كتاب : الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء
المؤلف: أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي

وكان ابن عمير اليشكري من سراة أهل اليمامة وأشرافهم وكان مسلما يكتم إسلامه وكان صديقا للرجال فقال شعرا فشا في اليمامة حتى كانت المرأة والوليدة والصبي ينشدونه فقال
يا سعاد الفؤاد بنت أثال
طال ليلى بفتنة الرجال
إنها يا سعاد من حدث الدهر
عليكم كفتنة الرجال
فتن القوم بالشهادة والله
عزيز ذو قوة ومحال
لا يساوي الذي يقول من الأمر
قبالا وما احتذى من قبال
إن ديني دين النبي وفي القوم
رجال على الهدى أمثالي
أهلك القوم محكم بن طفيل
ورجال ليسوا لنا برجال
بزهم أمرهم مسيلمة اليوم
فلن يرجعوه أخرى الليالي
قلت للنفس إذ تعاظمها الصبر
وساءت مقالة الأقوال
ربما تجزع النفوس من الأمر
له فرجة كحل العقال
إن تكن ميتتي على فطرة الله
حنيفا فإنني لا أبالي
الخفيف
فبلغ ذلك مسيلمة ومحكما وأشراف أهل اليمامة فطلبوه ففاتهم ولحق بخالد بن الوليد فأخبره بحال أهل اليمامة ودله على عوراتهم وقالوا إن رجلا من بني حنيفة كان أسلم وأقام عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فحسن إسلامه فأرسله

رسوله الله {صلى الله عليه وسلم} إلى مسيلمة ليقدم به عليه وقال الحنفي إن أجاب أحدا من الناس أجابني وعسى أن يجيبه الله فخرج حتى أتاه فقال إن محمدا قد أحب أن تقدم عليه فإنك لو جئته لم يفارقك إلا عن رضى ورفق به وجعل يأتيه خاليا فيلقى هذا القول إليه فلما أكثر عليه قال انظر في ذلك فشاور الرجال بن عنفوة وأصحابه فقالوا لا تفعل إن قدمت عليه قتلك ألم تسمع كلامه وما قال فأبى مسيلمة أن يقدم معه على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبعث معه رجلين ممن يصدق به ليكلماه ويخبراه بما قال الحنفي فخرج الرسولان حتى قدما على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مع رسوله فتشهد أحدهما برسول الله وحده ثم كلمه بما بدا له فلما قضي كلامه تشهد الآخر فذكر رسول الله وذكر مسيلمة فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كذبت خذوا هذا فاقتلوه فثار المسلمون إليه يلببونه وأخذ صاحبه بحجزه وجعل يقول يا رسول الله اعف عنه بأبي أنت وأمي فيجاذبه إياه المسلمون فلما أرسلوه تشهد بذكر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وحده وأسلم هو وصاحبه فلما توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} خرجا فقدما على أهليهما باليمامة وقد فتن الذي أمسك بحجزة صاحبه ذلك فقتل مع مسيلمة وثبت الممسك بحجزته وكان بعد يخبر خالد بن الوليد بعورة بني حنيفة وأخبر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رسوله إلى مسيلمة كيف رفق به حتى أراد أن يقدم لولا أن الرجال نهاه فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقتله الله ويقتل الرجال معه ففعل الله ذلك بهما وأنجز وعده فيهما واستضاف مسيلمة إلى ضلاله في دين الله وتكذبه على الله ضلالة سجاح وكانت امرأة من بني تميم أجمع قومها أنها نبية فادعت الوحي واتخذت مؤذنا وحاجبا ومنبرا فكانت العشيرة إذا اجتمعت تقول الملك في أقربنا من سجاح وفيها يقول عطارد بن حاجب بن زرارة
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها
وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
البسيط
ثم إن سجاح رحلت تريد حرب مسيلمة وأخرجت معها من قومها من

تابعها على قولها وهم يرون أن سجاح أولى بالنبوة من مسيلمة فلما قدمت عليه خلا بها وقال لها تعالى نتدارس النبوة أينا أحق فقالت سجاح قد أنصفت وفي الخبر بعد هذا من قوله ما يحق الإعراض عن ذكره
وقد قيل أن سجاح إنما توجهت إلى مسيلمة مستجيرة به لما وطيء خالد العرب ورأت أنه لا أحد أعز لها منه وقد كانت أمرت مؤذنها شبت بن ربعي أن يؤذن بنبوة مسيلمة فكان يفعل فلما قدمت على مسيلمة قالت اخترتك على من سواك ونوهت باسمك حتى إن مؤذني ليؤذن بنبوتك فخلا بها ليتدارسا النبوة
ولما قتل مسيلمة أخذ خالد بن الوليد سجاح فأسلمت ورجعت إلى ما كانت عليه ولحقت بقومها
وعظمت فتنة بني حنيفة بكذابهم هذا حتى كان يدعو لمريضهم ويبرك على مولودهم ولا ينهاهم عن اغترارهم به ما يشاهدون من قلة غنائه عنهم جاءه قوم بمولود فمسح رأسه فقرع وقرع كل مولود له وجاءه آخر فقال يا أبا ثمامة إني ذو مال وليس لي مولود يبلغ سنتين حتى يموت غير هذا المولود وهو ابن عشر سنين ولي مولود ولد أمس فأحب أن تبارك فيه وتدعو أن يطيل الله عمره فقال سأطلب لك الذي طلبت فجعل عمر المولود أربعين سنة فرجع الرجل إلى منزله مسرورا فوجد الأكبر قد تردى في بئر ووجد الصغير ينزع في الموت فلم يمس من ذلك اليوم حتى ماتا جميعا تقول أمهما فلا والله ما لأبي ثمامة عند إلهه مثل منزلة محمد {صلى الله عليه وسلم}
قالوا وحفرت بنو حنيفة بئرا فأعذبوها نتاحا فجاءوا إلى مسيلمة فطلبوا إليه أن يأتيها وأن يبارك فيها فأتاها فبصق فيها فعادت أجاجا

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد عاهد خالدا إذا فرغ من أسد وغطفان والضاحية أن يقصد اليمامة وأكد عليه في ذلك فلما أظفر الله خالدا بأولئك تسلل بعضهم إلى المدينة يسألون أبا بكر أن يبايعهم على الإسلام ويؤمنهم فقال لهم بيعتي إياكم وأماني لكم أن تلحقوا بخالد بن الوليد ومن معه من المسلمين فمن كتب إلى خالد بأنه حضر معه اليمامة فهو آمن فليبلغ شاهدكم غائبكم ولا تقدموا علي اجعلوا وجوهكم إلى خالد
قال أبو بكر بن أبي الجهم أولئك الذين لحقوا خالد بن الوليد من الضاحية هم الذين كانوا انهزموا بالمسلمين يوم اليمامة ثلاث مرات وكانوا على المسلمين بلاء
وقال شريك الفزاري كنت ممن حضر بزاخة مع عيينة بن حصن فرزق الله الإنابة فجئت أبا بكر فأمرني بالمسير إلى خالد وكتب معي إليه
أما بعد فقد جاءني كتابك مع رسولك تذكر ما أظفرك الله بأهل بزاخة وما فعلت بأسد وغطفان وإنك سائر إلى اليمامة وذلك عهدي إليك فاتق الله وحده لا شريك له وعليك بالرفق بمن معك من المسلمين كن لهم كالوالد وإياك يا خالد بن الوليد ونخوة بني المغيرة فإني قد عصيت فيك من لم أعصه في شيء قط فانظر بني حنيفة إذا لقيتهم إن شاء الله فإنك لم تلق قوما يشبهون بني حنيفة كلهم عليك ولهم بلاد واسعة فإذا قدمت فباشر الأمر بنفسك واجعل على ميمنتك رجلا وعلى ميسرتك رجلا واجعل على خيلك رجلا واستشر من معك من الأكابر من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من المهاجرين والأنصار واعرف لهم فضلهم فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم فالقهم إن شاء الله وقد أعددت للأمور أقرانها فالسهم للسهم والرمح للرمح والسيف للسيف فإذا صرت إلى السيف فهو الثكل فإن أظفرك الله بهم فإياك والإبقاء عليهم أجهز على جريحهم واطلب مدبرهم واحمل أسيرهم على السيف وهول فيهما القتل واحرقهم بالنار وإياك أن تخالف أمري والسلام عليك
فلما انتهى الكتاب إلى خالد اقترأه وقال سمع وطاعة

ولما اتصل بأهل اليمامة مسير خالد إليهم بعد الذي صنع الله له في أمثالهم حيرهم ذلك وجزع له محكم بن الطفيل سيدهم وهم أن يرجع إلى الإسلام فبات يتلوى على فراشه وهو يقول
أرى الركبان تخبر ما كرهنا
أكل الركب يكذب ما يقول
ألا لا ليس كلهم كذوبا
وقد كذبوا وكذبهم قليل
وقد صدقوا لهم منا ومنهم
لنا إن حاربوا يوم طويل
فقل لابن الوليد وللمنايا
على السراء والضراء دليل
أيقطع بيننا حبلا وصال
فليس إليهما أبدا سبيل
وما في الحرب أعظم من جريح
وعان خر بينهما قتيل
الوافر
فلما سمع القوم كلامه عرفوا أنه ثابت على ضلالته معهم وفرح بذلك منه مسيلمة وكان محكم سيد أهل اليمامة وكان صديقا لزياد بن لبيد بن بياضة من الأنصار فقال له خالد في بعض الطريق لو ألقيت إلى محكم شيئا تكسره به فإنه سيد أهل اليمامة وطاعة القوم له فبعث إليه مع راكب ويقال بل بعث بها إليه حسان بن ثابت من المدينة
يا محكم بن طفيل قد أتيح لكم
لله در أبيكم حية الوادي
يا محكم بن طفيل إنكم نفر
كالشاء أسلمها الراعي لآساد
ما في مسيلمة الكذاب من عوض
من دار قوم وإخوان وأولاد
فاكفف حنيفة عنه قبل نائحة
تنعي فوارس شاخ شجوها بادي
لا تأمنوا خالدا بالبرد معتجرا
تحت العجاجة مثل الأغضف العاد
ويل اليمامة ويلا لا فراق له
إن جالت الخيل فيها بالقنا الصاد
والله لا تنثني عنكم أعنتها
حتى تكونوا كأهل الحجر أو عاد
البسيط
ووردت على محكم وقيل له هذا خالد بن الوليد في المسلمين فقال رضي خالد أمر ورضينا غيره وما ينكر خالد أن يكون في بني حنيفة من قد أشرك في الأمر فسيرى خالد إن قدم علينا يلق قوما ليسوا كمن لقي ثم خطب أهل اليمامة فقال يا معشر أهل اليمامة إنكم تلقون قوما يبذلون أنفسهم دون صاحبهم فابذلوا أنفسكم دون صاحبكم فإن أسدا وغطفان إنما أشار إليهم خالد بذباب السيف فكانوا كالنعام الشارد وقد أظهر خالد بن الوليد بأوا حيث أوقع ببزاخة ما أوقع وقال هل حنيفة إلا كمن لقينا

وكان عمير بن ضابى ء اليشكري في أصحاب خالد وكان من سادات اليمامة ولم يكن من أهل حجر كان من أهل ملمم وهي لبني يشكر فقال له خالد تقدم إلى قومك فاكسرهم فأتاهم ولم يكونوا علموا بإسلامه وكان مجهدا فارسا سيدا فقال يا معشر أهل اليمامة أظلكم خالد في المهاجرين والأنصار تركت القوم يتتابعون إلى فتح اليمامة قد قضوا وطرأ من أسد وغطفان وعليا وهوازن وأنتم في أكفهم وقولهم لا قوة إلا بالله إني رأيت أقواما إن غلبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر وإن غلبتموهم على الحياة غلبوكم على الموت وإن غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد لستم والقوم سواء الإسلام مقبل والشرك مدبر وصاحبهم نبي وصاحبكم كذاب ومعهم السرور ومعكم الغرور فالآن والسيف في غمده والنبل في جفيره قبل أن يسل السيف ويرمي بالسهم سرت إليكم مع القوم عشرا
فكذبوه واتهموه فرجع عنهم وقام ثمامة بن إثال الحنفي في بني حنيفة فقال
اسمعوا مني وأطيعوا أمري ترشدوا إنه لا يجتمع نبيان بأمر واحد وإن محمدا {صلى الله عليه وسلم} لا نبي بعده ولا نبي مرسل معه ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد

العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ) 13 غافر هذا كلام الله عز وجل أين هذا من يا ضفدع نقي كم تنقين لا الشرب تمنعين ولا الماء تكدرين والله إنكم لترون أن هذا الكلام ما يخرج من إل وقد استحق محمد {صلى الله عليه وسلم} أمرا أذكره به مر بي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأنا على دين قومي فأردت قتله فحال بيني وبينه عمير وكان موفقا فأهدر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} دمي ثم خرجت معتمرا فبينا أنا أسير قد أظللت علي المدينة أخذتني رسله في غير عهد ولا ذمة فعفا عن دمي وأسلمت فأذن لي في الخروج إلى بيت الله وقلت يا رسول الله إن بني قشير قتلوا أثالا في الجاهلية فأذن لي أغزهم فغزوتهم وبعثت إليه بالخمس فتوفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقام بهذا الأمر من بعده رجل هو أفقههم في أنفسهم لا تأخذه في الله لومة لائم ثم بعث إليكم رجلا لا يسمى باسمه ولا اسم أبيه يقال له سيف الله معه سيوف لله كثيرة فانظروا في أمركم
فآذاه القوم جميعا أو من آذاه منهم فقال ثمامة
مسيلمة ارجع ولا تمحك
فإنك في الأمر لم تشرك
كذبت على الله في وحيه
فكان هواك هوى الأنوك
ومناك قومك أن يمنعوك
وإن يأتهم خالد تترك
فما لك من مصعد في السماء
ولا لك في الأرض من مسلك
المتقارب

ذكر تقديم خالد بن الوليد الطلائع أمامه من البطاح
قالوا ولما سار خالد بن الوليد من البطاح ووقع في أرض بني تميم قدم أمامه فارس مائتي عليهم معن بن عدي العجلاني وبعث معه فرات بن حيان العجلي دليلا وقدم عينين له أمامه مكنف بن زيد الخيل الطائي وأخاه

وذكر الواقدي أن خالدا لما نزل العرض قدم مائتي فارس وقال من أصبتم من الناس فخذوه فانطلقوا حتى أخذوا مجاعة بن مرارة الحنفي في ثلاثة وعشرين رجلا من قومه قد خرجوا في طلب رجل من بني نمير أصاب فيهم دما فخرجوا وهم لا يشعرون بمقبل خالد فسألوهم ممن أنتم قالوا من بني حنيفة فظن المسلمون أنهم رسل من مسيلمة إلى خالد فلما أصبحوا وتلاحق الناس جاءوا بهم إلى خالد فلما رآهم ظن أيضا أنهم رسل من مسيلمة فقال ما تقولون يا بني حنيفة في صاحبكم فشهدوا أنه رسول الله فقال لمجاعة ما تقول أنت فقال والله ما خرجت إلا في طلب رجل من بني نمير أصاب فينا دما وما كنت أقرب مسيلمة ولقد قدمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأسلمت وما غيرت ولا بدلت فقدم القوم فضرب أعناقهم على دم واحد حتى إذا بقي سارية بن مسيلمة بن عامر قال يا خالد إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرا أو شرافا فاستبق هذا يعني مجاعة فإنه لك عون على حربك وسلمك
وكان مجاعة شريفا فلم يقتله وأعجب بسارية وكلامه فتركه أيضا وأمر بهما فأوثقا في جوامع حديد وكان يدعو مجاعة وهو كذلك فيتحدث معه ومجاعة يظن أن خالدا يقتله فبينما هما يتحدثان قال له يا ابن المغيرة إن لي إسلاما والله ما كفرت ولقد قدمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فخرجت

من عنده مسلما وما خرجت لقتال وأعاد ذكر خروجه في طلب النميري فقال خالد إن بين القتل والترك منزلة وهي الحبس حتى يقضي الله في حربنا ما هو قاض ودفعه إلى أم متمم امرأته التي تزوجها لما قتل زوجها مالك بن نويرة وأمرها أن تحسن إساره فظن مجاعة أن خالدا يريد حبسه لأن يشير عليه ويخبره عن عدوه فقال يا خالد إنه من خاف يومك خاف غدك ومن رجاك رجاهما ولقد خفتك ورجوتك ولقد علمت أني قدمت على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وبايعته على الإسلام ثم رجعت إلى قومي وإنا اليوم على ما كنت عليه أمس فإن يكن كذاب خرج فينا فإن الله يقول لا تزر وازرة وزر أخرى 18 فاطر وقد عجلت في قتل أصحابي قبل التأني بهم والخطأ مع العجلة فقال خالد يا مجاعة تركت اليوم ما كنت عليه أمس وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة وقد بلغك مسيري إقرارا له ورضي بما جاء به فهلا أبليت عذرا فتكلمت فيمن تكلم فقد تكلم ثمامة بن إثال فرد وأنكر وقد تكلم اليشكري فإن قلت أخاف قومي فهلا عمدت الى تريد لقائي أو كتبت إلى كتابا أو بعثت إلى رسولا وأنت تعلم أني قد أوقعت بأهل بزاخة وزحفت بالجيوش إليك فقال مجاعة إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله فعلت فقال خالد قد عفوت عن دمك ولكن في نفسي من تركك حوجا بعد فقال مجاعة أما إذا عفوت عن دمي فلا أبالي

وكان خالد كلما نزل منزلا واستقر به دعا مجاعة فأكل معه وحدثه فقال له ذات يوم أخبرني عن صاحبك يعني مسيلمة ما الذي يقرأ عليكم هل تحفظ منه شيئا قال نعم فذكر له شيئا من رجزه قال خالد وضرب بإحدى يديه على الأخرى يا معشر المسلمين اسمعوا إلى عدو الله كيف يعارض القرآن ثم قال ويحك يا مجاعة أراك رجلا سيدا عاقلا اسمع إلى كتاب الله عز وجل ثم انظر كيف عارضه عدو الله فقرأ عليه خالد سبح اسم ربك الأعلى فقال مجاعة أما أن رجلا من أهل البحرين كان يكتب أدناه مسيلمة وقربه حتى لم يكن يعد له في القرب عنده أحد فكان يخرج إلينا فيقول يا أهل اليمامة صاحبكم والله كذاب وما أظنكم تتهمونني عليه إنكم لترون منزلتي عنده وحالي هو والله يكذبكم
ويأتيكم بالباطل قال خالد فما فعل ذلك البحراني قال هرب منه كان لا يزال يقول هذا القول حتى بلغه فخافه على نفسه فهرب فلحق بالبحرين قال خالد فما كان في هذا ناه ولا زاجر ثم قال هات زدنا من كذب الخبيث فقال مجاعة أخرج لكم حنطة وزؤانا ورطبا و تمرانا في رجز له فقال خالد وهذا كان عندكم حقا وكنتم تصدقونه قال مجاعة لو لم يكن عندنا حقا لما لقيتك غدا أكثر من عشرة آلاف سيف يضاربونك فيه حتى يموت الأعجل قال خالد إذا يكفيناهم الله ويعز دينه فإياه تقاتلون ودينه تريدون
وفي كتاب الأموي ثم مضى خالد حتى نزل منزله من اليمامة ببعض أوديتها وخرج الناس مع مسيلمة
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لما أشرف خالد بن الوليد وأجمع أن ينزل عقرباء دفع الطلائع أمامه فرجعوا إليه فخبروه أن مسيلمة ومن معه قد خرجوا فنزلوا عقرباء فشاور خالد أصحابه أن يمضي إلى اليمامة أو ينتهي إلى عقرباء فأجمعوا له أن ينتهي إلى عقرباء فزحف خالد بالمسلمين حتى نزلوا عقرباء وضرب عسكره
وقد قيل إن خالدا هو الذي سبق إلى عقرباء فضرب عسكره ثم جاء مسيلمة فضرب عسكره
ويقال توافيا إليها جميعا

قالوا وكان المسلمون يسألون عن الرجال بن عنفوة فإذا الرجال على مقدمة مسيلمة فلعنوه وشتموه فلما فرغ خالد من ضرب عسكره وحنيفة تسوى صفوفها نهض خالد إلى صفوفه فصفها وقدم رايته مع زيد بن الخطاب ودفع راية الأنصار إلى ثابت بن قيس بن شماس فتقدم بها وجعل
على ميمنته أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعلى ميسرته شجاع بن وهب واستعمل على الخيل البراء بن مالك ثم عزله واستعمل عليها أسامة بن زيد وأمر بسرير فوضع في فسطاطه واضطجع عليه يتحدث مع مجاعة ومعه أم متمم وأشراف أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتحدث معهم وأقبلت بنو حنيفة قد سلت السيوف فلم نزل مسللة وهم يسيرون نهارا طويلا فقال خالد يا معشر المسلمين أبشروا فقد كفاكم الله عدوكم ما سلو السيوف من بعيد إلا ليرهبونا وإن هذا منهم لجبن وفشل فقال مجاعة ونظر إليهم كلا والله يا أبا سليمان ولكنها الهنداونية خشو من تحطمها وهي غداة باردة فأبرزوها للشمس لأن تسخن متونها
فلما دنوا من المسلمين نادوا إنا تعتذر من سلنا سيوفنا حين سللناها والله ما سللناها ترهيبا لكم ولا جبنا عنكم ولكنها كانت الهنداونية وكانت غداة باردة فخشينا تحطمها فأردنا أن تسخن متونها إلى أن نلقاكم فسترون

قال فاقتتلوا قتالا شديدا وصبر الفريقان جميعا صبرا طويلا حتى كثرت القتلى والجراح في الفريقين وكان أول قتيل من المسلمين مالك بن أوس من بني زعوراء قتله محكم بن الطفيل واستلحم من المسلمين حملة القرآن حتى فنوا إلا قليلا وهزم كلا الفريقين حتى دخل المسلمون عسكر المشركين والمشركون عسكر المسلمين مرارا وإذا أجلى المسلمون عن عسكرهم فدخل المشركون أرادوا حمل مجاعة فلا يستطيعون لما هو فيه من الحديد ولأنه لا تزال تناوشهم خيل المسلمين فإذا رجع المسلمون وثبوا على مجاعة ليقتلوه وقالوا اقتلوا عدو الله فإن رأسهم وأنهم إن دخلوا عليه أخرجوه فإذا أشهروا عليه سيوفهم ليقتلوه حنت عليه أم متمم امرأة خالد وردتهم عنه وقالت إني له جار حتى أجارته منهم وكان مجاعة أيضا قد أجارها من المشركين مرارا أن يقتلوها على هذا الوجه
وقد كان مجاعة قال لها لما دفعه إليها خالد لتحسن إساره يا أم متمم هل لك أن أحالفك إن غلب أصحابي كنت لك جارا وأنت كذلك فقالت نعم فتحالفا على ذلك
وقال عكرمة حملت حنيفة أول مرة كانت لها الحملة وخالد على سريره حتى خلص إليه فجرد سيفه وجعل يسوق حنيفة سوقا حتى ردهم وقتل منهم قتلى كثيرة ثم كرت حنيفة حتى انتهوا إلى فسطاط خالد فجعلوا يضربون الفسطاط بالسيوف
قال الواقدي وبلغنا أن رجلا منهم لما دخلوا الفسطاط أراد قتل أم متمم ورفع السيف عليها فاستجارت بمجاعة فألقى عليها رداءه وقال إني جار لها فنعمت الحرة كانت وعيرهم وسبهم وقال تركتم الرجال وجئتم إلى امرأة تقتلونها عليكم بالرجال فانصرفوا وجعل ثابت بن قيس يومئذ يقول وكانت معه راية الأنصار بئس ما عودتم أنفسكم الفرار يا معشر المسلمين

وقد انكشف المسلمون حتى غلبت حنيفة على الرحال فجعل زيد بن الخطاب ينادي وكانت عنده راية خالد أما الرحال فلا رحال وأما الرجال فلا رجال اللهم إني أعتذر إليك من فرار أصحابي وأبرأ إليك مما جاء به مسيلمة ومحكم بن طفيل وجعل يشتد بالراية يتقدم بها في نحر العدو ثم ضارب بسيفه حتى قتل رحمه الله فلما قتل وقعت الراية فأخذها سالم مولى أبي حذيفة فقال المسلمون يا سالم إنا نخاف أن نؤتي من قبلك فقال بئس حامل القرآن أنا إذا إن أتيتم من قبلي
قالوا ونادت الأنصار ثابت بن قيس وهو يحمل رايتهم الزمها فإنما ملاك القوم الراية
فتقدم سالم مولى أبي حذيفة فحفر لرجليه حتى بلغ أنصاف ساقيه ومعه راية المهاجرين وحفر ثابت لنفسه مثل ذلك ثم لزما رايتيهما ولقد كان الناس يتفرقون في كل وجه وإن سالما وثابتا لقائمان برايتيهما حتى قتل سالم وقتل أبو حذيفة مولاه رحمهما الله تعالى فوجد رأس أبي حذيفة عند رجلي سالم ورأس سالم عند رجلي أبي حذيفة لقرب مصرع كل واحد منهما من صاحبه فلما قتل سالم مكثت الراية ساعة لا يرفعها أحد فأقبل يزيد بن قيس وكان بدريا فحملها حتى قتل رحمه الله ثم حملها الحكم بن سعيد بن العاص فقاتل دونها نهارا طويلا ثم قتل رحمه الله
قال وحشي اقتتلنا قتالا شديدا فهزموا المسلمين ثلاث مرات وكر المسلمون في الرابعة وتاب الله عليهم وثبت أقدامهم وصبروا لوقع السيوف واختلفت بينهم وبين بني حنيفة السيوف حتى رأيت شهب النار تخرج من خلالها حتى سمعت لها أصواتا كالأجراس وأنزل الله تعالى علينا نصره وهزم الله بني حنيفة وقتل الله مسيلمة
قال ولقد ضربت بسيفي يومئذ حتى غرى قائمه في كفي من دمائهم
وقال ابن عمر لقد رأيت عمارا على صخرة قد أشرف يصيح يا معشر المسلمين أمن الجنة تفرون أنا عمار بن ياسر هلموا إلي وأنا أنظر إلى أذنه تذبذب وقد قطعت
وقال سعد القرظ لقد رأيته يومئذ يقاتل قتال عشرة

وقال شريك الفزاري لما التقينا والقوم صبر الفريقان صبرا لم أر مثله قط ما تزول الأقدام فترى واختلفت السيوف بينهم وجعل يقبل أهل السوابق والنيات فيتقدمون فيقتلون حتى فنوا وذلقت فينا سيوفهم طويلا فانهزمنا
فلقد أحصيت لنا ثلاث انهزامات وما أحصيت لحنيفة إلا انهزامة واحدة التي ألجأناهم فيها إلى الحديقة يعني حديقة الموت
وقال رافع بن خديج شهدنا اليمامة فكنا تسعين من النبيت فلاقينا عدوا صبرا لوقع السلاح وجماعة الناس أربعة آلاف وحنيفة مثل ذلك أو نحوه فلما التقينا أذن الله للسيوف فينا وفيهم فجعلت السيوف تختلي هام الرجال وأكفهم وجراحا لم أر جراحا قط أبعد غورا منها فينا وفيهم إني لأنظر إلى عباد بن بشر قد ضرب بسيفه حتى انحنى كأنه منجل فيقيمه على ركبته فيعرض له رجل من بني حنيفة فلما اختلفا ضربات ضربة عباد بن بشر على العاتق مستمكنا فوالله لرأيت سحره باديا ومضى عنه عباد ومررت بالحنفي وبه رمق فأجهزت عليه وأنظر بعد إلى عباد وقد اختلفت السيوف عليه وهو يبضع بها ويبعج بطنه فوقع وما أعلم به مصحا وكانوا حنقوا عليه لأنه أكثر القتل فيهم قال وحرضت على قتلته فناديت أصحابنا من النبيت فقمنا عليه وقتلنا قتلته فرأيتهم حوله مقتلين فقلت بعدا لكم

وقال ضمرة سعيد بن المازني وذكر ردة بني حنيفة لم يلق المسلمون عدوا أشد لهم نكاية منهم لقوهم بالموت الناقع وبالسيوف قد أصلتوها قبل النبل وقبل الرماح وقد صبر المسلمون لهم فكان المعول يومئذ على أهل السوابق ونادى عباد بن بشر يومئذ وهو يضرب بالسيف قد قطع من الجراح وما هو إلا كالنمر الجرف فيلقى رجلا من بني حنيفة كأنه جمل صئول فقال هلم يا أخا الخزرج أتحسب قتالنا مثل من لاقيت فيعمد له عباد ويبدره الحنفي ويضربه ضربة بالسيف فانكسر سيفه ولم يصنع شيئا وضربه عباد فقطع رجليه وجاوزه وتركه ينؤ على ركبتيه فناداه يا ابن الأكارم اجهز على فكر عليه عباد فضرب عنقه ثم قام آخر في ذلك المقام فاختلفا ضربات وتجاولا
وعباد على ذلك كثير الجراح فضربه عباد ضربة أبدى سحره وقال خذها وأنا ابن وقش ثم جاوزه يفري في بني حنيفة ضربا فريا فكان يقال قتل عباد يومئذ من بني حنيفة بالسيف أكثر من عشرين رجلا وأكثر فيهم الجراح
قال ضمرة فحدثني رجل من بني حنيفة قديم قال إن حنيفة لتذكر عباد ابن بشر فإذا رأت الجراح بالرجل منهم تقول هذا ضرب مجرب القوم عباد ابن بشر

وفي بعض الروايات عن حديث رافع بن خديج قال خرجنا من المدينة ونحن أربعة آلاف وأصحابنا من الأنصار ما بين خمسمائة إلى أربعمائة وعلى الأنصار ثابت بن قيس ويحمل رايتنا أبو لبابة فانتهينا إلى اليمامة فننتهي إلى قوم هم الذين قال الله تعالى ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون 16 الفتح فلما صففنا صفوفنا ووضعنا الرايات مواضعها لم يلبثوا أن حملوا علينا فهزمونا مرارا فنعود إلى مصافنا وفيها خلل وذلك أن صفوفنا كانت مختلطة فيها حشو كثير من الأعراب في خلال صفوفنا فينهزم أولئك الناس فيستخفون أهل البصائر والنيات حتى كثر ذلك منهم ثم إن الله بمنه وفضله رزقنا عليهم الظفر وذلك أن ثابت بن قيس نادى خالد بن الوليد أخلصنا فقال ذلك إليك فناد في أصحابك قال فاخذ الراية ونادى يا للأنصار فتسللت إليه رجلا رجلا فنادى خالد للمهاجرين فأحدقوا به ونادى عدي بن حاتم ومكنف بن زيد الخيل الطائي بطيء فثابت إليهما طيء وكانوا أهل بلاء حسن وعزلت الأعراب عنا ناحية فقاموا من ورائنا غلوة أو أكثر وإنما كنا نؤتي من الأعراب
قال رافع فانتهينا إلى جمعهم فصبروا وصبرنا صبرا لم ير مثله قط لم تزل الأقدام فذكرت بيتي قيس بن الحطيم
إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا
صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر
ولا تبرح الأقدام عند التضارب
الطويل

قال وأجهضهم أهل السوابق والبصائر فهم في نحورهم ما يجد أحد مدخلا إلا أن يقتل رجل منهم أو يخرج فيقع فيخلف مقامه آخر حتى أوجعنا فيهم وبان خلل صفوفهم وضجوا من السيف ثم اقتحمنا الحديقة فضاربوا فيها وعلقنا الحديقة وأقمنا على بابها رجالا لئلا يهرب منهم أحد فلما رأوا ذلك عرفوا أنه الموت فجدوا في القتال ودكت السيوف بيننا وبينهم ما فيها رمي بسهم ولا حجر ولا طعن برمح حتى قتلنا عدو الله مسيلمة فقيل لرافع يا أبا عبد الله أي القتلى كان أكثر قتلاكم أو قتلاهم قال قتلاهم أكثر من قتلانا وأخبث أحسبنا قتلنا منهم ضعف ما قتلوا منا مرتين فقد قتل من الأنصار يومئذ زيادة على التسعين وجرح منهم مائتان ولقد لقينا بني سليم بالجواء وأنهم لمجروحون فأبلوا بلاء حسنا
وكان أبوخيثمة النجاري يقول لما انكشف المسلمون يوم اليمامة تنحيت ناحية وكأني أنظر إلى أبي دجانة يومئذ ما يولي ظهره منهزما وما هو إلا في نحور القوم حتى قتل رحمه الله وكان يختال في مشيته عند الحرب سجية ما يستطيع غير ذلك قال وكرت عليه طائفة من بني حنيفة فما زال يضرب بالسيف أمامه وعن يمينه وعن شماله فحمل على رجل فصرعه وما ينبس بكلمة حتى انفرجوا عنه ونكصوا على أعقابهم والمسلمون مولون وقد ابيض
ما بينهم وبينه فما ترى إلا المهاجرين والأنصار لا والله ما أرى أحدا يخالطهم فقاموا ناحية وتلاحق الناس فدفعوا حنيفة دفعة واحدة فانتهينا بهم إلى الحديقة فأقحمناهم إياها
قال أبو دجانة ألقوني على الترسة حتى أشغلهم فكانوا قد أغلقوا الحديقة فأخذوه فألقوه على الترسة حتى وقع في الحديقة وهو يقول لا ينجيكم منا الفرار فضاربهم حتى فتحها ودخلنا عليه مقتولا رحمه الله
وقد روى أن البراء بن مالك هو المرمي به في الحديقة والأول أثبت

وقال ثابت بن قيس يومئذ يا معشر الأنصار الله الله ودينكم علمنا هؤلاء أمرا ما كنا نحسنه ثم أقبل على المسلمين فقال أف لكم ولم تعملون ثم قال خلوا بيننا وبينهم أخلصونا فأخلصت الأنصار فلم يكن لهم ناهية حتى انتهوا إلى محكم بن الطفيل فقتلوه ثم انتهوا إلى الحديقة فدخلوها فقاتلوا أشد القتال حتى اختلطوا فيها فما يعرف بعضهم بعضا إلا بالشعار وشعارهم أمت أمت ثم صاح ثابت صيحة يستجلب بها المسلمين يا أصحاب سورة البقرة يقول رجل من طيء والله ما معي منها آيه وإنما يريد ثابت يا أهل القرآن
وقال واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ لما زحف المسلمون انكشفوا أقبح الانكشاف حتى ظن ظانهم أن لا تكون لهم فئة في ذلك اليوم والناس أوزاع قد هدأ حسهم وأشرت حنيفة وأظهروا البغي وأوفى عباد بن بشر على نشز من الأرض ثم صاح بأعلى صوته أنا عباد بن بشر يا للأنصار يا للأنصار ألا إلي ألا إلي فأقبلوا إليه جميعا وأجابوه لبيك لبيك حتى توافوا عنده فقال فداكم أبي وأمي حطموا جفون السيوف ثم حطم جفن سيفه فألقاه وحطمت الأنصار جفون سيوفهم ثم قال حملة صادقة اتبعوني فخرج أمامهم
حتى ساقوا حنيفة منهزمين حتى انتهوا بهم إلى الحديقة فأغلق عليهم فأوفى عباد بن بشر يشرف على الحديقة وهم فيها فقال للرماة ارموا فرموا أهل الحديقة بالنبل حتى ألجئوهم أن اجتمعوا في ناحية منها لا يطلع النبل عليهم ثم إن الله فتح الحديقة فاقتحم عليهم المسلمون فضاربوهم ساعة ثم أغلق عباد باب الحديقة لما كل أصحابه وكره أن تفر حنيفة وجعل يقول اللهم إني أبرأ إليك مما جاءت به حنيفة
قال واقد بن عمرو فحدثني من رأى عباد بن بشر ألقى درعه على باب الحديقة ثم دخل بالسيف صلتا يجالدهم حتى قتل رحمه الله

وقال أبو سعيد الخدري سمعت عباد بن بشر يقول حين فرغنا من بزاخة يا أبا سعيد رأيت الليلة كأن السماء فرجت ثم أطبقت علي فهي إن شاء الله الشهادة قال قلت خيرا والله قال أبو سعيد فانظر إليه يوم اليمامة وإنه ليصيح بالأنصار ويقول أخلصونا فأخلصوا أربعمائة رجل لا يخلطهم أحد يقدمهم البراء بن مالك وأبو دجانة سماك بن خرشة وعباد بن بشر حتى انتهوا إلى باب الحديقة
قال أبو سعيد فرأيت بوجه عباد يعني بعد قتله ضربا كثيرا وما عرفته إلا بعلامة كانت في جسده
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما انصرف إليه أسامة بن زيد من بعثه إلى الشام بعثه في اربعمائة مددا لخالد بن الوليد فأدرك خالدا قبل أن يدخل اليمامة بثلاث فاستعمله خالد على الخيل مكان البراء بن مالك وأمر البراء أن يقاتل راجلا فاقتحم عن فرسه وكان راجلا لا رجلة به فلما انكشف الناس يوم اليمامة وانكشف أسامة بأصحاب الخيل صاح المسلمون يا
خالد ول البراء بن مالك فعزل أسامه ورد الخيل إلى البراء فقال له اركب في الخيل فقال البراء وهل لنا من خيل قد عزلتني وفرقت الناس عني فقال له خالد ليس حين عتاب اركب أيها الرجل في خيلك أما ترى ما لحم من الأمر فركب البراء فرسه وإن الخيل لأوزاع في كل ناحية وما هي إلا الهزيمة فجعل يليح بسيفه وينادي يا صحابة يا للأنصار يا للأنصار يا خيلاه يا خيلاه أنا البراء بن مالك فثابت إليه الخيل من كل ناحية وثابت إليه الأنصار فارسها وراجلها
قال أبو سعيد الخدري فقال لنا احملوا عليهم فداكم أبي وأمي حملة صادقة تريدون فيها الموت ثم أظهر التكبير وكبرنا معه فما كانت لنا ناهية إلا باب الحديقة وقد غلقت دوننا وازدحمنا عليهم فلم نزل حتى فتح الله وظفرنا فله الحمد

وقال عبد الله بن أبي بكر بن حزم كان البراء فارسا وكان إذا حضرته الحرب أخذته رعدة وانتفض حتى يضبطه الرجال مليا ثم يفيق فيبول بولا أحمر كأنه نقاعة الحناء فلما رأى ما يصنع بالناس يومئذ من الهزيمة أخذه ما كان يأخذه فانتفض وضبطه أصحابه وجعل يقول طروني إلى الأرض فلما أفاق سرى عنه وهو مثل الأسد وهو يقول
أسعدني ربي على الأنصار
كانوا يدا طرا على الكفار
في كل يوم ساطع الغبار
فاستبدلوا النجاة بالفرار
الرجز
قال وضرب بسيفه قدما حتى أفرجوا له وخاض غمرتهم وثابت إليه الأنصار كأنها النحل تأوي إلى يعسوبها وتلاومت الأنصار فيما صنعت

وحدث عن خالد بن الوليد من سمعه يقول شهدت عشرين زحفا فلم أر قوما أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقداما من بني حنيفة يوم اليمامة أنا لما فرغنا من طليحة الكذاب ولم تكن له شوكة قلت كلمة والبلاء موكل بالقول وما حنيفة ما هي إلا كمن لقينا فلقينا قوما ليسوا يشبهون أحدا لما انتهينا إلى عسكرهم نظرت إلى قوم قد قدموا أمام عسكرهم بشرا كثيرا فقلت هذه مكيدة وإذا القوم لم يحفلوا بنا فعسكرنا منهم بمنظر العين فلما أمسيت حزرت القوم بنفسي فإذا القوم نحونا فبتنا في عسكرنا وباتوا في عسكرهم فلما طلع الفجر قام القوم إلى التعبئة وثرنا معهم في غدوة باردة وصففت صفوفي وصفوا صفوفهم ثم أقبلوا إلينا يقطون قطوا قد سلوا السيوف فكبرت ورأيت ذلك منهم فشلا فلما دنوا منا نادوا أن هذا ليس بفشل ولكنها الهندوانية وخفنا التحطم عليها فما هو إلا أن واجهونا حملوا علينا حملة واحدة وانهزمت الأعراب ولاذوا بين إضعاف الصفوف فانهزم معهم أهل النيات وأوجعت حنيفة في أدبارهم بالقتل وتقدمت أضرب بسيفي مرة يشتملون على ومرة أنفذ منهم وكر المسلمون كرة ثانية فحملت بنو حنيفة أيضا حتى هزموا المسلمين ثلاث مرات وإنما ينهزم بالناس الأعراب فناديت في المسلمين فذكرتهم الله وناديت في المهاجرين والأنصار الله الله الكرة على عدوكم فنادى أهل السوابق أخلصونا فأخلصوا لا يخلطهم رجل فأخلص قوم قد ألح السيف عليهم وقتل من قتل منهم ومن بقي من أهل النيات منقطع من الجراح ولكنا لم نجد المعول إلا عليهم ولا الصبر إلا عندهم فصفوا جميعا في نحر العدو وجاءت الأعراب من خلفهم وذهبت حنيفة تطلب أن تهزمهم كما كانت تفعل فثبتوا على مصافهم لا تزول فترا واختلفت السيوف بينهم وصبر الفريقان جميعا وذهب الأعراب من ورائنا فحملنا عليهم حملة فما زادت حنيفة على أن رجعت القهقري ما تولى الأدبار حتى وقفوا على باب الحديقة واختلفت السيوف بيننا وبينهم حتى نظرت إلى شهب النار

وحتى صارت القتلى منا ومنهم ركاما وقد أغلقت الحديقة فدخل
من رحمه الله فشغلهم عن الباب حتى دخلنا فإذا أهل السوابق قد وطنوا أنفسهم على الموت فما هو إلا أن عاينتهم حنيفة في الحديقة فناديت أصحابي عضوا على النواجذ لا أسمع شيئا إلا وقع الحديد بعضه على بعض فما كان شيء حتى قتل عدو الله فما ضرب أحد بعده من بني حنيفة بسيف ولقد صبروا لنا من حين طلعت الشمس إلى صلاة العصر ولقد رأيتني في الحديقة وعانقني رجل منهم وأنا فارس وهو فارس فوقعنا عن فرسينا ثم تعانقنا بالأرض فأجؤه بخنجر في سيفي وجعل يجؤني بمعول في سيفه فجرحني سبع جراحات وقد جرحته جرحا أثبته فاسترخى في يدي وما بي من حركة من الجراح وقد نزفت من الدم إلا أنه سبقني بالأجل فالحمد لله على ذلك
وحدث ضمرة بن سعيد أنه خلص يومئذ إلي معكم بن طفيل وهو يقول يا بني حنيفة قاتلوا قبل أن تستحقب الكرائم غير رضيات وينكحن غير حظيات وما كان عندكم من حسب فأخرجوه فقد لحم الأمر واحتيج إلى ذلك منكم وجعل يقول يا بني حنيفة ادخلوا الحديقة سأمنع دابركم وجعل يرتجز
لبئسما أوردنا مسيلمة
أورثنا من بعده أغيلمة
الرجز
فدخلوا الحديقة وغلقوها عليهم ورمى عبد الرحمن بن أبي بكر محكما بسهم فقتله فقام مكانه المعترض بن عمه فقاتل ساعة حتى قتله الله
وفي غير حديث ضمرة أن خالد بن الوليد هو الذي قتل محكما
حدث الحارث بن الفضل قال لما رأى محكم بن طفيل من قتل قومه ما رأى جعل يصيح ادن يا أبا سليمان فقد جاءك الموت الناقع قد جاءك قوم لا يحسنون الفرار فبلغت خالدا كلمته وهو في مؤخر الناس فأقبل يقول هأنذا أبو سليمان وكشف المغفر عن وجهه ثم حمل على ناحية محكم يخوض بني

