كتاب : النكت والعيون
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)

قوله تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : نجوم القرآن إذا نزلت لأنه كان ينزل نجوماً ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها الثريا ، رواه ابن أبي نجيح ، لأنهم كانوا يخافون الأمراض عند طلوعها .
الثالث : أنها الزهرة ، قاله السدي ، لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها .
الرابع : أنها جماعة النجوم ، قاله الحسن ، وليس بممتنع أن يعبر عنها بلفظ الواحد كما قال عمر بن أبي ربيعة :
أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين النساء
الخامس : أنها النجوم المنقضة ، وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ، كثر انقضاض الكواكب قبل مولده ، فذعر أكثر العرب منها ، وفزعوا إلى كاهن لهم ضرير كان يخبرهم بالحوادث ، فسألوه عنها ، فقال انظروا البروج الاثني عشر ، فإن انقض منها شيء ، فهو ذهاب الدنيا ، وإن لم ينقض منها شيء ، فسيحدث في الدنيا أمر عظيم ، فاستشعروا ذلك ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه ، فأنزل الله تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } أي ذلك النجم الذي هوى ، هو لهذه النبوة التي حدثت .
وفي قوله تعالى { إِذَا هَوى } ستة أقاويل :
أحدها : النجوم إذا رقي إليها الشياطين ، قاله الضحاك .
الثاني : إذا سقط .
الثالث : إذا غاب .
الرابع : إذا ارتفع .
الخامس : إذا نزل .
السادس : إذا جرى ، ومهواها جريها ، لأنها لا تفتر في جريها في طلوعها وغروبها ، وهذا قول أكثر المفسرين .
وهذا قسم ، وعلى القول الخامس في انقضاض النجوم خبر .
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، وفيه وجهان :
أحدهما : ما ضل عن قصد الحق ولا غوى في اتباع الباطل .
الثاني : ما ضل بارتكاب الضلال ، وما غوى بأن خاب سعيه ، وألفى الخيبة كما قال الشاعر :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
أي : من خاب في طلبه لامه الناس ، وهذا جواب القسم على قول الأكثرين ، قال مقاتل : وهي أول سورة أعلنها رسول الله بمكة .
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } فيه وجهان :
أحدهما : وما ينطق عن هواه ، وهو ينطق عن أمر الله ، قاله قتادة .
الثاني : ما ينطق بالهوى والشهوة ، إن هو إلا وحي يوحى بأمر ونهي من الله تعالى له .
{ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } أي يوحيه الله إلى جبريل ويوحيه جبريل إليه .

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)

{ عَلَّمَهُ شَدِيدٌ الْقُوَى } يعني : جبريل في قول الجميع .
{ ذو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } فيه خمسة أوجه :
أحدها : ذو منظر حسن ، قاله ابن عباس .
الثاني : ذو غناء ، قاله الحسن .
الثالث : ذو قوة ، قاله مجاهد وقتادة ، ومن قول خفاف بن ندبة :
إني امرؤ ذو مرة فاستبقني ... فيما ينوب من الخطوب صليب
الرابع : ذو صحة في الجسم وسلامة من الآفات ، ومن قول امرىء القيس :
كنت فيهم أبداً ذا حيلة ... محكم المرة مأمون العقد
الخامس : ذو عقل ، قاله ابن الأنباري ، قال الشاعر :
قد كنت عند لقاكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزانه
وفي قوله { فَاسْتَوَى } خمسة أوجه :
أحدها : فاستوى جبريل في مكانه ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : قام جبريل على صورته التي خلق عليها لأنه كان يظهر له قبل ذلك في صورة لا رجل . حكى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل على صورته إلا مرتين : أما واحدة ، فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق . وأما الثانية ، فإنه كان معه حين صعد ، وذلك قوله { وَهُوَ بِاْلأُفُقِ الأَعْلَى } .
الثالث : فاستوى القرآن في صدره ، وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : فاعتدل في قوته .
الثاني : في رسالته .
الرابع : يعني : فارتفع ، وفيه على هذا وجهان :
أحدهما : أنه جبريل ارتفع إلى مكانه .
الثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ارتفع بالمعراج .
{ وَهُوَ بِلأُفُقِ الأَعْلَى } فيه قولان :
أحدهما : أنه جبريل حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى ، قاله السدي .
الثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق الأعلى ، قاله عكرمة . وفي الأفق الأعلى ثلاثة أقاويل :
أحدها : هو مطلع الشمس ، قاله مجاهد .
الثاني : هو الأفق الذي يأتي منه النهار ، قاله قتادة ، يعني طلوع الفجر .
الثالث : هو أفق السماء وهو جانب من جوانبها ، قاله ابن زيد ، ومنه قول الشاعر :
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم والطوالع
{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } فيه قولان :
أحدهما : أنه جبريل ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الرب ، قاله ابن عباس .
وقوله { فَتَدَلَّى } فيه وجهان :
أحدهما : تعلق فيما بين والسفل لأنه رآه منتصباً مرتفعاً ثم رآه متدلياً ، قاله ابن بحر .
الثاني : معناه قرب ، ومنه قوله تعالى : { وَتُدلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } أي تقربوها إليهم ، وقال الشاعر :
أتيتك لا أدلي بقربى قريبة ... إليك ولكني بجودك واثق
وقيل فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : ثم تدلى فدنا ، قاله ابن الأنباري .
{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَينِ أَوْ أَدْنَى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : قيد قوسين ، قاله قتادة والحسن .
الثاني : أنه بحيث الوتر من القوس ، قاله مجاهد .
الثالث : من مقبضها إلى طرفها ، قاله عبد الحارث .
الرابع : قدر ذراعين ، قاله السدي ، فيكون القاب عبارة عن القدر ، والقوس عبارة عن الذراع .

ثم اختلفوا في المعنى بهذا الداني على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه جبريل من ربه ، قاله مجاهد وهو قول ابن عباس .
الثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم من ربه ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أنه جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم .
{ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى } في عبده الموحى إليه قولان :
أحدهما : أنه جبريل عليه السلام أوحى إليه ما يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالته عائشة ، والحسن ، وقتادة .
الثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم أوحي إليه على لسان جبريل ، قاله ابن عباس والسدي .
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } في الفؤاد قولان :
أحدهما : أنه أراد صاحب الفؤاد فعبر عنه بالفؤاد لأنه قطب الجسد وقوام الحياة .
الثاني : أنه أرد نفس الفؤاد لأنه محل الاعتقاد وفيه قولان :
أحدهما : معناه ما أوهمه فؤداه ما هو بخلافه كتوهم السراب ماء ، فيصير فؤاده بتوهم المحال كالكاذب له ، وهو تأويل من قرأ { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ } بالتخفيف .
الثاني : معناه ما أنكر قلبه ما رأته عينه ، وهو تأويل من قرأ { كَذَّبَ } بالتشديد .
وفي الذي رأى خمسة أقاويل :
أحدها : رأى ربه بعينه ، قاله ابن عباس .
الثاني : في المنام ، قاله السدي .
الثالث : أنه بقلبه روى محمد بن كعب قال : قلنا يا رسول الله [ هل رأيت ربك ] ؟ قال : « رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي مَرَّتَيْنِ » ثم قرأ : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } .
الرابع : أنه رأى جلاله ، قاله الحسن ، وروى أبو العالية قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « رَأَيتُ نَهْرَاً وَرَأَيتُ وَرَاءَ النَّهْرِ حَجَاباً ورَأَيتُ وَرَاءَ الحِجَابِ نُوراً لَمْ أَرَ غَيَرَ ذَلِكَ » .
الخامس : أنه رأى جبريل على صورته مرتين ، قاله ابن مسعود .
{ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أفتجادلونه على ما يرى ، قاله إبراهيم .
الثاني : أفتجادلونه على ما يرى ، وهو مأثور .
الثالث : أفتشككونه على ما يرى ، قاله مقاتل .
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى } يعني أنه رأى ما رآه ثانية بعد أُولى ، قال كعب : إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى عليهما السلام ، فرآه محمد مرتين ، وكلمه موسى مرتين .
{ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى } روي فيها خبران .
أحدهما : ما روى طلحة بن مصرف عن مرة عن ابن مسعود قال : لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة ، وإليها ينتهي ما يعرج من الأرواح فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها الخبر .
الثاني : ما رواه معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رُفِعَتْ لِيَ سِدْرَةُ الْمُنتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، ثَمَرُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجْرٍ ، وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَةِ ، يَخْرُجُ مِن سَاقِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بِاطِنَانِ ، قُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ : أَمَّا النَّهْرَانِ البَاطِنَانِ فَفِي الجَنَّةِ ، وَأَمَّا النَّهْرانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالفُرَاتُ » .

وفي سبب تسميتها سدرة المنتهى خمسة أوجه :
أحدها : لانه ينتهي علم الأنبياء إليها ، ويعزب علمهم عما وراءها ، قاله ابن عباس .
الثاني : لأن الأعمال تنتهي إليها وتقبض منها ، قاله الضحاك .
الثالث : لانتهاء الملائكة والنبيين إليها ووقوفهم عندها ، قاله كعب .
الرابع : لأنه ينتهي إليها كل من كان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهاجه ، قاله الربيع بن أنس .
الخامس : لأنه ينتهي إليها كل ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها ، قاله ابن مسعود .
{ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } فيه قولان :
أحدهما : جنة المبيت والإقامة ، قاله علي ، وأبو هريرة .
الثاني : أنها منزل الشهداء ، قاله ابن عباس ، وهي عن يمين العرش وفي ذكر جنة المأوى وجهان على ما قدمناه في سدرة المنتهى :
أحدهما : أن المقصود بذكرها تعريف موضعها بأنه عند سدرة المنتهى ، قاله الجمهور .
{ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الذي يغشاها فراش من ذهب ، قاله ابن مسعود ورواه مرفوعاً .
الثاني : أنهم الملائكة ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه نور رب العزة ، قاله الضحاك .
فإن قيل لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر؟ قيل : لأن السدرة تختص بثلاثة أوصاف : ظل مديد ، وطعم لذيذ ، ورائحة ذكية ، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية ، فظلها بمنزلة العمل لتجاوزه ، وطعمها بمنزلة النية لكمونه ، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره .
{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } في زيغ البصر ثلاثة أوجه؛ أحدها : انحرافه .
الثاني : ذهابه ، قاله ابن عباس .
الثالث : نقصانه ، قاله ابن بحر .
وفي طغيانه ثلاثة أوجه :
أحدها : ارتفاعه عن الحق .
الثاني : تجاوزه للحق ، قاله ابن عباس .
الثالث : زيادته ، ويكون معنى الكلام أنه رأى ذلك على حقه وصدقه من غير نقصان عجز عن إدراكه ، ولا زيادة توهمها في تخليه ، قاله ابن بحر .
{ لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما غشي السدرة من فراش الذهب ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أنه قد رأى جبريل وقد سد الأفق بأجنحته ، قاله ابن مسعود أيضاً .
الثالث : ما رأه حين نامت عيناه ونظر بفؤاده ، قاله الضحاك .

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)

{ أَفَرَءيْتُمُ اللاَّت وَالْعُزَّى } أما اللات فقد كان الأعمش يشددها ، وسائر القراء على تخفيفها ، فمن خففها فلهم فيها قولان :
أحدهما : أنه كان صنماً بالطائف زعموا أن صاحبه كان يلت عليه السويق لأصحابه ، قاله السدي .
الثاني : أنه صخرة يلت عليها السويق بين مكة والطائف ، قاله عكرمة . وأما من شددها فلهم فيها قولان :
أحدهما : أنه كان رجلاً يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن معبوده ، ثم مات فقلبوه على قبره ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : أنه كان رجلاً يقوم على آلهتهم ويلت لهم السويق بالطائف قاله السدي ، وقيل إنه عامر بن ظرب العدواني ثم اتخذوا قبره وثناً معبوداً ، قال الشاعر :
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف ينصركم من ليس ينتصر .
وأما { الْعُزَّى } ففيه قولان :
أحدهما : أنه صنم كانوا يعبدونه ، قاله الجمهور .
الثاني : أنها شجرة كان يعلق عليها ألوان العهن تعبدها سليم ، وغطفان ، وجشم ، قال مقاتل : وهي سمرة ، قاله الكلبي : هي التي بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حتى قطعها ، وقال أبو صالح : بل كانت نخلة يعلق عليها الستور والعهن .
وقيل في اللات والعزى قول ثالث : أنهما كانا بيتين يعبدهما المشركون في الجاهلية ، فاللات بيت كان بنخلة يعبده كفار قريش ، والعزى بيت كان بالطائف يعبده أهل مكة والطائف .
{ وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الأَخْرَى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه كان صنماً بقديد بين مكة والمدينة ، قاله أبو صالح .
الثاني : أنه بيت كان بالمسلك يعبده بنو كعب .
الثالث : أنها أصنام من حجارة كانت في الكعبة يعبدونها .
الرابع : أنه وثن كانوا يريقون عنده الدماء يتقربون بذلك إليه ، وبذلك سميت منى لكثرة ما يراق بها من الدماء .
وإنما قال : مناة الثالثة الأخرى ، لأنها كانت مرتبة عند المشركين في التعظيم بعد اللات والعزى ، وروى سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم { أَفََرأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى } الآية . ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهم ترتجى ، وفي رواية أبي العالية : وشفاعتهم ترتضى ومثلهم لا ينسى ، ففرح المشركون وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فنزل جبريل فقال : أعرض عليّ ما جئتك به فعرض عليه ، فقال : لم آتك أنا بهذا وهذا من الشيطان ، فأنزل الله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُوْلٍ وَلاَ نَبِّيٍ إلاَّ إذا تََمَنَّى ألْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } .
{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى } حيث جعلوا الملائكة بنات الله .
{ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : قسمة عوجاء ، قاله مجاهد .
الثاني : قسمة جائرة ، قاله قتادة .
الثالث : قسمة منقوصة ، قاله سفيان وأكثر أهل اللغة ، قال الشاعر :
فإن تنأى عنا ننتقصك وإن تقم ... فقسمك مضئوز وأنفك راغم
ومعنى مضئوز أي منقوص .
الرابع : قسمة مخالفة ، قاله ابن زيد .
{ أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى } فيه وجهان :
أحدهما : من البنين أن يكونوا له دون البنات .
الثاني : من النبوة أن تكون فيه دون غيره .
{ فَلِلَّهِ الأخِرَةُ وَالأُولَى } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أنه أقدر من خلقه ، فلو جاز أن يكون له ولد - كما نسبه إليه المشركون حين جعلوا له البنات دون البنين وتعالى عن ذلك علواً كبيراً - لكان بالبنين أحق منهم .
الثاني : أنه لا يعطي النبوة من تمناها ، وإنما يعطيها من اختاره لها لأنه مالك السموات والأرض .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)

{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَآئِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ الَّلمَمَ } أما كبائر الإثم ففيها . خمسة أقاويل؛
أحدها : أنه الشرك بالله ، حكاه الطبري .
الثاني : أنه ما زجر عنه بالحد ، حكاه بعض الفقهاء .
الثالث : ما لا يكفر إلا بالتوبة ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : ما حكاه شرحبيل عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال : « أن تدعو لله نداً وهو خلقك وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك وأن تزاني حليلة جارك »
الخامس : ما روى سعيد بن جبير أن رجلاً سأل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي؟ قال : إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبعة ، لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار ، فكأنه يذكر أن كبائر الإثم ما لم يستغفر منه .
وأما الفواحش ففيها قولان :
أحدهما : أنها جميع المعاصي .
الثاني : أنها الزنى . وأما اللمم المستثنى ففيه ثمانية أقاويل :
أحدها : إلا اللمم الذي ألموا به في الجاهلية من الإثم والفواحش فإنه معفو عنه في الإسلام ، قاله ابن زيد بن ثابت .
الثاني : هو أن يلم بها ويفعلها ثم يتوب منها ، قاله الحسن ومجاهد .
الثالث : هو أن يعزم على المواقعة ثم يرجع عنها مقلعاً وقد روى عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمْ تغفر جَمَّاً ... وَأَي عَبْدٍ لَّكَ لاَ أَلَمَّا
الرابع : أن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة ، قاله ابن مسعود ، روى طاووس عن ابن عباس قال : ما رأيت أشبه باللمم من قول أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « كَتَبَ اللَّهُ عَلَى كلِّ نَفْسٍ خَطَّهَا مِن الزّنَى أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ ، فَزِنَى الْعَيْنَينِ النَّظَرُ وَزِنَى الِلَّسَانِ المَنطِقُ وَهِيَ النَّفْسُ تُمَنّي وَتَشْتَهِى ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوُ يُكَذِّبُه »
الخامس : أن اللمم الصغائر من الذنوب .
السادس : أن اللمم ما لم يجب عليه حد في الدنيا ولم يستحق عليه في الآخرة عذاب ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
السابع : أن اللمم النظرة الأولى فإن عاد فليس بلمم ، قاله بعض التابعين ، فجعله ما لم يتكرر من الذنوب ، واستشهد بقول الشاعر :
وما يستوي من لا يرى غير لمة ... ومن هو ناو غيرها لا يريمها
والثامن : أن اللمم النكاح ، وهذا قول أبي هريرة .
وذكر مقاتل بن سليمان أن هذه الآية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار كان له حانوت يبيع فيه تمراً ، فجاءته امرأة تشتري منه تمراً ، فقال لها : إن بداخل الدكان ما هو خير من هذا ، فلما دخلت راودها عن نفسها ، فأبت وانصرفت ، فندم نبهان وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجماع ، فقال :

« لَعَلَّ زَوْجَهَا غَازٍ » فنزلت هذه الآية .
{ وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ } يعني أنشأ آدم .
{ وَإذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } قال مكحول : في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط ، وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا شباباً فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ، ثم صرنا شيوخاً لا أبالك فما بعد هذا تنتظر؟
{ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني لا تمادحوا ، قاله ابن شوذب .
الثاني : لا تعملوا بالمعاصي وتقولوا نعمل بالطاعة ، قاله ابن جريج . الثالث : إذا عملت خيراً فلا تقل عملت كذا وكذا .
ويحتمل رابعاً : لا تبادلوا قبحكم حسناً ومنكركم معروفاً .
ويحتمل خامساً : لا تراؤوا بعملكم المخلوقين لتكونوا عندهم أزكياء .
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } قال الحسن : قد علم الله كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة وإلى ما هي صائرة .

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)

{ أَفَرَءَيْتَ الَّذِي تَولَّى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه العاص بن وائل السهمي ، قاله السدي .
الثاني : أنه الوليد بن المغيرة المخزومي ، قاله مجاهد ، كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه يسمع ما يقولان ثم يتولى عنهما .
الثالث : أنه النضر بن الحارث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حين ارتد عن دينه وضمن له أن يتحمل مأثم رجوعه ، قاله الضحاك .
{ وَأعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه أعطى قليلاً من نفسه بالاستمتاع ثم أكدى بالانقطاع ، قاله مجاهد .
الثاني : أطاع قليلاً ثم عصى ، قاله ابن عباس .
الثالث : أعطى قليلاً من ماله ثم منع ، قاله الضحاك .
الرابع : أعطى بلسانه وأكدى بقلبه ، قاله مقاتل .
وفي { أَكْدَى } وجهان :
أحدهما : قطع ، قاله الأخفش .
الثاني : منع ، قاله قطرب .
{ أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيبِ فَهُوَ يَرَى } فيه وجهان :
أحدهما : معناه أعلم الغيب فرأى أن ما سمعه باطل .
الثاني : أنزل عليه القرآن فرأى ما صنعه حقاً ، قاله الكلبي .
ويحتمل ثالثاً : أعلم أن لا بعث ، فهو يرى أن لا جزاء .
{ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } فيه سبعة أقاويل :
أحدها : وفّى عمل كل يوم بأربع ركعات في أول النهار ، رواه الهيثم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أن يقول كلما أصبح وأمسى { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِيْنَ تُمْسُونَ وَحِيْنَ تُصْبِحُونَ } الآية . رواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : وفيما أمر به من طاعة ربه ، قاله ابن عباس .
الخامس : { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } لأنه كان بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة ابنه وأبيه فأول من خالفهم إبراهيم ، قاله الهذيل .
السادس : أنه ما أُمر بأمر إلا أداه ولا نذر إلا وفاه ، وهذا معنى قول الحسن .
السابع : وفَّى ما امتحن به من ذبح ابنه وإلقائة في النار وتكذيبه .

وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)

{ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمنتَهَى } يحتمل وجهين :
أحدهما : إلى إعادتكم لربكم بعد موتكم يكون منتهاكم .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أضْحَكَ وَأَبْكَى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : قضى أسباب الضحك والبكاء .
الثاني : أنه أراد بالضحك السرور ، وبالبكاء الحزن .
والثالث : أنى خلق قوتي الضحك والبكاء ، فإن الله ميز الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان ، فليس في سائر الحيوان ما ضحك ويبكي غير الإنسان ، وقيل إن القرد وحده يضحك ولا يبكي ، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك .
ويحتمل وجهاً رابعاً : أن يريد بالضحك والبكاء النعم والنقم .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } فيه خمسة أوجه :
أحدها : قضى أسباب الموت والحياة .
الثاني : خلق الموت والحياة كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَوتَ وَالْحَيَاةَ } قاله ابن بحر .
الثالث : أن يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب .
الرابع : أمات بالمعصية وأحيا بالطاعة .
الخامس : أمات الآباء وأحيا الأبناء .
ويحتمل سادساً : أن يريد به أنام وأيقظ .
{ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } وجهان :
أحدهما : إذا تخلق وتقدر ، قاله الأخفش .
الثاني : إذا نزلت في الرحم ، قاله الكلبي .
{ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } فيه ثمانية تأويلات :
أحدها : أغنى بالكفاية وأقنى بالزيادة ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : أغنى بالمعيشة وأقنى بالمال ، قاله الضحاك .
الثالث : أغنى بالمال وأقنى بأن جعل لهم قنية ، وهي أصول الأموال ، قاله أبو صالح .
الرابع : أغنى بأن مَوّل وأقنى بأن حرم ، قاله مجاهد .
الخامس : أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه ، قاله سليمان التيمي .
السادس : أغنى من شاء وأفقر من شاء ، قاله ابن زيد .
السابع : أغنى بالقناعة وأقنى بالرضا ، قاله سفيان .
الثامن : أغنى عن أن يخدم وأقنى أن يستخدم ، وهذا معنى قول السدي .
ويحتمل تاسعاً : أغنى بما كسبه [ الإنسان ] في الحياة وأقنى بما خلفه بعد الوفاة مأخوذ من اقتناء المال وهو استبقاؤه .
{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } والشعرى نجم يضيء وراء الجوزاء ، قال مجاهد : تسمى هوزم الجوزاء ، ويقال إنه الوقاد ، وإنما ذكر أنه رب الشعرى وإن كان رباً لغيره لأن العرب كانت تعبده فأعلموا أن الشعرى مربوب وليس برب .
واختلف فيمن كان يعبده فقال السدي : كانت تعبده حمير وخزاعة وقال غيره : أول من عبده أبو كبشة ، وقد كان من لا يعبدها من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ، قال الشاعر :
مضى أيلول وارتفع الحرور ... وأخبت نارها الشعرى العبور
{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى } فيهم قولان :
أحدهما : أن عاد الأولى عاد بن إرم ، وهم الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية ، وعاداً الآخرة قوم هود .
الثاني : أن عاداً الأولى قوم هود والآخرة قوم كانوا بحضرموت ، قاله قتادة .
{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } والمؤتفكة المنقلبة بالخسف ، قاله محمد بن كعب : هي مدائن قوم لوط وهي خمسة : صبغة وصغيرة وعمرة ودوماً وسدوم وهي العظمى ، فبعث الله عليهم جبريل فاحتملها بجناحه ثم صعد بها حتى أن أهل السماء يسمعون نباح كلابهم وأصوات دجاجهم ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها بالحجارة كما قال تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حَجَارةً مِن سِجِّيْلٍ } قال قتادة : كانوا أربعة آلاف ألف .

{ أَهْوَى } يحتمل وجهين : أحدهما : أن جبريل أهوى بها حين احتملها حتى جعل عاليها سافلها .
الثاني : أنهم أكثر ارتكاباً للهوى حتى حل بهم ما حل من البلاء .
{ فَعَشَّاهَا مَا غَشَّى } يعني المؤتفكة ، وفيما غشاها قولان :
أحدهما : جبريل حين قلبها .
الثاني : الحجارة حتى أهلكها .
{ فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } وهذا خطاب للمكذب أي فبأي نعم ربك تشك فيما أولاك وفيما كفاك .
وفي قوله : { فَغَشَّاهَا } وجهان :
أحدهما : ألقاها .
الثاني : غطاها .

هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

{ هَذا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى } فيه قولان :
أحدهما : أن محمداً نذير الحق أنذر به الأنبياء قبله ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن القرآن نذير بما أنذرت به الكتب الأولى ، قاله قتادة .
ويحتمل قولاً ثالثاً : أن هلاك من تقدم ذكره من الأمم الأولى نذير لكم .
{ أَزِفَتِ الأزِفَةُ } أي اقتربت الساعة ودنت القيامة ، وسماها آزفة لقرب قيامها عنده .
{ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي من يكشف ضررها .
{ أَفَمِنَ هَذا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : من القرآن في نزوله من عند الله .
الثاني : من البعث والجزاء وهو محتمل .
{ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } فيها وجهان :
أحدهما : تضحكون استهزاء ولا تبكون انزجاراً .
الثاني : تفرحون ولا تحزنون ، وهو محتمل .
{ وَأَنْتُم سَامِدُونَ } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : شامخون كما يخطر البعير شامخاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : غافلون ، قاله قتادة .
الثالث : معرضون ، قاله مجاهد .
الرابع : مستكبرون ، قاله السدي .
الخامس : لاهون لاعبون ، قاله عكرمة .
السادس : هو الغناء ، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ، وهي لغة حمير ، قاله أبو عبيدة .
السابع : أن يجلسوا غير مصلين ولا منتظرين قاله علي رضي الله عنه .
الثامن : واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام ، قاله الحسن ، وفيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال : ما لي أراكم سامدين .
التاسع؛ خامدون قاله المبرد ، قال الشاعر :
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقد سمدن له سموداً
{ فَاسْجُدُواْ لِلَّهِ وَأعْبُدُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه سجود تلاوة القرآن ، قال ابن مسعود ، وفيه دليل على أن في المفصل سجوداً .
الثاني : أنه سجود الفرض في الصلاة .

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)

قوله تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } أي دنت وقربت ، قال الشاعر :
قد اقتربت لو كان في قرب دارها ... جداء ولكن قد تضر وتنفع
والمراد بالساعة القيامة ، وفي تسميتها بالساعة وجهان :
أحدهما : لسرعة الأمر فيها .
الثاني : لمجيئها في ساعة من يومها .
وروى طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَلاَ يَزْدَادُ النَّاسُ عَلَى الدُّنْيَا إلاَّ حِرْصاً وَلاَ تَزْدَادُ مِنْهُمْ إِلاَّ بُعْداً » .
{ وَانشَقَّ الْقَمَرُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه وضح الأمر وظهر والعرب تضرب مثلاً فيما وضح أمره ، قال الشاعر :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل
فقد حمت الحاجات والليل مقمر ... وشدت لطيات مطايا وأرحل
والثاني : أن انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه ، وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه ، كما قال النابغة الجعدي :
فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داعي
الثالث : أنه انشقاق القمر على حقيقة انشقاقه .
وفيه على هذا التأويل قولان :
أحدهما : أنه ينشق بعد مجيء الساعة وهي النفخة الثانية ، قاله الحسن ، قال : لأنه لو انشق ما بقي أحد إلا رأه لأنها آية والناس في الآيات سواء .
الثاني : وهو قول الجمهور وظاهر التنزيل أن القمر انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن سأله عمه حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضباً لسب أبي جهل لرسول الله ، أن يريه آية يزداد بها يقيناً في إيمانه ، وروى مجاهد عن أبي معمر عن أبي مسعود قال : رأيت القمر منشقاً شقتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، شقة على أبي قبيس ، وشقة على السويدا فقالوا : سحر القمر ، فنزلت { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَ الْقَمَرُ } .
{ وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه أراد أي آية روأها أعرضوا عنها ولم يعتبروا بها ، وكذلك ذكرها بلفظ التنكير دون التعريف ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه عنى بالآية انشقاق القمر حين رأوه .
{ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن معنى مستمر ذاهب ، قاله أنس وأبو عبيدة .
الثاني : شديد ، مأخوذ من إمرار الحبل ، وهو شدة فتله ، قاله الأخفش والفراء .
الثالث : أنه يشبه بعضه بعضاً .
الرابع : أن المستمر الدائم ، قال امرؤ القيس :
ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر
أي بدائم .
الخامس : أي قد استمر من الأرض إلى السماء ، قاله مجاهد .
{ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يوم القيامة .
الثاني : كل أمر مستقر في أن الخير لأهل الخير ، والشر لأهل الشر ، قاله قتادة .
الثالث : أن كل أمر مستقر حقه من باطله .

الرابع : أن لكل شيء غاية ونهاية في وقوعه وحلوله ، قاله السدي .
ويحتمل خامساً ، أن يريد به دوام ثواب المؤمن وعقاب الكافر .
{ وَلَقْدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنْبَآءِ } فيه وجهان :
أحدهما : أحاديث الأمم الخالية ، قاله الضحاك .
الثاني : القرآن .
{ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي مانع من المعاصي .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : أنه النهي .
الثاني : أنه الوعيد .
{ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } قاله السدي : هي الرسالة والكتاب .
ويحتمل أن يكون الوعد والوعيد .
ويحتمل قوله : { بَالِغَةٌ } وجهين :
أحدهما : بالغة في زجركم .
الثاني : بالغة من الله إليكم ، فيكون على الوجه الأول من المُبَالَغَةِ ، وعلى الوجه الثاني من الإبْلاَغ .
{ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } أي فما يمنعهم التحذير من التكذيب .

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

{ مّهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : معناه : مسرعين ، قاله أبو عبيدة ، ومنه قول الشاعر :
بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع
الثاني : معناه : مقبلين ، قاله الضحاك .
الثالث : عامدين ، قاله قتادة .
الرابع : ناظرين ، قاله ابن عباس .
الخامس : فاتحين آذانهم إلى الصوت ، قاله عكرمة .
السادس : قابضين ما بين أعينهم ، قاله تميم .
{ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } يعني يوم القيامة ، لما ينالهم فيه من الشدة .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

{ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المنهمر الكثير ، قاله السدي ، قال الشاعر :
أعيني جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر
الثاني : أنه المنصب المتدفق ، قاله المبرد ، ومنه قول امرىء القيس :
راح تمرية الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر
وفي فتح أبواب السماء قولان :
أحدهما : أنه فتح رتاجها وسعة مسالكها .
الثاني : أنها المجرة وهي شرج السماء ومنها فتحت بماء منهمر ، قاله علي .
{ فَالْتَقَى الْمَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } فيه وجهان :
أحدهما : فالتقى ماء السماء وماء الأرض على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر ، حكاه ، ابن قتيبة .
الثاني : قدر بمعنى قضي عليهم ، قاله قتادة ، وقدر لهم إذا كفروا أن يغرقوا .
{ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحِ وَدُسُرٍ } أي السفينة ، وفي الدسر أربعة أقاويل :
أحدها : المعاريض التي يشد بها عرض السفينة ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها المسامير دسرت بها السفينة ، أي شدت ، قاله ابن جبير وابن زيد .
الثالث : صدر السفينة الذي يضرب الموج ، قاله عكرمة ، لأنها تدسر الماء بصدرها ، أي تدفعه .
الرابع : أنها طرفاها ، وأصلها ، قاله الضحاك .
{ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } فيه أربعة أوجه :
أحدها : بمرأى منا .
الثاني : بأمرنا ، قاله الضحاك .
الثالث : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها .
الرابع : بأعين الماء التي أتبعناها في قوله : { وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً } ، وقيل : إنها تجري بين ماء الأرض والسماء ، وقد كان غطاها عن أمر الله سبحانه .
{ جَزَآءً لِمَن كَانَ كُفِرَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لكفرهم بالله ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
والثاني : جزاء لتكذيبهم ، قاله السدي .
الثالث : مكافأة لنوح حين كفره قومه أن حمل ذات ألواح ودسر .
{ وَلَقَدْ تّرَكْنَاهَآ ءَايَةً } فيها وجهان :
أحدها : الغرق .
الثاني : السفينة روى سعيد عن قتادة أن الله أبقاها بباقردي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة .
وفي قوله : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني فهل من متذكر ، قاله ابن زيد .
الثاني : فهل من طالب خير فيعان عليه ، قاله قتادة .
الثالث : فهل من مزدجر عن معاصي الله ، قاله محمد بن كعب .
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه سهلنا تلاوته على إهل كل لسان ، وهذا أحد معجزاته ، لأن الأعجمي قد يقرأه ويتلوه كالعربي .
الثاني : سهلنا علم ما فيه واستنباط معانيه ، قاله مقاتل .
الثالث : هونا حفظه فأيسر كتاب يحفظ هو كتاب الله ، قاله الفراء .

