كتاب : النكت والعيون
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

قوله عز وجل : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } وفي { شَرَعَ لَكُم } أربعة أوجه :
أحدها : سن لكم .
الثاني : بيَّن لكم .
الثالث : اختار لكم ، قاله الكلبي .
الرابع : أوجب عليكم .
{ مِنَ الدِّينِ } يعني الدين ومن زائدة في الكلام .
وفي { مَا وَصَّى بِهِ نوحاً } وجهان :
أحدهما : تحريم الأمهات والبنات والأخوات ، لأنه أول نبي أتى أمته بتحريم . ذلك ، قاله الحكم .
الثاني : تحليل الحلال وتحريم الحرام ، قاله قتادة .
{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ } فيه وجهان :
أحدهما : اعملوا به ، قاله السدي .
الثاني : ادعوا إليه . قال مجاهد : دين الله في طاعته وتوحيده واحد .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : جاهدوا عليه من عانده .
{ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } وفيه وجهان :
أحدهما : لا تتعادوا عليه ، وكونوا عليه إخواناً ، قاله أبو العالية .
الثانية : لا تختلفوا فيه فإن كل نبي مصدق لمن قبله ، قاله مقاتل .
{ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } قاله قتادة : من شهادة أن لا إله إلا الله .
ويحتمل أن يكون من الاعتراف بنبوته ، لأنه عليهم أشد وهم منه أنفر .
{ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : يجتبي إليه من يشاء هو من يولد على الإسلام .
{ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } هو من يسلم من الشرك ، قاله الكلبي .
الثاني : يستخلص إليه من يشاء . قاله مجاهد ويهدي إليه من يقبل على طاعته ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { وَمَا تَفَرَّقُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : عن محمد صلى الله عليه وسلم .
الثاني : في القرآن .
{ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْعِلْمُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلا من بعد ما تبحروا في العلم ، قاله الأعمش .
الثاني : إلا من بعد ما علمواْ أن الفرقة ضلال ، قاله ابن زياد .
الثالث : إلا من بعد ما جاءهم القرآن ، وسماه علماً لأنه يتعلم منه .
{ بَغْياً بَيْنَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لابتغاء الدنيا وطلب ملكها ، قاله أُبي بن كعب .
الثاني : لبغي بعضهم على بعض ، قاله سعيد بن جبير .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِكَّ } فيه وجهان :
أحدهما : في رحمته للناس على ظلمهم .
الثاني : في تأخير عذابهم ، قال قتادة .
{ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى قيام الساعة لأن الله تعالى يقول : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُم } الآية .
ويحتمل إلى الأجل الذي قُضِيَ فيه بعذابهم .
{ لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لعجل هلاكهم .
{ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود والنصارى ، قاله السدي .
الثاني : أنهم نبئوا من بعد الأنبياء ، قاله الربيع .
{ لفِي شَكٍ مِّنْهُ مُريبٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لفي شك من القرآن ، قاله الربيع .
الثاني : لفي شك من الإخلاص ، قاله أبو العالية .
الثالث : لفي شك من صدق الرسول ، قاله السدي .

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

قوله عز وجل : { فَلِذَالِكَ فَادْعُ } معناه فإلى ذلك فادع ، وفي المراد بذلك وجهان :
أحدهما : القرآن ، قاله الكلبي .
الثاني : التوحيد ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { فَادْعُ } وجهان :
أحدهما : فاعتمد .
الثاني : فاستدع .
{ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ . . . } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : واستقم على أمر الله ، قاله قتادة .
الثاني : على القرآن ، قاله سفيان .
الثالث : فاستقم على تبليغ الرسالة ، قاله الضحاك .
وفي قوله : { . . . وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُم } وجهان :
أحدهما : في الأحكام .
الثاني : في التبليغ .
وفي قوله : { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } ثلاثة أوجه :
أحدها : لا خصومة بيننا وبينكم ، قاله مجاهد ، قال السدي : وهذه قبل السيف ، وقبل أن يؤمر بالجزية .
الثاني : معناه فإنكم بإظهار العداوة قد عدلتم عن طلب الحجة ، قاله ابن عيسى .
الثالث : معناه إنا قد أعذرنا بإقامة الحجة عليكم فلا حجة بيننا وبينكم نحتاج إلى إقامتها عليكم .
وقيل إن هذه الآية نزلت في الوليد ابن المغيرة وشيبة بن ربيعة وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته .

وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)

قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ } فيه قولان :
أحدهما : في توحيد الله عز وجل .
الثاني : أنهم اليهود قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم ، قاله قتادة .
{ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من بعد ما أجابه الله إلى إظهاره من المعجزات .
الثاني : من بعد ما أجاب الله الرسول من المحاجة .
الثالث : من بعد ما استجاب المسلمون لربهم وآمنوا بكتابه ورسوله ، قاله ابن زيد .
{ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } فيه وجهان :
أحدهما : باطلة ، قاله ابن عيسى .
الثاني : خاسرة ، قاله ابن زيد .
قوله عز وجل : { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } فيه وجهان : أحدهما : بالمعجز الدال على صحته .
الثاني : بالصدق فيما أخبر به من ماض ومستقبل .
{ وَالْمِيزَانَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب .
الثاني : أنه العدل فيما أمر به ونهى عنه ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الميزان الذي يوزن به ، أنزله الله من السماء وعلم عباده الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس ، قال قتادة : الميزان العدل . { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } فلم يخبره بها ، ولم يؤنث قريب لأن الساعة تأنيثها غير حقيقي لأنها كالوقت .

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)

قوله عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } الآية . فيه وجهان :
أحدهما : أن الله تعالى يعطي على نية الآخرة من شاء من أمر الدنيا ، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا ، قاله قتادة .
الثاني : معناه من عمل للآخرة أعطاه الله بالحسنة عشر أمثالها ، ومن عمل للدنيا لم يزد على من عمل لها . { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةَ مِن نَّصِيبٍ } في الجنة وهذا معنى قول ابن زيد وشبه العامل الطالب بالزارع لاجتماعهما في طلب النفع .

ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)

قوله عز وجل : { قُل لاَّ أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معناه ألا تؤذوني في نفسي لقرابتي منكم ، وهذا لقريش خاصة لأنه لم يكن بطن من قريش إلا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وأبو مالك .
الثاني : معناه إلا أن تؤدوا قرابتي ، وهذا قول علي بن الحسين وعمرو بن شعيب والسدي . وروى مقسم عن ابن عباس قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيئاً فخطب فقال للأنصار « أَلَمْ تَكُونُواْ أَذِلاَّءَ فَأعِزَّكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا ضُلاَّلاً فَهَداَكُمْ اللَّهُ بِي؟ أَلَمْ تَكُونُوا خأَئِفِينَ فَأَمَّنَكُمُ اللَّهُ بِي؟ أَلاَ تَردُواْ عَلَيَّ » فقالواْ : بم نجيبك؟ فقال تَقُولُونَ : « أَلَمْ يَطْرُدْكَ قَوْمُكَ فَآوَيَنَاكَ؟ أَلَمْ يُكَذِّبْكَ قَومَكَ فَصَدَّقْنَاكَ؟ » فعد عليهم ، قال : فجثوا على ركبهم وقالواْ : أنفسنا وأموالنا لك « . فنزلت { قُل لاَّ أَسْأَلَكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } .
الثالث : معناه إلا أن توادوني وتؤازروني كما توادون وتؤازرون قرابتكم ، قاله ابن زيد .
الرابع : معناه إلا أن تتوددوا وتتقربوا إلى الله بالطاعة والعمل الصالح ، قاله الحسن ، وقتادة .
الخامس : معناه إلا أن تودوا قرابتكم وتصلوا أرحامكم ، قاله عبد الله بن القاسم .
{ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنةً } أي يكتسب ، وأصل القرف الكسب .
{ نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } أي نضاعف له بالحسنة عشراً .
{ إِنَّ اللَّه غَفُورٌ شَكُورٌ } فيه وجهان :
أحدهما : غفور للذنوب ، شكور للحسنات ، قاله قتادة .
الثاني : غفور لذنوب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شكور لحسناتهم ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أي ينسيك ما قد آتاك من القرآن ، قاله قتادة .
الثاني : معناه يربط على قلبك فلا يصل إليه الأذى بقولهم افترى على الله كذباً ، قاله مقاتل .
الثالث : معناه لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذباً لطبع الله على قلبك ، قاله ابن عيسى .
{ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ينصر دينه بوعده .
الثاني : يصدق رسوله بوحيه .

وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعدِ مَا قَنَطُواْ } والقنوط الإياس ، قاله قتادة .
قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : جدبت الأرض وقنط الناس فقال : مطروا إذن . والغيث ما كان نافعاً في وقته ، والمطر قد يكون ضاراً ونافعاً في وقته وغير وقته .
{ ويَنشُرُ رَحْمَتَهُ } بالغيث فيما يعم ويخص .
{ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } فيه وجهان :
أحدهما : الولي المالك ، والحميد مستحق الحمد .
الثاني : الولي المنعم والحميد المستحمد .

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)

قوله عز وجل : { وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه الحدود على المعاصي ، قاله الحسن .
الثاني : أنها البلوى في النفوس والأموال عقوبة على المعاصي والذنوب .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَا يُصِيبُ ابنَ آدَمَ خَدْشُ عُوْدٍ وَلاَ عَثْرَةُ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجُ عِرْقٍ إِلاَّ بِذَنبٍ وَمَا يَعْفُو عَنهُ أَكْثَرَ » وقال ثابت البناني . كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا .
ثم فيها قولان :
أحدهما : أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم؛ وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم .
الثاني : عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم وللأطفال في غيرهم من والدٍ أو والدة ، قاله العلاء بن زيد .
{ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : عن كثير من المعاصي أن لا يكون عليها حدود ، وهو مقتضى قول الحسن .
الثاني : عن كثير من العصاة وأن لا يعجل عليهم بالعقوبة .
قال علي رضي الله عنه : ما عاقب الله به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة ، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة .

وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

قوله عز وجل : { وَمِن ءَايَاتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ } قال مجاهد هي السفن في البحر { كَالأَعْلاَمِ } أي كالجبال ، ومنه قول الخنساء :
وإنَّ صَخْراً لتأتَمُّ الهُدَاةُ به ... كأنَّه علمٌ في رأسِه نار
{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ } أي وقوفاً على ظهر الماء ، قال قتادة : لأن سفن هذا البحر تجري بالريح . فإذا أمسكت عنها ركدت .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } صبار على البلوى ، شكور على النعماء .
قال قطرب : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعْطِي شكر ، وإذا ابتُلِيَ صبر .
قال عون بن عبد الله : فكم من منعم عليه غير شاكر ، وكم من مبتلٍ غير صابر .
{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ } معناه يغرقهن بذنوب أهلها .
{ ويَعْفُ عَن كَثِيرٍ } من أهلها فلا يغرقهم معها .
{ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من فرار ومهرب ، قاله قطرب .
الثاني : ملجأ ، قاله السُدي مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة إذا مال به ، ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق أي يميل عنه .

فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)

قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ } قال عبد الرحمن بن زيد : هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم قبل الهجرة اثني عشر نقيباً منهم .
{ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه المحافظة على مواقيتها ، قاله قتادة .
الثاني : إتمامها بشروطها ، قاله سعيد بن جبير .
{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } فيه أربع أوجه :
أحدها : أنهم كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملواْ عليه فمدحهم الله تعالى به ، قاله النقاش .
الثاني : يعني أنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون فمدحوا على اتفاق كلمتهم . قال الحسن : ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم .
الثالث : هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وورود النقباء إليهم حتى اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له ، قاله الضحاك .
الرابع : أنهم يتشاورون فيما يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم بخير دون بعض .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يريد به أداء الزكاة من أموالهم ، قاله السدي .
الثاني : إنفاق الحلال من أكسابهم ، وهو محتمل .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُم الْبَغْيُ هُم يَنتَصِرُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أصابهم يعني المشركين على دينهم انتصروا بالسيف منهم . قاله ابن جريج .
الثاني : أصابهم يعني باغ عليهم كره لهم أن يستذلوا ، فإذا قدروا عفوا ، قاله إبراهيم .
الثالث : إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزايلوه عنهم ويدفعوه عنهم ، قاله ابن بحر .

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

قوله عز وجل : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } فيه قولان :
أحدهما : أنه محمول على الجراح التي تتمثل في القصاص دون غيرها من سب أو شتم ، قاله الشافعي ، وأبو حنيفة ، وسفيان .
الثاني : أنه محمول على مقابلة الجراح ، وإذا قال أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله ، ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب ، قاله ابن أبي نجيح والسدي . وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها وأنها عند المعاقب بها سواء .
{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } فأذن في الجزاء وندب إلى العفو .
وفي قوله : { وأَصْلَحَ } وجهان :
أحدهما : أصلح العمل ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أصلح بينه وبين أخيه ، قاله ابن زياد ، وهذا مندوب إليه في العفو عن التائب دون المصرّ . روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إِذَا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ . مَن كَانَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَلْيَدْخُلِ الجَنَّةَ ، فَيُقَالُ مَن ذَا الَّذي أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فَيَقُولُونَ العَافُونَ عَنِ النَّاسِ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسَابٍ » .
{ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظّالِمِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : الظالمين في الابتداء ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : المعتدي في الجزاء ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } أي استوفى حقه بنفسه .
{ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ } وهذا ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون قصاصاً في بدن يستحقه آدمي فلا حرج عليه فيه إذا استوفاه من غير عدوان ، وثبت حقه عند الحكام ، لكن يزجره الإمام في تفرده بالقصاص لما فيه من الجرأة على سفك الدماء ، وإن كان حقه غير ثابت عند الحكام فليس عليه فيما بينه وبين الله حرج وهو في الظاهر مطالب وبفعله مؤاخذ .
والقسم الثاني : أن يكون حداً لله لا حق فيه لآدمي كحد الزني وقطع السرقة . فإن لم يثبت ذلك عند حاكم أخذ به وعوقب عليه ، وإن ثبت عند حاكم نظر فإن كان قطعاً في سرقة سقط به الحد لزوال العضو المستحق قطعه ، ولم يجب عليه في ذلك حق إلا التعزير أدباً ، وإن كان جلداً لم يسقط به الحد لتعديه به مع بقاء محله وكان مأخوذاً بحكمه .
القسم الثالث : أن يكون حقاً في مال فيجوز لصاحبه أن يغالب على حقه حتى يصل إليه إن كان من هو عليه عالماً به ، وإن كان غير عالم نظر ، فإن أمكنه الوصول إليه عند المطالبة لم يكن له الاستسرار بأخذه ، وإن كان لا يصل إليه بالمطالبة لجحود من هو عليه مع عدم بينة تشهد به ففي جواز الاستسرار بأخذه مذهبان :
أحدهما : جوازه ، وهو قول مالك ، والشافعي .
الثاني : المنع ، قاله أبو حنيفة .
قوله عز وجل : { إِنَّما السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ } فيه قولان :
أحدهما : يظلمون الناس بعدوانهم عليهم وهو قول كثير منهم .

الثاني : يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم ، قاله ابن جريج .
{ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بغيهم في النفوس والأموال ، وهو قول الأكثرين .
الثاني : عملهم بالمعاصي ، قاله مقاتل .
الثالث : هو ما يرجوه كفار قريش أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً ، قاله أبو مالك .
قوله عز وجل : { وَلَمِنَ صَبَرَ وَغَفَرَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : صبر على الأذى وغفر للمؤذي .
الثاني : صبر عن المعاصي وستر المساوىء .
ويحتمل قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } وجهين :
أحدهما : لمن عزائم الله التي أمر بها .
الثاني : لمن عزائم الصواب التي وفق لها .
وذكر الكلبي والفراء أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع ثلاث آيات قبلها وقد شتمه بعض الأنصار فرد عليه ثم أمسك ، وهي المدنيات من هذه السورة .

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)

قوله عز وجل : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضَونَ عَلَيهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم المشركون جميعاً يعرضون على جهنم عند إطلاقهم إليها ، قاله الأكثرون .
الثاني : آل فرعون خصوصاً تحبس أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح ، فهم عرضهم ، قاله ابن مسعود .
الثالث : أنهم عامة المشركين ويعرضون على العذاب في قبورهم ، وهذا معنى قول أبي الحجاج .
{ خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ } قال السدي : خاضعين من الذل .
{ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ينظرون بأبصار قلوبهم دون عيونهم لأنهم يحشرون عمياً ، قاله أبو سليمان .
الثاني : يسارقون النظر إلى النار حذراً ، قاله محمد بن كعب .
الثالث : بطرفٍ ذليل ، قاله ابن عباس .

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)

قوله عز وجل : { مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإِ يَوْمَئِذٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من منج .
الثاني : من حرز ، قاله مجاهد .
{ وَمَا لَكُم مِّن نِّكيرٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من ناصر ينصركم ، قاله مجاهد .
الثاني : من منكر يغير ما حل بكم ، حكاه ابن أبي حاتم وقاله الكلبي .
قوله عز وجل : { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحخَ بِهَا } فيها وجهان :
أحدهما : أن الرحمة المطر ، قاله مقاتل .
الثاني : العافية ، قاله الكلبي .
{ وَإِن تُصِبْهُمْ سِّيئةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه السنة القحط ، قاله مقاتل .
الثاني : المرض ، قاله الكلبي .
{ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالنعمة .
الثاني : بالله .

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

قوله عز وجل : { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ } قال عبيدة : يهب لمن يشاء إناثاً لا ذكور فيهن ، ويهب لمن يشاء ذكوراً لا إناث فيهم . وأدخل الألف على الذكور دون الإناث لأنهم أشرف فميزهم بسمة التعريف .
{ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } فيه وجهان :
أحدهما : هو أن تلد غلاماً ثم تلد جارية ثم تلد غلاماً ثم تلد جارية ، قاله مجاهد .
الثاني : هو أن تلد توأمين غلاماً وجارية ، قاله محمد بن الحنفية ، والتزويج هنا الجمع بين البنين والبنات . قال ابن قتيبة : تقول العرب زوجني إبلي إذا جمعت بين الصغار والكبار .
{ وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } أي لا يولد له . يقال عقم فرجه عن الولادة أي منع .
وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصاً وإن عم حكمها ، فوهب للوط البنات ليس فيهن ذكر ، ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى ، ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث ، وجعل عيسى ويحيى عقيمين .

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

قوله عز وجل : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } الآية . سبب نزولها ما حكاه النقاش أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فنزلت هذه الآية .
وفي قوله : { وَحْياً } وجهان :
أحدهما : أنه نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاماً ، قاله مجاهد .
الثاني : رؤيا يراها في منامه ، قاله زهير بن محمد .
{ أَوْ مِن وَرَآءِي حِجَابٍ } قال زهير : كما كلم موسى .
{ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } قال زهير : هو جبريل .
{ فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقاً ويرونه عياناً . وهكذا كانت حال جبريل إذا نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عباس : نزل جبريل على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا صلوات الله عليهم أجمعين ، فأما غيرهم فكان وحياً إلهاماً في المنام .
قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : رحمة من عندنا ، قاله قتادة .
الثاني : وحياً من أمرنا ، قاله السدي .
الثالث : قرآناً من أمرنا ، قاله الضحاك .
{ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ } فيه وجهان :
أحدهما : ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة ، ولا الإيمان لولا البلوغ ، قاله ابن عيسى .
الثاني : ما كنت تدري ما الكتاب لولا إنعامنا عليك ، ولا الإيمان لولا هدايتنا لك وهو محتمل .
وفي هذا الإيمان وجهان :
أحدهما : أنه الإيمان بالله ، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته .
الثاني : أنه دين الإٍسلام ، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة .
{ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً . . . } فيه قولان :
أحدهما : جعلنا القرآن نوراً ، قاله السدي .
الثاني : جعلنا الإيمان نوراً . حكاه النقاش وقاله الضحاك .
{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فيه قولان :
أحدهما : معناه : وإنك لتدعو إلى دين مستقيم ، قاله قتادة .
الثاني : إلى كتاب مستقيم ، قاله علي رضي الله عنه .
وقرأ عاصم الجحدري : وإنك لتُهدى ، بضم التاء أي لتُدْعَى .
قوله عز وجل : { صِرَاطِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن صراط الله هو القرآن ، قاله علي كرم الله وجهه .
الثاني : الإٍسلام ، رواه النواس بن سمعان الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم .
{ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه وعيد بالبعث .
الثاني : أنه وعيد بالجزاء ، والله أعلم .

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)

قوله عز وجل : { حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } الكتاب هو القرآن : وفي تسميته مبيناً ثلاثة أوجه :
أحدها : لأنه بيِّن الحروف ، قاله أبو معاذ .
الثاني : لأنه بين الهدى والرشد والبركة ، قاله قتادة .
الثالث : لأن الله تعالى قد بين فيه أحكامه وحلاله وحرامه ، قاله مقاتل .
وفي هذا موضع القسم ، وفيه وجهان :
أحدهما : معناه ورب الكتاب .
الثاني : أنه القسم بالكتاب ، ولله عز وجل أن يقسم بما شاء ، وإن لم يكن ذلك لغيره من خلقه .
وجواب القسم { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرءاناً عَرَبِيّاً } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إنا أنزلناه عربياً ، قاله السدي .
الثاني : إنا قلناه قرآناً عربياً ، قاله مجاهد .
الثالث : إنا بيناه قرآناً عربياً ، قاله سفيان الثوري . ومعنى العربي أنه بلسان عربي ، وفيه قولان :
أحدهما : أنه جعل عربياً لأن لسان أهل السماء عربي ، قاله مقاتل .
الثاني : لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه ، قاله سفيان الثوري .
{ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : تفهمون ، فعلى هذا يكون هذا القول خاصاً بالعرب دون العجم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : يتفكرون قاله ابن زيد ، فعلى هذا يكون خطاباً عاماً للعرب والعجم .
قوله عز وجل : { وَإِنَّهُ فِي أَمِّ الْكِتَابِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : جملة الكتاب .
الثاني : أصل الكتاب ، قاله ابن سيرين .
الثالث : أنها الحكمةالتي نبه الله عليها جميع خلقه ، قاله ابن بحر .
وفي { الْكِتَابِ } قولان :
أحدهما أنه اللوح المحفوظ؛ قاله مجاهد .
الثاني : أنه ذكر عند الله فيه ما سيكون من أفعال العباد مقابل يوم القيامة بما ترفعه الحفظة من أعمالهم ، قاله ابن جريج .
وفي المكنى عنه أنه في أمِّ الكتاب قولان :
أحدهما : أنه القرآن ، قاله الكلبي .
الثاني : أنه ما يكون من الخلق من طاعة ومعصية وإيمان أو كفر ، قاله ابن جريج .
{ لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : رفيع عن أن ينال فيبدل . حكيم أي محفوظ من نقص أو تغيير ، وهذا تأويل من قال أنه ما يكون من الطاعات والمعاصي .
الثاني : أنه علي في نسخه ما تقدم من الكتب ، وحكيم أي محكم الحكم فلا ينسخ ، وهذا تأويل من قال أنه القرآن .
قوله عز وجل : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أفحسبتم أن نصفح ولما تفعلون ما أمرتم به؟ قاله ابن عباس .
الثاني : معناه أنكم تكذبون بالقرآن ولا نعاقبكم فيه ، قاله مجاهد .
الثالث : أي نهملكم فلا نعرفكم بما يجب عليكم ، حكاه النقاش .
الرابع : أن نقطع تذكيركم بالقرآن : وإن كذبتم به : قاله قتادة .
ويحتمل خامساً : أن نوعد ولا نؤاخذ ، ونقول فلا نفعل .
{ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : مشركين ، قاله قتادة .
الثاني : مسرفين في الرد .
ومعن صفحاً أي إعراضاً ، يقال صفحت عن فلان أي أعرضت عنه . قال ابن قتيبة : والأصل فيه إنك توليه صفحة عنقك . قال كثير في صفة امرأة :
صفحٌ فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن قَلّ منها ذلك الوصل قلّت
أي تعرض عنه بوجهها .
قوله عز وجل : { وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : سنة الأولين ، قاله مجاهد .
الثاني : عقوبة الأولين ، قاله قتادة .
الثالث : عِبرة الأولين ، قاله السدي .
الرابع : خبر الأولين أنهم أهلكوا بالتكذيب ، حكاه النقاش .

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

قوله عز وجل : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً } أي فراشاً .
{ وجَعَلَ لَكُم فِيهَا سُبُلاً } أي طرقاً .
ويحتمل ثانياً : أي معايش .
{ لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : تهتدون في أسفاركم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : تعرفون نعمة الله عليكم ، قاله سعيد بن جبير .
ويحتمل ثالثاً : تهتدون إلى معايشكم .
قوله عز وجل : { وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الأصناف كلها ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أزواج الحيوان من ذكر وأنثى ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أن الأزواج الشتاء والصيف ، والليل والنهار ، والسموات والأرض ، والشمس والقمر ، والجنة والنار ، قاله الحسن .
ويحتمل رابعاً : أن الأزواج ما يتقلب فيه الناس من خيرٍ وشر ، وإيمان وكفر ، وغنى وفقر ، وصحة وسقم .
{ وَجَعَلَ لَكُم مِّن الْفُلْكِ } يعني السفن .
{ والأنعام ما تركبون } في الأنعام هنا قولان :
أحدهما : الإبل والبقر ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : الإبل وحدها : قاله معاذ . فذكرهم نعمه عليهم في تسييرهم في البر والبحر .
ثم قال { لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهَا } وأضاف الظهور إلى واحد لأن المراد به الجنس فصار الواحد في معنى الجمع .
{ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } أي ركبتم .
{ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا } أي ذلل لنا هذا المركب .
{ وَمَا كَنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ضابطين ، قاله الأخفش .
الثاني : مماثلين في الأيد والقوة ، قاله قتادة من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة .
الثالث : مطيقين ، قاله ابن عباس والكلبي ، وأنشد قطرب لعمرو بن معدي كرب .
لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا
وفي أصله قولان :
أحدهما : أن أصله مأخوذ من الإقران ، يقال أقرن فلان إذا أطاق . الثاني : أن أصله مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير .
وحكى سليمان بن يسار أن قوماً كانوا في سفر ، فكانوا إذا ركبوا قالوا : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } وكان فيهم رجل على ناقة له رازم وهي لا تتحرك هزالاً فقال أما أنا فإني لهذه مقرن ، قال فقصمت به فدقت عنقه .

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)

قوله عز وجل : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عدلاً أي مثلاً ، قاله قتادة .
الثاني : من الملائكة ولداً ، قاله مجاهد .
الثالث : نصيباً ، قاله قطرب .
الرابع : أنه البنات ، والجزء عند أهل العربية البنات . يقال قد أجزأت المرأة إذا ولدت البنات . قال الشاعر :
إن أجزأت مرة قوماً فلا عجب ... قد تجزىء الحرة المذكارُ أحيانا
{ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ } قال الحسن : يعد المصائب وينسى النعم .
قوله عز وجل : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً } أي بما جعل للرحمن البنات ولنفسه البنين .
{ ظَلَّ وَجْههُه مُسْوَداً } يحتمل وجهين :
أحدهما : ببطلان مثله الذي ضربه .
الثاني : بما بشر به من الأنثى .
{ وَهُوَ كَظِيمٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : حزين ، قاله قتادة .
الثاني : مكروب ، قاله عكرمة .
الثالث : ساكت ، حكاه ابن أبي حاتم . وذلك لفساد مثله وبطلان حجته .
قوله عز وجل : { أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي الْحِلْيَةِ } النشوء التربية ، والحلية الزينة . وفي المراد بها ثلاثة أوجه :
أحدها : الجواري ، قاله ابن عباس ومجاهد .
الثاني : البنات . قاله ابن قتيبة .
الثالث : الأَصنام ، قاله ابن زيد .
وفي { الْخِصَامِ } وجهان :
أحدهما : في الحجة .
الثاني : في الجدل .
{ غَيْرُ مُبِينٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عني قلة البلاغة ، قاله السدي .
الثاني : ضعف الحجة ، قال قتادة : ما حاجت امرأة إلا أوشكت أن تتكلم بغير حجتها .
الثالث : السكوت عن الجواب ، قاله الضحاك وابن زيد ومن زعم أنها الأصنام .
قوله عز وجل : { وَجَعَلُواْ الْمَلآئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً } في قوله { عِبَادُ الرَّحْمَنِ } وجهان :
أحدهما : أنه سماهم عباده على وجه التكريم كما قال { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الِّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً } .
الثاني : أنه جمع عابد .
وفي قوله : { إِنَاثاً } وجهان :
أحدهما : أي بنات الرحمن .
الثاني : ناقصون نقص البنات .
{ أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : مشاهدتم وقت خلقهم .
الثاني : مشاهدتهم بعد خلقهم حتى علموا أنهم إناث .
{ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } أي ستكتب شهادتهم إن شهدوا ويسألون عنها إذا بعثوا .

أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

قوله عز وجل : { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : على دين ، قاله قتادة وعطية ، ومنه قول قيس بن الخطيم :
كنا على أمة آبائنا ... قد يقتدي الآخر بالأول
الثاني : على ملة وهو قريب من معنى الأول ، قاله مجاهد وقطرب وفي بعض المصاحف . { قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى مِلَّةٍ } .
الثالث : على قبلة ، حُكي ذلك عن الفراء .
الرابع : على استقامة ، قاله الأخفش ، وأنشد النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثَمَن ذو أمة وهو طائع
الخامس : على طريقة ، قاله عمر بن عبد العزيز ، وكان يقرأ { عَلَى أُمَّةٍ } بكسر الألف والأمة الطريقة من قولهم أممت القوم . حكاه الفراء .
{ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } قال قتادة متبعون . وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، وأبي سفيان ، وأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة ابني ربيعة من قريش .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ } البراء مصدر موضع الوصف ، لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، فكأنه قال إنني بريء .
{ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي } وهذا استثناء منقطع وتقديره ، لكن الذي فطرني أي خلقني :
{ فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } وقيل فيه محذوف تقديره إلا الذي فطرني لا أبرأ منه { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } قال ذلك ثقة بالله وتنبيهاً لقومه أن الهداية من ربه .
قوله عز وجل : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيةً فِي عَقِبِهِ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا إله إلا الله ، لم يزل في ذريته من يقولها ، قاله مجاهد ، وقتادة .
الثاني : ألا تعبدوا إلا الله ، قاله الضحاك .
الثالث : الإسلام ، لقوله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } قاله عكرمة . وفي { عَقِبِهِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : ولده ، قاله عكرمة .
الثاني : في آل محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله السدي .
الثالث : من خلفه ، قاله ابن عباس .
{ لَعَلَّهُم يَرْجِعُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يرجعون إلى الحق ، قاله إبراهيم .
الثاني : يتوبون ، قاله ابن عباس .
الثالث : يذكرون ، قاله قتادة .
الرابع : يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم ، قاله الفراء .
قوله عز وجل : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيمٍ } أما القريتان فإحداهما مكة والأخرى الطائف .
وأما عظيم مكة ففيه قولان : أحدهما : أنه الوليد بن المغيرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : عتبة بن ربيعة ، قاله مجاهد .
وأما عظيم الطائف ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه حبيب بن عمر الثقفي ، قاله ابن عباس .
الثاني : [ عمير ] بن عبد ياليل ، [ الثقفي ] قاله مجاهد .
الثالث : عروة بن مسعود ، قاله قتادة .
الرابع : أنه كنانة [ عبد ] بن عمرو ، قاله السدي .
قوله عز وجل : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } يعني النبوة فيضعوها حيث شاءوا .
{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنَْيَا } يعني أرزاقهم ، قال قتادة : فتلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له ، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه .
{ وَرَفَعَنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : بالفضائل ، فمنهم فاضل ومنهم مفضول ، قاله مقاتل .
الثاني : بالحرية والرق ، فبعضهم مالك وبعضهم مملوك .
الثالث : بالغنى والفقر ، فبعضهم غني ، وبعضهم فقير .
الرابع : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : قاله السدي ، التفضيل في الرزق إن الله تعالى قسم رحمته بالنبوة كما قسم الرزق بالمعيشة .
{ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني خدماً ، قاله السدي .
الثاني : ملكاً ، قاله قتادة .
{ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن النبوة خير من الغنى .
الثاني : أن الجنة خير من الدنيا .
الثالث : أن إتمام الفرائض خير من كثرة النوافل .
الرابع : أن ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم ، قاله بعض أصحاب الخواطر .

قوله عز وجل : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أَمَّةً وَاحِدَةً } فيه وجهان :
أحدهما : على دين واحد كفاراً ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : على اختيار الدنيا على الدين ، قاله ابن زيد .
{ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِ سُقُفاً مَّن فِضَّةٍ } فيها قولان :
أحدهما : أنها أعالي البيوت ، قاله قتادة ، ومجاهد .
الثاني : الأبواب ، قاله النقاش .
{ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } قال ابن عباس : المعارج الدرج ، وهو قول الجمهور وأحدها معراج .
{ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } أي درج من فضة عليها يصعدون ، والظهور الصعود . وأنشد : نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :
علونا السماء عفة وتكرما ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « إِلَى أَينَ » قال : إلى الجنة .
قال : « أَجَل إِن شَاءَ اللَّهُ » قال الحسن : والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك فكيف لو فعل؟
{ وَزُخْرُفاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الذهب : قاله ابن عباس . وأنشد قطرب قول ذي الأصبع :
زخآرف أشباهاً تخال بلوغها ... سواطع جمر من لظى يتلهب
الثاني : الفرش ومتاع البيت ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه النقوش ، قاله الحسن .

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

قوله عز وجل : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعرض ، قاله قتادة .
الثاني : يعمى ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه السير في الظلمة ، مأخوذ من العشو وهو البصر الضعيف ، ومنه قول الشاعر :
لنعم الفتى تعشو إلى ضوءِ ناره ... إذا الريحُ هبّت والمكان جديب
وفي قوله : { عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : عن ذكر الله ، قاله قتادة .
الثاني : عما بيّنه الله من حلال وحرام وأمر ونهي ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثالث : عن القرآن لأنه كلام الرحمن ، قاله الكلبي .
{ نُقِيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } فيه وجهان :
أحدهما : نلقيه شيطاناً .
الثاني : نعوضه شيطاناً ، مأخوذ من المقايضة وهي المعاوضة .
{ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنه شيطان يقيض له في الدنيا يمنعه من الحلال ويبعثه على الحرام ، وينهاه عن الطاعة ويأمره بالمعصية ، وهو معنى قول ابن عباس .
الثاني : هو أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره شفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصير بهما الله إلى النار ، قاله سعيد بن جبير .
قوله عز وجل : { حَتَّى إِذَا جَآءَنا } قرأ على التوحيد أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، يعني ابن آدم ، وقرأ الباقون { جَاءَانَا } على التثنية يعني ابن آدم وقرينه .
{ قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بَعُدَْ الْمَشْرِقَيْنِ } هذا قول ابن آدم لقرينه وفي المشرقين قولان :
أحدهما : أنه المشرق والمغرب فغلب أحدهما على الآخر كما قيل : سنة العمرين ، كقول الشاعر :
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
الثاني : أنه مشرق الشتاء ومشرق الصيف ، كقوله تعالى { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } .
قوله عز وجل : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه قولان :
أحدهما : إما نخرجنك من مكة من أذى قريش فإنا منهم منتقمون بالسيف يوم بدر .
الثاني : فإما نقبض روحك إلينا فإنا منتقمون من أمتك فيما أحدثوا بعدك . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي ما لقيت أمته بعده فما زال منقبضاً ما انبسط ضاحكاً حتى لقي الله تعالى .
قوله عز وجل : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } يعني القرآن ذكر لك [ ولقومك ] .
وفي { لَذِكْرٌ } قولان :
أحدهما : الشرف ، أي شرف لك ولقومك ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه لذكر لك ولقومك تذكرون به أمر الدين وتعملون به ، حكاه ابن عيسى .
{ وَلِقَوْمِكَ } فيه قولان :
أحدهما : من اتبعك من أمتك ، قاله قتادة .
الثاني : لقومك من قريش فيقال : ممن هذا الرجل؟ فيقال : من العرب ، فيقال : من أي العرب؟ فيقال : من قريش ، قاله مجاهد .
{ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : عن الشكر ، قاله مقاتل .
الثاني : أنت ومن معك عما أتاك ، قاله ابن جريج .
وحكى ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس في قوله { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أنه قول الرجل حدثني أبي عن جدي .

قوله عز وجل : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني الأنبياء الذين جمعوا له ليلة الإسراء ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وكانوا سبعين نبياً منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، قاله قتادة ، والضحاك ، ويكون تقديره سل أمم من أرسلنا من قبلك من رسلنا .
الثالث : جبريل ، ويكون تقديره . واسأل عما أرسلنا من قبلك من رسلنا ، حكاه النقاش .
{ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ } وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك ، فأمره الله بسؤالهم لا لأنه كان في شك منه . واختلف في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين :
أحدهما : أنه سألهم ، فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد ، قاله الواقدي .
الثاني : أنه لم يسأل ليقينه بالله تعالى ، حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل : هل سألك محمد ذلك؟ فقال جبريل : هو أشد إيماناً وأعظم يقيناً من أن يسألني عن ذلك .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

قوله عز وجل : { وَقَالُواْ يَأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنهم قالوا على وجه الاستهزاء ، قاله الحسن .
الثاني : أنه يجري على ألسنتهم ما ألفوه من اسمه ، قاله الزجاج .
الثالث : أنهم أرادوا بالساحر غالب السحرة ، وهو معنى قول ابن بحر .
الرابع : أن الساحر عندهم هو العالم ، فعظموه بذلك ولم تكن صفة ذم ، حكاه ابن عيسى وقاله الكلبي .
{ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } قال مجاهد : لئن أمنا لتكشف العذاب عنا ، قال الضحاك ، وذلك أن الطوفان أخذهم ثمانية أيام لا يسكن ليلاً ولا نهاراً .
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أي يغدرون وكان موسى دعا لقومه فأجيب فيهم فلم يفواْ .

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)

قوله عز وجل : { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى نادى أي قال ، قاله أبو مالك .
الثاني : أمر من نادى في قومه ، قاله ابن جريج .
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ } فيه قولان :
أحدهما : أنها الإسكندرية ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه ملك منها أربعين فرسخاً في مثلها ، حكاه النقاش .
{ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : كانت جنات وأنهاراً تجري من تحت قصره ، قاله قتادة . وقيل من تحت سريره .
الثاني : أنه أراد النيل يجري من تحتي أي أسفل مني .
الثالث : أن معنى قوله : { وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي } أي القواد والجبابرة يسيرون تحت لوائي ، قاله الضحاك .
ويحتمل رابعاً : أنه أراد بالأنهار الأموال ، وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها وقوله { تَجْرِي مِن تَحْتِي } أي أفرقها على من يتبعني لأن الترغيب والقدرة في الأموال في الأنهار .
{ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أفلا تبصرون إلى قوتي وضعف موسى؟ .
الثاني : قدرتي على نفعكم وعجز موسى .
ثم صرح بحاله فقال { أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ } قال السدي : بل أنا خير .
{ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أي ضعيف ، قاله قتادة .
الثاني : حقير ، قاله سفيان .
الثالث : لأنه كان يمتهن نفسه في حوائجه ، حكاه ابن عيسى .
{ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } أي يفهم ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني أنه عيي اللسان ، قاله قتادة .
الثاني : أَلثغ قاله ، الزجاج .
الثالث : ثقيل اللسان لجمرة كان وضعها في فيه وهو صغير ، قاله سفيان .
قوله عز وجل : { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف .
الثاني : ليكون ذلك دليلاً على صدقه ، والأساورة جمع أسورة ، والأسورة جمع سوار .
{ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : متتابعين ، قاله قتادة .
الثاني : يقارن بعضهم بعضاً في المعونة ، قاله السدي .
الثالث : مقترنين أي يمشون معاً ، قاله مجاهد .
وفي مجيئهم معه قولان :
أحدهما : ليكونوا معه أعواناً ، قاله مقاتل .
الثاني : ليكونوا دليلاً على صدقه ، قاله الكلبي . وليس يلزم هذا لأن الإعجاز كاف ، وقد كان في الجائز أن يكذب مع مجيء الملائكة كما يكذب مع ظهور الآيات .
وذكر فرعون الملائكة حكاية عن لفظ موسى لأنه لا يؤمن بالملائكة من لا يعرف خالقهم .
قوله عز وجل : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : استفزهم بالقول فأطاعوه على التكذيب ، قاله ابن زياد .
الثاني : حركهم بالرغبة فخفوا معه في الإجابة ، وهو معنى قول الفراء .
الثالث : استجهلهم فأظهروا طاعة جهلهم ، وهو معنى قول الكلبي . الرابع : دعاهم إلى باطله فخفوا في إجابته ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أغضبونا ، رواه الضحاك عن ابن عباس .

الثاني : أسخطونا ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس . ومعناهما مختلف ، والفرق بينهما أن السخط إظهار الكراهة ، والغضب إرادة الانتقام .
والأسف هو الأسى على فائت . وفيه وجهان :
أحدهما : أنه لما جعل هنا في موضع الغضب صح أن يضاف إلى الله لأنه قد يغضب على من عصاه .
الثاني : أن الأسف راجع إلى الأنبياء لأن الله تعالى لا يفوته شيء ، ويكون تقديره : فلما آسفوا رسلنا انتقمنا منهم .
قوله عز وجل : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً } قرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام ، وفيه تأويلان :
أحدهما : أهواء مختلفة ، قاله ابن عباس .
الثاني : جمع سلف أي جميع من قد مضى من الناس ، قاله ابن عيسى .
وقرأ الباقون بفتح السين واللام ، أي متقدمين ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها ، سلفاً في النار ، قاله قتادة .
الثاني : سلفاً لكفار أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مجاهد .
الثالث : سلفاً لمثل من عمل مثل عملهم ، قاله أبو مجلز .
{ وَمَثَلاً لِّلآخِرينَ } فيه وجهان :
أحدهما : عظة لغيرهم ، قاله قتادة .
الثاني : عبرة لمن بعدهم ، قاله مجاهد .

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)

قوله عز وجل : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } الآية . فيه أربعة أقاويل :
أحدها : ما رواه ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا مَعْشَرَ قُرَيشٍ إِنَّهُ لَيسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِن دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ » فقالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً صالحاً؟ فقد كان يعبد من دون الله ، فنزلت .
الثاني : ما حكاه مجاهد أن قريشاَ قالت : إن محمداً يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى ، فنزلت .
الثالث : ما حكاه قتادة أن الله لما ذكر نزول عيسى في القرآن قالت قريش : يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى؟ فنزلت هذه الآية .
الرابع : ما ذكره ابن عيسى أنه لما ذكر الله خلق عيسى من غير ذكر كآدم أكبرته قريش فنزلت هذه الآية . وضربه مثلاً أن خلقه من أنثى بغير ذكر كما خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر ولذلك غلت فيه النصارى حين اتخذته إلهاً .
{ . . . يَصِدُّونَ } فيه قراءتان :
إحداهما : بكسر الصاد .
والثانية : بضمها فاختلف أهل التفسير في اختلافهما على قولين :
أحدهما : معناه واحد وإن اختلف لفظهما في الصيغة مثل يشد ويشُد وينِم وينُم ، فعلى هذا في تأويل ذلك أربعة أوجه :
أحدها : يضجون ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك .
الثاني : يضحكون ، قاله قتادة .
الثالث : يجزعون ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
الرابع : يعرضون ، قاله إبراهيم .
والقول الثاني : معناهما مختلف ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بالضم يعدلون ، وبالكسر يتفرقون ، قاله الحسن .
الثاني : أنه بالضم يعتزلون ، وبالكسر يضجون ، قاله الأخفش .
الثالث : أنه بالضم من الصدود ، وبالكسر من الضجيج ، قاله قطرب .
{ وَقَالُواْ ءَأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } وهذا قول قريش ، قالواْ : أآلهتنا وهي أصنامهم التي يبعدونها خير { أَمْ هُوَ } فيه قولان :
أحدهما : أم محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله قتادة .
الثاني : أم عيسى ، قاله السدي .
{ مَا ضَرَبُوه لَكَ إِلاَّ جَدَلاً } قال السدي : هو قول قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم تزعم كل شيء عبد من دون الله في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة هؤلاء قد عبدوا من دون الله .
{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الخصم الحاذق بالخصومة .
الثاني : أنه المجادل بغير حجة .
قوله عز وجل : { إِنْ هُوَ إِلاَّعَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } قال قتادة : يعني عيسى .
{ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالنبوة .
الثاني : بخلقه من غير أب كآدم . وفيه وجه .
الثالث : بسياسة نفسه وقمع شهوته .
{ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَآئِيلَ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أنه لبني إسرائيل ، قاله قتادة .
الثاني : لتمثيله بآدم ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكم مَّلاَئِكَةً } فيه وجهان :
أحدهما : يعني لقلبنا بعضكم ملائكة من غير أب كما خلقنا عيسى من غير أب ليكونوا خلفاء من ذهب منكم .

الثاني : جعلنا بدلاً منكم ملائكة .
{ فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ملائكة يخلف بعضها بعضاً ، قاله قتادة .
الثاني : ملائكة يكونون خلفاً منكم ، قاله السدي .
الثالث : ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم ، قاله مجاهد .
الرابع : ملائكة يكونون رسلاً إليكم بدلاً من الرسل منكم .
قوله عز وجل : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن القرآن علم الساعة لما فيه من البعث والجزاء ، قاله الحسن وسعيد بن جبير .
الثاني : أن إحياء عيسى الموتى دليل على الساعة وبعث الموتى ، قاله ابن إسحاق .
الثالث : أن خروج عيسى علم الساعة لأنه من علامة القيامة وشروط الساعة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي . وروى خالد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأَنبِيَاءُ إِخْوَةٌ لَعِلاَّتُ أُمَّهَاتُهُم شَتَّى وَدِينُهُم وَاحِدٌ ، أَنَا أَولَى النَّاسِ بِعيسَى ابنِ مَرْيَمَ ، إِنَّهُ لَيسَ بَينِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ ، وَإِنَّهُ أَوَّلُ نَازِلٍ ، فَيَكْسَرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الخنزيرَ ، وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإِسْلاَمِ » .
وحكى ابن عيسى عن قوم أنهم قالوا : إذا نزل عيسى رفع التكليف لئلا يكون رسولاً إلى أهل ذلك الزمان يأمرهم عن الله تعالى وينهاهم ، وهذا قول مردود لثلاثة أمور : للحديث الذي قدمناه ، ولأن بقاء الدنيا يقتضي بقاء التكليف فيها ، ولأنه ينزل آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر وليس يستنكر أن يكون أمر الله تعالى مقصوراً على تأييد الإسلام والأمر به والدعاء إليه .
وحكى مقاتل أن عيسى ينزل من السماء على ثنية جبل بأرض الشام يقال له أفيف .
{ فَلاَ تَمْتَرُونَّ بِهَا } فيه وجهان :
أحدهما : لا تشكون فيها يعني الساعة . قاله يحيى بن سلام .
الثاني : فلا تكذبون بها ، قاله السُدي .
{ وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّستَقِيمٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : القرآن صراط مستقيم إلى الجنة ، قاله الحسن .
الثاني : عيسى ، قاله ابن عباس .
الثالث : الإسلام ، قاله يحيى .
قوله عز وجل : { وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبِيِّنَاتِ } فيها وجهان :
أحدهما : أنه الإنجيل ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الآيات التي جاء بها من إحياء الموتى وإبراء الأسقام ، والإخبار بكثير من الغيوب ، قاله ابن عباس .
{ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ } فيه قولان :
أحدهما : بالنبوة ، قاله السدي .
الثاني : بعلم ما يؤدي إلى الجميل ويكف عن القبيح ، قاله ابن عيسى .
ويحتمل ثالثاً : أن الحكمة الإنجيل الذي أنزل عليه .
{ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } وفيه قولان :
أحدهما : تبديل التوراة ، قاله مجاهد .
الثاني : ما تختلفون فيه من أمر دينكم لا من أمر دنياكم ، حكاه ابن عيسى .
وفي قوله : { بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي كل الذي تختلفون فيه ، فكان البعض هنا بمعنى الكل ما اقتصرعلى بيان بعض دون الكل ، قاله الأخفش ، وأنشد لبيد :
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها
والموت لا يعتلق النفوس دون بعض .
الثاني : أنه بين لهم بعضه دون جميعه ، ويكون معناه أبين لكم بعض ذلك أيضاً وأكلكم في بعضه إلى الاجتهاد ، وأضمر ذلك لدلالة الحال عليه .
قوله عز وجل : { فَاخْتَلَفَ الأَحَْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } قال قتادة يعني { مِن بَيْنِهِم } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى خالف بعضهم بعضاً ، قاله مجاهد والسدي .
الثاني : فرق النصارى من النسطورية واليعاقبة والملكية اختلفوا في عيسى فقالت النسطورية : هو ابن الله . وقالت اليعاقبة هو الله . وقالت الملكية ثالث ثلاثة أحدهم الله ، قاله الكلبي ومقاتل .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)

قوله عز وجل : { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم أعداء في الدنيا ، لأن كل واحد منهم زين للآخر ما يوبقه ، وهو معنى قول مجاهد .
الثاني : أنهم أعداء في الآخرة مع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا لما رأوا سوء العاقبة فيها بالمقارنة ، وهو معنى قول قتادة .
وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي ، وعقبة بن أبي معيط كانا خليلين . وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت قريش قد صبأ عقبة بن أبي معيط وقال له أمية : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً ولم تتفل في وجهه ففعل عقبة ذلك فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله ، فقتله يوم بدر صبراً ، وقتل أمية في المعركة ، وفيهما نزلت هذه الآية .
قوله عز وجل : { أَنتُمْ وأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : هم وأزواجهم المؤمنات في الدنيا .
الثاني : ومن يزوجون من الحور في الآخرة .
الثالث : هم وقرناؤهم في الدنيا .
وفي { تُحْبَرُونَ } ستة تأويلات :
أحدها : تكرمون ، قاله ابن عباس ، والكرامة في المنزلة .
الثاني : تفرحون ، قاله الحسن ، والفرح في القلب .
الثالث : تتنعمون ، قاله قتادة ، والنعيم في البدن .
الرابع : تسرّون ، قاله مجاهد ، والسرور في العين .
الخامس : تعجبون ، قاله ابن أبي نجيح ، والعجب ها هنا درك ما يستطرف .
السادس : أنه التلذذ بالسماع ، قاله يحيى بن أبي كثير .
قوله عز وجل : { . . وَأَكْوَابٍ } فيها خمسة أقاويل :
أحدها : أنه الآنية المدورة الأفواه ، قاله مجاهد .
الثاني : أنها ليست لها آذن ، قاله السدي .
الثالث : أن الكوب : المدور القصير العنق القصير العروة ، والإبريق : الطويل العنق الطويل العروة ، قاله قتادة .
الرابع : أنها الأباريق التي لا خراطيم لها ، قاله الأخفش .
الخامس : أنها الأباريق التي ليس لها عروة ، قاله قطرب .
قوله عز وجل : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُ الأَعْيُنُ } قرأ نافع ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص { تَشْتَهِيهِ } .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : ما تشتهي الأنفس ما تتمناه ، وما تلذ الأعين هو ما رآه فاشتهاه .
الثاني : ما تشتهيه الأنفس هو ما كان طيب المخبر ، وما تلذ الأعين ما كان حسن المنظر .

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)

قوله عز وجل : { وَنَادَوْاْ يَا مَالِكُ } هذا نداء أهل النار لخزانها حين ذاقوا عذابها .
{ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي يميتنا ، طلبوا الموت ليستريحوا به من عذاب النار .
{ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ } أي لابثون في عذابها أحياء ، وفي مدة ما بين ندائهم وجوابه أربعة أقاويل .
أحدها : أربعون سنة ، قاله عبد الله بن عمرو .
الثاني : ثمانون سنة ، قاله السدي .
الثالث : مائة سنة ، قاله نوف .
الرابع : ألف سنة ، قاله ابن عباس ، لأن بعد ما بين النداء والجواب أخزى لهم وأذل .
قوله تعالى : { أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أم أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء بالبعث ، قاله قتادة .
الثاني : أن أحكموا كيداً فإنا محكمون لها كيداً ، قاله ابن زيد .
الثالث : قضوا أمراً فإنا قاضون عليهم بالعذاب ، قاله الكلبي .
وقيل إن هذه الآية نزلت في كفار قريش حين اجتمع وجوههم في دار الندوة يتشاورون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى استقر رأيهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتله فتضعف المطالبة بدمه ، فنزلت هذه الآية ، وقتل الله جميعهم عليهم اللعنة يوم بدر .

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

قوله عز وجل : { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } فيه ستة أقاويل :
أحدها : إن كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبد الله ليس له ولد ، قاله ابن زيد . ومجاهد .
الثاني : معناه فأنا أول العابدين ، ولكن لم يكن ولا ينبغي أن يكون ، قاله قتادة .
الثالث : قل لم يكن للرحمن ولد وأنا أول الشاهدين بأن ليس له ولد . قاله ابن عباس .
الرابع : قل ما كان للرحمن ولد ، وهذا كلام تام ثم استأنف فقال : فأنا أول العابدين أي الموحدين من أهل مكة ، قاله السدي .
الخامس : قل إن قلتم إن للرحمن ولداً فأنا أول الجاحدين أن يكون له ولد ، قاله سفيان .
السادس : إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين أن يكون له ولد ، قاله الكسائي وابن قتيبة ، ومنه قول الفرزدق :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... وأعْبُدُ أن أهجو تميماً بدارم
قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ } وهذا إبطال أن يكون غير الله إلَهاً وأن الإلَه هو الذي يكون في السماء إلهاً وفي الأرض إلهاً وليست هذه صفة لغير الله ، فوجب أن يكون هو الإله .
وفي معنى الكلام وجهان :
أحدهما : أنه الموحد في السماء والأرض ، قاله مقاتل .
الثاني : أنه المعبود في السماء والأرض ، قاله الكلبي .
{ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه يذكر ذلك صفة لتعظيمه .
الثاني : أنه يذكره تعليلاً لإلاهيته لأنه حكيم عليم وليس في الأصنام حكيم عليم .
قوله عز وجل : { وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِهِ الشَّفَاعَةَ } فيها قولان :
أحدهما : الشركة ومنه أخذت الشفعة في البيع لاستحقاق الشريك لها . ويكون معنى الكلام أن الذين يدعون من دون الله لا يملكون مع الله شركة يستحقون أن يكونوا بها آلهة إلا أن يشهدوا عند الله بالحق على من عليه حق أو له حق ، وهذا معنى قول ابن بحر .
الثاني : أن الشفاعة استعطاف المشفوع إليه فيما يرجى ، واستصفاحه فيما يخشى وهو قول الجمهور .
وقيل إن سبب نزولها ما حكي أن النضر بن الحارث ونفراً من قريش قالوا إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن نتولى الملائكة ، وهم أحق بالشفاعة لنا منه فأنزل الله تعالى { وَلاَ يَمْلِكُ الِّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } معناه الذين يعبدونهم من دون الله وهم الملائكة الشفاعة لهم . وقال قتادة : هم الملائكة وعيسى وعزير لأنهم عبدوا من دون الله .
{ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أن الشهادة بالحق إنما هي لمن شهد في الدنيا بالحق وهم يعلمون أنه الحق فتشفع لهم الملائكة ، قاله الحسن .
الثاني : أن الملائكة لا تشفع إلا لمن شهد أن لا إله إلا الله وهم يعلمون أن الله ربهم .

قوله عز وجل : { وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يَؤْمِنُونَ } وهي تقرأ على ثلاثة أوجه بالنصب والجر والرفع .
فأما الجر فهي على قراءة عاصم وحمزة ، وهي في المعنى راجعة إلى قوله تعالى { وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } وعلم قيلِه .
وأما الرفع فهو قراءة الأعرج ، ومعناها ابتداء ، وقيله ، قيل محمد ، يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون . والقيل هو القول .
وأما النصب فهي قراءة الباقين من أئمة القراء ، وفي تأويلها أربعة أوجه :
أحدها : بمعنى إلا من شهد بالحق وقال قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، على وجه الإنكار عليهم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أنها بمعنى أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيلَه يا رب ، قاله يحيى بن سلام .
الثالث : بمعنى وشكا محمد إلى ربه قيله ، ثم ابتداء فأخبر { يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ، قاله الزجاج .
قوله عز وجل : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ } قال قتادة : أمره بالصفح عنهم ، ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخاً بالسيف . ويحتمل الصفح عن سفههم أن يقابلهم عليه ندباً له إلى الحلم .
{ وَقُلْ سَلاَمٌ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أي قل ما تسلم به من شرهم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : قل خيراً بدلاً من شرهم؛ قاله السدي .
الثالث : أي احلم عنهم؛ قاله الحسن .
الرابع : أنه أمره بتوديعهم بالسلام ولم يجعله تحية لهم؛ حكاه النقاش .
الخامس : أنه عرفه بذلك كيف السلام عليهم؛ رواه شعيب بن الحباب .
{ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } يحتمل أمرين :
أحدهما : فسوف يعلمون حلول العذاب بهم .
الثاني : فسوف يعلمون صدقك في إنذارهم ، والله أعلم .

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)

قوله عز وجل : { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } يعني والقرآن المبين ، فأقسم به ، وفي قسمه ب { حم } وجهان من اختلافهم في تأويله .
{ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } يعني القرآن أنزله الله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا .
{ فِي لَيلَةِ مُّبَارَكَةٍ } فيها قولان :
أحدهما : أنها ليلة النصف من شعبان؛ قاله عكرمة .
الثاني : أنها ليلة القدر .
روى قتادة عن وائلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ في أَوَّلِ لَيلَةٍ مِن رَمَضَانَ ، وَأُنزِلَت التَّوْرَاةُ لِسِتٍ مَضَيْنَ مِن رَمَضَانَ وَأُنزِلَ الزَّبُورُ لاثْنَتَي عَشْرَةَ مَضَتْ مِن رَمَضَانَ ، وَأُنزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِن رَمَضَانَ . وَأُنزِلَ القْرآنُ لأَرْبعٍ وَعشرِينَ مِن رَمَضَانَ »
وفي تسميتها مباركة وجهان :
أحدهما : لما ينزل فيها من الرحمة .
الثاني : لما يجاب فيها من الدعاء .
{ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } بالقرآن من النار .
ويحتمل : ثالثاً : منذرين بالرسل من الضلال .
{ فِيهَا } في هذه الليلة المباركة .
{ يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } وفي يفرق أربعة أوجه :
أحدها : يقضى ، قاله الضحاك .
الثاني : يكتب ، قاله ابن عباس .
الثالث : ينزل ، قاله ابن زيد .
الرابع : يخرج ، قاله ابن سنان .
وفي تأويل { كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أربعة أوجه :
أحدها : الآجال والأرزاق والسعادة والشقاء من السنة إلى السنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : كل ما يقضى من السنة إلى السنة ، إلا الشقاوة والسعادة فإنه في أم الكتاب لا يغير ولا يبدل ، قاله ابن عمر .
الثالث : كل ما يقضى من السنة إلى السنة إلا الحياة والموت ، قاله مجاهد .
الرابع : بركات عمله من انطلاق الألسن بمدحه ، وامتلاء القلوب من هيبته ، قاله بعض أصحاب الخواطر .
الحكيم هنا هو المحكم . وليلة القدر باقية ما بقي الدهر ، وهي في شهر رمضان في العشر الأواخر منه . ولا وجه لقول من قال إنها رفعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا لقول من جوزها في جميع السنة لأن الخبر والأثر والعيان يدفعه . واختلف في محلها من العشر الأواخر من رمضان على أقاويل ذكرها في سورة القدر أولى .
قوله عز وجل : { أَمْراً مِنْ عِندِنَا } فيه قولان :
أحدهما : أن الأمر هو القرآن أنزله الله من عنده ، حكاه النقاش .
الثاني : أنه ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده قاله ابن عيسى .
ويحتمل :
ثالثاً : أنه إرسال محمد صلى الله عليه وسلم نبياً .
{ إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : مرسلين الرسل للإنذار .
الثاني : منزلين ما قضيناه على العباد .
الثالث : مرسلين رحمة من ربك .
وفي { رَحْمَةً مِّن رِّبِّكَ } هنا وجهان :
أحدهما : أنها نعمة الله ببعثة رسوله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنها رأفته بهداية من آمن به .
{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } لقولهم { الْعَلِيمُ } بفعلهم .