حنيفة فاقتحم عليه خالد فيضربه ضربة أرعش منها ثم ثنى له بأخرى وهو يقول خذها وأنا أبو سليمان فوقع ميتا وكان عبد الرحمن بن أبي بكر قد رماه بسهم قبل ذلك ومنهم من يقول رماه عبد الرحمن بعد ضربة خالد ومنهم من يقول لم يكن من سهم عبد الرحمن شيء
وقاتلت حنيفة بعد قتل محكم بن طفيل أشد القتال وهم يقولون لا بقاء بعد محكم وقال قائل يا أبا ثمامة أين ما كنت وعدتنا قال أما الدين فلا دين ولكن قاتلوا عن أحسابكم فاستيقن القوم أنهم كانوا على غير شيء
وقال وحشي لما اختلط الناس في الحديقة وأخذت السيوف بعضها بعضا نظرت إلى مسيلمة وما أعرفه ورجل من الأنصار يريده وأنا من ناحية أخرى أريده فهززت من حربتي حتى رضيت منها ثم دفعتها عليه وضربه الأنصاري فربك أعلم أينا قتله إلا أني سمعت امرأة فوق الدير تقول قتله العبد الحبشي
وقال أبو الحويرث ما رأيت أحدا يشك أن عبد الله بن زيد الأنصاري ضرب مسيلمة وزرقه وحشي فقتلاه جميعا
وذكر عمرو بن يحي المازني عن عبد الله بن زيد أنه كان يقول أنا قتلته
وكان معاوية بن أبي سفيان يقول أنا قتلته
وكانت أم عبد الله بن زيد وهي أم عمارة نسيبة بنت كعب تقول إن ابنها عبد الله هو الذي قتله وكانت ممن شهد ذلك اليوم وقطعت فيه يدها وذلك أن ابنها حبيب بن زيد كان مع عمرو بن العاص بعمان عندما توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فلما بلغ ذلك عمرا أقبل من عمان فسمع به مسيلمة فاعترض له

فسبقه عمرو وكان حبيب بن زيد وعبد الله بن وهب الأسلمي في الساقة فأصابهما مسيلمة فقال لهم أتشهدان أني رسول لله فقال الأسلمي نعم فأمر به فحبس في حديد وقال لحبيب أتشهد أني رسول الله فقال لا أسمع فقال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم فأمر به فقطع وكلما قال له أتشهد أني رسول الله قال لا اسمع فإذا قال له أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم حتى قطعه عضوا عضوا حتى قطع يديه من المنكبين ورجليه من الوركين ثم حرقه بالنار وهو في كل ذلك لا ينزع عن قوله ولا يرجع عن ما بدأ به حتى مات في النار رحمه الله
فلما تهيأ بعث خالد بن الوليد إلى اليمامة جاءت أم عمارة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأستاذنته في الخروج فقال لها أبو بكر ما مثلك يحال بينه وبين الخروج قد عرفناك وعرفنا جزاءك في الحرب فاخرجي على اسم الله
قالت فيما حدث به عنها ابن ابنها عباد بن تميم بن زيد فلما انتهوا إلى اليمامة واقتتلوا تداعت الأنصار فأخلصوا فلما انتهينا إلى الحديقة ازدحمنا على الباب وأهل النجدة من عدونا في الحديقة قد انحازوا يكونون فئة لمسيلمة فاقتحمنا فضاربناهم ساعة والله يا بني ما رأيت أبذل لمهج أنفسهم منهم وجعلت أقصد لعدو الله مسيلمة لأن أراه وقد عاهدت الله لئن رأيته لا أكذب عنه أو أقتل دونه وجعلت الرجال تختلط والسيوف بينهم تختلف وخرص القوم فلا صوت إلا وقع السيوف حتى بصرت بعدو الله فأشد عليه ويعرض لي منهم رجل فضرب يدي فقطعها فوالله ما عرجت عليها حتى انتهى إلى الخبيث وهو صريع وأجد ابني عبد الله قد قتله
وفي رواية وابني يمسح سيفه بثيابه فقلت أقتلته قال نعم ياأمه فسجدت لله شكرا وقطع الله دابرهم فلما انقطعت الحرب ورجعت إلى

منزلي جائني خالد بن الوليد بطبيب من العرب فداواني بالزيت المغلي وكان والله أشد على من القطع وكان خالد كثير التعاهد لي حسن الصحبة لنا يعرف لنا حقنا ويحفظ فينا وصية نبينا {صلى الله عليه وسلم} قال عباد فقلت يا جدة كثرت الجراح في المسلمين فقالت يا بني لقد تحاجز الناس وقتل عدو الله وإن المسلمين لجرحى كلهم لقد رأيت بني أبي مجرحين ما بهم حركة ولقد رأيت بني مالك بن النجار بضعة عشر رجلا لهم أنين يكمدون ليلتهم بالنار ولقد أقام الناس باليمامة خمس عشرة ليلة وقد وضعت الحرب أوزارها وما يصلي مع خالد بن الوليد من المهاجرين والأنصار إلا نفر يسير من الجراح وذلك أنا أتينا من قبل العرب انهزموا بالمسلمين إلا أني أعلم أن طيئا قد أبلت يومئذ بلاء حسنا لقد رأيت عدي بن حاتم يومئذ يصيح بهم صبرا فداكم أبي وأمي لوقع الأسل وإن ابني زيد الخيل يومئذ ليقاتلان قتالا شديدا
وعن محمد بن يحيى بن حبارة قال جرحت أم عمارة يعني يوم اليمامة أحد عشر جرحا بين ضربة بسيف أو طعنة برمح وقطعت يدها سوى ذلك فرئي أبو بكر يأتيها يسأل عنها وهو يومئذ خليفة
وقاتل كعب بن عجرة يومئذ وانهزم الناس الهزيمة الآخرة وجاوزوا الرحال منهزمين فجعل يصيح يا للأنصار يا للأنصار الله ورسوله حتى انتهى إلى محكم بن الطفيل فضربه محكم فقطع شماله فوالله ما عرج عليها كعب وأنه ليضرب بيمينه وإن شماله لتهراق الدماء حتى انتهى إلى الحديقة فدخل
وأقبل حاجب بن زيد بن تميم الأشهلي يصيح بالأوس يا للأشهل فقال له ثابت بن هذال ناد يا للأنصار فإنه جماع لنا ولك فنادى يا للأنصار يا للأنصار حتى اشتملت عليه حنيفة فانفرجت وتحته منهم اثنان قد قتلهما وقتل رحمه الله فخلفه في مقامه عمير بن أوس فاشتملوا عليه حتى قتل رحمه الله

وكان أبو قيل الأزرقي حليف الأنصار بدري من أول من خرج يوم اليمامة رمى بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده فشطب في غير مقتل فأخرج السهم ووهن شقه الأيسر وكانت فيه وهذا أول النهار وجرروه إلى الرحل فلما حمي القتال وانهزم المسلمون وجاوزوا رحالهم وأبو عقيل واهن من جرحه سمع معن بن عدي يصيح يا للأنصار الله الله والكرة على عدوكم وأعنق معن بن عدي يقدم القوم وذلك حين صاحت الأنصار أخلصونا فأخلصوا رجلا رجلا يتميزون
قال أبو عمرو ونهض أبو عقيل يريد قومه فقلت ما تريد يا أبا عقيل ما فيك قتال قال قد نوه المنادي باسمي فقلت إنما يقول يا للأنصار لا يعني الجرحى قال فأنا رجل من الأنصار وأنا أجيب ولو جبنوا قال ابن عمر فتحزم أبو عقيل فأخذ السيف بيده اليمنى مجردا ثم جعل ينادي يا للأنصار كرة كيوم حنين فاجتمعوا جميعا يقدمون المسلمون دريئة دون عدوهم حتى أقحموا عدوهم الحديقة فاختلطوا واختلفت السيوف بيننا وبينهم فنظرت إلى أبي عقيل وقد قطعت يده المجروحة من المنكب فوقعت إلى الأرض وبه أربعة عشر جرحا كلها قد خلصت إلى مقتل وقتل عدو الله مسيلمة
قال ابن عمر فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت يا أبا عقيل فقال لبيك بلسان ملتاث ثم قال لمن الدبرة فقلت أبشر ورفعت صوتي قد قتل عدو الله فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله ومات رحمه الله
قال ابن عمر فأخبرت أبي بعد أن قدمت بخبره كله فقال رحمه الله ما زال يسأل الشهادة ويطلبها وإن كان ما علمت لمن خيار أصحاب نبينا {صلى الله عليه وسلم} وقديمي إسلامهم
وذكر مجاعة بن مرارة يوما معن بن عدي وكان نازلا به ليالي قدم على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مع خلة كانت بينهما قبل ذلك قديمة فلما قدم في وفد

اليمامة على أبي بكر توجه أبو بكر رضي الله عنه يوما إلى قبور الشهداء زائرا لهم في نفر من أصحابه يمشون قال فخرجت معهم حتى أتوا قبور الشهداء السبعين يرحمهم الله فقلت يا خليفة رسول الله لم أر قوما قط أصبر لوقع السيوف ولا أصدق كرة منهم لقد رأيت رجلا منهم يرحمهم الله وكانت بيني وبينه خلة فقال أبو بكر رضي الله عنه معن بن عدي قلت نعم وكان عارفا بما كان بيني وبينه فقال رحمه الله ذكرت رجلا صالحا حديثك قلت يا خليفة رسول الله فأنظر إليه وأنا موثق في الحديد في فسطاط ابن الوليد وانهزم المسلمون انهزمت بهم الضاحية انهزامة ظننت أنهم لا يجتبرون لها وساءني ذلك قال أبو بكر الله لساءك ذلك قلت الله لساءني قال أبو بكر الحمد لله على ذلك قال فأنظر إلى معن بن عدي قد كر معلما في رأسه بعصابة حمراء واضعا سيفه على عاتقه وإنه ليقطر دما ينادي يا للأنصار كرة صادقة قال فكرت الأنصار عليه فكانت الوقعة التي ثبتوا عليها حتى انتحوا وأباحوا عدوهم فلقد رأيتني وأنا أطوف مع خالد بن الوليد أعرفه قتلى بني حنيفة وإني لأنظر إلى الأنصار وهم صرعى فبكى أبو بكر رضي الله عنه حتى بل لحيته
وعن أبي سعيد الخدري قال دخلت الحديقة حين جاء وقت الظهر والعصر واستحر القتال فأمر خالد بن الوليد المؤذن فأذن على جدار الحديقة بالظهر والقوم يضطربون على القتل حتى انقطعت الحرب بعد العصر فصلى بنا خالد الظهر والعصر ثم بعث السقاة يطوفون على القتلى فطفت معهم فمررت بأبي عقيل الأنصاري البدري وبه خمسة عشر جرحا فاستسقاني فسقيته فخرج الماء من جراحاته كلها ومات رحمه الله ومررت ببشر بن عبد الله وهو قاعد في حشوته فاستسقاني فسقيته فمات ومررت بعامر بن ثابت العجلاني وإلى جنبه رجل من بني حنيفة به جراح فسقيت عامرا فشرب وقال الحنفي اسقني

فدى لك أبي وأمي قلت لا كرامة ولكني أجهز عليك قال قد أحسنت لي مسألة ولا شيء عليك فيها أسألك عنها قلت وما هي قال أبو ثمامة ما فعل قلت قتل والله قال نبي ضيعه قومه قال أبو سعيد فضربت عنقه
وعن محمود بن لبيد قال لما قتل خالد بن الوليد من أهل اليمامة من قتل كانت لهم في المسلمين أيضا مقتلة عظيمة حتى أبيح أكثر أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقيل لا نغمد السيوف وبيننا وبينهم عين تطرف وكان فيمن بقي من المسلمين جراحات كثيرة فلما أمسى مجاعة بن مرارة أرسل إلى قومه ليلا أن البسوا السلاح النساء والذرية والعبيد ثم إذا أصبحتم فقوموا مستقبلي الشمس على حصونكم حتى يأتيكم أمري وبات خالد والمسلمون يدفنون قتلاهم فلما فرغوا رجعوا إلى منازلهم فباتوا يتكمدون بالنار من الجراح فلما أصبح خالد أمر بمجاعة فسيق معه في الحديد فجعل يستبرئ القتلى وهو يريد مسيلمة فمر برجل وسيم فقال يا مجاعة أهو هذا قال لا هذا والله أكرم منه هذا محكم بن الطفيل ثم قال مجاعة إن الذي تبتغون رجل ضخم أشعر البطن والظهر أبجر بجرته مثل القدح مطرق إحدى العينين ويقال هو أريجل أصيفر أخينس قال وأمر خالد بالقتلى فكشفوا حتى وجد الخبيث فوقف عليه خالد فحمد الله كثيرا وأمر به فألقى في البئر التي كان يشرب منها
قالوا ولما أمسينا أخذنا شعل السعف ثم جعلنا نحفر لقتلانا حتى دفناهم جميعا بدمائهم وثيابهم وما صلينا عليهم وتركنا قتلى بني حنيفة فلما صالحوا خالدا طرحوهم في الآبار
وكان خالد يرى أنه لم يبق من بني حنيفة أحد إلا من لا ذكر له ولا قتال

عنده فقال خالد لما وقف على مسيلمة مقتولا يا مجاعة هذا صاحبكم الذي فعل بكم الأفاعيل ما رأيت عقولا أضعف من عقول أصحابك مثل هذا فعل بكم ما فعل فقال مجاعة قد كان ذلك يا خالد ولا تظن أن الحرب انقطعت بينك وبين بني حنيفة وإن قتلت صاحبهم إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس وإن جماعة الناس وأهل البيوتات لفي الحصون فانظر فرفع خالد بن الوليد رأسه وهو يقول قاتلك الله ما تقول قال أقول والله الحق فنظر خالد فإذا السلاح وإذا الخلق على الحصون فرأى أمرا غمه ثم تشدد ساعتئذ وأدركته الرجولية فقال لأصحابه يا خيل الله اركبي وجعل يدعو بسلاحه ويقول يا صاحب الراية قدمها قال والمسلمون كارهون لقتالهم وقد ملوا الحرب وقتل من قتل وعامة من بقي جريح فقال مجاعة أيها الرجل إني لك ناصح إن السيف قد أفناك وأفنى غيرك فتعال أصالحك عن قومي وقد أخل بخالد مصاب أهل السابقة ومن كان يعرف عنده الغناء فقد رق وأحب الموادعة مع عجف الكراع فاصطلحا على الصفراء والبيضاء والحلقة والكراع ونصف السبي ثم قال مجاعة آتى القوم فأعرض عليهم ما صنعت قال فانطلق فذهب ثم رجع فأخبره أنهم قد أجازوه فلما بان لخالد أنه إنما هو السبي قال ويلك يا مجاعة خدعتني في يوم مرتين قال مجاعة قومي فما أصنع وما وجدت من ذلك بدا قد حضني النساء وأنشده قول امرأة من بني حنيفة
مسيلم لم يبق إلا النساء
سبايا لذي الخف والحافر
وطفل ترشحه أمه
حفير متى يدع يستأخر
فأما الرجال فأودى بهم
حوادث من دهرنا العاثر
فليت أباك مضى حيضه
وليتك لم تك في الغابر
سحبت علينا ذيول البلاء
وجئت بهن سمى قاشر
فمجاعة الخير فانظر لنا
فليس لنا اليوم من ناظر
سواك فإنا على حالة
تروعنا مرة الطائر
المتقارب
فقال مجاعة فكنت أجد من هذا بدا

وذكر أن مجاعة لما ذهب إلى قومه ليعرض عليهم الصلح انتهى إلى باب الحصن ليلا فإذا امرأة تنشد هذا الشعر فدنا منها مجاعة فقال هتم الله فاك اسكتي أنا مجاعة ثم دخل الحصن وليس فيه إلا النساء والصبيان فأمرهم بلبس السلاح وإطالة الإشراف والقيام في مصاف الرجال فقال سلمة بن عمير لأصحابه يا بني حنيفة قاتلوا ولا تصالحوا خالدا فإن الحصن حصين والطعام كثير والقوم قد أفناهم السيف ومن بقي منهم جريح ولا تطيعوا مجاعة فإنه إنما يريد أن ينفلت من إساره فقال مجاعة يا بني حنيفة أطيعوني واعصوا سلمة فإني أخاف أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن سلمة أن تستردف النساء سبيات وينكحن غير حظيات فأطاعوا مجاعة وتم الصلح بينه وبين خالد
وقال أسيد بن حضير وأبو نائلة لخالد لما صالح يا خالد اتق الله ولا تقبل الصلح قال خالد إنه قد أفناكم السيف قال أسيد وإنه قد أفنى غيرنا أيضا قال فمن بقي منكم جريح قال وكذلك من بقي من القوم جرحى لا ندخل في الصلح أبدا اغد بنا عليهم حتى يظفرنا الله بهم أو نبيد من آخرنا احملنا على كتاب أبي بكر إن أظفرك الله ببني حنيفة فلا تبق عليهم فقد أظفرنا الله بهم وقتلنا رأسهم فمن بقي أكل شوكة فبينما هم على ذلك إذ جاء كتاب أبي بكر يقطر الدم ويقال إنهم لم يمسوا حتى قدم سلمة بن سلامة بن وقش من عند أبي بكر بكتابين في أحدهما
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإذا جاءك كتابي فانظرفإن أظفرك الله ببني حنيفة فلا تستبق منهم رجلا جرت عليه الموسى
فتكلمت الأنصار في ذلك وقالوا أمر ابي بكر فوق أمرك فلا تستبق
منهم أحدا فقال خالد إني والله ما صالحت القوم إلا لما رأيت من رقتكم ولما نهكت الحرب منكم وقوم قد صالحتهم ومضى الصلح فيما بيننا وبينهم والله لو لم يعطونا شيئا ما قاتلتهم وقد أسلموا

قال أسيد بن حضير قد قتلت مالك بن نويرة وهو مسلم فسكت عنه خالد فلم يجبه قالوا وقال سلمة بن سلامة بن وقيش لا تخالف كتاب إمامك يا خالد فقال خالد والله ما ابتغيت بذلك إلا الذي هو خير رأيت أهل السابقة وأهل الفضل وأهل القرآن قد قتلوا ولم يبق معي إلا قوم خشيت أن لا يكون لهم بقاء على السيف لو ألح عليهم فقبلت الصلح مع أنهم قد أظهروا الإسلام واتقوا بالراح
وكان خالد قد خطب إلى مجاعة ابنته وكانت أجمل أهل اليمامة فقال له مجاعة مهلا إنك قاطع ظهري وظهرك عند صاحبك إن القالة عليك كثيرة وما أقول هذا رغبة عنك فقال له خالد زوجني أيها الرجل فإنه إن كان أمري عند صاحبي على ما أحب فلن يفسده ما تخاف علي وإن كان على ما أكره فليس هذا بأعظم الأمور فقال له مجاعة قد نصحتك ولعل هذا الأمر لا يكون عيبة إلا عليك ثم زوجه فلما بلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه غضب وقال لعمر بن الخطاب وأبي خالد أنه لحريص على النساء حين يصاهر عدوه وينسى مصيبته فوقع عمر في خالد وعظم الأمر ما استطاع فكتب أبو بكر إلى خالد مع سلمة بن سلامة
يا خالد بن أم خالد إنك لفارغ تنكح النساء وتعرس بهن وببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين لم تجف بعد ثم خدعك مجاعة عن رأيك فصالحك على قومه وقد أمكن الله منهم في كلام غير هذا ذكره وثيمة في الردة
فلما نظر خالد في الكتاب قال هذا عمل عمر وكتب إلى أبي بكر جواب كتابه مع أبي برزة الأسلمي

أما بعد فلعمري ما تزوجت النساء حتى تم لي السرور وقرت بي الدار وما تزوجت إلا إلى امرئ لو أعملت إليه من المدينة خاطبا لم أبل دع أني استشرت خطبتي إليه من تحت قدمي فإن كنت كرهت لي ذلك لدين أو دنيا اعتبتك وأما حسن عزائي على قتلى المسلمين فوالله لو كان الحزن يبقى حيا أو يرد ميتا لأبقى حزني الحي ورد الميت ولقد أقحمت في طلب الشهادة حتى يئست من الحياة وأيقنت بالموت وأما خدعة مجاعة إياي عن رأيي فإني لم أخط رأي يومي ولم يكن لي علم بالغيب وقد صنع الله للمسلمين خيرا أورثهم الأرض وجعل لهم عاقبة المتقين
فلما قدم الكتاب على أبي بكر رضي الله عنه رق بعض الرقة وتم عمر على رأيه الأول في عيب خالد بما صنع ووافقه على ذلك رهط من قريش فقام أبو برزة الأسلمي فعذر خالدا وقال يا خليفة رسول الله ما يؤبن خالد بجبن ولا خيانة ولقد أقحم حتى أعذر وصبر حتى ظفر وما صالح القوم إلا على رضاه وما أخطأ رأيه بصلح القوم إذ هو لا يرى النساء في الحصون إلا رجالا فقال أبو بكر صدقت لكلامك هذا أولى بعذر خالد من كتابه إلي
وقد كان خالد لما وقع الصلح خاف من عمر أن يحمل أبا بكر رضي الله عنهما عليه فكتب إلى أبي بكر كتابا فيه
بسم الله الرحمن الرحيم لأبي بكر خليفة رسول الله من خالد بن الوليدأما بعد فإني أقسم بالله أني لم أصالحهم حتى قتل من كنت أقوى به وحتى عجف الكراع وهلك الخف ونهك المسلمون بالقتل والجراح حتى إني لأفعل أمورا أرى أني فيها معزر أباشر القتال بنفسي حتى ضعف المسلمون ونهكوا حتى
إن كنت لا تنكر ثم أدخل بسيفي فرقا على المسلمين حتى جاء الله بالظفر فله الحمد

فسر أبو بكر بذلك فدخل عليه عمر وهو يقرأ الكتاب فدفعه إليه فقرأه فقال إنما راقب خئونتهم وخالف أمرك ألا ترى إلى ذكره أنه يباشر القتال بنفسه يمن عليك بذلك فقال أبو بكر لا تقل ذلك يا عمر فإنه والي صدق ميمون النقيبة ناكى العدو وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقدمه ويقربه وقد ولاه فقال عمر ولاه وخالف أمره وقبل بدخول الجاهلية حتى كان ما كان فقال أبو بكر دع هذا عنك فقال عمر سمعا وطاعة
ولما فرغ خالد من الصلح أمر بالحصون فألزمها الرجال وحلف مجاعة بالله لا يغيب عنه شيئا مما صالحه عليه ولا يعلم أحدا غيبة إلا رفعه إلى خالد ثم فتحت الحصون فأخرج سلاحا كثيرا فجمعه خالد على حدة وأخرج ما وجد فيها من دنانير ودراهم فجمعه على حدة وجمع قراعهم وترك الخف فلم يحركه ولا الرثة ثم أخرج السبي فقسمه قسمين ثم أقرع على القسمين فخرج سهمه على أحدهما وفيه مكتوب لله ثم جزأ الذي صار له من السبي على خمسة أجزاء ثم كتب على كل سهم منها لله وجزأ الكراع والحلقة هكذا ووزن الذهب والفضة فعزل الخمس وقسم على الناس أربعة الأخماس وأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما وعزل الخمس من ذلك كله حتى قدم به على أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ولما انقطعت الحرب بين خالد وبين أهل اليمامة وتحول من منزله الذي كان فيه إلى منزل آخر ينتظر كتاب أبي بكر يأمره أن ينصرف إليه بالمدينة فبينا هو على ذلك إذ أقبل سلمة بن عمير الحنفي وكان من شياطينهم فقال لمجاعة استأذن لي على الأمير فإن لي إليه حاجة فأبى مجاعة عليه وقال

ويحك يا سلمة ابق على نفسك فقد آن لكأن تبصر ما أنت فيه والله لكأني أنظر إلى خالد بن الوليد قد أمر بك فضربت عنقك فقال سلمة ما بيني وبين خالد من عتاب قد قتل قومي فلهى عنه مجاعة فجعل يطلب غرة من خالد فأقبل مع الناس الذين يدخلون عليه فلما رآه خالد التفت إلى مجاعة فقال والله إني لأعرف في وجه هذا الشر فقام إليه مجاعة وهو يخافه على الذي ظن به فإذا هو مشتمل على السيف فقال يا عدو الله لعنك الله لقد أردت أن تستأصل حنيفة والله لو قتلته ما بقي من حنيفة صغير ولا كبير إلا قتل ثم لببه بثوبه وجعل يتله حتى أدخله بيتا ثم أوثقه في الحديد وأغلق عليه فأفلت من الليل ومعه سيف فوقع في حائط من حوائط اليمامة وعلم شأنه وما أراد من ضرب خالد بالسيف وكان خالد قد أمر به أن تضرب عنقه فكلمه فيه مجاعة وقال هبه لي يا أبا سليمان فوهبه له وقال له أحسن أدبه فذلك حين حذره مجاعة فخرج بالسيف واكتنفه أهل اليمامة فلما رأى ذلك أمال السيف على حلقه فقطع أوداجه وسقط في بئر هناك فانقطع ذكره
وحدث زيد بن أسلم عن أبيه قال كان أبو بكر حين وجه خالدا إلى اليمامة رأى في النوم كأنه أتى بتمر من تمر هجر فأكل منها تمرة واحدة وجدها نواة على خلقه التمرة فلاكها ساعة ثم رمى بها فتأولها فقال ليلقين خالد من أهل اليمامة شدة وليفتحن الله على يديه إن شاء الله فكان أبو بكر يستريح الخبر من اليمامة بقدر ما يجيء رسول خالد فخرج أبو بكر يوما بالعشي إلى ظهر الحرة يريد أن يبلغ صرارا ومعه عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله ونفر من المهاجرين والأنصار فلقي أبا خيثمة النجاري قد أرسله خالد فلما رآه أبو بكر قال له ما وراءك يا أبا خيثمة قال خير يا خليفة رسول الله قد فتح الله علينا اليمامة قال فسجد أبو بكر قال أبو خيثمة وهذا كتاب خالد إليك فحمد الله أبو بكر وأصحابه ثم قال أخبرني عن الوقعة كيف كانت فجعل أبو خيثمة يخبره كيف صنع خالد وكيف صف أصحابه

وكيف انهزم المسلمون ومن قتل منهم وجعل أبو بكر يسترجع ويترحم عليهم وجعل أبو خيثمة يقول يا خليفة رسولا الله {صلى الله عليه وسلم} أتينا من قبل الأعراب انهزموا بنا وعودونا ما لم نكن نحسن حتى أظفرنا الله بعد ثم قال أبو بكر كرهت رؤيا رأيتها كراهية شديدة ووقع في نفسي أن خالدا سيلقى منهم شدة وليت خالدا لم يصالحهم وأنه حملهم على السيف فما بعد هؤلاء المقتولين يستبقي أهل اليمامة ولن يزالوا من كذابهم في بلية إلى يوم القيامة إلا أن يعصمهم الله ثم قدم بعد ذلك وفد اليمامة مع خالد على أبي بكر رضي الله عنه
قال الواقدي أجمع أصحابنا أن خالد بن الوليد قدم المدينة من اليمامة وقدم بوفد اليمامة سبعة عشر رجلا من بني حنيفة فيهم مجاعة بن مراراة وإخوته وأن أبا بكر حبسهم فلم يدخلهم عليه فدخلوا على عمر بن الخطاب يكلمونه في أن يكلم أبا بكر أن يأذن لهم فيدخلهم أو يأذن لهم في الرجوع إلى بلادهم فوجدوه يحلب شاة على رغيف في صحفه ومعه عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وابنه زيد بن الخطاب فهما ينزوان على ظهره قالوا أو من قال منهم فنسبنا فانتسبنا فقرب تلك الصفحة وما فيها وقال أصيبوا شيئا فتحرمنا فأصبنا شيئا فسألته من هذان الغلامان فقال هذان ابنا زيد بن الخطاب رحمه الله فوجمنا لأنا قتلنا زيدا فلما رأى وجومنا قال ما لكم قد سكتم هذا أمر قد ذهب حاجتكم قالوا فبسطنا فقلنا احتبسنا ولا نقدر على الدخول على أبي بكر ولا السراح إلى بلادنا فقال عمر عليكم عهد الله وكفالته أن تناصحوا الإسلام وأهله قلنا نعم قال ارجعوا حتى تأتوا في هذه الساعة من غد فأوصلكم إلى أبي بكر فلما كان ذلك الوقت من الغد جاءوه فخرج معهم حتى أوصلهم إلى أبي بكر
وقال زيد بن أسلم عن أبيه لما دخلوا على أبي بكر الصديق قال ويحكم ما
هذا الذي استنزل منكم ما استنزل وخدعكم قالوا يا خليفة رسول الله قد كان الذي بلغك مما أصابنا

وذكر وثيمة أن الذي كلم أبا بكر منهم رجل من بني سحيم فقال يا خليفة رسول الله كان رجلا مشئوما أصابته فتنة من حديث النفس وأماني الشيطان دعا إليها أقواما مثله فأجابوه فلم يبارك الله له ولا لقومه
قال أسلم في حديثه ثم أقبل يعني أبا بكر على مجاعة فقال يا مجاعة أنت خرجت طليعة لمسيلمة حتى أخذك خالد أخذا فقال يا خليفة رسول الله والله ما فعلت خرجت في طلب رجل من بني نمير قد أصاب فينا دما فهجمت علينا خيل خالد ولقد كنت قدمت على رسول الله فلما ذكر رسول الله قال أبو بكر قل {صلى الله عليه وسلم} فقال {صلى الله عليه وسلم} ثم رجعت إلى قومي فوالله ما زلت معتزلا أمر مسيلمة حتى كان أوان قدمت عليك مقدمي هذا ثم لم آل لخالد فيما استشارني إلى اليوم وقد جئناك لترضى عمن أساء وتقبل ممن تاب فإن القوم قد رجعوا وتابوا فقال أبو بكر أما إني قد كتبت إلى خالد كتابا في إثر كتاب آمره أن لا يستبقي من بني حنيفة أحدا مرت عليه الموسى قال مجاعة الذي صنع الله لك ولخالد خير يفيء الله بهم إلى الإسلام قال أبو بكر أرجو أن يكون ما صنع خالد خيرا يا مجاعة أني خدعتم بمسيلمة قال يا خليفة رسول الله لا تدخلني في القوم فأن الله يقول لا تزر وازرة وزر أخرى 18 فاطر قال أبو بكر رضي الله عنه فما كان يقول لقومه قال فكره مجاعة أن يخبره فقال أبو بكر عزمت عليك لتخبرني
وفي غير هذا الحديث أن الرجل السحيمي الذي تقدم ذكره قبل أخبره بأنه كان يقول يا ضفدع بنت ضفدعين لحسن ما تنقنقين لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين امكثي في الأرض حتى يأتيك الخفاش بالخبر اليقين لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم لا يعدلون فاسترجع أبو بكر ثم
قال سبحان الله ويحكم أي كلام هذا إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر فأين ذهب بكم الحمد لله الذي قتله قالوا يا خليفة رسول الله قد أردنا الرجوع إلى بلادنا قال ارجعوا وكتب لهم كتابا آمنهم فيه

وفي كتاب يعقوب الزهري أن وفد بني حنيفة لما قدموا نادى أبو بكر أن لا يؤويهم أحد ولا يبايعهم ولا ينزلهم ولا يكلمهم فداروا في المدينة لا يكلمون ولا يبايعون فضاقت عليهم فقيل لهم ائتوا عمر فجاءوه فوجدوه معتقلا عنزا يحلبها على رغيف فلما رآهم حلب فاشتد حلبه حتى دار الرغيف في القدح من شدة حلبه ثم وضعه فدعاهم فأكلوا معه ومعه صبية صغيرة فقالوا إنا نعوذ بالله أن يرد علينا من إسلامنا ما يقبل من غيرنا وإنا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله الذي لا إله إلا هو الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية قال الله إن ما تقولون بألسنتكم لحق من قلوبكم الذي لا إله إلا هو إن ما نقول بألسنتنا لحق من قلوبنا قال الحمد لله الذي جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه قال أفيكم قاتل زيد بن الخطاب قلنا ما تريد بذلك قال أفيكم قاتل زيد فقام أبو مريم فقال أنا قاتل زيد قال وكيف قتلته قال اضطربت أنا وهو بالسيفين حتى انقطعا ثم اطعنا بالرمحين حتى انكسرا ثم اصطرعنا فشحطته بالسكين شحطا قال يا بنية هذا قاتل أبيك فوضعت يدها على رأسها وصاحت يا أبتاه قال ثم خرج حتى جاء أبا بكر فاستأذن لنا عليه فدخلنا فقلنا له كما قلنا لعمر وناشدنا كما ناشدنا عمر فحلفنا له فقال الحمد لله الذي جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه قال أفيكم من رهط عامر بن مسلمة أحد قال خالد وما تصنع بعامر وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة فكررها أبو بكر فقال هل فيكم من رهط ثمامة بن إثال أحد قال خالد وما تصنع بثمامة وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة قال أبو بكر رضي الله عنه إنهم أهل بيت اصطنعهم النبي {صلى الله عليه وسلم} فأحب أن
أصطنعهم فقام مطرف بن النعمان بن سلمة فقال عامر بن سلمة عمى وثمامة بن إثال عمى فاستعمله أبو بكر على اليمامة
وقال أبو بكر لخالد سم لي أهل البلاء فقال يا خليفة رسول الله كان البلاء للبراء بن مالك والناس له تبع

ولما قدم خالد المدينة لم يبق بها دار إلا فيها باك لكثرة من قتل معه من الناس فبكى أبو بكر رضي الله عنه لما رأى ذلك وقال ما أبعد ما رأى من الظفر والله لثابت بن قيس بن شماس أعز على الأنصار من أسماعها وأبصارها
وكانت اليمامة في ربيع الأول من سنة اثنتي عشرة واختلف في عدد من استشهد فيها من المسلمين فأكثر ما في ذلك ما وقع في كتاب أبي بكر إلى خالد أن ببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين
وقال سالم بن عبد الله بن عمر قتل يوم اليمامة ستمائة من المهاجرين والأنصار وغير ذلك
وقال زيد بن طلحة قتل يوم اليمامة من قريش سبعون ومن الأنصار ستون ومن سائر الناس خمسمائة
وعن أبي سعيد الخدري قال قتلت الأنصار في مواطن أربعة سبعين سبعين يوم أحد سبعين ويوم بئر معونة سبعين ويوم اليمامة سبعين ويوم جسر أبي عبيد سبعين
وقال سعيد بن المسيب قتلت الأنصار في مواطن ثلاثة سبعين سبعين فذكره ما تقدم إلا بئر معونة
وذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما وقعة اليمامة ومن قتل فيها من
المهاجرين والأنصار فقال ألحت السيوف على أهل السوابق من المهاجرين والأنصار ولم نجد المعول يومئذ إلا عليهم خافوا على الإسلام أن يكسر بابه فيدخل منه أن ظهر مسيلمة فمنع الله الإسلام بهم حتى قتل عدوه وأظهر كلمته وقدموا يرحمهم الله على ما يسرون به من ثواب جهادهم من كذب على الله وعلى رسوله ورجع عن الإسلام بعد الإقرار به
وفي رواية عنه جعل منادي المسلمين يعني يوم اليمامة ينادي يا أهل القرآن فيجيبون المنادي فرادى ومثنى فاستحر بهم القتل فرحم الله تلك الوجوه لولا ما استدرك خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من جمع القرآن لخفت أن لا يلتقي المسلمون وعدوهم في موضع إلا استحر القتل بأهل القرآن

ولما قتل ثابت بن قيس بن شماس يوم اليمامة ومعه كانت راية الأنصار يومئذ وهو خطيبهم وسيد من سادتهم أرى رجل من المسلمين في منامه ثابت بن قيس يقول له إني موصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت بالأمس جاء رجل من ضاحية نجد وعلي درع فأخذها فأتى بها منزلة فأكفأ عليها برمة وجعل على البرمة رحلا وخباؤه في أقصى العسكر إل جنب خبائه فرس يستن في طوله فائت خالد بن الوليد فأخبره فليبعث إلى درعي وليأخذها وإذا قدمت على خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأخبره أن علي من الدين كذا ولى من الدين كذا وسعد ومبارك غلاماي حران وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه
فلما أصبح الرجل أتى خالد بن الوليد فأخبره فبعث خالد إلى الدرع فوجدها كما قال وأخبره بوصيته فأجازها ولا نعلم أحدا من المسلمين أجيزت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس
وقد روي أن بلال بن الحارث كان صاحب الرؤيا رواه الواقدي ثم قال
بعقبه فذكرته يعني الحديث لعبد الله بن سعد فقال حدثني عبد الواحد بن أبي عون قال قال بلال رأيت في منامي كأن سالما مولى أبي حذيفة قال لي ونحن منحدرون من اليمامة إلى المدينة إن درعي مع الرفقة الذين معهم الفرس الأبلق تحت قدرهم فإذا أصبحت فخذها من تحت قدرهم فاذهب بها إلى أهلي وإن على شيئا من دين فمرهم يقضونه قال بلال فأقبلت إلى تلك الرفقة وقدرهم على النار فألفيتها وأخذت الدرع وجئت أبا بكر فحدثته الحديث فقال نصدق قولك ونقضي دينه الذي قلت
وقتل الله من بني حنيفة يوم اليمامة عددا كثيرا ففي كتاب يعقوب الزهري أنه قتل منهم أكثر من سبعة آلاف وعن غيره أنه أصيب يومئذ من صليب بني حنيفة سبعمائة مقاتل وكان داؤهم خبيثا والطارى ء منهم على الإسلام عظيما فاستأصل الله تعالى شأفتهم ورد ألفة الإسلام على ما كانت عليه على عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم}

ذكر ردة بني سليم
ذكر الواقدي من حديث سفيان بن أبي العوجاء السلمي قال وكان عالما بردة قومه مع أنه كان من وعاة العلم وممن يوثق به في الدين قال أهدي ملك من ملوك غسان إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} لطيمة فيها مسك وعنبر وخيل فخرجت بها الرسل حتى إذا كانوا بأرض بني سليم بلغتهم وفاة النبي {صلى الله عليه وسلم} فتشجع بعض بني سليم على أخذها والردة وأبى بعضهم من ذلك وقالوا إن كان محمد قد مات فإن الله حي لا يموت وكان الذين ارتدوا منهم عصية وبنو عميرة وبنو عوف وبعض بني جارية والذين انتهبوا اللطيمة فتمزقوها بنو الحكم بن مالك بن خالد بن الشريد فلما ولى أبو بكر كتب إلى معن بن حاجز فاستعمله على من أسلم من بني سليم وكان قد قام في ذلك قياما حسنا ذكر وفاة النبي {صلى الله عليه وسلم} وذكر الناس ما قال الله لنبيه عليه السلام إنك ميت وإنهم ميتون 30 الزمر وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية 144 آل عمران والتي قبلها مع آي من كتاب الله فاجتمع إليه بشر كثير من بني سليم وانحاز أهل الردة منهم فجعلوا يغيرون على الناس ويقطعون السبيل فلما بدي لأبي بكر أن يوجه خالد بن الوليد إلى الضاحية كتب إلى معن بن حاجز أن يلحق بخالد بن الوليد هو ومن معه من المسلمين ويستعمل على عمله طريفة بن حاجز ففعل وأقام طريفة يكالب من ارتد بمن معه من المسلمين يغير عليهم ويغيرون عليه إذ قدم الفجاءة وهو إياس بن عبد الله بن عبد يا ليل بن عمير بن خفاف على أبي بكر الصديق فقال يا أبا بكر إني مسلم وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار فاحملني وأعني فإنه لو كان عندي قوة لم أقدم عليك ولكني مضعف من الظهر والسلاح فسر أبو بكر بمقدمه فحمله على ثلاثين بعيرا وأعطاه سلاح ثلاثين رجلا فخرج يستعرض المسلم والكافر فيأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم مع قوم من

أهل الردة قد تبعوه على ذلك لقد أغار على قوم بالأرحضية مسلمين جاءوا يريدون أبا بكر فسلبهم وقتلهم ومعه رجل من بني الشريد يقال له نجبة بن أبي المثنى فلما بلغ أبا بكر خبره وما صنع كتب إلى طريفة بن حاجز
بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر خليفة رسول الله إلى طريفة بن حاجز سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد {صلى الله عليه وسلم} أما بعد فإن عدو الله الفجاءة أتاني فزعم أنه مسلم وسألني أن أقويه على قتال من ارتد عن الإسلام فقويته وقد انتهى إلى الخبر اليقين أنه قد استعرض المسلم والمرتد يأخذ أموالهم ويقتل من امتنع منهم فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأسره فتأتيني به في وثاق إن شاء الله والسلام عليك ورحمة الله
فقرأ طريفة كتاب أبي بكر على قومه المسلمين فحشدوا وساروا معه إلى الفجاءة فقدم إليهم نخبة بن أبي المثنى فناوش المسلمين وقتل نجبة وهرب من كان معه إلى الفجاءة ثم زحف طريفة إلى الفجاءة فتصادما وجعل المسلمون يرمون بالنبل ورمى أصحاب الفجاءة شيئا وهم منكسرون لما يرون من انكسار الفجاءة وندامته فقال يا طريفة والله ما كفرت وإني لمسلم وما أنت بأولى بأبي بكر مني أنت أميره وأنا أميره قال طريفة فإن كنت صادقا فألق السلاح ثم انطلق إلى أبي بكر فأخبره خبرك فوضع الفجاءة السلاح وأوثقه طريفة في جامعة فقال طريفة لا تفعل فإنك إن أقدمتني في وثاق أشعرتني فقال طريفة هذا كتاب أبي بكر إلى أن ابعثك إليه في وثاق فقال الفجاءة سمعا وطاعة فبعث به في جامعة مع عشرة من بني سليم فأرسل به أبو بكر رضي الله عنه إلى بني جشم فحرقه بالنار
وقدم على أبي بكر رضي الله عنه قبيصة أحد بني الضربان من بني خفاف فذكر أنه مسلم وأن قومه لم يرتدوا فأمره أبو بكر أن يقاتل بمن معه

