كتاب : النكت والعيون
المؤلف : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي

قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

قوله تعالى : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } فيه ثلاث تأويلات :
أحدها : يعني الحلال والحرام ، قاله الحسن .
والثاني : المؤمن والكافر ، قاله السدي .
والثالث : الرديء والجيد .
{ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخبِيثِ } يعني أن الحلال والجيد مع قلتهما خير وأنفع من الحرام والرديء مع كثرتهما .
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في حُجَّاجِ اليمامة وقد هَمَّ المسلمون بأحدهم .
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } اختلف أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال :
أحدها : ما روى أنس بن مالك قال : سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ألحفوه بالمسألة ، فصعد المنبر ذات يوم فقال : « لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُ لَكُمْ » قال أنس : فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فأرى كل الناس لاق ثوبه فى رأسه يبكي ، فسأل رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال : يا رسول الله مَنْ أبي؟ فقال : « أَبُوكَ حُذَافَةُ » فأنشأ عمر فقال : رضينا بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمد عليه السلام رسولاً عائذاً بالله من سوء الفتن ، فأنزل الله تعالى : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } .
والثاني : ما روى الحسن بن واقد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أَيُّهَا النَّاسُ كَتبَ اللَّهُ عَلَيكُمُ الحَجَّ فَحِجُّوا » فقام محصن الأسدي وقال : في كل عام يا رسول الله؟ فقال : « أَمَا إِنِّي لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُم لَضَلِلْتُمْ ، اسْكَتُوا عَنِّي مَا سَكَتُّ عَنْكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبَْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ واخْتِلاَفِهِم عَلَى أَنْبِيائِهِمْ » فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُوا . . . } .
والثالث : أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، قاله ابن عباس .
{ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرءَانُ تُبْدَ لَكُمْ } جعل نزول القرآن عند السؤال موجباً بتعجيل الجواب .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } فيها قولان :
أحدهما : عن المسألة .
والثاني : عن الأشياء التي سألوا عنها .
قوله تعالى : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : قوم عيسى سألوه المائدة ، ثم كفروا بها ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهم قوم صالح سألوا الناقة ، ثم عقروها وكفروا به .
والثالث : أنهم قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل لهم الصفا ذهباً ، قاله السدي .
والرابع : أنهم القوم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ أبي؟ ونحوه ، فلما أخبرهم به أنكروه وكفروا به ، قاله بعض المتأخرين .

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)

قوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } يعني ما بحر الله من بحيرة ، ولا سيب سائبة ، ولا وصل وصيلة ، ولا حمى حامياً .
روى أبو صالح عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم ابن جون : « يَا أَكْثَمُ رَأَيْتُ عَمْرو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خَنْدَف يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ ، فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ ، وَلاَ بِهِ مِنْكَ » فقال أكثم : أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله ، فقال : « لاَ إِنَّكَ مُؤْمِنٌ ، وَهُوَ كَافِرٌ ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ ، وَبَحَرَ البَحِيرَةَ ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ ، وحَمَى الحَامِي
» . ومعنى قوله يجر قصبه في النار ، يعني أمعاءه ، والبحيرة : الفصلة من قول القائل ، بحرت أذن الناقة إذا شقها ، ومنه قول الأبيرد :
وأمسى فيكم عمران يمشي ... . . . كأنه جمل بحير
وقد روى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن أبيه قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : « أَرَأَيْتَ إِبلَكَ تَكُونَ مُسَلَّمَةً آذَانُهَا فَتَأْخُذَ المُوسَى فَتَجْدَعَهَا تَقُولُ هَذِهِ بَحِيْرَةٌ ، وَتَشُقُّونَ آذَانَهَا تَقُولُونَ هَذِهِ بَحِيْرَةٌ
» قال : فإن ساعِدَ الله أشدُّ ، وموسى الله أحد ، كل مالك لك حلال لا يحرم عليك منه شيء .
وفي البحيرة ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن البحيرة الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ، فإن كان الخامس ذكراً أكلته الرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى بحروا أذنها أي شقوها ، وتركت ، فلا يشرب لها لبن ، ولا تنحر ، ولا تركب ، وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء ، قاله عكرمة .
والقول الثاني : البحيرة الناقة التي تنجب خمسة أبطن ، فكان آخرها ميتاً ذكراً شقوا أذن الناقة وخلوا عنها ، فلا تُحْلَب وَلاَ تُرْكَب تحرجاً ، قاله أبو عبيدة .
والقول الثالث : أن البحيرة بنت السائبة ، قاله أبو إسحاق ، وأما السائبة ، فإنها المسيبة المخلاة وكانت العرب تفعل ذلك ببعض مواشيها فتحرم الانتفاع بها على أنفسها تقرباً إلى الله تعالى ، قال الشاعر :
عقرتم ناقة كانت لربي ... وسائبة فقوموا للعقاب
وكذا كان بعض أهل الإِسلام يعتق عبده سائبة ، ولا ينتفع به ولا بولائه ، وكان أبو العالية سائبة فلما أُتِي مولاه بميراثه فقال : هو سائبة وأبى أن يأخذه .
وأخرجت المسيبة بلفظ السائبة ، كما قيل في عيشة راضية يعني مرضية ، وفي السائبة قولان :
أحدهما : أنها الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سُيِّبَتْ فلم يُرْكَب ظهرها ولم يُجَزّ وبرها ولم يَشْرَب لبنَها إلا ضيفٌ ، وما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أُذُنُها ، وسميت بحيرة ، وخُلِّيَتْ مع أمها ، قاله محمد بن إسحاق .

والقول الثاني : أنهم كانوا ينذرون السائبة عند المرض فيسيب الرجل بعيره ولا يركب ، ولا يجلى عن ماء كالبحيرة ، قاله أبو عبيدة .
أما الوصيلة فأجمعوا على أنها من الغنم ، وفيها ثلاثة أقاويل : أحدها : أنها الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نُظِرَ في البطن السابع فإن كان جَدْياً ذبحوه ، فأكل الرجال دون النساء ، فقالوا هذا حلال لذكورنا ، حرام على أزواجنا ونسائنا ، وإن كان عناقاً سرحت في غنم الحي ، وإن كان جَدْياً وعناقاً ، قالوا وصلت أخاها فسميت وصيلة ، قاله عكرمة .
القول الثاني : أنها الشاة إذا أتأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر ، جعلت وصيلة ، فقالوا قد وصلت ، وكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإِناث قاله محمد بن إسحاق .
والقول الثالث : أن العرب كانت إذا ولدت الشاة لهم ذكراً قالوا هذا لآلهتنا فيتقربون به ، وإذا ولدت أنثى قالوا هذه لنا ، وإذا ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها ، قاله أبو عبيدة .
وأما الحام ففيه قول واحد أجمعوا عليه وهو البعير ينتج من صلبه عشرة أبطن ، فيقال حمى ظهره ويخلَّى .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ . . . } في قوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنها الشهادة بالحقوق عند الحكام .
والثاني : أنها شهادة الحضور للوصية .
والثالث : أنها أيمان ، ومعنى ذلك أيمان بينكم ، فعبر عن اليمين بالشهادة كما قال في أيمان المتلاعنين : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتِ بِاللَّهِ } .
وفي قوله تعالى : { . . . اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مَِّنكُمْ } تأويلان :
أحدهما : يعني من المسلمين ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : من حي المُوصِي ، قاله الحسن ، وسعيد بن المسيب ، وعكرمة وفيهما قولان : أحدهما : أنهما شاهدان يشهدان على وصية المُوصِي .
والثاني : أنهما وصيان .
{ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : من غير دينكم من أهل الكتاب ، قاله ابن عباس ، وأبو موسى ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، وشريح .
والثاني : من غير قبيلتكم وعشيرتكم ، قاله الحسن ، وعكرمة ، والزهري ، وعبيدة .
وفي { أَوْ } في هذا الموضع قولان :
أحدهما : أنها للتخيير في قبول اثنين منا أو آخرين من غيرنا .
والثاني : أنها لغير التخيير ، وإن معنى الكلام ، أو آخران من غيركم إن لم تجدوا ، منكم ، قاله ابن عباس وشريح ، وسعيد بن جبير والسدي .
{ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } يعني سافرتم .
{ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ } وفي الكلام محذوف تقديره : فأصابتكم مصيبة الموت ، وقد أسندتم الوصية إليهما .
ثم قال تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ } يعني تستوقفونهما للأيمان وهذا خطاب للورثة ، وفي هذه الصلاة ثلاثة أقوال :
أحدها : بعد صلاة العصر ، قاله شريح ، والشعبي ، وسعيد بن جبير وقتادة .
والثاني : من بعد صلاة الظهر ، والعصر ، قاله الحسن .
والثالث : من بعد صلاة أهل دينهما ومِلَّتِهِمَا من أهل الذمة ، قاله ابن عباس ، والسدي .
{ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ أَرْتَبْتُمْ لاَ تَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } معناه فيحلفان بالله إن ارتبتم بهما ، وفيهما قولان : أحدهما : أنهما الوصيان إن ارتبتم بهما في الخيانة أَحْلَفَهُمَا الورثة .
والثاني : أنهما الشاهدان إن ارتبتم بهما ، ولم تُعْرَفْ عدالتهما ، ولا جرحهما ، أحلفهما الحاكم ليزول عنه الارتياب بهما ، وهذا إنما جوزه قائل هذا القول في السفر دون الحضر .
وفي قوله تعالى : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } تأويلان :
أحدهما : لا نأخذ عليه رشوة ، قاله ابن زيد .
والثاني : لا نعتاض عليه بحق .
{ وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى } أي لا نميل مع ذي القربى في قول الزور ، والشهادة بغير حق .
{ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } يعني عندنا فيما أوجبه علينا .
قوله تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً } يعني فإن ظهر على أنهما كَذَبَا وخَانَا ، فعبر عن الكذب بالخيانة والإِثم لحدوثه عنهما .
وفي الذين : { عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اْسْتَحَقَّا إِثْماً } قولان :
أحدهما : أنهما الشاهدان ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنهما الوصيان ، قاله سعيد بن جبير .
{ فَئَاخَرَان } يعني من الورثة .
{ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } في اليمين ، حين ظهرت الخيانة .
{ مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهُمُ الأَوْلَيَانِ } فيه تأويلان :

أحدهما : الأوليان بالميت من الورثة ، قاله سعيد بن جبير .
والثاني : الأوليان بالشهادة من المسلمين ، قاله ابن عباس وشريح .
وكان سبب نزول هذه الآية ما روى عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدّاء ، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدما بتركته ، فقدوا جاماً من فضة مُخَوَّصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم وجد الجام بمكة ، وقالوا اشتريناه من تميم الداري ، وعدي بن بدّاء ، فقام رجلان من أولياء السهمي فَحَلَفَا : { لَشَهَادَتُنا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا } وأن الجام لصاحبهم قال : وفيهم نزل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُِوا شَهَادَةُ بَينِكُمْ } إلى قوله : { واتَّقُواْ اللَّهَ وَاسْمَعُواْ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
ثم اختلفوا في حكم هاتي الآيتين هل هو منسوخ أو ثابت .
فقال ابن عباس حكمهما منسوخ . قال ابن زيد : لم يكن الإسلام إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب وهو اليوم طبق الأرض .
وقال الحسن : حكمهما ثابت غير منسوخ .

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنآ } .
في قوله : { لاَ عِلْمَ لَنآ } خمسة تأويلات :
أحدها : لم يكن ذلك إنكاراً لِمَا علموه ولكن ذهلوا عن الجواب من هول ذلك اليوم ثم أجابوا بعدما ثابت عقولهم ، قاله الحسن ، والسدي .
والثاني : لا علم لنا إلا ما علمتنا ، قاله مجاهد .
والثالث : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، قاله ابن عباس .
والرابع : لا علم لنا بما أجاب به أممنا ، لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء ، وهو مروي عن الحسن أيضاً .
والخامس : أن معنى قوله : { مَاذَا أُجِبْتُمْ } أي ماذا عملوا بعدكم { قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوْبِ } قاله ابن جريج .
وفي قوله : { عَلاَّمُ الْغُيُوْبِ } تأويلان :
أحدهما : أنه مبالغة .
والثاني : أنه لكثير المعلومات .
فإن قيل : فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعليه جوابان :
أحدهما : أنه إنما سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم .
والثاني : أنه أراد أن يفضحهم بذلك على الأشهاد ليكون ذلك نوعاً من العقوبة لهم .

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

قوله تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ . . . } وإنما ذكَّر الله عيسى عليه السلام نعمته عليه على والدته ، وإن كان لهما ذاكراً لأمرين :
أحدهما : ليتلو على الأمم ما خصه به من الكرامة ومَيّزَه به من علو المنزلة .
والثاني : ليؤكد به حجته ويرد به جاحده .
ثم أخذ تعالى في تعديد نعمه فقال : { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } يعني قويتك ، مأخوذ من الأيد وهو القوة ، وروح القدس جبريل ، والقدس هو الله تعالى تقدست أسماؤه .
وتأييده له من وجهين :
أحدهما : تقويته على أمر دينه .
والثاني : معونته على دفع ظلم اليهود والكافرين له .
{ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً } أما كلامه لهم في المهد إنما اختص بتعريفهم حال نبوته ، { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيَّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكَاً أَيَنَمَا كُنتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياً } [ مريم : 30-31 ] .
وكلامه لهم كهلاً دعاؤهم إلى ما أمر الله به من الصلاة والزكاة ، وذلك حين صار ابن ثلاثين سنة وإن كان مبعوثاً حين ولد ، فمكث فيهم ثلاثين سنة ثم رفعه الله ، ولم يبعث الله نبياً حين ولد غيره ولذلك خصه الله بالكلام في المهد صبياً .
ثم قال تعالى : { وَإِذْ عَلَّمْتُك الكِتَابَ } وفيه تأويلان :
أحدهما : يريد الخط .
والثاني : يريد الكتب فعبر عنها بالكتاب إرادة للجنس .
ثم فصل فقال تعالى : { وَالْحِكْمَةَ } وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها العلم بما في تلك الكتب .
والثاني : أنها جميع ما يحتاج إليه في دينه ودنياه .
ثم قال تعالى : { وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } يريد تلاوتهما وتأويلهما .
ثم قال تعالى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونَ طَيْرَاً بِإِذنِي } يعني بقوله : { تَخْلُقُ } أي تفعل وتصور من الطين مثل صورة الطير ، لأن الخلق فعل لكن على سبيل القصد والتقدير من غير سهو ولا مجازفة ولذلك وُصِفَتْ أفعال الله تعالى بأنها مخلوقة لأنها لا تكون إلا عن قصد وتقدير ووصفت بعض أفعال العباد بأنها مخلوقة إذا كانت مقدرة مقصودة ولم توصف جميعها بهذه الصفة لجواز كون بعضها سهواً أو مجازفة .
وقوله تعالى : { فَتَنفُخُ فِيهَا } يعني الروح ، والروح جسم .
وفي المُتَوَلِّي لنفخها وجهان :
أحدهما : أنه المسيح ينفخ الروح في الجسم الذي صوره من الطين كصورة الطير .
والثاني : أنه جبريل .
وقوله تعالى : { فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } يعني أن الله تعالى يقلبها بعد نفخ الروح فيها لحماً ودماً ، ويخلق فيها الحياة ، فتصير طيراً بإذن الله تعالى وأمره ، لا بفعل المسيح .
ثم قال تعالى : { وَتُبْرِىءُ الأكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي } أي تدعوني أن أبرىء الأكمه والأبرص ، فأجيب دعاءك وأبرئهما ، وهو فعل الله تعالى ، وإنما نَسَبَهُ إلى المسيح مجازاً لأن فعله لأجل دعائه .
ثم قال تعالى : { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } يعني واذكر نعمتي عليك ، إذ تدعوني أن أحيي الموتى ، فأجيب دعاءك ، حتى تخرجهم من القبور أحياء ، ونسب إليه ذلك توسعاً أيضاً لأجل دعائه ، ويجوز أن ينسب إخراجهم إليه حقيقة ، لأن إخراجهم من قبورهم بعد إحياء الله لهم يجوز أن يكون من فعل المسيح .

قال الكلبي : والذين أحياهم من الموتى رجلان وامرأة .
قوله تعالى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّيِنَ أَنْ ءَامِنُوا بِي . . . } في وحيه إلى الحواريين وجهان :
أحدهما : معناه أَلْهَمْتُهُم أن يؤمنوا بي ، ويصدقوا أنك رسولي ، كما قال تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } [ النحل : 68 ] .
والثاني : يعني ألقيت إليهم بالآيات التي أريتهم أن يؤمنوا بي وبك . وفي التذكير بهذه النعمة قولان :
أحدهما : أنها نعمة على الحواريين أن آمنوا ، فذكر الله تعالى به عيسى لأنهم أنصاره .
الثاني : أنها نعمة على عيسى ، لأنه جعل له أنصاراً من الحواريين قد آمنوا به .
والحواريون : هم خواص عيسى عليه السلام الذين استخلفهم من جملة الناس .
{ قَالُوا ءَامَنَّا } يعني بالله تعالى ربك .
{ وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلامهم بالله تعالى وبه .
والثاني : أنهم أشهدوا الله تعالى بذلك على أنفسهم .

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)

قوله تعالى : { إِذْ قَالَ الْحوَارِيُّونَ يَا عيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } ، قرأ الكسائي وحده { هل تَّستطيع ربَّك } بالتاء والإِدغام ، وربك بالنصب ، وفيها وجهان :
أحدهما : معناه هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله ، قاله الزجاج .
والثاني : هل تستطيع أن تسأل ربك ، قاله مجاهد ، وعائشة .
وقرأ الباقون { هل يستطيع ربك } بالياء والإِظهار ، وفي ذلك التأويل ثلاثة أوجه :
أحدها : هل يقدر ربك ، فكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله تعالى .
والثاني : معناه هل يفعل ربك ، قاله الحسن ، لأنهم سموا بالحواريين بعد إيمانهم .
والثالث : معناه هل يستجيب لك ربك ويطيعك .
{ أَن يُنَزِّلَ عَلَينَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ } قاله السدي ، قال قطرب : والمائدة لا تكون مائدة حتى يكون عليها طعام ، فإن لم يكن قيل : خِوان ، وفي تسميتها مائدة وجهان :
أحدهما : لأنها تميد ما عليها أي تعطي ، قال رؤبة :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إلى أمير المؤمنين الممتاد
أي المستعطي .
والثاني : لحركتها بما عليها من قولهم : مَادَ الشيء إذا مال وتحرك ، قال الشاعر :
لعلك باك إن تغنت حمامة ... يميد غصن من الأيك مائل
{ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فيه قولان :
أحدهما : يعني اتقوا معاصي الله إن كنتم مؤمنين به ، وإنما أمرهم بذلك لأنه أولى من سؤالهم .
والثاني : يعني اتقوا الله فى سؤال الأنبياء إما طلباً لِعَنَتِهِم وإما استزادة للآيات منهم ، إن كنتم مؤمنين بهم ومصدقين لهم لأن ما قامت به دلائل صدقهم يغنيكم عن استزادة الآيات منهم .
قوله تعالى : { قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } وهذا اعتذار منهم بَيَّنُوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه فقالوا : { نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } .
يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها .
والثاني : أنهم أرادوه تبركاً بها لا لحاجة دعتهم إليها ، وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال .
{ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : تطمئن إلى أن الله تعالى قد بعثك إلينا نبياً .
والثاني : تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لك أعواناً .
والثالث : تطمئن إلى أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا .
{ وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } في أنك نبي إلينا ، وذلك على الوجه الأول .
وعلى الوجه الثاني : صدقتنا في أننا أعوان لك .
وعلى الوجه الثالث : أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا .
وفي قولهم { وَنَعْلَمَ } وجهان :
أحدهما : أنه علم مستحدث لهم بهذه الآية بعد أن لم يكن ، وهذا قول من زعم أن السؤال كان قبل استحكام المعرفة .
والثاني : أنهم استزادوا بذلك علماً إلى علمهم ويقيناً إلى يقينهم ، وهذا قول من زعم أن السؤال كان بعد التصديق والمعرفة .
{ وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } يحتمل وجهين .
أحدهما : من الشاهدين لك عند الله بأنك قد أديت ما بعثك به إلينا .

والثاني : من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدناه من الآيات الدالة على أنك نبي إليهم وإلينا .
قوله تعالى : { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ } إنما زيدت الميم في آخر اللهم مثقلة عوضاً عن حرف النداء ، فلم يجز أن يدخل عليه حرف النداء فلا يقال يا اللهم لأن الميم المُعَوِّضة منه أغنت عنه ، فأما قول الشاعر :
وما عليك أن تقولي كلما ... سبحت أو هللت يا اللهم
أردد علينا شيخنا مسلما ... فإننا من خيره لن نعْدَما
فلأن ضرورة الشعر جوزته .
سأل عيسى ربه ، أن ينزل عليهم المائدة التي سألوه ، وفي سؤاله وجهان :
أحدهما : أنه تفضل عليهم بالسؤال ، وهذا قول من زعم أن السؤال بعد استحكام المعرفة .
والثاني : أنه رغبة منه إلى الله تعالى في إظهار صدقه لهم ، وهذا قول من زعم أن السؤال قبل استحكام المعرفة .
{ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا قاله قتادة والسدي .
وقيل : إن المائدة أنزلت عليهم في يوم الأحد غداة وعشية ، ولذلك جعلوا الأحد عيداً .
والثاني : معناه عائدة من الله تعالى علينا ، وبرهاناً لنا ولمن بعدنا .
والثالث : يعني نأكل منها جميعاً ، أولنا وآخرنا ، قاله ابن عباس .
{ وَءَايَةً مِّنكَ } يعني علامة الإِعجاز الدالة على توحيدك وقيل التي تدل على صدق أنبيائك .
الشكر على ما أنعمت به علينا من إجابتك ، وقيل : أرزقنا ذلك من عندك .
قوله تعالى : { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } وهذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين .
واختلفوا في نزول المائدة على ثلاثة أقاويل .
أحدها : أنه مثل ضربه الله تعالى لخلقه ، ينهاهم به عن مسألة الآيات لأنبيائه ، قاله مجاهد .
والثاني : أنهم سألوا ووعدهم بالإِجابة ، فلما قال لهم : { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ } استعفوا منها فلم تنزل عليهم ، قاله الحسن .
والثالث : أنهم سألوا فأجابهم ، ولم يستعفوا ، لأنه ما حكى الاستعفاء عنهم ، ثم أنزلها عليهم ، لأنه قد وعدهم ، ولا يجوز أن يخلف وعده .
ومن قال بهذا اختلفوا في الذي كان عليها حين نزلت على ستة أقاويل :
أحدها : أنه كان عليها ثمار الجنة ، قاله قتادة .
والثاني : أنه كان عيها خبز ولحم ، قاله عمار بن ياسر .
والثالث : أنه كان عليها سبعة أرغفة ، قاله إسحاق بن عبد الله .
والرابع : كان عليها سمكة فيها طعم كل الطعام ، قاله عطاء ، وعطية .
والخامس : كان عليها كل طعام إلا اللحم ، قاله ميسرة .
والسادس : رغيفان وحوتان ، أكلو منها أربعين يوماً في سفرة ، وكانوا ومن معهم نحو خمسة آلاف ، قاله جويبر .

وأُمِرُوا أن يأكلوا منها ولا يخونوا ولا يدخروا ، فخانوا وادخروا فَرُفِعَتْ .
وفي قوله تعالى : { . . . عَذَاباً لاَّأُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ } قولان :
أحدهما : يعني من عالمي زمانهم .
والثاني : من سائر العالمين كلهم .
وفيهم قولان : أحدهما : هو أن يمسخهم قردة ، قاله قتادة .
والثاني : أنه جنس من العذاب لا يعذب به غيرهم لأنهم كفروا بعد أن رأوا من الآيات ما لم يره غيرهم ، فكانوا أعظم كفراً فصاروا أعظم عذاباً .
وهل هذا العذاب في الدنيا أو في الآخرة؟ قولان :
وفي الحواريين قولان :
أحدهما : أنهم خواص الأنبياء .
والثاني : أنهم المندوبون لحفظ شرائعهم إما بجهاد أو علم .
وفي تسميتهم بذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : لبياض ثيابهم ، وهذا قول ابن عباس ، تشبيهاً بما هم عليه من نقاء سرائرهم ، قاله الضحاك ، وهو بلغة القبط حواري .
والثاني : لنظافة ثيابهم وطهارتها بطهارة قلوبهم .
والثالث : بجهادهم عن أنبيائهم ، قال الشاعر :
ونحن أناس نملأ البيد مأمنا ... ونحن حواريون حين نزاحف

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

قوله عز وجل : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ . . . } الآية . { إِذْ } ها هنا بمعنى ( إذا ) كما قال أبو النجم :
ثم جزاك الله عني إذ جزى ... جنات عدن في السموات العلا
يعني إذا جزى ، فأقام الماضي مقام المستقبل وهذا جائز في اللغة كما قال تعالى : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ } [ الأعراف : 44 ] .
واختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على قولين :
أحدهما : أنه تعالى سأله عن ذلك توبيخاً لمن ادعى ذلك عليه ، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ فى التكذيب وأشد فى التوبيخ والتقريع .
والثاني : أنه قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه غُيِّرُوا بعده وادعوا عليه ما لم يقله .
فإن قيل : فالنصارى لم تتخذ مريم إلهاً ، فكيف قال تعالى فيهم ذلك؟
قيل : لما كان من قولهم أنها لم تلد بشراً وإنما ولدت إِلَهاً لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضي بمثابة من ولدته ، فصاروا حين لزمهم ذلك كالقائلين له .
وفي زمان هذا السؤال قولان :
أحدهما : أن الله تعالى قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا ، قاله السدي وميسرة .
والثاني : أن الله تعالى يقول له ذلك يوم القيامة ، قاله ابن جريج وقتادة وهو أصح القولين .
{ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقِّ } أي أدعي لنفسي ما ليس من شأنها ، يعني أنني مربوب ولست برب ، وعابد ولست بمعبود .
وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين :
أحدهما : تنزيهاً له عما أضيف إليه .
الثاني : خضوعاً لعزته وخوفاً من سطوته .
ثم قال : { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } فرد ذلك إلى علمه تعالى ، وقد كان الله عالماً به أنه لم يقله ، ولكن قاله تقريعاً لمن اتخذ عيسى إلهاً .
{ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } فيه وجهان .
أحدهما : تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه .
والثاني : تعلم ما أعلم ولا أعلم ما تعلم .
وفي النفس قولان : أحدهما : أنها عبارة عن الجملة كلها .
والثاني : أنها عبارة عن بعضه ، كقولهم قتل فلان نفسه .
{ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : عالم السر والعلانية .
والثاني : عالم ما كان وما يكون .
وفي الفرق بين العالم والعلام وجهان :
أحدهما : أن العلام الذي تقدم علمه ، والعالم الذي حدث علمه .
والثاني : أن العلام الذي يعلم ما كان وما يكون ، والعالم الذي يعلم ما كان ولا يعلم ما يكون .
قوله عز وجل : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ } لم يذكر عيسى ذلك على وجه الإِخبار به لأن الله عالم به ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : تكذيباً لمن اتخذ إلهاً معبوداً .

والثاني : الشهادة بذلك على أمته فيما أمرهم به من عبادة ربه .
قوله تعالى : { أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : إعلامهم أن الله ربه وربهم واحد .
والثاني : أن عليه وعليهم أن يعبدوا رباً واحداً حتى لا يخالفوا فيما عبدوه .
{ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيِهِمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني شاهداً .
والثاني : شاهداً عليهم .
{ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } فيه وجهان :
أحدهما : أنه الموت .
والثاني : أنه رفعه إلى السماء .
{ . . . الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : الحافظ عليهم .
والثاني : العالم بهم .
{ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } يحتمل وجهين :
أحدهما : شاهداً لما حضر وغاب .
والثاني : شاهداً على من عصى ، وأطاع .
قوله عز وجل : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف العبد سيده .
والثاني : أنه قاله على وجه التسليم لأمر ربه والاستجارة من عذابه .

قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

قوله تعالى : { قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } يعني يوم القيامة ، وإنما نفعهم الصدق في ذلك اليوم لوقوع الجزاء فيه وإن كان في كلِّ الأيام نافعاً ، وفي هذا الصدق قولان :
أحدهما : أن صدقهم الذي كان منهم في الدنيا نفعهم في الآخرة جُوزُوا عليه من الثواب ، فعلى هذا المراد بهذا الصدق وجهان محتملان :
أحدهما : أنه صدقهم في عهودهم .
والثاني : أنه تصديقهم لرسل الله وكتبه .
والقول الثاني : أنه صدق يكون منهم في الآخرة ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله .
فعلى هذا في المراد بهذا الصدق وجهان محتملان :
أحدهما : أنه صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ .
والثاني : صدقهم فيما شهدوا به على أنفسهم عن أعمالهم ، ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة ، فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم .
وهل هم مصروفون عنه قبل موقف العرض؟ على قولين .
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)

قوله عز وجل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ . . . } الآية قال وهب بن منبه : فاتحة التوارة فاتحة الأنعام إلى قوله : { يَعْدِلُونَ } ، وخاتمة التوراة خاتمة هود .
وقوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } جاء على صيغة الخبر وفيه معنى الأمر ، وذلك أولى من أن يجيء بلفظ الأمر فيقول احْمِدِ الله ، لأمرين :
أحدهما : أنه يتضمن تعليم اللفظ والمعنى ، وفي الأمر المعنى دون اللفظ .
والثاني : أن البرهان إنما يشهد بمعنى الخبر دون الأمر .
{ الَّذِي خَلَقَ السَمَوَاتِ والأرضَ } لأن خلق السموات والأرض نِعَمٌ تستوجب الحمد ، لأن الأرض تقل ، والسماء تظل ، وهي من أوائل نعمه على خلقه ، ولذلك استحمد بخلقها وأضاف خلقها إلى نفسه عند حمده ، على أن مستحق الحمد هو خالق السموات والأرض ، ليكون باستحقاق الحمد منفرداً لانفراده بخلق السموات والأرض .
وفي جمع السموات وتوحيد الأرض وجهان :
أحدهما : لأن السموات أشرف من الأرض ، والجمع أبلغ في التفخيم من الوحيد كقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلَنَا الذِّكْرَ } [ الحجر : 9 ] .
والثاني : لأن أوامره إلى الأرض تخترق جميع السماوات السبع .
وفي تقديم السموات على الأرض وجهان :
أحدهما : لتقدم خلقها على الأرض .
والثاني : لشرفها فقدمها على ذكر الأرض وإن كانت مخلوقة بعد الأرض .
وهذان الوجهان من اختلاف العلماء أيهما خُلِقَ أولاً .
{ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } يعني وخلق ، فغاير بين اللفظ ليكون أحسن في النظم ، والمراد بالظلمات والنور هنا ثلاثة أوجه : أحدها : وهو المشهور من قول قتادة ، قدم الظلمة على النور لأنه قدم خلق الظلمة على خلق النور ، وجمع الظلمات ووحد النور لأن الظلمات أعم من النور .
والثاني : أن الظلمات : الليل ، والنور : النهار .
والثالث : أن الظلمات : الكفر ، والنور : الإِيمان ، قاله السدي .
ولأصحاب الخواطر ، فيه ثلاثة أوجه أُخَر :
أحدها : أن الظلمات : الأجسام ، والنور : الأرواح .
الثاني : أن الظلمات : أعمال الأبدان ، والنور : ضمائر القلوب .
والثالث : أن الظلمات : الجهل ، والنور : العلم .
{ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يجعلون له مع هذه النَّعَمْ عِدْلاً ، يعني مثلاً .
وفيه قولان :
أحدهما : أنهم يعدلون به الأصنام التي يعبدونها .
والثاني : أنهم يعدلون به إلهاً غيره لم يُخْلَق مثل خلقه .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمَّى عِندَهُ } في هذين الأجلين أربعة أقاويل :
أحدها : أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الحياة إلى الموت ، والأجل الثاني المسمى عنده أجل الموت إلى البعث ، قاله الحسن ، وقتادة .
الثاني : أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الدنيا ، والأجل الثاني المسمى عنه ابتداء الآخرة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
والثالث : أن الأجل الأول الذي قضاه هو حين أخذ الميثاق على خلقه في ظهر آدم ، والأجل الثاني المسمى عنده الحياة في الدنيا ، قاله ابن زيد .