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

قوله عز وجل : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } في ارتقب وجهان :
أحدهما : معناه فانتظر يا محمد بهؤلاء يوم تأتي السماء بدخان مبين ، قاله قتادة .
الثاني : معناه فاحفظ يا محمد قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين ، ولذلك سمي الحافظ رقيباً ، قال الأعشى :
عليّ رقيب له حافظٌ ... فقل في امرىءٍ غِلقٍ مرتهن
وفي قوله تعالى { يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما أصاب أهل مكة من شدة الجوع حتى صار بينهم وبين السماء كهيئة الدخان لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبطائهم عن الإيمان وقصدهم له بالأذى ، فقال : « اللَّهُمَّ اكفِنِيهِم بِسَبْعٍ كَسَبْع يُوسُفَ » قاله ابن مسعود . قال أبو عبيدة والدخان الجدب . وقال ابن قتيبة : سمي دخاناً ليبس الأرض منه حتى يرتفع منها الدخان .
الثاني : أنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغيوم ، قاله عبد الرحمن بن الأعرج .
الثالث : أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة يأخذ المؤمن منه كالزكمة ، وينفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه ، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
قوله عز وجل : { رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الدخان ، قاله قتادة .
الثاني : الجوع : قاله النقاش .
الثالث : أنه الثلج وهذا لا وجه له لأن هذا إما أن يكون في الآخرة أو في أهل مكة ، ولم تكن مكة من بلاد الثلج غير أنه مقول فحكيناه .
قوله عز وجل : { إِنَّا كَاشِفُواْ الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } فيه قولان :
أحدهما : أي عائدون إلى نار جهنم .
الثاني : إلى الشرك ، قاله ابن مسعود . فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم عادوا إلى تكذيبه .
قوله عز وجل : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى } والبطشة الكبرى هي العقوبة الكبرى ، وفيها قولان :
أحدهما : القتل بالسيف يوم بدر ، قاله ابن مسعود وأُبي بن كعب ومجاهد والضحاك .
الثاني : عذاب جهنم يوم القيامة ، قاله ابن عباس والحسن .
ويحتمل :
ثالثاً : أنها قيام الساعة لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا .
{ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } أي من أعدائنا . وفي الفرق بين النقمة والعقوبة ثلاثة أوجه :
أحدها : أن العقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة ، والنقمة قد تكون قبلها ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن العقوبة قد تكون في المعاصي ، والنقمة قد تكون في خلقه لأجله .
الثالث : أن العقوبة ما تقدرت ، والانتقام غير مقدر .

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَوْمَ فِرْعَوْنَ } أي ابتليناهم .
{ وَجَآءَهُمْ رَسُولُ كَرِيمٌ } وهو موسى بن عمران عليه السلام . وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كريم على ربه ، قاله الفراء .
الثاني : كريم في قومه .
الثالث : كريم الأخلاق بالتجاوز والصفح .
قوله عز وجل : { أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أي أرسلوا معي بني إسرائيل ولا تستعبدوهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أجيبوا عباد الله خيراً ، قاله أبو صالح .
الثالث : أدوا إليَّ يا عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله ، وهذا محتمل .
{ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أمين على أن أؤديه لكم فلا أتزيد فيه .
الثاني : أمين على ما أستأديه منكم فلا أخون فيه .
قوله عز وجل : { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لا تبغوا على الله ، قاله قتادة .
الثاني : لا تفتروا على الله ، قاله ابن عباس ، والفرق بين البغي والافتراء أن البغي بالفعل ، والافتراء بالقول .
الثالث : لا تعظموا على الله ، قاله ابن جريج .
الرابع : لا تستكبروا على عباد الله ، قاله يحيى . والفرق بين التعظيم والاستكبار أن التعظيم تطاول المقتدر ، والاستكبار ترفع المحتقر .
{ إِنِّي ءَاتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } فيه وجهان :
أحدهما : بعذر مبين ، قاله قتادة .
الثالث : بحجة بينة ، قاله يحيى .
قوله عز وجل : { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لجأت إلى ربي وربكم .
الثاني : استغثت . والفرق بينهما أن الملتجىء مستدفع والمستغيث مستنصر .
قوله : { بَرَبِّي وَرَبِّكُمْ } أي ربي الذي هو ربكم .
{ أَن تَرْجُمُونِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالحجارة ، قاله قتادة .
الثاني : أن تقتلوني ، قاله السدي .
الثالث : أن تشتموني بأن تقولوا ساحر أو كاهن أو شاعر ، قاله أبو صالح .
{ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ } أي إن لم تؤمنوا بي وتصدقوا قولي فخلوا سبيلي وكفوا عن أذاي .
قوله عز وجل : { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : سمتاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : يابساً ، قاله ابن أبي نجيح .
الثالث : سهلاً ، قاله الربيع .
الرابع : طريقاً ، قاله كعب والحسن .
الخامس : منفرجاً ، قاله مجاهد .
السادس : غرقاً ، قاله عكرمة .
السابع : ساكناً ، قاله الكلبي والأخفش وقطرب . قال القطامي :
يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل
قال قتادة : لما نجا بنو إسرائيل من البحر وأراد آل فرعون أن يدخلوه خشي نبي الله موسى عليه السلام أن يدركوه فأراد أن يضرب البحر حتى يعود كما كان فقال الله تعالى : { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً } أي طريقاً يابساً حتى يدخلوه .
{ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } قال مقاتل : هو النيل ، وكان عرضه يومئذٍ فرسخين ، قال الضحاك : كان غرقهم بالقلزم وهو بلد بين مصر والحجاز .
فإن قيل فليست هذه الأحوال في البحر من فعل موسى ولا إليه .

قيل يشبه أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه إنْ ضرب البحر بعصاه ثانية تغيرت أحواله ، فأمره أن يكف عن ضربه حتى ينفذ الله قضاءه في فرعون وقومه .
وتأويل سهل بن عبد الله { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ } أي اجعل القلب ساكناً في تدبيري { إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُّغْرَقُونَ } أي إن المخالفين قد غرقوا في التدبير .
قوله عز وجل : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } الجنات البساتين . وفي العيون قولان :
أحدهما : عيون الماء ، وهو قول الجمهور .
الثاني : عيون الذهب ، قاله ابن جبير .
{ وَزُرُوعٍ } قيل إنهم كانوا يزرعون ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها ، وكانت مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً لما دبروه وقدروه من قناطر وجسور .
{ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها المنابر ، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد .
الثاني : المساكن ، قاله أبو عمرو والسدي ، لمقام أهلها فيها .
الثالث : مجالس الملوك لقيام الناس فيها .
ويحتمل رابعاً : أنه مرابط الخيل لأنها أكرم مذخور لعدة وزينة .
وفي الكريم ثلاثة أوجه :
أحدها : هو الحسن ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : هو المعطي لديه كما يعطي الرجل الكريم صلته ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أنه كريم لكرم من فيه ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } في النعمة هنا أربعة أوجه :
أحدها : نيل مصر ، قاله ابن عمر .
الثاني : الفيّوم ، قاله ابن لهيعة .
الثالث : أرض مصر لكثرة خيرها ، قاله ابن زياد .
الرابع : ما كانوا فيه من السعة والدعة .
وقد يقال نعمة ونِعمة بفتح النون وكسرها ، وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أنها بكسر النون في الملك ، وبفتحها في البدن والدين؛ قاله النضر بن شميل .
الثاني : أنها بالكسر من المنة وهو الإفضال والعطية ، وبالفتح من التنعم وهو سعة العيش والراحة ، قاله ابن زياد .
وفي { فاكهين } ثلاثة أوجه :
أحدها : فرحين ، قاله السدي .
الثاني : ناعمين ، قاله قتادة .
الثالث : أن الفاكه هو المتمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الآكل بأنواع الفاكهة ، قاله ابن عيسى .
وقرأ يزيد بن القعقاع { فَكِهِينَ } ومعناه معجبين .
قوله عز وجل { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ } يعني بني إسرائيل ملكهم الله أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين ، فصروا لها وارثين لوصول ذلك إليهم كوصول الميراث .
قوله عز وجل : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِم السَّمَآءُ وَالأَرْضُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : يعني أهل السماء وأهل الأرض ، قاله الحسن .
الثاني : أن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً؛ قاله مجاهد .
قال أبو يحيى : فعجبت من قوله ، فقال أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل؟
الثالث : أنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ، قاله علي كرم الله وجهه . وتقديره فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض .

وهو معنى قول سعيد بن جبير .
الرابع : ما رواه يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلا وله في السماء بابان ، باب ينزل منه رزقه ، وباب يدخل منه كلامه وعمله ، فإذا مات فقداه فبكيا عليه » ثم تلا هذه الآية .
وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كالمعروف من بكاء الحيوان ويشبه أن يكون قول مجاهد .
الثاني : أنه حمرة أطرافها ، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعطاء .
وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر ، واحمرارها بكاؤها .
الثالث : أنها أمارة تظهر منها تدل على حزن وأسف . كقول الشاعر :
والشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
{ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : مؤخرين بالغرق ، قاله الكلبي .
الثاني : لم ينظروا بعد الآيات التسع حتى أغرقوا ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ } معناه على علم منا بهم . وفي اختياره لهم ثلاثة أوجه :
أحدها : باصطفائهم لرسالته ، والدعاء إلى طاعته .
الثاني : باختيارهم لدينه وتصديق رسله .
الثالث : بإنجائهم من فرعون وقومه .
وفي قوله : { عَلَى الْعَالَمِينَ } قولان :
أحدهما : على عالمي زمانهم ، لأن لكل زمان عالماً ، قاله قتادة .
الثاني : على كل العالمين بما جعل فيهم من الأنبياء . وهذا خاصة لهم وليس لغيرهم ، حكاه ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وءَاتَيْنَاهُمْ مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه أنجاهم من عدوهم وفلق البحر لهم وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى ، قاله قتادة . ويكون هذا الخطاب متوجهاً إلى بني إسرائيل .
الثاني : أنها العصا ويده البيضاء ، ويشبه أن يكون قول الفراء . ويكون الخطاب متوجهاً إلى قوم فرعون .
الثالث : أنه الشر الذي كفهم عنه والخير الذي أمرهم به ، قاله عبد الرحمن بن زيد . ويكون الخطاب متوجهاً إلى الفريقين معاً من قوم فرعون وبني إسرائيل .
وفي قوله { مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينٌ } ثلاثة تأويلات :
أحدها : نعمة ظاهرة ، قاله الحسن وقتادة كما قال تعالى { وَليُبْلَي الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلآءً حَسَناً } وقال زهير :
فأبلاه خير البلاء الذي يبلو ... الثاني : عذاب شديد ، قاله الفراء .
الثالث : اختيار بيِّن يتميز به المؤمن من الكافر ، قاله عبد الرحمن بن زيد .

إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)

قوله عز وجل : { إِنَّ هَؤُلآءِ لَيَقُولُونَ } يعني كفار قريش .
{ إن هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } أي بمبعوثين قيل : إن قائل هذا أبو جهل قال : يا محمد إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما قصيّ بن كلاب فإنه كان رجلاً صادقاً ، لنسأله عما يكون بعد الموت وهذا القول من أبي جهل من أضعف الشبهات ، لأن الإعادة إنما هي للجزاء لا للتكليف . فكأنه قال : إن كنت صادقاً في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف . وهو كقول قائل لو قال : إن كان ينشأ بعدنا قوم من الأبناء ، فلم لا يرجع من مضى من الآباء .
قوله عز وجل : { أَهُمْ خَيرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أهم أظهر نعمة وأكثر أموالاً .
الثاني : أهم أعز وأشد أم قوم تبع .
وحكى قتادة أن تبعاً كان رجلاً من حِمير سار بالجيوش حتى عبر الحيرة وأتى سمرقند فهدمها . وحكي لنا أنه كان إذا كتب؛ كتب باسم الله الذي سما وملك براً وبحراً وضحاً وريحاً .
وروي عن عمرو بن رجاء عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم . وحكى ابن قتيبة في المعارف شعراً ذكر أنه لتبع وهو :
منح البقاءَ تقلبُ الشمسِ ... وطلوعها من حيث لا تُمْسِي
وشروقها بيضاء صافية ... وغروبُها حمراءَ كالورْسِ
وتشتت الأهواءِ أزعجني ... سيراً لأبلغ مطلع الشمسِ
ولرب مطعمةٍ يعود لها ... رأي الحليم إلى شفا لبسِ
وفي تسميته تبعاً قولان :
أحدهما : لأنه تَبعَ من قبله من ملوك اليمن كما قيل خليفة لأنه خلف من قبله .
الثاني : لأنه اسم لملوك اليمن .
وذم الله قومه ولم يذمه ، وضرب بهم مثلاً لقريش لقربهم من دارهم ، وعظمهم في نفوسهم ، فلما أهلكهم الله ومن قبلهم - لأنهم كانوا مجرمين - كان من أجرم مع ضعف اليد وقلة العدد أحرى بالهلاك .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

قوله عز وجل : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : غافلين ، قاله مقاتل .
الثاني : لاهين ، قاله الكلبي .
{ وَمَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحِقِّ } فيه وجهان :
أحدهما : للحق ، قاله الكلبي .
الثاني : بقول الحق ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { إِنَّ يَوْمَ الْفَصَلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } يعني يوم القيامة ، وفي تسميته بيوم الفصل وجهان :
أحدهما : [ إن الله ] يفصل فيه أمور عباده .
الثاني : لأنه يفصل فيه بين المرء وعمله .

إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

قوله عز وجل : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ } قد ذكرنا ما في الزقوم من الأَقاويل ، وهو في اللغة ما أُكِلَ بكرْه شديد . ولهذا يقال قد تزقم هذا الطعام تزقماً أي هو في حكم من أكله بكره شديد لحشو فمه وشدة شره .
وحكى النقاش عن مجاهد أن شجرة الزقوم أبو جهل .
وفي الأثيم وجهان :
أحدهما : أنه الآثم ، قاله ابن عيسى .
الثاني : المشرك المكتسب للإثم ، قاله يحيى .
قوله عز وجل : { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : فجروه ، قاله الحسن .
الثاني : فادفعوه ، قاله مجاهد .
الثالث : فسوقوه ، حكاه الكلبي .
الرابع : فاقصفوه كما يقصف الحطب ، حكاه الأعمش :
الخامس : فردوه بالعنف ، قاله ابن قتيبة . قال الفرزدق :
ليس الكرام بناحليك أباهم ... حتى ترد إلى عطية تعتل
{ إلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ } فيه وجهان :
أحدهما : وسط الجحيم ، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة .
الثاني : معظم الجحيم يصيبه الحر من جوانبها ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } قال قتادة : نزلت في أبي جهل ، وفيه أربعة أوجه :
أحدها : معناه أنك لست بعزيز ولا كريم ، لأنه قال توعدني محمد ، والله إني لأعز من مشى حبليها ، فرد الله عليه قوله ، قاله قتادة .
الثاني : أنك أنت العزيز الكريم عند نفسك ، قاله قتادة أيضاً .
الثالث : أنه قيل له ذلك استهزاء على جهة الإهانة ، قاله سعيد بن جبير .
الرابع : أنك أنت العزيز في قومك ، الكريم على أهلك حكاه ابن عيسى .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

قوله عز وجل : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أمين من الشيطان والأحزان ، قاله قتادة .
الثاني : أمين من العذاب ، قاله الكلبي .
الثالث : من الموت ، قاله مقاتل .
قوله عز وجل : { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } فيهما ثلاثة أوجه :
أحدها : أن السندس الحرير الرقيق ، والاستبرق الديباج الغليظ ، قاله عكرمة .
الثاني : السندس يعمل بسوق العراق وهو أفخر الرقم ، قاله يحيى ، والاستبرق الديباج سمي استبرقاً لشدة بريقه ، قاله الزجاج .
الثالث : أن السندس ما يلبسونه ، والاستبرق ما يفترشونه .
وفي { مُّتَقَابِلينَ } وجهان :
أحدهما : متقابلين بالمحبة لا متدابرين بالبغضة ، قاله علي بن عيسى .
الثاني : متقابلين في المجالس لا ينظر بعضهم قفا بعض ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } يعني القرآن ، وفيه وجهان :
أحدهما : معناه جعلناه بلسانك عربياً .
الثاني : أطلقنا به لسانك تيسيراً .
{ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يرجعون .
الثاني : يعتبرون .
{ فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : فانتظر ما وعدتك من النصر عليهم . إنهم منتظرون بك الموت ، حكاه النقاش .
الثاني : وانتظر ما وعدتك من الثواب فإنهم من المنتظرين لما وعدتهم من العقاب ، والله أعلم .

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

قوله عز وجل : { حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ } يعني القرآن .
{ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وفي إضافة التنزيل إليه في هذا الموضع وفي أمثاله وجهان :
أحدهما : افتتاح كتابه منه كما يفتتح الكاتب كتابه به .
الثاني : تعظيماً لقدره وتضخيماً لشأنه عليه في الابتداء بإضافته إليه .
قوله عز وجل : { وَاخْتِلاَفِ الليْلِ وَالنَّهَارِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني اختلافهما بالطول والقصر .
الثاني : اختلافهما بذهاب أحدهما ومجيء الآخر .
{ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : المطر الذي ينبت به الزرع وتحيا به الأرض .
الثاني : ما قضاه في السماء من أرزاق العباد .
{ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تصريفها بإرسالها حيث يشاء .
الثاني : ينقل الشمال جنوباً والجنوب شمالاً ، قاله الحسن .
الثالث : أن يجعلها تارة رحمة وتارة نقمة؛ قاله قتادة .

تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

قوله عز وجل : { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الأفاك : الكذاب ، قاله ابن جريج .
الثاني : أنه المكذب بربه .
الثالث : أنه الكاهن ، قاله قتادة .
{ يَسْمَعُ ءَآيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيهِ } يعني القرآن .
{ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } فيه تأويلان :
أحدها : يقيم على شركه مستكبراً عن طاعة ربه ، وهو معنى قول يحيى بن سلام .
الثاني : أن الإصرار على الشيء العقد بالعزم عليه ، وهو مأخوذ من صَرَّ الصُّرَّةَ إذا شدها ، قاله ابن عيسى .
{ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } في عدم الاتعاظ بها والقبول لها .
{ فَبِشَّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قال ابن جريج نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث .

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

قوله عز وجل : { قُلْ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا ينالون نعم الله ، قاله مجاهد .
الثاني : لا يخشون عذاب الله ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثالث : لا يطمعون في نصر الله في الدنيا ولا في الآخرة ، قاله ابن بحر .
وفي المراد بأيام الله وجهان :
أحدهما : أيام إنعامه وانتقامه في الدنيا ، لأنه ليس في الآخرة ، وتكون الأيام وقتاً وإن تكن أياماً على الحقيقة .
وفي الكلام أمر محذوف فتقديره : قل للذين آمنوا إغفروا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله . الغفران ها هنا العفو وترك المجازاة على الأذى .
وحكى الكلبي أن هذه الآية نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من المشركين فهمَّ أن يبطش به ، فلما نزل ذلك فيه كف عنه .
وفي نسخ هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها ثابتة في العفو عن الأذى في غير الدين .
الثاني : أنها منسوخة وفيما نسخها قولان :
أحدهما : بقوله سبحانه { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } قاله قتادة .
الثاني : بقوله { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُم ظُلِمُواْ } قاله أبو صالح .

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

قوله عز وجل : { وَءَاتَينَاهُم بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ } فيه وجهان :
أحدهما : ذكر الرسول وشواهد نبوته .
الثاني : بيان الحلال والحرام ، قاله السدي .
{ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } فيه قولان :
أحدهما : من بعد يوشع بن نون فآمن بعضهم وكفر بعضهم ، حكاه النقاش .
الثاني : بعدما أعلمهم الله ما في التوراة .
{ بَغْياً بَيْنَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : طلباً للرسالة وأنفة من الإذعان للصواب ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : بغياً على رسول الله صلى عليه وسلم في جحود ما في كتابهم من نبوة وصفته ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم أرادوا الدنيا ورخاءها فغيروا كتابهم وأحلوا فيه ما شاؤوا وحرموا ما شاؤوا ، قاله يحيى بن آدم .
قوله عز وجل : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ } أي على طريقة من الدين كالشريعة التي هي طريق إلى الماء ، ومنه الشارع لأنه طريق إلى القصد .
وفي المراد بالشريعة أربعة أقاويل :
احدها : أنها الدين ، قاله ابن زيد ، لأنه طريق للنجاة .
الثاني : أنها الفرائض والحدود والأمر والنهي ، قاله قتادة لأنها طريق إلى الدين .
الثالث : أنها البينة ، قاله مقاتل : لأنها طريق الحق .
الرابع : السنة ، حكاه الكلبي لأنه يستنّ بطريقة من قبله من الأنبياء .

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)

قوله عز وجل : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ } أي اكتسبوا الشرك . قال الكلبي : الذين أريد بهم هذه الآية عتبه وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة .
{ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } قال الكلبي أريد بهم علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا إليهم يوم بدر فقتلوهم .
قوله عز وجل : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أفرأيت من اتخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئاً إلا ركبه ، قاله ابن عباس .
الثاني : أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه ويستحسنه ، فإذا استحسن شيئاً وهو به اتخذه إلهاً ، قاله عكرمة ، قاله سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر . فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر .
الثالث : أفرأيت من ينقاد لهواه انقياده لإلهه ومعبوده تعجباً لذوي العقول من هذا الجهل .
{ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } فيه تأويلان :
أحدهما : وجده ضالاً ، حكاه ابن بحر .
الثاني : معناه ضل عن الله . ومنه قول الشاعر :
هبوني امرأً منكم اضلَّ بعيره ... له ذمة إن الذمام كثير
أي ضل عنه بعيره .
وفي قوله : { عَلَى عِلْمٍ } وجهان :
أحدهما : على علم منه أنه ضال ، قاله مقاتل .
الثاني : قاله ابن عباس أي في سابق علمه أنه سيضل . { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى .
{ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غَشَاوَةً } حتى لا يبصرالرشد .
ثم في هذا الكلام وجهان :
أحدهما : أنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم .
الثاني : أنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم .
وحكى ابن جريج أنها نزلت في الحارث بن قيس من الغياطلة ، وحكى الضحاك أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف .

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)

قوله عز وجل : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } وهذا القول منهم إنكار للآخرة وتكذيب بالبعث وإبطال للجزاء .
{ نَمُوتُ وَنَحْيَا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مقدم ومؤخر ، وتقديره : نحيا نموت . وهي كذلك في قراءة ابن مسعود .
الثاني : أنه على تربيته ، وفي تأويله وجهان :
أحدهما : نموت نحن ويحيا أولادنا ، قاله الكلبي .
الثاني : يموت بعضنا .
{ وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : وما يهلكنا إلا العمر ، قاله قتادة . وأنشد قول الشاعر :
لكل أمر أتى يوماً له سبب ... والدهر فيه وفي تصريفه عجب
الثاني : وما يهلكنا إلا الزمان ، قاله مجاهد .
وروى أبو هريرة قال : كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار ، والذي يهلكنا يميتنا ويحيينا ، فنزلت هذه الآية .
الثالث : وما يهلكنا إلا الموت ، قاله قطرب ، وأنشد لأبي ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
الرابع : وما يهلكنا إلا الله ، قاله عكرمة .
وروى الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رجال يقولون : يا خيبة الدهر ، يا بؤس الدهر ، لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل هو الدهر ، وإنه يقبض الأيام ويبسطها » .

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)

قوله عز وجل : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } الأمة أهل كل ملة . وفي الجاثية خمسة تأويلات :
أحدها : مستوفزة ، قاله مجاهد . وقال سفيان : المستوفز الذي لا يصيب منه الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله .
الثاني : مجتمعة ، قاله ابن عباس .
الثالث : متميزة ، قاله عكرمة .
الرابع : خاضعة بلغة قريش ، قاله مؤرج .
الخامس : باركة على الركب ، قاله الحسن .
وفي الجثاة قولان :
أحدهما : أنه للكفار خاصة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه عام للمؤمن والكافر انتظاراً للحساب .
وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبد الله بن باباه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كأني أراكم بالكوم جاثين دون جهنم .
{ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : إلى حسابها ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : إلى كتابها الذي كان يستنسخ لها فيه ما عملت من خير وشر ، قاله الكلبي .
الثالث : إلى كتابها الذي أنزل على رسولها ، حكاه الجاحظ .
قوله عز وجل : { هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه القرآن يدلكم على ما فيه من الحق ، فكأنه شاهد عليكم ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : أنه اللوح المحفوظ يشهد بما قضي فيه من سعادة وشقاء ، خير وشر ، قاله مقاتل ، وهو معنى قول مجاهد .
الثالث : أنه كتاب الأعمال الذي يكتب الحفظة فيه أعمال العباد ويشهد عليكم بما تضمنه من صدق أعمالكم ، قاله الكلبي .
{ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُم تَعْمَلُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني يكتب الحفظة ما كنتم تعملون في الدنيا ، قاله علي رضي الله عنه ومن زعم أنه كتاب الأعمال .
الثاني : أنه الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوَّن عندها من أحوال العباد ، قاله ابن عباس ومن زعم أن الكتاب هو اللوح المحفوظ .
الثالث : نستنسخ ما كتب عليكم الملائكة الحفظة ، قاله الحسن لأن الحفظة ترفع إلى الخزنة صحائف الأعمال .

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

قوله عز وجل : { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : اليوم نترككم في النار كما تركتم أمري ، قاله الضحاك .
الثاني : اليوم نترككم من الرحمة كما تركتم الطاعة ، وهو محتمل
الثالث : اليوم نترككم من الخير كما تركتمونا من العمل ، قاله سعيد بن جبير .
قوله عز وجل : { وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الكبرياء العظمة ، قاله يحيى بن سلام .
الثاني : أنه السلطان ، قاله مجاهد .
الثالث : الشرف ، قاله ابن زياد .
الرابع : البقاء والخلود .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } في انتقامه { الْحَكِيمُ } في تدبيره .