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)

{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : باردة ، قاله قتادة ، والضحاك .
الثاني : شديدة الهبوب ، قاله ابن زيد .
الثالث : التي يسمع لهبوبها كالصوت ، ومنه قول الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . ... باز يصرصر فوق المرقب العالي
{ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِّرٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يوم عذاب وهلاك .
الثاني : لأنه كان يوم الأربعاء .
الثالث : لأنه كان يوماً بارداً ، قال الشنفرى :
وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها ينبل
يعني أنه لشدة بردها يصطلي بقوسه وسهامه التي يدفع بها عن نفسه . وفي { مُسْتَمِرٍ } وجهان :
أحدهما : الذاهب .
الثاني : الدائم .

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)

{ إِنَّا إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أن السعر الجنون ، قاله ابن كامل .
الثاني : العناء ، قاله قتادة .
الثالث : الافتراق ، قاله السدي .
الرابع : التيه ، قاله الضحاك .
الخامس : أنه جمع سعر وهو وقود النار ، قاله ابن بحر وابن عيسى .
وعلى هذا التأويل في قولهم ذلك وجهان :
أحدهما : أنهم قالوه لعظم ما نالهم أن يتبعوا رجلاً واحداً منهم ، كما يقول الرجل إذا ناله خطب عظيم : أنا في النار .
الثاني : أنهم لما أوعدوا على تكذيبه ومخالفته بالنار ردوا مثل ما قيل لهم إنّا لو اتبعنا رجلاً مثلنا واحداً كنا إذاً في النار .
{ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الأشر هو العظيم الكذب ، قاله السدي .
الثاني : أنه البطر ، ومنه قول الشاعر :
أشرتم بلبس الخز لما لبستم ... ومن قبل لا تدرون من فتح القرى
الثالث : أنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها . { إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَة فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ } أما الاصطبار فهو الافتعال من الصبر وأصل الطاء تاء أبدلت بطاء ليكون اللفظ أسهل مخرجاً ويعذب مسمعاً . وروى أبو الزبير عن جابر قال : لما نزلنا الحجر فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك ، قال : « أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَسْأَلُوا عَن هَذِهِ الآياتِ [ هؤلاء ] قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُم أَن يَبْعَثَ اللَّهُ لَهُم آيَةً ، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُم نَاقَةً فَكَانَتْ تَرِدُ مِن ذَلَكِ الفَجَ فَتَشْرَبُ مَاءَهُم يَوْمَ وُرُودِهَا وَيَحْلِبُونَ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْهَا يَوْمَ غِبِّهَا وَيَصْدِرُونَ عَن ذَلِكَ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَنَبِئّهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُم } » الآية .
وفيه وجهان :
أحدهما : أن الناقة تحضر الماء يوم ورودهم ، وتغيب عنهم يوم ورودها ، قاله مقاتل .
الثاني : أن ثمود يحضرون الماء يوم غبها فيشربون ، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحلبون .
{ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : انه أحمر إرم وشقيها ، قاله قتادة ، وقد ذكره زهير في شعره فقال :
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
الثاني : أنه قدار بن سالف ، قاله محمد بن إسحاق ، وقد ذكره الأفوه في شعره :
أو بعده كقدار حين تابعه ... على الغاوية أقوام فقد بادوا
{ فَتَعَاطَى } فيه وجهان :
أحدهما : أن معناه بطش بيده ، قاله ابن عباس .
الثاني : معناه تناولها وأخذها ، ومنه قول حسان بن ثابت :
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
{ فَعَقَرَ } قال محمد بن إسحاق : كَمَنَ لها قدار في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها ، ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاءة واحدة تحدر سقبها [ من بطنها وانطلق سقبها ] حتى اتى صخرة في رأس الجبل فرغا ثم لاذ بها ، فأتاهم صالح ، فلما رأى الناقة قد عقروها بكى ثم قال : انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله .

قال ابن عباس : وكان الذي عقرها رجل أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى .
{ فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدهما : يعني العظام المحترقة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه التراب الذي يتناثر من الحائط وتصيبه الريح ، فيحتظر مستديراً ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : أنها الحظار البالية من الخشب إذا صار هشيماً ، ومنه قول الشاعر :
أثرت عجاجة كدخان نار ... تشب بغرقد بال هشيم
قاله الضحاك .
الرابع : أنه حشيش قد حظرته الغنم فأكلته ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً
الخامس : أن الهشيم اليابس من الشجر الذي فيه شوك والمحتظر الذي تحظر به العرب حول ماشيتها من السباع ، قاله ابن زيد ، وقال الشاعر :
ترى جيف المطي بجانبيه ... كان عظامها خشب الهشيم

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن الحصب الحجارة التي رموا بها من السماء ، والحصباء هي الحصى وصغار الأحجار .
الثاني : أن الحاصب الرمي بالأحجار وغيرها ، ولذلك تقول العرب لما تسفيه الريح حاصباً ، قال الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
الثالث : أن الحاصب السحاب الذي حصبهم .
الرابع : أن الحاصب الملائكة الذين حصبوهم .
الخامس : أن الحاصب الريح التي حملت عليهم الحصباء .
{ إِلاَّ ءَالَ لُوطٍ } يعني ولده ومن آمن به .
{ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } والسحر هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر ، وهو في كلام العرب اختلاط سواد آخر الليل ببياض أول النهار لأن هذا الوقت يكون مخاييل الليل ومخاييل النهار .
{ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } يعني ضيف لوط وهم الملائكة الذين نزلوا عليه في صورة الرجال ، وكانوا على أحسن صورهم ، فراودوا لوطاً عليهم طلباً للفاحشة .
{ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ } والطمس محو الأثر ومنه طمس الكتاب إذا محي ، وفي طمس أعينهم وجهان :
أحدهما : أنهم اختفوا عن أبصارهم حتى لم يروهم ، مع بقاء أعينهم ، قاله الضحاك .
الثاني : أعينهم طمست حتى ذهبت أبصارهم وعموا فلم يروهم ، قاله الحسن ، وقتادة .
{ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه وعيد بالعذاب الأدنى ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه تقريع بما نالهم من عذاب العمى الحال ، وهو معنى قول الحسن ، وقتادة .

وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)

{ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ } يعني أكفاركم خير من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم .
{ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ } يعني في الكتب السالفة براءة من الله تعالى أنكم ليس تهلكون كما أهلكوا ، ومنه قول الشاعر :
وترى منها رسوماً قد عفت ... مثل خط اللام في وحي الزبر
{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } يعني بالعدد والعدة ، وقد كان من هلك قبلهم أكثر عدداً وأقوى يداً ، ويحتمل انتصارهم وجهين :
أحدهما : [ لأنفسهم بالظهور ] .
الثاني : لآلهتهم بالعبادة .
فرد الله عليهم فقال : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيْوَلُّونَ الدُّبُرَ } يعني كفار قريش وذلك يوم بدر ، وهذه معجزة أوعدهم الله بها فحققها ، وفي ذلك يقول حسان :
ولقد وليتم الدبر لنا ... حين سال الموت من رأس الجبل
{ بَلِ الْسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } يعني القيامة .
{ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن موقف الساعة أدهى وأمر من موقف الدنيا في الحرب التي تولون فيها الدبر .
الثاني : أن عذاب الساعة أدهى وأمر من عذاب السيف في الدنيا .
وفي قوله { أدْهَى } وجهان :
أحدهما : أخبث .
الثاني : أعظم .
{ وَأَمَرُّ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه أشد لأن المرارة أشد الطعوم .
الثاني : معناه أنفذ ، مأخوذ من نفوذ المرارة فيما خالطته .

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } روى إسماعيل بن زياد عن محمد بن عباد عن أبي هريرة أن مشركي قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت .
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : على قدر ما أردنا من غير زيادة ولا نقصان ، قاله ابن بحر .
الثاني : بحكم سابق وقضاء محتوم ، ومنه قول الراجز :
وقدر المقدر الأقدارا . ... { وَمَآ أَمْرُنْآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بَالْبَصَرِ } يعني أن ما أردناه من شيء أمرنا به مرة واحدة ولم نحتج فيه إلى ثانية ، فيكون ذلك الشيء مع أمرنا به كلمح البصر في سرعته من غير إبطاء ولا تأخير .
{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المستطر المكتوب ، قاله الحسن وعكرمة وابن زيد ، لأنه مسطور .
الثاني : أنه المحفوظ ، قاله قتادة .
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن النهر أنهار الماء ، والخمر ، والعسل ، واللبن ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن النهر الضياء والنور ، ومنه النهار ، قاله محمد بن إسحاق ، ومنه قول الراجز :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر
الثالث : أنه سعة العيش وكثرة النعيم ، ومنه اسم نهر الماء ، قاله قطرب .
{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِند مَلِيكٍ مّقْتَدِرِ } فيه وجهان :
أحدهما : مقعد حق لا لغو فيه ولا تأثيم .
الثاني : مقعد صدق لله وعد أولياءه به ، والمليك والملك واحد ، وهو الله كما قال ابن الزبعري :
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذا أنابوا
ويحتمل ثالثاً : أن المليك مستحق الملك ، والملك القائم بالملك والمقتدر بمعنى القادر .
ويحتمل وصف نفسه بالاقتدار ها هنا وجهين :
أحدهما : لتعظيم شأن من عنده من المتقين لأنهم عند المقتدر أعظم قدراً ، وأعلى مجزاً .
الثاني : ليعلموا أنه قادر على حفظ ما أنعم به عليهم ودوامه لهم ، والله أعلم .

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)

قوله تعالى { الرَّحْمَنُ } فيه قولان :
أحدهما : أنه اسم ممنوع لا يستطيع الناس أن ينتحلوه ، قاله الحسن ، وقطرب .
الثاني : أنه فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى : { الر } و { حم } و { ن } فيكون مجموع هذه { الرَّحْمَنُ } ، قاله سعيد بن جبير ، وابن عباس .
{ عَلَّمَ الْقُرْءانَ } فيه وجهان :
أحدهما : علمه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس .
الثاني : سهل تعلمه على جميع الناس .
{ خَلَقَ الإِنسَانَ } فيه قولان :
أحدهما : يعني آدم ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنه أراد جميع الناس وإن كان بلفظ واحد ، وهو قول الأكثرين .
{ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } لأنه بالبيان فُضِّل على جميع الحيوان ، وفيه ستة تأويلات :
أحدها : أن البيان الحلال والحرام ، قاله قتادة .
الثاني : الخير والشر ، قاله الضحاك ، والربيع بن أنس .
الثالث : المنطق والكلام ، قاله الحسن .
الرابع : الخط ، وهو مأثور .
الخامس : الهداية ، قاله ابن جريج .
السادس : العقل لأن بيان اللسان مترجم عنه .
ويحتمل سابعاً : أن يكون البيان ما اشتمل على أمرين : إبانة ما في نفسه ومعرفة ما بين له .
وقول ثامن لبعض أصحاب الخواطر : خلق الإنسان جاهلاً به ، فعلمه السبيل إليه .
{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : يعني بحساب ، قاله ابن عباس ، والحسبان مصدر الحساب ، وقيل : جمعه .
الثاني : معنى الحسبان هذه آجالها ، فإذا انقضى الأجل كانت القيامة ، قاله السدي .
الثالث : أنه يقدر بهما الزمان لامتياز النهار بالشمس والليل بالقمر ولو استمر أحدهما فكان الزمان ليلاً كله أو نهاراً كله لما عرف قدر الزمان ، قاله ابن زيد .
الرابع : يدوران ، وقيل إنهما يدوران في مثل قطب الرحى ، قاله مجاهد .
الخامس : معناه يجريان بقدر .
{ وَالنَّجْمُ وَالْشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } في النجم قولان :
أحدهما : نجم السماء ، وهو موحد والمراد به جميع النجوم ، قاله مجاهد .
الثاني : أن النجم النبات الذي قد نجم في الأرض وانبسط فيها ، ليس له ساق ، والشجر ما كان على ساق ، قاله ابن عباس .
وفي سجودهما خمسة أقاويل :
أحدها : هو سجود ظلهما ، قاله الضحاك . الثاني : هو ما فيهما من الصنعة والقدرة التي توجب السجود والخضوع ، قاله ابن بحر .
الثالث : أن سجودهما دوران الظل معهما ، كما قال تعالى : { يتفيأ ظلاله } ، قاله الزجاج .
الرابع : أن سجود النجم أفوله ، وسجود الشجر إمكان الإجتناء لثمارها .
الخامس : أن سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا أشرقت ثم يميلان معها إذا انكسر الفيء ، قاله الفراء .
{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا } يعني على الأرض .
{ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الميزان ذو اللسان ليتناصف به الناس في الحقوق ، قاله الضحاك .
الثاني : أن الميزان الحكم .
الثالث : قاله قتادة ، ومجاهد ، والسدي : أنه العدل ، ومنه قول حسان :
ويثرب تعلم أنا بها ... إذا التبس الأمر ميزانها

{ أَلاَّ تَطْغُواْ فِي الْمِيزَانِ } وفي الميزان ما ذكرناه من الأقاويل :
أحدها : أنه العدل وطغيانه الجور ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه ميزان الأشياء الموزونات وطغيانه البخس ، قاله مقاتل ، وقال ابن عباس : يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم : المكيال والميزان .
الثالث : أنه الحكم ، وطغيانه التحريف .
{ وَأقِيمُواْ الْوَزْنَ بَالْقِسْطِ } أي بالعدل ، قال مجاهد : القسط : العدل .
{ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ } أي لا تنقصوه بالبخس قيل : إنه المقدار : فالجور إن قيل : إنه العدل ، والتحريف إن قيل : الحكم .
وفي وجه رابع : أنه ميزان حسناتكم يوم القيامة .
{ وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } أي بسطها ووطأها للأنام ليستقروا عليها ويقتاتوا منها .
وفي الأنام ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الناس ، قاله ابن عباس ، وفيه قول بعض الشعراء في رسول الله صلى الله عليه وسلم :
مبارك الوجه يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر
الثاني : أن الأنام الإنس والجن ، قاله الحسن .
الثالث : أن الأنام جميع الخلق من كل ذي روح ، قاله مجاهد ، وقتادة والسدي ، سمي بذلك لأنه ينام ، قال الشاعر :
جاد الإله أبا الوليد ورهطه ... رب الأنام وخصه بسلام
{ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكمَامِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن ذات الأكمام النخل ، وأكمامها ليفها الذي في أعناقها ، قاله الحسن .
الثاني : أنه رقبة النخل التي تكمم فيه طلعاً ، ومنه قول الشاعر :
وذات أثارة أكلت عليها ... نباتاً في أكمتة قفار
الثالث : أنه الطلع المكمم الذي هو كمام الثمرة ، قاله ابن زيد .
الرابع : أن معنى ذات الأكمام أي ذوات فضول على كل شيء ، قاله ابن عباس .
{ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالْرَّيْحَانُ } أما الحب فهو كل حب خرج من أكمامها كالبر والشعير .
وأما العصف ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الريح ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الزرع إذا اصفر ويبس .
الثالث : أنه حب المأكول منه ، قاله الضحاك ، كما قال تعالى : { كَعَصْفٍ مَأكُولٍ } .
وأما الريحان ففيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه الرزق ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدي ، والعرب تقول : خرجنا نطلب ريحان الله أي رزقه ، ويقال سبحانك وريحانك أي رزقك ، وقال النمر بن تولب :
سلام الإله وريحانه ... ورخيته وسماء درر
قاله الضحاك ، ورخيته هي لغة حِمْيَر .
الثاني : أن الريحان الزرع الأخضر الذي لم يسنبل ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه الريحان الذي يشم ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد .
الرابع : أن العصف الورق الذي لا يؤكل والريحان هو الحب المأكول ، قاله الكلبي .
{ فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمْا تُكّذِّبَانِ } في الآلاء قولان :
أحدهما : أنها النعم ، وتقديره فبأي نعم ربكما تكذبان ، قاله ابن عباس ، ومنه قول طرفة :
كامل يجمع الآلاء الفتى ... بيديه سيد السادات خصم
الثاني : أنها القدرة ، وتقدير الكلام فبأي قدرة ربكما تكذبان ، قاله ابن زيد ، والكلبي .
وفي قوله ربكما إشارة إلى الثقلين الإنس والجن في قول الجميع .

وقد روى محمد بن المنكدر عن جابر قال : قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : « مِا لِي أَرَاكُم سُكُوتاً؟! الجِنُّ أَحْسَنُ مِنكُم رَداً ، كُنتُ كُلَّمَا قَرأَتُ عَلَيهِم الأَيةَ { فَبَأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قَالُوا : وَلاَ بِشَيءٍ مِن نِّعَمِكَ رَبَّنَا نُكّذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ » .
وتكرارها في هذه السورة لتقرير النعم التي عددها ، فقررهم عند كل نعمة منها ، كما تقول للرجل أما أحسنت إليك حين وهبت إليك مالاً؟ أما أحسنت إليك حين بنيت لك داراً ، ومنه قول مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليباً :
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

{ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَاْلْفَخَّارِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه الطين المختلط برمل ، قاله ابن عباس .
الثاني : انه الطين الرطب الذي إذا عصرته بيدك خرج الماء من بين أصابعك ، وهذا مروي عن عكرمة .
الثالث : أنه الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة ، قاله قتادة .
الرابع : انه الطين الأجوف الذي إذا ضرب بشيء صلّ وسُمِع له صوت .
الخامس : أنه الطين المنتن ، قاله الضحاك ، مأخوذ من قولهم صلَّ اللحم إذا أنتن .
والمخلوق من صلصال كالفخار هو آدم عليه السلام .
قال عبد الله بن سلام : خلق الله آدم من تراب من طين لازب ، فتركه كذلك أربعين سنة ، ثم صلصله كالفخار أربعين سنة ، ثم صوره فتركه جسداً لا روح فيه أربعين سنة ، فذلك مائة وعشرون سنة ، كل ذلك والملائكة تقول سبحان الذي خلقك ، لأمر ما خلقك .
{ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه لهب النار ، قاله ابن عباس .
الثاني : خلط النار ، قاله أبو عبيدة .
الثالث : أنه [ اللهب ] الأخضر والأصفر [ والأحمر ] الذي يعلو النار إذا أوقدت ويكون بينها وبين الدخان ، قاله مجاهد .
الرابع : أنها النار المرسلة التي لا تمتنع ، قاله المبرد .
الخامس : أنها النار المضطربة التي تذهب وتجيء ، وسمي مارجاً لاضطرابه وسرعة حركته .
وفي الجان المخلوق من مارج من نار قولان :
أحدهما : أنه أبوالجن ، قاله أبو فروة يعقوب عن مجاهد .
الثاني : أنه إبليس ، وهو قول مأثور .
وفي النار التي خلق من مارجها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها من النار الظاهرة بين الخلق ، قاله الأكثرون .
الثاني : من نار تكون بين الجبال من دون السماء وهي كالكلة الرقيقة ، قاله الكلبي .
الثالث : من نار دون الحجاب ومنها هذه الصواعق وترى خلق السماء منها ، قاله الفراء .
{ رَبُّ الْمَشْرِقْينِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المشرقين مشرق المشس في الشتاء والصيف ، والمغربين مغرب الشمس في الشتاء والصيف ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن المشرقين مشرق الشمس والقمر ، والمغربين مغربهما .
الثالث : أن المشرقين الفجر والشمس ، والمغربين الشمس والغسق وأغمض سهل بن عبد الله بقول رابع : ان المشرقين مشرق القلب واللسان ، والمغربين مغرب القلب واللسان .
{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } أما البحران ففيهما خمسة أوجه :
أحدهما : أنه بحر السماء وبحر الأرض ، قاله ابن عباس .
الثاني : بحر فارس والروم ، قاله الحسن ، وقتادة .
الثالث : أنه البحر المالح والأنهار العذبة ، قاله ابن جريج .
الرابع : أنه بحر المشرق وبحر المغرب يلتقي طرفاهما .
الخامس : انه بحر اللؤلؤ وبحر المرجان .
وأما { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تفريق البحرين ، قاله ابن صخر .
الثاني : إسالة البحرين ، قاله ابن عباس .
الثالث : استواء البحرين ، قاله مجاهد .
وأصل المرج ، الإهمال كما تمرج الدابة في المرج .
{ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبغِيَانِ } في البزخ الذي بينهما أربعة أقاويل :
أحدها : أنه حاجز ، قاله ابن عباس .

الثاني : أنه عرض الأرض ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه ما بين السماء والأرض ، قاله عطية ، والضحاك .
الرابع : أنه الجزيرة التي نحن عليها وهي جزيرة العرب ، قاله الحسن ، وقتادة .
وفي قوله : { لاَّ يَبْغِيَانِ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا يختلطان لا يسيل العذب على المالح ولا المالح على العذب ، قاله الضحاك .
الثاني : لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثالث : لا يبغيان أن يلتقيا ، قاله ابن زيد ، وتقدير الكلام ، مرج البحرين يلتقيان لولا البرزخ الذي بينهما أن يلتقيا .
وقال سهل : البحران طريق الخير وطريق الشر ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة .
{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الَّلؤلُؤ وَالْمَرْجَانُ } وفي المرجان أربعة أقاويل :
أحدها : عظام اللؤلؤ وكباره ، وقاله علي وابن عباس ، ومنه قول الأعشى :
من كل مرجانة في البحر أخرجها ... تيارها ووقاها طينة الصدف
الثاني : أنه صغار اللؤلؤ ، قاله الضحاك وأبو رزين .
الثالث : أنه الخرز الأحمر كالقضبان ، قاله ابن مسعود .
الرابع : أنه الجوهر المختلط ، مأخوذ من مرجت الشيء إذا خلطته وفي قوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا } وجهان :
أحدهما : ان المراد أحدهما وإن عطف بالكلام عليهما .
الثاني : أنه خارج منهما على قول ابن عباس أنهما بحر السماء وبحر الأرض ، لأن ماء السماء إذا وقع على صدف البحر انعقد لؤلؤاً ، فصار خرجاً منهما .
وفيه وجه ثالث : أن العذب والمالح قد يلتقيان فيكون العذب كاللقاح للمالح فنسب إليهما كما نسب الولد إلى الذكر والأنثى وإن ولدته الأنثى ، ولذلك قيل إنه لا يخرج اللؤلؤ إلا من موضع يلتقي فيه العذب والمالح .
{ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ } أما الجواري فهي السفن واحدتها جارية سميت بذلك لأنها تجري في الماء بإذن الله تعالى ، والجارية هي المرأة الشابة أيضاً سميت بذلك لأنه يجري فيها ماء الشباب .
وأما المنشآت ففيها خمسة أوجه :
أحدها : أنها المخلوقات ، قاله قتادة مأخوذ من الإنشاء .
الثاني : أنها المحملات ، قاله مجاهد .
الثالث : أنها المرسلات ، ذكره ابن كامل .
الرابع : المجريات ، قاله الأخفش .
الخامس : أنها ما رفع قلعه منها وهي الشرع فهي منشأة ، وما لم يرفع ليست بمنشأة ، قاله الكلبي .
وقرأ حمزة { الْمُنشَئَاتُ } بكسر الشين ، وفي معناه على هذه القراءة وجهان :
أحدهما : البادئات ، قاله ابن إسحاق والجارود بن أبي سبرة .
الثاني : أنها يكثر نشأً بجريها وسيرها في البحر كالأعلام ، قاله ابن بحر .
وفي قوله : { كَالأَعْلاَمِ } وجهان :
أحدهما : يعني الجبال سميت بذلك لارتفاعها كارتفاع الأعلام ، قاله السدي . قالت الخنساء :
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
الثاني : أن الأعلام القصور ، قاله الضحاك .
{ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } فيه قولان :
أحدهما : يسألونه الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض ، لأهل الأرض ، قاله ابن جريج وروته عائشة مرفوعاً .
الثاني : أنهم يسألونه القوة على العبادة ، قاله ابن عطاء ، وقيل إنهم يسألونه لأنفسهم الرحمة ، قاله أبو صالح .
قال قتادة : لا استغنى عنه أهل السماء ولا أهل الأرض ، قال الكلبي : وأهل السماء يسألونه المغفرة خاصة لأنفسهم ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونه المغفرة والرزق .

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)

{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنه أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة ، قال ابن بحر : الدهر كله يومان : أحدهما : مدة أيام الدنيا ، والآخر يوم القيامة ، فشأنه سبحانه في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر ، والنهي ، والإحياء ، والأمانة ، والإعطاء ، والمنع ، وشأنه يوم القيامة الجزاء ، والحساب ، والثواب ، والعقاب .
والقول الثاني : أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا .
وفي هذا الشأن الذي أراده في أيام الدنيا قولان :
أحدهما : من بعث من الأنبياء في كل زمان بما شرعه لأمته من شرائع الدين وكان الشأن في هذا الموضع هو الشريعة التي شرعها كل نبي في زمانه ويكون اليوم عبارة عن المدة .
القول الثاني : ما يحدثه الله في خلقه من تبدل الأحوال وإختلاف الأمور ، ويكون اليوم عبارة عن الوقت .
روى مجاهد عن عبيد بن عمير قال : كل يوم هو في شأن ، يجيب داعياً ، ويعطي سائلاً ، ويفك عانياً ، ويتوب على قوم ، ويغفر لقوم .
وقال سويد بن غفلة : كل يوم هو في شأن ، هو يعتق رقاباً ، ويعطي رغاباً ، ويحرم عقاباً .
وقد روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } مِن شَأَنِهِ أَن يَغْفِرَ ذَنباً ، وَيَفْرِجَ كَرْباً ، وَيَرَفَعَ قَوماً ، وَيَضَعَ آخَرِينَ »

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)

{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَنِ } فيه وجهان :
أحدهما : أي لنقومن عليكم على وجه التهديد .
الثاني : سنقصد إلى حسابكم ومجازاتكم على أعمالكم وهذا وعيد لأن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، وقال جرير :
الآن وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذاباً
أي قصدت لهم ، والثقلان الإنس والجن سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض .
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقطَارِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } فيه وجهان :
أحدهما : إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ، لن تعلموه إلا بسلطان ، قاله عطية العوفي .
الثاني : إن استطعتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هرباً من الموت فانفذوا ، قاله الضحاك .
{ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني إلا بحجة ، قاله مجاهد ، قاله ابن بحر : والحجة الإيمان .
الثاني : لا تنفذون إلا بمُلْك وليس لكم مُلْك ، قاله قتادة .
الثالث : معناه لا تنفذون إلا في سلطانه وملكه ، لأنه مالك السموات والأرض وما بينهما ، قاله ابن عباس .
{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الشواظ لهب النار ، قاله ابن عباس ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يهجو حسان بن ثابت :
يمانياً يظل يشد كيراً ... وينفخ دائباً لهب الشواظ
[ فأجابه حسان فقال ] :
همزتك فاختضعت بذل نفسٍ ... بقافية تأجج كالشواظ
الثاني : أنه قطعة من النار فيها خضرة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه الدخان ، رواه سعيد بن جبير ، قال رؤبة بن العجاج :
إن لهم من وقعنا أقياظا ... ونار حرب تسعر الشواظا
الرابع : أنها طائفة من العذاب ، قاله الحسن .
وأما النحاس ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه الصفر المذاب على رؤوسهم ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثاني : أنه دخان النار ، قاله ابن عباس ، قال النابغة الجعدي :
كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاساً
الثالث : أنه القتل ، قاله عبد الله بن أبي بكرة .
الرابع : أنه نحس لأعمالهم ، قاله الحسن .

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

{ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ } يعني يوم القيامة .
{ فَكَانَتْ وَرْدَةً } فيه وجهان :
أحدهما : وردة البستان ، وهي حمراء ، وقد تختلف ألوانها لكن الأغلب من ألوانها الحمرة ، وبها يضرب المثل في لون الحمرة ، قال عبد بني الحسحاس :
فلو كنت ورداً لونه لعشقتني ... ولكن ربي شانني بسواديا
كذلك تصير السماء يوم القيامة حمراء كالورد ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه أراد بالوردة الفرس الورد يكون في الربيع أصفر وفي الشتاء أغبر ، فشبه السماء يوم القيامة في اختلاف ألوانها بالفرس الورد ، لاختلاف ألوانه ، قاله الكلبي والفراء .
وفي قوله : { كَالدِّهَانِ } خمسة أوجه :
أحدها : يعني خالصة ، قاله الضحاك .
الثاني : صافية ، قاله الأخفش .
الثالث : ذات ألوان ، قاله الحسن .
الرابع : صفراء كلون الدهن ، وهذا قول عطاء الخراساني ، وأبي الجوزاء .
الخامس : الدهان أديم الأرض الأحمر ، قاله ابن عباس ، قال الأعشى :
وأجرد من فحول الخيل طرف ... كأن على شواكله دهانا
وزعم المتقدمون أن أصل لون السماء الحمرة ، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة ترى بهذا اللون الأزرق ، وشبهوا ذلك بعروق البدن هي حمراء كحمرة الدم وترى بالحائل زرقاء ، فإن كان هذا صحيحاً فإن السماء لقربها من النواظر يوم القيامة وارتفاع الحواجز ترى حمراء لأنه أصل لونها .
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : كانت المسألة قبل ، ثم ختم على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، قاله قتادة .
الثاني : أنه لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا ، قاله ابن عباس .
الثالث : لا يسأل الملائكة عنهم لأنهم قد رفعوا أعمالهم في الدنيا ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه لا يسأل بعضهم بعضاً عن حاله لشغل كل واحد منهم بنفسه ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الخامس : أنهم في يوم تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه فهم معروفون بألوانهم فلم يسأل عنهم ، قاله الفراء .
{ يَطُوفَونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ } قال قتادة : يطوفون مرة بين الحميم ، ومرة بين الجحيم ، والجحيم النار ، والحميم الشراب .
وفي قوله تعالى : { ءَانٍ } ثلاثة أوجه :
أحدها : هو الذي انتهى حره وحميمه ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي ، ومنه قول النابغة الذبياني :
وتخضب لحية غدرت وخانت ... بأحمر من نجيع الجوف آن
أي حار .
الثاني : أنه الحاضر ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أنه الذي قد آن شربه وبلغ غايته ، قاله مجاهد .