والرابع : أن الأجل الذي قضاه أجل من مات ، والأجل المسمى عنده أجل من يموت بعد ، قاله ابن شجرة .
{ تَمْتَرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : تشكون ، والامتراء : الشك .
والثاني : تختلفون ، مأخوذ من المراء وهو الاختلاف .
قوله تعالى : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن معنى الكلام وهو اله المُدَبِّر في السموات وفي الأرض .
{ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } أي ما تخفون ، وما تعلنون . والثاني : وهو الله المعبود في السموات ، وفي الأرض .
والثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ، لأن في السموات الملائكة ، وفي الأرض الإِنس والجن ، قاله الزجاج .
{ وََيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } أي ما تعلمون من بعد ، ولا يخفى عليه ما كان منكم ، ولا ما سيكون ، ولا ما أنتم عليه في الحال من سر ، وجهر .

وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

قوله عز وجل : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ } لأن مشركي قريش لما أنكروا نزول القرآن أخبر الله أنه لو أنزله عليهم من السماء لأنكروه وكفروا به لغلبة الفساد عليهم ، فقال : { ولَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ } واسم القرطاس لا ينطلق إلا على ما فيه كتابة ، فإن لم يكن فيه كتابة قيل طرس ولم يقل قرطاس . قال زهير بن أبي سلمى :
بها أخاديد من آثار ساكنها ... كما تردد في قرطاسه القلم
{ فَلَمَسُوهُ بِأَيِدِيهِمْ } قال ذلك تحقيقاً لنزوله عليهم .
ويحتمل بلمس اليد دون رؤية العين ثلاثة أوجه :
أحدها : أن نزوله مع الملائكة وهم لا يرون بالأبصار ، فلذلك عَبَّر عنه باللمس دون الرؤية .
والثاني : لأن الملموس أقرب من المرئي .
والثالث : لأن السحر يتخيل في المرئيات ، ولا يتخيل في الملموسات .
{ لَقَالَ الََّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } تكذيباً لليقين بالعناد ، والمبين : ما دل على بيان بنفسه ، والبيِّن : ما دل على بيانه ، فكان المبين أقوى من البيِّن .
قوله عز وجل : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } أي ملك يشهد بتصديقه { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ } أي لو أنزلنا ملكاً فلم يؤمنوا لقضي الأمر وفيه تأويلان :
أحدهما : لقضي عليهم بعذاب الاستئصال ، قاله الحسن ، وقتادة ، لأن الأمم السالفة كانوا إذا اقترحوا على أنبيائهم الآيات فأجابهم الله تعالى إلى الإِظهار فلم يؤمنوا استأصلهم بالعذاب .
والثاني : أن معنى لقضي الأمر لقامت الساعة ، قاله ابن عباس .
{ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } أي لا يُمْهَلُون ولا يُؤَخَّرون ، يعني عن عذاب الاستئصال . على التأويل الأول ، وعن قيام الساعة على التأويل الثاني .
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } يعني ولو جعلنا معه ملكاً يدل على صدقه لجعلناه في صورة رجل .
وفي وجوب جعله رجلاً وجهان :
أحدهما : لأن الملائكة أجسامهم رقيقة لا تُرَى ، فاقتضى أن يُجْعَل رجلاً لكثافة جسمه حتى يرى .
والثاني : أنهم لا يستطيعون أن يروا الملائكة على صورهم ، وإذا كان في صورة الرجل لم يعلموا ملك هو أو غير ملك .
{ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه ولخلطنا عليهم ما يخلطون ، قاله الكلبي .
والثاني : لشبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم ، قال الزجاج : كما يشبهون على ضعفائهم واللبس في كلامهم هو الشك ومنه قول الخنساء :
أصدق مقالته واحذر عداوته ... والبس عليه بشك مثل ما لبسا
والثالث : وللبسنا على الملائكة من الثبات ما يلبسه الناس من ثيابهم ، ليكونوا على صورهم وعلى زِيِّهم ، قاله جويبر .
قوله تعالى : { . . . كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي أوجبها ربكم على نفسه ، وفيها أربعة أوجه :
أحدها : أنها تعريض خلقه لما أمرهم به من عبادته التي تفضي بهم إلى جنته .
والثاني : ما أراهم من الآيات الدالة على وجوب طاعته .
والثالث : إمهالهم عن معالجة العذاب واستئصالهم بالانتقام .
والرابع : قبوله توبة العاصي والعفو عن عقوبته .
{ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وهذا توعد منه بالعبث والجزا أَخَرجَه مَخْرَج القسم تحقيقاً للوعد والوعيد ، ثم أكده بقوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } .

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

قوله تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } من أجسام الحيوان ، لأن من الحيوان ما يسكن ليلاً ، ومنه ما يسكن نهاراً .
فإن قيل : فلم قال { مَا سَكَنَ } ولم يقل ما تحرك؟ قيل لأمرين :
أحدهما : أن ما يَعُمُّه السكون أكثر مما يَعُمُّه الحركة .
والثاني : لأن كل متحرك لا بد أن تنحل حركته سكوناً ، فصار كل متحرك ساكناً ، وقد قال الكلبي : معناه وله ما استقر في الليل والنهار ، وهما الزمان كله ، لأنه لا زمان إلا ليل أو نهار ، ولا فصل بينهما يخرج عن واحد منهما .
قوله عز وجل : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيَّاً } يعني إلهاً يَتَولاَّنِي .
{ فَاطِر السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } أي خالق السموات والأرض ومبتدئها ، قال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فَطَرْتُهَا ، أي ابتدأتها ، وأصل الفطر الشق ، ومنه { هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] أي شقوق .
{ وَهُوَ يَطْعمُ وَلاَ يُطْعَمُ } معناه يَرْزُقُ ولا يُرْزَق ، قرأ بعضهم { وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ } معناه على هذه القراءة : وهو يطعم خلقه ولا يأكل .
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } يعني من أمته ، وفي إسلامه هذا ثلاثة أوجه :
أحدها : استسلامه لأمر الله ، ومثله قول الشاعر :
طال النهار على من لقاح له ... إلا الهديّة أو ترك بإسلام
أي باستسلام .
والثاني : هو دخوله في سِلْمِ الله وخروجه من عداوته .
والثالث : دخوله في دين إبراهيم كقوله تعالى : { مِلَّهَ ءَابِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } [ الحج : 78 ] ويكون المراد به أول من أَسْلَم من قريش ، وقيل : من أهل مكة .
{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } يحتمل أن يكون هذا خطاباً من الله لنبيه يَنْهَاهُ به عن الشرك ، ويُحْتَمَل أن يكون المراد به جميع أمته ، وإن توجه الخطاب إليه .

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)

قوله تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } فيه وجهان :
أحدهما : معناه إن أَلْحَقَ الله بك ضُراً ، لأن المس لا يجوز على الله .
والثاني : معناه وإن جعل الضُرَّ يمسك .
وكذلك قوله : { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } .
وفي الضُرِّ والخير وجهان :
أحدهما : أن الضُرَّ السُقْمُ ، والخير العافية .
والثاني : أن الضُرَّ الفقر ، والخير الغنى .
قوله عز وجل : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } فيه قولان :
أحدهما : أن معناه القاهر لعباده ، وفوق صلة زائدة .
والثاني : أنه بقهره لعباده مستعلٍ عليهم ، فكان قوله فوق مستعملاً على حقيقته كقوله تعالى : { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِم } [ الفتح : 10 ] لأنها أعلى قوة .
ويحتمل ثالثاً : وهو القاهر فوق قهر عباده ، لأن قهره فوق كل قهر .
وفي هذا القهر وجهان :
أحدهما : أنه إيجاد المعدوم .
والثاني : أنه لا راد لأقداره ولا صَادَّ عن اختياره .
قوله عز وجل : { قَلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } الآية ، في سبب [ نزول ] ذلك قولان :
أحدهما : أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من يشهد لك النبوة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية يأمره فيها أن يقول لهم : { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } ، ثم أجابه عن ذلك فقال : { قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } يعني : بصدقي وصحة نبوتي وهي أكبر الشهادات ، قاله الحسن .
والثاني : أن الله تعالى أمره أن يشهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم فقال ذلك ليشهده عليهم .
{ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } فيه وجهان :
أحدهما : لأنذركم [ يا ] أهل مكة ومن بلغه القرآن من غير أهل مكة .
والثاني : لأنذركم به : [ أيها ] العربُ ومن بُلِّغ من العَجَم .
قوله عز وجل : { الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه التوراة والإِنجيل ، قاله الحسن ، وقتادة ، والسدي ، وابن جريج .
والثاني : أنه القرآن .
{ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنآءَهُم } فيه قولان :
أحدهما : يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، لأن صفته موجودة في كتابهم ، قاله الحسن ، وقتادة ، ومن زعم أن الكتاب هو التوراة والإِنجيل .
والثاني : يعرفون الكتاب الدال على صفته ، وصدقه ، وصحة نبوته ، وهذا قول من زعم أن الكتاب هو القرآن .
وعنى بقوله : { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ } تثبيتاً لصحة المعرفة .
وحكى الكلبي والفراء : أن عمر بن الخطاب قال لعبد الله بن سلام حين أسلم : ما هذه المعرفة التي تعرفون بها محمداً صلى الله عليه وسلم كما تعرفون أبناءكم؟ قال : والله لأنا به إذا رأيته أعرف مني بابني وهو يلعب مع الصبيان ، لأني لا أشك أنه محمد ، وأشهد أنه حق ، ولست أدري ما صنع النساء في الابن .
{ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ } فيه تأويلان :
أحدهما : أنهم خسروا بالكفر منازلهم وأزواجهم في الجنة ، لأنه ليس أحد من مؤمن ولا كافر إلا وله منازل وأزواج ، فإن أسلموا كانت لهم ، وإن كفروا كانت لمن آمن من أهلهم ، وهو معنى قوله تعالى : { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 11 ] ، قاله الفراء .
والثاني : معناه غبنوها فأهلكوها بالكفر والتكذيب ، ومنه قول الأعشى :
لا يأخذ الرِّشْوَة في حُكْمِهِ ... ولا يُبالي خُسْرَ الخاسر

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)

{ ثُمَّ لَمْ تَكُن فَتْنَتُهُمْ . . . } الآية . في الفتنة هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني معذرتهم ، فسماها فتنة لحدوثها عن الفتنة ، قاله قتادة .
والثاني : عاقبة فتنتهم وهو شركهم .
والثالث : يعني بَلِيَّتُهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة ، قاله أبو عبيد القاسم بن سلام .
{ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } تبدأوا بذلك من شركهم ، فإن قيل : كيف كذبوا في الآخرة بجحود الشرك ولا يصح منهم الكذب في الآخرة لأمرين :
أحدهما : أنه لا ينفعهم .
والثاني : أنهم مصروفون عن القبائح ملجؤون إلى تركها لإِزالة التكليف عنهم ، ولو لم يلجؤوا إلى ترك القبيح ويصرفوا عنه مع كما عقولهم وجب تكليفهم ليقلعوا به عن القبيح ، وفي عدم تكليفهم دليل على إلجائهم إلى تركه .
قيل : عن ذلك جوابان .
أحدهما : أن قولهم { وَاللَّهِ رَبِّنآ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } أي في الدنيا عند أنفسنا لاعتقادنا فيها أننا على صواب ، وإن ظهر لنا خطؤه الآن ، فلم يكن ذلك منهم كذباً ، قاله قطرب .
والثاني : أن الآخرة مواطن ، فموطن لا يعلمون ذلك فيه ولا يضطرون إليه ، وموطن يعلمون ذلك فيه ويضطرون إليه ، فقالوا ذلك في الموطن الأول ، قاله بعض متأخري المتكلمين .
وهذا ليس بصحيح لأنه يقتضي أن يكونوا في الموطن الأول مكلفين لعدم الإِلجاء والاضطرار ، وفي الموطن الثاني غير مكلفين .
وقد يعتل الجواب الأول بقوله تعالى بعد هذه الآية : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } فأخبر عنهم بالكذب ، وهم على الجواب الأول غير كاذبين .
وقد أُجِيب عن هذا الاعتراض بجواب ثالث ، وهو أنهم أنكروا بألسنتهم ، فلما نطقت جوارحهم أقروا ، وفي هذا الجواب دخل لأنه قد كذبوا نُطْقَ الجوارح .
{ وَضَلَّ عَنهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : بسوء كذبهم وجحودهم .
والثاني : فضلت عنهم أوثانهم التي افتروا على الله بعبادتها ، والافتراء : تحسين الكذب .
قوله عز وجل : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } قيل إنهم كانوا يستمعون في الليل قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته .
وفيه وجهان : أحدهما : يستمعون قراءته ليردوا عليه .
والثاني : ليعلموا مكانه فيؤذوه ، فصرفهم الله عن سماعه ، بإلقاء النوم عليهم ، بأن جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه .
والأكنة الأغطية واحدها كِنان ، يقال : كَنَتْتُ الشيء إذا غطيته ، وأكننته في نفسي إذا أخفيته ، وفي قراءة علي ، وابن مسعود : على أعينهم غطاء .
{ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } والوقر : الثقل ، ومنه الوَقَار إذا ثقل في المجلس .
{ وَإِن يَرَوْاْ كَلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بها } يعني بالآية علامة الإعجاز لما قد استحكم في أنفسهم من حسده وبغضه ، وذلك صرفهم عن سماع القرآن ، لأنهم قصدوا بسماعه الأذى والافتراء .
{ حَتَّىَ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } فيما كانوا يجادلون به النبي صلى الله عليه وسلم قولان :

أحدهما : أنهم كانوا يجادلونه بما ذكره الله تعالى من قوله عنهم : { إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } ، قال الحسن .
والثاني : هو قولهم : تأكلون ما قتلتم ولا تاكلون ما قتل ربكم ، قاله ابن عباس .
ومعنى { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } أي أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها في كتبهم ، وقيل : إن جادلهم بهذا النضر بن الحارث .
قوله عز وجل : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأوْنَ عَنْهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يَنْهَون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتباعدون عنه فراراً منه ، قاله محمد ابن الحنفية ، والحسن ، والسدي .
والثاني : يَنْهَون عن القرآن أن يُعْمَل بما فيه ، ويتباعدون من سماعه كيلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثالث : ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتباعدون عن اتباعه ، قال ابن عباس : نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتباعد عما جاء به ، فلا يؤمن به مع وضوح صدقه في نفسه .
واستشهد مقاتل بما دل على ذلك عن شعر أبي طالب بقوله :
ودعوتني وزَعَمْتَ أنَّكَ ناصِحِي ... فلقَدْ صَدَقْت وكُنْتَ ثَمَّ أميناً
وعرضتَ ديناً قد علِمْتُ بأنه ... من خيْرِ أَدْيانِ البَرِيةِ دِيناً
لولا الذَّمَامَةُ أو أُحَاذِرُ سُبَّةً ... لَوَجَدْتَني سَمْحاً بذالك مُبِيناً
فاذهب لأمرك ما عليك غَضَاضَةٌ ... وابشِرْ بذاك وقَرَّ مِنَكَ عيوناً
والله لن يَصِلُوا إيك بِجَمْعِهم ... حتى أُوسَّدَ في التُّرابِ دَفِيناً
فنزلت هذه الآية ، فقرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو طالب : أما أن أدخل في دينك فلا ، قال ابن عباس : لسابق القضاء في اللوح المحفوظ ، وبه قال عطاء ، والقاسم .

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

قوله عز وجل : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : عاينوها ، ومن عاين الشيء فقد وقف عليه .
والثاني : أنها كانت من تحتهم وهم فوقها ، فصاروا وقوفاً عليها .
والثالث : أنهم عرفوها بالدخول فيها ، ومن عرف الشيء فقد وقف عليه .
وذكر الكلبي وجهاً رابعاً : أن معناه ولو ترى إذ حُبِسُوا على النار .
{ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِأَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } تمنوا الرد إلى الدنيا التي هي دار التكليف ليؤمنوا ويصدقوا ، والتمني لا يدخله صدق ولا كذب ، لأنه ليس بخبر .
ثم قال تعالى : { بلْ بَدَالَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بدا لهم وبال ما كانوا يخفون .
والثاني : بدا لهم ما كان يخفيه بعضهم عن بعض ، قاله الحسن .
والثالث : بدا للأتباع مما كان يخفيه الرؤساء .
{ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } يعني ولو ردوا إلى ما تمنوا من الدنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر .
{ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه خبر مستأنف أخبر الله به عن كذبهم لا أنه عائد إلى ما تقدم من تمنّيهم ، لعدم الصدق والكذب في التمنِّي .
والثاني : { إِنَّهُمْ لَكَاذِبونَ } يعني في الإِخبار عن أنفسهم بالإِيمان إِن رُدُّوا .

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)

قوله عز وجل : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو ، فأما عمل الصالحات فيها فهو من عمل الآخرة ، فخرج من أن يكون لعباً ولهواً .
والثاني : وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو لاشتغالهم بها عما هو أولى منها ، قاله الحسن .
والثالث : أنهم كأهل اللعب واللهو لانقطاع لذاتهم وقصور مدتهم ، وأهل الآخرة بخلافهم لبقاء مدتهم واتصال لذتهم ، وهو معنى قوله تعالى : { وَلَلدَّارُ الأخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } لأنه قَدْ دام لهم فيها ما كان منقطعاً في غيرها .
{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن ذلك خير لكم .
وذكر بعض الخاطرية قولاً رابعاً : أنها لعب لمن جمعها ، لهو لمن يرثها .

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)

قوله عز وجل : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ } يعني من التكذيب . لك ، والكفر بي .
{ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكّذَّبونَكَ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : فإنهم لا يكذبونك بحجة ، وإنما هو تكذيب بهت وعناد ، فلا يحزنك ، فإنه لا يضرك ، قاله أبو صالح ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : فإنهم لا يكذبون قولك لعلمهم بصدقك ، ولكن يكذبون ما جئت به ، قاله ناجية بن كعب .
والثالث : لا يكذبونك في السر لعلمهم بصدقك ، ولكنهم يكذبونك في العلانية لعداوتهم لك ، قاله الكلبي .
والرابع : معناه أن تكذيبهم لقولك ليس بتكذيب لك ، لأنك رسول مُبَلّغ ، وإنما هو تكذيب لآياتي الدالة على صدقك والموجبة لقبول قولك ، وقد بين ذلك بقوله تعالى : { وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بئَأَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي يكذبون .
وقرأ نافع والكسائي : { لاَ يُكَذِّبُونَكَ } وهي قراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتأويلها : لا يجدونك كاذباً .
قوله عز وجل : { . . . وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } يحتمل أربعة تأويلات :
أحدها : معناه لا مُبطِل لحُجَّتِهِ ولا دافع لبرهانه .
والثاني : معناه لا رَادَّ لأمره فيما قضاه من نصر أوليائه ، وأوجبه من هلاك أعدائه .
والثالث : معناه لا تكذيب لخبره فيما حكاه من نصر مَنْ نُصِرَ وهلاك مَنْ أُهْلِكَ .
والرابع : معناه لا يشتبه ما تخرّصه الكاذبون عليه بما بلَّغه الأنبياء عنه .
{ وَلَقْدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ } فيما صبروا عليه من الأذى ، وقُوبلوا عليه من النصر .
قوله عز وجل : { وَإِن كَانَ كَبُرَ إِعْرَاضُهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : [ إعراضهم ] عن سماع القرآن .
والثاني : عن استماعك .
{ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ } أي سرباً ، وهو المسلك فيها ، مأخوذ من نافقاء اليربوع .
{ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مصعداً ، قاله السدي .
والثاني : دَرَجاً ، قاله قتادة .
والثالث : سبباً ، قاله الكلبي وقد تضمن ذلك قول كعب بن زهير .
ولا لَكُمَا مَنْجىً عَلَى الأرْضِ فَابْغِيَا ... به نَفَقاً أوْ في السَّمَوَات سُلَّماً
{ فَتَأْتِيَهُم بئَايَةٍ } يعني أفضل من آيتك ولن تستطيع ذلك ، لم يؤمنوا لك ، فلا يحزنك تكذيبهم وكفرهم ، قال الفراء : وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره : فتأتيهم بآية فافعل .
{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } يعني بالإلجاء والاضطرار .
قال ابن عباس : كل موضع قال الله فيه { ولو شاءَ اللهُ } فإنه لم يشأ .
{ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ } يعني تجزع في مواطن الصبر ، فتصير بالأسف والتحسر مقارباً لأحوال الجاهلين .
قوله عز وجل : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } الاستجابة هي القبول ، والفرق بينها وبين الجواب : أن الجواب قد يكون قبولاً وغير قبول .
وقوله : { الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } فيه تأويلان :
أحدهما : يعني الذين يعقلون ، قاله الكلبي .
والثاني : الذين يسمعون طلباً للحق ، لأن الاستجابة قد تكون من الذين يسمعون طلباً للحق ، فأما من لا يسمع ، أو يسمع لكن لا بقصد طلب الحق ، فلا يكون منه استجابة .
{ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ } فيه قولان :
أحدهما : أن المراد بالموتى هنا الكفار ، قاله الحسن ، وقتادة ومجاهد .
ويكون معنى الكلام : إنما يستجيب المؤمنون الذين يسمعون ، والكفار لا يسمعون إلا عند معاينة الحق اضطراراً حين لا ينفعهم حتى يبعثم الله كفاراً ثم يحشرون كفاراً .
والقول الثاني : أنهم الموتى الذين فقدوا الحياة ، وهو مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ، ويكون معنى الكلام : كما أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله فكذلك الذين لا يسمعون .

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

قوله عز وجل : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ } يعني آية تكون دليلاً على صدقه وصحة نبوته .
{ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً } يعني آية يجابون بها إلى ما سألوا .
{ وَلَكِنَّ أَكْثرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يحتمل وجهين .
أحدهما : لا يعلمون المصلحة في نزول الآية .
الثاني : لا يعلمون أن زيادة الآيات إذا لم يؤمنوا بها ، توجب الزيادة من عذابهم ، لكثرة تكذيبهم .
فإن قيل : فهذه الآية لا تدل على أن الله لم ينزل عليهم آية تقودهم إلى التصديق فلم يلزمهم الإِيمان ، قيل : هذا خطأ ، لأن ما أظهره الله من الآيات الدالة على صدق رسوله وصحة نبوته ، أظهر من أن يُخْفَى ، وأكثر من أن ينكر ، وأن القرآن مع عجز من تحداهم الله من الآيات بمثله ، وما تضمنه من أخبار الغيوب وصدق خبره عما كان ويكون أبلغ الآيات وأظهر المعجزات .
وإنما اقترحوا آية سألوها إعناتاً ، فلم يجابوا مع قدرة الله تعالى على إنزالها ، لأنه لو أجابهم إليها لاقترحوا غيرها إلى ما لا نهاية له ، حتى ينقطع الرسول بإظهار الآيات عن تبليغ الرسالة .
وإنما يلزمه إظهار الآيات في موضعين :
أحدهما : عند بعثه رسولاً ليكون مع استدعائه لهم دليل على صدقه .
والثاني : أن يسألها من يعلم الله منه أنه إن أظهرها له آمن به ، وليس يلزمه إظهارها في غير هذين الموضعين .
قوله عز وجل : { وَمَا من دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ } دابة بمعنى ما يدب على الأرض من حيوان كله .
{ وَلاَ طَآئِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } يعني في الهواء ، جميع بين ما هو على الأرض وفيها وما ارتفع عنها .
{ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم } في الأمم تأويلان :
أحدهما : أنها الجماعات .
والثاني : أنها الأجناس ، قاله الفراء .
وليس يريد بقوله : { أَمْثَالُكُم } في التكليف كما جعل قوم اشتبه الظاهر عليهم وتعلقوا مع اشتباه الظاهر برواية أبي ذر ، قال : انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا؟ قلت : لا ، قال : « لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا » قال أبو ذر : لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكّرنا منه علماً ، لأنه إذا كان العقل سبباً للتكليف كان عدمه لارتفاع التكليف .
والمراد بقوله : { أَمْثَالُكُم } وجهان :
أحدهما : أنها أجناس وتتميز في الصور والأسماء .
والثاني : أنها مخلوقة لا تُظْلَم ، ومرزوقة لا تُحْرَم .
ثم قال تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ } فيه تأويلان :
أحدهما : ما تركنا خلقاً إلا أوجبنا له أجلاً ، والكتاب هنا هو إيجاب الأجل كما قال تعالى : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ } [ الرعد : 38 ] قاله ابن بحر وأنشد لنابغة بني جعدة :
بلغو الملوك وأدركوا ال ... كتاب وانتهى الأجل

والتأويل الثاني : وهو قول الجمهور : أن الكتاب هو القرآن الكريم الذي أنزله ، ما أخل فيه بشيء من أمور الدين ، إما مُفَصَّلاً يَسْتَغْنِي عن التفسير ، أو مجْمَلاً جعل إلى تفسيره سبيلاً .
يحتمل تأويلاً ثالثاً : ما فرطنا فيه بدخول خلل عليه ، أو وجود نقص فيه ، فكتاب الله سليم من النقص والخلل .
{ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرْونَ } فيه تأويلان :
أحدهما : أن المراد بالحشر الموت ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن الحشر الجمع لبعث الساعة .
فإن قيل : فإذا كانت غير مُكَلَّفَةٍ فلماذا تبعث يوم القيامة؟ قيل : ليس التكليف علة البعث ، لأن الأطفال والمجانين يبعثون وإن كانوا في الدنيا غير مكلفين ، وإنما يبعثها ليعوض ما استحق العوض منها بإيلام أو ظلم ، ثم يجعل ما يشاء منها تراباً ، وما شاء من دواب الجنة يتمتع المؤمنون بركوبه ورؤيته .

قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)

قوله عز وجل : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكَّرُوا بِهِ } معنى ذلك أنهم تركوا ما ذَكَّرَهُم الله من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله .
{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمُ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } يعني من نِعَمِ الدنيا وسَعَة الرزق .
وفي إنعامه عليهم مع كفرهم وجهان :
أحدهما : ليكون إنعامه عليهم داعياً إلى إيمانهم . والثاني : ليكون استدراجاً وبلوى ، وقد روى ابن لهيعة بإسناده عن عقبة ابن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إِذَا رَأَيْتَ اللَّه يعِطي العِبَادَ مَا يَشَاءُونَ عَلَى مَعَاصِيهِم إِيَّاهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ » ثم تلا : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابِ كُلِّ شَيْءٍ } .
{ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ } يعني من النِّعَمْ فلم يؤمنوا .
{ أَخَذَنَاهُم بَغْتَةً } يحتمل وجهين .
أحدهما : أنه تعجيل العذاب المُهْلِك جزاء لأمرين .
أحدهما : لكفرهم به .
والثاني : لكفرهم بنِعَمِهِ .
والوجه الثاني : هو سرعة الموت عند الغفلة عنه بالنِّعَمِ قَطْعاً للذة ، وتعذيباً للحسرة .
ثم قال تعالى : { فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } وفيه خمسة تأويلات :
أحدها : أن الإِبلاس : الإِياس قال عدي بن زيد :
ملك إذا حل العفاة ببابه ... غبطوا وأنجح منهم المستبلس
يعني الآيس .
والثاني : أنه الحزن والندم .
والثالث : الخشوع .
والرابع : الخذلان .
والخامس : السكوت وانقطاع الحجة ، ومنه قول العجاج :
يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً ... قال نعم أعرفه وأبلسا

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

قوله عز وجل : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزآئِنُ اللَّهِ } فيه وجهان :
أحدهما : الرزق ، أي لا أقدر على إغناء فقير ، ولا إفقار غني ، قاله الكلبي .
والثاني : مفاتيح خزائن العذاب لأنه خَوَّفهُم منه ، فقالوا متى يكون هذا؟ قاله مقاتل .
{ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ } فيه وجهان :
أحدهما : علم الغيب في نزول العذاب عليهم متى يكون؟ ، قاله مقاتل .
والثاني : علم جميع ما غاب من ماض ومستقبل ، إلا أن المستقبل لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه الله تعالى على علمه من أنبيائه ، وأما الماضي فقد يعلمه المخلوقون من أحد الوجهين : إما من معاينة أو خبر ، فإن كان الإِخبار عن مستقبل ، فهو من آيات الله المعجزة ، وإن كان عن ماض فإن علم به غير المخبر والمخبر لم يكن معجزاً ، وإن لم يعلم به أحد وعلم به المخبِر وحده كان معجزاً ، فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه علم الغيب ، لأنه لا يعلمه غير الله تعالى ، وإن ما أخبر به من غيب فهو عن الله ووحيه .
{ َوَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه يريد أنه لا يقدر على ما يعجز عنه العباد ، وإن قدرت عليه الملائكة .
والثاني : أنه يريد بذلك أنه من جملة البشر وليس بمَلَك ، لينفي عن نفسه غُلُوَّ النصارى في المسيح وقولهم : إنه ابن الله .
ثم في نفيه أن يكون ملكاً وجهان :
أحدهما : أنه بَيَّنَ بذلك فضل الملائكة على الأنبياء ، لأنه دفع عن نفسه منزلة ليست له .
والثاني : أنه أراد إني لست ملكاً في السماء ، فأعلم غيب السماء الذي تشاهده الملائكة ويغيب عن البشر ، وإن كان الأنبياء أفضل من الملائكة مع غيبهم عما تشاهده الملائكة .
{ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن أخبركم إلا بما أخبرني الله به .
والثاني : أن أفعل إلا ما أمرني الله به .
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : الجاهل والعالم .
والثاني : الكافر والمؤمن .
{ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } يحتمل وجهين : أحدهما : فيما ضربه الله من مثل الأعمى والبصير .
الثاني : فيما بينه من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله .
قوله عز وجل : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِّي } .
روي أن سبب نزول هذه الآية أن الملأ من قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من ضعفاء المسلمين مثل بلال ، وعمار ، وصهيب ، وخباب بن الأرت ، وابن مسعود ، فقالوا : يا محمد اطرد عنا موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا ، فلعلك إن طردتهم نتبعك ، فقال عمر : لو فعلت ذلك حتى نعلم ما الذي يريدون وإِلاَمَ يصيرون ، فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى نزلت هذه الآية . ونزل في الملأ من قريش { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } الآية ، فأقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله فيه : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمَنُونَ بِئَأَيَاتِنا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } الآية .

