كتاب : الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء
المؤلف: أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي

وهذا كما اجتمعت للمهاجرين النصرة مع الهجرة وفضلوا الأنصار بالهجرة فروى الشعبي وهشام بن عروة قالا لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة كتب إليه أبو بكر إني قد وليتك حرب العراق فاحشد من ثبت على الإسلام وقاتل أهل الردة ممن بينك وبين العراق من تميم وقيس وأسد وبكر ابن وائل وعبد القيس ثم سر نحو فارس واستنصر الله عز وجل وادخل العراق من أسفل العراق فابدأ بفرج الهند وهو يومئذ الأبلة وكان صاحبها يساجل أهل الهند والسند في البحر ويساجل العرب في البر
وقال له تألف أهل فارس ومن كان في مملكتهم من الأمم وأنصفوا من أنفسكم فإنكم كنتم خير أمة أخرجت للناس لنسأل الله أن يجعل من ألحقه بنا وصيره منا خير متبع بإحسان وإن فتح الله عليك فعارق حتى تلقى عياضا
وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين الحجاز والنباج أن سر حتى تأتي
المصيخ فاحشد من بينك وبينها ممن ثبت على إسلامه وقاتل أهل الردة فابدأ بهم ثم ادخل العراق من أعلاها فعارق حتى تلقى خالدا
فاستمد خالد أبا بكر قبل خروجه من اليمامة فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمي واستمده عياض قبل تحركه فأمده أبو بكر بعبد بن عوف الحميري وقيل لأبي بكر أتمد خالدا برجل قد أرفض عنه الناس فقال لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع وسيحشر من بينه وبين أهل العراق
وكتب خالد إلى حرملة وسلمى والمثنى ومذعور ليلحقوا به وأمرهم أن يغزوا جنودهم الأبلة ليوم سماه ثم حشد من بينه وبين العراق فحشد ثمانية آلاف من مضر وربيعة إلى ألفين كانا معه فقدم في عشرة آلاف إلى ثمانية آلاف ممن كان مع الأمراء الأربعة فلقي هرمز في ثمانية عشرة ألفا

وفيما ذكره سيف من مسير خالد وعياض إلى العراق أن أبا بكر أمرهما أن يستبقا إلى الحيرة فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه وقال فإذا اجتمعتما بالحيرة وفضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردءا لصاحبه وللمسلمين بالحيرة وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم بالمدائن
وكتب إليهما استعينوا بالله واتقوه وآثروا أمر الآخرة على الدنيا يجمع الله لكم بطاعته الدنيا إلى الآخرة ولا تؤثروا الدنيا فتعجزكم ويسلبكم الله بمعصيته الدنيا والآخرة فما أهون العباد على الله إذا عصوه
قال ولما عزم خالد على المسير من اليمامة إلى العراق سأل عن الأدلة فأتى بنفر فسأل عن أسمائهم فتفاءل منهم إلى ثلاثة بأسمائهم ظفر بن عمرو السعدي ورافع بن عميرة الطائي ومالك بن عباد الأسدي
وجدد خالد التعبئة فعبأ الناس تعبئة مستأنفة غير التي دخل بها اليمامة ونصب لجنده أعلاما غير الذين كانوا أعلامهم وذلك أن أعلامهم الذين دخل

بهم اليمامة قفلوا فوضع رجالا مكانهم وتوخى الصحابة ثم توخى منهم الكماة فاستعمل على مضر القعقاع بن عمرو وعلى ربيعة فرات بن حيان وعلى قضاعة وضم إليهم أهل اليمن جرير بن عبد الله الحميري أخا الأقرع بن عبد الله رسول رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إلى اليمن وجعل على القبائل دون ذلك على نصف خندق فارس أطلال بكير بن عبد الله الليثي وعلى النصف الآخر معقل بن مقرن المزني وعلى قيس عيلان وعلى غطفان ومن يلاقيهم إلى سعد بن قيس سعد بن عمارة التغلبي وعلى هوازن ومن يلاقيهم إلى خصفة أبا حنش بن ذي اللحية العامري وضم جديلة إليهم وهم عمرو بن قيس بن عيلان وعلي اللهازم من بكر بن وائل عتيبة بن النهاس واللهازم عجل وتيم اللات وقيس بن ثعلبة وعنزة وعلى الدعائم وهم شيبان بن ثعلبة وذهل بن ثعلبة وضبيعة بن ربيعة ويشكر بن ربيعة يشكر بن بكر بن مطر بن عامر الشيباني وعلى قضاعة الحارث بن مرة الجهني وعلى اليمن مالك بن مرة الرهاوي وابن زيد الخيل بن مهلهل وهؤلاء تحت أيدي أولئك الثلاثة
واستعمل على المقدمات المثنى بن حارثة وعلى المجنبات عدي بن حاتم وعاصم بن عمرو أخا القعقاع وعلى الساقة بسر بن أبي رهم الجهني صاحب جبانة بسر واستخلف على اليمامة وهوافي قيس وتميم سبرة بن عمرو العنزي وكل من أمر له صحبة وقدمة وخرج قاصدا الهرمز والأبلة
وقال المغيرة بن عتبة قاضي الكوفة فرق خالد مخرجه من اليمامة جنده ثلاث فرق ولم يحملهم على طريقة واحدة فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر وسرح عديا وعاصما و دليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر أحدهما قبل صاحبه بيوم وخرج خالد ودليله رافع فواعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا فيه وليصادموا به عدوهم
وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا وأشده شوكة وكان صاحبه يحارب العرب في البر والهند في البحر
وعن الشعبي قال كتب خالد إلى هرمز قبل خروجه وهرمز صاحب الثغر يومئذ

أما بعد أسلم تسلم أو اعقد لنفسك وقومك الذمة وأقر بالجزية وإلا فلا تلومن إلا نفسك فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة
ولما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيري بن كسرى وإلى أزدشير بن شيري وجمع جموعه ثم تعجل إلى الكواظم في سرعان أصحابه ليتلقى خالدا وسبق حلبته فلم يجد طريق خالد وبلغه انهم تواعدوا الحفير فعاج يبادر خالدا إليه فنزله فعبأ به وجعل على مجنبتيه أخوين يلاقيان أزدشير وشيري آل أزدشير الأكبر يقال لهما قباذ وأنو شجان فاقترنوا في السلاسل فقال من لم ير ذلك لمن رآه قيدتم أنفسكم لعدوكم فلا تفعلوا فإن هذا طائر سوء فأجابوهم أما أنتم فتحدثوننا أنكم تريدون الهرب فلما أتى الخبر خالدا بمنزل هرمز أمال الناس إلى كاظمة وبلغ ذلك هرمز فبادره إليها فنزلها وهو حسير
وكان من أسوء أمراء ذلك الفرج جوارا للعرب فكل العرب عليه مغيظ وقد كانوا يضربونه مثلا في الخبث والمكر حتى قالوا أخبث من هرمز وأمكر من هرمز وتعبأ هو وأصحابه والماء في أيديهم
وقدم خالد فنزل على غير ماء فقالوا له في ذلك فأمر مناديه فنادى ألا أنزلوا وحطوا أثقالكم ثم جالدوهم على الماء فلعمري ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين فحطت الأثقال والخيل وقوف وتقدم الرجل ثم زحف إليهم حتى لاقاهم فاقتتلوا وأرسل الله سبحانه سحابة فأغدرت ماء وراء صف المسلمين فقواهم بها وما ارتفع النهار وفي الغائط مقترن
وأرسل هرمز أصحابه ليغدروا بخالد ثم خرج فنادى رجل أين خالد وقد عهد إلى فرسانه عهده فلما برز خالد نزل هرمز ودعاه إلى البراز فبرز خالد يمشي إليه فالتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد وحملت حامية هرمز وغدرت فاستلحموا خالدا فما شغله ذلك عن قتله
وحمل القعقاع بن عمرو واستلحم حماة هرمز فأتاهم وخالد يماصعهم فانهزم أهل فارس وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل وجمع خالد الرثاث والسلاسل فكان وقر بعير ألف رطل فسميت ذات السلاسل

قال وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم فمن تم شرفه فقيمة قلنسوتة مائة ألف وتمام شرف أحدهم أن يكون من البيوتات السبعة فكان هرمز ممن تم شرفه فكانت قيمة قلنسوته مائة ألف فنفلها أبو بكر رحمه الله خالدا وكانت مفصلة بالجوهر
وقال حنظلة بن زياد بن حنظلة لما تراجع الطلب من ذلك اليوم نادى منادي خالد بالرحيل وسار بالناس وأتبعته الأثقال حتى نزل موضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم وقد أفلت قباذ وأنو شجان وبعث خالد بالفتح وما بقي من الأخماس وبالفيل وقرى ء الفتح على الناس فلما قرى ء فيه خرجت من اليمامة في ألفين وحشرت من ربيعة ومضر ثمانية آلاف فقدمت في عشرة آلاف على ثمانية آلاف مع الأمراء الأربعة المثني ومذعور وحرملة وسلمى تمثل أبو بكر رضي الله عنه
تمنانا ليلقانا بقوم
تخال بياض لامهم السرابا
فقد لاقيتنا فأريت يوما
عماسا يمنع الشيخ الشرابا
تبدل علقما منا بحلو
ينسيك الغنيمة والإيابا
إذا خرجت سوالفهن زورا
كأن على حواركهن غابا
عليها كل متصل بمجد
من الجهتين يلتهب التهابا
الوافر
ولما قدم زر بن كليب بالفيل مع الأخماس فطيف به في المدينة ليراه الناس
جعلت ضعيفات النساء يقلن أمن خلق الله ما نرى ورأينه مصنوعا فرده أبو بكر رضي الله عنه مع زر
وعن زياد بن حنظلة قال إني لبالمدينة وقد قدمتها وافدا من البحرين إذ أرسل إلي أبو بكر وقد قدم عليه الخبر بوقعة ذات السلاسل فقال لي ألم تعلم أنه كان من الشأن ذيت وذيت وأن خالدا ألقى هرمز فاستلحم وأن القعقاع استلحم فقتلهم وتنفل
قال زياد فأقبلت على نفسي أحدثها فقلت الخليفة وفراسته وذكرت قوله ولا يهزم جيش فيهم مثل هذا فما راعني إلا وأبو بكر يقول أين أنت يا زياد أما أن خالدا سيتغير له ويتنكر ثم يراجع ويعرف الحق فاستنكره القعقاع بعد ذلك ووقع بينهما ما يقع بين الناس حتى قال القعقاع يعاتبه ولم يكن إلا ذلك
منعتك من قرني قباذ وليتني

تركتك فاستذكت عليك المعاتب
عطفت عليك المهر حتى تفرجت
وملت من الطعن الدراك الرواجب
أجالدهم والخيل تنحط في القنا
وأنت وحيد قد حوتك الكتائب
وكائن هزمنا من كتيبة قاهر
وكم عجمتنا في الحروب العجائب
الطويل
ولما نزل خالد موضع الجسر الأعظم اليوم بالبصرة بعث المثنى بن حارثة في آثار القوم فمضى حتى انتهى إلى نهر المرأة وإلى الحصن الذي فيه المرأة فخلف المثنى بن حارثة عليها من حاصرها في قصرها ومضى المثنى واسلمت فتزوجها المثنى ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين في شيء من فتوحهم لتقدم أبي بكر فيهم وسبي أولاد المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم وأقر من لم ينهض من الفلاحين وجعل لهم الذمة
وبلغ سهم الفارس يوم ذات السلاسل والثني ألف درهم والراجل على الثلث من ذلك
حديث الثني والمذار
وكانت وقعة المذار في صفر سنة اثنتي عشرة ويومئذ قال الناس صفر الأصفار فيه يقتل كل جبار على مجمع الأنهار

ولما كتب هرمز إلى ملكهم بكتاب خالد إليه بمسيره من اليمامة نحوه أمده بقارن بن قربانس فخرج من المدائن ممدا لهرمز حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة وانتهى إليه الفلال فتذامروا قال فلال الأهواز وفارس لفلال السواد والجبل إن افترقتم لم تجتمعوا بعدها أبدا فاجتمعوا على العدو مرة واحدة فهذا مدد الملك وهذا قارن لعل الله يديلنا ويشفينا من عدونا وندرك بعض ما أصابوا منا ففعلوا وعسكروا بالمذار واستعمل قارن على مجنبتيه قباذ وأنوشجان فأرسل المثنى إلى خالد بالخبر فعند ذلك قسم خالد الفيء على من أفاء الله عليه ونفل من الخمس ما شاء الله وبعث مع الوليد بن عقبة ببقيته وبالفتح إلى أبي بكر وبالخبر عن القوم وباجتماع المغيث منهم والمغاث إلى الثني وهو النهر وخرج خالد سائرا إليهم حتى ينزل المذار فالتقوا وخالد على تعبئته فاقتتلوا على حنق وحفيظة وخرج قارن يدعوا للبراز فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش فابتداره فسبقه إليه معقل
فقتله وقتل عاصم أنو شجان وقتل عدي قباذ وكان شرف قارن قد انتهى ثم لم يقاتل المسلمون بعده أحدا انتهى شرفه في الأعاجم
وقتلت فارس مقتلة عظيمة فضموا السفن ومنعت المياه المسلمين من طلبهم وأقام خالد بالمذار وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت وقسم الفيء ونفل من الأخماس ما نفل في أهل البلاء وبعث ببقيتها إلى أبي بكر رضي الله عنه
وعن الشعبي قال دفع خالد إلى أبيض الركبان سلب قارن وقيمته مائة ألف وإلى عاصم وعدي سلب أنو شجان وقباذ وقيمة سلب كل واحد منهما ثلاثة أرباع الشرف
وعن أبي عثمان قال قتل ليلة المذار ثلاثون ألفا سوى من غرق ولولا المياه لأتي على آخرهم ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة أو أشباه العراة
قال الشعبي لم يلق خالد أحدا بعد هرمز إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التي قبلها

وأقام خالد بالثني يسبي عيالات المقاتلة ومن أعانهم وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعدما دعوا وكل ذلك أخذ عنوة ولكن دعوا إلى الجزاء فأجابوا وتراجعوا وصاروا ذمة صارت أرضهم خراجا وكذلك جرى ما لم يقسم فإذا اقتسم فلا ومن ذلك السبي كان حبيب أبو الحسن البصري وكان نصرانيا
وقال عزيز بن مكنف لم يدع خالد بعد هرمز أحدا من الأعاجم حتى هلك أزدشير إلا أن يدعوا قوما بعدما يغلبهم على أرضهم ويجليهم عنها إلى الجزاء والذمة فيرد عليهم أرضهم فيصيروا ذمة مالم تقتسم وبذلك جرت السنة
وأمر خالد على الجزاء سويد بن مقرن المزني وأمره بنزول الحفير وأمره
ببث عماله ووضع يديه في الجباية وأقام لعدوه يتحسس الأخبار
وقال عاصم بن عمرو في ذلك من أبيات
فلم أر مثل يوم السيب حتى
رأيت الثني تخضبه الدماء
وألوت خيلنا لما التقينا
بقارن والأمور لها انتهاء
الوافر
حديث الولجة وهي مما يلي كسكر من البر
وكانت في صفر سنة اثنتي عشرة
قالوا لما وقع الخبر إلى أردشير بمصاب قارن وأهل المذار أرسل الأندرزعر وكان فارسيا من مولدي السواد وتنائهم ولم يكن ممن ولد في المدائن ولا نشأ بها وأرسل بهمن جاذوية في أثره وكان رافد فارس في يوم من أيام شهرهم وذلك أنهم بنوا شهورهم كل شهر على ثلاثين يوما فكان لأهل فارس في كل يوم رافد نصب لذلك يرفدهم عند الملك فكان بهمن أحدهم فخرج الأنذرزعر سائرا من المدائن حتى أتى كسكر ثم جازها إلى الولجة وخرج بهمن جاذوية في أثره فأخذ غير طريقة فسلك أوسط السواد وقد حشد الأنذرزعر من بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة فلما اجتمع له ما أراد واستتم له
أعجبه ما هو فيه وأجمع السير إلى خالد

ولما بلغ خالدا خبره ونزوله الولجة نادى بالرحيل وخلف سويد بن مقرن وأمره بلزوم الحفير وتقدم إلى من خلف بأسفل دجلة وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة وترك الاغترار وخرج سائرا في الجنود نحو الولجة حتى نزل على الأنذرزعر وجنوده ومن تأشب إليه فاقتتلوا قتالا شديدا هو أعظم من قتال الثني حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ واستبطأ خالد كمينه وكان قد وضع لهم كمينا في ناحيتين عليهم بسر بن أبي رهم وسعيد بن مرة العجلي فخرج الكمين من وجهين فانهزمت صفوف الأعاجم وولوا وأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه ومضى الأنذرزعر في هزيمته فمات عطشا وقام خالد في الناس خطيبا يرغبهم في بلاد العجم ويزهدهم في بلاد العرب وقال ألا ترون إلى الطعام كالتراب والله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إليه ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن تثاقل عما أنتم عليه
وسار خالد في الفلاحين سيرته فلم يقتلهم وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم ودعا أهل الأرض إلى الجزاء والذمة فتراجعوا
وبارز خالد يوم الولجة رجلا من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله فلما فرغ اتكأ عليه ودعا بغذائه
وقال خالد يذكر ذلك اليوم
نهكناهم بها حتى استجاروا
ولولا الله لم يرزوا قبالا
فولوا الله نعمته وقولوا
ألا بالله نحتضر القتالا
الوافر
وقال القعقاع في ذلك وأثنى على المسلمين
ولم أر قوما مثل قوم رأيتهم
على ولجات البر أحمى وأنجبا
وأقتل للرواس في كل مجمع
اذا صعصع الدهر الجموع وكبكبا
فنحن حبسنا بالزمازم بعدما
أقاموا لنا في عرصة الدار ترقبا
قتلناهم ما بين قلع مطلق
إلى القيعة الغبراء يوما مطنبا
الطويل
حديث أليس وهي على صلب الفرات