من سليم على الإسلام من ارتد عنه منهم فرجع قبيصة إلى قومه فاجتمع إليه ناس كثير ممن ثبت على الإسلام فخرج يتبع بهم أهل الردة يقتلهم حيث وجدهم حتى مر ببيت خميصة بن الحكم الشريدي فوجده غائبا يجمع أهل الردة ووجد جارا له مرتدا فقتله واستاق ماله ومضى حتى نزل منزلا فذبح أصحابه شاة من غنم جار خميصة ثم راحوا ويقبل خميصة حتى أتى أهله فيخبروه خبر جاره فخرج في طلب القوم حتى مر بمنزلهم حيث ذبحوا الشاة فيجد رأسها مملولا قد تركه القوم فأخذه فجعل ينهش منه وهو يطلبهم فأدركهم وهو ينهشه والدم يسيل على لحيته وكان رجلا أيدا فقال لقبيصة قتلت جاري قال إن جارك ارتد عن الإسلام قال فاردد ماله فرد قبيصة ماله فقال وفقد الشاة التي ذبحوا فقال أين الشاة التي ذبحت فقال لا سبيل إليها قد أكلها القوم وهم مستحقون لذلك في طلب قوم كفروا بعد إسلامهم فقال يا قبيصة أمن بين من كفر تعدو على جار لجأ إلي لأمنعه فقال قبيصة قد كان ذلك فاصنع ما أنت صانع فطعن قبيصة بالرمح فوقع في واسط الرحل فدقه وانثنى سنان الرمح وخر قبيصة عن بعيره فقال لخميصة إنك قد أشويتني فاكفف فعدل خميصة سنان رمحه بين حجرين ثم شد على قبيصة وهو يقول أكفف بعد قتل جاري لا والله أبدا فطعنه بالرمح فقتله وكان قبيصة قد فرق أصحابه وبثهم قبل أن يلحقه خميصة
وكتب أبو بكر رحمه الله إلى خالد بن الوليد
أما بعد فإن أظفرك الله ببني حنيفة فأقل اللبث فيهم حتى تنحدر إلى بني سليم فتطأهم وطأة يعرفون بها ما منعوا فإنه ليس بطن من العرب أنا أغيظ عليه مني عليهم قدم قادمهم يذكر إسلاما ويريد أن أعينه فأعنته بالظهر والسلاح ثم جعل يعترض الناس فإن أظفرك الله بهم فلا ألومك فيهم في أن تحرقهم بالنار وتهول فيهم بالقتل حتى يكون نكالا لهم

قالوا فجعل خالد بن الوليد يبعث الطلائع أمامه وسمعت بنو سليم بمقبل خالد فاجتمع منهم بشر كثير يعرضون لهم وجلهم بنو عصية واستجلبوا من بقي من العرب مرتدا وكان الذي جمعهم أبو شجرة بن عبد العزي فانتهى خالد إلى جمعهم بالجواء مع الصبح فصاح خالد في أصحابه وأمرهم بلبس السلاح ثم صفهم وصفت بنو سليم وقد كل المسلمون وعجف كراعهم وخفهم وجعل خالد يلي القتال بنفسه حتى أثخن فيهم القتل ثم حمل عليهم حملة واحدة فهربوا وأسر منهم بشر كثير فجعل يضرب أحدهم على عاتقه فيجز له باثنين ويبدو سحره ويضرب الآخر من وسطه
وفي حديث سفيان بن أبي العوجاء أن خالدا خطر لهم الخطائر فحرقهم فيها بالنار وأصاب أبو شجرة يومئذ في المسلمين وجرح جراحات كثيرة
وقال في ذلك أبياتا يقول في آخرها
فرويت رمحي من كتيبة خالد
وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
الطويل
ولما قدم خالد على أبي بكر كان أول ما سأل عنه خبر بني سليم فأخبره خالد فحمد الله وأثنى عليه ثم قدم على أبي بكر معاوية بن الحكم وأخوه خميصة مسلمين فقال أبو بكر لخميصة أنت قتلت قبيصة ورجعت عن الإسلام قال إنه قتل جاري قال وإن قتل جارك على ردة قتلته لن تفلت مني حتى أقتلك فقال أخوه يا خليفة رسول الله كان يومئذ مرتدا كافرا موتورا وقد تاب اليوم وراجع ولكن نديه قال أبو بكر فأخرج ديته فقال أفعل يا خليفة رسول الله قال فنعم الرجل كان قبيصة ونعم السبيل مات عليه ثم قال لمعاوية وعمدتم يا بني الشريد إلى لطيمة بعث بها إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فانتهبتموها وقلتم إن يقم بهذا الأمر رجل من قريش فلعمري
ليرضى أن تدخلوا في الإسلام مع الناس فكيف يأخذكم بأمن الطريق إلى رجل قد مات فإن طلب ما أخذتم فإنما يطلبها أهل بيته فما كانوا يطلبون ذلك منكم وأنتم أخوالهم قال معاوية نحن نضمنها حتى نؤديها إليك فحمل أبو بكر معاوية اللطيمة التي أصابوها ووقت لهم شهرين أو ثلاثة

قال فأداها إلى أبي بكر ثم إن أبا شجرة أسلم ودخل فيما دخل فيه الناس فجل يعتذر ويجحد أن يكون قال البيت المتقدم فلما كان زمن عمر بن الخطاب قدم أبو شجرة وأناخ راحلته بصعيد بني قريظة وجاء من حرة شوران ثم أتى عمر وهو يقسم بين فقراء العرب فقال يا أمير المؤمنين أعطني فإني ذو حاجة فقال من أنت قال أنا أبو شجرة بن عبد العزي فقال له يا عدو الله ألست الذي يقول
فرويت رمحي من كتيبة خالد
وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
الطويل
عمر الله سوء ما عشت لك يا خبيث ثم جعل يعلوه بالدرة على رأسه حتى سبقه عدوا وعمر في طلبه فرجع أبو شجرة موليا إلى راحلته فارتحلها ثم شد بها في حرة شوران راجعا إلى أرض بني سليم فما استطاع أبو شجرة أن يقرب عمر حتى توفي وإن كان إسلامه لا بأس به وكان إذا ذكر عمر ترحم عليه ويقول ما رأيت أحدا أهيب من عمر بن الخطاب
وقال أبو شجرة فيما كان من ذلك
ضن علينا أبو حفص بنائله
وكل مختبط يوما له ورق
ما زال يرهقني حتى خذيت له
وحال من دون بعض البغية الشفق
لما لقيت أبا حفص وشرطته
والشيخ يقرع أحيانا فينحمق
ثم ارعويت إلى وجناء كاشره
مثل الطريرة لم يثبت لها الأفق
أقبلت الخيل من شوران صادرة
أني لأزري عليها وهي تنطلق
تطير مروا خطاها عن مناسمها
كما ينقر عند الجهبذ الورق
إذا يعارضها خرق تعارضه
ورهاء فيها إذا استعجلتها خرق
ينوء آخرها منها وأولها
سرح اليدين معا نهاضة فتق
البسيط
وفي حديث هشام بن عروة عن أبيه أن لقاء أبي شجرة عمر كان علي غير ما تقدم وأن أبا شجرة قدم المدينة فأدخل راحلته بعض دورها ودخل المسجد متنكرا فاضطجع فيه وكان عمر رضي الله عنه قل شيء يظنه إلا كان حقا فبينا عمر جالسا في أصحابه وأبو شجرة مضطجع قال عمر إني لأرى هذا أبا شجرة فقام حتى وقف عليه فقال من أنت قال رجل من بني سليم قال انتسب قال فلان بن عبد العزي قال ما كنيتك قال أبو شجرة فعلاه بالدرة

ثم ذكر من تقريره على قوله فرويت رمحي البيت نحوا مما تقدم
ردة البحرين
حدث يعقوب الزهري عن إسحق بن يحيى عن عمه عيسى بن طلحة قال لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال صاحب المدائن من يكفيني أمر العرب فقد مات صاحبهم وهم الآن يختلفون بينهم إلا أن يريد الله بقاء ملكهم فيجتمعوا على أفضلهم فإنهم إن فعلوا صلح أمرهم وبقي ملكهم وأخرجوا العجم من أرضهم قالوا نحن بذلك على أكمل الرجال قال من قالوا مخارق بن النعمان ليس في الناس مثله وهو من أهل بيت قد دوخوا العرب ودانت لهم وهؤلاء جيرانك بكر بن وائل فأرسل منهم ناسا مع مخارق فأرسل معه ستمائة من بكر بن وائل الأشرف فالأشرف وارتد أهل هجر عن الإسلام
وعن الحسن بن أبي الحسن أن الجارود قام في قومه فقال يا قوم ألستم تعلمون ما كنت عليه من النصرانية وإني لم آتكم قط إلا بخير وإن الله تعالى بعث نبيه فنعى له نفسه وأنفسكم فقال إنك ميت وإنهم ميتون 30 الزمر وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقا بكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا 144 آل عمران
وفي حديث آخر أنه قام فيهم فقال ما شهادتكم أيها الناس على موسى قالوا نشهد أنه رسول الله قال فما شهادتكم على عيسى قالوا نشهد أنه رسول الله قال وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله عاش كما
عاشوا ومات كما ماتوا وأتحمل شهادة من أبي أن يشهد على ذلك فلم يرتد من عبد القيس أحد
وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال حين وفدوا عليه عبد القيس خير أهل المشرق اللهم اغفر لعبد القيس ثلاثا وبارك لهم في ثمارهم فخرجوا مسرورين بدعوته واهدوا له من طرائف ثمارهم وثبتوا على الإسلام حين الردة

وكان النبي {صلى الله عليه وسلم} استعمل أبان بن سعيد بن العاص على البحرين وعزل العلاء بن الحضرمي فسأل أبان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أن يحالف عبد القيس فأذن له فحالفهم فلما بلغ أبان بن سعيد مسير من سار إليه مرتدين قال لعبد القيس أبلغوني مأمني فأشهد أمر أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فليس مثلي يغيب عنهم فأحيا بحياتهم وأموت بمماتهم فقالوا لا تفعل فأنت أعز الناس علينا وهذا علينا وعليك فيه مقالة يقول قائل فر من القتال فأبى وانطلق معه ثلاثمائة رجل يبلغونه المدينة فقال أبو بكر لأبان ألا ثبت مع قوم لم يبدلوا ولم يرتدوا فقال ما كنت لأعمل لأحد بعدرسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وذكر أبان من عبد القيس خيرا فدعا أبو بكر العلاء بن الحضرمي فبعثه إلى البحرين في ستة عشر راكبا وقال امض فإن أمامك عبد القيس فسار حتى بلغهم ومر بثمامة بن إثال الحنفي فأمده برجال من قومه بني سحيم ولحق به ثمامة فخرج العلاء بمن معه حتى نزل بحصن يقال له جواثي وكان مخارق قد نزل بمن معه من بكر بن وائل المشقر فسار إليهم العلاء فيمن اجتمع إليه من المسلمين فقاتلهم قتالا شديدا حتى كثرت القتلى وأكثرها في أهل الردة والجارود بالخط يبعث البعوث إلى العلاء وبعث مخارق الخطم بن شريح أحد بني قيس بن ثعلبة إلى مرزبان الخط يستمده فأمده بالأساورة فنزل الخطم ردم الفلاح وكان حلف أن لا يشرب الخمر حتى يرى هجر فقالوا له هذه هجر وأخذ المرزبان الجارود رهينة عنده وقال عبد الرحمن بن أبي بكرة أخذ
الخطم الجارود فشده في الحديد وسار الخطم وأبجر بن جابر العجلي فيمن معهما حتى حصروا العلاء بن الحضرمي بجواثي فقال عبد الله بن حذف أحد بني عامر ابن صعصعة
ألا أبلغ أبا بكر رسولا
وسكان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى نفر يسير
مقيم في جواثي محصرينا
كأن دماءهم في كل شمس
شعاع الشمس يغشين العيونا
توكلنا على الرحمن إنا
وجدنا النصر للمتوكلينا
الوافر

فمكثوا على ذلك محصورين فسمع العلاء وأصحابه ذات ليلة لغطا في عسكر المشركين فقالوا والله لوددنا أن لو علمنا أمرهم فقال عبد الله بن حذف أنا أعلم لكم علمهم فدلوني بحبل فدلوه فأقبل حتى يدخل على أبجر ابن جابر العجلي وأم عبد الله امرأة من بني عجل فلما رآه أبجر قال ما جاء بك لا أنعم الله بك عينا قال يا خالي الضرر والجوع وشدة الحصار وأردت اللحاق بأهلي فزودني قال أبجر أفعل على أني أظنك والله على غير ذلك بئس ابن الأخت سائر الليلة فزوده وأعطاه نعلين وأخرجه من العسكر وخرج معه حتى برزا فقال له انطلق فإني والله لأراك بئس ابن الأخت أنت هذه الليلة فمض ابن حذف كأنه لا يريد الحصن حتى أبعد ثم عطف فأخذ بالحبل فصعد الحصن فقالوا ما وراءك قال ورائي والله أني تركتهم سكارى لا يعقلون قد نزل بهم تجار من تجار الخمر فاشتروا منهم ثم وقعوا فيها فإن كانت لكم حاجة بهم فالليلة فنزل إليهم المسلمون فبيتوهم ووضعوا فيهم سلاحهم حيث شاءوا
وقال إسحاق بن يحي بن طلحة في حديثه كان العلاء في ثلاثمائة وستة وعشرين من المهاجرين فطرقوهم فوجدوهم قد ثملوا فقتلوهم فلم يفلت
منهم أحد ووثب الخطم وهو سكران فوضع رجله في ركاب فرسه ثم جعل يقول من يحملني فسمعه عبد الله بن حذف فأقبل نحوه وهو يقول أبا ضبيعة قال نعم قال أنا أحملك فلما دنا منه ابن حذف ضربه حتى قتله وقطعت رجل أبجر بن جابر العجلي فمات منها وقد كان قال حين قطعت قاتلك الله يا ابن حذف ما أشأمك وقد قيل إن عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم هو الذي سمع كلام الخطم حين رام الركوب فلم يستطع فقال ألا رجل من بني قيس بن ثعلبة يعقلني الليلة فقال له عفيف وقد عرف صوته أبا ضبيعة أعطني رجلك فأعطاه إياها يظن أنه يعقله على فرسه فأطنها من الفخذ وتركه فقال أجهز علي فقال إني أحب أن لا تموت حتى أمصك وكان مع عفيف في تلك الليلة عدة من بني أبيه أصيبوا

وقتل ليلتئذ مسمع بن سنان أبو المسامعة وانهزم الباقون حتى صاروا في ناحية من البحرين فعصموا بمفروق الشيباني
قال إسحاق وأصبح ما أفاء الله على المسلمين من خيولهم وما سوى ذلك عند العلاء في حصن جواثي ثم صار العلاء إلى المدينة فقاتلهم قتالا شديدا وهزمهم الله حتى لجئوا إلى باب المدينة فضيق عليهم فلما رأى ذلك مخارق ومن معه قالوا إن خلوا عنا رجعنا من حيث جئنا فشاور العلاء أصحابه فأشاروا عليه أن يخلي عنهم فخرجوا فلحقوا ببلادهم وبقي أهل المدينة فطلبوا الصلح والأمان فصالحهم العلاء على ثلث ما في أيديهم بالمدينة من أموالهم وما كان من شيء خارج منها فهو له فبعث العلاء بمال كثير إلى المدينة
وفي غير هذا الحديث أن عبد القيس لما أوقعوا تلك الليلة ببكر بن وائل طفقت بكر تنادي يا عبد القيس إياكم مفروق بن عمرو في جماعة بكر بن وائل فقال عبدالله بن حذف في ذلك
لا توعدونا بمفروق وأسرته
إن يأتنا يلق منا سنة الخطم
النخل ظاهرها خيل وباطنها
خيل تكردس بالفرسان كالنعم
وإن ذا الحي من بكر وإن كثروا
لأمة داخلون النار في أمم
البسيط
ثم سار العلاء بن الحضرمي إلى الخط حتى نزل على الساحل فجاءه نصراني فقال له مالي إن دللتك على مخاضة تخوض منها الخيل إلى دارين قال وما تسألني قال أهل بيت بدارين قال هم لك فخاض به وبالخيل إليهم فظفر عليهم عنوة وسبى أهلها ثم رجع إلى عسكره
وقال إبراهيم بن أبي حبيبة حبس لهم البحر حتى خاضوه إليهم وجازه العلاء وأصحابه مشيا على أرجلهم وقد كانت تجري فيه السفن قبل ثم جرت فيه بعد فقاتلهم فأظفره الله بهم وسلموا له ما كانوا منعوا من الجزية التي صالحهم عليها رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
ويروى أنه كان للعلاء بن الحضرمي ومن كان معه جوار إلى الله تعالى في خوض هذا البحر فأجاب الله دعاءهم وفي ذلك يقول عفيف بن المنذر وكان شاهدا معهم
ألم تر أن الله ذلل بحره
وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعونا الذي شق البحار فجاءنا

بأعظم من غلق البحار الأوائل
الطويل
وفي حديث غيره قال لما رأى ذلك أهل الردة من أهل البحرين سألوه الصلح على ما صالح عليه أهل هجر
ولما ظهر العلاء بن الحضرمي على أهل الردة والمجوس من أهل البحرين أقام عليها أميرا وبعث أربعة عشر رجلا من رؤساء عبد القيس وفدا إلى أبي
بكر الصديق رضي الله عنه فنزلوا على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وأخبروهما بمسارعتهم إلى الإسلام وقيامهم في الردة ثم دخل القوم على أبي بكر وحضر الزبير وطلحة رضي الله عنهم فقالوا يا خليفة رسول الله إنا قوم أهل سلام وليس شيء أحب إلينا من رضاك ونحن نحب أن تعطينا أرضا من أرض البحرين وطواحين فأبى أبو بكر فكلمه في ذلك طلحة والزبير فأذعن وقال اشهدوا أني قد فعلت وأعطيتهم كل ما سألوني وعرفت لهم قدر إسلامهم فجزوه خيرا

فلما خرجوا من عنده قال لهم طلحة إن هذا الأمر لا نراه يليه بعد أبي بكر إلا عمر فكلموا أبا بكر يكتب لكم كتابا ويشهد فيه عمر فلا يكون لعمر بعد هذا اليوم كلام فعادوا إلى أبي بكر فذكروا له ذلك فدعا عبد الله ابن الأرقم فقال اكتب لهم بهذا الذي أعطيتهم ففعل وشهد في الكتاب عشرة من قريش والأنصار ولم يكن عمر بن الخطاب حاضرا فانطلقوا إليه فأقرأوه الكتاب فلما قرأه فض الخاتم ثم نقل فيه ورده عليه فأقبل الوفد على طلحة فقالوا هذا عملك أنت أمرتنا أن نشهد عمر واتهموه في أمرهم فقال طلحة والله ما أردت إلا الخير فرجعوا إلى أبي بكر غضابا فخبروه الخبر ودخل طلحة والزبير فقالا والله ما ندري أنت الخليفة أم عمر فقال أبو بكر وما ذاك فأخبروه فقال فما صنع عمر بالكتاب قالوا فض الخاتم وتفل في الكتاب ومحاه فقال أبو بكر لئن كان عمر كره من ذلك شيئا فإني لا أفعله فبينما هم كذلك إذ جاء عمر فقال له أبو بكر ما كرهت من هذا الكتاب فقال كرهت أن تعطي الخاصة دون العامة ولكن اجعل أمر الناس واحدا لا يكون عندك خاصة دون عامة وإلا فأنت تقسم على الناس فيئهم فتأبى أن تفضل أهل السابقة وأهل بدر وتعطي هؤلاء قيمة عشرين ألفا دون الناس فقال أبو بكر وفقك الله وجزاك خيرا فهذا هو الحق

وذكر وثيمة بن موسى أن بكر بن وائل لما خفت عند ردة العرب بعد وفاة النبي {صلى الله عليه وسلم} قالوا والله لنردن هذا الملك إلى آل النعمان بن المنذر فبلغ ذلك كسرى فبعث في وجوههم فقدموا عليه وعنده يومئذ المخارق بن النعمان وهو المنذر بن النعمان بن المنذر وكان يسمى الغرور فقال لهم سيروا مع المنذر ابن النعمان فإني قد ملكته فخذوا البحرين فساروا وسارت معه الأساورة وهم يومئذ ستة آلاف راكب ثم إن كسرى ندم على تمليك المنذر وتوجيه من وجه معه وقال غلام موبق قتلت أباه معه كتيبة النعمان من بكر بن وائل يأتون إخوتهم من عبد القيس وهو غلام فتي السن لم يختبر هذا خطأ من الرأي فصرفه إليه وانكسر المنذر للذي صنع به ثم عاود كسرى رأيه فيه لكلام بلغه عنه فأمضاه وسرح معه أبجر بن جابر العجلي ثم ذكر حديثا طويلا تتخلله اشعار كثيرة لم أر لذكر شيء منها وجها واستغنيت من حديثهم بما تقدم منه
وذكر أن المنذر لما كان من ظهور الإسلام ما تقدم ذكره هرب إلى الشام فلحق ببني جفنة وندم على ما مضى منه ثم ألقى الله في قلبه الإسلام فأسلم فكان بعد إسلامه يقول لست بالغرور ولكني المغرور هذا ما ذكره وثيمة في شأن الغرور
وذكر سيف في فتوحه وحكاه الدارقطني عنه قال الغرور بن سويد أسر يوم البحرين أسره عفيف بن المنذر وأجاره فأتى به العلاء بن الحضرمي فقال إني قد أجرت هذا قال ومن هو قال الغرور قال أنت غررت هؤلاء قلا إني لست بالغرور وكلني المغرور قال أسلم فأسلم وبقي بهجر وكان اسمه الغرور وليس بلقب

ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان
وكان وفد الأزد من أهل دبا قد قدموا على النبي {صلى الله عليه وسلم} مقرين بالإسلام فبعث عليهم مصدقا منهم يقال له حذيفة بن اليمان الأزدي من أهل دبا وكتب له فرائض صدقات أموالهم ورسم له أخذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم ففعل حذيفة بن اليمان ذلك وبعث إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بفرائض فضلت من صدقاتهم لم يجد لها موضعا فلما توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} منعوا الصدقة وارتدوا فدعاهم حذيفة إلى التوبة فأبوا وأسمعوه شتم النبي {صلى الله عليه وسلم} فقال يا قوم أسمعوني الأذى في أبي وفي أمي ولا تسمعوني الأذى في رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فأبوا إلا ذلك وجعلوا يرتجزون
لقد أتانا خير ردي
أمست قريش كلها نبي
ظلم لعمر الله عبقري
رجز
فكتب حذيفة إلى أبي بكر الصديق بما كان منهم فاغتاظ أبو بكر عليهم غيظا شديدا وقال من لهؤلاء ويل لهم ثم بعث إليهم عكرمة بن أبي جهل وكان النبي {صلى الله عليه وسلم} استعمله على سفلى بن عامر بن صعصعة مصدقا فلما بلغته وفاة النبي {صلى الله عليه وسلم} انحاز إلى تبالة في أناس من العرب ثبتوا على الإسلام فكان مقيما بتبالة من أرض كعب بن ربيعة فجاءه كتاب أبي بكر الصديق وكان أول بعث بعثه إلى أهل الردة أن سر فيمن قبلك من المسلمين إلى أهل دبا فسار عكرمة في نحو ألفين من المسلمين ورأس أهل الردة لقيط بن مالك فلما بلغه مسير عكرمة بعث ألف رجل من الأزد يلقونه وبلغ عكرمة أنهم في جموع كثيرة فبعث طليعة وكان لأصحاب لقيط أيضا طليعة فالتقى الطليعتان فتناوشوا

ساعة ثم انكشف أصحاب لقيط وبعث أصحاب عكرمة فارسا نحو عكرمة فلما أتاه الخبر أسرع بأصحابه ومن معه حتى لحق طليعته ثم زحفوا جميعا ميمنة وميسرة وسار على تعبئته حتى إذا أدرك القوم والتقوا فاقتتلوا ساعة ثم رزق الله عكرمة عليهم الظفر فهزمهم وأكثر فيهم القتل وخرجوا منهزمين راجعين إلى لقيط بن مالك فأخبروه أن جمع عكرمة مقبل إليهم وأنهم لا طاقة لهم بهم وفقدوا من أصحابهم بشرا كثيرا منهم من قتل ومنهم من أسره عكرمة أسرا فلما انتهوا إلى لقيط مفلولين قوى حذيفة بن اليمان بمن معه من المسلمين فناهضهم وناوشهم وجاء عكرمة في أصحابه فقاتل معهم فأصابوا منهم مائة أو نحوها في المعركة ثم انهزموا حتى دخلوا مدينة دبا فتحصنوا فيها وحصرهم المسلمون في حصنهم شهرا أو نحوه وشق عليهم الحصار إذ لم يكونوا أخدوا له أهبته فأرسلوا إلى حذيفة رجلا منهم يسألونه الصلح فقال لا إلا أن أخيرهم بين حرب مجلية أو سلم مخزية قالوا أما الحرب المجلية فقد عرفناها فما السلم المخزية قال تشهدون أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار وأن ما أخذنا منكم فهو لنا وأن ما أخذتموه منا فهو رد علينا وأنا على حق وأنكم على باطل وكفر ونحكم فيكم بما رأينا فأقروا بذلك فقال اخرجوا عن مدينكم عزلا لا سلاح معكم ففعلوا فدخل المسلمون حصنهم فقال حذيفة إني قد حكمت فيكم أن أقتل أشرافكم وأسبي ذراريكم فقتل من أشرافهم مائة رجل وسبى ذراريهم وقدم حذيفة بسبيهم إلى المدينة وهم ثلاثمائة من المقاتلة وأربعمائة من الذرية والنساء وأقام عكرمة بدبا عاملا عليها لأبي بكر فلما قدم حذيفة بسبيهم المدينة اختلف فيهم المسلمون فكان زيد بن ثابت يحدث أن أبا بكر أنزلهم دار رملة بنت الحارث وهو يريد أن يقتل من بقي من المقاتلة فكان من كلام عمر له يا خليفة رسول الله قوم مؤمنون إنما شحوا على أموالهم والقوم يقولون والله ما رجعنا عن الإسلام ولكن شححنا على أموالنا فيأبي أبو بكر أن يدعهم بهذا

القول ولم يزالوا موقفين في دار رملة بنت الحارث حتى توفي أبو بكر رضي الله عنه وولى عمر فدعاهم فقال قد كان من رأيي يوم قدم بكم على أبي بكر أن يطلقكم وقد أفضى إلى الأمر
فانطلقوا إلى أي البلاد شئتم فأنتم قوم أحرار لا فدية عليكم فخرجوا حتى نزلوا البصرة وكان فيهم أبو صفرة والد المهلب وهو غلام يومئذ فكان ممن نزل البصرة
وروى عن ابن عباس أن رأى المهاجرين فيهم وإذا استأسرهم أبو بكر كان قتلهم أو فداءهم بأغلى الفداء وكان عمر يرى أن لا قتل عليهم ولا فداء لم يزالوا محتبسين حتى ولي عمر فأرسلهم بغير فداء
ويروى عن عمر بن عبد العزيز أن عمر بن الخطاب قضى فيهم بأربعمائة درهم فداء ثم نظر في ذلك فقال لا سباء في الإسلام وهم أحرار والأول أكثر
وعن عروة قال لما قدم أهل غزو دبا قافلين أعطاهم أبو بكر خمسة دنانير خمسة دنانير

ذكر ردة صنعاء
وكان الأسود بن كعب العنسي قد ادعى النبوة في عهد النبي {صلى الله عليه وسلم} واتبع على ذلك فتزوج المرزبانة امرأة باذان الفارسي وكانت من عظماء فارس وقسرها على ذلك فأبغضته أشد البغض وسمعت به بنو الحارث بن كعب من أهل نجران وهم يومئذ مسلمون فأرسلوا إليه يدعونه أن يأتيهم في بلادهم فجاءهم فاتبعوه وارتدوا عن الإسلام
ويقال دخلها يوم دخلها في آلاف من حمير يدعي النبوة ويشهدون له بها فنزل غمدان فلم يتبعه من النخع ولا من جعفي أحد وتبعه ناس من زبيد ومزحج وعبس وبني الحارث وأود ومسلية وحكم

وأقام الأسود بنجران يسيرا ثم رأى أن صنعاء خير له من نجران فسار إليها في ستمائة راكب من بني الحارث فنزل صنعاء فأبت الأبناء أن يصدقوه فغلب على صنعاء واستذل الأبناء بها وقهرهم وأساء جوارهم لتكذيبهم إياه فبعث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} رجلا من الأزد وقيل من خزاعة يقال له وبر بن يحنس إلى الأبناء في أمر الأسود فدخل صنعاء مختفيا فنزل على داذويه الأبناوي فخبأه عنده وتآمرت الأبناء لقتل الأسود فتحرك في قتله نفر منهم قيس بن عبد يغوث المكشوح وفيروز الديلمي وداذويه الأبناوي وكانت المرزبانة كما تقدم قد أبغضت الأسود أشد البغض فوعدتهم موعدا أتوا لميقاته وقد سقته الخمر حتى سكر فسقط نائما كالميت فدخل عليه فيروز وقيس ونفر معهما فوجدوه على فراش عظيم من ريش قد غاب فيه فأشفق فيروز أن يتعادى عليه السيف إن ضربه به فوضع ركبته على صدر الكذاب ثم فتل عنقه
فحولها حتى حول وجهه من قبل ظهره وأمر فيروز قيسا فاحتز رأسه فرمى به إلى الناس ففض الله الذين اتبعوه وألقى عليهم الخزي والذلة وخطب الناس قيس بن مكشوح وأظهر أن الكذاب قتل بكذبه على الله وأن محمدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
وبلغ الخبر بذلك إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو في مرضه الذي توفي فيه فقال {صلى الله عليه وسلم} وذكر الأسود قتله الرجل الصالح فيروز الديلمي ورد فيروز وداذويه الأمر إلى قيس بن المكشوح فكان أمير صنعاء وبها يومئذ جماع من أصحاب الأسود الكذاب فلما بلغتهم وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثبت قيس والأبناء وأهل صنعاء على الإسلام إلا أصحاب الأسود

ثم إن قيسا خاف فيروز وداذويه أن يغلباه على سلطان صنعاء فأجمع أن يفتك بهما فأرسل إليهما يدعوهما فجاء داذويه فقتله وأقبل فيروز يريده فأخبر بقتل داذويه فهرب منه إلى أبي بكر رضي الله عنه وارتد قيس بن المكشوح وأخرج الأبناء من صنعاء فلم يبق بها أحد إلا في جوار فكان الشعبي يقول فيما ذكر عنه باليمن رجلان لو انبغى لأحد أن يسجد لشيء دون الله لا نبغي لأهل اليمين أن يسجدوا لهما سيف بن ذي يزن في الحبشة وقيس بن مكشوح في الأبناء الذين بصنعاء يعني إخراج سيف الحبشة وإخراج قيس الأبناء
ولما بلغ خالد بن سعيد بن العاص ردة صنعاء سار يومها وكان في ناحية أرض مراد حتى دخلها فاسعتداه فيروز على قيس في قتل داذويه فبعث إليه من يأتي به فذهب الرسول فأخذه ثم أقبل به حتى إذا كان قريبا من صنعاء اختدع قيس الرسول حتى انفلت منه فدخل على خالد فقال من جاءكم مسلما قد أصاب الجاهلية أشياء ماذا عليه فقال له خالد هدم الإسلام ما قبله فأسلم قيس ثم خرج مع خالد إلى الصلاة فيجد فيروز في المسجد فقال له يا فيروز هل لك حاجة إلى الأمير فانكسر فيروز ودخل على خالد فاستعداه على قيس

فبعث أبو بكر إلى عكرمة بن أبي جهل وهو يومئذ بأرض عمان أن سر في بلاد مهرة حتى تخرج على صنعاء فخذ قيس بن مكشوح المرادي فابعث به إلي في وثاق فسار عكرمة حتى دخل أرض مهرة فقتل فيهم وسبى وسار كذلك لا يطأ قوما إلا قاتلوه وقاتلهم فقتل منهم وسبى حتى رجعوا إلى الإسلام وبعث بسبيهم إلى أبي بكر بالمدينة ثم مضى على وجهه حتى خرج إلى صنعاء فلقيه قيس وهو لا يدري بالذي أمر فيه فأمر به عكرمة فجعل في جامعة وبعث به إلى أبي بكر فلما دخل عليه عرفه أبو بكر بقتل داذويه فحلف له ما يدري من أمره شيئا ولا يدري من قتله ورغب في الجهاد في سبيل الله فخرج إلى قومه من مذحج فاستجلبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه فخفوا في ذلك وخرجوا حتى توجهوا إلى من بعث أبو بكر إلى الشام فلذلك أول نزول مذحج الشام
ثم إن الأصفر العكي خرج هو وجماعة من قومه ممن ثبت على الإسلام حتى دخل نجران وهو يريد قتال بني الحارث بن كعب فلما دخل عليهم الأصفر رجعوا إلى الإسلام من غير قتال فأقام الأصفر في نجران وضبطها وغلب عليها ثم أمر أبو بكر المهاجر بن أبي أمية أن يستنفر من مر به من مضر ويقويهم ويعطيهم من مال أعطاه إياه أبو بكر فسار المهاجر يؤم صنعاء معه سرية من المهاجرين والأنصار فيجد المهاجر بنجران الأصفر العكي ثم سار المهاجر إلى صنعاء ومعه بشر كثير فلقى جماعة من أصحاب الأسود منفضين فأخذ عليهم الطريق وألجأهم إلى غيضة فقتل منهم وأسر ثم أقبل بالأسرى ومضى حتى دخل صنعاء وقد كانت طوائف من زبيد ارتدت منهم عمرو بن معدي كرب فاجتمع إلى خالد بن سعيد من ثبت على الإسلام من مراد وسائر مذحج فلقي بهم بني زبيد فانهزموا وظفر بهم خالد فسبى منهم نسوة منهن امرأة عمرو ابن معدي كرب جلالة وكانت أحسن النساء وكان عمرو فيما ذكروا غائبا عن ذلك القتال فلما ظفر خالد سألت منه زبيد أن يقرهم على الإسلام ويكف عنهم فكف عنهم وأسلموا وبلغ الخبر عمرا فأقبل حتى نزل بجانب

عسكر خالد ثم خرج ليلا فتلطف حتى لقى جلالة فقال لها يا جلالة ما صنع بك خالد فقالت لم يصنع بي إلا خيرا ولم يعرض على من أمره إلا كرما قال هل قربك قالت لا والله وما يحل له ذلك في دينه قال فورب الكعبة إن دينا منعه منك لدين صدق
فلما أصبح عمرو غدا على خالد فقال ما تريد يا خالد بجلالة قال قد أسلمت فإن تسلم أردها إليك فأسلم عمرو فردها إليه
وقدم خالد المدينة ثم قدم عمرو بن معدي كرب المدينة فدخل على خالد داره فقال له إني والله ما وجدت شيئا أكافئك به في جلالة إلا سيفي الصمصامة ثم خلعه من عنقه فناوله إياه وقال عمرو
وهبت لخالد سيفي ثوابا
على الصمصامة السيف السلام
خليل لم أخنه ولم يخني
ولكن التواهب في الكرام
الوافر

ذكر ردة كندة وحضرموت
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما قدم عليه وفد كندة مسلمين استعمل عليهم زياد بن لبيد الأنصاري البياضي وأمره بالمسير معهم ففعل وأقام معهم في ديارهم يأخذ صدقاتهم حياة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكان رجلا مسلما فلما توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وولى أبو بكر بعث أبا هند مولى بني بياضة بكتاب فيه
بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى زياد بن لبيد سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو
أما بعد فإن النبي {صلى الله عليه وسلم} توفي فإنا لله وإنا إليه راجعون فانظر ولا قوة إلا بالله أن تقوم قيام مثلك ويبايع من عندك فمن أبي وطئته بالسيف وتستعين بمن أقبل على من أدبر فإن الله مظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون
فلما قدم أبو هند بكتاب أبي بكر رحمه الله على زياد بن لبيد قدم من الليل وأخبره باجتماع الناس على أبي بكر وأنه لم يكن بين المسلمين اختلاف فحمد الله زياد على ذلك فلما أصبح زياد غدا يقرئ الناس كما كان يفعل قبل ذلك ثم دخل بيته فلما جاءت الظهر خرج إلى الصلاة وعليه السيف فقال بعض الناس ما شأن أميركم والسيف فصلى الظهر بالناس ثم قال

أيها الناس إن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} توفي فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد توفي ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقد اجتمع المسلمون على أفضلهم من أنفسهم ولم يكن بينهم اختلاف في أبي بكر بن أبي قحافة وقد كان
النبي {صلى الله عليه وسلم} يأمره في مرضه أن يصلي بالناس فبايعوا أيها الناس ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا

فقال الأشعث بن قيس إذا اجتمع الناس فما أنا إلا كأحدهم ونكص عن التقدم إلى البيعة فقال امرؤ القيس بن عابس الكندي أنشدك الله يا أشعث ووفادتك على النبي {صلى الله عليه وسلم} وإسلامك أن تنقضه اليوم والله ليقومن بهذا الأمر من بعده من يقتل من خالفه فإياك إياك ابق على نفسك فإنك إن تقدمت تقدم الناس معك وإن تأخرت افترقوا واختلفوا فأبى الأشعث وقال قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد ونحن أقصى العرب دارا من أبي بكر أيبعث أبو بكر إلينا الجيوش قال أي والله وأحرى أن لا يدعك عامل رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ترجع إلى الكفر قال الأشعث من قال زياد بن لبيد فتضاحك ثم قال أما يرضى زياد أن أجيره فقال امرؤ القيس سترى ثم قام الأشعث فخرج من المسجد إلى منزله وقد أظهر ما أظهره من الكلام القبيح من غير أن يكون نطق بالردة ووقف يتربص وقال نقف أموالنا بأيدينا ولا ندفعها ويكون من آخر الناس وبايع زياد بن لبيد لأبي بكر من بعد الظهر إلى أن قامت العصر فصلى بالناس العصر ثم انصرف إلى بيته ثم غدا على الصدقة من الغد كما كان قبل وهو أقوى ما كان نفسا وأشده لسانا فبينا هو يصدق إلى أن أخذ قلوصا في الصدقة من فتى من كندة فلما أمر بها زياد تعقل وتوسم بميسم السلطان وكان الميسم لله أتى الفتى فصاح يا حارثة بن سراقة يا أبا معدى كرب عقلت البكرة فأتى حارثة إلى زياد فقال أطلق للفتى بكرته فأبى زياد فقال قد عقلتها ووسمتها بميسم السلطان فقال حارثة أطلقها أيها الرجل طائعا خير من أن تطلقها وأنت كاره قال زياد لا والله لا أطلقها ولا نعمت عين فقام حارثة فحل عقالها وضرب على جنبها فخرجت القلوص تعدو إلى الأنهار وجعل حارثة يقول
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا
فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده
فتلك إذا والله قاصمة الظهر ) الطويل )

قالوا فكان زياد يقاتلهم النهار إلى الليل فلما كان يوم من تلك الأيام ضاربهم كذلك حتى أمسى ولم يكن فيما مضى يوم أشد منه كانت بينهم فيه قتلى وجراح قال أبو هند برز منهم يومئذ رجل يدعو إلى البراز فبرزت إليه فتشاولنا بالرمحين نهارا طويلا فلم يظفر واحد منا بصاحبه ثم صرنا إلى السيفين فما قدر واحد منا على صاحبه ونحن فارسان إلى أن عثر فرسه فاقتحم وصار راجلا ويدرك فرسي فيضرب عرقوبيه فوقعت إلى الأرض وأفضى أحدنا إلى صاحبه فبدرته فأضربه فأقطع يده من المنكب فوقع السيف من يده وولى منهزما وألحقه فأجهزت عليه فما خرج أحد يدعو إلى البراز حتى صلح أمرهم
قالوا فلما أمسوا من ذلك اليوم وتفرقوا وزياد في بيته قد بعث العيون إذ جاءه عين له بعد أن ذهب عامة الليل فدله على عورة من عدوه وقال هل لك في الظفر فقال ما هو قال ملوكهم الأربعة في محجرهم قد ثملوا من الشراب فسار من ساعته في مائة رجل من أصحابه حتى انتهوا إلى المحجر فتقدم العين فاستمع الصوت فإذا القوم قد هدوا وناموا فأغار عليهم فقتل الملوك الأربعة مخرس ومشرح وحمد وأبضعة وأختهم العمردة ذبحهم ذبحا وكانوا ملوك كندة وأشرافهم
ويقال كانت الملوك سبعة الأشعث بن قيس ومخرس وحمد ووديعة وأبضعة ومشرح ووليعة فقتل منهم أربعة ثم رجع زياد إلى أهله فأصبح القوم قد انكسر حدهم وذلوا
وقالوا إن العمردة لما توفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ضربت بغربال فقطع زياد لذلك يدها وصلبها فهي كانت أول امرأة قتلت في الردة
وبعث زياد أبا هند إلى أبي بكر وكتب معه

بسم الله الرحمن الرحيم لأبي بكر خليفة رسول الله من زياد بن لبيد سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الناس قبلنا منعوا الصدقة أو عامتهم وأبوا أن يسلموها وقاتلوا دونها أشد القتال وأظهروا الردة عن الإسلام فبعثت عيونا في طلب غرتهم فأتاني آت منهم يخبرني بغرة منهم فزحفت إليهم ليلا فقتلتهم في محجرهم وكانوا أربعة مخرس ومشرح وحمد وأبضعة وأختهم العمردة فأصبحوا وقد ذلوا وانكسروا وإني كتبت إليك والسيف على عاتقي وبعثت إليك أبا هند بالكتاب وأمرته أن يجد السير وأن يخبرك بما يخبرك بما رأى وشهد وإن الكتاب موجز وعنده علم ما كنا فيه والسلام
فيروى أن أبا هند قال خرجت من عند زياد بعد أن صليت الغداة على راحلتي ومعي رجل من بني قتيرة على راحلة خفير لي فبلغ بي صنعاء ثم انصرف فسرت من حضرموت إلى المدينة تسع عشرة فأرخفت راحلتي وما مسيت عنها أكثر مما ركبت وانتهيت إلى أبي بكر فأجده حين خرج إلى الصلاة فلما رآني قال أبا هند ما وراءك قلت خير والذي يسرك قتل الملوك الأربعة وأختهم العمردة قال قد كنت كتبت إلى زياد أنهي أن يقتل الملوك من كندة وبعثت بذلك المغيرة بن شعبة أما لقيته قلت ما لقيته
وقدم المغيرة خلافي وذلك أنه أخطأ الطريق فذلك الذي أبطأ به وجعل أبو بكر يسألني فأخبره عن كل ما يسره ثم قال ما فعل الأشعث بن قيس قلت يا خليفة رسول الله هو أول من نقض وهو رأس من بقي وقد ضوى
إليه ناس كثير وقد تحصن في النجير بمن معه ممن هو على رأيه والله مخزيهم وقد تركت زياد بن لبيد يريد محاصرتهم فقال أبو بكر قد كتبت إلى المهاجر ابن أبي أمية أن يمد زيادا ويكون أمرهما واحدا
وكان النبي {صلى الله عليه وسلم} لما قتل الأسود العنسي بعث المهاجر واليا على صنعاء فتوفي {صلى الله عليه وسلم} والمهاجر وال عليها فانحاز إلى زياد بحضرموت كما أمره أبو بكر