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)

{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } وفي الخائف مقام ربه ثلاثة أقاويل :
أحدها : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه يهم بذنب فيذكر مقام ربه فيدعه ، قاله مجاهد .
الثالث : أن ذلك نزل في أبي بكر رضي الله عنه خاصة حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت ، والنار حين برزت ، قاله عطاء وابن شوذب .
قال الضحاك : بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ فأعجبه ، فسأل عنه فأُخْبِر أنه من غير حل ، فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، فقال : « رَحِمَكَ اللَّهُ لَقَدْ أُنزِلَتْ فِيكَ آيَةٌ » وتلا عليه هذه الآية .
وفي مقام ربه قولان :
أحدهما : هو مقام بين يدي العرض والحساب .
الثاني : هو قيام الله تعالى بإحصاء ما اكتسب من خير وشر .
وفي هاتين الجنتين أربعة أوجه :
أحدها : جنة الإنس وجنة الجان ، قاله مجاهد .
الثاني : جنة عدن ، وجنة النعيم ، قاله مقاتل .
الثالث : أنهما بستانان من بساتين الجنة ، وروي ذلك مرفوعاً لأن البستان يسمى جنة .
الرابع : أن إحدى الجنتين منزله ، والأخرى منزل أزواجه وخدامه كما يفعله رؤساء الدنيا .
ويحتمل خامساً : أن إحدى الجنتين مسكنه ، والأخرى بستانه .
ويحتمل سادساً : أن إحدى الجنتين أسافل القصور ، والأخرى أعاليها .
{ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : ذواتا ألوان ، قاله ابن عباس .
الثاني : ذواتا أنواع من الفاكهة ، قاله الضحاك .
الثالث : ذواتا أتا وسَعَةٍ ، قاله الربيع بن أنس .
الرابع : ذواتا أغصان ، قاله الأخفش وابن بحر .
والأفنان جمع واحده فنن كما قال الشاعر :
ما هاج سوقك من هديل حمامة ... تدعوا على فنن الغصون حماما
تدعو أبا فرخين صادف ضارياً ... ذا مخلبين من الصقور قطاما

مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)

{ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أن بطائنها يريد به ظواهرها ، قاله قتادة .
والعرب تجعل البطن ظهراً فيقولون هذا بطن السماء وظهر السماء .
الثاني : أنه أراد البطانة دون الظهارة ، لأن البطانة إذا كانت من إستبرق وهي أدون من الظاهرة دل على أن الظهارة فوق الإستبرق ، قاله الكلبي .
وسئل عباس فما الظواهر؟ قال : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله .
{ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } فأما الجنا فهو الثمر ، ومنه قول الشاعر :
هذا جناي وخياره فيه ... إذ كل جان يده إلى فيه
وفي قوله : { دَانٍ } وجهان :
أحدهما : داني لا يبعد على قائم ولا على قاعد ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه لا يرد أيديهم عنها بُعد ولا شوك ، قاله قتادة .
{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } قال قتادة : قصر طرفهن على أزواجهن ، لا يسددن النظر إلى غيرهم ، ولا يبغين بهم بدلاً .
{ لَمْ يَطْمَثهنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لم يمسسهن ، قال أبو عمرو : الطمث المس ، وذلك في كل شيء يمس .
الثاني : لم يذللهن إنس قبلهم ولا جان ، والطمث : التذليل ، قاله المبرد .
الثالث : لم يُدْمِهُنَّ يعني إنس ولا جان ، وذلك قيل للحيض طمث ، قال الفرزدق :
دفعن إليَّ لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام
وفي الآية دليل على أن الجن تغشى كالإنس
. { هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : هل جزاء الطاعة إلا الثواب .
الثاني : هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان في الآخرة ، قاله ابن زيد .
الثالث : هل جزاء من شهد أن لا إله إلا الله إلا الجنة ، قاله ابن عباس .
الرابع : هل جزاء التوبة إلا المغفرة ، قاله جعفر بن محمد الصادق .
ويحتمل خامساً : هل جزاء إحسان الله عليكم إلا طاعتكم له .

وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)

{ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } فيه وجهان :
أحدهما : أي أقرب منهما جنتان .
الثاني : أي دون صفتهما جنتان .
وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الجنات الأربع لمن خاف مقام ربه ، قال ابن عباس : فيكون في الأوليين النخل والشجر ، وفي الأخريين الزرع والنبات وما انبسط .
الثاني : أن الأوليين من ذهب للمقربين ، والأخريين من وَرِقٍ لأصحاب اليمين ، قاله ابن زيد .
الثالث : أن الأوليين للسابقين ، والأخريين للتابعين ، قاله الحسن .
قال مقاتل : الجنتان الأوليان جنة عدن وجنة النعيم والأخريان جنة الفردوس وجنة المأوى ، وفي الجنات الأربع جنان كثيرة .
ويحتمل رابعاً : أن يكون من دونهما جنتان لأتباعه ، لقصور منزلتهم عن منزلته ، إحدهما للحور العين ، والأخرى للولدان المخلدين ، لتميز بهما الذكور عن الإناث .
{ مُدْهَآمَّتَانِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أي خضراوان ، قاله ابن عباس .
الثاني : مسودتان ، قاله مجاهد ، مأخوذ من الدهمة وهي السواد ، ومنه سمي سود الخيل دهماً .
الثالث : [ خضروان من الرّي ] ناعمتان ، قاله قتادة .
{ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدهما : ممتلئتان لا تنقطعان ، قاله الضحاك .
الثاني : جاريتان ، قاله الفراء .
الثالث : فوّارتان ، وذكر في الجنتين الأوليين عينين تجريان ، وذكر في الأخريين عينين نضاختين ، والجري أكثر من النضخ .
وبماذا هما نضاختان؟ فيه أربعة أوجه :
أحدها : بالماء ، قاله ابن عباس .
الثاني : بالمسك والعنبر ، قاله أنس .
الثالث : بالخير والبركة ، قاله الحسن ، والكلبي .
الرابع : بأنواع الفاكهة ، قاله سعيد بن جبير .
{ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } يعني الجنات الأربع ، وفي الخيرات قراءتان إحداهما بالتخفيف ، وفي المراد بها قولان :
أحدهما : الخير والنعم المستحسنة .
الثاني : خيرات الفواكه والثمار ، وحسان في المناظر والألوان .
والقرءة الثانية بالتشديد ، وفي المراد بها قولان :
أحدهما : مختارات .
الثاني : ذوات الخير وفيهن قولان :
أحدهما : أنهن الحور المنشآت في الآخرة .
الثاني : أنهن النساء المؤمنات الفاضلات من أهل الدنيا .
وفي تسميتهن خيرات أربعة أوجه :
أحدها : لأنهن خيرات الأخلاق حسان الوجوه ، قاله قتادة وروته أم سلمة مرفوعاً :
الثاني : لأنهن عذارى أبكاراً ، قاله أبو صالح .
الثالث : لأنهن مختارات .
الرابع : لأنهن خيرات صالحات ، قاله أبو عبيدة .
{ حُوْرٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : مقصورات الطرف على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلاً ، ولا يرفعن طرفاً إلى غيرهم من الرجال ، قاله مجاهد .
الثاني : المحبوسات في الحجال لَسْنَ بالطوافات في الطرق ، قاله ابن عباس .
الثالث : المخدرات المصونات ، ولا متعطلات ولا متشوِّفات ، قاله زيد بن الحارث ، وأبو عبيدة .
الرابع : أنهن المسكنات في القصور ، قاله الحسن .
ويحتمل خامساً : أن يريد بالمقصورات البيض ، مأخوذ من قصارة الثوب الأبيض ، لأن وقوع الفرق بين المقصورات والقاصرات يقتضي وقوع الفرق بينهما في التأويل :
وفي الخيام ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الخيام هي البيوت ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنها خيام تضرب لأهل الجنة خارج الجنة كهيئة البداوة ، قاله سعيد بن جبير .

الثالث : أنها خيام في الجنة تضاف إلى القصور .
روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الخِيَامُ الدُّرُّ المُجَوَّفُ » .
روي عن أسماء بنت يزيد الأشهلية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إننا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم وحوامل أولادكم ، فهل نشارككم في الأجر؟ فقال عليه السلام : « نَعَم إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تَبَعُّلَ أَزَوَاجِكُنَّ وَطَلَبْتُنَّ مَرْضاتُهُم » .
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أن الرفرف المحبس المطيف ببسطه ، قاله ابن كامل .
الثاني : فضول الفرش والبسط ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنها الوسائد ، قاله الحسن وعاصم الجحدري .
الرابع : أنها الفرش المرتفعة ، مأخوذ من الرف .
الخامس : أنها المجالس يتكئون على فضولها .
السادس : رياض الجنة ، قاله ابن جبير .
{ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها الطنافس المخملية ، قاله الحسن .
الثاني : الديباج ، قاله مجاهد .
الثالث : أنها ثياب في الجنة لا يعرفها أحد ، قاله مجاهد [ أيضاً ] .
الرابع : أنها ثياب الدنيا تنسب إلى عبقر .
وفي عبقري قولان :
أحدهما : أنه سيد القوم ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه : « فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِياً مِنَ النَّاسِ يَفْري فَرِيَّةُ » فنسبه إلى أرفع الثياب لاختصاصه
. الثاني : أرض عبقر .
وفي تسميتها بذلك قولان :
أحدهما : لكثرة الجن فيها .
الثاني : لكثرة رملها ويكون المراد بذلك أنها تكون مثل العبقري لأن ما ينسج بعبقر لا يكون في الجنة إذا قيل إن عبقر اسم أرض .
{ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه ثبت اسم ربك ودام .
الثاني : أن ذكر اسمه يمن وبركة ، ترغيباً في مداومة ذكره .
{ ذِي الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ } في { ذِي الْجَلاَلِ } وجهان :
أحدهما : أنه الجليل .
الثاني : أنه المستحق للإجلال والإعظام .
وفي { الإكْرَامِ } وجهان :
أحدهما : الكريم .
الثاني : ذو الإكرام لمن يطيعه .

إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)

قوله تعالى { إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : الصيحة ، قاله الضحاك .
الثاني : الساعة وقعت بحق فلم تكذب ، قاله السدي .
الثالث : أنها القيامة ، قاله ابن عباس ، والحسن .
وسميت الواقعة لكثرة ما يقع فيها من الشدائد .
{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذَِبَةٌ } فيها أربعة أوجه :
أحدها : ليس لها مردود ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا رجعة فيها ولا مشورة ، قاله قتادة .
الثالث : ليس لها مكذب من مؤمن ولا من كافر ، قاله ابن كامل .
الرابع : ليس الخبر عن وقوعها كذباً .
{ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : تخفض رجالاً كانوا في الدنيا مرتفعين ، وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين ، قاله محمد بن كعب .
الثاني : خفضت أعداء الله في النار ، ورفعت أولياء الله في الجنة ، قاله عمر بن الخطاب .
الثالث : خفضت الصوت فأسمعت الأدنى ، ورفعت فأسمعت الأقصى ، قاله عكرمة .
ويحتمل رابعاً : أنها خفضت بالنفخة الأولى من أماتت ، ورفعت بالنفخة الثانية من أحيت .
{ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً } فيه قولان :
أحدهما : رجفت وزلزلت ، قاله ابن عباس ، قاله رؤبة بن العجاج :
أليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجاً
يوماً يرى مرضعة خلوجاً ... الثاني : أنها ترج بما فيها كما يرج الغربال بما فيه ، قاله الربيع بن أنس فيكون تأويلها على القول الأول أنها ترج بإماتة ما على ظهرها من الأحياء ، وتأويلها على القول الثاني أنها ترج لإخراج من في بطنها من الموتى .
{ وَبُسَّتِ الْجِبَالَ بَسّاً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : سالت سيلاً ، قاله مجاهد .
الثاني : هدت هداً ، قاله عكرمة ،
الثالث : سيرت سيراً ، قاله محمد بن كعب ، ومنه قول الأغلب العجلي :
نحن بسسنا بأثر أطاراً ... أضاء خمساً ثمت سارا
الرابع : قطعت قطعاً ، قاله الحسن . .
الخامس : إنها بست كما يبس السويق أي بلت ، البسيسة هي الدقيق يلت ويتخذ زاداً ، قال لص من غطفان :
لا تخبزا خبزاً وبسا بسا ... ولا تطيلا بمناخ حبسا
{ فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه رهج الغبار يسطع ثم يذهب ، فجعل الله أعمالهم كذلك ، قاله علي .
الثاني : أنها شعاع الشمس الذي من الكوة ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه الهباء الذي يطير من النار إذا اضطربت ، فإذا وقع لم يكن شيئاً ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه ما يبس من ورق الشجر تذروه الريح ، قاله قتادة .
وفي المنبث ثلاثة أوجه :
أحدها : المتفرق ، قاله السدي .
الثاني : المنتشر .
الثالث : المنثور .
{ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } يعني أصنافاً ثلاثة ، قال عمر بن الخطاب : اثنان في الجنة وواحد في النار .
وفيهما وجهان :
أحدهما : ما قاله ابن عباس أنها التي في سورة الملائكة : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } .
الثاني : ما رواه النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

« وكنتم أزوجاً ثلاثة » الآية .
ويحتمل جعلهم أزواجاً وجهين :
أحدهما : أن ذلك الصنف منهم مستكثر ومقصر ، فصار زوجاً .
الثاني : أن في كل صنف منهم رجالاً ونساء ، فكان زوجاً .
{ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } فيهم خمسة تأويلات :
أحدها : أن أصحاب الميمنة الذين أخذوا من شق آدم الأيمن ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : أن أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه ، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بيساره ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : أن أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات ، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات ، قاله ابن جريج .
الرابع : أن أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم ، وأصحاب المشأمة المشائيم على أنفسهم ، قاله الحسن .
الخامس : أن أصحاب الميمنة أهل الجنة ، وأصحاب المشأمة أهل النار ، قاله السدي .
وقوله : { وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } لتكثير ما لهم من العقاب .
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلِئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } فيهم خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم الأنبياء ، قاله محمد بن كعب .
الثاني : أنهم الاسبقون إلى الإيمان من كل أمة ، قاله الحسن ، وقتادة .
الثالث : أنهم الذين صلوا إلى القبلتين ، قاله ابن سيرين .
الرابع : هم أول الناس رواحاً إلى المساجد وأسرعهم خفوفاً في سبيل الله ، قاله عثمان بن أبي سوادة .
الخامس : أنهم أربعة : منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون ، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية ، وسابقان من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما : أبو بكر وعمر ، قاله ابن عباس .
ويحتمل سادساً : أنهم الذي أسلموا بمكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وبالمدينة قبل هجرته إليهم لأنهم سبقوا بالإسلام قبل زمان الرغبة والرهبة .
وفي تكرار قوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } قولان :
أحدهما : السابقون في الدنيا إلى الإيمان ، السابقون في الآخرة إلى الجنة هم المقربون ، قاله الكلبي .
الثاني : يحتمل أنهم المؤمنون بالأنبياء في زمانهم ، وسابقوهم بالايمان هم المقربون المقدمون منهم .

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)

{ ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم الجماعة ، ومنه قول الشاعر :
ولست ذليلاً في العشيرة كلها ... تحاول منها ثلة لا يسودها
الثاني : الشطر وهو النصف ، قاله الضحاك .
الثالث : أنها الفئة ، قاله أبو عبيدة ، ومنه قول دريد بن الصمة :
ذريني أسير في البلاد لعلني ... ألاقي لبشر ثلة من محارب
وفي قوله تعالى : { مِّنَ الأَوََّلِينَ } قولان :
أحدهما : أنهم أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو بكرة .
الثاني : أنهم قوم نوح ، قاله الحسن .
{ وَقَلِيلٌ مِّنَ الأَخرِينَ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن .
الثاني : أنهم الذين تقدم إسلامهم قبل أن يتكاملوا ، روى أبو هريرة أنه لما نزلت { ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الأخِرِينَ } شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { ثلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مَّنَ الأخِرِينَ } فقال عليه السلام : « إِنِّي لأرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلَ الْجَنَّةِ بَلْ ثُلُتَ أَهْلِ الجَنَّةِ بَلْ أَنتُم نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَتُقَاسِمُونَهُم فِي النِّصْفِ الثَّانِي » .
{ عَلَى سُرُرٍ مَّوضُونَةٍ } يعني الأسرة ، واحدها سرير ، سميت بذلك لأنها مجلس السرور .
وفي الموضونة أربعة أوجه :
أحدها : أنها الموصولة بالذهب ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها المشبكة النسج ، قاله الضحاك ، ومنه قول لبيد :
إن يفزعوا فسرا مع موضونة ... والبيض تبرق كالكواكب لامها
الثالث : أنها المضفورة ، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد ، ومنه وضين الناقة وهو البطان العريض المضفور من السيور .
الرابع : أنها المسندة بعضها إلى بعض .
{ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } الولدان : جمع وليد وهم الوصفاء .
وفي قوله تعالى : { مُّخَلَّدُونَ } قولان :
أحدهما : [ مسورون ] بالأسورة ، [ مقرطون ] بالأقراط ، قاله الفراء ، قال الشاعر :
ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أقاوز الكثبان
الثاني : أنهم الباقون على صغرهم لا يموتون ولا يتغيرون ، قاله الحسن ، ومنه قول امرىء القيس :
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
ويحتمل ثالثاً : أنهم الباقون معهم لا يبصرون عليهم ولا ينصرفون عنهم بخلافهم في الدنيا .
{ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } فيهما قولان :
أحدهما : أن الأكواب : التي ليس لها عُرى ، قاله الضحاك .
الثاني : أن الأكواب : مدورة الأفواه ، والأباريق : التي يغترف بها ، قاله قتادة ، قال الشاعر :
فعدوا عليّ بقرقف ... ينصب من أكوابها
{ وَكَأَسٍ مِّن مَّعِينٍ } والكأس اسم للإناء إذا كان فيه شراب ، والمعين الجاري من ماء أو خمر ، غير أن المراد به في هذا الموضوع الخمر ، وصف الخمر بأنه الجاري من عينه بغير عصر كالماء المعين .
{ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه لا يمنعون منها ، قاله أبو حرزة يعقوب بن مجاهد .
الثاني : لا يفرّقون عنها ، حكاه ابن قتيبة ، واستشهد عليه بقول الراجز :
صد عنه فانصدع . ... الثالث : لا ينالهم من شربها وجع الرأس وهو الصداع ، قاله ابن جبير ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي .

وفي قوله تعالى : { وَلاَ يُنزِفُونَ } أربعة أوجه :
أحدها : لا تنزف عقولهم فيسكرون ، قاله ابن زيد ، وقتادة .
الثاني : لا يملون ، قاله عكرمة .
الثالث : لا يتقيئون ، قاله يحيى بن وثاب .
الرابع : وهو تأويل من قرأ بكسر الزاي لا يفنى خمرهم ، ومنه قول الأبيرد :
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى أنتم آل أبجرا
وروى الضحاك عن ابن عباس قال : في الخمر أربع خصال : السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول ، وقد ذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال .
{ وَحُورٌ عِينٌ } والحور البيض سمين لبياضهن ، وفي العين وجهان :
أحدهما : أنهن كبار الأعين ، كما قال الشاعر :
إذا كبرت عيون من النساء ... ومن غير النساء فهن عين
الثاني : أنهن اللاتي سواد أعينهن حالك ، وبياض أعينهن نقي ، كما قال الشاعر :
إذا ما العين كان بها احورار ... علامتها البياض على السواد
{ كَأَمْثَالِ اللؤْلُؤِ الْمَكْنُُونِ } فيه وجهان :
أحدهما : في نضارتها وصفاء ألوانها .
الثاني : أنهن كأمثال اللؤلؤ في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن ، كما قال الشاعر :
كأنما خلقت في قشر لؤلؤة ... فكل أكنافها وجه لمرصاد
{ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لا يسمعون في الجنة باطلاً ولا كذباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا يسمعون فيها خُلفاً ، أي لا يتخالفون عليها كما يتخالفون في الدنيا ، ولا يأثمون بشربها ، كما يأثمون في الدنيا ، قاله الضحاك .
الثالث : لا يسمعون فيها شتماً ولا مأثماً ، قاله مجاهد .
يحتمل رابعاً : لا يسمعون مانعاً لهم منها ، ولا مشنعاً لهم على شربها .
{ إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لكن يسمعون قولاً ساراً وكلاماً حسناً .
الثاني : لكن يتداعون بالسلام على حسن الأدب وكريم الأخلاق .
الثالث : يعني قولاً يؤدي إلى السلامة .
ويحتمل رابعاً : أن يقال لهم هنيئاً .

وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

{ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ } فيه ستة أقاويل :
أحدها : أنهم أصحاب الحق ، قاله السدي .
الثاني : أنهم دون منزلة المقربين ، قاله ميمون بن مهران .
الثالث : أنهم من أعطي كتابه بيمينه ، قاله يعقوب بن مجاهد .
الرابع : أنهم التابعون بإحسان ممن لم يدرك الأنبياء من الأمم ، قاله الحسن .
الخامس : ما رواه أسباط عن السدي : أن الله تعالى مسح ظهر آدم فمسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج ذرية كهيئة الذر بيضاء فقال لهم ادخلوا الجنة ولا أبالي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج ذرية كهيئة الذر سوداء ، فقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي ، فذلك هو قوله تعالى : { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ } ، وقوله : { وَأصْحَابُ الْشِّمَالِ } .
السادس : ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أصحاب اليمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ثم تابوا بعد ذلك وأصلحوا . »
{ فِي سِدْرٍ مَّخضُودٍ } والسدر النبق ، وفي مخضود ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه اللين الذي لا شوك فيه ، قاله عكرمة ، وقال غيره لا عجم لنبقه ، يقال خضدت الشجرة إذا حذقت شوكها .
الثاني : أنه الموقر حملاً ، قاله مجاهد .
الثالث : المدلاة الأغصان ، وخص السدر بالذكر لأن ثمره أشهى الثمر إلى النفوس طمعاً وألذه ريحاً .
{ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الطلح الموز ، قاله ابن عباس ، وابو سعيد الخدري ، وأبو هريرة ، والحسن ، وعكرمة .
الثاني : أنها شجرة تكون باليمن وبالحجاز كثيراً تسمى طلحة ، قاله عبد الله بن حميد ، وقيل إنها من أحسن الشجر منظراً ، ليكون بعض شجرهم مأكولاً وبعضه منظوراً ، قال الحادي :
بشرها دليلها وقالا ... غداً ترين الطلح والأحبالا
الثالث : أنه الطلع ، قاله علي ، وحكى أنه كان يقرأ : { وَطَلْعٍ مَّنضُودٍ } ، وفي المنضود قولان :
أحدهما : المصفوف ، قاله السدي .
الثاني : المتراكم ، قاله مجاهد .
{ وَظِلٍ مَّمْدُودٍ } أي دائم .
ويحتمل ثانياً : أنه التام .
{ وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } أي منصب في غير أخدود .
ويحتمل آخر : أنه الذي ينسكب عليهم من الصعود والهبوط بخلاف الدنيا ، قال الضحاك : من جنة عدن إلى أهل الخيام .
{ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا مقطوعة بالفناء ولا ممنوعة من اليد بشوك أو بعد .
وفيه وجه ثالث : لا مقطوعة بالزمان ولا ممنوعة بالأشجار .
{ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } فيها قولان :
أحدهما : أنها الحشايا المفروشة للجلوس والنوم ، مرفوعة بكثرة حشوها زيادة في الاستمتاع بها .
الثاني : أنهم الزوجات لأن الزوجة تسمى فراشاً ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الوَلَدُ لِلْفرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ » قاله ابن بحر . فعلى هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : مرفوعات في القلوب لشدة الميل إليهن .
الثاني : مرفوعات عن الفواحش والأدناس .
{ إِنَّآ أَنشَأناهُنَّ إِنشَآءً } يعني نساء أهل الدنيا ، وفي إنشائهن في الجنة قولان :
أحدهما : يعني إنشاءهن في القبور ، قاله ابن عباس .

الثاني : إعادتهن بعد الشمط والكبر صغاراً أبكاراً ، قاله الضحاك ، وروته أم سلمة مرفوعاً :
{ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } فيه قولان :
أحدهما : عذارى بعد أن كن غير عذارى ، قاله يعقوب بن مجاهد .
الثاني : لا يأتيها إلا وجدها بكراً ، قاله ابن عباس .
ويحتمل ثالثاً : أبكاراً من الزوجات ، وهن الأوائل لأنهن في النفوس أحلى والميل إليهن أقوى ، كما قال الشاعر :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً فارغاً فتمكنا
قوله تعالى { عُرُباً أَتْرَاباً } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : أن العرب المنحبسات على أزواجهن المتحببات إليهم ، قاله سعيد بن جبير ، والكلبي .
الثاني : أنهن المتحببات من الضرائر ليقفن على طاعته ويتساعدن على إشاعته ، قاله عكرمة .
الثالث : الشكلة بلغة أهل مكة ، والغنجة بلغة أهل المدينة ، قاله ابن زيد ، ومنه قول لبيد :
وفي الخباء عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر
الرابع : هن الحسنات الكلام ، قاله ابن زيد . [ أيضاً ] .
الخامس : أنها العاشقة لزوجها لأن عشقها له يزيده ميلاً إليها وشغفاً بها .
السادس : أنها الحسنة التبعُّل ، لتكون ألذ استمتاعاً .
السابع : ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عُرُباً كَلاَمُهُنَّ عَرَبِّي »
{ أَتْراباً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني أقران ، قاله عطية .
وقال الكلبي : على سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة ، يقال في النساء أتراب ، وفي الرجال أقران ، وأمثال ، وأشكال ، قاله مجاهد .
الثالث : أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد ، قاله السدي .

وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

{ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } فيه قولان :
أحدهما الدخان ، قاله أبو مالك .
الثاني : أنها نار سوداء ، قاله ابن عباس .
{ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } فيه وجهان :
أحدهما : لا بارد المدخل ، ولا كريم المخرج ، قاله ابن جريج .
الثاني : لا كرامة فيه لأهله .
ويحتمل ثالثاً : أن يريد لا طيب ولا نافع .
{ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرفِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : منعمين ، قاله ابن عباس .
الثاني : مشركين ، قاله السدي .
ويحتمل وصفهم بالترف وجهين :
أحدهما : التهاؤهم عن الإعتبار وشغلهم عن الإزدجار .
الثاني : لأن عذاب المترف أشد ألماً .
{ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الشرك بالله ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد .
الثاني : الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه ، قاله قتادة ، ومجاهد .
الثالث : هو اليمين الموس ، قاله الشعبي .
ويحتمل رابعاً : أن يكون الحنث العظيم نقض العهد المحصن بالكفر .
{ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنها الأرض الرملة التي لا تروى بالماء ، وهي هيام الأرض ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها الإبل التي يواصلها الهيام وهو داء يحدث عطشاً فلا تزال الإبل تشرب الماء حتى تموت ، قاله عكرمة ، والسدي ، ومنه قول قيس بن الملوح :
يقال به داء الهيام أصابه ... وقد علمت نفسي مكان شفائياً
الثالث : أن الهيم الإبل الضوال لأنها تهيم في الأرض لا تجد ماءً فإذا وجدته فلا شيء أعظم منها شرباً .
الرابع : أن شرب الهيم هو أن تمد الشرب مرة واحدة إلى أن تتنفس ثلاث مرات ، قاله خالد بن معدان ، فوصف شربهم الحميم بأنه كشرب الهيم لأنه أكثر شرباً فكان أزيد عذاباً .
{ هَذَا نُزْلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } أي طعامهم وشرابهم يوم الجزاء ، يعني في جهنم .

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)

{ نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : نحن خلقنا رزقكم أفلا تصدقون أن هذا طعامكم .
الثاني : نحن خلقناكم فلولا تصدقون أننا بالجزاء : بالثواب والعقاب اردناكم .
{ أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ } يعني نطفة المني ، قال الفراء ، يقال أمنى يمني ومنى يمني بمعنى واحد .
ويحتمل عندي أن يختلف معناهما فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع ، ومني إذا عن احتلام .
وفي تسمية المني منياً وجهان :
أحدهما : لإمنائه وهو إراقته .
الثاني : لتقديره ومنه المناء الذي يوزن به فإنه مقدار لذلك فكذلك المني مقدار صحيح لتصوير الخلقة .
{ ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أي نحن خلقنا من المني المهين بشراً سوياً ، فيكون ذلك خارجاً مخرج الإمتنان .
الثاني : أننا خلقنا مما شاهدتموه من المني بشراً فنحن على خلق ما غاب من إعادتكم أقدر ، فيكون ذلك خارجاً مخرج البرهان ، لأنهم على الوجه الأول معترفون ، وعلى الوجه الثاني منكرون .
{ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : قضينا عليكم بالموت .
الثاني : كتبنا عليكم الموت .
الثالث : سوينا بينكم الموت .
فإذا قيل بالوجه الأول بمعنى قضى ففيه وجهان :
أحدهما قضى بالفناء ثم الجزاء .
الثاني : ليخلف الأبناء الآباء .
وإذا قيل بالوجه الثاني أنه بمعنى كتبنا ففيه وجهان :
أحدهما : كتبنا مقداره فلا يزيد ولا ينقص ، قاله ابن عيسى .
الثاني : كتبنا وقته فلا يتقدم عليه ولا يتأخر ، قاله مجاهد .
وإذا قيل بالوجه الثالث أنه بمعنى سوينا ففيه وجهان :
أحدهما : سوينا بين المطيع والعاصي .
الثاني : سوينا بين أهل السماء وأهل الأرض ، قاله الضحاك .
{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : وما نحن بمسبوقين على ما قدرنا بينكم الموت حتى لا تموتوا .
الثاني : وما نحن بمسبوقين على أن تزيدوا في مقداره وتؤخروه عن وقته .
والوجه الثاني : أنه ابتداء كلام يتصل به ما بعده من قوله تعالى : { عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئِكُم فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فعلىهذا في تأويله وجهان :
أحدهما : لما لم نسبق إلى خلق غيركم كذلك لا نعجز عن تغيير أحوالكم بعد موتكم .
الثاني : كما لم نعجز عن خلق غيركم كذلك لا نعجز عن تغيير أحوالكم بعد موتكم كما لم نعجز عن تغييرها في حياتكم .
فعلى هذا التأويل يكون في الكلام مضمر محذوف ، وعلى التأويل الأول يكون جميعه مظهراً .

أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)

{ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ } الآية . فأضاف الحرث إليهم والزرع إليه تعالى لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم ، والزرع من فعل الله وينبت على إختياره لا على إختيارهم ، وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُم زَرَعْتُ وَلَكِن لِيَقُلْ حَرَثْتُ » .
وتتضمن هذه الآية أمرين :
أحدهما : الإمتنان عليهم بأن أنبت زرعهم حتى عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم .
الثاني : البرهان الموجب للإعتبار بأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشي بذوره وإنتقاله إلى إستواء حاله ، [ من العفن إلى الترتيب ] حتى صار زرعاً أخضر ، ثم جعله قوياً مشتداً أضعاف ما كان عليه ، فهو بإعادة من مات أحق وعليه أقدر ، وفي هذا البرهان مقنع لذوي الفطر السليمة .
ثم قول تعالى { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } يعني الزرع ، والحطام الهشيم الهالك الذي لا ينتفع به ، فنبه بذلك على أمرين :
أحدهما : ما أولاهم من النعم في زرعهم إذ لم يجعله حطاماً ليشكروه .
الثاني : ليعتبروا بذلك في أنفسهم ، كما أنه يجعل الرزع حطاماً إذا شاء كذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا .
{ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } بعد مصير الزرع حطاماً ، وفيه أربعة أوجه :
أحدها : تندمون ، وهو قول الحسن وقتادة ، ويقال إنها لغة عكل وتميم .
الثاني : تحزنون ، قاله ابن كيسان .
الثالث : تلاومون ، قاله عكرمة .
الرابع : تعجبون ، قاله ابن عباس . وإذا نالكم هذا في هلاك زرعكم كان ما ينالكم في هلاك أنفسكم أعظم .
{ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لمعذبون ، قاله قتادة ، ومنه قول ابن المحلم :
وثقت بأن الحفظ مني سجية ... وأن فؤادي مبتلى بك مغرم
الثاني : مولع بنا ، قاله عكرمة ، ومنه قول النمر بن تولب :
سلا عن تذكره تكتما ... وكان رهيناً بها مغرماً
أي مولع .
الثالث : محرومون من الحظ ، قاله مجاهد ، ومنه قول الشاعر :
يوم النسار ويوم الجفا ... ركانا عذاباً وكانا غراماً
{ أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ } أي تستخرجون بزنادكم من شجر أو حديد أو حجر ، ومنه قول الشاعر :
فإن النار بالزندين تورى ... وإن الشر يقدمه الكلام
{ ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ } أي أخذتم أصلها .
{ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ } يعني المحدثون .
{ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } فيه وجهان :
أحدهما : تذكرة لنار [ الآخرة ] الكبرى ، قاله قتادة .
الثاني : تبصرة للناس من الظلام ، قاله مجاهد .
{ وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوينَ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : منفعة للمسافرين قاله الضحاك ، قال الفراء : إنما يقال للمسافرين إذا نزلوا القِيّ وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها .
الثاني : المستمتعين من حاضر ومسافر ، قاله مجاهد .
الثالث : للجائعين في إصلاح طعامهم ، قاله ابن زيد .
الرابع : الضعفاء والمساكين ، مأخوذ من قولهم قد أقوت الدار إذا خلت من أهلها ، حكاه ابن عيسى .
والعرب تقول قد أقوى الرجل إذا ذهب ماله ، قال النابغة :
يقوى بها الركب حتى ما يكون لهم ... إلا الزناد وقدح القوم مقتبس
الخامس : أن المقوي الكثير المال ، مأخوذ من القوة فيستمتع بها الغني والفقير .