ولما أصاب خالد من أصاب يوم الولجة من بكر بن وائل من نصاراهم الذين أعانوا أهل فارس غضب لهم نصارى قومهم فكاتبوا الأعاجم وكتابتهم الأعجمفاجتمعوا إلى أليس وعليهم عبد الأسود العجلي وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلموا بني عجل عتيبة بن النهاس وسعيد بن مرة وفرات ابن حيان والمثنى بن لاحق ومذعور بن عدي
وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب فقدم بهمن أمامه جابان وأمره بالحث وقال له كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك فسار جابان نحو أليس وانطلق بهمن إلى أردشير ليحدث به عهدا ويستأمره فيما يريد أن يشير به فوجده مريضا فعرج عليه وأخلي جابان بذلك الوجه ومضى جابان حتى انتهى إلى أليس فنزل بها واجتمعت إليه المسالح التي كانت بإزاء العرب وعبد الأسود في نصارى بني عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة وكان أبجر بن بجير نصرانيا فساند عبد الأسود وكان خالد بلغه بجمع عبد الأسود وأبجر وزهير فيمن تأشب إليهم فنهد إليهم ولا يشعر بدنو جابان وليست لخالد همة إلا من تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم
ولما طلع خالد على أليس قالت الأعاجم لجابان أنعاجهم أو نغدي الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم ثم نقاتلهم بعد الفراغ فقال جابان إن تركوكم والتهاون بهم فتهاونوا ولكن ظني أن سيعاجلوكم ويعجلوكم عن طعامكم فعصوه وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة وتداعوا إليها وتوافوا عليها فلما انتهى خالد إليهم أمر بحط الأثقال فلما وضعت توجه إليهم ووكل خالد بنفسه حوامي يحمون ظهره ثم برز أمام الصف فنادى أين أبجر أين عبد الأسود أين مالك بن قيس رجل من خدره فنكلوا عنه جميعا إلا مالكا فبرز له فقال له خالد يا ابن الخبيثة ما جرأك علي من بينهم وليس فيك وفاء
وقال
أنا ابن ذات الحسب الممذوق
إنك في ضيق أشد الضيق
الرجز

وضربه فقتله وأجهض الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوه فقال لهم جابان ألم أقل لكم يا قوم لا والله ما دخلتني من رئيس وحشة قط حتى كان اليوم فقالوا تجلدا حيث لم يقدروا على الأكل ندعها حتى نفرغ منهم ثم نعود إليها فقال جابان وأيضا أظنكم والله لهم وضعتموها وأنتم لا تشعرون فالآن فأطيعوني وسموها فإن كانت لنا فأهون هالك وإن كانت علينا كنا قد صنعنا شيئا وأبلينا عذرا فقالوا لا إلا اقتدارا عليهم
وجعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر وخالد على تعبئته في الأيام التي قبلها فاقتتلوا قتالا شديدا والمشركون يزيدهم كلبا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن فصابروا المسلمين للذي كان في علم الله أن يصيرهم إليه وحرب المسلمون عليهم وقال خالد اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لااستبقي منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم ثم إن الله عز وجل كشفهم للمسلمين ومنحهم أكتافهم فأمر خالد منادية فنادى في الناس الأسر لا تقتلوا إلا من امتنع فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون
سوقا وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر ففعل ذلك بهم يوما وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد حتى انتهوا إلى النهرين ومقدار ذلك من كل جوانب أليس فضرب أعناقهم وكانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثلاثة أيام وهم ثمانية عشر ألفا أو يزيدون
ولما رجع المسلمون من طلبهم ودخلوا عسكرهم وقف خالد على الطعام الذي كان المشركون قدموه لغدائهم فأعجلوا عنه فقال للمسلمين قد نفلتكموه فهو لكم وقد كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا أتى على طعام مصنوع نفله فقعد الناس على ذلك لعشائهم بالليل وجعل من لا يرد الارياف ولا يعرف الرقاق يقول ما هذا الرقاع البيض وجعل من قد عرفها يجيبهم ويقول لهم مازحا هل سمعتم برقيق العيش فيقولون نعم فيقول هو هذا فسمي الرقاق

وعن خالد بن الوليد أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نفل الناس يوم خيبر الخبز والطبيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك في بطونهم غير متأثليه
وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلا من بني عجل وكان دليلا صارما فقدم على أبي بكر رضي الله عنه بالخبر وبفتح أليس وبقدر الفيء وبعدة السبي وبما حصل من الأخماس وبأهل البلاء من الناس فلما رأى أبو بكر صرامته وثبات خبره قال ما اسمك قال جندل فقال أبو بكر ويها جندل
نفس عصام سودت عصاما
وعلمته الكر والإقداما
الرجز
وأمر له بجارية من السبي فولدت له
وكان خالد وجنده هم جند المسلمين وكتيبة الإسلام بهم فض الله أهل فارس ورعبهم وما زالت بعدها مرعوبة منتشرة لم يأتوا في وقعة بمثل ذلك الجد والصبر إلى أن فارقهم خالد إلى الشام
وبلغت قتلاهم يوم أليس سبعين ألفا جلهم من أمغيشيا وفي ذلك يقول الأسود بن قطبة
قتلنا منهم سبعين ألفا
بقية حربهم غب الإسار
سوى من ليس يحصى من قتيل
ومن قد غال جولان الغبار
الوافر
وقال خالد بن الوليد لما افتتح الحيرة لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف وما لقيت قوما كقوم لقيتهم من أهل فارس وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل أليس
حديث أمغيشيا وكيف أفاءها الله بغير قتال
ولما فرغ خالد من وقعة أليس نهض فأتى على أمغيشيا وقد أعجلهم عما فيها وقد جلا أهلها وتفرقوا في السواد فأمر خالد بهدمها وهدم كل شيء كان في حيزها وكانت مصرا كالحيرة وكان فرات بادلقي ينتهي إليها وكان أليس من مسالحها فأصابوا فيها ما لم يصيبوا قط قبله مثله
وبلغ سهم الفارس ألف وخمسمائة سوى الأنفال التي نفلها أهل البلاء
ولما بلغ ذلك أبا بكر قال يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله أعجز النساء أن ينسأن بمثل خالد
حديث يوم المقر وفم فرات بادلقي مع ما يتصل به من حديث الحيرة

ذكر أن الآزادبة كان مرزبان الحيرة من زمان كسرى إلى ذلك اليوم
وكانوا لا يمد بعضهم بعضا إلا بإذن الملك فلما أخرب خالد أمغشيا علم أنه غير متروك فتهيأ لحرب خالد وقدم ابنه ثم خرج في أثره فعسكر خارجا من الحيرة وأمر ابنه بسد الفرات
ولما استقبل خالد من أمر أمغيشيا وحمل الرجل في السفن مع الأثقال والأنفال لم يفجأ خالد إلا والسفن جوانح فارتاعوا لذلك فقال الملاحون إن أهل فارس فجروا الأنهار فسلك الماء على غير طريقه فلا يأتينا الماء إلا بسد الأنهار فتعجل خالد في الخيل نحو الآذادبة فلقي على فم العتيق خيلا من خيلهم فجاهم وهم آمنون غارته تلك الساعة فأنا مهم بالمقر ثم سار من فوره وسبق الأخبار إلى ابن الآزادبه حتى يلقاه وجنوده بفم فرات بادقلي فاقتتلوا فأنامهم خالد وفجر الفرات وسد الأنهار فسلك الماء سبيله
ثم قصد خالد للحيرة واستلحق أصحابه وسار حتى ينزل بين الخورنق والنجف فقدم خالد الخورنق وقد قطع الآزادبه الفرات هربا من غير قتال وإنما جرأه على الهرب أن الخبر وقع إليه بموت أردشير وبمصاب ابنه وكان
عسكره بين الغريين والقصر الأبيض ولما تتام أصحاب خالد إليه بالخورنق خرج منه حتى يعسكر في موضع عسكر الآزادبه بين الغربين والقصر الأبيض وأهل الحيرة متحصنون فأدخل خالد الحيرة الخيل من عسكره وأمر بكل قصر رجلا من قواده أهله ويقاتلهم فكان ضرار بن الأزور محاصرا للقصر الأبيض وفيه إياس بن قبيصة الطائي وكان ضرار بن الخطاب محاصرا قصر الغريين وفيه عدي بن عدي المقتول وكان ضرار بن مقرن المزني عاشر عشرة إخوة له محاصرا قصر بني مازن وفيه ابن أكال وكان المثنى محاصرا قصر بني بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح فدعوهم جميعا وأجلوهم يوما فأبى أهل الحيرة ولجوا فناوشهم المسلمون

وعهد خالد إلى أمرائه أن يبدءوا بالدعاء فإن قبلوا قبلوا منهم وإن أبوا أجلوهم يوما وقال لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر ولكن ناجزوهم ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم
فكان أول القواد أنشب القتال بعد يوم أجلوهم فيه ضرار بن الأزور وكان على قتال القصر الأبيض فأصبحوا وهم مشرفون فدعاهم إلى إحدى ثلاث الإسلام أو الجزاء أو المنابذة فاختاروا المنابذة فقال ضرار ارشقوهم فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل فأعروا رءوس الحيطان ثم بثوا غارتهم فيمن يليهم وصبح أمير كل قوم أصحابه بمثل ذلك فافتتحوا الدور والديران وأكثروا القتل فتنادى القسيسون والرهبان ياأهل القصور ما يقتلنا غيركم فنادى أهل القصور يا معشر العرب قد قبلنا واحدة من ثلاث فدعونا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا
وكان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة وإنما سمي بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين فقالوا يا حار ما أنت إلا بقيلة خضراء ثم تتابعوا على ذلك فخرج

وجوه كل قصر إلى من كان عليه من أمراء خالد فأرسلوهم إليه مع كل رجل منهم ثقة من قبل مرسله فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين وبدأ بأصحاب عدي بن عدي وقال ويحكم ما أنتم أعرب فما تنقمون من العرب أو عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل فقال له عدي بل عرب عاربة وأخرى متعربة فقال لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا فقال له عدي ليدلك على ما تقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية فقال صدقت اختاروا واحدة من ثلاث إما أن تدخلوا في ديننا فلكم مالنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم في دياركم أو الجزية أو المنابذة والمناجزة فقد والله أتيتكم بقوم هم أحرى على الموت منكم على الحياة فقال بل نعطيكم الجزية فقال خالد تبا لكم ويحكم إن الكفر فلاة مضلة فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان أحدهما عربي فتركه واستدل الأعجمي فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفا وتتابعوا على ذلك وأهدوا له الهدايا وبعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر الصديق فقبلها أبو بكر رضي الله عنه من الجزاء وكتب إلى خالد أن حسب لهم هديتهم من الجزاء إلا أن تكون من الجزاء وخذ بقية ما عليهم من فقو بها أصحابك
وفي حديث مثله أو نحوه عن رجل من كنانة وغيره ان أهل الحيرة لما انتهوا إلى خالد كانوا يختلفون إليه ويقدمون في حوائجهم عمرو بن عبد المسيح فقال له خالد كم أتت عليك قال مئوسنين قال فما أعجب ما رأيت قال رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة تخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفا فتبسم خالد وقال
هل لك من شيخك إلا عقله
خرفت والله يا عمرو
الرجز
ثم أقبل على أهل الحيرة وقال ألم يبلغني أنكم خبثة خدعة مكرة فما لكم

تتناولون حوائجكم بخرف لا يدري من أين جاء فتجاهل له عمرو وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله ويستدل به على صحة ما حدثه به فقال وحقك أيها الأمير إني لأعرف من أين جئت قال فمن أين جئت قال أقرب أم أباعد قال ما شئت قال من بطن أمي قال فأين تريد قال ما أمامي قال وما هو قال الآخرة قال فمن أين أقصى أثرك قال صلب أبي قال ففيم أنت قال في ثيابي فقال خالد إنه ليعقل قال أي والله وأفند فوجده حين فره عضا وكان أهل قريته أعلم به
وقال خالد قتلت أرض جاهلها وقتل أرضا عالمها القوم أعلم بما فيهم فقال عمرو والنملة أعلم بما في بيتها من الجمل بما في بيت النملة
قالوا وكان مع ابن بقيلة منصف له متعلقا كيسا في حقوه فتناول خالد الكيس ونثر ما فيه في راحته وقال ما هذا يا عمرو قال هذا وأمانة الله سم ساعة قال ولم تحتقبه قال خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت وقد أتيت على أجلي والموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي فقال خالد إنه لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها وقال بسم الله خير الأسماء ورب الأرض والسماء الذي ليس يضر مع اسمه داء فأهووا إليه ليمنعوه فبادرهم وابتلع السم فقال عمرو والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن
وأقبل على أهل الحيرة وقال لم أر كاليوم أمرا أوضح إقبالا
وكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قد ذكر الحيرة وأنه أريها ورفعت له وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب وأنها ستفتح على المسلمين فسأله رجل يقال له
شويل كرامة بنت عبد المسيح فقال له هي لك إذا فتحت عنوة يعني الحيرة فلما راوض أهل الحيرة خالدا على الصلح وأداء الجزية قام إليه شويل فذكر له ذلك وشهد له به فأبى خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة إلى شويل فثقل ذلك عليهم فقالت هونوا عليكم وأسلموني فإني سأفتدي ففعلوا وكتب خالد بينه وبينهم كتابا

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابني عدي وعمرو بن عبد المسيح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال وهم نقباء أهل الحيرة ورضي بذلك أهل الحيرة وأمروهم به و عاهدوهم على تسعين ومائة ألف درهم تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا رهبانهم وقسيسيهم وجماعتهم إلا من كان غيرذي يد حبيسا عن الدنيا تاركا لها وسائحاتاركا للدنيا وعلى المنعة فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم وإن غدروا بقول أو فعل فالذمة منهم بريئة وكتب في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة
فاستخف أهل الحيرة بهذا الكتاب وضيعوه فلما نقض أهل السواد بعد موت أبي بكر وكفروا فيمن كفر وغلب عليهم أهل فارس ثم افتتحها المثنى بن حارثة ثانية أدلوا بمقتضى ذلك الكتاب فلم يجبهم إليه ودعا بشرط آخر فلما غلب المثنى على البلاد كفروا فيمن كفر وأعانوا واستخفوا وأضاعوا الكتاب فلما افتتحها سعد أدلوا بذلك فسألهم واحدا من الشرطين فلم يجيبوا به فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم يطيقون فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الخرزة وهو رسم كان عليهم لكسرى في كل سنة أربعة دراهم على كل رأس
وفيما حكاه ابن الكلبي من حديث الحيرة أن الذي خرج منهم إلى خالد هو عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانى ء بن قبيصة الطائي مع من خرج إليه من أشرافهم وأن خالدا سأل عبد المسيح فذكر نحوا مما تقدم عن عمرو بن عبد المسيح إلى أن قال له ويحك تعقل قال نعم وأفيد قال خالد وأنا أسألك قال عبد المسيح وأنا أجيبك قال قال أسلم أنت أم حرب قال بل سلم قال فما
هذه الحصون التي أرى قال بنيناها للسفيه تمنعه حتى يأتي الحليم فينهاه ثم ذكر من مصالحته إياهم على الجزية نحوا مما تقدم
قال فكانت أول جزية حملت إلى المدينة من العراق ثم نزل على بانقيا فصالحهم بصهير بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان وكتب لهم كتابا

وعن أبن اسحاق أن اول شيء صالح عليه خالد حين سار يريد العراق قريات من السواد يقال لها بانقيا وباروسما وأليس نزل عليها خالد فصالحه عليها ابن صلوبا فقبل منهم خالد الجزية وكتب لهم كتابا
قال ثم أقبل خالد بمن معه حتى نزل الحيرة فجعل ابن إسحاق شأن تلك القريات مقدما على أمر الحيرة والأكثرون يقولون إنها كانت بعدها وإن أهلها وسائر دهاقين الملطاطين إنما كانوا يتربصون وينظرون ما يصنع أهل الحيرة فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد على الصلح طلب جميعهم الصلح وسمحوا بالجزية واكتتبوا بها من خالد كتبا
وبين الرواة خلاف كثير في أسماء الرجال والأماكن ومقادير الجزاء فرأيت اختصار ذلك أولى
وعن الشعبي في حديث كرامة بنت عبد المسيح لمل اشتد على قومها دفعها إلى شويل وأعظم الخطر قالت لهم لا تخطروه ولكن اصبروا ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين سنة إنما هذا رجل أحمق رآني في شيبتي فظن أن الشباب يدوم فدفعوها إلى خالد فدفعها خالد إليه فقالت ما أربك إلى عجوز كما قد ترى فأدني قال لا إلا على حكمي قالت فلك حكمك مرسلا فقال لست لأم شويل إن نقصتك من ألف درهم فاستكثرت ذلك لتخدعه ثم أتته بها فرجعت إلى أهلها فتسامع الناس بذلك فعنفوه فقال ما كنت أرى أن عددا يزيد على ألف وخاصمهم إلى خالد وقال كانت نيتي غاية العدد وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف فقال خالد أردت أمرا وأراد الله غيره ونأخذ بما ظهر وندعك ونيتك كاذبا كنت أو صادقا
ومما يروى من شعر ابن بقيلة
أبعد المنذرين أرى سواما
تروح بالخورنق والسدير )
وبعد فوارس النعمان أرعى قلوصا بين مرة والحفير
فصرنا بعد ملك أبي قبيس كجرب المعز في اليوم المطير
تقسمنا القبائل من معد علانية كأيسار الجزور
وكنا لايرام لنا حريم فنحن كضرة الضرع الفجور
نودي الخرج بعد خراج كسرى وخرج من قريظة والنضير
كذاك الدهر دولته سجال فيوم في مساءة أوسرور
الوافر
وقال القعقاع بن عمرو في أيام الحيرة

