الرشد العقل ، وهو قول مجاهد ، والشعبي .
والثاني : أنه العقل والصلاح في الدين ، وهو قول السدي .
والثالث : أنه صلاح في الدين وإصلاح في المال ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، والشافعي .
والرابع : أنه الصلاح والعلم بما يصلحه ، وهو قول ابن جريج .
{ فَادْفَعُواْ إِلَيْهِم أَمْوَالَهُمْ } يعني التي تحت أيديكم أيها الأولياء عليهم .
{ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا } يعني لا تأخذوها إسرافاً على غير ما أباح الله لكم ، وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما ليس بمباح ، فربما كان في الإفراط ، وربما كان في التقصير ، غير أنه إذا كان في الإفراط فاللغة المستعملة فيه أن يقال أسرف إسرافاً ، وإذا كان في التقصير قيل سرف يسرف .
قوله تعالى : { وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } قال ابن عباس : وهو أن تأكل مال اليتيم تبادر أن يكبر ، فيحول بينك وبين ماله .
{ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } يعني بماله عن مال اليتيم .

{ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه القرض يستقرض إذا احتاج ثم يرده إذا وجد ، وهو قول عمر ، وابن عباس ، وجمهور التابعين .
والثاني : أنه يأكل ما يسد الجوعة ، ويلبس ما يواري العورة ، ولا قضاء ، وهو قول الحسن ، وإبراهيم ، ومكحول ، وقتادة .
روى شعبة عن قتادة أن عم ثابت بن رفاعة_ وثابت يومئذ يتيم في حجره ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله؟ قال : « أَنْ تَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ غَيرِ أن تقِيَ مَالَكَ بِمَالِهِ وَلاَ تَتَّخِذْ مِنْ مَالِهِ وَقْراً
» . والثالث : أن يأكل من ثمره ، ويشرب من رِسْلِ ماشيته من غير تعرض لِمَا سوى ذلك من فضة أو ذهب ، وهو قول أبي العالية ، والشعبي .
روى القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاماً ، وإن لهم إبلاً ، فماذا يحل لي منها؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها ، وتهنأ جرباءَها ، وتلوط حوضها ، وتفرط عليها يوم وِرْدِهَا ، فاشرب من ألبانها غير مُضِرِّ بنسل ، ولا بأهل في الحلب .
والرابع : أن يأخذ إذا كان محتاجاً أجرةً معلومة على قدر خدمته ، وهو قول عطاء .
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم ، فقال : « كُلْ مِنْ مَالِ يَتيمِكَ غَيرَ مُسْرِفٍ وَلاَ وَاقٍ مَالَكَ بِمَالِهِ
» . { فَإِذَا دَفَعْتُم إِلَيْهِم أَمْوَالَهُم فَأَشْهِدُواْ عَلَيهِم } ليكون بيِّنةَ في دفع أموالهم إليهم .
{ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً } فيه قولان :
أحدهما : يعني شهيداً .
والثاني : كافياً من الشهود .

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)

قوله تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَاِلدَانِ والأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ } وسبب نزول هذه الآية ، في الجاهلية كانواْ يُوَرِّثُونَ الذكور دون الإناث ، فروى ابن جريج عن عكرمة قال : نزلت في لأم كُجَّة وبناتها وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار ، وكان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها ، فقالت : يا رسول الله توفي زوجي وتركني وبنيه ولم نُورَّث ، فقال عم ولدها : يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلاُّ ، ولا ينكأ عدواً يكسب عليها ولا تكسب ، فنزلت هذه الآية .
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمُ مِّنْهُ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها ثابتة الحكم . قال سعيد بن جبير : هما وليان ، أحدهما يرث وهو الذي أمر أن يرزقهم أي يعطيهم ، والآخر لا يرث وهو الذي أُمر أن يقول لهم قولاً معروفاً ، وبإثبات حكمها قال ابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، والحسن ، والزهري .
ورُوْي عن عبيدة أنه وَليَ وصية فأمر بشاة فذبحت ، وصنع طعاماً لأجل هذه الآية وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي .
والقول الثاني : أنها منسوخة بآية المواريث ، وهذا قول قتادة ، وسعيد بن المسيب ، وأبي مالك ، والفقهاء .
والثالث : أن المراد بها وصية الميت التي وصَّى بها أن تفرق فِيْمَنْ ذُكِرَ وفِيمَنْ حَضَرَ ، وهو قول عائشة .
فيكون ثبوت حكمها على غير الوجه الأول .
واختلف مَنْ قال : بثبوت حكمها على الوجه الأول في الوارث إذا كان صغيراً هل يجب على وليَّه إخراجها من سهمه على قولين :
أحدهما : يجب ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد ، ويقول الولي لهم قولاً معروفاً .
والثاني : أنه حق واجب في أموال الصغار على الأولياء ، وهو قول عبيدة ، والحسن .
{ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه خطاب للورثة وأوليائهم أن يقولوا لمن حضر من أولي القربى ، واليتامى ، والمساكين قولاً معروفاً عند إعطائهم المال ، وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والثاني : خطاب للآخرين أن يقولوا للدافعين من الورثة قولاً معروفاً ، وهو الدعاء لهم بالرزق والغنى .
{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن معناه وليحذر الذين يحضرون مَّيتاً يوصي في ماله أن يأمروه بتفريق ماله وصية فيمن لا يرثه ولكن ليأمروه أن يبقى ماله لولده ، كما لو كان هو الموصي لآثر أن يبقة ماله لولده ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي .
والثاني : أن معناه وليحذر الذين يحضرون الميت وهو يوصي أن ينهوه عن الوصية لأقربائه ، وأن يأمره بإمساك ماله والتحفظ به لولده ، وهم لو كانوا من أقرباء الموصى لآثروا أن يوصي لهم ، وهو قول مقسم ، وسليمان بن المعتمر .

والثالث : أن ذلك أمر من الله تعالى لِوُلاَةِ الأيتام ، أن يلوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم ، كما يحبون أن يكون ولاة أولادهم الصغار من بعدهم في الإحسان إليهم لو ماتوا وترمواْ أولادهم يتامى صغاراً ، وهو مروي عن ابن عباس .
والرابع : أن من خشي على ذريته من بعده ، وأحب أن يكف الله عنهم الأذى بعد موته ، فليتقوا الله وليقولا قولاً سديداً ، وهو قول أبي بشر بن الديلمي .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً } عبر عن الأخذ بالأكل لأنه مقصود الأخذ .
{ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِم نَاراً } فيه قولان :
أحدهما : يعني انهم يصيرون به إلى النار .
والثاني : أنه تمتلىء بها بطونهم عقاباً يوجب النار .
{ وَسَيَصْلَونَ سَعِيراً } الصلاء لزوم النار ، والسعير إسعار النار ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } [ التكوير : 12 ] .

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)

قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } روى السدي قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ، لا يورثون الرجل من ولده إلاّ من أطاق القتال ، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة يقال لها أم كُجّة ، وترك خمس أخوات ، فجاءت الورثة فأخذوا ماله ، فشكت أم كجة ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
{ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } ففرض للثلاث من البنات ، إذا انفردت عن ذَكَرٍ ، الثلثين ، وفَرْضُ الواحدة إذا انفردت النصف ، واختلف في الثنتين ، فقال ابن عباس النصف ، من أجل قوله تعالى : { فَوقَ اثْنَتَيْنِ } وذهب الجماعة إلى أن فرضهما الثلثان كالثلاث فصاعداً اعتباراً بالأخوات .
ثم قال تعالى { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } قال ابن عباس : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله تعالى ذلك ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس .
ثم قال : { مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ } فسّوى بين كل واحد من الوالدين مع وجود الولد في أن لكل واحد منهما السدس ، ثم فاضل بينهما مع عدم الولد مع أن جعل للأم الثلث والباقي للأب ، وإنما كان هكذا لأن الأبوين مع الولد يرثان فرضاً بالولادة التي قد استويا فيها ، فسوّى بين فرضهما ، وإذا عَدِمَ الولد ورثت الأم فرضاً لعدم التعصب فيها ، وورث الأب بالتعصيب ، لأنه أقوى ميراثاً ، وجعل فرضها شطر ما حازه الأب بتعصيبه ، ليصير للذكر مثل حظ الأنثيين .
{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } فلا خلاف أن الثلاثة من الأخوة يحجبونها من الثلث الذي هو أعلى فرضها إلى السدس الذي هو أقله ، ويكون الباقي بعد سدسها للأب .
وحُكِيَ عن طاووس أنه يعود على الإِخوة دون الأب ليكون ما حجبوها عنه عائداً عليهم لا على غيرهم . وهذا خطأ من وجهين :
أحدهما : أن الأب يُسقِط من أدلى به كالجد .
والثاني : أن العصبة لا يتقدر لهم في الميراث فرض كالأبناء .
فأما حجب الأم بالأخوين ، فقد منع منه ابن عباس تمسكاً بظاهر الجمع في قوله تعالى : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } وخالفه سائر الصحابة مُحَجِّبُوا الأم بالأخوين فصاعداً ، وإن لم تحجب بالأخ الواحد لأن لفظ الجمع لا يمنع أن يوضع موضع التثنية نحو قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] مع أن الاثنتين تقومان في الفرائض مقام الجمع الكامل ، كالأخوات ، وولد الأم .
{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَينٍ } فقدم الدين والوصية على الميراث ، لأن الدين حق على الميت ، والوصية حق له ، وهما مقدمان على حق ورثته ، ثم قدم الدين على الوصية وإن كان في التلاوة مؤخراً ، لأن ما على الميت من حق أولى أن يكون مقدماً على ما له من حق .

وقد روى ابن إسحاق عن الحارث الأعور عن علي عليه السلام قال : إنكم تقرؤون هذه الآية { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَينٍ } وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية فإن قيل : فَلِمَ قدم ذكر الوصية على الدين إن كان في الحكم مؤخراً؟ قيل لأن { أَوْ } لا توجب الترتيب وإنما توجب إثبات أحد الشيئين مفرداً أو مصحوباً ، فصار كأنه قال : من بعد أحدهما أو من بعدهما . { ءَابآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } يعني في الدين أو الدنيا .

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

قوله تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } اختلفوا في الكلالة على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم من عدا الولد ، وهو مروي عن ابن عباس ، رواه طاووس عنه .
والثاني : أنهم من عدا الوالد ، وهو قول الحكم بن عيينة .
والثالث : أنهم من عدا الولد والوالد ، وهو قول أبي بكر ، وعمر ، والمشهور عن ابن عباس .
وقد روى الشعبي قال : قال أبو بكر : قد رأيت في الكلالة رأياً ، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له ، وإن يك خطأ فمنِّي والله منه بريء ، إن الكلالة ما خلا الوالد والولد . فلما اسْتُخْلِفَ عمر قال : إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر في رأي رآه .
ثم اختلفواْ في المُسَمَّى كلالة على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الكلالة الميت ، وهو قول ابن عباس ، والسدّي .
والثاني : أنه الحي الوارث ، وهو قول ابن عمر .
والثالث : أنه الميت والحي ، وهو قول ابن زيد .
وأصل الكلالة الإِحاطة ، ومنه الإكليل سمي بذلك لإِحاطته بالرأس فكذلك الكلالة لإِحاطتها بأصل النسب الذي هو الوالد والولد .

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)

قوله تعالى : { تَلْكَ حُدُودُ اللهِ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : شروط الله ، وهو قول السدي .
والثاني : طاعة الله ، وهو قول ابن عباس .
والثالث : سُنّة الله وأمرُه .
والرابع : فرائض الله التي حدها لعباده .
والخامس : تفصيلات الله لفرائضه .

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

قوله تعالى : { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ } يعني بالفاحشة : الزنى .
{ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ } يعني بيِّنة يجب بها عليهن الحد .
{ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ } اختلفوا في إمساكهن في البيوت هل هو حد أو مُوعد بالحد على قولين :
{ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } يعني بالسبيل الحد ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خُذُواْ عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّب جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ
» . واختلفوا في نسخ الجَلْدِ من حد الثيِّب على قولين :
أحدهما : أنه منسوخ ، وهو قول الجمهور من التابعين والفقهاء .
والثاني : أنه ثابت الحكم ، وبه قال قتادة ، وداود بن علي ، وهذه الآية عامة في البكر والثيب ، واخْتُلِفَ في نسخها على حسب اختلافهم فيها هل هو حد أو موعد بالحد ، فمن قال : هي حد ، جعلها منسوخة بآية النور ، ومن قال : هي مُوعد بالحد ، جعلها ثابتة .
قوله عز وجل : { وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا منكُم فَئَاذُوهُمَا } فيها قولان :
أحدهما : أنها نزلت في الأبكار خاصة ، وهذا قول السدي ، وابن زيد .
والثاني : أنها عامة في الأبكار والثيِّب ، وهو قول الحسن ، وعطاء . واختلف في المعنى بقوله تعالى : { وَاللَّذَانِ يِأْتِيَانِهَا مِنكُم } على قولين :
أحدهما : الرجل والمرأة ، وهو قول الحسن ، وعطاء .
والثاني : البكران من الرجال والنساء ، وهو قول السدي ، وابن زيد .
وفي الأذى المأمور به ثلاثة أقاويل :
أحدها : التعيير والتوبيخ باللسان ، وهو قول قتادة ، والسدي ، ومجاهد .
والثاني : أنه التعيير باللسان ، والضرب بالنعال .
والثالث : أنه مجمل أخذ تفسيره في البكر من آية النور ، وفي الثيِّب من السُّنّة .
فإن قيل كيف جاء ترتيب الأذى بعد الحبس؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أن هذه الآية نزلت قبل الأولى ، ثم أمر أن توضع في التلاوة بعدها ، فكان الأذى أولاً ، ثم الحبس ، ثم الجلد أو الرجم ، وهذا قول الحسن .
والثاني : أن الأذى في البكرين خاصة ، والحبس في الثَّيِّبين ، وهذا قول السدي .
ثم اختلف في نسخها على حسب الاختلاف في إجمالها وتفسيرها .
{ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا } يعني تابا من الفاحشة وأصلحا دينهما ، فأعرضواْ عنهما بالصفح والكف عن الأذى .

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)

قوله تعالى : { إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } اختلف في المراد بالجهالة على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن كل ذنب أصابه الإِنسان فهو بجهالة ، وكل عاص عصى فهو جاهل ، وهو قول أبي العالية .
والثاني : يريد يعملون ذلك عمداً ، والجهالة العمد ، وهو قول الضحاك ، ومجاهد .
والثالث : الجهالة عمل السوء في الدنيا ، وهو قول عكرمة .
{ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ثم يتوبون في صحتهم قبل موتهم ، وقبل مرضهم ، وهذا قول ابن عباس ، والسدي .
والثاني : قبل معاينة مَلَكِ الموت ، وهو قول الضحاك ، وأبي مجلز .
والثالث : قبل الموت ، قال عكرمة : الدنيا كلها قريب .
وقد روى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوبَةَ الْعَبْد ما لَمْ يُغَرْغِرْ
» . { وَلَيسَتِ التَّوبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ } إلى قوله : { وَهُمْ كُفَّارٌ } فيه قولان :
أحدهما : وهو قول الجمهور أنها نزلت في عُصَاةِ المسلمين .
والثاني : أنها نزلت في المنافقين ، وهو قول الربيع .
فَسَوّى بين مَن لَمْ يتب حتى مات ، وبين من تاب عند حضور الموت وهي [ حالة ] يعرفها مَنْ حَضَرها .
ويحتمل أن يكون عند المعاينة في حال يعلم بها وإن منع من الإِخبار بها .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)

قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً } .
وسبب ذلك أن أهل المدينة في الجاهلية كانوا إذا مات أحدهم عن زوجة ، كان ابنه وقريبه أولى بها من غيره ومنها بنفسها ، فإن شاء نكحها كأبيه بالصداق الأول ، وإن شاء زوجها وملك صداقها ، وإن شاء عضلها عن النكاح حتى تموت فيرثها أو تَفْتَدِي منه نفسها بصداقها ، إلى أَنْ تُوفِّيَ أبو قيس بن الأسلت عن زوجته كبيشة بنت معن بن عاصم فأراد ابنه أن يتزوجها فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تُرِكْتُ فأُنْكَح ، فنزلت هذه الآية .
{ وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه خطاب لورثة الأزواج أن [ لا ] يمنعوهن من التزويج كما ذكرنا ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة .
والثاني : أنه خطاب للأزواج أن [ لا ] يعضلوا نساءهم بعد الطلاق ، كما كانت قريش تفعل في الجاهلية وهو قول ابن زيد .
والثالث : أنه خطاب للأزواج أن [ لا ] يحبسواْ النساء كرهاً ليفتدين نفوسهن أو يَمُتْنَ فيرثهن الزوج ، وهذا قول قتادة ، والشعبي ، والضحاك .
والرابع : أنه خطاب للأولياء وهذا قول مجاهد .
{ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبِّينَةٍ } فيها ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الزنى ، وهو قول الحسن ، وأبي قلابة والسدي .
والثاني : أنها النشوز ، وهو قول ابن عباس ، وعائشة .
والثالث : أنها البذاء والأذى .
وقد روي عن مقسم في قراءة ابن مسعود « وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يُفْحِشْنَ » .
{ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً } قال ابن عباس : يعني الولد الصالح .
قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيئاً } يعني أنهن قد ملكن الصداق ، وليس مِلْكُهُنَّ للصداق موقوفاً على التمسك بهن ، بل ذلك لهن مع إمساكهن ، وفراقهن .
{ أَتَأْخُذُونُه بُهْتَاناً } فيه قولان :
أحدهما : ظلماً بالبهتان .
والثاني : أن يبهتها أن جعل ذلك ليسترجعه منها .
وإنما منع من ذلك مع الاستبدال بهن وإن كان ممنوعاً منه وإن لم يستبدل بهن أيضاً لِئَلا يتوهم متوهم أنه يجور مع استبدال غيرها بها أن يأخذ ما دفعه إليها ليدفعه إلى من استبدل بها منه وإن كان ذلك عموماً .
قوله تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } فيه قولان :
أحدهما : أن ( الإفضاء ) الجماع ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي .
والثاني : أنه الخلوة ، وهو قول أبي حنيفة .
{ وَأَخَذْنَ مِنكم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : أنه عقد النكاح الذي استحل به الفرج ، وهو قول مجاهد .
والثاني : أنه إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وهو قول الضحاك ، والسدي ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة .
والثالث : أنه ما رواه موسى بن عبيدة ، صعدة بن يسار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النِّسَاءَ عِندَكُم عَوانٌ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ وَاسْتَحْلَلْتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ فَلَكُم عَلَيهِنَّ حَقٌ وَلَهُنَّ عَلَيكُم حَقٌ ، وَمِنْ حَقِّكُم عَلَيهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فَرشَكُم أَحدَاً وَلاَ يَعْصِينَكُمْ فِي مَعْرُوفٍ ، فَإنْ فَعَلْنَ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
» . واختلف في ثبوت حكمها أو نسخه على قولين :
أحدهما : أنها محكمة ، لا يجوز له أن يْأخذ منها شيئاً مما أعطاها سواء كانت هي المريدة للطلاق أو هو ، وهو قول بكر بن عبد الله المزني .
والثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ } ، وهذا قول ابن زيد .
وقال أبو جعفر الطبري وغيره : حكمها ثابت عند عن خوف النشوز فيجوز أن يفاديها .
قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في قوم كانوا يَحْلُفْون الآباء على نسائهم ، فجاء الإسلام بتحريم ذلك وعفا عما كان منهم في الجاهلية أن يؤاخذواْ به إذا اجتنبوه في الإسلام ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة وعطاء ، وعكرمة .
والثاني : يعني لا تنكحواْ كنكاح آبائكم في الجاهلية على الوجه الفاسد ، إلا ما سلف منكم في جاهليتكم فإنه معفو عنه إذا كان مما يجوز الإقرار عليه ، وهذا قول بعض التابعين .
والثالث : معناه : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز ، إلا ما قد سلف منهم بالزنى والسفاح ، فإن نكاحهن حلال لكم ، لأنهن لم يَكُنَّ حلالاً ، وإنما كان نكاحهن فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً ، وهذا قول ابن زيد .
والرابع : إلا ما قد سلف فدعوه فإنكم تؤاخذون به ، قالوه وهذا من الاستثناء المنقطع ، ومنهم من جعله بمعنى لكن .
{ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً } والمقت شدة البغض لقبح مرتكبه ، ومنه قولهم قد مقته الناس إذا أبغضوه ، ورجل مقيت ، وكان يقال لولد الرجل من امرأة أبيه المقتي .
{ وَسَاءَ سَبِيلاً } يعني طريقاً .

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } إلى قوله : { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : والمحصنات من النساء يعني ذوات الأزواج إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي ، وهذا قول علي ، وابن عباس ، وأبي قلابة ، والزهري ، ومكحول ، وابن زيد .
وقد روى عثمان البَتّي عن أبي خليل عن أبي سعيد الخدري قال : لما سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل أوطاس ، قلنا : يا نبي الله كيف نقع على نساء قد عرفنا أنسابهن وأزواجهن؟ قال : فنزلت هذه الآية { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
والثاني : أن المحصنات ذوات الأزواج حرام على غير أزواجهن إلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء ، إذا اشتراها مشترٍ بطل نكاحها وحلت لمشتريها ويكون بيعها طلاقها ، وهذا قول ابن مسعود ، وأُبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وأنسٍ ابن مالك ، وابن عباس في رواية عكرمة عنه وسعيد بن المسيب ، والحسن ، قال الحسن : طلاق الأَمة يثبت نسبها ، وبيعها ، وعتقها ، وهبتها ، وميراثها ، وطلاق زوجها .
الثالث : أن المحصنات من النساء العفائف إلا ما ملكت أيمانكم بعقد النكاح ، أو ملك اليمين ، وهذا قول عمر ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، وعبيدة السلماني ، وعطاء ، والسدي .
والرابع : أن هذه الآية نزلت في نساءٍ كُنَّ هَاجَرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج ، فتزوجهن المسلمون ، ثم قدم أزواجهن مهاجرين ، فنهي المسلمون عن نكاحهن ، وهذا قول أبي سعيد الخدري .
وأصل الإِحصان المنع ، ومنه حصن البلد ، لأنه يمنع من العدو ، ودرع حصينة أي منيعة ، وفرس حَصان ، لأن صاحبه يمتنع به من الهلكة ، وامرأة حصان ، وهي العفيفة لأنها تمتنع من الفاحشة ، ومنه { وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [ التحريم : 12 ] .
{ كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن معناه : حرم ذلك عليكم كتاباً من الله .
والثاني : معناه ألزموا كتاب الله .
والثالث : أن كتاب الله قيم عليكم فيما تستحلِّونه وتحرمونه .
{ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَلِكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن معناه ما دون الخمس ، وهو قول السدي .
والثاني : ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم ، وهو قول عطاء .
والثالث : ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم ، وهو قول قتادة .
{ أّن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم } يعني أن تلتمسوا بأموالكم إما شراء بثمن ، أو نكاحاً بصداق .
{ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } يعني متناكحين غير زانين ، وأصل السفاح صب الماء ، ومنه سَفَح الدمع إذا صبَّه ، وسَفْح الجبل أسفله لأنه مصب الماء فيه ، وسِفَاح الزنى لصب مائه حراماً .
{ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } أي آتوهن صدقاتهن معلومة ، وهذا قول مجاهد ، والحسن ، وأحد قولي ابن عباس .
والقول الثاني : أنها المتعة إلى أجل مسمى من غير نكاح ، قال ابن عباس كان في قراءة أُبيّ : { فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى } ، وكان ابن عباس كذلك يقرأ ، وسعيد بن جبير ، وهذا قول السدي ، وقال الحكم : قال عليّ : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي ، وهذا لا يثبت ، والمحكي عن ابن عباس خلافه ، وأنه تاب من المتعة وربا النقد .