وفي قوله تعالى : { الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } أربعة تأويلات :
أحدها : أنها الصلوات الخمس ، قاله ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : أنه ذكر الله ، قاله إبراهيم النخعي .
والثالث : تعظيم القرآن ، قاله أبو جعفر .
والرابع : أنه عبادة الله ، قاله الضحاك .
ومعنى قوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فيه قولان :
أحدهما : يريدون بدعائهم ، لأن العرب تذكر وجه الشيء إرادة له مثل قولهم : هذا وجه الصواب تفخيماً للأمر وتعظيماً .
والثاني : معناه يريدون طاعته لقصدهم الوجه الذي وجَّهَهُم إليه .
{ مَا عَلَيكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } فيه ثلاث أقوال :
أحدها : يعني ما عليك من حساب عملهم من شيء من ثواب أو عقاب .
{ وَمَا مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ } يعني وما من حساب عملك عليهم من شيء ، لأن كل أحد مؤاخذ بحساب عمله دون غير ، قاله الحسن .
والثاني : معناه ما عليك من حساب رزقهم وفقرهم من شيء .
والثالث : ما عليك كفايتهم ولا عليهم كفايتك ، والحساب الكفاية كقوله تعالى : { عَطَاءً حِسَاباً } [ النبأ : 36 ] أي تاماً كافياً ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } يعني لاختلافهم في الأرزاق ، والأخلاق ، والأحوال .
وفي إفتان الله تعالى لهم قولان :
أحدهما : أنه ابتلاؤهم واختبارهم ليختبر به شكر الأغنياء وصبر الفقراء ، قاله الحسن ، وقتادة .
والثاني : تكليف ما يشق على النفس مع قدرتها عليه .
{ لَّيَقُولُواْ أَهَؤُلآءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا } وهذا قول الملأ من قريش للضعفاء من المؤمنين ، وفيما مَنَّ الله تعالى به عليهم قولان :
أحدهما : ما تفضل الله به عليهم من اللطف في إيمانهم .
والثاني : ما ذكره من شكرهم على طاعته .
قوله عز وجل : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بئَأَيَاتِنَا } يعني به ضعفاء المسلمين وما كان من شأن عمر .
{ فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه أمر بالسلام عليهم من الله تعالى ، قاله الحسن .
والثاني : أنه أمر بالسلام عليهم من نفسه تكرمة لهم ، قاله بعض المتأخرين .
وفي السلام قولان :
أحدهما : أنه جمع السلامة .
والثاني : أنه السلام هو الله ومعناه ذو السلام .
{ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } فيه قولان :
أحدهما : معناه أوجب الله على نفسه .
والثاني : كتب في اللوح المحفوظ على نفسه .
و { الرَّحْمَةَ } يحتمل المراد بها هنا وجهين :
أحدهما : المعونة .
والثاني : العفو .
{ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءَاً بِجَهَالَةٍ } في الجهالة تأويلان :
أحدهما : الخطيئة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والضحاك .
والثاني : ما جهل كراهية عاقبته ، قاله الزجاج .
ويحتمل ثالثاً : أن الجهالة هنا ارتكاب الشبهة بسوء التأويل .
{ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } يعني تاب من عمله الماضي وأصلح في المستقبل .

وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)

قوله عز وجل : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّي } في البينة هنا قولان :
أحدهما : الحق الذي بان له .
والثاني : المُعْجِزُ في القرآن .
{ وَكَذَّبْتُم بِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : وكذبتم بالبينة .
والثاني : وكذبتم بربكم .
{ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ } فيه قولان :
أحدهما : ما يستعجلون به من العذاب الذي أُوعِدُوا به قبل وقته ، كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } ، قاله الحسن .
والثاني : ما استعجلوه من اقتراح الآيات لأنه طلب الشيء فى غير وقته ، قاله الزجاج .
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ } فيه تأويلان :
أحدهما : الحكم في الثواب والعقاب .
والثاني : الحكم في تمييز الحق من الباطل .
{ يَقُصُّ الْحَقَّ } قرأ ابن كثير ونافع وعاصم { يَقُصُّ } بصاد غير معجمة من القَصَص وهو الإِخبار به ، وقرأ الباقون { يَقْضِي } بالضاد معجمة من القضاء ، وهو صنع الحق وإتمامه .
قوله عز وجل : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ } فيه وجهان : أحدهما : خزائن غيب السموات والأرض والأرزاق والأقدار ، وهو معنى قول ابن عباس .
والثاني : الوصول إلى العلم بالغيب .
{ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } فيه وجهان :
أحدهما : أن ما في البّر ما على الأرض ، وما في البحر ما على الماء ، وهو الظاهر ، وبه قال الجمهور .
والثاني : أن البَرّ القفر ، والبحر القُرى لوجود الماء فيها ، فلذلك سميت بحراً ، قاله مجاهد .
{ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } يعني قبل يبسها وسقوطها .
{ وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما في بطنها من بذر .
والثاني : ما تخرجه من زرع .
{ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الرطب النبات واليابس الجواهر .
والثاني : أن الرطب الحي ، واليابس الميت .
{ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } يعني في اللوح المحفوظ .

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيلِ } يعني به النوم ، لأنه يقبض الأرواح فيه عن التصرف ، كما يقبضها بالموت ، ومنه قول الشاعر :
إنَّ بَنِي الأَدْرَدِ لَيْسوا مِن أَحَدْ ... وَلاَ تَوَفَّاهُم قَرَيْشٌ في العَدَدْ
أي لا تقبضهم .
{ وََيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } أي ما كسبتم لأنه مستفاد بعمل الجارحة ، ومنه جوارح الطير لأنها كواسب بجوارحها ، وجَرْحُ الشهادة هو الطَّعْن فيها لأنه مكسب الإثم ، قاله الأعشى :
وهوَ الدَّافِعُ عن ذي كُرْبَةٍ ... أيْدِي القَوْمِ إذا الْجَانِي اجْتَرَحْ
{ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } يعني في النهار باليقظة ، وتصرف الروح بعد قبضها بالنوم .
{ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمّىً } يعني استكمال العمر وانقضاء الأجل بالموت .
{ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } يعني بالبعث والنشور في القيامة .
{ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا من خير وشر .
قوله عز وجل : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه أعلى قهراً ، فلذلك قال : { فَوْقَ عِبَادِهِ } .
والثاني : أن الأقدر إذا استحق صفة المبالغة عبَّر عنه بمثل هذه العبارة ، فقيل : هو فوقه في القدرة أي أقدر ، وفوقه في العلم أي أعلم .
{ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً } فيه وجهان :
أحدهما : أنه جوارحهم التي تشهد عليهم بما كانوا يعملون .
والثاني : الملائكة . ويحتمل { حَفَظَةً } وجهين :
أحدهما : حفظ النفوس من الآفات .
والثاني : حفظ الأعمال من خير وشر ، ليكون العلم بإتيانها أزجر عن الشر ، وأبعث على الخير .
{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } يعني أسباب الموت ، بانقضاء الأجل .
فإن قيل : المتولِّي لقبض الروح مَلَك الموت ، وقد بين ذلك بقوله تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم } [ السجدة : 11 ] فكيف قال : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } والرسل جمع .
قيل : لأن الله أعان مَلَك الموت بأعوان من عنده يتولون ذلك بأمره ، فصار التوفِّي من فعل أعوانه ، وهو مضاف إليه لمكان أمره ، كما يضاف إلى السلطان فعل أعوانه من قتل ، أو جلد ، إذا كان عن أمره .
{ وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : لا يؤخرون .
الثاني : لا يُضَيِّعُونَ ، قاله ابن عباس .
قوله عز وجل : { ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُم الْحَقِّ } وفي متولِّي لرد قولان :
أحدهما : أنهم الملائكة التي توفتهم .
والثاني : أنه الله بالبعث والنشور .
وفي ردهم إلى الله وجهان :
أحدهما : معناه ردهم إلى تدبير الله وحده ، لأن الله دبرهم عند خلقهم وإنشائهم ، مكَّنهم من التصرف فصاروا في تدبير أنفسهم ، ثم كَفَّهم عنه بالموت فصاروا في تدبير الله كالحالة الأولى ، فصاروا بذلك مردودين إليه .
والثاني : أنهم ردوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله ، فجعل الرد إلى ذلك الموضع رداً إليه .
فإن قيل : فكيف قال : { مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } وقد قال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم } [ محمد : 11 ] . قيل : عنه جوابان :
أحدهما : أنه قال هذا لأنهم دخلوا في جملة غيرهم من المؤمنين المردودين فعمَّهم اللفظ .

والثاني : أن المولى قد يعبر به عن الناصر تارة وعن السيد أخرى ، والله لا يكون ناصراً للكافرين ، وهو سيد الكافرين والمؤمنين .
و { الْحَقِّ } هنا يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدهما : أن الحق هو من أسمائه تعالى .
والثاني : لأنه مستحق الرد عليه .
والثالث : لحُكْمِهِ فيهم بالرد .
{ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ } يعني القضاء بين عباده .
فإن قيل : فقد جعل لغيره الحكم؟
فعنه جوابان :
أحدهما : أن له الحكم في يوم القيامة وحده .
والثاني : أن غيره يحكم بأمره فصار الحكم له .
ويحتمل قوله : { أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ } وجهاً ثانياً : أن له أن يحكم لنفسه فصار بهذا الحكم مختصاً .
{ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني سرعة الحكم بين العباد لتعجيل الفصل ، وعبر عن الحكم بالحساب من تحقيق المستوفِي بهما من قليل وكثير .
والثاني : وهو الظاهر أنه أراد سرعة محاسبة العباد على أعمالهم .
ويحتمل مراده بسرعة حسابه وجهين .
أحدهما : إظهار قدرته بتعجيل ما يعجز عنه غيره .
والثاني : أنه يبين به تعجيل ما يستحق عليه من ثواب ، وتعجيل ما يستحق على غيره من عقاب جمعاً بين إنصافه وانتصافه .

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

قوله عز وجل : { قَلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن العذاب الذي من فوقهم الرجم ، والذي من تحت أرجلهم الخسف ، قاله ابن جبير ، ومجاهد ، وأبو مالك .
والثاني : أن العذاب الذي من فوقهم أئمة السوء ، والعذاب الذي من تحت أرجلهم عبيد السوء ، قاله ابن عباس .
والثالث : أن الذي من فوقهم الطوفان ، والذي من تحت أرجلهم الريح ، حكاه علي بن عيسى .
ويحتمل أن العذاب الذي من فوقهم طوارق السماء التي ليست من أفعال العباد لأنها فوقهم ، والتي من تحت أرجلهم ما كان من أفعال العباد لأن الأرض تحت أرجل جميعهم .
{ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } فيه تأويلان :
أحدهما : أنها الأهواء المُخْتَلَقَة ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنها الفتن والاختلاف ، قاله مجاهد .
ويحتمل ثالثاً : أي يسلط عليكم أتباعكم الذين كانوا أشياعكم ، فيصيروا لكم أعداء بعدما كانوا أولياء ، وهذا من أشد الانتقام أن يستعلي الأصاغر على الأكابر .
روي أن موسى بن عمران عليه السلام دعا ربه على قوم فأوحى الله إليه : أو ليس هذا هو العذاب العاجل الأليم .
هذا قول المفسرين من أهل الظاهر ، وَتَأَوَّلَ بعض المتعمقين في غوامض المعاني { عَذَاباً مِن فَوقِكُمْ } معاصي السمع والبصر واللسان { أَوْمِن تَحْتِ أَرْجلِكُمْ } المشي إلى المعاصي حتى يواقعوها ، وما بينهما يأخذ بالأقرب منهما { أَوَيَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } يرفع من بينكم الأُلفة .
{ وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } تكفير أهل الأهوال بعضهم بعضاً ، وقول الجمهور : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } يعني بالحروب والقتل حتى يفني بعضهم بعضاً ، لأنه لم يجعل الظفر لبعضهم فيبقى .
{ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : نفصل آيات العذاب وأنواع الانتقام .
والثاني : نصرف كل نوع من الآيات إلى قوم ولا يعجزنا أن نجمعها على قوم .
{ لَعَلَّهُم يَفْقَهُونَ } أي يتعظون فينزجرون .
واختلف أهل التأويل في نزول هذه الآية على قولين :
أحدهما : أنها في أهل الصلاة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأن نزولها شق على النبي صلى الله عليه وسلم ، [ فقام ] فصلى صلاة الضحى وأطالها فقيل له : ما أطلت صلاة كاليوم ، فقال : « إِنَّهَا صَلاَةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ ، إنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُجِيرَنِي مِنْ أَرْبعٍ فَأَجَارَنِي مِنْ خَصْلَتِينِ وَلَمْ يُجِرْنِي مِنْ خَصْلَتَينِ : سَأَلْتُهُ أَلاَّ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِعَذَابٍ مِنْ فَوقِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَومِ نُوْحٍ ، وَبِقَومِ لُوطٍ فَأَجَارَنِي ، وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يَهْلِكَ أُمَّتِي بعذَاب مِنْ تَحْتِ أَرْجلِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَارُونَ فَأَجَارنِي ، وَسَأَلْتُهُ أََلاَّ يُفَرِّقَهُمْ شِيَعاً فَلَمْ يُجِرْنِي ، وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يُذِيقَ بَعْضَهُم بَأْسَ بَعْضٍ فَلَمْ يُجِرْنِي » وَنَزَلَ عَلَيهِ قَولُه تعالى : { الم أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 221 ]
والقول الثاني : أنها نزلت في المشركين ، قاله بعض المتأخرين .

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

قوله عز وجل : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ } وفيما كذَّبوا به قولان :
أحدهما : أنه القرآن ، قاله الحسن ، والسدي .
والثاني : تصريف الآيات ، قاله بعض المتأخرين .
{ وَهُوَ الْحَقُّ } يعني ما كذَّبوا به ، والفرق بين الحق والصواب أن الحق قد يُدْرَكُ بغير طلب ، والصواب لا يُدْرَكُ إلا بطلب .
{ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه لست عليكم بحفيظ لأعمالكم لأجازيكم عليها ، وإنما أنا منذر ، قاله الحسن .
والثاني : لست عليكم بحفيظ أمنعكم من أن تكفروا ، كما يمنع الوكيل على الشيء من إلحاق الضرر به ، قاله بعض المتأخرين .
والثالث : معناه لست آخذكم بالإِيمان اضطراراً وإجباراً ، كما يأخذ الوكيل بالشيء ، قاله الزجاج .
{ لِّكُلِ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدهما : معناه أن لكل خَبَرٍ أَخْبَرَ الله تعالى به من وعد أو وعيد مستقراً في مستقبل الوقت أو ماضيه أو حاضره في الدنيا وفي الآخرة ، وهذا معنى قول ابن عباس ، ومجاهد .
والثاني : أنه وعيد من الله للكافرين في الآخرة لأنهم لا يقرون بالبعث ، قاله الحسن .
والثالث : أنه وعيد لهم بما ينزل بهم في الدنيا ، قاله الزجاج .
قوله عز وجل : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : وما على الذين يتقون الله في أوامره ونواهيه من حساب الكفار فيما فعلوه من الاستهزاء والتكذيب مآثم يؤاخذون بها ، ولكن عليهم أن يذكروهم بالله وآياته لعلهم يتقون ما هم عليه من الاستهزاء والتكذيب ، قاله الكلبي .
والثاني : وما على الذين يتقون الله من الحساب يوم القيامة ما على الكفار في الحساب من التشديد والتغليظ لأن محاسبة المتقين ذكرى وتخفيف ، ومحاسبة الكفار تشديد وتغليظ لعلهم يتقون إذا علموا ذلك .
والثالث : وما على الذين يتقون الله فيما فعلوه من رد وصد حساب ، ولكن اعدلوا إلى الذكرى لهم بالقول قبل الفعل ، لعلهم يتقون إذا علموا .
ويحتمل هذا التأويل وجهين :
أحدهما : يتقون الاستهزاء والتكذيب .
والثاني : يتقون الوعيد والتهديد .

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

قوله عز وجل : { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } فيهم قولان :
أحدهما : أنهم الكفار الذين يستهزئون بآيات الله إذا سمعوها ، قاله علي بن عيسى .
والثاني : أنه ليس قوم لهم عيد يلهون فيه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن أعيادهم صلاة وتكبير وبر وخير ، قاله الفراء .
{ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : معناه وغرتهم الحياة الدنيا بالسلامة فيها ، ونيل المطلوب منها .
والثاني : معناه وغرتهم الدنيا بالحياة والسلامة منها ، فيكون الغرور على الوجه الأول بالحياة ، وعلى الثاني بالدنيا .
{ وَذَكَّرَ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } قيل معناه أن لا تبسل كما قال تعالى : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] بمعنى أن لا تضلوا .
وفي قوله : { أَن تُبْسَلَ } ستة أوجه :
أحدها : أن تسلم ، قاله الحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، والسدي .
والثاني : أن تُحْبَس ، قاله قتادة .
والثالث : أن تُفْضح ، قاله ابن عباس .
والرابع : أن تُؤْخَذ بما كسبت ، قاله ابن زيد .
والخامس : أن تُجْزَى ، قاله الكلبي .
والسادس : أن تُرْتَهن ، قاله الفراء ، من قولهم أسد باسل لأن فريسته مُرْتَهَنَة معه لا تَفْلِت منه ، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي :
وإبسالي بني بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق
وقوله : بعوناه أي جنيناه ، وأصل الإبسال التحريم من قولهم : شراب بَسْل اي حرام ، قال الشاعر :
بَكَرت تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ في النَّدى ... بسلٌ عليكِ مَلاَمَتِي وَعِتَابي
أي حرام عليك .
وفي قوله تعالى : { . . . وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } تأويلان :
أحدهما : معناه وإن تفد كل فدية من جهة المال والثروة ، قاله قتادة ، والسدي ، وابن زيد .
والثاني : من جهة الإِسلام والتوبة ، قاله الحسن .
واختلف في نسخها على قولين :
أحدهما : أنها منسوخة بقوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم } [ التوبة : 5 ] قاله قتادة .
والثاني : أنها ثابتة على جهة التهديد كقوله تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } [ المدثر : 11 ] ، قاله مجاهد .

قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

قوله تعالى : { قَلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا } يعني الأصنام ، وفي دعائها في هذا الموضع تأويلان :
أحدهما : عبادتها .
والثاني : طلب النجاح منها .
فإن قيل : فكيف قال ولا يضرنا؟ ودعاؤها لما يستحق عليه من العقاب ضارٌّ؟
قيل : معناه ما لا يملك لنا ضراً ولا نفعاً .
{ وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } بالإِسلام .
{ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ . . . } فيه قولان :
أحدهما : أنه استدعاؤها إلى قصدها واتباعها ، كقوله تعالى : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيهِم } [ إبراهيم : 37 ] أي تقصدهم وتتبعهم .
والثاني : أنها أَمْرُهَا بالهوى .
وحكى أبو صالح عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وامرأته حين دعَوا ابنهما عبد الرحمن إلى الإِسلام والهدى أن يأتيهما .
قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ } في الحق الذي خلق به السموات والأرض أربعة أقاويل :
أحدها : أنه الحكمة .
والثاني : الإِحسان إلى العباد .
والثالث : نفس خلقها فإنه حق .
والرابع : يعني بكلمة الحق .
{ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ } فيه قولان :
أحدهما : أن يقول ليوم القيامة : كن فيكون ، لا يثنِّي إليه القول مرة بعد أخرى ، قاله مقاتل .
والثاني : أنه يقول للسموات كوني صوراً يُنْفَخ فيه لقيام الساعة ، فتكون صوراً مثل القرآن ، وتبدل سماءً أخرى ، قاله الكلبي .
وفي قوله تعالى : { . . . وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } قولان :
أحدهما : أن الصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء ، والثانية للإِنشاء علامة للانتهاء والابتداء ، وهو معنى قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] .
والثاني : أن الصور جمع صورة تنفخ فيها روحها فتحيا .
ثم قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ . . . } فيه قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى خلق السموات والأرض ، والغيب ما يغيب عنكم ، والشهادة ما تشاهدون .
والثاني : أنه عائد إلى نفخ الصور هو عالم الغيب والشهادة المتولي للنفخة .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ ءَازَرَ . . . } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدهما : أن آزر اسم أبيه ، قاله الحسن ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق ، قال محمد : كان رجلاً من أهل كوتى قرية من سواد الكوفة .
والثاني : أن آزر اسم صنم ، وكان اسم أبيه تارح ، قال مجاهد .
والثالث : أنه ليس باسم ، وإنما هو صفة سب بعيب ، ومعناه معوج ، كأنه عابه باعوجاجه عن الحق ، قاله الفراء .
فإن قيل : فكيف يصح من إبراهيم - وهو نبي - سبَّ أباه؟
قيل : لأنه سبّه بتضييعه حق الله تعالى ، وحق الوالد يسقط في تضييع حق الله .
قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ } ذلك وذاك وذا : إشارات ، إلا أن ذا لما قَرُبَ ، وذلك لما بَعُد ، وذاك لتفخيم شأن ما بَعُدَ .
وفي المراد بملكوت السموات والأرض خمسة أوجه :
أحدها : أنه خلق السموات والأرض ، قاله ابن عباس .
والثاني : مُلْك السموات والأرض .
واختلف من قال بهذا فيه على وجهين :
أحدهما : أن الملكوت هو المُلْك بالنبطية ، قاله مجاهد .
والثاني : أنه المُلْك بالعربية ، يقال مُلْك وملكوت كما يقال رهبة ورهبوت ، ورحمة ورحموت ، والعرب تقول : رهبوت خير من رحموت ، أي أن نُرْهَب خير من أن نُرْحَم ، قاله الأخفش .
والثالث : معناه آيات السموات والأرض ، قاله مقاتل .
والرابع : هو الشمس والقمر والنجوم ، قاله الضحاك .
والخامس : أن ملكوت السماوات : القمر ، والنجوم ، والشمس ، وملكوت الأرض : الجبال ، والشجر ، والبحار ، قاله قتادة .
{ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } يحتمل وجهين : أحدهما : من الموقنين لوحدانية الله تعالى وقدرته .
والثاني : من الموقنين نبوته وصحة رسالته . قوله عز وجل : { فَلمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيلُ رَءَا كَوْكَباً } قال مجاهد : ذكر لنا أنه رأى الزهرة طلعت عشاءً .
{ قَالَ هَذَا رَبِّي } ومعنى جَنَّ عليه الليل ، أي ستره ، ولذلك سمي البستان جَنَة لأن الشجر يسترها ، والجِنُّ لاستتارهم عن العيون ، والجُنُون لأنه يستر العقل ، والجَنِين لأنه مستور في البطن ، والمِجَنّ لأنه يستر المتترس ، قال الهذلي :
وماء وردت قيل الكرى ... وقد جنه السدف الأدهم
وفي قوله تعالى : { هَذَا رَبِّي } خمسة أقاويل :
أحدها : أنه قال : هذا ربي في ظني ، لأنه في حال تقليب واستدلال .
والثاني : أنه قال ذلك اعتقاداً أنه ربه ، قاله ابن عباس .
والثالث : أنه قال ذلك في حال الطفولية والصغر ، لأن أمه ولدته في مغارة حذراً عليه من نمرود ، فلما خرج عنه قال هذا القول قبل قيام الحجة عليه ، لأنها حال لا يصح فيها كفر ولا إيمان ، ولا يجوز أن يكون قال ذلك بعد البلوغ .
والرابع : أنه لم يقل ذلك قول معتقد ، وإنما قاله على وجه الإِنكار لعبادة الأصنام ، فإذا كان الكوكب والشمس القمر وما لم تصنعه يد ولا عَمِلَه بشر لم تكن معبودة لزوالها ، فالأصنام التي هي دونها أولى ألاّ تكون معبودة .

والخامس : أنه قال ذلك توبيخاً على وجه الإِنكار الذي يكون معه ألف الاستفهام وتقديره : أهذا ربي ، كما قال الشاعر :
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجه هم هم
بمعنى أهم هم؟
{ فَلَمَّا أَفَلَ } أي غاب ، قال ذو الرمة :
مصابيح ليست باللواتي يقودها ... نجوم ولا بالآفلات الدوالك
{ قَالَ لاَ أُحِبُّ الأفِلِينَ } يعني حُبَّ رَبٍّ معبود ، وإلا فلا حرج في محبتهم غير حب الرب .
{ فَلمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغاً } أي طالعاً ، وكذلك بزغت الشمس أي طلعت .
فإن قيل : فَلِمَ كان أفولها دليلاً على أنه لا يجوز عبادتها وقد عبدها مع العلم بأفولها خلق من العقلاء؟ قيل لأن تغيرها بالأفول دليل على أنها مُدَبَّرة محدثة ، وما كان بهذه الصفة استحال أن يكون إلهاً معبوداً .

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

قوله تعالى : { الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلمٍ } في الظلم ها هنا قولان :
أحدهما : أنه الشرك ، قاله ابن مسعود ، وأُبَيّ بن كعب ، روى ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين فقالوا : ما منَّا من أحد إلا وهو يظلم نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لَيسَ كَمَا تَظُنُّونَ ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لَقْمَانُ لابْنِه » { يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الْشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
والثاني : أنه سائر أنواع الظلم .
ومن قال بهذا اختلفوا في عمومها وخصوصها على قولين :
أحدهما : أنها عامة .
والثاني : أنها خاصة .
واختلف من قال بتخصيصها فيمن نزلت على قولين :
أحدهما : أن هذه الآية نزلت في إبراهيم خاصة وليس لهذه الأمة منها شيء ، قاله علي كرّم الله وجهه .
والثاني : أنها فيمن هاجر إلى المدينة ، قاله عكرمة .
واختلفوا فيمن كانت هذه الآية جواباً منه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه جواب من الله تعالى فصل به بين إبراهيم ومن حَاجّه من قومه ، قاله ابن زيد ، وابن إسحاق .
والثاني : أنه جواب قومه لما سألهم { أَيُّ الْفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأمْنِ } ؟ فأجاوبا بما فيه الحجة عليهم ، قاله ابن جريج .
والثالث : أنه جواب إبراهيم كما يسأل العالم نفسصه فيجيبها ، حكاه الزجاج .
قوله تعالى : { وَتَلْكَ جُجَّتُنآ ءَاتَينَاهآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } وفي هذه الحجة التي أوتيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : قوله لهم : { أَتَعُْبدُونَ مِنْ دِونِ اللَّهِ مَا لاَ يمْلِكُ لَكُم ضَراً وَلاَ نَفْعاً } أم تعبدون من يملك الضر والنفع؟ فقالوا : مالك الضر والنفع أحق .
والثاني : أنه لما قال : { فَأَيُّ الْفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأمْنِ } عبادة إله واحد أم آلهة شتى؟ فقالوا : عبادة إله واحد فأقروا على أنفسهم .
والثالث : أنهم لما قالوا لإِبراهيم ألا تخاف أن تخبلك آلهتنا؟ فقال : أما تخافون أن تخبلكم آلهتكم بجمعكم للصغير مع الكبير في العبادة .
واختلفوا في سبب ظهور الحجَّة لإبراهيم على قولين :
أحدهما : أن الله تعالى أخطرها بباله حتى استخرجها بفكره .
والثاني : أنه أمره بها ولقنه إياها .
{ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَشَاءُ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : عند الله بالوصول لمعرفته .
والثاني : على الخلق بالاصطفاء لرسالته .
والثالث : بالسخاء .
والرابع : بحسن الخلق .
وفيه تقديم وتأخير ، وتقديره : نرفع من نشاء درجات .

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)

قوله عز وجل : { . . . فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلآءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } فيهم خمسة أقاويل :
أحدها : فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الأنصار ، قاله الضحاك .
والثاني : فإن يكفر بها أهل مكة فقد وكلنا بها أهل المدينة ، قاله ابن عباس .
والثالث : فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الملائكة ، قاله أبو رجاء .
والرابع : أنهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى من قبل بقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ، قاله الحسن ، وقتادة .
والخامس : أنهم كل المؤمنين ، قاله بعض المتأخرين .
ومعنى قوله : { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } أي أقمنا بحفظها ونصرتها ، يعني : كتب الله وشريعة دينه .