سقى الله قتلى بالفرات مقيمة وأخرى بأثباج النجاف الكوانف )
فنحن وطئنا بالكواظم هرمزا
وبالثني قرني قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت
على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كاد عرشهم
يميل به فعل الجبان المخالف
مننا عليهم بالقبول وقد رأوا
عيون المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا
إلى الريف من أرض العريب النفانف
الطويل
وقال أخوه عاصم بن عمرو في ذلك
صبحنا الحيرة الروحاء خيلا
ورجلا فوق أثباج الركاب
حصرنا في نواحيها قصورا
مشرفة كأضراس الكلاب
فبادوا بالعريب ولم يحاموا
فقلنا دونكم فعل العراب
فقالوا بل نؤدي الخرج حتى
تزل الراسيات من الضراب
صدفنا عنهم لما اتقونا
وأبنا حيث أبنا بالنهاب
الوافر
وبعث خالد بن الوليد عماله ومسالحه لجباية الخراج وحماية البلاد وأمر أمراءه على الثغور بالغارة والإلحاح فنزلوا على السيب في عرض سلطانه وهناك كانت الثغور في زمانه فمهدوا له ما وراء ذلك إلى شاطى ء دجلة وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر وليس لأحدهم ذمة إلا اللذين كاتبوا خالدا واكتتبوا منه وسائر أهل السواد جلاء ومتحصنون ومحاربون وجني الخراج إلى خالد في خمسين ليلة وكان الذين ضمنوه وهم رءوس الرساتيق رهنا في يديه فأعطى ذلك كله المسلمين فقووا به على أمرهم
وقال أبو مفزر الأسود بن قطبة فيما فتح بعد الحيرة
ألا أبلغا عنا الخليفة أننا
غلبنا على نصف السواد الأكاسرا )
غلبنا على ماء الفرات وأرضه عشية حزنا بالسيوف الأكابرا
فدرت علينا جزية القوم بعدما ضربناهم ضرب يقط البواترا
الطويل
ولما غلب خالد على أحد جانبي السواد دعا برجلين أحدهما حيري والآخر نبطي وكتب معهما كتابين إلى أهل فارس أحدهما إلى الخاصة والآخر إلى العامة وهذا أحدهما

بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس أما بعد فالحمد لله الذي حك نظامكم ووهن كيدكم وفرق كلمتكم ولو لم يفعل ذلك بكم لكان شرا لكم فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم ونجزكم إلى غيركم وإلا كان ذلك على غلب وأنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كحبكم الحياة
والكتاب الآخر
بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس أما بعد فالحمد لله الذي فض حرمتكم وفرق كلمتكم وفل حدكم وكسر شوكتكم فأسلموا تسلموا وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون المت كما تحبون الحياة
ودعا خالد الرجل الحيري فقال له ما اسمك قال مرة قال خذ الكتاب لأحد الكتابين فأت به أهل فارس لعل الله يمر عليهم عيشهم أو يسلموا وينيبوا وقال للنبطي ما اسمك قال هزقيل قال خذ الكتاب اللهم ازهق نفوسهم
وكان أهل فارس إذ ذاك لموت أردشير مختلفين في الملك مجتمعين على قتال خالد متساندين إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهر سير ومعه الآزادبه في أشباه له
ولما وقعت كتب خالد إلى أهل المدائن تكلم نساء آل كسرى فولى الفرخزاد ابن البندوان إلى ان يجتمع آل كسرى على رجل إن وجوه وأقام خالد في عمله سنة ومنزله الحيرة يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشام وأهل فارس يخلعون ويملكون ليس إلا للدفع عن بهرسير وكان شيري بن كسرى قد قتل كل من يناسب إلى كسرى بن قباذ ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه وقتلوا كل من بين كسرى قباذ وبين بهرام جور فبقوا لايقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه
وعن الشعبي قال أقام خالد فيما بين فتح الحيرة إلى خروجه إلى الشام أكثر من سنة يعالج عمل عياض الذي سمى له فقال خالد للمسلمين لولا ما عهد إلي الخليفة ما كان دون فتح فارس شيء وكان عهد إليه وإلى عياض إذ وجههما أن يستبقا إلى الحيرة فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه وقال فإذا اجتمعتما بالحيرة وفضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم

فليكن أحدكما رداءا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن حسب ما تقدم من كتاب أبي بكر إليهما بذلك قبل هذا
فكان خالد لا يستطيع أن يفارق مكانه للاقتحام على فارس ولا لإغاثة عياض وكان بدومة قد شجى وأشجى لأجل ما عهد إليه أبو بكر أن لا يقتحم عليهم وخلفه نظام لهم وكان بالعين عسكر لفارس وبالأنبار آخر وبالفراض آخر ثم إن خالدا لما استقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد فرق سواد الحيرة على رجال ممن كان معه وفعل في سواد الأبلة مثل ذلك وأقر أمر المسالح على ثغورهم واستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو وخرج خالد في عمل عياض ليقضي ما بينه وبينه ولإغاثته فسار حتى نزل بكربلا وأقام عليها أياما وشكا إليه عبد الله بن وثيمة الذباب فقال له اصبر فإني إنما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فتسكنها العرب فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم وتجيئنا العرب آمنة وغير متعتعة وبذلك أمرنا الخليفة ورأيه يعدل نجدة الأمة
وقال رجل من أشجع في مثل ما شكاه ابن وثيمة النضري من أمر الذباب
لقد حبست بكربلاء مطيتي
وبالعين حتى عاد غثا سمينها
إذا رحلت من منزل رجعت له
لعمر أبيها إنني لاأهينها
ويمنعها من ماء كل شريعة
رفاق من الذبان زرق عيونها
الطويل
حديث الأنبار وهي ذات العيون

وخرج خالد في تعبيته التي خرج فيها من الحيرة على مقدمته الأقرع بن حابس فلما نزل الأقرع المنزل الذي يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم فلم يستطيعوا العرجة ولم يجدوا بدا من الإقدام ومعهم بنات فخاض تتبعهم فلما نودي بالرحيل صروا الأمهات واحتقبوا المنتوجات لأنها لم تطق السير فانتهوا ركبانا إلى الأنبار وقد تحصن أهلها وخندقوا عليهم فأشرفوا من حصنهم وعلى الجنود التي قبلهم شيرزاد صاحب ساباط وكان أعقل أعجمي يومئذ وأسوده فتصايح عرب الأنبار وقالوا صبح الأنبار شر جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ فقال شيرزاد وقد سأل عن ما يقولون فأخبر به أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم والله لئن لم يكن خالد مجتازا للأصالحنه فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة فأطاف بالخندق وأنشب القتال وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به وتقدم إلى رماته فأوصاهم
وقال إني أرى أقواما لا علم لهم بالحرب فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها فرموا رشقا واحدا ثم تابعوا ففقئت ألف عين يومئذ فسميت تلك الوقعة ذات العيون وتصايح القوم ذهبت عيون أهل الأنبار فراسل شيرزاد خالدا في الصلح على أمر لم يرضه خالد فرد رسله وأتى خالد أضيق مكان في الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى بها فيه فأفعمه ثم اقتحموا الخندق والرذايا جسورهم فاجتمع المسلمون والمشركون في الخندق وأرز القوم إلى حصنهم وراسل شيرزاد في الصلح على مراد خالد فقبل منه خالد على أن يخيله ويلحقه بمأمنه في جريدة خيل ليس معهم من المتاع والمال شيء فخرج شيرزاد فلما قدم على بهمن جاذويه وأخبره الخبر لامه فقال له شيرزاد إني كنت في قوم ليست لهم عقول وأصلهم من العرب فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم ثم قاتلهم الجند ففقئوا فيهم وفي أهل الأرض ألف عين فعرفت أن المسالمة أسلم وأن قرة العين لهم وأن العيون لا تقر منهم بشيء

ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون وامن أهل الأنبار وظهروا رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها فسألهم ما أنتم فقالوا قوم من العرب نزلنا إلى قوم من العرب كانت أوائلهم أيام بختنصر حين أباح العرب فلم نزل عنها فقال ممن تعلمتم الكتابة فقالوا تعلمنا الخط من إياد وأنشدوا قول الشاعر
قوم إياد لو أنهم أمم
أو لو أقاموا فتهزل النعم
قوم لهم باحة العراق إذا
ساروا جميعا والخط والقلم
المنسرح
فصالح خالد من حولهم وبدأ بأهل البوازيج فبعث إليه أهل كلواذة ليعقد لهم وكاتبهم فكانوا عيبته من وراء دجلة
ثم أن الأنبار وما حولها نفضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين من الدول ما خلا أهل البوازيج فإنهم ثبتوا كما ثبت أهل بانقيا
حديث عين التمر
ولما فرغ خالد من الأنبار واستحكمت له استخلف عليها الزبرقان بن بدر وقصد لعين التمر وبها يومئذ مهران بن سوسن في جمع عظيم من العجم وعقة بن أبي عقة في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لاقاهم فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران إن العرب أعلم بقتال العرب فدعنا وخالدا قال صدقت لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب وإنكم لمثلنا في قتال العجم فخدعه واتقى به وقال دونكموهم وإن احتجتم إلينا جئناكم فلما مضى عقة نحو خالد قالت الأعاجم لمهران ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب فقال دعوني فإني لم أرد إلا ماهو خير لكم وشر له إنه قد جاءكم من قتل ملوككم وفل حدكم ما اتقيته بهم فإن كانت لهم على خالد فهي لكم وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء فاعترفوا له بفضل الرأي فلزم مهران العين ونزل عقة لخالد على الطريق وبينه وبين مهران روحة أو غدوة فقدم عليه خالد وهو في تعبئة جنده فعبأ خالد جنده وقال لمجنبتيه اكفونا ما عندكم فإني حامل ووكل بنفسه حوامي ثم حمل وعقة يقيم صفوفه فاحتضنه فأخذه أسيرا وانهزم صفه من غير قتال فأتبعهم

المسلمون وأكثروا فيهم القتل والأسر ولما جاء الخبر مهران هرب في جنده وتركوا الحصن فلما انتهى فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموه واعتصموا به وأقبل خالد في الناس حتى نزل عليه ومعه عقة أسيرا وعمرو بن الصعق وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان يغير عليهم من العرب فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان فأبي إلا حكمه فسكنوا إليه فلما فتحوا دفعهم إلى المسلمين أسارى وأمر بعقة فضربت عنقه ليوئس الأسرى من الحياة فلما رأوه مطروحا على الجسر يئسوا ثم دعا بعمرو بن الصعق فضربت عنقه وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين وسبى كل من حوى حصنهم وغنم ما فيه ووجد في بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل عليهم باب مغلق فكسره عنهم وقال ما انتم قالوا رهن فقسمهم في أهل البلاء فمن أولئك الغلمان أبو زياد مولى ثقيف وحمران مولى عثمان ونصير أبو موسى بن نصير وسيرين والد محمد بن سيرين وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر
وقال عاصم بن عمرو في ذلك يعير عقه
ألا أبلغا الوركاء أن عميدها
رهينة جيش من جيوش الزعافر
فبهلا لمن غرت كفالة عتقه
بني عامر أخرى الليالي الغوابر
أتيح له ضرغامة لايفله
قراع الكماة والليوث المساعر
أتيحت له نار تسيح وتلتوي
وترمي بأمثال النجوم العناهر
الطويل
حديث دومة الجندل وما بعدها من الأيام بحصيد والخنافس ومصيخ والبشر والفراض
قالوا ولما قدم الوليد بن عقبة من عند خالد إلى أبي بكر رضي الله عنه بما بعثه به إليه من الأخماس وجهه أبو بكر إلى عياض وأمده به فقدم عليه الوليد وهو يحاصر أهل دومة وهم محاصروه وقد أخذوا عليه الطريق فقال له الوليد الرأي في بعض الحالات خير من جند كثيف ابعث إلى خالد واستمده ففعل فقدم رسوله على خالد غب وقعة العين مستغيثا فعجل به خالد إلى عياض وكتب إليه معه إياك أريد
لبث قليلا تأتك الجلائب
يحملن آسادا عليها القاشب
كتائب يتبعها كتائب
رجز

ولما فرغ خالد من عين التمر خلف فيها عويمر بن الكاهل الأسلمي وخرج في تعبئته التي دخل فيها العين يريد عياضا ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم وقبل ما أتتهم منهم طوائف فيهم وديعة الكلبي وابن الأيهم التنوخي وابن الحدرجان فأشجوا عياضا وأشجوا به فلما بلغهم دنو خالد وهم رئيسين أكيدر بن عبد الملك والجودي بن ربيعة اختلفوا فقال أكيدر أنا أعلم الناس بخالد
لا أحد أيمن طائرا منه ولا أحد في حرب ولا يرى وجه خالد قوم قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه فأطيعوني وصالحوا القوم فأبوا عليه فقال لن أمالئكم على حرب خالد فشأنكم

فخرج لطيته وبلغ ذلك خالدا فبعث عاصم بن عمرو معاضا له فأخذه وقال إنما تلقيت الأمير خالدا فلما أتى به خالدا أمر به فضربت عنقه وأخذ ما كان معه من شيء ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة وعليهم الجودي ابن ربيعة فجعل خالد دومة بين عسكره وعسكر عياض وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة لم يحملهم الحصن فلما اطمأن خالد خرج الجودي فنهض بوديعة فزحفا لخالد وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض فاقتتلوا فهزم الله الجودي ووديعة على يدي خالد وهزم عياض من يليه وركبهم المسلمون فأما خالد فإنه أخذ الجودي أخذا وأخذ الأقرع بن حابس وديعة وأرز بقية الناس إلى الحصن فلم يحملهم فلما امتلأ الحصن أغلق من في الحصن الحصن دون أصحابهم فبقوا حوله وقال عاصم ابن عمرو يا بني تميم حلفاؤكم كلب آسوهم وأجيروهم فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها ففعلوا وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بهم وأقبل خالد إلى الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن ودعا بالجودي فضرب عنقه وضرب أعناق الأسرى إلا أسير كلب فإن عاصما والأقرع وبني تميم قالوا قد أمناهم فأطلقهم لهم خالد وقال مالي ولكم أتحوطون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام فقال له عاصم لا تحسدهم العافية ولا تحرزهم الشيطان ثم أطاف خالد بباب الحصن فلم يزل عنه حتى اقتلعه واقتحموا عليهم فقتلوا المقاتلة وسبوا الشرخ فأقاموهم فيمن يزيد فاشترى خالد ابنة الجودي وكانت موصوفة بالجمال ثم أن خالدا رد الأقرع إلى الأنبار وثبت بدومة قليلا ثم ارتحل منها إلى الحيرة فلما كان قريبا منها حيث يصبحها
أخذ القعقاع أهلها بالتغليس فخرجوا يتلقونه وهم مغلسون وجعل بعضهم يقول لبعض مروا بنا فهذا فرج الشر

قالوا وقد كان خالد عندما أقام بدومة كاتب عرب الجزيرة الأعاجم غضبا لعقة فخرج زرمهر من بغداد ومعه روزبه يريدان الأنبار واتعدا حصيدا والخنافس فكتب بذلك الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة فبعث القعقاع أبا ليلى بن فدكي السعدي وأمره بحصيد وبعث عروة بن الجعد البارقي وأمره بالخنافس وقال لهما إن رأيتما مقدما فاقدما فخرجا فحالا بينهما وبين الريف وانتظر روزبة وزرمهر بالمسلمين اجتماع من كاتبهما من ربيعة وقد كانوا تكاتبوا واتعدوا فلما رجع خالد من دومة إلى الحيرة على الظهر وبلغه ذلك وقد عزم على مصادمة أهل المدائن كره خلاف أبي بكر وأن يتعلق عليه بشيء فعجل القعقاع وابن عمرو وأبا ليلى بن فدكي إلى روزبه وزرمهر فسبقاه إلى عين التمر وقدم على خالد كتاب امرى ء القيس الكلبي أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ ونزل ربيعة بن بجير بالثنى في عسكر غضبا لعقة يريدان زرمهر وروزبه فخرج خالد وعلى مقدمته الأقرع بن حابس واستخلف على الحيرة عياض بن غنم وأخذ خالد طريق القعقاع وأبي ليلى حتى قدم عليهما بالعين فبعث القعقاع إلى حصيد وأمره على الناس وبعث أبا ليلى إلى الخنافس وأمره على الناس وقال زجياهم ليجتمعوا ومن استشارهم وإلا فواقعاهم فأبى روزبه وزرمهر إلا المقام فلما رآهما القعقاع لا ايتحركان سار نحو حصيد وعلى من به من العرب والعجم روزبه ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر فأمده بنفسه واستخلف على عسكره المهبوذان فالتقوا حينئذ فاقتتلوا فقتل الله العجم مقتلة عظيمة وقتل القعقاع زرمهر وقتل أيضا روزبه قتله عصمة
ابن عبد الله أحد بني الحارث بن طريف من بني ضبة وكان عصمة من البررة وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة وكل قوم هاجروا من بطن يدعون الخيرة فكان المسلمون خيرة بررة وغنم المسلمون يوم حصيد غنائم كثيرة وأرز فلال حصي إلى الخنافس فاجتمعوا بها

وقال القعقاع في ذلك اليوم
ألم ينه عنا غي فارس أننا
منعناهم من ريفهم بالصوارم
وأنا أناس قد تعود خيلنا
لقاء الأعادي بالحتوف القواصم
وروزا قتلنا حيث أرهف حده
وكل رئيس زاريا بالعظائم
تركنا حصيدا لاأنيس بجوه
وقد شقيت أربابه بالأعاجم
وإني لراج أن تلاقى جموعهم
غديا باحدى المنكرات الصوادم
ألا أبلغا أسماء أن خليلها
قضى وطرا من روزمهر الأعاجم
الطويل
وسار أبو ليلى ابن فدكي بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس وبها المهبوذان فلما أحسن بهم هرب هو ومن معه إلى المصيخ وبه الهذيل بن عمران فلما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد وهرب أهل الخنافس كتب إلى القعقاع وأبي ليلى وعروة وواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها على المصيخ وهو بين حوران والقلت وخرج خالد من العين قاصدا للمصيخ على الإبل يجنب الخيل فلما كان في تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعا معه
بالمصيخ فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوي إليهم وهم نائمون أتوهم بالغارة من ثلاثة أوجه فقتلوهم وامتلأ الفضاء قتلى فما شبهوا إلا غنما مصرعة وأفلت الهذيل في أناس قليل وقد كان حرقوص بن النعمان بن النمر ابن قاسط محضهم النصح وأجاد الرأي فلم ينتفعوا بتحذيره وذلك أن حرقوصا قال قبل الغارة
ألا فاسقياني قبل خيل أبي بكر
لعل منايانا قريب ولاندري
ألا فاسقياني في بالزجاج وكررا
علينا كميت اللون صافية تجري
أظن خيول المسلمين وخالدا
ستطرقكم عند الصباح إلى البشر
فهل لكم في السير قبل قتالهم
وقبل خروج المعصرات من الخدر
أريني سلاحي يا أميمة إنني
أخاف بيات القوم مطلع الفجر
الطويل