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)

{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ الْنُّجُومِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه إنكار أن يقسم الله بشيء من مخلوقاته ، قال الضحاك : إن الله لا يقسم بشىء من خلقه ولكنه استفتاح يفتتح به كلامه .
الثاني : أنه يجوز أن يقسم الخالق بالمخلوقات تعظيماً من الخالق لما أقسم به من مخلوقاته .
فعلى هذا في قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } وجهان :
أحدهما : أن « لا » صلة زائدة ، ومعناه أقسم .
الثاني : أن قوله : { فَلاَ } راجع إلى ما تقدم ذكره ، ومعناه فلا تكذبوا ولا تجحدوا ما ذكرته من نعمة وأظهرته من حجة ، ثم استأنف كلامه فقال : { أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } .
وفيها ستة أقاويل :
أحدها : أنها مطالعها ومساقطها ، قاله مجاهد .
الثاني : إنتشارها يوم القيامة وإنكدارها ، قاله الحسن .
الثالث : أن مواقع النجوم السماء ، قاله ابن جريج .
الرابع : أن مواقع النجوم الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا قالوا : مطرنا بنوء كذا ، قاله الضحاك ، ويكون قوله : { فلا أقسم } مستعملاً على حقيقته في نفي القسم بها .
الخامس : أنها نجوم القرآن أنزلها الله من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة ، فهو ينزله على الأحداث في أمته ، قاله ابن عباس والسدي .
السادس : أن مواقع النجوم هو محكم القرآن ، حكاه الفراء عن ابن مسعود .
{ وَإِنَّهُ قَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } فيه قولان :
أحدهما : أن القرآن قسم عظيم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الشرك بآياته جرم عظيم ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
ويحتمل ثالثاً : أن ما أقسم الله به عظيم .
{ إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ } يعني أن هذا القرآن كريم ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كريم عند الله .
الثاني : عظيم النفع للناس .
الثالث : كريم بما فيه من كرائم الأخلاق ومعالي الأمور .
ويحتمل أيضاً رابعاً : لأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه .
{ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } وفيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه كتاب في السماء وهو اللوح المحفوظ ، قاله ابن عباس ، وجابر بن زيد .
الثاني : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن وذكر من ينزل عليه ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه الزبور .
الرابع : أنه المصحف الذي في أيدينا ، قاله مجاهد ، وقتادة .
وفي { مَّكْنُونٍ } وجهان :
أحدهما : مصون ، وهو معنى قول مجاهد .
الثاني : محفوظ عن الباطل ، قاله يعقوب بن مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أن معانيه مكنونة فيه .
{ لاَّ يَمَسَّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } تأويله يختلف بإختلاف الكتاب ، فإن قيل : إنه كتاب في السماء ففي تأويله قولان :
أحدهما : لا يمسه في السماء إلا الملائكة المطهرون ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
الثاني : لا ينزله إلا الرسل من الملائكة إلى الرسل من الأنبياء ، قاله زيد بن أسلم .
وإن قيل إنه المصحف الذي في أيدينا ففي تأويله ستة أقاويل :
أحدها : لا يمسه بيده إلا المطهرون من الشرك ، قاله الكلبي .

الثاني : إلا المطهرون من الذنوب والخطايا قاله الربيع بن أنس .
الثالث : إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس ، قاله قتادة . الرابع : لا يجد طعم نفعه إلا المطهرون أي المؤمنون بالقرآن ، حكاه الفراء .
الخامس : لا يمس ثوابه إلا المؤمنون ، رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم .
السادس : لا يلتمسه إلا المؤمنون ، قاله ابن بحر .
{ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ } يعني بهذا الحديث القرآن الذي لا يمسه إلا المطهرون .
وفي قوله مدهنون أربعة تأويلات :
أحدها : مكذبون ، قاله ابن عباس .
الثاني : معرضون ، قاله الضحاك .
الثالث : ممالئون الكفار على الكفر به ، قاله مجاهد .
الرابع : منافقون في التصديق به حكاه ابن عيسى ، ومنه قول الشاعر :
لبعض الغشم أبلغ في أمور ... تنوبك من مداهنة العدو
{ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُم إِنَّكُم تُكَذِّبُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الإستسقاء بالأنواء وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا ، قاله ابن عباس ورواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : الاكتساب بالسحر ، قاله عكرمة .
الثالث : هو أن يجعلوا شكر الله على ما رزقهم تكذيب رسله والكفر به ، فيكون الرزق الشكر ، وقد روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُم أَنَّكُم تُكَذِّبُونَ } .
ويحتمل رابعاً : أنه ما يأخذه الأتباع من الرؤساء على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والصد عنه .

فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)

{ فَلَوْلاَ إِن كُنْتُم غَيْرَ مَدِينِينَ } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : غير محاسبين ، قاله ابن عباس .
الثاني : غير مبعوثين ، قاله الحسن .
الثالث : غير مصدقين ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : غير مقهورين ، قاله ميمون بن مهران .
الخامس : غير موقنين ، قاله مجاهد .
السادس : غير مجزيين بأعمالكم ، حكاه الطبري .
السابع : غير مملوكين ، قاله الفراء .
{ تَرْجِعُونَهَآ } أي ترجع النفس بعد الموت إلى الجسد إن كنتم صادقين أنكم غير مذنبين .

فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

{ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } فيهم وجهان :
أحدهما : أنهم أهل الجنة ، قاله يعقوب بن مجاهد .
الثاني : أنهم السابقون ، قاله أبو العالية .
{ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } في الرَّوْح ثمانية تأويلات :
أحدها : الراحة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الفرح ، قاله ابن جبير .
الثالث : أنه الرحمة ، قاله قتادة .
الرابع : أنه الرخاء ، قاله مجاهد .
الخامس : أنه الرَوح من الغم والراحة من العمل ، لأنه ليس في الجنة غم ولا عمل ، قاله محمد بن كعب .
السادس : أنه المغفرة ، قاله الضحاك .
السابع : التسليم ، حكاه ابن كامل .
الثامن : ما روى عبد الله بن شقيق عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ { فَرُوُحٌ } بضم الراء ، وفي تأويله وجهان :
أحدهما : بقاء روحه بعد موت جسده .
الثاني : ما قاله الفراء أن تأويله حياة لا موت بعدها في الجنة .
وأما الريحان ففيه ستة تأويلات :
أحدها : أنه الإستراحة عند الموت ، قاله ابن عباس .
الثاني : الرحمة ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه الرزق ، قاله ابن جبير .
الرابع : أنه الخير ، قاله قتادة .
الخامس : أنه الريحان المشموم يُتَلَقَّى به العبد عند الموت ، رواه عبد الوهاب .
السادس : هو أن تخرج روحه ريحانة ، قال الحسن .
واختلف في محل الرَوْح على خمسة أقوال .
أحدها : عند الموت .
الثاني : قبره ما بين موته وبعثه .
الثالث : الجنة زيادة على الثواب والجزاء ، لأنه قرنه بذكر الجنة فاقتضى أن يكون فيها .
الرابع : أن الروح في القبر ، والريحان في الجنة .
الخامس : أن الروح لقلوبهم ، والريحان لنفوسهم ، والجنة لأبدانهم .
{ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه سلامته من الخوف وتبشيره بالسلامة .
الثاني : أنه يحيا بالسلام إكراماً ، فعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقاويل :
أحدها : عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت ، قاله الضحاك .
الثاني : عند مساءلته في القبر ، يسلم عليه منكر ونكير .
الثالث : عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)

قوله تعالى { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } في هذا التسبيح ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أن خلق ما في السموات والأرض يوجب تنزيهه عن الأمثال والأشباه .
الثاني : تنزيه الله قولاً مما أضاف إليه الملحدون ، وهو قول الجمهور .
الثالث : أنه الصلاة ، سميت تسبيحاً لما تتضمنه من التسبيح ، قاله سفيان ، والضحاك .
فقوله : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ } يعني الملائكة وما فيهن من غيرهم وما في الأرض يعني في الحيوان والجماد ، وقد ذكرنا في تسبيح الجماد وسجوده ما أغنى عن الإعادة .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } في انتصاره ، { الْحَكِيمُ } في تدبيره .
{ هُوَ الأَوَّلُ وِالأخِرُ } يريد بالأول أنه قبل كل شيء لقدمه ، وبالآخر لأنه بعد كل شيء لبقائه .
{ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : الظاهر فوق كل شيء لعلوه ، والباطن إحاطته بكل شيء لقربه ، قاله ابن حيان .
الثاني : أنه القاهر لما ظهر وبطن كما قال تعالى : { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِم فََأصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } .
الثالث : العالم بما ظهر وما بطن .
{ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٍ } يعني بالأول والآخر والظاهر والباطن .
ولأصحاب الخواطر في ذلك ثلاثة أوجه :
أحدها : الأول في ابتدائه بالنعم ، والآخر في ختامه بالإحسان ، والظاهر في إظهار حججه للعقول ، والباطن في علمه ببواطن الامور .
الثاني : الأول بكشف أحوال الآخرة حين ترغبون فيها ، والآخر بكشف أحوال الدنيا حين تزهدون فيها ، والظاهر على قلوب أوليائه حين يعرفونه ، والباطن على قلوب أعدائه حين ينكرونه .
الثالث : الأول قبل كل معلوم ، والآخر بعد كل مختوم ، والظاهر فوق كل مرسوم ، والباطن محيط بكل مكتوم .

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)

{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ } قال مقاتل : من مطر ، وقال غيره : من مطر وغير مطر .
{ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } قال مقاتل : من نبات وغير نبات .
{ وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } قال مقاتل : من الملائكة ، وقال غيره : من ملائكة وغير ملائكة .
ويحتمل وجهاً آخر : ما يلج في الأرض من بذر ، وما يخرج منها من زرع ، وما ينزل من السماء من قضاء ، وما يعرج فيها من عمل ، ليعلموا إحاطة علمه بهم فيما أظهروه أو ستروه ، ونفوذ قضائه فيهم بما أرادوه أو كرهوه .
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم } فيه وجهان :
أحدهما : علمه معكم أينما كنتم حيث لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، قاله مقاتل .
والثاني : قدرته معكم أينما كنتم حيث لا يعجزه شيء من أموركم .

آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)

{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } تحتمل هذه النفقة وجهين :
أحدهما : أن تكون الزكاة المفروضة .
والثاني : أن يكون غيرها من وجوه الطاعات .
وفي { ما جَعَلَكْم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } قولان :
أحدهما : يعني مما جعلكم معمرين فيه بالرزق ، قاله مجاهد .
الثاني : مما جعلكم مستخلفين فيه بوراثتكم له عمن قبلكم ، قاله الحسن .
ويحتمل ثالثاً : مما جعلكم مستخلفين على القيام بأداء حقوقه .
{ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : معناه ولله ملك السموات والأرض .
الثاني : أنهما راجعان إليه بانقباض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق .
{ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } فيه قولان :
أحدهما : لا يستوي من أسلم من قبل فتح مكة وقاتل ومن أسلم بعد فتحها وقاتل ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
الثاني : يعني من أنفق ماله في الجهاد وقاتل ، قاله قتادة .
وفي هذا الفتح قولان :
أحدهما : فتح مكة ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : فتح الحديبية ، قاله الشعبي ، قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الأخر ، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك .
{ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } فيه قولان :
أحدهما : أن الحسنى الحسنة ، قاله مقاتل .
الثاني : الجنة ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أن الحسنى القبول والجزاء .
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرضُ اللَّه قَرْضاً حَسَناً } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن القرض الحسن هو أن يقول : سبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أكبر ، رواه سفيان عن ابن حيان .
الثاني : أنه النفقة على الأهل ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : أنه التطوع بالعبادات ، قاله الحسن .
الرابع : أنه عمل الخير ، والعرب تقول لي عند فلان قرض صدق أو قرض سوء ، إذا فعل به خيراً أو شراً ، ومنه قول الشاعر :
وتجزي سلاماً من مقدم قرضها ... بما قدمت أيديهم وأزلت
الخامس : أنه النفقة في سبيل الله ، قاله مقاتل بن حيان .
وفي قوله : { حَسَناً } وجهان :
أحدهما : طيبة بها نفسه ، قاله مقاتل .
الثاني : محتسباً لها عند الله ، قاله الكلبي ، وسمي قرضاً لاستحقاق ثوابه ، قاله لبيد :
وإذا جوزيت قرضاً فاجزه ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل
وفي تسميته { حَسَناً } وجهان :
أحدهما : لصرفه في وجوه حسنة .
الثاني : لأنه لا مَنَّ فيه ولا أذى .
{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } فيه وجهان :
أحدهما : فيضاعف القرض لأن جزاء الحسنة عشر أمثالها .
الثاني : فيضاعف الثواب تفضلاً بما لا نهاية له .
{ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : لم يتذلل في طلبه . الثاني : لأنه كريم الخطر .
الثالث : أن صاحبه كريم .
فلما سمعها أبو الدحداح تصدق بحديقة فكان أول من تصدق بعد هذه الآية .
وروى سعيد بن جبير أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية ، فقالوا يا محمد ، أفقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ } الآية .

{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } وفي نورهم ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضياء يعطيهم الله إياه ثواباً وتكرمة ، وهذا معنى قول قتادة .
الثاني : أنه هداهم الذي قضاه لهم ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه نور أعمالهم وطاعتهم .
قال ابن مسعود : ونورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم مَن نوره مثل النخلة ، وأدناهم نوراً مَن نوره على إبهام رجله يوقد تارة ويطفأ أخرى .
وقال الضحاك : ليس أحد يعطى يوم القيامة نوراً ، فإذا انتهوا إلى الصراط أطفىء نور المنافقين ، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن ينطفىء نورهم كما طفىء نور المنافقين ، فقالوا : { رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } .
وفي قوله : { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } وجهان :
أحدهما : ليستضيئوا به على الصراط ، قاله الحسن .
والثاني : ليكون لهم دليلاً إلى الجنة ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { بِأَيْمَانَهِم } في الصدقات والزكوات وسبل الخير .
الرابع : بإيمانهم في الدنيا وتصديقهم بالجزاء ، قاله مقاتل .
قوله تعالى { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن نورهم هو بشراهم بالجنات .
الثاني : هي بشرى من الملائكة يتلقونهم بها في القيامة ، قاله الضحاك .

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

{ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ } الآية . قال ابن عباس وأبو أمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة أظنها بعد فصل القضاء ، ثم يعطون نوراً يمشون فيه .
وفي النور قولان :
أحدهما : يعطاه المؤمن بعد إيمانه دون الكافر .
الثاني : يعطاه المؤمن والمنافق ، ثم يسلب نور المنافق لنفاقه ، قاله ابن عباس .
فيقول المنافقون والمنافقات حين غشيتهم الظلمة .
{ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } حين أعطوا النور الذي يمشون فيه :
{ انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي انتظروا ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
{ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً } فيه قولان :
أحدهما : ارجعوا إلى الموضع الي أخذنا منه النور فالتمسوا منه نوراً .
الثاني : ارجعو فاعملوا عملاً يجعل الله بين أيديكم نوراً .
ويحتمل في قائل هذا القول وجهان :
أحدهما : أن يقوله المؤمنون لهم .
الثاني : أن تقوله الملائكة لهم .
{ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه حائط بين الجنة والنار ، قاله قتادة .
الثاني : أنه حجاب في الأعراف ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه سور المسجد الشرقي ، [ بيت المقدس ] قاله عبد الله بن عمرو بن العاص .
{ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبلِهِ الْعَذَابُ } فيه قولان :
أحدهما : أن الرحمة التي في باطنه الجنة ، والعذاب الذي في ظاهره جهنم ، قاله الحسن .
الثاني : أن الرحمة التي في باطنه : المسجد وما يليه ، والعذاب الذي في ظاهره : وادي جهنم يعني بيت المقدس ، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص .
ويحتمل ثالثاً : أن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين ، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين .
وفيمن ضرب بينهم وبينه بهذا السور قولان :
أحدهما : أنه ضرب بينهم وبين المؤمنين الذي التمسوا منهم نوراً ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثاني : أنه ضرب بينهم وبين النور بهذا السور حتى لا يقدروا على التماس النور .
{ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يعني نصلي مثلما تصلون ، ونغزو مثلما تغزون ، ونفعل مثلما تفعلون .
{ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَكُم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالنفاق ، قاله مجاهد .
الثاني : بالمعاصي ، قاله أبو سنان .
الثالث : بالشهوات ، رواه أبو نمير الهمداني .
{ وَتَرَبَّصْتُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : بالحق وأهله ، قاله قتادة .
الثاني : وتربصتم بالتوبة ، قاله أبو سنان .
{ وَارْتَبْتُمْ } يعني شككتم في أمر الله .
{ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : خدع الشيطان ، قاله قتادة .
الثاني : الدنيا ، قاله ابن عباس .
الثالث : سيغفر لنا ، قاله أبو سنان .
الرابع : قولهم اليوم وغداً .
{ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ } فيه قولان :
أحدهما : الموت ، قاله أبو سنان .
الثاني : إلقاؤهم في النار ، قاله قتادة .
{ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُوْرُ } فيه وجهان :
أحدهما : الشيطان ، قاله عكرمة .
الثاني : الدنيا ، قاله الضحاك .

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)

{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها نزلت في قوم موسى عليه السلام قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن حيان .
الثاني : في المنافقين آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم ، قاله الكلبي .
الثالث : أنها في المؤمنين من أمتنا ، قاله ابن عباس وابن مسعود ، والقاسم بن محمد .
ثم اختلف فيها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما رواه أبو حازم عن عون بن عبد الله عن ابن مسعود قال : ما كان بين أن أسلمنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين ، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول ما أحدثنا . قال الحسن : يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه .
الثاني : ما رواه قتادة عن ابن عباس أن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة ، فقال تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ } الآية .
الثالث : ما رواه المسعودي عن القاسم قال : مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة فقالوا يا رسول الله حدثنا ، فأنزل الله تعالى : { نَحنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسنَ الْقَصَصِ } ثم ملوا مرة فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله { أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } .
قال شداد بن أوس : كان يروى لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الخُشُوعُ » . ومعنى قوله : { أَلَمْ يَأْنِ } ألم يحن ، قال الشاعر :
ألم يأن لي يا قلب أن اترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا
وفي { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذِكْر اللَّهِ } ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن تلين قلوبهم لذكر الله .
الثاني : أن تذل قلوبهم من خشية الله .
الثالث : أن تجزع قلوبهم من خوف الله .
وفي ذكر الله ها هنا وجهان :
أحدهما : أنه القرآن ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه حقوق الله ، وهو محتمل .
{ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : القرآن ، قاله مقاتل .
الثاني : الحلال والحرام ، قاله الكلبي .
الثالث : يحتمل أن يكون ما أنزل من البينات والهدى .
{ اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يلين القلوب بعد قسوتها ، قاله صالح المري .
الثاني : يحتمل أنه يصلح الفساد .
الثالث : أنه مثل ضربه لإحياء الموتى . روى وكيع عن أبي رزين قال : قلت يا رسول الله كيف يحيى الله الأرض بعد موتها؟ فقال : « يَا أَبَا رُزَينَ أَمَا مَرَرْتَ بِوَادٍ مُمْحَلٍ ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضْرَةً؟ قال : بلى ، قَالَ كَذَلِكَ يُحْيي اللَّهُ المَوتَى » .

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)

{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ } فيه وجهان :
أحدهما : المصدقين لله ورسوله .
الثاني : المتصدقين بأموالهم في طاعة الله .
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } أي المؤمنون بتصديق الله ورسله .
{ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء عند ربهم ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : أن قوله : { أَوْلئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } كلام تام .
وقوله : { وَالشُّهَدَآءُ عِنَدَ رَبِّهِمْ } كلام مبتدأ وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب ، قاله الكلبي .
الثاني : أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة .
وفيما يشهدون به قولان :
أحدهما يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية ، وهذا معنى قول مجاهد .
الثاني : يشهدون لأنبيائهم بتبليغ الرسالة إلى أممهم ، قاله الكلبي .
وقال مقاتل قولاً ثالثاً : أنهم القتلى في سبيل الله لهم أجرهم عند ربهم يعني ثواب أعمالهم .
{ وَنُورُهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : نورهم على الصراط .
الثاني : إيمانهم في الدنيا ، حكاه الكلبي .

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

{ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أكل وشرب ، قاله قتادة .
الثاني : أنه على المعهود من اسمه ، قال مجاهد : كل لعب لهو .
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أن اللعب ما رغَّب في الدنيا ، واللهو ما ألهى عن الآخرة .
ويحتمل رابعاً : أن اللعب الاقتناء ، واللهو النساء .
{ وَزِينَةٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الدنيا زينة فانية .
الثاني : أنه كل ما بوشر فيها لغير طاعة .
{ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالخلقة والقوة .
الثاني : بالأنساب على عادة العرب في التنافس بالآباء .
{ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ } لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأموال والأولاد ، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعات .
ثم ضرب لهم مثلاً بالزرع { كَمَثَلٍ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمََّ يَهِيْجُ } بعد خضرة .
{ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ حُطَاماً } بالرياح الحطمة ، فيذهب بعد حسنه ، كذلك دنيا الكافر .
{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَبِّكُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو سعيد .
الثاني : الصف الأول ، قاله رباح بن عبيد .
الثالث : إلى التكبيرة الأولى مع الإمام ، قاله مكحول .
الرابع : إلى التوبة : قاله الكلبي .
{ وَجَنَةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ } ترغيباً في سعتها ، واقتصر على ذكر العرض دون الطول لما في العرض من الدلالة على الطول ، ولأن من عادة العرب أن تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله ، قال الشاعر :
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب حلقة خاتم .
{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مِن يَشَآءُ } فيه وجهان :
أحدهما : الجنة ، قاله الضحاك . الثاني : الدين ، قاله ابن عباس .
وفي { مَن يَشَآءُ } قولان :
أحدهما : من المؤمنين ، إن قيل إن الفضل الجنة .
الثاني : من جيمع الخلق ، إن قيل إنه الدين .

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : الجوائح في الزرع والثمار .
الثاني : القحط والغلاء .
{ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : في الدين ، قاله ابن عباس .
الثاني : الأمراض والأوصاب ، قاله قتادة .
الثالث : إقامة الحدود ، قاله ابن حبان .
الرابع : ضيق المعاش ، وهذا معنى رواية ابن جريج .
{ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } يعني اللوح المحفوظ .
{ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } قال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق المصائب ونقضيها .
{ لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من الرزق الذي لم يقدر لكم ، قاله ابن عباس ، والضحاك .
الثاني : من العافية والخصب الذي لم يقض لكم ، قاله ابن جبير .
{ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من الدنيا ، قاله ابن عباس .
الثاني : من العافية والخصب ، وهذا مقتضى قول ابن جبير .
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : { لِكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ ءَاتَاكُمْ } قال : ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً ، والخير شكراً .
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : الذين يبخلون يعني بالعلم ، ويأمرون الناس بالبخل بألا يعلموا الناس شيئاً ، قاله ابن جبير .
الثاني : أنهم اليهود بخلوا بما في التوارة من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الكلبي ، والسدي .
الثالث : أنه البخل بأداء حق الله من أموالهم ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنه البخل بالصدقة والحقوق ، قاله عامر بن عبد الله الأشعري .
الخامس : أنه البخل بما في يديه ، قال طاووس .
وفرق أصحاب الخواطر بين البخيل والسخي بفرقين :
أحدهما : أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك ، والسخي الذي يلتذ بالعطاء .
الثاني : أن البخيل الذي يعطي عند السؤال ، والسخي الذي يعطي بغير سؤال .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

{ وَأنزَلْنَا الْحَدِيدَ } فيه قولان :
أحدهما : أن الله أنزله مع آدم . روى عكرمة عن ابن عباس قال : ثلاث أشياء نزلت مع آدم : الحجر الأسود ، كان أشد بياضاً من الثلج ، وعصا موسى وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع مثل طول موسى ، والحديد ، أنزل معه ثلاثة أشياء : السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة .
الثاني : أنه من الأرض غير منزل من السماء ، فيكون معنى قوله :
{ وَأَنزَلْنَا } محمولاً على أحد وجهين :
أحدهما : أي أظهرناه .
الثاني : لأن أصله من الماء المنزل من السماء فينعقد في الأرض جوهره حتى يصير بالسبك حديداً .
{ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } فيه وجهان :
أحدهما : لأن بسلاحه وآلته تكون الحرب التي هي بأس شديد .
الثاني : لأن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً .
{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما تدفعه عنهم دروع الحديد من الأذى وتوصلهم إلى الحرب والنصر .
الثاني : ما يكف عنهم من المكروه بالخوف عنه .
وقال قطرب : البأس السلاح ، والمنفعة الآلة .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)

{ . . وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رأْفَةً وَرَحْمَةً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الرأفة اللين ، والرحمة الشفقة .
الثاني : أن الرأفة تخفيف الكل ، والرحمة تحمل الثقل .
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } فيه قراءتان :
إحداهما : بفتح الراء وهي الخوف من الرهب .
الثانية : بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان ومعناه أنهم ابتدعوا رهبانية ابتدؤوها .
وسبب ذلك ما حكاه الضحاك : [ أنهم ] بعد عيسى ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا ، فليس يسعنا المقام بينهم ، فاعتزلوا النساء واتخذوا الصوامع ، فكان هذا ما ابتدعوه من الرهبانية التي لم يفعلها من تقدمهم وإن كانوا فيها محسنين .
{ مَا كتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي لم تكتب عليهم وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها رفض النساء واتخاذ الصوامع ، قاله قتادة .
الثاني : أنها لحوقهم بالجبال ولزومهم البراري ، وروي فيه خبر مرفوع .
الثالث : أنها الانقطاع عن الناس والانفراد بالعبادة .
وفي الرأفة والرحمة التي جعلها في قلوبهم وجهان :
[ الأول ] : أنه جعلها في قلوبهم بالأمر بها والترغيب فيها .
الثاني : جعلها بأن خلقها فيهم وقد مدحوا بالتعريض بها .
{ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رَضْوَانِ اللَّهِ } أي لم تكتب عليهم قبل ابتداعها ولا كتبت بعد ذلك عليهم .
الثاني : أنهم تطوعوا بها بابتداعها ، ثم كتبت بعد ذلك عليهم ، قاله الحسن .
{ فَمَا رَعَوْهَا حِقَّ رِعَايَتِهَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم ما رعوها لتكذيبهم بمحمد .
الثاني : بتبديل دينهم وتغييرهم فيه قبل مبعث الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله عطية العوفي .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ } معناه يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد .
{ يُؤْتِكُم كِفْلَينِ مِن رَّحْمَتِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن أحد الأجرين لإيمانهم بمن تقدم من الأنبياء ، والآخر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن أحدهما : أجر الدنيا ، والآخر أجر الآخرة ، قاله ابن زيد .
ويحتمل ثالثاً : أن أحدهما أجر اجتناب المعاصي ، والثاني أجر فعل الطاعات .
ويحتمل رابعاً : أن أحدهما أجر القيام بحقوق الله والثاني أجر القيام بحقوق العباد .
{ وَيَجْعَلَ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } فيه قولان :
أحدهما : أنه القرآن ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الهدى ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أنه الدين المتبوع في مصالح الدنيا وثواب الآخرة . وقد روى أبو بريدة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَينِ : رَجُلٌ آمَنَ بِالكِتَابِ الأَوَّلِ وَالْكِتَابِ الآخِرِ ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَه أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا وَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لَسَيِّدِهِ » .
{ لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } قال الأخفش : معناه ليعلم أهل الكتاب وأن « لا » صلة زائدة وقال الفراء : لأنْ لا يعلم أهل الكتاب و « لا » صلة زائدة في كلام دخل عليه جحد .
{ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : من دين الله وهو الإسلام قاله مقاتل .
الثاني : من رزق الله ، قاله الكلبي .
وفيه ثالث : أن الفضل نعم الله التي لا تحصى .

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)

قوله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } وهي خولة بنت ثعلبة ، وقيل بنت خويلد ، وليس هذا بمختلف لأن أحدهما أبوها والآخر جدها ، فنسبت إلى كل واحد منهما . وزوجها أوس بن الصامت . قال عروة : وكان امرأً به لمم فأصابه بعض لممه فظاهر من امرأته ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في ذلك .
{ وتشتكي إلى الله } فيه وجهان :
أحدهما : تستغيث بالله .
والثاني : تسترحم الله . وروى الحسن أنها قالت : يا رسول الله قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أوحي إليّ في هذا شيء » فقالت : يا رسول الله أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟ فقال : « هو ما قلت لك » فقالت : إلى الله أشكو لا إلى رسوله ، فأنزل الله تعالى : { قد سمع الله قول التي تجادلك } الآية . وقرأ ابن مسعود : { قَد سَّمِعَ } .
قالت عائشة : تبارك الله الذي أوعى سمعه كل شيء ، سمع كلام خولة بنت ثعلبة وأنا في ناحية البيت ما أسمع بعض ما تقول ، وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي وانقطع ولدي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك ، فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الأية .
{ والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } والمحاورة مراجعة الكلام ، قال عنترة :
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ... ولكان لو علم الكلام مكلمي .
{ الذين يظاهرون منكم من نسائهم } الظهار قول الرجل لامرأته .
أنت عليّ كظهر أمي ، سمي ظهاراً لأنه قصد تحريم ظهرها عليه ، وقيل : لأنه قد جعلها عليه كظهر أمه ، وقد كان في الجاهلية طلاقاً ثلاثاً لا رجعة فيه ولا إباحة بعده فنسخه الله إلى ما استقر عليه الشرع من وجوب الكفارة فيه بالعود .

الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)

ثم قال : { . . ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } تكذيباً من الله تعالى لقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي .
{ وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً } يعني بمنكر القول الظاهر ، وبالزور كذبهم في جعل الزوجات أمهات .