وكانت قتيرة من كندة قد ثبتت على الإسلام لم يرجع منها رجل واحد فلما قدم المهاجر على زياد اشتد أمرهما وكانا يحاصران أهل النجير وكان أهل النجير قد غلقوه فلما قتل الملوك الأربعة دخلوا مع الأشعث بن قيس وجثم زياد ومهاجر على النجير فحاصروا أهله بالمسلمين لا يفارقونه ليلا ولا نهارا وقذف الله الرعب في أفئدتهم فلما اشتد به الحصار بعثوا إلى زياد بن لبيد أن تنح عنا حتى نكون نخرج ونخليك والحصن فقال لا أبرح شبرا واحدا حتى نموت من آخرنا أو تنزلوا على حكمنا ورأينا وجعل يكايدهم لما يرى من جزعهم فكتب كتابا ثم بعث به في السر مع رجل من بني قتيرة ليلا مسيرة يوم أو بعض يوم ثم يأتيه بكتابه الذي كتبه فيقرؤه على الناس
من أبي بكر خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى زياد بن لبيد سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد بلغني ردة من ارتد قبلك بعد المعرفة بالدين غرة بالله والله مخزيهم إن شاء الله فأحصرهم ولا تقبل منهم إلا ما خرجوا منه أو السيف فقد بعثت إليك عشرة آلاف رجل عليهم فلان ب فلان وخمسة آلاف عليهم فلان بن فلان وقد أمرتهم أن يسمعوا لك ويطيعوا فإذا جاءك كتابي هذا فإن أظفرك الله بهم فإياك والبقيا في أهل النجير حرق حصنهم بالنار واقطع معايشهم واقتل المقاتلة واسب الذرية وابعث بهم إن شاء الله

وإنما هذا كتاب كتبه زياد بيده مكايدة لعدوه فكانوا إذ قرئ عليهم هذا الكتاب أيقنوا بالهلكة واشتد عليهم الحصار وندموا على ما صنعوا فبينا هم على ذلك الحصار قد جهدهم قال الأشعث إلى متى هذا الحصر قد غرثنا وغرث عيالنا وهذه البعوث تقدم علينا بما لا قبل لنا به وقد ضعفنا عمن معنا فكيف بمن يأتينا من هذه الأمداد والله للموت بالسيف أحسن من الموت بالجوع أو يؤخذ برقبة الرجل كما يصنع بالذرية قالوا وهل لنا قوة بالقوم فما ترى لنا فأنت سيدنا قال أنزل فآخذ لكم الأمان قبل أن تدخل هذه الأمداد بما لا قبل لنا به فجعل أهل الحصن يقولون للأشعث افعل وخذ لنا أمانا فإنه ليس أحد أجرا على ما قبل زياد منك قال فأنا أنزل
فأرسل إلى زياد أنزل فأكلمك وأنا آمن قال نعم فنزل الأشعث من النجير فخلا بزياد فقال يا ابن عم قد كان هذا الأمر ولم يبارك لنا فيه وإن لي قرابة ورحما وإن أوصلتني إلى صاحبك قتلني يعني المهاجر بن أمية وأن أبا بكر يكره قتل مثلي وقد جاءك كتابه ينهاك عن قتل الملوك من كندة فأنا أحدهم وأنا أطلب منك الأمان على أهلي ومالي فقال زياد لا أؤمنك أبدا على دمك وأنت كنت رأس الردة والذي نقض على كندة فقال أيها الرجل دع ما مضى واستقبل الأمور إذا أقبلت قال زياد وماذا قال وأفتح لك النجير فأمنه زياد على أهله وماله على أن يقدم به على أبي بكر فيرى فيه رأيه وفتح له النجير
وقد كان المهاجر لما نزل الأشعث من الحصن ليكلمهم قال لزياد رده إلى الحصن حتى ينزل على حكمنا فنضرب عنقه فنكون قد استأصلنا شأفة الردة فأبى زياد إلا أن يؤمنه وقال أخشى أن يلومني أبو بكر في قتله وقد جاءني كتابه ينهاني عن قتل الملوك الأربعة فأخاف مثل ذلك مع أن أبا بكر إن أراد قتله فله ذلك إنما جعل له الأمان على نفسه وما له إلى أن يبلغ أبا بكر لا أدع من عين ماله شيئا يخف حمله معه إلا سار به وأحول بينه وبين ما ها هنا مما لا

يطيق حمله حتى يأتي رأي أبى بكر فيه فأمنه زياد على أن يبعث به وبأهله وبماله إلى أبي بكر رضي الله عنه فيحكم فيه بما يرى
وفتحوا له النجير فأخرجوا المقاتلة فعمد زياد إلى أشرافهم وهم سبعمائة فضرب أعناقهم على دم واحد ولام القوم الأشعث فقالوا لزياد غدر بنا فأخذ الأمان لنفسه وأهله ولم يأخذ لنا وإنما نزل على أن يأخذ لنا جميعا فنزلنا ونحن آمنون فقتلنا فقال زياد ما أمنتكم فقالوا صدقت خدعنا الأشعث
قال الواقدي وقد ذكروا في فتح النجير وجها آخر عن أبي مغيث قال كنت فيمن حضر أهل النجير فصالح الأشعث زيادا على أن يؤمن من أهل النجير سبعين رجلا ففعل فنزل سبعون رجلا ونزل معهم الأشعث فكانوا أحد وسبعين فقال زياد أقتلك لم يكن لك أمان فقال الأشعث تؤمنني على أن أقدم على أبي بكر فيرى في رأيه فآمنه على ذلك والقول الأول أثبت
وبعث أبو بكر نهيك بن أوس بن حزمة إلى زياد بن لبيد يقول إن ظفرت بأهل النجير فاستبقهم فقدم عليه ليلا وقد قتل منهم في أول النهار سبعمائة في صعيد واحد قال نهيك فما هو إلا أن رأيتهم فشبهت بهم قتلى بني قريظة يوم قتلهم النبي {صلى الله عليه وسلم} وأبى زياد أن يواري جثثهم وتركهم للسباع فكان هذا أشد على من بقي من القتل وهرب أهل الردة في كل وجه وكان لا يؤخذ منهم إنسان إلا قتل
ثم بعث زياد بالسبي مع نهيك وبعث معه ثمانين رجلا من قتيرة وبعث بالأشعث معهم في وثاق
قال عبد الرحمن بن الحويرث رأيته يوم قدم به المدينة في حديد مجموعة يداه إلى عنقه

ونزل نهيك بالسبي في دار رملة بنت الحارث ومعهم الأشعث بن قيس ولما كلمه أبو بكر جعل يقول يا خليفة رسول الله والله ما كفرت بعد إسلامي ولكني شححت على مالي فقال أبو بكر ألست الذي يقول قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد وأبو بكر يبعث إلينا الجيوش ونحن أقصى العرب دارا فرد عليك من هو خير منك فقال لا يدعك عامله ترجع إلى الكفر فقلت من قال زياد بن لبيد فتضاحكت فكيف وجدت زيادا أذكرت به أمه قال الأشعث نعم كل الأذكار ثم قال في آخر قوله أيها الرجل اطلق إساري واستبقي لحربك وزوجني أختك أم فروة بنت أبي قحافة فإني قد تبت مما صنعت ورجعت إلى ما خرجت منه من منع الصدقة فأسعفه أبو بكر فزوجه فكان الأشعث مقيما بالمدينة حتى كانت ولاية عمر بن الخطاب وثاب الناس إلى فتح العراق فخرج الأشعث مع سعد بن أبي وقاص
قالوا وقدم على أبي بكر رضي الله عنه أربعة عشر رجلا من كندة يطلبون أن يفادوا بينهم وقالوا يا خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ما رجعنا عن الإسلام ولكن شححنا على أموالنا وقد رجع من وراءنا إلى ما خرجوا منه وبايعوك راضين فقال أبو بكر بعد ماذا بعد أن وطئكم السيف فقالوا يا خليفة رسول الله إن الأشعث غدر بنا كنا جميعا في الحصن فكان أجزعنا وكان أول من نقض وأبي أن يدفع الصدقة وأمرنا بذلك ورأسنا فلم يبارك لنا في رياسته فقال أنزل وآخذ لكم الأمان جميعا فإن لم يكن رجعت إليكم فيصيبني ما يصيبكم فنزل فأخذ الأمان لنفسه وأهله ومواليه وقتلنا صبرا بالسيف
فقال أبو بكر رضي الله عنه قد كنت كتبت إلى زياد بن مهاجر كتابا مع نهيك بن أوس إن ظفر تما بأهل النجير فلا تقتلاهم وأنزلاهم على حكمي
فقال المتكلم قد والله قتل منا سبعمائة على دم واحد وقد رجوناك يا خليفة رسول الله
ولما كلمه الوفد في أن يرد عليهم السبي ويقبل منهم الفداء أجاب إلى ذلك وخطب الناس على المنبر فقال

أيها الناس ردوا على هؤلاء القوم نساءهم وذرايهم لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغيب عنهم أحدا قد جعلنا الفداء على كل رأس منهم أربعمائة درهم
وأمر أبو بكر زيد بن ثابت بقبض الفداء وأمره أيضا بإخراج الخمس
قال الواقدي سألت معاذ بن محمد فقلت أرأيت الأربعة الأخماس حيث أمر أبو بكر أن يفدوا بأربعمائة أربعمائة ما فعل بها قال جمع أبو بكر ذلك كله فجعله سهمانا لأهل النجير مع ما استخرج زياد بن لبيد والمهاجر مما وجدوا في الحصن النجير من الرثة والسلاح ومما أصابوا من غير ذلك فجعلوه مغنما
وكان أبو بكر قد أمد زيادا والمهاجر بعكرمة بن أبي جهل وهو يومئذ بدبا فسار إليهم في سبعمائة فارس وقدم بعد فتح النجير بأربعة أيام فأمر أبو بكر بأن يسهم لهم في ذلك فأسهم لهم
ونظرت عجوز من سبي النجير ألى الأشعث بن قيس فقالت قبحت من وافد قوم ورسولهم أخذت الأمان لأهلك ومواليك وعرضتنا للسباء وقتلت رجالنا بغدرك ولم تواسهم بنفسك وأنت شأمتهم رأسوك فلم يبارك لهم في رياستك
والله ما رجعوا عن الإسلام ولكن شحوا على أموالهم فقتلوا ورجعت أنت عن الإسلام فنجوت ما كان أحد قط أشأم على قومه منك
ومما يحفظ من شعر الأشعث يذكر الجماعة الذين ضرب زياد أعناقهم من أهل النجير وهم سبعمائة كما تقدم
فلا رزء إلا يوم أقرع بينهم
وما الدهر عندي بعدهم بأمين
فليت جنوب الناس تحت جنوبهم
ولم تمش أنثي بعدهم بجنين
فكنت كذات البو ضغت فأقبلت
إلى بوها أو طربت بحنين
لعمري وما عمري على بهين
لقد كنت بالقتلى أحق ضنين
الطويل
ويروى أن الأشعث إنما قال هذا في الملوك الأربعة الذين قتلوا ومن روى هذا أنشد الشعر هكذا
لعمري وما عمري على بهين
لقد كنت بالأملاك حق ضنين
فإن يك هذا الدهر فرق بينهم
فما الدهر عندي بعدهم بأمين
فليت جنوب الناس الناس تحت جنوبهم
ولم يبشروني بعدهم بجنين
وكنت كذات البور يعت فأقبلت
على بوها أو طربت بحنين
الطويل

ذكر بدء الغزو إلى الشام وما وقع في نفس أبي بكر الصديق رضي الله عنه من ذلك وما قوي عزمه عليه
حدث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال لما فرغ أبو بكر رضي الله عنه من أهل الردة واستقامت له العرب حدث نفسه بغزو الروم ولم يطلع عليه أحدا فبينما هو كذلك إذ جاءه شرحبيل بن حسنة فجلس إليه فقال يا خليفة رسول الله أحدثت نفسك أن تبعث إلى الشام جندا قال نعم قد حدثت نفسي بذلك ولم أطلع عليه أحدا وما سألتني إلا لشيء قال أجل إني رأيت فيما يرى النائم كأنك تمشي في ناس من المسلمين فوق حرشفة من الجبل فأقبلت تمشي معهم حتى صعدت قلة في أعاليه فأشرفت على الناس ومعك أصحابك أولئك ثم هبطت من تلك القلة إلى أرض سهلة دمثة فيها الزروع والعيون والقرى والحصون فقلت يا للمسلمين شنوا الغارة على المشركين فأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة فشد المسلمون وأنا فيهم ومعي راية فتوجهت بها إلى قرية فسألوني الأمان فأمنتهم ثم جئت فأجدك قد انتهيت إلى حصن عظيم ففتح لك وألقوا إليك السلم ووضع لك عريش فجلست عليه ثم قال لك قائل يفتح عليك وتنصر فاشكر ربك واعمل بطاعته ثم قرأ إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا 14 النصر ثم انتهيت فقال له أبو بكر رضي الله عنه نامت عينك ثم دمعت عينا أبي بكر رضي الله عنه فقال أما الحرشفة التي كنا نمشي عليها حتى صعدنا منها إلى القلة العالية فأشرفنا منها على الناس فإنا نكابد من أمر هذا الجند مشقة ويكابدونها ثم نعلوا بعد

ويعلو أمرنا وأما نزولنا من القلة إلى الأرض السهلة الدمثة وما فيها من الزروع والعيون والقرى والحصون فإنا ننزل إلى أمر أسهل مما كنا فيه فيه الخصب والمعاش وأما قولي للمسلمين شنوا عليهم الغارة فإني ضامن لكم بالفتح والغنيمة فإن ذلك توجيهي للمسلمين إلى بلاد المشركين واحتثاثي إياهم على الجهاد وأما الراية التي كانت معك فتوجهت بها إلى قرية من قراهم فدخلتها فاستأمنوك فأمنتهم فإنك تكون أحد أمراء المسلمين ويفتح الله على يديك وأما الحصن الذي فتح لنا فهو ذلك الوجه يفتحه الله علي وأما العريش الذي رأيتني عليه جالسا فإن الله يرفعني ويضع المشركين وأما الذي أمرني بالعمل وبالطاعة وقرأ علي السورة فإنه نعى إلي نفسي إن هذه السورة حين أنزلت على النبي {صلى الله عليه وسلم} علم أن نفسه قد نعيت إليه ثم سألت عينا أبي بكر فقال لآمرن بالمعروف ولأنهين عن المنكر ولأجاهدن من ترك أمر الله ولأجهزن الجنود إلى العادلين بالله في مشارق الأرض ومغاربها حتى يقولوا الله أحد الله أحد أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون أمر الله وسنة رسوله فإذا توفاني الله لم يجدني وانيا ولا في ثواب المجاهدين فيه زاهدا ثم إنه عند ذلك أمر الأمراء وبعث إلى الشام البعوث
وعن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي وكانت له صحبة قال لما أراد أبو بكر أن يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم فدخلوا عليه وأنا فيهم فقال
إن الله تبارك وتعالى لا تحصى نعمه ولا تبلغ جزاءها الأعمال فله الحمد كثيرا على ما اصطنع عندكم قد جمع كلمتكم وأصلح ذات بينكم وهداكم إلى الإسلام ونفى عنكم الشيطان فليس يطمع أن تشركوا بالله ولا أن

تتخذوا إلها غيره فالعرب اليوم بنو أم وأب وقد رأيت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام فمن هلك منهم هلك شهيدا وما عند الله خير للأبرار ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين مستوجبا على الله ثواب المجاهدين هذا رأيي الذي رأيت فليشر علي كل امرئ بمبلغ رأيه
فقام عمر رضي الله عنه فقال
الحمد لله الذي يخص بالخير من يشاء من خلقه والله ما استبقنا إلى شيء من الخير إلا سبقتنا إليه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قد والله أردت لقاءك بهذا الرأي الذي ذكرت غير مرة فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن فقد أصبت أصاب الله بك سبيل الرشاد سرب إليهم الخيل في أثر الخيل وابعث الرجال بعد الرجال والجنود يتبعها الجنود فإن الله تعالى ناصر دينه ومعز الإسلام وأهله ومنجز ما وعده رسوله
ثم إن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قام فقال
يا خليفة رسول الله إنما الروم بنو الأصفر حد حديد وركن شديد والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحاما ولكن تبعث الخيل فتغير في أدنى أرضهم وترجع إليك فإذا فعلوا ذلك مرارا أضروا بهم وغنموا من أداني أرضهم فقووا بذلك على قتالهم ثم تبعث إلى أقاصي أهل اليمن وأقاصي ربيعة ومضر فتجمعهم إليك جميعا فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك وإن شئت أغزيتهم غيرك
ثم جلس وسكت وسكت الناس فقال لهم أبو بكر ماذا ترون رحمكم الله فقام عثمان بن عفان رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه وصلى على
رسوله ثم قال
نرى أنك ناصح لأهل هذا الدين شفيق عليهم فإذا رأيت رأيا تراه لعامتهم رشدا وصلاحا فاعزم على إمضائه فإنك غير ضنين عليهم ولا متهم
فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد وجميع من حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار
صدق عثمان ما رأيت من الرأي فامضه فإنا سامعون لك مطيعون لا نخالف أمرك ولا نتهم رأيك ولا نتخلف عن دعوتك وإجابتك

فذكروا هذا وأشباهه وعلي رضي الله عنه في القوم لا يتكلم فقال له أبو بكر رضي الله عنهما ماذا ترى يا أبا الحسن فقال
أرى أنك مبارك الأمر ميمون النقيبة وإنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت إن شاء الله تعالى
قال بشرك الله بخير ومن أين علمت هذا
قال سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول لا يزال هذا الدين ظاهرا على كل من ناوأه حتى تقوم الساعة وأهله ظاهرون
فقال أبو بكر سبحان الله ما أحسن هذا الحديث لقد سررتني به سرك الله في الدنيا والآخرة
ثم إنه قام في الناس فذكر الله بما هو أهله وصلى على نبيه {صلى الله عليه وسلم} ثم قال
أيها الناس إن الله تعالى قد أنعم عليكم بالإسلام وأعزكم بالجهاد وفضلكم بهذا الدين على أهل كل دين فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام فإني مؤمر عليكم أمراء وعاقد لهم عليكم فأطيعوا ربكم ولا تخالفوا
أمراءكم ولتحسن نيتكم وسريرتكم وطعمتكم فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
فسكت القوم فوالله ما أجابه أحد هيبة لغزو الروم لما يعلمون من كثرة عددهم وشدة شوكتهم
فقام عمر رحمه الله فقال
يا معشر المسلمين ما لكم لا تجيبون خليفة رسول الله إذا دعاكم لما يحييكم أما لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لابتدرتموه
فقام إليه عمرو بن سعيد فقال يا ابن الخطاب ألنا تضرب أمثال المنافقين فما يمنعك مما عتبت علينا فيه
فقال الإتكال على أنه يعلم أني أجيبه لو يدعوني وأغزو لو يغزيني
فقال عمرو ولكن نحن لا نغزولكم إن غزونا فإنما نغزو الله
فقال أبو بكر لعمرو اجلس رحمك الله فإن عمر لم يرد بما سمعت أذى مسلم ولا تأنيبه إنما أراد أن يبعث بما سمعت المتثاقلين إلى الأرض عن الجهاد
فقام خالد بن سعيد فقال صدق خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} اجلس يا أخي فجلس أخوه فقال خالد
الحمد لله الذي لا إله إلا هو الذي بعث محمدا {صلى الله عليه وسلم} بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فالله منجز وعده ومعز دينه ومهلك عدوه

ثم أقبل على أبي بكر فقال ونحن أولا غير مخالفين لك ولا متخلفين عنك وأنت الوالي الناصح الشفيق ننفر إذا استنفرتنا ونطيعك إذا أمرتنا ونجيبك إذا دعوتنا
ففرح بمقالته أبو بكر رضي الله عنه وقال له جزاك الله خيرا من أخ
وخليل فقد أسلمت مرتغبا وهاجرت محتسبا وهربت بدينك من الكفار لكي يطاع الله ورسوله وتعلو كلمته فأنت أمير الناس فتيسر رحمك الله
ثم إنه نزل ورجع خالد بن سعيد فتجهز وأمر أبو بكر رضي الله عنه بلالا فأذن في الناس انفروا أيها الناس إلى جهاد عدوكم الروم بالشام وأمير الناس خالد بن سعيد فكان الناس لا يشكون أن خالدا أميرهم وكان خالد ابن سعيد من عمال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على اليمن فلما قبض رسول الله {صلى الله عليه وسلم} جاء المدينة وقد استخلف الناس أبا بكر فاحتبس عن أبي بكر ببيعته أياما وأتى بني هاشم وقال أنتم الظهر والبطن والشعار دون الدثار فإذا رضيتم رضينا وإذا سخطتم سخطنا حدثوني أبايعتم هذا الرجل قالوا نعم قال على بر ورضى من جماعتكم قالوا نعم قال فإني أرضى إذا رضيتم وأبايع إذا بايعتم أما أنكم والله يا بني هاشم فينا لطوال الشجر طيبوا الثمر ثم بايع أبا بكر بعد ذلك
وبلغت مقالته أبا بكر فلم يبال واضطغن ذلك عليه عمر فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام أتى عمر أبا بكر فقال أتولي خالد بن سعيد وقد حبس عنك بيعته وقال لبني هاشم ما بلغك وقد جاء بورق اليمن وعبيد له حبشان وبدروع ورماح ما أرى أن توليه وما آمن خلافه وكان أبو بكر لا يخالف عمر ولا يعصيه فدعا يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة فقال لهم
إني باعثكم في هذا الوجه ومؤمركم على هذا الجند وأنا باعث على كل رجل من الرجال ما قدرت عليه فإذا قدمتم البلد ولقيتم العدو فاجتمعتم على قتالهم فأميركم أبو عبيدة وإن أبو عبيدة لم يلقكما وجمعتكما حرب فيزيد بن أبي سفيان الأمير انطلقوا فتجهزوا

فخرج القوم يتجهزون وبلغ ذلك خالد بن سعيد فتيسر وتهيأ بأحسن هيئة ثم أقبل نحو أبي بكر وعنده المهاجرون والأنصار أجمع ما كانوا وقد
تيسر الناس وأمروا بالعسكرة مع هؤلاء النفر الثلاثة فسلم على أبي بكر وعلى المسلمين ثم جلس فقال لأبي بكر
أما إنك كنت وليتني أمر الناس وأنت لي غير متهم ورأيك في حسن حتى خوفت مني أمرا والله لأن أخر من رأس حالق أو تخطفني الطير في الهواء بين الأرض والسماء أحب إلي من أن يكون ما ظن والله ما أنا في الإمارة براغب ولا على البقاء في الدنيا بحريص وإني أشهدكم أني وأخوتي وفتياني ومن أطاعني من أهلي جيش في سبيل الله نقاتل المشركين أبدا حتى يهلكهم الله أو نموت لا نريد به حمد الناس ولا جزاءهم
فقال له الناس خيرا ودعوا له به وقال أبو بكر رحمه الله أوتيت في نفسي وولدي ما أحب لك ولإخوتك والله إني لأرجو أن تكون من نصحاء الله في عباده وإقامة كتابه وإتباع سنة رسوله
فخرج هو وإخوته وغلمته ومن معه فكان أول خلق الله عسكر ثم خرج الناس إلى معسكرهم من عشرة وعشرين وثلاثين وأربعين وخمسين ومائة في كل يوم حتى اجتمع الناس وكثروا فخرج أبو بكر ذات يوم ومعه من الصحابة كثير حتى انتهى إلى عسكرهم فرأى عدة حسنة فلم يرض كثرتها للروم فقال لأصحابه ماذا ترون في هؤلاء أترون أن نشخصهم إلى الشام في هذه العدة فقال له عمر ما أرضى بهذه العدة لجموع بني الأصفر فأقبل على أصحابه فقال ماذا ترون فقالوا ونحن أيضا نرى ما رأى عمر فقال أبو بكر أفلا نكتب كتاباإلى أهل اليمن ندعوهم إلى الجهاد ونرغبهم في ثوابه فرأى ذلك جميع أصحابه فقالوا نعم ما رأيت فافعل
فكتب بسم الله الرحمن الرحيم من خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى من قرئ
عليه كتابي هذا المؤمنين من والمسلمين من أهل اليمن

سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الله تبارك وتعالى كتب على المسلمين الجهاد وأمرهم أن ينفروا فيه خفافا وثقالا فقال جل ثناؤه وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله 9 الصف فالجهاد فريضة مفروضة وثوابه عند الله عظيم وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام وقد سارعوا إلى ذلك وعسكروا وخرجوا وحسنت نيتهم وعظمت حسبتهم فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم وسنة نبيكم وإلى إحدى الحسنين إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة إن الله جل ذكره لم يرض من عباده بالقول دون العمل ولا بترك الجهاد فيه أهل عدواته حتى يدينوا بالحق ويقروا بحكم الكتاب حفظ الله لكم دينكم وهدى قلوبكم وزكى أعمالكم ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين والسلام عليكم
وبعث بالكتاب مع أنس بن مالك
قال أنس
أتيت اليمن فبدأت بهم حيا حيا وقبيلة قبيلة أقرأ عليهم كتاب أبي بكر الصديق فإذا فرغت من قراءته قلت الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أما بعد فإني رسول خليفة رسول الله إليكم ورسول المسلمين ألا وإني قد تركتهم معسكرين ليس يمنعهم عن الشخوص إلى عدوهم إلا انتظاركم فعجلوا إلى إخوانكم بالنفر رحمكم الله أيها المسلمون
قال فكان كل من أقرأ عليه ذلك الكتاب ويسمع مني هذا القول يحسن الرد ويقول نحن سائرون وكأن قد فعلنا حتى انتهيت إلى ذي الكلاع فلما قرأت عليه الكتاب وقلت له هذا المقال دعا بفرسه وسلاحه ونهض في قومه
وأمره بالعسكرة فما برحنا حتى عسكر وعسكر معه جموع كثيرة من أهل اليمن وسارعوا فلما اجتمعوا إليه قام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال

أيها الناس إن من رحمة الله إياكم ونعمته عليكم أن بعث فيكم نبيا أنزل عليه الكتاب فأحسن عنه البلاغ فعلمكم ما يرشدكم ونهاكم عما يفسدكم حتى علمكم ما لم تكونوا تعلمون ورغبكم من الخير فيما لم تكونوا فيه ترغبون وقد دعاكم إخوانكم الصالحون إلى جهاد المشركين واكتساب الأجر العظيم فلينفر من أراد النفر معي الساعة
قال فنفر بعدد من الناس كثير وأقبل بهم إلى أبي بكر رحمه الله فرجعنا نحن فسبقناه بأيام فوجدنا أبا بكر بالمدينة ووجدنا ذلك العسكر على حاله وأبو عبيدة يصلي بأهل ذلك العسكر
فلما قدمت حمير معها أولادها ونساؤها فرح بهم أبو بكر وقام فقال عباد الله ألم نكن نتحدث فنقول إذا مرت حمير معها نساؤها تحمل أولادها نصر الله المسلمين وخذل المشركين فأبشروا أيها المسلمون قد جاءكم النصر
قال وجاء قيس بن هبيرة بن مكشوح المرادي معه جمع كثير حتى أتى أبا بكر فسلم عليه ثم جلس فقال له ما تنتظر ببعثه هذه الجنود قال ما كنا ننتظر إلا قدومكم قال فقد قدمنا فابعث الناس الأول فالأول فإن هذه البلدة ليست ببلدة خف ولا كراع
قال فعند ذلك خرج أبو بكر رضي الله عنه يمشي فدعا يزيد بن أبي سفيان فعقد له ودعا ربيعة بن عامر من بني عامر بن لؤي فعقد له ثم قال له أنت مع يزيد بن أبي سفيان لا تعصه ولا تخالفه ثم قال ليزيد إن رأيت أن توليه مقدمتك فافعل فإنه من فرسان العرب وصلحاء قومك وأرجو أن يكون من عباد الله الصالحين فقال يزيد لقد زاده إلي حبا حسن ظنك به ورجاؤك
فيه ثم إنه خرج معه يمشي فقال له يزيد يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن تأذن لي فأمشي معك فإني أكره أن أركب وأنت تمشي فقال أبو بكر رضي الله عنه ما أنا براكب وما أنت بنازل إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله ثم أوصاه فقال

يا يزيد إني أوصيك بتقوى الله وطاعته والإيثار له والخوف منه وإذا لقيتم العدو فأظفركم الله به فلا تغلل ولا تمثل ولا تغدر ولا تجبن ولا تقتلن وليدا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا تعقروا بهيمة إلا لمأكل وستمرون بقوم في هذه الصوامع يزعمون أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعهم وما حبسوا أنفسهم له وستجدون آخرين فحص الشيطان أوساط رؤوسهم كأن اوساطها أفاحيص القطا فأضربوا بالسيف ما فحصوا عنه من رؤوسهم حتى ينيبوا إلى الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ولينصرن الله من ينصره ورسله بالغيب وأقرأ عليك السلام وأستودعك الله
ثم أخذ بيده فودعه ثم قال
إنك أول امرئ وليته على رجال من المسلمين أشراف غير أوضاع في الناس ولا ضعفاء ولا أدنياء ولا جفاة في الدين فأحسن صحبتهم وألن لهم كتفك واخفض لهم جناحك وشاورهم في الأمر أحسن أحسن الله لك الصحابة وعلينا الخلافة
فخرج يزيد في جيشه قبل الشام
وكان أبو بكر رحمه الله كل غدوة وعشية يدعو في دبر صلاة الغداة

ويدعو بعد صلاة العصر فيقول اللهم إنك خلقتنا ولم نك شيئا ثم بعثت إلينا رسولا رحمة منك وفضلا علينا فهديتنا وكنا ضلالا وحببت إلينا الإيمان وكنا كفارا وكثرتنا وكنا قليلا وجمعتنا وكنا أشتاتا وقويتنا وكنا ضعفاء ثم فرضت علينا الجهاد وأمرتنا بقتال المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون اللهم إنا أصبحنا نطلب رضاك بجهاد من عاداك ثم عدل بك وعبد معك آلهة غيرك لا إله إلا أنت تعاليت عما يقول الظالمون علوا كبيرا اللهم فانصر عبادك المسلمين على عدوك من المشركين اللهم افتح لهم فتحا يسيرا وانصرهم نصرا عزيزا وشجع جبنهم وثبت أقدامهم وزلزل بعدوهم وأدخل الرعب قلوبهم واستأصل شأفتهم واقطع دابرهم وأبد خضراءهم وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم وآثارهم وكن لنا وليا وبنا حفيا وأصلح لنا شأننا واجعلنا لأنعمك من الشاكرين واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ثبتنا الله وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه بالمؤمنين رؤوف رحيم

وعن أنس قال لما بعث أبو بكر رحمه الله يزيد بن أبي سفيان إلى الشام لم يسر من المدينة حتى جاء شرحبيل بن حسنة إلى أبي بكر فقال يا خليفة رسول الله إني قد رأيت فيما يرى النائم كأنك في جماعة من المسلمين كثيرة وكأنك بالشام ونحن معك إذ استقبلك النصارى بصلبها والبطارقة بكتبها وانحطوا عليك من كل شرف وحدب وكأنهم السيل فاعتصمنا بلا إله إلا الله وقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل ثم نظرنا فإذا نحن بالقرى والحصون من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم فإذا نحن بآت قد أتى فنزل بأعلى شاهقة في الجبل حتى استوى بالحضيض ثم أخرج كفه وأصابعه فإذا هي نار ثم إنه أهوى بها إلى ما قابله من القرى والحصون فصارت نارا تأجج ثم إنها خبت فصارت رمادا ثم نظرنا إلى ما استقبلنا من نصاراهم وبطارقتهم وجموعهم فإذا الأرض قد ساخت بهم فرفع الناس رؤوسهم وأيديهم إلى ربهم يحمدونه ويمجدونه ويشكرونه فهذا ما رأيت ثم انتبهت

فقال أبو بكر رضي الله عنه نامت عينك هذه بشرى وهو الفتح إن شاء الله لا شك فيه وأنت أحد أمرائي فإذا سار يزيد بن أبي سفيان فأقم ثلاثا ثم تيسر للسير ففعل فلما مضى اليوم الثالث أتاه من الغد يودعه فقال له يا شرحبيل ألم تسمع وصيتي يزيد بن أبي سفيان قال بلى قال فإني أوصيك بمثلها وأوصيك بخصال أغفلت ذكرهن لابن أبي سفيان أوصيك بالصلاة لوقتها وبالصبر يوم البأس حتى تظفر أو تقتل وبعيادة المرضى وحضور الجنائز وبذكر الله كثيرا على كل حال فقال له أبو سفيان إن هذه الخصال كان يزيد بهن مستوصيا وعليهن مواظبا قبل أن يسير إلى الشام فهو الآن لهن ألزم إن شاء الله تعالى فقال شرحبيل الله المستعان وما شاء الله أن يكون كان ثم ودع أبا بكر وخرج في جيشه قبل الشام وبقي عظم الناس مع أبي عبيدة في العسكر يصلي بهم وأبو عبيدة ينتظر كل يوم أن يدعوه أبو بكر فيسرحه وأبو بكر ينتظر به قدوم العرب عليه من كل مكان يريد أن يشحن أرض الشام من المسلمين ويريد أن زحفت إليهم الروم أن يكونوا مجتمعين فقدمت عليه حمير فيها ذو الكلاع وأسمه أيقع وجاءت مذحج فيها قيس بن هبيرة المرادي معه جمع عظيم من قومه وفيهم الحجاج بن عبد يغوث الزبيدي وجاء حابس بن سعد الطائي في عدد كثير من طيء وجاءت الأزد فيهم جندب بن عمرو بن حممة الدوسي وفيهم أبو هريرة وجاءت جماعة من قبائل قيس فعقد أبو بكر رضي الله عنه لميسرة بن مسروق العبسي عليهم وجاء قباث ابن أشيم في بني كنانة فأما ربيعة وأسد وتميم فإنهم كانوا بالعراق

وعن سهل بن سعد أن أبا بكر رحمه الله لما أراد أن يبعث أبا عبيدة دعاه فأتاه فسلم عليه ثم جلس فمكث أبو بكر مليا لا يكلمه فظن أبو عبيدة أنه هم بعزله كما عزل خالد بن سعيد وهو يستحي أن يستقبله به فقال يا خليفة رسول الله إن كنا لا نصلح لكم ولا نحبكم ولا ننصحكم إلا بأن تولونا فلسنا بإخوان في الله وإن كنا لا نجاهد في سبيل الله ولا نقاتل أعداء الله إلا أن نكون أمراء رؤساء فلسنا الله نريد بجهادنا وإنما ننوي به إذا الفخر في الدنيا
إني أطلب إليك أن تعزلني عن هذا الجند وتولي عليه من أحببت وأنا أخرج معه فأشير عليه برأيي وأنصحه جهدي وأواسي المسلمين بنفسي فقال أبو بكر سبحان الله يا أبا عبيدة أظننت أنك ممن نتهمه أو ممن نبتغي به بدلا أو ممن نتخوف أن يأتي المسلمين من قبله وهن أو خلاف أو فساد معاذ الله أن نكون من أولئك ثم قال له
اسمع سماع من يريد أن يفهم ما قيل له ثم يعمل بما أمر به إنك تخرج في أشراف العرب وبيوتات الناس وصلحاء المسلمين وفرسان الجاهلية كانوا إذ ذاك يقاتلون حمية وهم اليوم يقاتلون على النية الحسنة والحسبة أحسن صحبة من صحبك وليكونوا عندك في الحق سواء فاستعن بالله وكفى به معينا وتوكل عليه وكفى بالله وكيلا اخرج من غد إن شاء الله
فخرج من عنده فلما ولى قال يا أبا عبيدة فانصرف إليه فقال له
إني أحب أن تعلم كرامتك علي ومنزلتك مني والذي نفسي بيده ما على الأرض من المهاجرين ولا غيرهم من أعدله بك ولا بهذا يعني عمر رحمه الله ولا له عندي في المنزلة إلا دون ما لك
فقال أبو عبيدة رحمك ربك يا خليفة رسول الله هذا كان ظني بك
قال فانصرف فلما كان من الغد خرج أبو بكر في رجال من المسلمين على رواحلهم حتى أتى أبا عبيدة فسار معه حتى بلغ ثنية الوداع ثم قال حين أراد أن يفارقه

يا أبا عبيدة اعمل صالحا وعش مجاهدا ولتتوف شهيدا وليعطك الله كتابك بيمينك ويقر عينك في دنياك وآخرتك فوالله إني لأرجو أن تكون من التوابين الأوابين الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة إن الله تبارك وتعالى قد صنع بك خيرا وساقه إليك إذ جعلك تسير في جيش من المسلمين تقاتل به من كفر بالله وعبد غيره
فقال أبو عبيدة
رحمك الله يا خليفة رسول الله فتشهد بفضلك في إسلامك ومناصحتك الله ومجاهدتك بعد رسول الله من تولى عن دين الله حتى ردهم الله بك إلى الدين وهم صاغرون ونشهد أنك رحيم بالمؤمنين ذو غلظة على الكافرين فبورك لك فيما عملت وسددت فيما حملت إن أكن صالحا فلربي المنة علي بصلاحي وإن أكن فاسدا فهو ولي إصلاحي وأما أنت فنرى أن نجيبك إذا دعوت وأن نطيعك إذا أمرت
ثم إنه تأخر وتقدم إليه معاذ بن جبل فقال
يا خليفة رسول الله إني أردت أن يكون ما أكلمك به الآن بالمدينة قبل شخوصنا عنها ثم بدا لي أن أؤخر ما أردت من ذلك حتى يكون عند وداعي فيكون ذلك آخر ما أفارقك عليه
قال هات يا معاذ فو الله إنك ما علمت لسديد القول موفق الرأي رشيد الأمر
فأدنى راحلته ومقود فرسه في يده وهو متنكب القوس ومتقلد السيف فقال

إن الله تعالى بعث محمدا {صلى الله عليه وسلم} برسالته إلى خلقه فبلغ ما أحب أن يبلغ وكان كما أحب ربه أن يكون فقبضه الله إليه وهو محمود مبرور صلوات الله عليه وبركاته إنه حميد مجيد جزاه الله عن أمته كأحسن ما يجزي النبيين ثم إن الله تعالى استخلفك أيها الصديق عن ملأ من المسلمين ورضي منهم بك فارتد مرتدون وأرجف مرجفون ورجعت راجعة عن هذا الدين فأدهن بعضنا وحار جلنا وأحب المهادنة والموادعة طائفة منا واجتمع رأي الملأ الأكابر منا أن يتمسكوا بدينهم ويعبدوا الله حتى يأتيهم اليقين ويدعوا الناس وما ذهبوا إليه فلم ترض منهم بشيء كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يرده عليهم فنهضت بالمسلمين وشمرت للمجرمين وشددت بالمطيع المقبل على العاصي المدبر حتى أجاب إلى الحق من كان عند عنه وزجل عن الباطل
من كان مرتكسا فلما تمت نعمة الله عليك وعلى المسلمين في ذلك قدت المسلمين إلى هذا الوجه الذي يضاعف الله لهم فيه الأجر ويعظم لهم الفتح والمغنم فأمرك مبارك ورأيك محمود ورشيد ونحن وصالحو المؤمنين نسأل الله لك المغفرة والرحمة الواسعة والقوة في العمل بطاعة الله في عافية وإن هذا الذي تسمع من دعائي وثنائي ومقالتي لتزداد في فعل الخير رغبة وتحمد الله تعالى على النعمة وأنا معيد هذا على المؤمنين ليحمدوا الله على ما أبلاهم واصطنع عندهم بولايتك عليهم
ثم أخذ كل واحد منهما بيد صاحبه فودعه ودعا له ثم تفرقا وانصرف أبو بكر رحمه الله ومضى ذلك الجيش

وقال رجل من المسلمين لخالد بن سعيد وقد تهيأ للخروج مع أبي عبيدة لو كنت خرجت مع ابن عمك يزيد بن أبي سفيان كان أمثل من خروجك مع غيره فقال ابن عمي أحب إلي من هذا في قرابته وهذا أحب إلي من ابن عمي في دينه هذا كان أخي في ديني على عهد الرسول {صلى الله عليه وسلم} ووليي وناصري على ابن عمي قبل اليوم فأنا به أشد استئناسا وإليه أشد طمأنينة فلما أراد أن يغدو سائرا إلى الشام لبس سلاحه وأمر إخوته فلبسوا أسلحتهم عمرا وإبانا والحكم وعلقمة ومواليه ثم أقبل إلى أبي بكر رحمه الله عند صلاة الغداة فصلى معه فلما انصرفوا قام إليه هو وإخوته فجلسوا إليه فحمد الله خالد وأثنى عليه وصلى على رسوله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال
يا أبا بكر إن الله تبارك وتعالى قد أكرمنا وإياك والمسلمين عامة بهذا الدين فأحق من أقام السنة وأمات البدعة وعدل في السيرة الوالي على الرعية وكل امرئ من أهل هذا الدين محفوف بالإحسان ومعدلة الوالي أعم نفعا فاتق الله يا أبا بكر فيمن ولاك أمره وارحم الأرملة واليتيم وأعن الضعيف والمظلوم ولا يكن رجل من المسلمين إذا رضيت عنه آثر عندك في الحق منه إذا سخطت عليه ولا تغضب ما قدرت على ذلك فإن الغضب يجر الجور ولا
تحقد على مسلم وأنت تستطيع فإن حقدك على المسلم يجعلك له عدوا وإن اطلع على ذلك منك عاداك وإذا عادى الوالي والرعية وعادت الرعية الوالي كان ذلك قمنا أن يكون إلى هلاكهم داعيا ولن للمحسن واشتد على المريب ولا تأخذك في الله لومة لائم
ثم قال هات يدك يا أبا بكر فإني لا أدري أنلتقي في الدنيا أم لا فإن قضى الله لنا في الدنيا البقاء فنسأل الله عفوه وغفرانه وإن كانت هي الفرقة التي ليس بعدها لقاء فعرفنا الله وإياك وجه النبي {صلى الله عليه وسلم} في جنات النعيم

فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده فبكى وبكى خالد وبكى المسلمون وظنوا أنه يريد الشهادة وطال بكاؤهم ثم إن أبا بكر رضي الله عنه قال انتظر نمشي معك قال ما أريد أن تفعل قال لكني أريد ذلك ومن أراده من المسلمين فقام وقام الناس معه حتى خرج من بيوت المدينة فما رأيت مشيعا من المسلمين شيعة أكثر ممن شيع خالد بن سعيد يومئذ واخوته فلما خرج من المدينة قال له أبو بكر إنك قد أوصيتني برشدي وقد وعيت وأنا موصيك فاسمع وصاتي وعها إنك امرؤ قد جعل الله لك سابقة في الإسلام وفضيلة عظيمة والناس ناظرون إليك ومستمعون منك وقد خرجت في هذا الوجه العظيم الأجر وأنا أرجو أن يكون خروجك فيه بحسبة ونية صادقة إن شاء الله تعالى فثبت العالم وعلم الجاهل وعاتب السفيه المسرف وانصح لعامة المسلمين واخصص الوالي على الجهد من نصيحتك ومشورتك بما يحق لله وللمسلمين عليك واعمل لله كأنك تراه واعدد نفسك في الموتى وأعلم أنا عما قليل ميتون ثم مبعوثون ثم مسؤولون ومحاسبون جعلنا الله وإياك لأنعمه من الشاكرين ولنقمه من الخائفين ثم أخذ بيده فودعه وأخذ بأيدي اخوته بعد ذلك فودعهم واحدا واحدا ثم ودعهم المسلمون ثم إنهم دعوا بإبلهم فركبوها وكانوا قبل ذلك يمشون مع أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين ثم قيدت معهم خيلهم فخرجوا بهيئة حسنة فلما أدبروا قال أبو بكر اللهم احفظهم من بين
أيديهم ومن خلفهم وعن إيمانهم وعن شمائلهم واحطط أوزارهم وأعظم أجورهم ثم انصرف أبو بكر ومن معه من المسلمين
وقد قيل إن أبا بكر رحمه الله جعل خالدا ردءا بتيماء لما عزله عن الجند وأطاع عمر رحمه الله في بعض أمره وعصاه في بعض وسيأتي ذكر ذلك في موضعه إن شاء الله

وعن محمد بن خليفة أن ملحان بن زياد الطائي أخا عدي بن حاتم لأمه أتى أبا بكر رحمه الله في جماعة من قومه من طيء نحو ستمائة فقال له إنا أتيناك رغبة في الجهاد وحرصا على الخير ونحن القوم الذين تعرف الذين قاتلنا معكم من ارتد منا حتى أقر بمعرفة ما كان ينكر وقاتلنا معكم من ارتد منكم حتى أسلموا طوعا وكرها فسرحنا في أثر الناس واختر لنا وليا صالحا نكن معه
وكان قدومهم على أبي بكر بعد مسير الأمراء كلهم إلى الشام فقال أبو بكر قد اخترت لك أفضل أمرائنا أميرا وأقدم المهاجرين هجرة الحق بأبي عبيدة بن الجراح فقد رضيت لك صحبته وحمدت لك أدبه فنعم الرفيق في السفر ونعم الصاحب في الحضر
قال فقلت لأبي بكر فقد رضيت لخيرتك التي اخترت لي فاتبعته حتى لحقته بالشام فشهدت معه مواطنه كلها لم أغب عن يوم منها
وعن أبي سعيد المقبري قال قدم ابن ذي السهم الخثعمي على أبي بكر وجماعة من خثعم فوق تسعمائة ودون ألف فقال لأبي بكر إنا تركنا الديار والأصول والعشائر والأموال وأقبلنا بنسائنا وأبنائنا ونحن نريد جهاد المشركين فماذا ترى لنا في أولادنا ونسائنا أنخلفهم عندك ونمضي فإذا جاء الله بالفتح بعثنا إليهم فأقدمناهم علينا أم ترى لنا أن نخرجهم معنا ونتوكل على الله ربنا فقال أبو بكر سبحان الله يا معشر المسلمين هل سمعتم أحدا ممن سار من المسلمين إلى أرض الروم وأرض الشام ذكر من الأولاد والنساء مثل ما ذكر أخو خثعم أما إني أقسم لك يا أخا خثعم لو سمعت هذا القول منك
والناس مجتمعون عندي قبل أن يشخصوا لأحببت أن أحبس عيالاتهم عندي وأسرحهم ليس معهم من النساء والأبناء ما يشغلهم ويهمهم حتى يفتح الله عليهم ومعهم ذراريهم ولك بجماعة المسلمين إسوة وأنا أرجو أن يدفع الله بعزته عن حرمة الإسلام وأهله فسر في حفظ الله وكنفه فإن بالشام أمراء قد وجهناهم إليها فأيهم أحببت أن تصحبه فاصحبه فسار حتى لقي يزيد بن أبي سفيان فصحبه

وعن يحي بن هانئ بن عروة أن أبا بكر كان أوصى أبا عبيدة بقيس بن مكشوح وقال له إنه قد صحبك رجل عظيم الشرف فارس من فرسان العرب لا أظن له عظيم حسبة ولا كبير نية في الجهاد وليس بالمسلمين غني عن مشورته ورأيه وبأسه في الحرب فأذنه وألطفه وأره أنك غير مستغن عنه ولا مستهين بأمره فإنك تستخرج منه بذلك نصيحة لك وجهده وجده على عدوك ودعا أبو بكر قيسا فقال له إني قد بعثتك مع أبي عبيدة الأمين الذي إذا ظلم كظم وإذا أسيء إليه غفر وإذا قطع وصل رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين فلا تعصين له أمرا ولا تخالفن له رأيا فإنه لن يأمرك إلا بخير وقد أمرته أن يسمع منك فلا تأمره إلا بتقوى الله فقد كنا نسمع أنك شريف بئيس مجرب وذلك في زمان الشرك والجاهلية الجهلاء فاجعل بأسك وشدتك ونجدتك اليوم في الإسلام على من كفر بالله وعبد غيره فقد جعل الله فيه الأجر العظيم والعز للمسلمين فقال إن بقيت ولقيت فسيبلغك من حيطتي على المسلم وجهدي على الكافر ما يسرك ويرضيك فقال أبو بكر رحمه الله فافعل ذلك
فلما بلغته مبارزته البطريقين بالجابية وقتله إياهما قال صدق قيس ووفى وبر
وعن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص قال لما مضت جنود أبي بكر إلى الشام بلغ ذلك هرقل ملك الروم وهو بفلسطين وقيل له قد أتتك العرب وجمعت لك جموعا عظيمة وهم يزعمون أن نبيهم الذي بعث إليهم أخبرهم أنهم يظهرون على أهل هذه البلاد وقد جاؤوك وهم لا يشكون أن هذا يكون
وجاؤوك بأبنائهم ونسائهم تصديقا لمقالة نبيهم يقولون لو دخلناها وافتتحناها نزلناها بأولادنا ونسائنا فقال هرقل ذلك أشد لشوكتهم إذا قاتل القوم على تصديق ويقين فما أشد على من كابدهم أن يزيلهم أو يصدهم

قال فجمع إليه أهل البلاد وأشراف الروم ومن كان على دينه من العرب فقال يا أهل هذا الدين إن الله قد كان إليكم محسنا وكان لدينكم هذا معزا وله ناصرا على الأمم الخالية وعلى كسرى والمجوس وعلى الترك الذين لا يعلمون وعلى من سواهم من الأمم كلها وذلك أنكم كنتم تعملون بكتاب ربكم وسنة نبيكم الذي كان أمره رشدا وفعله هدى فلما بدلتم وغيرتم أطمع ذلك فيكم قوما والله ما كنا نعبأ بهم ولا نخاف أن نبتلى بهم وقد ساروا إليكم حفاة عراة جياعا اضطرهم إلى بلادكم قحط المطر وجدوبة الأرض وسوء الحال فسيروا إليهم فقاتلوهم عن دينكم وعن بلادكم وعن أبنائكم ونسائكم وأنا شاخص عنكم وممدكم بالخيول والرجال وقد أمرت عليكم أمراء فاسمعوا لهم وأطيعوا ثم خرج حتى أتى دمشق فقام فيهم مثل هذا المقام وقال فيها مثل هذا المقال ثم خرج حتى أتى حمص ففعل مثل ذلك ثم أتى أنطاكية فأقام بها وبعث إلى الروم فحشدهم إليه فجاءه منهم ما لا يحصى عدده ونفر إليه مقاتلتهم وشبابهم وأتباعهم وأعظموا دخول العرب عليهم وخافوا أن يسلبوا ملكهم
وأقبل أبو عبيدة حتى مروا بوادي القرى ثم أخذ على الحجر أرض صالح النبي {صلى الله عليه وسلم} ثم على ذات المنار ثم على زبرا ثم ساروا إلى مؤب بعمان فخرج إليهم الروم فلم يلبثهم المسلمون أن هزموهم حتى دخلوا مدينتهم فحاصروهم فيها وصالح أهل مؤب عليها فكانت أول مدائن
الشام صالح أهلها ثم سار أبو عبيدة حتى إذا دنا من الجابية أتاه آت فخبره أن هرقل بأنطاكية وأنه قد جمع لكم من الجموع ما لم يجمعه أحد كان قبله من آبائه لأحد من الأمم قبلكم فكتب أبو عبيدة إلى أبي بكر رضي الله عنهما

بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله أبي بكر خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنا نسأل الله أن يعز الإسلام وأهله عزا مبينا وأن يفتح لهم فتحا يسيرا فإنه بلغني أن هرقل ملك الروم نزل قرية من قرى الشام تدعى بأنطاكية وأنه بعث إلى أهل مملكته فحشدهم إليه وأنهم نفروا إليه على الصعب والذلول وقد رأيت أن أعلمك ذلك فترى فيه رأيك والسلام عليك ورحمة الله تعالى
فكتب إليه أبو بكر
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من أمر هرقل ملك الروم فأما منزله بأنطاكية فهزيمة له ولأصحابه وفتح من الله عليك وعلى المسلمين وأما حشده أهل مملكته وجمعه لكم الجموع فإن ذلك ما قد كنا وكنتم تعلمون أنه سيكون منهم ما كان قوم ليدعوا سلطانهم ولا ليخرجوا من مملكتهم بغير قتال ولقد علمت والحمد لله أن قد غزاهم رجال كثير من المسلمين يحبون الموت حب عدوهم الحياة يحتسبون من الله في قتالهم الأجر العظيم ويحبون الجهاد في سبيل الله أشد من حبهم أبكار نسائهم وعقائل أموالهم الرجل منهم عند الهيج خير من ألف رجل من المشركين فالقهم بجندك ولا تستوحش لمن غاب عنك من المسلمين فإن الله تعالى ذكره معك وأنا مع ذلك ممدك بالرجال بعد الرجال حتى تكتفي ولا تريد أن تزداد والسلام عليك
وبعث بهذا الكتاب مع دارم العبسي
وكتب يزيد بن أبي سفيان إلى أبي بكر رحمه الله
أما بعد فإن هرقل ملك الروم لما بلغه مسيرنا إليه ألقى الله الرعب في قلبه فتحمل ونزل أنطاكية وخلف أمراء من جنده على جند الشام وأمرهم بقتالنا وقد تيسروا لنا واستعدوا وقد نبأنا مسالمة الشام أن هرقل استنفر أهل مملكته وأنهم جاءوا يجرون الشوك والشجر فمرنا بأمرك وعجل علينا في ذلك برأيك نتبعه نسأل الله النصر والصبر والفتح وعافية المسلمين والسلام عليك

وبعث بهذا الكتاب مع عبد الله بن قرط الثمالي فقال له أبو بكر لما قدم عليه أخبرني خبر الناس قال المسلمون بخير قد دخلوا أدني أرض الشام ورعب أهلها منهم وذكر لنا أن الروم قد جمعت لنا جموعا عظاما ولم نلق عدونا بعد ونحن في كل يوم نتوكف لقاء العدو أو نتوقعه وإن لم تأتنا جيوش من قبل هرقل فليست الشام بشيء فقال له أبو بكر رحمه الله صدقتني الخبر فقال ومالي لا أصدقك ويحل لي الكذب ويصلح لمثلي أن يكذب مثلك ولو كذبت في هذا لم أخن إلا أمانتي وأخن ربي وأخن المسلمين قال أبو بكر معاذ الله لست من أولئك وكتب حينئذ معه بهذا الكتاب
أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه تحول ملك الروم إلى أنطاكية وإلقاء الله الرعب في قلبه من جموع المسلمين فإن الله تبارك وتعالى وله الحمد قد نصرنا ونحن مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالرعب وأيدنا بملائكته الكرام وإن ذلك الدين الذي نصرنا الله فيه بالرعب هو هذا الدين الذي ندعو الناس إليه اليوم فوربك لا يجعل الله المسلمين كالمجرمين ولا من يشهد أنه لا إله غيره كمن يعبد معه آلهة أخرى ويدين بعبادة آلهه شتى فإذا لقيتهم فانبذ إليهم بمن معك وقاتلهم فإن الله لن يخذلك وقد نبأنا الله أن الفئة القليلة منا تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله وأنا مع ما هنالك ممدكم بالرجال في أثر الرجال حتى تكتفوا ولا تحتاجوا إلى زيادة إنسان إن شاء الله والسلام
ولما رد أبو بكر رضي الله عنه عبد الله بن قرط بهذا الكتاب إلى يزيد قال له أخبره والمسلمين أن مدد المسلمين آتيهم مع هاشم بن عتبة وسعيد بن عامر بن حذيم
فخرج عبد الله بكتابه حتى قدم به على يزيد وقرأه على المسلمين فتباشروا به وفرحوا

ثم إن أبا بكر رضي الله عنه دعا هاشم بن عتبة وسعيد فقال له يا هاشم إن من سعادة جدك ووفاء حظك أنك أصبحت ممن تستعين به الأمة على جهاد عدوها من المشركين وممن يثق الوالي بنصيحته وصحته وعفافه وبأسه وقد بعث إلى المسلمون يستنصرون على عدوهم من الكفار فسر إليهم فيمن يتبعك فإني نادب الناس معك فاخرج حتى تقدم على أبي عبيدة
ثم قام أبو بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أما بعد فإن إخوانكم من المسلمين معافون مكلوؤون مدفوع عنهم مصنوع لهم قد ألقى الله جل ثناؤه الرعب منهم في قلوب عدوهم فقد استعصموا بحصونهم وأغلقوا أبوابها دونهم وقد جاءتني رسلهم يخبرونني بهرب هرقل ملك الروم من بين أيديهم حتى نزل قرية من أقصى قرى الشام وأنه وجه إليهم جندا من مكانه ذلك فرأيت أن أمد إخوانكم بجند منكم يشد الله بهم ظهورهم ويكبت به عدوهم ويلقي به الرعب في قلوبهم فانتدبوا رحمكم الله مع هاشم بن عتبة بن أبي وقاص واحتسبوا في ذلك الأجر والخير فإنكم إن نصرتم فهو الفتح والغنيمة وإن هلكتم فهي الشهادة والكرامة
ثم انصرف إلى منزله ومال الناس على هاشم حتى كثروا عليه فلما تموا ألفا أمره أبو بكر رحمه الله أن يسير فسلم عليه وودعه وقال له أبو بكر يا هاشم إنما كنا ننتفع من الشيخ الكبير برأيه ومشورته وحسن تدبيره وكنا ننتفع من الشاب بصبره وبأسه ونجدته وإن الله تعالى قد جمع لك تلك الخصال كلها وأنت حديث السن مستقبل الخير فإذا لقيت عدوك فاصبر
وصابر واعلم أنك لا تخطو خطوة ولا تنفق نفقة ولا يصيبك ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله إلا كتب الله لك بذلك عملا صالحا إن الله لا يضيع أجر المحسنين فقال إن يرد الله بي خيرا يجعلني كذلك وأنا أفعل ولا قوة إلا بالله أما أنا فأرجو إن لم أقتل ان اقتل ثم اقتل ثم أقتل

فقال له عمه سعد بن أبي وقاص يا ابن أخي لا تطعنن طعنة ولا تضربن ضربة إلا وأنت تريد بها وجه الله واعلم أنك خارج من الدنيا وشيكا وراجع إلى الله قريبا ولن يصحبك من الدنيا إلى الآخرة إلا قدم صدق قدمته وعمل صالح أسفلته
فقال يا عم لا تخافن هذه مني إني إذا لمن الخاسرين إن جعلت حلي وارتحالي وغدوي ورواحي وسعيي وإجلابي وطعني برمحي وضربي بسيفي رياء للناس
ثم خرج من عند أبي بكر رضي الله عنه فلزم طريق أبي عبيدة حتى قدم عليه فسر المسلمون بقدومه وتباشروا به
وبلغ سعيد بن عامر بن حذيم أن أبا بكر يريد أن يبعثه فلما أبطأ ذلك عليه ومكث أياما لا يذكر له ذلك أتاه فقال يا أبا بكر والله لقد بلغني أنك كنت أردت أن تبعثني في هذا الوجه ثم رأيتك قد سكت فما أدري ما بدا لك في فإن كنت تريد أن تبعث غيري فابعثني معه فما أرضاني بذلك وإن كنت لا تريد أن تبعث أحدا فإني راغب في الجهاد فأذن لي يرحمك الله كيما ألحق بالمسلمين فقد ذكر لي أن الروم جمعت لهم جمعا عظيما فقال أبو بكر رحمك أرحم الراحمين يا سعيد بن عامر فإنك ما علمت من المتواضعين المتواصلين المخبتين المتهجدين بالأسحار الذاكرين الله كثيرا فقال له سعيد رحمك الله نعم الله على أفضل وله الطول والمن وأنت والله ما علمت صدوع بالحق قوام بالقسط رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين تحكم بالعدل ولا تستأثر في القسم فقال له حسبك يا سعيد حسبك اخرج

رحمك الله فتجهز فإني مسرح إلى المسلمين جيشا وأؤمرك عليهم فأمر بلالا فنادى في الناس أن انتدبوا أيها المسلمون مع سعيد بن عامر إلى الشام فانتدب معه سبعمائة رجل في أيام فلما أراد سعيد الشخوص جاء بلال فقال يا خليفة رسول الله إن كنت إنما أعتقتني لله تعالى لأملك نفسي وأصطرف فيما ينفعني فخل سبيلي حتى أجاهد في سبيل ربي فإن الجهاد إلى أحب من المقام قال أبو بكر فإن الله يشهد أني لم أعتقك إلا له وأني لا أريد منك جزاء ولا شكورا فهذه الأرض ذات العرض فاسلك أي فجاجها أحببت فقال كأنك أيها الصديق عتبت علي في مقالتي ووجدت في نفسك منها قال لا والله ما وجدت في نفسي من ذلك وإني لأحب أن لا تدع هواك لهواي ما دعاك هواك إلى طاعة ربك قال فإن شئت أقمت معك قال أما إذا كان هواك الجهاد فلم أكن لآمرك بالمقام وإنما أردتك للأذان ولأجدن لفراقك وحشة يا بلال ولا بد من التفرق فرقة لا التقاء بعدها حتى يوم البعث فاعمل صالحا يا بلال وليكن زادك من الدنيا ما يذكرك الله به ما حييت ويحسن لك به الثواب إذا توفيت فقال له بلال جزاك الله من ولي نعمة وأخ في الإسلام خيرا فوالله ما أمرك لنا بالصبر على الحق والمداومة على العمل بالطاعة ببدع وما كنت لأؤذن لأحد بعد النبي {صلى الله عليه وسلم} ثم خرج بلال مع سعيد بن عامر

وجاء سعيد على راحلته حتى وقف على أبي بكر والمسلمين فقال له إنا نؤم هذا الوجه فجعله الله وجه بركة اللهم فإن قضيت لنا التقاء فاجمعنا على طاعتك وإن قضيت لنا الفرقة فإلى رحمتك والسلام عليكم ثم ولى يذهب فقال أبو بكر عباد الله ادعوا الله كيما يصحب صاحبكم ويسلمه ارفعوا أيديكم رحمكم الله فرفع القوم أيديهم إلى ربهم وهم أكثر من خمسين رجلا فقال علي رضي الله عنه ما رفع عدتكم من المسلمين أيديهم إلى ربهم يسألونه شيئا إلا استجاب لهم ما لم يكن معصية أو قطيعة رحم فبلغه ذلك بعدما واقع أرض الشام وقاتل العدو فقال رحم الله إخواني ليتهم لم يكونوا دعوا لي قد كنت خرجت وإني على الشهادة لحريص جاهد فما هو إلا أن لقيت العدو
فعصمني الله من الهزيمة والفرار وذهب من نفسي ما كنت أعرف من حب الشهادة فلما خبرت أن أخواني دعوا لي بالسلامة عرفت أنهم استجيب لهم
وكان أبو بكر أمره أن يلحق بيزيد بن أبي سفيان فسار حتى لحق به وشهد معه وقعة العربة والداثنة

وعن حمزة بن مالك الهمذاني أنه قدم في جمع عظيم من همذان على أبي بكر رحمه الله قال فقدموا وهم ألفا رجل أو أكثر فلما رأى أبو بكر عددهم وعدتهم سره ذلك فقال الحمد لله على صنيعه للمسلمين ما يزال الله تعالى يرتاج لهم بمدد من أنفسهم يشد به ظهورهم ويقصم به عدوهم قال ثم إن أبا بكر أمرنا فعسكرنا بالمدينة وكنت أختلف إلى أبي بكر غدوة وعشية وعنده رجال من المهاجرين والأنصار فكان يلطفني ويدني مجلسي ويقول لي تعلم القرآن وأسبغ الوضوء وأحسن الركوع والسجود وصل الصلاة لوقتها وأد الزكاة في حينها وانصح المسلم وفارق المشرك واحضر البأس يوم البأس فقلت والله لأجهدن أن لا أدع شيئا مما أمرتني به إلا عملته إني لأعلم أنك قد اجتهدت لي في النصيحة وأبلغت في الموعظة ثم إنه خرج إلى عسكرنا وأمرنا أن نتيسر ونتجهز ونشتري حوائجنا ثم نعجل على أصحابنا فتحثحثنا لذلك وعجلنا بالجهاز فلما فرغنا وعلم ذلك بعث إلي فقال يا أخا همذان إنك شريف بئيس ذو عشيرة فأحضرهم البأس ولا تؤذ بهم الناس
قال وكان معي رجال من أهل القرى من همذان فيهم جهل وجفاء وكانوا قد تأذى منهم أهل المدينة فشكوا ذلك إلى أبي بكر فقال أبو بكر نشدتك الله أمرأ مسلما سمع نشدي لما كف عن هؤلاء القوم ومن رأى عليه حقا فليحتمل ذرب ألسنتهم أو عجلة يكرهها منهم ما لم يبلغ ذلك الحد إن الله تعالى مهلك بهؤلاء وأشباههم غدا جموع هرقل والروم وإنما هم إخوانكم فلو أن أخا أحدكم في دينه عجل عليه في شيء ألم يكن أصوب في الرأي وخيرا في المعاد أن يحتمل له قال المسلمون بلى قال فهم إخوانكم في

الدين وأنصاركم على الأعداء ولهم عليكم حق فاحتملوا لهم ذلك ثم نظر إلي فقال ارتحل ما تنتظر فارتحلت وقد قلت له قبل أن نرتحل علي أمير دونك قال نعم هناك ثلاثة أمراء قد أمرناهم فأيهم شئت فكن معه فلما لحقت بالمسلمين سألتهم أي الأمراء أفضل وأيهم كان أفضل عند النبي {صلى الله عليه وسلم} صحبة فقيل أبو عبيدة بن الجراح فقلت في نفسي والله لا أعدل بهذا أحدا فجئت حتى أتيت أبا عبيدة ثم قصصت عليه قصة مخرجي ومقدمي على أبي بكر وما كان من أمري وأمر أصحابي بالمدينة وبمقدمي عليه واختياري له فقال بارك الله لك في إسلامك وجهادك وقدومك علينا وبارك لنا فيك وفيمن قدمت به علينا من المسلمين
وقال عمرو بن محصن لم يكن أبو بكر رحمه الله يسأم توجيه الجنود إلى الشام وإمداد الأمراء الذين بعث إليها بالرجال بعد الرجال إرادة إعزاز أهل الإسلام وإذلال أهل الشرك
وعن أبي سعيد المقبري قال لما بلغ أبا بكر رحمه الله جمع الأعاجم لم يكن شيء أعجب إليه من قدوم المجاهدين عليه من أرض العرب فكانوا كلما قدموا عليه سرح الأول فالأول فقدم عليه فيمن قدم أبو الأعور السلمي فدخل عليه فقال إنا جئناك من غير قحمة ولا عدم فإن شئت أقمنا معك مرابطين وإن شئت وجهتنا إلى عدوك المشركين فقال له أبو بكر لا بل تجاهدون الكافرين وتواسون المسلمين فبعثه فسار حتى قدم على أبي عبيدة
ثم قدم على أبي بكر رضي الله عنه معن بن يزيد بن الأخنس السلمي في رجال من بني سليم نحو من مائة فقال أبو بكر لو كان هؤلاء أكثر مما هم لأمضيناهم فقال له عمر والله لو كانوا عشرة لرأيت لك أن تمد بهم
إخوانهم أي والله وأرى أن تمدهم بالرجل الواحد إذا كان ذا جزاء وغناء
فقال حبيب بن مسلمة الفهري عندي نحو من عدتهم رجال من أبناء القبائل ذوو رغبة في الجهاد فأخرجنا وهؤلاء جميعا يا خليفة رسول الله ثم أبعثنا فقال له أما الآن فأخرج بهم جميعا حتى تقدم بهم على إخوانهم

فخرج فعسكر معهم ثم جمع أصحابه إليهم ثم مضى بهم حتى قدم على يزيد ابن أبي سفيان
قال واجتمعت رجال من كعب وأسلم وغفار ومزينة نحو من مائتين فأتوا أبا بكر رضي الله عنه فقالوا ابعث علينا رجلا وسرحنا إلى إخواننا فبعث عليهم الضحاك بن قيس فسار حتى أتى يزيد فنزل معه
وعن سعيد بن يزيد بن عمرو بن نفيل قال لما رأى أهل مدائن الشام أن العرب قد جاشت عليهم من كل وجه وكثرة جموعهم بعثوا الرسل إلى ملكهم يعلمونه ذلك ويسألونه المدد فكتب إليهم إني قد عجبت لكم حين تستمدونني وحين تكثرون علي عدة من جاءكم وأنا أعلم بكم وبمن جاءكم منهم ولأهل مدينة واحدة من مدائنكم أكثر ممن جاءكم منهم أضعافا فالقوهم فقاتلوهم ولا تحسبوا أني كتبت إليكم بهذا وأنا لا أريد أن أمدكم لأبعثن إليكم من الجنود ما تضيق به الأرض الفضاء
وكانت مدائن أهل الشام من الروم قد أرسلوا إلى كل من كان على دينهم من العرب فأطمعهم أكثرهم في النصر ومنهم من حمى للعرب فكان ظهور العرب أحب إليه وذلك من لم يكن في دينه راسخا منهم وبلغ خبرهم وتراسلهم أبا عبيدة بن الجراح فكتب إلى أبي بكر رضي الله عنهما
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فالحمد لله الذي أعزنا بالإسلام وكرمنا بالإيمان وهدانا لما اختلف فيه المختلفون من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء
إلى صراط مستقيم وإن عيوني من أنباط الشام نبئوني أن أول أمداد ملك الروم قد وقعوا إليه وأن أهل مدائن الشام بعثوا رسلهم إليه يستمدونه وإنه كتب إليهم أن أهل مدينة من مدائنكم أكثر ممن قدم عليكم من عدوكم فانهضوا إليهم فقاتلوهم فإن مددي من ورائكم فهذا ما بلغنا عنهم وأنفس المسلمين طيبة بقتالهم وقد خبرنا أنهم تسيروا لقتالنا فأنزل الله على المسلمين نصره وعلى عدوهم رجزه إنه بما يعملون عليم والسلام

قال فجمع أبو بكر رحمه الله أشراف قريش من المهاجرين وغيرهم من أهل مكة ثم دعا بأشراف الأنصار وذوي السابقة منهم فقال عمر لأي شيء دعوت بهؤلاء فقال لأستشيرهم في هذا الأمر الذي كتب إلينا فيه أبو عبيدة قال له أما المهاجرون والأنصار فأهل الإستنصاح والمشورة وأما رجال أهل مكة الذين كنا نقاتلهم لتكون كلمة الله هي العليا ويقاتلوننا ليطفئوا نور الله بأفواههم جاهدين على قتالنا أن قلنا ليس مع الله آلهة قالوا مع الله آلهة أخرى فلما أعز الله دعوتنا وصدق أحدوثتنا ونصرنا عليهم أردنا أن نقدمهم في الأمور ونستشيرهم فيها ونستنصحهم وندنيهم دون من هو خير منهم ما أنصفنا إذا نصحاءنا الذين كانوا يقاتلونهم في الله حين نقدمهم دونهم ولا نراهم وضعهم عندنا إذا جهادهم إيانا وجهدهم علينا لا والله لا نفعل ذلك أبدا فقال أبو بكر رضي الله عنه قد كنت أردت إدناءهم وإنزالهم منا بالمنازل التي كانوا بها في قومهم من الشرف فأما الآن حيث ذكرت ما ذكرت فو الله ما أرى الرأي في هذا إلا رأيك فبلغ ذلك أشراف قريش أولئك فشق عليهم
وقال الحارث بن هشام إن عمر في شدته علينا قبل أن هدانا الله للإسلام مصيبا فأما الآن حيث هدانا الله فلا نراه في شدته علينا إلا قاطعا
ثم خرج هو وسهيل بن عمرو مع عكرمة بن أبي جهل في رجال من أشراف قريش حتى أتوا أبا بكر رحمه الله وعنده عمر فقال الحارث يا عمر إنك قد كنت في شدتك علينا قبل الإسلام مصيبا فأما الآن وقد هدانا الله لدينه فما

نراك إلا قاطعا ثم جثا سهيل بن عمرو على ركبتيه وقال إياك يا عمر نخاطب وعليك نعتبء فأما خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فبريء عندنا من الضغن والحقد والقطيعة ألسنا أخوانكم في الإسلام وبني أبيكم في النسب أفإنكم إن كان الله قدم لكم في هذا الأمر قدما صالحا لم نؤت مثله قاطعون قرابتنا ومستهينون بحقنا ثم قال لهم عكرمة أما إنكم وإن كنتم تجدون في عداوتنا قبل اليوم مقالا فلستم اليوم بأشد على من ترك هذا الدين ولا أعدى منا
فقال لهم عمر رضي الله عن جميعهم والله ما قلت الذي بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم بالإسلام وتحريا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم
قال سهيل فإن كنتم إنما فضلتمونا بالجهاد في سبيل الله فو الله لنستكثرن منه أشهدكم أني حبيس في سبيل الله
وقال الحارث بن هشام وأنا أشهد أني حبيس في سبيل الله والله لأنفقن مكان كل نفقة على حرب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نفقتين في سبيل الله ولأنفقن مكان كل موقف وقفته على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} موقفين على أعداء الله وقال عكرمة وأنا أشهدكم أني حبيس في سبيل الله
فقال أبو بكر رضي الله عنه اللهم أبلغ بهم أفضل ما يأملون واجزهم بأحسن ما يعملون فقد أصبتم فيما صنعتم فأرشدكم الله
فلما خرجوا من عنده أقبل سهيل على أصحابه وكان شريفا عاقلا فقال لهم لا تجزعوا مما ترون فإنهم دعوا ودعينا فأجابوا وأبطأنا ولو ترون فضائل من سبقكم إلى الإسلام عند الله عليكم ما نفعكم عيش وما من أعمال الله عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله فانطلقوا حتى تكونوا بين المسلمين وبين عدوهم فتجاهدوهم دونهم حتى تموتوا فلعلنا أن نبلغ فضل المجاهدين فخرجوا حينئذ إلى جهاد الروم
قال فبلغني أنهم ماتوا مقترنين بين المسلمين وبين الروم رضي الله عنهم

ثم دعا أبو بكر عمرو بن العاص فقال يا عمرو هؤلاء أشراف قومك يخرجون مجاهدين فاخرج فعسكر حتى أندب الناس معك فقال يا خليفة رسول الله ألست أنا الوالي على الناس قال نعم أنت الوالي على من أبعثه معك من هاهنا قال لا بل وال على من أقدم عليه من المسلمين قال لا ولكنك أحد الأمراء فإن جمعتكم حرب فأبو عبيدة أميركم فسكت عنه ثم خرج فعسكر واجتمع إليه ناس كثير وكان معه أشراف قريش أولئك فلما حضر خروجه جاء إلى عمر فقال يا أبا حفص إنك قد عرفت بصري بالحرب وتيمن نقيبتي في الغزو وقد رأيت منزلتي عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وقد علمت أن أبا بكر ليس يعصيك فأشر عليه أن يوليني أمر هذه الجنود التي بالشام فإني أرجو أن يفتح الله على يدي هذه البلاد وأن يريكم والمسلمين من ذلك ما تسرون به فقال له عمر لا أكذبك ما كنت لأكلمه في ذلك لأنه لا يوافقني أن يبعثك على أبي عبيدة وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك قال فأنه لا ينقص أبا عبيدة شيئا من فضله أن ألي عليه فقال له ويحك يا عمرو إنك والله ما تطلب بهذه الرياسة إلا شرف الدنيا فاتق الله ولا تطلب بشيء من سعيك إلا وجه الله واخرج في هذا الجيش فإنك إن يكن عليك أمير في هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرا ليس فوقك أحد فقال قد رضيت
فخرج واستتب له المسير فلما أراد الشخوص خرج معه أبو بكر يشيعه وقال يا عمرو إنك ذو رأي وتجربة للأمور وبصر بالحرب وقد خرجت في أشراف قومك ورجال من صلحاء المسلمين وأنت قادم على إخوانك فلا تألوهم نصيحة ولا تدخر عنهم صالح مشورة فرب رأي لك محمود في الحرب مبارك في عواقب الأمور فقال له عمرو ما أخلق أن أصدق ظنك ولأفنك رأيك ثم ودعه وانصرف عنه فقدم الشام فعظم غناؤه وبلاؤه عند المسلمين
وكتب أبو بكر رحمه الله إلى أبي عبيدة
أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه تيسر عدوكم لمواقعتكم وما كتب به

إليهم ملكهم من عدته إياهم أن يمدهم من الجنود بما تضيق به الأرض الفضاء ولعمر الله لقد أصبحت الأرض ضيقة عليه برحبها وأيم الله ما أنا بيائس أن تزيلوه من مكانه الذي هو به عاجلا إن شاء الله تعالى فبث خيلك في القرى والسواد وضيق عليهم بقطع الميرة ولا تحاصر المدائن حتى يأتيك أمري فإن ناهدوك فانهض إليهم واستعن بالله عليهم فإنه ليس يأتيهم مدد إلا أمددناكم بمثلهم أو ضعفهم وليس بكم والحمد لله قلة ولا ذلة ولأعرفن ما جبنتم عنهم فإن الله فاتح لكم ومظهركم على عدوكم ومعزكم بالنصر وملتمس منكم الشكر لينظر كيف تعملون وعمرو فأوصيك به خيرا فقد أوصيته أن لا يضيع لك حقا والسلام عليك
وجاء عمرو بالناس حتى نزل بأبي عبيدة وكان عمرو في مسيرة ذلك إلى الشام فيما حدث به عمرو بن شعيب يستنفر من مر بهم من الأعراب قال فتبعه منهم ناس كثير فلما اجتمعوا هم ومن كان قدم بهم معه من المدينة كانوا نحوا من ألفين فلما قدم بهم على أبي عبيدة سر بهم هو والناس الذين معه واستأنس بهم وكان عمرو ذا رأي في الحرب وبصر بالأشياء فقال له أبو عبيدة أبا عبد الله رب يوم شهدته فبورك للمسلمين فيه برأيك ومحضرك إنما أنا رجل منكم لست وإن كنت الوالي عليكم بقاطع أمرا دونكم فأحضرني رأيك في كل يوم بما ترى فإنه ليس بي عنكم غنى فقال له أفعل والله يوفقك لما يصلح المسلمين
وقال سهل بن سعد ما زال أبو بكر رحمه الله تعالى يبعث الأمراء إلى الشام أميرا أميرا ويبعث القبائل قبيلة قبيلة حتى ظن أنهم قد اكتفوا وأنهم لا يريدون أن يزدادوا رجلا
وذكر أبو جعفر الطبري عن محمد بن إسحاق أن تجهيز أبي بكر الجيوش إلى الشام كان بعد قفوله من الحج سنة اثنتي عشرة وأنه حينئذ بعث
عمرو بن العاص قبل فلسطين
وذكر في تولية أبي بكر خالد بن سعيد بن العاص جند الشام وتأخيره عن ذلك قبل نفوذه نحوا مما تقدم
وذكر أيضا من طريق آخر أن توليته إياه إنما كان على ربع من ذلك الجند

وقيل إن أبا بكر رضي الله عنه جعله ردءا بتيماء وأمره أن لا يبرحها وأن يدعو من حوله بالانضمام إليه وأن لا يقبل إلا ممن لم يرتد ولا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره فأقام فاجتمعت إليه جموع كثيرة وبلغ الروم عظم ذلك العسكر فضربوا على العرب الضاحية بالشام البعوث إليهم فكتب خالد بن سعيد بذلك إلى أبي بكر فكتب إليه أبو بكر رضي الله عنه أن أقدم ولا تحجم واستنصر الله فسار إليهم خالد فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم فنزله ودخل من كان تجمع له في الإسلام وكتب بذلك إلى أبي بكر فكتب إليه أبو بكر رضي الله عنه أقدم ولا تقتحمن حتى لا تؤتي من خلفك فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به من طرف الرمل فسارإليه بطريق من بطارقة الروم يدعى باهان فهزمه وفل جنده وكتب بذلك إلى أبي بكر واستمده وقد قدم على أبي بكر أوائل مستنفري اليمن ومن بين مكة واليمن فساروا فقدموا على خالد بن سعيد وعند ذلك اهتاج أبو بكر للشام وعناه أمره
وقد كان أبو بكر رد عمرو بن العاص على عمالته التي كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولاه إياها من صدقات سعد وعذره وما كان معها قبل ذهابه إلى عمان فخرج إلى عمان من عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو على عدة من عمله إذا هو رجع فأنجز له
ذلك أبو بكر ثم كتب إليه أبو بكر عند اهتياجه للشام إني كنت قد رددتك على العمل الذي كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ولاكه مرة وسماه لك أخرى إذ بعثك إلى عمان إنجازا لموعد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقد وليته ثم وليته وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك فكتب إليه عمرو إني سهم من سهام الإسلام وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها فانظر أسرها وأحسنها وأفضلها فارم به شيئا إن جاءك من ناحية من النواحي
وكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى الوليد بن عقبة بنحو ذلك فأجابه بإيثار الجهاد

وعن أبي أمامة الباهلي قال كنت ممن سرح أبو بكر رضي الله عنه مع أبي عبيدة وأوصاني به وأوصاه بي فكانت أول وقعة بالشام يوم العربة ثم يوم الداثنة وليسا من الأيام العظام خرج ستة قواد من الروم مع كل قائد خمسمائة فكانوا ثلاثة آلاف فأقبلوا حتى أنتهوا إلى العربة فبعث يزيد بن أبي سفيان إلى أبي عبيدة يعلمه فبعثني إليه في خمسمائة فلما أتيته بعث معي رجلا في خمسمائة فلما رأيناهم يعني الروم وقوادهم أولئك حملنا عليهم فهزمناهم وقتلنا قائدا من قوادهم ثم مضوا وأتبعناهم فجمعوا لنا بالداثنة فسرنا إليهم فقدمني يزيد وصاحبي في عدتنا فهزمناهم فعند ذلك فزعوا واجتمعوا وأمدهم ملكهم
وذكر ابن إسحاق عن صالح بن كيسان أن عمرو بن العاص خرج حتى نزل بعمر العربات ونزلت الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين في سبعين ألفا عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه فكتب عمرو إلى أبي بكر يستمده وخرج خالد
ابن سعيد بن العاص وهو بمرج الصفر من أرض الشام في يوم مطير يستمطر فيه فتعادى عليه أعلاج الروم فقتلوه وقيل أتاهم أذريجا في أربعة آلاف وهم غازون فاستشهد خالد بن سعيد وعدة من المسلمين
قال أبو جعفر الطبري قيل إن المقتول في هذه الغزوة ابن لخالد بن سعيد وأن خالدا انحاز حين قتل ابنه

وذكر سيف أن الوليد بن عقبة لما قدم على خالد بن سعيد فسانده وقدمت جنود المسلمين الذين كان أبو بكر أمده بهم وبلغه عن الأمراء يعني أمراء المسلمين الذين أمدهم ابو بكر وتوجههم إليه اقتحم على الروم طلب الحظوة وأعرى ظهره وبادر الأمراء لقتال الروم واستطرد له باهان فأرز هو ومن معه إلى دمشق واقتحم خالد في الجيش ومعه ذو الكلاع وعكرمة والوليد حتى ينزل المرج مرج الصفر ما بين الواقوصة ودمشق فانطوت مسالح باهان عليه وأخذوا عليه الطرق ولا يشعر وزحف له باهان فوجد ابنه سعيد بن خالد يستمطر في الناس فقتلوهم وأتى الخبر خالدا فخرج هاربا في جريدة خيل ولم ينته بخالد الهزيمة عن ذي المروة وأقام عكرمة في الناس ردءا لهم فرد عنهم باهان وجنوده أن يطلبوهم وأقام من الشام على قريب
وذكر ابن إسحاق مسير الأمراء ومنازلهم وأن يزيد بن أبي سفيان نزل البلقاء ونزل شرحبيل بن حسنة الأردن ويقال بصرى ونزل أبو عبيدة الجابية
وعن غير ابن إسحاق أنه لما نزل أبو عبيدة بالجابية كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه منها
أما بعد فإن الروم وأهل البلد ومن كان على دينهم من العرب قد أجمعوا
على حرب المسمين ونحن نرجو النصر وانجاز موعود الرب تبارك وتعالى وعادته الحسنى وأحببت إعلامك ذلك لترينا رأيك
فقال أبو بكر رحمه الله والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد وكان خالد إذ ذاك يلي حرب العراق فكتب إليه أبو بكر
أما بعد فدع العراق وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه وامض متخفيا في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا معك العراق من اليمامة وصحبوك في الطريق وقدموا عليك من الحجاز حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة ومن معه من المسلمين فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام

ويروى أنه كان فيما كتب إليه به أن سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجوا وأشجوا وإياك أن تعود لمثل ما فعلت فإنه لم يشج الجموع بعون الله سبحانه أحد من الناس إشجاءك ولم ينزع الشجاء أحد من الناس نزعك فلتهنئك أبا سليمان النعمة والحظوة فأتمم يتمم الله لك ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل وإياك أن تدل بعمل فإن الله تعالى له المن وهو ولي الجزاء
ووافى خالدا كتاب أبي بكر هذا وهو بالحيرة منصرفا من حجة حجها مكتتما بها وذلك أنه لما فرغ من إيقاعه بالروم ومن انضوى إليهم مغيثا لهم من مسالح فارس بالفراض والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة أقام بالفراض عشرا ثم أذن بالقفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم وأظهر خالد أنه في الساقة
وخرج من الحيرة ومعه عدة من أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة
بالسمت فتأتى له من ذلك ما لم يتأت لدليل ولا رئبال فسار طريقا من طرق الجزيرة لم ير طريقا أعجب منه فكانت غيبته عن الجند يسيرة ما توافى إلى الحيرة آخرهم حتى وافاهم مع صاحب الساقة الذي وضعه وقدما معا وخالد وأصحابه محلقون ولم يعلم بحجة إلا من أفضى إليه بذلك من الساقة ولم يعلم أبو بكر رحمه الله بذلك إلا بعد فهو الذي يعنيه بما تقدم في كتابه إليه من معاتبته إياه
وقدم على خالد بالكتاب عبد الرحمن بن حنبل الجمحي فقال له خالد قبل أن يقرأ كتابه ما وراءك فقال خير تسير إلى الشام فشق عليه ذلك وقال هذا عمل عمر نفس علي أن يفتح الله علي العراق
وكانت الفرس قد هابوه هيبة شديدة وكان خالد إذا نزل بقوم من المشركين عذابا من عذاب الله عليهم وليثا من الليوث