وكان حرقوص معرسا بامرأة من بني هلال تدعى أم تغلب فقتلت تلك الليلة وقد تقدم من حديث عدي بن حاتم فيما مضى من هذا الكتاب قال أغرنا على المصيخ وإذا رجل يدعى حرقوص بن النعمان بن النمر وإذا حوله بنوه وامرأته وبينهم جفنة من خمر وهم عليها عكوف فقال اشربوا شرب وداع فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها خالد بالعين وجنوده بحصيد وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا
ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر
بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بالقدر
لحين لعمري لايزيد ولا يحرى
الطويل
فسبق إليه وهو في ذلك بعض الخيل فضرب رأسه فإذا هو في جفنته
وأخذنا بناته وقتلنا بنيه
وأصاب جرير بن عبد الله بالمصيخ عبد العزى بن أبي رهم من النمر وإنما حضر جرير مما كان بالعراق ما كان بعد الحيرة وذلك أنه كان ممن خرج مع خالد بن سعيد بن العاص إلى الشام فاستأذن جرير في القدوم على أبي بكر ليكلمه في قومه بجيلة وكانوا أوزاعا في العرب ليجمعهم ويتخلصهم فأذن له فقدم على أبي بكر فذكر له عدة من النبي {صلى الله عليه وسلم} وأتاه عليها بشهود وسأله إنجازها فغضب أبو بكر وقال ترى شغلنا وما نحن فيه من بعوث المسلمين لمن بإزائهم من الأشدين فارس والروم ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا يغني عني عما هو أرضى لله ولرسوله دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين فسار جرير حتى قدم على خالد وهو بالحيرة فشهد معه ما كان بعدها من الأيام وأصاب يوم المصيخ كما ذكرنا عبد العزى بن أبي رهم وكان معه ومع رجل آخر من قومه يقال له لبيد بن جرير كتاب من أبي بكر رضي الله عنه بإسلامهما وسمي عبد العزى عبد الله وبلغ أبا بكر مع ذلك أن عبد العزى قال ليلة الغارة
وأقول إذا طرق الصباح بغارة
سبحانك اللهم رب محمد )
سبحان ربي لاإله غيره رب العباد ورب من يتودد
الكامل
فوداه أبو بكر لما بلغه هذا وودى لبيدا وقال أما إن ذلك ليس علي إذ نازلا أهل حرب وأوصى بأولادهما

وكان عمر رضي الله عنه يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك بن نويرة فيقول أبو بكر رضي الله عنه كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب
وقد كان ربيعة بن بجير التغلبي نزل الثني والبشر غضبا لعقة وواعد لذلك روزبه وزمهر والهذيل قبل أن يصيبهم ما أصابهم بالمصيخ فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به تقدم إلى القعقاع وإلى أبي ليلى بأن يرتحلا أمامه وواعدهما ليلة ليفترقوا فيها للغارة على ربيعة ومن معه من ثلاثة أوجه كما فعل بأهل المصيخ ثم خرج خالد من المصيخ فنزل حوران ثم الرنق ثم الحماة ثم الزميل وهو البشر والثني معه وهما شرقي الرصافة فبدأ بالثني واجتمع هو وأصحابه فبيت من ثلاثة أوجه ربيعة بن بجير ومن اجتمع له وإليه ومن ناشب لذلك من الشبان فجرد خالد فيهم السيوف بياتا فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر واستبقى الشيوخ وبعث بخمس الله عز وجل إلى أبي بكر رضي الله عنه مع النعمان بن عوف الشيباني وقسم النهب والسبايا فاشتري علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ذلك السبي ابنة ربيعة التغلبي فاتخذها فولدت له عمر ورقية
وقال أبو مقرز في ذلك
لعمر بني بجير حيث صاروا
ومن آذاهم يوم الثني
لقد لاقت سراتهم فضاحا
وفينا بالنساء على المطي
الوافر

وكان الهذيل حيث نجا من المصيخ أوى إلى الزميل إلى عتاب بن فلان وهو بالبشر في عسكر ضخم فبيتهم خالد بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه سبقت إليهم الخبر عن ربيعة وكانت على خالد يمين ليبغتن تغلب في دارها فقتل فيهم مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها وأصابوا منهم ما شاءوا وقسم خالد في الناس فيئهم وبعث الأخماس إلى أبي بكر رضي الله عنه مع الصباح بن فلان المزني ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب وبها هلال بن عقة وقد أرفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد فانقشع عنها هلال ولم يلق كيدا ثم قصد خالد بعدها إلى الفراض والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة فأفطر فيها في رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها هذه الغزوات والأيام ونظمن نظما إلى ما كان قبل ذلك منه
قالوا ولما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت واستعانوا ب من يليهم من مسالح أهل فارس وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر فأمدوهم بأجمعهم واجتمعوا كلهم على كلمة واحدة ثم ناهدوا خالدا حتى إذا صار الفرات بينه وبينهم قالوا إما أن تعبوا إلينا وإما أن نعبر إليكم قال خالد اعبروا إلينا قالوا فتنحوا حتى نعبر قال خالد لانفعل ولكن أعبروا أسفل منا فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض احتسبوا ملككم هذا رجل يقاتل عن دين وله عقل وعلم ووالله لينصرن ولتخذلن ثم لم ينتفعوا بذلك فعبروا أسفل من خالد فلما تتاموا قالت الروم امتازوا حتى يعرف اليوم ما كان من حسن أو قبح من أينا يجيء ففعلوا ثم اقتتلوا قتالا شديدا طويلا ثم هزمهم الله تعالى
وقال خالد للمسلمين ألحوا عليهم فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه فإذا جمعوهم قتلوهم فقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب
مائة ألف وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا ثم أذن في القفل إلى الحيرة وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم

وأظهر خالد أنه في الساقة وخرج من الفراض حاجا لخمس بقين من ذي القعدة مكتتما بحجه ومعه عدة ومن أصحابه يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت فقضى حجه ثم أتى الحيرة فوافاه بها كتاب أبي بكر رضي الله عنه يأمره فيه بالمسير إلى الشام ويعاتبه على ما فعل إذ لم يعلم أبو بكر بحجته هذه إلا بعد انصرافه إلى الحيرة
وقد تقدم هذا كله فيما رسم قبل من فتوح الشام مستوفى في بيانه وكيف كان مسيره إلى الشام وتركه المثنى بن حارثة بعده على العراق ومشاطرته إياه في الناس كل ذلك بأمر أبي بكر رضي الله عنه حسب ما تقدم ذكره
حديث المثنى بعد خالد
ولما انفصل خالد رحمه الله إلى الشام شيعه المثنى إلى قراقر ورجع من تشييعه إلى الحيرة فأقام بها في سلطانه ووضع في المسلحة التي كان فيها على السيب أخاه وسد أماكن كل من خرج مع خالد من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء ووضع مذعور بن عدي في بعض تلك الأماكن
واستقام أهل فارس على رأس سنة من مقدم خالد على الحيرة بعد خروجه إلى الشام بقليل وذلك سنة ثلاث عشرة على شهربراز بن اردشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى ثم إلى سابور فوجه إلى المثنى جندا عظيما عليهم هرمز جاذويه في عشرة آلاف ومعه فيل وكتبت المسالح إلى المثنى بإقباله فخرج المثنى من الحيرة نحوه وضم إليه أصحاب المسالح وجعل على مجنبتيه أخويه المعنى ومسعودا وأقام له ببابل وأقبل هرمز جاذويه وقد كتب شهربراز إلى المثنى بن حارثة
من شهربراز إلى المثنى إني قد بعثت إليك جندا من وخش أهل فارس إنما هم رعاة الدجاج والخنازير ولست أقاتلك إلا بهم فكتب إليه المثنى
من المثنى إلى شهربراز إنما أنت أحد رجلين إما صادق فذلك شر لك
وخير لنا وإما كاذب فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفي الناس الملوك وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير

فجزع أهل فارس من كتابه وقالوا إنما أتى شهربراز من شؤم مولده ولؤم منشئه وكان يسكن ميسان وأن بعض البلدان شين على من يسكنه وقالوا له جرأت عدونا بالذي كتبت إليهم فإذا كاتبت أحدا فاستشر ثم التقوا ببابل فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا على الطريق الاول قتالا شديدا
ثم إن المثنى وفرسان من المسلمين اعتمدوا الفيل وكان يفرق بين الصفوف والكراديس فأصابوا مقتله فقتلوه وهزموا أهل فارس وأتبعهم المسلمون يقتلونهم حتى جازوا به مسالحهم فأقاموا فيها وتتبع الطلب الفالة حتى انتهوا إلى المدائن ومات شهربراز منهزم هرمز جاذويه واختلف أهل فارس وبقي مادون دجلة وبرس من السواد في يد المثنى وأيدي المسلمين
ثم أن أهل فارس اجتمعوا بعد شهربراز على دخت زنان ابنة كسرى فلم ينفذ لها أمر وخلعت وملك سابور بن شهربراز وقام بأمره الفرخزاد بن البندوان فقتلا جميعا وملكت آزر ميدخت وتشاغلوا بذلك وأبطأ خبر أبي بكر رضي الله عنه على المسلمين فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية ووضع مكانه في المسالح سعيد بن مرة العجلي وخرج المثنى نحو أبي بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين ولكي يستأذنه في الإستعانة بمن قد ظهرت توبته من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو وليخبره أنه لم يخلف أحدا أنشط إلى
قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم إذ كان أبو بكر رضي الله عنه قد منع من الاستعانة بهم رأسا وقال لأمرائه لاتستعينوا في حربكم بأحد ممن ارتد فإني لم أكن لأستنصر بجيش فيهم أحد ممن ارتد وبالجزاء إن فعلت أن لا تنصروا
وقال عروة بن الزبير أمران يعرف بهما حال من شهد الفتوح من ذكر أن أبا بكر رضي الله عنه استعان في حربه بأحد ممن ارتد فقد كذب وذكر من قول أبي بكر في ذلك ما بدأنا به

قال ومن زعم أن عمر رضي الله عنه حين أذن لمن ارتد في الجهاد أمر أحدا منهم فقد كذب وإنما تألف من تألف بالإمارة منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه رجاء ما رجاه منهم عمر حين استعان بهم فمن قبلهم ابتدأت الفتنة وعلق عثمان رضي الله عنه عند الذي بدا منهم يتمثل بقول الأول
وكنت وعمرا كالمسمن كلبه
فخدشه أنيابه وأظافره
الطويل
فقدم المثنى بن حارثة المدينة وأبو بكر مريض مرضه الذي توفاه الله تعالى منه وذلك بعد مخرج خالد إلى الشام وقد تقدم ذكر وفاة أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما في أول موضع احتيج إلى ذكر ذلك فيه من فتح الشام وتوفي أبو بكر وأحد شقي السواد في سلطانه والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة والمسالح بالسيب والغارات تنتهي بهم إلى شاطيء دجلة ودجلة حجاز بين العرب والعجم
فهذا حديث العراق في خلافة أبي بكر رضي الله عنه من مبتدئه إلى منتهاه
ذكر ما كان من خبر العراق في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما كان من أمر المثنى بن حارثة معه وذكر أبي عبيد بن مسعود على ما في ذلك كله من الإختلاف بين رواة الآثار
ذكر سيف عن شيوخه قالوا أول ما عمل به عمر رحمه الله أن ندب الناس مع المثنى بن حارثة الشيباني إلى أهل فارس قبل صلاة الصبح من الليلة التي مات فيها أبو بكر رضي الله عنه ثم أصبح فبايع الناس وعاد فندب الناس إلى فارس وتتابع الناس على البيعة ففزعوا في ثلاث كل يوم يندبهم فلا ينتدب أحد وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم وأثقلها عليهم لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم
قالوا فلما كان في اليوم الرابع عاد ينتدب الناس إلى العراق فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود وسعد بن عبيد القاري حليف الأنصار وتتابع الناس

قال القاسم بن محمد وتكلم المثنى بن حارثة فقال يا أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه فإنا قد تبجحنا ريف فارس وغلبناهم على خير شقي السواد وشاطرناهم ونلنا منهم واجترأ من قبلنا عليهم ولها إن شاء الله ما بعدها
وقام عمر رضي الله عنه في الناس وقال إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك أين المهاجرون عن موعود الله عز وجل سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب بأن يورثكموها فإنه قال ليظهره على الدين كله والله مظهر دينه ومعز ناصره ومولى أهله مواريث الأمم أين عباد الله الصالحون
فلما اجتمع ذلك البعث وكان أولهم كما تقدم أبو عبيد ثم ثني سعد بن عبيد أو سليط بن قيس قيل لعمر رحمه الله أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار فقال لا والله لاأفعل إن الله تعالى إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء فأولو الرياسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب الدعاء لا والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا ثم دعا أبا عبيد ودعا سليطا وسعدا فقال لهما أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتكما بها إلى مالكما من القدمة فأمر أبا عبيد على الجيش وقال له اسمع من أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} وأشركهم في الأمر ولا تجيبن مسرعا حتى تتبين فإنها الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف ثم قال له إنه لم يمنعني أن أؤمر سليطا إلا تسرعه إلى الحرب وفي التسرع إليها إلا عن بيان ضياع والله لولا ذلك لأمرته ولكن الحرب لايصلحها إلا المكيث
ويروى أن عمر انتخب من أهل المدينة ومن حولها ألف رجل أمر عليهم أبا عبيد فقيل له استعمل من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال لاها الله ذا يا أصحاب النبي لا أندبكم فتبطئون وينتدب غيركم فأؤمركم عليهم إنما فضلتم بتسرعكم فإن نكلتم فضلوكم
وعجل عمر رضي الله عنه المثنى وقال النجاء حتى يقدم عليك أصحابك فخرج المثنى وقدم الحيرة في عشر ولحقه أبو عبيد بعد شهر

وفي كتاب المدائني أن تحرك عمر لهذا البعث إنما كان بكتاب المثنى إليه يستمده ويحرضه على أرض فارس فذكر باسناد له إلى جماعة من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين ولي الله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه وليس ينصر اياهما فكتب إليه المثنى وهو بالحيرة أنا بأرض فارس وقد عرفناهم وغازيناهم وغلبناهم على بعض ما في أيديهم ومعي رجال من قومي لهم صلاح ونجدة وصدق بلاء عند الناس وجرأة على البلاد فإن رميتنا بجماعة من قبلك رجوت أن يفتح الله عليهم قالوا ولم تكن لعمر رحمه الله همة حين قام بأمر المسلمين إلا الروم وفارس فلما أتاه كتاب المثنى بن حارثة خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وحثهم على الجهاد ورغبهم فيه وأنبأهم بما أعد الله للمجاهدين في سبيله وقال أنتم بين فتح عاجل وذخر آجل وقد أصبحتم بالحجاز بغير دار مقام وقد وعدكم الله كنوز كسرى وقيصر وأنزل على نبيه {صلى الله عليه وسلم} هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( 28 الفتح ) وقال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ( 33 التوبة ) فانهضوا لجهاد عدوكم من أهل فارس فإن لكم بها اخوانا ليسوا مثلكم في السابقة وقد لقوهم وقاتلوهم فاستعدوا للمسير إليهم رحمكم الله وأعدو لهم ما استطعتم من قوة ( 60 الأنفال ) ولاتركنوا إلى الدنيا واستعينوا بالله واصبروا
فتثاقل الناس حين ذكر فارس فقال عمر ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ( 38 التوبة ) فقام أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفي فقال أنا أول من انتدب ثم قام سليط ابن قيس بن عمرو فقال يا أمير المؤمنين أنا ثان ثم قام رهط من الأنصار فسمي

منهم نفرا قال ثم تتابع الناس وكثروا وقالوا يا أمير المؤمنين أمر علينا رجلا فقال أؤمر عليكم أول من انتدب فاستعمل عليهم أبا عبيد وقال لم يمنعني من استعمال سليط بن قيس وهو من أهل بدر إلا عجلة فيه فخشيت أن يلقى المسلمين ملقى يهلكون فيه وكان فيمن انتدب سعد بن عبيد القاري ففر يوم الجسر فكان بعد ذلك يقول إن الله اعتد علي بغرة في أرض فارس فعسى أن يعيد لي فيها كرة
وفي حديث غير المدائني فكانت الوجوه تعرض عليه بعد ذلك فيأبى إلا العراق ويقول إن الله اعتد علي فيها بغرة وذكر نحو ما تقدم
واختلف ما ذكره سيف فيمن كان إليه أمر فارس عند قدوم أبي عبيد بحسب اختلاف أهل الأخبار عليه في ذلك
فمما ذكره أن بوران بنت كسرى كانت كلما أختلف الناس بالمدائن عدلا بينهم حتى يصطلحوا فلما قتل الفرخزاد وقدم رستم فقتل أرزميدخت كانت بوران عدلا إلى أن استخرجوا يزدجرد
قال فقدم أبو عبيد والعدل بوران وصاحب الحرب رستم
وذكر من طريق آخر أن بوران هي التي استحثت رستم في السير وكان على فرج خراسان لما قتل الفرخزاد فأقبل رستم في الناس حتى نزل المدائن لا يلقى جيشا لأرزميدخت إلا هزمه واقتتلوا بالمدائن فهزمهم سياوخش وهو قاتل الفرخزاد وحصر أرزميدخت ثم افتتح المدائن فقتل سيخاوخش وفقأ عين أرزميدخت ونصب بوران فدعته إلى القيام بأمر فارس وشكت إليه تضعضعهم وإدبار أمرهم على أن تملكه عشر حجج ثم يكون الملك في آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحدا وإلا ففي نسائهم فقال رستم أما أنا فسامع مطيع غير طالب عوضا ولا ثوابا فإن شرفتموني وصنعتم إلي شيئا فأنتم أولياء ما صنعتم إنما أنا سهمكم وطوع أيديكم فقالت بوران أغد علي فغدا عليها ودعت مرازبة فارس فكتبت له بأنك على حرب فارس ليس عليك إلا الله
عن رضا منا وتسليم لحكمك وحكمك جائز فيهم ما كان حكمك في منع أرضهم وجمعهم عن فرقتهم وتوجته وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا ودانت له فارس بعد قدوم أبي عبيد