{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه لا حرج عليكم أيها الأزواج إن أعسرتم بعد أن فرضتم لِنِسَائكم مهراً عن تراض أن ينقصنكم منه ويتركنكم ، وهذا قول سليمان بن المعتمر .
والثاني : لا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضتيم أنتم والنساء اللواتي استمتعتم بهن إلى أجل مسمى ، إذا انقضى الأجل بينكم أن يزدنكم في الأجل وتزيدوهن في الأجر قبل أن يستبرئن أرحامهن ، وهذا قول السدي .
والثالث : لا جناح عليكم فيما تراضيتم به ودفعتموه أن يعود إليكم عن تراض ، وهذا قول ابن عباس .
{ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : كان عليماً بالأشياء قبل خلقها ، حكيماً في تقديره وتدبيره لها ، وهذا قول الحسن .
والثاني : أن القوم شاهدواْ عِلماً وحكمة فقيل لهم إن كان كذلك لم يزل ، وهذا قول سيبويه .
والثالث : أن الخبر عن الماضي يقوم مقام الخبر عن المستقبل وهذا مذهب الكوفيين .

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتَ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } في الطوْل ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الغنى والسعة الموصل إلى نكاح الحرّة ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، وابن زيد ، والشافعي ، ومالك .
والقول الثاني : هو أن تكون تحته حرة ، وهو قول أبي حنيفة .
والقول الثالث : هو الهوى وهو أن يهوى أَمَةً فيجوز أن يتزوجها ، إن كان ذا يسار وكان تحته حرة ، وهذا قول جابر ، وابن مسعود ، والشعبي ، وربيعة ، وعطاء .
وأصل الطَوْل الفضل والسعة ، لأن المعنى كالطول في أنه ينال به معالي الأمور ، ومنه قولهم ليس فيه طائل أي لا ينال به شيء من الفوائد ، فكان هو الأصح من تأويلاته .
واختلف في إيمان الأمَةِ هل هو شرط في نكاحها عند عدم الطَوْل على قولين :
أحدهما : أنه شرط لا يجوز نكاح الأَمَةِ نكاح الأَمَةِ إلا به ، وهو قول الشافعي .
والثاني : أنه ندب وليس بشرط ، فإن تزوج غير المؤمنة جاز ، وهو قول أبي حنيفة .
قوله تعالى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } يعني بالمسافحة : المعلنة بالزنى .
{ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } هو أن تتخذ المرأة خدناً وصديقاً ولا تزني بغيره ، وقد كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنى ، ويستحلون ما بطن ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } .
{ فَإِذَا أُحْصِنَّ } قرأ بفتح الألف حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، ومعنى ذلك أسلمن ، فيكون إحصانها ها هنا إسلامها ، وهذا قول ابن مسعود ، والشعبي ، وروى الزهري قال : جَلَدَ عمر ولائد أبكاراً من ولائد الإمارة في الزنى .
وقرأ الباقون بضم الألف ، ومعنى ذلك تزوجن ، فيكون إحصانها ها هنا تزويجها ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن .
{ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } يعني بها ها هنا الزنى .
{ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } يعني نصف حد الحرة .
{ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : الزنى ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وابن زيد ، وبه قال الشافعي .
والثاني : أن العنت الإثم .
والثالث : أنه الحد الذي يصيبه .
والرابع : هو الضرر الشديد في دين أو دنيا . وهو نحو قوله تعالى : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } [ آل عمران : 118 ] .
{ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرُ لَّكُمْ } يعني الصبر عن نكاح الأمَةِ لئلا يكون ولده عبداً .

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

قوله تعالى : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الزناة ، وهو قول الضحاك .
والثاني : أنهم اليهود والنصارى ، وهو قول السدي .
والثالث : كل متبع شهوة غير مباحة ، وهو قول ابن زيد .
قوله تعالى : { يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } يخفف عنكم في نكاح الإماء ، وخُلِقَ الإنسان ضعيفاً عن احتمال الصبر عن جماع النساء .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تِأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الزنى ، والقمار ، والبخس ، والظلم ، وهو قول السدي .
والثاني : العقود الفاسدة ، وهو قول ابن عباس .
والثالث : أنه نهى أن يأكل الرجل طعام قِرى وأَمَر أن يأكله شِرى ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في سورة النور : { وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [ النور : 61 ] إلى قوله : { أَوْ أَشْتَاتاً } وهو قول الحسن ، وعكرمة .
{ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أن التراضي هو أن يكون العقد ناجزاً بغير خيار ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة .
والثاني : هو أن يخير أحدهما صاحبه بَعد العقد وقبل الافتراق ، وهو قول شريح ، وابن سيرين ، والشعبي .
وقد روى القاسم بن سليمان الحنفي عن أبيه عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « البَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ وَالخِيَارُ بَعْدَ الصَّفْقَةِ وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلمٍ أَنْ يَغِشَّ مٌسْلِماً
» . { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } فيه قولان :
أحدهما : يعني لا يقتل بعضكم بعضاً ، وهذا قول عطاء ، والسدي ، وإنما كان كذلك لأنهم أهل دين واحد فصاروا كنفس واحدة ، ومنه قوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] .
والثاني : نهى أن يقتل الرجل نفسه في حال الغضب والضجر .
قوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } فيما توجه إليه هذا الوعيد بقوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه أكل المال بالباطل ، وقتل النفس بغير حق .
والثاني : أنه متوجه إلى كل ما نهى عنه من أول سورة النساء .
والثالث : أنه متوجه إلى قوله تعالى : { لاَ َيحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاءَ كَرْهاً } [ النساء : 19 ] . { عُدْوَاناً وَظُلْماً } فيه قولان :
أحدهما : يعني تعدياً واستحلالاً .
والثاني : أنهما لفظتان متقاربتا المعنى فحسن الجمع بينهما مع اختلاف اللفظ تأكيداً .
{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } في الكبائر سبعة أقاويل :
أحدها : أنها كل ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى رأس الثلاثين منها ، وهذا قول ابن مسعود في رواية مسروق ، وعلقمة ، وإبراهيم .
والثاني : أن الكبائر سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة ، وهذا قول عليّ ، وعمرو بن عبيد .
والثالث : أنها تسع : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة ، وقتل النفس المؤمنة ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وأكل الربا ، وإلحاد بالبيت الحرام ، وهذا قول ابن عمر .
والرابع : أنها أربع : الإشراك بالله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من رَوْح الله ، والأمن من مكر الله ، وهذا قول ابن مسعود في رواية أبي الطفيل عنه .
والخامس : أنها كل ما أوعد الله عليه النار ، وهذا قول سعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، والضحاك .
والسادس : السبعة المذكورة في المقالة الثانية وزادوا عليها الزنى ، والعقوق ، والسرقة ، وسب أبي بكر وعمر .
والسابع : أنها كل ما لا تصح معه الأعمال ، وهذا قول زيد بن أسلم .
{ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } يعني من الصغائر إذا اجتنبتم الكبائر ، فأما مع ارتكاب الكبائر ، فإنه يعاقب على الكبائر والصغائر .

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)

« إسْألُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ وإِنَّ أَفْضَلَ العِبَادَةِ انْتِظَارُ الفَرَجِ
» . { إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أنه قسَّم الأرزاق على ما علم وشاء فينبغي أن ترضوا بما قسم وتسألوه من فضله غير متأسفين لغيركم في عطية . والنهي تحريم عند أكثر العلماء ، لأنه ليس لأحد أن يقول : ليت مال فلان لي ، وإنما يقول ليت مثله لي .

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)

قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَلِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } وفي الموالي قولان :
أحدهما : أنهم العصبة ، وهو قول ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، وابن زيد .
والثاني : هم الورثة ، وهو قول السدي ، وهو أشبه بقوله تعالى : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي } قال الفضل بن عباس :
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا تنشبواْ بيننا ما كان مَدْفوناً
{ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } هي مفاعلة من عقد الحلف ، ومعناه : والذين عاقدت أيمانكم وأيمانهم بالحلف بينكم وبينهم ، فآتوهم نصيبهم .
وفي المراد بهذه المعاقدة وبالنصيب المستحق خمسة أقاويل :
أحدها : أن حلفهم في الجاهلية كانوا يتوارثون به في الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال : { وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } [ الأنفال : 75 ] وهذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة .
والثاني : أنها نزلت في الذين آخى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم ، من المهاجرين والأنصار ، فكان بعضهم يرث بعضاً بتلك المؤاخاة بهذه الآية ، ثم نسخها ما تقدم من قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانَ والأَقْرَبُونَ } [ النساء : 33 ] ، وهذا قول سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، وابن زيد .
والثالث : أنها نزلت في أهل العقد بالحلف ولكنهم أُمِرُوا أن يؤتوا بعضهم بعضاً من النصرة والنصيحة والمشورة والوصية دون الميت ، وهذا قول مجاهد ، وعطاء ، والسدي . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله قيس بن عاصم عن الحِلف فقال : « لاَ حِلْفَ في الإْسلاَمِ ، وَمَا كَانَ مِنْ حِلفِ الجاهِلِيَّةِ فَلَمْ يُزِدْهُ الإِسْلاَمُ الإَِّ شِدَّةً
» . والرابع : أنها نزلت في الذين يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية ، فَأُمِرُوا في الإِسلام أن يوصوا لهم عند الموت بوصية ، وهذا قول سعيد بن المسيب .
والخامس : أنها نزلت في قوم جعل لهم نصيب من الوصية ، ثم هلكوا فذهب نصيبهم بهلاكهم ، فَأُمِرُوا أن يدفعوا نصيبهم إلى ورثتهم ، وهذا قول الحسن البصري .

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)

قوله تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النَّسَآءِ } يعني أهل قيام على نساءهم ، في تأديبهن ، والأخذ على أيديهن ، فيما أوجب الله لهم عليهن .
{ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } يعني في العقل والرأي .
{ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أِمْوَالِهِمْ } يعني به الصداق والقيام بالكفاية . وقد روى جرير بن حازم عن الحسن أن سبب ذلك أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص فنزلت : { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] ونزلت { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ، وكان الزهري يقول : ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس .
{ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ } يعني المستقيمات الدين العاملات بالخير ، والقانتات يعني المطيعات لله ولأزواجهن .
{ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ } يعني حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن ، ولما أوجبه الله من حقه عليهن .
{ بِمَا حَفِظَ اللهُ } فيه قولان :
أحدهما : يعني يحفظ الله لهن إذ صيّرهن كذلك ، وهو قول عطاء .
والثاني : بما أوجبه الله على أزواجهن من مهورهن ونفقتهن حتى صرن بها محفوظات ، وهذا قول الزجاج .
وقد روى ابن المبارك ، سعيد بن أبي سعيد أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُ النَّساءِ امْرَأَةً إِذا نَظَرْتَ إِلَيهَا سَرَّتْكَ ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ في مالِهَا ونَفْسِهَا » قال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ } إلى آخر الآية .
{ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } في { تَخَافُونَ } تأويلان :
أحدهما : أنه العلم ، فعبر عنه بالخوف ، كما قال الشاعر :
ولا تدفنيني بالفلاة فإنني ... أخافُ إذا ما مِتُّ أن لا اذُوقَها
يعني فإنني أعْلَمُ والتأويل الثاني : أنه الظن ، كما قال الشاعر .
أتاني عن نصر كلام يقوله ... وما خفت يا سلامُ أنك عائبي
وهو أن يستر على نشوزها بما تبديه من سوء فعلها .
والنشوز : هو معصية الزوج والامتناع من طاعته بغضاً وكراهة - وأصل النشوز : الارتفاع ، ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض نُشز ، فسميت الممتنعة عن زوجها ناشزاً لبعدها منه وارتفاعها عنه .
{ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ } أما وعظها فهو أن يأمرها بتقوى الله وطاعته ، ويخوفها استحقاق الوعيد في معصيته وما أباحه الله تعالى من ضربها عند مخالفته ، وفي المراد بقوله : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } خمسة أقاويل :
أحدها : ألا يجامعها ، وهو قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والثاني : أن لا يكلمها ويوليها ظهره في المضجع ، وهو قول الضحاك ، والسدي . والثالث : أن يهجر فراشها ومضاجعتها وهو قول الضحاك ، والسدي .
والرابع : يعني وقولوا لهن في المضاجع هُجراً ، وهو الإغلاظ في القول ، وهذا قول عكرمة ، والحسن .
والخامس : هو أن يربطها بالهجار وهو حبل يربط به البعير ليقرها على الجماع ، وهو قول أبي جعفر الطبري .

واستدل براوية ابن المبارك عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول الله نساؤنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال : « حَرثَكَ فَأْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ غَيرَ أَلاَّ تَضْرِبَ آلْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ إلاَّ في البًيْتِ ، وأطْعِمْ إِذا طَعِمْتَ وَاكْسِ إِذّا اكْتَسَيْتَ ، كَيْفَ وَقْدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ » وليس في هذا الخبر دليل على تأويله دون غيره .
وأصل الهجر : الترك على قلى ، والهُجر : القبيح من القول لأنه مهجور .
{ وَآضْرِبُوهُنَّ } فجعل الله تعالى معاقبتها على النشوز ثلاثة أشياء : وَعْظُها وهَجْرُها وضَرْبُها . وفي ترتبيها إذا نشزت قولان :
أحدهما : أنه إذا خاف نشوزها وعظها وهجرها ، فإن أقامت عليه ضربها .
والثاني : أنه إذا خاف نشوزها وعظها ، فإذا أبدت المشوز هجرها ، فإن أقامت عليه ضربها ، وهو الأظهر من قول الشافعي .
والذي أبيح له من الضرب ما كان تأديباً يزجرها به عن النشوز غير مبرح ولا منهك ، روى بشر عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اضْرِبُوهُنَّ إِذَا عَصَينَكُمْ فِي المَعْرُوفِ ضَرْباً غير مُبَرِّحٍ
» . { فَإِن أَطَعْنَكُم فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } يعني أطعنكم في المضجع والمباشرة . { فلا تبغوا عليهن سبيلاً } فيه تأويلان :
أحدهما : لا تطلبواْ لهن الأذى .
والثاني : هو أن يقول لها لست تحبينني وأنت تعصيني ، فيصيّرها على ذلك وإن كانت مطيعة : قال سفيان : إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه لأن قلبها ليس في يدها .

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَينِهِمَا } يعني مشاقة كل واحد منهما من صاحبه ، وهو إتيان ما يشق عليه من أمور أما من المرأة فنشوزها عنه وترك ما لزمها من حقه ، وأما من الزوج فعدوله عن إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، والشقاق مصدر من قول القائل شاق فلان فلاناً إذا أتى كل واحد منهما إلى صاحبه بما يشق عليه ، وقيل لأنه قد صار في شق بالعداوة والمباعدة .
{ فَابْعَثْواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا } وفي المأمور بإيفاد الحكمين ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه السلطان إذا تراجع إليه الزوجان ، وهو قول سعيد بن جبير ، والضحاك .
والثاني : الزوجان ، وهو قول السدي .
والثالث : أحد الزوجين وإن لم يجتمعا .
{ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً } يعني الحَكَمَين .
{ يُوَفِقِ اللهُ بَيْنَهُمَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : يوفق الله بين الحكمين في الصلاح بين الزوجين .
والثاني : يوفق الله بينهما بين الزوجين بإصلاح الحَكَمَين ، والحكمين للإصلاح .
وفي الفُرْقَةِ إذا رأياها صلاحاً من غير إذن الزوجين قولان :
أحدهما : ليس ذلك إليها لأن الطلاق إلى الزوج .
والثاني : لهما ذلك لأن الحَكَم مشتق من الحُكم فصار كالحاكم بما يراه صلاحاً .

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

{ وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } معناه واستوصوا بالوالدين إحساناً .
{ وَبِذِي الْقُرْبَى } هم قرابة النسب من ذوي الأرحام .
{ وَالْيَتَامَى } جمع يتيم وهو من مات أبوه لم يبلغ الحلم .
{ وَالْمَسَاكِينِ } جمع مسكين وهو الذي قد ركبه ذل الفاقة والحاجة فيتمسكن لذلك .
{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } فيه قولان :
أحدهما : بمعنى ذي القرابة والرحم وهم الذين بينك وبينهم قرابة نسب ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : يعني الجار ذي القربى بالإسلام .
{ وَالْجَارِ الْجُنُبِ } فيه قولان :
أحدهما : الجار البعيد في نسبه الذي ليس بينك وبينه قرابة ، وهو قول ابن عباس ومجاهد .
والثاني : أنه المشرك البعيد في دينه .
والجنب في كلام العرب هو البعيد ، ومنه سُمي الجنب لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل ، قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة :
أتيت حُريثاً زائراً عن جنابةٍ ... فكان حريث في عطائي جامداً
{ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه الرفيق في السفر ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنها زوجة الرجل التي تكون في جنبه ، وهو قول ابن مسعود .
والثالث : أنه الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك ، وهو قول ابن زيد .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كُلُّ صَاحبٍ يَصْحَبُ صَاحِباً مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَوْ سَاعةً مِن نَّهَارٍ » . وروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خَيرُ الأَصْحَابِ عِندَ اللَّهِ خَيرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيرُ الجيرانِ عِندَ اللَّهِ خَيرُهُمْ لِجَارِهِ » . { وَابْنِ السَّبِيلِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المسافر المجتاز مَارّاً ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، والربيع .
والثاني : هو الذي يريد سفراً ولا يجد نفقة ، وهذا قول الشافعي .
والثالث : أنه الضعيف ، وهو قول الضحاك .
والسبيل الطريق ، ثم قيل لصاحب الطريق ابن السبيل ، كما قيل لطير الماء ابن ماء . قال الشاعر :
وردت اعتسافاً والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماءٍ مُلحقُ
{ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني المملوكين ، فأضاف الملك إلى اليمين لاختصاصها بالتصرف كما يقال تكلم فُوك ، ومشت رجلُك .
{ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } المختال : من كان ذا خيلاء ، مفتعل من قولك : خالَ الرجل يَخُول خُيلاء ، وخالاً ، قال العجاج :
والخال ثوب من ثياب الجهال ... ( والدهْرُ فيه غَفْلةٌ للغفال )
والفخور : المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه وبسط عليه من رزقه .

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)

{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } فيهم قولان :
أحدهما : أنها نزلت في اليهود ، بخلوا بما عندهم من التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه وأمرواْ الناس بكتمه . { وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ } يعني نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول مجاهد ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : يبخلون بالإنفاق في طاعة الله عز وجل ويأمرون الناس بذلك ، وهو قول طاووس ، والبخل أن يبخل بما في يديه ، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس يحب أن يكون له .
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود ، وهو قول مجاهد .
والثاني : هم المنافقون ، وهو قول الزجاج .
{ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قَرِيناً } القرين هو الصاحب الموافق ، كما قال عدي بن زيد :
عن المرءِ لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مُقتدي
وأصل القرين من الأقران ، والقِرن بالكسر المماثل لأقرانه في الصفة ، والقَرْن بالفتح : أهل العصر لاقترانهم في الزمان ، ومنه قَرْن البهيمة لاقترانه بمثله .
وفي المراد يكون قريناً للشيطان قولان :
أحدهما : أنه مصاحبِهُ في أفعاله .
والثاني : أن الشيطان يقترن به في النار .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)

قوله تعالى : { إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } أصل المثقال الثقل ، والمثقال مقدار الشيء في الثقل . والذرة : قال ابن عباس هي دودة حمراء ، قال يزيد بن هارون : زعمواْ أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن .
قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } وشهيد كل أمة نبيُّها ، وفي المراد بشهادته عليها قولان :
أحدهما : أن يشهد على كل أمّته بأنه بلغها ما تقوم به الحجة عليها ، وهو قول ابن مسعود وابن جريج ، والسدي .
والثاني : أن يشهد عليها بعملها ، وهو قول بعض البصريين .
{ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيداً } يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهادة على أُمته ، روى ابن مسعود أنه قرأ على رسول الله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيداً } ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ } فيه قولان :
أحدهما : أن الذين تمنوه من تسوية الأرض بهم ، أن يجعلهم مثلها ، كما قال تعالى في موضع أخر { وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] .
والثاني : أنهم تمنواْ لو انفتحت لهم الأرض فصاروا في بطنها .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فيه قولان :
أحدهما : سكارى من الخمر ، وهو قول ابن عباس ، وقتادة ، وقد روى عطاء ابن السائب عن عبد الله بن حبيب : أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً ودعا نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأكلوا وشربوا حتى ثملوا ، ثم قدّموا عمر فصلى بهم المغرب فقرأ : { قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُم عَابِدُونَ مَا أَعْبُد وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } لَكُمْ دِينُكُم وَلِيَ دِينٌ } فأنزل الله تعالى هذه الآية { لاَ تَقْربُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } .
والقول الثاني : وأنتم سكارى من النوم ، وهو قول الضحاك ، وأصل السُكر : السَكْر ، وهو سد مجرى الماء ، فالسُّكر من الشراب يسد طريق المعرفة .
فإن قيل فكيف يجوز نهي السكران ، ففيه جوابان :
أحدهما : أنه قد يكون سكران من غير أن يخرج إلى حد لا يحتمل معه الأمر .
والثاني : أنه نهي عن التعرض للسكر وعليه صلاة .
{ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ } فيه قولان :
أحدهما : أراد سبيل المسافر إذا كان جنباً لا يصلي حتى يتيمم ، وهذا قول ابن عباس في رواية أبي مجلز عنه ، ومجاهد ، والحكم ، وابن زيد .
والثاني : لا يقرب الجنب مواضع الصلاة من المساجد إلا مارّاً مجتازاً ، وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك ، وابن يسار عنه ، وهو قول جابر ، والحسن ، والزهري ، والنخعي .
{ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما انطلق عليه اسم المرض من مستضرٍّ بالماء وغير مستضرٍّ ، وهذا قول داود بن علي .
الثاني : ما استضر فيه باستعمال الماء دون ما لم يستضر ، وهذا قول مالك ، وأحد قولي الشافعي .
والثالث ما خيف من استعمال الماء فيه التلف دن ما لم يُخفْ ، وهو القول الثاني من قولي الشافعي .
{ أَوْ عَلَى سَفَرٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما انطلق عليه اسم السفر من قليل وكثير ، وهو قول داود .
والثاني : مسافة يوم وليلة فصاعداً ، وهو قول مالك ، والشافعي رحمهما الله .
والثالث : مسافة ثلاثة أيام ، وهو مذهب أبي حنيفة .
{ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغآئِطِ } هو الموضع المطمئن من الأرض كان الإنسان يأتيه لحاجته ، فكنى به عن الخارج مجازاً ، ثم كثر استعماله حتى صار كالحقيقة ، والدليل على أن الغائط حقيقة في اسم المكان دون الخارج ، قول الشاعر :
أما أتاك عني الحديث ... إذ أنا بالغائط أستغيث
وصِحت في الغائط يا خبيث ... { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ } فيه قراءتان :
إحداهما : { لَمَسْتُمُ } بغير ألف ، قرأ بها حمزة والكسائي .
والأخرى : { لاَمَسْتُمُ } ، وهي قراءة الباقين .
وفي هذه الملامسة قولان :
أحدهما : الجماع ، وهو قول عليّ ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد .

والثاني : أن الملامسة باليد والإفضاء ببعض الجسد ، وهو قول ابن مسعود ، وابن عمر ، وعبيدة ، والنخعي ، والشعبي ، وعطاء ، وابن سيرين ، وبه قال الشافعي .
وفي اختلاف القراءتين في { لَمَسْتُمْ } أو { لاَمَسْتُمُ } قولان :
أحدهما : أن { لاَمَسْتُمُ } أبلغ من { لَمِسْتُمُ } .
والثاني : أن { لاَمَسْتُمُ } يقتضي وجوب الوضوء على اللامس والملموس .
{ وَلَمَسْتُمُ } يقتضي وجوبه على اللامس دون الملموس .
{ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه التعبد والتحري ، وهو قول سفيان .
والثاني : أنه القصد ، وذكر أنها في قراءة ابن مسعود : فأتوا صعيداً طيباً . وفي الصعيد أربعة أقاويل :
أحدها : أنها الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غِراس ، وهو قول قتادة .
والثاني : أنها الأرض المستوية ، وهو قول ابن زيد .
والثالث : هو التراب ، وهو قول عليّ ، وابن مسعود ، والشافعي .
والرابع : أنه وجه الأرض ذات التراب والغبار ، ومنه قول ذي الرُّمة :
كأنه بالضحى ترمي الصعيدَ به ... دَبّابةٌ في عظام الرأس خُرْطوم
وفي قوله تعالى : { طَيِّباً } أربعة أقاويل :
أحدها : حلالاً ، وهو قول سفيان .
والثاني : طاهراً ، وهو قول أبي جعفر الطبري .
والثالث : تراب الحرث ، وهو قول ابن عباس .
والرابع : أنه مكان حَدِرٌ غير بَطِحٍ ، وهو قول ابن جريج .
{ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } . فالوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في غسل الوضوء .
فأما مسح اليدين ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : الكفان إلى الزندين دون الذراعين ، وهو قول عمار بن ياسر ، ومكحول ، وبه قال مالك في أحد قوليه ، والشافعي في القديم .
والثاني : الذراعان مع المرفقين ، وهو قول ابن عمر ، والحسن ، والشعبي ، وسالم بن عبد الله ، والشافعي في الجديد .
والثالث : إلى المنكبين والإبطين ، وهو قول الزهري ، وحكي نحوه عن أبي بكر .
واختلفوا في جواز التيمم في الجنابة على قولين :
أحدهما : يجوز ، وهو قول الجمهور .
والثاني : لا يجوز وهو قول عمر ، وابن مسعود ، والنخعي .
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية على قولين :
أحدهما : نزلت في قوم من الصحابة أصابتهم جراح ، وهذا قول النخعي .
والثاني : أنها نزلت في إعواز الماء في السفر ، وهو قول عائشة رضي الله عنها .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم قد صاروا لجحودهم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كمشتري الضلالة بالهدى .
والثاني : أنهم كانوا يعطون أحبارهم أموالهم على ما كانواْ يصنعونه من التكذيب بالرسول صلى الله عليه وسلم .
والثالث : أنهم كانوا يأخذون الرشا ، وقد روى ثابت البناني عن أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الراشي ، والمرتشي ، والرائش ، وهو المتوسط بينهما .
قوله تعالى : { ... وَاسْمَعَ غَيْرَ مُسْمَعٍ } فيه قولان :
إحداهما : معناه : اسمع لا سمعت ، وهو قول ابن عباس ، وابن زيد .
والثاني : أنه غير مقبول منك ، وهو قول الحسن ، ومجاهد .
{ وَرَاعِنَا لَيَّاً بِأَلْسِنَتِهِم } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن هذه الكلمة كانت سَبّاً في لغتهم ، فأطلع الله نبيّه عليها فنهاهم عنها .
والثاني : أنها كانت تجري مجرى الهُزْءِ .
والثالث : إنها كانت تخرج مخرج الكِبْر .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } يعني اليهود والنصارى .
{ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا } يعني القرآن .
{ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } يعني كتبكم .
{ مِّن قَبْلِ أَن نِّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهآ } فيه قولان :
أحدهما : أن طمس الوجوه هو محو آثارها حتى تصير كالأقفاء ونجعل عيونها في أقفائها حتى تمشي القهقرى ، وهو قول ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : أن نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها ، أي في ضلالها ذمّاً لها بأنها لا تصلح أبداً ، وهذا قول الحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، وابن أبي نجيح ، والسدي .
{ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ } أي نمسخهم قردة ، وهو قول الحسن ، وقتادة ، والسدي .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ، بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } يعني اليهود في تزكيتهم أنفسهم أربعة أقاويل :
أحدها : قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه ، وهذا قول قتادة ، والحسن .
والثاني : تقديمهم أطفالهم لإمامتهم زعماً منهم أنه لا ذنوب لهم ، وهذا قول مجاهد ، وعكرمة .
والثالث : هو قولهم إن أبناءنا يستغفرون لنا ويزكوننا ، وهذا قول ابن عباس .
والرابع : هو تزكية بعضهم لبعض لينالوا به شيئاً من الدنيا ، وهذا قول ابن مسعود .
{ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } فيه قولان :
أحدهما : أي الفتيل الذي شق النواة ، وهو قول عطاء ، وقتادة ، ومجاهد ، والحسن ، وأحد قولي ابن عباس . قال الحسن : الفتيل ما في بطن النواة ، والنقير ما في ظهرها ، والقطمير قشرها .
والثاني : أنه ما انفتل بين الأصابع من الوسخ ، وهذا قول السدي ، وأحد قولي ابن عباس .
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنهما صنمان كان المشركون يعبدونهما ، وهذا قول عكرمة .
والثاني : أن الجبت : الأصنام ، والطاغوت : تراجمة الأصنام ، وهذا قول ابن عباس .
والثالث : أن الجبت السحر ، والطاغوت : الشيطان ، وهذا قول عمر ، ومجاهد .
والرابع : أن الجبت الساحر ، والطاغوت الكاهن ، وهذا قول سعيد بن جبير .
والخامس : أن الجبت حُيي بن أخطب ، والطاغوت كعب بن الأشرف ، وهو قول الضحاك .

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)

قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبُ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً } وفي النقير ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الذي يكون في ظهر النواة ، وهذا قول ابن عباس ، وعطاء ، والضحاك .
والثاني : أنه الذي يكون في وسط النواة ، وهو قول مجاهد .
والثالث : أنه نقر الرجل الشيء بطرفِ إبهامه ، وهو رواية أبي العالية عن ابن عباس .
قوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَاءاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ } يعني اليهود .
وفي الناس الذين عناهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم العرب ، وهو قول قتادة .
والثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، وعكرمة .
والثالث : أنهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهو قول بعض المتأخرين . وفي الفضل المحسود عليه قولان :
أحدهما : النبوة ، حسدواْ العرب على أن كانت فيهم ، وهو قول الحسن ، وقتادة .
والثاني : أنه إباحته للنبي صلى الله عليه وسلم نكاح من شاء من النساء من غير عدد ، وهو قول ابن عباس ، والضحاك ، والسدي .
{ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً } في الملك العظيم أربعة أقاويل :
أحدها : أنه ملك سليمان بن داود ، وهو قول ابن عباس .
والثاني : النبوة ، وهو قول مجاهد .
والثالث : ما أُيِّدُوا به من الملائكة والجنود ، وهو قول همام بن الحارث .
والرابع : من أباحه الله لداود وسليمان من النساء من غير عدد ، حتى نكح داود تسعاً وتسعين امرأة ، ونكح سليمان مائة امرأة ، وهذا قول السدي .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بئَايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِم نَاراً } إلى قوله : { لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } فإن قيل وكيف يجوز أن يُبدّلواْ جلوداً غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا فيعذبوا فيها؟ ولو جاز ذلك لجاز أن يُبدَّلواْ أجساماً ، وأرواحاً ، غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت في الدنيا ، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار غير الذين وعدهم الله في الدنيا على كفرهم بالعذاب بالنار .
وقد أجاب أهل العلمِ عنه بثلاثة أجوبة :
أحدها : أن ألم العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم ، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب ، فأما الجلد واللحم فلا يألمان فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان عليه وجلدٌ غَيْرُهُ .
والجواب الثاني : أنه تُعَادُ تلك الجلود الأولى جديدة [ غير ] محترقة .
والجواب الثالث : أن الجلود المُعادَةَ إنما هي سرابيلهم من قبل أن جعلت لهم لباساً ، فسماها الله جلوداً ، وأنكر قائل هذا القول أن تكون الجلود تحترق وتعاد غير محترقة ، لأن في حال احتراقها إلى حال إعادتها فناءَها ، وفي فنائها راحتها ، وقد أخبر الله تعالى : أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم العذاب .

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)

قوله تعالى : { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } في المعني بذلك أربعة أقاويل :
أحدها : أنه عَنَى وُلاَةَ أمور المسلمين ، وهذا قول شهر بن حَوْشَبٍ ، ومكحول ، وزيد بن أسلم .
والثاني : أنه أمر السلطان أن يعظ النساء ، وهذا قول ابن عباس .
والثالث : أنه خُوْطِبَ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عثمان بن أبي طلحة ، أن يرد عليه مفاتيح الكعبة ، وهذا قول ابن جريج .
والرابع : أنه في كل مَؤْتَمنٍ على شيء ، وهذا قول أُبَيّ بن كعب ، والحسن ، وقتادة . وقد روى قتادة عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَك
» .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الْرَّسُولَ وِأُولي الأَمْرِ مِنكُمْ } يعني أطيعوا الله في أوامره ونواهيه ، وأطيعوا الرسول .
روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ أَطَاَعنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَا اللهَ ، وَمَنْ عَصَا أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي
» . وفي طاعة الرسول قولان : أحدهما : اتباع سنته ، وهو قال عطاء .
والثاني : وأطيعوا الرسول إن كان حياً ، وهو قول ابن زيد .
وفي أولي الأمر أربعة أقاويل :
أحدها : هم الأمراء ، وهو قول ابن عباس ، وأبي هريرة ، والسدي ، وابن زيد .
وقد روى هشام عن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سَيَلِيكُم بَعْدِي وُلاَةٌ ، فَيَلِيكُمُ البَرُّ بِبِرِّهِ ، وَبَلِيكُمُ الفَاجِرُ بِفجُورِهِ ، فَاسْمَعُوا لَهُم وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الحَقَّ ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُم ، فإِن أَحْسَنٌواْ فَلَكُم وَلَهُم ، وإنْ أَساءُوا فَلَكُم وَعَليهُم
» . واختلف قائلو هذا القول في سبب نزولها في الأمراء ، فقال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية . وقال السدي : نزلت في عمار بن ياسر ، وخالد بن الوليد حين بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية .
والقول الثاني : هم العلماء والفقهاء ، وهو قول جابر بن عبد الله ، والحسن ، وعطاء ، وأبي العالية .
والثالث : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قول مجاهد .
والرابع : هم أبو بكر وعمر ، وهو قول عكرمة .
وطاعة وَلاَةِ الأمر تلزم في طاعة الله دون معصيته ، وهي طاعة يجوز أن تزول ، لجواز معصيتهم ، ولا يجوز أن تزول طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لامتناع معصيته .
وقد روى نافع عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « عَلَى المرَءِ المُسْلِمِ الطَّاعةُ فِيمَا أَحبَّ أو كَرِهَ إلاََّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيةٍ فَلاَ طَاعَةَ
» . قوله تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ } قال مجاهد ، وقتادة : يعني إلى كتاب الله وسنة رسوله .
{ إِن كُنتُم تُؤُمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأْوِيلاً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أَحْمَدُ عَاقِبَةً ، وهذا قول قتادة ، والسدي ، وابن زيد .
والثاني : أَظَهَرُ حَقاً وأَبْيَنُ صَواباً ، وهو معنى قول مجاهد .
والثالث : أحسن من تأويلكم الذي لا يرجع إلى أصل ولا يفضي إلى حق ، وهذا قول الزجاج .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوآ أَن يَكْفُرواْ بِهِ } اختلف فيمن نزلت هذه الآية على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في رجل من المنافقين ورجل من اليهود كان بينهما خصومة ، فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك لأني أعلم أنهم لا يقبلون الرشوة ، وقال المنافق : أحاكمك إلى اليهود منهم كعب بن الأشرف ، لأنه علم أنهم يقبلون الرشوة ، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة ، فأنزل الله فيهما هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني المنافق { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني اليهودي . { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } يعني الكاهن ، وهذا قول الشعبي ومجاهد .
والثاني : أنها نزلت في رجلين من بني النضير وبني قريظة ، وكانت بنو قريظة في الجاهلية إذا قتلت رجلاً من بني النضير أقادوا من القاتل ، وكانت بنو النضير في الجاهلية إذا قتلت رجلاً من بني قريظة لم تَقُد من القاتل وأعطوا ديته ستين وَسْقاً من تمر ، فلما أسلم ناس من بني قريظة وبني النضير ، قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة فتحاكمواْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النَّضِيِرِيُّ لرسول الله : إنا كنَّا في الجاهلية نعطيهم الدية ستين وَسَقاً من تمر ، فنحن نعطيهم اليوم ذلك ، وقالت بنو قريظة : نحن إخوان في النسب والدين وإنما كان ذلك عليه الجاهلية وقد جاء الإسلام ، فأنزل الله تعالى يعيِّرهم بما فعلواْ { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] ، ثم ذكر قول بني النضير { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] ثم أَخَذَ النَّضِيرِيَّ فقتله بالقرظي ، فتفاخرت النضير وقريظة ودخلواْ المدينة ، فتحاكموا إلى أبي بردة الأسلمي الكاهن ، فأنزل الله في ذلك { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُم ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ } [ النساء : 60 ] يعني في الحال ، { وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } يعني حين كانوا يهوداً . { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ } يعني أبا بردة الأسلمي الكاهن ، وهذا قول السدي .
قوله تعالى : { فَكَيفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةُ . . } الآية في سبب نزولها قولان :
أحدهما : أن عمر قتل منافقاً لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إخوانه من المنافقين يطالبون بدمه ، وحلفواْ بالله أننا ما أردنا في المطالبة بدمه إلا إحساناً إلى النساء ، وما يوافق الحق في أمرنا .
والثاني : أن المنافقين بعد القَوَدِ من صاحبهم اعتذرواْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاكمتهم إلى غيره بان قالواْ ما أردنا في عدولنا عنك إلا توفيقاً بين الخصوم وإحساناً بالتقريب في الحكم دون الحمل على مُرّ الحق ، فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِم } يعني من النفاق الذي يضمرونه .
{ فَأَعْرِضْ عَنهُم وَعِظْهُم } وفي الجمع بين الإعراض والوعظ مع تنافي اجتماعهما في الظاهر - ثلاثة أوجه :
أحدها : أعرض عنهم بالعداوة لهم وعِظهم فيما بدا منهم .
والثاني : أعرض عن عقابهم وعظهم .
والثالث : أعرض عن قبول الأعذار منهم وعظهم .
{ وَقُل لَّهُم فِي أَنْفُسِهِم قَوْلاً بَلِيغاً } فيه قولان :
أحدهما : أن يقول لهم : إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلكم ، فإنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ ، وهذا قول الحسن .
والثاني : أن يزجرهم عما هم عليه بأبلغ الزواجر .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ومعنى { شَجَرَ بَينَهُم } أي وقع بينهم من المشاجرة وهي المنازعة والاختلاف ، سُمِّيَ ذلك مشاجرة ، لتداخل بعض الكلام كتداخل الشجر بالتفافها .
{ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ } وفي الحرج تأويلان :
أحدهما : يعني شكّاً وهو قول مجاهد .
والثاني : يعني إثماً ، وهو قول الضحاك .
واختلف في سبب نزولها على قولين .
أحدهما : أنها نزلت في المنافق واليهودي اللَّذين احتكما إلى الطاغوت ، وهذا قول مجاهد ، والشعبي .
والثاني : أنها نزلت في الزبير ورجل من الأنصار قد شهد بدراً ، تخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرّة كانا يسقيان به نخلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اسْقِ يا زُبَيرُ ثُمَّ أَرسِل المَاءَ إلَى جَارِكَ » فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله آن كان ابن عمتك ، فَتَلَوِّنَ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف أن قد ساءه ، ثم قال يا زبير : « احْبسِ المَاءَ إلَى الجُدُرِ أو الكَعْبَينِ ثَمَّ خَلِّ سَبِيلَ المَاءِ » فنزلت هذه الآية ، وهذا قول عبد الله بن الزبير ، وعروة ، وأم سلمة .

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)

قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اولَئِكَ رَفِيقاً } أما الصديقون فهو جمع صديق ، وهم أتباع الأنبياء .
وفي تسمية الصديق قولان :
أحدهما : أنه فِعِّيل من الصِّدْقِ .
والثاني : أنه فِعّيل من الصَدَقَة . وأما الشهداء فجمع شهيد ، وهو المقتول في سبيل اللَّه تعالى .
وفي تسمية الشهيد قولان :
أحدهما : لقيامه بشهادة الحق ، حتى قتل في سبيل الله .
والثاني : لأنه يشهد كرامة الله تعالى . في الآخرة . ويشهد على العباد بأعمالهم يوم القيامة إذا ختم له بالقتل في سبيل الله .
وأما الصالحون فجمع صالح وفيه قولان :
أحدهما : أنه كل من صلح عمله .
والثاني : هو كل من صلحت سريرته وعلانيته .
وأما الرفيق ففيه قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من الرفق في العمل .
والثاني : أنه مأخوذ من الرفق في السير .
وسبب نزول هذه الآية على ما حكاه الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع والسدي أنَّ ناساً توهموا أنهم لا يرون الأنبياء في الجنة لأنهم في أعلى عليين ، وحزنوا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُم } فيه قولان :
أحدهما : يعني احذرواْ عَدُوَّكم .
والثاني : معناه خذواْ سلاحكم فسماه حذراً لأنه به يتقي الحذر .
{ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرو جَمِيعاً } والثُّبات : جمع ثُبة ، والثُبةُ العُصْبة ، ومنه قول زهير :
لقد أغدو على ثُبةٍ كرام ... ... نشاوَى واجدين لما نشاء
فيكون معنى لآية فانفروا عُصَباً وفِرقاً أو جميعاً .
قوله تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الْدُّنْيَا بِالأَخِرةِ } يعني يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة ، فعبر عن البيع بالشراء .
{ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } فإن قيل فالوعد من الله تعالى على القتال فكيف جعل على القتل أو الغلبة؟ قيل لأن القتال يفضي غالباً إلى القتل فصار الوعد على القتال وعداً على من يفضي إليه ، والقتال على ما يستحقه من الوعد إذا أفضى إلى القتل والغلبة أعظم ، وهكذا أخبر .

وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)

قوله تعالى : { رَبَّنآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } هي مكة في قول جميع المفسرين ، لما كانواْ عليه ، كما أخبر الله به عنهم ، من استضعاف الرجال والنساء والولدان وإفتانهم عن دينهم بالعذاب والأذى .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيَل لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } فيمن نزلت هذه الآية فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في قتال المشركين فلم يأذن لهم ، فلما كُتِبَ عليهم القتال وهم بالمدينة قال فريق منهم ما ذكره الله عنهم ، وهذا قول ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : أنها نزلت في المنافقين ، وهو قول بعض البصريين .
والثالث : أنها نزلت في اليهود .
والرابع : أنها من صفة المؤمن لما طُبعَ عليه البشر من المخافة ، وهذا قول الحسن .
{ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } في البروج ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها القصور ، وهو قول مجاهد ، وابن جريج .
والثاني : أنها قصور في السماء بأعيانها تسمى بهذا الاسم ، وهو قول السدي ، والربيع .
والثالث : أنها البيوت التي في الحصون وهو قول بعض البصريين .
وأصل البروج الظهور ، ومنه تبرج المرأة إذا أظهرت نفسها .
وفي المُشّيَّدَةِ ثلاثة أقاويل :
أحدها : المجصصة ، والشيد الجص ، وهذا قول بعض البصريين .
والثاني : أن المُشّيَّدَ المطول في الارتفاع ، يقال شاد الرجل بناءه وأشاده إذا رفعه ، ومنه أَشدت بذِكِرْ الرجل إذا رَفَعْتَ منه ، وهذا قول الزجاج .
والثالث : أن المُشّيَّد ، بالتشديد : المُطَّول ، وبالتخفيف : المجصَّص .
قوله تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ } في القائلين ذلك قولان :
أحدهما : أنهم المنافقون ، وهو قول الحسن .
والثاني : اليهود ، وهو قول الزجاج .
وفي الحسنة والسيئة ها هنا ثلاثة تأويلات :
أحدها : البؤس والرخاء .
والثاني : الخصب والجدب ، وهو قول ابن عباس ، وقتادة .
والثالث : النصر والهزيمة ، وهو قول الحسن ، وابن زيد .
وفي قوله : { مِنْ عِندِكَ } تأويلان :
أحدهما : أي بسوء تدبيرك ، وهو قول ابن زيد .
والثاني : يعنون بالشؤم الذي لحقنا منك على جهة التطُّير به ، وهذا قول الزجاج ، ومثله قوله تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] .
قوله تعالى :
{ مَا أَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك } اختلف في المراد بهذا الخطاب على ثلاثة أقاويل .
أحدها : أن الخطاب متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو المراد به .
والثاني : أنه متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره ، وهو قول الزجاج .
والثالث : أنه متوجه إلى الإنسان ، وتقديره : ما أصابك أيها الإنسان من حسنة فمن الله ، وهذا قول قتادة .
وفي الحسنة والسيئة ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الحسنة النعمة في الدين والدنيا ، والسيئة المصيبة في الدين والدنيا ، وهذا قول بعض البصريين .
والثاني : أن الحسنة ما أصابه يوم بدر ، والسيئة ما أصابه يوم أحد من شج رأسه وكسر رباعيته ، وهو قول ابن عباس ، والحسن .
والثالث : أن الحسنة الطاعة ، والسيئة المعصية ، وهذا قول أبي العالية . قوله تعالى : { فَمِن نَّفْسِكَ } قولان :
أحدهما : يعني فبذنبك .
والثاني : فبفعلك .

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)

قوله تعالى : { مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ } وإنما كانت طاعة لله لأنها موافقة لأمر الله تعالى .
{ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني حافظاً لهم من المعاصي حتى لا تقع منهم .
والثاني : حافظاً لأعمالهم التي يقع الجزاء عليها فتخاف ألاّ تقوم بها ، فإن الله تعالى هو المجازي عليها .
{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يعني المنافقين ، أي أمرنا طاعة .
{ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } والتبييت كل عمل دُبِّر ليلاً ، قال عبيد بن همام :
أتوني فلم أرض ما بيّتوا ... وكانواْ أتوْني بأمرٍ نُكُر
لأُنْكِحَ أَيِّمَهُمْ منذراً ... وهل يُنْكِحُ الْعَبْدُ حُرٌّ لحُرْ؟
وفي تسمية العمل بالليل بياتاً قولان :
أحدهما : لأن الليل وقت المبيت .
والثاني : لأنه وقت البيوت .
وفي المراد بقوله تعالى : { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } قولان :
أحدهما : أنها غيّرت ما أضمرت من الخلاف فيما أمرتهم به أو نهيتهم عنه ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : معناه فدبَّرت غير الذي تقول على جهة التكذيب ، وهذا قول الحسن .
{ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } فيه قولان :
أحدهما : يكتبه في اللوح المحفوظ ليجازيهم عليه .
والثاني : يكتبه بأن ينزله إليك في الكتاب ، وهذا قول الزجاج .

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)

قوله تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرءَآنَ } أصل التدبر الدبور ، لأنه النظر في عواقب الأمور .
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } في الاختلاف ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : تناقض من جهة حق وباطل ، وهذا قول قتادة ، وابن زيد .
والثاني : من جهة بليغ ومرذول ، وهو قول بعض البصريين .
والثالث : يعني اختلافاً في الأخبار عما يُسِرُّونَ ، وهذا قول الزجاج .
قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } في المعني بهذا قولان :
أحدهما : المنافقون ، وهو قول ابن زيد والضحاك .
والثاني : أنهم ضعفة المسلمين ، وهو قول الحسن ، والزجاج .
{ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } وفيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الأمراء ، وهذا قول ابن زيد ، والسدي .
والثاني : هم أمراء السرايا .
والثالث : هم أهل العلم والفقه ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن جريج ، وابن نجيح ، والزجاج .
{ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أولو الأمر .
والثاني : أنهم المنافقون أو ضعفة المسلمين المقصودون بأول الآية ، ومعنى يستنبطونه : أي يستخرجونه ، مأخوذ من استنباط الماء ، ومنه سُمِّي النبط لاستنباطهم العيون .
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لآتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } في فضل الله ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : القرآن .
والثالث : اللطف والتوفيق .
وفي قوله تعالى : { لآتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } أربعة أقاويل :
أحدها : يعني لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم فإنه لم يكن يتبع الشيطان .
والثاني : لعلمه الذين يستنبطون إلا قليلاً منكم وهذا قول الحسن وقتادة .
والثالث : أذاعوا به إلا قليلاً ، وهذا قول ابن عباس ، وابن زيد .
والرابع : لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً مع الاتباع .