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)

قوله عز وجل : { حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه قُضِي نزول الكتاب من الله العزيز الحكيم ، قاله النقاش .
الثاني : هذا الكتاب يعني القرآن تنزيل من الله العزيز الحكيم ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { مَا خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : إلا بالصدق ، قاله ابن إسحاق .
الثاني : إلا بالعدل ، وهو مأثور .
الثالث : إلا للحق ، قاله الكلبي .
الرابع : إلا للبعث ، قاله يحيى .
{ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } فيه وجهان :
أحدهما : أنه أجل القيامة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه الأجل المقدور لكل مخلوق ، وهو محتمل .
قوله عز وجل : { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } قرأ الحسن وطائفة معه { أَوْ أَثَرَةٍ } وفي تأويل { أَوْ أَثَارَةٍ } وهي قراءة الجمهور ثلاثة أوجه :
أحدها : رواية من علم ، قاله يحيى .
الثاني : بقية ، قاله أبو بكر بن عياش ، ومنه قول الشاعر :
وذات أثارة أكلت عليها ... نباتاً في أكمته قفارا
أي بقية من شحم .
الثالث : أو علم تأثرونه عن غيركم ، قاله مجاهد .
ويحتمل رابعاً : أو اجتهاد بعلم ، لأن أثارة العلم الاجتهاد .
ويحتمل خامساً : أو مناظرة بعلم لأن المناظر في العلم مثير لمعانيه .
ومن قرأ { أَوْ أَثَرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } ففي تأويله خمسة أوجه :
أحدها : أنه الخط ، وقد رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : ميراث من علم ، قاله عكرمة .
الثالث : خاصة من علم ، قاله قتادة .
الرابع : أو بقية من علم ، قاله عطية .
الخامس : أثرة يستخرجه فيثيره ، قاله الحسن .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

قوله عز وجل : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ } قال ابن عباس : معناه لست بأول الرسل . والبدع الأول . والبديع من كل شيء المبتدع ، وأنشد قطرب لعدي بن زيد :
فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً غدت من بعد بؤسي بأسعد
{ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : يعني لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا لا في الآخرة ، فلا أدري ما يفعل بي أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي ، أو أُقتل كما قتل الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم ، إنكم مصدقون أو مكذبون ، أو معذبون أو مؤخرون ، قاله الحسن :
الثاني : لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة . وهذا قبل نزول { لِيَغْفِر لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } الآية . فلما نزل عليه ذلك عام الحديبية علم ما يفعل به في الآخرة وقال لأصحابه : « لَقَدْ أَنْزَلَ عَلَيَّ آيَةً هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعِهَا » فلما تلاها قال رجل من القوم : هنيئاً يا رسول الله ، قد بين الله ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى : { لِيُدْخِلَ الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } الآية . قاله قتادة .
الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل الهجرة « لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَنَامِي أَرْضاً أَخْرُجُ إِلَيْهَا مِن مَكَّةَ » فلما اشتد البلاء على أصحابه بمكة قالوا : يا رسول الله حتى متى نلقى هذا البلاء؟ ومتى تخرج إلى الأرض التي رأيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُم ، أَنَمُوتُ بِمَكَّةَ أَمْ نَخْرُجُ مِنهَا » قال الكلبي .
الرابع : معناه قل لا أدري ما أؤمر به ولا ما تؤمرون به ، قاله الضحاك .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)

قوله عز وجل : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ } فيه قولان :
أحدهما : إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ، قاله يحيى .
الثاني : إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً من عند الله وكفرتم به ، قاله الشعبي .
{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ بَني إِسْرَآئِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه عبد الله بن سلام شهد على اليهود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكور في التوراة ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، ومجاهد .
الثاني : أنه آمين بن يامين ، قال لما أسلم عبد الله بن سلام : أنا شاهد مثل شهادته ومؤمن كإيمانه ، قاله السدي .
الثالث : أن موسى مثل محمد صلى الله عليه وسلم يشهد بنبوته ، والتوراة مثل القرآن يشهد بصحته ، قاله مسروق . ولم يكن في عبد الله بن سلام لأنه أسلم بالمدينة والآية مكية .
الرابع : هو من آمن من بني إسرائيل بموسى والتوراة ، قاله الشعبي .
الخامس : أنه موسى الذي هو مثل محمد صلى الله عليهما شهد على التوراة . التي هي مثل القرآن ، حكاه ابن عيسى .
{ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مسروق .
وفي قولان :
أحدهما : فآمن عبد الله بن سلام برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن واستكبر الباقون عن الإيمان ، قاله ابن عباس .
الثاني : فآمَن مَن آمن بموسى وبالتوراة واستكبرتم أنتم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، قاله مسروق . وحكى النقاش أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره : قل أرأيتم إن كان من عند الله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن هو وكفرتم .
وقال ابن عيسى : الكلام على سياقه ولكن حذف منه جواب إن كان من عند الله وفي المحذوف ثلاثة أوجه :
أحدها : تقديره : وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن ، أتؤمنون؟ قاله الزجاج .
الثاني : تقدير المحذوف : فآمن واستكبرتم أفما تهلكون ، قاله مذكور .
الثالث : تقدير المحذوف من جوابه : فمن أضل منكم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
قوله عز وجل : { وَقَالَ الِّذِينَ كَفَرُواْ لِلِّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } وفي سبب نزول هذه الآية أربعة أقاويل :
أحدها : أن أبا ذر الغفاري دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بمكة فأجاب واستجاب به قومه فأتاه زعيمهم فأسلم ، ثم دعاهم الزعيم فأسلموا فبلغ ذلك قريشاً فقالوا : غفار الخلفاء لو كان خيراً ما سبقونا إليه . فنزلت ، قاله أبو المتوكل .
الثاني : أن زنيرة أسلمت فأصيب بصرها ، فقالوا لها : أصابك اللات والعزى ، فرد الله عليها بصرها ، فقال عظماء قريش : لو كان ما جاء به محمد خير ما سبقتنا إليه زنيرة فنزلت ، قاله عروة بن الزبير .

الثالث : أن الذين كفروا هم عامر وغطفان وأسد وحنظلة قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وغطفان وجهينة ومزينة وأشجع : لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه رعاة البهم . فنزلت ، قاله الكلبي .
الرابع : أن الكفار قالوا : لو كان خيراً ما سبقتنا إليه اليهود فنزلت هذه الآية ، قاله مسروق .
وهذه المعارضة من الكفار في قولهم لو كان خيراً ما سبقونا إليه من أقبح المعارضات لانقلابها عليهم لكل من من خالفهم حتى يقال لهم : لو كان ما أنتم عليه خيراً ما عدنا عنه ، ولو كان تكذيبكم للرسول خيراً ما سبقتمونا إليه .
{ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } يعني إلى الإيمان . وفيه وجهان :
أحدهما : وإذا لم يهتدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قاله مقاتل .
الثاني : بالقرآن .
{ فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : فسيقولون هذا القرآن كذب قديم ، تشبيهاً بدين موسى القديم ، تكذيباً بهما جيمعاً .
قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : ثم استقاموا على أن الله ربهم ، قاله أَبو بكر الصديق رضي الله عنه .
الثاني : ثم استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس .
الثالث : على أداء فرائض الله ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .
الرابع : على أن أخلصوا له الدين والعمل ، قاله أبو العالية .
الخامس : ثم استقاموا عليه فلم يرجعوا عنه إلى موتهم ، رواه أنس مرفوعاً .
{ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِم } يعني في الآخرة .
{ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يعني عند الموت ، قاله سعيد بن جبير .

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

قوله عز وجل : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْه إحْسَاناً } في قراءة أهل الكوفة وقرأ الباقون حسناً . قال السدي : يعني براً .
{ حَمَلْتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة . وقرىء كرهاً بالضم والفتح . قال الكسائي والفراء في الفرق بينهما أن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه ، وبالفتح ما حمل على غيره .
{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَ ثُونُ شَهْراً } الفصال مدة الرضاع ، فقدر مدة الحمل والرضاع ثلاثون شهراً ، وكان في هذا التقدير قولان :
أحدهما : أنها مدة قدرت لأقل الحمل وأكثر الرضاع ، فلما كان أكثر الرضاع أربعة وعشرين شهراً لقوله تعالى : { حَولَينِ كَامِلَينِ لِمَنْ أَرادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] دل ذلك على أن مدة أقل الحمل ما بقي وهو ستة أشهر ، فإن ولدته لتسعة أشهر لم يوجب ذلك نقصان الحولين في الرضاع ، قاله الشافعي وجمهور الفقهاء .
الثاني : أنها مدة جمعت زمان الحمل ومدة الرضاع ، فإن كانت حملته تسعة أشهر؛ أرضعته أحداً وعشرين شهراً ، وإن كانت حملته عشرة أشهر أرضعته شهراً لئلا تزيد المدة فيهما عن ثلاثين شهراً ، قاله ابن عباس .
{ حَتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } وفي الأشد تسعة أقاويل :
أحدها : أنه البلوغ ، قاله ابن مالك والشعبي وزيد بن أسلم .
الثاني : خمسة عشر سنة ، قاله محمد بن أويس .
الثالث : ثماني عشرة سنة ، قاله ابن جبير .
الرابع : عشرون سنة ، قاله سنان .
الخامس : خمسة وعشرون سنة ، قاله عكرمة .
السادس : ثلاثون سنة ، قاله السدي .
السابع : ثلاثة وثلاثون سنة ، قاله ابن عباس .
الثامن : أربعة وثلاثون سنة ، قاله سفيان الثوري .
التاسع : أربعون سنة ، وهو قول عائشة ، والحسن .
{ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنها زمان الأشد ، وهو قول من ذكرنا .
الثاني : لأنها زمان الاستواء ، قال زيد بن أسلم : لم يبعث الله نبياً حتى يبلغ الأربعين .
وقال ابن زيد : وقوله تعالى لموسى { وَاسْتَوَى } قال بلغ أربعين سنة . وقال الشعبي : يثغر الغلام لسبع ويحتلم لأربع عشرة ، وينتهي طوله لإحدى وعشرين سنة ، وينتهي عقله لثمان وعشرين ، فما زاد بعد ذلك فهو تجربة ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين .
الثالث : لأنها أول عمر بعد تمام عمر ، قال ابن قيس .
{ رَبِّ أَوْزِعْنِي } قال سفيان معناه ألهمني .
قال ابن قتيبة : والأصل في الإيزاع هو الإغراء بالشيء ، ويقال فلان موزع بكذا أي مولع به .
{ أَن أَشْكُر نِعْمَتَكَ الَّتي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنعمت علي بالبر والطاعة ، وأنعمت على والدي بالتحنن والشفقة .
الثاني : أنعمت عليَّ بالعافية والصحة ، وعلى والديَّ بالغنى والثروة ، وفي النعمة على كل واحد منهما نعمة على الآخر لما بينهما من الممازجة والحقوق الملتزمة .
وحكى أبو زهير عن الأعمش قال : سمعتهم يقولون إن الولد يأتيه رزقه من أربع خلال : يأتيه رزقه وهو في بطن أمه ، ثم يولد فيكون رزقه في ثدي أمه ، فإذا تحرك كان رزقه على أبويه ، فإذا اجتمع وبلغ أشده جلس يهتم للرزق ويقول من أين يأتيني رزقي ، فاختصت الأم بخلتين من خلال رزقه ، واشترك أبوه في الثالثة ، وتفرد هو بالرابعة ، فذهب عنه الهم لما كان موكلاً إلى غيره ، واهتم لما صار موكلاً إلى نفسه ليتنبه بذلك على التوكل على خالقه ليكون نقى لهمته وأقل لحيرته وأدرّ لرزقه ، وليعلم أن لأمه عليه حقاً يعجز عن أدائه لما عانت من موارد رزقه ما عجز الخلق عن معاناته .

{ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : في بر الوالدين .
الثاني : في ديني .
{ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَتِي } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يدعو بإصلاحهم لبره وطاعته لإضافته ذلك إلى نفسه .
الثاني : أن يدعو بإصلاحهم لطاعة الله وعبادته وهو الأشبه ، لأن طاعتهم لله من بره ، ولأنه قد دعا بصلاح ذرية قد تكون من بعده .
وفيه لأصحاب الخواطر أربعة أوجه :
أحدها : قاله سهل : اجعلهم لي خلف صدق ولك عبيد حق .
الثاني : قاله أبو عثمان : اجعلهم أبراراً ، أي مطيعين لك .
الثالث : قاله ابن عطاء وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم .
الرابع : قاله محمد الباقر رضي الله عنه : لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلاً .
{ إنِّي تُبْتُ إِِلَيكَ } قال ابن عباس : رجعت عن الأمر الذي كنت عليه .
وفي هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قاله مقاتل والكلبي .
الثاني : مرسلة نزلت على العموم ، قاله الحسن .
قوله عز وجل : { أُوْلَئكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم ، قاله زيد بن أسلم يحكيه مرفوعاً .
الثاني : هو إعطاؤهم بالحسنة عشراً رواه أبو هلال .
الثالث : هي الطاعات لأنها الأحسن من أعماله التي يثاب عليها وليس في المباح ثواب ولا عقاب ، حكاه ابن عيسى .
{ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِم فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : نتجاوز عن سيئاتهم بالرحمة .
الثاني : نتجاوز عن صغائرهم بالمغفرة .
الثالث : نتجاوز عن كبائرهم بالتوبة .
{ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } وعد الصدق الجنة ، الذي كانوا يوعدون في الدنيا على ألسنة الرسل .

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

قوله عز وجل : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لكُمَا أَتَعِدَانَنِي أَنْ أُخْرَجَ } : أي أبعث .
{ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي } فلم يبعثوا . وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وأمه أم رومان . يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث فيرد عليهما بما حكاه الله عنه ، وكان هذا منه قبل إسلامه ، قاله السدي .
قال السدي : فلقد رأيت عبد الرحمن بن أبي بكر بالمدينة ، وما بالمدينة أَعْبَدُ منه ، ولقد استجاب الله فيه دعوة أبي بكر رضي الله عنه ، ولما أسلم وحسن إسلامه ، نزلت توبته في هذه الآية { وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُواْ } .
الثاني : أنها نزلت في عبد الله بن أبي بكر ، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله تعالى ، قاله مجاهد .
الثالث : أنها نزلت في جماعة من الكفار قالوا ذلك لآبائهم ولذلك قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيهِم الْقَوْلُ } والعرب قد تذكر الواحد وتريد به الجمع وهذا معنى قول الحسن . فأما ال { أُفٍّ } فهي كلمة تبرم يقصد بها إظهار السخط وقبح الرد . قال الشاعر :
ما يذكر الدهر إلا قلت أف له ... إذا لقيتك لولا قال لي لاقي
وفي أصل الأف والتف ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الأف وسخ الأذن ، والتف وسخ الأنف .
الثاني : الأف وسخ الأظفار ، والتف الذي يكون في أصول الأظافر .
الثالث : أن الأف العليل الأنف ، والتف الإبعاد .
{ وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّه } أي يدعوان الله : اللهم اهده ، اللهم اقبل بقلبه ، اللهم اغفر له .
{ وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } في الثواب على الإيمان ، والعقاب على الكفر .
قوله عز وجل : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : معناه أذهبتم طيباتكم في الآخرة بمعاصيكم في الدنيا .
الثاني : ألهتكم الشهوات عن الأعمال الصالحة .
الثالث : أذهبتم لذة طيباتكم في الدنيا بما استوجبتموه من عقاب معاصيكم في الآخرة .
الرابع : معناه اقتنعتم بعاجل الطيبات في الدنيا بدلاً من آجل الطيبات في الآخرة .
وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب يقول : لأنا أعلم بخفض العيش ، ولو شئت لجعلت أكباداً وأسنمة وصلاء وصناباً وسلائق ، ولكن أستبقي حسناتي ، فإن الله تعالى وصف قوماً فقال : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } والصلاء ، والشواء ، والصناب الأصبغة والسلائق الرقاق العريض .
وقال ابن بحر فيه تأويل خامس : أن الطيبات : الشباب والقوة ، مأخوذ من قولهم : ذهب أطيباه أي شبابه وقوته . ووجدت الضحاك قاله أيضاً .
{ وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالدنيا .
الثاني : بالطيبات .
{ فَالْيَوْمَ تُجْزَونَ عَذَابَ الْهُونِ } قال مجاهد : الهون الهوان . قال قتادة بلغة قريش .
{ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : تستعلون على أهلها بغير استحقاق .
الثاني : تتغلبون على أهلها بغير دين .
الثالث : تعصون الله فيها بغير طاعة .
{ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تفسقون في أعمالكم بغياً وظلماً .
الثاني : في اعتقادكم كفراً وشركاً .

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

قوله عز وجل : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ } وهو هود بعث إلى عاد ، وكان أخاهم في النسب لا في الدين لأنه مناسب وإن لم يكن أخا أحد منهم .
{ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ } وهي جمع حقف ، وهو ما استطال واعوج من الرمل العظيم ، ولا يبلغ أن يكون جبلاً . ومنه قول العجاج :
بات إلى أرطاة حقف أحقفا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي رمل مستطيل مشرق .
وفيما أريد بالأحقاف هنا خمسة أقاويل :
أحدها : أن الأحقاف رمال مشرقة كالجبال ، قاله ابن زيد ، وشاهده ما تقدم ، وقال هي رمال مشرقة على البحر بالسحر في اليمن .
الثاني : أن الأحقاف أرض من حسمي تسمى الأحقاف ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه جبل بالشام يسمى الأحقاف ، قاله الضحاك .
الرابع : هو ما بين عمان وحضرموت ، قاله ابن إسحاق .
الخامس : هو واد بين عُمان ومهرة ، قاله ابن عباس .
وروى أبو الطفيل عن علي كرم الله وجهه أنه قال : خير واد بين في الناس واد بمكة ، وواد نزل به آدم بأرض الهند ، وشر واديين في الناس وادي الأحقاف ، ووادٍ بحضرموت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار ، وخير بئر في الناس بئر زمزم ، وشر بئر في الناس بئر برهوت وهي ذلك الوادي حضرموت .
{ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي قد بعث الرسل من قبل هود ومن بعده ، قال الفراء ، من بين يديه من قبله ، ومن خلفه من بعده وهي في قراءة ابن مسعود : { مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعدِهِ } .
قوله عز وجل : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأفِكَنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا } فيه وجهان :
أحدهما : لتزيلنا عن عبادتها بالإفك .
الثاني : لتصدنا عن آلهتنا بالمنع ، قاله الضحاك .
قوله عز وجل : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتهِمْ } يعني السحاب . وأنشد الأخفش لأبي كبير الهذلي :
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المنهال
وفي تسميته عارضاً ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأنه أخذ في عرض السماء ، قال ابن عيسى .
الثاني : لأنه يملأ آفاق السماء ، قال النقاش .
الثالث : لأنه مار من السماء . والعارض هو المار الذي لا يلبث وهذا أشبه .
{ قَاُلواْ هَذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } حسبوه سحاباً يمطرهم ، وكان المطر قد أبطأ عليهم .
{ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذابٌ أَلِيمٌ } كانوا حين أوعدهم هود استعجلوه استهزاء منهم بوعيده ، فلما رأوا السحاب بعد طول الجدب أكذبوا هوداً وقالوا : هذا عارض ممطرنا .
ذكر أن القائل ذلك من قوم عاد ، بكر بن معاوية . فلما نظر هود إلى السحاب قال : بل هو ما استعجلتم به ، أي الذي طلبتم تعجيله ريح فيها عذاب أليم وهي الدبور .
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نُصِرْتُ بِالصبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ »

فنظر بكر بن معاوية إلى السحاب فقال : إني لأرى سحاباً مُرْمِداً ، لا يدع من عَادٍ أحداً . فذكر عمرو بن ميمون أنها كانت تأتيهم بالرجل الغائب حتى تقذفه في ناديهم .
قال ابن اسحاق : واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه هو ومن معه فيها إلا ما يلين على الجلود وتلتذ الأنفس به ، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض .
وحكى الكلبي أن شاعرهم قال في ذلك :
فدعا هود عليهم ... دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم ... تركت عاداً خمودا
سخرت سبع ليال ... لم تدع في الأرض عودا
وعمَّر هود في قومه بعدهم مائة وخمسين سنة
.

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ مََّكنَّاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكنَّاكُمْ فِيهِ } فيه وجهان :
أحدهما : فيما لم نمكنكم فيه ، قاله ابن عباس .
الثاني : فيما مكناكم فيه وإن هنا صلة زائدة .
ويحتمل ثالثاً : وهو أن تكون ثابتة غير زائدة ويكون جوابها مضمراً محذوفاً ويكون تقديره : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر وعنادكم أشد .
ثم ابتدأ فقال : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } الآية . يحتمل وجهين :
أحدهما : أننا جعلنا لهم من حواس الهداية ما لم يهتدوا به .
الثاني : معناه جعلنا لهم أسباب الدفع ما لم يدفعوا به عن أنفسهم .

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)

قوله عز وجل : { وَإذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْءَانَ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء برجوم الشهب ولم يكونوا بعد عيسى صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ما هذا الذي حدث في الأرض؟ فضربوا في الأَرض حتى وقفوا على النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة عائداً إلى عكاظ وهو يصلي الفجر ، فاستمعوا القرآن ونظروا كيف يصلي ويقتدي به أصحابه ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً ، قاله ابن عباس .
وحكى عكرم أن السورة التي كان يقرأها ببطن نخلة { اقرأْ بِاسِمِ رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] وحكى ابن عباس كان يقرأ في العشاء { كَادوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } .
الثاني : أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق هداية من الله لهم حتى أتوا نبي الله ببطن نخلة .
وفيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم جن من أهل نصيبين ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم من أهل نينوى ، قاله قتادة .
الثالث : أنهم من جزيرة الموصل ، قاله عكرمة .
الرابع : من أهل نجران ، قاله مجاهد .
واختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل ، قاله عكرمة .
الثاني : أنهم كانوا تسعة أحدهم زوبعة ، قاله زر بن حبيش .
الثالث : أنهم كانوا سبعة : ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين ، وكانت أسماؤهم حسى ومسى وشاصر وناصر والأردن وأنيان الأحقم ، قاله مجاهد .
واختلف في علم النبي صلى الله عليه وسلم على قولين :
أحدهما : أنه ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه فيهم وأخبره عنهم ، قاله ابن عباس ، والحسن .
الثاني : أن الله قد كان أعلمه بهم قبل مجيئهم . روى شعبة عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : « إِنِّي أمِرْتُ أَنْ أَقْرَأَ عَلَى الْجِنِّ فَأَيُّكُمْ يَتْبَعُنِي » ؟فأطرقوا فاتبعه ابن مسعود فدخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط عليه وخط على ابن مسعود ليثبته بذلك ، قال عكرمة : وقال لابن مسعود : « لاَ تَبْرَحْ حَتَّى آتِيكَ » فلما خشيهم ابن مسعود كاد أن يذهب فذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبرح ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « لَوْ ذَهَبْتَ مَا التَقَيْنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ »
ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم تلا عليهم القرآن وقضى بينهم في قتيل منهم . وروى قتادة عن ابن مسعود أنهم سألوه الزاد فقال : « كُلُّ عَظْمٍ لَكُم عِرْقٌ ، وَكُلٌّ رَوَثَةٍ لَكُم خَضِرَةٌ » فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا ، فنهى سول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما .
روى عبد الله بن عمرو بن غيلان عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« إِنَّ وَفْدَ الجِنَّ سَأَلُونِي المَتَاع ، - وَالمَتَاعُ : الزَّادُ - فَمَتَّعْتُهُم بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ وَبَعْرَةٍ أَوْ رَوَثَةٍ » فقلت : يا رسول الله وما يغني عن ذلك عنهم؟ فقال : « إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ، ولا روثة ولا بعرة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، فلا يستنجين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة » .
{ فَلَمَّا حَضَرُوه قَالُواْ أنصِتُواْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : فلما حضروا قراءة القرآن قال بعضهم لبعض أنصتوا لسماع القرآن .
الثاني : لما حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أنصتوا لسماع قوله .
{ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : فلما فرغ من الصلاة ولوا إلى قومهم منذرين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الكلبي : مخوفين : قاله الضحاك .
الثاني : فلما فرغ من قرءاة القرآن ولوا إلى قومهم منذرين ، حكاه عبد الرحمن بن أبي حاتم .
قوله عز وجل : { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ } أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ } أي نبي الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . { فَليسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ } أي سابق لله فيفوته هرباً .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

قوله عز وجل : { فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِن الرُّسُلِ } فيهم ستة أوجه :
أحدها : أن أولي العزم من الرسل الذين أمروا بالقتال من الأنبياء ، قاله السدي والكلبي .
الثاني : أنهم العرب من الأنبياء ، قاله مجاهد والشعبي .
الثالث : من لم تصبه فتنة من الأنبياء ، قاله الحسن .
الرابع : من أصابه منهم بلاء بغير ذنب ، قاله ابن جريج .
الخامس : أنهم أولوا العزم ، حكاه يحيى .
السادس : أنهم أولوا الصبر الذين صبروا على أذى قومهم فلم يجزعوا .
وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله عز وجل لم يرض عن أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر على مخبوئها » .
وفي أولي العزم منهم ستة أقاويل :
أحدها : أن جميع الأنبياء أولوا العزم ، ولم يبعث الله رسولاً إلا كان من أولي العزم . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبروا ، قاله ابن زيد .
الثاني : أن أولي العزم منهم نوح وهود وإبراهيم ، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم ، قاله أبو العالية .
الثالث : أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى ، قاله عبد العزيز .
الخامس : أنهم إبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ، قاله السدي .
السادس : أن منهم إسماعيل ويعقوب وأيوب ، وليس منهم يونس ولا سليمان ولا آدم ، قاله ابن جريج .
{ وَلاَ تَسْتَعْجِلَ لَّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بالدعاء عليهم ، قاله مقاتل .
الثاني : بالعذاب وهذا وعيد .
{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : من العذاب ، قاله يحيى .
الثاني : من الآخرة ، قاله النقاش .
{ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِن نَّهَارٍ } فيه وجهان :
أحدهما : في الدنيا حتى جاءهم العذاب ، وهو مقتضى قول يحيى .
الثاني : في قبورهم حتى بعثوا للحساب ، وهو مقتضى قول النقاش .
{ بَلاَغٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن ذلك اللبث بلاغ ، قاله ابن عيسى .
الثاني : أن هذا القرآن بلاغ ، قاله الحسن .
الثالث : أن هذا الذي وصفه الله بلاغ ، وهو حلول ما وعده إما من الهلاك في الدنيا أو العذاب في الآخرة على ما تقدم من الوجهين :
{ فَهَلْ يُهْلَكُ } يعني بعد هذا البلاغ .
{ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } قال يحيى : المشركون .
وذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فأمره الله أن يصبر على ما أصابه كما صبر أولوا العزم من الرسل تسهيلاً عليه وتثبيتاً له ، والله أعلم .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)

قوله عز وجل : { الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني كفروا بتوحيد الله .
{ وَصَدُّواْ عَن سَبيلِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : عن الله وهو الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه ، قاله السدي .
الثاني : عن بيت الله يمنع قاصديه إذا عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - عليهم الإسلام أن يدخلوا فيه ، قاله الضحاك .
{ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أحبط ما فعلوه من الخير بما أقاموا عليه من الكفر .
الثاني : أبطل ما أنفقوا ببدر لما نالهم من القتل .
الثالث : أضلهم عن الهدى بما صرفهم عن التوفيق .
وحكى مقاتل بن حيان أن هذه الآية نزلت في اثني عشر رجلاً من كفار مكة ، ذكر النقاش أنهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عقبة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف ومنبه ونبيه ابنا الحجاج وأبو البختري وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام والحارث بن عامر بن نوفل .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ ءَامَنواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الأنصار ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها نزلت خاصة في ناس من قريش ، قاله مقاتل .
وفي قوله : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } فيه قولان :
أحدهما : المواساة بمساكنهم وأموالهم ، وهذا قول من زعم أنهم الأنصار .
الثاني : الهجرة وهذا قول من زعم أنهم قريش .
{ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } أي آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه من القرآن .
{ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن إيمانهم هو الحق من ربهم .
الثاني : أن القرآن هو الحق من ربهم .
{ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : سترها عليهم .
الثاني : غفرها بإيمانهم .
{ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أصلح شأنهم ، قاله مجاهد .
الثاني : أصلح حالهم ، قاله قتادة .
الثالث : أصلح أمرهم ، قاله ابن عباس ، والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم .
الرابع : أصلح نياتهم . حكاه النقاش ، ومنه قول الشاعر :
فإن تقبلي بالود أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا
وهو على هذا التأويل محمول على إصلاح دينهم ، والبال لا يجمع لأنه أبهم إخوانه من الشأن والحال والأمر .
قوله عز وجل : { ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ } فيه قولان :
أحدهما : أن الباطل الشيطان ، قاله مجاهد .
الثاني : إبليس ، قاله قتادة ، وسُمِّي بالباطل لأنه يدعو إلى الباطل .
ويحتمل ثالثاً : أنه الهوى .
{ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : اتبعوا الرسول ، لأنه دعاهم إلى الحق وهو الإسلام .
الثاني : يعني القرآن سمي حقاً لمجيئه بالحق .
{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } قال يحيى : صفات أعمالهم ، وفي الناس هنا قولان :
أحدهما : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الكلبي .
الثاني : جميع الناس ، قاله مقاتل .

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)

قوله عز وجل : { فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } فيهم هنا قولان :
أحدهما : أنهم عبدة الأوثان ، قاله ابن عباس .
الثاني : كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة .
وفي قوله : { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } وجهان :
أحدهما : ضرب أعناقهم صبراً عند القدرة عليهم .
الثاني : أنه قتلهم بالسلاح واليدين ، قاله السدي .
{ حَتَّى إِذَآ أَثخَنُتُموهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ } يعني بالإثخان الظفر ، وبشد الوثاق الأسر .
{ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } في المَنِّ هنا قولان : أحدهما : أنه العفو والإطلاق كما من رسول الله صلى الله عليه على ثمامة بن أثال بعد أسره .
الثاني : أنه العتق ، قاله مقاتل .
فأما الفداء ففيه وجهان :
أحدهما : أنه المفاداة على مال يؤخذ من أسير يطلق ، كما فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر كل أسير بأربعة آلاف درهم ، وفادى في بعض المواطن رجلاً برجلين .
الثاني : أنه البيع ، قاله مقاتل .
{ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن أوزار الحرب أثقالها ، والوزر الثقل ومنه وزير الملك لأنه يتحمل عنه الأثقال ، وأثقالها السلاح .
الثاني : هو [ وضع ] سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة ، قال الشاعر :
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالاً وخيلاً ذكوراً
الثالث : حتى تضع الحرب أوزار كفرهم بالإسلام ، قاله الفراء .
الرابع : حتى يظهر الإسلام على الدين كله ، وهو قول الكلبي .
الخامس : حتى ينزل عيسى ابن مريم ، قاله مجاهد .
ثم في هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها منسوخة بقوله : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِم لَعَلَّهُمْ يَذَّكُرُونَ } [ الأنفال : 57 ] قاله قتادة .
الثاني : أنها ثابتة الحكم ، وأن الإمام مخير في من أسره منهم بين أربعة أمور : أن يقتل لقوله تعالى : { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } ، أو يسترق لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استرق العقيلي ، أو يَمُنُّ كما مَنَّ على ثمامة ، أو يفادي بمال أو أَسرى ، فإذا أسلموا أسقط القتل عنهم وكان في الثلاثة الباقية ، على خياره ، وهذا قول الشافعي .
{ ذلِك وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لا نَتصَرَ مِنهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بالملائكة ، قاله الكلبي .
الثاني : بغير قتال ، قاله الفراء .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قراءة أبي عمرو وحفص ، قال قتادة : هم قتلى أحد . وقرأ الباقون { قَاتَلُواْ } .
{ سَيَهْدِيهِمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يحق لهم الهداية ، قاله الحسن .
الثاني : يهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر ، قاله زياد .
الثالث : يهديهم إلى طريق الجنة ، قاله ابن عيسى .
قوله عز وجل : { وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : عرفها بوصفها على ما يشوق إليها ، حكاه ابن عيسى .
الثاني : عرفهم ما لهم فيها من الكرامة ، قاله مقاتل .
الثالث : معنى عرفها أي طيبها بأنواع الملاذ ، مأخوذ من العرف وهي الرائحة الطيبة ، قاله بعض أهل اللغة .