فهذا ما ذكره سيف في شأن مملكة فارس إذ ذاك
قال وكتب رستم إلى دهاقنة السواد أن يثوروا بالمسلمين ودس إلى كل رستاق رجلا ليثور بأهله فبعث جابان إلى البهقباذ الأسفل وبعث نرسي إلى كسكر وبعث المصادمة إلى وبلغ ذلك فضم إليه مسالحه وحذر وعجل جابان فنزل النمارق وتوالوا على الخروج فخرج نرسي فنزل زندورد وثار أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله وخرج المثنى بن حارثة في جماعة حتى ينزل خفان لئلا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه فأقام حتى قدم عليه أبو عبيد
وأما المدائني فلم يعرض لما عرض له سيف في شأن مملكة فارس بل بنى على أن يزدجرد هو كان الملك عليهم حينئذ فإنه قال بعقب ما نسب إليه قبل وبلغ يزدجرد أن ملك العرب يسير إليه فشاور أهل بيته ومرازبته فقالوا له وجه إلى أطرافك فحصنها وأخرج من فيها من العرب فوجه جالينوس ورستم وليس بالادزي ومرادن شاه ونرسي ابن خال ابرويز وكل واحد في خمسة آلاف وأمرهم أن ينزلوا متفرقين ويكون بعضهم قريبا من بعض كل رجل في أصحابه ويمد بعضهم بعضا إن احتاجوا إلى ذلك وأمرهم أن يقتلوا من قدروا عليه من العرب فخرجوا والمثنى بالحيرة فبلغه مسيرهم فخرج لينزل على البلاد فلقي على قنطرة النهرين خرزاذبه فقتله ومضى المثنى فنزل من وراء أليس ونزل العجم متفرقين فنزل نرسي كسكر ونزل مردان شاه فيما بين سوار وقبين ونزل رستم ببابل ونزل جالينوس بارسمي ووجه جالينوس جابان في ألف إلى أليس ووجه أزاذبه إلى الحيرة في ألف وفصل أبو عبيد بن مسعود من المدينة في ألف وثما نمائة من المهاجرين والأنصار وغيرهم فيهم من ثقيف

أربعمائة معهم أبو محجن كان مع خالد بن الوليد بالشام فلما أتتهم وفاة أبي بكر رجع إلى المدينة فخرج مع أبي عبيد وانضم إلى أبي عبيد في الطريق مائة من بني أسد ومائتان من طيء ومائة من بني ذبيان بن بغيض ومائة من بني عبس معهم خمسة وعشرون فرسا وخرج المثنى بن حارثة في ثلاثمائة وسبعين من بكر بن وائل وثلاثمائة من بني تميم حنظلة وعمرو وسعد والرباب فتلقى أبا عبيد ثم أقبل معه حتى نزل عسكره الذي كان فيه ووضع عيونا على المسلحة التي بأليس فأتوه فأعلموه فأخبر أبا عبيد فقال له إن أذنت لي سرت إليهم فأذن له وضم إليه ابنه جبر ابن أبي عبيد وقال لابنه جبر لا تخالفه فسار المثنى فصبح أليس وهم آمنون فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزموا فأصاب المسلمون سلاحا ومتاعا ليس بالكثير ورجع إلى أبو عبيد ونزل جابان فيما بين الحيرة والقادسية وكتب أبو عبيد إلى عمر رضي الله عنه بخبر أليس فسر المسلمون ونشطوا وخرج قوم من المدينة إلى أبي عبيد وتقدم أبو عبيد فلقي جابان فيما بين الحيرة والقادسية وجابان في ألفين معه ازاذبه فلم يطل القتال بينهم حتى انهزم المشركون

وفيما ذكره سيف من الأحاديث أن أبا عبيد لما نزل خفان مع المثنى أقام بها أياما ليستجم أصحابه وقد اجتمع إلى جابان بشر كثير وخرج أبو عبيد بعدما جم الناس وطهرهم وجعل المثنى على الخيل فنزلوا على جابان بالنمارق فاقتتلوا قتالا شديدا فهزم الله أهل فارس وأسر جابان أسره مطر بن فضة أحد بني تيم الله وأسر مردان شاه أسره أكتل بن شماخ العكلي فأما أكتل فإنه ضرب عنق مردان شاه وذلك أنه سأله ما اسمك فيما ذكره المدائني فقال له مردان شاه قال وما مردان شاه قال ملك الرجال قال لاجرم والله لأقتلنك فقتله وأما مطر بن فضة فإن جابان خدعه وهو لايعرفه وكان جابان شيخا كبيرا فقال لمطر إنكم معشر العرب أهل وفاء فهل لك أن تؤمنني وأعطيك غلامين أمردين خفيفين في عملك وكذا وكذا قال نعم قال فأدخلني على ملككم حتى يكون ذلك بمشهد منه فأدخله على أبي عبيد فتم له
على ذلك وأجاز ذلك أبو عبيد فعرفه ناس فقالوا لأبي عبيد هذا الملك جابان وهو الذي لقينا بهذا الجمع فقال أبو عبيد فما تأمرونني أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا معاذ الله من ذلك
وفي رواية إني أخاف الله إن قتلته وقد أمنه رجل من المسلمين في الذمة والتواد والتناصر كالجسد ما لزم بعضهم لزم كلهم فقالوا إنه الملك قال وإن كان لا اعذر به فتركه وقال له اذهب حيث شئت
وهرب أصحاب جابان حين أسر إلي كسكر ونرسي بأسفلها وكانت كسكر قطيعة له وكان النرسيان له يحميه لا يأكله بشر إلا ملك فارس أو من أكرموه فيه بشيء ولا يغرسه غيرهم فكان ذلك مذكورا من فعلهم في الناس وأن ثمرهم هذا حمي فقال رستم وبوران لنرسي اشخص إلى قطيعتيك فاحمها من عدوك وعدونا وكونن رجلا فلما انهزم الناس يوم النمارق ووجهت الفالة نحو نرسي ونرسي في عسكره نادى أبو عبيد بالرحيل وقال للمجردة اتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسي أو تبيدوهم فيما بين النمارق إلى بارق دورني

ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسي بكسكر والمثنى في تعبئته التي قاتل فيها جابان وقد أتى الخبر رستم وبوران بهزيمة جابان فبعثوا إليه الجالينوس وبلغ ذلك نرسي وأهل كسكر وباروسما ونهر جوبر والزوابي فرجوا أن يلحق قبل الوقعة وعالجهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية فاقتتلوا في صحار ملس هناك قتالا شديدا ثم إن الله عز وجل هزم فارس وهرب نرسي وغلب المسلمون على
عسكره وأرضه وأخذ أبو عبيد ما حوى معسكرهم وجمع الغنائم فرأى من الأطعمة شيئا عظيما فبعث فيمن يليه من العرب فانتفلوا ما شاءوا لا يؤثرون فيه وأخذت خزائن نرسي فلم يكونوا بشيء مما خزن أفرح منهم بالنرسيان لأنه كان يحميه ويمالئه عليه ملوكهم فاقتسمه المسلمون فجعلوا يطعمونه الفلاحين
قال المدائني وسار أبو عبيد إلى الجالينوس فلقيه بباروسما فهزمه فلحق بالمدائن وبلغ الذين كانوا ببابل هزيمة نرسي وجالينوس فرجعوا إلى المدائن ودخل أبو عبيد باروسما فصالحه ابن الأنذرزعر عن كل رأس بأربعة دراهم وهيئوا له طعاما فأتوه به فقال لاآكل إلا ما يأكل مثله المسلمون فقالوا فكل أصحابك يأكل مثل ما تؤتون به فأكل فلما راح المسلمون سألهم عن طعامهم فأخبروه فإذا الذي أكلوا مثل طعامه
وفي بعض ما أورده سيف من الأخبار أن ابن الأنذرزعر لما أعلم أبا عبيد بالطعام الذي صنعوا له وأتوا به قال لهم هل أكرمتم الجند بمثله وقريتموهم قالوا لا قال فردوه فلا حاجة لنا فيه بئس المرء أبو عبيد أن صحب قوما من بلادهم اهراقوا دماءهم دونه أولم يهريقوها فاستأثر عليهم بشيء يصيبه لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم

قال المدائني وبعث أبو عبيد من باروسما المثنى بن حارثة إلى زندورد وعاصم بن عمرو الأسدي إلى نهرجوير وعروة بن زيد الخيل إلى الزوابي فأما المثنى فإن أهل زندورد حاربوه فظفر بهم فقتل وسبى وأما أهل الزوابي ونهر جوبر فصالحوا على باروسما فبعث أبو عبيد بخمس ما أصاب من أليس وخفان وكسكر وزندورد وما صالح عليه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونزل أبو عبيد والمسلمون الحيرة
وذكر سيف أيضا أنهم بعثوا بخمس ما أصابوا من النرسيان إلى عمر رحمه الله وكتبوا إليه إن الله عز وجل أطعمنا مطاعم كانت
الأكاسرة يحمونها الناس فأحببنا أن تروها لتذكروا أنعم الله وأفضاله
وقال في ذلك عاصم بن عمرو
ضربنا حماة النرسيان بكسكر
عذاة لقيناهم ببيض بواتر
وفزنا على الأيام والحرب لاقح
بجرد حسان أو برود غرائر
وظلت فلال النرسيان وتمره
مباحا لمن بين الدبا والأصافر
أبحنا حمى قوم وكان حماهم
حراما على من رامه بالعساكر
الطويل
وقال أيضا يذكر ملتقى القوم بالنمارق
لعمري وما عمري علي بهين
لقد صبحت بالخزي أهل النمارق
نجوسهم ما بين أليس غدوة
وبين قديس في طريق البرارق
بأيدي رجال هاجروا نحو ربهم
يجوسونهم ما بين درتا وبارق
الطويل وبين الرواة فيما تقدم من الأخبار اختلاف في أسماء الأعاجم والأماكن وفي التقديم والتأخير لم أر لذكر أكثر ذلك وجها إلا ما كان منه زائدا في الإمتاع ومحسنا انتظام الحديث
ومما ذكروا أن عمر رضي الله عنه تقدم به إلى أبي عبيد حين بعثه في هذا الوجه وأوصاه بجنده أن قال له إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية وتقدم على قوم جرءوا على الشر فعملوه وتناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون واخزن لسانك ولا يفشون لك سر فإن صاحب السر ما ضبطه متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه وإذا ضيعه كان بمضيعة
حديث وقعة الجسر
ويقال لها وقعة القس قس الناطف ويقال لها المروحة

وقد جمعت الذي اوردت هنا من الحديث عن هذه الوقعة من احاديث متفرقة أوردها الخطيب أبو القاسم رحمه الله في كتابه عن سيف بن عمرو وغيره يزيد بعضها على بعض ومما وقع إلي أيضا عن أبي الحسن المدائني في فتوح العراق وحديثه أطول افتضاضا وأشد اتصالا وقد جعلت هذه الأحاديث كلها على اختلافها حديثا واحدا إلا أن يعرض فيها ما يتناقض فإما أن أسقط حينئذ أحد النقيضين بعد الإجتهاد فيه وفي الذي أوثر إثباته منهما وإما أن أذكرهما معا وأبين ذلك وأنسبه إلى من وقع ذكره في حديثه
وكثيرا ما مضى عملي في هذا الكتاب على هذا النحو وعليه يستمر إن شاء الله قصدا للتهذيب وحرصا على الجمع بين الإمتاع والإيجاز بحول الله سبحانه
وأفتتح بما افتتح به المدائني هذه القصة للذي ذكرته من حسن اتصال حديثه
قال ولما فتح أبو عبيد ما فتح وهزم تلك الجنود ونزل الحيرة ورجعت المرازبة إلى يزدجرد منهزمين شتمهم وأقصاهم ودعا بهمن ذا الحاجب فعقد
له على اثني عشر ألفا وقال له قدم هؤلاء الذين انهزموا فإن انهزموا فاضرب اعناقهم ودفع إليه درفش كايبان راية كانت لكسرى فكانوا يتيمنون بها وكانت من جلود النمور عرضها ثمانية اذرع في طول اثنى عشر ذراعا واعطاه سلاحا كثيرا وحمل معه من أداة القتال وآلة الحرب أوقارا من الإبل ودفع إليه الفيل الأبيض فخرج في عدة لم يرمثلها
وفي كتاب سيف أن رستم هو صاحب ذلك وأنه الذي رجع إليه الجالينوس ومن أفلت من جنده بناء على ما قدمنا من الإختلاف في ملك فارس إلى من كان حينئذ قال فقال رستم إي العجم أشد على العرب فيما ترون قالوا بهمن جاذويه وهو ذو الحاجب فوجهه ومعه الفيلة ورد جالينوس معه وذكر بعض ما تقدم

وبلغ المسلمون مسيرهم فقال المثنى لأبي عبيد إنك لم تلق مثل هذا الجمع ولامثل هذه العدة ولمثل ما أتوك به روعة لا تثبت لها القلوب فارتحل من منزلك هذا حتى نعبر الفرات ونقطع الجسر وتصير الفرات بينك وبينهم فتراهم فإن عبروا إليك قاتلتهم واستعنت الله قال إني لأرى هذا وهنا ثم أخذ برأي المثنى فعبر الفرات ونزل المروحة وقطع الجسر وأقبل بهمن فنزل قس الناطف بينه وبين أبي عبيد الفرات وأرسل إلى أبي عبيد إما أن تعبر إلينا وإما أن نعبر إليك فقال أبو عبيد نعبر إليكم فقال المثنى أذكرك الله والإسلام أن تعبر إليهم فحلف ليعبرون إليهم ودعا ابن صلوبا فعقد له الجسر فقال سليط بن قيس الأنصاري يا أبا عبيد أذكرك الله ألا تركت للمسلمين مجالا فإن العرب من شأنها أن تفر ثم تكر فاقطع هذا الجسر وتحول عن منزلك وانزل ادنى منزل من البر وتكتب إلى أمير المؤمنين فتعلمه ما قد أجلبوا به علينا ونقيم فإذا كثر عددنا وجاء مددنا رجعنا إليهم وبنا قوة وأرجو أن يظهرنا الله عليهم قال جبنت والله يا سليط قال والله إني لأشد منك بأسا
وأشجع منك قلبا ثم تقدم فعبر فقال المثنى لأبي عبيد والله ما جبن ولكن أشار بالرأي وأنا أعلم بقتال هؤلاء منك لئن عبرت إليهم في ضيق هذا المطرد ليجزرن المسلمين هذا العدو وقال والله لأعبرن إليهم وكان رسول بهمن قد قال إن أهل فارس قد عيروهم يعني المسلمين بالجبن عن العبور إليهم فازداد أبو عبيد محكا فقال المثنى للناس اجعلوا جبنها بي ولاتعبروا فقالوا كيف نصنع وقد عبر أميرنا وسليط في الأنصار وعبر الناس فقال المثنى إني لأرى ما تصنعون ولولا أن خذلاكم يقبح ولا أراه يحل ما صحبتكم ثم عبر فالتقى الناس في موضع ضيق المطرد

قال وكانت دومة امرأة أبي عبيد رأت وهي بالطائف كأن رجلا نزل من السماء معه إناء فيه شراب فشرب منه أبو عبيد ورجال من أهل بيته يأتي ذكرهم فقصتها على أبي عبيد فقال هذه الشهادة إن شاء الله فلما التقوا قال أبو عبيد إن قتلت فأميركم عبد الله بن مسعود بن عمرو يعني أخاه فإن قتل فأميركم جبر بن أبي عبيد يعني ولده فن قتل فأميركم حبيب بن ربيعة بن عمرو بن عمير فإن قتل فأميركم أبو الحكم بن حبيب بن ربيعة بن عمرو بن عمير فإن قتل فأميركم أبو قيس بن حبيب وهؤلاء الإخوة الثلاثة بنو عمه حتى عد كل من شرب الإناء ثم قال فإن قتل فأميركم المثنى بن حارثة وسير على ميمنته سليط بن قيس وعلى ميسرته المثنى وقدم ذو الحاجب جالينوس معه الفيل الأبيض وراية كسرى وقد أطافت به حماة المشركين معلمين أمامهم رجال يمشون على العمد فكانت بين الناس مشاولة يخرج العشرة والعشرون فيقتتلون مليا في النهار ثم حمل المشركون على المسلمين فنضحوهم بالنبل وجثت رجالهم فاستقبلوا بالرماح ولم يقدروا من المسلمين على شيء فانصرفوا عنهم ثم حملوا عليهم الثانية ففعلوا مثلها ثم انصرفوا وحملوا عليهم الثالثة فصبروا فلما رأوا أنهم لا يقدرون على ما يريدون

من المسلمين جاءوا بالنشاب فوضعوه كأنه آكام وتفرقوا ثلاث فرق فقصدت فرقة لأبي عبيد في القلب وفرقة لسليط في الميمنة وفرقة للمثنى في الميسرة ثم صاروا كراديس فجعل الكردوس يمر بهم معرضا بالمسلمين ويرميهم حتى كثرت الجراحات فيهم وعضلت الأرض بأهلها وأقبلت الفيلة عليها النخل والخيول عليها التجافيف والفرسان عليهم الشعر فلما نظرت إلى ذلك خيول المسلمين رأت شيئا منكرا لم تكن ترى مثله فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم خيولهم وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت بين كراديسهم لا تقوى لهم الخيل على نفار وخزقهم الفرس بالنشاب وعض المسلمين الألم وجعلوا لا يصلون إليهم فنادى سليط بن قيس يا أبا عبيد أرأيي أم رأيك أما والله لتعلمن أنك قد أضررت برأيك نفسك والمسلمين ثم قال يا معشر المسلمين علام نستهدف لهؤلاء المشركين من أراد الجنة فليحمل معي فحمل في جماعة أكثرهم من الأنصار فقتل وقتلوا وترجل أبو عبيد وترجل الناس ومشوا إليهم فتكافحوا وصافحوهم بالسيوف وحمى البأس حتى كثرت القتلى من الطائفتين جميعا وجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم فنادى أبو عبيد احتوشوا الفيلة فقطعوا بطنها واقلبوا عنها أهلها وواثب هو الفيل الأبيض فتعلق ببطانه فقطعه ووقع الذين عليه وفعل القوم مثل ذلك فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه وقال أبو عبيد ما لهذه الدابة من مقتل قالوا بلى مشفرها إن قطع فضرب مشفره فقطعه وبرك عليه فاستدبره أبو محجن فضرب عرقوبيه فاستدار وسقط لجنبه وتعاور أبا عبيد المشركون فقتلوه وقيل بل اتقاه الفيل بيده لم نفح مشفره بالسيف