فلما قرأ كتاب أبي بكر ورأى أنه قد ولاه على أبي عبيدة وعلى الشام كأن ذلك سخا بنفسه وقال أما إذ ولاني فإن في الشام من العراق خلفا فقام إليه النسير ابن ديسم العجلي وكان من أشراف بني عجل وفرسان بكر بن وائل ومن رؤوس أصحاب المثنى بن حارثة فقال لخالد أصلحك الله والله ما جعل الله في الشام من العراق خلفا للعراق أكثر حنطة وشعيرا وديباجا وحريرا وفضة وذهبا وأوسع سعة وأعرض عرضا والله ما الشام كله إلا كجانب من العراق فكره المثنى مشورته عليه وكان يحب أن يخرج عن العراق ويخليه وإياها
فقال خالد إن بالشام أهل الإسلام وقد تهيأت لهم الروم وتيسرت فإنما أنا مغيث وليس لهم مترك فكونوا أنتم هاهنا عل حالكم التي كنتم عليها فإن
نفرغ مما أشخصنا إليه عاجلا عجلنا إليكم وإن أبطأت رجوت أن لا تعجزوا ولا تهنوا وليس خليفة رسول الله بتارك أمدادكم بالرجال حتى يفتح الله عليكم هذه البلاد إن شاء الله تعالى
ويروى أن أبا بكر أمر خالدا بالخروج في شطر الناس وأن يخلف على الشطر الثاني المثنى بن حارثة وقال له لا تأخذ مجدا إلا خلفت لهم مجدا فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق وأنت معهم ثم أنت على عملك

وأحصى خالد أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فاستأثرهم على المثنى وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء ممن لم يكن له صحبة ثم نظر فيمن بقي فاختلج من كان قدم على النبي {صلى الله عليه وسلم} وافدا أو غير وافد وترك للمثنى أعدادهم من أهل الغناء ثم قسم الجند نصفين فقال المثنى والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة وإبقاء النصف أو بعض النصف فوالله ما أرجو النصر إلا بهم فأنى تعريني منهم فلما رأى ذلك خالد بعدما تلكأ عليه أعاضه منهم حتى رضي وكان فيمن أعاضه منهم فرات بن حيان العجلي وبشير ابن الخصاصية والحارث بن حسان الذهليان ومعبد بن أم معبد الأسلمي وبلال ابن الحارث المزني وعاصم بن عمرو التميمي حتى إذا رضي المثنى وأخذ حاجته انحدر خالد فمضى لوجهه وشيعه المثنى إلى قراقر فقال له خالد انصرف إلى سلطانك غير مقصر ولا ملوم ولا وان
وذكر الطبري أن خالدا رحمه الله لما أراد المسير إلى الشام دعا بالأدلة فارتحل من الحيرة سائرا إلى دومة ثم ظعن في البر إلى قراقر ثم قال كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين فكلهم قال لا نعرف إلا طريقا لا تحمل الجيوش فإياك أن تغرر بالمسلمين فعزم عليه ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيب شديد
فقام فيهم فقال لا يختلفن هديكم ولا تضعفن تعبئتكم واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية والأجر على قدر الحسبة وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث لشيء يقع فيه مع معونة الله له فقالوا له أنت رجل قد جمع الله لك الخير فشأنك فطابقوه ونووا واحتسبوا
وذكر غير الطبري أن خالدا حين أراد المسير إلى الشام قال له محرز بن حريش وكان يتجر بالحيرة ويسافر إلى الشام اجعل كوكب الصبح على حاجبك الأيمن ثم أمه حتى تصبح فإنك لا تجور فجرب ذلك فوجده كذلك

ثم أخذ في السماوة حتى انتهى إلى قراقر ففوز من قراقر إلى سوى وهما منزلان بينهما خمس ليال فلم يهتدوا للطريق فدل على رافع بن عميرة الطائي فقال خفف الأثقال واسلك هذه المفازة إن كنت فاعلا فكره خالد أن يخلف أحدا فقال قد أتاني أمر لا بد من إنفاذه وأن نكون جميعا قال فوالله إن الراكب المنفرد ليخافها على نفسه ما يسلكها إلا مغررا فكيف أنت بمن معك قال إنه لا بد من ذلك فقد أتتني عزيمة قال فمن استطاع منكم أن يصر أذن راحلته على ماء فليفعل فإنها المهالك إلا ما وقى الله ثم قال لخالد ابغني عشرين جزورا عظاما سمانا مسان فأتاه بهن فظمأهن حتى إذا أجهدهن عطشا سقاهن حتى أرواهن ثم قطع مشافرهن ثم كعمهن ثم قال لخالد سر بالخيول والأثقال فكلما نزل منزلا نحر من تلك الشرف أربعا فافتض ماءهن فسقاه الخيول وشرب الناس مما تزودوا حتى إذا كان آخر ذلك قال خالد لرافع ويحك ما عندك يا رافع فقال أدركك الرأي إن شاء الله انظروا هل تجدون شجرة هو شج على ظهر الطريق قالوا لا قال إنا لله إذا والله
هلكت وأهلكت لا أبا لكم انظروا فنظروا فوجدوها فكبروا وكبر وقال أحفروا في أصلها فاحتفروا فوجدوا عينا فشربوا وارتووا فقال رافع والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة مع أبي وأنا غلام
وقال راجز من المسلمين
لله در رافع أنى اهتدى
فوز من قراقر إلى سوى
أرضا إذا ما سارها الجيش بكى
ما سارها من قبله إنس أرى
لكن بأسباب متينات الهدى
نكبها الله بنيات الردى
الرجز
وعن عبد الله بن قرط الثمالي قال لما خرج خالد من عين التمر مقبلا إلى الشام كتب إلى المسلمين مع عمرو بن الطفيل بن عمرو الأزدي وهو ابن ذي النور
أما بعد فإن كتاب خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أتاني فأمرني بالمسير إليكم وقد شمرت وانكمشت وكأن قد أظلت عليكم خيلي ورجالي فأبشروا بإنجاز موعود الله وحسن ثواب الله عصمنا الله وإياكم باليقين وأثابنا أحسن ثواب المجاهدين والسلام عليكم
وكتب معه إلى أبي عبيدة

أما بعد فإني اسأل الله تعالى لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا من كل سوء وقد أتاني كتاب خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يأمرني بالمسير إلى الشام وبالقيام على جندها والتولي لأمرها والله ما طلبت ذلك قط ولا
أردته إذ وليته فأنت على حالتك التي كنت لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع أمرا دونك فإنك سيد المسلمين لا ننكر فضلك ولا نستغني عن رأيك تمم الله ما بنا وبك من إحسان ورحمنا وإياك من صلى النار والسلام عليك ورحمة الله
قال فلما قدم علينا عمرو بن الطفيل قرأ كتاب خالد على الناس وهم بالجابية ودفع إلى أبي عبيدة كتابه فقرأه فقال بارك الله لخليفة رسول الله فيما رأى وحيي الله خالدا
قال وشق على المسلمين أن ولى خالد على أبي عبيدة ولم أره على أحد أشد منه على بني سعيد بن العاص وإنما كانوا متطوعين حبسوا أنفسهم في سبيل الله حتى يظهر الله الإسلام
فأما أبو عبيدة فأنا لم نتبين في وجهه ولا في شيء من منطقه الكراهة لأمر خالد
وعن سهل بن سعد أن أبابكر كتب إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما
أما بعد فإني قد وليت خالدا قتال العدو بالشام فلا تخالفه واسمع له وأطع أمره فإني لم أبعثه عليك أن لا تكون عندي خيرا منه ولكني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك أراد الله بنا وبك خيرا والسلام
ثم أن خالدا خرج من عين التمر حتى أغار على بني تغلب والنمر بالبسر فقتلهم وهزمهم وأصاب من أموالهم طرفا
قال وأن رجلا منهم ليشرب من شراب له في جفنة وهو يقول
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر
لعل منايانا قريب وما ندري الطويل
فما هو إلا أن فرغ من قوله شد عليه رجل من المسلمين فضرب عنقه فإذا رأسه في الجفنة

وعن عدي بن حاتم قال غزونا يعني مع خالد على أهل المصيخ وإذا رجل من النمر يدعى حرقوص بن النعمان حوله بنوه وامرأته وبينهم جفنة من خمر وهم عليها عكوف يقولون له ومن يشرب هذه الساعة في أعجاز الليل فقال اشربوا شرب وداع فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها أبدا هذا خالد بالعين وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا
( ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر وقبل انتقاض القوم بالعسكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بالقدر لحين لعمري لا يزيد ولا يحري
الطويل
فسبق إليه وهو في ذلك بعض الخيل فضرب رأسه فإذا هو في جفنته فأخذنا بناته وقتلنا بنيه
وفي كتاب سيف قال ولما بلغ غسان خروج خالد على سوى وانتسافها وإغارته على مصيخ بهراء وانتسافها اجتمعوا بمرج راهط وبلغ ذلك خالدا وقد خلف ثغور الشام وجنودها مما يلي العراق فصار بينهم وبين اليرموك صمد لهم فخرج من سوى بعدما رجع إليها بسبي بهراء فنزل علمين على الطريق ثم نزل الكثيب حتى سار إلى دمشق ثم مرج الصفر فلقي عليه غسان
وعليهم الحارث بن الأيهم فانتسف عسكرهم ونزل بالمرج أياما وبعث إلى أبي بكر بالأخماس ثم خرج من المرج حتى نزل مياه بصري فكانت أول مدينة افتتحت بالشام على يدي خالد فيمن معه من جنود العراق وخرج منها فوافى المسلمين بالواقوصة
وعن غير سيف أن خالدا أغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبئ وخرج على أهل الغوطة حتى أغار عليهم فقتل ما شاء وغنم ثم إن العدو دخلوا دمشق فتحصنوا وأقبل أبو عبيدة وكان بالجابية مقيما حتى نزل معه بالغوطة فحاصر أهل دمشق
وعن قيس بن أبي حازم قال كان خرج مع خالد من بجيلة وعظمهم أحمس نحو من مائتي رجل ومن طيء نحو مائة وخمسين

قال وكان معنا المسيب بن نجية في نحو مائتي فارس من بني ذيبان وكان يعني خالدا في نحو من ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار فكان أصحابه الذين دخلوا معه الشام ثمانمائة وخمسين رجلا كلهم ذو نية وبصيرة لأنه كان يقحمهم أمورا يعلمون أنه لا يقوى على ذلك إلا كل قوي جلد فأقبل بنا حتى مر بأركة فأغار عليها وأخذ الأموال وتحصن منه أهلها فلم يبارحهم حتى صالحهم
قال ومر بتدمر فتحصنوا منه فأحاط بهم من كل جانب وأخذهم من كل مأخذ فلم يقدر عليهم فلما لم يطقهم ترحل عنهم وقال لهم حين أراد أن يرتحل فيما روى عن عبد الله بن قرط والله لو كنتم في السحاب لاستنزلناكم وظهرنا عليكم ما جئناكم إلا ونحن نعلم أنكم ستفتحون علينا وإن أنتم لم تصالحوا هذه المرة لأرجعن إليكم لو قد انصرفت من وجهي هذا ثم لا
أرحل عنكم حتى أقتل مقاتلتكم وأسبي ذراريكم
فلما فصل قال علماؤهم واجتمعوا إنا لا نرى هؤلاء القوم إلا الذين كنا نتحدث أنهم يظهرون علينا فافتحوا لهم
فبعثوا إلى خالد فجاء ففتحوا له وصالحوه
وعن سراقة بن عبد الأعلى بن سراقة أن خالدا في طريقه ذلك مر على حوران فهابوه فتحرز أكثرهم منه وأغار عليهم فاستاق الأموال وقتل الرجال وأقام عليهم أياما فبعثوا إلى ما حولهم ليمدوهم فأمدوهم من مكانين من بعلبك وهي أرض دمشق ومن قبل بصرى وبصرى مدينة حوران وهي من أرض دمشق أيضا
فلما رأى المددين قد أقبلا خرج فصف بالمسلمين ثم تجرد في مائتي فارس فحمل على مدد بعلبك وهم أكثر من ألفين فما وقفوا حتى انهزموا فدخلوا المدينة ثم انصرف يوجف في أصحابه وجيفا حتى إذا كان بحذاء بصرى وإنهم لأكثر من ألفين حمل عليهم فما ثبتوا له فواقا حتى هزمهم فدخلوا المدينة وخرج أهل المدينة فرموا المسلمين بالنشاب فانصرف عنهم خالد وأصحابه حتى إذا كان من الغد خرجوا إليه ليقاتلوه فعجزوا وأظهر الله عليهم المسلمين فصالحوهم

وقال عمرو بن محصن حدثني علج من أهل حوران كان يشجع قال والله لخرجنا إليهم بعدما جاءنا مدد أهل بعلبك وأهل بصرى بيوم فلخرجنا وإنا لأكثر من خالد وأصحابه بعشرة أضعافهم وأكثر فما هو إلا أن دنونا منهم فثاروا في وجوهنا بالسيوف كأنهم الأسد فانهزمنا أقبح الهزيمة وقتلونا شر المقتلة فما عدنا نخرج إليهم حتى صالحناهم ولقد رأيت رجلا منا كنا نعده
بألف رجل قال لئن رأيت أميرهم لأقتلنه فلما رأى خالدا قيل له هذا خالد أمير القوم فحمل عليه وإنا لنرجو لبأسه أن يقتله فما هو إلا أن دنا منه فضرب خالد فرسه فقدمه عليه ثم استعرض وجهه بالسيف فأطار قحف رأسه ودخلنا مدينتنا فما كان لنا هم إلا الصلح حتى صالحناهم
وعن قيس بن أبي حازم قال كنت مع خالد حين مر بالشام فأقبل حتى نزل بقناة بصرى من أرض حوران وهي مدينتها فلما نزلنا واطمأننا خرج إلينا الدرنجار في خمسة آلاف فارس من الروم فأقبل إلينا وما يظن هو وأصحابه إلا أنا في أكفهم فخرج خالد فصفنا ثم جعل على ميمنتنا رافع بن عميرة الطائي وعلى ميسرتنا ضرار بن الأزور وعلى الرجال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي وقسم خيله فجعل على شطرها المسيب بن نجية وعلى الشطر الآخر رجلا كان معه من بكر بن وائل ولم يسمه وأمرهما خالد حين قسم الخيل بينهما أن يرتفعا من فوق القوم عن يمين و شمال ثم ينضبا على القوم ففعلا ذلك وأمرنا خالد أن نزحف إلى القلب فزحفنا إليهم والله ما نحن إلا ثمانمائة وخمسون رجلا وأربعمائة رجل من مشجعة من قضاعة استقبلنا بهم يعبوب رجل منهم فكنا ألفا ومائتين ونيفا

قال وكنا نظن أن الكثير من المشركين والقليل عند خالد سواء لأنه كان لا يملأ صدره منهم شيء ولا يبالي بمن لقي منهم لجرأته عليهم فلما دنوا منا شدوا علينا شدتين فلم نبرح ثم إن خالدا نادى بصوت له جهوري شديد عال فقال يا أهل الإسلام الشدة الشدة احملوا رحمكم الله عليهم فإنكم إن قاتلتموهم محتسبين بذلك وجه الله فليس لهم أن يواقفوكم ساعة ثم أن خالدا شد عليهم فشددنا معه فوالله الذي لا إله إلا هو ما ثبتوا لنا فواقا حتى انهزموا
فقتلنا منهم في المعركة مقتلة عظيمة ثم أتبعناهم نكردهم ونصيب الطرف منهم ونقطعهم عن أصحابهم ثم نقتلهم فلم نزل كذلك حتى انتهينا إلى مدينة بصرى فأخرج لنا أهلها الأسواق واستقبلوا المسلمين بكل ما يحبون ثم سألوا الصلح فصالحناهم فخرج خالد من فوره ذلك فأغار على غسان في جانب من مرج راهط في يوم فصحهم فقتل وسبى
وعن أبي الخزرج الغساني قال كانت أمي في ذلك السبي فلما رأت هدى المسلمين وصلاحهم وصلاتهم وقع الإسلام في قلبها فأسلمت فطلبها أبي في السبي فعرفها فجاء المسلمين فقال يا أهل الإسلام إني رجل مسلم وهذه امرأتي قد أصبتموها فإن رأيتم أن تصلوني وتحفظوا حقي فتردوا علي أهلي فعلتم فقال لها المسلمون ما تقولين في زوجك قد جاء يطلبك وهو مسلم قالت إن كان مسلما رجعت إليه وإلا فلا حاجة لي فيه ولست براجعة إليه

وقعة أجنادين
ذكر سعيد بن الفضل وأبو إسماعيل وغيرهما أن خالد بن الوليد لما دخل الغوطة كان قد مر بثنية فخرعها ومعه راية له بيضاء تدعى العقاب فسميت بذلك تلك الثنية ثنية العقاب ثم نزل ديرا يقال له دير خالد لنزوله به وهو مما يلي باب الشرقي يعني من دمشق

وجاء أبو عبيدة من قبل الجابية حتى نزل باب الجابية ثم شنا الغارات في الغوطة وغيرها فبينما هما كذلك أتاهما أن وردان صاحب حمص قد جمع الجموع يريد أن يقتطع شرحبيل بن حسنة وهو ببصرى وأن جموعا من الروم قد نزلت أجنادين وأن أهل البلد ومن مروا به من نصارى العرب قد سارعوا إليهم فأتاهما خبر أفظعهما وهما مقيمان على عدو يقاتلانه فالتقيا فتشاورا في ذلك فقال أبو عبيدة أرى أن نسير حتى نقدم على شرحبيل قبل أن ينتهي إليه العدو الذي قد صمد صمدة فإذا اجتمعنا سرنا إليه حتى نلقاه فقال له خالد إن جمع الروم هنا بأجنادين وإن نحن سرنا إلى شرحبيل تبعنا هؤلاء من قريب ولكن أرى أن نصمد صمد عظمهم وأن نبعث إلى شرحبيل فنحذره مسير العدو إليه ونأمره فيوافينا بأجنادين ونبعث إلى يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص فيوافيانا بأجنادين ثم نناهض عدونا فقال له أبو عبيدة هذا رأي حسن فأمضه على بركة الله
وكان خالد مبارك الولاية ميمون النقيبة مجربا بصيرا بالحرب مظفرا
فلما أراد الشخوص من أرض دمشق إلى الروم الذين اجتمعوا بأجنادين كتب نسخة واحدة إلى الأمراء
أما بعد فإنه قد نزل بأجنادين جمع من جموع الروم غير ذي قوة ولا عدة والله قاصمهم وقاطع دابرهم وجاعل دائرة السوء عليهم وقد شخصت إليهم يوم سرحت رسولي إليكم فإذا قدم عليكم فانهضوا إلى عدوكم بأحسن عدتكم وأصح نيتكم ضاعف الله أجوركم وحط أوزاركم والسلام
ووجه بهذه النسخ مع أنباط كانوا مع المسلمين عيونا لهم وفيوجا وكان المسلمون يرضخون لهم ودعا خالد الرسول الذي بعثه منهم إلى شرحبيل فقال له كيف علمك بالطريق قال أنا أدل الناس بالطريق قال فادفع إليه هذا الكتاب وحذره الجيش الذي ذكر لنا أنه يريده وخذ به وبأصحابه طريقا تعدل به عن طريق العدو الذي شخص إليه وتأتي به حتى تقدمه علينا بأجنادين قال نعم
فخرج الرسول إلى شرحبيل ورسول آخر إلى عمرو بن العاص وآخر إلى يزيد بن أبي سفيان

وخرج خالد وأبو عبيدة بالناس إلى أهل أجنادين والمسلمون سراع إليهم جراء عليهم فلما شخصوا لم يرعهم إلا أهل دمشق في آثارهم فلحقوا أبا عبيدة وهو في أخريات الناس فلما رآهم قد لحقوا به نزل وأحاطوا به وهو في نحو من مائتي رجل من أصحابه وأهل دمشق في عدد كثير فقاتلهم أبو عبيدة قتالا شديدا وأتي الخبر خالدا وهو أمام الناس في الفرسان والخيل فعطف راجعا ورجع الناس معه وتعجل خالد في الخيل وأهل القوة وانتهوا إلى أبي عبيدة وأصحابه وهم يقاتلون الروم قتالا حسنا فحمل الخيل على الروم فدق بعضهم على بعض وقتلهم ثلاثة أميال حتى دخلوا دمشق ثم انصرف ومضى
بالناس نحو الجابية وأخذ يلتفت وينتظر قدوم أصحابه عليه
ومضى رسول خالد إلى شرحبيل فوافاه وليس بينه وبين الجيش الذي سار إليه من حمص مع وردان إلا ميسرة يوم وهو لا يشعر فدفع إليه الرسول الكتاب وأخبره الخبر واستحثه بالشخوص فقام شرحبيل في الناس فقال
أيها الناس اشخصوا إلى أميركم فإنه قد توجه إلى عدو المسلمين بأجنادين وقد كتب إلي يأمرني بموافاته هنالك
ثم خرج بالناس ومضى بهم الدليل وبلغ ذلك الجيش الذي جاء في طلبهم فعجل المسير في آثارهم وجاء وردان كتاب من الروم الذين بأجنادين أن عجل إلينا فإنا مؤمروك علينا ومقاتلون معك العرب حتى تنفيهم من بلادنا فأقبل في آثار هؤلاء رجاء أن يستأصلهم أو يصيب طرفا منهم فيكون قد نكب طائفة من المسلمين فأسرع السير فلم يلحقهم وجاؤوا حتى قدموا على المسلمين وجاء وردان فيمن معه حتى وافى جمع الروم بأجنادين فأمره عليهم واشتد أمرهم
وأقبل يزيد بن لأبى سفيان حتى وافى أبا عبيدة وخالدا ثم انهم ساروا حتى نزلوا بأجنادين وجاء عمرو بن العاص فيمن معه فاجتمع المسلمون جميعا بأجنادين وتزاحف الناس غداة السبت
فخرج خالد فأنزل أبا عبيدة في الرجال وبعث معاذ بن جبل على الميمنة وسعيد بن عامر بن حذيم على المسيرة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على الخيل

وأقبل خالد يسير في الناس لا يقر في مكان واحد يحرض الناس وقد أمر النساء المسلمين فاحتزمن وقمن وراء الناس يدعون الله ويستغثنه وكلما مر بهن رجل من المسلمين رفعن أولادهن إليه وقلن لهم قاتلوا دون أولادكم ونسائكم
وأقبل خالد يقف على كل قبيلة فيقول اتقوا الله عباد الله وقاتلوا في الله
من كفر بالله ولا تنكصوا على أعقابكم ولا تهنوا من عدوكم ولكن أقدموا كاقدام الأسد أو ينجلي الرعب وأنتم أحرار كرام قد أوتيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة ولا يهولنكم ما ترون من كثرتهم فإن الله منزل رجزه وعقابه بهم وقال للناس إذا حملت فاحملوا
وقال معاذ بن جبل يا معشر المسلمين اشروا أنفسكم اليوم لله فإنكم إن هزمتموهم اليوم كانت لكم دار السلام أبدا مع رضوان الله والثواب العظيم من الله
وكان من رأي خالد مدافعتهم وأن يؤخر القتال إلى صلاة الظهر عند مهب الأرواح وتلك الساعة التي كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يستحب القتال فيهافأعجله الروم فحملوا على المسلمين مرتين من قبل الميمنة على معاذ بن جبل ومن قبل الميسرة على سعيد بن عامر فلم يتخلخل أحد منهم ورموا المسلمين بالنشاب فنادى سعيد بن زيد وكان من أشد الناس يا خالد علام تستهدف لهؤلاء الأعلاج وقد رشقونا بالنشاب حتى شمست الخيل فقال خالد للمسلمين احملوا رحمكم الله على اسم الله فحمل خالد والناس بأجمعهم فما واقفوهم فواقا وهزمهم الله فقتلهم المسلمون كيف شاؤوا وأصابوا عسكرهم وما فيه
وأصابت إبان بن سعيد بن العاص نشابة فنزعها وعصبها بعمامته فحمله إخوته فقال لا تنزعوا عمامتي عن جرحي فلو قد نزعتموها تبعتها نفسي أما والله ما أحب أنها بحجر من جبل الحمر وهو جبل السماق فمات منها يرحمه الله
وأبلى يومئذ بلاء حسنا وقاتل قتالا شديدا عظم فيه غناؤه وعرف به مكانه وكان قد تزوج أم أبان بنت عتبة بن ربيعة وبنى عليها فباتت عنده الليلة التي زحفوا للعدو في غدها فأصيب فقالت أم أبان هذه لما مات ما

كان أغناني عن ليلة أبان
وقتل اليعبوب بن عمرو بن ضريس المشجعي يومئذ سبعة من المشركين وكان شديدا جليدا فطعن طعنة كان يرجى أن يبرأ منها فمكث أربعة أيام أو خمسة ثم انتقضت به فاستأذن أبا عبيدة أن يأذن له إلى أهله فإن يبرأ رجع إليهم فأذن له فرجع إلى أهله بالعمر عمر المدائن فمات يرحمه الله فدفن هنالك
وقتل مسلمة بن هشام المخزومي ونعيم بن عدي بن صخر العدوي وهشام ابن العاص السهمي أخو عمرو بن العاص وهبار بن سفيان وعبد الله بن عمرو بن الطفيل الدوسي وهو ابن ذي النور وكان من فرسان المسلمين فقتلوا يومئذ يرحمهم الله
وقتل المسلمون في المعركة منهم ثلاثة آلاف واتبعوهم يأسرونهم ويقتلونهم فخرج فل الروم بإيلياء وقيسارية ودمشق وحمص فتحصنوا في المدائن العظام
وكتب خالد إلى أبي بكر
لعبد الله أبي بكر الصديق خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من خالد بن الوليد سيف الله المصبوب على المشركين سلام عليك فإني أخبرك أيها الصديق أنا التقينا نحن والمشركون وقد جمعوا لنا جموعا جمة بأجنادين وقد رفعوا صلبهم ونشروا كتبهم وتقاسموا بالله لا يفروا حتى يفنونا أو يخرجونا من بلادهم فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله فطاعناهم بالرماح شيئا ثم صرنا إلى السيوف فقارعناهم بها مقدار جزر جزور ثم إن الله أنزل نصره وأنجز وعده وهزم الكافرين فقتلناهم في كل فج وشعب وحائط فالحمد لله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنع لأوليائه والسلام عليك ورحمة الله
وبعث خالد بكتابه هذا مع عبد الرحمن بن حنبل الجمحي فلما قرئ على أبي بكر وهو مريض مرضه الذي توفاه الله فيه أعجبه ذلك وقال الحمد لله الذي نصر المسلمين وأقر عيني بذلك
قال سهل بن سعد وكانت وقعة أجنادين هذه أول وقعة عظيمة كانت بالشام كانت سنة ثلاث عشرة في جمادى الأولى لليلتين بقيتا منه يوم السبت نصف النهار قبل وفاة أبي بكر رضي الله عنه بأربع وعشرين ليلة

وذكر الطبري عن ابن إسحاق أن الذي كان على الروم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه ثم ذكر عنه عن عروة بن الزبير أنه قال كان على الروم رجل منهم يقال له القبقلار وكان هرقل استخلفه على أمراء الشام حين سار إلى القسطنطينية وإليه انصرف تذارق ومن معه من الروم
قال ابن إسحاق فأما علماء أهل الشام فيزعمون أنه إنما كان على الروم تذارق فالله أعلم
وعنه قال لما تدانى العسكران بعث القبقلار رجلا عربيا فقال له ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة ثم ائتني بخبرهم فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر فأقام فيهم يوما وليلة ثم أتاه فقال له مه ما وراءك قال بالليل رهبان وبالنهار فرسان ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده ولو زنى لرجم لإقامة الحق فيهم فقال له القبقلار لئن صدقتني لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها ولوددت أن حظي من الله أن يخلي بيني وبينهم فلا ينصرني عليهم ولا ينصرهم علي ثم تزاحف الناس فاقتتلوا فلما رأى القبقلار ما رأى من قتالهم قال للروم لفوا رأسي بثوب قالوا له لم قال هذا يوم بئيس ما أحب أن أراه ما رأيت من الدنيا يوما أشد من هذا قال فاحتز المسلمون رأسه وإنه لملفف
وعن غير ابن إسحاق قال ثم إن خالد بن الوليد أمر الناس أن يسيروا إلى دمشق وأقبل بهم حتى نزلوها وقصد إلى ديره الذي كان ينزل به فنزله وهو من دمشق على ميل مما يلي باب الشرقي وبخالد يعرف ذلك الدير إلى اليوم وجاء أبو عبيدة حتى نزل على باب الجابية ونزل يزيد بن أبي سفيان على سفيان على جانب آخر من دمشق وأحاطوا بها وحاصروا أهلها حصارا شديدا

وقدم عبد الرحمن بن حنبل من عند أبي بكر بكتابه إلى خالد وأتى يزيد ابن أبي سفيان ومعه كان يكون فقال له يزيد هل لقيت أبي قال نعم قال فهل سألك عني قال نعم قال فما قلت له قال قلت له أن يزيد حازم الرأي متواضع في ولايته بئيس البأس محبب في الإخوان يبذل ما قدر عليه من فضله فقال أبو سفيان كذلك ينبغي لمثله أن يكون وطلب إلي أن أكتب إليه بما يكون من أمرنا وأن أعلمه حالنا فوعدته ذلك
قال فخرج خالد بالمسلمين ذات يوم فأحاطوا بمدينة دمشق ودنوا من أبوابها فرماهم أهلها بالحجارة ورشقوهم من فوق السور بالنشاب فقال ابن حنبل
وأبلغ أبا سفيان عنا فإننا
على خير حال كان جيش يكونها
وأنا على بالي دمشقة نرتمي
وقد حان من بابي دمشقة حينها
الطويل
وقعة مرج الصفر

قال فإن المسلمين لكذلك يقاتلونهم ويرجون فتح مدينتهم إذ أتاهم آت فأخبرهم أن هذا جيش قد جاءكم من قبل ملك الروم فنهض خالد بالناس على تعبئة وهيئته فقدم الأثقال والنساء وخرج معهن يزيد بن أبي سفيان ووقف خالد وأبو عبيدة من وراء الناس ثم أقبلوا نحو ذلك الجيش فإذا هو درنجار بعثه ملك الروم في خمسة آلاف رجل من أهل القوة والشدة ليغيث أهل دمشق فصمد المسلمون صمدهم وخرج إليهم أهل القوة من أهل دمشق وناس كثير من أهل حمص فالقوم نحو من خمسة عشر ألفا فلما نظر إليهم خالد عبأ أصحابه كتعبئته يوم أجنادين فجعل على ميمنته معاذ بن جبل وعلى ميسرته هاشم بن عتبة وعلى الخيل سعيد بن زيد وأبا عبيدة على الرجال وذهب خالد فوقف في أول الصف يريد أن يحرض الناس ثم نظر إلى الصف من أوله إلى آخره حتى حملت خيل لهم على خالد بن سعيد وكان واقفا في جماعة من المسلمين في ميمنة الناس يدعون الله ويقص عليهم فحملت طائفة منهم عليه فقاتلهم حتى قتل رحمه الله وحمل عليهم معاذ بن جبل من الميمنة فهزمهم وحمل عليهم خالد بن الوليد من الميسرة فهزم من يليه منهم وحمل سعيد بن زيد بالخيل على عظم جمعهم فهزمهم الله وقتلهم واجتثت عسكرهم ورجع الناس وقد ظفروا وقتلوهم كل قتلة وذهب المشركون على وجوههم فمنهم من دخل مدينة دمشق مع أهلها ومنهم من رجع إلى حمص ومنهم من لحق بقيصر
وعن عمرو بن محصن أن قتلاهم يومئذ وهو يوم مرج الصفر كانت خمسمائة في المعركة وقد قتلوا وأسروا نحوا من خمسمائة أخرى
وقال أبو أمامة فيما رواه عنه يزيد بن يزيد بن جابر كان بين أجنادين وبين يوم مرج الصفر عشرون يوما قال فحسبت ذلك فوجدته يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة قبل وفاة أبي بكر رضي الله عنه بأربعة أيام

ثم إن الناس أقبلوا عودهم على بدئهم حتى نزلوا دمشق فحاصروا أهلها وضيقوا عليهم وعجز أهلها عن قتال المسلمين ونزل خالد منزله الذي كان ينزل به على باب الشرقي ونزل أبو عبيدة منزلة على باب الجابية ونزل يزيد ابن أبي سفيان جانبا آخر فكان المسلمون يغيرون فكلما أصاب رجل نفلا جاء بنفله حتى يلقيه في القبض لا يستحل أن يأخذ منه قليلا ولا كثيرا حتى إن الرجل منهم ليجيء بالكبة الغزل أو بالكبة الصوف أو الشعر أو المسلة أو الإبرة فيلقيها في القبض لا يستحل أن يأخذها فسأل صاحب دمشق بعض عيونه عن أعمالهم وسيرتهم فوصفهم له بهذه الصفة في الأمانة ووصفهم بالصلاة بالليل وطول القيام فقال هؤلاء رهبان بالليل أسد بالنهار لا والله ما لي بهؤلاء طاقة وما لي في قتالهم خير
قال فراود المسلمين على الصلح فأخذ لا يعطيهم ما يرضيهم ولا يبايعونه على ما يسأل وهو في ذلك لا يمنعه من الصلح والفراغ إلا أنه قد بلغه أن قيصر يجمع الجموع للمسلمين يريد غزوهم فكان ذلك مما يمنعه من تعجيل الصلح
وعلى تعبئة ذلك بلغ المسلمين الخبر بوفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه واستخلافه عمر رضي الله عنهما وما تبع ذلك من صرف خالد بأبي عبيدة حسبما يأتي تفصيله وبيانه إن شاء الله تعالى

ذكر الخبر عن وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما كان من عهده إلى عمر بن الخطاب جزاهم الله عن دينه الحق أفضل الجزا
قد تقدم في بدء الردة وذكر خلافة أبي بكر رضي الله عنه من هذا الكتاب ما دل على ولاية عمر بعده من حديث رسول الله {صلى الله عليه وسلم} كالذي يروى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر ونيط برسول ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قلنا أما الرجل الصالح فرسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأماما ذكر من نوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه

وعن أبي هريرة قال قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينما أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه والله يغفر له ضعف ثم استحالت غربا فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن
واختلف أهل العلم في السبب الذي توفي منه أبو بكر فذكر الواقدي أنه اغتسل في يوم بارد فحم ومرض خمسة عشر يوما وقال الزبير بن بكار كان به طرف من السل وقال غيره أن أصل ابتداء ذلك السل به الوجد على رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما قبضه الله إليه فما زال ذلك به حتى قضى منه
وروي عن سلام بن أبي مطيع أنه رضي الله عنه سم وبعض من ذكر ذلك يقول أن اليهود سمته في أرزة وقيل في حريرة فمات بعد سنة وقيل
له لو أرسلت إلى الطبيب فقال قد رآني قالوا فما قال لك قال قال إني أفعل ما أريد
وكذلك اختلفوا في حين وفاته فقال ابن إسحاق توفي يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وقال غيره من السير إنه مات عشي يوم الاثنين وقيل ليلة الثلاثاء وقيل عشي الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة وهذا هو الأكثر في وفاته
وأوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس فغسلته وصلى عليه عمر بن الخطاب في مسجد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ونزل في قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ودفن ليلا في بيت عائشة مع النبي {صلى الله عليه وسلم} وجعل رأسه عند كتفي رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وألصقوا لحده بلحده وجعل قبره مسطحا مثل قبر النبي {صلى الله عليه وسلم} ورش عليه بالماء
ولا يختلفون في أنه توفي ابن ثلاث وستين سنة وأنه استوفى بخلافته بعد الرسول صلوات الله عليه سن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} التي توفاه الله لها
ويروى أنه رضي الله عنه لما احتضر وابنته عائشة حاضرة فأنشدت رضي الله عنهما
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
الطويل

رفع إليها رأسه وقال لا تقولي هذا يا بنيه أو ليس هكذا يا بنيه ولكن قولي وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد 19 ق هكذا قرأها أبو بكر رضي الله عنه
وقالوا كان آخر ما تكلم به رب توفني مسلما وألحقني بالصالحين
وقال أبو بكر رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها وهو مريض في كم كفن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقالت في ثلاثة أثواب بيض سحولية فقال أبو بكر خذوا هذا الثوب لثوب عليه قد أصابه مشق أو زعفران فاغسلوه ثم كفنوني فيه مع ثوبين آخرين فقالت عائشة وما هذا فقال أبو بكر الحي أحوج إلى الجديد من الميت وإنما هذا للمهلة
ولما توفي أبو بكر رحمه الله ارتجت المدينة بالبكاء ودهش القوم كيوم قبض النبي {صلى الله عليه وسلم} فأقبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مسرعا باكيا مسترجعا حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر وقد سجي بثوب فقال رحمك الله يا ابوبكر كنت أول القوم إسلاما وأخلصهم إيمانا وأشدهم يقينا وأخوفهم لله عز وجل وأعظمهم غناء وأحدبهم على الإسلام وأيمنهم على أصحابه وأحسنهم صحبة وأفضلهم مناقب وأكثرهم سوابق وأرفعهم درجة وأقربهم من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا وأشرفهم منزلة وأكرمهم عليه وأوثقهم عند الله فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله والمسلمين خيرا صدقت رسول الله

حين كذبه الناس فسماك الله في كتابه صديقا فقال والذي جاء بالصدق محمد وصدق به أبو بكر وآسيته حين بخلوا وقمت معه حين عنه قعدوا وصحبته في الشدة أكرم الصحبة ثاني اثنين وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة ورفيقة في الهجرة ومواطن الكريهة ثم خلفته في أمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس وقمت بدين الله قياما لم يقم به خليفة نبي قط قويت حين ضعف أصحابك وبدرت حين استكانوا ونهضت حين وهنوا ولزمت منهاج رسوله إذ هم أصحابه كنت خليفته حقا لم تنازع ولم تضرع برغم المنافقين وصغر الفاسقين وغيظ الكافرين وكره الحاسدين فقمت بالأمر حين فشلوا ونطقت حين تتعتعوا ومضيت بنور الله إذ وقفوا فاتبعوك فهدوا وكنت أخفضهم صوتا وأعلاهم فوقا وأقلهم كلاما وأصوبهم منطقا وأطولهم صمتا وأبلغهم قولا وكنت أكبرهم رأيا وأشجعهم قلبا وأحسنهم عملا وأعرفهم بالأمور كنت والله للدين يعسوبا أولا حين تفرق عنه الناس وآخرا حين أقبلوا كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا فحملت أثقال ما عنه ضعفوا وحفظت ما ضيعوا ورعيت ما أهملوا وشمرت إذ خنعوا وعلوت إذ هلعوا وصبرت إذ جزعوا فأدركت أوتار ما طلبوا ونالوا بك ما لم يحتسبوا كنت على الكافرين عذابا صبا وكنت للمسلمين غيثا وخصبا فطرت والله بغنائها وفزت بحبابها وذهبت بفضائلها وأحرزت سوابقها لم تفلل حجتك ولم يزغ قلبك ولم تضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك ولم تخن كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف كنت كما قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أمن الناس عليه في صحبتك وذات يدك وكما قال ضعيفا في بدنك قويا في أمر الله تعالى متواضعا في نفسك عظيما عند الله جليلا في الأرض كبيرا عند المؤمنين لم يكن لأحد فيك مهمز ولا لقائل فيك مغمز ولا لأحد فيك مطمع ولا عندك هوادة لأحد الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ له بحقه والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق القريب والبعيد عندك في ذلك سواء شأنك الحق والصدق والرفق

وقولك حكم وحتم ورأيك علم وعرف فأقلعت وقد نهج السبيل وسهل
العسير واطفئت النيران واعتدل بك الدين وقوي الإيمان وظهر أمر الله ولو كره الكافرون فسبقت والله سبقا بعيدا وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا وفزت بالحق فوزا مبينا فجللت عن البكاء وعظمت رزيتك في السماء وهدت مصيبتك الأنام فإنا لله وإنا إليه راجعون رضينا عن الله قضاءه وسلمنا لله أمره ولن يصاب المسلمون بعد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بمثلك أبدا كنت للدين عزا وكهفا وللمؤمنين حصنا وفئة وأنسا وعلى المنافقين غلظة وغيظا وكظما فألحقك الله بميتة نبيك {صلى الله عليه وسلم} ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك فإنا لله وإنا إليه راجعون
وأنصت الناس حتى قضى كلامه ثم بكى وبكوا وقالوا صدقت يا بن عم رسول الله {صلى الله عليه وسلم}
استخلاف عمر بن الخطاب
وتقلد أمر الأمة وخلافة المسلمين بعد أبي بكر صاحبه ورفيقه وظهيره ووزيره عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بعهد أبي بكر إليه بذلك واستخلافه إياه عليه نظرا للدين ونصيحة لله وللأمة وذلك لما استعز بأبي بكر رضي الله عنه وجعه وثقل أرسل إلى عثمان وعلي ورجال من أهل السابقة والفضل من المهاجرين والأنصار فقال قد حضر ما ترون ولا بد من قائم بأمركم يجمع فئتكم ويمنع ظالمكم من الظلم ويرد على الضعيف حقه فإن شئتم اخترتم لأنفسكم وإن شئتم جعلتم ذلك إلي فو الله لا آلوكم ونفسي خيرا قالوا قد رضينا من اخترت لنا قال فقد اخترت عمر وقال لعثمان أكتب
هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجا منها وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها حين يتوب الفاجر ويؤمن الكافر ويصدق الكاذب عهد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن وعد الله حق وصدق المرسلون وأن محمدا رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى أنبيائه ورسله وقد استخلفت

ولما انتهى أبو بكر إلى هذا الموضع ضعف ورهقته غشية فكتب عثمان وقد استخلف عمر بن الخطاب وأمسك حتى أفاق أبو بكر فقال أكتبت شيئا قال نعم كتبت عمر بن الخطاب فقال رحمك الله أما لو كتبت نفسك لكنت لها أهلا فأكتب
قد استخلفت عمر بن الخطاب بعدي عليكم ورضيته لكم فإن عدل فذلك ظني به ورأيي فيه وذلك أردت وما توفيقي إلا بالله وإن بدل فلكل
نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت والخير أردت ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
والتوى عمر رضي الله عنه على أبي بكر رحمه الله في قبول عهده وقال لا أطيق القيام بأمر الناس فقال أبو بكر لأبنه عبد الرحمن إرفعني وناولني السيف فقال عمر أو تعفيني قال لا فعند ذلك قبل