الرابع : عرفهم مساكنهم فيها حتى لا يسألون عنها ، قاله مجاهد . قال الحسن : وصف الجنة لهم في الدنيا فلما دخلوها عرفوها بصفتها .
ويحتمل خامساً : أنه عرف أهل السماء انها لهم إظهاراً لكرامتهم فيها .
قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرواْ اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : إن تنصروا دين الله ينصركم الله . الثاني : إن تنصروا نبي الله ينصركم الله ، قاله قطرب .
{ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ويثبت أقدامكم في نصره .
الثاني : عند لقاء عدوه .
ثم فيه وجهان :
أحدهما : يعني تثبيت الأقدام بالنصر .
الثاني : يريد تثبيت القلوب بالأمن .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } فيه تسعة تأويلات :
أحدها : خزياً لهم ، قاله السدي .
الثاني : شقاء لهم ، قاله ابن زيد .
الثالث : شتماً لهم من الله ، قاله الحسن .
الرابع : هلاكاً لهم ، قال ثعلب .
الخامس : خيبة لهم ، قاله ابن زياد .
السادس : قبحاً لهم ، حكاه النقاش .
السابع : بعدائهم ، قاله ابن جريج .
الثامن : رغماً لهم ، قاله الضحاك .
التاسع : أن التعس الانحطاط والعثار ، حكاه ابن عيسى .

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)

قوله عز وجل : { وَكَأيّن مِّن قَرْيَةٍ } أي وكم من قرية ، وأنشد الأخفش للبيد :
وكائن رأينا من ملوك وسوقة ... ومفتاح قيد للأسير المكبل
فيكون معناه : وكم من أهل قرية .
{ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً } أي أهلها أشد قوة .
{ مِّن قَرْيَتِكَ } يعني مكة .
{ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } أي أخرجك أهلها عند هجرتك منها .
{ أَهْلكْنَاهُمْ } يعني بالعذاب .
{ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } يعني فلا مانع لهم منا ، وهذا وعيد .

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)

قوله عز وجل : { أَفَمَن كَان عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبّهِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه القرآن ، قاله ابن زيد .
الثاني : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله أبو العالية ، والبينة الوحي .
الثالث : أنهم المؤمنون ، قاله الحسن ، والبينة معجزة الرسول .
الرابع : أنه الدين ، قاله الكلبي .
{ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } فيه قولان :
أحدهما : عبادتهم الأوثان ، قاله الضحاك .
الثاني : شركهم ، قاله قتادة ، وفيهم قولان :
أحدهما : أنهم كافة المشركين .
الثاني : أنهم الإثنا عشر رجلاً من قريش .
وفيمن زينه لهم قولان :
أحدهما : الشيطان .
الثاني : أنفسهم .
{ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُم } فيه قولان :
أحدهما : أنه نعت لمن زين له سوء عمله .
الثاني : أنهم المنافقون ، قاله ابن زيد .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

قوله عز وجل : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } هم المنافقون : عبد الله بن أُبيّ بن سلول ، ورفاعة بن التابوت ، وزيد بن الصليت ، والحارث بن عمرو ، ومالك بن الدخشم . وفيما يستمعونه قولان :
أحدهما : أنهم كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه ، فإذا خرجوا سألوا عنه ، قاله الكلبي ومقاتل .
الثاني : أنهم كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين ، فيسمعون منه ما يقول ، فيعيه المؤمن ولا يعيه المنافق .
{ حَتَّى إِذا خَرَجُواْ مِن عِندِكَ } أي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ قَالُواْ لِلَّذِينَ أوتُواْ الْعِلْمَ } فيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنه عبد الله بن عباس ، قاله عكرمة .
الثاني : عبد الله بن مسعود ، قاله عبد الله بن بريدة .
الثالث : أبو الدرداء ، قاله القاسم بن عبد الرحمن .
الرابع : أنهم الصحابة ، قاله ابن زيد .
{ مَاذَا قَالَ ءَانِفاً } هذا سؤال المنافقين للذين أُوتوا العلم إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه وجهان :
أحدهما : يعني قريباً .
الثاني : مبتدئاً .
وفي مقصودهم بهذا السؤال وجهان :
أحدهما : الإستهزاء بما سمعوه .
الثاني : البحث عما جهلوه .
قوله عز وجل : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الإستهزاء زاد المؤمنين هدى ، قاله الفراء .
الثاني : أن القرآن زادهم هدى ، قاله ابن جريج .
الثالث : أن الناسخ والمنسوخ زادهم هدى ، قاله عطية .
وفي الهدى الذي زادهم أربعة أقاويل :
أحدها : زادهم علماً ، قاله الربيع بن أنس .
الثاني : علموا ما سمعوا ، وعلموا بما عملوا ، قاله الضحاك .
الثالث : زادهم بصيرة في دينهم وتصديقاً لنبيهم ، قاله الكلبي .
الرابع : شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان .
ويحتمل خامساً : والذين اهتدوا بالحق زادهم هدى للحق .
{ وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : آتاهم الخشية ، قاله الربيع .
الثاني : ثواب تقواهم في الآخرة ، قاله السدي .
الثالث : وفقهم للعمل الذي فرض عليهم ، قاله مقاتل .
الرابع : بين لهم ما يتقون ، قاله ابن زياد .
الخامس : أنه ترك المنسوخ والعمل بالناسخ ، قاله عطية .
قوله عز وجل : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأتِيَهُم بَغْتَةً } أي فجأة .
{ فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أشراطها آياتها ، قاله ابن زيد .
الثاني : أوائلها ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه انشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الحسن .
الرابع : ظهور النبي ، قاله الضحاك . قال الضحاك لأنه آخر الرسل وأمته آخر الأمم ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بُعِثْتُ وَالسَّاعَة كَهَاتِينِ » وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى .
{ فَأَنَّى لَهُمْ } قال السدي : معناه فكيف لهم النجاة .
{ إذَا جَآءَتْهُمْ ذِكرَاهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : إذا جاءتهم الساعة ، قاله قتادة .
الثاني : إذا جاءتهم الذكرى عند مجيء الساعة ، قاله ابن زيد .

وفي الذكرى وجهان :
أحدهما : تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر .
الثاني : هو دعاؤهم بأسمائهم تبشيراً أو تخويفاً . روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أَحْسِنُواْ أَسْمَآءَكُم فَإِنَّكُم تُدْعَوْنَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ ، يَا فُلاَنُ قُمْ إِلَى نُورِكَ ، يَا فُلاَنُ قُمْ فَلاَ نُورَ لَكَ » .
قوله عز وجل : { فَاعلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ } وفي - وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم عالماً به - ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني اعلم أن الله أعلمك أن لا إله إلا الله .
الثاني : ما علمته استدلالاً فاعلمه خبراً يقيناً .
الثالث : يعني فاذكر أن لا إله إلا الله ، فعبر عن الذكر بالعلم لحدوثه عنه .
{ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب .
الثاني : استغفر الله ليعصمك من الذنوب .
{ وَلِلْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي استغفر لهم ذنوبهم .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : متقلبكم في أسفاركم ، ومثواكم في أوطانكم .
الثاني : متقلبكم في أعمالكم نهاراً ومثواكم في ليلكم نياماً .

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)

قوله عز وجل : { وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزَّلِتْ سُورَةٌ } كان المؤمنون إذا تأخر نزول القرآن اشتاقوا إليه وتمنوه ليعلموا أوامر الله وتعبده لهم .
{ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ } وفي قراءة ابن مسعود : فإذا أنزلت سورة محدثة { وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ } .
في السورة المحكمة قولان :
أحدهما : أنها التي يذكر فيها الحلال والحرام ، قاله ابن زياد النقاش .
الثاني : أنها التي يذكر فيها القتال : وهي أشد القرآن على المنافقين ، قاله قتادة .
ويحتمل :
ثالثاً : أنها التي تضمنت نصوصاً لم يتعقبها ناسخ ولم يختلف فيها تأويل :
{ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } هم المنافقون ، لأن قلوبهم كالمريضة بالشك . فإذا أنزلت السورة المحكمة سر بها المؤمنون وسارعوا إلى العمل بما فيها ، واغتم المنافقون ونظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ نَظَرَ الْمَغْشِّيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوتِ } غماً بها وفزعاً منها .
{ فَأَوْلَى لَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه وعيد ، كأنه قال : العقاب أولى لهم ، قاله قتادة .
الثاني : أولى لهم ، { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } من أن يجزعوا من فرض الجهاد عليهم ، قاله الحسن .
وفيه وجه ثالث : أن قوله { طَاعَةٌ وَقُوْلٌ مَعْرُوفٌ } حكاية من الله عنهم قبل فرض الجهاد عليهم ، ذكره ابن عيسى .
والطاعة هي الطاعة لله ورسوله في الأوامر والنواهي . وفي القول المعروف وجهان :
أحدهما : هو الصدق والقبول .
الثاني : الإجابة بالسمع والطاعة .
{ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ } أي جد الأمر في القتال .
{ فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّه } بأعمالهم { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } من نفاقهم .
قوله عز وجل : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : فهل عسيتم إن توليتم أمور الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم ، قاله الكلبي .
الثاني : فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا ، قاله أبو العالية .
الثالث : فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام . { وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } ، قاله قتادة .
الرابع : فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام ، قاله ابن جريج .
وفي هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عنى بها المنافقين وهو الظاهر .
الثاني : قريشاً ، قاله أبو حيان .
الثالث : أنها نزلت في الخوارج ، قاله بكر بن عبد الله المزني .

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)

قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعدما علموا في التوراة أنه نبي ، قاله قتادة وابن جريج .
الثاني : المنافقون قعدوا عن القتال من بعدما علموه في القرآن ، قاله السدي .
{ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أعطاهم سؤالهم ، قاله ابن بحر .
الثاني : زين لهم خطاياهم ، قاله الحسن .
{ وَأَمْلَى لَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أمهلهم ، قاله الكلبي ومقاتل فعلى هذا يكون الله تعالى هو الذي أملى لهم بالإمهال في عذابهم .
والوجه الثاني : أن معنى أملى لهم أي مد لهم في الأمل فعلى هذا فيه وجهان :
أحدهما : أن الله تعالى هو الذي أملى لهم في الأمل ، قاله الفراء والمفضل .
الثاني : أن الشيطان هو الذي أملى لهم في مد الأمل بالتسويف ، قاله الحسن .
{ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ } وفي قائل ذلك قولان :
أحدهما : أنهم اليهود قالوا للمنافقين سنطيعكم في بعض الأمر . وفيما أرادوا بذلك وجهان :
أحدهما : سنطيعكم في ألا نصدق بشيء ، من مقالته ، قاله الضحاك .
الثاني : سنطيعكم في كتم ما علمنا من نبوته ، قاله ابن جريج .
القول الثاني : أنهم المنافقون قالوا لليهود سنطيعكم في بعض الأمر وفيما أرادوه بذلك ثلاثة أوجه :
أحدهما : سنطيعكم في غير القتال من بغض محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن نصرته ، قال السدي .
الثاني : سنطيعكم في الميل إليكم والمظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالث : سنطيعكم في الارتداد بعد الإيمان .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما اسر بعضهم إلى بعض من هذا القول .
الثاني : ما أسروه في أنفسهم من هذا الاعتقاد .
قوله عز وجل : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالقتال نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : بقبض الأرواح عند الموت .
{ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارُهُمْ } يكون على احتمال وجهين :
أحدهما : يضربون وجوههم في القتال عند الطلب وأدبارهم عند الهرب .
الثاني : يضربون وجوههم عند الموت بصحائف كفرهم ، وأدبارهم في القيامة عند سوقهم إلى النار .

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

قوله عز وجل : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } فيه وجهان :
أحدهما : شك ، قاله مقاتل .
الثاني : نفاق ، قاله الكلبي .
{ أَن لن يُخْرِجَ أَضْغَانَهُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : غشهم ، قاله السدي .
الثاني : حسدهم ، قاله ابن عباس .
الثالث : حقدهم ، قاله ابن عيسى .
الرابع : عدوانهم ، قاله قطرب وأنشد :
قل لابن هند ما أردت بمنطق ... ساء الصديق وسر ذا الأضغان
قوله عز وجل : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } فيه وجهان :
أحدهما : في كذب القول ، قاله الكلبي .
الثاني : في فحوى كلامهم ، واللحن هو الذهاب بالكلام في غير جهته ، مأخوذ من اللحن في الإعراب وهو الذهاب عن الصواب ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّكُم لَتَحْتَكِمُونَ إِليَّ ، أَحَدَكُمْ أَن يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ » أي أذهب بها في الجهات لقوته على تصريف الكلام . قال مرار الأسدي :
ولحنت لحناً فيه غش ورابني ... صدودك ترصين الوشاة الأعاديا
قال الكلبي : فلم يتكلم بعد نزولها منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالُكُم } فيه وجهان :
أحدهما : المجاهدين في سبيل الله .
الثاني : الزاهدين في الدنيا .
{ وَالصَّابِرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : على الجهاد .
الثاني : عن الدنيا .
{ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : نختبر أسراركم .
الثاني : ما تستقبلونه من أفعالكم .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)

{ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } فيه وجهان :
أحدهما : أطيعوا الله بتوحيده ، وأطيعوا الرسول بتصديقه .
الثاني : أطيعوا الله في حرمة الرسول ، وأطيعوا الرسول في تعظيم الله .
{ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي ، قاله الحسن .
الثاني : لا تبطلوها بالكبائر ، قاله الزهري .
الثالث : لا تبطلوها بالرياء والسمعة ، وأخلصوها لله ، قاله ابن جريج والكلبي .
قوله عز وجل : { وَلَن يَتِرَكُم أَعمَالَكْم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لن ينقصكم أعمالكم ، قاله مجاهد وقطرب . وأنشد قول الشاعر :
إن تترني من الإجارة شيئاً ... لا يفتني على الصراط بحقي
الثاني : لن يظلمكم ، قاله قتادة ، يعني أجور أعمالكم .
الثالث : ولا يستلبكم أعمالكم ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » .

إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

قوله عز وجل : { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُم } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يسألكم أموالكم لنفسه .
الثاني : لا يسألكم جميع أموالكم في الزكاة ولكن بعضها .
الثالث : لا يسألكم أموالكم وإنما يسألكم أمواله ، لأنه أملك بها وهو المنعم بإعطائها .
{ إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الإخفاء أخذ الجميع ، قاله ابن زيد وقطرب .
الثاني : أنه الإلحاح وإكثار السؤال ، مأخوذ من الحفاء وهو المشي بغير حذاء ، قاله ابن عيسى .
الثالث : أن معنى فيحفكم أي فيجدكم تبخلوا ، قاله ابن عيينة .
{ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يظهر بامتناعكم ما أضمرتموه من عدوانكم .
الثاني : تظهرون عند مسألتكم ما أضمرتموه من عداوتكم .
قوله عز وجل : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : وإن تتولوا عن كتابي ، قاله قتادة .
الثاني : عن طاعتي ، حكاه ابن أبي حاتم .
الثالث : عن الصدقة التي أُمرتم بها ، قاله الكلبي .
الرابع : عن هذا الأمر فلا تقبلونه ، قاله ابن زيد .
{ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم أهل اليمن وهم الأنصار ، قاله شريح بن عبيد .
الثاني : أنهم الفرس . روى أبو هريرة قال : لما نزل { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُم ثُمَّ لاَ يَكُونُوآ أمْثَالَكُم } كان سلمان إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا يستبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان وقال : « هذا وَقَومُهُ ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ الدِّينَ مُعَلَّقٌ بِالثُّرَيَّا لَنالَهُ رَِجَالٌ مِن أَبْنَاءِ فَارِس » .
الثالث : أنهم من شاء من سائر الناس ، قاله مجاهد .
{ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم } فيه وجهان :
أحدهما : يعني في البخل بالإنفاق في سبيل الله ، قاله الطبري .
الثاني : في المعصية وترك الطاعة .
وحكي عن أبي موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية فرح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن الدُّنْيَا » .

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)

قوله عز وجل : { إِنَّا فَتحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } فيه قولان :
أحدهما : إنا أعلمناك علماً مبيناً فيما أنزلناه عليك من القرآن وأمرناك به من الدين . وقد يعبر عن العلم بالفتح كقوله { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } [ الأنعام : 59 ] أي علم الغيب ، قاله ابن بحر . وكقوله { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } [ الأنفال : 19 ] أي إن أردتم العلم فقد جاءكم العلم .
الثاني : إنا قضينا لك قضاء بيناً فيما فتحناه عليك من البلاد .
وفي المراد بهذا الفتح قولان :
أحدهما : فتح مكة ، وعده الله عام الحديبية عند انكفائه منها .
الثاني : هو ما كان من أمره بالحديبية . قال الشعبي : نزلت { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] في وقت الحديبية أصاب فيها ما لم يصب في غيرها . بويع بيعة الرضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وظهرت الروم على فارس تصديقاً لخبره ، وبلغ الهدي محله ، فعلى هذا في الذي أراده بالفتح يوم الحديبية ، قال جابر : ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية .
الثاني : أنه بيعة الرضوان . قال البراء بن عازب : انتم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية .
الثالث : أنه نحره وحلقه يوم الحديبية حتى بلغ الهدي محله بالنحر .
والحديبية بئر ، وفيها تمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد غارت فجاشت بالرواء .
{ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فيه وجهان :
أحدهما : ليغفر لك الله استكمالاً لنعمه عندك .
الثاني : يصبرك على أذى قومك .
وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما تقدم قبل الفتح وما تأخر بعد الفتح .
الثاني : ما تقدم قبل النبوة وما تأخر بعد النبوة .
الثالث : ما وقع وما لم يقع على طريق الوعد بأنه مغفور إذا كان .
ويحتمل رابعاً : ما تقدم قبل نزول هذه الآية وما تأخر بعدها .
{ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } فيه قولان :
أحدهما : بفتح مكة والطائف وخيبر .
الثاني : بخضوع من استكبر . وطاعة من تجبر .
{ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه الأسر والغنيمة كما كان يوم بدر .
الثاني : أنه الظفر والإسلام وفتح مكة .
وسبب نزول هذه الآية ، ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أنه لما نزل قوله : { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } قال أهل مكة : يا محمد كيف ندخل في دينك وأنت لا تدري ما يفعل بك ولا بمن اتبعك فهلا أخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك كما أخبر عيسى ابن مريم؟ فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه حتى قدم المدينة ، فقال عبد الله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين - للأنصار : كيف تدخلون في دين رجل لا يدري ما يفعل به ولا بمن اتبعه؟ هذا والله الضلال المبين . فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، يا رسول الله ألا تسأل ربك يخبرك بما يفعل بك وبمن اتبعك؟ فقال : إن له أجلاً فأبشرا بما يقر الله به أعينكما . إلى أن نزلت عليه هذه الآي وهو في دار أبي الدحداح على طعام مع أبي بكر وعمر فخرج وقرأها على أصحابه ، قال قائل منهم : هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بين الله لنا ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله { لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } الآية .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

قوله عز وجل : { هُوَا الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الصبر على أمر الله .
الثاني : أنها الثقة بوعد الله .
الثالث : أنها الرحمة لعباد الله .
{ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : ليزدادوا عملاً مع تصديقهم .
الثاني : ليزدادوا صبراً مع اجتهادهم .
الثالث : ليزدادوا ثقة بالنصر مع إيمانهم بالجزاء .
{ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون معناه : ولله ملك السموات والأرض ترغيباً للمؤمنين في خير الدنيا وثواب الآخرة .
الثاني : معناه : ولله جنود السموات والأرض إشعاراً للمؤمنين أن لهم في جهادهم أعواناً على طاعة ربهم .
قوله عز وجل : { الظَّآنِّينَ باللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : هو ظنهم أن لله شريكاً .
الثاني : هو ظنهم أنه لن يبعث الله أحداً .
الثالث : هو ظنهم أن يجعلهم الله كرسوله .
الرابع : أن سينصرهم على رسوله .
قال الضحاك : ظنت أسد وغطفان في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الحديبية أنه سيقتل أو ينهزم ولا يعود إلى المدينة سالماً ، فعاد ظافراً .
{ عَلَيْهِمْ دَآئرَهُ السَّوْءِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : عليهم يدور سوء اعتقادهم .
الثاني : عليهم يدور جزاء ما اعتقدوه في نبيهم .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)

قوله عز وجل : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : شاهداًعلى أمتك بالبلاغ ، قاله قتادة .
الثاني : شاهداًعلى أمتك بأعمالهم من طاعة أو معصية .
الثالث : مبيناً ما أرسلناك به إليهم .
{ وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } فيه وجهان :
أحدهما : مبشراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين .
الثاني : مبشراً بالجنة لمن أطاع ونذيراً بالنار لمن عصى ، قاله قتادة ، والبشارة والإنذار معاً خير لأن المخبر بالأمر السار مبشر والمحذر من الأمر المكروه منذر . قال النابغة الذبياني :
تناذرها الراقون من سوء سعيها ... تطلقها طوراً وطوراً تراجع
قوله عز وجل : { وَتُعَزِّرُوهُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تطيعوه ، قاله بعض أهل اللغة .
الثاني : تعظموه ، قاله الحسن والكلبي .
الثالث : تنصروه وتمنعوا منه ، ومنه التعزير في الحدود لأنه مانع ، قاله القطامي :
ألا بكرت مي بغير سفاهة ... تعاتب والمودود ينفعه العزر
وفي { وَتُوَقِّرُوهُ } وجهان :
أحدهما : تسودوه ، قاله السدي .
الثاني : أن تأويله مختلف بحسب اختلافهم فيمن أشير إليه بهذا الذكر : فمنهم من قال أن المراد بقوله : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتَوَقِّرُوهُ } أي تعزروا الله وتوقروه لأن قوله : { وَتُسَبِّحُوهُ } راجع إلى الله وكذلك ما تقدمه ، فعلى هذا يكون تأويل قوله : { وَتُوَقِّرُوهُ } أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك .
ومنهم من قال : المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزروه ويوقروه لأنه قد تقدم ذكرها ، فجاز أن يكون بعض الكلام راجعاً إلى الله وبعضه راجعاً إلى رسوله ، قاله الضحاك . فعلى هذا يكون تأويل { تُوَقِّرُوهُ } أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية .
{ وتُسَبِّحُوهُ } فيه وجهان :
أحدهما : تسبيحه بالتنزيه له من كل قبيح .
الثاني : هو فعل الصلاة التي فيها التسبيح .
{ بُكْرَةً وَأصِيلاً } أي غدوة وعشياً . قال الشاعر :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأجلس في أفيائه بالأصائل

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)

قوله عز وجل : { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : فاسدين قاله قتادة .
الثاني : هالكين ، قاله مجاهد . قال عبد الله بن الزبعرى :
يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
الثالث : أشرار ، قاله ابن بحر . وقال حسان بن ثابت :
لا ينفع الطول من نوك الرجال وقد ... يهدي الإله سبيل المعشر البور

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

قوله عز وجل : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : ما وعد الله نبيّه من النصرة والفتح حين ظنوا ظن السوء بأنه يهلك أو لا يظفر ، قاله مجاهد وقتادة .
الثاني : قوله : { لَن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً } حين سألوه الخروج معه لأجل المغانم بعد امتناعهم منه وظن السوء ، قاله ابن زيد .

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)

قوله عز وجل : { قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ } وهؤلاء المخلفون هم أحد أصناف المنافقين ، لأن الله تعالى صنف المنافقين من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ثلاثة أصناف ، منهم من أعلم أنه لا يؤمن وأوعدهم العذاب في الدنيا مرتين ثم العذاب العظيم في الآخرة وذلك قوله { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعَرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ } [ التوبة : 101 ] الآية . ومنهم من اعترف بذنبه وتاب ، وهم من قال الله فيهم : { وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُبِهِم خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيِّئاً } [ التوبة : 102 ] الآية . ومنهم من وقفوا بين الرجاء لهم والخوف عليهم بقوله تعالى : { وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمِرْ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإمَّا يَتَوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] فهؤلاء المخاطبون بقوله : { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } دون الصنفين المتقدمين لترددهم بين أمرين .
قوله عز وجل : { سَتُدْعُوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ . . . } الآية . فيهم خمسة أوجه :
أحدها : أنهم أهل فارس ، قاله ابن عباس .
الثاني : الروم ، قاله الحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى .
الثالث : هوازن وغطفان بحنين ، قاله سعيد بن جبير وقتادة .
الرابع : بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب ، قاله الزهري .
الخامس : أنهم قوم لم يأتوا بعد ، قاله أبو هريرة .

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)

قوله عز وجل : { لَقَدْ رِضِي اللَّهُ عَنِ الْمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجرَةِ } كانت سبب هذه البيعة وهي بيعة الرضوان تأخر عثمان رضي الله عنه بمكة حين أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية رسولاً إلى الإسلام فأبطأ وأرجف بقتله ، فبايع أصحابه وبايعوه على الصبر والجهاد ، وكانوا فيما رواه ابن عباس ألفاً وخمسمائة ، وقال جابر : كانوا ألفاً وأربعمائة وقال عبد الله بن أبي أوفى : ألفاً وثلاثمائةً .
وكانت البيعة تحت الشجرة بالحديبية والشجرة سمرة . وسميت بيعة الرضوان ، لقوله تعالى : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من صدق النية ، قاله الفراء .
الثاني : من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه على الموت ، قاله مقاتل .
{ فَأَنزَلَ السَّكِينَة عَلَيْهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : فتح خيبر لقربها من الحديبية ، قاله قتادة .
الثاني : فتح مكة .

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

قوله عز وجل : { وََعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } فيه قولان :
أحدهما : هي مغانم خيبر ، قاله ابن زيد .
الثاني : هو كل مغنم غنمه المسلمون ، قاله مجاهد .
{ فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } فيه قولان :
أحدهما : مغانم خيبر ، قاله مجاهد .
الثاني : صلح الحديبية ، قاله ابن عباس .
{ وَكَفَّ أيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : اليهود كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية .
الثاني : قريش كف أيديهم عن المدينة عند خروجهم إلى الحديبية .
الثالث : أسد وغطفان الحليفان عليهم عيينة بن حصن ومالك بن عوف جاءوا لينصروا أهل خيبر ، فألقى الله في قلوبهم الرعب فانهزموا .
{ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤمِنِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : ليكون كف أيديهم عنكم آية للمؤمنين .
الثاني : ليكون فتح خيبر آية أي علامة لصدق الله تعالى في وعده وصدق رسوله في خبره . قيل لتكون البيعة آية لهم .
قوله عز وجل : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أحَاطَ اللَّهُ بِهَا } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : هي أرض فارس والروم وجميع ما فتحه المسلمون ، قاله ابن عباس .
الثاني : هي مكة ، قاله قتادة .
الثالث : هي أرض خيبر ، قاله الضحاك .
في قوله : { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } وجهان :
أحدهما : قدر الله عليها ، قاله ابن بحر .
الثاني : حفظها عليكم ليكون فتحها لكم .
قوله عز وجل : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر رسله وأوليائه على أعدائه .
وفي قوله : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } وجهان :
أحدهما : ولن تتغير سنة الله وعادته في نصرك على أعدائك وأعدائه .
الثاني : لن تجد لعادة الله في نصر رسله مانعاً من الظفر بأعدائه وهو محتمل .
قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كف أيديهم عنكم بالرعب وأيديكم عنهم بالنهي .
الثاني : كف أيديهم عنكم بالخذلان ، وأيديكم عنهم بالاستبقاء لعلمه بحال من يسلم منهم .
الثالث : كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم بالصلح عام الحديبية .
{ بِبَطْنِ مَكَّةَ } فيه قولان :
أحدهما : يريد به مكة .
الثاني : يريد به الحديبية لأن بعضها مضاف إلى الحرام .
وفي قوله : { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيهِمْ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أظفركم عليهم بفتح مكة وتكون هذه نزلت بعد فتح مكة ، وفيها دليل على أن مكة فتحت صلحاً لقوله { كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنهُم } .
الثاني : أظفركم عليهم بقضاء العمرة التي صدوكم عنها .
الثالث : أظفركم عليهم بما روي ثابت عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من قبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوا من ظفروا به ، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم ، فأنزل الله هذه الآية ، فكان هذا هو الظفر .