فأصابه بيده فوقع فخبطه الفيل وقام عليه فلما بصر الناس بأبي عبيد تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم وأخذ اللواء الذي كان أمره من بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبي عبيد فاجتره إلى المسلمين وأخذوا شلوه ثم تجرثم الفيل فاتقاه الفيل بيده دأب أبي عبيد وخبطه الفيل وقام عليه وتتابع أمراء أبي عبيد الذين عهد إليهم بأخذ اللواء فيقاتل حتى يموت وصبر الناس حتى قتلوا وصارت الراية إلى المثنى بن حارثة فجاش بها ساعة ثم انهزم الناس وركبهم المشركون واقتطعوا زر بن خطم أو ابن حصن بن جوين الطائي في جماعة من المسلمين فنادى زر يا معشر المسلمين أنا زر إنه ليس بعار أن يقتل الرجل وهو مقبل على عدوه ومعه سيف يضرب به سبالهم وأنفهم وإنما العار أن يقتل الرجل وهو غير مقبل على عدوه فاثبتوا فرب قوم قد فروا ثم كروا ففتح الله عليهم فثاب إليه ناس من أهل الحفاظ حتى صاروا نحوا من ثلاثمائة وأحاط بهم المشركون حتى خافوا الهلاك ونظر إليهم المثنى بن حارثة فقال لناس من بكر بن وائل أرى إخوانكم قد أحسنوا القتال وصبروا لعدوهم فإن أمسكتم عنهم هلكوا وإن كررتم رجوت أن تفرجوا عنهم وأن يكشف الله لهم السبيل إلى الجسر فحمل على المشركين في سبعين من بكر بن وائل أصحاب خيل مقدحة كان يعدها للطلب والغارة في بلاد العدو فقاتلهم حتى ارتفع عنهم المشركون وانضموا إلى أخوانهم من المسلمين ونظر عروة بن زيد الخيل وقد أحيط به وهو في عشرين فرسا إلى خيل المسلمين تطارد المشركين فقال لمن معه أرى في المسلمين بقية فاحملوا على من بيننا وبين أصحابنا فحملوا وأفرجوا لهم حتى وصلوا إلى المسلمين وكان عروة يومئذ على فرس كميت أغر ذنوب فأبلى أحسن بلاء وكان يشد عليه المنسر من مناسر العجم وهو وحده فإذا غشوه كر عليهم فيتصدعون حتى عرف مكانه وتعجب الناس يومئذ من عروة لما رأوا من بلائه فقال المثنى إن البأس ليس بمستنكر ومضى الناس

نحو الجسر وحماهم المثنى وعروة بن زيد الخيل والكلح الضبي وعاصم بن عمرو الأسدي وعامر بن الصلت السلمى ونادى المثنى أيها الناس أنا دونكم فاعبروا على هيئتكم ولا تدهشوا فإنا لن نزول حتى نراكم من ذلك الجانب ولا تفرقوا أنفسكم فانتهى الناس إلى الجسر وقد سبق إليه عبد الله بن مرثد الثقفي أو غيره فقطعه وقال قاتلوا عن دينكم فخشع الناس واقتحموا الفرات فغرق من لم يصبروا وأسرع المشركون فيمن صبروا وأتاهم المثنى بن حارثة فأمر بالسفينة التي قطعت فوصلت بالجسر وعبر الناس وقال المثنى للرجل الذي قطع الجسر ما حملك على ما صنعت قال أردت أن يصبر الناس ويقال إن سليط ابن قيس كان من آخر من قتل عند الجسر
وأصيب يومئذ من المسلمين ألف وثمانمائة منهم ثلاثمائة من ثقيف فيهم ثمانون خاضبا واستحر القتل يومئذ ببني عوف بن عقدة رهط أبي عبيد فابيد منهم أبو عبيد وأمراءوه الذين أمر وغيرهم ويقال قتل يومئذ معه اثنان وعشرون رجلا مما هاجر وقتل من المشركين ألفان
وقتل أكثر من ذلك فيما ذكره سيف قال خبط الفيل أبا عبيد وقد أسرعت السيوف في أهل فارس وأصيب منهم ستة آلاف في المعركة ولم يبق إلا الهزيمة فلما خبط أبو عبيد وقام عليه الفيل جال المسلمون جولة ثم تموا عليها وركبهم أهل فارس
وقال أبو عثمان النهدي هلك يومئذ يعني من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق وهرب ألفان وبقي ثلاثة آلاف
ولما فرغ الناس بالعبور عبر المثنى وحمى جانبه واضطرب عسكره ورماهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم وقطع المسلمون الجسر بعد عبورهم فعبره المشركون
قالوا وخرج جابان ومردانشاه في ألف من الأساورة منتخبين ليسبقوا
المسلمين إلى الطريق وبلغ ذلك المثنى فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو وخرج يريدهما في جريدة خيل فاعترضاه يظنانه هاربا فأخذهما أسيرين فضرب أعناقهما وقال أنتما كذبتما أميرنا واستفززتماه

وخرج أهل أليس على أصحابها فأخذوهم فجاؤا بهم إلى المثنى فضرب أعناقهم وعقد بذلك لأهل أليس ذمة ثم رجع إلى عسكره
وقيل بل لقيهم المثنى فقتل مردانشاه في المعركة وأسر جابان فضرب المثنى رقبته وقد تقدم في ذكر ملتقى أبي عبيد بجابان بين الحيرة والقادسية أن أكتل ابن شماخ العكلي أسر مردانشاه ثم ضرب عنقه وأسر مطربن فضة جابان فخدعه وافتدي منه وأحد الأمرين هو الصحيح في قتل مردانشاه فالله أعلم
وانهزم المشركون ومضى المثنى إلى أليس وتفرق بنو تميم إلى بواديهم ومضى أهل المدينة وأسد وغطفان فنزلوا الثعلبية وكان لعروة بن زيد الخيل من حسن الغناء في يوم الجسر ما تقدم ذكره فقال له المثنى يا عروة أما والله لو أن معي مثلك ألف فارس من العرب ما تهيبت أن أصبح ابن كسرى في مدائنه وما كنت أكره أن ألقي مثل هذا الجمع الذي فل المسلمين مصحرا ولرجوت أن يظفرني الله بهم فهل لك في المقام معي لا أوثر عليك نفسي ولا أحدا من قومي قال لا إني كنت مع هذا الرجل يعني أبا عبيد وقد أصيب فارجع إلى عمر فيرى رأيه فلما نزل الناس الثعلبية سألوا عروة أن يأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكتابهم فكتبوا إليه إنا لقينا عدو الإسلام من أهل فارس بمكان يقال له قس الناطف فقتل أميرنا أبو عبيد وأمراء أمرهم أبو عبيد وسليط ابن قيس ورجال من المسلمين منهم من تعرف ومنهم من تنكر وتولى أمر الناس المثنى بن حارثة أخو بني شيبان فحماهم في فوارس جزاهم الله عن الإسلام خيرا فكتبنا إليك وقد نزلنا الثعلبية فرارا من الزحف لا نرى إلا أنا قد هلكنا وقد بعثنا إليك فارس المسلمين عروة يخبرك عنا ويأتينا بأمرك فلما قرأ عمر الكتاب فانتهى إلى قوله منهم من تعرف ومنهم من تنكر بكى وقال

ما ضر قوما عرفهم الله أن ينكرهم عمر لكن الله لا يخفى عليه من عباده المحسنون يا عروة ارجع إليهم فأعلمهم أنهم ليسوا بفرار وإنما انحازوا إلي وأنا لهم فئة وسيفتح الله عليهم تلك البلاد أن شاء الله يرحم الله أبا عبيد لو انحاز إلينا واعتصم بالحيف لكنا له فئة
وكتب عمر مع عروة إلى المثنى بن حارثة أما بعد فإن الله كتب القتل على قوم فلم يكن مماتهم ليكون إلا قتلا وكتب على قوم الموت فهم يموتون موتا فطوبى لمن قتل في سبيل الله محتسبا نفسه صابرا وقد بلغني عنك ما كنت أحب أن تكون عليه فالزم مكانك الذي أنت به وادع من حولك من العرب ولا تعجل إلى قتال إلا أن تقاتل أو ترى فرصة حتى تأتيك أمداد المسلمين وكأن قد أتتك على الصعبة والذلول
فقدم عروة بن زيد على المثنى بكتاب عمر ورجع أهل الحجاز وأسد وغطفان إلى بلادهم وأقام المثنى حتى قدمت الأمداد
ويقال إن أول خبر تحدث به عن أهل الجسر بالمدينة أن رجلا قدمها من الطائف فجلس إلى حذاء فقال مالي لا أسمع أهل المدينة يبكون قتلاهم فقال له الحذاء ومن قتل قال
قتل أبو عبيد بن مسعود وسليط بن قيس فأخذ الحذاء بتلابيبه حتى أتى به عمر فأخبره بما قال فقال له عمر ما تقول ويلك قال يا أمير المؤمنين إنا منذ ليال بفناء من أفنية الطائف إذ سمعنا أصوات نساء من ناحية باب شهار يقلن يا أبا عبيداه ويا سليطاه وسمعنا قائلا يقول
إن بالجسر فتية سعداء
صبرا صادقين يوم اللقاء
كم تقي مجاهد كان فيهم
خاشع القلب مستجاب الدعاء
يجأر الليل كله بعويل
ونحيب وزفرة وبكاء
الخفيف
قال فما انقضى حديثه حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمي وكان أول من قدم بخبر الجسر ممن شهده فمر بباب حجر عائشة ويقال أتى عمر وهو على المنبر فلما دخل المسجد ورآه عمر قال ما عندك يا ابن زيد قال أتاك الخبر يا أمير المؤمنين ثم صعد إليه فأخبره فقالت عائشة ما رأينا رجلا حضر أمرا فحدث عنه كان أثبت حديثا من عبد الله بن زيد ولا أخفي فزعا

ولما قدم أهل المدينة المدينة وأخبروا عمن سار منهم إلى البادية استحياء من الهزيمة اشتد ذلك على عمر رحمه الله فرق للناس ورحمهم وقال اللهم إن كل مسلم في حل مني انا فئة كل مسلم من لقي العدو ففظع بشيء من أمره فأنا له فئة يرحم الله أبا عبيد لو كان إنحاز إلي لكنت له فئة
وكان معاذ القارى ء ممن شهدها وفر يومئذ وكان يصلي بالناس في شهر رمضان على عهد عمر فكان بعد إذا قرأ ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ( 16 الأنفال ) خنقته العبرة وبكى فكان عمر يقول أنا لكم فئة
وكان عمر رضي الله عنه قد رأى في النوم أن أبا عبيد وأصحابه انتهوا إلى ضرس من الحيرة فتحيروا ولم يجدوا مخرجا فرجعوا فلم يجدوا طريقا فرفعوا إلى السماء فقال عمر هذه شهادة فليت شعري ما فعل عدوهم فكان يتوقع الخبر حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمي فأخبره فبكى وقال ما وجهت أحدا وجها أكره إلي من الوجه الذي توجه إليه أبو عبيد
وقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عبيد يرثي أبا عبيد ومن أصيب معه وهو ابن عم أبي عبيد وأخو بني حبيب الثلاثة المقتولين معه من أمرائه
( أنى تهدت نحونا أم يوسف
ومن دون مسراها فياف مجاهل )
( إلى فتية بالطف نيلت سراتهم وغري أفراس بها ورواحل )
( وأضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم إلى جانب الأبيات حزم ونابل )
وأضحى أبو جبر خلا ببيوته
بما كان تعدوه الضعاف الأرامل
الاقد علت قلبي الهموم الشواغل
وراجعت النفس الأمور القواتل
سيعلم أهل الغي كيف عزيمتي
ويعلم ودادي الذين أواكل
غناي وأخذي بالذي أنا أهله
إذا نزلت بي المعضلات العضائل
فما رمت حتى خرقوا برماحهم
ثيابي وجادت بالدماء الأباجل
وما رمت حتى كنت آخر راجع
وصرع حولي الصالحون الأماثل
وقد غادروني في مكر جيادهم
كأني غادتني من الراح شامل
وأمسى على سيفي نزيف ومهرتي
لدى الفيل تدمى نحرها والشواكل
فما لمت نفسي غير أنها
إلى أجل لم يأتها وهو عاجل

مررت على الأنصار وسط رحالهم
فقلت لهم هل منكم اليوم قافل
ألا لعن الله الذين يسرهم
رداي وما يدرون ما الله فاعل
الطويل
وقال أبو محجن أيضا
يا عين جودي على جبر ووالده
إذا تحطمت الرايات والحلق
يوم بيوم أتى جبر وإخوته
والنفس نفسان منها الهول والشفق
يا خل سل المنايا ما تركن لنا
عزا ننوء به ما هدهد الورق
البسيط
وقال حسان بن ثابت يرثي سليط بن قيس ومن أصيب من قومه
لقد عظمت فينا الرزية أننا
جلاد على ريب الحوادث والدهر
لدى الجسر يوم الجسر لهفي عليهم
غداة إذا ما قد لقينا على الجسر
يقول رجال ما لحسان باكيا
وحق لي التبكاء بالنحب والغزر
أبعد أبي قيس سليط تلومني
سفاها أبي الأيتام في العسر واليسر
فقل للألى أمسوا أسروا شماتة
به كنتم يوم النزال على بدر
الطويل
وقالت امرأة من ثقيف
أضحت منازل آل عمرو قفرة
بعد الجزيل ونائل مبذول
وكأنما كانوا لموقف ساعة
قردا زفته الريح كل سبيل
الكامل
حديث البويب ووقعة مهران

ولما بلغ عمر رضي الله عنه أمر الجسر وأتاه كتاب المسلمين بالخبر استخلف على المدينة علي بن أبي طالب وخرج فنزل بصرار يريد أرض فارس وقدم طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص فدخل عليه العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف فأشاروا عليه بالمقام وقالوا شاور الناس فكتب إلى علي وطلحة فقدما عليه فجمع الناس فقال إني نزلت منزلي هذا وأنا أريد العراق فصرفني عن ذلك قوم من ذوي الرأي منكم وقد أحضرت هذا الأمر من خلفت ومن قدمت فأشيروا علي فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرى أن ترجع إلى المدينة وتكتب إلى من هناك من المسلمين أن يدعوا من حولهم ويحذروا على أنفسهم وقد قدم قوم من العرب يريدون الهجرة فوجههم إليهم فتكون دار هجرة حتى إذا كثروا وليت أمرهم رجلا من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أهل السابقة والقدم في الإسلام فانصرف عمر إلى المدينة وكتب إلى المثنى بأن يدعو من حوله ولا يقاتل أحدا حتى يأتيه المدد وقدم من الأسد وبارق وغامد وكنانة سبعمائة أهل بيت فقال لهم عمر أين تريدون فقالوا سلفنا بالشام قال أو غير ذلك أرضا تبتذونها إن شاء الله ويغنمكم الله كنوزها أخوار فارس فقال مخنف بن سليم الغامدي مرنا بأحب الوجهين إليك قال العراق قال فامضوا على بركة الله فأمر عمر على الأزد رجلا منهم وعلى كنانة غالب بن عبد الله الليثي فشخصوا إلى
أرض الكوفة فقدموا على المثني بن حارثة فأقبل بهم حتى نزلوا العذيب

وفيما ذكره سيف أن الأزد وكنانة لما سألوا الشام قال لهم عمر ذلك وجهه قد كفيتموه العراق العراق إذروا بلدة قد فل الله شوكتها وعدوها واستقبلوا جهاد قوم قد حووا فنون العيش لعل الله أن يرث بكم قسطكم من ذلك فتعيشوا مع من عاش من الناس فقال غالب الليثي وعرفجة البارقي كل واحد منهما لقومه يا عشيرتاه أجيبوا أمير المؤمنين إلى ما أراد فقال كل فريق لصاحبهم انا قد اطعناك واجبنا امير المؤمنين الى ما أراد فدعا لهم عمر بخير وأمر على كنانة غالبا وسرحه فيهم وأمر على الأزد عرفجة بن هرثمة البارقي وعامتهم من بارق وفرحوا برجوع عرفجة إليهم فخرج هذا في قومه وهذا في قومه حتى قدما على المثني وكان عرفجة هذا حليفا في بجيلة لأمر عرض له في قومه أخرجه عنهم ومن قدمته هذه رجع إلى قومه ونسبه حسب ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى
وقدم بعدهم أربعمائة أهل بيت من كندة والسكون فيهم الأشعث بن قيس ومعاوية بن حديج وشرحبيل بن السمط فقالوا يا أمير المؤمنين قدمنا نريد سلفنا بالشام فنظر إليهم وعليهم الحلل فأعرض عنهم فكلموه أيضا فلم يأمرهم بشيء فقيل له ما يمنعك قال إني لمتردد فيهم منقبض عنهم لا ينزل هؤلاء بلدا إلا فتنوا أهله وما قدم أحد المدينة أكره إلي منهم فأمضي نصفهم إلى الشام عليهم معاوية بن حديج ونصفهم إلى العراق عليهم شرحبيل بن السمط
وقدم من مذحج المدينة ألف بيت فيهم ثلاثمائة أهل بيت من النخع فقال عمر سيروا إلى أرض فارس قالوا لا ولكنا نسير إلى الشام فقال يزيد بن كعب النخعي أنا أخرج فيمن أطاعني فخرج في ثلاثمائة أهل بيت من النخع وقال هند الجملي أنا أخرج فيمن أطاعني فخرج في
خمسائة أهل بيت من مراد فكان عمر يقول بعد ذلك سيد أهل الكوفة سمي المرأة هند الجملي
ثم قدم المدينة أهل ألف بيت من همدان فقالوا لعمر خر لنا قال أرض العراق قالوا بل الشام قال بل العراق فصرفوا ركابهم إلى العراق