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)

قوله عز وجل : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : وما عظموه حق عظمته ، قاله الحسن ، والفراء ، والزجاج .
والثاني : وما عرفوه حق معرفته ، قاله أبو عبيدة .
والثالث : وما وصفوه حق صفته ، قاله الخليل .
والرابع : وما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير ، قاله ابن عباس .
{ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ } يعني من كتاب من السماء .
وفي هذا الكتاب الذي أنكروا نزوله قولان :
أحدهما : أنه التوراة ، أنكر حبر اليهود فيما أنزل منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى هذا الحبر اليهودي سميناً ، فقال له : « أَمَا تَقْرَءُونَ فِي التَّورَاةِ : أَنَّ اللَّه يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَ » فغضب من ذلك وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فتبرأت منه اليهود ولعنته ، حكاه ابن بحر .
والقول الثاني : أنه القرآن أنكروه رداً لأن يكون القرآن مُنَزَّلاً .
وفي قائل ذلك قولان :
أحدهما : قريش .
والثاني : اليهود .
فرد الله تعالى عليهم بقوله : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى } يعني التوراة لاعترافهم بنزولها .
ثم قال : { نُوراً وَهُدىً لِّلنَّاسِ } لأن المنزل من السماء لا يكون إلا نوراً وهدىً .
ثم قال : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } يعني أنهم يخفون ما في كتابهم من بنوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصفته وصحة رسالته .
قوله عز وجل : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلَنَاهُ مُبَارَكٌ } يعني القرآن ، وفي { مُبارَكٌ } ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه العظيم البركة لما فيه من الاستشهاد به .
والثاني : لما فيه من زيادة البيان لأن البركة هي الزيادة .
والثالث : أن المبارك الثابت .
{ مُّصَدِقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } فيه قولان :
أحدهما : الكتب التي قبله من التوراة ، والإِنجيل ، وغيرهما ، قاله الحسن البصري .
والثاني : النشأة الثانية ، قاله علي بن عيسى .
{ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى } يعني أهل أم القرى ، فحذف ذكر الأهل إيجازاً كما قال : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] .
و { أُمَّ الْقُرَى } مكة وفي تسميتها بذلك أربعة أقاويل : -
أحدها : لأنها مجتمع القرى ، كما يجتمع الأولاد إلى الأم .
والثاني : لأن أول بيت وضع بها ، فكأن القرى نشأت عنها ، قاله السدي .
والثالث : لأنها معظمة كتعظيم الأم ، قاله الزجاج .
والرابع : لأن الناس يؤمونها من كل جانب ، أي يقصدونها .
ثم قال : { وَمَنْ حَوْلَهَا } قال ابن عباس : هم أهل الأرض كلها .
{ وَالَّذِينَ يَؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } وفيما ترجع إليه هذه الكناية قولان :
أحدهما : إلى الكتاب ، وتقديره : والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بهذا الكتاب ، قاله الكلبي .
والثاني : إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وتقديره : والذين يؤمنون بالآخرة ، يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم لِمَا قد أظهر الله تعالى من معجزته وأَبَانَه الله من صدقه ، قاله الفراء .
فإن قيل : فيمن يؤمن بالآخرة من أهل الكتاب لا يؤمنون به؟ قيل : لا اعتبار لإِيمانهم بها لتقصيرهم في حقها ، فصاروا بمثابة من لم يؤمن بها .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

قوله عز وجل : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيهِ شَيْءٌ } فيمن نزل فيه ذلك قولان :
أحدهما : أنه مسيلمة الكذاب ، قاله عكرمة .
والثاني : مسيلمة والعنسي ، قاله قتادة .
وقد روى معمر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ كَأَنَّ فِي يَديَّ سُوَارَينِ مِن ذَهبٍ ، فَكَبُرَ عليَّ ، فَأُوحِي إِلَيَّ أَنْ أَنْفُخَهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا ، فَأَوَّلْتُ ذَلِكََ كَذَّابَ اليَمَامَةِ وَكَذَّابَ صَنْعَاءَ العَنَسِي
» . { وَمَن قَالَ سَأُنزِلَ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : من تقدم ذكره من مدعي الوحي والنبوة .
والثاني : أنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، قاله السدي ، قال الفراء : كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال النبي : { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } كتب { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } و { عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : « هُمَا سَوَاء » حتى أملى عليه { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ } إلى قوله : { خَلْقاً أَخَرَ } فقال ابن أبي السرح : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَْحْسَنُ الْخَالِقِينَ } تعجباً من تفصيل خلق الإِنسان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « هَكَذَا نَزَلَتْ » فشك وارتد .
والثالث : ما حكاه الحكم عن عكرمة : أنها نزلت في النضر بن الحارث ، لأنه عارض القرآن ، لأنه قال : والطاحنات طحناً ، والعاجنات عجناً ، والخابزات خبزاً ، فاللاقمات لقماً .
وفي قوله : { وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } قولان :
أحدهما : باسطوا أيديهم بالعذاب ، قاله الحسن ، والضحاك .
والثاني : باسطو أيديهم لقبض الأرواح من الأجساد ، قاله الفراء .
ويحتمل ثالثاً : باسطوا أيديهم بصحائف الأعمال .
{ أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ } فيه قولان :
أحدهما : من أجسادكم عند معاينة الموت إرهاقاً لهم وتغليظاً عليهم ، وإن كان إخراجها من فعل غيرهم .
والثاني : أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم ، تقريعاً لهم وتوبيخاً بظلم أنفسهم ، قاله الحسن .
ويحتمل ثالثاً : أن يكون معناه خلصوا أنفسكم بالاحتجاج عنها فيما فعلتم .
{ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } والهون بالضم الهوان ، قاله ذو الأصبع العدواني :
أذهب إليك أمي براعية ... ترعى المخاض ولا أغضي على الهون
وأما الهَوْن بالفتح فهو الرفق ومنه قوله تعالى : { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوناً } يعني برفق وسكينة ، قال الراجز :
هونكما لا يرد الدهر ما فاتا ... لا تهلكن أسى في أثر من ماتا
قوله عز وجل : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } الفرادى الواحدان ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : فرادى من الأعوان .
والثاني : فرادى من الأموال .
{ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ } يعني ما ملكناكم من الأموال ، والتخويل تمليك المال ، قال أبو النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخل ... كوم الذرى من خول المخول
{ وَمَا نَرَى مَعَكُم شُفعاءَكُمُ } فيه وجهان :
أحدهما : آلهتهم التي كانوا يعبدونها ، قاله الكلبي .
والثاني : الملائكة الذين كانوا يعتقدون شفاعتهم ، قاله مقاتل .

{ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني شفعاء ، قاله الكلبي .
والثاني : أى متحملين عنكم تحمل الشركاء عن الشركاء .
{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : تفرق جمعكم في الآخرة .
والثاني : ذهب تواصلكم في الدنيا ، قاله مجاهد .
ومن قرأ { بَيْنَكُمْ } بالفتح ، فمعناه تقطع الأمر بينكم .
{ وَضَلَّ عَنَكُم مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : من عدم البعث والجزاء .
والثاني : من شفعائكم عند الله .
فإن قيل : فقوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا } خبر عن ماض ، والمقصود منه الاستقبال؟
فعن ذلك جوابان . أحدهما : أنه يقال لهم ذلك في الآخرة فهو على الظاهر إخبار .
والثاني : أنه لتحققه بمنزلة ما كان ، فجاز ، وإن كان مستقبلاً أن يعبر عنه بالماضي .

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)

قوله عز وجل : { . . . فَالِقُ الْحَبِّ وَالْنُّوَى } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني فالق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة ، قاله الحسن . وقتادة ، والسدي ، وابن زيد .
والثاني : أن الفلق الشق الذي فيهما ، قال مجاهد .
والثالث : أنه يعني خالق الحب والنوى ، قاله ابن عباس .
وذكر بعض أصحاب الغوامض قولاً رابعاً : أنه مُظْهِرُ ما في حبة القلب من الإخلاص ، والرياء .
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الَحيِّ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة ، والنخلة الحية من النواة الميتة ، ويعني بإخراج الميت من الحي أن يخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية ، والنواة الميتة من النخلة الحية ، قاله السدي .
والثاني : أن يخرج الإِنسان من النطفة ، والنطفة من الإِنسان ، قاله ابن عباس .
والثالث : يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، قاله الحسن .
وقد ذكرنا فيه احتمالاً ، أنه يخرج الفَطِن الجَلْد من البليد العاجز ، ويخرج البليد العاجز من الفَطِن الجَلْد .
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي تصرفون عن الحق .
{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : فالق الإِصباح ، قاله قتادة .
والثاني : أنه إضاءة الفجر ، قاله مجاهد .
والثالث : أن معناه خالق نور النهار ، وهذا قول الضحاك .
والرابع : أن الإِصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل ، قاله ابن عباس .
{ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً } فيه قولان :
أحدهما : أنه سُمِّي سكناً لأن كل متحرك بالنهار يسكن فيه .
والثاني : لأن كل حي يأوي فيه إلى مسكنه .
{ وَالشَّمْسَ والْقَمَرَ حُسْبَاناً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه يجريان في منازلهما بحساب وبرهان فيه بدء ورد إلى زيادة ونقصان ، قاله ابن عباس والسدي .
والثاني : أي جعلهما سبباً لمعرفة حساب الشهور والأعوام .
والثالث : أي جعل الشمس والقمر ضياء ، قاله قتادة ، وكأنه أخذه من قوله تعالى : { وَيُرْسِلَ عَلَيهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَآءِ } [ الكهف : 40 ] قال : ناراً .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِّن نَّفْسِ وَاحِدَةٍ } يعني آدم عليه السلام .
{ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَودَعٌ } فيه ستة تأويلات :
أحدها : فمستقر في الأرض ومستودع في الأصلاب ، قاله ابن عباس .
والثاني : فمستقر في الرحم ومستودع في القبر ، قاله ابن مسعود .
والثالث : فمستقر في أرحام النساء ومستودع في أصلاب الرجال ، قاله عطاء ، وقتادة .
والرابع : فمستقر في الدنيا ومستودع في الآخرة ، قاله مجاهد .
والخامس : فمستقر في الأرض ومستودع في القبر ، قاله الحسن .
والسادس : أن المستقر ما خُلِق ، والمستودع ما لم يُخلق ، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً .
قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } فيه قولان :
أحدهما : معناه رزق كل شيء من الحيوان .
والثاني : نبات كل شيء من الثمار .
{ فَأَخْرجْنَا مِنهُ خَضِراً } يعني زرعاً رطباً بخلاف صفته عند بذره .
{ نُّخْرِجُ مِنهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً } يعني السنبل الذي قد تراكب حبه .
{ وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيةٌ } القنوان جمع قنو وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدهما : أنه الطلع ، قاله الضحاك .
والثاني : أنه الجمار .
والثالث : هي الأعذاق ، قال امرؤ القيس
أثت أعاليه وآدت أصوله ... ومال بقنوان من البسر أحمرا
{ دَانِيَةٌ } فيه قولان :
أحدهما : دانية من المجتني لقصر نخلها وقرب تناولها ، قاله ابن عباس .
والثاني : داينة بعضها من بعض لتقاربها ، قاله الحسن .
{ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ } يعني بساتين من أعناب .
{ مُشْتَبِهاً وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ } فيه وجهان :
أحدهما : مشتبها ورقه مختلفاً ثمره ، قال قتادة .
والثاني : مشتبهاً لونه مختلفاً طعمه ، قاله الكلبي .
{ انظُرُواْ إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } قرأ حمزة والكسائي بالضم ، وقرأ الباقون بالفتح ، وفي اختلافه بالضم والفتح قولان :
أحدهما : أن الثُّمُر بالضم جمع ثمار ، وبالفتح جمع ثمرة ، قاله علي بن عيسى .
والثاني : أن الثُّمُر بالضم : المال ، وبالفتح : ثمر النخل ، قاله مجاهد ، وأبو جعفر الطبري .
{ وَيَنْعِهِ } يعني نضجة وبلوغه .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)

قوله عز وجل : { وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن المجوس نسبت الشر إلى إبليس ، وتجعله بذلك شريكاً لله .
والثاني : أن مشركي العرب جعلوا الملائكة بنات الله وشركاء له ، قاله قتادة ، والسدي ، وابن زيد كقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ بَينَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } فَسَمَّى الملائكة لاختفائهم عن العيون جنة .
والثالث : أنه أطاعوا الشيطان في عبادة الأوثان حتى جعلوها شركاء لله في العبادة ، قاله الحسن ، والزجاج .
{ وَخَلَقَهُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه خلقهم بلا شريك [ له ] ، فَلِمَ جعلوا له في العبادة شريكاً؟ .
والثاني : أنه خلق من جعلوه شريكاً فكيف صار في العبادة شريكاً .
وقرأ يحيى بن يعمر { وَخَلْقَهُمْ } بتسكين اللام . ومعناه أنهم جعلوا خلقهم الذي صنعوه بأيديهم من الأصنام لله شريكاً .
{ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } في خرقوا قراءتان بالتخفيف والتشديد ، وفيه قولان :
أحدهما : أن معنى خرقوا كذبوا ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن جريج ، وابن زيد .
والثاني : معناه وخلقوا له بنين وبنات ، والخلق والخرق واحد ، قاله الفراء .
والقول الثاني : أن معنى القراءتين مختلف ، وفي اختلافهما قولان :
أحدهما : أنها بالتشديد على التكثير .
والثاني : أن معناها بالتخفيف كذبوا ، وبالتشديد اختلفوا .
والبنون قول النصارى في المسيح أنه ابن الله ، وقول اليهود أن عزيراً ابن الله .
والبنات قول مشركي العرب في الملائكة أنهم بنات الله .
{ بِغَيْرِ عِلْمٍ } يحتمل وجهين :
أحدهما : بغير علم منهم أن له بنين وبنات .
والثاني : بغير حجة تدلهم على أن له بنين وبنات .

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

قوله عز وجل : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } فيه لأهل التأويل خمسة أقاويل :
أحدها : معناه لا تحيط به الأبصار ، وهو يحيط بالأبصار ، واعتل قائل هذا بقوله : { فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ } فوصف الله الغرق بأنه أدرك فرعون ، وليس الغرق موصوفاً بالرؤية ، كذلك الإدراك هنا ، وليس ذلك بمانع من الرؤية بالإِبصار ، غير أن هذا اللفظ لا يقتضيه وإن دل عليه قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .
والقول الثاني : معناه لا تراه الأبصار وهو يرى الأبصار ، واعتل قائلو ذلك بأمرين :
أحدهما : أن الأبصار ترى ما بينها ولا ترى ما لاصقها ، وما بين البصر فلا بد أن يكون بينهما فضاء ، فلو رأته الأبصار لكان محدوداً ولخلا منه مكان ، وهذه صفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان .
والثاني : أن الأبصار تدرك الألوان كما أن السمع يدرك الأصوات ، فلما امتنع أن يكون ذا لون امتنع أن يكون مرئياً ، كما أن ما امتنع أن يكون ذا صوت امتنع أن يكون مسموعاً .
والقول الثالث : لا تدركه أبصار الخلق في الدنيا بدليل قوله : { لاَ تَدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } وتدركه في الآخرة بدليل قوله : { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 23 ] وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة .
والرابع : لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة ، وتدركه أبصار المؤمنين ، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة ، لأن الإِدراك له كرامة تنتفي عن أهل المعاصي .
والقول الخامس : أن الأبصار لا تدركه في الدنيا والآخرة ، ولكن الله يحدث لأوليائه حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس يرونه بها ، اعتِلاَلاً بأن الله أخبر برؤيته ، فلو جاز أن يُرَى في الآخرة بهذه الأبصار وإن زِيْدَ في قواها جاز أن يرى بها في الدنيا وإن ضعفت قواها بأضعف من رؤية الآخرة ، لأن ما خُلِقَ لإِدراك شيء لا يُعْدَمُ إدراكه ، وإنما يختلف الإِدراك بحسب اختلاف القوة والضعف ، فلما كان هذا مانعاً من الإدراك - وقد أخبر الله تعالى بإدراكه - اقتضى أن يكون ما أخبر به حقاً لا يدفع بالشبه ، وذلك بخلق حاسة أخرى يقع بها الإِدراك .
ثم قال : { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } فاحتمل وجهين من التأويل :
أحدهما : لطيف بعباده في الإِنعام عليهم ، خبير بمصالحهم .
والثاني : لطيف في التدبير خبير بالحكمة .

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل .
والثاني : أن الآية تنصرف في معان متغايرة مبالغة في الإِعجاز ومباينة لكلام البشر .
والثالث : أنه اختلاف ما تضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي ، ليكون أبلغ في الزجر ، وأدعى إلى الإِجابة ، وأجمع للمصلحة .
ثم قال تعالى : { وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } وفي الكلام حذف ، وتقديره : ولئلا يقولوا درست ، فحذف ذلك إيجازاً كقوله تعالى : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 167 ] أي لئلا تضلوا .
وفي { دَرَسْتَ } خمس قراءات يختلف تأويلها بحسب اختلافها :
إحداهن : { َدَرَسْتَ } بمعنى قرأت وتعلمت ، تقول ذلك قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس ، والضحاك ، وهي قراءة حمزة ، والكسائي .
والثانية : { دَارَسْتَ } بمعنى ذاكرت وقارأت ، قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير ، ومروي عن ابن عباس ، وهي قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو .
وفيها على هذه القراءة تأويل ثانٍ ، أنها بمعنى خاصمت وجادلت .
والثالثة : { دَرَسَتْ } بتسكين التاء بمعنى انمحت وتقادمت ، قاله ابن الزبير ، والحسن ، وهي قراءة ابن عامر .
والرابعة : { دُرِسَتْ } بضم الدال لما لم يسم فاعله تليت وقرئت ، قاله قتادة .
والخامسة : { دَرَسَ } بمعنى قرأ النبي صلى الله عليه وسلم وتلا ، وهذا حرف أبي بن كعب ، وابن مسعود .
{ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْْلَمُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لقوم يعقلون .
والثاني : يعلمون وجوه البيان وإن لم يعلموا المبين .

اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)

قوله عز وجل : { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دَونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوَاْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } يعني اعتداء ، وقرأ أهل مكة عَدُوّاً بالتشديد بمعنى أنهم اتخذوه عدوّاً . وفيه قولان :
أحدهما : لا تسبوا الأصنام فتسب عبدة الأصنام من يسبها ، قاله السدي .
والثاني : لا تسبوها فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون كما سَبَبْتم ما يعبدون .
{ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : كما زينا لكم فعل ما أمرناكم به من الطاعات كذلك زينا لمن تقدم من المؤمنين فعل ما أمرناهم به من الطاعات ، قاله الحسن .
والثاني : كذلك شبهنا لكل أهل دين عملهم بالشبهات ابتلاء لهم حتى قادهم الهوى إليها وعَمُوا عن الرشد فيها .
والثالث : كما أوضحنا لكم الحِجج الدالة على الحق كذلك أوضحنا لمن قبلكم من حِجج الحق مثل ما أوضحنا لكم .

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

قوله عز وجل : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } هؤلاء قوم من مشركي أهل مكة حلفوا بالله لرسوله صلى الله عليه وسلم لئن جاءتهم آية اقترحوها ليؤمنن بها ، قال ابن جريج : هم المستهزئون .
واختلف في الآية التي اقترحوها على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن تجعل لنا الصفا ذهباً .
والثاني : ما ذكره الله في آخر : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسِقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَينَا كِسَفَاً } إلى قوله : { كِتَاباً نَقْرؤُهُ } فأمر الله نبيه حين أقسموا له أن يقول لهم { قُلْ إِنَّمَا الأَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ } .
والثالث : أنه لما نزل قوله تعالى في الشعراء : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُم لَهَا خَاضِعِينَ } قال المشركون : أنزلها علينا حتى نؤمن بها إن كنت من الصادقين ، فقال المؤمنون : يا رسول الله أنزلها عليهم ليؤمنوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، قاله الكلبي :
وليس يجب على الله إجابتهم إلى اقتراحهم لا سيما إذا علم أنهم لا يؤمنون بها ، واختلف في وجوبها عليه إذا علم إيمانهم بها على قولين وقد أخبر أنهم لا يؤمنون بقوله : { وَمَا يُشْعُرِكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ } .
ثم قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُم وَأَبْصَارَهُم كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وهذا من الله عقوبة لهم ، وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها عقوبة من الله في الآخرة يقلبها في النار .
والثاني : في الدنيا بالحيرة حتى يزعج النفس ويغمها .
والثالث : معناه أننا نحيط بذات الصدور وخائنة الأعين منهم .
وفي قوله : { أَوَّلَ مَرَّةٍ } تأويلان :
أحدهما : أول مرة جاءتهم الآيات .
والثاني : أن الأول أحوالهم في الدنيا كلها ، ثم أكد الله تعالى حال عنتهم .

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

فقال : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً } فيه قراءاتان :
إحداهما : { قِبَلا } بكسر القاف وفتح الباء ، قرأ بها نافع ، وابن عامر ، ومعنى ذلك معاينة ومجاهرة ، قاله ابن عباس وقتادة .
والقراءة الثانية : بضم القاف والباء وهي قراءة الباقين ، وفي تأويلها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن القُبُل جمع قبيل وهو الكفيل ، فيكون معنى { قُبُلاً } أي كُفَلاء .
والثاني : أن معنى ذلك قبيلة قبيلة وصفاً صفاً ، قاله مجاهد .
والثالث : معناه مقابلة ، قاله ابن زيد ، وابن إسحاق .
ثم قال : { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } يعني بهذه الآيات مع ما اقترحوها من قبل .
ثم قال : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } فيه قولان :
أحدهما : أن يعينهم عليه .
والثاني : إلا أن يشاء أن يجبرهم عليه ، قاله الحسن البصري .
ثم قال : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يجهلون فيما يقترحونه من الآيات .
والثاني : يجهلون أنهم لو أجيبوا إلى ما اقترحوا لم يؤمنوا طوعاً .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواً } أي جعلنا للأنبياء أعداء كما جعلنا لغيرهم من الناس أعداء .
وفي { جَعَلْنَا } وجهان :
أحدهما : معناه حكمنا بأنهم أعداء .
والثاني : معناه تركناهم على العداوة ، فلم نمنعهم منها .
وفي { شَيَاطِينَ الإْنسِ وَالْجِنِّ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني شياطين الإنس الذين مع الإنس ، وشياطين الجن الذين مع الجن ، قاله عكرمة ، والسدي .
والثاني : شياطين الإنس كفارهم ، وشياطين الجن كفارهم ، قاله مجاهد .
والثالث : أن شياطين الإنس والجن مردتهم ، قاله الحسن ، وقتادة .
{ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } في يوحي ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني يوسوس بعضهم بعضاً .
والثاني : يشير بعضهم إلى بعض ، فعبر عن الإشارة بالوحي كقوله : { فَأَوْحَى إِلَيهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] و { زُخْرُفَ الْقَوْلِ } ما زينوه لهم من الشبه في الكفر وارتكاب المعاصي .
والثالث : يأمر بعضهم بعضاً كقوله : { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } [ فصلت : 12 ] أي أمر .
ثم قال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ما فعلوه من الكفر .
والثاني : ما فعلوا من زخرف القول .
وفي تركهم على ذلك قولان :
أحدهما : ابتلاء لهم وتمييزاً للمؤمنين منهم .
والثاني : لا يلجئهم إلى الإيمان فيزول التكليف .
قوله عز وجل : { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ } أي تميل إليه قلوبهم ، والإصغاء : الميل ، قال الشاعر :
ترى السفيه به عن كل محكمة ... زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء
وتقدير الكلام ، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ليغروهم ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وقال قوم : بل هي لام أمر ومعناها الخبر .
{ وَلِيَرْضَوْهُ } لأن من مَالَ قلبه إلى شيء رضيه وإن لم يكن مرضياً .
{ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُمْ مُّقْتَرِفُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : وليكتسبوا من الشرك والمعاصي ما هم مكتسبون ، قاله جويبر .
والثاني : وليكذبوا على الله ورسوله ما هم كاذبون ، وهو محتمل .

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

قوله عز وجل : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً } فيه وجهان :
أحدهما : معناه هل يجوز لأحد أن يعدل عن حكم الله حتى أعدل عنه .
والثاني : هل يجوز لأحد أن يحكم مع الله حتى أحتكم إليه .
والفرق بين الحَكَم والحَاكِم ، أن الحَكَمَ هو الذي يكون أهلاً للحُكْم فلا يَحْكُمُ إلا بحق ، والحَاكِمُ قد يكون من غير أهله فَيَحْكُمُ بغير حق ، فصار الحَكَم من صفات ذاته ، والحَاكِم من صفات فعله ، فكان الحَكَم أبلغ في المدح من الحَاكِم .
ثم قال : { وُهُوَ الَّذِيِّ أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } في المفصَّل أربعة تأويلات :
أحدها : تفصيل آياته لتبيان معانيه فلا تُشْكِل .
والثاني : تفصيل الصادق من الكاذب .
والثالث : تفصيل الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، قاله الحسن .
والرابع : تفصيل الأمر من النهي ، والمستحب من المحظور ، والحلال من الحرام .
وسبب نزول هذه الآية أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل بيننا وبينك حَكَماً إن شئت من أحبار اليهود وإن شئت من أحبار النصارى ، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك ، فنزلت عليه هذه الآية .
قوله عز وجل : { وَتَمَّتَ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } يعني القرآن ، وفي تمامه أربعة أوجه محتملة :
أحدها : تمام حُجَجِهِ ودلائله .
والثاني : تمام أحكامه وأوامره .
والثالث : تمام إنذاره بالوعد والوعيد .
والرابع : تمام كلامه واستكمال صوره .
وفي قوله : { صِدْقاً وَعَدْلاً } وجهان :
أحدهما : صدقاً في وعده ووعهده ، وعدلاً في أمره ونهيه ، قاله ابن بحر .
والثاني : صدقاً فيما حكاه ، عدلاً فيما قضاه ، وهو معنى قول قتادة .
وقد مضى تفسير { لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } .

وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)

قوله عز وجل : { وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإْثْمِ وَبَاطِنهُ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : سره وعلانيته ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثاني : ظاهر الإثم : ما حرم من نكاح ذوات المحارم بقوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتكُمْ . . . } الآية . وباطنه الزِّنى ، قاله سعيد بن جبير .
والثالث : أن ظاهر الإثم أُوْلاَت الرايات من الزواني ، والباطن ذوات الأخدان ، لأنهن كُنَّ يستحللنه سراً ، قاله السدي ، والضحاك .
والرابع : أن ظاهر الإثم العِرية التي كانو يعملون بها حين يطوفون بالبيت عراة ، وباطنه الزِّنى ، قاله ابن زيد .
ويحتمل خامساً : أن ظاهر الإثم ما يفعله بالجوارح ، وباطنه ما يعتقده بالقلب .

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

قوله عز وجل : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : المراد بها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها ، قاله عطاء .
والثاني : أنها الميتة ، قاله ابن عباس .
والثالث : أنه صيد المشركين الذين لا يذكرون اسم الله ، ولا هم من أهل التسمية ، يَحْرُمُ على المسلمين أن يأكلوه حتى يكونوا هم الذين صادوه ، حكاه ابن بحر .
والرابع : أنه ما لم يُسَمَّ اللَّهُ عند ذبحه .
وفي تحريم أكله ثلاثة أقاويل :
أحدها : لا يحرم [ سواء ] تركها عامداً أو ناسياً ، قاله الحسن ، والشافعي .
والثاني : يحرم إن تركها عامداً ، ولا يحرم إن تركها ناسياً ، قاله أبو حنيفة .
والثالث : يحرم سواء تركها عامداً أو ناسياً ، قاله ابن سيرين ، وداود .
{ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } فيه تأويلان :
أحدهما : أن المراد به المعصية ، قاله ابن عباس .
والثاني : المراد به الإِثم .
{ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوْحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } يعني المجادلة في الذبيحة ، وفيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه عنى بالشياطين قوماً من أهل فارس كتبوا إلى أوليائهم من قريش أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ، ولا يأكلون ما ذبح الله يعني الميتة ، ويأكلون ما ذبحوه لأنفسهم ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ، قاله عكرمة .
والثاني : أن الشياطين قالوا ذلك لأوليائهم من قريش ، قاله ابن عباس .
والثالث : أن قوماً من اليهود قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا مروي عن ابن عباس . وفي وحيهم إليهم وجهان :
أحدهما : أنها إشارتهم .
والثاني : رسالتهم .
{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } يعني في أكل الميتة ، إنكم لمشركون إن استحللتموها .

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)

قوله عز وجل : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كان ميتاً حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح [ فيه ] ، حكاه ابن بحر .
والثاني : كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالهداية إلى الإيمان ، حكاه ابن عيسى .
والثالث : كان ميتاً بالجهل فأحييناه بالعمل ، أنشدني بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء البصرة .
وفي الجهل قبل الموت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرءا لم يحيى بالعلم ميت ... فليس له حتى النشور نشور
{ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن النور القرآن ، قاله الحسن .
والثاني : انه العلم الذي يهدي إلى الرشد .
والثالث : أنه حُسْنُ الإيمان .
وقوله : { يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ينشر به ذكر دينه بين الناس في الدنيا حتى يصير كالماشي .
والثاني : يهتدي به بين الناس إلى الجنة فيكون هو الماشي .
{ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } فيه قولان :
أحدهما : أن الظلمات الكفر .
والثاني : الجهل ، وشبهه بالظلمة لأن صاحبه في حيرة تفضي به إلى الهلكة كحيرة الماشي في الظلمة .
واختلفوا في هذه الآية على قولين .
أحدهما : أنها على العموم في كل مؤمن وكافر ، قاله الحسن وغيره من أهل العلم .
والثاني : أنها على الخصوص في مُعَيَّن .
وفيمن تعين نزول ذلك فيه قولان :
أحدهما : أن المؤمن عمر بن الخطاب ، والكافر أبو جهل ، قاله الضحاك . ومقاتل .
والثاني : أن المؤمن عمار بن ياسر ، والكافر أبو جهل ، قاله عكرمة ، والكلبي .

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)

قوله عز وجل : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ } يعني علامة تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته .
{ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لن نؤمن بالآية .
والثاني : لن نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم .
{ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : مثل ما أوتي رسل الله من الكرامة .
الثاني : مثل ما أوتوا من النبوة .
{ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } قصد بذلك أمرين :
أحدهما : تفرد الله تعالى بعلم المصلحة فيمن يستحق الرسالة .
والثاني : الرد عليهم في سؤال ما لا يستحقونه ، والمنع مما لا يجوز أن يسألوه .
{ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجرَمُواْ صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ } الصَّغَار : الذل سمي صَغَاراً لأنه يصغر إلى الإنسان نفسه .
وفي قوله : { عِنْدَ اللَّهِ } ثلاثة أوجه :
أحدها : من عند الله ، فحذف « من » إيجازاً .
والثاني : أن أنفتهم من اتباع الحق صَغَار عند الله وذل إن كان عندهم تكبراً وعزاً ، قاله الفراء .
والثالث : صَغَار في الآخرة ، قاله الزجاج .

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)

قوله عز وجل : { فَمَن يُرِِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ } فيه قولان :
أحدهما : يهديه إلى نيل الثواب واستحقاق الكرامة .
والثاني : يهديه إلى الدلائل المؤدية إلى الحق .
{ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } يعني بشرح الصدر سعته لدخول الأسلام إيه وثبوته فيه كقوله تعالى : { أَلَمْ نَشَرْحْ لَكَ صَدْرَك } [ الشرح : 1 ] .
روى عمرو بن مرة عن أبي جعفر قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أكْيَس؟ قال : « أَكْثَرُهُم ذِكْراً لِلْمَوتِ وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَاداً
» قال : وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال : « نُوْرٌ يُقْذَفُ فَيَنْشَرِحُ لَهُ وَيَنفَسِحُ » قالوا : فهل لذلك أمارة يُعْرَفُ بها؟ قال : « الإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الخُلُودِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرورِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلْمَوتِ قَبْلَ لِقَاءِ المَوتِ » وروى ابن مسعود مثل ذلك .
ثم قال : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } فيه قولان :
أحدهما : يضله عن الهداية إلى الحق .
والثاني : عن نيل الثواب واستحقاق الكرامة .
{ يَجْعَلُ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } يعني ضيقاً لا يتسع لدخول الإسلام .
{ حَرَجاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون شديد الصلابة حتى لا يثبت فيه شيء .
والثاني : شديد الضيق حتى لا يدخله شيء .
والثالث : أن موضعه مُبْيَض .
{ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : كأنه كُلِّف الصعود إلى السماء في امتناعه عليه وبعده منه .
والثاني : كأنه لا يجد مسلكاً لضيق المسالك عليه إلا صعوداً في السماء يعجز عنه .
والثالث : كأنه قلبه بالنبو عنه والنفور منه صاعداً إلى السماء .
والرابع : كأن قلبه يصعد إلى السماء بمشقته عليه وصعوبته عنده .
ثم قال تعالى : { كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } في الرجس خمسة تأويلات :
أحدها : أنه ما لا خير فيه ، قاله مجاهد .
والثاني : أنه العذاب ، قاله ابن زيد .
والثالث : السخط ، قاله ابن بحر .
والرابع : انه الشيطان ، قاله ابن عباس .
والخامس : أن الرجس والنجس واحد ، وهو قول بعض نحويي الكوفة ، وحكاه عَلِيُّ بن عيسى .
وقد روى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل الخلاء قال : « اللهم إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ وَالنَّجَسِ الهَبِيثِ الخَبِيثِ الشِّيْطَانِ الرَّجِيمِ
» .

وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)

قوله عز وجل : { وَهَذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } قد ذكرنا أن الصراط هو الطريق ، ومنه قول عامر ابن الطفيل :
شحنا أرضهم بالخيل حتى ... تركناهم أذل من الصراط
وفيه ها هنا قولان :
أحدهما : يريد أن الإِسلام هو الصراط المستقيم إلى الله تعالى ، قاله الكلبي .
والثاني : يريد أن ما في القرآن من البيان هو الصراط المستقيم .
{ قَدْ فَصَّلْنَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : بيَّنَّا .
والثاني : ميَّزنا .
قوله عز وجل : { لَهُم دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ } وهي الجنة ، وفي تسميتها دار السلام وجهان :
أحدهما : لأنها دار السلامة الدائمة من كل آفة ، قاله الزجاج .
والثاني : أن السلام هو الله ، والجنة داره ، فلذلك سُمِّيَتْ دار السلام ، وهذا معنى قول الحسن ، والسدي .
وفي قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } وجهان :
أحدهما : أن دار السلام عند ربهم في الآخرة لأنها أخص به .
والثاني : معناه أن لهم عن ربهم أن ينزلهم دار السلام .
{ وُهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : وهو ناصرهم في الدنيا على إيمانهم .
والثاني : وهو المتولِّي لثوابهم في الآخرة على أعمالهم .

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

قوله عز وجل : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني يحشر الجن والإنس جميعاً يوم القيامة .
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنسِ } فيه قولان :
أحدهما : قد استكثرتم من إغوئهم وإضلالهم ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد .
والثاني قد استكثرتم من الإنس بإغوائكم لهم .
{ وَقَالَ أَولِيَاؤُهُمْ مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَغْضٍ } فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : معناه استمتع بعضنا بصحبة بعض في التعاون والتعاضد .
والثاني : استمتع بعضنا ببعض فيما زينوه من اتباع الأهواء وارتكاب المعاصي .
والثالث : أن الاستمتاع بهم ما كانوا عليه من التعوذ بهم كقوله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ } ، قال الحسن ، وابن جريج . ثم فيه وجهان :
أحدهما : أنه استمتاع الإنس بالجن .
والثاني : أنه استمتاع الإنس بعضهم ببعض .
وفيه وجه ثالث : أن الإنس استمتعوا بالجن ، والجن استمتعوا بالإنس في اعتقادهم أنهم يقدرون على النفع .
{ وَبَلَغْنآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } فيه قولان :
أحدهما : أنه الموت ، قاله الحسن ، والسدي .
والثاني : الحشر .
{ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ } أي منزل إقامتكم ، لأن المثوى الإقامة ، ومنه قول الشاعر :
لقد كان في حول ثواءً ثويته ... تقضي لبانات وتسأم سائم
{ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ } في { إِلاَّ } في هذا الموضوع ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بمعنى لكن ، قاله سيبويه .
والثاني : أنها بمعنى سوى ، قاله الفراء .
والثالث : أنها مستعملة على حقيقتها ، وهو قول الجمهور .
وفي هذا الاستثناء ثلاثة أقاويل .
أحدها : أن مدة الاستثناء هي مدة العرض في القيامة وذلك ما بين بعثهم من قبورهم إلى حين مصيرهم إلى جهنم ، فكأنه قال : النار مثواكم خالدين فيها إلا هذه المدة التي ذكرها ، فإنهم فيها غير خالدين في النار .
والثاني : معناه خالدين فيها إلا ما شاء الله من تجديد جلودهم بعد إحراقها وتصريفهم في أنواع العذاب أو تركهم فيها على حالتهم الأولى ، فيكون الاستثناء في صفة العذاب لا في الخلود في النار .
والثالث : أنه جعل أمرهم في مبلغ عذابهم ومدته إلى مشيئته تعالى ، قاله ابن عباس ، قال : ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً .

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)

قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِِمِينَ بَعْضاً } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : معناه وكذلك نَكِلُ بعضهم إلى بعض ، فلا نعينهم ، ومن سُلِبَ معونة الله كان هالكاً .
والثاني : وكذلك نجعل بعضهم لبعض ولياً على الكفر .
والثالث : وكذلك نولِّي بعضهم عذاب بعض في النار .
والرابع معناه أن بعضهم يتبع بعضاً في النار من الموالاة وهي المتابعة ، قاله قتادة .
والخامس : تسليط بعضهم على بعض بالظلم والتعدي ، قاله ابن زيد .

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)

قوله عز وجل : { يَا مَعشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ } المعشر : الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ، ومنه قيل للعَشَرَة لأنها تمام العِقْد .
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلُ مِنْكُمْ يَقُصُّون عَلَيْكُمْ ءَايَاتِي } اختلفوا في الرسالة إلى الجن على ثلاثة أقاويل .
أحدها : ان الله بعث إلى الجن رسلاً منهم ، كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم ، قاله الضحاك وهو ظاهر الكلام .
والثاني : أن الله لم يبعث إليهم رسلاً منهم ، وإنما جاءتهم رسل الإنس ، قاله ابن جريج ، والفراء ، والزجاج ، ولا يكون الجمع في قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنُكُمْ } مانعاً من أن يكون الرسل من أحد الفريقين ، كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] وإنما هو خارج من أحدهما .
والثالث : أن رسل الجن هم الذين لمَّا سمعوا القرآن { وَلَّواْ إِلَى قَومِهِم مُّنذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] ، قاله ابن عباس .
وفي دخولهم الجنة قولان :
أحدهما : قاله الضحاك .
والثاني : أن ثوابهم أن يجاروا من النار ، ثم يُقَال لهم كونوا تراباً كالبهائم ، حكاه سفيان عن ليث .
{ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : ينذرونكم خذلان بعضكم لبعض وتبرؤ بعضكم من بعض في يوم القيامة .
والثاني : ينذرونكم ما تلقونه فيه من العذاب على الكفر ، والعقاب على المعاصي .
{ قالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : إقرارهم على أنفسهم بأن الرسل قد أنذروهم .
والثاني : شهادة بعضهم على بعض بإنذار الرسل لهم .
{ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } فيه وجهان :
أحدهما : وغرتهم زينة الحياة الدنيا .
والثاني : وغرتهم الرياسة في الدنيا .
ويحتمل ثالثاً : وغرتهم حياتهم في الدنيا حين أمهلوا .
{ وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِم } وفي هذه الشهادة أيضاً الوجهان المحتملان إلا أن تلك شهادة بالإنذار وهذا بالكفر .

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

قوله تعالى : { ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : وما كان ربك مهلك القرى بظلم منه ولكن بحق استوجبوا به الهلكة ، وهو معنى قول مقاتل .
والثاني : وما كان ربك مهلك القرى بظلم أهلها حتى يقدم إنذارهم ويرفع أعذارهم ويخرجوا من حكم الغافلين فيما ينزل بهم ، وهو معنى قول مجاهد .
قوله عز وجل : { وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } معناه ولكل عامل بطاعة الله أو معصيته درجات ، يعني منازل ، وإنما سُمِّيت درجات لتفاضلها كتفاضل الدَرَجِ في الارتفاع والانحطاط .
وفيها وجهان :
أحدهما : أن المقصود بها الأعمال المتفاضلة .
والثاني : أن المقصور بها الجزاء المتفاضل .
ويحتمل هذا التفضيل بالدرجات على أهل الجنة ، وأهل النار ، لأن أهل النار يَتفاضلون في العقاب بحسب تفاضلهم في السيئات ، كما يتفاضل أهل الجنة في الثواب لتفاضلهم في الحسنات ، لكن قد يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدَرَج ، وعن تفاضل أهل النار بالدرك ، فإذا جمع بينهما بالتفاضل عبر عن تفاضلهما بالدرج تغليباً لصفة أهل الجنة .

وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

قوله عز وجل : { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُم } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : على طريقتكم .
والثاني : على حالتكم .
والثالث : على ناحيتكم ، قاله ابن عباس ، والحسن .
والرابع : على تمكنكم ، قاله الزجاج .
والخامس : على منازلكم ، قاله الكلبي .
{ إِنِّي عَامِلٌ } يعني أنذركم من جزاء المطيع بالثواب ، والعاصي بالعقاب .
{ فَسَوفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونَ لَهُ عاقِبَةٌ الدَّارِ } فيه وجهان :
أحدهما : تعلمون ثواب الآخرة بالإيمان ، وعقابها بالكفر ترغيباً منه في ثوابه وتحذيراُ من عقابه .
والثاني : تعلمون نصر الله في الدنيا لأوليائه ، وخذلانه لأعدائه ، قاله ابن بحر .

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)

قوله عز وجل : { وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً } . .
{ مِمَّا ذَرَأَ } مما خلق ، مأخوذ من الظهور ، ومنه قيل ملح ذُرْ أي لبياضه ، وقيل لظهور الشيب ذُرْأَة ، والحرث : الزرع ، والأنعام : الإبل والبقر والغنم ، مأخوذ من نعمة الوطء .
وهذا إخبار منه عن كفار قريش ومن تابعهم من مشركي العرب ، كانوا يجعلون لله في زروعهم ومواشيهم نصيباً ، ولأوثانهم وأصنامهم نصيباً ، فجعل الله أوثانهم شركاءهم؛ لأنهم قد أشركوهم في أموالهم بالنصيب الذي قد جعلوه فيها لهم ، ونصيبهم في الزرع جزء منها يجعلونه مصروفاً في النفقة عليها وعلى خدامها .
وفي نصيبهم من الأنعام ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كنصيبهم من الزرع مصروف في النفقة عليها وعلى خدامها .
والثاني : أنه قربان لأوثانهم كانوا يتقربون به إليها .
والثالث : أنه البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام .
ثم قال تعالى : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِم فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ } فاختلف أهل التأويل في المراد بذلك على أربعة أوجه :
أحدها : أنه كان إذا اختلط بأموالهم شيء مما جعلوه لأوثانهم ، ردوه ، وإذا اختلط بها ما جعلوه لله لم يردوه ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
والثاني : أنه كان إذا هلك ما لأوثانهم غرموه ، وإذا هلك ما لله لم يغرموه ، قاله الحسن ، والسدي .
والثالث : أنهم كانوا يصرفون بعض ما جعلوه لله في النفقة على أوثانهم ولا يفعلون مثل ذلك فيما جعلوه لأوثانهم ، قاله بعض المتأخرين .
والرابع : أن كل شيء جعلوه لله من ذبائحهم لم يأكلوه حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم ، ولا يذكرون اسم الله فيما جعلوه لأوثانهم ، قاله ابن زيد .

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)

قوله عز وجل : { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } أما شركاؤهم ها هنا ففيهم أربعة أقاويل :
أحدها : الشياطين ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والسدي .
والثاني : أنهم قوم كانوا يخدمون الأوثان ، قاله الفراء ، والزجاج .
والثالث : أنهم الغواة من الناس .
وفي الذي زينوه لهم من قتل أولادهم قولان :
أحدهما : أنه كان أحدهم يحلف إن وُلِدَ له كذا وكذا غلام ان ينحر أحدهم كما حلف عبد المطلب في نحر ابنه عبد الله ، قاله الكلبي .
والثاني : أنه وَأَدُ البنات أحياءً خِيْفَة الفقر ، قاله مجاهد .
{ لِيُرْدُوهُمْ } أي ليهلكوهم ، ومنه قوله تعالى : { وَمَا يُغْنِي عَنهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } [ الليل : 11 ] يعني إذا هلك .
وفي ذلك وجهان : أحدهما : أنهم قصدوا أن يردوهم بذلك كما قصدوا إغواءَهم .
والثاني : أنهم لم يقصدوا ذلك وإنما آلَ إليه فصارت .
هذه لام العاقبة كقوله : { فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] لأن عاقبته صارت كذلك وإن لم يقصدوها .

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)

قوله عز وجل : { وَقَالُوا هَذِهِ أَنعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ } أي ومنه قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً } [ الفرقان : 22 ] أي حراماً ، قال الشاعر :
قبت مرتفقاً والعين ساهرة ... كأن نومي عليَّ الليل محجور
{ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ } قال الكلبي : جعلوها للرجال دون النساء .
وفي الأنعام والحرث التي قالوا إنه لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم قولان .
أحدهما : أن الأنعام التي يحكمون فيها بهذا الحكم عندهم هي البَحِيْرَة والحام خاصة ، والحرث ما جعلوه لأوثانهم ، قاله الحسن ، ومجاهد .
والثاني : أن الأنعام هي ذبائح الأوثان ، والحرث ما جعلوه لها .
ثم قال تعالى : { وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا } فيها قولان :
أحدهما : أنها السائبة .
والثاني : أنها التي لا يحجون عليها ، قاله أبو وائل .
{ وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } وهي قربان أوثانهم يذكرون عليها اسم الأوثان ، ولا يذكرون عليها اسم الله تعالى .
{ افْتِرَآءً عَلَيْهِ } أي على الله وفيه قولان :
أحدهما : أن إضافتهم ذلك إلى الله هو الافتراء عليه .
والثاني : أن ذكرهم أسماء أوثانهم عند الذبيحة بدلاً من اسم الله هو الافتراء عليه .

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)

{ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } ، قرأ الأعمش { خَالِصٌ } ، وفي { خَالِصَةٌ } وفي { خَالِصٌ } وجهان :
أحدهما : أن { خَالِصَةٌ } أبلغ من { خَالِصٌ } وإن كانت في معناه فدخلت الهاء للمبالغة كقولهم : علاَّمة ، ونسَّابة ، قاله الكسائي .
والثاني : أن دخول الهاء يوجب عوده إلى الأنعام لتأنيثها ، وحذف الهاء ، يوجب عوده إلى ما في بطونها لتذكيره ، قاله الفراء .
وفي ذلك ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن ما في بطونها الأجنة ، قاله : مجاهد .
والثاني : الألبان ، قاله قتادة .
والثالث : الجميع : الأجنة والألبان ، قاله مقاتل .
وفي جعلهم ذلك لذكورهم دون إناثهم وأزواجهم قولان :
أحدهما : لأن الذكور هم خدام الأوثان .
والثاني : تفضيلاً للذكور على الإناث .
وأصل الذكور من الذِّكْر ، وفي أخذه من الذِّكْر وجهان :
أحدهما : لأنه المذكور بين الناس فكان أنبه ذِكْراً من الأنثى .
والثاني : لأنه أشرف ، والذِّكْر هو الشرف ، قاله الله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] أي شرف .

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْروشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ . . . } أما الجنات فهي البساتين يحفها الشجر ، وأما الروضة فهي الخضراء بالنبات ، وأما الزهرة فهي باختلاف الألوان الحسنة .
وفي قوله : { مَعْرُوشَاتٍ } أربعة أقاويل :
أحدها : أنه تعريش الناس الكروم وغيرها ، بأن ترفع أغصانها ، قاله ابن عباس ، والسدي .
والثاني : أن تعريشها هو رفع حظارها وحيطانها .
والثالث : أنها المرتفعة عن الأرض لعلو شجرها ، فلا يقع ثمرها على الأرض ، لأن أصله الارتفاع ولذلك سُمِّيَ السرير عرشاً لارتفاعه ، ومنه قوله تعالى : { خاوية على عروشها } [ الكهف : 42 ] و [ الحج : 45 ] أي على أعاليها وما ارتفع منها .
والرابع : أن المعروشات ما عرشه الناس ، وغير المعروشات ما نبت في البراري والجبال .
{ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وإنما قدم ذكر الأكل لأمرين :
أحدهما : تسهيلاً لإيتاء حقه .
والثاني : تغليباً لحقهم وافتتاحاً بنفعهم بأموالهم .
وفي قوله : { وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : الصدقة المفروضة فيه : العُشْر فيما سقي بغير آلة ، ونصف العشر فيما سقي بآلة ، وهذا قول الجمهور .
والثاني : أنها صدقة غير الزكاة ، مفروضة يوم الحصاد والصرام وهي إطعام من حضر وترك ما تساقط من الزرع والثمر ، قاله عطاء ومجاهد .
والثالث : أن هذا كان مفروضاً قبل الزكاة ثم نسخ بها ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم .
{ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أن هذا الإسراف المنهي عنه هو أن يتجاوز رب المال إخراج القدر المفروض عليه إلى زيادة تجحف به ، قاله أبو العالية ، وابن جريج .
وقد روى سعد بن سنان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المُعْتَدِي فِي الصَّدَقَةِ كَمَانِعِهَا » وقيل : إنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وقد تصدق بجميع ثمرته حتى لم يبق فيها ما يأكله .
والثاني : هو أن يأخذ السلطان منه فوق الواجب عليه ، قاله ابن زيد .
والثالث : هو أن يمنع رب المال من دفع القدر الواجب عليه ، قاله سعيد بن والمسيب .
والرابع : أن المراد بهذا السرف ما كانوا يشركون آلهتهم فيه من الحرث والأنعام ، قاله الكلبي .
والخامس : هو أن يسرف في الأكل منها قبل أن يؤدي زكاتها ، قاله ابن بحر .
قوله عز وجل : { وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الحمولة كبار الإبل التي يُحْمَلُ عليها ، والفرش صغارها التي لا يحمل عليها ، مأخوذ من افتراش الأرض بها على الاستواء كالفرش .
وقال ابن بحر الافتراش الإضجاع للنحر ، فتكون الحمولة كبارها ، والفرش صغارها ، قال الراجز :
أورثني حمولة وفرشا ... أمشّها في كل يوم مشّا
أي أمسحها ، قاله ابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد .

والثاني : أن الحَمُولة ما حُمِلَ عليه من الإبل والبقر ، والفرش : الغنم ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، ومنه قول ابن مسلمة :
وحوينا الفرش من أنعامكم ... والحمولات وربات الحجل
والثالث : أن الحملة ما حمل من الإبل ، والبقر ، والخيل ، والبغال ، الحمير ، والفرش ما خلق لهم من أصوافها وجلودها .
{ كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : من الحمولة ليبين أن الانتفاع بظهرها لا يمنع من جواز أكلها .
والثاني : أنه إذن منه في عموم أكل المباح من أموالهم ، ونهى عن أكل ما لا يملكونه .
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } فيها قولان :
أحدهما : أنها طريقه التي يدعوكم إليها من كفر وضلال .
والثاني : أنها تخطيه إلى تحريم الحلال وتحريم الحرام ، وقد ذكرنا ما في ذلك من زيادة التأول ومن الاحتمال ، وأنه الانتقال من معصية إلى أخرى حتى يستوعب جميع المعاصي ، مأخوذ من خطو القدم : انتقالها من مكان إلى مكان .
{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } فيه قولان :
أحدهما : أنه ما بان لكم من عداوته لأبيكم آدم .
والثاني : ما بان لكم من عداوته لأوليائه من الشياطين ، قاله الحسن .

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

قوله عز وجل : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أما الزوج فاسم ينطلق على الواحد وعلى الاثنين ، يقال للاثنين زوج ، ويقال للواحد زوج لأنه لا يكون زوجاً إلا ومعه آخر له مثل اسمه ، قال لبيد :
من كل محفوف يظل عصيه ... زوج عليه كلة وقرامها
فلذلك قال : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } لأنها ثمانية آحاد .
ثم فسرها فقال : { مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } يعني ذكراً وأنثى .
{ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } يعني ذكراً وأنثى .
{ قُلُ ءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ } إبطالاً لما حرمته الجاهلية منها في البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام .
{ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ } يعني قولهم : { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَرْحَامِ خالصةً لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } .
ثم قال تعالى : { وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } يريد به ما أراده في الضأن والمعز وأن هذه الثمانية أزواج حلال لا يحرم منها شيء بتحريمكم .
حكى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه عوف بن مالك ، فقال له : أَحَلَّلْتَ ما حرمه أباؤنا ، يعني من البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال : { ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ } فسكت عوف لظهور الحجة عليه .

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

قوله عز وجل : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } يعني أن ما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام لم يحرمه الله تعالى ولا أوحى إليَّ بتحريمه ، ثم بيَّن المحرَّم على وجه الاستثناء لأن نفي التحريم خرج مخرج العموم ، فقال : { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } وهي التي خرجت روحها بغير ذكاة .
{ أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } يعني مهراقاً مصبوباً ومنه سمي الزنا سفاحاً لصب الماء فيه ضائعاً ، وقال طرفة بن العبد :
إني وجدَّك ما هجوتك والأن ... صاب يسفح فوقهن دم
فأما الدم غير مسفوح فإن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال لقوله صلى الله عليه وسلم : « أُحِلَّتْ لَنَا مِيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، فَالمِيْتَتَانِ : الحُوتُ وَالجَرَادُ ، وَالدَّمَانِ : الكَبِدُ وَالطُّحَالُ
» . وإن كان غير ذي عروق يجمد عليها وإنما هو مع اللحم وفيه ، ففي تحريمه قولان :
أحدهما : لا يحرم لتخصيص التحريم بالمسفوح ، وهو قول عائشة ، وعكرمة ، وقتادة ، قال عكرمة : لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود .
والثاني : أنه حرام لأنه من جملة المسفوح وبعضه ، وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه .
{ أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } يعني نجساً حراماً .
{ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } يعني ما ذبح للأوثان والأصنام ، سماه فسقاً لخروجه عن أمر الله .
فإن قيل : لم اقتصر هنا على تحريم هذه الأربعة وقد ذكر في المائدة غيرها من المنخنقة والموقوذة والمتردية؟ قيل : لأن هذا كله من جملة الميتة فذكره هناك مفصلاً وها هنا في الجملة .
وفي هذه الآية قولان :
أحدهما : أنها مشتملة على جميع المحرمات فلا يحرم من الحيوان ما عدا هذا المذكور فيها ، وهذا قول ابن عباس ، وعائشة .
والثاني : أنا تشتمل على تحريم ما تضمنها وليست مستوعبة لجميع المحرمات لما جاءت به السنة من تحريم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ، وهذا قول الجمهور .

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)

قوله عز وجل : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } هذا التحريم على الذين هادوا إنما هو تكليف بلوى وعقوبة ، فأول ما ذكره من المحرمات عليهم { كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي .
والثاني : أنه عنى أنواع السباع كلها .
والثالث : أنه كل ذي مخلب من الطير ، وكل ذي حافر من الدواب .
ثم قال : { وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها شحوم الثّرْب خاصة ، قاله قتادة .
والثاني : أنه كل شحم لم يكن مختلطاً بعظم ولا على عظم ، قاله ابن جريج .
والثالث : أنه شحم الثرب والكلى ، قاله السدي وابن زيد .
ثم قال : { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } يعني شحم الجنب وما علق بالظهر فإنه لم يحرم عليهم .
ثم قال : { أَوْ الْحَوَايَآ } وفيها أربعة تأويلات :
أحدها : أنها المباعر ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي .
والثاني : أنها بنات اللبن ، قاله عبد الرحمن بن زيد .
والثالث : أنها الأمعاء التي عليها الشحم من داخلها ، قاله بعض المتأخرين .
والرابع : أنها كل ما تحوّى في البطن واجتمع واستدار ، قاله علي بن عيسى .
{ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } فيه قولان :
أحدهما : أنه شحم الجنب .
والثاني : أنه شحم الجنب والأليه ، لأنه على العصعص ، قاله ابن جريج ، والسدي .
{ ذَالِكَ جَزَيْنَاهُم ببَغْيِهِمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : ببغيهم على موسى عليه السلام فيما اقترحوه وعلى ما خالفوه .
والثاني : ببغيهم على أنفسهم في الحلال الذي حرموه .
{ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فيما حكاه عنهم وحرمه عليهم .

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

قوله عز وجل : { قُلْ تَعَالَواْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمُ عَلَيْكُمُ } وهذا أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أن يدعو الناس إليه ليتلو عليهم ما حرمه الله عليهم ، وما أحله لهم ليقلعوا عما كانت الجاهلية عليه من تحريم المباح وإباحة الحرام .
والتلاوة : هي القراءة ، والفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء أن التلاوة والقراءة للمرة الأولى ، والمتلو والمقروء للثانية وما بعدها ، ذكره علي بن عيسى ، والذي أراه من الفرق بينهما أن التلاوة والقراءة يتناول اللفظ ، والمتلو والمقروء يتناول الملفوظ .
ثم إن الله أخذ فيا حرم فقال : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : ألا تشركوا بعبادته عبادة غيره من شيطان أو وثن .
والثالث : أن يحمل الأمرين معاً .
ثم قال : { وَبَالْوَالِدَينَ إِحْسَاناً } تقديره : وأوصيكم بالوالدين إحساناً ، والإحسان تأدية حقوقهما ومجانبة عقوقهما والمحافظة على برهما .
{ وَلاَ تَقْتُلُوْاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقَكُمْ وَإِيَّاهُمْ } وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق .
وفي الإملاق قولان :
أحدهما : أنه الإفلاس ، ومنه الملق لأنه اجتهاد المفلس في التقريب إلى الغنى طمعاً في تأجيله .
والثاني : أن الإملاق ومعناهما قريب وإن كان بينهما فرق ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، والضحاك ، وابن جريج .
ثم ذكر فساد اعتقادهم في الإملاق بأن قال : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لأن رزق العباد كلهم ، من كفيل ومكفول ، على خالقهم .
ثم قال : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وفيها أربعة تأويلات :
أحدها : أن ذلك عام في جميع الفواحش سرها وعلانيتها ، قاله قتادة .
والثاني : أنه خاص في الزنى ، ما ظهر منها : ذوات الحوانيت ، وما بطن : ذوات الاستسرار ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والسدي .
والثالث : ما ظهر منها : نكاح المحرمات ، وما بطن : الزنى ، قاله مجاهد ، وابن جبير .
والرابع : أن ما ظهر منها : الخمر ، وما بطن منها : الزنى ، قاله الضحاك .
وقد ذكرنا فيه احتمال تأويل خامس : أن ما ظهر منها أفعال الجوارح ، وما بطن منها اعتقاد القلوب .
ثم قال : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } والنفوس المحرمة : نفس مسلم ، أو معاهد ، والحق الذي تقتل به النفس ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ ، أَوْزِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ
» . ثم قال : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } يعني أن الله وصى عباده بذلك ، ووصية الله واجبة .
ثم قال : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : تعقلون تحريم ذلك عليكم وتعلمونه .
والثاني : تعملون عمل من يعقل وهو ترك ما أوجب العقاب من هذه المحرمات .

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

قوله عز وجل : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } إنما خص مال اليتيم بالذكر وإن كان مال غيره في التحريم بمثابته ، لأن الطمع فيه لقلة مراعيه أقوى ، فكان بالذكر أولى .
وفي قوله : { إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أربعة تأويلات :
أحدها : حفظ ماله عليه إلى أن يكبر ليتسلمه ، قاله الكلبي .
والثاني : أن ذلك هو التجارة به ، قاله مجاهد .
والثالث : هو ألا يأخذ من الربح إذا اتجر له بالمال شيئاً ، قاله الضحاك .
والرابع : هو أن يأكل الولي بالمعروف من ماله إن افتقر ، ويترك إن استغنى ، ولا يتعدى من الأكل إلى الباس ولا غيره ، قاله ابن زيد .
ويحتمل خامساً : أن التي هي أحسن : حفظ أصوله وتثمير فروعه .
ثم قال : { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } والأشُد القوة والشباب .
وفي حدها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الحلم حين تكتب له الحسنات وعليه السيئات ، قاله ربيعة ، وزيد بن أسلم ، ومالك .
والثاني : أن الأَشُد ثلاثون سنة ، قاله السدي .
والثالث : أن الأشد ثماني عشرة سنة ، ذكره علي بن عيسى وفيه وجوه أُخَر نذكرها من بعد .
ثم قال تعالى : { وَأَوْفُواْ الْكَيلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } يعني بالعدل ، أمر في مال البائع من تأدية بمثل ما أُمِر به في مال اليتيم .
ثم قال : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } يعني أنه لما كان العدل في الوزن والكيل مستحقاً ، وكان تحديد أقل القليل متعذراً ، كان ذلك عفواً ، لأنه لا يدخل في الوسع فلم يكلفه .
ثم قال : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : إذا حكمتم فأنصفوا .
الثاني : إذا شهدتم فاصدقوا .
الثالث : إذا توسطتم فلا تميلوا .
ثمَ قال : { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ } فيه قولان :
أحدهما : أن عهد الله كل ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره .
الثاني : أنه الحلف بالله أن يلزم الوفاء به إلا في معصية .
{ ذَالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه راجع إلى الذين هادوا وما أوصاهم به في التوراة .
والثاني : أنه راجع إلى المسلمين وما وصاهم به في القرآن .
قوله عز وجل : { وََأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } فيه قولان :
أحدهما : القرآن .
والثاني : الشرع وسُمِّيَ ذلك صراطاً ، والصراط هو الطريق لأنه يؤدي إلى الجنة فصار طريقاً إليها .
{ فَاتَّبِعُوهُ } يعني في العمل به .
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما تقدم من الكتب المنزلة نسخها بالقرآن ، وهو محتمل .
والثاني : ما تقدم من الأديان المتقدمة نسخها بالإسلام وهو محتمل .
والثالث : البدع والشبهات .
{ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } يعني عن طريق دينه .
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يكون سبيله نصرة دينه وجهاد أعدائه ، فنهى عن التفرق وأمر بالأجتماع .

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)

قوله عز وجل : { ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ }
وفي قوله : { تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } خمسة أقاويل :
أحدها : تماماً على إحسان موسى بطاعته ، قاله الربيع ، والفراء .
والثاني : تماماً على المحسنين ، قاله مجاهد ، وكان ابن مسعود . يقرأ : { تَمَاماً عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ } .
والثالث : تماماً على إحسان الله إلى أنبيائه ، قاله ابن زيد .
والرابع : تماماً لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا ، قاله الحسن وقتادة .
والخامس : تماماً لنعمة الله على إبراهيم لأنه من ولده ، قاله ابن بحر .

أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

قوله عز وجل : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلآئِكَةُ } فيه وجهان :
أحدهما : هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة رسلاً ، يعني الكفار الذين يتوقفون عن الإيمان مع ظهور الدلائل .
والثاني : هي ينظرون يعني في حُجَج الله ودلائله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ، قاله جويبر .
{ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : أمر ربك بالعذاب ، قاله الحسن .
والثاني : قضاء ربك في القيامة ، قاله مجاهد .
{ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه طلوع الشمس من مغربها ، قاله مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، قال ابن مسعود : مع القمر في وقت واحد وقرأ : { وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } [ القيامة : 9 ] .
والثاني : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض ، قاله أبو هريرة .
{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ . . . } في أول آيات الساعة وآخرها قولان :
أحدهما : أن أولها الدجال ، ثم الدخان ، ثم يأجوج ومأجوج ، ثم الدابة ، ثم طلوع الشمس من مغربها ، { لاَ يَنْفَعُ نَفْسَاً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِِن قَبْلُ } هذا قول معاذ بن جبل .
والثاني : أن أولها خروج الدجال ، ثم خروج يأجوج ومأجوج ، ثم طلوع الشمس من مغربها { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مَن قَبْلُ } ثم خروج الدابة ، وهذا قول حذيفة بن اليمان ورواه مرفوعاً .
ثم اختلفوا في ألا ينفعها إيمانها بظهور أول الآيات أو بظهور آخرها على قولين :
أحدهما : إذا خرج أول الآيات ، طرحت الأقلام ، وجلست الحفظة ، وشهدت الأجساد على الأعمال .
والقول الثاني : أن ذلك يكون بخروج آخر الآيات ليكون لنا فيها أثر في الإنذار .
ثم قال : { أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيَمَانِهَا خَيْراً } أما إيمانها قبل هذه الآيات فمُعْتَدٌّ به ، وأما بعدها فإن لم تكسب فيه خيراً لم يُعْتَدّ به ، وإن كسبت فيه خيراً ففي الاعتداد به قولان :
أحدهما : يُعْتَدُّ به ، وهو ظاهر الآية أن يكون قبل الآيات أو بعده .
والثاني : لا يُعْتَدُّ به ، ويكون معناه : لم تكن آمنت من قبل وكسب في إيمانها خيراً ، وهذا قول السدي .
وفي الخير الذي تكسبه وجهان :
أحدهما : تأدية الفروض على أكمل أحوالها .
والثاني : التطوع بالنوافل بعد الفروض .
روى مجاهد عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحُ مِن قِبَلِ المَغْرِبِ ، فَالتَّوْبَةُ مَقْبَولَةٌ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ : مِنْ إِبْلِيس رَأْسِ الكُفْرِ ، وَمِنْ قَابِيل قَاتِلِ هَابِيلَ ، وَمَنْ قَتَلَ نَبِيَّا لاَ تَوْبَةَ لَهُ ، فَإِذَا طَلَعَت الشَّمْسُ مِن ذَلِكَ البَابِ كَالعَكَرِ الأَسْوَدِ لاَ نَورَ لَهَا حَتَّى تَتَوَسَّطَ السَّماءَ ثُمَّ تَرْجِعُ فِيُغْلَقُ البَابُ وَتُرَدُّ التَّوبَةُ فَلاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُن ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيراً ، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى مَشَارِقَهَا ، فَتَطْلُعُ بَعْدَ ذلِكَ عِشْرِينَ وَمِائَة سَنَة إِلاَّ أَنَّهَا سُنُونَ تَمُرُّ مَراً » .

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)

قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمُ وَكَانُواْ شِيَعاً } فيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم اليهود خاصة ، قاله مجاهد .
والثاني : اليهود والنصارى ، قاله قتادة .
والثالث : أنهم جميع المشركين ، قاله الحسن .
والرابع : أهل الضلالة من هذه الأمة ، قاله أبو هريرة .
وفي تفريقهم الذي فرقوه قولان :
أحدهما : أنه الدين الذي أمر الله به ، فرقوه لاختلافهم فيه باتباع الشبهات .
والثاني : أنه الكفر الذي كانوا يعتقدونه ديناً لهم .
ومعنى قوله : { وَكَانُواْ شيَعاً } يعني فرقاً .
ويحتمل وجهاً آخر : أن يكون الشيع المتفقين على مشايعة بعضهم لبعض ، وهو الأشبه ، لأنهم يتمالأون على أمر واحد مع اختلافهم في غيره .
وفي أصله وجهان :
أحدهما : أصله الظهور ، من قولهم شاع الخبر إذا ظهر .
والثاني : أصله الاتباع ، من قولهم شايعه على الأمر إذا اتبعه ، قاله الزجاج .
ثم قال تعالى : { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } فيه قولان :
أحدهما : لست من قتالهم في شيء ، ثم نسخها بسورة التوبة ، قاله الكلبي .
والثاني : لست من مخالطتهم في شيء ، نَهْيٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم عن مقاربتهم ، وأمر له بمباعدتهم ، قاله قتادة ، كما قال النابغة :
إذا حاولت في أسد فجوراً ... فإني لست منك ولست مني .

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)

قوله عز وجل : { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } في الحسنة والسيئة هنا قولان :
أحدهما : أن الحسنة الإيمان ، والسيئة الكفر ، قاله أبو صالح .
والثاني : أنه على العموم في الحسنات والسيئات أن جعل جزاء الحسنة عشر أمثالها تفضلاً ، وجعل جزاء السيئة مثلها عدلاً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ غَلَبَتْ وَاحِدَتُهُ عَشْراً
» . ثم في ذلك قولان :
أحدهما : أنه عام في جميع الناس .
والثاني : أنه خاص في الأعراب إذا جاء أحدهم بحسنة فله عشر أمثالها ، فأما غيرهم من المهاجرين فلمن جاء منهم بحسنة سبعمائة ، قاله ابن عمر ، وأبو سعيد الخدري .
فأما مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها فلأن الله فرض عُشْر أموالهم ، وكانوا يصومون في كل شهر ثلاثة أيام وهي البيض منه ، فكان آخر العُشْر من المال آخر جميع المال ، وآخر الثلاثة الأيام آخر جميع الشهر .
وأما مضاعفة ذلك بسبعمائة ضعف فلقوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلِةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لَمَنْ يَشَآءُ } [ البقرة : 261 ] ، فضاعف الله الحسنة بسبعمائة ضعف ، وكان الحسن البصري يقرأ : { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالُهَا } بالتنوين ، وَوَجْهُهُ في العربية صحيح .
وحكى ابن بحر في الآية تأويلاً يخرج عن عموم الظاهر ، وهو أن الحسنة اسم عام يطلق على كل نوع من الإيمان وينطلق على عمومه ، فإن انطلقت الحسنة على نوع واحد منه ، فليس له عليها من الثواب إلا مثل واحد ، وإن انطلقت على حسنة تشتمل على نوعين ، كان الثواب عليها مثلين كقوله : { اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُم كفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] ، والكفل : النصيب كالمثل ، فجعل لمن اتقى وآمن بالرسول نصيبين ، نصيباً لتقوى الله ، ونصيباً لإيمانه برسوله ، فدل على أن الحسنة التي جعلت لها عشر أمثالها هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات ، وهو الإيمان الذي جمع الله في صفته عشرة أنواع بقوله : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } إلى قوله : { وَأَجْراً عَظِيماً } [ الاحزاب : 35 ] ، فكانت هذه الأنواع العشرة التي ثوابها عشرة أمثالها ، فيكون لكل نوع منها مثل ، وهذا تأويل فاسد ، لخروجه عن عموم الظاهر ، لما لا يحتمله تخصيص العموم ، لأن ما جمع عشرة أنواع فهو عشر حسنات ، فليس يجزي عن حسنة إلا مثلها ، وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها .
وذكر بعض المفسرين تأويلاً ثالثاً : أن له عشر أمثالها في النعيم والزيادة لا في عظيم المنزلة ، لأن منزلة التعظيم لا تنال إلا بالطاعة ، وهذه مضاعفة تفضيل كما قال : { لِيُوَفِّيهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } [ فاطر : 30 ] .

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)

قوله عز وجل : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } هذا أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر للناس حال عبادته ومن له الأمر في حياته ومماته .
فقال { إِنَّ صَلاَتِي } وهي الصلاة المشروعة ذات الركوع والسجود المشتملة على التذلل والخضوع لله تعالى دون غيره من وثن أو بشر .
ثم قال : { وَنُسُكِي } وفيه هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الذبيحة في الحج والعمرة ، قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك .
والثاني : معناه ديني ، قاله الحسن .
والثالث : معناه عبادتي ، قاله الزجاج ، من قولهم فلان ناسك أي عابد ، والفرق بين الدين والعبادة : أن الدين اعتقاد ، والعبادة عمل .
قوله تعالى : { وَمَحيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن حياته ومماته بيد الله تعالى لا يملك غيره له حياة ولا موتاً ، فلذلك كان له مصلياً وناسكاً .
والثاني : أن حياته لله في اختصاصها بطاعته ، ومماته له في رجوعه إلى مجازاته .
ووجدت فيها وجهاً ثالثاً : أن عملي في حياتي ووصيتي عند مماتي لله .
ثم قال : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } صفة الله تعالى أنه مالك العالم دون غيره ، فلذلك كان أحق بالطاعة والتعبد من غيره .
ثم قال تعالى : { لاَ شَرِيكَ لَهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا شريك له في ملك العالمين .
والثاني : لا شريك له في العبادة .
{ وَبِذَالِكَ أُمِرْتُ } يعني ما قدم ذكره .
{ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } يعني من هذه الأمة حثّاً على اتباعه والمسارعة بالإٍسلام .

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)

قوله عز وجل : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } وسبب [ نزول ] ذلك أن كفار قريش دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه في عبادة اللات والعزى ، وقالوا : يا محمد إن كان وزراً فهو علينا دونك ، فنزلت هذه الآية عليه .
{ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } يعني إلا عليها عقاب معصيتها ولها ثواب طاعتها .
{ َوَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي لا يتحمل أحد ذنب غيره فيأثم به ويعاقب عليه ، ولا يحمل ذنبه غيره ، فيبرأ منه ويسلم من عقابه .
وفي أصل الوزر وجهان :
أحدهما : أصله الثقل ، من قوله : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [ الشرح : 2-3 ] ومنه سمي وزير الملك لتحمله القل عنه .
والثاني : أن أصله الملجأ من قوله : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] ومنه سُمِّي وزير المَلِكِ لأنه يلجأ إليه في الأمور .

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

قوله عز وجل : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلآئِفَ الأَرْضِ } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه جعلهم خلفاً من الجان سكاناً للأرض ، قاله ابن عباس .
والثاني : أن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله ، كلما مضى أهل عصر خلفه أهل عصر بعده على انتظام ، حتى تقوم الساعة على العصر الأخير فلا يخلق عصر ، فصارت هذه الأمة خلفاً للأمم الماضية .
والثالث : جعل بعضهم خليفة لبعض ليتآلفوا بالتعاون .
والرابع : لأنهم آخر الأمم وكانوا خلفاً لمن تقدمهم ، قال الشماخ :
تصيبكم وتخطئني المنايا ... وأخلق في ربوع عن ربوع
{ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } يعني ما خالف بينهم في الغنى بالمال وشرف الآباء وقوة الأجسام ، وهذا ، وإن ابتدأه تفضلاً من غير جزاء ولا استحقاق ، لحكمة منه تضمنت ترغيباً في الأعلى وترهيباً من الأدنى ، لتدم له الرغبة والرهبة .
وقد نبه على ذلك بقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءَاتَاكُمْ } يعني من الغنى والقوة وفيه وجهان :
أحدهما : ليختبركم بالاعتراف .
{ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ } فإن قيل : فكيف جعله سريعاً وهو في الآخرة؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن كل آت قريب ، كقوله : { وَمَا أَمْرُ الْسَّاعِةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] .
والثاني : إن ربك سريع العقاب في الدنيا لمن استحق منه تعجيل العقاب فيها .
والثالث : أنه إذا شاء عاقب ، فصار عقابه سريعاً لأنه يقترن بمشيئته ، وهذ قول ابن بحر .
{ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } جمعاً منه بين ما يقتضي الرهبة من سرعة العقاب وبين ما يقتضي الرغبة من الغفران والرحمة ، لأن الجمع بين الرغبة والرهبة أبلغ في الانقياد إلى الطاعة والإقلاع عن المعصية ، والله عز وجل أعلم .

المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)

قوله عز وجل : { المص } فيه لأهل التأويل تسعة أقاويل :
أحدها : معناه : أنا الله أُفَضِّل ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير .
والثاني : أنه [ حرف ] هجاء [ من ] المصور ، قاله السدي .
والثالث : أنه اسم السورة من أسماء القرآن ، قاله قتادة .
والرابع : أنه اسم السورة مفتاح لها ، قاله الحسن .
والخامس : أنه اختصار من كلام يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً .
والسادس : هي حروف هجاء مقطعة نبه بها على إعجاز القرآن .
والسابع : هي من حساب الجمل المعدود استأثر الله بعلمه .
والثامن : هي حروف تحوي معاني كثيرة دل الله تعالى خلقه بها على مراده من كل ذلك .
والتاسع : هي حروف اسم الله الأعظم .
ويحتمل عندي قولاً عاشراً : أن يكون المراد به : المصير إلى كتاب أنزل إليك من ربك ، فحذف باقي الكلمة ترخيماً وعبر عنه بحروف الهجاء لأنها تذهب بالسامع كل مذهب ، وللعرب في الاقتصار على الحروف مذهب كما قال الشاعر :
قلت لها قفي فقالت قاف ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي وقفت .
قوله عز وجل { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ } يعني القرآن .
{ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } وفي الحرج ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه الضيق ، قاله الحسن ، وهو أصله .
قال الشماخ بن ضرار :
ولو ردت المعروف عندي رددتها ... لحاجة لا العالي ولا المتحرج
ويكون معناه : فلا يضيق صدرك خوفاً ألا تقوم بحقه .
والثاني : أن الحرج هنا الشك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي . قال الراجز :
آليت لولا حرج يعروني ... ما جئت أغزوك ولا تغزوني
ومعناه : فلا تشك فيما يلزمك فيه فإنما أنزل إليك لتنذر به .
والثالث : فلا يضيق صدرك بأن يكذبوك ، قاله الفراء .
ثم قال : { لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } فجعله إنذاراً للكافرين وذكرى للمؤمنين ليعود نفعه على الفريقين .

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)

قوله عز وجل : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } الآية ، هذا إخبار من الله تعالى عن حال من أهلكه بكفر تحذيراً للمخاطبين به عن مثله ، وقوله : { وَكَم } هي كلمة توضع للتكثير ، « ورُب » موضوعة للتقليل ، وذلك هو الفرق بين كم ورب .
قال الفرزدق :
كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت على عشاري
فدل ذلك على تكثير العمات والخالات :
وفي قوله : { أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتَاً } وإنما الهلاك بعد مجيء البأس أربعة أوجه :
أحدها : معناه أهلكناها حكماً فجاءها بأسنا فعلاً .
والثاني : أهلكناها بإرسال الملائكة إليها بالعذاب فجاءها بأسنا بوقوع العذاب لهم .
والثالث : أهلكناها بخذلاننا لها عن الطاعة فجاءها بأسنا عقوبة على المعصية .
والرابع : أن البأس والهلاك وقعا معاً في حال واحدة ، لأن الهلاك كان بوقوع البأس فلم يفترقا ، وليس دخول الفاء بينهما موجبة لافتراقهما بل قد تكون بمعنى الواو كما يقال أعطيت وأحسنت ، فكان الإحسان بالعطاء ولم يكن بعد العطاء ، قاله الفراء .
وقوله : { بَيَانَاً } يعني في نوم الليل .
{ أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } يعني في نوم النهار وقت القائلة .
فإن قيل : فلم جاءهم بالعذاب في وقت النوم دون اليقظة؟ قيل : لأمرين :
أحدهما : لأن العذاب في وقت الراحة أشد وأغلظ .
والثاني : لئلا يتحرزوا منه ويهربوا عنه ، لاستسلام النائم وتحرز المستيقظ ، والبأس : شدة العذاب ، والبؤس : شدة الفقر .
قوله عز وجل : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْْأَلَنَّ الْمُرسَلِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : لنسألن الذين أرسل إليهم عن قبول الرسالة والقيام بشروطها ، ولنسألن المرسلين عن أداء الرسالة والأمانة فيها .
والثاني : لنسألن الذين أرسل إليهم عن حفظ حرمان الرسل ، ولنسألن المرسلين عن الشفقة على الأمم .

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

قوله عز وجل : { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الوزن ها هنا هو القضاء بالحق ، أي بالعدل ، قاله مجاهد .
والثاني : أنه موازنة الحسنات والسيئات بعلامات يراها الناس يوم القيامة .
والثالث : أنه موازنة الحسنات والسيئات بميزان له كفتان ، قاله الحسن وطائفة .
واختلف من قال بهذا في الذي يوزن على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الذي يوزن هوالحسنات والسيئات بوضع إحداهما في كفة والأخرى في كفة ، قاله الحسن والسدي .
والثاني : أن الذي يوزن صحائف الأعمال ، فأما الحسنات والسيئات فهي أعمال ، والوزن إنما يمكن في الأجسام ، قاله عبد الله بن عمر .
والثالث : أن الذي يوزن هو الإنسان ، قال عبيد بن عمير ، قال يؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة .
{ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه فمن قُضي له بالطاعة .
والثاني : معناه فمن كانت كفة حسناته أثقل من كفة سيئاته .
والثالث : معناه فمن زادت حسناته على سيئاته .
{ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } يعني بما لهم من الثوب ، وبضده إذا خفت .

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : سهلنا عليكم التصرف فيها حتى وصلتم إلى مرادكم منها .
والثاني : ملكناكم إياها حتى صرتم أحق بها .
{ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } فيه وجهان :
أحدهما : ما تعيشون به من نبات وحيوان .
والثاني : ما تتوصلون به إلى معايشكم فيها من زراعة أو عمل .

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ خَلَقنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } فيه لأهل التأويل أربعة أقاويل :
أحدها : ولقد خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء ، قاله عكرمة .
والثاني : ولقد خلقناكم يعني آدم ثم صورناكم في ظهره ، قاله مجاهد .
والثالث : خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائب النساء ، ثم صورناكم عند اجتماع النطفتين في الأرحام ، وهو معنى قول الكلبي .
والرابع : خلقناكم في بطون أمهاتكم ، ثم صورناكم فيها بعد الخلق بشق السمع والبصر ، قاله معمر .
{ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ } فإن قيل فالسجود عبادة لا تجوز إلا الله تعالى ، فكيف أمر به لآدم عليه السلام؟ قيل : فيه لأهل العلم قولان :
أحدهما : أنه أمرهم بالسجود له تكرمة وهو لله تعالى عبادة .
والثاني : أنه جعله قبلة سجودهم لله تعالى .
فإن قيل : فالأمر بالسجود لآدم قبل تصوير ذريته ، فكيف قال : { ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ } ؟
فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه صورهم في صلب آدم ثم قال للملائكة : اسجدوا .
والثاني : معناه ثم صورناكم ثم أخبرناكم بِأَنَّا قلنا للملائكة : اسجدوا .
والثالث : اي في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ثم صورناكم .
وفيه جواب رابع أنكره بعض النحويين وهو : أن { ثُمَّ } هنا بمعنى الواو ، قاله الأخفش .

قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)

قوله عز وجل : { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدهما : أنه أُهْبِط من السماء لأنه كان فيها ، قاله الحسن .
والثاني : من الجنة .
والثالث : أنه أهبط من المنزلة الرفيعة التي استحقها بطاعة الله إلى المنزلة الدَّنِيَّةِ التي استوجبها لمعصيته ، قاله ابن بحر .
{ فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } وليس لأحد من المخلوقين أن يتكبر فيها ولا في غيرها ، وإنما المعنى : فما لمن يتكبر أن يكون فيها وإنما المتكبر في غيرها .
وفي التكبر وجهان :
أحدهما : تكبر عن الله أن يمتثل له .
والثاني : تكبر عن آدم أن يسجد له .
{ فَاخْرُجْ } فيها قولان :
أحدهما : من المكان الذي كان فيه من السماء أو الجنة .
والثاني : من جملة الملائكة الذين كان منهم أو معهم .
{ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : بالمعصية في الدنيا لأن العاصي ذليل عند من عصاه .
والثاني : بالعذاب في الآخرة لأن المعذب ذليل بالعذاب .
وفي هذا القول من الله تعالى لإبليس وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك على لسان بعض الملائكة .
والثاني : أنه أراه معجزة تدله على ذلك .
قوله عز وجل : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } فيه قولان :
أحدهما : أنه سأله الإنظار بالعقوبة إلى البعث وهو يوم القيامة .
والثاني : أنه سأله الإنظار بالحياة إلى يوم يبعثون وهو يوم القيامة لئلا يذوق الموت ، فَأُجِيْبَ بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم وهي النفخة الأولى ليذوق الموت بين النفختين وهو أربعون سنة ، قاله الكلبي .
فإن قيل : فكيف قدر الله مدة أجله وفي ذلك إغواؤه بفعل المعاصي تعويلاً على التوبة في آخر الأجل؟
قيل : قد علم الله من حاله أنه لا يتوب من معصيته بما أوجبه من لعنته بقوله تعالى : { وَأَنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَومِ الدَّينِ } فجاز مع علمه بهذه أن يقدر له مدة أجله ولو كان كغيره ما قدرت له مدة أجله .
فإن قيل : كيف أقدم إبليس على هذا السؤال مع معصيته؟ قيل : كما ينبسط الجاهل في سؤال ما لا يستحقه .
فإن قيل : فكيف أجاب الله سؤاله مع معصيته؟ قيل : في إجابته دعاء أهل المعاصي قولان :
أحدهما : لا تصح إجابتهم لأن إجابة الدعاء تكرمة للداعي وأهل المعاصي لا يستحقون الكرامة ، فعلى هذا إنما أنظره الله تعالى وإن كان عقيب سؤاله ابتداء منه لا إجابه له .
والثاني : أنه قد يجوز أن تجاب دعوة أهل المعاصي على وجه البلوى وتأكيد الحجة ، فتكون إجابة المطيعين تكرمة ، وإجابة العصاة بلوى .
فإن قيل : فهل ينظر غير إبليس إلىلوقت الذي سأل وقد قال من المنظرين؟ قيل : نعم وهو من لم يقض الله تعالى عليه الموت من عباده الذين تقوم عليهم الساعة .

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)

قوله عز وجل : { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } اختلف أهل العربية في معنى قوله : { فبما أغويتني } على قولين :
أحدهما : أنه على معنى القسم وتقديره : فبإغوائك لي لأقعدن لهم صراطك المستقيم .
والثاني : أنه على معنى المجازاة ، تقديره : فلأنك أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم .
واختلف أهل العلم في قوله : { أَغْوَيْتَنِي } على أربعة أقاويل :
أحدها : معناه أضللتني ، قاله ابن عباس وابن زيد .
والثاني : معناه خيبتني من جنتك ، ومنه قول الشاعر :
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
أي ومن يخب .
والثالث : معناه عذبتني كقوله تعالى : { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَياً } [ مريم : 59 ] أي عذاباً ، قاله الحسن .
والرابع : معناه أهلكتني بلعنك لي ، يقال غوى الفصيل إذا أشفى على الهلاك بفقد اللبن ، قال الشاعر :
معطفة الأثناء ليس فصيلها ... برازئها دراً ولا ميِّت غوى
وقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي على صراطك المستقيم ، وفيه تأويلان :
أحدهما : طريق مكة ليصد عن قصدها في الحج والعمرة ، قاله ابن مسعود .
والثاني : طريق الحق ليصد عنها بالإغواء ، قاله مجاهد .
قوله عز وجل : { ثُمَّ لأَتِيَنَّهُم مِّنَ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ . . . } الآية . فيه أربعة تأويلات :
أحدها : { مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أي أشككهم في آخرتهم ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في دنياهم ، { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } : أي من قبل حسناتهم ، { وَعَن شَمَآئِلِهِم } من قبل سيئاتهم ، قاله ابن عباس .
والثاني : { مِنّ بَيْنِ أيْدِيهِمْ } : من قبل ، دنياهم ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } : من قبل آخرتهم ، { وَعَنْ أَيْمَأنِهِمْ } : الحق أشككهم فيه ، { وَعَن شَمَآئِلِهِم } : الباطل أرغبهم فيه ، قاله السدي وإبراهيم .
والثالث : { مِنّ بَيْنِ أَيْدِيهِم } { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } من حيث ينظرون ، { وَمِنْ خَلْفِهِم } { وَعَنْ شَمَائِلِهِم } : من حيث لا يبصرون ، قاله مجاهد .
والرابع : أراد من كل الجهات التي يمكن الاحتيال عليهم منها ، ولم يذكر من فوقهم لأن رحمة الله تصده ، ولا من تحت أرجلهم لما فيه التنفير ، قاله بعض المتأخرين .
ويحتمل تأويلاً خامساً : { مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم } : فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون على طاعة ، { وَمِنْ خَلْفِهِم } : فيما مضى من أعمارهم فلا يتوبون عن معصية ، { وَعَنْ أَيْمَانِهِم } : من قبل غناهم فلا ينفقونه في مشكور ، { وَعَن شَمَائِلِهِمِ } : من قبل فقرهم فلا يمتنعون فيه عن محظور .
ويحتمل سادساً : { مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم } : بسط أملهم ، { وَمِنْ خَلْفِهِم } تحكيم جهلهم ، { وعن أيمانهم } : فيما ييسر لهم ، { وَعَن شَمَائِلِهِم } : فيما تعسر عليهم ،
ثم قال : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : شاكرين لنعمك .
والثاني : مقيمين على طاعتك .
فإن قيل : فكيف علم إبليس ذلك؟ فعنه جوابان :
أحدهما : أنه ظن ذلك فصدق ظنه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهِم إِبْلِيس ظَنَّهُ } [ سبأ : 20 ] وسبب ظنه أنَّه لما أغوى آدم واستزله قال : ذرية هذا أضعف منه ، قاله الحسن .
والثاني : أنه يجوز أن يكون علم ذلك من جهة الملائكة بخبر من الله .

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

قوله عز وجل : { قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا } يحتمل وجهين :
أحدهما : من حيث كان من جنة أو سماء .
والثاني : من الطاعة ، على وجه التهديد .
{ مَذْءُوماً مَّدْحُوراً } في قوله : { مَذْءُوماً } خمسة تأويلات :
أحدها : يعني مذموماً ، قاله ابن زيد ، وقرأ الأعمش { مذوماً }
والثاني : لئيماً ، قاله الكلبي .
والثالث : مقيتاً ، قاله ابن عباس .
والرابع : منفياً ، قاله مجاهد .
والخامس : أنه شدة العيب وهو أسوأ حالاً من المذموم ، قاله الأخفش ، قال عامر بن جذامة :
جذامة لم يأخذوا الحق بل ... زاغت قلوبهم قبل القتال ذأماً
وأما المدحور ففيه قولان :
أحدهما : المدفوع . الثاني : المطرود ، قاله مجاهد والسدي .

وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)

قوله عز وجل : { وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزُوْجُكَ الْجَنَّةَ } يعني حواء ، وفي الجنة التي أمر بسكناها قولان :
أحدهما : في جنة الخلد التي وعد المتقون ، وجاز الخروج منها لأنها لم تجعل ثواباً فيخلد فيها ولا يخرج منها .
والثاني : أنها جنة من جنات الدنيا لا تكليف فيها وقد كان مكلفاً .
{ فَكُلاَ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتَمُا } يحتمل وجهين :
أحدهما : من حيث شئتما من الجنة كلها .
والثاني : ما شئتما من الثمار كلها لأن المستثنى بالنهي لمَّا كان ثمراً كان المأمور به ثمراً .
{ وَلاَ تَقَْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } قد ذكرنا اختلاف الناس فيها على ستة أقاويل :
أحدها : أنه البُرّ ، قاله ابن عباس .
والثاني : الكَرْم ، قاله السدي .
والثالث : التين ، قاله بان جريج . والرابع : شجرة الكافور ، قاله علي بن أبي طالب .
والخامس : شجرة العلم ، قاله الكلبي .
والسادس : أنها شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة ، قاله ابن جدعان ، وحكى محمد بن إسحاق عن أهل الكتابين أنها شجرة الحنظل ولا أعرف لهذا وجهاً .
فإذا قيل : فما وجه نهيهما عن ذلك مع كمال معرفتهما؟
قيل : المصلحة في استدامة ، المعرفة ، والابتلاء بما يجِب فيه الجزاء .
قوله عز وجل : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الْشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا . . . } أما الوسوسة فهي إخفاء الصوت بالدعاء ، يقال وسوس له إذا أوهمه النصيحة ، ووسوس إليه إذا ألقى إليه المعنى ، وفي ذلك قول رؤبة بن العجاج :
وسوس يدعو مخلصاً رب الفلق ... سراً وقد أوّن تأوين العقق
فإن قيل : فكيف وسوس لهما وهما في الجنة وهو خارج عنها؟ فعنه ثلاثة أجوبة هي أقاويل اختلف فيها أهل التأويل :
أحدها : أنه وسوس إليها وهما في الجنة في السماء ، وهو في الأرض ، فوصلت وسوسته بالقوة التي خلقها الله له إلى السماء ثم الجنة ، قاله الحسن .
والثاني : أنه كان في السماء وكانا يخرجان إليه فيلقاهما هناك .
والثالث : أنه خاطبهما من باب الجنة وهما فيها .
{ . . . وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الْشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } وهذا هو الذي ألقى به من الوسوسة إليهما استغواءً لهما بالترغيب في فضل المنزلة ونعيم الخلود .
فإن قيل : هل تصورا ذلك مع كمال معرفتهما؟
قيل : إنما كملت معرفتهما بالله تعالى لا بأحكامه .
وفي قول إبليس ذلك قولان :
أحدهما : أنه أوهمهما أن ذلك في حكم الله جائز أن يقلب صورتهما إلى صور الملائكة وأن يخلدهما في الجنة .
والثاني : أنه أوهمهما أنهما يصيران بمنزلة الملائكة في علو المنزلة مع علمهما بأن قلب الصور لا يجوز .
قوله عز وجل : { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } أي حلق لهما على صدقه في خبره ونصحه في مشورته ، فقبلا قوله وتصورا صدقه لأنهما لم يعلما أن أحداً يجترىء على الحلف بالله كاذباً .
ويحتمل وجهاً آخر : أن يكون معنى قوله : { وَقَاسَمَهُمَا } أي قال لهما : إن كان ما قلته خيراً فهو لكما دوني وإن كان شراً فهو عليّ دونكما ومن فعل ذلك معكما فهو من الناصحين لكما ، فكانت هذه مقاسمتهما أن قسم الخير لهما والشر له على وجه الغرور لتنتفي عنه التهمة ويسرع إليه القبول .

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

قوله عز وجل : { فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ } معناه فحطهما بغرور من منزلة الطاعة إلى حال المعصية .
فإن قيل : فهل علما عند أكلهما أنها معصية؟
قيل : لا ، لأن إقدامهما عليها مع العلم بأنها معصية يجعلها كبيرة ، والأنبياء معصومون من الكبائر ، وإنما أقدما عليها لشبهة دخلت عليهما بالغرور .
{ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } فإن قيل :
فلم بدت لهما سوآتهما ولم تكن بادية لهما من قبل؟
ففي ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنهما كانا مستورين بالطاعة فانكشف الستر عنهما بالمعصية .
والثاني : أنهما كانا مستورين بنور الكرامة فزال عنهما بذلك المهانة .
والثالث : أنهما خرجا بالمعصية من أن يكونا من ساكني الجنة ، فزال عنهما ما كانا فيه من الصيانة .
{ وَطَفِقَا يخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } في { وَطَفِقَا } وجهان :
أحدهما : قاما يخصفان ، قاله ابن بحر .
والثاني : جعلا يخصفان ، أي قطعان .
{ مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } وفيه قولان :
أحدهما : ورق الموز .
والثاني : ورق التين ، قاله ابن عباس .