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)

قوله عز وجل : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } يعني قريشاً .
{ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني منعوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية حين أحرم النبي صلى الله علي وسلم مع أصحابه بعمرة .
{ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : محبوساً .
الثاني : واقفاً .
الثالث : مجموعاً ، قاله أبو عمرو بن العلاء .
{ أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } فيه قولان :
أحدهما : منحره ، قاله الفراء .
الثاني : الحرم ، قال الشافعي ، والمحِل بكسر الحاء هو غاية الشيء ، وبالفتح هو الموضع الذي يحله الناس ، وكان الهدي سبعين بدنة .
{ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمْوهُمْ } أي لم تعلموا إيمانهم .
{ أَن تَطَئُوهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أن تطئوهم بخيلكم وأرجلكم فتقتلوهم ، قاله ابن عباس .
الثاني : لولا من في أصلاب الكفار وأرحام نسائهم من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لم يعلموهم أن يطئوا آباءهم فيهلك أبناؤهم ، قاله الضحاك .
{ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ } فيها ستة أقاويل :
أحدها : الإثم ، قاله ابن زيد .
الثاني : غرم الدية ، قاله ابن إسحاق .
الثالث : كفارة قتل الخطأ ، قاله الكلبي .
الرابع : الشدة ، قاله قطرب .
الخامس : العيب .
السادس : الغم .
قوله عز وجل : { لَوْ تَزَيَّلُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : لو تميزوا ، قاله ابن قتيبة .
الثاني : لو تفرقوا ، قاله الكلبي .
الثالث : لو أزيلوا ، قاله الضحاك حتى لا يختلط بمشركي مكة مسلم .
{ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً ألِيماً } وهو القتل بالسيف لكن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار .
قوله عز وجل : { إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } يعني قريشاً . وفي حمية الجاهلية قولان :
أحدهما : العصبية لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، والأنفة من أن يعبدوا غيرها ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنفتهم من الإقرار له بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم على عادته في الفاتحة ، ومنعهم له من دخول مكة ، قال الزهري .
ويحتمل ثالثاً : هو الاقتداء بآبائهم ، وألا يخالفوا لهم عادة ، ولا يلتزموا لغيرهم طاعة كما أخبر الله عنهم { إِنَّا وَجَدْنَا أَبَاءنا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
{ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤمِنِينَ } يعني الصبر الذي صبروا والإجابة إلى ما سألوا ، والصلح الذي عقدوه حتى عاد إليهم في مثل ذلك الشهر من السنة الثانية قاضياً لعمرته ظافراً بطلبته .
{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } فيها أربعة أوجه :
أحدها : قول لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ، وهو يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : الإخلاص ، قاله مجاهد .
الثالث : قول بسم الله الرحمن الرحيم ، قاله الزهري .
الرابع : قولهم سمعنا وأطعنا بعد خوضهم . وسميت كلمة التقوى لأنهم يتقون بها غضب الله .
{ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : وكانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها .
الثاني : وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها .
وفي من كان أحق بكلمة التقوى قولان :
أحدهما : أهل مكة كانوا أحق بكلمة التقوى أن يقولوها لتقدم إنذارهم لولا ما سلبوه من التوفيق .
الثاني : أهل المدينة أحق بكلمة التقوى حين قالوها ، لتقدم إيمانهم حين صحبهم التوفيق .

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)

قوله عز وجل : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ ءَامِنينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } قال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى في المنام ، أنه يدخل مكة على هذه الصفة ، فلما صالح قريشاً بالحديبية ، ارتاب المنافقون ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : « فَمَا رَأَيْتُ فِي هذَا العَامِ »
ثم قال : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } فيه قولان :
أحدهما : علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم ، قاله الكلبي .
الثاني : علم أن بمكة رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم؛ الآية .
ثُمَّ قَالَ : { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } فيه قولان :
أحدهما : أنه الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش بالحديبية ، قاله مجاهد .
الثاني : فتح مكة ، قاله ابن زيد والضحاك .
وفي قوله : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه خارج مخرج الشرط والاستثناء .
الثاني : أنه ليس بشرط وإنما خرج مخرج الحكاية على عادة أهل الدين ، ومعناه لتدخلونه بمشيئة الله .
الثالث : إن شاء الله في دخول جميعكم أو بعضكم ، ولأنه علم أن بعضهم يموت .

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

قوله عز وجل : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : أنه ثرى الأرض وندى الطهور ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : أنها صلاتهم تبدوا في وجوههم ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه السمت ، قاله الحسن .
الرابع : الخشوع ، قاله مجاهد .
الخامس : هو أن يسهر الليل فيصبح مصفراً ، قاله الضحاك .
السادس : هو نور يظهر على وجوههم يوم القيامة ، قاله عطية العوفي .
{ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَأَهُ } فيه قولان :
أحدهما : أن مثلهم في التوراة بأن سيماهم في وجوههم . ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه .
الثاني : أن كلا الأمرين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل .
وقوله : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الشطأ شوك السنبل ، والعرب أيضاً تسميه السفا والبهمي ، قاله قطرب .
الثاني : أنه السنبل ، فيخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان ، قاله الكلبي والفراء .
الثالث : أنه فراخه التي تخرج من جوانبه ، ومنه شاطىء النهر جانبه ، قاله الأخفش .
{ فَآزَرَهُ } فيه قولان :
أحدهما : فساواه فصار مثل الأم ، قاله السدي .
الثاني : فعاونه فشد فراخ الزرع أصول النبت وقواها .
{ فَاسْتَغْلَظَ } يعني اجتماع الفراخ مع الأصول .
{ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } أي على عوده الذي يقوم عليه فيكون ساقاً له .
{ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، لأن ما أعجب المؤمنين من قوتهم كإعجاب الزراع بقوة رزعهم هو الذي غاظ الكفار منهم .
ووجه ضرب المثل بهذا الزرع الذي أخرج شطأه ، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه كان ضعيفاً ، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى كثر جمعه وقوي أمره ، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالا بعد حال يغلظ ساقه وأفراخه فكان هذا من أصح مثل وأوضح بيان ، والله أعلم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن ناساً كانوا يقولون : لو أنزل فيَّ كذا ، لو أنزل فيَّ كذا ، فنزلت هذه الآية ، قاله قتادة .
الثاني : أنهم نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه ، قاله ابن عباس .
الثالث : معناه ألا يقتاتوا على الله ورسوله ، حتى يقضي الله على لسان رسوله ، قاله مجاهد .
الرابع : أنها نزلت في قوم ضحوا قبل أن يصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم أن يعيدوا الذبح ، قاله الحسن .
الخامس : لا تقدموا أعمال الطاعات قبل وقتها الذي أمر به الله تعالى ورسوله ، قال الزجاج .
وسبب نزولها ما حكاه الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ أربعة وعشرين رجلاً من أصحابه إلى بني عامر فقتلوهم إلا ثلاثة تأخروا عنهم فسلموا وانكفئوا إلى المدينة فلقوا رجلين من بني سليم فسألوهما عن نسبهما فقالا : من بني عامر فقتلوهما ، فجاء بنو سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن بيننا وبينك عهداً وقد قتل منا رجلان فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة بعير ونزلت عليه هذه الآية في قتلة الرجلين .
{ وَاتَّقُواْ اللَّهَ } يعني في التقدم المنهي عنه .
{ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } لقولكم { عَلِيمٌ } بفعلكم .
قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوتِ النَّبِّيِ } قيل إن رجلين من الصحابة تماريا عنده فارتفعت أصوتهما ، فنزلت هذه الآية ، فقال أبو بكر رضي الله عنه عند ذلك : والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار .
{ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الجهر بالصوت . روي أن ثابت بن قيس بن شماس قال : يا نبي الله والله لقد خشيت أن أكون قد هلكت ، نهانا الله عن الجهر بالقول وأنا امرؤ جهير الصوت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « يَا ثَابِتَ أَمَأ تَرْضَى أَن تَعِيشَ حَمِيداً وتُقْتَلَ شَهِيداً وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ » ؟ فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة .
الثاني : أن النهي عن هذا الجهر هو المنع من دعائه باسمه أو كنيته كما يدعو بعضهم بعضاً بالاسم والكنية ، وهو معنى قوله { كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، ولكنْ دعاؤه بالنبوة والرسالة كما قال تعالى { لاَ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضاً } [ النور : 63 ] .
{ أن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن معناه فتحبط أعمالكم .
الثاني : لئلا تحبط أعمالكم .
{ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } بحبط أعمالكم .
قوله عز وجل : { . . . أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } فيه تأويلان :
أحدهما : معناه أخلصها للتقوى ، قاله الفراء .
الثاني : معناه اختصها للتقوى ، قاله الأخفش .

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ } الآية . اختلف في سبب نزولها ، فروى معمر عن قتادة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه من وراء الحجرة : يا محمد ، إن مدحي زين وشتمي شين ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « وَيْلُكَ ذَاكَ اللَّهُ ، ذَاكَ اللَّهُ » فأنزل الله هذه الآية ، فهذا قول . وروى زيد بن أرقم قال : أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس باتباعه وإن يكن ملكاً نعش في جنابه ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه ، وهو في حجرته يا محمد ، فأنزل الله هذه الآية . قيل : إنهم كانوا من بني تميم . قال مقاتل : كانوا تسعة نفر : قيس بن عاصم ، والزبرقان بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وسويد بن هشام ، وخالد بن مالك ، وعطاء بن حابس ، والقعقاع بن معبد ، ووكيع بن وكيع ، وعيينة بن حصن .
وفي قوله : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وجهان :
أحدهما : لا يعلمون ، فعبر عن العلم بالعقل لأنه من نتائجه ، قاله ابن بحر .
الثاني : لا يعقلون أفعال العقلاء لتهورهم وقلة أناتهم ، وهو محتمل .
والحجرات جمع حجر؛ والحجر جمع حجرة .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لكان أحسن لأدبهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : لأطلقت أسراهم بغير فداء ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سبى قوماً من بني العنبر ، فجاءوا في فداء سبيهم وأسراهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِق بِنَبَإِ فَتَبَيَّنُواْ } الآية . نزلت هذه الآية في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وسبب نزولها ما رواه سعيد عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد ابن عقبة مصدقاً لبني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه ، فهابهم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام ، فبعث نبي الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وأمره أن يثبت ولا يعجل ، فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالداً أنهم متمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا ، أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه ، فعادوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فنزلت هذه الآية . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « التأني من الله والعجلة من الشيطان » وفي هذه الآية دليل على أن خبر الواحد مقبول إذا كان عدلاً .
قوله عز وجل : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتَّمُ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : لأثمتم ، قاله مقاتل .
الثاني : لاتهمتم ، قاله الكلبي .
الثالث : لغويتم .
الرابع : لهلكتم .
الخامس : لنالتكم شدة ومشقة .
قال قتادة : هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا ، فأنتم والله أسخف رأياً وأطيش عقولا .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ } فيه وجهان :
أحدهما : حسنه عندكم ، قاله ابن زيد .
الثاني : قاله الحسن . بما وصف من الثواب عليه .
{ وَزَيَّنَةُ فِي قُلُوبِكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : بما وعد عليه في الدنيا من النصر وفي الآخرة من الثواب ، قاله ابن بحر .
الثاني : بالدلالات على صحته .
{ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الكذب خاصة ، قاله ابن زيد .
الثاني : كل ما خرج عن الطاعة .

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

قوله عز وجل : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } اختلف في سبب نزولها على أربعة أقاويل :
أحدها : ما رواه عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتال بالسعف والنعال ونحوه فنزلت هذه الآية فيهم . الثاني : ما رواه سعيد عن قتادة أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مدارأة في حق بينهما ، فقال أحدهما للآخر : لآخذنه عنوة لكثرة عشيرته ، وأن الآخر دعاه ليحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه ، فلم يزل بهما الأمر حتى تواقعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ، فنزلت فيهم .
الثالث : ما رواه أسباط عن السدي أن رجلاً من الأنصار كانت له امرأة تدعى أم زيد وأن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها ، وأن المرأة بعثت إلى أهلها ، فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها ، فخرج الرجل فاستعان أهله ، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال ، فنزلت هذه الآية فيهم .
الرابع : ما حكاه الكلبي ومقاتل والفراء أنها نزلت في رهط عبد الله بن أبي بن سلول من الخزرج ورهط عبد الله بن رواحة من الأوس ، وسببه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمار له على عبد الله بن أبي ، وهو في مجلس قومه ، فراث حمار النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمسك عبد الله أنفه وقال : إليك حمارك ، فغضب عبد الله بن رواحة ، وقال : أتقول هذا لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله هو أطيب ريحاً منك ومن أبيك ، فغضب قومه ، وأعان ابن رواحة قومه حتى اقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت هذه الآية فيهم ، فأصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم .
{ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى } البغي التعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق .
{ فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي } فيه وجهان :
أحدهما : تبغي في التعدي في القتال .
الثاني : في العدول عن الصلح ، قاله الفراء .
{ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به ، قاله سعيد بن جبير .
الثاني : ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله فيما لهم وعليهم ، قاله قتادة .
{ فَإِن فَآءَتْ } أي رجعت .
{ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بالحق .
الثاني : بكتاب الله ، قاله سعيد بن جبير .
{ وَأَقْسِطُواْ } معناه واعدلوا .
ويحتمل وجهين :
أحدهما : اعدلوا في ترك الهوى والممايلة .
الثاني : في ترك العقوبة والمؤاخذة .
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي العادلين قال أبو مالك : في القول والفعل .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مَِّن قَوْمٍ } الآية . أما القوم فهم الرجال خاصة ، لذلك ذكر بعدهم النساء . ويسمى الرجال قوماً لقيام بعضهم مع بعض في الأمور ، ولأنهم يقومون بالأمور دون النساء ، ومنه قول الشاعر :
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وفي هذه السخرية المنهي عنها قولان :
أحدهما : أنه استهزاء الغني بالفقير إذا سأله ، قاله مجاهد .
الثاني : أنه استهزاء المسلم بمن أعلن فسقه ، قاله ابن زيد .
ويحتمل ثالثاً : أنه استهزاء الدهاة بأهل السلامة .
{ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } عند الله تعالى . ويحتمل : خيراً منهم معتقداً وأسلم باطناً . { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرُا مِّنْهُنَّ } .
{ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : ولا تلمزوا أهل دينكم .
الثاني : لا تلمزوا بعضكم بعضاً : واللمز : العيب .
وفي المراد به هنا ثلاثة أوجه :
أحدها : لا يطعن بعضكم على بعض ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وسعيد ابن جبير .
الثاني : لا تختالوا فيخون بعضكم بعضاً ، قاله الحسن .
الثالث : لا يلعن بعضكم بعضاً ، قاله الضحاك .
{ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ } في النبز وجهان :
أحدهما : أنه اللقب الثابت ، قاله المبرد .
الثاني : أن النبز القول القبيح ، وفيه هنا أربعة أوجه :
أحدها : أنه وضع اللقب المكروه على الرجل ودعاؤه به . قال الشعبي : روي أن وفد بني سليم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وللرجل منهم اسمان وثلاثة فكان يدعوا الرجل بالاسم فيقال إنه يكره هذا ، فنزلت هذه الآية .
الثاني : أنه تسمية الرجل بالأعمال السيئة بعد الإسلام . . . يا فاسق . . . يا سارق ، يا زاني ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنه يعيره بعد الإسلام بما سلف من شركه ، قاله عكرمة .
الرابع : أن يسميه بعد الإسلام باسم دينه قبل الإسلام ، لمن أسلم من اليهود . . . يا يهودي ، ومن النصارى . . . يا نصراني ، قاله ابن عباس ، والحسن . فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من أصحابه بأوصاف فصارت لهم من أجمل الألقاب .
واختلف في من نزلت فيه هذه الآية على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمسان وكان في أذنه ثقل فكان يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يسمع حديثه ، فجاء ذات يوم وقد أخذ الناس مجالسهم فقال : « تَفَسَّحُواْ » ففعلوا إلا رجلاً كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يفسح وقال : « قَدْ أَصَبْتَ مَوْضِعاً » فنبذه ثابت ، بلقب كان لأمه مكروهاً ، فنزلت ، قاله الكلبي والفراء .
الثاني : أنا نزلت في كعب بن مالك الأنصاري ، وكان على المغنم فقال لعبد الله بن أبي حدرد : يا أعرابي ، فقال له عبد الله : يا يهودي ، فتشاكيا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت فيهما ، حكاه مقاتل .
الثالث : أنها نزلت في الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات عند استهزائهم بمن مع رسول الله من الفقراء والموالي فنزل ذلك فيهم .
الرابع : أنا نزلت في عائشة وقد عابت أم سلمة .
واختلفوا في الذي عابتها به فقال مقاتل : عابتها بالقصر ، وقال غيره : عابتها بلباس تشهرت به .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ } يعني ظن السوء . بالمسلم توهماً من غير تعلمه يقيناً .
{ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني ظن السوء .
الثاني : أن يتكلم بما ظنه فيكون إثماً ، فإن لم يتكلم به لم يكن إثماً ، قاله مقاتل بن حيان .
{ وَلاَ تَجَسَّسُوا } فيه وجهان :
أحدهما : هو أن يتبع عثرات المؤمن ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة .
الثاني : هو البحث عم خفي حتى يظهر ، قاله الأوزاعي .
وفي التجسس والتحسس وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد ، قاله ابن عباس وقرأ الحسن بالحاء . وقال الشاعر :
تجنبت سعدى أن تشيد بذكرها ... إذا زرت سعدى الكاشح المتحسس
وقال أبو عمرو الشيباني : الجاسوس : صاحب سر الشر ، والناموس صاحب سر الخير .
والوجه الثاني : أنهما مختلفان . وفي الفرق بينهما وجهان :
أحدهما : أن التجسس بالجيم هو البحث ، ومنه قيل رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور وبالحاء هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه .
الثاني : أنه بالحاء أن يطلبه لنفسه وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره . والتجسس أن يجس الأخبار لنفسه ولغيره .
{ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } والغيبة : ذكر العيب بظهر الغيب ، قال الحسن : الغيبة ثلاثة كلها في كتاب الله : الغيبة والإفك والبهتان ، فأما الغيبة ، فأن تقول في أخيك ما هو فيه . وإما الإفك ، فأن تقول فيه ما بلغك عنه . وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه .
وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة قال : « هُوَ أَن تَقُولَ لأَخِيكَ مَا فِيهِ فَإِن كُنتَ صَادِقَاً فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإِن كُنتَ كَاذِباً فَقَدْ بَهَّتَّهُ » .
{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } فيه وجهان :
أحدهما : أي كما يحرم أكل لحمه ميتاً يحرم غيبته حياً .
الثاني : كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع عن غيبته حياً ، قاله قتادة . واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية قال الشاعر :
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
{ فَكَرِهْتُمُوهُ } فيه وجهان :
أحدهما : فكرهتم أكل الميتة ، كذلك فاكرهوا الغيبة .
الثاني : فكرهتم أن يعلم بكم الناس فاكرهوا غيبة الناس .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

قوله عز وجل : { يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى } قصد بهذه الآية . النهي عن التفاخر بالأنساب ، وبين التساوي فيها بأن خلقهم من ذكر وأنثى يعني آدم وحواء .
ثم قال : { وَجَعَلْنَاكُم شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَرَفُواْ } فبين أن الشعوب والقبائل للتعارف لا للافتخار ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشعوب النسب الأبعد والقبائل النسب الأقرب ، قاله مجاهد ، وقتادة . وقال الشاعر :
قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعد ولا نجيب
وسموا شعوباً لأن القبائل تشعبت منها .
الثاني : أن الشعوب عرب اليمن من قحطان ، والقبيلة ربيعة ومضر وسائر عدنان .
الثالث : أن الشعوب بطون العجم ، والقبائل بطون العرب .
ويحتمل رابعاً : أن الشعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب ، والقبائل هم المشتركون في الأنساب ، قال الشاعر :
وتفرقوا شعباً فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
والشعوب جمع شَعب بفتح الشين ، والشِّعب بكسر الشين هو الطريق وجمعه شعاب ، فكان اختلاف الجمعين مع اتفاق اللفظين تنبيهاً على اختلاف المعنيين .
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم } إن أفضلكم ، والكرم بالعمل والتقوى لا بالنسب .

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قوله عز وجل : { قَالَتِ الأَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا . . . } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم أقروا ولم يعملوا ، فالإسلام قول والإيمان عمل ، قاله الزهري .
الثاني : أنهم أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم أن اسمهم أعراب ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم مَنُّوا على رسول الله صلى الله بإسلامهم فقالوا أسلمنا ، لم نقاتلك ، فقال الله تعالى لنبيه : قل لهم : لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا خوف السيف ، قاله قتادة . لأناهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم ، فلم يكونوا مؤمنين ، وتركوا القتال فصاروا مستسلمين لا مسلمين ، فيكون مأخوذاً من الاستسلام لا من الإسلام كما قال الشاعر :
طال النهار على من لا لقاح له ... إلا الهدية أو ترك بإسلام
ويكون الإسلام والإيمان في حكم الدين على هذا التأويل واحداً وهو مذهب الفقهاء ، لأن كل واحد منهما تصديق وعمل .
وإنما يختلفان من وجهين :
أحدهما : من أصل الاسمين لأن الإيمان مشتق من الأمن ، والإسلام مشتق من السلم .
الثاني : أن الإسلام علم لدين محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان لجميع الأديان ، ولذلك امتنع اليهود والنصارى أن يتسموا بالمسلمين ، ولم يمتنعوا أن يتسموا بالمؤمنين . قال الفراء : ونزلت هذه الآية في أعراب بني أسد .
قوله عز وجل : { . . . لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيئاً } فيه وجهان :
أحدهما : لا يمنعكم من ثواب عملكم شيئاً ، قال رؤبة :
وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
أي لم يمنعني عن سراها .
الثاني : ولا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئاً ، قال الحطيئة :
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً
أي لا نقصاً ولا كذباً .
وفيه قراءتان : { يَلِتْكم } و { يألتكم } وفيها وجهان :
أحدها : [ أنهما ] لغتان معناهما واحد .
الثاني : يألتكم أكثر وأبلغ من يلتكم .
قوله عز وجل : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُم } الآية . هؤلاء أعراب حول المدينة أظهروا الإسلام خوفاً ، وأبطنوا الشرك اعتقاداً فأظهر الله ما أبطنوه وكشف ما كتموه ، ودلهم بعلمه بما في السموات والأرض علم علمه بما اعتقدوه ، وكانوا قد منوا بإسلامهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا فضلنا على غيرنا بإسلامنا طوعاً .
فقال تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُونُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } وهذا صحيح لأنه إن كان إسلامهم حقاً فهو لخلاص أنفسهم فلا مِنَّةَ فيه لهم ، وإن كان نفاقاً فهو للدفع عنهم ، فالمنة فيه عليهم .
ثم قال : { بِلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أن هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الله أحق أن يمن عليكم أن هداكم للإيمان حتى آمنتم . وتكون المنة هي التحمد بالنعمة .
الثاني : أن الله تعالى ينعم عليكم بهدايته لكم ، وتكون المنة هي النعمة . وقد يعبر بالمنة عن النعمة تارة وعن التحمد بها أخرى .
{ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يعني فيما قلتم من الإيمان .

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)

قوله عز وجل : { ق } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم بها ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
الثالث : أن معناه قضى والله ، كما قيل في حم : حم والله ، وهذا معنى قول مجاهد .
الرابع : أنه اسم الجبل المحيط بالدنيا ، قاله الضحاك .
قال مقاتل : وعروق الجبال كلها منه .
ويحتمل خامساً : أن يكون معناه قف؛ كما قال الشاعر :
قلت لها قفي فقالت قاف ... . . . . . . . . . . . .
أي وقفت . ويحتمل ما أريد بوقفه عليه وجهين :
أحدهما : قف على إبلاغ الرسالة لئلا تضجر بالتكذيب .
الثاني : قف على العمل بما يوحى إليك لئلا تعجل على ما لم تؤمر به .
{ وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الكريم ، قاله الحسن .
الثاني : أنه مأخوذ من كثرة القدرة والمنزلة ، لا من كثرة العدد من قولهم فلان كثير في النفوس ، ومنه قول العرب في المثل السائر : لها في كل الشجر نار ، واستجمد المرخ والعفار ، أي استكثر هذان النوعان من النار وزاد على سائر الشجر ، قاله ابن بحر .
الثالث : أنه العظيم ، مأخوذ من قولهم قد مجدت الإبل إذا أعظمت بطونها من كلأ الربيع . { والْقُرْءَانِ المَجِيدِ } قسم أقسم الله به تشريفاً له وتعظيماً لخطره لأن عادة جارية في القسم ألا يكون إلا بالمعظم . وجواب القسم محذوف ويحتمل وجهين :
أحدهما : هو أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ } .
الثاني : أنكم مبعوثون بدليل قوله : { إِئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } .
قوله عز وجل : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم .
{ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيءٌ عَجِيبٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنهم عجبوا أن دعوا إلى إله واحد ، قاله قتادة .
الثاني : عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، من قبل الله تعالى .
الثالث : أنهم عجبوا من إنذارهم بالبعث والنشور .
قوله عز وجل : { قَدْ عَلمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُم } فيه وجهان :
أحدهما : من يموت منهم ، قاله قتادة .
الثاني : يعني ما تأكله الأرض من لحومهم وتبليه من عظامهم ، قاله الضحاك .
{ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } يعني اللوح المحفوظ . وفي حفيظ وجهان :
أحدهما : حفيظ لأعمالهم .
الثاني : لما يأكله التراب من لحومهم وأبدانهم وهو الذي تنقصه الأرض منهم .
قوله عز وجل : { بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ . . . } الآية . الحق يعني القرآن في قول الجميع .
{ مَرِيجٍ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن المريج المختلط . قاله الضحاك .
الثاني : المختلف ، قاله قتادة .
الثالث : الملتبس ، قاله الحسن .
الرابع : الفاسد ، قاله أبو هريرة . ومنه قول أبي دؤاد :
مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)

قوله عز وجل : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } فيه وجهان :
أحدهما : من شقوق .
الثاني : من فتوق ، قاله ابن عيسى إلا أن الملك تفتح له أبواب السماء عند العروج .
قوله عز وجل : { وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } أي بسطناها .
{ وَألْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } يعني الجبال الرواسي الثوابت ، واحدها راسية قال الشاعر :
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل
{ مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي من كل نوع .
{ بَهِيجٍ } فيه وجهان :
أحدهما : حسن ، مأخوذ من البهجة وهي الحسن .
الثاني : سارّ مأخوذ من قولهم قد أبهجني هذا الأمر أي سرني ، لأن السرور يحدث في الوجه من الإسفار والحمرة ما يصير به حسناً . قال الشعبي : الناس نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم .
قوله عز وجل : { تَبْصِرَةً } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني بصيرة للإنسان ، قاله مجاهد .
الثاني : نعماً بصر الله بها عباده ، قاله قتادة .
الثالث : يعني دلالة وبرهاناً .
{ وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن المنيب المخلص ، قاله السدي .
الثاني : أنه التائب إلى ربه ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الراجع المتذكر ، قاله ابن بحر .
وقد عم الله بهذه التبصرة والذكرى وإن خص بالخطاب كل عبد منيب لانتفاعه بها واهتدائه إليها .
قوله عز وجل : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مََآءً مُّبَارَكاً } يعني المطر ، لأنه به يحيا النبات والحيوان .
{ فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ } فيها هنا وجهان :
أحدهما : أنها البساتين ، قاله الجمهور .
الثاني : الشجر ، قاله ابن بحر .
{ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } يعني البر والشعير ، وكل ما يحصد من الحبوب ، إذا تكامل واستحصد سمي حصيداً ، قال الأعشى :
لسنا كما إياد دارها ... تكريث ينظر حبه أن يحصدا
قوله عز وجل : { وَالنَّخْلَ بِاسَقَاتٍ } فيها وجهان :
أحدهما : أنها الطوال ، قاله ابن عباس ومجاهد . قاله الشاعر :
يا ابن الذين بفضلهم ... بسقت على قيس فزاره
أي طالت عليهم .
( الثاني ) أنها التي قد ثقلت من الحمل ، قاله عكرمة . وقال الشاعر :
فلما تركنا الدار ظلت منيفة ... بقران فيه الباسقات المواقر
{ نَضِيدٌ } أي منضود ، فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن النضيد المتراكم المتراكب ، قاله ابن عباس في رواية عكرمة عنه .
الثاني : أنه المنظوم ، وهذا يروى عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : أنه القائم المعتدل ، قاله ابن الهاد .
قوله عز وجل : { رِزْقاً لِلْعِبَادِ } يعني ما أنزله من السماء من ماء مبارك ، وما أخرجه من الأرض بالماء من نبات وحب الحصيد وطلع نضيد .
{ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مِّيتاً كَذِلكَ الْخُرُوجُ } جعل هذا كله دليلاً على البعث والنشور من وجهين :
أحدهما : أن النشأة الأولى إذا خلقها من غير أصل كانت النشأة الثانية بإعادة ما له أصل أهون .
الثاني : أنه لما شوهد من قدرته ، إعادة ما مات من زرع ونبات كان إعادة من مات من العباد أولى للتكليف الموجب للجزاء .