وقد كانت قدمت بجيلة فيهم جرير بن عبد الله وسيدهم عرفجة بن هرثمة البارقي حليف لهم فقال عمر اخرجوا إلى العراق وأمر عليهم عرفجة فقال جرير لبجيلة أخبروا عمر أنه ولي عليكم رجلا ليس منكم وكانت بجيلة وقد غضبت على عرفجة في أمر عرض بينهم وبينه فكلموا عمر في ذلك واستعفوه منه فقال لاأعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلاما وأعظمكم بلاء وإحسانا فلما أعلموه أنه ليس منهم قال لعرفجة إن هؤلاء استعفوني منك وزعموا أنك لست منهم فما عندك قال صدقوا لست منهم وما يسرني أنني منهم أنا أمرؤ من الأزد من بارق في كثف لا يحصى عدده وحسب غير مؤتشب فقال عمر نعم الحي الأزد يأخذون نصيبهم من الخير والشر
وقال عرفجة إنه كان من شأني أن الشر تفاقم فينا ودارنا واحدة وأصبنا الدماء ووتر بعضنا بعضا فاعتزلتهم لما خفتهم فكنت في هؤلاء أسودهم وأقودهم فحفظوا علي لأمر دار بيني وبين دهاقنتهم فحسدوني وكفروني فقال لا يضرك فاعتزلهم إذ كرهوك
وقيل إن عمر قال اثبت على منزلتك ودافعهم قال لست فاعلا ولا سائرا فأمر عليهم جرير بن عبد الله وقيل إن جريرا كان إليه من بجيلة بعضها فجمعها إليه عمر وقال له جرير يا أمير المؤمنين إن قومي متفرقون في العرب فأخرجهم وأنا أغزو بهم أرض فارس وكانوا متفرقين في هوازن وغطفان وتميم وفي أزد شنوءة والطائف وجرش فكتب عمر إلى القبائل التي فيها

بجيلة أي نسب تواصل عليه الناس قبل الإسلام فهو النسب ليس لأحد أن يدعه وليس له أن ينتقل إلى غير ما كان يعرف به فمن كان من بجيلة لم ينتسب إلى غيرهم حتى جاء الإسلام فلا تحولوا بينهم وبين الرجوع إلى قومهم فخرج قيس كبة وشحمة وعرينة من هوازن وغيرها من القبائل وخرج العتيل والفتيان من بني الحارث وخرج علي وذبيان من الأزد بالسراة ولما أعطى عمر رضي الله عنه جريرا حاجته في استخراج بجيلة من الناس فأخرجهم أمرهم بالموعد بين مكة والمدينة ولما تتاموا قال لجرير اخرج حتى تلحق بالمثنى فكره ذلك جرير ومال إلى الشام فقال له عمر قد علمتم ما لقي إخوانكم بأرض فارس فاخرجوا فإني أرجوا أن يورثكم الله أرضهم وديارهم ولك الربع من كل شيء بعد الخمس وقيل بل جعل له ولقومه ربع الخمس مما أفاء الله عليه في غزاتهم هذه له ولمن اجتمع إليه ومن أخرج له من القبائل استصلحهم عمر رضي الله عنه بذلك إذ كان هواهم الشام فأبى هو عليهم إلا العراق وقال لهم اتخذونا طريقا فقدموا المدينة وهم أربعة آلاف وقيل ألفان ثم فصلوا منها إلى العراق ممدين للمثنى فقال عمر لو ضممت إلى هؤلاء من الجبين من ابني نزار يعني تميما وبكرا فوجه معهم قوما منهم ثم تتابعت الأمداد
وكان أول من نزل العذيب بالعيال من قبائل اليمن والحجاز الأزد ثم حضرموت وكندة ثم النخع ومراد ثم همدان ثم بجيلة ثم جاءت قبائل الحجاز وأهل البوادي من تميم وبكر وجاءت طيء عليها عدي بن حاتم وجاءت أسد وجاءت قيس عليهم عبد الله بن المعتم العبسي وجاءت الرباب وعلى تيم وعدي هلال بن علفة وعلى ضبة المنذر بن حسان وجاءت حنظلة وعمرو وطوائف من سعد وجاءت النمر بن قاسط عليهم أنس بن هلال بن عقة وبعث عمر أيضا عصمة بن عبد الله الضبي فيمن تبعه من بني ضبة وكان قد كتب إلى أهل الردة يأذن لهم في الجهاد ويستنفرهم إليه فلم يوافقه أحد منهم إلا رمى به المثنى

وذكر المدائني أن يزدجرد وجه مهران بعد واقعة الجسر وأمره أن يبث
المسالح إلى أدانى أرض العرب ويقتل كل عربي قدر عليه
وفيما ذكره الطبري عن سيف أن رستم والفيرزان هما اللذان رأيا انفاذ مهران بعد أن طالعا برأيهما في ذلك بوران ابنة كسرى وذلك عندما علما بتوافي امداد العرب إلى المثنى فخرج مهران في الخيول وجاء يريد الحيرة وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ ما بين القادسية وخفان فاستبطن فرات بادقلي وأرسل إلى جرير ومن معه أنه جاءنا أمر لن نستطيع معه المقام حتى تقدموا علينا فعجلوا اللحاق بنا وموعدكم البويب وكتب إلى عصمة وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك وقال خذوا على الجوف فسلكوا القادسية وسلك المثنى وسط السواد فطلع على النهرين ثم على الخورنق وطلع عصمة ومن سلك معه طريقه على النجف وطلع جرير ومن سلك معه على الجوف فانتهوا إلى المثنى وهو على البويب ومهران من وراء الفرات بإزائه فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلي موضع الكوفة اليوم وعليهم المثنى وهم بإزاء مهران وعسكره فقال المثنى لرجل من أهل السواد ما يقال لهذه الرقعة التي فيها مهران وعسكره فقال بسوسا فقال أكدي مهران وهلك ونزل منزلا هو البسوس وأقام بمكانه حتى كاتبه مهران إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم فقال المثنى اعبروا فعبر مهران فنزل على شاطى ء الفرات معهم في الملطاط فقال المثنى لذلك السوادي ما يقال لهذه الرقعة التي نزلها مهران وعسكره فقال شوميا وذلك في رمضان فنادى المثنى في الناس انهدوا لعدوكم فتناهدوا ومهران في ثلاثة عشر ألفا معه ثلاثة فيلة فقدموا فيلتهم واستعدوا للحرب فأقبلوا إلى المسلمين في ثلاثة صفوف مع كل صف فيل ورجلهم أمام فيلهم وجاءوا ولهم زجل فقال المثنى للمسلمين إن الذي تسمعون فشل فالزموا الصمت وائتمروا همسا والمسلمون أربعة آلاف ألفان وثمانمائة من اليمن وألف ومائتان من سائر الناس ويقال كانوا ستة آلاف ألف

ومائتان من تميم وقيس بكر وسائرهم من اليمن
وتنازع جرير والمثنى الإمارة يومئذ فقال له المثنى إنما بعثك أمير المؤمنين مددا لي وقال جرير بل استعملني فقيل صار الأمر بينهما إلى ما قال المثنى فكان هو الأمير وقيل صار جرير أميرا على من قدم معه والمثنى أميرا على من قدم قبل ذلك ومن قال هذا زعم ان المثنى قال لجرير عندما نهدوا للعدو خلني وتعبئة الناس ففعل جرير وعبأ ففعل جرير وعبأ المثنى الجيش فصير مضر وربيعة في القلب وصير اليمن ميمنة وميسرة وقال المثنى يا معشر المسلمين إني قد قاتلت العرب والعجم فمائة من العرب كانوا أشد علي من ألف من العجم ويقال إنه قال لهم قاتلت العرب والعجم في الجاهلية والإسلام والله لمائة من العجم في الجاهلية كانوا أشد علي من ألف من العرب ولمائة من العرب اليوم أشد علي من ألف من العجم إن الله قد أذهب مصدوقتهم ووهن كيدهم فلا يهولنكم سوادهم إن للعجم قسيا لجا وسهاما طوالا هي أغنى سلاحهم عندهم فلو قد لقوكم رموكم بها وإذا أعجلوا عنها أو فقدوها فهم كالبهائم أينما وجهتموها توجهت فتترسوا والزموا مصافكم واصبروا لشدة أوشدتين ثم أنتم الظاهرون إن شاء الله تعالى

وركب يومئذ فرسا ذنوبا أدهم يدعى الشموس للين عريكته وطهارته وكان لا يركبه إلا لقتال ويدعه ما لم يكن قتال ومر على الرايات يحض القبائل فقال له شرحبيل بن السمط ما أنصفتنا يا مثنى جعلت معدك وسطا وجعلتنا ميمنة وميسرة قال إذا أنصفكم الله ما أريد لهم شيئا من الخير إلا وأنا أريد لكم مثله وما عهدي بمعد يدري بالناس من البأس ثم صير تميما مع الأزد في الميمنة وصير ربيعة مع كندة في الميسرة وصفوا صفوفهم وقال الزموا الصمت فإني مكبر ثلاث تكبيرات فإذا كبرت الثالثة فاحملوا فنظر إلى سعد ابن عبيد الأنصاري قد نصل من الصف فقال من أنت قال سعد بن عبيد فررت يوم الجسر من الزحف فأردت أن أجعل توبتي من فرتي أن أشري نفسي لله فقال له إن خيرا مما تريد أن تقف مع المسلمين فتناضل عن دينك
وقال جرير يا معشر بجيلة إن لكم في هذه البلاد إن فتحها الله لكم حظا ليس لغيركم فاصبروا التماس إحدى الحسنيين الشهادة فثوابها الجنة أو النصر ففيه الغنى من العيلة ولا تقاتلوا رياء ولا سمعة بحسب امرى ء من خساسته حظا أن يريد بجهاده وعدوه حمد أحد من الخلق

ومر المثنى على الرايات راية راية يحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم ولكلهم يقول إني لأرجو أن لا تؤتى العرب اليوم من قبلكم والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم فيجيبونه بمثل ذلك وأنصفهم المثنى في القول والفعل وخالط الناس في المكروه والمحبوب فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا ووقف على أهل الميمنة فنظر إلى رجل من العنبر على فرس عتيق رائع فقال يا أخا بني العنبر إنك لمن قوم صدق في اللقاء أما والله يا بني تميم إنكم لميامين في الحرب صبر عند البأس إني لأرجو أن يعز الله بكم دينه وقال للأزد اللهم صبحهم برضوانك وادفع عنهم عين الحاسد أنتم والله الأنجاد الأمجاد الحسان الوجوه وإني لأرجو أن يأتي العرب اليوم منكم ما أعينهم ونظر إلى فوارس من قيس في القلب فقال نعم فتيان الصباح أنتم اللهم جللهم عافيتك وافرغ عليهم الصبر يوما كبعض أيامكم ونظر إلى ناس من طيء في القلب فقال جزاكم الله خيرا فنعم الحي أنتم في اللقاء وعند العطاء فإنه ليحضهم إذ شدت كتيبة من العجم على المسيرة وفيها بكر وكندة فقال المثنى إن الخيل تنكشف ثم تكر يا معشر طيء الزموا مصافكم وأغنوا ما يليكم واعترض الكتيبة التي كشفتهم بخيل كانت معه فمنعهم من اتباعهم وقاتلهم فثارت عجاجة بينهم ورجع أهل الميسرة وأقبلت الميمنة نحو المثنى وقد انكشف العدو عنه وسيفه بيده وقد جرح جراحات وهو يقول اللهم عليك تمام النصر هذا منك فلك الحمد فقال له مخنف بن سليم الغامدي الحمد لله الذي عافاك فقد كنت
أشفقت عليك قال كم من كربة قد فرجها الله هل منعم عليه يكافيء ربه بنعمة من نعمه

وكانت هزيمة المشركين فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى نهر بني سليم ثم كروا على المسلمين وركدت الحرب بينهم مليا فلا يسمع إلا هرير الرجال وقد كان انس بن هلال النمري قدم ممدا للمثنى في أناس من النمر نصارى وابن مردي الفهري الثعلبي في ناس من قومه كذلك وقالوا حين رأوا نزول العجم بالعرب نقاتل مع قومنا فلما طال القتال يومئذ واشتد عمد المثنى إلى أنس بن هلال فقال يا أنس إنك امرؤ عربي وإن لم تكن على ديننا فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي وقال لابن مردي الفهري مثل ذلك فأجاباه فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل في ميمنته ثم خالطوهم واجتمع القلبان وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل لا يستطيعون أن يفزعوا لنصر أميرهم لا المسلمون ولا المشركون وقد كان المثنى قال لهم إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف فالزموا مصافكم وأغنوا عنا من يليكم وأوجع قلب المسلمين قلب المشركين ووقف المثنى حتى أسفر الغبار وقد فني قلب المشركين والمجنبات قد هز بعضها بعضا فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنبات المسلمين على المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم وجعل المسلمون والمثنى في القلب يدعون لهم بالنصر ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم إن المثنى يقول لكم عادتكم في أمثالهم انصروا الله ينصركم حتى هزم القوم
وكانت راية الأزد مع عبد الله بن سليم فجعل يتقدم بها فقال له رجل لو تأخرت قليلا فقال
أقسمت بالرحمن أن لا أبرحا
أو يصنع الله لنا فيفتحا
الرجز
وقاتل حتى قتل وتقدم أبو أمية عبد الله بن كعب الأزدي وهو يقول اللهم إليك أسعى لترضى وإياك أرجو فاغفر ذنبي ثم تقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله

فحمل أبو رملة بن عبد الله بن سليم وكانت عنده الرباب ابنة عبد الله بن كعب فقتل قاتل عبد الله بن كعب واحتز رأسه فأتى به ابنه وهو غلام مراهق فقال دونك رأس قاتل أبيك فعض الفتى بأنفه ومر به رجل من بكر بن وائل يقال له عجل فقال يا فتى ما أشجعك على الأموات فحمى الفتى واعترض العدو فأتبعه عمه جندب وهو يقول يا عجل قتلت ابن أخي فلحقه وقد قتل رجلا فرده وقتل حصين بن القعقاع بن معبد بن زرارة فأخذ الراية مولي لهم أو مولي للأزد يقال له خصفة فقاتل حتى قتل ودارت بينهم رحى الحرب وأخذت جرير الرماح فنادى واقوماه أنا جرير فقاتلت عنه جماعة من قيس ليس معهم غيرهم حتى خلص وشدت جماعة على مسعود بن حارثه وهو معلم بعصابة خضراء وهو يفري فريا فطعن رجلا فقتله وطعن آخر فانكسر رمحه فاختلفا بسيفيهما ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه فوقف عليه أخوه المثنى فقال هكذا مصارع خياركم وقيل إنه ارتث يومئذ فمات بعد في أناس من الجرحى من أعلام المسلمين ماتوا كذلك منهم خالد بن هلال فصلى عليهم المثنى وقدمهم على الأسنان والقرآن وقال والله إنه ليهون علي وجدي أن شهدوا البويب أقدموا وصبروا ولم يجزعوا ولم يتكلموا وإن كان في الشهادة لكفارة لبحور الذنوب ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ فتضعضع من معه رأى ذلك وهو دنف فقال يا معشر كعب بن وائل ارفعوا رايتكم رفعكم الله لا يهولنكم مصرعي وقتل جرير وغالب بن عبد الله الليثي وحنظلة بن ربيعة الأسدي وعروة بن زيد الخيل كل واحد منهم عشرة
وقال ربعي بن عامر وشهدها يومئذ مع أبيه احصي مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة في المعركة وذكر أن غالبا وعروة وعرفجة في الأزد كانوا من أصحاب التسعة فالله أعلم
وقال يومئذ لعروة رجل من قومة ورآه يقدم أهلكت قومك يا عروة فقال
يا قوم لا تعنفوني قومي
لا تكثروا عدلي ولا من لومي
( لا تعدوني النصر بعد اليوم ) الرجز
وسمع رجل يومئذ من مهران يرتجز وهو يقول

( إن تسألوا عني فإني مهران
أنا لمن أنكرني ابن باذان ) السريع
فعجب من أن يتكلم بالعربية فقيل له إنه ولد باليمن ويقال إنه عربي نشأ مع أبيه باليمن وكان أبوه عاملا لكسرى
وأبصر جرير بن عبد الله مهران يقاتل فحمل عليه جرير والمنذر بن حسان فقتلاه طعنه المنذر فأداره عن دابته وقد وقذه فنزل إليه جرير فاحتز رأسه وتنازعا سلبه ثم أخذ جرير سلاحه وأخذ المنذر حليته وثيابه وبرذونه وقيل في قتله غير هذا وهو مما حدثت به أم ولد لزيد بن صوحان أن زيدا أخرجها معه إلى العسكر حتى لقوا مهران صاحب كسرى فجعل الناس يحيدون عن مهران فقال زيد ما شأن الناس يحيدون عن هذا قيل كرهوه فنزل زيد فمشى إليه فاختلفا ضربتين فأطن مهران يده فرجع فأخذ عمامتي فشقها ثم لفها على يده ثم عاوده فنسف ساقيه بالسيف فقتله فابتدر المسلمون سلبه فلم يأخذ زيد من سلبه إلا السيف نفله إياه الأمير فكان زيد يقول من يشتري سيفا وهذا أثره ويخرج يده الجذماء فيريها وقد قيل إن غلاما نصرانيا من بني تغلب هو الذي قتل مهران فالله أعلم
وهزم المشركون فأتوا الفرات وأتبعهم المسلمون فانتهوا إلى الجسر وقد عبرت طائفة من المشركين الجسر فحالوا بين الباقين وبينه فأخذوا يمينا وشمالا فقاتلهم المسلمون حتى أمسوا واقتحم طائفة الفرات فغرق بعضهم ونجا بعض ورجع المسلمون عنهم حين أمسوا فعبر من بقي منهم الجسر ثم قطعوه فأصبح المسلمون فعقدوه واتبعوهم حتى بلغوا بيوت ساباط ثم انصرفوا وصلبوا مهران على الجسر
ويقال إن المثنى قطع الجسر أولا ليمنع أهل فارس العبور ثم ندم على ذلك وقال لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتي إياهم إلى الجسر وقطعه حتى أحرجتهم فإني غير عائد فلا تعودوا ولا تعتدوا بي أيها الناس فإنما كانت زلة لا ينبغي إخراج أحد إلا من لا يقوى على الامتناع