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)

قوله تعالى : { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِنْهَا } في الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة قولان :
أحدهما : أنه مسألة الإنسان في صاحبه أن يناله خير بمسألته أو شر بمسألته ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، وابن زيد .
والثاني : أن الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمنين ، والشفاعة السيئة الدعاء عليهم ، لأن اليهود كانت تفعل ذلك فتوعَّدَهُم الله عليه . وفي الكِفْلِ تأويلان :
أحدها : أنه الوِزر والإثم ، وهو قول الحسن ، وقتادة .
والثاني : أنه النصيب ، كما قال تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] وهو قول السدي ، والربيع ، وابن زيد .
{ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعني مقتدراً ، وهو قول السدي ، وابن زيد .
والثاني : حفيظاً ، وهو قول ابن عباس ، والزجاج .
والثالث : شهيداً ، وهو قول مجاهد .
والرابع : حسيباً ، وهو قول ابن الحجاج ، ويحكى عن مجاهد أيضاً .
والخامس : مجازياً ، وأصل المقيت القوت ، فَسُمِّي به المقتدر لأنه قادر على إعطاء القوت ، ثم صار اسماً في كل مقتدر على كل شيءٍ من قوت غيره ، كما قال الزبير ابن عبد المطلب :
وذي ضَغَنٍ كَففْتُ النَّفْسَ عنه ... وكنتُ على مَسَاءَتِهِ مُقِيتاً
قوله تعالى : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَا } في المراد بالتحية ها هنا قولان :
أحدهما : أنه الدعاء بطول الحياة .
والثاني : السلام تطوع مستحب ، ورده فرض ، وفيه قولان :
أحدهما : أن فرض رّدِّهِ عَامٌّ في المسلم والكافر ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : أنه خاص في المسلمين دون الكافر ، وهذا قول عطاء .
وقوله تعالى : { بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } يعني الزيادة في الدعاء .
{ أَوْ رُدُّوهَا } يعني بمثلها ، وروى الحسن أن رجلاً سلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ » ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وًبَرَكاَتُهُ » ثم جاء آخر فقال : « السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » وَعَلَيْكُم « فقيل : يا رسول الله رددت على الأول والثاني وقلت للثالث وعليكم ، فقال : » إِنَّ الأَوَّلَ سَلّمَ وَأَبْقَى مِنَ التَّحِيَّةِ شَيئاً ، فَرَدَدْتُ عَلَيهِ بِأَحْسَنَ مِمَّا جَاءَ بِهِ ، كَذَلِكَ الثَّانِي ، وإنَّ الثَّالِثَ جَاءَ بِالتَّحِيَّةِ كُلِّهَا ، فَرَدَدْتُ عَلَيهِ مِثْلَ ذَلِكَ
« . وقد قال ابن عباس : ترد بأحسن منها على أهل الإِسلام ، أو مثلها على أهل الكفر ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : » لا تَبْدَأُواْ اليَهُودُ بِالسَّلاَمِ فَإِنْ بَدَأُوكُم فَقُولُواْ : عَلَيكُم
« . { إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني حفيظاً ، وهو قول مجاهد .
والثاني : محاسباً على العمل للجزاء عليه ، وهو قول بعض المتكلمين .
والثالث : كافياً ، وهو قول البلخي .
قوله تعالى : { الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ } وفي تسمية القيامة قولان :
أحدهما : لأن الناس يقومون فيه من قبورهم .
والثاني : لأنهم يقومون فيه للحساب .

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)

قوله تعالى : { فَمَا لَكُم فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَينِ } اختلف فيمن نزلت هذه الآية بسببه على خمسة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في الذين تخلَّفُواْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وقالواْ : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ، وهذا قول زيد بن ثابت .
والثاني : أنها نزلت في قوم قَدِمُواْ المدينة فأظهروا الإسلام ، ثم رجعواْ إلى مكة فأظهروا الشرك ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد .
والثالث : أنها نزلت في قوم أظهرواْ الإِسلام بمكة وكانواْ يعينون المشركين على المسلمين ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة .
والرابع : أنها نزلت في قوم من أهل المدينة أرادوا الخروج عنها نفاقاً ، وهذا قول السدي .
والخامس : أنها نزلت في قوم من أهل الإفك ، وهذا قول ابن زيد .
وفي قوله تعالى : { وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا } خمسة تأويلات :
أحدها : معناه ردهم ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : أوقعهم ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أهلكهم ، وهذا قول قتادة .
والرابع : أَضَلَّهم ، وهذا قول السدي .
والخامس : نكسهم ، وهذا قول الزجاج .
{ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ } فيه قولان :
أحدهما : أن تُسَمُّوهم بالهُدى وقد سمّاهم الله بالضلال عقوبة لهم .
والثاني : تهدوهم إلى الثواب بمدحهم والله قد أَضَلَّهم بذمهم .
{ . . . . إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } أي يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لكم .
قال عكرمة : نزلت في الهلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك بن جُعْثَم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف .
قال الحسن : هؤلاء بنو مُدْلِج كان بينهم وبين قريش عهد ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وقريش ] عهد ، فحرم الله من بني مُدْلِجِ ما حرّم من قريش .
{ أَوْ جَآؤُكُمْ حَصِرتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } معنى حصرت أي ضاقت ، ومنه حُصِرَ العدو وهو الضيق ، ومنه حصر العداة لأنهم قد ضاقت عليهم مذاهبهم .
ثم فيه قولان :
أحدهما : أنه إخبارٌ من الله عنهم بأن صدورهم حَصِرتْ .
والثاني : أنه دعاء من الله عليهم بأن تُحصَرَ صدورهم ، وهذا قول أبي العباس .
{ وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } وفي تسليطهم قولان :
أحدهما : بتقوية قلوبهم .
والثاني : بالإذن في القتال ليدافعواْ عن أنفسهم .
{ فَإِن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } فيه قولان :
أحدهما : الصلح ، وهو قول الربيع .
والثاني : الإِسلام ، وهو قول الحسن .
{ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } قال الحسن ، وقتادة ، وعكرمة : هي منسوخة بقوله تعالى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] .
قوله تعالى : { سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } هم قوم يُظْهِرُونَ لقومهم الموافقة ليأمنوهم ، وللمسلمين الإسلام ليأمنوهم ، وفيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم أهل مكة ، وهذا قول مجاهد .
والثاني : أنهم من أهل تهامة ، وهذا قول قتادة .
والثالث : قوم من المنافقين ، وهذا قول الحسن .
والرابع : أنه نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهذا قول السدي .
{ كُلَّ مَا ردُوُّاْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا } أي كلما رُدُّوا إلى المحنة في إظهار الكفر رجعواْ فيه .

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)

قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً } اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان أخا أبي جهل لأمه قتل الحارث بن زيد من بني عامر بن لؤي ، لأنه كان يعذب عياشاً مع أبي جهل واختلف أين قتله ، فقال عكرمة ومجاهد : قتله بالحرّة بعد هجرته إلى المدينة وهو لا يعلم بإسلامه ، وقال السدي : قتله يوم الفتح وقد خرج من مكة وهو لا يعلم بإسلامه .
والقول الثاني : أنها نزلت في أبي الدرداء حين قتل رجلاً بالشعب فحمل عليه بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله ، فبدر فضربه ثم وجد في نفسه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أّلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ
» وهذا قول ابن زيد . فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً } يعني وما أّذِنَ الله لمؤمن أن يقتل مؤمناً .
ثم قال : { إلاَّ خَطَأ } يعني أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس مما جعله الله له ، وهذا من الاستثناء الذي يسميه أهل العربية : الاستثناء المنقطع ، ومنه قول جرير :
من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ ... على الأرض إلاّ ريْط بُردٍ مرحّلِ
يعني ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد وليس البرد من الأرض .
{ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } وفيها قولان :
أحدهما : أنها لا يجزىء عتقها في الكفارة إلا أن تكون مؤمنة بالغة قد صلت وصامت ، وهذا قول ابن عباس ، والشعبي ، والحسن ، وقتادة ، وإبراهيم .
والقول الثاني : أن الصغيرة المولودة من أبوين مسلمين تكون مؤمنة تجزىء في الكفارة ، وهذا قول عطاء ، والشافعي .
{ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } في الدية وجهان :
أحدهما : أنها مجملة أخذ بيانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنها معهودة تقدم العمل بها ثم توجه الخطاب إليها فجعل الله الرقبة تكفيراً للقاتل في ماله والدية بدلاً من نفس المقتول على عاقلته .
{ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } فيه قولان :
أحدهما : أي إن كان قومه كفاراً وهو مؤمن ففي قتله تحرير رقبة مؤمنة وليس فيه ديةُ ، وهو قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد . قال ابن زيد : لا تؤدى إليهم لأنهم يَتَقوُّونَ بها .
والثاني : معناه فإن كان من قومٍ عدو لكم يعني أهل حرب إذا كان فيهم مؤمن فَقُتِلَ من غير علم بإيمانه ففيه الكفارة دون الدية سواء كان وارثه مسلماً أو كافراً وهذا قول الشافعي ، ويكون معنى قوله : { من قوم إلى قوم } ، وعلى القول الأول هي مستعملة على حقيقتها .

ثم قال تعالى : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنةٍ } فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : هم أهل الذمة من أهل الكتاب ، وهو قول ابن عباس ، يجب في قتلهم الدية والكفارة .
والثاني : هم أهل عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصة ، وهذا قول الحسن .
والثالث : هم كل من له أمان بذمة أو عهد فيجب في قتله الدية والكفارة ، وهو قول الشافعي .
ثم قال تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } فيه قولان :
أحدهما : أن الصوم بدل من الرقبة وحدها إذا عدمها دون الدية ، وهذا قول الجمهور .
والثاني : أنه بدل من الرقبة والدية جميعاً عند عدمها ، وهذا قول مسروقٍ .
قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } قال ابن جريج : نزلت في مقيس بن صبابة ، وقد كان رجل من بني فهر قتل أخاه ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية وضربها علي بني النجار ، فقبلها ، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيس بن صبابة ومعه الفهري في حاجة فاحتمل مقيس الفهريَّ وكان أَيِّدا فضرب به الأرض ورضخ رأسه بين حجرين ثم ألقى يغني :
قتلت به فِهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَظُنُّهُ أَحْدَثَ حَدَثاً ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِن كَانَ فَعَلَ لاَ أُؤَمِّنْهُ فِي حِلٍ وَلاَ حَرمٍ فَقُتِلَ عَامَ الفَتْحِ
» . وروى سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَمَن يَقْتُلْ مَؤْمِناً مُّتَعمِدّاً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ ... » الآية ، فقيل له : وإن تاب وآمن وعمل صالحاً . قال وأنَّى له التوبة . قال زيد بن ثابت . فنزلت الشديدة بعد الهدنة بستة أشهر ، يعني قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } بعد قوله : { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهَ إِلاَّ بِالْحَقِّ } [ الفرقان : 68 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)

قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُم فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُواْ } .
الآية . قيل إنها نزلت في رجل كانت معه غُنَيْمَاتُ لقيته سريَّة لرسول الله صلى الله عليهم وسلم ، فقال لهم : السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فبدر إليه بعضهم فقتله ، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : « لِمَ قَتَلْتَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ » قال إنما قالها تعوذاً ، قال : « هَلاَّ شَقَقْتَ عَن قَلْبِهِ » ثم حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله وردّ عليهم غنمه .
واختلف في قاتله على خمسة أقاويل :
أحدها : أنه أسامة بن زيد ، وهو قول السدي .
والثاني : أنه المقداد ، وهو قول سعيد ابن جبير .
والثالث : أبو الدرداء ، وهو قول ابن زيد .
والرابع : عامر بن الأضبط الأشجعي ، وهو قول ابن عمر .
والخامس : هو محلِّم بن جثامة الليثي . ويقال إن القاتل لفظته الأرض ثلاث مرات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ الأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِّنهُ وَلَكنَّ اللَّهَ جَعَلهُ لَكُم عِبْرَةً ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَن تُلْقْى عَلَيهِ الحِجَاَرةُ
» . { كَذَلِكَ كنتُم مِّن قَبْلُ } أي كفاراً مثلهم .
{ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ } يعني بالإسلام .

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

قوله تعالى : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } .
في المراغم خمسة تأويلات :
أحدها : أنه المتحوَّل من أرض إلى أرض ، وهذا قول ابن عباس والضحاك . ومنه قول نابغة بني جعدة :
كطْودٍ يُلاذ بأركانه . . . ... عزيز المراغم والمطلب
والثاني : مطلب المعيشة ، وهو قول السدي ، ومنه قول الشاعر :
إلى بلدٍ غير داني المحل . . . ... بَعيد المُراغم والمطلب
والثالث : أن المراغم المهاجر ، وهو قول ابن زيد :
والرابع : يعني بالمراغم مندوحة عما يكره .
والخامس : أن يجد ما يرغمهم به ، لأن كل من شخص عن قومه رغبة عنهم فقد أرغمهم ، وهذا قول بعض البصريين .
وأصل ذلك الرغم وهو الذل . والرّغام : التراب لأنه ذليل ، والرُّغام بضم الراء ما يسيل من الأنف .
وفي قوله تعالى : { وَسَعَةً } ثلاث تأويلات :
أحدها : سعة في الرزق وهو قول ابن عباس .
والثاني : يعني من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى ، وهو قول قتادة .
والثالث : سعة في إظهار الدين .

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)

قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُم فِي الأَرْضِ } أي سرتم ، لأنه يضرب الأرض برجله في سيره كضربه بيده ، ولذلك سُمِّيَ السفر في الأرض ضَرْباً .
{ فَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِن الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } اختلف في هذا القصر المشروط بالخوف على قولين :
أحدهما : أنه قَصَرَ أركانها إذا خاف ، مع استيفاء أعدادها فيصلي عند المسايفة والتحام القتال كيف أمكنه قائماً وقاعداً ومومياً ، وهي مثل قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ فِرجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } [ البقرة : 239 ] وهذا قول ابن عباس .
والثاني : أنه قصر أعدادها من أربع إلى ما دونها ، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن هذا مشروط بالخوف من أربع إلى ركعتين ، فإن كان آمناً مقيماً لم يقصر ، وهذا قول سعد بن أبي وقاص ، وداود بن علي .
والثاني : أنه قَصْران ، فقصر الأمَنْ ، من الأربع إلى ركعتين ، وقصر الخوف من ركعتين إلى ركعة ، وهذا قول جابر بن عبد الله والحسن . وقد روى مجاهد عن ابن عباس قال : فرض الله عز وجل على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة .
والثالث : أنه يقصر في سفر خائفاً وآمناً من أربع إلى ركعتين لا غير .
روي عن أبي أيوب عن علي عليه السلام قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِن الصَّلاَةِ } ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أُخرى مثلها في أثرها ، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين { إِن خِفْتُم أَن يَفْتِنَكُم الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُم عَدُوّاً مُبِيْناً } إلى قوله : { عَذَاباً مُّهِيناً } فنزلت صلاة الخوف .

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)

قوله تعالى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في الخوف بأصحابه . واختلف أهل العلم فيه هل خص به النبي صلى الله عليه وسلم ؟ على قولين :
أحدهما : أنه خاص له وليس لغيره من أمته أن يصلي في الخوف كصلاته ، لأن المشركين عزموا على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم ، فاطلع الله نبيه على سرائرهم وأمره بالتحرز منهم ، فكان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد ، فلذلك صار هذا خاصاً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا القول محكي عن أبي يوسف .
والقول الثاني : أن ذلك عام للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من أمته إذا كان على مثل حاله في خوفه ، لأن ذكر السبب الذي هو الخوف يوجب حمله عليه متى وجد كما فعل الصحابة بعده حين خافوا وهو قول الجمهور .
وقوله تعالى : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، وطائفة بإزاء العدو .
ثم قال تعالى : { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أن المأمورين بأخذ السلاح هم الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول الشافعي .
والثاني : هم الذين بإزاء العدو يحرسون ، وهذا قول ابن عباس .
ثم قال تعالى : { فَإِذَا سَجَدُواْ } يعني فإذا سجدت الطائفة التي معك في الصلاة .
{ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } يعني بإزاء العدو .
واختلفوا في قوله تعالى : { مِن وَرَآئِكُمْ } هل ذلك بعد فراغهم من الصلاة وتمامها بالركعة التي أدركوها معه؟ على قولين :
أحدهما : قد تمت بالركعة حتى يصلوا معها بعد فراغ الإمام ركعة أخرى ، وهذا قول من أوجب عليه الخوف ركعتين .
ومن قال بهذا اختلفوا هل يتمون الركعة الباقية عليهم قبل وقوفهم بإزاء العدو أو بعده؟ على قولين :
أحدهما : قبل وقوفهم بإزاء العدو ، وهو قول الشافعي .
والثاني : بعده وهو قول أبي حنيفة .
ثم قال تعالى : { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَك } يريد الطائفة التي بإزاء العدو تأتي فتصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة التي بقيت عليه ، وتمضي الطائفة التي صلّت فتقف موضعها بإزاء العدو . وإذا صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الباقية عليه ففيه قولان :
أحدهما : أن ذلك فرضها وتسلم بسلامه ، وهذا قول من جعل فرضه في الخوف ركعة .
والقول الثاني : أن عليها ركعة أخرى ، وهذا قول من جعل فرضه في الخوف ركعتين كالأمن ، فعلى هذا متى تفارقه؟ فعلى قولين :
أحدهما : قبل تشهده .
والثاني : بعده ، وقد روى القولين معاً سهل بن أبي حَثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وهل تتم ركعتها الباقية وقوفها بإزاء العدو؟ على قولين :
أحدهما : تتمها قبل الوقوف بإزائه ، وهو قول الشافعي .
والثاني : تقف بإزائه قبل إتمامها حتى إذا أتمت الطائفة الأولى ركعتها عادت فوقفت بإزاء العدو ، ثم خرجت هذه فأتمت ركعتها ، وهذا قول أبي حنيفة .
وهذه الصلاة هي نحو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع .

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)

قوله تعالى : { فَإذَا قَضَيتُمُ الصَلاَّةَ فَاذْكُرُواْ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً } يعني ذكر الله بالتعظيم والتسبيح والتقديس بعد صلاته في خوفٍ وغيره : قال ابن عباس : لم يعذر أحد في تركه إلا مغلوباً على عقله .
{ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني فإذا أقمتم بعد السفر فأتموا الصلاة من غير قصر ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، ومجاهد .
والثاني : معناه فإذا أمِنْتم بعد خوفكم فأتموا الركوع والسجود من غير إيماء ولا مشي ، وهذا قول السدي .
{ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } فيه تأويلان :
أحدهما : أي فرضاً واجباً ، وهو قول ابن عباس ، والحسن .
والثاني : يعني مؤقتة في أوقاتها ونجومها ، كلما مضى نجم جاء نجم ، وهو قول ابن مسعود ، وزيد بن أسلم .
{ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَومِ } أي لا تضعفواْ في طلبهم لحربهم .
{ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ } أي ما أصابهم منكم فإنهم يألمون به كما تألمون بما أصابكم منهم .
ثم قال تعالى : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } أي هذه زيادة لكم عليهم وفضيلة خُصِصْتُم بها دونهم مع التساوي في الألم .
وفي هذا الرجاء اثنان من التأويلات :
أحدهما : معناه أنكم ترجون من نصر الله ما لا يرجون .
والثاني : تخافون من الله لا يخافون ، ومنه قوله تعالى : { مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً } [ نوح : 31 ] أي لا تخافون لله عظمة . ومنه قول الشاعر :
لا ترتجي حين تلاقي الذائدا ... أسبعةً لاقت معاً أم واحداً

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)

قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الكتاب حق .
والثاني : أن فيه ذكر الحق .
والثالث : أنك به أحق .
{ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بما أعلمك الله أنه حق .
والثاني : بما يؤديك اجتهادك إليه أنه حق .
{ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خصيماً } أي مخاصماً عنهم ، وهذه الآية نزلت في طعمة بن أبيرق ، واختلف في سبب نزولها فيه ، فقال السدي : كان قد أودع درعاً وطعاماً فجحده ولم تقم عليه بينه ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدفع عنه ، فبين الله تعالى أمره .
وقال الحسن : إنه كان سرق درعاً وطعاماً فأنكره واتهم غيره وألقاه في منزله ، وأعانه قوم من الأنصار ، وخاصم النبي صلى الله عليه وسلم عنه أو هَمّ بذلك ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية إلى قوله : { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } يعني الذي اتهمه السارق وألقى عليه السرقة .
وقيل : إنه كان رجلاً من اليهود يقال له يزيد بن السمق .
وقيل : بل كان رجلاً من الأنصار يُقال له لبيد بن سهل .
وقيل : طعمة بن أبيرق فارتد فنزلت فيه هذه الآية .
ولحق بمشركي أهل مكة فأنزل الله تعالى فيه : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } الآية [ النساء : 115 ] .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)

قوله تعالى : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الإناث اللات والعزى ومَناة ، وهو قول السدي وابن زيد وأبي مالك .
والثاني : أنها الأوثان ، وكان في مصحف عائشة : { إِن تَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } .
والثالث : الملائكة ، لأنهم كانواْ يزعمون أنهم بنات الله ، وهذا قول الضحاك .
والرابع : الموات الذي لا روح فيه ، لأن إناث كل شيء أرذله ، وهو قول ابن عباس ، وقتادة .
قوله تعالى : { ولأُضِلَّنَّهُمْ } يعني الإيمان .
{ ولأُمَنِّيَنَّهُمْ } يعني بطول الأمل في الدنيا ليؤثروها على الآخرة .
{ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الأَنْعَامِ } أي لَيُقَطِّعُنَّهَا نُسكاً لأوثانهم كالبحيرة والسائبة .
{ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ } فيه ثلاث تأويلات .
أحدها : يعني دين الله ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وإبراهيم .
والثاني : أنه أراد به خصاء البهائم ، وهذا قول ابن عباس ، وأنس ، وعكرمة .
والثالث : أنه الوشم ، وهو قول ابن مسعود ، والحسن .
قال ابن مسعود : « لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ والمُسْتَوشِمَاتِ وَالنَّامِصَاتِ والمتنمِّصَاتِ والمُتَفَلِّجَاتِ للحسُنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ » .

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)

قوله تعالى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيَّ أَهْلِ الْكِتَابِ } في الكلام مضمر محذوف وتقديره ليس الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، على قولين :
أحدهما : أنهم عبدة الأوثان ، وهو قول مجاهد .
والثاني : أنهم أهل الإسلام ، وهو قول مسروق ، والسدي .
{ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ } السوء ما يسوء من القبائح ، وفيه ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الشرك بالله تعالى ، وهو قول ابن عباس .
الثاني : أنه الكبائر ، وهذا قول أُبَيِّ بن كعب .
والثالث : أنه ما يلقاه الإنسان في الدنيا من الأحزان والمصائب جزاءً عن سيئاته كما روى محمد بن قيس بن مخرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْرَ بِهِ } شقت على المسلمين وبلغت بهم ما شاء الله أن تبلغ فَشَكو ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « قَارِبُوا وَسدِّدُواْ فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبةُ يُنْكَبُهَا أو الشَّوْكِةُ يُشَاكُهاَ
» . وروى الأعمش عن مسلم قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ما أشَدَّ هذه الآية { مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْرَ بِهِ } فقال : « يَا أَبَا بَكْر إِنَّ المُصِيْبَةَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ
» .

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)

قوله تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } الآية . اختلف في سبب نزول هذه الآية على قولين :
أحدهما : هو أن سبب نزولها أنهم في الجاهلية كانواْ لا يورثون النساء ولا الأطفال ، فلما فرض الله تعالى المواريث في هذه السورة شق ذلك على الناس ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : { اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } فيه قولان .
أحدهما : يعني المواريث ، وهذا قول ابن عباس بن جبير وقتادة مجاهد وابن زيد .
والثاني : أنهم كانواْ لا يؤتون النساء صدقاتهن ويتملكها أولياؤهن ، فلما نزل قوله تعالى : { وَءَاتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله تعالى : { اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } يعني ما فرض لهن من الصداق وهو قول عائشة .
{ وترغبون أن تنكحوهن } فيه تأويلان :
أحدهما : ترغبون عن نكاهن لقبحهن .
والثاني : تمسكونهن رغبة في أموالهن وجمالهن ، وهو قول عائشة .