ذكر هذا كله أبو الحسن المدائني وذكر بإسناد له عن أبي هريرة وغيره أنه لما عهد أبو بكر إلى عمر عهده قال له يا عمر إن لله حقا في الليل لا يقبله في النهار وحقا في النهار لا يقبله في الليل ولا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة وإنه يا عمر إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بأتباعهم الحق وخفته عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا وإنه يا عمر إنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة بإتباعهم الباطل وخفته عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه يوم القيامة إلى الباطل أن يكون خفيفا أم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة ألم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيء أعمالهم لأنه در عليهم ما كان لهم من حسن فإذا ذكرتهم قلت إني لأخشى أن أكون منهم وفي رواية عوضا من هذا فيقول قائل أنا خير منهم فيطمع وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت إني مقصر أين عملي من أعمالهم وفي رواية عوضا من هذا فيقول قائل من أين أدرك درجتهم ليجتهد فإن حفظت وصيتي يا عمر فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت وهو نازل بك وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أكره لك من الموت ولست بمعجزه
وعن أسماء بنت عميس قالت لما أحس أبو بكر بنفسه أرسل إلى عمر فقال له يا عمر إني قد وليتك ما وليتك وقد صحبت رسول الله ورأيت
عمله وأثرته أنفسكم على نفسه وأهلكم على أهله حتى إن كنا لنظل نهدي إليه من فضل ما يأتينا من قبله وصحبتني ورأيتني وإنما اتبعت أثر من كان قبلي والله ما نمت فحملت ولا شبهت فتوهمت وإني لعلى السبيل ما زغت وإن أول ما أحذرك نفسك فإن لكل نفس شهوة فإذا أعطيتها شهوتها تمادت فيها ورغبت في غيرها

وفي حديث غير هذا وخذ هذه اللقحة فإنها من إبل الصدقة احتبستها للرسل إذا قدموا يصيبون من رسلها وخذ هذا البرد فإني كنت أتجمل به للوفود وخذ هذا السقاء وهذه العلبة فإنها من متاع إبل الصدقة وعلي ثمانية آلاف درهم ويقال قال ستة آلاف أخذتها للرسل ولمن كان يغشانا فأدها من مالي
فخرج عمر متأبطا البرد وقد حمل السقاء والعلبة يقود اللقحة يبكي ويقول يرحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده
ومات أبو بكر رحمه الله ودفن ليلا فلما أصبح عمر بعثت إليه عائشة بناضح وعبد حبشي كان يسقي لآل أبي بكر على ذلك الناضح وقطيفة فقبض عمر ذلك فقال له عبد الرحمن بن عوف سبحان الله تسلب عيال أبي بكر ناضحا وعبدا أسود كان ينفعهم وقطيفة قيمتها خمسة دراهم قال فما ترى قال ترده عليهم قال لا ورب الكعبة لا يكون ذلك وأنا حي يخرج منه أبو بكر وأرده أنا على عياله
عمله وأثرته أنفسكم على نفسه وأهلكم على أهله حتى إن كنا لنظل نهدي إليه من فضل ما يأتينا من قبله وصحبتني ورأيتني وإنما اتبعت أثر من كان قبلي والله ما نمت فحلمت ولا شبهت فتوهمت وإني لعلى السبيل ما زغت وإن أول ما أحذرك نفسك فإن لكل نفس شهوة فإذا أعطيتها شهوتها تمادت فيها ورغبت في غيرها
وفي حديث غير هذا وخذ هذه اللقحة فإنها من إبل الصدقة احتبستها للرسل إذ قدموا يصيبون من رسلها وخذ هذا البرد فإني كنت أتجمل به للوفود وخذ هذا السقاء وهذه العلبة فإنها من متاع إبل الصدقة وعلي ثمانية آلاف درهم ويقال قال ستة آلاف أخذتها للرسل ولمن كان يغشانا فأدها من مالي
فخرج عمر متأبطا البرد وقد حمل السقاء والعلبة يقود اللقحة يبكي ويقول يرحم الله أبا بكر لقد اتعب من بعده

ومات أبو بكر رحمه الله ودفن ليلا فلما أصبح عمر بعثت إليه عائشة بناضح وعبد حبشي كان يسقي لآل أبي بكر على ذلك الناضح وقطيفة فقبض عمر ذلك فقال له عبد الرحمن بن عوف سبحان الله تسلب عيال أبي بكر ناضحا وعبدا أسود كان ينفعهم وقطيفة قيمتها خمسة دراهم قال فما ترى قال ترده عليهم قال لا ورب الكعبة لا يكون ذلك وأنا حي يخرج منه أبو بكر وأرده أنا على عياله

وعن المسور بن مخرمة أو علقمة بن أبي الفغواء الخزاعي قال أرسل أبو بكر إلى عمر وهو مريض فأتاه فقال يا عمر إني كنت أرى الرأي فتشير علي بخلافه فأتهم نفسي لك ألا إني قد عصيتك في استعمال شرحبيل بن حسنة وقلت أخاف ضعفه فقلت لك قد كان له في الإسلام نصيب وقد أحببت أن أبلوه فإن رأيت ما أحب أثبته وإن بلغني عنه ضعف استبدلت به فلا عليك أن تقره على عمله وكنت تنهاني عن يزيد بن أبي سفيان فقلت لك إن له موضعا في قريش ونشأ بخير وكان فيه وقد أحببت أن أقيم له شرفه فلا عليك أن تقره على عمله ورجل لم أوصك بمثله ولا أراك فاعلا قال تريد خالدا قال أريده فقال عمر أما شرحبيل بن حسنة فقد كنت أشير عليك أن لا تبعثه وخفت ضعفه وأمرتك أن تبعث مكانه عمار بن ياسر ولم يبلغنا عنه إلا خير ولست عازله إلا أن يبلغني عنه ما لا أستحل معه تركه وأما يزيد فقلت لك غلام حديث السن لا سابقة له ابعث مكانه سعد بن أبي وقاص فلم يكن في أمره إلا خير ولا أعزله إلا أن يبلغني عنه ما لا أستحل معه تركه وأما خالد فوالله ما أعدك في أمره بما لا أفعل ولا أبدأ بأول من عزله وما كنت أرى لك أن تجعل مع أبي عبيدة ضدا وقد عرفت فضل أبي عبيدة فقال أبو بكر أما أني قد رأيت أبا عبيدة في مرضي هذا آخذا بثوب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يتبعه ولنعم المتبع ورأيتني آخذا بثوب أبي عبيدة ولنعم المتقدم ثم سمعت خسفا ورائي فالتفت فإذا أنت وإذا الظلمة فاستلحقتك وما أبالي إذا لحقت بمن تخلف فكأني أسمع وقع نعليك حتى أخذت بثوبي والتفت فإذا نفر يخرجون من الظلمة يزدحمون فالنجاء النجاء يا عمر
وكانت من جماعة من المهاجرين موافقة لأبي بكر في استخلاف عمر ليس إلا لما كانوا يعرفون من غلظته فيقول أبوبكر هو والله إن شاء الله خيركم وقال لبعضهم إني أرى ما ترون ولو قد أفضي إليه أمركم لترك كثيرا مما ترون إني رمقته فإذا أغلظت في أمر أراني التسهيل وإذا لنت في أمر تشدد فيه

وقال له طلحة والزبير ما أنت قائل لربك إذ وليته مع غلظته قال
ساندوني فأجلسوه فقال أبالله تخوفونني أقول استعملت عليهم خير أهلك وحلفت ما تركت أحدا أشد حبا له من عمر ستعلمون إذا فارقتموه وتنافستموها
ودخل عثمان وعلي فأخبرهما أبو بكر فقال عثمان علمي به أنه يخاف الله فوله فما فينا مثله وقال علي يا خليفة رسول الله امض لرأيك فما نعلم إلا خيرا وخرجا ودخل عمر فقال أبو بكر كرهك كاره وأحبك محب قال لا حاجة لي بها قال اسكت إني ميت من مرضي هذا إني رأيت بعد وفاة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أني فقت ثلاث فوقات فدسعت في الآخرة طعاما فمرضت به مرضتين وهذه الثالثة فأنا ميت وإياك والأثرة على الناس وإياك والذخيرة فإن ذخيرة الإمام تهلك دينه
ولما توفي أبو بكر رحمه الله كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة
أما بعد فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} توفي فإنا لله وإنا إليه راجعون ورحمة الله على أبي بكر القائل بالحق والآمر بالقسط والآخذ بالعرف البر الشيم السهل القريب وأنا أرغب إلى الله في العصمة برحمته والعمل بطاعته والحلول في جنته إنه على كل شيء قدير والسلام عليك ورحمة الله
وجاء بالكتاب يرفأ حتى أتى أبا عبيدة فقرأه فلم يسمع من أبي عبيدة حين قرأه شيء ينتفع به مقيم ولا ظاعن ودعا أبو عبيدة معاذ بن جبل فأقرأه الكتاب فالتفت معاذ إلى الرسول فقال رحمة الله على أبي بكر ويح غيرك ما فعل المسلمون قال استخلف أبو بكر عمر فقال معاذ الحمد لله وفقوا وأصابوا فقال أبو عبيدة ما منعني من مسألته منذ قرأت الكتاب حتى دعوتك لقراءته إلا مخافة أن يستقبلني فيخبرني أن الوالي غير عمر فقال له الرسول يا أبا عبيدة إن عمر يقول لك أخبرني عن حال الناس وأخبرني عن خالد

ابن الوليد أي رجل هو وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص كيف هما في حالهما ونصيحتهما للمسلمين فقال أبو عبيدة أما خالد فخير أمير أنصحه لأهل الإسلام وأحسنه نظرا لهم وأشده على عدوهم من الكفار ويزيد وعمرو في نصيحتهما وجدهما كما يحب عمر ونحب قال فأخبرني عن أخويك سعيد بن زيد ومعاذ بن جبل قال قل له هما كما عهدت إلا أن تكون السن زادتهما في الدنيا زهادة وفي الآخرة رغبة
قال ثم إن الرسول وثب لينصرف فقالا له سبحان الله انتظر نكتب معك فكتب
بسم الله الرحمن الرحيم من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم فأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها يجلس بين يديك الشريف والوضيع والعدو والصديق والضعيف والشديد ولكل حصته من العدل فانظر كيف تكون عند ذلك يا عمر إنا نذكرك يوما تبلى فيه السرائر وتكشف فيه العورات وانقطع فيه الحجج وتزاح فيه العلل وتجب فيه القلوب وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته فالناس له داخرون ينتظرون قضاءه ويخافون عقابه ويرجون رحمته
وإنا كنا نتحدث على عهد نبينا {صلى الله عليه وسلم} أنه سيكون في آخر الزمان ويروى في هذه الأمة رجال يكونون إخوان العلانية أعداء السريرة وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا منك بغير المنزلة التي هو بها من أنفسنا والسلام
فمضى الرسول بهذا الكتاب وقال أبو عبيدة لمعاذ والله ما أمرنا عمر أن نظهر وفاة أبي بكر للناس ولا ننعاه إليهم فما أرى أن نذكر من ذلك شيئا دون أن يكون هو يذكره فقال له معاذ فإنك نعم ما رأيت فسكتا فلم يذكرا للناس شيئا ولم يلبثا إلا مقدار ما قدم رسول عمر إليه حتى بعث إليهما بجواب
كتابهما وبعهد أبي عبيدة وأمره بعظة الناس وكان جوابه عن كتابهما

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل سلام عليكما فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإني أوصيكما بتقوى الله فإنه رضاء ربكما وحفظ أنفسكما وغنيمة الأكياس لأنفسهم عند تفريط العجزة وقد بلغني كتابكما تذكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي إلي مهم وما يدريكما وكتبتما تذكران أني وليت أمر هذه الأمة يقعد بين يدي العدو والصديق والقوي والضعيف ولكل علي حصته من العدل وتسألاني كيف بي عند ذلك وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله وكتبتما تخوفاني بيوم هو آت يوم تجب فيه القلوب وتعنو فيه الوجوه وتنقطع فيه الحجج وتزيح فيه العلل لعزة ملك قهرهم بجبروته فالخلق له داخرون ينتظرون قضاءه ويخافون عقابه وكأن ذلك قد كان هذا الليل والنهار يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد ويأتيان بكل موعود حتى يكون الناس بأعمالهم فريقا في الجنة وفريقا في السعير وكتبتما تذكران أنكما كنتما تحدثان على عهد رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه سيكون في آخر الزمان أخوان العلانية أعداء السريرة وأن هذا ليس بزمان ذلك ولاأنتم أولئك وإنما ذلكم إذا ظهرت الرغبة والرهبة وإذا كانت رغبة الناس بعضهم إلى بعض ورهبة بعضهم من بعض في صلاح دنياهم وكتبتما تعوذان بالله من أن أنزل كتابكما من قلبي سوى المكان الذي تنزلانه من قلوبكما فإنكما كتبتما لي نظرا لي وقد صدقتما ولا غنى بي عن كتابكما فتعاهداني بكتبكما والسلام
وذكر المدائني وغيره عن صالح بن كيسان قال أول كتاب كتبه عمر حين ولي إلى أبي عبيدة يوليه على جند خالد بن الوليد
أوصيك بتقوى الله الذي يبقي ويفني ما سواه الذي هدانا من الضلالة

وأخرجنا من الظلمات إلى النور وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد فقم بأمرهم الذي يحق لله عليك لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم وتعلم كيف مأتاه ولا تبعث سرية إلا في كثف من الناس وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة وقد أبلاك الله وأبلى بك فغمض بصرك عن الدنيا وأله قلبك عنها وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك فقد رأيت مصارعهم
وعن عباس بن سهل بن سعد قال قدم شداد بن أوس بعهد أبي عبيدة فدفعه إليه وشداد شاك فنزل مع أبي عبيدة ومعاذ بن جبل في منزلهما وأمرهما واحد فكانا يقومان إليه حتى تماثل فمكث أبو عبيدة خمس عشرة ليلة يصلي خالد بالناس ويأمر بالأمر وما يعلم أن أبا عبيدة الأمير حتى جاء كتاب من عمر إلى أبي عبيدة فكره أن يخفيه وكان في كتابه إليه
أما بعد فإنك في كنف من المسلمين وعدد يكفي حصار دمشق فابعث سراياك في أرض حمص ودمشق وما سواهما من الشام ولا يبعثنك قولي هذا على أن تعري عسكرك فيطمع فيك عدوك ولكن انظر برأيك فما استغنيت عنه منهم فسيرهم وما احتجت إليه منهم فاحتبسهم عندك وليكن فيمن تحتبس عندك خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه والسلام
فلما قرأ أبو عبيدة كتابه على الناس قال خالد يرحم الله أبا بكر لو كان حيا ما عزلني وولى عمر فولى أبا عبيدة فعافى الله أبا عبيدة كيف لم يعلمني بولايته علي ثم أتى أبا عبيدة فقال له رحمك الله أنت الأمير والوالي علي ولا تعلمني وأنت تصلي خلفي والسلطان سلطانك فقال له أبو عبيدة ما كنت لأعلمك به أبدا حتى تعلمه من عند غيري وما سلطان الدنيا وإمارتها فإن كل ما ترى يصير إلى زوال وإنما نحن إخوان فإننا أمة أخوة أو أمر عليه لم يضره ذلك في دينه ولا دنياه بل لعل الوالي أن يكون أقربهما إلى الفتنة وأوقعهما بالخطيئة إلا من عصم الله وقليل ما هم

ذكر الخبر عما صار إليه أمر دمشق من الفتح والصلح بعد طول الحصار في خلافة عمر بن الخطاب
على نحو ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام
فتح دمشققالوا وتولى أبا عبيدة حصار دمشق وولى خالدا القتال على الباب الذي كان عليه وهو باب الشرقي وولاه الخيل إذا كان يوم يجتمع فيه المسلمون للقتال فحاصروا دمشق بعد مهلك أبي بكر رحمه الله وولايته حولا كاملا وأياما
وكان أهلها قد بعثوا إلى قيصر وهو بأنطاكية أن العرب قد حاصرتنا وضيقت علينا وليس لنا بهم طاقة وقد قاتلناهم مرارا فعجزنا عنهم فإن كان لك فينا وفي السلطان علينا حاجة فأمددنا وأغثنا وعجل علينا فإنا في ضيق وجهد وإلا فقد أعذرنا والقوم قد أعطونا الأمان ورضوا منا من الجزية باليسير
فأرسل إليهم أن تمسكوا بحصنكم وقاتلوا عدوكم فإنكم إن صالحتموهم وفتحتم حصنكم لهم لم يفوا لكم وأجبروكم على ترك دينكم واقتسموكم بينهم وأنا مسرح إليكم الجيوش في أثر رسولي
فانتظروا مدده وجيشه فلما أبطأ عليهم وألح عليهم المسلمون بالتضييق وشدة الحصار ورأوا أن المسلمين لا يزدادون كل يوم إلا قوة وكثرة بعثوا إلى أبي عبيدة يسألونه الصلح وكان أبو عبيدة أحب إلى الروم وسكان الشام من خالد ابن الوليد وكان أن يكون كتاب الصلح من أبي عبيدة أحب إليهم لأنه كان ألينهما
وأشدهما منهم استماعا وأقربهما منهم قربا وكان قد بلغهم أنه أقدمهما هجرة وإسلاما فكانت رسل صاحب دمشق إنما تأتي أبا عبيدة وخالد ملح على الباب الذي يليه فأرسل صاحب دمشق إلى أبي عبيدة فصالحه وفتح له باب الجابية وألح خالد على باب الشرقي ففتحه عنوة فقال لأبي عبيدة اقتلهم وأسبهم فإني قد فتحتها عنوة فقال أبو عبيدة لا إني قد أمنتهم

ودخل المسلمون دمشق وتم الصلح وجاء الجيش من قبل أنطاكية مددا لأهل دمشق فلما قدموا بعلبك أتاهم الخبر بأن دمشق قد افتتحت وكان عليهم درنجاران عظيمان كل درنجار على خمسة آلاف فكانوا عشرة آلاف فأقاموا وبعثوا إلى ملكهم يخبرونه بالمكان الذي هم فيه وبالخبر الذي بلغهم عن دمشق
وذكر أبو جعفر الطبري أن شداد بن أوس هو الذي قدم الشام بوفاة أبي بكر ومعه محمية بن جزء ويرفأ فوجدوا المسلمين بالواقوصة يقاتلون عدوهم فكتموا الخير حتى ظفر المسلمون فعند ذلك أخبروا أبا عبيدة بوفاة أبي بكر وبولايته حرب الشام وعزل خالد
وعن محمد بن إسحاق أن المسلمين لما فرغوا من أجنادين ساروا إلى فحل من أرض الأردن وقد اجتمعت به رافضة الروم والمسلمون على أمرائهم فاقتتلوا فهزمت الروم ودخل المسلمون فحل ولحقت رافضة الروم بدمشق فسار المسلمون إلى دمشق وعلى مقدمة الناس خالد بن الوليد وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان فالتقى المسلمون والروم حول دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا ثم هزم الله الروم فدخلوا دمشق وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت وقد كان الكتاب قدم على أبي عبيدة بإمارته وعزل
خالد فاستحيا أبو عبيدة أن يعلم خالدا حتى فتحت دمشق وجرى الصلح على يدي خالد وكتب الكتاب باسمه فبعد ذلك أظهر أبو عبيدة إمارته فلما صالحت دمشق لحق باهان صاحب الروم بهرقل
وخالف سيف بن عمرو ما تقدم من المساق والتاريخ في أمر دمشق فذكر على ما سيأتي أن وقعة اليرموك كانت في سنة ثلاث عشرة وأن المسلمين ورد عليهم بالبريد بوفاة أبي بكر باليرموك في اليوم الذي هزمت الروم في آخره وأن عمر رحمه الله أمرهم بعد الفراغ من اليرموك بالمسير إلى دمشق
وزعم أن فحلا كانت بعد دمشق خلافا لما ذكره ابن إسحاق من أنها كانت قبلها وأن رافضة فحل هم الذين صاروا إلى دمشق

وأما الواقدي فزعم أن فتح دمشق كان سنة أربع عشرة وكذا قال ابن إسحاق وزعم أن حصار المسلمون لها كان ستة أشهر وأن وقعة اليرموك كانت في سنة خمس عشرة وبعدها في تلك السنة بعينها جلا هرقل عن أنطاكية إلى قسطنطينية وأنه لم يكن بعد اليرموك وقعة وسنورد إن شاء الله مما أوردوه على اختلافه ما نبلغ به المقصود من الإمتاع وتذكير الناس بأيام الله
فأما خبر دمشق من رواية سيف فذكر أنه لما هزم الله جند اليرموك وتهافت أهل الواقوصة وفرغ من المقاسم والأنفال وبعث بالأخماس وسرحت الوفود استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب بن أبي الحميري كيلا تغتال بردة ولا تقطع الروم مواده وخرج أبو عبيدة حتى نزل بالصفرين وهو يريد اتباع الفل ولا يدري أيجتمعون أو يفترقون فأتاه الخبر بأنهم أرزوا إلى فحل وبأن المدد قد أتى على دمشق من حمص فهو لا يدري أبدمشق يبدأ أم بفحل من بلاد الأردن فكتب في ذلك إلى عمر وأقام بالصفرين ينتظر جوابه وكان عمر لما جاءه فتح اليرموك أقر الأمراء على ما كان استعملهم عليه
أبو بكر إلا ما كان من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فإنه ضم خالد إلى أبي عبيدة وأمر عمرا بمعونة الناس حتى تصير الحرب إلى فلسطيين ثم يتولى حربها
فلما جاء عمر كتاب أبي عبيدة كتب إليه
أما بعد فابدءوا بدمشق وانهدوا فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم واشغلوا عنهم أهل فحل بخيل تكون بإزائهم في نحورهم ونحور أهل فلسطين وأهل حمص فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل دمشق من تمسك بها ودعوها وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص ودع شرحبيل وعمرا وأخلهما بالأردن وفلسطين وأمير كل بلد وجند على الناس حتى يخرجوا من إمارته

فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة فيهم أبو الأعور وعمارة بن مخش وهو قائد الناس وكانت الرؤساء تكون من الصحابة فساروا من الصفرين حتى نزلوا قريبا من فحل فلما رأت الروم أن الجنود تريدهم بثقوا المياه حول فحل فأدرغت الأرض ثم وحلت واغتنم المسلمون ذلك فحبسوا عن المسلمين ثمانين ألف فارس وبعث أبو عبيدة ذا الكلاع حتى كان بين دمشق وحمص ردءا وبعث علقمة بن حكيم ومسروقا فكانا بين دمشق وفلسطين والأمير يزيد وقدم خالد وأبو عبيدة وعمرو وشرحبيل على دمشق فنزلوا حواليها وحاصروا أهلها حصارا شديدا نحوا من سبعين ليلة وقاتلوهم قتالا عظيما بالزحوف والترامي والمجانيق وهم معتصمون بالدينة يرجون الغياث وهرقل منهم قريب بحمص ومدينة حمص بينه وبين المسلمين وذو الكلاع بين المسلمين وبين حمص على رأس ليلة من دمشق كأنه يريد حمص
وجاءت جنود هرقل مغيثة لأهل دمشق فأشجتها لخيول التي مع ذي

الكلاع وشغلتها فلما أيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فشلوا ووهنوا وأبلسوا وازاد المسلمون طمعا فيهم وكانوا قبل يرون أنها كالغارات وأنه إذا جاء البرد قفل الناس فسقط النجم والمسلمون مقيمون فعند ذلك انقطع رجاء الروم وندموا على دخول دمشق واتفق أن ولد للبطريق الذي دخل على أهل دمشق مولود فصنع عليه طعاما فأكل القوم وشربوا وغفلوا عن مواقفهم ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد فإنه كان لا ينام ولا ينيم ولا يخفى عليه من أمرهم شيء عيونه ذاكية وهو معني بما يليه قد اتخذ حبالا كهيئة السلالم وأوهاقا فلما أمسى من ذلك اليوم نهد هو ومن معه من جنوده الذين قدم بهم وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وأمثالهما وقالوا إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا وانهدوا للباب وأئتوا من الباب الذي كان خالد يليه فقطعوا الخندق سبحا على ظهورهم القرب ثم رموا بالحبال الشرف فلما ثبت لهم وهقان تسلق القعقاع ومذعور ثم لم يدعا أحبولة إلا أثبتاها والأوهاق بالشرف وكان المكان الذي اقتحموا منه خندقهم أحصن مكان يحيط بدمشق أكثره ماء وأشده مدخلا وتوافوا لذلك فلم يبق ممن دخل معه أحد إلا رقي أو دنا من الباب حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه وانحدر معهم فكبر الذين على رأس السور فنهد المسلمون إلى الباب ومال إلى الحبال بشر كثير فوثبوا فيها وانتهى خالد إلى أول من يليه فأنامهم وانحدر إلى الباب فقتل البوابين وثار

أهل المدينة وفزع سائر الناس فأخذوا مواقفهم ولا يدرون ما الشأن وتشاغل أهل كل ناحية مما يليهم وقطع خالد ومن معه إغلاق الباب بالسيوف وفتحوا للمسلمين فأقبلوا عليهم من داخل حتى ما بقي مما يلي باب خالد مقاتل إلا أنيم ولما شد خالد على من يليه وبلغ منهم الذي أراد عنوة أرز من أفلت إلى أهل الأبواب التي كان يليها غير خالد وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فأبوا وأبعدوا فلم يفجأهم إلا وهم يبوحون لهم بالصلح فأجابهم المسلمون وقبلوا منهم ففتحوا لهم الأبواب وقالوا ادخلوا وامنعونا من أهل ذلك الباب فدخل أهل كل باب بصلح مما يليهم ودخل خالد مما يليه عنوة فالتقي خالد والقواد في أوساطها هذا استعراضا وانتهابا وهذا صلحا وتسكينا فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح فصار كل ذلك صلحا وكان صلح دمشق على مقاسمة الديار والعقار ودينار على كل رأس وعلى جريب من كل حرث أرض واقتسموا الأسلاب فكان أصحاب خالد فيها كأصحاب سائر القواد ووقف ما كان للملوك ومن صوب معهم فيئا وقسموا لذي الكلاع ومن معه ولأبي الأعور ومن معه وبعثوا بالبشارة إلى عمر وقدم على أبي عبيدة كتاب عمر أن اصرف جند العراق إلى العراق وأمرهم بالحث إلى سعد ابن مالك فأمر عليهم أبو عبيدة هاشم بن عتبة وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو وعلى مجنبتيه عمرو بن مالك الزهري وربعي بن عامر وخرج هاشم نحو العراق في جند العراق وكانوا عشرة آلاف إلى من أصيب منهم فأموهم بأناس ممن لم يكن منهم كقيس والأشطر وخرج القواد نحو فحل وخرج علقمة ومسروق إلى إيلياء فنزلا على طريقها وبقي بدمشق مع يزيد بن أبي سفيان من قواد أهل اليمن عدد وبعث يزيد دحية بن خليفة الكلبي في خيل بعد فتح دمشق إلى تدمر وأبا الزهراء القشيري إلى البثنية وحواران فصالحوهما على صلح دمشق ووليا القيام على فتح ما بعثا إليه
وكان الذي سار على الناس نحو فحل شرحبيل بن حسنة على ما ذكره

سيف عن أشياخه قالوا وبعث خالدا على المقدمة وأبا عبيدة وعمرا على مجنبتيه وعلى الخيل ضرار بن الأزور وعلى الرجال عياض وكرهوا أن يصمدوا لهرقل وخلفهم من الروم ثمانون ألفا بإزاء فحل ينظرون إليهم فلما انتهوا إلى أبي الأعور قدموه إلى طبرية فحاصرها ونزلوا هم على فحل من أرض من الأردن وقد كان أهلها حين نزل بهم أبو الأعور تركوها وأرزوا إلى بيسان وجعلوا بينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال وكتب المسلمون إلى عمر بالخبر وأقاموا بفحل لا يريدون أن يريموها حتى يرجع جواب عمر ولا يستطيعون الإقدام على العدو من مكانهم لما دونهم من الأوحال وأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل مما فيه المشركون مادتهم متواصلة وخصبهم رغد ورجاء الروم أن يكون المسلمون على غرة فقصدوهم ليلا والمسلمون على حذر لا يأمنون مجيئهم وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة فلما هجموا على المسلمين غافصوهم ولم يناظروهم فاقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوا قط ليلتهم ويومهم إلى الليل فأظلم الليل عليهم وقد حاروا فانهزموا وقد أصيب رئيسهم سقلار بن مخراق والذي يليه فيهم نسطورس وظفر المسلمون بهم كأحسن الظفر وأهناه وركبوهم وهم يرون أنهم على قصد فوجدوهم حيارى لا يعرفون مأخذهم فاسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل فركبوه ولحق بهم أوائل المسلمين وقد وحلوا فيه فوخزوهم بالرماح وهم لا يمنعون يد لامس وقتلوا في الرداغ فما أفلت من أولئك الثمانين ألفا إلا الشريد وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون كرهوا البثوق فكانت عونا لهم على عدوهم وآية من الله ليزدادوا بصيرة وجدا واقتسموا ما أفاء الله عليهم وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص وصرفوا بشير بن كعب معهم ومضوا بذي الكلاع ومن معه وخلوا شرحبيل بن حسنة ومن معه

ذكر بيسان

ولما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نهد بالناس إلى بيسان ومعه عمرو فنزلوا عليها وأبو الأعور والقواد معه على طبرية وقد بلغ أفناء أهل الأردن ما لقيت دمشق وما لقي سقلار والروم بفحل وفي الردغة ومسير شرحبيل إليهم فتحصنوا بكل مكان وحصر شرحبيل أهل بيسان أياما ثم خرجوا يقاتلونه فقتل المسلمون من خرج إليهم منهم وصالح بقية أهلها

ذكر طبرية
وبلغ أهل طبرية فصالحوا أبا الأعور على أن يبلغهم شرحبيل ففعل وصالحهم شرحبيل وأهل بيسان على صلح دمشق على أن يشاطروا المسلمين المنازل في المدائن وما أحاط بها مما يصلها فيدعوا لهم نصفا ويأخذوا نصفا وعلى كل رأس دينار كل سنة ومن كل حرث أرض جريب بر أو شعير اي ذلك حرث وأشياء صالحوهم عليها ونزلت القواد وخيولهم فيها
وتم صلح الأردن وتفرقت الأمداد في مدائنها وقراها وكتب إلى عمر بالفتح
حديث مرج الروم من رواية سيف أيضا

قال خرج أبو عبيدة بخالد بن الوليد من فحل إلى حمص وبمن تضيف إليهم من اليرموك فنزلوا جميعا على ذي الكلاع وقد بلغ الخبر هرقل فبعث توذرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا به وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله يوم نزل عليه شنس الرومي في مثل خيل ت وذرا إمدادا لتوذرا وردءا لأهل حمص فنزل في عسكره على حدة فلما كان من الليل فر توذرا فأصبحت الأرض منه بلاقع وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس وأتى خالدا الخبر برحيل توذرا إلى جهة دمشق فأجمع رأيه ورأي أبي عبيدة أن يتبعه خالد فأتبعه من ليلته في جريدة وبلغ يزيد بن أبي سفيان ما فعل توذرا فاستقبله فاقتتلوا ولحق بهم خالد وهم يقتتلون فأخذهم من خلفهم فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم فلم يفلت منهم إلا الشريد وقتل يزيد توذرا وأصاب المسلمون ما شاءوا من ظهر وأداة وثياب وقسم ذلك يزيد على أصحابه وأصحاب خالد ثم انصرف يزيد إلى دمشق وانصرف خالد إلى أبي عبيدة وبعد خروج خالد في أثر توذرا ناهد أبو عبيدة شنس فاقتتلوا بمرج الروم فقتلهم أبو عبيدة مقتلة عظيمة حتى امتلأ المرج من قتلاهم وأنتنت منهم
الأرض وقتل أبو عبيدة شنس وهرب من هرب منهم فلم يقلهم وركب أقفاءهم إلى حمص
فهذا ما ذكر سيف من حديث دمشق وفحل ومرج الروم وسائر ما ذكر معها أوردناه مهذبا مقربا ثم نعود إلى تتمة ما وقع في كتب فتوح الشام مما يخالف ما ذكره سيف من بعض الوجوه ليوقف على كل ما ذكروه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه
قالوا إن أبا عبيدة لما ظهر على دمشق أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى أرض الأردن وفلسطين فيكون فيما بينهما ولا يقدم على المدينتين وجمع الروم بهما ولكن ينزل أطراف الرساتيق ويغير بالخيل عليهم من كل جانب ويصالح من صالحه

فخرج عمرو حتى واقع أرض الأردن فلما بلغ أهل الأردن وفلسطين فتح دمشق وتوجه الجيش إليهم هالهم ذلك ورعبهم وأشفقوا على مدائنهم أن تفتح فاجتمع من كان بها من الروم ونزلوا من حصونهم ووافاهم أهل البلد وكثير من نصارى العرب فكثر جمعهم وكتبوا إلى قيصر يستمدونه وهو بأنطاكية فبعث إلى أولئك الذين كان وجههم مددا لأهل دمشق فأقاموا ببعلبك لما بلغهم خبر فتحها أن يسيروا إليهم
وكتب عمرو إلى أبي عبيدة
أما بعد فإن الروم قد أعظمت فتح دمشق فاجتمعوا من نواحي الأردن وفلسطين فعسكروا وقد تعاقدوا وتواثقوا وتحالفوا بالله لا يرجعون إلى النساء والأولاد أو يخرجون العرب من بلادهم والله مكذب أملهم ومبطل قولهم ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا فاكتب إلي برأيك في هذا الحديث أرشد
الله رأيك وسددك وأدام رشدك والسلام
وقدم بهذا الكتاب رسول عمرو وقد استشار أبو عبيدة أصحابه في المسير بهم إلى حمص وقال وان الله تعالى قد فتح هذه المدينة يعني دمشق وهي من أعظم مدائن الشام وقد رأيت أن أسير إلى حمص لعل الله يفتحها علينا وهذا عمرو بن العاص من ورائنا فلسنا نتخوف أن نؤتى من هناك
فقال له خالد بن الوليد ويزيد بن ابي سفيان ومعاذ بن جبل ورؤوس المسلمين فإنك قد أصبت ووفقت فسر بنا إليهم

فإنهم لكذلك في هذا الرأي إذ قدم عليهم كتاب عمرو الذي تقدم فلما قرأه أبو عبيدة ألقاه إلى خالد وقال قد حدث أمر غير ما كنا فيه ثم قرأوا الكتاب على من حضرهم فقال يزيد أمدد عمرا ومره بمواقعة القوم وأقم أنت بمكانك فقال أبو عبيدة ماذا ترى أنت يا خالد قال أرى أن تنظر ما يصنع هذا الجيش الذي ببعلبك فإن هم ساروا منها إلى إخوانهم سرت إلى إخوانك فلقيتهم بجماعة المسلمين وإن هم أقاموا أمددت عمرا وبعثت إلى هؤلاء من يقاتلهم وأقمت أنت بمكانك فقال له نعم ما رأيت فسير أبو عبيدة شرحبيل ابن حسنة إلى عمرو وقال له لا تخالفه فخرج شرحبيل في ألفين وثمانمائة فقدم على عمرو وعمرو في ألفين وخمسمائة
وقال أبو عبيدة لخالد ما لهذا الجيش النازل ببعلبك إلا أنا وأنت أو يزيد فقال له خالد لا بل أنا أسير إليهم فقال أنت لهم
فبعثه أبو عبيدة في خمسة آلاف فارس وخرج معه يشيعه فسار معه قليلا فقال له خالد ارجع رحمك الله إلى عسكرك فقال له يا خالد أوصيك بتقوى الله وإذا أنت لقيت القوم فلا تناظرهم ولا تطاولهم في حصونهم ولا تذرهم يأكلون ويشربون وينتظرون أن تأتيهم أمدادهم وإذا لقيتهم فقاتلهم فإنك إن هزمتهم انقطع رجاؤهم وإن احتجت إلى مدد فأعلمني حتى يأتيك من المدد حاجتك وإن احتجت أن آتيك بنفسي أتيتك إن شاء الله ثم أخذ
بيده فودعه ثم انصرف عنه

ويجيء رسول قيصر إلى الذين ببعلبك فأمرهم باللحاق بأولئك الذين اجتمعوا ببيسان فخرجوا إليهم وأخرجوا معهم ناسا كثيرا من أهل بعلبك وأتاهم ناس كثير من أهل حمص غضبا لدينهم وشفقا من أن تفتح مدينتهم كما فتحت دمشق فخرجوا وهم أكثر من عشرين ألفا متوجهين إلى الجمع الذي ببيسان منهم وجاء خالد حتى انتهى إلى بعلبك فأخبر الخبر فأغار على نواحي بعلبك فقتل وسبى واستاق من المغانم شيئا كثيرا وأقبل راجعا إلى أبي عبيدة فأخبره واجتمع رأيهم على أن يسير أبو عبيدة بجماعة الناس إلى ذلك الجمع من الروم فقدم خالد في ألف وخمسمائة فارس أمامهم وأمره بالإسراع إلى عمرو وأصحابه ليشد الله بهم ظهورهم وليرى الروم أن المسلمين قد أتوهم فأقبل خالد مسرعا في آثار الروم فلحقهم وقد دخل أوائلهم عسكرهم فحمل على أخرياتهم فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب كثيرا من أثقالهم وأفلت من أفلت منهم منهزمين حتى دخلوا عسكرهم وجاء خالد في خيله حتى نزل قريبا من عمرو ففرح المسلمون بهم وكان عمرو يصلي بأصحابه الذين كانوا معه وخالد يصلي بأصحاب الخيل التي أقبل فيها
وقعة فحل حسبما في كتب فتوح الشام

قالوا فلما بلغ الروم أن أبا عبيدة قد أقبل إليهم تحولوا إلى فحل فنزلوا بها وجاء المسلمون بأجمعهم حتى نزلوا بهم وخرج علقمة بن الأرث فجمع من أطاعه من بني القين وجاءت لخم وجذام وعاملة وغسان وقبائل من قضاعة فدخلوا مع المسلمين وأخذ أهل البلد من النصارى يراسلون المسلمين فيقدمون رجلا ويؤخرون أخرى ويقولون أنتم أحب إلينا من الروم وإن كنتم على غير ديننا أنتم أوفى لنا وأراف بنا وأكف عن ظلمنا ولكنهم غلبونا على أمرنا فيقول لهم المسلمون إن هذا ليس بنافعكم عندنا ما لم تعتقدوا منا الذمة وإنا إن ظهرنا عليكم كان لنا أن نسبيكم ونستعبدكم وإن اعتقدتم منا الذمة سلمتم من ذلك فكانوا يتربصون وينتظرون ما يكون من أمر قيصر وقد بلغهم أنه بعث إلى أقاصي بلاده وإلى كل من كان على دينه ممن حوله وأنهم في كل يوم يقدمون عليه ويسقطون إليه فهم ينتظرون ما يكون منه وهم مع ذلك بموضعهم بين الثلاثين ألفا والأربعين ألفا
وكان المسلمون حيث نزلوا بهم ليس شيء أحب إليهم من معاجلتهم وكانوا هم ليس شيء أحب إليهم من مطاولة المسلمين رجاء المدد من صاحبهم ولأن المسلمين ليسوا في مثل ما الروم فيه من الخصب والكفاية
وأقبلت الروم يبثقون المياه بينهم وبين المسلمين ليطاولوهم وأقبل المسلمون يخوضون إليهم الماء ويمشوا في الوحل فلما رأى ذلك الروم وأنه لا يمنعهم منهم شيء خرجوا فعسكروا وتيسروا للقتال ووطنوا أنفسهم عليه وكانوا كل يوم
في زيادة من الأمداد الواصلة إليهم
فأمر أبو عبيدة المسلمين حيث بلغه ذلك أن يغيروا عليهم وعلى ما حولهم من القرى والسواد والرساتيق ففعلوا وقطعوا عنهم بذلك المادة والميرة
فلما رأى ذلك ابن الجعد أتى أبا عبيدة فصالحه على سواد الأردن وكتب له كتابا

وكان صفوان بن المعطل ومعن بن يزيد بن الأخنس السلميان قد خرجا في خيل لهما فأغارا فغنما فلما انصرفا عرضت لهم الروم فقاتلوهم وإنما كان المسلمون في نحو من مائة رجل والروم في خمسة آلاف مع درنجار عظيم منهم فطاردوهم وصبروا لهم واحتسبوا في قتالهم ثم إن الروم غلبوهم على غنيمتهم وجاء حابس بن سعد الطائي في نحو من مائة رجل فحمل عليهم فزالوا غير بعيد ثم حملوا عليه فردوه وأصحابه حتى ألحقوهم بالمسلمين ثم انصرفوا وقد بغوا وهم يعدون هذا ظفرا ولم يقتلوا أحدا ولم يهزموا جمعا فلما انصرفوا إلى عسكرهم أرسلوا إلى أبي عبيدة أن اخرج أنت ومن معك من بلادنا التي تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب فلستم لها بأهل وارجعوا إلى بلادكم بلاد البؤس والشقاء وإلا أتيناكم فيما لا قبل لكم به ثم لم ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف
فرد عليهم أبو عبيدة أما قولكم أخرجوا من بلادنا فلستم لها بأهل فلعمري ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله ونزعها من أيديكم وإنما البلاد بلاد الله والعباد عباد الله والله ملك الملوك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وأما قولكم في بلادنا أنها بلاد البؤس والشقاء فصدقتم إنها لكذلك وقد أبدلنا الله بها بلادكم بلاد العيش الرفيع والسعر الرخيص والجناب الخصيب فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها حتى نفنيكم أو نخرجكم منها ولكن أقيموا فوالله لا نجشمكم أن تأتونا ولنأتينكم إن أنتم أقمتم لنا فلا نبرح حتى نبيد خضراءكم ونستأصل شأفتكم إن شاء الله تعالى
فلما جاءهم ذلك عنهم أيقنوا بجد القوم فأرسلوا إليهم أن ابعثوا إلينا رجلا من صلحائكم نسأله عما تريدون وما تسألون وما تدعون إليه ونخبره بذات أنفسنا وندعوكم إلى حظكم إن قبلتم