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)

قوله عز وجل : { قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } فإن قيل :
فالمأمور بالهبوط آدم وحواء لأن إبليس قد كان أهبط من قبل حين امتنع عن السجود لآدم ، فكيف عبر عنهما بلفظ الجمع؟
فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه خبر عن هبوطهم مع تفرقهم وإن خرج مخرج الأمر ، قاله السدي .
والثاني : أنهم آدم وحواء والحية ، فكانوا جماعة ، قاله أبو صالح .
والثالث : أنهم آدم وحواء والوسوسة ، قاله الحسن .
فهبط آدم بأرض الهند على جبل يقال له واسم ، وهبطت حواء بجدة ، وهبطت الحية بأصفهان .
وفي مهبط إبليس قولان . أحدهما بالأبلة .
والثاني : بالمدار .
وقيل أسكنهما الجنة لئلا ساعات خلت من يوم الجمعة ، وأخرجهما لتسع ساعات خلت من ذلك اليوم .
{ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أما المستقر ففيه وجهان :
أحدهما : أنه فعل الاستقرار . والثاني : أنه موضع الاستقرار ، قاله أبو صالح .
وأما المتاع فهو المنتفع به من عروض الدنيا التي يستمتع بها .
وقوله : { إِلَى حِينٍ } يعني إلى انقضاء الدنيا ، والحين وقت مجهول القدر ينطلق على طويل الزمان وقصيره وإن كان موضوعاً في الأغلب للتكثير .
قال الشاعر :
وما مزاحك بعد الحلم والدين ... وقد علاك مشيب حين لا حين
أي وقت لا وقت .

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

قوله عز وجل : { يَا بَنِيَ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوُءَاتِكُمْ } نزلت هذه الآية في قوم من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويرون أن ذلك أبلغ في الطاعة وأعظم في القربة .
وفي دخول الشبهة عليهم في ذلك وجهان :
أحدهما : أن الثياب قد دنستها المعاصي فخرجوا عنها .
والثاني : تفاؤلاً بالتعري من الذنوب فقال الله تعالى :
{ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً } أي ما تلبسون من الثياب .
فإن قيل : فليس ذلك بمنزل من السماء .
فعنه جوابان :
أحدهما : أنه لما كان ينبت من المطر الذي نزل من السماء صار كالمنزل من السماء ، قاله الحسن .
والثاني : أن هذا من بركات الله ، والبركة تنسب إلى أنها تنزل من السماء ، كما قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ } [ الحديد : 25 ] .
ثم قال : { يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } أي يستر عوراتكم ، وسميت العورة سوأة لأنه يسوء صاحبها انكشافها .
ثم قال : { وَرِيشاً } وهذه قراءة أهل الأمصار وكان الحسن يقرأ : { وَرِيَاشاً } وفيه أربعة تأويلات :
أحدهما : أنه المعاش ، قاله معبد الجهني .
والثاني : أنه اللباس والعيش والنعيم ، قاله ابن عباس .
والثالث : أنه الجمال والزينة ، قاله ابن زيد ، ومنه قوله رؤبة :
إليك أشكو شدة المعيش ... وجهد أعوام نتفن ريشي
يريد أذهبن جمالي وزينتي .
والرابع : أنه المال : قاله ابن الزبير ومجاهد ، قال الشاعر :
فريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما
وفي الريش والرياش وجهان :
أحدهما : أن معناهما واحد وإن اختلف لفظهما .
والوجه الثاني : أن معناهما مختلف ، فالريش ما بطن ، والرياش ما ظهر .
ثم قال : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } وفي لباس التقوى سبعة تأويلات :
أحدها : أنه الإيمان ، قاله قتادة والسدي .
الثاني : الحياة ، قاله معبد الجهني .
والثالث : أنه العمل الصالح ، قاله ابن عباس .
والرابع : أنه السمت الحسن ، قاله عثمان بن عفان .
والخامس : خشية الله ، قاله عروة بن الزبير .
السادس : ستر العورة للصلاة التي هي التقوى ، قاله ابن زيد . والسابع : لبس ما يُتَّقَى به الحر والبرد ، قاله ابن بحر .
وفي قوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ } وجهان :
أحدهما : أنه راجع إلى لباس التقوى ومعنى الكلام أن لباس التقوى خير من الرياش واللباس ، قاله قتادة والسدي .
والثاني : أنه راجع إلى جميع ما تقدم من { قَدْ أَنزَلْنَا علَيكُمْ لِبَاساً يُوارِي سَوْءَاتِكُم وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوى } ، ثم قال : { ذَلِكَ } الذي ذكرته هو { خَيْرٌ } كله .

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)

قوله عز وجل : { يَا بَنِي ءَادَمَ لاَ يَفتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ } وهذا خطاب توجه إلى من كان من العرب يطوف بالبيت عرياناً ، فقيل لهم لا يفتننكم الشيطان بغروره كما فتن أبويكم من قبل حتى أخرجهما من الجنة ، ليكون إِشعارهم بذلك أبلغ في الزجر من مجرد النهي .
{ ينزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن لباسهما كان أظفاراً تستر البدن فنزعت عنهما وتركت زينة وتبصرة ، قاله ابن عباس .
الثاني : أن لباسهما كان نوراً ، قاله وهب بن منبه .
والثالث : أن نزع عنهما لباسهما من تقوى الله وطاعته ، قاله مجاهد . { لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا } فيه قولان :
أحدهما : أجسادهما من العورة حين خرجا من لباسهما ، وهو مقتضى قول ابن عباس .
والثاني : سوأة معصيتهما حتى خرجا من تقوى الله وطاعته ، وهو معنى قول مجاهد .
{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنَ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : قومه ، وهو قول الجمهور .
والثاني : جيلُهُ ، قاله السدي .
{ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : من حيث لا تبصرون أجسادهم .
والثاني : من حيث لا تعلمون مكرهم وفتنتهم .

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

قوله عز وجل : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَآءَنَا } في هذه الآية ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها وردت في العرب الذين كانوا يطوفون عراة ، والفاحشة التي فعلوها كشف العورة ، وهذا قول أكثر المفسرين .
والثاني أنها في عبدة الأوثان ، والفاحشة التي فعلوها الشرك ، قاله الحسن .
والثالث أنها اتخاذ البَحِيْرَةِ والسائبة والوصيلة والحام ، قاله الكلبي .
قوله عز وجل : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } فيه وجهان :
أحدهما : بالصدق .
والثاني : بالعدل .
{ وَأقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : معناه توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة ، قاله مجاهد .
والثاني : معناه اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون ما سواه من الأوثان والأصنام ، قاله الربيع بن أنس .
والثالث : معناه اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة ، أمراً بالجماعة لها ، ندباً عند الأكثرين ، وحتماً عن الأقلين .
والرابع : أن أي موضع أدركت فيه وقت الصلاة فصل فيه فإنه مسجد ولا تؤخرها إلى حضور المسجد .
{ وَاْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني أقروا له بالوحدانية وإخلاص الطاعة .
والثاني : ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له الدين .
{ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : كما بدأكم شقياً وسعيداً ، كذلك تبعثون يوم القيامة ، قاله ابن عباس .
الثاني : كما بدأكم فآمن بعضكم وكفر بعضكم ، كذلك تبعثون يوم القيامة . روى أبو سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تُبْعَثُ كُلُّ نَفْسٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ » .
والثالث : كما خلقكم ولم تكونوا شيئاً ، كذلك تعودون بعد الفناء أحياء ، قاله الحسن ، وابن زيد .
والرابع : كما بدأكم لا تملكون شيئاً ، كذلك تبعثون يوم القيامة .
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرلاً وَأَوَّلُ مَنْ يُكَسَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيهِ السَّلاَمُ » ثم قرأ { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلينَ } [ الأنبياء : 104 ] .

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

قوله عز وجل : { يَا بِنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمُ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن ذلك وارد في ستر العورة في الطواف على ما تقدم ذكره ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم .
والثاني : أنه وارد في ستر العورة في الصلاة ، قاله مجاهد ، والزجاج .
والثالث : أنه وارد في التزين بأجمل اللباس في الجمع والأعياد .
والرابع : أنه أراد به المشط لتسريح اللحية .
{ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } يعني ما أحله الله لكم .
ويحتمل أن يكون هذا أمر بالتوسع في الأعياد .
{ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسُرِفِينَ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لا تسرفوا في التحريم ، قاله السدي .
والثاني : معناه لا تأكلوا حراماً فإنه إسراف ، قاله ابن زيد .
والثالث : لا تسرفوا في أكل ما زاد على الشبع فإنه مضر ، وقد جاء في الحديث : « أَصْلُ كُلِّ دَاءٍ البردة » ، يعني التخمة .
ويحتمل تأويلاً رابعاً : لا تسرفوا في الإنفاق .
وقوله : { إِنَّهُ لاَ يحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يحب أفعالهم في السرف .
والثاني : لا يحبهم في أنفسهم لأجل السرف .

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

قوله عز وجل : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِّي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } يعني ستر العورة ردا على تركها من العرب في الطواف .
ويحتمل ثانياً : أن يريد زينتها في اللباس .
ثم قال : { وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } فيه قولان :
أحدهما : أنهم كانوا يحرمون في الإحرام أكل السمن واللبن ، قاله ابن زيد ، والسدي .
والثاني : أنها البحَيْرَةُ والسائبة التي حرموها على أنفسهم ، قاله الحسن ، وقتادة .
وفي طيبات الرزق قولان :
أحدهما : أنه المستلذ .
والثاني : أنه الحلال .
{ قُلْ هِيَ للَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } يعني أن الذين آمنوا في الحياة الدنيا له الطيبات من الرزق يوم القيامة لأنهم في القيامة يختصون بها وفي الدنيا قد يشركهم الكفار فيها .
وفي قوله : { خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وجهان :
أحدهما : خالصة لهم من دون الكفار .
والثاني : خالصة من مضرة أو مأثم .

قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)

قوله عز وجل : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الفواحش : الزنى خاصة ، وما ظهر منها : المناكح الفاسدة ، وما بطن : الزنى الصريح .
والثاني : أن الفواحش : جميع المعاصي ، وما ظهر منها : أفعال الجوارح ، وما بطن : اعتقاد القلوب .
{ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الإثم الخيانة في الأمور ، والبغي : التعدي في النفوس .
والثاني : الإثم : الخمر ، والبغي : السكر ، قال الشاعر :
شربت الإثم حتى ضَلَّ عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول
وسمي الخمر بالإثم ، والسكر بالبغي لحدوثه عنهما .

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)

قوله عز وجل : { وَلِكُلَّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ولكل أمة كتاب فيما قضاه الله عليهم من سعادة أو شقاوة ، من عذاب أو رحمة ، قاله جويبر .
الثاني : ولكلٍ نبي يدعوهم إلى طاعته وينهاهم عن معصيته ، قاله معاذ بن جبل .
والثالث : لكل أمة أجل فيما قدره الله من حياة ، وقضاه عليهم من وفاة .
ويحتمل رابعاً : ولكل أمة مدة يبقون فيها على دينهم أن يحدثوا فيه الاختلاف .
{ فِإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } فيه قولان :
أحدهما : أجل موتهم .
الثاني : أجل عذابهم ، قاله جويبر .
{ لاَ يَسْتَأَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يزيد أجل حياتهم ولا ينقص .
والثاني : لا يتقدم عذابهم ولا يتأخر .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

قوله عز وجل : { . . . أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } فيه خمسة تأويلات :
أحدها : هو عذاب الله الذي أعده لمن أشرك ، قاله الحسن ، والسدي .
والثاني : ما سبق لهم من الشقاء والسعادة ، قاله ابن عباس .
والثالث : نصيب من كتابهم الذي كتبنا لهم أو عليهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير أو شر ، قاله قتادة .
والرابع : نصيبهم مما كتب لهم من العمر والرزق والعمل ، قاله الربيع بن أنس ، وابن زيد .
والخامس : نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شر ، قاله الضحاك .
{ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } في توفي الرسل هنا قولان :
أحدهما : أنها وفاة الموت في الدنيا التي توبخهم عندها الملائكة .
والثاني : أنها وفاة الحشر إلى النار يوم القيامة ، قاله الحسن .

قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

قوله عز وجل : { . . . حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جِمِيعاً } يعني في النار أدرك بعضهم بعضاً حتى استكملوا فيها .
{ قَالَتْ أُخْرَاهُمُ لأُولاَهُمْ } يعني الأتباع للقادة لأنهم بالاتباع لهم متأخرون عنهم ، وكذلك في دخول النار تقدم القادة على الأتباع .
{ رَبَّنَا هَؤُّلآءِ أَضَلُّونَا فئَاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ } يريد بأحد الضعفين عذابهم على الكفر ، وبالآخر عذابهم على الإغواء .
ويحتمل هذا القول من الأتباع وجهين :
أحدهما : تخفيف العذاب عنهم .
والثاني : الانتقام من القادة بمضاعفة العذاب عليهم .
فأجابهم الله قال : { لِكُلٍّ ضِعْفٌ } يعني أنه وإن كان للقادة ضعف العذاب ، لأن أحدهما بالكفر ، والآخر بالإغواء ، فلكم أيها الأتباع ضعف العذاب ، وهذا قول الجمهور ، وإن ضعف الشيء زيادة مثله .
وفيه وجه ثان : قاله مجاهد : أن الضعف من أسماء العذاب .

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

قوله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أي لا تفتح لأرواحهم لأنها تفتح لروح الكافر وتفتح لروح المؤمن ، قاله ابن عباس ، والسدي .
والثاني : لا تفتح لدعائهم ، قاله الحسن .
والثالث : لا تفتح لأعمالهم ، قاله مجاهد ، وإبراهيم .
والرابع : لا تفتح لهم أبواب السماء لدخول الجنة لأن الجنة في السماء ، وهذا قول بعض المتاخرين .
والخامس : لا تفتح لهم أبواب السماء لنزول الرحمة عليهم ، قاله ابن بحر .
{ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يِلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } فيه قولان :
أحدهما : سم الخياط : ثقب الإبرة ، قاله ابن عباس ، الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي .
والثاني : أن سم الخياط هو السم القاتل الداخل في مسام الجسد أي ثقبه .
وفي { الْجَمَلِ } قراءتان :
إحداهما : وعليها الجمهور ، الجَمَل بفتح الجيم وتخفيف الميم وهو ذو القوائم الأربع .
والثانية الجُمَّل بضم الجيم وتشديد الميم وهو القلس الغليظ ، وهذه قراءة سعيد بن جبير ، وإحدى قراءتي ابن عباس ، وكان ابن عباس يتأول أنه حبل السفينة .
ومعنى الكلام أنهم لا يدخلون الجنة أبداً كما لا يدخل الجمل في سم الخياط أبداً ، وضرب المثل بهذا أبلغ في إياسهم من إرسال الكلام وإطلاقه في النفي ، والعرب تضرب هذا للمبالغة ، قال الشاعر :
إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وعاد القار كاللبن الحليب
قوله عز وجل : { لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } قال الحسن : فراش من نار ، والمهاد : الوِطَاء ، ومنه أخذ مهد الصبي .
{ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها اللحف .
والثاني : اللباس .
والثالث : الظلل ، قاله الحسن .
والمراد بذلك أن النار من فوقهم ومن تحتهم ، فعبر عما تحتهم بالمهاد ، وعما فوقهم بالغواش .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

قوله عز وجل : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم منْ غِلٍّ . . . } فيه أربعة أوجه :
أحدها : الأهواء والبدع ، قاله سهل بن عبد الله .
والثاني : التباغض والتحاسد .
والثالث : الحقد .
والرابع : نزع من نفوسهم أن يتمنوا ما لغيرهم . وفي نزعه وجهان :
أحدهما : أن الله نزع ذلك من صدورهم بلطفه .
والثاني : ان ما هداهم إليه من الإيمان هو الذي نزعه من صدورهم .
وفي هذا الغل قولان :
أحدهما : أنه غل الجاهلية ، قاله الحسن .
والثاني : أنهم لا يتعادون ولا يتحاقدون بعد الإيمان ، وقد روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم : { وَنََزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } .
وقيل : إنها نزلت في أهل بدر .
ويحتمل قوله : { وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذا } وجهين :
أحدهما : هدانا لنزع من صدورنا .
والثاني : هدانا لثبوت الإيمان في قلوبنا حتى نزع الغل من صدورنا .
وفيه وجه ثالث : قال جويبر : هدانا لمجاوزة الصراط ودخول الجنة .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)

قوله عز وجل : { . . . وَعَلَى الأَعَرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمُ } أما الأعراف فسور بين الجنة والنار ، قاله مجاهد ، والسدي ، وهو جَمْعٌ وَاحِدُهُ عُرْف وهو ما ارتفع عن غيره ، ومنه عرف الديك وعرف الفرس ، قال الراجز :
كل كتاب لجمعه موافي ... كالعلم الموفي على الأعراف .
وفي الذين على الأعراف خمسة أقاويل :
أحدها : أنهم فضلاء المؤمنين وعلماؤهم ، قاله الحسن ، ومجاهد ، قال أمية بن أبي الصلت :
وآخرون على الأعراف قد طمعوا ... بجنة حفها الرمان والخضر .
وهذا وإن كان شعراً جاهلياً وحال الأعراف منقول عن خبر يروى فيحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون أمية قد وصل إلى علمه من الصحف الشرعية .
والثاني : أن يكون الله قد انطق به أمية إلهاماً لتصديق ما جاء به القرآن .
والثاني : أنهم ملائكة يُرَون في صور الرجال ، قاله أبو مجلز .
والثالث : أنهم قوم بطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس ، قاله حذيفة .
والرابع : أنه قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هنالك حتى يقضى الله من أمرهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة ، قاله ابن مسعود .
والخامس : أنهم قوم قتلوا في سبيل الله وكانوا عصاة لآبائهم ، قيل إنهم غزوا بغير إذنهم ، وقد روى محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال :
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال : « هُمْ قَومٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَعْصِيةِ آبَائِهِمْ ، فَمَنَعَهُمْ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَنِ النَّارِ ومنعهم مَعْصِيَةُ آبَائِهِم أَنْ يَدْخُلُواْ الجَنَّةَ
» ومعنى قوله : { يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ } يعني يعرفون أهل النار وأهل الجنة بعلامتهم التي يتميزون بها ، وعلامتهم في وجوههم وأعينهم ، قال الحسن البصري : علامة أهل النار سواد الوجوه وزرقة العيون ، وعلامة أهل الجنة بياض الوجوه وحسن العيون .
فإن قيل في أصحاب الأعراف : إنهم فضلاء المؤمنين كان ذلك زيادة في ثوابهم ومبالغة في كرامتهم لأنهم يرون منازلهم في الجنة فيستمتعون بها ، ويرون عذاب النار فيفرحون بالخلاص منها .
وإن قيل : إنهم المفضلون وأصحاب الصغائر من المؤمنين كان ذلك لنقص ثوابهم عن استحقاق الدخول للجنة .
وإن قيل : إنهم الملائكة ، احتمل أمرهم ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يؤمروا بذلك حمداً لأهل الجنة وذماً لأهل النار وزيادة في الثواب والعقاب .
والثاني : أن يكونوا حفظة الأعمال في الدنيا الشاهدين بها عند الله في الآخرة أمروا بذلك ، ما أدوه من الشهادة تبشيراً لأهل الجنة وتوبيخاً لأهل النار .
والثالث : أن يكونوا خزنه الجنة والنار ، فإن من الملائكة من أفرد لخزنة الجنة ، ومنهم من أفرد لخزنة النار ، ويكون هؤلاء قد جمع لهم بين الأمرين ، والله أعلم بغيب ذلك .
وحكى ابن الأنباري أن قوله : { وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ } معناه على معرفة أهل الجنة والنار رجال ، وأن قوله : { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوفٌ عَلَيكُم } الآية من قول أصحاب الأعراف ، وهو مخالف لقول جميع المفسرين .

وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

وفي قوله : { وَنَادَى } وجهان :
أحدهما : أنه بمعنى ينادي ، لأنه في المستقبل .
والثاني : أنه على الحذفِ وتقديره : إذا كان يوم القيامة نادى أصحاب الأعراف .

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)

قوله عز وجل : { . . . أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } فيه وجهان :
أحدهما : من ماء الرحمة ومما رزقكم الله من القربة .
والثاني : من ماء الحياة ومما رزقكم الله من النعم .

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ } يعني القرآن .
{ فصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ } فيه وجهان :
أحدهما : بيَّنَّا ما فيه من الحلال والحرام على علم بالمصلحة .
والثاني : ميزنا به الهدى من الضلالة على علم بالثواب والعقاب .
{ هُدىً وَرَحْمَةً } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الهدى البرهان .
والثاني : أن الهدى الإرشاد ، والرحمة : اللطف .
قوله عز وجل : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي هل ينظرون ، فعبر عن الانتظار بالنظر ، { إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي تأويل القرآن ، وفيه وجهان :
أحدهما : عاقبته من الجزاء ، قاله الحسن .
والثاني : ما فيه من البعث والنشور والحساب .
{ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } فيه وجهان :
أحدهما : القضاء به ، قاله الحسن .
الثاني : عاقبة ما وعدهم الله به في الدنيا والآخرة ، قال الكلبي .
{ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ } فيه قولان :
أحدهما : معنى نسوه أعرضوا عنه فصار كالمنسي ، قاله أبو مجلز .
والثاني : تركوا العمل به ، قاله الزجاج .
{ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنبياء الله في الدنيا بكتبه المنذرة .
والثاني : الملائكة عند المعاينة بما بشروهم به من الثواب العقاب .

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)

قوله عز وجل : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } وفي ترك تعجيل خلقها في أقل الزمان مع قدرته على ذلك أربعة أوجه :
أحدها : أن إنشاءها شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال أبلغ في الحكمة وأدل على صحة التدبير ليتوالى مع الأوقات بما ينشئه من المخلوقات تكرار المعلوم بأنه عالم قادر يصرف الأمور على اختياره ويجريها على مشيئته .
والثاني : أن ذلك لاعتبار الملائكة ، خلق شيئاً بعد شيء .
والثالث : أن ذلك ترتب على الأيام الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وهي ستة أيام فأخرج الخلق فيها ، قاله مجاهد .
والرابع : ليعلمنا بذلك ، الحساب كله من ستة ومنه يتفرع سائر العدد قاله ابن بحر .
{ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ } فيه قولان :
أحدهما : معناه استوى أمره على العرش ، قاله الحسن .
والثاني : استولى على العرش ، كما قال الشاعر :
قد اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاقِ ... مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودم مُهْرَاقٍ
وفي { الْعَرْشِ } ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المُلْك كني عنه بالعرش والسرير كعادة ملوك الأرض في الجلوس على الأسرة ، حكاه ابن بحر .
والثاني : أنه السموات كلها لأنها سقف ، وكل سقف عند العرب هو عرش ، قال الله تعالى : { خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا } [ الكهف : 42 ] [ الحج : 45 ] أي على سقوفها .
والثالث : أنه موضع في السماء في أعلاها وأشرفها ، محجوب عن ملائكة السماء .
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } أي يغشي ظلمة الليل ضوء النهار .
{ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } لأن سرعة تعاقب الليل والنهار تجعل كل واحد منهما كالطالب لصاحبه .
{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } يحتمل وجهين :
أحدهما : مذللات بقدرته .
والثاني : جاريات بحكمه .
{ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه مالك الخلق وتدبيرهم .
والثاني : إليه إعادتهم وعليه مجازاتهم .

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

قوله عز وجل : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } فيه وجهان :
أحدهما : في الرغبة والرهبة ، قاله ابن عباس .
والثاني : التضرع : التذلل والخضوع ، والخفية : إخلاص القلب .
ويحتمل أن التضرع بالبدن ، والخفية إخلاص القلب .
{ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } يعني في الدعاء ، والاعتداء فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن يسأل ما لا يستحقه من منازل الأنبياء ، قاله أبو مجلز .
والثاني : أنه يدعو باللعنه والهلاك على من لا يستحق ، قاله مقاتل .
والثالث : أن يرفع صوته بالدعاء ، روى أبو عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فأشرفوا واد ، فجعل الناس يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنفُسكُم إِنَّكُم لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِباً إِنَّكُم تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وَهُوَ مَعَكُمْ
» . قوله عز وجل : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان .
والثاني : لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل .
والثالث : لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة ، قاله الكلبي .
والرابع : لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه ، قاله الحسن .
{ وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً } يحتمل وجهين :
أحدهما : خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه .
والثاني : خوفاً من الرد وطمعاً في الإجابة .
{ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } فإن قيل : فلم أسقط الهاء من قريب والرحمة مؤنثة؟
فعن ذلك جوابان .
أحدهما : أن الرحمة من الله إنعام منه فَذُكِّرَ على المعنى ، وهو أن إنعام الله قريب من المحسنين ، قاله الأخفش .
والثاني : أن المراد به مكان الرحمة ، قاله الفراء ، كما قال عروة بن حزام :
عَشِيَّة لاَ عَفْرَاءَ مِنكِ قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُو ولا عَفْرَاءُ مِنْكِ بَعِيدُ
فأراد بالبعد مكانها فأسقط الهاء ، وأرادها هي بالقريبة فأثبت الهاء .

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

قوله عز وجل : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } يعني طيب التربة .
{ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } يعني يخرج نباته حسناً جيداً .
{ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } فيه قولان :
أحدهما : أن النكد القليل الذي لا ينتفع به ، قاله السدي .
والثاني : أنه العسر بشدته المانع من خيره ، قال الشاعر :
وَأَعْطِ مَا أَعَطْيتَهُ طَيِّباً ... لاَ خَيْرَ فِي الْمَنْكُودِ وَالنَّاكِد
وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر ، فجعل المؤمن كالأرض الطيبة والكافر كالأرض الخبيثة السبخة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي .

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

قوله عز وجل : { . . . وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } فيها قولان :
أحدهما : القوة ، قاله ابن زيد .
والثاني : بسط البدن وطول الجسد ، قيل : إنه كان أقصرهم طولاً اثني عشر ذراعاً .
{ فَاذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ } معناه نعم الله ، وقال الشاعر :
أَبْيَضُ لاَ يَرْهَبُ الهزَالَ وَلاَ ... يَقْطَعُ رَحِمَاً وَلاَ يَخُونُ إِلَى

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

قوله تعالى : { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } في الرجس ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه العذاب ، قاله زيد بن أسلم .
والثاني : السخط ، قاله ابن عباس .
والثالث : أن الرجس والرجز بمعنى واحد إلا أن الزاي قلبت سيناً كما قلبت السين تاء في قول الشاعر :
أَلاَ لَحَى اللَّهُ بَنِي السَّعْلاَةِ ... عَمْرِو بنِ يَرْبُوعَ لِئَامَ النَّاتِ
لَيْسَوا بِأَعْفَافٍ وَلاَ أَكْيَاتِ ... يريد الناس ، وأكياس .
قوله عز وجل : { . . . فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا } يعني الأصنام ، وفي مراده بتسميتهم وجهان :
أحدهما : في تسميتها آلهة يعبدونها .
والثاني : أنه تسميتهم لبعضها أنه يسقيهم المطر ، والآخرة أنه يأتيهم بالرزق ، والآخر أنه يشفي المريض ، والآخر يصحبهم في السفر .
وقيل : إنه ما أمرهم هود إلا بتوحيد الله والكف عن ظلم الناس فأبوا وقالوا : من أشد منا قوة ، فأهلكوا .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)

قوله عز وجل : { . . . هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً } في الآية هنا وجهان :
أحدهما : أن الآية الفرض كما قال تعالى : { وَأَنَزَلْنَا فِيهَا ءَايَاتٍ } [ النور : 1 ] أي فرضاً ، ويكون معنى الكلام هذه ناقة الله عليكم فيها فرض أن تذروها { تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ } أي لا تعقروها .
والثاني : أنها العلامة الدالة على قدرته .
والآية فيها آيتان :
إحداهما : أنها خرجت من صخرة ملساء تمخضت بها كما تتمخض المرأة ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها .
والثانية : أنه كان لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم ، حكي ذلك عن أبي الطفيل والسدي وابن إسحاق .
قوله عز وجل : { . . . وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ } فيه وجهان :
أحدهما : يعني أنزلكم في الأرض وهي أرض الحجر بين الشام والمدينة .
والثاني : فيها من منازل تأوون إليها ، ومنه قولهم : بوأته منزلاً ، إذا أمكنته منه ليأوي إليه ، قال الشاعر :
وَبُوِّئَتْ فِي صَمِيمِ مَعْشَرِهَا ... فَتَمَّ فِي قَوْمِهَا مَبْوَؤُهَا
أي مكنت من الكرم في صميم النسب .
{ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً } والقصور ما شيد وعلا من المنازل اتخذوها في سهول الأرض ليصيِّفوا فيها .
{ وَتَنْحِتَونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً } لتكون مساكنهم في الشتاء لأنها أحصن وأبقى وأدفأ فكانوا طوال الآمال طوال الأعمار .
{ فَاْذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ } فيه ما قدمنا ، أي نعمه أو عهوده .
{ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفسِدِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : لا تعملوا فيها بالمعاصي .
والثاني : لا تدعوا إلى عبادة غير الله .
وفي العبث وجهان :
أحدهما : أنه السعي في الباطل .
والثاني : أنه الفعل المؤدي لضير فاعله .
قوله عز وجل : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } فيها ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها حركة الأرض تضطرب من تحتهم .
والثاني : أنها الصيحة ، قاله مجاهد ، والسدي .
والثالث : أنها زلزلة أهلكوا بها ، قاله ابن عباس .
{ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِم جَاثِمِينَ } قال محمد بن مروان السدي : كل ما في القرآن من { دَارِهِمْ } فالمراد به مدينتهم ، وكل ما فيه من { دِيَارِهِم } فالمراد به مساكنهم ، وفي الجاثم قولان :
أحدهما : أنه البارك على ركبتيه لأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال .
والثاني : معناه أنهم أصبحوا كالرماد الجاثم لأن الصاعقة أحرقتهم .
وقيل : إنه كان بعد العصر .
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } أي خرج من بين أظهرهم ، وقيل إن صالحاً خرج عنهم إلى رملة فلسطين بمن آمن معه من قومه وهم مائة وعشرة ، وقيل إنه لم تهلك أمة ونبيها بين أظهرها .

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)

قوله عز وجل : { . . . إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَّهَّرُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : من إتيان الأدبار .
والثاني : يتطهرون بإتيان النساء في الأطهار ، قال الشاعر :
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا سَدُّوا مَآزِرَهُم ... دَونَ النِّسَاءِ وَلَو بَانَتْ بِأَطْهَارِ

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

{ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } فيه وجهان :
أحدها : فخلصناه .
والثاني : على نجوة من الأرض ، وقيل : إن أهله ابنتاه واسمهما زينا ورميا . { مِنَ الْغَابِرِينَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : من الباقين في الهلكى ، والغابر الباقي ، ومنه قول الراجز :
فَمَا وَنَى مُحَمَّدٌ مُذْ أَنْ غَفَر ... لَهُ الإِلَهُ مَا مََضَى وَمَا غَبَر
والثاني : من الغابرين في النجاة ، من قولهم : قد غبر عنا فلان زماناً إذا غاب ، قال الشاعر :
أَفَبَعْدَنَا أو بَعْدَهُمْ ... يُرْجَى لِغَابِرِنَا الْفَلاَحُ
والثالث : من الغابرين في الغم ، لأنها لقيت هلاك قومها ، قاله أبو عبيدة .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)

قوله عز وجل : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوِعَدُونَ } الصراط : الطريق ، قال الشاعر :
شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ
وفي المراد به ثلاثة أقاويل :
أحدهما : أنهم كانوا يقعدون على الطريق إلى شعيب يؤذون من قصده للإيمان به ويخوفونه بالقتل ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
والثاني : أنه نهاهم عن قطع الطريق ، قاله أبو هريرة .
والثالث : أنهم العشارون نهاهم عن تعشير أموال الناس .
{ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ } ويحتمل وجهين :
أحدهما : تصدون المؤمنين عن طاعة الله وعبادته .
والثاني : تصدون من أراد الإيمان بإغوائه ومخادعته .
{ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً } قال قتادة : يعني تبغون السبيل عوجاً عن الحق .
والفرق بين العوج بالكسر وبالفتح أن العوج بكسر العين ما كان في الدين ، ولا يُرَى ، والعوج بفتح العين ما كان في العود ، وما يرى .
{ وَاذْكُرواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } حكى الزجاج فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : كثر عددكم بعد القلة قال ابن عباس : وذلك أن مدين بن إبراهيم تزوج زينا بنت لوط وولد آل مدين منها .
والثاني : كثركم بالغنى بعد الفقر .
والثالث : كثركم بالقوة بعد الضعف .
وذكر بعض المفسرين وجهاً رابعاً : أنه كثرهم بطول الأعمار بعد قصرها من قبل .

قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)

قوله عز وجل : { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنْ عُدنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجّانَا اللَّهُ مِنْهَا } والفرق بين الملة والدين أن الملة ما شرعه الله ، والدين ما اعتقده الناس تقرباً إلى الله ، فصار كل دين ملة وليس كل ملة ديناً .
فإن قيل : فالعود إلى الشيء الرجوع إليه بعد الخروج منه فهل كان شعيب على ملة قومه من الكفر حتى يقول : { إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم } .
في الجواب عنه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن هذه حكاية عمن اتبع شعيباً من قومه الذين كانوا قبل اتباعه على ملة الكفر .
الثاني : أنه قال ذلك على التوهم أنه لو كان عليها لم يعد إليها .
والثالث : أنه يطلق ذكر العَود على المبتدىء بالفعل وإن لم يسبق منه فعل مثله سن قولهم : قد عاد عليّ من فلان مكروه وإن لم يسبقه بمثله كقول الشاعر :
لَئِن كَانَت الأَيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً ... إِلَيَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّ ذُنُوبُ
أَتَى دَونَ حُلْوِ الْعَيْشِ شَيْءٌ أُمِرُّهُ ... كُرُوبٌ عَلَى آثَارِهِنّ كُرُوبُ
ثم قال : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا } فيه قولان :
أحدهما : أن نعود في القرية إلاّ أن يشاء الله ، قاله بعض المتكلمين .
والثاني : وهو قول الجمهور أن نعود في ملة الكفر وعبادة الأوثان .
فإن قيل فالله تعالى لا يشاء عبادة الأوثان فما وجه هذا القول من شعيب؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه قد كان في ملتهم ما يجوز التعبد به .
والثاني : أنه لو شاء عبادة الوثن لكانت عبادته طاعة لأنه شاءه كتعبده بتعظيم الحجر الأسود .
والثالث : أن هذا القول من شعيب علىلتعبيد والامتناع كقوله تعالى : { حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ } [ الأعراف : 40 ] وكقولهم : حتى يشيب الغراب .
ثم قال : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَومِنَا بِالْحَقِّ وََأَنتَ خَيرُ الْفَاتِحِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : اكشف بيننا وبين قومنا ، قاله قتادة .
والثاني : احكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين . وذكر الفراء ، أن أهل عُمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح . وقال غيره : إنه لغة مراد ، قال الشاعر :
أَلاَ أَبْلِغْ بَنِي عُصَمَ رَسُولاً ... بِأَنِّي عَنْ فَتَّاحِكُمُ غَنِي
وقد قال ابن عباس : كنت لا أدري ما قوله : { رَبَّنَا افتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ } حتى سمعت بنت ذي يزن تقول : تعالَيْ أفاتحك ، يعني أقاضيك .
وقيل : إنه سمي بذلك لأنه يفتح باب العلم الذي قد انغلق على غيره .
فإن قيل : فما معنى قوله { بِالْحَقِّ } ومعلوم أن الله لا يحكم إلا بالحق؟ .
ففي الجواب عنه أربعة أوجه : أحدها : أنه قال ذلك صفة لحكمه لا طلباً له .
والثاني : أنه سأل الله أن يكشف لمخالفه من قومه أنه على حق .
والثالث : أن معناه احكم بيننا الذي هو الحق ، قاله ابن بحر .
والرابع : احكم في الدنيا بنصر الحق ، قاله السدي .

وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)

قوله عز وجل : { الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيبَاً كَأنَ لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا } فيه أربعة تأويلات :
أحدها : كأنك لم يقيموا فيها ، قاله ابن قتيبة .
والثاني : كأن لم يعيشوا فيها ، قاله الأخفش .
والثالث : كأن لم ينعموا فيها ، قاله قتادة .
والرابع : كأن لم يعمروا فيها ، قاله ابن عباس .
{ الَّذِينَ كَذَّبُوْا شُعَيْباً كَانُواْ هَمُ الخَاسِرِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : بالكفر .
والثاني : بالهلاك ، قاله ابن عباس .

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)

قوله عز وجل : { وَمَآ أرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِّيٍ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَها بِالبَأْسآءِ وَالضَّرَّآءِ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن البأساء : القحط ، والضراء : الأمراض والشدائد ، قاله الحسن .
والثاني : أن البأساء الجوع ، والضراء : الفقر ، قاله ابن عباس .
والثالث : أن البأساء : البلاء ، والضراء الزمانة .
والرابع : أن البأساء : ما نالهم من الشدة في أنفسهم .
والضراء : ما نالهم في أموالهم ، حكاه علي بن عيسى .
ويحتمل قولاً خامساً : أن البأساء الحروب .
{ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : يتوبون .
الثاني : يدعون ، قاله ابن عباس .
قوله عز وجل : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } فيه وجهان :
أحدهما : مكان الشدة الرخاء ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد .
والثاني : مكان الخير والشر .
{ حَتَّى عَفَواْ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : حتى كثروا ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، قال لبيد :
وَأنَاسٌ بَعْدَ قَتْلٍ قَدْ عَفَواْ ... وَكَثِيرٌ زَالَ عَنْهُمْ فَانْتَقَلْ
والثاني : حتى أعرضواْ ، قاله ابن بحر .
والثالث : حتى سُرّوا ، قاله قتادة .
والرابع : حتى سمنوا ، قاله الحسن ، ومنه قول بشر بن أبي حازم :
فَلَمَّا أَنْ عَفَا وَأَصَابَ مَالاً ... تَسَمَّنَ مَعْرِضاً فِيهِ ازْوِرَارُ
{ وَّقَالُوْا قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّاءُ والسَّرَّآءُ } أي الشدة والرخاء يعنون ليس البأساء والضراء عقوبة على تكذيبك وإنما هي عادة الله في خلقه أن بعد كل خصب جدباً وبعد كل جدب خصباً .

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)

قوله عز وجلَّ : { . . . لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم } فيه وجهان : أحدهما : لرزقنا ، قاله السدي .
والثاني : لوسعنا .
{ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } : ( بركات السماء : القطر . وبركات الأرض .
النبات والثمار ويحتمل أن تكون بركات السماء قبول الدعاء . وبركات الأرض : تسهيل الحاجات .

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)

وفي قوله تعالى : { فَهُم لاَ يَسْمَعُونَ } أي لا يقبلون ، كما قال في الصلاة ، سمع الله لمن حمده ، أي قبل الله ممن حمده ، وقال الشاعر :
دَعَوْتُ اللَّهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ ... يَكُونَ اللَّهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ
أي يقبل .

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)

قوله عز وجل : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِّنْ عَهْدٍ } في قوله : { مِنْ عَهْدٍ } قولان :
أحدهما : أن العهد الطاعة ، يريد : ما وجدنا لأكثرهم من طاعة لأنبيائهم ، لأنه قال بعده { وَإن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمُ لَفَاسِقِينَ } وتكون { مِنْ } في هذا الموضع على هذا التأويل زائدة .
والثاني : أنه محمول على ظاهر العهد أي من وفاء بعهده .
وفي المراد بالعهد هنا ثلاثة أقاويل . أحدها : الميثاق الذي أخذه الله عليهم في ظهر آدم قاله أبو جعفر الطبري .
والثاني : ما جعله الله في عقولهم من وجوب شكر النعمة ، وأن الله هو المنعم ، قاله علي بن عيسى .
والثالث : أنه ما عهد إليهم مع الأنبياء أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، قاله الحسن { وإن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُم لَفَاسِقِينَ } في قوله { لَفَاسِقِينَ } وجهان :
أحدهما : خارجين عن طاعته .
والثاني : خائنين في عهده ، وهذا يدل على أن العصاة أكثر من المطيعين .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

قوله عز وجل : { حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } في { حَقِيقٌ } وجهان :
أحدهما : حريص ، قاله أبو عبيدة .
والثاني : واجب ، مأخوذ من وجوب الحق .
وفي قوله : { إلاَّ الْحَقَّ } وجهان :
أحدهما : إلا الصدق .
والثاني : إلا ما فرضه الله عليّ من الرسالة .

قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)

قوله عز وجل : { قَالُواْ أَرْجِه وَأَخَاهُ } فيه قولان :
أحدهما : معناه أخِّرْهُ ، قاله ابن عباس والحسن .
والثاني : أحبسه ، قاله قتادة والكلبي .
{ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ } قال ابن عباس : هم أصحاب الشُرَط وهو قول الجماعة أرسلهم في حشر السحرة وكانوا اثنين وسبعين رجلاً .

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)

قوله عز وجل : { وَأَوْحِيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } قال ابن عباس : العصا أول آيات موسى وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع بطول موسى ، قصد باب فرعون فألقى عليه الفزع ، فشاب فخضب بالسواد استحياء من قومه ، فكان فرعون أول من خضب بسواد .
{ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } معنى تلقف هو سرعة التناول إلا أن المراد هنا سرعة ابتلاعه بالفم . قال أبو حاتم : وهي في بعض القراءات تلقم بالميم والتشديد ، قال الشاعر :
أَنْتَ عَصَا مُوسَى الَّتِي لَمْ تَزَلْ ... تَلْقَمُ مَا يَأْفِكُهُ السَّاحِرُ
وفي قوله : { مَا يأْفِكُونَ } وجهان :
أحدهما : معناه يقلبون ، ومنه المؤتفكات أي المنقلبات ، قاله ابن عيسى .
والثاني : معناه يكذبون لأن الإفك هو الكذب ، قاله مجاهد .
فإن قيل : فلم أمر موسى السحرة أن يلقو وذلك منهم كفر ولا يجوز أن يأمر به نبي؟
قيل عن ذلك جوابان .
أحدهما : أن مضمون أمره إن كنتم محقين فألقوا .
والثاني : القول على ما يصح ويجوز لا على ما يفسد ويستحيل .
قوله : { فَوَقَعَ الْحَقُّ } أي ظهر الحق ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وفي الحق الذي ظهر فيه قولان :
أحدهما : ظهرت عصا موسى على حبال السحرة .
والثاني : ظهرت نبوة موسى على ربوبية فرعون .
قوله عز وجل : { وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } في سجودهم قولان :
أحدهما : أنهم سجدوا لموسى تسليماً له وإيماناً به .
والثاني : أنهم سجدوا لله إقراراً بربوبيته ، لأنهم { قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } .
وفي سجودهم قولان :
أحدهما : أن الله ألهمهم ذلك لطفاً بهم .
والثاني : أن موسى وهارون سجدا شكراً لله عند ظهور الحق على الباطل فاقتدوا بهما في السجود لله طاعة .

قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

قوله عز وجل : { وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ . . . } الآية : { الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } فيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه أشرافهم .
والثاني : رؤساؤهم .
والثالث : أنهم الرهط والنفر الذين آمنوا معهم .
والفرق بين الرهط والنفر من وجهين :
أحدهما : كثرة الرهط وقلة النفر .
والثاني : قوة الرهط وضعف النفر ، وفي تسميتهم بالملأ وجهان :
أحدهما : أنهم مليئون بما يراد منهم .
والثاني : لأنهم تملأ النفوس هيبتهم .
وفيه وجه ثالث : لأنهم يملأون صدور المجالس .
فإن قيل : فما وجه إقدامهم على الإنكار على فرعون مع عبادتهم له؟ قيل : لأنهم رأوا منه خلاف عادته وعادة الملوك في السطوة بمن أظهر العناد وخالف ، وكان ذلك من لطف الله بموسى .
وفي قوله : { لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } وجهان :
أحدهما : ليفسدوا فيها بعبادة غيرك والدعاء إلى خلاف دينك .
والثاني : ليفسدوا فيها بالغلبة عليها وأخذ قومه منها .
ثم قالوا : { وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ } فإن قيل : فما وجه قولهم ذلك له وهم قد صدقوه على قوله : { أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى } [ النازعات : 24 ] . قيل الجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كان يعبد الأصنام وكان قومه يعبدونه ، قاله الحسن .
والثاني : أنه كان يعبد ما يستحسن من البقر ولذلك أخرج السامري عجلاً جسداً له خوار وقال هذا إلهكم وإله موسى ، وكان معبوداً في قومه ، قاله السدي .
والثالث : أنها كنت أصناماً يعبدها قومه تقرباً إليه ، قاله الزجاج .
وقرأ ابن عباس { وَيَذَرَكَ وَإِلاَهَتَكَ } أي وعبادتك .
قال الحسن : وكان فرعون يَعبُد ويُعبَد . وعلى هذه القراءة يسقط السؤال . وذكر ابن قتيبة في هذه القراءة تأويلاً ثانياً؛ أن الإلاهة الشمس ، والعرب تسمي الشمس الإلاهة واستشهد بقول الأعشى :
وَلَمْ أَذْكُرِ الرُّعْبَ حَتَّى انْتَقَلْتُ ... قُبَيْلَ الإِلاَهَةِ مِنْهَا قرِيباً
يعني الشمس ، فيكون تأويل الآية : ويذرك والشمس حتى تعبد فعلى هذا يكون السؤال متوجهاً عنه ما تقدم .
{ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ } وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الأبناء لأنه علم أنه لا يقدر عل قتل موسى إما لقوته وإما تصوره أنه مصروف عن قتله ، فعدل إلى قتل الأبناء ليستأصل قوم موسى من بني إسرائيل فيضعف عن فرعون { وَنَسْتَحِيي نِسَاءَهُمُ } فيه قولان :
أحدهما : أن نفتش أرحامهن فننظر ما فيهن من الولد ، مأخوذ من الحياء وهو اسم من أسماء الفرج ، حكاه ابن بحر .
والثاني : الأظهر أن معناه : نستبقيهن أحياء لضعفهن عن المنازعة وعجزهن عن المحاربة .
قوله عز وجل : { قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه أمرهم بذلك تسلية لهم من وعيد فرعون كما يقول من نالته شدة : استعنت بالله .
والثاني : أنه موعد منه بأن الله سيعينهم على فرعون إن استعانوا به .
ثم قال : { وَاصْبِرُواْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : واصبروا على ما أنتم فيه من الشدة طمعاً في ثواب الله .

والثاني : أنه أمرهم بالصبر انتظاراً لنصر الله .
{ إنَّ الأَرْضِ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه قال ذلك تسلية لقومه في أن الدنيا لا تبقي على أحد فتبقي على فرعون لأنها تنتقل من قوم إلى قوم .
والثاني : أنه أشعرهم بذلك أن الله يورثهم أرض فرعون .
{ وَالْعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يريد في الآخرة بالثواب .
والثاني : في الدنيا بالنصر .
قوله عز وجل : { قالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : أن الأذى من قبل ومن بعد أخذ الجزية . قاله الحسن .
والثاني : أن الأذى من قبل : تسخيرهم بني إسرائيل في أعمالهم لنصف النهار وإرسالهم في بقيته ليكسبوا لأنفسهم . والأذى من بعد : تسخيرهم في جميع النهار بلا طعام ولا شراب ، قاله جويبر .
والثالث : أن الأذى الذي كان من قبل : الاستعباد وقتل الأبناء ، والذي كان من بَعد : الوعيد بتجديد ذلك عليهم ، حكاه ابن عيسى .
والرابع : أن الأذى الذي كان من قبل أنهم كانوا يضربون اللبن ويعطيهم التبن ، والأذى من بعد أن صاروا يضربون اللبن ويجعل عليهم التبن ، قاله الكلبي ، وفي قولهم : { مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } قولان :
أحدهما : من قبل أن تأتينا بالرسالة ومن بعد ما جئتنا بها ، قاله ابن عباس .
والثاني : من قبل أن تأتينا بعهد الله إليك أنه يخلصنا ومن بعد ما جئتنا به . وفي هذا القول منهم وجهان :
أحدهما : أنه شكوى ما أصابهم من فرعون واستعانة بموسى .
والثاني : أنهم قالوه استبطاء لوعد موسى ، حكاه ابن عيسى .
{ قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِك عَدُوَّكُمْ } { عَسَى } في اللغة طمع وإشفاق . قال الحسن عسى من الله واجبة ، وقال الزجاج : { عَسَى } من الله يقين .
{ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } في قوله : { فَينظُرَ } وجهان :
أحدهما : فيرى .
والثاني : فيعلم وفي قول موسى ذلك لقومة أمران :
أحدهما : الوعد بالنصر والاستخلاف في الأرض .
والثاني : التحذير من الفساد فيها لأن الله تعالى ينظر كيف يعملون .

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)

قوله عز وجل : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بالسِّنِينَ } فيه قولان :
أحدهما : يعني بالجوع ، قاله مجاهد ، وقتادة .
والثاني : أن معنى السنين الجدوب ، قاله الحسن .
والعرب تقول : أخذتهم السنة إذا قحطوا وأجدبوا .
وقال الفراء : المراد بالسنين الجدب والقحط عاماً بعد عام .
قوله عز وجل : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَعَهُ } في الحسنة والسيئة هنا وجهان :
أحدهما : أن الحسنة الخصب ، السيئة القحط .
والثاني : أن الحسنة الأمن ، والسيئة ، الخوف .
{ قَالُوا لَنَا هَذِهِ } أي كانت حالنا في أوطاننا وقبل اتباعنا لك ، جهلاً منهم بأن الله تعالى هو المولى لها .
{ وَإن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } أي يتشاءَمون بموسى ويقولون هذا من اتباعنا إياك وطاعتنا لك ، على ما كانت العرب تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وهو الذي يأتي من جهة الشمال ، وتتبرك بالسانح وهو الذي يأتي من جهة اليمين ، ثم قال رداً لقولهم .
{ أَلآ إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ } أي طائر البركة وطائر الشؤم .

وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)

قوله عز وجل : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ . . . } أما الطوفان ففيه ستة أقاويل :
أحدها : أنه الغرق بالماء الزائد ، قاله ابن عباس .
والثاني : أنه الطاعون ، قاله مجاهد .
والثالث : أنه الموت ، قاله عطاء . وروت عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الطُّوفَانُ الْمَْوتُ » .
والرابع : أنه أمر من الله طاف بهم ، وهو مروي أيضاً عن ابن عباس .
والخامس : أنه كثرة المطر والريح ، واستدل قائل ذلك بقول الحسن بن عرفطة :
غَيَّرَ الْجِدَّةَ مِنْ عِرْفَانِهِ ... خُرُقُ الرِّيحِ وَطُوفَانُ الْمَطَرِ
والسادس : أنه عذاب من السماء ، واستدل قائل ذلك بقول أبي النجم :
وَمَرَّ طُوفَانٌ فِبِتُّ شَهْراً ... فَرْداً شَآبِيبَ وَشَهْراً مدراً
{ وَالْقُمَّلَ } فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنه الدَبَى وهو صغار الجراد لا أجنحة له .
والثاني : أنه السوس الذي في الحنطة قاله ابن عباس .
والثالث : البراغيث ، قاله ابن زيد .
والرابع : القردان ، قاله أبو عبيدة .
والخامس : هو دواب سود صغار ، قاله الحسن ، وسعيد بن جبير ، وشاهده قول الأعشى .
قَوْماً تُعَالِجُ قُمَّلاً أَبْنَاؤهُهُمْ ... وَسَلاَسِلاً أُجُداً وَبَاباً مُؤْصَداً
وواحد القمل قملة .
وأما الضفادع فواحدها ضفدع وهو مشهور . وقيل إنه كان يوجد في فراشهم وآنيتهم ، ويدخل في ثيابهم فيشتد أذاه لهم .
وأما الدم ففيه قولان :
أحدهما : أن ماء شربهم كان يصير دماً عبيطاً ، فكان إذا غرف القبطي من الماء صار دماً وإذا غرف الإسرائيلي كان ماء .
والثاني : أنه رعاف كان يصيبهم ، قاله زيد بن أسلم .
{ ءَاياتٍ مُّفَصَّلاَتٍ } فيها قولان :
أحدهما : مبينات لنبوة موسى .
والثاني : مفصل بعضها عن بعض لأن هذه الآيات لم تجتمع في وقت واحد بل كانت تأتي شهراً بعد شهر فيكون في تفرقتها مع الإنذار إعذار ، وكان بين كل آيتين شهر .
{ فَاسْتَكْبَرُواْ } فيه وجهان :
أحدهما : عن الانزجار بالآيات .
والثاني : عن الإيمان بموسى .
{ وَكَانُواْ قَوماً مُجْرِمِينَ } فيه وجهان :
أحدهما : كافرين .
والثاني : متعدّين .
قوله عز وجل : { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيهِمُ الرّجْزُ } - فيه قولان :
أحدهما : أنه العذاب ، قاله الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد .
والثاني : هو الطاعون أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان ، قاله سعيد بن جبير .
{ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بما تقدم إليك به أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك .
والثاني : ما هداك به أن تفعله في قومك ، قاله السدي .
والثالث : أن ذلك منهم على معنى القسم كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم .
{ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } هذا قول قوم فرعون ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : لنصدقنك يا موسى أنك نبي .
والثاني : لنؤمنن بك يا الله أنك إله واحد .

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)

قوله عز وجل : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : يستقلون .
والثاني : يستذلون وهم بنو إِسرائيل .
{ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : يريد الشرق والغرب ، قاله ابن عيسى .
والثاني : أرض الشام ومصر ، قاله الحسن .
والثالث : أرض الشام وحدها شرقها وغربها ، قاله قتادة .
{ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } فيه قولان :
أحدهما : بالخصب .
والثاني : بكثرة الأنهار والأشجار والثمار .
{ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ } فيها قولان :
أحدهما : أن تمام كلمة الحسنى ما وعدهم من هلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض بقوله : { عَسَى رَبُّكُم أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُم وَيَسْتَخْلِفَكُم } وسماها الحسنى لأنه وعد بما يحبون .
والثاني : هو قوله تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِنَ لَهُم فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [ القصص : 5 ، 6 ] .
وفي قوله : { بِمَا صَبَرُواْ } وجهان :
أحدهما : بما صبروا على أذى فرعون .
والثاني : بما صبروا على طاعة الله .

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)

قوله عز وجل : { إِنَّ هَؤُلاَءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } في { متبر } ثلاثة أوجه :
أحدها : باطل ، قاله الكلبي .
والثاني : ضلال ، حكاه أبو اليسع .
والثالث : مهلك ، ومنه التبر ، الذهب . وفي تسميته بذلك قولان :
أحدهما : لأن موسى يهلكه .
والثاني : لكسره ، وكل إناء مكسور متبّر قاله الزجاج . وقال الضحاك هي كلمة نبطية لما ذكرنا .

قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

قوله عز وجل : { وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ ءَآلِ فِرْعَوْنَ } قال هذا يذكر بالنعمة .
{ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذابِ } أي أشد العذاب .
{ يُقَتّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } أي يقتلون أبناءكم صغاراً ويستحيون نساءكم للاسترقاق والاستخدام كباراً .
{ وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن ما فعله فرعون بكم من قتل الأبناء واسترقاق النساء بلاء عليكم عظيم ، قاله الكلبي .
والثاني : أنه ابتلاء لكم واختبار عظيم ، قاله الأخفش .
والثالث : أن في خلاصكم من ذلك بلاء عظيم ، أي نعمة عظيمة ، قاله ابن قتيبة .

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

قوله عز وجل : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } فيها قولان :
أحدهما : أن الثلاثين ليلة شهرٌ أمر بصيامه ، والعشر بعدها أجل لمناجاة ربه .
والثاني : أن الأربعين كلها أجل لمناجاة ربه ، أجل في الأول ثلاثين ليلة ثم زيدت عشراً بعدها . وقد قيل إنه ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، حكي ذلك عن مجاهد ، وابن جريج ، ومسروق .
{ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } يعني أن اجتماع الأجلين تمام أربعين ليلة ، ليدل بذلك على أن العشر هي ليال وليست ساعات .
فإن قيل : فمعلوم أن العشر مع الثلاثين مستكملة أربعين ، فما معنى قوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيلَةً } .
فعن ذلك ثلاثة أجوبة :
أحدها : أنه تأكيد في الذرك فلم يمتنع .
والثاني : كان وعده إلى الجبل الذي كلمه فيه .
والثالث : لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن يكون من جملة الثلاثين لأن تمام الشيء بعض منه .
فإن قيل : فلم زاد في أجل وعده بعد الثلاثين عشراً جعلها أجلاً ثانياً فأخر بها موعده؟
قيل عن ذلك جوابان :
أحدهما : أن قومه تأخروا عنه في الأجل الأول فزاده الله لتأخرهم عنه أجلاً ثانياً ليحضروا .
والثاني : لأن قومه عبدوا العجل بعده فزاده الله أجلاً ثانياً عقوبة لهم .
ويحتمل جواباً ثالثاً : أن الله فعل ذلك به اختباراً لقومه ليتميز به المؤمن من المنافق ويعرف به المتيقن من المرتاب .
والفرق بين الميقات والوقت وإن كانا من جنس واحد أن الميقات ما قدر لعمل ، والوقت قد لا يتقدر لعمل .

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

قوله عز وجل : { . . . قَالَ رَبِّ أَرِني أَنظُرُ إِلَيْكَ } الآية ، في سؤال موسى ذلك لربه ثلاثة أقاويل : أحدها : ليرد عليه من جواب الله ما يحتج به على قومه حين قالوا : { لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] مع علم موسى بأنه لا يجوز أن يراه في الدنيا .
والثاني : أنه كان يعلم ذلك باستدلال فأجب أن يعلمه ضرورة .
والثالث : أنه جوّز ذلك وظنه وأن رؤيته في الدنيا ممكنة ، قاله الحسن ، والربيع ، والسدي .
فأجابه الله بأن { قَالَ لَن تَرَانِي } .
ثم أظهر في الجواب ما يعلم به استحالة مسألته فقال : { وَلَكِن انظُرْ إلىَ الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } لأن الجبل إذا لم يستقر لرؤيته فالإنسان بذلك أولى .
{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ للِجَبَلِ } معنى تجلى ظهر مأخوذ من جلاء العروس إذا ظهرت ، ومن جلاء المرآة إذا أضاءت .
وفي تجليه أربعة أقاويل :
أحدها : أنه ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل .
والثاني : أنه أظهر للجبل من ملكوته ما تدكدك به ، لأن الدنيا لا تقوم لما يبرز من ملكوت السماء .
والثالث : أنه أبرز قدر الخنصر من العرش .
والرابع : ظهر أمره للجبل .
{ جَعَلَهُ دَكّاً } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : يعني مستوياً بالأرض ، مأخوذ من قولهم ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام ، قاله ابن قتيبة وابن عيسى .
والثاني : أنه ساخ في الأرض ، قاله الحسن وسفيان .
والثالث : أنه صار تراباً ، قاله ابن عباس .
والرابع : أنه صار قطعاً .
قال مقاتل : وكان أعظم جبل بمدين تقطع ست قطع تفرقت في الأرض ، صار منها بمكة ثلاثة أجبل : ثبير وغار ثور وحراء . وبالمدينة ثلاثة أجبل : رضوى وأحد وورقان . والله أعلم .
{ وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً } فيه قولان :
أحدهما : ميتاً ، قاله قتادة .
والثاني : مغشياً عليه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، ابن زيد .
قال ابن عباس : أخذته الغشية الخميس من يوم عرفة وأفاق عشية الجمعة وفيه نزلت عليه التوراة وهو يوم النحر العاشر من ذي الحجة ، وفيها عشر آيات أنزلها الله في القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في ثماني عشرة من سورة بني إسرائيل .
{ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه تاب من الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها .
والثاني : أنه تاب من اعتقاده جواز رؤيته في الدنيا .
والثالث : أنه قال ذلك على جهة التسبيح وعادة المؤمنين عند ظهور الآيات . الدالة على عظيم قدرته .
{ وَأَنَّاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } فيه قولان :
أحدهما : أول المؤمنين بأنه لا يراك شيء من خلقك ، قاله ابن عباس ، والحسن :
والثاني : وأنا أول المؤمنين من قومي باستعظام سؤال الرؤية .

قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)

قوله عز وجل : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ . . . } الآية في { وَكَتَبْنَا لَهُ } قولان :
أحدهما : فرضنا ، كقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [ البقرة : 183 ] أي فرض .
والثاني : أنه كتابة خط بالقلم في ألواح أنزلها الله عليه .
واختلفوا في الألواح من أي شيء كانت على أربعة أقاويل :
أحدها : أنها كانت من زمرد أخضر ، قاله مجاهد .
والثاني : أنها كانت من ياقوت ، قاله ابن جبير .
والثالث : أنها كانت من زبرجد ، قاله أبو العالية .
والرابع : قاله الحسن كانت الألواح من خشب ، واللوح مأخوذ من أن المعاني تلوح بالكتابة فيه .
وفي قوله : { مِن كُلِّ شَيْءٍ } قولان :
أحدهما : من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والمباح والمحظور والواجب وغير الواجب .
والثاني : كتب له التوراة فيها من كل شيء من الحكم والعبر .
وفي قوله : { مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً . . . } تأويلان :
أحدهما : أن الموعظة النواهي ، والتفصيل : الأوامر ، وهو معنى قول الكلبي .
والثاني : الموعظة : الزواجر ، والتفصيل : الأحكام ، وهو معنى قول مقاتل .
قال : وكانت سبعة ألواح .
{ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } فيه أربعة أقاويل :
أحدها : بجد واجتهاد قاله السدي .
والثاني : بطاعة ، قاله الربيع بن أنس .
والثالث : بصحة عزيمة ، قاله علي بن عيسى .
والرابع : بشكر ، قاله جويبر .
{ وَأمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } لم يقل ذلك لأن فيها غير حسن ، وفيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أن أحسنها : المفروضات ، وغير الأحسن : المباحات .
والثاني : أنه الناسخ دون المنسوخ .
والثالث : أن فعل ما أمر به أحسن من ترك ما نهي عنه لأن العمل أثقل من الترك وإن كان طاعة .
{ سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ } فيها أربعة أقاويل :
أحدها : هي جهنم ، قاله الحسن ، ومجاهد .
والثاني : هي منازل من هلك بالتكذيب من عاد وثمود والقرون الخالية ، لتعتبروا بها وبما صاروا إليه من النكال ، قاله قتادة .
والثالث : أنها منازل سكان الشام الجبابرة والعمالقة .
والرابع : أنها دار فرعون وهي مصر .
وقرأ قسامة بن زهير { سَأُوْرِثُكُمْ } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15