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)

قوله تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً } الآية اختلف في سبب نزول هذه الآية على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هم بطلاق سودة بنت زمعة فجعلت يومها لعائشة على ألا يطلقها ، فنزلت هذه الآية فيها . وهذا قول السدي .
والقول الثاني : أنها عامة في كل امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً . والنشوز : الترفع عنها لبغضها ، والإعراض : أن ينصرف عن الميل إليها لمؤاخذة أو أثرة .
{ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } إمَّا من تَرْكِ مهرٍ أو إسقاط قَسَم .
{ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني خيراً من النشوز والإعراض ، وهو قول بعض البصريين .
والثاني : خير من الفرقة ، وهو قول الزجاج .
{ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ } فيه تأويلان :
أحدهما : أنفس النساء أحضرت الشح عن حقوقهن من أزواجهن وأموالهن ، وهذا قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والثاني : أحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة الشح بحقه قبل صاحبه ، وهو قول الحسن .
قوله تعالى : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ } يعني بقلوبكم ومحبتكم .
{ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : ولو حرصتم أن تعدلوا في المحبة ، وهو قول مجاهد .
والثاني : ولو حرصتم في الجماع ، وهو قول ابن عباس .
{ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ } أي فلا تميلواْ بأفعالكم فتُتْبِعُوهَا أهواءَكم .
{ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } يعني لا أيِّماً ولا ذات زوْج .
قوله تعالى : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } يعني الزوجين إن تفرقا بالطلاق .
{ يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : يغني الله كل واحد منهما بالقناعة والصبر عن صاحبه ، ومعنى قوله : { من سعته } أي من رحمته ، لأنه واسع الرحمة .
والثاني : يغني الله كل واحد منهما عن صاحبه بمن هو خير منه ، ومعنى قوله : { من سعته } أي من قدرته لأنه واسع القدرة .
والثالث : يغني الله كل واحد منهما بمال يكون أنفع له من صاحبه . ومعنى قوله : { من سعته } أي من غناه لأنه واسع الغنى .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)

قوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بأَخَرِينَ } روى سهل بن أبي صالح عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نزلت ضرب بيده على ظهر سلمان وقال : « هُمْ قَوْمُ هّذا » يعني عجم الفرس .
قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالأخِرَةِ } ثواب الدنيا النعمة ، وثواب الآخرة الجنة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)

قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } يعني بالعدل { شُهَدَآءَ للهِ } يعني بالحق .
{ وَلَو عَلَى أَنْفُسِكُمْ } وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراراه بما عليه من الحق لخصمه .
{ أَوِ الْوَالِدَينِ وَالأَقْرَبِينَ } أن يشهد عليهم لا لهم .
{ إِن يَكُنْ غَنِّياً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } قال السدي : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختصم إليه رجلان : غني وفقير ، فكان ميله مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغني ، فأمره الله عز وجل أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال : { إِن يَكُنْ غَنِّياً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } .
وقال ابن عباس : نزلت في الشهادة لهم وعليهم .
{ وَإِن تَلوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ } قرأ ابن عباس وحمزة بواو واحدة ، وهي من الولاية أي تلوا أمور الناس أو تتركواْ ، وهذا للولاة والحكام .
وقرأ الباقون : { تَلْوُواْ } بواوين . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : هو أن يلوي الإنسان لسانه بالشهادة كما يلوي الرجل ديْن الرجل إذا مطله ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « ولَيُّ الْوَاجِدِ يُبِيْحُ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ
» وقال الأعشى :
يلوونني ديني النهار وأقتضى ... ديني إذا وقذ النعاس الرُّقدا
وتكون على هذه القراءة والتأويل هذا خطاب الشهود .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)

قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ } فإن قيل فكيف قيل لهم { ءَامِنُواْ } وحُكِي عنهم أنهم آمنوا؟ فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : يا أيها الذين آمنواْ بمن قبل محمد من الأنبياء آمنواْ بالله ورسوله ويكون ذلك خطاباً ليهود والنصارى .
الثاني : معناه يا أيها الذين آمنوا بأفواههم أمنواْ بقلوبكم ، وتكون خطاباً للمنافقين .
والثالث : معناه يا أيها الذين آمنوا داومواْ على إيمانكم ، ويكون هذا خطاباً للمؤمنين ، وهذا قول الحسن .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)

قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } فيه ثلاثة أقاويل : فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم آمنواْ بموسى ثم كفرواْ بعبادة العجل ، ثم آمنوا بموسى بعد عوده ثم كفرواْ بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليهم وسلم ، وهذا قول قتادة .
والثاني : أنهم المنافقون آمنوا ثم ارتدواْ ، ثم آمنوا ثم ارتدواْ ، ثم ماتواْ على كفرهم ، وهذا قول مجاهد .
والثالث : أنهم قوم من أهل الكتاب قصدواْ تشكيك المؤمنين فكانواْ يظهرون الإيمان ثم الكفر ثم ازدادواْ كفراً بثبوتهم عليه ، وهذا قول الحسن . واختلف لمكان هذه الآية في استتابة المرتد على قولين :
أحدهما : أن المرتد يستتاب ثلاث مرات بدلالة الآية ، فإن ارتد بعد الثلاث قتل من غير استتابة ، وهذا قول علي .
والثاني : يستتاب كلما ارتد ، وهو قول الشافعي والجمهور .

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)

قوله تعالى : { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } يعني المنافقين .
{ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } أي فأعطونا من الغنيمة .
{ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } فيه ثلاث تأويلات :
أحدها : معناه ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة ونمنعكم من المؤمنين بالتخذيل عنكم .
والثاني : معناه ألم نبين لكم أننا على دينكم ، وهذا قول ابن جريج .
والثالث : معناه ألم نغلب عليكم ، وهو قول السدي . وأصل الاستحواذ الغلبة ، ومنه قوله تعالى : { اسْتَحْوَذَ عَلَيهُمُ الشَّيْطَانُ } يعني غلب عليهم .
وفي قوله تعالى : { وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيْلاً } فيه قولان :
أحدهما : يعني حُجّة ، وهذا قول السدي .
والثاني : سبيلاً في الآخرة ، وهذا قول عليّ ، وابن عباس .

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)

قوله عز وجل : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } معنى { يُخَادِعُونَ اللهَ } أي يخادعون نبي الله بما يظهرونه من الإيمان ويبطنونه من الكفر ، فصار خداعهم لرسول الله صلى الله عليهم خداعاً لله عز وجل .
{ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } يعني الله تعالى ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني يعاقبهم على خداعهم ، فسمى الجزاء على الفعل باسمه .
والثاني : أنه أمر فيهم بأمر المُخْتَدِع لهم بما أمر به من قبول إيمانهم وإن علم ما يبطنون من كفرهم .
والثالث : ما يعطيهم في الآخرة من النور الذي يمشون به مع المؤمنين ، فإذا جاؤواْ إلى الصراط طفىء نورهم ، فتلك خديعة الله إياهم .
{ وَإِذَا قَاموا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } يحتمل قولين :
أحدهما : متثاقلين .
والثاني : مقصَّرين .
{ يُرَآؤُونَ النَّاسَ } يعني أنهم يقصدون بما يفعلونه من البر رياء الناس دون طاعة الله تعالى .
{ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً } فيه قولان :
أحدهما : الرياء ، لأنه لا يكون إلا ذِكراً حقيراً ، وهو قول قتادة .
والثاني : يسيراً لاقتصاره على ما يظهر من التكبير دون ما يخفي من القراءة والتسبيح ، وإنما قّلَّ من أجل اعتقادهم لا من قلة ذكرهم . قال الحسن : لأنه كان لغير الله تعالى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)

قوله عز وجل : { لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني إلا أن يكون مظلوماً فيدعو على من ظلمه ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : إلا أن يكون مظلوماً فيجهر بظلم من ظلمه ، وهذا قول مجاهد .
والثالث : إلا من ظلم فانتصر من ظالمه ، وهذا قول الحسن ، والسدي .
والرابع : إلا أن يكون ضيفاً ، فينزل على رجل فلا يحسن ضيافته ، فلا بأس أن يجهر بذمه ، وهذه رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد .
ثم قال بعد أن أباح بالسوء من القول لمن كان مظلوماً : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ } يعني خيراً بدلاً من السوء ، أو تخفوا السوء ، وإن لم تبدوا خيراً اعفوا عن السوء ، كان أولى وأزكى ، وإن كان غير العفو مباحاً .

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)

قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنْ السَّمَاءِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً ، كما نزل على موسى الألواح ، والتوراة مكتوبة من السماء ، وهذا قول السدي ، ومحمد بن كعب .
والثاني : أنهم سألوه نزول ذلك عليهم خاصة ، تحكماً في طلب الآيات ، وهذا قول الحسن ، وقتادة .
والثالث : أنهم سألوه أن ينزِّل على طائفة من رؤسائهم كتاباً من السماء بتصديقه ، وهذا قول ابن جريج .
{ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الله تعالى بيَّن بذلك أن سؤالهم للإعْنَاتِ لا للاستبصار كما أنهم سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ، ثم كفروا بعبادة العجل .
والثاني : أنه بيَّن بذلك أنهم سألوا ما ليس لهم ، كما أنهم سألوا موسى من ذلك ما ليس لهم .
{ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً } فيه قولان :
أحدهما : أنهم سألوه رؤيته جهرة ، أي معاينة .
والثاني : أنهم قالوا : جهرة من القول أّرِنا الله ، فيكون على التقديم والتأخير ، وهذا قول ابن عباس .
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } فيه قولان :
أحدهما : بظلمهم لأنفسهم .
والثاني : بظلمهم في سؤالهم .
قوله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِم } يعني : بالعهد الذي أخذ عليهم بعد تصديقهم بالتوراة ان يعملوا بما فيها ، فخالفوا بعبادة العجل ونقضوه ، فرفع الله عليهم الطور ، ليتوبوا ، وإلاَّ سقط عليهم فتابوا حينئذ .
{ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً } فيه قولان :
أحدهما : أنه باب الموضع الذي عبدوا فيه العجل ، وهو من أبواب بيت المقدس ، وهذا قول قتادة .
والثاني : باب حِطَّة فأمروا بدخوله ساجدين لله عز وجل .
{ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ } قرأ ورش عن نافع { تَعَدُّوا } بفتح العين وتشديد الدال ، من الاعتداء ، وقرأ الباقون بالتخفيف من عَدَوت . وعدوهم فيه تجاوزهم حقوقه ، فيكون تعديهم فيه - على تأويل القراءة الثانية- ترك واجباته .
{ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } وهو ميثاق آخر بعد رفع الطور عليهم ، غير الميثاق الأول .
وفي قوله تعالى : { غَلِيظاً } قولان :
أحدهما : أنه العهد بعد اليمين .
والثاني : أن بعض اليمين ميثاق غليظ .

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)

قوله تعالى : { . . . وَقَولِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنها محجوبة عن فهم الإعجاز ودلائل التصديق ، كالمحجوب في غلافة ، وهذا قول بعض البصريين .
والثاني : يعني أنها أوعية للعلم وهي لا تفهم احتجاجك ولا تعرف إعجازك ، وهذا قول الزجاج ، فيكون ذلك منهم على التأويل الأول إعراضاً ، وعلى التأويل الثاني إبطالاً .
{ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : أنه جعل فيها علامة تدل الملائكة على كفرهم كعلامة المطبوع ، وهو قول بعض البصريين .
الثاني : ذمهم بأن قلوبهم كالمطبوع عليها التي لا تفهم أبداً ولا تطيع مرشداً ، وهذا قول الزجاج .
{ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } فيه تأويلان :
أحدهما : أن القليل منهم يؤمن بالله .
الثاني : لا يؤمنون إلا بقليل ، وهو إيمانهم ببعض الأنبياء دون جميعهم .
قوله عز وجل : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ } ، أما قولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } فهو من قول اليهود ، أخبر الله به عنهم .
أما { رَسُولَ اللهِ } ففيه قولان :
أحدهما : أنه من قول اليهود بمعنى رسول الله في زعمه .
والثاني : أنه من قول الله تعالى لا على وجه الإخبار عنهم ، وتقديره : الذي هو رسولي .
{ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم كانوا يعرفونه فألقى شبهه على غيره ، فظنوه المسيح فقتلوه ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، ووهب ، والسدي .
والثاني : أنهم ما كانوا يعرفونه بعينه ، وإن كان مشهوراً فيهم بالذكر ، فارتشى منهم يهودي ثلاثين درهماً ، ودلهم على غيره مُوهِماً لهم أنه المسيح ، فشُبِّهَ عليهم .
والثالث : أنهم كانوا يعرفونه ، فخاف رؤساؤهم فتنة عوامِّهم ، فإن الله منعهم عنه ، فعمدوا إلى غيره ، فقتلوه وصلبوه ، ومَوَّهُوا على العامة أنه المسيح ، ليزول افتتانهم به .
{ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم اختلفوا فيه قبل قتله ، فقال بعضهم : هو إله ، وقال بعضهم : هو ولد ، وقال بعضهم : هو ساحر ، فشكوا { مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاَع الظَّنِّ } الشك الذي حدث فيهم بالاختلاف .
والثاني : ما لهم بحاله من علم - هل كان رسولاً أو غير رسول؟ - إلا اتباع الظن .
{ وَمَا قَتَلُوهُ يَقْيناً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : وما قتلوا ظنَّهم يقيناً كقول القائل : ما قتلته علماً ، وهذا قول ابن عباس ، وجويبر .
والثاني : وما قتلوا أمره يقيناً أن الرجل هو المسيح أو غيره ، وهذا قول السدي .
والثالث : وما قتلوه حقاً ، وهو قول الحسن .
{ بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه رفعه إلى موضع لا يجري عليه حكم أحد من العباد ، فصار رفعه إلى حيث لا يجري عليه حكم العباد رفعاً إليه ، وهذا قول بعض البصريين .

والثاني : أنه رفعه إلى السماء ، وهو قول الحسن .
قوله تعالى : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح ، إذا نزل من السماء ، وهذا قول ابن عباس ، وأبي مالك ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت الكتابي عند المعاينة ، فيؤمن بما أنزل الله من الحق وبالمسيح عيسى ابن مريم ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، والضحاك ، وابن سيرين ، وجويبر .
والثالث : إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي ، وهذا قول عكرمة .
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } يعني المسيح ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه يكون شهيداً بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه من أهل عصره .
والثاني : يكون شهيداً أنه بلَّغ رسالة ربه ، وأقر بالعبودية على نفسه ، وهذا قول قتادة ، وابن جريج .

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)

قوله تعالى : { يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه خطاب للنصارى خاصة .
والثاني : أنه خطاب لليهود والنصارى ، لأن الفريقين غلوا في المسيح ، فقالت النصارى : هو الرب ، وقالت اليهود : هو لغير رشدة ، وهذا قول الحسن .
والغلو : مجاوزة الحد ، ومنه غلاء السعر ، إذا جاوز الحد في الزيادة ، وغلا في الدين ، إذا فرط في مجاوزة الحق .
{ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ } يعني في غلوهم في المسيح .
{ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ } رداً على مَنْ جعله إلهاً ، أو لغير رشدة [ أو ] ساحراً .
{ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَآ إِلَى مَرْيَمَ } في كلمته ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأن الله كَلَّمَه حين قال له كن ، وهذا قول الحسن ، وقتادة .
الثاني : لأنه بشارة الله التي بشر بها ، فصار بذلك كلمة الله .
والثالث : لأنه يهتدى به كما يُهْتَدَى بكلام الله .
{ وَرُوحٌ مِّنْهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : سُمِّي بذلك لأنه رُوح من الأرواح ، وأضافه الله إلى نفسه تشريفاً له .
والثاني : أنه سُمِّي روحاً؛ لأنه يحيا به الناس كما يُحْيَون بالأرواح .
والثالث : أنه سُمِّي بذلك لنفخ جبريل عليه السلام ، لأنه كان ينفخ فيه الروح بإذن الله ، والنفخ يُسَمَّى في اللغة روحاً ، فكان عن النفخ فسمي به ...
{ فَئآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ : ثَلاَثَةٌ ، انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } في الثلاثة قولان :
أحدهما : هو قول النصارى أب وابن وروح القدس ، وهذا قول بعض البصريين .
والثاني : هو قول من قال : آلهتنا ثلاثة ، وهو قول الزجاج .

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)

قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } هو النبي صلى الله عليه وسلم ، لِمَا معه من المعجز الذي يشهد بصدقه .
{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } يعني القرآن سُمِّي نوراً لأنه يظهر به الحق ، كما تظهر المرئيات بالنور .
قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ } فيه قولان :
أحدهما : اعتصموا بالقرآن ، وهذا قول ابن جريج .
والثاني : اعتصموا بالله من زيغ الشيطان وهوى الإنسان .
{ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } في الهداية قولان :
أحدهما : أن يعطيهم في الدنيا ما يؤديهم إلى نعيم الآخرة ، وهذا قول الحسن .
والثاني : هو الأخذ بهم في الآخرة إلى طريق الجنة ، وهو قول بعض المفسرين البصريين .

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)

قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } الآية . قال البراء ابن عازب : آخر سورة نزلت كاملة سورة براءة ، وآخر آية أنزلت خاتمة ، سورة النساء { يَسْتَفْتُونَكَ ... } .
وقال جابر بن عبد الله : نزلت هذه الآية فيَّ ، وقد سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عادني في مرضي ، ولِيَ تسع أخوات ، كيف أصنع بمالي؟ فلم يجبني بشيء ، حتى نزلت { يَسْتَفْتُونَكَ } إلى آخر السورة .
وقال ابن سيرين : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسيرة ، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان ، فبلغها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان ، وبلَّغَها حذيفةُ عمرَ بن الخطاب ، وهو يسير خلفه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنها عهود الله ، التي أخذ بها الإِيمان ، على عباده فيما أحله لهم ، وحرمه عليهم ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : أنها العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب أن يعملوا بما في التوراة ، والإِنجيل من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا قول ابن جريج .
والثالث : أنها عهود الجاهلية وهي الحلف الذي كان بينهم ، وهذا قول قتادة .
الرابع : عهود الدين كلها ، وهذا قول الحسن .
والخامس : أنها العقود التى يتعاقدها الناس بينهم من بيع ، أو نكاح ، أو يعقدها المرء على نفسه من نذر ، أو يمين ، وهذا قول ابن زيد .
{ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الأنعام كلها ، وهي الإِبل ، والبقر ، الغنم ، وهذا قول قتادة ، والسدي .
والثاني : أنها أجنة الأنعام التى توجد ميتة فى بطون أمهاتها ، إذا نحرت أو ذبحت ، وهذا قول ابن عباس ، وابن عمر .
والثالث : أن بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش ، ولا يدخل فيها الحافر ، لأنه مأخوذ من نعمة الوطء .
قوله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } أى معالم الله ، مأخوذ من الإِشعار وهو الإِعلام .
وفي شعائر الله خمسة تأويلات :
أحدها : أنها مناسك الحج ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : أنها ما حرمه الله فى حال الإحرام ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
والثالث : أنها حرم الله ، وهو قول السدي .
والرابع : أنها حدود الله فيما أحل وحرَّم وأباح وحظَّر ، وهو قول عطاء .
والخامس : هي دين الله كله ، وهو قول الحسن ، كقوله تعالى : { ذّلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } [ الحج : 22 ] أى دين الله .
{ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } أي لا تستحلوا القتال فيه ، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه رَجَبُ مُضَر .
والثاني : أنه ذو العقدة ، وهو قول عكرمة .
والثالث : أنها الأشهر الحرم ، وهو قول قتادة .
{ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ } أما الهدي ففيه قولان :
أحدهما : أنه كل ما أهداه من شيء إلى بيت الله تعالى .
والثاني : أنه ما لم يقلّد من النعم ، وقد جعل على نفسه ، أن يُهديه ويقلده ، وهو قول ابن عباس .
فأما القلائد ففيها ثلاثة أقاويل :
أنها قلائد الهدْي ، وهو قول ابن عباس ، وكان يرى أنه إذا قلد هديه صار مُحرِماً .
والثاني : أنها قلائد من لحاء الشجر ، كان المشركون إذا أرادوا الحج قلدوها فى ذهابهم إلى مكة ، وعَوْدهم ليأمنوا ، وهذا قول قتادة .
والثالث : أن المشركين كانوا يأخذون لحاء الشجر من الحرم إذا أرادوا الخروج منه ، فيتقلدونه ليأمنوا ، فَنُهوا أن ينزعوا شجر الحرم فيتقلدوه ، وهذا قول عطاء .

{ وَلاَ ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ } يعنى ولا تحلوا قاصدين البيت الحرام ، يقال أممت كذا إذا قصدته ، وبعضهم يقول يممته ، كقول الشاعر :
إني لذاك إذا ما ساءني بلد ... يممت صدر بعيري غيره بلداً
{ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } فيه قولان :
أحدهما : الربح فى التجارة ، وهو قول ابن عمر .
والثاني : الأجر ، وهو قول مجاهد { وَرِضْوَاناً } يعني رضي الله عنهم بنسكهم .
{ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ } وهذا وإن خرج مخرج الأمر ، فهو بعد حظر ، فاقتضى إباحة الاصطياد بعد الإِحلال دون الوجوب .
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَان قَوْمٍ } في يجرمنكم تأويلان .
أحدهما : لا يحملنكم ، وهو قول ابن عباس ، والكسائي ، وأبي العباس المبرد يقال : جرمني فلان على بغضك ، أى حملني ، قال الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
والثاني : معناه ولا يكسبنكم ، يقال جرمت على أهلي ، أي كسبت لهم ، وهذا قول الفراء .
وفي { شَنَئَانُ قَوُمٍ } تأويلان :
أحدهما : معناه بغض قوم ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : عداوة قوم ، وهو قول قتادة .
وقال السدي : نزلت هذه الآية فى الحُطَم بن هند البكري أَتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إِلاَمَ تَدعو؟ فأخبره ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : « يَدْخُلُ اليَوْمَ عَلَيكُم رَجُلٌ مِن رَّبِيعةَ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ شَيْطَانٍ » فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال : أنظرني حتى أشاور ، فخرج من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَقَدْ دَخَلَ بِوَجْهِ كَافِرٍ ، وَخَرجَ بِقَفَا غَادِرٍ » فمر بسرح من سرح المدينة ، فاستقاه وانطلق وهو يرتجز ويقول :
لقد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم ... باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم ... خدلج الساقين ممسوح القدم
ثم أقبل من عام قابل حاجاً قد قلد الهدي ، فاستأذن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتلوه ، فنزلت هذه الآية حتى بلغ { ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } فقال له ناس من أصحابه : يا رسول الله خلّ بيننا وبينه ، فإنه صاحبنا ، فقال : « إنه قد قلد » .
ثم اختلفوا فيما نسخ من هذه الآية بعد إجماعهم على أن منها منسوخاً على ثلاثة أقاويل :
أحدهما : ان جميعها منسوخ ، وهذا قول الشعبي ، قال : لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية .
والثاني : أن الذى نسخ منها { وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ ءَآمِّينَ الْبَيتَ الْحَرَامَ } وهذا قول ابن عباس ، وقتادة .
والثالث : أن الذي نسخ منها ما كانت الجاهلية تتقلده من لحاء الشجر ، وهذا قول مجاهد .