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)

{ إن الذين يحادُّون الله ورسوله } فيه وجهان :
أحدهما : يعادون الله ورسوله ، قاله مجاهد .
الثاني : يخالفون الله ورسوله ، قاله الكلبي .
وفي أصل المحادة وجهان :
أحدهما : أن تكون في حد يخالف حد صاحبك ، قاله الزجاج .
الثاني : أنه مأخوذ من الحديد المعد للمحادة .
{ كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } فيه أربعة أوجه :
أحدها : [ أخزوا ] كما أخزي الذين من قبلهم ، قاله قتادة .
الثاني : معناه أهلكوا كما أهلك الذين من قبلهم ، قاله الأخفش وأبو عبيدة .
الثالث : لعنوا كما لعن الذين من قبلهم ، قاله السدي ، وقيل هي بلغة مذحج
الرابع : ردوا مقهورين .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } النجوى السرار ، ومن ذلك قول جرير :
من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت بنجواهم لؤي بن غالب
والنجوى مأخوذة من النجوة وهي ما له ارتفاع وبعد ، لبعد الحاضرين عنه ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن كل سرار نجوى ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن السرار ما كان بن اثنين ، والنجوى ما كان بين ثلاثة ، حكاه سراقة .
وفي المنهي عنه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود ، كانوا يتناجون بما بين المسلمين ، فنهوا عن ذلك ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم المنافقون ، قاله الكلبي .
الثالث : أنهم المسلمون .
روى أبو سعيد الخدري قال : كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى » .
فقلنا تبنا إلى الله يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح يعني الدَّجال فرَقاً منه ، فقال : « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان الرجل » .
{ وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله } كانت اليهود إذا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : السام عليك ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول : { وعليكم } ويروى أن عائشة حين سمعت ذلك منهم قالت : وعليكم السام والذام ، فقال عليه السلام : « إن الله لا يحب الفحش والتفحش » .
وفي السام الذي أرادوه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الموت ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه السيف .
الثالث : أنهم أرادوا بذلك أنكم ستسأمون دينكم ، قاله الحسن ، وكذا من قال هو الموت لأنه يسأم الحياة .
وحكى الكلبي أن اليهود كانوا إذا رد النبي صلى الله عليه وسلم جواب سلامهم قالوا : لو كان هذا نبياً لاستجيب له فينا قوله وعليكم ، يعني السام وهو الموت وليس بنا سامة وليس في أجسادنا فترة ، فنزلت فيهم { ويقولون في أنفسهم ولولا يعذبنا الله بما نقول } الآية .
وفي قوله تعالى : { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين ءامنوا } وجهان :
أحدهما : ما كان يتناجى به اليهود والمنافقون من الأراجيف بالمسلمين .
الثاني : أنها الأحلام التي يراها الإنسان في منامه فتحزنه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

{ يَأيها الذين ءامنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس . . } فيه أربعة أوجه :
أحدها : مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة إذا جلس فيه قوم تشاحوا بأمكنتهم على من يدخل عليهم أن يؤثروه بها أو يفسحوا له فيها ، فأمروا بذلك قاله مجاهد .
الثاني : أنه في مجالس صلاة الجمعة ، قاله مقاتل .
الثالث : أنها في مجالس الذكر كلها ، قاله قتادة .
الرابع : أن ذلك في الحرب والقتال ، قاله الحسن .
{ . . . وإذا قيل انشزوا فانشزوا } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه وإذا قيل لكم انهضوا إلى القتال فانهضوا ، قاله الحسن .
الثاني : إذا دعيتم إلى الخير فأجيبوا ، قاله قتادة .
الثالث : إذا نودي للصلاة فاسعوا إليها ، قاله مقاتل بن حيان .
الرابع : أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطالوا ليكون كل واحد منهم هو الآخر عهداً به ، فأمرهم الله أن ينشزوا إذا قيل لهم انشزوا ، قاله ابن زيد .
ومعنى { تفسحوا } توسعوا . وفي { انشزوا } وجهان :
أحدهما : معناه قوموا ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : ارتفعوا ، مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها .
وفيما أمروا أن ينشزوا إليه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلى الصلاة ، قاله الضحاك .
الثاني : إلى الغزو ، قاله مجاهد .
الثالث : إلى كل خير ، قاله قتادة .
{ يرفع الله الذين ءامنوا منكم } يعني بإيمانه على من ليس بمنزلته في الإيمان .
{ والذين أوتوا العلم درجات } على من ليس بعالم .
ويحتمل هذا وجهين :
أحدهما : أن يكون إخباراً عن حالهم عند الله في الآخرة .
الثاني : أن يكون أمراً يرفعهم في المجالس التي تقدم ذكرها لترتيب الناس فيها بحسب فضائلهم في الدين والعلم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)

{ يأيها الذين ءامنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } اختلف في سببها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المنافقين كانا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم بما لا حاجة لهم به ، فأمرهم الله بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن النجوى ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه كان قوم من المسلمين يستخلون النبي صلى الله عليه وسلم ويناجونه فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى ، فشق عليهم ذلك ، فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه ، قاله الحسن .
الثالث : قاله ابن عباس وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما قال ذلك كف كثير من الناس عن المسألة .
وقال مجاهد : لم يناجه إلا عليٌّ قدّم ديناراً فتصدق به ، فسأله عن عشر خصال ، ثم نزلت الرخصة .
{ ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } قال علي : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت ، وأحسبه [ قال ] وما كانت إلا ساعة ، وقال ابن حبان : كان ذلك ليالي عشراً .
وقال ابن سليمان : ناجاه عليّ بدينار باعه بعشرة دراهم في عشر كلمات كل كلمة بدرهم . وناجاه آخر من الأنصار بآصع وكلمه كلمات ، ثم نسخت بما بعدها .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)

{ ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم } يعني المنافقين تولوا قوماً غضب الله عليهم هم اليهود .
{ ما هم منكم } لأجل نفاقهم .
{ ولا منهم } لخروجهم بيهوديتهم .
{ ويحلفون على الكذب } أنهم لم ينافقوا .
{ وهم يعلمون } أنهم منافقون .
{ اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين } فيه قولان :
أحدهما : قاله السدي .
الثاني : عن سبيل الله في قتلهم بالكفر لما أظهروه من النفاق .
ويحتمل ثالثاً : صدوا عن الجهاد ممايلة لليهود .
{ استحوذ عليهم الشيطان } فيه قولان :
أحدهما : قوي عليهم .
الثاني : أحاط بهم ، قاله المفضل .
وفيه ثالث : أنه غلب واستولى عليهم في الدنيا .
{ فأنساهم ذكر الله } يحتمل ذكر الله ها هنا وجهين :
أحدهما : أوامره في العمل بطاعته .
الثاني : زواجره في النهي عن معصيته .
ويحتمل ما أنساهم من ذكره وجهين :
أحدهما : بالغفلة عنها .
الثاني : بالشرك بها .

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من حارب الله ورسوله ، قاله قتادة والفراء .
الثاني : من خالف الله ورسوله ، قاله الكلبي .
الثالث : من عادى الله ورسوله ، قاله مقاتل .
{ ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } اختلف فيمن نزلت هذه الآية فيه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما قاله ابن شوذب : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه الجراح يوم بدر ، جعل يتصدى له ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله .
وروى سعيد بن عبد العزيز عن عمر بن الخطاب أنه قال : لو كان أبو عبيدة حياً لاستخاره ، قال سعيد : وفيه نزلت هذه الآية .
وفيه وجهان :
أحدهما : أنه خارج مخرج النهي للذين آمنوا أن يوادوا من حادّ الله ورسوله .
الثاني : أنه خارج مخرج الصفة لهم والمدح بأنهم لا يوادون من حادّ الله ورسوله ، وكان هذا مدحاً .
{ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } فيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه جعل في قلوبهم الإيمان وأثبته ، قال السدي ، فصار كالمكتوب .
الثاني : كتب في اللوح المحفوظ أن في قلوبهم الإيمان .
الثالث : حكم لقلوبهم بالإيمان .
الرابع : أنه جعل في قلوبهم سمة للإيمان على أنهم من أهل الإيمان ، حكاه ابن عيسى .
{ وأيدهم بروح منه } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أعانهم برحمته ، قاله السدي .
الثاني : أيدهم بنصره حتى ظفروا .
الثالث : رغبهم في القرآن حتى ءامنوا .
الرابع : قواهم بنور الهدى حتى صبروا .
الخامس : قواهم بجبريل يوم بدر .
{ رضي الله عنهم } يعني في الدنيا بطاعتهم .
{ ورضوا عنه } فيه وجهان :
أحدهما : رضوا عنه في الآخرة بالثواب .
الثاني : رضوا عنه في الدنيا بما قضاه عليهم فلم يكرهوه .
{ أولئك حزب الله } فيهم وجهان :
أحدهما : انهم من عصبة الله فلا تأخذهم لومة لائم .
الثاني : أنهم أنصار حقه ورعاة خلقه وهو محتمل .
القول الثاني : ما روى ابن جريج أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق وقد سمع أباه أبا قحافة يسب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط على وجهه ، فقال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : « أو فعلته؟ لا تعد إليه يا أبا بكر » .
فقال والله لو كان السيف قريباً مني لضربته به ، فنزلت هذه الآية .
القول الثالث : ما حكى الكلبي ومقاتل أن هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقد كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)

قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني يهود بني النضير .
{ من ديارهم } يعني من منازلهم .
{ لأول الحشر } أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من أُحد إلى أذرعات الشام ، وأعطى كل ثلاثة بعيراً يحملون عليه ما استقل إلا السلاح ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم حين هاجر إلى المدينة أن لا يقاتلوا معه ولا عليه ، فكفوا يوم بدر لظهور المسلمين ، وأعانوا المشركين يوم أحد حين رأوا ظهورهم على المسلمين ، فقتل رئيسهم كعب بن الأشرف ، قتله محمد بن مسلمة غيلة . ثم سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم ثلاثاً وعشرين ليلة محارباً حتى أجلاهم عن المدينة .
في قوله : { لأول الحشر } ثلاثة أوجه :
أحدها : لأنهم أول من أجلاه النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود ، قاله ابن حبان .
الثاني : لأنه اول حشرهم ، لأنهم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر في القيامة ، قاله الحسن . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أجلى بني النضير قال لهم « امضوا فهذا أول الحشر وأنا على الأثر . »
الثالث : أنه أول حشرهم لما ذكره قتادة أنه يأتي عليهم بعد ذلك من مشرق الشمس نار تحشرهم إلى مغربها تبيت معهم إذ باتوا [ وتقيل معهم حيث قالوا ] وتأكل منهم من تخلف .
{ ما ظننتم أن يخرجوا } يعني من ديارهم لقوتهم وامتناعهم .
{ وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله } أي من أمر الله .
{ فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } فيه وجهان :
أحدهما : لم يحتسبوا بأمر الله .
الثاني : قاله ابن جبير والسدي : من حيث لم يحتسبوا بقتل ابن الأشرف .
{ وقذف في قلوبهم الرعب } فيه وجهان :
أحدهما : لخوفهم من رسول الله .
الثاني : بقتل كعب بن الأشرف .
{ يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } فيه خمسة أوجه :
أحدها : بأيديهم بنقض الموادعة ، وأيدي المؤمنين بالمقاتلة ، قاله الزهري .
الثاني : بأيديهم في تركها ، وأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها ، قاله أبو عمرو ابن العلاء .
الثالث : بأيديهم في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذها المسلمون ، وبأيدي المؤمنين في إخراب ظواهرها ليصلوا بذلك إليهم .
قال عكرمة : كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها فخربوها من داخل ، وخربها المسلمون من خارج .
الرابع : معناه : أنهم كانوا كلما هدم المسلمون عليهم من حصونهم شيئاً نقضوا من بيوتهم ما يبنون به من حصونهم ، قاله الضحاك .
الخامس : أن تخريبهم بيوتهم أنهم لما صولحوا على حمل ما أقلته إبلهم جعلوا ينقضون ما أعجبهم من بيوتهم حتى الأوتار ليحملوها على إبلهم ، قاله عروة بن الزبير ، وابن زيد .
وفي قوله : { يخربون } قراءتان : بالتخفيف ، وبالتشديد ، وفيهما وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد وليس بينهما فرق .

الثاني : أن معناهما مختلف .
وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بأفعالهم ، ومن قرأ بالتخفيف أراد إخرابها بفعل غيرهم قاله أبو عمرو .
الثاني : أن من قرأ بالتشديد أراد إخرابها بهدمهم لها . وبالتخفيف أراد فراغها بخروجهم عنها ، قاله الفراء .
ولمن تعمق بغوامض المعاني في تأويل ذلك وجهان :
أحدهما : يخربون بيوتهم أي يبطلون أعمالهم بأيديهم ، يعني باتباع البدع ، وأيدي المؤمنين في مخالفتهم .
{ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالجلاء الفناء { لعذبهم في الدنيا } بالسبي .
والثاني : يعني بالجلاء الإخراج عن منازلهم { لعذبهم في الدنيا } يعني بالقتل ، قاله عروة .
والفرق بين الجلاء والإخراج - وإن كان معناهما في الإبعاد واحد - من وجهين :
أحدهما : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد .
الثاني : أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج يكون لجماعة ولواحد .
{ ما قطعتم من لينة أو تكرتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير وهي البويرة حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد قطع المسلمون من نخلهم وأحرقوا ست نخلات ، وحكى محمد بن إسحاق أنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة ، وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره ، إما لإضعافهم بها أو لسعة المكان بقطعها ، فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل كتاب : يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الإصلاح؟ أفمن الصلاح حرق الشجر وقطع النخل؟ وقال شاعرهم سماك اليهودي :
ألسنا ورثنا كتاب الحكيم ... على عهد موسى ولم نصدف
وانتم رعاء لشاء عجاف ... بسهل تهامة والأخيف
ترون الرعاية مجداً لكم ... لدي كل دهر لكم مجحف
فيا أيها الشاهدون انتهوا ... عن الظلم والمنطق المؤنف
لعل الليالي وصرف الدهور ... يدلن عن العادل المنصف
بقتل النضير وإجلائها ... وعقر النخيل ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت رضي الله عنه :
هم أوتوا الكتاب فضيعوه ... وهم عمي عن التوارة يور
كفرتم بالقرآن وقد أتيتم ... بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
ثم إن المسلمين جل في صدورهم ما فعلوه ، فقال بعضهم : هذا فساد ، وقال آخرون منهم عمر بن الخطاب : هذا مما يجزي الله به أعداءه وينصر أولياءه فقالوا يا رسول الله هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله تعالى : { وما قطعتم من لينة } الآية . وفيه دليل على أن كل مجتهد مصيب .
وفي اللينة خمسة أقاويل :
أحدها : النخلة من أي الأصناف كانت ، قاله ابن حبان .
الثاني : أنها كرام النخل ، قاله سفيان .
الثالث : أنها العجوة خاصة ، قاله جعفر بن محمد وذكر أن العتيق والعجوة كانا مع نوح في السفينة ، والعتيق الفحل ، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ولذلك شق على اليهود قطعها .
الرابع : أن اللينة الفسيلة لأنها ألين من النخلة ، ومنه قول الشاعر :
غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام
الخامس : أن اللينة جميع الأشجار للينها بالحياة ، ومنه قول ذي الرمة :
طراق الخوافي واقع فوق لينة ... ندى ليلة في ريشه يترقرق
قال الأخفش : سميت لينة اشتقاقاً من اللون لا من اللين .

وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)

{ وما أفاء الله على رسوله منهم } يعني ما رده اللَّه على رسوله من أموال بني النضير .
{ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } والإيجاف الإيضاع في السير وهو الإسراع ، والركاب : الإبل ، وفيهما يقول نصيب :
ألارب ركب قد قطعت وجيفهم ... إليك ولولا أنت لم توجف الركب
{ ولكن الله يسلط رسله على من يشاء } ذلك أن مال الفيء هو المأخوذ من المشركين بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، فجعل الله لرسوله أن يضعه حيث يشاء لأنه واصل بتسليط الرسول عليهم لا بمحاربتهم وقهرهم . فجعل الله ذلك طعمة لرسوله خالصاً دون الناس ، فقسمه في المهاجرين إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة فإنهما ذكرا فقراً فأعطاهما .
{ كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم } يقال دولة بالضم وبالفتح وقرىء بهما ، وفيهما قولان :
أحدهما : أنهما واحد ، قاله يونس ، والأصمعي .
الثاني : أن بينهما فرقاً ، وفيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه بالفتح الظفر في الحرب ، وبالضم الغنى عن فقر ، قاله أبو عمرو ابن العلاء .
الثاني : أنه بالفتح في الأيام ، وبالضم في الأموال ، قاله عبيدة .
الثالث : أن بالفتح ما كان كالمستقر ، وبالضم ما كان كالمستعار ، حكاه ابن كامل .
الرابع : أنه بالفتح الطعن في الحرب ، وبالضم أيام الملك وأيام السنين التي تتغير ، قاله الفراء ، قال حسان :
ولقد نلتم ونلنا منكم ... وكذاك الحرب أحياناً دول
{ وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم منه فلا تطلبوه ، قاله السدي .
الثاني : ما آتاكم الله من مال الغنيمة فخذوه ، وما نهاكم عنه من الغلو فلا تفعلوه ، قاله الحسن .
الثالث : وما آتاكم من طاعتي فافعلوه ، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه ، قاله ابن جريج .
الرابع : أنه محمول على العموم في جميع أوامره ونواهيه لأنه لا يأمر إلا بصلاح ولا ينهى إلا عن فساد .
وحكى الكلبي أنها نزلت في رؤساء المسلمين قالوا فيما ظهر عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أموال المشركين ، يا رسول الله صفيك والربع ودعنا والباقي فهكذا كنا نفعل في الجاهلية وأنشدوه :
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول .
فأنزل الله هذه الآية .

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

{ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } يعني بالمهاجرين من هاجر عن وطنه من المسليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار هجرته وهي المدينة خوفاً من أذى قومه ورغبة في نصرة نبيّه فهم المقدمون في الإسلام على جميع أهله .
{ يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } يعني فضلاً من عطاء الله في الدنيا ، ورضواناً من ثوابه في الآخرة .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن الفضل الكفاية ، والرضوان القناعة .
وروى علي بن رباح اللخمي أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال : من أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقة فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله تعالى جعلني خازناً وقاسماً ، إني بادىء بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فمعطيهن ، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي أخرجنا من مكة من ديارنا وأموالنا .
قال قتادة : لأنهم اختاروا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما كانت من شدة ، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب على بطنه الحجر ليقيم صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها .
{ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم } ويكون على التقديم والتأخير ومعناه تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان .
الثاني : أن الكلام على ظاهره ومعناه أنهم تبوءوا الدار والإيمان قبل الهجرة إليهم يعني بقبولهم ومواساتهم بأموالهم ومساكنهم .
{ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } فيه وجهان :
أحدهما : غيرة وحسداً على ما قدموا به من تفضيل وتقريب ، وهو محتمل .
الثاني : يعني حسداً على ما خصوا به من مال الفيء وغيره فلا يحسدونهم عليه ، قاله الحسن .
{ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } يعني يفضلونهم ويقدمونهم على أنفسهم ولو كان بهم فاقة وحاجة ، ومنه قول الشاعر :
أما الربيع إذا تكون خصاصة ... عاش السقيم به وأثرى المقتر
وفي إيثارهم وجهان :
أحدهما : أنهم آثروا على أنفسهم بما حصل من فيىء وغنيمة حتى قسمت في المهاجرين دونهم ، قاله مجاهد ، وابن حيان .
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم على المهاجرين ما أفاء الله من النضير ونفل من قريظة على أن يرد المهاجرون على الأنصار ما كانوا أعطوهم من أموالهم فقالت الأنصار بل نقيم لهم من أموالنا ونؤثرهم بالفيء ، فأنزل الله هذه الآية .
الثاني : أنهم آثروا المهاجرين بأموالهم وواسوهم بها .
روى ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : « إن إخوانكم تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم » فقالوا : أموالنا بينهم قطائع ، فقال : « أو غير ذلك » ؟ فقالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ فقال :

« هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر » يعني مما صار إليهم من نخيل بني النضير ، قالوا نعم يا رسول الله .
{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } فيه ثماينة أقاويل :
أحدها : أن هذا الشح هو أن يشح بما في أيدي الناس يحب أن يكون له ولا يقنع ، قاله ابن جريج وطاووس .
الثاني : أنه منع الزكاة ، قاله ابن جبير .
الثالث : يعني هوى نفسه ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنه اكتساب الحرام ، روى الأسود عن ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال وما ذاك؟ قال سمعت الله عز وجل يقول :
{ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً فقال ابن مسعود : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، إنما الشح الذي ذكره الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل .
الخامس : أنه الإمساك عن النفقة ، قاله عطاء .
السادس : أنه الظلم ، قاله ابن عيينة .
السابع : أنه أراد العمل بمعاصي الله ، قاله الحسن .
الثامن : أنه أراد ترك الفرائض وانتهاك المحارم ، قاله الليث .
وفي الشح والبخل قولان :
أحدهما : أن معناهما واحد .
الثاني : أنهما يفترقان وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن الشح أخذ المال بغير حق ، والبخل أن يمنع من المال المستحق ، قاله ابن مسعود .
الثاني : أن الشح بما في يدي غيره ، والبخل بما في يديه ، قاله طاووس .
{ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الذين هاجروا بعد ذلك ، قاله السدي والكلبي .
الثاني : أنهم التابعون الذين جاءوا بعد الصحابة ثم من بعدهم إلى قيام الدنيا هم الذين جاءوا من بعدهم ، قاله مقاتل .
وروى مصعب بن سعد قال : الناس على ثلاثة منازل ، فمضت منزلتان وبقيت الثالثة : فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت .
وفي قولهم : { اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } وجهان :
أحدهما : أنهم أمروا أن يستغفروا لمن سبق من هذه الأمة ومن مؤمني أهل الكتاب . قالت عائشة : فأمروا أن يستغفروا لهم فسبّوهم .
الثاني : أنهم أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .
{ ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا } الآية . في الغل وجهان :
أحدهما : الغش ، قاله مقاتل .
الثاني : العداوة ، قاله الأعمش .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)

{ بأسهم بينهم شديد } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه اختلاف قلوبهم حتى لا يتفقوا على أمر واحد ، قاله السدي .
الثاني : أنه وعيدهم للمسلمين لنفعلن كذا وكذا ، قاله مجاهد .
{ تحسبهم جيمعاً } فيه قولان :
أحدهما : أنهم اليهود .
الثاني : أنهم المنافقون واليهود ، قاله مجاهد .
{ وقلوبهم شتى } يعني مختلفة متفرقة ، قال الشاعر :
إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هي اليوم شتى وهي بالأمس جمع
وفي قراءة ابن مسعود « وَقُلُوبُهُمْ أَشَتُّ » بمعنى أشد تشتيتاً ، أي أشد اختلافاً .
وفي اختلاف قلوبهم وجهان :
أحدهما : لأنهم على باطل ، والباطل مختلف ، والحق متفق .
الثاني : أنهم على نفاق ، والنفاق اختلاف .
وقوله تعالى : { كمثل الذين من قبلهم قريباً } الآية . فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم كفار قريش يوم بدر ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم قتلى بدر ، قاله السدي ، ومقاتل .
الثالث : أنهم بنو النضير الذين أجلوا من الحجاز إلى الشام ، قاله قتادة .
الرابع : أنهم بنو قريظة ، كان قبلهم إجلاء بني النضير .
{ ذاقوا وبال أمرهم } بأن نزلوا على حكم سعد [ بن معاذ ] فحكم فيهم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ، قاله الضحاك . وفيه وجهان :
أحدهما : في تجارتهم .
الثاني : في نزول العذاب بهم .
{ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } فيه قولان :
أحدهما : أنه مثل ضربه الله الكافر في طاعته للشيطان ، وهو عام في الناس كلهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها خاصة في سبب خاص صار به المثل عاماً ، وذلك ما رواه عطية العوفي عن ابن عباس أن راهباً كان في بني إسرائيل يعبد الله فيحسن عبادته ، وكان يؤتى من كل أرض يسأل عن الفقه وكان عالماً ، وأن ثلاثة إخوة كانت لهم أخت من أحسن النساء مريضة ، وأنهم أرادوا سفراً فكبر عليهم أن يذروها ضائعة ، فجعلوا يأتمرون فيما يفعلون ، فقال أحدهم : ألا أدلكم على من تتركونها عنده؟ فقال له من؟ فقال : راهب بني إسرائيل ، وإن مات قام عليها ، وإن عاشت حفظها حتى ترجعوا إليه ، فعمدوا إليه وقالوا : إنا نريد السفر وإنا لا نجد أحداً أوثق في أنفسنا منك ولا آمن علينا غيرك ، فاجعل أختنا عندك فإنها ضائعة مريضة ، فإن ماتت فقم عليها ، وإن عاشت فاحفظها حتى نرجع ، فقال : أكفيكم إن شاء الله ، وإنهم انطلقوا ، فقام عليها وداواها حتى برئت فلم يزل به الشيطان يزين له حتى وقع عليها وحبلت ، ثم تقدم منه الشيطان فزين له قتلها وقال : إن لم تفعل افتضحت ، فقتلها .
فلما عاد إخوتها سألوه عنها فقال : ماتت فدفنتها ، قالوا أحسنت ، فجعلوا يرون في المنام أن الراهب قتلها وأنها تحت شجرة كذا ، فعمدوا إلى الشجرة فوجدوها قد قتلت ، فأخذوه ، فقال له الشيطان : أنا الذي زينت لك قتلها بعد الزنى فهل لك أن أنجيك وتطيعني؟ قال : نعم ، قال فاسجد لي سجدة واحدة ، فسجد ثم قتل ، فذلك قوله تعالى : { كمثل الشيطان } فكذا المنافقون وبنو النضير مصيرهم إلى النار .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)

{ يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله } روى معن أو عون ابن مسعود أن رجلاً أتاه فقال : اعهد لي ، فقال : إذا سمعت الله يقول : { يأيها الين ءامنوا } فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه .
وفي هذه التقوى وجهان :
أحدهما : اجتناب المنافقين .
الثاني : هو اتقاء الشبهات .
{ ولتنظر نفس ما قدمت لغد } قال ابن زيد : ما قدمت من خير أو شر .
{ لغد } يعني يوم القيامة والأمس : الدنيا . قال قتادة : إن ربكم قدم الساعة حتى جعلها لغد .
{ واتقوا الله } في هذه التقوى وجهان :
أحدهما : أنها تأكيد للأولى .
والثاني : أن المقصود بها مختلف وفيه وجهان :
أحدهما : أن الأولى التوبة مما مضى من الذنوب ، والثانية اتقاء المعاصي في المستقبل .
الثاني : أن الأولى فيما تقدم لغد ، الثانية فيما يكون منكم .
{ إن الله خبير بما تعملون } فيه وجهان :
أحدهما : أن الله خبير بعملكم .
الثاني : خبير بكم عليم بما يكون منكم ، وهو معنى قول سعيد بن جبير .
{ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } فيه أربعة أوجه :
أحدها : نسوا الله أي تركوا أمر الله ، فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيراً ، قاله ابن حبان .
الثاني : نسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم ، قاله سفيان .
الثالث : نسوا الله بترك شكره وتعظيمه فأنساهم أنفسهم بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضاً ، حكاه ابن عيسى .
الرابع : نسوا الله عند الذنوب فأنساهم أنفسهم عند التوبة ، قاله سهل .
ويحتمل خامساً : نسوا الله في الرخاء فأنساهم أنفسهم في الشدائد .
{ أولئك هم الفاسقون } فيه تأويلان :
أحدهما : العاصون : قاله ابن جبير .
الثاني : الكاذبون ، قاله ابن زيد .
{ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يستوون في أحوالهم ، لأن أهل الجنة في نعيم ، وأهل النار في عذاب .
الثاني : لا يستوون عند الله ، لأن أهل الجنة من أوليائه ، وأهل النار من أعدائه .
{ أصحاب الجنة هم الفائزون } فيه وجهان :
أحدهما : المقربون المكرمون .
الثاني : الناجون من النار ، قاله ابن حبان .

لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

{ لو أنزلنا هذا القرءآن على جبل } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إننا لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لما ثبت له بل انصدع من نزوله عليه ، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له ، فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لا تثبت له الجبال .
الثاني : أنه خطاب للأمة ، وأن الله لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدعت من خشية الله ، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً ، فهو يقوم بحقه إن أطاع ، ويقدرعلى رده إن عصى ، لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب .
وفيه قول ثالث : إن الله تعالى ضربه مثلاً للكفار أنه إذا نزل هذا القرآن على جبل خشع لوعده وتصدع لوعيده ، وأنتم أيها المقهروون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده .
{ هو الله الذي لا إله إلا هو } كان جابر بن زيد يرى أن اسم الله الأعظم هو الله ، لمكان هذه الآية .
{ عالم الغيب والشهادة } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : عالم السر والعلانية ، قاله ابن عباس .
الثاني : عالم ما كان وما يكون .
الثالث : عالم ما يدرك وما لا يدرك من الحياة والموت والأجل والرزق .
الرابع : عالم بالآخرة والدنيا ، قاله سهل .
{ هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس } في { القدوس } أربعة أوجه :
أحدها : أنه المبارك ، قاله قتادة ، ومنه قول رؤبة :
دعوت رب العزة القدوسا ... دعاء من لا يقرع الناقوسا
الثاني : أنه الطاهر ، قاله وهب ، ومنه قول الراجز :
قد علم القدوس مولى القدوس . ... الثالث : أنه اسم مشتق من تقديس الملائكة ، قاله ابن جريج ، وقد روي أن من تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح .
الرابع : معناه المنزه عن القبائح لاشتقاقه من تقديس الملائكة بالتسبيح فصار معناهما واحد .
وأما { السلام } فهو من أسمائه تعالى كالقدوس ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مأخوذ من سلامته وبقائه ، فإذا وصف المخلوق بمثله قيل سالم وهو في صفة الله سلام ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
سلامك ربنا في كل فجر ... بريئاً ما تعنتك الذموم
الثاني : أنه مأخوذ من سلامة عباده من ظلمه ، قاله ابن عباس .
[ وفي { المؤمن } ثلاثة أوجه : أحدها : الذي يؤمن أولياءه من عذابه ] الثاني : أنه مصدق خلقه في وعده ، وهو معنى قول ابن زيد .
الثالث : أنه الداعي إلى الإيمان ، قاله ابن بحر .
وأما { المهيمن } فهو من أسمائه أيضاً ، وفيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه الشاهد على خلقه بأعمالهم ، وعلى نفسه بثوابهم ، قاله قتادة ، والمفضل ، وأنشد قول الشاعر :
شهيد عليَّ الله أني أحبها ... كفى شاهداً رب العباد المهيمن
والثاني : معناه الأمين ، قاله الضحاك .
الثالث : المصدق ، قاله ابن زيد .
الرابع : أنه الحافظ ، حكاه ابن كامل ، وروي أن عمر بن الخطاب قال : إني داع فهيمنوا ، أي قولوا آمين حفظنا الدعاء ، لما يرجى من الإجابة .

الخامس : الرحيم ، حكاه ابن تغلب واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت :
مليك على عرش السمآء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد
{ العزيز } هو القاهر ، وفيه وجهان :
أحدهما : العزيز في امتناعه .
الثاني : في انتقامه .
{ الجبار } فيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه العالي العظيم الشأن في القدرة والسلطان .
الثاني : الذي جبر خلقه على ما شاء ، قاله أبو هريرة ، والحسن ، وقتادة .
الثالث : أنه الذي يجبر فاقة عباده ، قاله واصل بن عطاء .
الرابع : أنه الذي يذل له من دونه .
{ المتكبر } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : المتكبر عن السيئات ، قاله قتادة .
الثاني : المستحق لصفات الكبر ، والتعظيم ، والتكبر في صفات الله مدح ، وفي صفات المخلوقين ذم .
الثالث : المتكبر عن ظلم عباده .
{ هو الله الخالق } فيه وجهان :
أحدهما : أنه المحدِث للأشياء على إرادته .
الثاني : أنه المقدر لها بحكمته .
{ الْبَارِىءُ } فيه وجهان :
أحدهما : المميز للخلق ، ومنه قوله : برئت منه ، إذا تميزت منه .
الثاني : المنشىء للخلق ، ومنه قول الشاعر :
براك الله حين براه غيثاً ... ويجري منك أنهاراً عذاباً
{ المصور } فيه وجهان :
أحدهما : لتصوير الخلق على مشيئته .
الثاني : لتصوير كل جنس على صورته . فيكون على الوجه الأول محمولاً على ابتداء الخلق بتصوير كل خلق على ما شاء من الصور . وعلى الوجه الثاني يكون محمولاً على ما استقر من صور الخلق ، فيحدث خلق كل جنس على صورته وفيه على كلا الوجهين دليل على قدرته .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : أن يكون لنقله خلق الإنسان وكل حيوان من صورة إلى صورة ، فيكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير شيخاً هرماً ، كما قال النابغة :
الخالق البارىء المصور في ال ... أرحام ماء حتى يصير دماً
{ له الأسماء الحسنى } فيه وجهان :
أحدهما : أن جميع أسمائه حسنى لاشتقاقه من صفاته الحسنى .
الثاني : أن له الأمثال العليا ، قاله الكلبي .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرد التوجه إلى مكة أظهر أنه يريد خيبر ، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إليهم وأرسل مع امرأة ذكر أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأنفذ علياً وأبا مرثد ، وقيل عمر بن الخطاب ، وقيل الزبير رضي الله عنهم ، وقال لهما ، اذهبا إلى روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذاه وعودا ، فأتيا الموضع فوجداها والكتاب معها ، فأخذاه وعادا ، فإذا هو كتاب حاطب فقال عمر : ائذن لي يا رسول الله أضرب عنقه فقد خان الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم قد شهد بدراً ، فقالوا : بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم إني بما تعملون خبير . ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم [ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب ] ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله كنت امرأ مصلقاً من قريش وكان لي بها مال فكتبت إليهم بذلك ، والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق حاطب فلا تقولوا له إلآ خيراً . فنزلت هذه الآية والتي بعدها .
وفي قوله تعالى : { تسرون إليهم بالمودة } وجهان :
أحدهما : تعلمونهم سراً أن بينكم وبينهم مودة .
الثاني : تعلمونهم سراً بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم بمودة بينكم وبينهم .

قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)

{ قد كانت لكم أسوة حسنة } ذكر الكلبي والفراء أنه أراد حاطب بن أبي بلتعة ، وفيها وجهان :
أحدهما : سنة حسنة ، قاله الكلبي .
الثاني : عبرة حسنة ، قاله ابن قتيبة .
{ في إبراهيم والذين معه } من المؤمنين .
{ إذ قالوا لقومهم } يعني من الكفار .
{ إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله } فتبرؤوا منهم فهلا تبرأت أنت يا حاطب من كفار أهل مكة ولم تفعل ما فعلته من مكاتبتهم وإعلامهم .
ثم قال : { كفرنا بكم } يحتمل وجهين :
أحدهما : كفرنا بما آمنتم به من الأوثان .
الثاني : بأفعالكم وكذبنا بها .
{ وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك . . . } فيه وجهان :
أحدهما : تأسوا بإبراهيم في فعله واقتدوا به إلا في الاستغفار لأبيه فلا تقتدوا به فيه ، قاله قتادة .
الثاني : معناه إلا إبراهيم فإنه استثنى أباه من قومه في الاستغفار له ، حكاه الكلبي .
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } فيه تأويلان :
أحدهما : معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا ، قاله ابن عباس .
الثاني : لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فنصير فتنة لهم فيقولوا لو كانوا على حق ما عذبوا ، قاله مجاهد ، وهذا من دعاء إبراهيم عليه السلام .

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

{ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } فيهم قولان :
أحدهما : أهل مكة حين أسلموا عام الفتح فكانت هي المودة التي صارت بينهم وبين المسلمين ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه إسلام أبي سفيان .
وفي مودته التي صارت منه قولان :
أحدهما : تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان فكانت هذه مودة بينه وبين أبي سفيان ، قاله مقاتل .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان على بعض اليمن فلما قبض رسول الله أقبل فلقي ذا الخمار مرتداً ، فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين ، فكانت هذه المودة ، قاله الزهيري .
{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } الآية . فيهم أربعة أوجه :
أحدها : أن هذا في أول الأمر عند موادعة المشركين ، ثم نسخ بالقتال ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنهم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف كان لهم عهد فأمر الله أن يبروهم بالوفاء ، قاله مقاتل .
الثالث : أنهم النساء والصبيان لأنهم ممن لم يقاتل ، فأذن الله تعالى ببرهم ، حكاه بعض المفسرين .
الرابع : ما رواه عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية .
{ وتقسطوا إليهم } فيه وجهان :
أحدهما : يعني وتعدلوا فيهم ، قاله ابن حبان فلا تغلوا في مقاربتهم ، ولا تسرفوا في مباعدتهم .
الثاني : معناه أن تعطوهم قسطاً من أموالكم ، حكاه ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : أنه الإنفاق على من وجبت نفقته منهم ، ولا يكون اختلاف الدين مانعاً من استحقاقها .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

{ يأيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } لأنه يعلم بالامتحان ظاهر إيمانهن والله يعلم باطن إيمانهن ، ليكون الحكم عليهن معتبراً بالظاهر وإن كان معتبراً بالظاهر والباطن .
والسبب في نزوله هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشاً عام الحديبة فقالت قريش على أن ترد علينا من جاءك منا ، ونرد عليك من جاءنا منك ، فقال على أن أرد عليكم من جاءنا منكم ولاتردوا علينا من جاءكم منا ممن اختار الكفر على الإيمان ، فقعد الهدنة بينه وبينهم على هذا إلى أن جاءت منهم امرأة مسلمة وجاؤوا في طلبها ، واختلف فيها على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة ففرت منه وهو يومئذ كافر ، فتزوجها سهل بن حنيف فولدت له عبد الله ، قاله يزيد بن أبي حبيب .
الثاني : أنها سعيدة زوج صيفي بن الراهب مشرك من أهل مكة ، قاله مقاتل .
الثالث : أنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وهذا قول كثير من أهل العلم .
الرابع : أنها سبيعة بنت الحارث الأسلمية جاءت مسلمة بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الهدنة في الحديبية ، فجاء زوجها واسمه مسافر وهو من قومها في طلبها ، فقال يا محمد شرطت لنا رد النساء ، وطين الكتاب لم يجف ، وهذه امرأتي فارددها عليّ ، حكاه الكلبي .
فلما طلب المشركون رد من أسلم من النساء منع الله من ردهن بعد امتحان إيمانهن بقوله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً :
فقالت طائفة منهم قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظاً صريحاً ، فنسخ الله ردهن من العقد ومنع منه ، وأبقاه في الرجال على ما كان ، وهذا يدل على أن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهد برأيه في الأحكام ولكن لا يقره الله تعالى على خطأ .
وقالت طائفة من أهل العلم : لم يشترط ردهن في العقد لفظاً وإنما أطلق العقد في رد من أسلم ، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال ، فبين الله خروجهن عن العموم ، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين :
أحدهما : أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم .
الثاني : أنهن أرأف قلوباً وأسرع تقلباً منهم .
فأما المقيمة على شركها فمردودة عليهم ، وقد كانت من أرادت منهن إضرار زوجها قالت سأهاجر إلى محمد فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامتحانهن .
واختلف فيما كان يمتحنهن به على ثلاثة أقويل :
أحدها : ما رواه ابن عباس أنه كان يمتحنها بأن تحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا التماس دينا ولا عشقاً لرجل منا ، وما خرجت إلا حباً لله ولرسوله .

والثاني : بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، قاله عطية العوفي .
الثالث : بما بينه الله في السورة من قوله تعالى : { يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات } فهذا معنى قوله : { فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } يعني بما في قلوبهن بعد امتحانهن .
{ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنّ حل لهم ولا هم يحلون لهن } يعني أن المؤمنات محرمات على المشركين من عبدة الأوثان ، والمرتدات محرمات على المسلمين .
ثم قال تعالى : { وءاتوهم ما أنفقوا } يعني بما أنفقوا مهور من أسلم منهن إذا سأل ذلك أزواجهن ، وفي دفع ذلك إلى أهلهن من غير أزواجهن قولان :
ثم قال تعالى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن } يعني المؤمنات اللاتي أسلمن غير أزواج مشركين ، أباح الله نكاحهن للمسلمين إذا انقضت عدتهن أو كن غير مدخول بهن .
{ إذا ءاتيتموهن أجورهن } يعني مهورهن .
{ ولا تمسكوا بعصم الكوافر } فيه وجهان :
أحدهما : أن العصمة الجمال قاله ابن قتيبة .
الثاني : العقد ، قاله الكلبي .
فإذا أسلم الكافر عن وثنية لم يمسك بعصمتها ولم يقم نكاحها رغبة فيها أو في قومها ، فإن الله قد حرم نكاحها عليه والمقام عليها ما لم تسلم في عدتها .
فروى موسى بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه أنه قال : لما نزلت هذه الآية طلقت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وطلق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها بعده معاوية بن سفيان في الشرك ، وطلق أم كلثوم بنت أبي جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها بعده خالد ابن سعيد بن العاص في الإسلام .
{ واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا } يعني أن للمسلم إذا ارتدت زوجته إلى المشركين من ذوي العهد المذكور أن يرجع عليه بمهر زوجته كما ذكرنا وأن للمشرك أن يرجع بمهر زوجته إذا أسلمت فإن لم يكن بيننا وبينهم عهد شرط فيه الرد فلا يرجع .
ولا يجوز لمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأئمة أن يشرط في عقد الهدنة رد من أسلم لأن الرسول كان على وعد من الله بفتح بلادهم ودخولهم في الإسلام طوعاً وكرهاً فجاز له ما لم يجز لغيره .
{ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار } الآية . والمعنى أن من فاتته زوجته بارتدادها إلى أهل العهد المذكور ولم يصل إلى مهرها منهم ثم غنمهم المسلمون ردوا عليه مهرها .
وفي المال الذي يرد منه هذا المهر ثلاثة أقاويل :
أحدها : من أموال غنائمهم لاستحقاقها عليهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : من مال الفيء ، قاله الزهري .
الثالث : من صداق من أسلمن منهن عن زوج كافر ، وهو مروي عن الزهري أيضاً . وفي قوله تعالى : { فعاقبتم } ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه غنمتم لأخذه من معاقبة الغزو ، قاله مجاهد والضحاك .
الثاني : معناه فأصبتم من عاقبة من قتل أو سبي ، قاله سفيان .
الثالث : عاقبتم المرتدة بالقتل فلزوجها مهرهامن غنائم المسلمين ، قاله ابن بحر .
وهذا منسوخ لنسخ الشرط الذي شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالحديبية ، وقال عطاء بل حكمها ثابت .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

{ يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح وبايعة الرجال جاءت النساء بعدهم للبيعة فبايعهن .
واختلف في بيعته لهن على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه جلس على الصفا [ ومعه عمر أسفل منه ] فأمره أن يبايع النساء ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه أمر أميمة أخت خديجة خالة فاطمة بنت رسول الله بعد أن بايعته ، أن تبايع النساء عنه ، قاله محمد بن المنكدر عن أميمة .
الثالث : أنه بايعهن بنفسه وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه ، قاله عامر الشعبي .
وقيل بل وضع قعباً فيه ماء وغمس فيه يده وأمرهن فغمسن أيديهن ، فكانت هذه بيعة النساء .
فإن قيل فما معنى بيعتهن ولسن من أهل الجهاد فتؤخذ عليهن البيعة كالرجال؟
قيل : كانت بيعته لهن تعريفاً لهن بما عليهن من حقوق الله تعالى وحقوق أزواجهن لأنهن دخلن في الشرع ولم يعرفن حكمه فبينه لهن ، وكان أول ما أخذه عليهن أن لا يشركن بالله شيئاً توحيداً له ومنعاً لعبادة غيره .
{ ولا يسرقن } فروى أن هند بنت عتبة كانت متنكرة عند أخذ البيعة على النساء خيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صنعته بحمزة وأكلها كبده ، فقالت حين سمعته في أخذ البيعة عليهن يقول : { لا يسرقن } والله إني لا أصيب من أبي سفيان إلا قوتنا ما أدري أيحل لي أم لا ، فقال أبو سفيان : ما أصبت مما مضى أو قد بقي فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال : « أنت هند »؟ فقالت عفا اللَّه عما سلف .
ثم قال : { ولا يزنين } فقالت هند يا رسول الله أو تزني الحرة؟
ثم قال : { ولا يقتلن أولادهن } لأن العرب كانت تئد البنات ، فقالت هند : أنت قتلتهم يوم بدر ، وأنت وهم أبصر .
وروى مقاتل أنها قالت : ربيناهم صغاراً وقتلتوهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى .
{ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه السحر ، قاله ابن بحر .
الثاني : المشي بالنميمة والسعي في الفساد .
والثالث : وهو قول الجمهور ألا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن لأن الزوجة كانت تلتقط ولداً وتلحقه بزوجها ولداً ، ومعنى { يفترينه بين أيديهن } ما أخذته لقيطاً ، { وأرجلهن } ما ولدته من زنى ، وروي أن هنداً لما سمعت ذلك قالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ، وما تأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق .
ثم قال : { ولا يعصينك في معروف } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن المعروف ها هنا الطاعة لله ولرسوله ، قاله ميمون بن مهران .
الثاني : ما رواه شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعصينك في معروف قال : هو النوح .
الثالث : أن من المعروف ألا تخمش وجهها ولا تنشر شعرها ولا تشق جيباً ولا تدعو ويلاً ، قاله أسيد بن أبي أسيد .
الرابع : أنه عام في كل معروف أمر الله ورسوله به ، قاله الكلبي .
فروي أن هنداً قالت عند ذلك : ما جلسنا في مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعطيك من شيء وهذا دليل على أن طاعة الولاة إنما تلزم في المعروف المباح دون المنكر المحظور .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)

{ يأيها الذين ءامنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود ، قاله مقاتل .
الثاني : أنهم اليهود والنصارى ، قاله ابن مسعود .
الثالث : جميع الكفار ، قاله مجاهد .
{ قد يئسوا من الأخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار مِنْ بعث مَنْ في القبور ، قاله ابن عباس .
الثاني : قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس أصحاب القبور بعد المعاينة من ثواب الآخرة لأنهم تيقنوا العذاب ، قاله مجاهد .
الثالث : قد يئسوا من البعث والرجعة كما يئس منها من مات منهم وقبر .
الرابع : يئسوا أن يكون لهم في الآخرة خير كما يئسوا أن ينالهم من أصحاب القبور خير .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)

قوله تعالى : { يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في قوم قالوا : لو عملنا أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليه ، فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا عنه ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : أنها نزلت في قوم كان يقول الرجال منهم : قاتلت ولم يقاتل ، وطعنت ، ولم يطعن ، وضربت ، ولم يضرب وصبرت ، ولم يصبر ، وهذا مروي عن عكرمة .
الثالث : أنها نزلت في المنافقين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا .
وهذه الآية وإن كان ظاهرها الإنكار لمن قال ما لا يفعل فالمراد بها الإنكار لمن لم يفعل ما قال ، لأن المقصود بها القيام بحقوق الالتيام دون إسقاطه .
{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً } مصطفين صفوفاً كالصلاة ، لأنهم إذا اصطفوا مثلاً صفين كان أثبت لهم وأمنع من عدوهم . قال سعيد بن جبير :
هذا تعليم من الله للمؤمنين .
{ كأنهم بنيان مرصوص } فيه وجهان :
أحدهما : أن المرصوص الملتصق بعضه إلى بعض لا ترى فيه كوة ولا ثقباً لأن ذلك أحكم في البناء من تفرقه وكذلك الصفوف ، قاله ابن جبير ، قال الشاعر :
وأشجر مرصوص بطين وجندل ... له شرفات فوقهن نصائب
والثاني : أن المرصوص المبني بالرصاص ، قاله الفراء ، ومنه قول الراجز :
ما لقي البيض من الحرقوص ... يفتح باب المغلق المرصوص

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

{ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وفي الزيغ وجهان :
أحدهما : أنه العدول ، قاله السدي .
الثاني : أنه الميل ، إلا أنه لا يستعمل إلا في الزيغ عن الحق دون الباطل .
ويحتمل تأويله وجهين :
أحدهما : فلما زاغوا عن الطاعة أزاغ الله قلوبهم عن الهداية .
الثاني : فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ قلوبهم عن الكلام .
وفي المعِنيّ بهذا الكلام ثلاثة أقاويل :
أحدها : المنافقون .
الثاني : الخوارج ، قاله مصعب بن سعيد عن أبيه .
الثالث : أنه عام .
{ ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } وهذه البشرى من عيسى تتضمن أمرين :
أحدهما : تبليغ ذلك إلى قومه ليؤمنوا به عند مجيئه ، وذلك لا يكون منه بعد إعلام الله له بذلك إلا عن أمر بتبليغ ذلك إلى أمته .
الثاني : ليكون ذلك من معجزات عيسى عند ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يجوز أن يقتصر عيسى فيه على إعلام الله له بذلك دون أمره بالبلاغ .
وفي تسمية الله له بأحمد وجهان :
أحدهما : لأنه من أسمائه فكان يسمى أحمد ومحمداً قال حسان :
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
الثاني : أنه مشتق من اسمه محمود ، فصار الاشتقاق اسماً ، كما قال حسان :
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار ، واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبادة الأصنام ، واسمي في الإنجيل أحمد ، واسمي في القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض . »

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

{ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الكفار والمنافقون ، قاله ابن جريج .
الثاني : أنه النضر وهو من بني عبد الدار قال إذا كان يوم القيامة شفعت لي العزى واللات ، فأنزل الله هذه الآية ، قاله عكرمة .
{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم } الآية . والإطفاء هو الإخماد ، ويستعملان في النار ، ويستعاران فيما يجري مجراها من الضياء والنور .
والفرق بين الإطفاء والإخماد من وجه وهو أن الإطفاء يستعمل في القليل والكثير ، والإخماد يستعمل في الكثير دون القليل ، فيقال أطفأت السراج ولا يقال أخمدت السراج .
وفي { نور الله } ها هنا خمسة أقاويل :
أحدها : القرآن ، يريدون إبطاله بالقول ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه الإسلام ، يريدون دفعه بالكلام ، قاله السدي .
الثالث : أنه محمد صلى الله عليه وسلم يريدون هلاكه بالأراجيف ، قاله الضحاك .
الرابع : أنه حجج الله ودلائله ، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذبيهم ، قاله ابن بحر .
الخامس : أنه مثل مضروب ، أي من أرد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً فكذلك من أراد إبطال الحق ، حكاه ابن عيسى .
وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً ، فقال كعب بن الأشرف :
يا معشر اليهود ابشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان الله ليتم أمره ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، ثم اتصل الوحي بعدها .
{ ليظهره على الدين كله } الآية . وفي الإظهار ثلاثة أقاويل :
أحدها : الغلبة على أهل الأديان .
الثاني : العلو على الأديان .
الثالث : العلم بالأديان من قولهم قد ظهرت على سره أي علمت به .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

{ وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب } وهذا من الله لزيادة الترغيب ، لأنه لما وعدهم بالجنة على طاعته وطاعة رسوله علم أن منهم من يريد عاجل النصر لقاء رغبة في الدنيا ولقاء تأييد الدين فوعدهم بما يقوي به الرغبة فقال : { وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب } يعني فتح البلاد عليه وعليهم ، وقد أنجز الله وعده في كلا الأمرين من النصر والفتح .
وفي قوله : { قريب } وجهان :
أحدهما : أنه راجع إلى ما يحبونه أنه نصر من الله وفتح قريب .
الثاني : أنه إخبار من الله بأن ما يحبونه من ذلك سيكون قريباً ، فكان كما أخبر لأنه عجل لهم الفتح والنصر .

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

{ يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم }
{ هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } .
{ بعث في الأميين رسولاً منهم } يعني في العرب ، وفي تسميتهم أميين قولان : أحدهما : لأنه لم ينزل عليهم كتاب ، قاله ابن زيد .
الثاني : لأنهم لم يكونوا يكتبون ولا كان فيهم كاتب ، قاله قتادة .
ثم فيهم قولان :
أحدهما : أنهم قريش خاصة لأنها لم تكن تكتب حتى تعلم بعضها في آخر الجاهلية من أهل الحيرة .
الثاني : أنهم جميع العرب لأنه لم يكن لهم كتاب ولا كتب منهم إلا قليل ، قاله المفضل .
فلو قيل : فما وجه الامتنان بأن بعث نبياً أمياً؟
فالجواب عنه ثلاثة أوجه :
احدها : لموافقته ما تقدمت بشارة الأنبياء به .
الثاني : لمشاكلة حاله لأحوالهم ، فيكون أقرب إلى موافقتهم .
الثالث : لينتفي عنه سوء الظن في تعلمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها .
{ يتلوا عليهم ءاياته } يعني القرآن .
{ ويزكيهم } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : يطهرهم من الكفر والذنوب ، قاله ابن جريج ومقاتل .
الثالث : يأخذ زكاة أعمالهم ، قاله السدي .
{ ويعلمهم الكتاب } فيه ثلاثة تلأويلات :
أحدها : أنه القرآن ، قاله الحسن .
الثاني : أنه الخط بالقلم ، قاله ابن عباس ، لأن الخط إنما فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط .
الثالث : معرفة الخير والشر كما يعرفونه بالكتاب ليفعلوا الخير ويكفوا عن الشر ، وهذا معنى قول محمد بن إسحق .
{ والحكمة } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن الحكمة السنة ، قاله الحسن .
الثاني : أنه الفقه في الدين ، وهو قول مالك بن أنس .
الثالث : أنه الفهم والاتعاظ ، قاله الأعمش .
{ وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم } أي ويعلم آخرين ويزكيهم ، وفيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم المسلمون بعد الصحابة ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنهم العجم بعد العرب ، قاله الضحاك وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رأيت في منامي غنماً سوداً تتبعها غنم عفر » فقال أبو بكر : يا رسول الله تلك العرب يتبعها العجم ، فقال : « كذلك عبرها لي الملك » .
الثالث : أنهم الملوك أبناء الأعاجم ، قاله مجاهد .
الرابع : أنهم الأطفال بعد الرجال . ويحتمل خامساً : أنهم النساء بعد الرجال .
{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها النبوة التي خص الله بها رسوله هي فضل الله يؤتيه من يشاء ، قاله مقاتل .
الثاني : الإسلام الذي آتاه الله من شاء من عباده ، قاله الكلبي .
الثالث : ما روي أنه قيل يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور ، فأمر ذوي الفاقة بالتسبيح والتحميد والتكبير بدلاً من التصدق بالأموال ، ففعل الأغنياء مثل ذلك ، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهَ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ » قاله أبو صالح .
ويحتمل خامساً : أنه انقياد الناس إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته .

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

{ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم } يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : معناه تفرون من الداء بالدواء فإنه ملاقيكم بانقضاء الأجل .
الثاني : تفرون من الجهاد بالقعود فإنه ملاقيكم بالوعيد .
الثالث : تفرون منه بالطيرة من ذكره حذراً من حلوله فإنه ملاقيكم بالكره والرضا .
الرابع : إنه الموت الذي تفرون أن تتمنوه حين قال تعالى : { فتمنوا الموت } .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)

{ يا أيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } في السعي إليها أربعة أقاويل :
أحدها : النية بالقلوب ، قاله الحسن .
الثاني : أنه العمل لها ، كما قال تعالى : { إن سعيكم لشتى } قاله ابن زيد .
الثالث : أنه إجابة الداعي ، قاله السدي .
الرابع : المشي على القدم من غير إسراع ، وذكر أن عمر وابن مسعود كانا يقرآن { فامضوا إلى ذكر الله } .
وفي ذكر الله ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها موعظة الإمام في الخطبة ، قاله سعيد بن المسيب .
الثاني : أنها الوقت ، حكاه السدي .
الثالث : أنه الصلاة ، وهو قول الجمهور .
وكان اسم يوم الجمعة في الجاهلية العروبة ، لأن أسماء الأيام في الجاهلية كانت غير هذه الأسماء ، فكانوا يسمون يوم الأحد أوّل ، والأثنين أهون ، والثلاثاء جبار ، والأربعاء دبار ، والخميس مؤنس ، والجمعة عروبة ، والسبت شيار ، وأنشدني بعض أهل الأدب :
أؤمل أن أعيش وإن يومي ... بأوّل أو أهون أو جبار
أو التالي دبار أو فيومي ... يمؤنس أو عروبة أو شيار
وأول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي بن غالب لاجتماع قريش فيه إلى كعب ، وقيل بل سمي في الإسلام لاجتماع الناس فيه للصلاة .
{ وذروا البيع } منع الله منه عند صلاة الجمعة وحرمه في وقتها على ما كان مخاطباً بفرضها . وفي وقت التحريم قولان :
أحدهما : أنه بعد الزوال [ إلى ما ] بعد الفراغ منها ، قاله الضحاك .
الثاني : من وقت أذان الخطبة إلى الفراغ من الصلاة ، قاله الشافعي رحمه الله فأما الأذان الأول فمحدث ، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس به لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها ، وقد كان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم ، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد ، فجعله [ عثمان ] آذانين في المسجد ، وليس يحرم البيع بعده وقبل الخطبة ، فإن عقد في هذا الوقت المحرم بيع لم يبطل البيع وإن كان قد عصى الله ، لأن النهي مختص بسبب يعود إلى العاقدين دون العقد ، وأبطله ابن حنبل تمسكاً بظاهر النهي .
{ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } يعني أن الصلاة خير لكم من البيع والشراء لأن الصلاة تفوت بخروج وقتها ، والبيع لا يفوت .
{ فإذا قضيت الصلاة } يعني أُدّيتْ .
{ فانتشروا في الأرض } حكي عن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فرضيتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين .
{ وابتغوا من فضل الله } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : الرزق من البيع والشراء ، قاله مقاتل والضحاك .
الثاني : العمل في يوم السبت ، قاله جعفر بن محمد .
الثالث : ما رواه أبو خلف عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، قال : ليس بطلب الدنيا لكن من عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله . »

وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

{ وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفَضُّوا إليها وتركوك قائماً } روى سالم عن جابر قال : أقبلت عير ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في الخطبة فانفتل الناس إليها وما بقي غير اثني عشر رجلاً ، فنزلت هذه الآية .
وذكر الكلبي أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر ، وكان معه جميع ما يحتاج إليه من بُر ودقيق وغيره فنزل عند أحدار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه ، وكانوا في خطبة الجمعة ، فانفضوا إليها ، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال ، فقال تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها }
والتجارة من أموال التجارات .
وفي اللهو ها هنا أربعة أوجه :
أحدها : يعني لعباً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الطبل ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه المزمار ، قاله جابر .
الرابع : الغناء .
{ وتركوك قائماً } يعني في خطبته ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « والذي نفسي بيده لو ابتدرتموها حتى لا يبقى معي أحد لسال الوادي بكم ناراً ، » وإنما قال تعالى :
{ انفضوا إليها } ولم يقل إليهما ، لأن غالب انفضاضهم كان للتجارة دون اللهو . وقال الأخفش : في الكلام تقدير وتأخير ، وتقديره وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً ، وكذلك قرأ ابن مسعود .
وفي { انفضوا } وجهان :
أحدهما : ذهبوا .
الثاني : تفرقوا .
فمن جعل معناه ذهبوا أراد التجارة ، ومن جعل معناه تفرقوا أراد عن الخطبة وهذا أفصح الوجهين ، قاله قطرب ، ومنه قول الشاعر :
انفض جمعهم عن كل نائرة ... تبقى وتدنس عرض الواجم الشبم
{ قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما عند الله من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم وفائدة تجارتكم .
الثاني : ما عند الله من رزقكم الذي قسمت لكم خير مما أصبتموه انفضاضكم من لهوكم وتجارتكم .
{ والله خير الرازقين } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الله سبحانه خير من رَزَق وأعطى .
الثاني : ورزق الله خير الأرزاق .

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

قوله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } سئل حذيفة ابن اليمان عن المنافق فقال : الذي يصف الإسلام ولا يعمل به ، وهم اليوم شر منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم كانوا يكتمونه وهم اليوم يظهرونه .
{ قالوا نشهد إنك لرسول الله } يعني نحلف ، فعبر عن الحلف بالشهادة لأن كل واحد من الحلف والشهادة إثبات لأمر مغيب ، ومنه قول قيس بن ذريح :
وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا
ويحتمل ثانياً : أن يكون ذلك محمولاً على ظاهره أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله اعترافاً بالإيمان ونفياً للنفاق عن أنفسهم ، وهو الأشبه .
وسبب نزول هذه الأية ما روى أسباط عن السدي أن عبد الله بن أبي بن سلول كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة وفيها أعراب يتبعون الناس ، وكان ابن أبي يصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم طعاماً ، فاستقى أعرابي ماء في حوض عمله من أحجار ، فجاء رجل من أصحاب ابن ابي بناقة ليسقيها من ذلك الماء فمنعه الأعرابي واقتتلا فشجه الاعرابي ، فأتى الرجل إلى عبد الله [ بن أبي ] ودمه يسيل على وجهه ، فحزنه ، فنافق عبد الله وقال : ما لهم رد الله أمرهم إلى تبال ، وقال لأصحابه : لا تأتوا محمداً بالطعام حتى يتفرق عنه الأعراب ، فسمع ذلك زيد بن أرقم وكان حدثاً ، فأخبر عمه ، فأتى عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه ، فبعث إلى ابن أبيّ وكان من أوسم الناس وأحسنهم منطقاً ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف : والذي بعثك بالحق ما قلت من هذا شيئاً ، فصدقه فأنزل الله هذه الآية .
{ والله يعلم إنك لرسوله } أي إن نافق من نافقك من علم الله بأنك رسوله فلا يضرك .
ثم قال : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } يحتمل وجهين :
أحدهما : والله يقسم إن المنافقين لكاذبون في أيمانهم .
الثاني : معناه والله يعلم أن المنافقين لكاذبون فيها .
{ اتخذوا أيمانهم جنة } والجنة : الغطاء المانع من الأذى ، ومنه قول الأعشى ميمون .
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة ... من المال سار الذم كل مسير
وفيه وجهان :
أحدهما : من السبي والقتل ليعصموا بها دماءهم وأموالهم ، قاله قتادة .
الثاني : من الموت ألاَّ يُصلَّى عليهم ، فيظهر على جميع المسلمين نفاقهم ، وهذا معنى قول السدي .
ويحتمل ثالثاً : جنة تدفع عنهم فضيحة النفاق .
{ فصدوا عن سبيل الله } فيه وجهان :
أحدهما : عن الإسلام بتنفير المسلمين عنه .
الثاني : عن الجهاد بتثبيطهم المسلمين وإرجافهم به وتميزهم عنهم ، قال عمر بن الخطاب : ما أخاف عليكم رجلين : مؤمناً قد استبان إيمانه وكافر قد استبان كفره ، ولكن أخاف عليكم منافقاً يتعوذ بالإيمان ويعمل بغيره .

{ وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } يعني حسن منظرهم وتمام خلقهم .
{ وإن يقولوا تسمع لقولهم } يعني لحسن منطقهم وفصاحة كلامهم .
ويحتمل ثانياً : لإظهار الإسلام وذكر موافقتهم .
{ كأنهم خشب مسندة } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه شبههم بالنخل القيام لحسن منظرهم .
الثاني : [ شبههم ] بالخشب النخرة لسوء مخبرهم .
الثالث : أنه شبههم بالخشب المسندة لأنهم لا يسمعون الهدى ولا يقبلونه ، كما لا تسمعه الخشب المسندة ، قاله الكلبي ، وقوله : { مسندة } لأنهم يستندون إلى الإيمان لحقن دمائهم .
{ يحسبون كل صيحة عليهم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم لِوَجَلهم وخبثهم يحسبون كل صيحة يسمعونها - حتى لو دعا رجل صاحبه أو صاح بناقته - أن العدو قد اصطلم وأن القتل قد حَلَّ بهم ، قاله السدي .
الثاني : { يحسبون كل صيحة عليهم } كلام ضميره فيه ولا يفتقر إلى ما بعده ، وتقديره : يحسبون كل صيحة عليهم أنهم قد فطن بهم وعلم فقال : { هم العدو فاحذرهم } وهذا معنى قول الضحاك .
الثالث : يحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أنها عليهم ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر فيها بقتلهم ، فهم أبداً وجلون ثم وصفهم الله بأن قال : { هم العدو فاحذرهم } حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
وفي قوله : { فاحذرهم } وجهان :
أحدهما : فاحذر أن تثق بقولهم وتميل إلى كلامهم .
الثاني : فاحذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك .
{ قاتلهم الله } فيه وجهان :
أحدهما : معناه لعنهم الله ، قاله ابن عباس وأبو مالك .
والثاني : أي أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر ، لأن الله تعالى قاهر لكل معاند ، حكاه ابن عيسى .
وفي قوله : { أني يؤفكون } أربعة أوجه :
أحدها : معناه يكذبون ، قاله ابن عباس .
الثاني : معناه يعدلون عن الحق ، قاله قتادة .
الثالث : معناه يصرفون عن الرشد ، قاله الحسن .
الرابع : معناه كيف يضل عقولهم عن هذا ، قاله السدي .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)

{ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله } الآية .
روى سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً لم يرتحل منه حتى يصلي فيه ، فلما كانت غزوة تبوك بلغة أن ابن أُبَيّ قال : لئن رجعنا إلى المدينة لِيُخرجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ ، فارتحل قبل أن ينزل آخرُ الناس ، وقيل لعبد الله بن أُبيّ : ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك ، فلوى رأسه ، وهذا معنى قوله : { لوَّوْا رؤوسَهم } إشارة إليه وإلى أصحابه ، أي حركوها ، وأعرضوا يمنة ويسرة إلى غير جهة المخاطب ينظرون شزراً .
ويحتمل قولاً ثانيا : أن معنى قوله { يستغفر لكم رسول الله } يستتيبكم من النفاق لأن التوبة استغفار .
وفيما فعله عبد الله بن أبيّ حين لوى رأسه وجهان :
أحدهما : أنه فعل ذلك استهزاء وامتناعاً من فعل ما دعي إليه من إتيان الرسول للاستغار له ، قاله قتادة .
الثاني : أنه لوى رأسه بمعنى ماذا قلت ، قاله مجاهد .
{ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يمتنعون ، قال الشاعر :
صدَدْتِ الكاسَ عنا أُمَّ عمرو ... وكان الكأسُ مجراها اليمينا
الثاني : يعرضون ، قال الأعشى :
صَدَّقَ هُرَيْرةُ عنّا ما تُكَلِّمنا ... جَهْلاً بأُمّ خُلَيْدٍ حبل من تصل
وفيما يصدون عنه وجهان :
أحدهما : عما دُعوا إليه من استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثاني : عن الإخلاص للإيمان .
{ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : متكبرون .
الثاني : ممتنعون .
{ هم الذين يقولون لا تُنفِقوا على مَنْ عِندَ رسولِ الله } الآية يعني عبد الله بن أُبيّ وأصحابه ، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد انكفائه من غزاة بني المصطلق في شعبان سنة ست نزل على ماء المريسيع ، فتنازع عليه جهجاه ، وكان مسلماً وهو رجل من غفار ، ورجل يقال له سنان ، وكان من أصحاب عبد الله بن أُبي ، فلطمه جهجاه ، فغضب له عبد الله بن أُبيّ وقال : يا معاشر الأوس والخزرج ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، أوطأنا هذا الرجلَ ديارنا وقاسمْناهم أموالَنا ولولانا لانفضوا عنه ، ما لهم ، رد الله أمرهم إلى جهجاه ، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل ، فسمعه زيد بن أرقم وكان غلاماً ، فأعاده على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر له قومه ، فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها .
{ ولله خزائن السموات والأرض } فيه وجهان :
أحدهما : خزائن السموات : المطر ، وخزائن الأرضين : النبات .
الثاني : خزائن السموات : ما قضاه ، وخزائن الأرضين : ما أعطاه .
وفيه لأصحاب الخواطر ( ثالث ) : أن خزائن السموات : الغيوب ، وخزائن الأرض القلوب .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

{ يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه عنى بذكر الله [ الصلاة ] المكتوبة ، قاله عطاء .
الثاني : أنه أراد فرائض الله التي فرضها من صلاة وغيرها ، قاله الضحاك .
الثالث : أنه طاعة اللَّه في الجهاد ، قاله الكلبي .
الرابع : أنه أراد الخوف من اللَّه عند ذكره .
{ وَأَنفِقُوا مما رَزَقْناكُم } فيه وجهان :
أحدهما : أنها الزكاة المفروضة من المال ، قاله الضحاك .
الثاني : أنها صدقة التطوع ورفد المحتاج ومعونة المضطر .
{ ولَن يُؤخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إذا جاءَ أَجَلُها } يحتمل وجهين :
أحدهما : لن يؤخرها عن الموت بعد انقضاء الأجل ، وهو أظهرهما .
الثاني : لن يؤخرها بعد الموت وإنما يعجل لها في القبر .

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)

قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فْمِنكُمْ كَافِرٌ } بأنه خلقه { وَمِنْكُم مُّؤمنٌ } بأنه خلقه ، قاله الزجاج .
الثاني : فمنكم كافر به وإن أقرّ به ، ومنكم مؤمن به .
قال الحسن : وفي الكلام محذوف وتقديره : فمنكم كافر ومنكم مؤمن ومنكم فاسق ، فحذفه لما في الكلام من الدليل عليه .
وقال غيره : لا حذف فيه لأن المقصود به ذكر الطرفين .
{ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون بالقول .
الثاني : بإحكام الصنعة وصحة التقدير .
وذكر الكلبي ثالثاً : أن معناه خلق السموات والأرض للحق .
{ وَصَوَّرَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني آدم خلقه بيده كرامة له ، قاله مقاتل .
الثاني : جميع الخلق لأنهم مخلوقون بأمره وقضائه .
{ فأحْسَنَ صُوَرَكم } أي فأحكمها .

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)

{ . . . . فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدونَنا } يعني أن الكفار قالوا ذلك استصغاراً للبشر أن يكونوا رسلاً من اللَّه إلى أمثالهم ، والبشر والإنسان واحد في المعنى ، وإنما يختلفان في اشتقاق الاسم ، فالبشر مأخوذ من ظهور البشرة ، وفي الإنسان وجهان :
أحدهما : مأخوذ من الإنس .
والثاني : من النسيان .
{ فَكَفَروا } يعني بالرسل { وَتَوَلَّوْا } يعني عن البرهان .
{ واستغنى اللَّه } فيه وجهان :
أحدهما : بسلطانه عن طاعة عباده ، قاله مقاتل .
الثاني : واستغنى اللَّه بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان من زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية .
{ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } في قوله { غَنِيٌّ } وجهان :
أحدهما : غني عن صدقاتكم ، قاله البراء بن عازب .
الثاني : عن عملكم ، قاله مقاتل .
وفي { حميد } وجهان :
أحدهما : يعني مستحمداً إلى خلقه بما ينعم به عليهم ، وهو معنى قول عليّ .
الثاني : إنه مستحق لحمدهم .
وحكي عن ابن عباس فيه ثالث : معناه يحب من عباده أن يحمدوه .

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)

{ زَعَمَ الذين كَفَروا } قال شريح زعموا كُنْيةُ الكذب .
{ يومَ يَجْمَعُكم ليومِ الجمْعِ } يعني يوم القيامة ، ومن تسميته بذلك وجهان :
أحدهما : لأنه يجمع فيه بين كل نبي وأمته .
الثاني : لأنه يجمع فيه بين الظالمين والمظلومين .
ويحتمل ثالثاً : لأنه يجمع فيه بين ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي .
{ ذلك يومُ التغابُنِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه من أسماء يوم القيامة ، ومنه قول الشاعر :
وما أَرْتجي بالعيش من دارِ فُرْقةٍ ... ألا إنما الراحاتُ يوم التغابنِ
الثاني : لأنه غبن فيه أهل الجنة أهل النار ، قال الشاعر :
لعمرك ما شيءٌ يفوتُك نيلُه ... بغبْنٍ ولكنْ في العقول التغابنُ
الثالث : لأنه يوم غَبَنَ فيه المظلومُ الظالمَ ، لأن المظلوم كان في الدنيا مغبوناً فصار في الآخرة غابناً .
ويحتمل رابعاً : لأنه اليوم الذي أخفاه اللّهُ عن خَلْقه ، والغبن الإخفاء ومنه الغبن في البيع لاستخفائه ، ولذلك قيل مَغابِن الجسد لما خفي منه .

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)

{ ما أصابَ مِنْ مُّصيبةٍ } من نفس أو مالٍ أو قول أو فعل يقتضي همّاً أو يوجب عقاباً عاجلاً أو آجلاً .
{ إلا بإذْنِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : إلا بأمر اللَّه .
الثاني : إلا بحكم اللَّه تسليماً لأمره وانقياداً لحكمه .
{ ومَن يُؤْمِن باللَّه يَهْدِ قلبَهُ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه يهدي قلبه اللَّه تعالى .
الثاني : أنه يعلم أنه من عند اللَّه ويرضى ويسلّم ، قاله بشر .
الثالث : أن يسترجع فيقول : إنّا للَّه وإنا إليه راجعون .
الرابع : هو إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظُلم غفر ، قاله الكلبي .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

{ يا أيها الذين آمنوا إنّ مِنْ أزْواجِكم وأَوْلادِكم عَدوّاً لكم }
فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه أراد قوماً أسلموا بمكة فأرادوا الهجرة فمنعهم أزواجهم وأولادهم منها وثبطوهم عنها ، فنزل ذلك فيهم؛ قاله ابن عباس .
الثاني : من أزواجكم وأولادكم من لا يأمر بطاعة اللَّه ولا ينهى عن معصيته ، قاله قتادة . الثالث : أن منهم من يأمر بقطيعة الرحم ومعصية الرب ، ولا يستطيع مع حبه ألاّ يطيعه ، وهذا من العداوة؛ قاله مجاهد .
وقال مقاتل بن سليمان : نبئت أن عيسى عليه السلام قال : من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً .
الرابع : أن منهم من هو مخالف للدين ، فصار بمخالفة الدين عدواً ، قاله ابن زيد .
الخامس : أن من حملك منهم على طلب الدنيا والاستكثار منها كان عدواً لك ، قاله سهل .
وفي قوله { فاحذروهم } وجهان :
أحدهما : فاحذروهم على دينكم؛ قاله ابن زيد .
الثاني : على أنفسكم ، وهو محتمل .
{ وإن تعْفُوا وتَصْفَحُوا وتَغْفِرُوا } الآية . يريد بالعفو عن الظالم ، وبالصفح عن الجاهل ، وبالغفران للمسيء .
{ فإنّ اللَّه غفورٌ } للذنب { رحيم } بالعباد ، وذلك أن من أسلم بمكة ومنعه أهله من الهجرة فهاجر ولم يمتنع قال :
لئن رجعت لأفعلنّ بأهلي ولأفعلنّ ، ومنهم من قال : لا ينالون مني خيراً أبداً ، فلما كان عام الفتح أُمِروا بالعفو والصفح عن أهاليهم ، ونزلت هذه الآية فيهم . { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } فيه وجهان :
أحدهما : بلاء ، قاله قتادة .
الثاني : محنة ، ومنه قول الشاعر :
لقد فتن الناس في دينهم ... وخلّىّ ابنُ عفان شرّاً طويلاً
وفي سبب افتتانه بهما وجهان :
أحدهما : لأنه يلهو بهما عن آخرته ويتوفر لأجلهما على دنياه .
الثاني : لأنه يشح لأجل أولاده فيمنع حق اللَّه من ماله ، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الولد مبخلة محزنة مجبنة » .
{ والله عنده أجْرٌ عظيمٌ } قال أبو هريرة والحسن وقتادة وابن جبير : هي الجنة .
ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يكون أجرهم في الآخرة أعظم من منفعتهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا ، فلذلك كان أجره عظيماً .
{ فاتّقوا الله ما اسْتطعتم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني جهدكم ، قاله أبو العالية .
الثاني : أن يطاع فلا يعصى ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه مستعمل فيما يرجونه به من نافلة أو صدقة ، فإنه لما نزل قوله تعالى : { اتّقوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } اشتد على القوم فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تعالى ذلك تخفيفاً { فاتقوا الله ما استطعتم } فنسخت الأولى ، قاله ابن جبير .
ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكْرَه على المعصية غير مؤاخذ بها لأنه لا يستطيع اتقاءها .

{ واسْمَعوا } قال مقاتل : كتاب الله إذا نزل عليكم .
{ وأطيعوا } الرسول فيما أمركم أو نهاكم ، قال قتادة : عليها بويع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة .
{ وأنفِقوا خيْراً لأنفُسِكم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : هي نفقة المؤمن لنفسه ، قاله الحسن .
الثاني : في الجهاد ، قاله الضحاك .
الثالث : الصدقة ، قاله ابن عباس .
{ ومَن يُوقَ شُحَّ نفسِهِ فأولئك هم المفلِحونَ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : هوى نفسه ، قاله ابن أبي طلحة .
الثاني : الظلم ، قاله ابن عيينة .
الثالث : هو منع الزكاة ، قال ابن عباس : من أعطى زكاة ماله فقد وقاه الله شح نفسه .
{ إن تُقْرِضوا اللَّهَ قرْضاً حَسَناً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : النفقة في سبيل اللَّه ، قاله عمر رضي اللَّه عنه .
الثاني : النفقة على الأهل ، قاله زيد بن أسلم .
الثالث : أنه قول سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر ، رواه ابن حبان .
وفي قوله { حَسَناً } وجهان محتملان :
أحدهما : أن تطيب بها النفس .
الثاني : أن لا يكون بها ممتناً .
{ يُضاعفْه لكم } فيه وجهان :
أحدهما : بالحسنة عشر أمثالها ، كما قال تعالى في التنزيل .
الثاني : إلى ما لا يحد من تفضله ، قاله السدي .
{ ويَغْفِرْ لكم } يعني ذنوبكم .
{ واللَّهُ شكورٌ حليمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يشكر لنا القليل من أعمالنا وحليم لنا في عدم تعجيل المؤاخذة بذنوبنا .
الثاني : شكور على الصدقة حين يضاعفها ، حليم في أن لا يعجل بالعقوبة من [ تحريف ] الزكاة عن موضعها ، قاله مقاتل .
{ عالِمُ الغَيْبِ والشهَادةِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : السر والعلانية .
الثاني : الدنيا والآخرة .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)

قوله تعالى { يا أيها النبي إذا طَلّقْتُمُ النّساءَ } الآية . هذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم [ فهو شامل لأمته فروى قتادة عن أنس قال : « طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها فأتت أهلها فأنزل الله تعالى عليه : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساءَ فطلِّقوهُنَّ لعدَّتهنَّ } وقيل له راجعها فإنها قوّأمة صوّامة ، وهي من أزواجك في الجنة » . ] { لعدتهن } يعني في طهر من غير جماع ، وهو طلاق السنة .
وفي اعتبار العدد في طلاق السنة قولان :
أحدهما : أنه معتبر وأن من السنة أن يطلق في كل قرء واحدة ، فإن طلقها ثلاثاً معاً في قرء كان طلاق بدعة ، وهذا قول أبي حنيفة ومالك رحمهما الله .
الثاني : أنه غير معتبر ، وأن السنة في زمان الطلاق لا في عدده ، فإن طلقها ثلاثاً في قرء كان غير بدعة ، قاله الشافعي رحمه الله ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ : فطلّقوهن لقُبُلِ عدّتهن . وإن طلقها حائضاً أو طهر جماع كان بدعة ، وهو واقع ، وزعم طائفة أنه غير واقع لخلاف المأذون فيه فأما طلاق الحامل وغير المدخول بها والصغيرة واليائسة والمختلعة فلا سنة فيه ولا بدعة .
ثم قال تعالى : { وأَحْصُوا العِدَّةَ } يعني في المدخول بها ، لأن غير المدخول بها لا عدة عليها وله أن يراجعها فيما دون الثلاث قبل انقضاء العدة ، ويكون بعدها كأحد الخطاب ، ولا تحل له في الثلاث إلا بعد زوج .
{ واتَّقوا اللَّهَ ربَّكم } يعني في نساءكم المطلقات .
{ لا تُخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } يعني في زمان عدّتهن ، لوجود السكنى لهن .
{ إلاَّ أنْ يأتِينَ بفاحشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الفاحشة يعني الزنا ، والإخراج هو إخراجها لإقامة الحد ، قاله ابن عمر والحسن ومجاهد .
والثاني : أنه البذاء على أحمائها ، وهذا قول عبد الله بن عباس والشافعي .
الثالث : كل معصية للَّه ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
الرابع : أن الفاحشة خروجهن ، ويكون تقدير الآية : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة بخروجهن من بيوتهن ، قاله السدي .
{ وتلك حُدودُ اللَّهِ } يعني وهذه حدود اللَّه ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني طاعة اللَّه ، قاله ابن عباس .
الثاني : سنَّة اللَّه وأمره ، قاله ابن جبير .
الثالث : شروط اللَّه ، قاله السدّي .
{ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدودَ اللَّهِ } فيه تأويلان :
أحدهما : من لم يرض بها ، قاله ابن عباس .
الثاني : من خالفها ، قاله ابن جبير .
{ فقدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } فيه وجهان :
أحدهما : فقد ظلم نفسه في عدم الرضا ، باكتساب المأثم .
الثاني : في وقوع الطلاق في غير الطهر للشهور لتطويل هذه العدة والإضرار بالزوجة .
{ لا تدري لعلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْد ذلك أَمْراً } يعني رجعة ، في قول جميع المفسرين إن طلق دون الثلاث .

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)

{ فإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } يعني قاربْن انقضاء عدتهن .
{ فأمْسِكُوهُنَّ بمعروفٍ } يعني بالإمساك الرجعة .
وفي قوله { بمعروف } وجهان :
أحدهما : بطاعة اللَّه في الشهادة ، قاله مقاتل .
الثاني : أن لا يقصد الإضرار بها في المراجعة تطويلاً لعدتها . { أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ } وهذا بأن لا يراجعها في العدة حتى تنقضي في منزلها .
{ وأشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم } يعني على الرجعة في العدة ، فإن راجع من غير شهادة ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء .
{ ومن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مَخْرَجاً } فيه سبعة أقاويل :
أحدها : أي ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن المخرج علمه بأنه من قبل اللَّه ، فإن اللَّه هو الذي يعطي ويمنع ، قاله مسروق .
الثالث : أن المخرج هو أن يقنعه اللَّه بما رزقه ، قاله عليّ بن صالح .
الرابع : مخرجاً من الباطل إلى الحق ، ومن الضيق إلى السعة ، قاله ابن جريج .
الخامس : ومن يتق اللَّه بالطلاق يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة ، قاله الضحاك .
والسادس : ومن يتق اللَّه بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة ، قاله الكلبي .
السابع : أن عوف بن مالك الأشجعي أُسِر ابنُه عوف ، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشكا إليه ذلك مع ضر أصابه ، فأمره أن يكثر من قول لا حول ولا قوة إلا باللَّه ، فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه ، ثم قدم عوف فوقف على أبيه يناديه وقد ملأ الأقبال إبلاً ، فلما رآه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره وسأله عن الإبل فقال : اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعاً بمالك ، فنزلت هذه الآية { وَمَن يتق الّلَّه يجعل له مخرجاً } الآية ، فروى الحسن عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من انقطع إلى اللَّه كفاه اللَّه كل مؤونة ورزقه اللَّه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله اللَّه إليها » .
{ إنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ } قال مسروق : إن اللَّه قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه ، إلا أنَّ مَنْ توكّل يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً .
{ قد جَعَل اللَّه لكل شيء قدْراً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : - يعني وقتاً وأجلاً ، قاله مسروق .
الثاني : منتهى وغاية ، قاله قطرب والأخفش .
الثالث : مقداراً واحداً ، فإن كان من أفعال العباد كان مقدراً بأوامر اللّه ، وإن كان من أفعال اللَّه ففيه وجهان :
أحدهما : بمشيئته .
الثاني : أنه مقدر بمصلحة عباده .

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

{ واللائي يَئِسْنَ مِن المحيْض مِن نِسائِكُمْ إن ارْتَبْتُمْ فعِدَّتُهُنَّ ثلاثةُ أَشْهُرٍ } في الريبة ها هنا قولان :
أحدهما : إن ارتبتم فيهن بالدم الذي يظهر منهن لكبرهن فلم تعرفوا أحيض هو أم استحاضة ، فعدتهن ثلاثة أشهر ، قاله مجاهد والزهري .
الثاني : إن ارتبتم بحكم عِددهن فلم تعلموا بماذا يعتددن ، فعدتهن ثلاثة أشهر .
روى عمر بن سالم عن أبيّ بن كعب قال : قلت : يا رسول اللَّه إنّ ناساً من أهل المدينة لما نزلت الآيات التي في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل ، فأنزل اللَّه : { اللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر } .
{ واللائي لم يَحِضْنَ } يعني كذلك عدتهن ثلاثة أشهر ، فجعل لكل قرء شهراً ، لأنها تجمع في الأغلب حيضاً وطهراً .
{ وأُولاتُ الأحْمالِ أَجلُهنَّ أَن يَضَعْنَ حَملَهُنَّ } فكانت عدة الحامل وضع حملها في الطلاق والوفاة .
{ ومَن يتّقِ اللَّهَ يَجْعَل له مِنْ أمْرِه يُسْراً } فيه وجهان :
أحدهما : من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسراً في الرجعة ، قاله الضحاك .
الثاني : من يتق اللَّه في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة ، وهذا معنى قول مقاتل .

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

{ أسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِن وُجْدِكم } يعني سكن الزوجة مستحق على زوجها مدة نكاحها وفي عدة طلاقها بائناً كان أو رجعياً .
وفي قوله : { من وجدكم } أربعة أوجه :
أحدهما : من قوتكم ، قاله الأعمش .
الثاني : من سعيكم ، قاله الأخفش .
الثالث : من طاقتكم ، قاله قطرب .
الرابع : مما تجدون ، قاله الفراء ، ومعانيها متقاربة . { ولا تُضارُّوهُنّ لِتُضَيِّقُوا عليهنّ } فيه قولان :
أحدهما : في المساكن ، قاله مجاهد .
الثاني : لتضيقوا عليهن في النفقة ، قاله مقاتل . مقاتل ، فعلى قول مجاهد أنه التضييق في المسكن فهو عام في حال الزوجية وفي كل عدة ، لأن السكنى للمعتدة واجبة في كل عدة في طلاق يملك فيه الرجعة أو لا يملك .
وفي وجوبه في عدة الوفاة قولان؛
وعلى قول مقاتل أنه التضييق في النفقة فهو خاص في الزوجة وفي المعتدة من طلاق رجعي .
وفي استحقاقها للمطلقة البائن قولان :
أحدهما : لا نفقة للبائن في العدة ، وهو مذهب مالك والشافعي رحمهما اللَّه . الثاني : لها النفقة ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللَّه .
{ وإن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فأنفِقوا عليهنّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وهذا في نفقة المطلقة الحامل لأنها واجبة لها مدة حملها في قول الجميع سواء كان طلاقاً بائناً أم رجعياً ، وإنما اختلفوا في وجوب النفقة لها هل استحقته بنفسها إن كانت بائناً أو بحملها على قولين .
{ فإن أَرْضَعْنَ لكم فآتوهُن أُجورَهُنّ } وهذا في المطلقة إذا أرضعت فلها على المطلق أجرة رضيعها لأن نفقته ورضاعه واجب على أبيه دونها ، ولا أجرة لها إن كانت على نكاحه .
{ وائْتَمِروا بَيْنكم بمعْروف } فيه وجهان :
أحدهما : قاله السدي .
الثاني : تراضوا يعني أبوي الولد يتراضيان بينهما إذا وقعت الفرقة بينهما بمعروف في أجرتها على الأب ورضاعها للولد .
{ وإن تعاسرتم } فيه وجهان :
أحدهما : تضايقتم وتشاكستم ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : اختلفتم .
{ فسترضعُ له أخرى } واختلافهما نوعان :
أحدهما : في الرضاع .
الثاني : في الأجر .
فإن اختلفا في الرضاع فإن دعت إلى إرضاعه فامتنع الأب مكِّنت منه جبراً ، وإن دعاها الأب إلى إرضاعه فامتنعت ، فإن كان يقبل ثدي غيرها لم تجبر على إرضاعه ويسترضع له غيرها ، وإن كان لا يقبل ثدي غيرها أجبرت على إراضاعه بأجر مثلها . وإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وامتنع الأب إلا تبرعاً فالأم أَوْلى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعاً .
وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الأم شططاً فالأب أولى به ، فإذا أعسر الأب بأجرتها أخذت جبراً برضاع ولدها .
{ . . . لا يُكلِّفُ اللَّه نفساً إلا ما آتاها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يكلف اللَّه الأب نفقة المرضع إلا بحسب المكنة ، قاله ابن جبير .
الثاني : لا يكلفه اللَّه أن يتصدق ويزكي وليس عنده مال مصدق ولا مزكى ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه لا يكلفه فريضة إلا بحسب ما أعطاه اللَّه من قدرته ، وهذا معنى قول مقاتل .
{ سيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسراً } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني بعد ضيق سعة .
الثاني : بعد عجز قدرة .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)

{ قد أنزلَ اللَّهُ إليكم ذِكْراً* رَسولاً } الذكر القرآن ، وفي الرسول قولان :
أحدهما : جبريل ، فيكونان جميعاً ، منزلين ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون تقدير الكلام : قد أنزل اللَّه إليكم ذكراً وبعث إليكم رسولاً .
{ يتلوا عليكم آيات اللَّه } يعني القرآن ، قال الفراء : نزلت في مؤمني أهل الكتاب .
{ مُبَيِّناتٍ ليُخْرِجَ الذين آمَنوا وَعمِلوا الصالِحَاتِ مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من ظلمة الجهل إلى نور العلم .
الثاني : من ظلمة المنسوخ إلى ضياء الناسخ .
الثالث : من ظلمة الباطل إلى ضياء الحق .

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

{ اللَّهُ الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمواتٍ } لا اختلاف بينهم في السموات السبع أنها سماء فوق سماء .
ثم قال { ومِنَ الأرْضِ مثْلَهنّ } يعني سبعاً ، واختلف فيهن على قولين :
أحدهما : وهو قول الجمهور أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض ، وجعل في كل أرض من خلقه من شاء ، غير أنهم تقلّهم أرض وتظلهم أخرى ، وليس تظل السماء إلا أهل الأرض العليا التي عليها عالمنا هذا ، فعلى هذا تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا ولا تلزم من غيرها من الأرضين وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز .
وفي مشاهدتهم السماء واستمداد الضوء منها قولان :
أحدهما : أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة .
والقول الثاني : أنهم لا يشاهدون السماء وإن اللَّه خلق لهم ضياء يستمدونه ، وهذا قول من جعل الأرض كالكرة .
القول الثاني : حكاه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض ، تفرق بينهن البحار وتظل جميعن السماء ، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل هذه الأرض وصول للأخرى اختصت دعوة الإسلام بأهل هذه الأرض ، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام عند إمكان الوصول إليهم لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه ، واحتمل ألا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمت لكان النص بها وارداً ولكان الرسول بها مأموراً ، واللَّه أعلم بصحة ما استأثر بعلمه وصواب ما اشبته على خلقه .
ثم قال تعالى { يتنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ } فيه وجهان :
أحدهما : الوحي ، قاله مقاتل ، فعلى هذا يكون قوله { بينهن } أشارة إلى ما بين هذه الأرض العليا التي هي أدناها وبين السماء السابعة التي هى أعلاها .
الوجه الثاني : أن المراد بالأمر قضاء اللَّه وقدره ، وهو قول الأكثرين ، فعلى هذا يكون المراد بقوله « بينهن » الإشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها .
ثم قال { لِيْعَلموا أنَّ اللَّهَ على كل شىءٍ قديرٌ } لأن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر ، ومن العفو والانتقام أمكنْ ، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومكنته .
{ وأنَّ اللَّه قد أحاط بكل شىءٍ عِلْماً } أوجب التسليم بما تفرد به من العلم كما أوجب التسليم بما تفرد به من القدرة ، ونحن نستغفر اللَّه من خوض فيما اشتبه وفيما التبس وهو حسب من استعانه ولجأ إليه .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

قوله تعالى : { يا أيها النبيُّ لم تُحرِّمُ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهاه : أنه أراد بذلك المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه عسل شربه النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه ، واختلف فيها فروى عروة عن عائشة أنه شربه عند حفصة وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه شربه عند سودة . وروى أسباط عن السدي أنه شربه عند أم سلمة ، فقال يعني نساؤه عدا من شرب ذلك عندها : إنا لنجد منك ريح المغافير ، وكان يكره أن يوجد منه الريح ، وقلن له : جَرَسَتْ نحلة العُرفُط ، فحرّم ذلك على نفسه ، وهذا قول من ذكرنا .
الثالث : أنها مارية أم إبراهيم خلا بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة بنت عمر وقد خرجت لزيارة أبيها ، فلما عادت وعلمت عتبت على النبي صلى الله عليه وسلم فحرمها على نفسه أرضاء لحفصة ، وأمرها أن لا تخبر أحداً من نسائه ، فأخبرت به عائشة لمصافاة كانت بينهما وكانت تتظاهران على نساء النبي صلى الله عليه وسلم أي تتعاونان ، فحرّم مارية وطلق حفصة واعتزل سائر نسائه تسعة وعشرين يوماً ، وكان جعل على نفسه أن يُحرّمهن شهراً ، فأنزل اللَّه هذه الآية ، فراجع حفصة واستحل مارية وعاد إلى سائر نسائه ، قاله الحسن وقتادة والشعبي ومسروق والكلبي وهو ناقل السيرة .
واختلف من قال بهذا ، هل حرّمها على نفسه بيمين آلى بها أم لا ، على قولين :
أحدهما : أنه حلف يميناً حرّمها بها ، فعوتب في التحريم وأُمر بالكفارة في اليمين ، قاله الحسن وقتادة والشعبي .
الثاني : أنه حرّمها على نفسه من غير يمين ، فكان التحريم موجباً لكفارة اليمين ، قاله ابن عباس .
{ قد فَرَضَ اللَّهُ لكم تَحِلَّةَ أيْمانِكم } فيه وجهان :
أحدهما : قد بيّن اللّه لكم المخرج من أيمانكم .
الثاني : قد قدر اللّه لكم الكفارة في الحنث في أيمانكم .
{ وإذْ أسَرًّ النبيُّ إلى بَعْضِ أزْاجِهِ حَديثاً } فيه قولان :
أحدهما : أنه أسَرَّ إلى حفصة تحريم ما حرمه على نفسه ، فلما ذكرته لعائشة وأطلع اللَّه نبيه على ذلك عرّفها بعض ما ذكرت ، وأعرض عن بعضه ، قاله السدي .
الثاني : أسرّ إليها تحريم مارية ، وقال لها : اكتميه عن عائشة وكان يومها منه ، وأُسِرّك أن أبا بكر الخليفة من بعدي ، وعمر الخليفة من بعده ، فذكرتها لعائشة ، فلما أطلع اللَّه نبيه { عرّف بعضه وأعرض عن بعض } فكان الذي عرف ما ذكره من التحريم ، وكان الذي أعرض عنه ما ذكره من الخلافة لئلا ينتشر ، قاله الضحاك . وقرأ الحسن : « عَرَف بعضه » بالتخفف ، وقال الفراء : وتأويل قوله : عرف بعضه بالتخفيف أي غضب منه وجازى عليه ، { إن تَتوبا إلى اللَّهِ فَقدْ صَغَتْ قلوبُكما } يعني بالتوبة اللتين تظاهرتا وتعاونتا من نساء النبي صلى الله عليه وسلم على سائرهن وهما عائشة وحفصة .