فأرسل إليهم أبو عبيدة معاذ بن جبل فأتاهم على فرس له فلما دنا منهم نزل عن فرسه ثم أخذ بلجامه وأقبل إليهم يقوده فقالوا لبعض غلمانهم انطلق إليه فأمسك له فرسه فجاء الغلام ليفعل فقال له معاذ أنا أمسك فرسي لا أريد أن يمسكه أحد غيري وأقبل يمشي إليهم فإذا هم هلى فرش وبسط ونمارق تكاد الأبصار تغشى منها فلما دنا من تلك الثياب قام قائما فقال له رجل منهم أعطني هذه الدابة أمسكها لك وادن أنت فاجلس مع هذه الملوك مجالسهم فإنه ليس كل أحد يقدر أن يجلس معهم وقد بلغهم عنك صلاح وفضل فيمن أنت منه فهم يكرهون أن يكلموك جلوسا وأنت قائم فقال لهم معاذ والترجمان يفسر لهم ما يقول إن نبينا {صلى الله عليه وسلم} أمرناأن لا نقوم لأحد من خلق الله ولا يكون قيامنا إلا لله في الصلاة والعبادة والرغبة إليه فليس قيامي هذا لكم ولكن قمت إعظاما للمشي على هذه البسط والجلوس على هذه النمارق التي استأثرتم بها على ضعفائكم وإنما هي من زينة الدنيا وغرورها وقد زهد الله في الدنيا وذمها ونهى عن البغي والسرف فيها فأنا أجلس هاهنا على الأرض وكلموني أنتم بحاجتكم من ثم وأقيموا الترجمان بيني وبينكم يفهمني ما تقولون ويفهمكم ما أقول ثم أمسك برأس فرسه وجلس على الأرض عند طرف البساط فقالوا له لو دنوت فجلست معنا كان أكرم لك إن جلوسك مع هذه الملوك على هذه المجالس مكرمة لك وإن جلوسك على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه فلا نراك إلا قد أزريت بنفسك فلما أخبره الترجمان بمقالتهم جثا على ركبتيه واستقبل القوم بوجهه وقال للترجمان قل لهم إن كانت هذه المكرمة التي تدعونني إليها استأثرتم بها على من هو مثلكم إنما هي للدنيا فلا حاجة لنا في شرف الدنيا ولا في فخرها وإن زعمتم أن هذه المجالس والدنيا التي في أيدي عظمائكم وهم مستأثرون بها على ضعفائكم مكرمة لمن كانت في يده منكم

عند الله فهذا خطأ من قولكم وجور من فعلكم ولا يدرك ما عند الله بالخطأ ولا بخلاف ما جاء به الأنبياء عن الله من الزهادة في الدنيا وأما قولكم إن جلوسي على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه ألا فصنيع العبد بنفسه صنعت أنا عبد من عبيد الله جلست على بساط الله ولا استأثر من مال الله بشيء على إخواني من أولياء الله وأما قولكم أزريت بنفسي في مجلسي فإن كان ذلك إنما هو عندكم وليس كذلك عند الله فلست أبالي كيف كانت منزلتي عندكم إذا كنت عند الله على غير ذلك وإن قلتم أن ذلك عند الله فقد أخطأتم خطأ بينا لأن أحب عباد الله إلى الله المتواضعون لله القريبون من عباد الله الذين لا يشغلون أنفسم بالدنيا ولا يدعون التماس نصيبهم من الآخرة
فلما فسر لهم الترجمان هذا الكلام نظر بعضهم إلى بعض وتعجبوا مما سمعوا منه وقالوا لترجمانهم قل له أنت افضل أصحابك فلما قال له قال معاذ الله أن أقول ذلك وليتني لا أكون شرهم فسكتوا عنه ساعة لا يكلمونه وتكلموا فيما بينهم فلما رأى ذلك قال لترجمانهم إن كانت لهم حاجة في كلامي وإلا انصرفت عنهم فلما أخبرهم قالوا قل له أخبرونا ما تطلبون وإلام تدعون ولماذا دخلتم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد وأهل فارس وقد هلك ملكهم وهلك ابنه وإنما يملكهم اليوم النساء ونحن ملكنا حي وجنودنا عظيمة وإن أنتم افتتحتم من مدائننا مدينة أو من قرانا قرية أو من حصوننا حصنا أو هزمتم لنا جندا أظننتم أنكم ظفرتم بجماعتنا أو قطعتم عنكم حربنا وفرغتم مما وراءنا ونحن عدد نجوم السماء وحصى الأرض وأخبرونا بم تستحلون قتالنا وأنتم تؤمنون بنبينا وكتابنا

فلما قالوا هذا القول وفسره الترجمان لمعاذ سكتوا فقال معاذ للترجمان أقد فرغوا قال نعم قال فأفهم عني إن أول ما أنا ذاكر حمدا لله الذي لا إله إلا هو والصلاة على محمد {صلى الله عليه وسلم} وأول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده وبمحمد {صلى الله عليه وسلم} وأن تصلوا صلاتنا وتستقبلوا قبلتنا وأن تستسنوا بسنة نبينا
وتكسروا الصليب وتجتنبوا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ثم أنتم منا ونحن منكم وأنتم إخواننا في ديننا لكم ما لنا وعليكم ما علينا وإن أبيتم فأدوا الجزية في كل عام إلينا عن يد وأنتم صاغرون فإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شيء مما خلق الله نحن قابلوه منكم فابرزا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين فهذا ما نأمركم به وما ندعوكم إليه

وأما قولكم ما أدخلكم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد وأهل فارس وقد هلك ملكهم فإني أخبركم عن ذلك ما بدأنا بقتالكم أن يكونوا آثر عندنا منكم إنكم جميعا لسواء وما حابيناهم بالكف عنهم إذ بدأنا بكم ولكن الله تبارك وتعالى أنزل في كتابه على نبينا {صلى الله عليه وسلم} يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة 122 التوبه فكنتم أقرب إلينا منهم فبدأنا بكم لذلك ثم لقد أتتهم طائفة منا بعدنا فإنهم اليوم ليقاتلونهم وإنا لنرجو أن يعزهم الله ويفتح عليهم وأما قولكم إن ملكنا حي وإن جنودنا عظيمة وإنا عدد نجوم السماء وحصى الأرض وتؤيسونا من الظهور عليكم فإن الأمر في ذلك ليس إليكم وإن الأمور كلها لله وكل شيء في قبضته وقدرته وإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فإن يكن ملككم هرقل فإنما ملكنا نحن الله تبارك وتعالى وأميرنا رجل منا إن عمل فينا بكتاب ربنا وسنة نبينا أقررناه وإن غير عزلناه ولا يحتجب منا ولا يتكبر علينا ولا يستأثر علينا في فيئنا الذي أفاء الله عز وجل علينا وهو فيه كرجل منا وأما جنودنا فإنها وإن عظمت وكثرت حتى تكون أكثر من نجوم السماء وحصى الأرض فإنا لا نثق بها ولا نتكل عليها ولكنا نتبرأ من الحول والقوة ونتوكل على الله ونثق به وكم من فئة قليلة قد أعزها الله ونصرها وأعانها وكم من فئة كثيرة قد أذلها الله سبحانه وأهانها قال الله تبارك وتعالى كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين 249 البقرة
وأما قولكم كيف تستحلون قتالنا وأنتم مؤمنون بنبينا وكتابنا فأنا أخبركم

عن ذلك نحن نؤمن بنبيكم ونشهد أنه عبد من عباد الله ورسول من رسل الله وأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ولا نقول إنه الله ولا إنه ثاني اثنين ولا ثالث ثلاثة ولا أن لله عز وجل ولدا ولا صاحبة ولا أن مع الله آلهة أخرى لا إله إلا هو تعالى عما تقولون علوا كبيرا وأنتم تقولون في عيسى قولا عظيما ولو أنكم قلتم في عيسى كما نقول وآمنتم بنبوة نبينا {صلى الله عليه وسلم} كما تجدونه في كتابكم وكما نؤمن نحن بنبيكم وأقررتم بما جاء به من عند الله ووحدتم الله ما قاتلناكم بل سالمناكم وواليناكم وقاتلنا عدوكم معكم
فلما فرغ معاذ من مخاطبتهم قالوا له ما نرى ما بيننا وبينكم إلا متباعدا وقد بقيت خصله ونحن عارضوها عليكم فإن قبلتموها منا فهو خير لكم وإن أبيتم فهو شر لكم نعطيكم البلقاء وما وإلى أرضكم من سواد الأردن وتتحولون عن بقية أرضنا وعن مدائننا ونكتب عليكم كتابا نسمي فيه خياركم وصلحاءكم ونأخذ فيه عهودكم ومواثيقكم أن لا تطلبوا من أرضنا غير ما صالحناكم عليه وعليكم بأهل فارس فقاتلوهم ونحن نعينكم عليهم حتى تقتلوهم أو تظهروا عليهم
فقال لهم معاذ هذا الذي تعطوننا هو كله في أيدينا ولو أعطيتمونا جميع ما في أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التي وصفت لكم ما فعلنا
فغضبوا وقالوا أنتقرب منك وتتباعد منا اذهب إلى أصحابك فوالله إنا لنرجو أن نقرنكم غدا في الحبال فقال معاذ أما في الحبال فلا ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا أو لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون ثم انصرف إلى أبي عبيدة فأخبره بما قالوا وما رد عليهم فإنهم لكذلك إذ بعثوا إلى أبي عبيدة
إنك بعثت إلينا رجلا لا يقبل النصف ولا يريد الصلح فلا ندري أعن رأيك ذلك أم لا وإنا نريد أن نبعث إليك رجلا منا يعرض عليك النصف
ويدعوك إلى الصلح فإن قبلت ذلك منه فلعله يكون خيرا لنا ولك وإن أبيت فلا نراه إلا شرا لك

فقال له أبو عبيدة ابعثوا من شئتم فبعثوا إليه رجلا منهم طويلا أحمر أزرق فلما جاء المسلمين لم يعرف ابا عبيدة من القوم ولم يدر أفيهم هو أم لا ولم ير هيبة مكان أمير فقال يا معشر العرب أين أميركم قالوا له هو ذا فنظر فإذا هو بأبي عبيدة جالسا على الأرض عليه الدرع وهو متنكب القوس وفي يده أسهم يقلبها فقال له أنت أمير هؤلاء الناس قال نعم قال فما جلوسك على الأرض أرأيت لو كنت جالسا على وسادة أو كان تحتك بساط أكان ذلك واضعك عند الله أو مباعدك من الإحسان فقال أبو عبيدة إن الله لا يستحيي من الحق لأصدقنك عما قلت ما أصبحت أملك دينارا ولا درهما وما أملك إلا فرسي وسلاحي ولقد احتجت أمس إلى نفقة فلم تكن عندي حتى استقرضت أخي هذا يعني معاذا نفقة كانت عنده فأقرضنيها ولو كان عندي أيضا بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه دون أصحابي وإخواني وأجلس على ألأرض أخي المسلم الذي لا أدري لعله عند الله خير مني ونحن عباد الله نمشي على ألأرض ونأكل على ألأرض ونجلس عليها ونضطجع عليها وليس بناقصنا ذلك عند الله شيئا بل يعظم الله به أجورنا ويرفع به درجاتنا هات حاجتك التي جئت لها
فقال الرومي إنه ليس شيء أحب إلى الله من الإصلاح ولا أبغض إليه من البغي والفساد وإنكم قد دخلتم بلادنا فظهر منكم فيها الفساد والبغي وقل ما بغى قوم وأفسدوا في الأرض إلا عمهم الله بهلاك وإنا نعرض عليكم أمرا فيه حظ إن قبلتموه إن شئتم أعطيناكم دينارين دينارين وثوبا ثوبا وأعطيناك أنت ألف دينار ونعطي الأمير الذي فوقك يعنون عمر بن الخطاب ألفي دينار وتنصرفون عنا وإن شئتم أعطيناكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأردن
وخرجتم من مدائننا وأرضنا وكتبنا فيما بيننا وبينكم كتابا يستوثق فيه بعضنا من بعض بالأيمان المغلظة لتقومن بما فيه ولنفين بما عاهدنا الله عليه

فقال أبو عبيدة إن الله تعالى بعث فينا رسولا تنبأه وأنزل عليه كتابا حكيما وأمره أن يدعو الناس إلى عبادته رحمة منه للعالمين فقال لهم إن الله إله واحد عزيز حكيم علي مجيد وهو خالق كل شيء وليس كمثله شيء فوحدوا الله الذي لا إله إلا هو ولا تتخذوا معه إلها آخر فإن كل شيء يعبده الناس دونه فهو خلقه وإذا أتيتم المشركين فأدعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإقرار بما جاء به من ربه فمن آمن وصدق فهو أخوكم في دينكم له ما لكم وعليه ما عليكم ومن أبى فاعرضوا عليهم أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإن أبوا أن يؤمنوا أو يؤدوا الجزية فقاتلوهم فإن قتيلكم المحتسب بنفسه شهيد عند الله في جنات النعيم وقتيل عدوكم في النار فإن قبلتم ما سمعتم فذاكم وإن أبيتم فأبرزا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين
قال الرومي فقد أبيتم إلا هذا فقال أبو عبيدة نعم فقال أما والله على ذلك إني لأراكم ستتمنون أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم فقال أبو عبيدة لا والله لا نقبل هذا منك ولا من غيرك أبدا فانصرف الرومي رافعا يديه إلى السماء يقول اللهم إنا قد أنصفناهم فأبوا اللهم فانصرنا عليهم
ووثب أبو عبيدة مكانه فسار في الناس وقال أصبحوا أيها الناس وأنتم تحت راياتكم وعلى مصافكم فأصبح الناس وخرجوا على تعبئتهم ومصافهم
وكتب أبو عبيدة إلى عمر
لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن الروم قد أقبلت فنزلت طائفة منهم فحلا مع أهلها وقد سارع إليهم أهل البلد ومن كان على دينهم من العرب وقد أرسلوا إلي أن اخرجوا من بلادنا فإنكم لستم لهذه البلاد التي تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب أهلا والحقوا ببلادكم بلاد الشقاء
والبؤس فإن أنتم لم تفعلوا سرنا إليكم بما لا قبل لكم به ثم أعطينا الله عهدا أن لا ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف فأرسلت إليهم

اما قولكم أخرجوا من بلادنا فلستم لما تنبت أهلا فلعمري ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله تعالى ونزعها من أيديكم وإنما البلاد بلاد الله والعباد عباد الله وهو سبحانه ملك الملوك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء
وأما ما ذكرتم من بلادنا وزعمتم أنها بلاد البؤس والشقاء فقد صدقتم وقد أبدلنا الله بها بلادكم بلاد العيش الرفيع والسعر الرخيص والجناب الخصيب فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها ولكن أقيموا لنا فوالله لا نجشمكم إتياننا ولنأتينكم إن أقمتم لنا
وكتبت إليك حين نهضت إليهم متوكلا على الله راضيا بقضاء الله واثقا بنصر الله فكفانا الله وإياك كيد كل كائد وحسد كل حاسد ونصر الله أهل دينه نصرا عزيزا وفتح لهم فتحا يسيرا وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا والسلام عليك
ودفع أبو عبيدة هذا الكتاب إلى نبطي من أنباط الشام وقال له أئت به أمير المؤمنين ثم نهض هو إلى الروم بجماعة المسلمين فدنا منهم وتعرضت خيل المسلمين لهم فلم يخرجوا يومئذ فانصرف المسلمون عنهم من غير قتال وتأخر النبطي عن المسير حتى انصرف المسلمون فذهب عند ذلك بالكتاب وقد كان أبو عبيدة بعثه أول النهار فلما قدم على عمر رحمه الله وقرأ كتابه قال له ويحك هل علمت أو بلغت ما كان من أمر المسلمين فإن أبا عبيدة كتب إلي يخبرني أنه كتب إلي حين نهض إلى المشركين فقال له أصلحك الله فإني لم أبرح يومئذ حتى رجع المسلمون عنهم وكانوا زحفوا إليهم وتعرضت خيلهم لهم فلم يخرج النصارى إليهم فانصرف المسلمون إلى عسكرهم وهم أطيب شيء أنفسا وأحسن شيء حالا قال فأنت ما حبسك يومئذ إلى العشي لم

تقبل بالكتاب وقد دفعه إليك أبو عبيدة أول النهار قال ظننت أنك ستسألني عما سألتني عنه الساعة فأحببت أن يكون عندي علم ما تسألني عنه قال له عمر ويحك ما دينك قال نصراني قال ويحك أفما يدلك عقلك هذا الذي أرى على أن تسلم ويحك أسلم فهو خير لك قال فقد أسلمت فقال عمر الحمد لله الذي يهدي من يشاء إذا يشاء ثم كتب معه إلى أبي عبيدة بن الجراح
سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن كتابك جاءني بنفير الروم إليك ومنزلهم الذي نزلوا به ورسالتهم التي أرسلوها وبالذي رجعت إليهم فيما سألوك وقد سددت بحجتك وأوتيت رشدك فإن أتاكم كتابي هذا وأنتم الغالبون فكثيرا ما يكون من ربنا الإحسان وإن أتاكم وقد أصابكم نكب أو قرح فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تستكينوا وأنتم الأعلون وإنها دار الله وهو فاتحها عليكم فاصبروا إن الله مع الصابرين وأعلم أنك متى لقيت عدوك فاستعنت بالله عليهم وعلم منك الصدق نصرك عليهم فقل إذا أنت لقيتهم اللهم أنت الناصر لدينك المعز لأوليائك الناصر لهم قديما وحديثا اللهم فتول نصرهم وأظهر فلجهم ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها وكن أنت الصانع لهم والمدافع عنهم برحمتك إنك أنت الولي الحميد

فأقبل الرسول بهذا إلى أبي عبيدة وكان أبو عبيدة بعد ذلك اليوم الذي زحف فيه إلى الروم فلم يخرجوا إليه سرح إليهم من الغد خالدا في الخيل ولم يخرج أبو عبيدة يومئذ في الرجالة فخرجت إلى خالد خيل لهم عظيمة فأقبلت نحوه فقال لقيس بن هبيرة وكان من أشد الناس بأسا واشده نكاية في العدو ومباشرة لهم بعد خالد يا قيس أخرج إلى هذا الخيل فخرج إليهم قيس فحمل عليهم مرارا وحملوا عليه فقاتلهم قتالا شديدا ثم أقبلت خيل أخرى عظيمة للروم فقال خالد لميسرة بن مسروق اخرج إليهم فخرج ميسرة فقاتلهم قتالا شديدا ثم خرجت إليهم من الروم خيل أخرى عظيمة هي أعظم من الخيلين جميعا عليها بطريق عظيم من بطارقتهم فجاء حتى إذا دنا من خالد أمر بشطر خيله فحملت على خالد وأصحابه فلم يتخلخل أحد منهم
ثم إنه جمعهم جميعا فحمل بهم فلم يبرح أحد من المسلمين فلما رأى ذلك الرومي انصرف فقال خالد لأصحابه إنه لم يبق من جد القوم ولأحدهم ولا قوتهم إلا ما قد رأيتم فأحملوا معي يا أهل الإسلام حملة واحدة وأتبعوهم ولا تقلعوا عنهم رحمكم الله ثم حمل عليهم خالد بمن معه فكشف من يليه منهم وحمل قيس بن هبيرة على الذين كانوا يلونه فهزمهم وكشفهم وحمل ميسرة على الذين كانوا يلونه فهزمهم وأتبعهم المسلمون يقتلونهم و يقصفون بعضهم على بعض حتى اضطروهم إلى عسكرهم وقد رأوا ما أصابهم فانكسروا ووهنوا وهابوا المسلمين هيبة شديدة وانصرف المسلمون إلى عسكرهم وقد قرت أعينهم واجتمعوا إلى أبي عبيدة وهم مسرورون بما أراهم الله في عدوهم من عونه لهم عليهم فقال له خالد إن هزيمتنا خيل المشركين قد دخل رعبها قلوب جماعتهم فكلهم قلبه مرعوب متخوف لمثلها منا مرة أخرى فناهض القوم غدا بالغداة ما دام رعب هذه الهزيمة في قلوبهم فإنك إن أخرت قتالهم أياما ذهب رعبها من قلوبهم واجترؤوا علينا
قال أبو عبيدة فأنهضوا على بركة الله غدا بالغداة

قال عمرو بن مالك القيسي ولم يكن شيء أحب إلى الروم من التطويل ودفع الحرب انتظارا لمدد ولا شيء أحب إلى المسلمين من المناجزة وتعجيل الفراغ
وقال عبد الله بن قرط لما كانت الليلة التي خرجنا في صبيحتها إلى أهل فحل خرج إلينا أبو عبيدة في الثلث الباقي من الليل فلم يزل يعبى ء الناس ويحرضهم حتى إذا اصبح صلى بالناس فكان إلى التغليس أقرب منه إلى التنوير ثم إنه جعل على ميمنته معاذ بن جبل وعلى ميسرته هاشم بن عتبة وعلى الرجالة سعيد بن زيد وعلى الخيل خالد بن الوليد ثم زحف أبو عبيدة بالناس وأخذوا يزفون زفا رويدا على رسلهم
وركب أبو عبيدة فاستعرض الصف من أوله إلى آخره يقف على كل راية وكل قبيلة ويقول عباد الله استوجبوا من الله النصر بالصبر فإن الله مع الصابرين عباد الله ليبشر من قتل منكم بالشهادة ومن بقي بالنصر والغنيمة ولكن وطنوا أنفسكم على القتال والطعن بالرماح والضرب بالسيوف والرمي بالنبل ومعانقة الأقران فإنه والله ما يدرك ما عند الله إلا بطاعته والصبر في المواطن المكروهه التماس رضوانه

وتقدم خالد في الخيل حتى أطل على الروم فلما خرجوا إليه في الخيل والرجل جميعا وقالوا إن العرب أفرس على الخيل منا وخيلنا لا تكاد تثبت لخيلهم فأخرجوا إليهم في الخيل والرجال وكان خالد قد هزم خيلهم بالأمس فكان ذلك أيضا مما حملهم على الخروج على هذه التعبئة خرجوا وهم خمسة صفوف فأول صف من صفوفهم جعلوا فيه الفارس بين راجلين رامح وناشب وجعلوا صفا من الخيل وراء هذا الصف وجعلو له مجنبتين ثم صفوا ثلاثة صفوف أخر رجالا كلهم ثم أقبلوا نحو المسلمين وهم نحو خمسين ألفا فكان أول من لقيهم خالد بن الوليد في الخيل فأخذ لا يجد عليهم مقدما وأخذوا يزحفون إليه ويرشقونه بالنشاب وجعل ينكص هو وأصحابه وراءهم وأخذت الروم تقدم عليهم وهم يتأخرون حتى انتهوا إلى صفهم ودافعت أعجاز كثير من خيلهم صدور رجالهم ثم إن خالدا بعث إلى قيس بن هبيرة أن أخرج في خيلك حتى تأتي ميسرتهم فتحمل عليها وقال لميسرة بن مسروق قف قبالة صفهم في خيلك وضمها إليك كتيبة واحدة فإذا رأيتنا قد حملنا وانتقض صفهم فأحمل على من يليك منهم
وكان خالد قسم خيله أثلاثا فجعل للمرادي قيس بن هبيرة ثلثها ولميسرة بن مسروق العبسي ثلثها وكان هو في ثلثها فخرج خالد في ثلث الخيل التي معه حتى انتهى إلى ميمنتهم فعلاها حتى إذا ارتفع عليهم أخرجوا إليه خيلا لهم كيما تشغله واصحابه فلما دنت منه قال الله أكبر الله أخرجهم
لكم من رجالتهم شدوا عليهم ثم استعرضهم فشد عليهم وشد معه أصحابه بجماعة خيلهم فهزمهم الله ووضعوا السلاح والسيوف فيهم حيث شاءوا فصرعوا منهم أكثر من سبعين قبل أن ينتهوا إلى ميمنتهم وارتفع قيس بن هبيرة إلى مسيرتهم فأخرجوا إليه خيلا كما صنعوا بخالد فحمل عليهم قيس فهزمهم وضربهم حتى انتهى إلى ميسرتهم وقتل منهم بشر كثير وقتلى عظيمة وكان واثلة بن الأسقع في خيل قيس بن هبيرة فخرج له بطريق من كبارهم فبرز له واثلة وهو يقول في حملته
ليث وليث في مجال ضنك

كلاهما ذو أنف ومعك
أجول جول صارم في العرك
أو يكشف الله قناع الشك
مع ظفري بحاجتي ودركي
الرجز
ثم حمل على البطريق فضربه ضربة قتله بها وحملوا بأجمعهم حتى اضطروا الروم إلى عسكرهم ووقفوا بإزائهم
قال هاشم بن عتبة رحمه الله والله لقد كنا أشفقنا يومئذ على خيلنا أول النهار ثم أحسن الله فما هو إلا أن رأينا خيلنا قد نصرنا الله على خيلهم فدعوت الناس إلي وأمرتهم بتقوى الله ثم نزلت فهززت رايتي ثم قلت والله لا أردها حتى أركزها في صفهم فمن شاء فليتبعني ومن شاء فليتخلف عني قال فو الذي لا إله غيره ما أعلم أن أحدا من أصحاب رايتي تخلف عني حتى انتهيت إلى صفهم فنضحونا بالنشاب فجثونا على الركب واتقيناهم بالدرق ثم ثرت بلوائي وقلت لأصحابي شدوا عليهم أنا فداؤكم فإنها غنيمة الدنيا
والآخرة فشددت وشدوا معي فأستقبل عظيما منهم قد أقبل نحوي فأوجزه الرمح فخر ميتا وضاربناهم بالسيوف ساعة في صفهم وحمل عليهم خالد من قبل ميسرتهم فقتلهم قتلا ذريعا وانتقضت صفوفهم من قبل خالد ومن قبلي ونهد إليهم أبو عبيدة بالناس وأمر الخيل التي كانت تليه من خيل خالد فحملت عليهم فكانت هزيمتهم

وقال عمرو بن مالك القيني عن أبيه كان منا رجل له فينا منزلة وحال حسنة قال فقلت في نفسي قد بلغني أن صاحب العرب هذا يعني أبا عبيدة رجل صدق فو الله لآتينه فلأصحبنه ولأتعلمن منه قال فكنت آتيه وأخرج معه إذا خرج إلى عسكره فلما كان ذلك اليوم أقبل حتى كان إلى جنب أبي عبيدة فألظ به لا يفارقه قال فو الله لرأيته يقص علينا ويقول كونوا عباد الله أولياء الله وارغبوا فيما عند الله أشد من رغبتكم في الدنيا ولا تواكلوا فتخاذلوا وليغن كل رجل منكم قرنه وأقدموا إقدام من يريد بإقدامه ثواب الله ولا يكن من لقيكم من عدوكم أصبر على باطلهم منكم على حقكم ثم نهض يمشي إليهم ونهض المسلمون معه تحت راياتهم ببصيرة وسكينة ودعة وحسن رعة وحمل قيس بن هبيرة على الروم من قبل ميسرتهم فقصف بعضهم على بعض
وعن يحيى بن هانى ء المرادي أن قيسا قطع يومئذ ثلاثة أسياف وكسر بضعة عشر رمحا وكان يقاتل ويقول
لا يبعدن كل فتى كرار
ماضي الجنان شاحب صبار
حين تهم الخيل بالإدبار
يقدم إقدام الشجاع الضاري
الرجز
وقال سالم بن ربيعة حمل ميسرة بن مسروق يومئذ ونحن معه في الخيل فحملنا على القلب وقد أخذ صف الروم ينتقض من قبل ميسرتهم وميمنتهم ولم ينته الإنتقاض إلى القلب بعد فثبتوا لنا وقاتلونا قتالا شديدا فصرع ميسرة عن فرسه وصرعت معه وجرح فرسي فعار ويعتنق ميسرة رجلا من الروم فاعتركا ساعة فقتلهميسرة ثم شد عليه آخر وقد أعي ميسرة فاعتركا ساعة فصرعه الرومي وجلس على صدره وأشد عليه فأضرب وجه الرومي بالسيف فأطرت قحفة فوقع ميتا ووثب ميسرة وانبرى إلي رجل منهم فضربني ضربة دير بي منها ويضربه ميسرة فيصرعه وركبنا منهم عدد كثير فأحاطوا بنا وظننا والله أنه الهلاك إذ نظرنا فإذا نحن نسمع نداء المسلمين وتكبيرهم وإذا صفوفهم قد انتهت إلينا وراياتهم قد غشيتنا فكبرنا واشتدت ظهورنا فانقشع الروم عنا وحمل عليهم خالد من قبل ميمنتهم فدق بعضهم على بعض حتى دخلوا عسكرهم

وعن نوفل بن مساحق عن أبيه أن خالدا قاتل يومئذ قتالا شديدا ما قاتل مثله أحد من المسلمين وما كان إلا حديثا ومثلا لمن حضره ولقد كان يستعرض صفوفهم وجماعتهم فيحمل عليهم حتى يخالطهم ثم يجالدهم حتى يفرقهم ويهزمهم ويكثر القتل فيهم
قال ولقد سمعت من يزعم أنه قتل في ذلك اليوم أحد عشر رجلا من الروم من بطارقتهم وأشدائهم وأهل الشجاعة منهم وكان يقاتلهم ويقول
أضربهم بصارم مهند
ضرب صليب الدين هاد مهتد
( لا واهن الحول ولا مفند ) الراجز
وعن سهل بن سعد قال كان معاذ بن جبل يومئذ من أشد الناس بأسا وكان يقول يا أهل الإسلام إن هذا اليوم لما بعده من الأيام غضوا أبصاركم رحمكم الله وأقدموا إقدام الأسد على عدوكم ولا تفارقوا راياتكم ولا تزولوا عن مصافكم وسوقوهم سوقا عنيفا ولا تشاغلوا عنهم بغنائمهم ولا بما في عسكرهم فإني أخاف أن يكون لهم عليكم عطفة فلا تقوم لكم بعدها قائمة إن تفرقتم وشغلتكم من غنائمهم فاطلبوهم حتى لا تروا لهم جمعا ولا صفا
فمضى المسلمون كما وصف لهم على راياتهم وصفوفهم يقدمون عليهم وجعلت صفوف الروم تنتقض وتدبر وخيل المسلمين تكردهم وتقتلهم وتحمل عليهم ولا تقلع عنهم فقتلوا منهم في المعركة نحوا من خمسة آلاف وقتلوا في عسكرهم حيث دخلوا نحوا من ألفين وخرجوا عباديد منهزمين وخيل المسلمين تتبعهم وتقتلهم حتى اقتحموا في فحل وفحل مطلة على أهوية تحتها الماء فتحصنوا فيها وأصاب المسلمون منهم نحوا من ألفي أسير فقتلهم المسلمون وأقبل أبو عبيدة حتى دخل عسكرهم وحوى ما فيه

وقال عبد الله بن قرط الثمالي مررت يومئذ بعمرو بن سعيد بن العاص قبل هزيمة المشركين ومعه رجال من المسلمين سبعة أو ثمانية وإنه لأمامهم نحو العدو وإنه ليقول يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير 15 - 16 الأنفال ثم يقول لكن الجنة والله نعم المصير ولمن هي هي والله لمن شرى نفسه اليوم لله وقاتل في سبيل الله ثم يقول إلي يا أهل الإسلام أنا عمرو بن سعيد بن العاص لا تفروا فإن الله يراكم ومن يره الله يفر عن نصر دينه يمقته فاستحيوا من الله ربكم أن يراكم تطيعون أبغض خلقه إليه وهو الشيطان الرجيم وتعصونه
وهو الرحمن الرحيم

قال عبد الله بن قرط وقد كان العدو حمل علينا حملة منكرة فرقت بيني وبين أصحابي فانتهيت إلى عمرو وهو يقول هذا القول فقلت في نفسي والله ما أنا بواجد اليوم في هذا العسكر رجلا أقدم صحبة ولا أقرب قرابة من رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من هذا الرجل فدنوت منه ومعي الرمح وقد أحاطت به من الروم جماعة فحملت عليهم فأصرع أحدهم ثم أقبلت إليه فوقفت معه ثم قلت يا ابن أبي أحيحة أتعرفني فقال لي نعم يا أخا ثقيف فقلت له لم تبعد هم الإخوان والجيران والحلفاء ولكني أخو ثمالة عبد الله بن قرط فقال لي مرحبا بك أنت أخي في الإسلام وهو أقرب النسب أما والله لئن استشهدت وكفى بالله شهيدا لأشهدن لك ولئن شفعت لأشفعن لك قال فنظرت إلى وجهه فإذا هو مضروب على حاجبه بالسيف وإذا الدم قد ملأ عينيه وإذا هو لا يستطيع أن يطرف ولا يفتح عينيه من الدم فقلت له أبشر بخير فإن الله معافيك من هذه الضربة ومنزل النصر على الإسلام قال أما النصر لأهل الإسلام فأنزل الله فعجل وأما أنا فجعل الله لي هذه الضربة شهادة وأهدي إلي أخرى مثلها فو الله ما أحب أنها بعرض أبي قبيس ووالله لولا أن يقتل بعض من حولي لأقدمت على هذا العدو حتى ألحق بربي يا أخي إن ثواب الشهادة عظيم وإن الدنيا قل ما يسلم منها أهلها
قال فما كان بأسرع من أن شد علينا منهم جماعة فمشى إليهم بسيفه فضاربهم ساعة وهو أمام الناس وثار بينهم الغبار فشددنا عليهم فصرعنا منهم عدة وإذا نحن بعمرو بن سعيد صريعا وإذا هو قد بضع وبه أكثر من ثلاثين ضربة وكانوا حنقوا عليه وحردوا لما رأوا من شدة قتاله فقطعوه بأسيافهم يرحمه الله
وقتل أيضا هناك من قريش من بني سهم سعيد بن عمرو وسعيد بن الحارث بن قيس والحارث بن الحارث وغلب المسلمون على الأرض

واحتووها وصار من بقي من العدو في الحصن وقد قتل الله منهم مقتلة عظيمة فأقام المسلمون على الحصن وقد غلبوا على سواد الأردن وأرضها وكل ما فيها وطلبوهم بالنزول إليهم على أن يؤمنوهم فأبوا وذلك أنه بلغهم أن ملك الروم بعث إليهم رجلا من غسان يقال له المنذر بن عمرو فجاء في جمع عظيم من الروم يمد أهل فحل فلم يبلغهم حتى هزمهم الله وأذلهم فكان أراد أن يجيء حتى يدخل معهم حصنهم
وكانت طائفة قد جاءوا بعد وقعة فحل بيوم فقال خالد ما أظن هؤلاء ينبغي لنا أن نعطيهم أنصباء قوم قاتلوا على هذا الفيء وغلبوا عليه فقال علقمة ابن الأرث القيسي لم أصلحك الله لا تجعلهم شركاءنا وقد جاءوا بعيالهم يسيرون ويغدون ويروحون لينصروا الإسلام ويجاهدوا في سبيل الله أفإن المسلمون سبقوهم بساعة من النهار لا يشركونهم وهم أخوانهم وأنصارهم فقال خالد ننظر قال أبو عبيدة ما نرى إلا أن نشركهم

فلما بلغ قضاعة أن المنذر بن عمرو قد دخل بطن الأردن جاء علقمة بن الأرث إلي أبي عبيدة فقال إن المنذر بن عمرو قد نزل بطن الأردن أفلا تبعث إليه المسلمين فقال دعه حتى يدنو فقال أصلحك الله ابعث معي خيلا فأنا أكفيكه فقال لا لا تقربنه لست آذن لك دعه حتى يدنو فخرج إلى أصحابه فقال لمن لم يشهد الوقعة منهم ولمن شهدها ولهم خيل وقوة اخرجوا بنا حتى نلقي المنذر بن عمرو فإني أرجو أن نصادمه مغترا فنقتله فنذهب إن شاء الله بأجرها وشرف ذكرها فتابعوه فأقبل حتى إذا دنا من عسكر المنذر ابن عمرو حمل الخيل عليهم من جانب العسكر وهم غازون فهزمهم وأتبعهم الخيل تثفنهم وتقتلهم في كل جانب وأغارت رجالته في العسكر رفاحتووا ما فيه ولحق علقمة بالمنذر فجاراه ساعة حتى دنا منه فطعنه وقتله وأخذ فرسه ورجع إلى أبي عبيدة وقد جاءه خبره فقال له أبو عبيدة إني لأكره أن لا ألومك وقد عصيتني وإني لأكره أن ألومك وقد فتح الله عليك ورأى أبو عبيدة إني لأكره أن ألومك وقد فتح الله عليك ورأى أبو عبيدة أن يسهم لهم مع المسلمين فقاسموهم ما كان في عسكر المنذر فلم يصيبوا منها إلا اليسير
وكتب أبو عبيدة إلى عمر رحمهما الله

بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فالحمد لله الذي أنزل على المسلمين نصره وعلى الكافرين رجزه أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله أنا لقينا الروم وقد جمعوا لنا الجموع العظام فجاءونا من رءوس الجبال وأسياف البحار يرون أن لا غالب لهم من الناس فبرزوا إلينا وبغوا علينا وتوكلنا على الله تعالى ورفعنا رغبتنا إلى الله وقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل فنهضنا إليهم بخيلنا ورجلنا وكان القتال بين الفريقين مليا من النهار أهدى الله فيه الشهادة لرجال من المسلمين رحمهم الله منهم عمرو بن سعيد بن العاص وضرب الله وجوه المشركين وأتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم حتى اعتصموا بحصنهم وانتهب المسلمون عسكرهم وغلبوا على بلادهم وأنزلهم الله من صياصيهم وقذف الرعب في قلوبهم فاحمد الله يا أمير المؤمنين أنت ومن قبلك من المسلمين على إعزاز الدين وإظهار الفلج على المشركين وادع الله لنا بتمام النعمة والسلام عليك
ولما رأى أهل فحل أن أرض الأردن قد غلب عليها المسلمون سألوا الصلح على أن يعفي لهم عن أنفسهم وأن يؤدوا الجزية ومن كان فيهم من الروم إن أحب لحق بالروم وخلي بلاد الأردن وإن أحب أن يقيم ويؤدي الجزية أقام فصالحهم المسلمون وكتبوا لهم كتابا وخرج منهم من كان أقبل من الروم في تلك السنة وتبقى معهم من كان تبنبك قبل ذلك بالبلد واتخذ الضياع وتزوج بها وولد له فيها فأقاموا على أن يؤدوا الجزية هم وسائر من كان معهم في الحصن
وأما من عداهم من أهل الأردن أهل الأرض والقرى فاختلف فيهم
المسلمون لأخذهم ذلك عنوة وغلبتهم عليه بغير صلح فقالت طائفة نقتسمهم وقالت طائفة نتركهم فكتب أبو عبيدة إلى عمر

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن الله جل ثناؤه ذا المن والفضل والنعم العظام فتح على المسلمين أرض الأردن فرأت طائفة من المسلمين أن يقروا أهلها على أن يؤدوا الجزية إليهم ويكونوا عمار الأرض ورأت طائفة أن يقتسموهم فاكتب إلينا يا أمير المؤمنين برأيك في ذلك أدام الله لك التوفيق في جميع الأمور والسلام
فكتب إليه عمر
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن الجراح سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر إعزاز الله أهل دينه وخذلانه أهل عدوانه وكفايته إيانا مؤنة من عادانا فالحمد لله على إحسانه فيما مضى وحسن صنيعه فيما غبر الذي عافى جماعة المسلمين وأكرم بالشهادة فريقا من المؤمنين فهنيئا لهم رضا ربهم وكرامته إياهم ونسأل الله أن لا يحرمنا أجرهم ولا يفتنا بعدهم فقد نصحوا الله وقضوا ما عليهم ولربهم كانوا يحفدون ولأنفسهم كانوا يمهدون وقد فهمت ما ذكرت من أمر الأرض التي ظهر عليها وعلى أهلها المسلمون فقالت طائفة نقر أهلها على أن يؤدوا الجزية للمسلمين ويكونوا للأرض عمارا ورأت طائفة أن يقتسموهم وإني نظرت فيما كتبت فيه ففرق لي من الرأي فيما سألتني عنه أني رأيت أن تقرهم وتجعل الجزية عليهم وتقسمها بين المسلمين ويكونوا للأرض عمارا فهم أعلم بها وأقوى عليها أرأيتم لو أنا أخذنا أهلها فاقتسمناهم من كان يكون لمن يأتي بعدنا من المسلمين والله ما كانوا ليجدوا إنسانا يكلمونه ولا ينتفعون بشيء من ذات يده وإن هؤلاء يأكلهم المسلمون ما داموا أحياء فإذا هلكنا وهلكوا أكل أبناؤنا أبناءهم أبدا ما بقوا وكانوا عبيدا لأهل الإسلام ما دام دين الإسلام ظاهرا فضع عليهم الجزية وكف عنهم السباء وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا
بحقها والسلام عليك
فلما جاء أبا عبيدة هذا الرأي من عمر عمل به وكان رأيه ورأي عمر في ذلك واحدا

فقال علقمة بن الأرث القيني في يوم فحل
ونحن قتلنا كل واف سباله
من الروم معروف النجار منطق
نطلق بالبيض الرقاق نساءهم
وأبنا إلى أزواجنا لم تطلق
نصرعهم في كل فج وغائط
كأنهم بالقاع معزى المحلق
فكم من قتيل أوهطته سيوفنا
كفاحا وكف قد أطارت وأسوق
الطويل

فتح حمص فيما حكاه أصحاب فتوح الشام
عن محرز بن أسد الباهلي قال دعا أبو عبيدة رؤوس المسلمين وفرسان العرب الذين معه فجمعنا بعدما ظهرنا على فحل وفرغنا من الأردن وأرضها وقد تحصن منا أهل إيلياء واجتمعت بقيسارية جموع عظام مع أهلها وأهلها لم يزالوا كثيرا فقال أبو عبيدة يا أهل الإسلام إن الله قد أحسن إليكم وألبسكم عافية مجللة وأمنا واسعا وأظهركم على بطارقة الروم وفتح لكم الحصون والقلاع والقرى والمدائن وجعلكم لهذه الدار دار الملوك أربابا وجعلها لكم منزلا وقد كنت أردت النهوض بكم إلى أهل إيلياء وأهل قيسارية فكرهت أن آتيهم وهم في جوف مدينتهم متحرزون متحصنون ولم آمن أن يأتيهم مدد من جندهم وأنا نازل عليهم قد حبست نفسي لهم عن افتتاح الأرض ولم أدر لعل من في طاعتي إذا رأوني قد شغلت نفسي بهم أن يرجعوا إليهم وأن ينقضوا العهد الذي بيني وبينهم فرأيت أن أسير إلى دمشق ثم أسير في أرضها إلى من لم يدخل طاعتي منهم ثم أسير إلى حمص فإن قدرنا عليها وإلا تركناها ولا نقيم عليها أكثر من يوم الأربعاء والخميس والجمعة ثم ندنو من ملك الروم وننظر ما يريد بمكانه الذي هو به فإن الله نفاه عن مكانه ذلك لم تبق بالشام قرية ولا مدينة إلا سالمت وصالحت وأعطت الجزية ودخلت في الطاعة
فقال المسلمون جميعا فنعم الرأي رأيك فأمضه وسر بنا إذا بدا لك
فدعا خالدا وكان لكل ملمة ولكل شدة فقال له سر رحمك الله في الخيل فخرج فيها وخلف عمرو بن العاص في أرض الأردن وفي طائفة من أرض فلسطين مما يلي أرض العرب وجاء خالد حتى تولى أرض دمشق فاستقبله الذين كانوا صالحوا المسلمين
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9