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } فيها تأويلان .
أحدهما : أنه كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره .
والثاني ، أنه كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير ذكاة .
{ وَالدَّمُ } فيه قولان :
أحدهما : أن الحرام منه ما كان مسفوحاً كقوله تعالى : { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } الثاني : أنه كل دم مسفوح وغير مسفوح ، إلا ما خصته اسنة من الكبد والطحال ، فعلى القول الأول لا يحرم السمك ، وعلى الثاني يحرم .
{ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ } فيه قولان :
أحدهما : أن التحريم يختص بلحم الخنزير دون شحمه ، وهذا قول داود .
والثاني : أنه يعم اللحم وما خالطه من شحم وغيره ، وهو قول الجمهور ، ولا فرق بين الأهلي منه والوحشي .
{ وَمآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } يعني ما ذبح ليغر الله من الأصنام والأوثان ، أصله من استهلال الصبي إذا صاح حين يسقط من بطن أمه ، ومنه أهلال المُحْرِم بالحج والعمرة ، قال ابن أحمر :
يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر
{ وَالْمُنْخَنِقَةُ } فيها قولان :
أحدهما : أنها تخنق بحبل الصائد وغيره حتى تموت ، وهو قول السدي ، والضحاك .
والثاني : أنها التي توثق ، فيقتلها خناقها .
{ وَالْمَوقُوذَةُ } هي التي تضرب بالخشب حتى تموت ، يقال : ( وقذتها أقذها وقذاً ، وأوقذها أيقاذاً ، إذا أثخنتها ضرباً ) ، ومنه قول الفرزدق :
شغارة تقذ الفصيل برجلها ... فطَّارة لقوادم الأبكار
{ وَالْمُتَردِيَةُ } هي التي تسقط من رأس جبل ، أو بئر حتى تموت .
{ وَالنَّطِيحَةُ } هي الشاة التي تنطحها أخرى حتى تموت .
{ وَمآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } فيه قولان :
أحدهما : يعنى من المنخنقة وما بعدها ، وهو قول علي رضي الله عنه ، وابن عباس ، وقتادة ، والحسن ، والجمهور .
والثاني : أنه عائد إلى ما أكل السبع خاصة ، وهو محكي عن الظاهرية . وفى مأكولة السبع التي تحل بالذكاة قولان :
أحدهما : أن تكون لها عين تطرف أو ذنب يتحرك .
والثاني : أن تكون فيها حركة قوية لا كحركة المذبوح ، وهو قول الشافعي ، ومالك .
{ . . . . وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ } معناه أن تطلبوا علم ما قُسِّمَ أو لم يُقَسَّم من رزق أو حاجة بالأزلام ، وهي قداح ثلاثة مكتوبة على أحدها : أمرني ربي ، والآخر : نهاني ربي ، والثالث : غفل لا شيء عليه ، فكانوا إذا أرادوا سفراً ، أو غزواً ، ضربوا بها واستسقسموا ، فإن خرج أمرني ربي فعلوه ، وإن خرج نهاني ربي تركوه ، وإن خرج الأبيض أعادوه ، فنهى الله عنه ، فَسُمِّي ذلك استقساماً ، لأنهم طلبوا به علم ما قُسِمَ لهم .
وقال أبو العباس المبرد : بل هو مشتق من قَسَم اليمين ، لأنهم التزموا ما يلتزمونه ، باليمين .
{ ذَالِكُمْ فِسْقٌ } أى خروج عن أمر الله وطاعته ، وفعل ما تقدم نهيه عنه ،
{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أن ترتدوا عنه راجعين إلى دينهم .

والثاني : أن يقدروا على إبطاله ويقدحوا فى صحته .
قال مجاهد : كان ذلك يوم عرفة حين حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، بعد دخول العرب الإِسلام حتى لم ير النبي صلى الله عليه وسلم مشركاً .
{ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } أى لا تخشوهم أن يظهروا عليكم ، واخشونِ ، أن تخالفوا أمري .
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه يوم عرفة فى حجة الوداع ولم يعش [ الرسول صلى الله عليه وسلم ] بعد ذلك إلاَّ إحدى وثمانين ليلة ، وهذا قول ابن عباس : والسدي .
والثاني : أنه زمان النبي صلى الله عليه وسلم كله إلى أنْ نَزَل ذلك عليه يوم عرفة ، وهذا قول الحسن .
وفي إكمال الدين قولان :
أحدهما : يعني أكملت فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي ، ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الفرائض من تحليل ولا تحريم ، وهذا قول ابن عباس والسدي .
والثاني : يعني اليوم أكملت لكم حجتكم ، أن تحجوا البيت الحرام ، ولا يحج معكم مشرك ، وهذا قول قتادة ، وسعيد ابن جبير .
{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } بإكمال دينكم .
{ وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } أي رضيت لكم الاستسلام لأمري ديناً ، اي طاعة .
روى قبيصة قال : قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية ، لعظموا اليوم ، الذى أُنْزِلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه ، فقال عمر : قد علمت اليوم الذى أُنزلت فيه ، والمكان الذي نزلت فيه ، نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة ، وكلاهما - بحمد الله - لنا عيد .
{ فَمَنِ آضْطُرَّ } أي أصابه ضر الجوع .
{ فِي مَخْمَصَةٍ } أي في مجاعة ، وهي مَفْعَلة مثل مجهلة ومبخلة ومجبنة ومخزية من خمص البطن ، وهو اصطباره من الجوع ، قال الأعشى :
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرقى يبتن خماصا
{ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثمٍ } فيه قولان :
أحدهما : غير متعمد لإِثم ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد .
والثاني : غير مائل إلى إثم ، وأصله من جنف القوم إذا مالوا ، وكل أعوج عند العرب أجنف .
وقد روى الأوزاعي عن حسان عن عطية عن أبي واقد الليثي قال : قلنا يا رسول الله إنا بأرض يصيبنا فيها مخمصة ، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال : « إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أَوْ تَغْتَبِقُوا أَوْ تَجْنِفُوا بها ، فَشَأْنُكُم بِّهَا
» واختلف فى وقت نزول هذه السورة على ثلاثة أقاويل .
أحدها : أنها نزلت في يوم عرفة ، روى شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت سورة المائدة جميعاً وأنا آخذة بزمان ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء وهو واقف بعرفة فكادت من ثقلها أن تدق عضد الناقة .
والثاني : أنها نزلت فى مسيره صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وهو راكب ، فبركت به راحلته من ثقلها .
والثالث : أنها نزلت يوم الاثنين بالمدينة ، وهو قول ابن عباس ، وقد حُكِيَ عنه القول الأول .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } يعني بالطيبات الحلال ، وإنما سمي الحلال طيباً ، وإن لم يكن مستلذاً تشبيهاً بما يستلذ . { وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } يعني وصيد ما علمتم من الجوارح ، وهي الكواسب من سباع البهائم والطير ، سميت جوارح لكسب أهلها بها من قولهم : فلان جارحة أهله أي كاسبهم ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
ذا جبار منضجاً ميسمه ... يذكر الجارح ما كان اجترح
أي ما اكتسب .
وفي قوله : { مُكَلِّبِينَ } ثلاثة أقاويل .
أحدها : يعني من الكلاب دون غيرها ، وأنه لا يحل إلا صيد الكلاب وحدها ، وهذا قول ابن عمر ، والضحاك ، والسدي .
والثاني : أن التكليب من صفات الجوارح من كلب وغيره ، ومعناه مُضْرِين على الصيد كما تَضْرِي الكلاب ، وهو قول ابن عباس ، وعلي بن الحسين ، والحسن ، ومجاهد .
والثالث : أن معنى التكليب من صفات الجارح : التعليم .
{ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا علَّمَكُمُ اللَّهُ } أى تعلمونهن من طلب الصيد لكم مما علمكم الله من التأديب الذي أدبكم وصفات التعليم التي بيَّن حكمها لكم .
فأما صفة التعليم ، فهو أن يُشلَى إذا أُشلي ، ويجيب إذا دعي ويمسك إذا أخذ .
وهل يكون إمساكه عن الأكل شرطاً فى صحة التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه شرط في كل الجوارح ، فإن أكلت لم تؤكل ، وهذا قول ابن عباس ، وعطاء .
والثاني : أنه ليس بشرط فى كل الجوارح ويؤكل وإن أكلت ، وهذا قول ابن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، وسلمان .
والثالث : أنه شرط في جوارح البهائم فلا يؤكل ما أكلت ، وليس بشرط في جوارح الطير ، فيؤكل وإن أكلت ، وهذا قول الشعبي ، والنخعي ، والسدي .
واختلف فى سبب نزول هذه الآية على قولين :
أحدهما : ما روى القعقاع بن حكيم عن سليمان بن أبي رافع عن أبي رافع قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه ، فقال إذِنَّا لك ، فقال أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ، قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فأمرني بقتله ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاؤوا ، فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ، قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ } الآية .
والثاني : ما حكي أن زيد الخيل لَمَّا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه من الخير ما قال فسماه زيد الخير ، فقال : يا رسول الله فينا رجلان ، يقال لأحدهما دريح ، والآخر يكنى أبا دجانة ، لهما أَكْلُب خمسة تصيد الظباء ، فما ترى في صيدها؟
وحكى هشام عن ابن عباس أن أسماء هذه الكلاب الخمسة التي لدريح وأبي دجانة : المختلس وغلاب والغنيم وسهلب والمتعاطي ، قال : فأنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } الآية .

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

قال تعالى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَاب حِلٌّ لَّكُمْ } يعني ذبائحهم .
{ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } يعني ذبائحنا .
{ وَالْمُحصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } يعني نكاح المحصنات ، وفيهن قولان :
أحدهما : أنهن الحرائر من الفريقين ، سواء كن عفيفات أو فاجرات ، فعلى هذا ، لا يجوز نكاح إمائهن ، وهذا قول مجاهد ، والشعبي ، وبه قال الشافعي .
والثاني : أنهن العفائف ، سواءٌ كن حرائر أم إماءً ، فعلى هذا ، يجوز نكاح إمائِهن ، وهذا قول مجاهد ، والشعبي أيضاً ، وبه قال أبو حنيفة .
وفي المحصنات من الذين أوتوا الكتاب قولان :
أحدهما : المعاهدات دون الحربيات ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : عامة أهل الكتاب من معاهدات وحربيات ، وهذا قول الفقهاء وجمهور السلف .
{ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يعني صداقهن .
{ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحينَ } يعني أَعفّاء غير زُناة .
{ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } هي ذات الخليل الواحد تقيم معه على السفاح .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قَمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُواْ وَجُوهَكُمْ } يعني إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، فاغسلوا وجوهكم ، فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ، فاغسلوا ، فصار الحدث مُضْمَراً . وفي وجوب الوضوء شرطاً ، وهو قول عبد الله بن عباس ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي موسى الأشعري ، والفقهاء .
والثاني : أنه واجب على كل من أراد القيام إلى الصلاة ، أن يتوضأ ، ولا يجوز أن يجمع بوضوء واحد بين فرضين ، وهذا مروي عن علي وعمر . والثالث : أنه كان واجباً على كل قائمٍ الى الصلاة ، ثم نسخ إلاَّ على المحدث ،
روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان عام الفتح ، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد ، ومسح على خفيه ، فقال عمر : إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله ، قال : « عمداً فعلته يا عمر
» وروى عبد الله بن حنظلة بن عامر الغسيل : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ، فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء .

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوا قوَّامِينَ لِلَّهِ } يعني بالحق فيما يلزم من طاعته .
{ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ } أي بالعدل . وفى هذه الشهادة ثلاثة أقاويل .
أحدها : أنها الشهادة بحقوق الناس ، وهذا قول الحسن .
والثاني : الشهادة بما يكون من معاصي العباد ، وهذا قول بعض البصريين .
الثالث : الشهادة لأمر الله تعالى بأنه حق .
وهذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلف المفسرون فى سبب نزولها فيه على قولين :
أحدهما : أن النبي خرج إلى يهود بني النضير ، يستعين بهم في دية ، فهمّوا أن يقتلوه ، فنزل ذلك فيه ، وهذا قول قتادة ، ومجاهد .
ثم إن الله تعالى ذكرهم نِعَمَهُ عليهم بخلاص نبيهم بقوله تعالى : { اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَومٌ أَن يبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ }
والقول الثاني : أن قريشاً بعثت رجلاً ، ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَأَطْلَعَ الله نَبِيَّهُ على ذلك ، فنزلت فيها هاتان الآيتان ، وهذا قول الحسن .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخْذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ } يعني بإخلاص العبادة لله ولزوم طاعته .
{ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } أخذ من كل سبط منهم نقيباً ، وفى النقيب ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الضمين ، وهو قول الحسن .
الثاني : الأمين ، وهو قول الربيع .
والثالث : الشهيد على قومه ، وهو قول قتادة .
وأصله فى اللغة : النقيب الواسع ، فنقيب القوم هو الذي ينقب أحوالهم . وفيما بعث فيه هؤلاء النقباء قولان :
أحدهما : أنهم بُعِثُوا إلى الجبارين ، ليقفوا على أحوالهم ورجعوا بذلك إِلى موسى ، فرجعوا عن قتالهم ، لمَّا رأوا من شدة بأسهم ، وعظم خلقهم ، إلا اثنين منهم ، وهذا قول مجاهد ، والسدي .
والثاني : أنهم بعثوا لقومهم بما أخذ به ميثاقهم منهم ، وهذا قول الحسن .

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)

وفي قوله تعالى : { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } تأويلان :
أحدهما : يعني نصرتموهم ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد .
الثاني : عظمتموهم ، وهذا قول أبي عبيدة .
وأصله المنع ، قال الفراء : عزرته عزراً إذا رددته عن الظلم ، ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبح .
قوله تعالى : { فَبِمَا نَقَْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ } وتقديره : فبنقضهم ميثاقهم لعنَّاهم ، و « ما » صلة زايدة .
{ وَجَعَلْنَا قَلُوبَهُمْ قَاسيَةً } من القسوة وهي الصلابة .
وقرأ حمزة والكسائي { قَسِيّةً } وفيه تأويلان :
أحدهما : أنها أبلغ من قاسية .
والثاني : أنها بمعنى قاسية .
{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } يعني بالتغيير والتبديل ، وسوء التأويل .
{ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمََّا ذُكِّرُواْ بِهِ } يعني نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم .
{ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } فيه تأويلان .
أحدهما : يعني خيانة منهم .
والثاني : يعني فرقة خائنة .
{ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحُ } فيها قولان :
أحدهما : أن حكمها ثابت فى الصفح والعفو إذا رآه . والثاني : أنه منسوخ ، وفى الذي نسخه قولان :
أحدهما : قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَومِ الآخِرِ } [ التوبة : 29 ] وهذا قول قتادة .
والثاني : قوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافُنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيهِم عَلَى سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

قوله تعالى : { يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } يعني : نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ورجم الزانين .
{ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } مما سواه .
{ قَدْ جَآءَكم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } فى النور تأويلان :
أحدهما : محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو قول الزجاج . الثاني : القرآن وهو قول بعض المتأخرين .
قوله تعالى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبِعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } فيه تأويلان :
أحدهما : سبيل الله ، لأن الله هو السلام ، ومعناه دين الله ، وهذا قول الحسن .
والثاني : طريق السلامة من المخافة ، وهو قول الزجاج .
{ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ } يعني : من الكفر إلى الإِيمان بلطفه .
{ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فيه تأويلان :
أحدهما : طريق الحق وهو دين الله ، وهذا قول الحسن .
والثاني : طريق الجنة فى الآخرة ، وهو قول بعض المتكلمين .

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)

قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآءُ اللَّهِ وَأَحِبّآؤُهُ } في قولهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه قول جماعة من اليهود حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم عقاب الله ، وخوفهم به ، فقالوا لا تخوفنا : { نَحنُ أَبْنآءُ اللَّهِ وَأَحِبَّآؤُهُ } ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : أن اليهود تزعم أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بِكْري من الولد ، فقالوا ، { نَحنُ أَبْنآءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } وهذا قول السدي .
وقال الحسن : أنهم قالوا ذلك على معنى قرب الولد من والده ، وهو القول الثالث .
وأما النصارى ، ففي قولهم لذلك قولان :
أحدهما : لتأويلهم ما في الإِنجيل من قوله : اذهب إلى أبي وأبيكم ، فقالوا لأجل ذلك { نَحنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } الثاني : لأجل قولهم في المسيح : ابن الله ، وهم يرجعون إليه ، فجعلوا نفوسهم أبناء الله وأجباءه ، فرد الله منطقهم ذلك بقوله :
{ . . . فَلِمَ يُعَذّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } لأن الأب لإِشفاقه لا يعذب ابنه ، ولا المحب حبيبه .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ } فيهم قولان .
أحدهما : أنهم الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى .
والثاني : أنهم السبعون الذين اختارهم موسى .
{ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : لأنهم مَلَكوا أنفسهم بأن خلصهم من استعباد القبط لهم ، وهذا قول الحسن .
والثاني : لأن كل واحد ملك نفسه وأهله وماله ، وهذا قول السدي .
والثالث : لأنهم كانوا أول من ملك الخدم من بني آدم ، وهو قول قتادة .
والرابع : أنهم جُعِلُوا ملوكاً بالمَنِّ والسَّلْوَى والحَجَر ، وهذا قول ابن عباس .
والخامس : أن كل من ملك داراً وزوجة وخادماً ، وفهو ملك من سائر الناس ، وهذا قول عبد الله بن عمرو بن العاص ، والحسن ، وزيد بن أسلم .
وقد روى زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من كان له بيت [ يأوي إليه وزوجة ] وخادم ، فهو ملك
» . { وءَاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ } فيه قولان :
أحدهما : المن والسلوى والغمام والحجر ، وهو قول مجاهد .
الثاني : كثرة الأنبياء فيهم والآيات التي جاءتهم . قوله تعالى : { يَا قَوْمِ ادْخُلُواْ الأرْضَ الْمُقدَّسَةَ الَّتِي كتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أرض بيت المقدس ، وهذا قول ابن عباس ، والسدي .
والثاني : دمشق وفلسطين وبعض الأردن ، وهذا قول الزجاج .
والثالث : هي الشام ، وهذا قول قتادة ، ومعنى المقدسة : المطهرة .
وقوله : { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وإن قال : { إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم } لأنها كانت هبة من الله تعالى لهم ثم حرَّمها عليهم بعد معصيتهم .
{ وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِكُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته .
والثاني : لا ترجعوا عن الارض التي أمرتم بدخولها .
قوله تعالى : { قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } والجبار : هو الذي يَجْبُر الناس على ما يريد إكراههم عليه ، ومنه جَبْرُ العظم ، لأنه كالإكراه على الصلاح ، ويقال [ للأعواد التي ] تحمله جُبَارة ، إذا قامت اليد طولاً ، لأنها امتنعت كامتناع الجبار من الناس .
وقيل بلغ من جبروت هؤلاء القوم ، أن واحداً منهم ، أخذ الاثني عشر نقيباً ، الذين بعثهم موسى ، ليخبروه بخربهم ، فحملهم مع فاكهة حملها من بستانه ، وجاء فنشرهم بين يدي الملك ، وقال : هؤلاء يريدون أن يقاتلونا ، فقال الملك : ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا .
قوله تعالى : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ } فيه قولان :
أحدهم : يخافون الله ، وهو قول قتادة .
الثاني : يخافون الجبارين ، ولم يمنعهم خوفهم من قول الحق .
{ أَنْعََمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } فيه تأويلان :
أحدهما : بالتوفيق للطاعة .
والثاني : بالإِسلام ، وهو قول الحسن .
وفي هذين الرجلين قولان :
أحدهما : أنهما من النقباء يوشع بن نون ، وكالب بن يوقنا ، وهذا قول ابن عابس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : أنهما رجلان ، كانا في مدينة الجبارين أنعم الله عليهما بالإِسلام ، وهذا مروي عن ابن عباس .
{ ادْخُلُواْ عَلَيْهِمْ الْبَابَ فإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } فيه تأويلان :
أحدهما : إنما قالوه لعلمهم بأن الله كتبها لهم .
والثاني : لعلمهم بأن الله ينصرهم على أعادئه ، ولم يمنعهم خوفهم من القول الحق ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ الحَقَّ إِذَا رَآهُ أَوْ عَلِمَهُ فَإِنَّهُ لاَ يُبْعِدُ مِنْ رِزْقٍ وَلاَ يُدْنِي مِنْ أَجَلٍ
» .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ } فيهما قولان :
أحدهما : أنهما من بني إسرائيل ، وهذا قول الحسن .
والثاني : أنهما ابنا آدم لصلبه ، وهما هابيل وقابيل ، وهو قول ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وقتادة .
{ إِذْ قَرَّبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ } والقربان : هو البر الذي يقصد من رحمة الله ، وهو فعلان من القرب .
واختلف فى السبب الذي قربا لأجله قرباناً على قولين :
أحدهما : أنهما فعلاه لغير سبب .
والثاني : وهو أشهر القولين أن ذلك لسبب ، وهو أن حواء كانت تضع في كل عام غلاماً وجارية ، فكان الغلام يتزوج من أحد البطنين بالجارية من البطن الآخر ، وكان لكل واحد من ابني آدم هابيل وقابيل توأمة ، فأراد هابيل أن يتزوج بتوأمة قابيل فمنعه ، وقال أنا أحق بها منك .
واختلف فى سبب منعه على قولين :
أحدهما : أن قابيل قال لهابيل أنا أحق بتوأمتي منك ، لأننا من ولادة الجنة وأنت من ولادة الأرض .
الثاني : أنه منعه منها لأن توأمته كانت أحسن من هابيل ومن توأمته ، فقربا قرباناً وكان قابيل حراثاً ، وهابيل راعياً ، فقرب هابيل سخلة سمينة من خيار ماله ، وقرب قابيل حزمة سنبل من شر ماله ، فنزلت نار بيضاء فرفعت قربان هابيل وتركت قربان قابيل ، وكان ذلك علامة القبول ولم يكن فيهم مسكين يتقرب بالصدقة عليه وإنما كانت قُرَبُهُم هكذا .
قال أبو جعفر الطبري : وكانت سخلة هابيل المقبولة ترعى فى الجنة حتى فَدَى الله تعالى بها إٍحاق بن إبراهيم الذبيح .
واختلف في سبب قبول قربان هابيل على وجهين :
أحدهما : لأنه كان أتقى لله من قابيل لقوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } ، والتقوى ها هنا الصلاة ، على ما ذكره المفسرون .
الثاني : لأن هابيل تقرب بخيار ماله فَتُقُبِّل منه ، وقابيل تقرب بشر ماله ، فلم يُتَقَبَّل منه ، وهذا قول بعد الله بن عمر ، وأكثر المفسرون .
واختلف في قربانهما هل كان بأمر آدم ، أو من قبل أنفسهما على قولين :
أحدهما : أنهما قربا بأمر آدم حين اختصما إليه .
والثاني : أنهما قربا من قِبَل أنفسهما .
وكان آدم قد توجه إلى مكة ، ليراها ويزور البيت بها عن أمر به ، وكان قد عرض الأمانة في حفظ أهله على السموات فأبت ، فعرضها على الأرض فأبت ، فعرضها على الجبال فأبت ، فعرضها على قابيل فقبلها ، ثم توجه وعاد فوجد قابيل قد قتل هابيل وشربت الأرض دمه ، فبكى ولعن الأرض لشربها دمه ، فأنبتت الشوك ، ولم تشرب بعده دماً .
روى غياث بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمداني عن علي قال : لما قتل قابيل بن آدم هابيل أخاه بكاه آدم عليه السلام فقال :

تَغَيَّرَتِ البِلادُ ومَنْ عليها ... فوَجْهُ الأرْضِ مُغْبَرٌ قبيحٌ
تَغَيَّرَ كلُّ ذِي لَوْنٍ ... وقَلَّ بَشَاشَةُ الوَجْهِ المَلِيحْ
قال فأجيب آدم :
أبا هابيل قد قُتِلا جَمِيعاً ... وصارَ الحَيُّ كالمَيِّتِ الذَّبِيحْ
وجَاءَ بِشَرِّ ما قَدْ كانَ منه ... على خَوْفٍ فَجَاءَ بها تَصِيحْ
واختلف في قابيل هل كان عند قتل أخيه كافراً أو فاسقاً؟ فقال قوم كان كافراً ، وقال آخرون بل كان رجل سوء فاسقاً .
قال ابن جريج : لم يزل بنو آدم فى نكاح الأخوات حتى مضي أربعة آباء ، فنكح ابنة عمه وذهب نكاح الأخوات .
قوله تعالى : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } معناه لئن بدأتني بالقتل لم أبدأك بمثله ، وفي امتناعه من دفعه قولان :
أحدهما : منعه منه التحرج مع قدرته عليه وجوازه له ، وهذا قول ابن عباس ، وعبد الله بن عمر .
والثاني : أنه لم يكن له الامتناع ممن أراد إذ ذاك ، وهذا قول مجاهد والحسن .
قوله تعالى : { إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } معناه ترجع ، وفيه تأويلان : إحدهما : أن تبوء بإثم قتلي وإثمك الذي عليك من معاصيك وذنوبك ، وهذا قول ابن عباس ، وابن مسعود .
والثاني : يعني أن تبوء بإثمي فى خطاياي ، وإثمك بقتلك لي ، فتبوء بهما جميعاً ، وهذا قول مجاهد .
وروى الأعمش ، عند عبد الله بن مرة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ نَفْسٍ تُقتَلُ ظُلْماً إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ
» . قوله تعالى : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ } معنى طوعت أي فعلت من الطاعة ، وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعنى شجعت ، وهو قول مجاهد .
والثاني : يعني زينت ، وهو قول قتادة .
والثالث : يعني فساعدته .
وكان هابيل أول من قُتِلَ في الأرض ، وقيل إن قابيل لم يدر كيف يقتله حتى ظهر له إبليس فعلمه ، وقيل إنه قتله غيلة ، بأن ألقى عليه وهو نائم صخرة ، شدخه بها .
قوله تعالى : { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني عورة أخيه .
والثاني : جيفة أخيه لأنه تركه حتى أنتن ، فقيل لجيفته سوأة .
وفي الغراب المبعوث قولان :
أحدهما : أنه كان ملكاً على صورة الغراب ، فبحث الأرض على سوأة أخيه حتى عرف كيف يدفنه .
والثاني : أنه كان غراباً بحث الأرض على غراب آخر .
{ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخَي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قيل إنه ندم علىغير الوجه الذي تصح منه التوبة ، فلذلك لم تقبل منه ، ولو ندم على الوجه الصحيح لقبلت توبته .
وروى معمر ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : « إِنَّ ابْنَي آدَمَ ضَرَبَ مَثَلاً لِهَذِهِ الأَمَّةِ ، فَخُذُوا مِنْ خَيرِهِمَا ، وَدَعُوا شَرَّهُمَا
» .