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

قوله عز وجل : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُم قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ } في الرس وجهان :
أحدهما : أنه كل حفرة في الأرض من بئر وقبر .
الثاني : أنها البئر التي لم تطو بحجر ولا غيره .
وأما أصحاب الرس ففيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنها بئر قتل فيها صاحب ياسين ورسوه ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم أهل بئر بأذربيجان ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنهم قوم باليمامة كان لهم آبار ، قاله قتادة . قال الزهير :
بكرن بكوراً واستحرن بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في الفم
الرابع : أنهم أصحاب الأخدود .
{ وَثَمُودُ } وهم قوم صالح ، وكانوا عرباً بوادي القرى وما حولها . وثمود مأخوذ من الثمد وهو الماء القليل الكدر ، قال النابغة :
واحكم بحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد
{ وَعَادٌ } وهو اسم رجل كان من العماليق كثر ولده ، فصاروا قبائل وكانوا باليمن بالأحقاف ، والأحقاف الرمال ، وهم قوم هود .
{ فِرْعَوْنَ } وقد اختلف في أصله فحكي عن مجاهد أنه كان فارسياً من أهل إصطخر . وقال ابن لهيعة : كان من أهل مصر وحكي عن ابن عباس أنه عاش ثلاثمائة سنة منها مائتان وعشرون سنة لا يرى ما يقذي عينه ، فدعاه موسى ثمانين سنة . وحكى غيره أنه عاش أربعمائة سنة .
واختلف في نسبه فقال بعضهم هو من لخم ، وقال آخرون هو من تبَّع .
{ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } يعني قومه وأتباعه ، قال مجاهد : كانوا أربعمائة ألف بيت ، في كل بيت عشرة مردة ، فكانوا أربعة آلاف ألف .
وقال عطاء : ما من أحد من الأنبياء إلا وقد يقوم معه قوم إلا لوط فإنه يقوم وحده .
{ وَأَصَحَابُ الأَيْكَةِ } والأيكة الغيضة ذات الشجر الملتف كما قال أبو داود الإيادي :
كأن عرين أيكته تلاقى ... بها جمعان من نبط وروم
قال قتادة : وكان عامة شجرها الدوم ، وكان رسولهم شعيباً ، وأرسل إليهم ، وإلى أهل مدين ، أرسل إلى أمتين من الناس ، وعذبتا بعذابين ، أما أهل مدين فأخذتهم الصيحة ، وأما أصحاب الأيكة فكانوا أهل شجر متكاوس .
{ وَقَوْمُ تُبَّعٍ } وتبع كان رجلاً من ملوك العرب من حِمير ، سُمّي تبعاً لكثرة من تبعه . قال وهب : إن تبعاً أسلم وكفر قومه ، فلذلك ذكر قومه ، ولم يذكر تبع . قال قتادة وهو الذي حير الحيرة وفتح سمرقند حتى أخربها ، وكان يكتب إذا كتب : بسم الله الذي تَسمَّى وملك براً وبحراً وضحى وريحاً .
{ كُلٌّ كَذَّبَ الرَّسَلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } يعني أن كل هؤلاء كذبوا من أرسل إليهم ، فحق عليهم وعيد الله وعذابه . فذكر الله قصص هؤلاء لهذه الأمة ، ليعلم المكذبون منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم أنهم كغيرهم من مكذبي الرسل إن أقاموا على التكذيب فلم يأمنوا ، حتى أرشد الله منهم من أرشد وتبعهم رغباً ورهباً من تبع .

قوله عز وجل : { أَفَعِيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هَمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } أما اللبس فهو اكتساب الشك ، ومنه قول الخنساء :
صدق مقالته واحذر عداوته ... والبس عليه بشك مثل ما لبسا
والخلق الجديد هو إعادة خلق ثان بعد الخلق الأول . وفي معنى الكلام تأويلان :
أحدهما : أفعجزنا عن إهلاك الخلق الأول ، يعني من تقدم ذكره حين كذبوا رسلي مع قوتهم ، حتى تشكوا في إهلاكنا لكم مع ضعفكم إن كذبتم ، فيكون هذا خارجاً منه مخرج الوعيد .
الثاني : معناه أننا لم نعجز عن إنشاء الخلق الأول ، فكيف تشكون في إنشاء خلق جديد ، يعني بالبعث بعد الموت ، فيكون هذا خارجاً مخرج البرهان والدليل .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } الوسوسة كثرة حديث النفس بما لا يتحصل في حفاء وإسرار ، ومنه قول رؤبة :
وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ وَنَحْنُ أَقْرَبٌ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه حبل معلق به القلب ، قاله الحسن . والأصم وهو الوتين .
الثاني : أنه عرق في الحلق ، قاله أبو عبيدة .
الثالث : ما قاله ابن عباس ، عرق العنق ويسمى حبل العاتق ، وهما وريدان عن يمين وشمال ، وسمي وريداً ، لأنه العرق الذي ينصب إليه ما يرد من الرأس .
وفي قوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِن حَبْلِ الْوَرِيدِ } تأويلان :
أحدهما : ونحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه .
الثاني : ونحن أملك به من حبل وريده ، مع استيلائه عليه .
ويحتمل ثالثاً : ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده ، الذي هو من نفسه ، لأنه عرق يخالط القلب ، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب .
قوله عز وجل : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ . . } الآية . قال الحسن ومجاهد وقتادة : المتلقيان ملكان يتلقيان عملك ، أحدهما عن يمينك ، يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك .
قال الحسن : حتى إذا مت طويت صحيفة عملك وقيل لك يوم القيامة : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك .
وفي { قَعِيدٌ } وجهان :
أحدهما : أنه القاعدة ، قاله المفضل .
الثاني : المرصد الحافظ ، قاله مجاهد . وهو مأخوذ من القعود .
قال الحسن : الحفظة أربعة : ملكان بالنهار وملكان بالليل .
قوله عز وجل : { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } أي ما يتكلم بشيء ، مأخوذ من لفظ الطعام ، وهو إخراجه من الفم .
{ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه المتتبع للأمور .
الثاني : أنه الحافظ ، قاله السدي .
الثالث : أنه الشاهد ، قاله الضحاك .
وفي { عَتِيدٌ } وجهان :
أحدهما : أنه الحاضر الذي لا يغيب .
الثاني : أنه الحافظ المعد إما للحفظ وإما للشهادة .
قوله عز وجل : { وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله قد أوعده .
الثاني : أن يكون الحق هو الموت ، سمي حقاً ، إما لاسحقاقه ، وإما لانتقاله إلى دار الحق . فعلى هذا يكون في الكلام تقديم وتأخير . وتقديره : وجاءت سكرة الحق بالموت ، ووجدتها في قراءة ابن مسعود كذلك .
{ ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه كان يحيد من الموت ، فجاءه الموت .
الثاني : أنه يحيد من الحق ، فجاءه الحق عند المعاينة .
وفي معنى التحيد وجهان :
أحدهما : أنه الفرار ، قاله الضحاك .
( الثاني ) : العدول ، قاله السدي . ومنه قول الشاعر :
ولقد قلت حين لم يك عنه ... لي ولا للرجال عنه محيد
فروى عاصم بن أبي بهدلة ، عن أبي وائل ، أن عائشة قالت عند أبيها وهو يقضي :

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً ، وضاق بها الصدر
فقال أبو بكر : « هلا قلت كما قال الله ] : وَجَآءَتْ سَكْرَتُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } .
قوله عز وجل : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } أما السائق ففيه قولان :
أحدهما : أنه ملك يسوقه إلى المحشر ، قاله أبو هريرة وابن زيد .
الثاني : أنه أمر من الله يسوقه إلى موضع الحساب ، قاله الضحاك .
وأما الشهيد ففيه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه ملك يشهد عليه بعمله ، وهذا قول عثمان بن عفان والحسن .
الثاني : أنه الإنسان ، يشهد على نفسه بعمله ، رواه أبو صالح .
الثالث : أنها الأيدي والأرجل تشهد عليه بعمله بنفسه ، قاله أبو هريرة .
ثم في الآية قولان :
أحدهما : أنها عامة في المسلم والكافر ، وهو قول الجمهور .
الثاني : أنها خاصة في الكافر ، قاله الضحاك .
قوله عز وجل : { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّن هَذَا } فيه وجهان :
أحدهما أنه الكافر ، كان في غفلة من عواقب كفره ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، كان في غفلة عن الرسالة مع قريش في جاهليتهم ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
ويحتمل ثالثاً : لقد كنت أيها الإنسان في غفلة عن أن كل نفس معها سائق وشهيد لأن هذا لا يعرف إلا بالنصوص الإلهية .
{ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه إذا كان في بطن أمه فولد ، قاله السدي .
الثاني : إذا كان في القبر فنشر ، وهذا معنى قول ابن عباس .
الثالث : أنه وقت العرض في القيامة ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه نزول الوحي وتحمل الرسالة ، وهذا معنى قول ابن زيد .
{ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } وفي المراد بالبصر هنا وجهان :
أحدهما : بصيرة القلب لأنه يبصر بها من شواهد الأفكار ، ونتائج الاعتبار ما تبصر العين ما قابلها من قبلها من الأشخاص والأجسام ، فعلى هذا في قوله : { حَدِيدٌ } تأويلان :
أحدهما : سريع كسرعة مور الحديد .
الثاني : صحيح كصحة قطع الحديد .
الوجه الثاني : أن المراد به بصر العين وهو الظاهر ، فعلى هذا في قوله : { حَدِيدٌ } تأويلان :
أحدهما : شديد ، قاله الضحاك .
الثاني : بصير ، قاله ابن عباس .
وماذا يدرك البصر؟ فيه خمسة أوجه :
أحدها : يعاين الآخرة ، قاله قتادة .
الثاني : لسان الميزان ، قاله الضحاك .
الثالث : ما يصير إليه من ثواب أو عقاب ، وهو معنى قول ابن عباس .
الرابع : ما أمر به من طاعة وحذره من معصية ، وهو معنى قول ابن زيد .
الخامس : العمل الذي كان يعمله في الدنيا ، قاله الحسن .

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)

قوله عز وجل : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أما قرينه ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الملك الشهيد عليه ، قاله الحسن وقتادة .
الثاني : أنه قرينه الذي قيض له من الشياطين ، قاله مجاهد .
الثالث : أنه قرينه من الإنس ، قاله ابن زيد في رواية ابن وهب عنه .
وفي قوله : { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } وجهان :
أحدهما : هذا الذي وكلت به أحضرته ، قاله مجاهد .
الثاني : هذا الذي كنت أحبه ويحبني قد حضر ، قاله ابن زيد .
قوله عز وجل : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارِ عَنِيدٍ } في ألقيا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المأمور بألقيا كل كافر في النار ملكان .
الثاني : يجوز أن يكون واحد ويؤمر بلفظ الاثنين كقول الشاعر :
فإن تزجراني يابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعاً
الثالث : أنه خارج مخرج تثنية القول على معنى قولك ألق ألق ، قف قف ، تأكيداً للأمر . والكفار [ بفتح الكاف ] أشد مبالغة من الكافر .
ويحتمل وجهين : أحدهما : أنه الكافر الذي كفر بالله ولم يطعه ، وكفر بنعمه ولم يشكره .
الثاني : أنه الذي كفر بنفسه وكفر غيره بإغوائه .
وأما العنيد ففيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه المعاند للحق ، قاله بعض المتأخرين .
الثاني : أنه المنحرف عن الطاعة ، قاله قتادة .
الثالث : أنه الجاحد المتمرد ، قاله الحسن .
الرابع : أنه المشاق ، قاله السدي .
الخامس : أنه المعجب بما عنده المقيم على العمل به ، قاله ابن بحر .
فأما العاند ففيه وجهان :
أحدهما : أنه الذي يعرف بالحق ثم يجحده .
الثاني : أنه الذي يدعى إلى الحق فيأباه .
قوله عز وجل : { مَنَّاعٍ لِّلْخير } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منع الزكاة المفروضة ، قاله قتادة .
الثاني : أن الخير المال كله ، ومنعه حبسه عن النفقه في طاعة الله ، قاله بعض المتأخرين .
الثالث : محمول على عموم الخير من قول وعمل .
{ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ } في المريب ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الشاك في الله ، قاله السدي .
الثاني : أنه الشاك في البعث ، قاله قتادة .
الثالث : أنه المتهم . قال الشاعر :
بثينة قالت يا جميل أربتنا ... فقلت كلانا يا بثين مريب
وأريبنا من لا يؤدي أمانة ... ولا يحفظ الأسرار حين يغيب
قال الضحاك : هذه الآية في الوليد بن المغيرة المخزومي حين استشاره بنو أخيه في الدخول في الإسلام فمنعهم .
قوله عز وجل : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } فيه وجهان :
أحدهما : أن اختصامهم هو اعتذار كل واحد منهم فيما قدم من معاصيه ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه تخاصم كل واحد مع قرينه الذي أغواه في الكفر ، قاله أبو العالية .
فأما اختصامهم في مظالم الدنيا ، فلا يجوز أن يضاع لأنه يوم التناصف .
أحدها : أن الوعيد الرسول ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنه القرآن ، قاله جعفر بن سليمان .
الثالث : أنه الأمر والنهي ، قاله ابن زيد .
ويحتمل رابعاً : أنه الوعد بالثواب والعقاب .
قوله عز وجل : { مَا يُبَدَّلُ الْقَولُ لَدَيَّ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : فيما أوجه من أمر ونهي ، وهذا معنى قول ابن زيد .
الثاني : فيما وعد به من طاعة ومعصية ، وهو محتمل .
الرابع : في أن بالحسنة عشر أمثالها وبخمس الصلوات خمسين صلاة ، قاله قتادة .
{ وَمَآ أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ } فيه وجهان :
أحدهما : ما أنا بمعذب من لم يجرم ، قاله ابن عباس .
الثاني : ما أزيد في عقاب مسيء ولا أنقص من ثواب محسن ، وهو محتمل .

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

قوله عز وجل : { يَوْمَ نُقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنَ مَّزِيدٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هل يزاد إلى من ألقي غيرهم؟ فالاستخبار عمن بقي ، قاله زيد بن أسلم .
الثاني : معناه إني قد امتلأت ، ممن ألقي في ، فهل أسع غيرهم؟ قاله مقاتل .
الثالث : معناه هل يزاد في سعتي؟ لإلقاء غير من ألقي في ، قاله معاذ .
وفي قوله : { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وجهان :
أحدهما : أن زبانية جهنم قالوا هذا .
الثاني : أن حالها كالمناطقة بهذا القول ، كما قال الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني
قوله عز وجل : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } في الأواب الحفيظ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه الذاكر ذنبه في الخلاء ، قاله الحكم .
الثاني : أنه الذي إذا ذكر ذنباً تاب واستغفر الله منه ، قاله ابن مسعود ومجاهد والشعبي .
الثالث : أنه الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله فيه ، قاله عبيد بن عمير .
وأما الحفيظ هنا ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه المطيع فيما أمر ، وهو معنى قول السدي .
الثاني : الحافظ لوصية الله بالقبول ، وهو معنى قول الضحاك .
الثالث : أنه الحافظ لحق الله بالاعتراف ولنعمه بالشكر ، وهو معنى قول مجاهد . وروى مكحول عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ كَانَ أَوَّاباً حَفِيظاً » .
قوله عز وجل : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الذي يحفظ نفسه من الذنوب في السر كما يحفظها في الجهر .
الثاني : أنه التائب في السر من ذنوبه إذا ذكرها ، كما فعلها سراً .
ويحتمل ثالثاً : أنه الذي يستتر بطاعته لئلا يداخلها في الظاهر رياء . ووجدت فيه لبعض المتكلمين .
رابعاً : أنه الذي أطاع الله بالأدلة ولم يره .
{ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه المنيب المخلص ، قاله السدي .
الثاني : أنه المقبل على الله ، قاله سفيان .
الثالث : أنه التائب ، قاله قتادة .
{ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ } يعني ما تشتهي أنفسهم وتلذ أعينهم .
{ وَلَدَينَا مَزِيدٍ } فيه وجهان :
أحدهما : أن المزيد من يزوج بهن من الحور العين ، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً .
الثاني : أنها الزيادة التي ضاعفها الله من ثوابه بالحسنة عشر أمثالها .
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل أخبره : أن يوم الجمعة يدعى في الآخرة يوم المزيد . وفيه وجهان :
أحدهما : لزيادة ثواب العمل فيه .
الثاني : لما روي أن الله تعالى يقضي فيه بين خلقه يوم القيامة .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)

قوله عز وجل : { فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ } فيه أربعة أوجه :
احدها : أثروا في البلاد ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنهم ملكوا في البلاد ، قاله الحسن .
الثالث : ساروا في البلاد وطافوا ، قاله قتادة ، ومنه قول امرىء القيس :
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
الرابع : أنهم اتخذوا فيها طرقاً ومسالك ، قاله ابن جريج .
ويحتمل خامساً : أنه اتخاذ الحصون والقلاع .
{ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : هل من منجٍ من الموت ، قاله ابن زيد .
الثاني : هل من مهرب ، قال معمر عن قتادة : حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله تعالى لهم مدركاً .
الثالث : هل من مانع؟ قال سعيد عن قتادة : حاص الفجرة ، فوجدوا أمر الله منيعاً .
قوله عز وجل : { إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } فيه وجهان :
أحدهما : لمن كان له عقل ، قاله مجاهد ، لأن القلب محل العقل .
الثاني : لمن كانت له حياة ونفس مميزة ، فعبر عن النفس الحية بالقلب لأنه وطنها ومعدن حياتها . كما قال امرؤ القيس :
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
{ أوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ألقى السمع فيما غاب عنه بالأخبار ، وهو شهيد فيما عاينه بالحضور .
الثاني : معناه سمع ما أنزل الله من الكتب وهو شهيد بصحته .
الثالث : سمع ما أنذر به من ثواب وعقاب ، وهو شهيد على نفسه بما عمل من طاعة أو معصية .
وفي الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها في جميع أهل الكتب ، قاله قتادة .
الثاني : أنها في اليهود والنصارى خاصة ، قاله الحسن .
الثالث : أنها في أهل القرآن خاصة ، قاله محمد بن كعب وأبو صالح .
قوله عز وجل : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } واللغوب التعب والنصب . قال الراجز :
إذا رقى الحادي المطي اللغبا ... وانتعل الظل فصار جوربا
قال قتادة والكلبي : نزلت هذه الآية في يهود المدينة ، زعموا أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، واستراح في يوم السبت ، ولذلك جعلوه يوم راحة ، فأكذبهم الله في ذلك .
قوله عز وجل : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أمر فيه بالصبر على ما يقوله المشركون ، إما من تكذيب أو وعيد .
{ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } الآية . وهذا وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فهو عام له ولأمته .
وفي هذا التسبيح وجهان :
أحدهما : أنه تسبيحه بالقول تنزيهاً قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ، قاله أبو الأحوص .
الثاني : أنها الصلاة ومعناه فصلِّ بأمر ربك قبل طلوع الشمس ، يعني صلاة الصبح ، وقبل الغروب ، يعني صلاة العصر ، قاله أبو صالح ورواه جرير بن عبد الله مرفوعاً .

قوله عز وجل : { وَمِنَ اللَّيلِ فَسَبِّحْهُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه تسبيح الله تعالى قولاً في الليل ، قاله أبو الأحوص .
الثاني : أنها صلاة الليل ، قاله مجاهد .
الثالث : أنها ركعتا الفجر ، قاله ابن عباس .
الرابع : أنها صلاة العشاء الآخرة ، قاله ابن زيد .
ثم قال { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه التسبيح في أدبار الصلوات ، قاله أبو الأحوص .
الثاني : أنها النوافل بعد المفروضات ، قاله ابن زيد .
الثالث : أنها ركعتان بعد المغرب ، قاله علي رضي الله عنه وأبو هريرة .
وروى ابن عباس قال : بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى ركعتين قبل الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة فقال : « يا ابن عباس رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ أَدْبَارَ النُّجُومِ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمِغْرِبِ أَدْبَارَ السُّجُودِ » .

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

قوله عز وجل : { وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنَادِ } هذه الصيحة التي ينادي بها المنادي من مكان قريب هي النفخة الثانية التي للبعث إلى أرض المحشر .
ويحتمل وجهاً آخر ، أنه نداؤه في المحشر للعرض والحساب .
وفي قوله : { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } وجهان :
أحدهما : أنه يسمعها كل قريب وبعيد ، قاله ابن جريج .
الثاني : أن الصيحة من مكان قريب . قال قتادة : كنا نحدث أنه ينادي من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الأرض : يا أيتها العظام البالية ، قومي لفصل القضاء وما أعد من الجزاء . وحدثنا ، أن كعباً قال : هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً .
قوله عز وجل : { يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني بقول الحق .
الثاني : بالبعث الذي هو حق .
{ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } فيه وجهان :
أحدهما : الخروج من القبور .
الثاني : أن الخروج من أسماء القيامة . قال العجاج :
وليس يوم سمي الخروجا ... أعظم يوم رجه رجوجا
قوله عز وجل : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : نحن أعلم بما يجيبونك من تصديق أو تكذيب .
الثاني : بما يسرونه من إيمان أو نفاق .
{ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني برب ، قاله الضحاك ، لأن الجبار هو الله تعالى سلطانه .
الثاني : متجبر عليهم متسلط ، قاله مجاهد . ولذلك قيل لكل متسلط جبار . قال الشاعر :
وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من صعره فتقوما
وهو من صفات المخلوقين ذم .
الثالث : أنك لا تجبرهم على الإسلام من قولهم قد جبرته على الأمر إذا قهرته على أمر ، قاله الكلبي .
{ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } الوعيد العذاب ، والوعد الثواب . قال الشاعر :
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
قال قتادة : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعدك . وروي أنه قيل : يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت { فَذَكِّرْ بِالْقُرءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

قوله تعالى : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } الذاريات : الرياح ، واحدتها ذارية لأنها تذرو التراب والتبن أي تفرقه في الهواء ، كما قال تعالى : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ } وفي قوله { ذَرْواً } وجهان :
أحدهما : مصدر .
الثاني : أنه بمعنى ما ذرت ، قاله الكلبي . فكأنما أقسم بالرياح وما ذرت الرياح .
ويحتمل قولاً ثالثاً : أن الذاريات النساء الولودات لأن في ترائبهن ذرو الخلق ، لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات ، وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين ، وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذارياً لأمرين .
أحدهما : لأنهن اوعية دون الرجال فلاجتماع الذروين خصصن بالذكر .
الثاني : أن الذرو فيهن أطول زماناً وهن بالمباشرة أقرب عهداً .
{ فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً } فيها قولان :
أحدهما : أنها السحب [ يحملن ] وِقْراً بالمطر .
الثاني أنها الرياح [ يحملن ] وِقْراً بالسحاب ، فتكون الريح الأولى مقدمة السحاب لأن أمام كل سحابة ريحاً ، والريح الثانية حاملة السحاب . لأن السحاب لا يستقل ولا يسير إلا بريح . وتكون الريح الثانية تابعة للريح الأولى من غير توسط ، قاله ابن بحر .
ويجري فيه احتمال قول :
ثالث : أنهن الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل ، والوقر ثقل الحمل على ظهر أو في بطن ، وبالفتح ثقل الأذن .
{ فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً } فيها قولان :
أحدهما : السفن تجري بالريح يسراً إلى حيث سيرت .
الثاني : أنه السحاب ، وفي جريها يسراً على هذا القول وجهان :
أحدهما : إلى حيث يسيرها الله تعالى من البقاع والبلاد .
الثاني : هو سهولة تسييرها ، وذلك معروف عند العرب كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مشي السحابة ولا ريث لا عجل
{ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } فيه قولان :
أحدهما : أنه السحاب يقسم الله به الحظوظ بين الناس .
الثاني : الملائكة التي تقسم أمر الله في خلقه ، قاله الكلبي . وهم : جبريل وهو صاحب الوحي والغلظة ، وميكائيل وهو صاحب الرزق والرحمة ، وإسرافيل وهو صاحب الصور واللوح ، وعزرائيل وهو ملك الموت وقابض الأرواح ، عليهم السلام .
والواو التي فيها واو القسم ، أقسم الله بها لما فيها من الآيات والمنافع .
{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } فيه وجهان :
أحدهما : إن يوم القيامة لكائن ، قاله مجاهد .
الثاني : ما توعدون من الجزاء بالثواب والعقاب حق ، وهذا جواب القسم . { وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ } فيه وجهان : أحدهما : إن الحساب لواجب ، قاله مجاهد . الثاني : [ أن ] الدين الجزاء ومعناه أن جزاء أعمالكم بالثواب والعقاب لكائن ، وهو معنى قول قتادة ، ومنه قول لبيد .
قوم يدينون بالنوعين مثلهما ... بالسوء سوء وبالإحسان إحسانا
{ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } في السماء ها هنا وجهان :
أحدهما : أنها السحاب الذي يظل الأرض .
الثاني : وهو المشهور أنها السماء المرفوعة ، قال عبد الله بن عمر : هي السماء السابعة .
وفي { الْحُبُكِ } سبعة أقاويل :
أحدها : أن الحبك الاستواء ، وهو مروي عن ابن عباس على اختلاف .

الثاني : أنها الشدة ، وهو قول أبي صالح .
الثالث : الصفاقة ، قاله خصيف .
الرابع : أنها الطرق ، مأخوذ من حبك الحمام طرائق على جناحه ، قاله الأخفش ، وأبو عبيدة .
الخامس : أنه الحسن والزينة ، قاله علي وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير ومنه قول الراجز :
كأنما جللها الحواك ... كنقشة في وشيها حباك
السادس : أنه مثل حبك الماء إذا ضربته الريح ، قاله الضحاك . قال زهير :
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الشمال لضاحي مائة حبك
السابع : لأنها حبكت بالنجوم ، قاله الحسن . وهذا قسم ثان .
{ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني في أمر مختلف ، فمطيع وعاص ، ومؤمن وكافر ، قاله السدي .
الثاني : أنه القرآن فمصدق له ومكذب به ، قاله قتادة .
الثالث : انهم أهل الشرك مختلف عليهم بالباطل ، قاله ابن جريج .
ويحتمل رابعاً : أنهم عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره . وهذا جواب القسم الثاني .
{ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : يضل عنه من ضل ، قاله ابن عباس .
الثاني : يصرف عنه من صرف ، قاله الحسن .
الثالث : يؤفن عنه من أفن ، قاله مجاهد ، والأفن فساد العقل .
الرابع : يخدع عنه من خدع ، قاله قطرب .
الخامس : يكذب فيه من كذب ، قاله مقاتل .
السادس : يدفع عنه من دفع ، قاله اليزيدي .
{ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : لعن المرتابون ، قاله ابن عباس .
الثاني : لعن الكذابون ، قاله الحسن .
الثالث : أنهم أهل الظنون والفرية ، قاله قتادة .
الرابع : أنهم المنهمكون ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
وقوله : { قُتِلَ } ها هنا ، بمعنى لعن ، والقتل اللعن . وأما الخراصون فهو جمع خارص . وفي الخرص ها هنا وجهان :
أحدهما : أنه تعمد الكذب ، قاله الأصم .
الثاني : ظن الكذب ، لأن الخرص حزر وظن ، ومنه أخذ خرص الثمار .
وفيما يخرصونه وجهان :
أحدهما : تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثاني : التكذيب بالبعث . وفي معنى الأربع تأويلات وقد تقدم ذكرها في أولها { الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في غفلة لاهون ، قاله ابن عباس .
الثاني : في ضلالاتهم متمادون ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
الثالث : في عمى وشبهة يترددون ، قاله قتادة .
ويحتمل رابعاً : الذين هم في مأثم المعاصي ساهون عن أداء الفرائض .
{ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ } أي متى يوم الجزاء . وقيل : إن أيان كلمة مركبة من أي وآن .
{ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } في { يُفْتَنُونَ } ثلاثة أوجه :
أحدها : أي يعذبون ، قاله ابن عباس ، ومنه قول الشاعر :
كل امرىء من عباد الله مضطهد ... ببطن مكة مقهور مفتون
الثاني : يطبخون ويحرقون ، كما يفتن الذهب بالنار ، وهو معنى قول عكرمة والضحاك .
الثالث : يكذبون توبيخاً وتقريعاً زيادة في عذابهم .
{ ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } الآية . فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : معنى فتنتكم أي عذابكم ، قاله ابن زيد .
الثاني : حريقكم ، قاله مجاهد .
الثالث : تكذبيكم ، قاله ابن عباس .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

{ ءَآخِذِينَ مَآ َاتَاهُمْ رَبُّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : من الفرائض ، قاله ابن عباس .
الثاني : من الثواب ، قاله الضحاك .
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذلِكَ مُحسِنِينَ } أي قبل الفرائض محسنين بالإجابة ، قاله ابن عباس .
الثاني : قبل يوم القيامة محسنين بالفرائض ، قاله الضحاك .
{ كَانُواْ قَلْيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : راجع على ما تقدم من قوله { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً } بمعنى أن المحسنين كانوا قليلاً ، ثم استأنف : من الليل ما يهجعون ، قاله الضحاك .
الثاني : أنه خطاب مستأنف بعد تمام ما تقدمه ، ابتداؤه كانوا قليلاً ، الآية . والهجوع : النوم ، قال الشاعر :
أزالكم الوسمي أحدث روضه ... بليل وأحداق الأنام هجوع
وفي تأويل ذلك أربعة أوجه :
أحدها { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون } أي يستيقظون فيه فيصلون ولا ينامون إلا قليلاً ، قاله الحسن .
الثاني : أن منهم قليلاً ما يهجعون للصلاة في الليل وإن كان أكثرهم هجوعاً ، قاله الضحاك .
الثالث : أنهم كانوا في قليل من الليل ما يهجعون حتى يصلوا صلاة المغرب وعشاء الآخرة ، قاله أبو مالك .
الرابع : أنهم كانوا قليلاً يهجعون ، وما : صلة زائدة ، وهذا لما كان قيام الليل فرضاً . وكان أبو ذر يحتجن يأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة { قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } .
{ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : وبالأسحار هم يصلون ، قاله الضحاك .
الثاني : أنهم كانوا يؤخرون الاستغفار من ذنوبهم إلى السحر ليستغفروا فيه ، قاله الحسن .
قال ابن زيد : وهو الوقت الذي أخر يعقوب الاستغفار لبنيه حتى استغفر لهم فيه حين قال لهم { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [ يوسف : 98 ] . قال ابن زيد : والسحر السدس الأخير من الليل . وقيل إنما سمي سحراً لاشتباهه بين النور والظلمة .
{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } فيه وجهان :
أحدهما : أنها الزكاة ، قاله ابن سيرين وقتادة وابن أبي مريم .
الثاني : أنه حق سوى الزكاة تصل له رحماً أو تقري به ضيفاً أو تحمل به كلاًّ أو تغني به محروماً ، قاله ابن عباس .
{ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } أما السائل فهو مَن يسأل الناس لفاقته ، وأما المحروم ، ففيه ثمانية أقوال :
أحدها : المتعفف الذي يسأل الناس شيئاً ولا يعلم بحاجته ، قاله قتادة .
الثاني : أنه الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم ، قاله الحسن ومحمد بن الحنفية . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابوا وغنموا ، فجاء قوم بعدما فرغوا فنزلت الآية .
الثالث : أنه من ليس له سهم في الإسلام ، قاله ابن عباس .
الرابع : المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه ، وهذا قول عائشة .
الخامس : أنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
السادس : أنه المصاب بثمره وزرعه يعينه من لم يصب ، قاله ابن زيد :
السابع : أنه المملوك ، قاله عبد الرحمن بن حميد .