وفي « صغت » ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني زاغت ، قاله الضحاك .
الثاني : مالت ، قاله قتادة ، قال الشاعر :
تُصْغِي القلوبُ إلى أَغَرَّ مُبارَكٍ ... مِن نَسْلِ عباس بن عبد المطلب
والثالث : أثمت ، حكاه ابن كامل .
وفيما أوخذتا بالتوبة منه وجهان :
أحدهما : من الإذاعة والمظاهرة .
الثاني : من سرورهما بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من التحريم ، قاله ابن زيد .
{ وإن تَظَاهَرا عليه } عين تعاونا على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ فإن الله هو مولاه } يعني وليه { وجبريل } يعني وليه أيضاً .
{ وصالحُ المؤمنين } فيهم خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم الأنبياء ، قاله قتادة وسفيان .
الثاني : أبو بكر وعمر ، قال الضحاك وعكرمة : لأنهما كانا أبوي عائشة وحفصة وقد كانا عونا له عليهما .
الثالث : أنه عليّ .
الرابع : أنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
الخامس : أنهم الملائكة ، قاله ابن زيد .
ويحتمل سادساً : أن صالح المؤمنين من وقى دينه بدنياه .
{ والملائكةُ بعَدَ ذلك ظهيرٌ } يعني أعواناً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل تحقيق تأويله وجهاً ثانياً : أنهم المستظهر بهم عند الحاجة اليهم .
{ عَسى ربُّه إن طَلّقكُنّ أَن يُبدِلَه أَزْواجاً خيراً مِنكُنَّ } أما نساؤه فخير نساء الأمَّة .
وفي قوله { خَيْراً مِّنكُنَّ } ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أطوع منكن .
والثاني : أحب إليه منكن .
والثالث : خيراً منكن في الدنيا ، قاله السدي .
{ مَسْلِماتٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني مخلصات ، قاله ابن جبير ونرى ألا يستبيح الرسول إلا مسلمة .
الثاني : يقمن الصلاة ويؤتين الزكاة كثيراً ، قاله السدي .
الثالث : معناه مسلمات لأمر اللَّه وأمر رسوله ، حكاه ابن كامل .
{ مؤمناتٍ } يعني مصدقات بما أُمرْن به ونُهين عنه .
{ قانتاتٍ } فيه وجهان :
أحدهما : مطيعات .
الثاني : راجعات عما يكرهه اللَّه إلى ما يحبه .
{ تائباتٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من الذنوب ، قاله السدي .
الثاني : راجعات لأمر الرسول تاركات لمحاب أنفسهن .
{ عابداتٍ } فيه وجهان :
أحدهما : عابدات للَّه ، قاله السدي .
الثاني : متذللات للرسول بالطاعة ، ومنه أخذ اسم العبد لتذلله ، قاله ابن بحر .
{ سائحاتٍ } فيه وجهان :
أحدهما : صائمات ، قاله ابن عباس والحسن وابن جبير .
قال ابن قتيبة : سمي الصائم سائحاً لأنه كالسائح في السفر بغير زاد .
وقال الزهري : قيل للصائم سائح لأن الذي كان يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل ، والصائم يمسك عن الأكل ، فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحاً ، وإن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح ، والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المشتهى ، وهو الأكل والشرب والوقاع .

وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان إذا امتنع عن الأكل والشرب والوقاع وسد على نفسه أبواب الشهوات انفتحت عليه أبواب الحكم وتجلت له أنوار المتنقلين من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة فتحصل له سياحة في عالم الروحانيات .
الثاني : مهاجرات لأنهن بسفر الهجرة سائحات ، قاله زيد بن أسلم .
{ ثَيّباتٍ وأبْكاراً } أما الثيب فإنما سميت بذلك لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها ، أو إلى غيره إن فارقها ، وقيل لأنها ثابَتْ إلى بيت أبويها ، وهذا أصح لأنه ليس كل ثيّب تعود إلى زوج .
وأما البكر فهي العذراء سميت بكراً لأنها على أول حالتها التي خلقت بها .
قال الكلبي : أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون ، والبكر مثل مريم بنت عمران .
روى خداش عن حميد عن أنس قال عمر بن الخطاب : وافقت ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول اللَّه لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى ، وقلت : يا رسول اللَّه إنك يدخل إليك البرُّ والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين ، فأنزل اللَّه آية الحجاب ، وبلغني عن أمهات المؤمنين شىء [ فدخلت عليهن فقلت ] : لتَكُفُّنّ عن رسول اللَّه أو ليبدلنه اللًَّه أزوجاً خيراً منكن حتى دخلت على إحدى أمهات المؤمنين فقالت : يا عمر أما في رسول اللَّه ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، فأمسكت فأنزل اللَّه تعالى : { عسى ربُّه إن طلّقكنّ } الآية .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

{ يا أيها الذين آمَنوا قُوا أَنفُسَكم وأهْليكم ناراً } قال خيثمة : كل شيء في القرآن يا أيها الذين آمنوا ففي التوراة يا أيها المساكين .
وقال ابن مسعود : إذا قال اللَّه يا أيها الذين آمنوا فارعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه .
وقال الزهري : إذا قال اللَّه تعالى : يا أيها الذين آمنوا افعلوا ، فالنبي منهم .
ومعنى قوله : { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } أي اصرفوا عنها النار ، ومنه قول الراجز :
ولو توقى لوقاه الواقي ... وكيف يوقى ما الموت لاقي
وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معناه قوا أنفسكم ، وأهلوكم فليقوا أنفسهم ناراً ، قاله الضحاك .
الثاني : قوا أنفسكم ومروا أهليكم بالذكر والدعاء حتى يقيكم اللَّه بهم ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
الثالث : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم ، قاله علي وقتادة ومجاهد .
وفي الوصية التي تقيهم النار ثلاثة أقاويل :
أحدها : يأمرهم بطاعة اللَّه وينهاهم عن معصيته ، قاله قتادة .
الثاني : يعلمهم فروضهم ويؤدبهم في دنياهم ، قاله علي .
الثالث : يعلمهم الخير ويأمرهم به ، ويبين لهم الشر ، وينهاهم عنه .
قال مقاتل : حق ذلك عليه في نفسه وولده وعبيده وإمائه .
{ وَقودها الناسُ والحجارةُ } في ذكر الحجارة مع الناس ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها الحجارة التي عبدوها ، حتى يشاهدوا ما أوجب مصيرهم إلى النار ، وقد بين اللّه ذلك في قوله { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم } .
الثاني : أنها حجارة من كبريت وهي تزيد في وقودها النار وكان ذكرها زيادة في الوعيد والعذاب ، قاله ابن مسعود ومجاهد .
الثالث : أنه ذكر الحجارة ليعلموا أن ما أحرق الحجارة فهو أبلغ في إحراق الناس .
روى ابن أبي زائدة قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم } الآية ، وعنده بعض أصحابه ، ومنهم شيخ فقال الشيخ : يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال والذي نفسي بيده لصخرة من جهنم أعظم من جبال الدنيا كلها ، فوقع الشيخ مغشياً عليه ، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي ، فقال : يا شيخ قل لا إله إلا اللَّه ، فقال بها ، فبشره بالجنة ، فقال أصحابه : يا رسول اللَّه أمِن بيننا؟ قال : نعم لقول اللَّه تعالى : { ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد } .
{ عليها ملائكة غِلاظٌ شدادٌ } يعني غلاظ القلوب ، شداد الأفعال وهم الزبانية .
{ لا يعْصُون اللّه ما أمرهم } أي لا يخالفونه في أمره من زيادة أو نقصان .
{ ويَفْعلون ما يُؤْمَرونَ } يعني في وقته فلا يؤخرونه ولا يقدمونه .
{ يا أيها الذين آمنوا تُوبوا إلى اللَّه تَوْبةً نَصوحاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدهها : أن التوبة النصوح هي الصادقة الناصحة ، قاله قتادة .

الثاني : أن النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره ، قاله الحسن .
الثالث : أن لا يثق بقبولها ويكون على وجل منها .
الرابع : أن النصوح هي التي لا يحتاج معها إلى توبة .
الخامس : أن يتوب من الذنب ولا يعود إليه أبداً ، قاله عمر بن الخطاب .
وهي على هذه التأويلات مأخوذة من النصاحة وهي الخياطة .
وفي أخذها منها وجهان :
أحدهما : لأنها توبة قد أحكمت طاعته وأوثقتها كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه .
الثاني : لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء اللَّه وألصقته بهم كما يجمع الخياط الثوب ويلصق بعضه ببعض .
ومنهم من قرأ نُصوحاً بضم النون ، وتأويلها على هذه القراءة توبةَ نُصْح لأنفسكم ، ويروي نعيم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم بضالَّته يجدها بأرض فلاة عليها زاده وسقاؤه
» .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

{ يا أيها النبيُّ جاهِدِ الكُفّارَ والمنافقين واغْلُظْ عليهم } أما جهاد الكفار فبالسيف ، وأما جهاد المنافقين ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه باللسان والقول ، قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : بالغلظة عليهم كما ذكر اللَّه ، قاله الربيع بن أنس .
الثالث : بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وليقابلهم بوجه مكفهر ، قاله ابن مسعود .
الرابع : بإقامة الحدود عليهم ، قاله الحسن .
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً للذين كَفَروا امرأةَ نُوحٍ وامرأةَ لُوطٍ كانتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادنا صالحْينِ فخانتاهما }
في خيانتهما أربعة أوجه :
أحدها : أنهما كانتا كافرتين ، فصارتا خائنتين بالكفر ، قاله السدي .
الثاني : منافقتين تظهران الإيمان وتستران الكفر ، وهذه خيانتهما قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط ، إنما كانت خيانتهما في الدين .
الثالث : أن خيانتهما النميمة ، إذا أوحى اللَّه تعالى إليهما [ شيئاً ] أفشتاه إلى المشركين ، قاله الضحاك .
الرابع : أن خيانة امرأة نوح أنها كانت تخبر الناس أنه مجنون ، وإذا آمن أحد به أخبرت الجبابرة به ، وخيانة امرأة لوط أنه كان إذا نزل به ضيف دخّنت لِتُعْلِم قومها أنه قد نزل به ضيف ، لما كانوا عليه من إتيان الرجال .
قال مقاتل : وكان اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والعة .
وقال الضحاك عن عائشة أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واعلة ، واسم امراة لوط والهة .
{ فلم يُغْنِيا عنهما مِنَ اللَّهِ شيئاً } أي لم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما على الله عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب اللَّه ، تنبيهاً بذلك على أن العذاب يُدفع بالطاعة دون الوسيلة .
قال يحيى بن سلام : وهذا مثل ضربه اللَّه ليحذر به حفصة وعائشة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ضرب لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

{ وضَربَ اللَّهُ مَثلاً للذينَ آمنوا امرأةَ فِرْعونَ } قيل اسمها آسية بنت مزاحم .
{ إذْ قالت رَبِّ ابْنِ لي عندك بيتاً في الجنة } قال أبو العالية : اطّلع فرعون على إيمان امرأته فخرج على الملأ فقال لهم : ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها ، فقال لهم : فإنها تعبد ربّاً غيري ، فقالوا له : اقتلْها ، فأوتد لها أوتاداً فشد يديها ورجليها ، فدعت آسية ربها فقالت : « رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة » الآية ، فكشف لها الغطاء فنظرت إلى بيتها في الجنة ، فوافق ذلك حضور فرعون ، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة ، فقال فرعون : ألا تعجبون من جنونها ، فعذبها وهي تضحك وقُبض روحها .
وقولها : { وَنَجِّني مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِه } فيه قولان :
أحدهما : الشرك .
الثاني : الجماع ، قاله ابن عباس .
{ وَنجِّني من القوم الظالمين } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل مصر ، قاله الكلبي .
الثاني : القبط ، قاله مقاتل .
{ ومريمَ ابنَةَ عِمرانَ التي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا } قال المفسرون :
إنه أراد بالفرج الجيب لأنه قال { فنفخنا فيه مِن رُوحنا } وجبريل إنما نفخ في جيبها ، ويحتمل أن تكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها .
{ وصَدَّقَتْ بكلماتِ رَبِّها وكُتُبِه } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « كلمات ربها » الإنجيل ، و « كتبه » التوراة والزبور .
الثاني : أن « كلمات ربها » قول جبريل حين نزل عليها { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } ، { وكتبه } الإنجيل الذي أنزله من السماء ، قاله الكلبي .
الثالث : أن « كلمات ربها » عيسى ، و « كتبه » الإنجيل ، قاله مقاتل .
{ وكانت من القانتين } أي من المطيعين في التصديق .
الثاني : من المطيعين في العبادة .

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)

قوله عز وجل : { تباركَ الذي بيدِهِ المُلْكُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن التبارُك تفاعُل من البركة ، قاله ابن عباس . وهو أبلغ من المبارك لاختصاص اللَّه بالتبارك واشتراك المخلوقين في المبارك .
الثاني : أي تبارك في الخلق بما جعل فيهم من البركة ، قاله ابن عطاء .
الثالث : معناه علا وارتفع ، قاله يحيى بن سلام .
وفي قوله « الذي بيده الملك » وجهان :
أحدهما : ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة .
الثاني : ملك النبوة التي أعزّ بها من اتبعه وأذل بها من خالفه ، قاله محمد بن إسحاق .
{ وهو عَلى كُلِّ شَىْءٍ قَديرٌ } من إنعام وانتقام .
{ الذي خَلَقَ الموتَ والحياةَ } يعني الموت في الدنيا ، والحياة في الآخرة .
قال قتادة : كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : « » إن اللَّه أذل بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء « .
الثاني : أنه خلق الموت والحياة جسمين ، فخلق الموت في صورة كبش أملح ، وخلق الحياة في صورة فرس [ أنثى بلقاء ] ، وهذا مأثور حكاه الكلبي ومقاتل .
{ لِيَبْلُوكم أيُّكم أَحْسَنُ عَمَلاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أيكم أتم عقلاً ، قاله قتادة .
الثاني : أيكم أزهد في الدنيا ، قاله سفيان .
الثالث : أيكم أورع عن محارم اللَّه وأسرع إلى طاعة اللَّه ، وهذا قول مأثور . الرابع : أيكم للموت أكثر ذِكْراً وله أحسن استعداداً ومنه أشد خوفاً وحذراً ، قاله السدي .
الخامس : أيكم أعرف بعيوب نفسه .
ويحتمل سادساً : أيكم أرضى بقضائه وأصبر على بلائه .
{ الذي خَلَقَ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً } فيه وجهان :
أحدهما : أي متفق متشابه ، مأخوذ من قولهم هذا مطابق لهذا أي شبيه له ، قاله ابن بحر .
الثاني : يعني بعضهن فوق بعض ، قال الحسن : وسبع أرضين بعضهن فوق بعض ، بين كل سماء وأرض خلق وأمر .
{ ما تَرَة في خَلْق الرحمنِ من تفاوُتٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : من اختلاَف ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
متفاوتات من الأعنة قطّباً ... حتى وفي عشية أثقالها .
الثاني : من عيب ، قاله السدي .
الثالث : من تفرق ، قاله ابن عباس .
الرابع : لا يفوت بعضه بعضاً ، قاله عطاء بن أبي مسلم .
قال الشاعر :
فلستُ بمُدْركٍ ما فاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ وَلاَ بِليْتَ ولا لَو أنِّي
{ فارْجِع البَصَرَ } قال قتادة : معناه فانظر إلى السماء .
{ هل تَرَى من فُطور } فيه أربعة أوجه :
أحدها : من شقوق ، قاله مجاهد والضحاك .
الثاني : من خلل ، قاله قتادة .
الثالث : من خروق قاله السدي .
الرابع : من وهن ، قاله ابن عباس .

{ ثم ارْجع البَصَرَ كَرّتَيْنِ } أي انظر إلى السماء مرة بعد أخرى .
ويحتمل أمره بالنظر مرتين وجهين :
أحدهما : لأنه في الثانية أقوى نظراً وأحدّ بصراً .
الثاني : لأنه يرى في الثانية من سير كواكبها واختلاف بروجها ما لا يراه من الأولى فيتحقق أنه لا فطور فيها .
وتأول قوم بوجه ثالث : أنه عنى بالمرتين قلباً وبصراً .
{ ينْقَلِبْ إليك البَصَرُ خَاسئاً وهو حَسيرٌ } أي يرجع إليك البصر لأنه لا يرى فطوراً فيرتد .
وفي « خاسئاً » أربعة أوجه :
أحدها : ذليلاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : منقطعاً ، قاله السدي .
الثالث : كليلاً ، قاله يحيى بن سلام .
الرابع : مبعداً ، قاله الأخفش مأخوذ من خسأت الكلب إذا أبعدته .
وفي « حسير » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه النادم ، ومنه قول الشاعر :
ما أنا اليوم على شيء خلا ... يا ابنة القَيْنِ تَولّى بحَسيرْ
الثاني : أنه الكليل الذي قد ضعف عن إدراك مرآه ، قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر :
مَنْ مدّ طرْفاً إلى ما فوق غايته ... ارتدَّ خَسْآنَ مِنه الطّرْفُ قد حَسِرا
والثالث : أنه المنقطع من الإعياء ، قاله السدي ، ومنه قول الشاعر :
والخيلُ شُعثٌ ما تزال جيادها ... حَسْرى تغادرُ بالطريق سخالها

وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)

{ إذا أُلقُوا فيها } يعني الكفار ألقوا في جهنم .
{ سمعوا لها شهيقاً } فيه قولان :
أحدهما : أن الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار .
الثاني : أن الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها ، قال ابن عباس : تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف .
وفي الشهيق ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشهيق في الصدور ، قاله الربيع بن أنس .
الثاني : أنه الصياح ، قاله ابن جريج .
الثالث : أن الشهيق هو آخر نهيق الحمار ، والزفير مثل أول نهيق الحمار ، وقيل إن الزفير من الحلق ، والشهيق من الصدر .
{ وهي تفورُ } أي تغلي ، ومنه قول الشاعر :
تركتم قِدْرَكم لا شيىءَ فيها ... وقِدْرُ القوم حاميةٌ تفورُ
{ تكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ . . . } فيه وجهان :
أحدهما : تنقطع ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : تتفرق ، قاله ابن عباس والضحاك .
وقوله « من الغيط » فيه ها هنا وجهان :
أحدهما : أنه الغليان ، قال الشاعر :
فيا قلب مهلاً وهو غضبان قد غلا ... من الغيظ وسط القوم ألا يثبكا
الثاني : أنه الغضب ، يعني غضباً على أهل المعاصي وانتقاماً للَّه منهم .
{ ألمْ يأتِكم نَذيرٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أن النذر من الجن ، والرسل من الإنس ، قاله مجاهد .
الثاني : أنهم الرسل والأنبياء ، واحدهم نذير ، قاله السدي .
{ فسُحْقاً لأصحاب السّعيرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : فبعداً لأصحاب السعير يعني جهنم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه وادٍ من جهنم يسمى سحقاً ، قاله ابن جبير وأبو صالح ، وفي هذا الدعاء إثبات لاستحقاق الوعيد .

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

{ إنّ الذين يَخْشَوْنَ ربَهم بالغَيْبِ } فيه ستة أوجه :
أحدها : أن الغيب اللَّه تعالى وملائكته ، قاله أبو العالية .
الثاني : الجنة والنار ، قاله السدي .
الثالث : أنه القرآن ، قاله زر بن حبيش .
الرابع : أنه الإسلام لأنه يغيب ، قاله إسماعيل بن أبي خالد .
الخامس : أنه القلب ، قاله ابن بحر .
السادس : أنه الخلوة إذا خلا بنفسه فذكر ذنبه استغفر ربه ، قاله يحيى بن سلام .
{ لهم مغْفرةٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالتوبة والاستغفار .
الثاني : بخشية ربهم بالغيب .
الثالث : لأنهم حلّوا باجتناب الذنوب محل المغفور له .
{ وأجرٌ كبيرٌ } يعني الجنة .
ويحتمل وجهاً آخر : أنه العفو عن العقاب ومضاعفة الثواب .
{ هو الذي جَعَلَ لكم الأرْضَ ذَلولاً } يعني مذللة سهلة .
حكى قتادة عن أبي الجلد : أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ ، فللسودان اثنا عشر [ ألفاً ] ، وللروم [ ثمانية آلاف ] ، وللفرس ثلاثة آلاف وللعرب ألف . { فامْشُوا في مَنَاكِبِها } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في جبالها ، قاله ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب .
الثاني : في أطرفاها وفجاجها ، قاله مجاهد والسدي .
الثالث : في طرفها .
ويحتمل رابعاً : في منابت زرعها وأشجارها ، قاله الحسن .
{ وكُلوا مِن رِزْقِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : مما أحله لكم ، قاله الحسن .
الثاني : مما أنبته لكم ، قاله ابن كامل .
{ وإليه النشور } أي البعث .

أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)

{ أأمِنتُم مَنْ في السماءِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنهم الملائكة ، قاله ابن بحر .
الثاني : يعني أنه اللَّه تعالى ، قاله ابن عباس .
{ أنْ يَخْسِفَ بكم الأرضَ فإذا هي تمورُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تتحرك ، قاله يحيى .
الثاني : تدور ، قاله قطرب وابن شجرة .
الثالث : تسيل ويجري بعضها في بعض ، قاله مجاهد ، ومنه قول الشاعر :
رَمَيْن فأقصدْن القلوب ولن ترى ... دماً مائراً إلا جرى في الخيازم

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

{ أفمن يْمشيِ مُكِبّاً على وَجْهِه أهْدَى } هذا مثل ضربه اللَّه تعالى للهدى والضلالة ، ومعناه ليس من يمشي مُكباً على وجهه ولا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله . كمن يمشي سوياً معتدلاً ناظراً ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مثل ضربه اللّه للمؤمن والكافر ، فالمكب على وجهه الكافر يهوي بكفره ، والذي يمشي سوّياً المؤمن يهتدي بإيمانه ، ومعناه : أمَّن يمشي في الضلالة أهدى أم من يمشي مهتدياً ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن المكب على وجهه أبو جهل بن هشام ، ومن يمشي سوياً عمار بن ياسر ، قاله عكرمة .
{ على صراطٍ مستقيم } فيه وجهان :
أحدهما : أن الطريق الواضح الذي لا يضل سالكه ، فيكون نعتاً للمثل المضروب .
الثاني : هو الحق المستقيم ، قاله مجاهد ، فيكون جزاء العاقبة الاستقامة وخاتمة الهداية .
{ قُلْ هو الذي ذَرَأَكُمْ في الأرضِ } فيه وجهان :
أحدهما : خلقكم في الأرض ، قاله ابن عباس .
الثاني : نشركم فيها وفرّقكم على ظهرها ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل ثالثاً : أنشأكم فيها إلى تكامل خلقكم وانقضاء أجلكم .
{ وإليهِ تُحْشَرون } أي تُبْعثون بعد الموت .
{ فلما رأَوْه زُلْفَةً سِيئَتْ وُجوهُ الذين كَفروا } فيه وجهان :
أحدهما : ظهرت المساءة على وجوههم كراهة لما شاهدوا ، وهو معنى قول مقاتل .
الثاني : ظهر السوء في وجهوههم ليدل على كفرهم ، كقوله تعالى : { يوم تبيضُّ وجوه وتسْوَدُّ وجوه } [ آل عمران : 106 ] .
{ وقيل هذا الذي كُنْتُمْ به تَدَّعُونَ } وهذا قول خزنة جهنم لهم ، وفي قوله { كنتم به تدّعون } أربعة أوجه :
أحدها : تمترون فيه وتختلفون ، قاله مقاتل .
الثاني : تشكّون في الدنيا وتزعمون أنه لا يكون ، قاله الكلبي .
الثالث : تستعجلون من العذاب ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنه دعاؤهم بذلك على أنفسهم ، وهو افتعال من الدعاء ، قاله ابن قتيبة .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

{ قُلْ أرَأَيْتُمْ إنْ أصْبَحَ ماؤكم غُوْراً } فيه وجهان :
أحدهما : ذاهباً ، قاله قتادة .
الثاني : لا تناله الدِّلاء ، قاله ابن جبير ، وكان ماؤهم من بئر زمزم وبئر ميمون .
{ فَمَنْ يأتيكم بماءٍ مَعِينٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن معناه العذب ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الطاهر ، قاله الحسن وابن جبير ومجاهد .
الثالث : أنه الذي تمده العيون فلا ينقطع .
الرابع : أنه الجاري ، قاله قتادة ، ومنه قول جرير :
إنّ الذين غدوا بُلبِّك غادَروا ... وشَلاً بعيْنِك لا يزال مَعِيناً
روى عاصم عن رُزين عن ابن مسعود قال : سورة الملك هي المانعة من عذاب القبر ، وهي في التوراة تسمى المانعة ، وفي الإنجيل تسمى الواقية ، ومن قرأها من كل ليلة فقد أكثر وأطاب .

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

قوله تعالى { ن } فيه ثمانية أقوال :
أحدها : أن النون الحوت الذي عليه الأرض ، قاله ابن عباس من رواية أبي الضحى عنه ، وقد رفعه .
الثاني : أن النون الدواة ، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثالث : أنه حرف من حروف الرحمن ، قاله ابن عباس في رواية الضحاك عنه .
الرابع : هو لوح من نور ، رواه معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الخامس : أنه اسم من أسماء السورة ، وهو مأثور .
السادس : أنه قسم أقسم اللَّه به ، وللَّه تعالى أن يقسم بما يشاء ، قاله قتادة .
السابع : أنه حرف من حروف المعجم .
الثامن : أن نون بالفارسية أيذون كن ، قاله الضحاك .
ويحتمل تاسعاً : إن لم يثبت به نقل أن يكون معناه : تكوين الأفعال والقلم وما يسطرون ، فنزل الأقوال جميعاً في قسمه بين أفعاله وأقواله ، وهذا أعم قسمة .
ويحتمل عاشراً : أن يريد بالنون النفْس لأن الخطاب متوجه إليها بغيرعينها بأول حروفها ، والمراد بالقلم ما قدره اللَّه لها وعليها من سعادة وشقاء ، لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ .
أما { والقلم } ففيه وجهان :
أحدهما : أنه القلم الذي يكتبون به لأنه نعمة عليهم ومنفعة لهم ، فأقسم بما أنعم ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه القلم الذي يكتب به الذكر على اللوح المحفوظ ، قال ابن جريج :
هو من نور ، طوله كما بين السماء والأرض .
وفي قوله { وما يَسْطرون } ثلاثة أقاويل :
أحدها : وما يعلمون ، قاله ابن عباس .
الثاني : وما يكتبون ، يعني من الذكر ، قاله مجاهد والسدي .
الثالث : أنهم الملائكة الكاتبون يكتبون أعمال الناس من خير وشر .
{ ما أنت بنعمةِ ربّك بمجنونٍ } كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أنه مجنون به شيطان ، وهو قولهم : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون } [ الحجر : 6 ] فأنزل اللَّه تعالى رداً عليها وتكذيباً لقولهم : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } أي برحمة ربك ، والنعمة ها هنا الرحمة .
ويحتمل ثانياً : أن النعمة ها هنا قسم ، وتقديره : ما أنت ونعمة ربك بمجنون ، لأن الواو والباء من حروف القسم .
وتأوله الكلبي على غير ظاهره ، فقال : معناه ما أنت بنعمة ربك بمخفق .
{ وإنّ لك لأجْراً غيْرَ مَمْنُونٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : غير محسوب ، قاله مجاهد .
الثاني : أجراً بغير عمل ، قاله الضحاك .
الثالث : غير ممنون عليك من الأذى ، قاله الحسن .
الرابع : غير منقطع ، ومنه قول الشاعر :
ألا تكون كإسماعيلَ إنَّ له ... رأياً أصيلاً وأجْراً غيرَ ممنون
ويحتمل خامساً : غير مقدّر وهو الفضل ، لأن الجزاء مقدر ، والفضل غير مقدر .
{ وإنك لعلى خُلُقٍ عظيمٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أدب القرآن ، قاله عطية .

الثاني : دين الإسلام ، قاله ابن عباس وأبو مالك .
الثالث : على طبع كريم ، وهو الظاهر .
وحقيقة الخلُق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه ، فأما ما طبع عليه من الآداب فهو الخيم فيكون الخلق الطبع المتكلف ، والخيم هو الطبع الغريزي ، وقد أوضح ذلك الأعشى في شعره فقال :
وإذا ذو الفضول ضنّ على المو ... لى وعادت لِخيمها الأخلاقُ
أي رجعت الأخلاق إلى طباعها .
{ فَسَتبْصِرُ ويُبْصرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : فسترى ويرون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل .
الثاني : قاله ابن عباس معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة .
{ بأَيِّكم المْفتونُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني المجنون ، قاله الضحاك .
الثاني : الضال ، قاله الحسن .
الثالث : الشيطان ، قاله مجاهد .
الرابع : المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته ، ومنه قوله تعالى : { يوم هم على النار يُفْتنون } [ الذاريات : 13 ] أي يعذبون .

فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

{ وَدُّوا لو تُدْهِنُ فَيدْهِنونَ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : معناه ودوا لو تكفر فيكفرون ، قاله السدي والضحاك .
الثاني : ودوا لو تضعُف فيضعُفون ، قاله أبو جعفر .
الثالث : لو تلين فيلينون ، قاله الفراء .
الرابع : لو تكذب فيكذبون ، قاله الربيع بن أنس .
الخامس : لو ترخص لهم فيرخصون لك ، قاله ابن عباس .
السادس : أن تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك ، قاله قتادة .
وفي أصل المداهنة وجهان :
أحدهما : مجاملة العدو وممايلته ، قال الشاعر :
لبَعْضُ الغَشْم أحزْم أمورٍ ... تَنوبُك مِن مداهنةِ العدُوِّ .
الثاني : أنها النفاق وترك المناصحة ، قاله المفضل ، فهي على هذا الوجه مذمومة ، وعلى الوجه الأول غير مذمومة .
{ ولا تُطِعْ كلَّ حَلاَّفٍ مَهينٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه الكذاب ، قاله ابن عباس .
الثاني : الضعيف القلب ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه المكثار من الشر ، قاله قتادة .
الرابع : أنه الذليل بالباطل ، قاله ابن شجرة .
ويحتمل خامساً : أنه الذي يهون عليه الحنث .
وفي من نزل ذلك فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، قاله السدي .
الثاني : الأسود بن عبد يغوث ، قاله مجاهد .
الثالث : الوليد بن المغيرة ، عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً وحلف أن يعطيه إن رجع عن دينه ، قاله مقاتل .
{ هَمَّازٍ مَشّاءٍ بِنميمٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الفتّان الطعان ، قاله ابن عباس وقتادة .
الثاني : أنه الذي يلوي شدقيه من وراء الناس ، قاله الحسن .
الثالث : أنه الذي يهمزهم بيده ويضربهم دون لسانه ، قاله ابن زيد ، والأول أشبه لقول الشاعر :
تُدْلي بِوُدٍّ إذا لاقيتني كذباً ... وإن أغيبُ فأنت الهامز اللُّمَزة .
{ مشّاءٍ بنميم } فيه وجهان :
أحدهما : الذي ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض ، قاله قتادة .
الثاني : هو الذي يسعى بالكذب ، ومنه قول الشاعر :
ومَوْلى كبيْتِ النمل لا خير عنده ... لمولاه إلا سعية بنميم
وفي النميم والنميمة وجهان :
أحدهما : أنهما لغتان ، قاله الفراء .
الثاني : أن النميم جمع نميمة .
{ منّاعٍ للخيْرِ } فيه وجهان :
أحدهما : للحقوق من ظلم .
الثاني : الإسلام يمنع الناس منه .
{ عُتُلٍّ بَعْد ذلك زنيمٍ } يعني بعد كونه « منّاعٍ للخيرٍ »
معتدٍ أثيم ، هو عتل زنيم ، وفيه تسعة أوجه :
أحدها : أن العُتُلّ الفاحش ، وهو مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم :
الثاني : أنه القوي في كفره ، قاله عكرمة .
الثالث : أنه الوفير الجسم ، قاله الحسن وأبو رزين .
الرابع : أنه الجافي الشديد الخصومة بالباطل ، قاله الكلبي .
الخامس : أنه الشديد الأسر ، قاله مجاهد .
السادس : أنه الباغي ، قاله ابن عباس .
السابع : أنه الذي يعتِل الناس ، أي يجرهم إلى الحبس أو العذاب ، مأخوذ من العتل وهو الجر ، ومنه قوله تعالى :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15