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

قوله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذلِكَ } يعني من أجل أن ابن آدم قتل أخاه ظلماً .
{ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ } يعني من قتل نفساً ظلماً بغير نفس قتلت ، فيقتل قصاصاً ، أو فساد فى الأرض استحقت به القتل ، الفساد فى الأرض يكون بالحرب لله ولرسوله وإخافة السبيل .
{ فَكَأَنَّمَ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } فيه ستة تأويلات :
أحدها : يعني من قتل نبياً أو إمام عدل ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن شد على يد نبى أو إمام عدل ، فكأنما أحيا الناس جميعاً ، وهذا قول ابن عباس .
والثاني : معناه فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول ، ومن أحياها فاستنفذها من هلكة ، فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنفذ ، وهذا قول ابن مسعود .
والثالث : معناه أن قاتل النفس المحرمة يجب عليه من القود والقصاص مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها بالعفو عن القاتل ، أعطاه الله من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعاً ، وهذا قول ابن زيد وأبيه . والرابع : معناه أن قاتل النفس المحرمة يَصْلَى النار كما يَصْلاها لو قتل الناس جيمعاً ، ومن أحياها ، يعني سلم من قتلها ، [ فكأنما ] سلم من قتل الناس جميعاً ، وهذا قول مجاهد .
والخامس : أن على جميع الناس ( جناية القتل ) كما لو قتلهم جميعاً ، ومن أحياها بإنجائها من غرق أو حرق أو هلكة ، فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعاً . والسادس : أن الله تعالى عظم أجرها ووزرها فإحياؤها [ يكون ] بمالك أو عفوك ، وهذا قول الحسن ، وقتادة .
قوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً } اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت فى قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، فعرف الله نبيه الحكم فيهم ، وهذا قول ابن عباس .
الثاني : أنها نزلت فى العُرَنِيِّينَ ارتدوا عن الإِسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا إبله ، وهذا قول أنس بن مالك ، وقتادة .
والثالث : أنها نزلت إخباراً من الله تعالى بحكم من حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فساداً .
واختلف في المستحق اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه الآية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الزنى والقتل والسرقة ، وهذا قول مجاهد .
والثاني : أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية فى المِصْر وغيره ، وهذا قول الشافعي ، ومالك ، والأوزاعي .
والثالث : أنه المجاهر بقطع الطريق دون المكابر فى المِصْر ، وهذا قول أبي حنيفة ، وعطاء الخراساني .
{ أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْض } جعل الله هذا حكم المحارب ، وفيه قولان :

أحدهما : أنها على التخيير وأن الإِمام فيهم بالخيار بين أن يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفي ، وهذا قول سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم .
والثاني : أنها مرتبة تختلف على قدر اختلاف الأفعال : أن يقتلوا إذا قتلوا ، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا أخذوا المال ولم يقتلوا ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي .
وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك العرنيين وهم من بجيلة ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن القصاص فيمن حارب ، فقال : من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله لإِخافته ، ومن قتل فاقتله ، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل افرج فاصلبه .
أما قوله تعالى : { أَوْ يُنفَوا مِنَ الأَرْضِ } فقد اختلف أهل التأويل فيه على أربعة أوجه :
أحدها : أنه نفيهم وإبعادهم من بلاد الإِسلام إلى بلاد الشرك ، وهو قول أنس : والحسن ، وقتادة ، السدي ، والزهري ، والضحاك ، والربيع .
والثاني : أنه إخراجهم من مدينة إلى أخرى ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن جبير .
والثالث : أنه الحبس ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .
والرابع : هو أن يطلبوا لتقام الحدود عليهم فيُبْعَدُوا ، وهذا قول ابن عباس ، والشافعي ، والليث بن سعد .
قوله تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } فيه ستة أقاويل ، أحدها : إلا الذين تابوا من شركهم وسعيهم فى الأرض فساداً بإسلامهم ، فأما المسلمون فلا يتسقط التوبة عنهم حداً وجب عليهم ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة .
الثاني : إلا الذين تابوا من المسلمين المحاربين بأمان من الإِمام قبل القدرة عليهم ، فأما التائب بغير أمان فلا ، وهذا قول عليّ عليه السلام ، والشعبي ، وروى الشعبي أن خارجة بن زيد خرج محارباً فأخاف السبيل ، وسفك الدماء ، وأخذ الأموال ، وجاء تائباً من قبل القدرة عليه ، فقبل عليّ توبته وجعل له أماناً منشوراً على ما كان أصاب من دم ومال .
والثالث : إلا الذين تابوا بعد أن لحقوا بدار الحرب وإن كان مسلماً ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه ، وهذا قول عروة بن الزبير .
والرابع : إن كان في دار الإٍسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها وتاب قبل القدرة عليه قبلت توبته ، وإن لم يكن له فئة يمتنع بها [ وتاب ] لم [ تسقط ] عنه توبته شيئاً من عقوبته ، وهذا قول ابن عمر ، وربيعة ، والحكم بن عيينة .
والخامس : أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه حدود الله تعالى دون حقوق الآدميين ، وهذا قول الشافعي .
والسادس : أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه سائر الحقوق والحدود إلا الدماء ، وهذا مذهب مالك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } وهي في قراءة عبد الله ابن مسعود : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما .
إنما بدأ الله تعالى في السرقة بالسارق قبل السارقة ، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني ، لأن حب المال على الرجال أغلب ، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب ، ثم جعل حد السرقة قطع اليد لتناول المال بها ، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به ، لثلاثة معانٍ :
أحدها : أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية ، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه .
والثاني : أن الحد زجر للمحدود وغيره ، وقطع اليد في السرقة ظاهر ، وقطع الذكر فى الزنى باطن ،
والثالث : أن فى قطع الذكر إبطال النسل وليس في قطع اليد إبطاله .
وقد قطع السارق في الجاهلية ، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد ابن المغيرة ، فأمر الله تعالى بقطعه فى الإِسلام ، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإِسلام الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم ، وقال : « لَو كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ
» . وقطع عمر ابن سمرة أخا عبد الرحمن بن سمرة .
والقطع في السرقة حق الله تعالى لا يجوز العفو عنه بعد علم الإِمام به ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سارق رداء صفوان حين أمر بقطعه ، فقال صفوان : قد عفوت عنه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « هَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟لاَ عَفَا اللَّهُ عَنِّي إِنْ عَفَوتُ
» . وروي أن معاوية بن أبي سفيان أُتِيَ بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد منهم فقدم ليقطع فقال :
يميني أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها
يدي كانت الحسناء لو تم سبرها ... ولا تعدمُ الحسناءُ عابا يعيبها
فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة ... إذا ما شمالي فارقتها يمينها
فقال معاوية : كيف أصنع وقد قطعت أصحابك ، فقالت أم السارق : يا أمير المؤمنين اجعلها من ذنوبك التي تتوب منها ، فَخَلَّى سبيله ، فكان أول حد ترك في الإٍسلام .
ولوجوب القطع مع ارتفاع الشبهة شرطان هما : الحرز والقدر ، وقد اختلف الفقهاء فى قدر ما تقطع فيه اليد خلافاً ، كُتُبُ الفقه أولى .
واختلف أهل التأويل حينئذ لأجل استثناء القطع وشروطه عمن سرق من غير حرز أو سرق من القدر الذي تقطع فيه اليد في قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } هل هو عام خُصّ؟ أو مجمل فُسِّر على وجهين .
أحدهما : أنه العموم الذي خُصّ .
والثاني : أنه المجمل الذي فُسِّر .

ثم قال تعالى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبا } فاختلفوا هل يجب مع القطع غُرْم المسروق إذا استهلك على مذهبين :
أحدهما : أنه لا غرم ، وهذا قول أبي حنيفة .
والثاني : يجب فيه الغرم ، وهو مذهب الشافعي .
وذكر الكلبي أن هذه الآية نزلت فى طعمة بن أبيرق سارق الدرع . قوله تعالى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } في التوبة ها هنا قولان :
أحدهما : أنها كالتوبة من سائر المعاصي والندم على ما مضى والعزم على ترك المعاودة .
والثاني : أنها الحد ، وهو قول مجاهد .
وقد روى عبد الله بن عمرو قال : سرقت امرأة حلياً فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقْطَعُوا يَدَهَا الْيُمْنَى » فقالت المرأة : هل لي من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَنْتِ الْيَوْمَ مِنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أُمُّكِ » فأنزل الله تعالى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } .
قوله تعالى : { يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ويَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ } فيه تأويلان :
أحدهما : يغفر لمن تاب من كفره ، ويعذب من مات على كفره ، وهذا قول الكلبي .
الثاني : يعذب من يشاء فى الدنيا على معاصيهم بالقتل والخسف والمسخ والآلام وغير ذلك من صنوف عذابه ، ويغفر لمن يشاء منهم فى الدنيا بالتوبة واستنقاذهم بها من الهلكة وخلاصهم من العقوبة .

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِن الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } يعني به المنافقين المظهرين للإِيمان المبطنين للكفر .
{ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ } يعني اليهود .
{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } ليكذبوا عليك عندهم إذا أتوا من بعدهم ، وهذا قول الحسن ، والزجاج .
والثاني : أن معنى قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أى قائلون للكذب عليك . و { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } يعني فى قصة الزاني المحصن من اليهود الذي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكروه ، وهذا قول ابن عباس .
{ يُحرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضَعِهِ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم غيروه بالكذب عليه ، وهذا قول الحسن .
والثاني : هو تغيير حكم الله تعالى في جَلْد الزاني بدلاً من رجمه ، وقيل في إسقاط القود عند استحقاقه .
{ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه يريد بذلك حين زنى رجل منهم بامرأة فأنفذوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم وقالوا : إن حكم عليكم بالجلد فاقبلوه وإن حكم عليكم بالرجم فلا تقبلوه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدارس توارتهم وفيها أحبارهم يتلون التوراة ، فأتى عبد الله بن صوريا ، وكان أعور ، وهو من أعلمهم فقال له أسألك بالذي أنزل التوراة بطور سيناء على موسى بن عمران هل فى التوراة الرجم؟ فأمسك ، فلم يزل به حتى اعترف ، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا ، قال عبد الله : وكنت فيمن رجمه وأنه ليقيها الأحجار بنفسه حتى ماتت ، ثم إن ابن صوريا أنكر وفيه أنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول ابن عباس ، وجابر ، وسعيد بن المسيب ، والسدي ، وابن زيد .
والقول الثاني : أن ذلك في قتيل منهم ، قال الكلبي : قتلت بنو النضير رجلاً من بني قريظة وكانوا يمتنعون بالاستطالة عليهم من القود بالدية ، وإذا قتلت بنو قريظة منهم رجلاً لم يقنعوا إلا بالقود دون الدية ، قالوا : إن أفتاكم بالدية فاقبلوه وإن أفتاكم بالقود فردوه ، وهذا قول قتادة .
{ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ } فيه ثلاث تأويلات .
أحدها : عذابه ، وهذا قول الحسن .
والثاني : إضلاله ، وهو قول السدي .
والثالث : فضيحته ، وهو قول الزجاج .
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : لم يطهرها من الضيق والحرج عقوبة لهم .
والثاني : لم يطهرها من الكفر .
قوله تعالى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } فيه أربعة تأويلات .
أحدهما : أن السحت الرشوة ، وهو مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أنه الرشوة فى الحكم ، وهو قول علي .
والثالث : هو الاستعجال فى القضية ، وهو قول أبي هريرة .

والرابع : ما فيه الغارّ من الأثمان المحرمة : كثمن الكلب ، والخنزير ، والخمر وعسب افحل ، وحلوان الكاهن .
وأصل السحت الاستئصال ، ومنه قوله تعالى : { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أي يستأصلكم ، وقال الفرزدق :
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتاً أو مجلف
فسمي سحتاً لأنه يسحت الدين والمروءة .
{ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَْعْرِضْ عَنْهُمْ } فيمن أريد بذلك قولان :
أحدهما : اليهوديان اللذان زنيا خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهما بالرجم أو يدع ، وهذا قول الحسن ، ومجاهد ، والزهري .
والثاني : أنها في نفسين من بني قريظة وبني النضير قتل أحدهما صاحبه فخّير رسول الله صلى الله عليه وسلم عند احتكامهما إليه بين أن يحكم بالقود أو يدع ، وهذا قول قتادة .
واختلفوا في التخيير في الحكم بينهم ، هل هو ثابت أو منسوخ؟ على قولين : أحدهما : أنه ثابت وأن كل حاكم من حكام المسلمين مخير فى الحكم بين أهل الذمة بين أن يحكم أو يدع ، وهذا قول الشعبي ، وقتادة ، وعطاء ، وإبراهيم .
والقول الثاني : أن ذلك منسوخ ، وأن الحكم بينهم واجب على من تحاكموا إليه من حكام المسلمين ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعمر بن عبد العزيز ، وعكرمة ، وقد نسخه قوله تعالى : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ }
قوله تعالى : { وَكَيفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ الْتَّورَاةُ فِيهَا حَكْمُ اللَّهِ } فيه قولان :
أحدهما : حكم الله بالرجم .
والثاني : حكم الله بالقود .
{ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } فيه قولان :
أحدهما : بعد حكم الله في التوراة .
والثاني : بعد تحكيمك .
{ وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } فيه قولان :
أحدهما : أي فى تحكيمك أنه من عند الله مع جحودهم نبوتك .
والثاني : يعني فى توليهم عن حكم الله غير راضين به .
قوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ } يعني بالهدى ادليل . وبالنور البيان .
{ يَحْكُمْ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم جماعة أنبياء منهم محمد صلى الله عليه وسلم .
والثاني : المراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده وإن ذكر بلفظ الجمع .
وفي الذي يحكم به من التوراة قولان :
أحدهما : أنه أراد رجم الزاني المحصن ، والقود من القاتل العامد .
والقول الثاني : أنه الحكم بجميع ما فيها من غير تخصيص ما لم يرد به نسخ .
ثم قال تعالى : { لِلَّذِينَ هَادُوا } يعني على الذين هادوا ، وهم اليهود ، وفي جواز الحكم بها على غير وجهان : على اختلافهم فى التزامنا شرائع من قبلنا إذا لم يرد به نص ينسخ .
ثم قال تعالى : { وَالرَّبَانُّيِونَ والأَحْبَارُ } واحد الأحبار حَبْر بالفتح ، قال الفراء ، أكثر ما سمعت حِبْر بالكسر ، وهو العالم ، سُمِّي بذلك اشتقاقاً من التحبير ، وهو التحسين لأن العالم يحسن الحسن ويقبح القبيح ، ويحتمل أن يكون ذلك لأن العلم فى نفسه حسن .
ثم قال تعالى : { بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ } فيه قولان :

أحدهما : معناه يحكمون بما استحفظوا من كتاب الله .
والثاني : معناه والعلماء استحفظوا من كتاب الله .
وفي { اسْتُحْفِظُواْ } تأويلان :
أحدهما : استودعوا ، وهو قول الأخفش .
والثاني : العلم بما حفظوا ، وهو قول الكلبي .
{ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } يعني على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة .
{ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } فيه قولان :
أحدهما : فلا تخشوهم فى كتمان ما أنزلت ، وهذا قول السدي .
والثاني : في الحكم بما أنزلت .
{ وَلاَ تَشْتَرُوا بِأَيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } فيه تأويلان :
أحدهما : معناه لا تأخذوا على كتمانها أجراً .
والثاني : معناه لا تأخذوا على تعليمها أجراً .
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، ثم قال تعالى : { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْظَّالِمُونَ } ، ثم قال تعالى : { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } وفي اختلاف هذه الآي الثلاث أربعة أقاويل :
أحدها : أنها واردة في اليهود دون المسلمين ، وهذا قول ابن مسعود ، وحذيفة ، والبراء ، وعكرمة .
الثاني : أنها نزلت في أهل الكتاب ، وحكمها عام في جميع الناس ، وهذا قول الحسن ، وإبراهيم .
والثالث : أنه أراد بالكافرين أهل الإِسلام ، وبالظالمين اليهود ، وبالفاسقين النصارى ، وهذا قول الشعبي .
والرابع : أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به ، فهو كافر ، ومن لم يحكم مقراً به فهو ظالم فاسق ، وهذا قول ابن عباس .

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)

قوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } الآية . نزلت في اليهود من بني قريظة والنضير ، وقد ذكرنا قصتهما .
ثم قال تعالى : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } فيه قولان :
أحدهما : أنه كفارة للجروح ، وهو قول عبد الله بن عمر ، وإبراهيم ، والحسن ، والشعبي ، روى الشعبي عن ابن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدَّقَ بِهَا كَفَّرَ عَنْهُ ذُنُوبَهُ بِمِثْلِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ
» . والثاني : أنه كفارة للجارح ، لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه ، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وهذا محمول على من عفى عنه بعد توبته .

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

قوله تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } يعني القرآن .
{ مُصَدِّقَاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ } يعني لما قبله من الكتاب وفيه وجهان :
أحدهما : مصدقاً بها ، وهو قول مقاتل .
والثاني : موافقاً لها ، وهو قول الكلبي .
{ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني أميناً ، وهو قول ابن عباس .
والثاني : يعني شاهداً عليه ، وهو قول قتادة ، والسدي .
والثالث : حفيظاً عليه .
{ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمآ أَنزَلَ اللَّهُ } هذا يدل على وجوب الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا ، وألا نحكم بينهم بتوراتهم ولا بإنجيلهم .
{ وَلاَ تَتَّبعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أمم جميع الأنبياء .
{ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } أما الشرعة فهي الشريعة وهي الطريقة الظاهرة ، وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة ومن قيل لشريعة الماء شريعة لأنها أظهر طرقه إليه ، ومنه قولهم : أُشْرِعَتِ الأسنة إذا ظهرت .
وأما المنهاج فهو الطريق الواضح ، يقال طريق نهج ومنهج ، قال الزاجر :
مَن يَكُ ذَا شَكٍّ فهذَا فَلْجُ ... مَاءٌ رُوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ
فيكون معنى قوله شرعة ومنهاجاً أي سبيلاً وسنة ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة .
{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدةً } فيه قولان :
أحدهما : لجعلكم على ملة واحدة .
الثاني : لجمعكم على الحق ، وهذا قول الحسن .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذينَ ءَامُنُوا لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيآءَ } اختلف أهل التفسير فيمن نزلت فيه هذه الآية على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في عُبادة بن الصامت ، وعبد بن أبي ابن سلول ، حين تبرأ عُبادة من حِلْف اليهود وقال : أتولى الله ورسوله حين ظهرت عداوتهم لله ولرسوله . وقال عبد الله بن أبي : لا أتبرأ من حلفهم وأخف الدوائر ، وهذا قول الزهري .
والثاني : أنها نزلت فى أبي بلابة بن عبد المنذر حين بَعَثَه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لما نقضوا العهد أطاعوا بالنزول على حكم سعد أشار إلى حلقه إليهم أنه الذبح ، وهذا قول عكرمة .
والثالث ، أنها نزلت فى رجلين من الأنصار خافا من وقعة أحد فقال أحدهما لصاحبه : أَلْحَقُ باليهود وأتهود معهم ، وقال الآخر : ألحق بالنصارى فأتنصر معهم ليكون ذلك لهما أماناً من إدالة الكفار على المسلمين ، وهذا قول السدي .
{ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنْكُمْ فِإِنَّهُ مِنْهُم } يحتمل وجهين :
أحدهما : موالاتهم في العهد فإنه منهم في مخالفة الأمر .
والثاني : موالاتهم في الدين فإنه منهم في حكم الكفر ، وهذا قول ابن عباس .
قوله تعالى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيه تأويلان :
أحدهما : أن المرض الشك وهو قول مقاتل .
والثاني : النفاق ، وهو قول الكلبي .
وفيهم قولان :
أحدهما : المعنيّ به عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي سلول ، وهذا قول عطية بن سعد .
والثاني : أنهم قوم من المنافقين .
{ . . . . يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } والدائرة ترجع عمن انتقلت إليه إلى من كانت له ، سميت بذلك لأنها تدور إليه بعد زوالها عنه ، ومنه قول الشاعر :
يَرُدُّ عَنَّا القَدَرَ الْمَقْدُورَا ... وَدَائرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا
{ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يريد فتح مكة ، قاله السدي .
والثاني : فتح بلاد المشركين على المسلمين .
والثالث : أن القضاء الفصل ، ومنه قوله تعالى : { افْتَحْ بَينَنَا وَبَينَ قَومِنَا بِالْحَقِّ } [ الأعراف : 89 ] ، قاله قتادة .
{ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِنْدِهِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : هو دون الفتح الأعظم .
الثاني : أنه موت من تقدم ذكره من المنافقين .
الثالث والرابع : أنه الجزية ، قاله السدي .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِه فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله عنهم الذين قاتلوا معه أهل الردة ، قاله : علي ، والحسن ، وابن جريج ، والضحاك .
والثاني : أنهم قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن لأنه كان لهم في نصرة الإِسلام أثر حسن ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية إليه أَوْمَأَ إلى أبي موسى الأشعري بشيء كان فى يده وقال : « هُمْ قَوْمُ هَذَا » قاله : مجاهد وشريح .
{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } يعني أهل رقة عليهم .
{ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } يعني أهل غلظة عليهم ، يحكى ذلك عن علي ، وابن عباس .
وهي في قراءة عبد الله بن مسعود : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غُلُظٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } .
قوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا . . . } الآية ، وفي هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه من أصحابه حين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظهره اليهود من عداوتهم لهم ، قاله الكلبي .
والثاني : أنها نزلت فى عُبادة بن الصامت حين تبرأ من حلف اليهود وقال : أتولى الله ورسوله .
وفي قوله تعالى : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } قولان :
أحدهما : أنه علي ، تصدق وهو راكع ، قاله مجاهد .
والثاني : أنها عامة في جميع المؤمنين ، قاله الحسن ، والسدي .
وفي قوله : { وَهُمْ رَاكِعُونَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم .
والثاني : أنها نزلت فيهم وهم في ركوعهم .
والثالث : أنه أراد بالركوع التنفل ، وبإقامة الصلاة الفرض من قولهم فلان يركع إذا انتفل بالصلاة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

قوله تعالى : { وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ } يريد بالإِثم معصية الله تعالى .
{ وَالْعُدْوَانِ } أي ظلم الناس .
{ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } فيه تأويلان : أحدهما : الرُّشا .
والثاني : الربا .
{ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الْرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } أي لبئس صنيع الربانيين والأحبار إذ لم ينهوهم ، قال ابن عباس والضحاك : ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ، وكان ابن عباس يقرؤها : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
وقوله : { لَوْلاَ } بمعنى هلا .
والربانيون : هم علماء الإِنجيل ، والإحبار : هم علماء التوراة .