الثامن : أنه الكلب ، روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة فجاء كلب فاحتز عمر كتف شاة فرمى بها إليه وقال : يقولون إنه المحروم .
ويحتمل تاسعاً : أنه من وجبت نفقته من ذوي الأنساب لأنه قد حرم كسب نفسه ، حتى وجبت نفقته في مال غيره .
{ وَفِي الأَرْضِ ءَآيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } يعني عظات للمعتبرين من أهل اليقين وفيها وجهان :
أحدهما : ما فيها من الجبال والبحار والأنهار ، قاله مقاتل .
الثاني : من أهلك من الأمم السالفة وأباد من القرون الخالية ، قاله الكلبي .
{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أنه سبيل الغائط والبول ، قاله ابن الزبير ومجاهد .
الثاني : تسوية مفاصل أيديكم وأرجلكم وجوارحكم دليل على أنكم خلقتم لعبادته ، قاله قتادة .
الثالث : في خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ، قاله ابن زيد .
الرابع : في حياتكم وموتكم وفيما يدخل ويخرج من طعامكم ، قاله السدي .
الخامس : في الكبر بعد الشباب ، والضعف بعد القوة ، والشيب بعد السواد ، قاله الحسن .
ويحتمل سادساً : أنه نجح العاجز وحرمان الحازم .
{ وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } : { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق فهو رزق لهم من السماء ، قاله سعيد بن جبير والضحاك .
الثاني : يعني أن من عند الله الذي في السماء رزقكم .
ويحتمل وجهاً ثالثاً : وفي السماء تقدير رزقكم وما قسمه لكم مكتوب في أم الكتاب .
وأما قوله { وَمَا تُوعَدُونَ } ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من خير وشر ، قاله مجاهد .
الثاني : من جنة ونار ، قاله الضحاك .
الثالث : من أمر الساعة ، قاله الربيع .
{ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : ما جاء به الرسول من دين وبلغه من رسالة .
الثاني : ما عد الله عليهم في هذه السورة من آياته وذكره من عظاته . قال الحسن : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قَاتَلَ اللَّهُ أَقْوَاماً أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [ بِنَفْسِهِ ] ثُمَّ لَمْ يُصَدِّقُوهُ » .
وقد كان قس بن ساعدة في جاهليته ينبه بعقله على هذه العبر فاتعظ واعتبر ، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رَأَيتُهُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ بِعُكَاظَ وَهُوَ يَقُولُ : أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُواْ وَعُوا ، مِنْ عَاشَ مَاتَ ، وَمَن مَّاتَ فَاتَ ، وَكُلُّ مَا هُوَا ءَآتٍ ءآتٍ ، مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلاَ يَرْجِعُونَ؟ أَرَضُواْ بِالإِقَامَةِ فَأَقَامُواْ؟ أَمْ تُرِكُوا فَنَاموا؟ إِنَّ فِي السَّمَآءِ لَخَبَراً ، وَإِنَّ فِي الأَرْضِ لَعِبَراً ، سَقْفٌ مَرْفُوعٌ ، وَلَيلٌ مَوضُوعٌ ، وَبِحَارٌ تَثُورٌ ، وَنُجُومٌ تَحُورُ ثُمَّ تَغُورُ ، أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً مَا ءَاثَمُ فِيهِ ، إِنَّ للهِ دِيناً هُوَ أَرْضَى مِن دِينٍ أَنتُم عَلَيهِ . ثُمَّ تَكَلَّمَ بِأَبْيَاتِ شِعْرٍ مَأ أَدْرِي مَا هِيَ »

فقال أبو بكر : كنت حاضراً إذ ذاك والأبيات عندي وأنشد :
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... يمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجع الماضي إليَّ ... ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لامحا ... له حيث صار القوم صائر
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ » . ونحن نسأل الله تعالى مع زاجر العقل ورادع السمع أن يصرف نوازع الهوى ومواقع البلوى . فلا عذر مع الإنذار ، ولا دالة مع الاعتبار ، وأن تفقهن الرشد تدرك فوزاً منه وتكرمة .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)

{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ } قال عثمان بن محسن : كانوا أربعة من الملائكة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفائيل .
وفي قوله { الْمُكْرَمِينَ } وجهان :
أحدهما : أنهم عند الله المعظمون .
الثاني : مكرمون لإكرام إبراهيم لهم حين خدمهم بنفسه ، قاله مجاهد .
قال عطاء : وكان إبراهيم إذا أراد أن يتغذى ، أو يتعشى خرج الميل والميلين والثلاثة ، فيطلب من يأكل معه .
قال عكرمة : وكان إبراهيم يكنى أبا الضيفان ، وكان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد .
وسمي الضيف ضيفاً ، لإضافته إليك وإنزاله عليك .
{ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيهِ فَقَالُواْ سَلاَماً } فيه وجهان :
أحدهما : قاله الأخفش ، أي مسالمين غير محاربين لتسكن نفسه .
الثاني : أنه دعا لهم بالسلامة ، وهو قول الجمهور ، لأن التحية بالسلام تقتضي السكون والأمان ، قال الشاعر :
أظلوم إن مصابكم رجلاً ... أهدى السلام تحية ظلم
فأجابهم إبراهيم عن سلامتهم بمثله :
{ قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مَنكَرُونَ } لأنه رآهم على غير صورة البشر وعلى غير صورة الملائكة الذين كان يعرفهم ، فنكرهم وقال { قَوْمٌ مَنكَرُونَ } وفيه وجهان :
أحدهما : أي قوم لا يعرفون .
الثاني : أي قوم يخافون ، يقال أنكرته إذا خفته ، قال الشاعر :
فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
{ فَرَاغَ إِلى أَهْلِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : فعدل إلى أهله ، قاله الزجاج .
الثاني : أنه أخفى ميله إلى أهله .
{ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أما العجل ففي تسميته بذلك وجهان :
أحدهما : لأن بني إسرائيل عجلوا بعبادته .
الثاني : لأنه عجل في اتباع أمه .
قال قتادة : جاءهم بعجل لأن كان عامة مال إبراهيم البقر ، واختاره لهم سميناً زيادة في إكرامهم ، وجاء به مشوياً ، وهو محذوف من الكلام لما فيه من الدليل عليه .
فروى عون ابن أبي شداد أن جبريل مسح العجل بجناحه فقام يدرج ، حتى لحق بأمه ، وأم العجل في الدار .
{ فَقَرَّبَهُ إِلَيهِم قَالَ أَلاَ تَأَْكُلُونَ } لأنهم امتنعوا من الأكل لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ، فروى مكحول أنهم قالوا لا نأكله إلا بثمن ، قال كلوا فإن له ثمناً ، قالوا وما ثمنه؟ قال : إذا وضعتم أيديكم أن تقولوا : بسم الله ، وإذا فرغتم أن تقولوا : الحمد لله ، قالوا : بهذا اختارك الله يا إبراهيم .
{ فَأوْجَسَ مِنهُمْ خِيفَةً } لأنهم لم يأكلوا ، خاف أن يكون مجيئهم إليه لشر يريدونه به .
{ قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنه إسحاق من سارة ، استشهاداً بقوله تعالى في آية أخرى { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } [ الصافات : 112 ] .
الثاني : أنه إسماعيل من هاجر ، قاله مجاهد .
{ عَلِيمٍ } أي يرزقه الله علماً إذا كبر .
{ فَأَقْبَلَتِ امْرَأتُهُ فِي صَرَّةٍ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : الرنة والتأوه ، قاله قتادة ، ومنه قول الشاعر :
وشربة من شراب غير ذي نفس ... في صرة من تخوم الصيف وهاج
الثاني : أنها الصيحة ، قاله ابن عباس ومجاهد ، ومنه أخذ صرير الباب ، ومنه قول امرىء القيس :
فألحقه بالهاديات ودونه ... جواحرها في صرة لم تزيل
الثالث : أنها الجماعة ، قاله ابن بحر ، ومنه المصراة من الغنم لجمع اللبن في ضرعها . وسميت صرة الدراهم فيها ، قال الشاعر :
رب غلام قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان سنبته
وأما قوله { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } ففيه قولان :
أحدهما : معناه لطخت وجهها ، قاله ابن عباس .
الثاني : أنها ضربت جبينها تعجباً .
{ وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي ، أتلد عجوز عقيم؟ قاله مجاهد والسدي .

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)

{ فَتَوَلَّى } يعني فرعون ، وفي توليه وجهان :
أحدهما : أدبر .
الثاني : أقبل ، وهو من الأضداد .
{ بِرُكْنِهِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : بجموعه وأجناده ، قاله ابن زيد .
الثاني : بقوته ، قاله ابن عباس ، ومنه قول عنترة :
فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني .
الثالث : بجانبه ، قاله الأخفش .
الرابع : بميله عن الحق وعناده بالكفر ، قاله مقاتل .
ويحتمل خامساً بماله لأنه يركن إليه ويتقوى به .
{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن العقيم هي الريح التي لا تلقح ، قاله ابن عباس .
الثاني : هي التي لا تنبث ، قاله قتادة .
الثالث : هي التي ليس فيها رحمة ، قاله مجاهد .
الرابع : هي التي ليس فيها منفعة ، قاله ابن عباس .
وفي الريح التي هي عقيم ثلاثة أقاويل :
أحدها : الجنوب ، روى ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الريح العقيم الجنوب » .
الثاني الدبور ، قاله مقاتل . قال عليه السلام : « نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور »
الثالث : هي ريح الصبا ، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد .
{ إِلاَّ جَعَلْتْهُ كَالرَّمِيمِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الرميم التراب ، قاله السدي .
الثاني : أنه الذي ديس من يابس النبات ، وهذا معنى قول قتادة .
الثالث أن الرميم : الرماد ، قاله قطرب .
الرابع : أنه الشيء البالي الهالك ، قاله مجاهد ، ومنه قول الشاعر :
تركتني حين كف الدهر من بصري ... وإذ بقيت كعظم الرمة البالي

وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

{ وَالسَّمَآءِ بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ } أي بقوة .
{ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : لموسعون في الرزق بالمطر ، قاله الحسن .
الثاني : لموسعون السماء ، قاله ابن زيد .
الثالث : لقادرون على الاتساع بأكثر من اتساع السماء .
الرابع : لموسعون بخلق سماء ملثها ، قاله مجاهد .
الخامس : لذوو سعة لا يضيق علينا شيء نريده .
{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه خلق كل جنس نوعين .
الثاني : أنه قضى أمر خلقه ضدين صحة وسقم ، وغنى وفقر ، وموت وحياة ، وفرح وحزن ، وضحك وبكاء . وإنما جعل بينكم ما خلق وقضى زوجين ليكون بالوحدانية متفرداً .
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تعلمون بأنه واحد .
الثاني : تعلمون أنه خالق .
{ فَفِرُّوْا إِلّى اللَّهِ } أي فتوبوا إلى الله .

كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : فذكر بالقرآن ، قاله قتادة .
الثاني : فذكر بالعظة فإن الوعظ ينفع المؤمنين ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : وذكر بالثواب والعقاب فإن الرغبة والرهبة تنفع المؤمنين .
{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِ وَالإِنسَ إلاَّ لَيَعْبُدُونِ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : إلا ليقروا بالعبودية طوعاً أو كرهاً ، قاله ابن عباس .
الثاني : إلا لآمرهم وأنهاهم ، قاله مجاهد .
الثالث : إلا لأجبلهم على الشقاء والسعادة ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : إلا ليعرفوني ، قاله الضحاك .
الخامس : إلا للعبادة ، وهو الظاهر ، وبه قال الربيع بن انس .
{ مَآ أُرِيدُ مِنْهُمْ مَّنْ رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم .
الثاني : ما أنفسهم ، قاله أبو الجوزاء .
الثالث : ما أريد منهم معونة ولا فضلاً .
{ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عذاباً مثل عذاب أصحابهم ، قاله عطاء .
الثاني : يعني سبيلاً ، قاله مجاهد .
الثالث : يعني بالذنوب الدلو ، قاله ابن عباس ، قال الشاعر :
لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب
ولا يسمى الذنوب دلواً حتى يكون فيه ماء .
الرابع : يعني بالذنوب النصيب ، قال الشاعر :
وفي كل يوم قد خبطت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب
ويعني بأصحابهم من كذب بالرسل من الأمم السالفة ليعتبروا بهلاكهم .
{ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } أي فلا يستعجلوا نزول العذاب بهم لأنهم قالوا : { يا مُحَمَّدُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } الآية ، فنزل بهم يوم بدر ، ما حقق الله وعده ، وعجل به انتقامه .

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

قوله تعالى { وَالطُّورِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه اسم للجبل بالسريانية ، قاله مجاهد . قال مقاتل : يسمى هذا الطور زبير .
الثاني : أن الطور ما أنبت ، وما لا ينبت فليس بطور ، قاله ابن عباس ، وقال الشاعر :
لو مر بالطور بعض ناعقة ... ما أنبت الطور فوقه ورقة
ثم في هذا الطور الذي أقسم الله به ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه طور سيناء ، قاله السدي .
الثاني : أنه الطور الذي كلم الله عليه موسى ، قاله ابن قتيبة .
الثالث : أنه جبل مبهم ، قاله الكلبي . وأقسم الله به تذكيراً بما فيه من الدلائل .
وقال بعض المتعمقة : إن الطور ما يطوى على قلوب الخائفين .
{ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } أي مكتوب ، وفي أربعة أقاويل :
أحدها : أنه الكتاب الذي كتب الله لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون .
الثاني : أنه القرآن مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ .
الثالث : هي صحائف الأعمال فمن أخذ كتابه بيمينه ، ومن آخذ كتابه بشماله ، قاله الفراء .
الرابع : التوراة قاله ابن بحر .
{ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الصحيفة المبسوطة وهي التي تخرج للناس أعمالهم ، وكل صحيفة فهي رق لرقة حواشيها ، قال المتلمس :
فكأنما هي من تقادم عهدها ... رق أتيح كتابها مسطور
الثاني : هو ورق مكتوب ، قاله أبو عبيدة .
الثالث : هو ما بين المشرق والمغرب ، قاله ابن عباس .
{ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : ما روى قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أُتِيَ بِيَ إِلَى السَّمَاءِ فَرُفِعَ لَنَا الْبَيتُ المَعْمُورُ ، فَإِذَا هُوَ حِيالُ الكَعْبَةِ ، لَوْ خَرَّ خَرَّ عَلَيهَا ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَومٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، إِذَا خَرَجُوا مِنهُ لَمْ يَعُودُوا إِلَيهِ » قاله علي وابن عباس .
الثاني : ما قاله السدي : أن البيت المعمور ، هو بيت فوق ست سموات ، ودون السابعة ، يدعى الضراح ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك من قبيلة إبليس لا يرجعون إليه أبداً ، وهو بحذاء البيت العتيق .
الثالث : ما قاله الربيع بن أنس ، أن البيت المعمور كان في الأرض في موضع الكعبة في زمان آدم ، حتى إذا كان زمان نوح أمرهم أن يحجوا ، فأبوا عليه وعصوه ، فما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا ، فيعمره ، فبوأ الله لإبراهيم الكعبة البيت الحرام حيث كان ، قاله الله تعالى : { وَإِِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيْمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } الآية .
الرابع : ما قاله الحسن أن البيت المعمور هو البيت الحرام .
وفي { الْمَعْمُورِ } وجهان :
أحدهما : أنه معمور بالقصد إليه .
الثاني : بالمقام عليه ، قال الشاعر :
عمر البيت عامر ... إذ أتته جآذر
من ظباء روائح ... وظباء تباكر
وتأول سهل أنه القلب ، عمارته إخلاصه ، وهو بعيد .

{ وَالسَّقْفِ المَرْفُوعِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه السماء ، قاله علي .
الثاني : أنه العرش ، قاله الربيع .
{ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه جهنم ، رواه صفوان بن يعلى عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : هو بحر تحت العرش ، رواه أبو صالح عن علي رضي الله عنه .
الثالث : هو بحر الأرض ، وهو الظاهر .
وفي قوله : { الْمَسْجُورِ } سبعة تأويلات :
أحدها : المحبوس ، قاله ابن عباس والسدي .
الثاني : أنه المرسل ، قاله سعيد بن جبير .
الثالث : الموقد ناراً ، قاله مجاهد .
الرابع : أنه الممتلىء ، قاله قتادة .
الخامس : أنه المختلط ، قاله ابن بحر .
السادس : أنه الذي قد ذهب ماؤه ويبس ، رواه ابن أبي وحشية عن سعيد بن جبير .
السابع : هو الذي لا يشرب من مائه ولا يسقى به زرع ، قاله العلاء بن زيد .
هذا آخر القسم ، وجوابه : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لوَاقِعٌ } روى الكلبي : أن جبير بن مطعم قدم المدينة ليفدي حريفاً له يقال له مالك أسر يوم بدر ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة [ المغرب ] يقرأ { وَالطُّورِ } فجلس مستمعاً ، حتى بلغ قوله تعالى : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } فأسلم جبير خوفاً من العذاب ، وجعل يقول : ما كنت أظن أن أقوم من مقامي ، حتى يقع بي العذاب .
{ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً } فيه سبعة تأويلات :
أحدها : معناه تدور دوراً ، قاله مجاهد ، قال طرفة بن العبد :
صهابية العثنون موجدة القرا ... بعيدة وخد الرجل موارة اليد .
الثاني : تموج موجاً ، قاله الضحاك .
الثالث : تشقق السماء ، قاله ابن عباس لقوله تعالى { فَإِذَا بُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً } الآية .
الرابع : تجري السماء جرياً ، ومنه قول جرير :
وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
الخامس : تتكفأ بأهلها ، قاله أبو عبيدة وأنشد بيت الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل
السادس : تنقلب انقلاباً .
السابع : أن السماء ها هنا الفلك ، وموره اضطراب نظمه واختلاف سيره ، قاله ابن بحر .
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً } فيه تأويلان :
أحدهما : يدفعون دفعاً عنيفاً ومنه قول الراجز :
يدعه بصفحتي حيزومه ... دع الوصي جانبي يتيمه
قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وابن زيد .
الثاني : يزعجون إزعاجاً ، قاله قتادة .
ويحتمل ثالثاً : أن يدعهم زبانيتها بالدعاء عليهم .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

{ فَاكِهِينَ بِمَآ ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ } فيه خمسة أوجه :
أحدها : معجبين ، قاله ابن عباس .
الثاني : ناعمين ، قاله قتادة .
الثالث : فرحين ، قاله السدي .
الرابع : المتقابلين بالحديث الذي يسر ويؤنس ، مأخوذ من الفكاهة ، قاله ابن بحر .
الخامس : ذوي فاكهة كما قيل : لابن وتامر ، أي ذو لبن وتمر ، قاله عبيدة ، ومعنى ذلك ، أنهم ذوو بساتين فيها فواكه .
{ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } والسرر الوسائد ، وفي المصفوفة ثلاثة أوجه :
أحدها : المصفوفة بين العرش ، قاله عكرمة .
الثاني : هي الموصولة بالذهب .
الثالث : أنها الموصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفاً ، قاله ابن بحر .
{ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ } والعين الواسعة الأعين في صفائها ، وهو جمع عيناء ، ومنه قول الشاعر :
فحُور قد لهون وهن عين ... نواعم في المروط وفي الرياط
وفي تسميتهن حوراً وجهان :
أحدهما : لأنه يحار فيهن الطرف ، قاله مجاهد .
الثاني : لبياضهن ، قاله الضحاك ، ومنه قيل للخبز حوار لبياضه .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

{ وَالَّذِينَ ءَآمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أن الله يدخل الذرية بإيمان الأباء الجنة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن الله تعالى يعطي الذرية مثل أجور الآباء من غير أن ينقص الآباء من أجورهم شيئاً ، قاله إبراهيم .
الثالث : أنهم البالغون عملوا بطاعة الله مع آبائهم فألحقهم الله بآبائهم ، قاله قتادة .
الرابع : أنه لما أدرك أبناؤهم الأعمال التي عملوها تبعوهم عليها فصاروا مثلهم فيها ، قاله ابن زيد .
{ وَمآ أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِمِ مِّن شَيْءٍ } فيه تأويلان :
أحدهما : ما نقصناهم ، قاله ابن عباس ، قال رؤبة :
وليلة ذات سرى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
أي لم ينقصني ، ومعنى الكلام : ولم ينقص الآباء بما أعطينا الأبناء .
الثاني : معناه وما ظلمناهم ، قاله ابن جبير ، قال الحطيئة :
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتاً ولا كذباً
أي لا ظلماً ، ولا كذباً . ومعنى الكلام : لم نظلم الآباء بما أعطينا الأبناء ، وإنما فعل تعالى ذلك بالأبناء كرمة للآباء .
{ كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } فيه وجهان :
أحدهما : مؤاخذة كما تؤخذ الحقوق من الرهون .
الثاني : أنه يحبس ، ومنه الرهن لاحتباسه بالحق قال الشاعر :
وما كنت أخشى أن يكون رهينة ... لأحمر قبطي من القوم معتق
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي ، يتعاطون ويتساقون بأن يناول بضعهم بعضاً ، وهو المؤمن وزوجاته وخدمه في الجنة . والكأس إناء مملوء من شراب وغيره فهو كأس ، فإذا فرغ لم يسم كاساً ، وشاهد التنازع والكأس في اللغة قول الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحضور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح السمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعه الساري .
{ لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } فيها أربعة أوجه :
أحدها : لا باطل في الخمر ولا مأثم ، قاله ابن عباس وقتادة ، وإنما ذلك في الدنيا من الشيطان .
الثاني : لا كذب فيها ولا خلف ، قاله الضحاك .
الثالث : لا يتسابون عليها ولا يؤثم بعضهم بعضاً ، قاله مجاهد .
الرابع : لا لغو في الجنة ولا كذب ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً . واللغو ها هنا فحش الكلام كما قال ذو الرمة :
فلا الفحش فيه يرهبون ولا الخنا ... عليهم ولكن هيبة هي ما هيا
بمستحكم جزل المروءة مؤمن ... من القوم لا يهوى الكلام اللواغيا
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهُمْ غِلُمَانٌ لَّهُمْ } ذكر ابن بحر فيه وجهين :
أحدهما : ان يكون الأطفال من أولادهم الذين سبقوهم ، فأقَرَّ الله بهم أعينهم .
الثاني : أنهم من أخدمهم الله إياهم من أولاد غيرهم .
{ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } أي مصون بالكن والغطاء ، ومنه قول الشاعر :
قد كنت أعطيهم مالاً وأمنعهم ... عرضي ، وودهم في الصدر مكنون
قال قتادة : بلغني أنه قيل يا رسول الله هذا الخدم مثل اللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم؟ قال :

« والذي نفسي بيده لفضل ما بينهم ، كفضل القمر ليلة البدر على النجوم » .
{ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : بالجنة والنعيم . الثاني : بالتوفيق والهداية . { وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عذاب النار ، قاله ابن زيد . وقال الأصم : السموم اسم من أسماء جهنم .
الثاني : أنه وهج جهنم ، وهو معنى قول ابن جريج .
الثالث : لفح الشمس والحر ، وقد يستعمل في لفح البرد ، كما قال الراجز :
اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا نلومه
{ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن البر الصادق ، قاله ابن جريج .
الثاني : اللطيف ، قاله ابن عباس .
الثالث : أنه فاعل البر المعروف به ، قاله ابن بحر .

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)

{ فَذَكِّرْ } يعني بالقرآن .
{ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ } يعني برسالة ربك .
{ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } تكذيباً لعتبة بن ربيعة حيث قال إنه ساحر ، وتكذيباً لعقبة بن معيط ، حيث قال : إنه مجنون .
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } قال قتادة : قال ناس من الكفار : تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه ، كما كفاكم شاعر بني فلان ، وشاعر بني فلان ، قال الضحاك : هؤلاء بنو عبد الدار ، نسبوه إلا أنه شاعر .
وفي { ريب المنون } وجهان :
أحدهما : الموت ، قاله ابن عباس .
الثاني : حوادث الدهر ، قاله مجاهد . المنون : الدهر ، قال أبو ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع

أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : مفاتيح الرحمة .
الثاني : خزائن الرزق .
{ أَمْ هُمْ الْمُصَيْطِرُونَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : المسلطون ، قاله ابن عباس والضحاك .
الثاني : أنهم الأرباب ، قاله الحسن وأبو عبيد .
الثالث : معناه : أم هم المتولون ، وهذا قد روي عن ابن عباس أيضاً .
الرابع : أنهم الحفظة ، مأخوذ من تسطير الكتاب ، الذي يحفظ ما كتب فيه فصار المسيطر هنا حافظاً ما كتبه الله في اللوح المحفوظ ، قاله ابن بحر .
{ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن السلم المرتقى إلى السماء ، ومنه قول ابن مقبل :
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ... يبنى له في السموات السلاليم
الثاني : أنه السبب الذي يتوصل به إلى عوالي الأشياء ، قال الشاعر :
تجنيت لي ذنباً وما إن جنيته ... لتتخذي عذراً إلى الهجر سلماً
وقوله { يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يستمعون من السماء ما يقضيه الله على خلقه .
الثاني : يستمعون منها ما ينزل الله على رسله من وحيه .
{ فلْيَأْتِ مْسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } فيه وجهان :
أحدهما : فليأت صاحبهم بحجة ظاهرة تدل على صدقه .
الثاني : فليأت بقوة تتسلط على الأسماع وتدل على قدرته .

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

{ وَإِن يَرَواْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني قطعاً من السماء ، قاله قتادة .
الثاني : جانباً من السماء .
الثالث : عذاباً من السماء ، قاله المفضل . وسمي كسفاً لتغطيته ، والكسف :
التغطية ، ومنه أخذ كسوف الشمس والقمر .
{ يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } في مركوم وجهان :
أحدهما : أنه الغليظ ، قاله ابن بحر .
الثاني : أنه الكثير المتراكب ، قاله الضحاك . ومعنى الآية : أنهم لو رأو سقوط كسف من السماء عليهم عقاباً لهم لم يؤمنوا ولقالوا إنه سحاب مركوم بعضه على بعضه .
{ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يوم يموتون ، قاله قتادة .
الثاني : النفخة الأولى ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : يوم القيامة يغشى عليهم من هول ما يشاهدونه ، ومنه قوله تعالى :
{ وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقاً } أي مغشياً عليه .
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ صَعِقاً } أي مغشياً عليه .
{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : عذاب القبر ، قاله علي .
الثاني : الجوع ، قاله مجاهد .
الثالث : مصابهم في الدنيا ، قاله الحسن .
وفي المراد بالذين ظلموا ها هنا قولان :
أحدهما : أنهم أهل الصغائر من المسلمين .
الثاني : أنهم مرتكبو الحدود منهم .
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : لقضائه فيما حملك من رسالته .
الثاني : لبلائه فيما ابتلاك به من قومك .
{ فَإِنَّكَ بأَعْيُنِنَا } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بعلمنا ، قاله السدي .
الثاني : بمرأى منا ، حكاه ابن عيسى .
الثالث : بحفظنا وحراستنا ، ومنه قوله تعالى لموسى : { وَلتُصنَعَ عَلَى عَيْنِي } [ طه : 39 ] بحفظي وحراستي ، قاله الضحاك .
{ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن يسبح الله إذا قام من مجلسه ، قاله أبو الأحوص ، ليكون تكفيراً لما أجرى في يومه .
الثاني : حين تقوم من منامك ، ليكون مفتتحاً لعمله بذكر الله ، قاله حسان بن عطية .
الثالث : حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر ، قاله زيد بن أسلم .
الرابع : أنه التسبيح في الصلاة ، إذا قام إليها .
وفي هذا التسبيح قولان :
أحدهما : هو قول : سبحان ربي العظيم ، في الركوع ، وسبحان ربي الأعلى ، في السجود .
الثاني : التوجه في الصلاة بقوله : سبحانك اللهم وبحمدك [ وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ] ، قاله الضحاك .
{ وَمِنَ الِّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها صلاة الليل .
الثاني : التسبيح فيها .
الثالث : أنه التسبيح في صلاة وغير صلاة .
وأما { وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها ركعتان قبل الفجر ، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، إِدْبَارُ النُّجومِ ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ المَغْرِبِ إِدْبَارُ السُّجُودِ » .
الثاني : أنها ركعتا الفجر قبل الغداة .
الثالث : أنه التسبيح بعد الصلاة ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15