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } فيه تأويلان :
أحدهما : أي مقبوضة عن العطاء على جهة البخل ، قاله ابن عباس وقتادة .
والثاني : مقبوضة عن عذابهم ، قاله الحسن .
قال الكلبي ومقاتل : القائل لذلك فنحاس وأصحابه من يهود بني قينقاع .
{ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه قال ذلك إلزاماً لهم البخل على مطابقة الكلام ، قاله الزجاج .
والثاني : أن معناه غلت أيديهم في جهنم على وجه الحقيقة ، قاله الحسن .
{ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } قال الكلبي : يعني يعذبهم بالجزية .
ويحتمل أن يكون لَعْنُهم هو طردهم حين أجلوا من ديارهم .
{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن اليدين ها هنا النعمة من قولهم لفلان عندي يد أي نعمة ، ومعناه بل نعمتاه مبسوطتان ، نعمة الدين ، ونعمة الدنيا .
والثاني : اليد ها هنا القوة كقوله تعالى : { أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ } [ ص : 45 ] ومعناه بل قوتان بالثواب والعقاب .
والثالث : أن اليد ها هنا الملك من قولهم فى مملوك الرجل هو : ملك يمينه ، ومعناه ملك الدنيا والآخرة .
والرابع : أن التثنية للمبالغة فى صفة النعمة كما تقول العرب لبيك وسعديك ، وكقول الأعشى :
يداك يدا مجد فكف مفيدة ... وكف إذا ما ضنَّ بالزاد تنفق
{ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يمعنى أنه يعطي من يشاء من عباده إذا علم أن في إعطائه مصلحة دينه .
والثاني : ينعم على من يشاء بما يصلحة في دينه .
{ ولَيزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } يعني حسدهم إياه وعنادهم له .
{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه عنى اليهود بما حصل منهم من الخلاف .
والثاني : أنه أراد بين اليهود والنصارى في تباين قولهم في المسيح ، قاله الحسن .
قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } فيه تأويلان :
أحدهما : أقاموها نصب أعينهم حتى إذا نظروا ما فيها من أحكام الله تعالى وأوامره لم يزلوا .
والثاني : إن إقامتها العمل بما فيها من غير تحريف ولا تبديل .
ثم قال تعالى : { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ } يعني القرآن لأنهم لما خوطبوا به صار منزلاً عليهم .
{ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } فيه تأويلان :
أحدهما : أنه أراد التوسعة عليهم كما يقال هو في الخير من قرنه إلى قدمه .
والثاني : لأكلوا من فوقهم بإنزال المطر ، ومن تحت أرجلهم بإنبات الثمر . قاله ابن عباس .
{ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } فيه تأويلان :
أحدهما : مقتصدة على أمر الله تعالى ، قاله قتادة .
الثاني : عادلة ، قاله الكلبي .

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } أوجب الله تعالى بهذه الآية على رسوله تبليغ ما أنزل عليه من كتابه سواء كان حكماً ، أو حداً ، أو قصاصاً ، فأما تبليغ غيره من الوحي فتخصيص وجوبه : بما يتعلق بالأحكام دون غيرها .
ثم قال تعالى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني إن كتمت آية مما أنزل عليك فما بلغت رسالته لأنه [ يكون ] ، غير ممتثل لجميع الأمر .
ويحتمل وجهين آخرين .
أحدهما : أن يكون معناه بلغ ما انزل إليك من ربك فيما وعدك من النصر ، فإن لم تفعل فما بلغت حق رسالته فيما كلفك من الأمر ، لأن استشعار النصر يبعث على امتثال الأمر .
والثاني : أن يكون معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك بلاغاً يوجب الانقياد إليه بالجهاد عليه ، وإن لم تفعل ما يقود إليه من الجهاد عليه فما بلغت ما عليك من حق الرسالة إليك .
{ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } يعني أن ينالوك بسوء من قتل أو غيره . واختلف أهل التفسير في سبب نزول ذلك على قولين :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً في سفره واستظل بشجرة يقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني؟ فقال : الله ، فرعدت يد الأعرابي وسقط سيفه وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مَنَ النَّاسِ } ، قاله محمد بن كعب القرظي .
والثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهاب قريشاً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، قاله ابن جريج .
وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال : يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله .
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } فيه تأويلان :
أحدهما : لا يعينهم على بلوغ غرضهم .
الثاني : لا يهديهم إلى الجنة .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)

قوله تعالى : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } فيه تأويلان :
أحدهما أن الميثاق آيات مبينة يقررها علم ذلك عندهم .
والثاني : أن الميثاق أيمان أخذه أنبياء بني إسرائيل عليهم أن يعملوا بها وأمروا بتصيدق رسله .
{ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً } يعني بعد أخذ الميثاق .
{ كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ } هوى النفس مقصور ، وهواء الجو ممدود ، وهما يشتركان في معنى الاسم لأن النفس تستمتع بهواها كما تستمتع بهواء الجو .
{ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } يعني أن الأنبياء إذا لم يحلوا لهم ما يَهْوُونَه في الدين كذبوا فريقاً في الدين ، كذبوا فريقاً وقتلوا فريقاً ، وهم قد كذبوا من قتلوه ولكن تقدير الكلام أنهم اقتصروا على تكذيب فريق وتجاوزوا إلى قتل فريق .
{ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } فيها ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنها العقوبة التي تنزل من السماء .
والثاني : ما ابتلوا به من قتل الأنبياء وتكذيبهم .
والثالث : ما بلوا به من جهة المتغلبين عليهم من الكفار .
{ فَعَمُواْ وَصَمُّوا } يعني ، فعموا عن المرشد وصموا عن الموعظة حتى تسرعوا إلى قتل أنبيائهم حين حسبوا ألا تكون فتنة .
{ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } يعني أنهم تابوا بعد معاينة الفتنة فقبل الله توبتهم .
{ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } يعني أنهم عادوا بعد التوبة إلى ما كانوا عليه قبلها ، والعود إنما كان من أكثرهم من جيمعهم .

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

قوله تعالى : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ } رد الله بذلك على اليهود والنصارى ، فرده على اليهود فى تكذيبهم لنبوته ونسبتهم له إلى غير رِشْدة ، ورده على النصارى في قولهم إنه ابن الله .
{ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } رد على اليهود في نسبتها إلى الفاحشة .
وفي قوله : { صِدِّيقَةٌ } تأويلان :
أحدهما : أنه مبالغة فى صدقها ونفي الفاحشة عنها .
والثاني : أنها مصدقة بآيات ربها فهي بمنزلة ولدها ، قاله الحسن .
{ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه كنى بذلك عن الغائط لحدوثه منه ، وهذه صفة تُنْفَى عن الإِله .
والثاني : أنه أراد نفس الأكل لأن الحاجة إليه عجز والإِله لا يكون عاجزاً .
{ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآْيَاتِ } يعني الحجج البراهين .
{ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني يصرفون ، من قولهم أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر .
والثاني : يعني يقلبون ، والمؤتفكات : المنقلبات من الرياح وغيرها .
والثالث : يكذبون ، من الإفك ، وهو الكذب .

قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)

قوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ } يعني عبدة الأوثان من العرب ، تَمَالأَ الفريقان على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم .
{ وَلَتَجِدَنَّ أَقرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامنواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارى } ليس هذا على العموم ، وإنما هو خاص ، وفيه قولان :
أحدهما : عنى بذلك النجاشي وأصحابه لَمَّا أَسْلَمُوا ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والثاني : أنهم قوم من النصارى كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام ، فَلَمَّا بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به ، قاله قتادة .
{ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } واحد القسيسين قس ، من قس وهم العباد . وواحد الرهبان راهب ، وهم الزهاد .
{ وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يعني عن الإِذعان للحق إذا لزم ، وللحجة إذا قامت .
وفي قوله تعالى : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } وجهان :
أحدهما : مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق ، كما قال تعالى : { لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] ، قاله ابن عباس ، وابن جريج .
والثاني : يعني الذين يشهدون بالإِيمان ، قاله الحسن .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : أنه اغتصاب الأموال المستطابة ، فتصير بالغصب حراماً ، وقد كان يمكنهم الوصول إليها بسبب مباح ، قاله بعض البصريين .
والثاني : أنه تحريم ما أبيح لهم من الطيبات ، وسبب ذلك أن جماعة من أًصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي ، وعثمان بن مظعون ، وابن مسعود ، وابن عمر ، هموا بصيام الدهر ، وقيام الليل ، واعتزال النساء ، وجَبِّ أنفسهم ، وتحريم الطيبات من الطعام عليهم ، فأنزل الله تعالى فيهم { لاَ تَحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُم } .
{ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحبُّ الْمُعْتَدِينَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لا تعتدوا بالغصب للأموال التي هي حرام عليكم .
والثاني : أنه أراد بالاعتداء ما هَمَّ به عثمان بن مظعون من جبِّ نفسه ، قاله السدي .
والثالث : أنه ما كانت الجماعة هَمَّت به من تحريم النساء والطعام ، واللباس ، والنوم ، قاله عكرمة .
والرابع : هو تجاوز الحلال إلى الحرام ، قاله الحسن .

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

قوله تعالى : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } قد ذكرنا اختلاف المفسرين والفقهاء في لغو اليمين .
{ وَلَكِنَ يُؤَاخِذُوكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } اختلف فى سبب نزولها على قولين :
أحدهما : أنها نزلت في عثمان بن مظعون ، حين حرَّم على نفسه الطعام ، والنساء ، بيمين حَلَفَهَا ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
والثاني : أنها نزلت فى عبد الله بن رَوَاحة ، وكان عنده ضيف فأَخَّرَتْ زوجته قِرَاهُ فَحَلَفَ لا يَأكل من الطعام شيئاً ، وَحَلَفَتِ الزوجة لا تأكل منه إن لم يأكل ، وحَلَفَ الضيف لا يأكل منه إن لم يأكلا ، فأكل عبد الله وأكلا معه ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : « أَحْسَنْتَ » ونزلت فيه هذه الآية ، قاله ابن زيد .
وقوله تعالى : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ } وعقدها هو لفظ باللسان وقصد بالقلب ، لأن ما لم يقصده فى أَيمَانِهِ ، فهو لغو لا يؤاخذ به .
ثم في عقدها قولان :
أحدهما : أن يكون على فعل مستقبل ، ولا يكون على خبر ماض ، والفعل المستقبل نوعان : نفي وإثبات ، فالنفي أن يقول والله لا فعلت كذا ، والإِثبات أن يقول : والله لأَفْعَلَنَّ كذا .
وأما الخبر الماضي فهو أن يقول : والله ما فعلت ، وقد فعل ، أو يقول : والله لقد فعلت كذا ، وما فعل ، فينعقد يمينه بالفعل المستقبل في نوعي إثباته ونفيه .
وفي انعقادها بالخبر الماضي قولان .
أحدهما : أنها لا تنعقد بالخبر الماضي ، قاله أبو حنيفة وأهل العراق .
والقول الثاني : أنها تنعقد على فعل مستقبل وخبر ماض يتعلق الحنث بهما ، قاله الشافعي ، واهل الحجاز .
ثم قال تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مََساكِينَ } فيه قولان :
أحدهما : أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان ، قالته عائشة ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة .
والثاني : أنها كفارة الحنث فيما عقدة منها ، وهذا يشبه أن يكون قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وإبراهيم .
والأصح من إطلاق هذين القولين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحلها ، فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون عقدها حلها معصية كقوله : والله لا قَتَلْتُ نفساً ولا شربت خمراً ، فإذا حنث فقتل النفس ، وشرب الخمر ، كانت الكفار لتكفير مأثم الحنث .
والحال الثالثة : أن يكون عقدها مباحاً ، وحلها مباحاً كقوله : والله لا لبست هذا الثوب ، فالكفارة تتعلق بهما وهي بالحنث أخص .
ثم قال تعالى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمُ } فيه قولان :
أحدهما : من أوسط أجناس الطعام ، قاله ابن عمر ، والحسن ، وابن سيرين .
والثاني : من أَوسطه في القدر ، قاله علي ، وعمر ، وابن عباس ، ومجاهد .
وقرأ سعيد بن جبير { مِن وَسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلَيكُمْ }
ثم اختلفوا في القدر على خمسة أقاويل :

أحدها : أنه مُدٌّ واحد من سائر الأجناس ، قاله ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وعطاء ، وقتادة ، وهو قول الشافعي .
والثاني : أنه نصف صاع من سائر الأجناس ، قاله علي ، وعمر ، وهو مذهب أبي حنيفة .
والثالث : أنه غداء وعشاء ، قاله علي في رواية الحارث عنه ، وهو قول محمد بن كعب القرظي ، والحسن البصري .
والرابع : أنه ما جرت به عادة المكفر فى عياله ، إن كان يشبعهم أشبع المساكين ، وإن كان لا يشبعهم فعلى قدر ذلك ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والخامس : أنه أحد الأمرين من غداء أو عشاء ، قاله بعض البصريين .
ثم قال تعالى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } وفيها خمسة أقاويل :
أحدها : كسوة ثوب واحد ، قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وطاووس ، وعطاء ، الشافعي .
والثاني : كسوة ثوبين ، قاله أبو موسى الأشعري ، وابن المسيب ، والحسن ، وابن سيرين .
والثالث : كسوة ثوب جامع كالملحفة والكساء ، قاله إبراهيم .
والرابع : كسوة إزار ورداء وقميص ، قاله ابن عمر .
والخامس : كسوة ما تجزىء فيه الصلاة ، قاله بعض البصريين .
ثم قال تعالى : { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يعني أو فك رقبة من أسر العبودية إلى حال الحرية والتحرير ، والفك : العتق ، قال الفرزدق :
أبني غدانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال
ويجزىء صغيرها ، وكبيرها ، وذكرها ، وأنثاها ، وفي استحقاق أَثمانها قولان :
أحدهما : أنه مستحق ولا تجزىء الكفارة ، قاله الشافعي .
والثاني : أنه غير مستحق ، قاله أبو حنيفة .
ثم قال تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } فجعل الله الصوم بدلاً من المال عند العجز عنه ، وجعله مع اليسار مخيراً بين التكفير بالإِطعام ، أو بالكسوة ، أو بالعتق ، وفيها قولان :
أحدهما : أن الواجب منها أحدها لا يعينه عند الجمهور من الفقهاء .
والثاني : أن جميعها واجب ، وله الاقتصار على أحدها ، قاله بعض المتكلمين ، وشاذ من الفقهاء .
وهذا إذا حقق خلف في العبارة دون المعنى .
واختلف فيما إذا لم يجده صام على خمسة أقاويل :
أحدها : إذا لم يجد قوته وقوت من يقوت صام ، قاله الشافعي .
والثاني : إذا لم يجد ثلاثة دراهم صام ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : إذا لم يجد درهمين ، قاله الحسن .
والرابع : إذا لم يجد مائتي درهم صام ، قاله أبو حنيفة .
والخامس : إذا لم يجد فاضلاً عن رأس ماله الذي يتصرف فيه لمعاشه صام . وفي تتابع صيامه قولان :
أحدهما : يلزمه ، قاله مجاهد ، وإبراهيم ، وكان أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود يقرآن : { فصيام ثلاثة أيام متتابعات }
والثاني : إن صامها متفرقة جاز ، قاله مالك ، والشافعي في أحد قوليه :
{ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } يعني وحنثتم ، فإن قيل فلِمَ لَمْ يذكر مع الكفارة التوبة؟ قيل : لأنه ليس كل يمين حنث فيها كانت مأثماً توجب التوبة ، فإن اقترن بها المأثم لزمت التوبة بالندم ، وترك العزم على المعاودة .
{ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني احفظوها أن تحلفوا .
والثاني : احفظوها أن تحنثوا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

قوله تعالى : { يَا أْيُّهَا الَّذيِنَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ . . . . } الآية . اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما روى ابن إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فزلت الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } فَدُعِيَ عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في سورة النساء : { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُم سُكَارَى } وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة ينادي لا يقربن الصلاة سكران ، فَدُعِيَ عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت التي في المائدة { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلى قوله تعالى : { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } فقال عمر : انتهينا ، انتهينا .
والثاني : أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص وقد لاحى رجلاً على شراب ، فضربه الرجل بلحي جمل ، ففزر قاله مصعب بن سعد .
والثالث : أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار ثملوا من الشراب فعبث بعضهم ببعض ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ، قاله ابن عباس .
فأما { الْمَيْسِرُ } فهو القمار .
وأما { الأنصَابُ } ففيها وجهان .
أحدهما : أنها الأصنام تعبد ، قاله الجمهور .
والثاني : أنها أحجار حول الكعبة يذبحون لها ، قاله مقاتل .
وأما { الأَزْلاَمُ } فهي قداح من خشب يُسْتَقْسَمُ بها على ما قدمناه .
قوله تعالى : { رِجْسٌ } يعني حراماً ، وأصل الرجس المستقذر الممنوع منه ، فعبر به عن الحرام لكونه ممنوعاً منه .
ثم قال تعالى : { مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به لأنه لا يأمر إلا بالمعاصي ، ولا ينهى إلا عن الطاعات .
فلما حُرِّمَتِ الخمر قال المسلمون : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين شربوها وماتوا قبل تحريمها ، فَأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعِمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } ، يعني من الخمر قبل التحريم ، { إِذَا مَا اتَّقَواْ } يعني فى أداء الفرائض { وَّءَامَنُواْ } يعني بالله ورسوله { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } يعني البر والمعروف ، { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّءَامَنُواْ ثُّم اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } يعني بعمل النوافل ، فالتقوى الأولى عمل الفرائض ، والتقوى الثانية عمل النوفل .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلَوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ } في قوله ليبلونكم تأويلان :
أحدهما : معناه لَيُكَلِّفَنَّكُمْ .
الثاني : لَيَخْتَبِرَنَّكُم ، قاله قطرب ، والكلبي .
وفي قوله : { مِّنَ الصَّيْدِ } قولان :
أحدهما : أن { مِّنَ } للتبعيض في هذا الموضع لأن الحكم متعلق بصيد البَرِّ دون البحر ، وبصيد الحرم والإِحرام دون الحل والإِحلال .
والثاني : أن { مِّنَ } في هذا الموضع داخلة لبيان الجنس نحو قوله تعالى : { اجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ } [ الحج : 30 ] قاله الزجاج .
{ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : ما تناله أيدينا : البيض ، ورماحنا : الصيد ، قال مجاهد .
والثاني : ما تناله أيدينا : الصغار ، ورماحنا : الكبار ، قاله ابن عباس .
{ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن معنى ليعلم الله : ليرى ، فعبر عن الرؤية بالعلم لأنها تؤول إليه ، قاله الكلبي .
والثاني : ليعلم أولياؤه من يخافه بالغيب .
والثالث : لتعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب .
والرابع : معناه لتخافوا الله بالغيب ، والعلم مجاز ، وقوله : { بِالْغَيْبِ } يعني بالسر كما تخافونه في العلانية .
{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } يعني فمن اعتدى في الصيد بعد ورود النهي .
{ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي مؤلم ، قال الكلبي : نزلت يوم الحديبية وقد غشي الصيد الناس وهم محرمون .
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني الإِحرام بحج أو عمرة ، قاله الأكثرون .
والثاني : يعني بالحرم الداخل إلى الحرم ، يقال أحرم إذا دخل في الحرم ، وأَتْهَمَ إذا دخل تهامة ، وأَنْجَدَ إذا دخل نجد ، ويقال أحرم لمن دخل في الأشهر الحرم . قاله بعض البصريين .
والثالث : أن اسم المحرم يتناول الأمرين معاً على وجه الحقيقة دون المجاز من أحرم بحج أو عمرة أو دخل الحرم ، وحكم قتل الصيد فيهما على سواء بظاهر الآية ، قاله علي بن أبي هريرة .
{ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً } فيه قولان :
أحدهما : متعمداً لقتله ، ناسياً لإحرامه ، قاله مجاهد ، وإبراهيم ، وابن جريج .
والثاني : متعمداً لقتله ذاكراً لإِحرامه ، قاله ابن عباس ، وعطاء ، والزهري .
واختلفوا في الخاطىء في قتله الناسي لإِحرامه على قولين .
أحدهما : لا جزاء عليه ، قاله داود .
الثاني : عليه الجزاء ، قاله مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة .
{ فَجَزآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } يعني أن جزاء القتل فى الحرم أو الإِحرام مثل ما قتل من النعم .
وفي مثله قولان :
أحدهما : أن قيمة الصيد مصروفة في مثله من النعم ، قاله أبو حنيفة .
والثاني : أن عليه مثل الصيد من النعم في الصورة والشبه قاله الشافعي .
{ يَحْكُمْ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } يعني بالمثل من النعم ، فلا يستقر المثل فيه إلا بحكم عدلين فقيهين ، ويجوز أن يكون القاتل أحدهما .
{ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } يريد أن مثل الصيد من النعم يلزم إيصاله إلى الكعبة ، وعنى بالكعبة جميع الحرم ، لأنها في الحرم .

واختلفوا هل يجوز أن يهدي في الحرم ما لا يجوز في الأضحية من صغار الغنم على قولين :
أحدهما : لا يجوز قاله : أبو حنيفة .
الثاني : يجوز ، قاله الشافعي .
{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامٌ مَسَاكِينَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه يُقَوِّم المثل من النعم ويشتري بالقيمة طعاماً ، قاله عطاء ، والشافعي .
الثاني : يقوِّم الصيد ويشتري بالغنيمة طعاماً ، قاله قتادة ، وأبو حنيفة .
{ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً } يعني عدل الطعام صياماً ، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يصوم عن كل مد يوماً ، قاله عطاء ، والشافعي .
والثاني : يصوم عن كل مد ثلاثة أيام ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : يصوم عن كل صاع يومين ، قاله ابن عباس .
واختلفوا في التكفير بهذه الثلاثة ، هل هو على الترتيب أو التخيير على قولين :
أحدهما : على الترتيب ، إن لم يجد المثل فالإطعام ، فإن لم يجد الطعام فالصيام ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعامر ، وإبراهيم ، والسدي .
والثاني : أنه على التخيير في التكفير بأي الثلاثة شاء ، قاله عطاء ، وهو أحد قولي ابن عباس ، ومذهب الشافعي .
{ لِّيذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } يعني في التزام الكفارة ، ووجوب التوبة .
{ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } يعني قبل نزول التحريم .
{ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } فيه قولان :
أحدهما : يعني ومن عاد بعد التحريم ، فينتقم الله منه بالجزاء عاجلاً ، وعقوبة المعصية آجلاً .
والثاني : ومن عاد بعد التحريم في قتل الصيد ثانية بعد أوله ، فينتقم الله منه .
وعلى هذا التأويل قولان :
أحدهما : فينتقم الله منه بالعقوبة في الآخرة دون الجزاء ، قاله ابن عباس ، وداود .
والثاني : بالجزاء مع العقوبة ، قاله الشافعي ، والجمهور .

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)

قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحرِ } يعني صيد الماء سواء كان من بحر أو نهر أو عين أو بئر فصيده حلال للمحرم والحلال في الحرم والحل .
{ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } في طعامه قولان :
أحدهما : طافِيهِ وما لَفَظَه البحر ، قاله أبو بكر ، وعمر ، وقتادة .
والثاني : مملوحة ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب .
وقوله تعالى : { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } يعني منفعة للمسافر والمقيم . وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في بني مدلج ، وكانوا ينزلون بأسياف البحر ، سألوا عما نضب عنه الماء من السمك ، فنزلت هذه الآية فيهم .
قوله تعالى : { جَعلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ } في تسميتها كعبة قولان :
أحدهما : سميت بذلك لتربيعها ، قاله مجاهد .
والثاني : سميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم : قد كعب ثدي المرأة إذا علا ونتأ ، وهو قول الجمهور .
وسميت الكعبة حراماً لتحريم الله تعالى لها أن يصاد صيدها ، أو يختلى خلاها ، أو يعضد شجرها .
وفي قوله تعالى : { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني صلاحاً لهم ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : تقوم به أبدانهم لأمنهم به في التصرف لمعايشهم .
والثالث : قياماً في مناسكهم ومتعبداتهم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15