ولما افترق الأعاجم على شاطئ الفرات مصمدين ومصوبين واعتورتهم خيول المسلمين أكثروا القتل فيهم حتى جعلوهم جثاء فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أقوى رمة منها
حدث أبو روق قال والله إن كنا لنأتي البويب يعني بعد ذلك بزمان فنرى ما بين السكون وبني سليم عظاما بيضاء تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم نعتبر بها قال وحدثني بعض من شهدها أنهم كانوا يحرزونها مائة ألف
واقتسم المسلمون ما أفاء الله عليهم ونفلت بجيلة وجرير ما جعل لهم عمر بن الخطاب وحمل الخمس أو باقي الخمس وجلس المثنى للناس يحدثهم ويحدثونه لما فرغوا وكلما جاء رجل فتحدث قال له المثنى أخبرني عنك فقال قرط بن جماح العبدري قتلت رجلا فوجدت منه رائحة المسك فقلت مهران ورجوت أن يكون إياه فإذا هو شهريرار صاحب الخيل فوالله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئا وكان قرط قد قاتل يومئذ حتى دق قنى وقطع أسيافا
وقال ربعي وهو يحدث المثنى لما رأيت ركود الحرب واحتدامها قلت تترسوا بالمجان فإنهم شادون عليكم فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر في الثالثة فأجابوني فولي الله كفالتي
وقال ابن ذي السهمين محدثا قلت لأصحابي إني سمعت الأمير يقرأ ويذكر في قراءته الزحف فما ذكره إلا لفضل فيه فاقتدوا برايتكم ولتحمي خيلكم رجلكم وازحفوا فما لقول الله من خلف فأنجز الله لهم وعده كما رجوت
وقال عرفجة محدثا حزنا كتيبة منهم إلى الفرات ورجوت أن يكون الله قد
أذن في غرقهم وأن يسلينا بها عن مصيبة الجسر فلما حصلوا في حد الإحراج كروا علينا فقاتلناهم قتالا شديدا حتى قال بعض قومي لو أخذت رايتك فقلت علي اقدامها وحملت بها على حاميتهم فقتلته فولوا نحو الفرات فما بلغوه ومنهم أحد فيه الروح

وقد كان المثنى قال يومئذ من يتبع آثار المنهزمة حتى يبلغ السيب فقام جرير في قومه فقال يا معشر بجيلة إنكم وجميع المسلمين ممن شهد هذا اليوم في السابقة والفضيلة سواء وليس لأحد منهم في هذا الخمس غدا من النفل مثل الذي لكم منه نفلا من أمير المؤمنين فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذي لكم منه إلى ما ترجون فإنما تنتظرون إحدى الحسنيين الشهادة والجنة او الظفر والغنيمة والجنة
ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستنثلوا بالأمس من منهزمة يوم الجسر فقال أين المستنل بالأمس وأصحابه انتدبوا في آثار هؤلاء القوم إلى السيب وابلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به فهو خير لكم وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
وكان هذا المستنثل أو هو إن شاء الله سعد بن عبيد الأنصاري قد أراد الخروج بالأمس من صف المسلمين الى العدو فقيل للمثنى ألا ترى إلى هذا الرجل الذي يريد أن يستنثل فركض إليه فقال يا أبا عبد الله ما تريد ان تصنع قال فررت يوم أبي عبيد فأردت أن تكون توبتي وانتصاري أن أمشي إليهم فأقاتل حتى أقتل قال إذن لاتضر عدوك ولا تنفع وليك ولكن أدلك على ما هو خير لك تثبت على صفك وتجزى قرنك وتواسي أخاك بنفسك وتنصره وينصرك فتكون قد نفعت المسلم وضررت العدو فأطاعة وثبت مكانه فكان يومئذ أول منتدب
فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر ثم أخرجهم في أثر القوم واتبعتهم بجيلة وخيول المسلمين بعد من كل فارس ولم يبق في العسكر جسري إلا خرج في الخيل فانطلقوا في طلب العدو حتى بلغوا السيب فأصابوا من البقر والسبي

وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه المثنى عليهم وفضل أهل البلاء من جميع القبائل ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية وبعث بثلاثة أرباعه إلى عمر رضي الله عنه وألقى الله الرعب في قلوب أهل فارس وكتب القواد الذين قادوا الناس في الطلب إلى المثنى وكتب إليه عاصم وعصمة وجرير إن الله قد كفى رستم ووجه لنا ما رأيت وليس دون القوم شيء فأذن لنا في الإقدام فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط وتحصن اهلها منهم واستباحوا القريات دونها وراماهم أهل الحصن عن حصنهم بساباط ثم انكفئوا راجعين إلى المثنى
قالوا وكان المثنى وعصمة وجرير أصابوا في أيام البويب على الظهر نزل مهران غنما ودقيقا وبقرا فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم وهن بالحيرة وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات اللواتي بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد فقال عمرو هكذا ينبغي لنساء هذا الجيش وبشروهن بالفتح
ولما أهلك الله عز وجل مهران استمكن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة فمخروها لايخافون كيدا ولا يلقون فيها مانعا وانتفضت مسالح العجم فرجعت إليهم واعتصموا بالساباط وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة ونزل جرير والمثنى الحيرة وبثا المسالح فيما بين الأنبار وعين التمر إلى الطف فمن كان أقام على صلحه قبلوا ذلك منه ومن نقض أغاروا عليه فكان أهل الحيرة وبانيقيا وغيرهم على صلحهم
وكانت وقعة البويب في رمضان من سنة ثلاث عشرة
وتنازع أيضا المثنى وجرير الإمارة وكان المثنى أحب إلى نزار وجرير أحب إلى اليمانية فكتب الى عمر رحمه الله في ذلك فكان من مشورته فيه
وعمله ما سيأتي بعد ذكره

وشخص المثنى عند ذلك فنزل أليس ويقال شراف وهو وجع من جراحات به وارتحل معه عامة النزارية فلما رأى ذلك جرير تحول فنزل العذيب مع العيال ومعه أخلاط الناس وهو الأمير عليهم في قول بعضهم وفي هذه الإمارات كلها اضطراب من نقلة الأخبار واختلاف بين القبائل فبنو شيبان تقول كان جرير الأمير يوم قتل مهران المثنى وبجيلة تقول كان الأمير يوم ذلك وقبل وبعد والأظهر مما تقدم من الأخبار أن المثنى كان الأمير في تلك الحرب إلا أن يكون جرير على من معه كما قد قيل فالله تعالى أعلم
وقد قال العور الشني فلم يذكر لغير المثنى يومئذ إمارة
هاجت عليك ديار الحرب أحزانا
واستبدلت بعد عبد القيس همذانا
وقد أرانا بها والشمل مجتمع
أدنى النخيلة قتلى جند مهرانا
كأن الأمير المثنى يوم راجفة
مهران أشجع من ليث بخفانا
أزمان سار المثنى بالخيول لهم
فقتل الزحف من رجلى وركبانا
سما لمهران والجيش الذي معه
حتى أبادهم مثنى ووحدانا
إذ لاأمير أراه بالعراق لنا
مثل المثنى الذي من آل شيبانا
البسيط
حديث غارة المثنى على سوقي الخنافس وبغداد

ذكر سيف عن شيوخه أن المثنى لما نزل أليس قرية من قرى الأنبار وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخرة وغزاة أليس الآخرة وقد مخر السواد وخلف بالحيرة بشير بن الخصاصية وأرسل جريرا إلى ميسان وهلال بن علقمة إلى دست ميسان وأذكى المسالح بعصمة بن فلان الضبي وبالكلح الضبي وبعرفجة البارقي وأمثالهم من قواد المسلمين ألز به رجلان أحدهما أنباري والآخر حيري يدله كل واحد منهما على سوق فأما الأنباري فدله على سوق الخنافس وأما الحيري فدله على بغداد فقال المثنى أيتهما قبل صاحبتها فقالوا بينهما أيام فقال أيهما أعجل قالوا سوق الخنافس يتوافى إليها الناس ويجتمع إليها ربيعة وقضاعة يخفرونهم فاستعد لها المثنى حتى إذا ظن أنه يوافيهم يوم سوقها ركب نحوهم فأغار على الخنافس يوم سوقها وبها خيلان من ربيعة وقضاعة وهم الخفراء فانتسف السوق وما فيها وسلب الخفراء ثم رجع عوده على بدئه حتى تطرق دهاقين الأنبار طروقا في أول يومه فتحصنوا منه فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد وأتوا بالأدلاء على بغداد وكان وجهه إلى سوق بغداد فصبحهم
وقال المثنى في غارته على خنافس
صبحنا في الخنافس جمع بكر
وحيا من قضاعة غير ميل
بفتيان الوغى من كل حي
تباري في الحوادث كل جيل
نسفنا سوقهم والخيل زور
من التطواف والشد البجيل
الوافر

وذكر الخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادي في تاريخه أن بغداد كانت في أيام مملكة العجم قرية يجتمع فيها رأس كل سنة التجار ويقوم بها للفرس سوق عظيمة فلما توجه المسلمون إلى العراق وفتحوا أول السواد ذكر للمثنى بن حارثة أمر سوق بغداد ثم أورد بإسناد له عن أبن إسحق أن أهل الحيرة قالوا للمثنى وذكره سيف من طريق آخر أن رجلا من أهل الحيرة قال للمثنى واللفظ في الحديثين متقارب وقد دخل حديث أحدهما في حديث الآخر قالوا ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى وتجار السواد ويجتمع بها في كل سنة من الناس مثل خراج العراق وهذه أيام سوقهم التي يجتمعون فيها فإن أنت قدرت على أن تعبر إليهم وهم لا يشعرون أصبت بها مالا يكون غناء للمسلمين وقوة على عدوهم وبينها وبين مدائن كسرى عامة يوم فقال لهم فكيف لي بها قالوا إن أردتها فخذ طريق البر حتى تنتهي إلى الأنبار ثم تأخذ رءوس الدهاقين فيبعثون معك الأدلاء فتسير سواد ليلة من الأنبار حتى تأتيهم ضحى
قال فخرج من النخيلة ومعه أدلاء الحيرة حتى دخل الأنبار فنزل بصاحبها فتحصن منه فأرسل إليه ما يمنعك من النزول فأرسل إليه إني أخاف فأرسل إليه انزل فإنك آمن على دمك وقريتك وترجع سالما إلى حصنك فتوثق عليه ثم نزل فأطعمه المثنى وخوفه واستكتمه وقال إني أريد أن أغير فابعث معي الأدلاء إلى بغداد حتى أغير منها إلى المدائن قال أنا أجيء معك قال المثنى لا أريد أن تجيء معي ولكن ابعث معي من يعرف الطريق ففعل وأمر لهم بزاد وطعام وعلف وبعث معهم دليلا فأقبل حتى إذا

بلغ المنصف قال له المثنى كم بيننا وبين هذه القرية قال أربعة فراسخ أو خمسة وقد بقي عليك ليل فقال لأصحابه من ينتدب للحرس فانتدب له قوم فقال لهم اذكوا حرسكم ثم نزل وقال للناس أنزلوا فاقضوا واطعموا وتوضأوا وتهيأوا وابعثوا الطلائع فلا يلقون أحدا إلا حبسوه ثم ساربهم فصبحهم في أسواقهم فوضع فيهم السيف فقتل وأخذ الأموال وقال لأصحابه لا تأخذوا إلا الذهب والفضة ومن المتاع ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته وهرب الناس وتركوا أمتعتهم وأموالهم وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحر من كل شيء ثم كر راجعا ثم نزل بنهر السليحيين من الأنبار فقال للمسلمين أحمدوا الله الذي سلمكم وغنمكم وانزلوا فاعلفوا خيلكم من هذا القصب وعلقوا عليها وأصيبوا من أزوادكم فسمع القوم يهمس بعضهم إلى بعض أن القوم سراع الآن في طلبنا فقال تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان قبح الله من يتناجون به انظروا في الأمور وقدروها ثم تكلموا تحسبونهم الآن في طلبكم فو الله لو كان الصريخ قد بلغهم الآن إنه لكبير ولو كان الصريخ عندهم لبلغهم من رعب غارتنا عليهم إلى جنب مدائنهم ما يشغلهم عن طلبنا حتى نلحق معسكرنا وجماعتنا إن للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل ولو كان بهم من القوة ما يحملهم على طلبنا ثم جهدوا وجهدهم ما أدركونا نحن على الجياد العراب وهم على المقارف البطاء ولو انهم طلبونا فأدركونا لم نقاتلهم إلا التماس الثواب ورجاء النصر فثقوا بالله وأحسنوا به الظن فقد نصركم الله عليهم وهم أكثر منكم وأعز وسأخبركم عني وعن انكماشي والذي أريد من ذلك أن خليفة رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أبا بكر أوصانا أن نقل العرجة ونسرع الكرة في الغارات ونسرع في غير ذلك الأوبة فأقبلوا ومعهم دليلهم حتى انتهوا إلى الأنبار فاستقبلهم صاحبها بالكرامة فوعده المثنى بالإحسان إليه لو استقام أمرهم ورجع المثنى إلى عسكره
حديث السرايا من الأنبار

قالوا لما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار سرح المضارب العجلي وزيدا إلى الكباث ثم خرج في أثرهم فقدم الرجلان الكباث وقد ارفض عنه أهله وأخلوه وكانوا كلهم من بني تغلب وكان عليهم فارس العناب التغلبي يحميهم فركب المسلمون آثارهم يتبعونهم فأدركوا أخرياتهم فحماهم فارس العناب ساعة ثم هرب وقتلوا في أخرياتهم فأكثروا ورجع المثنى إلى عسكره بالأنبار فسرح فرات بن حيان وكان خلفه في عسكره وسرح معه عتيبة بن النهاس وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين ثم أتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبي الهجيمي فلما دنوا من صفين فر أهلها فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا وفارق المثنى فراتا وعتيبة فأرمل المثنى وأصحابه من الزاد حتى نحروا رحلهم إلا ما لابد لهم منه فأكلوها حتى أخفافها وعظامها وجلودهها ثم ادركوا عيرا من أهل دياف وحوران فقتلوا العلوج وأصابوا ثلاثة نفر من بني تغلب خفراء فأخذوا العير وكان ظهرا فاضلا وقال لهم دلوني فقال له أحدهم أمنوني على أهلي ومالي وأدلكم على حي من بني تغلب غدوت من عندهم اليوم فآمنه المثنى وسار معه يومه حتى إذا كان العشي هجم عليهم فإذا النعم صادرة عن الماء والقوم جلوس بأفنية البيوت فبعث غارته فقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية وانتسفوا الأموال وإذا هم بنو ذي
الرويحلة فاشترى من كان من ربيعة السبايا بنصيبهم من الفيء فأعتقوا سبيهم وكانت ربيعة لا تسبى إذ العرب يتسابون في جاهليتهم

وأخبر المثنى أن جمهورمن سلك البلاد قد انتجعوا شاطى ء دجلة فسرح في آثارهم حذيفة بن محصن وكان على مقدمته في غزواته كلها بعد البويب ثم أتبعه فأدركوهم دون تكريت يخوضون الماء فأصابوا ما شاءوا من النعم حتى أصاب الرجل خمسا من السبي وخمسا من النعم وجاء المثنى بذلك حتى نزل على الناس بالأنبار ومضى فرات وعتيبة في وجههما حتى أغارا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين فأغاروا عليهم ونقبوهم فرموا بطائفة منهم في الماء فناشدوهم وجعلوا ينادون الغرق الغرق فلم يقلعوا عنهم وجعل عتيبة والفرات يذمرون الناس وينادونهم تغريق بتحريق يذكرونهم يوما من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوما من بكر بن وائل في غيضة من الغياض ثم انطلق المسلمون راجعين إلى المثنى وقد غرقوهم
فلما تراجع الناس إلى عسكرهم بالأنبار وتوافت بها البعوث والسرايا انحدر بهم المثنى إلى الحيرة فنزل بها وكانت لعمر رحمه الله في كل جيش عيون يتعرفون الأخبار من قبلهم فكتب إليه بما كان في تلك الغزاة وأبلغ الذي قال عتيبة والفرات يوم بني تغلب والماء فبعث إليهما فسألهما فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه المثل وأنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب بذحل في الجاهلية فاستحلفهما فحلفا ما أراد بذلك إلا المثل وإعزاز الإسلام فصدقهما وردهما إلى المثنى

ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخه
قالوا قال أهل فارس لرستم والقيرزان وهما عميدا أهل فارس أين يذهب بكما لم يبرح بكما الإختلاف حتى وهنتما أهل فارس وأطمعتما فيهم عدوهم وإن لم يبلغ من خطركما أن تقركما فارس على هذا الرأي وأن تعرضاها للهلكة ما تنتظرون والله ما تنتظرون إلا أن ينزل بنا ونهلك ما بعد ساباط وبغداد وتكريت إلا المدائن والله ما جرأ علينا هذا غيركم ولولا أن في قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم

قالوا فقال القيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى اكتبي لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم ففعلت وأخرجت ذلك إليهم في كتاب فأرسلوا في طلبهن فلم تبق امرأة منهن إلا أتوا بها فوضعوا عليهن العذاب يستدلونهن على ذكر من آل كسرى فلم يوجد عند واحدة منهن أحد منهم وقلن أو من قال منهن لم يبق منهم إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى وأمه من أهل داريا فأرسلوا إليها فأخذوها به فدلتهم عليه وكانت قد دفعته إلى أخواله في أيام شيري حين جمعهن في القصر الأبيض فقتل الذكور واعدتهم ثم دلته إليهم في زبيل فأرسلوا إليه
فجاءوا به وهو ابن إحدى وعشرين فملكوه واجتمعوا عليه واطمأنت فارس واستوثقوا وتبارى الرؤساء في طاعته ومناصحته ومعونته فسمى الجنود لكل مسلحة كانت لكسرى أو موضع ثغر وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين فكتبوا بذلك إلى عمر رحمه الله بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد من كان له منهم عهد ومن لم يكن له فخرج المثنى على حاميته حتى ينزل بذي قار وينزل الناس بذي الطف في عسكر واحد فكتب إليهم عمر
أما بعد فاخرجوا من بين ظهراني الأعاجم وتفرقوا في المياه التي تليهم على حدود أرضكم وأرضهم ولا تدعوا في ربيعة ومضر أحدا من أهل النجدات ولا فارسا إلا اجلبتموه فإن جاء طائعا وإلا حشدتموه احملوا العرب على الجد إذا جد العجم لتلقوا جدهم بجدكم
فنزل المثنى بذي قار ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضي وغضي جبال البصرة وكان جرير بن عبد الله بغضي وسبرة بن عمرو العنبري ومن أخذ أخذهم فيمن معهم إلى سلمى فكانوا في أمواه العراق من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ويغيث بعضهم بعضا وإن كان كون وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة

وعادت مسالح كسرى وثغوره وهم في ملك فارس هائبون مشفقون والمسلمون يتدفقون قد ضروا بهم كالأسد يثأر عن فريسته ثم يعاود الكر وأمراؤهم يكفكفونهم لأن عمر رحمه الله كان أمرهم أن لا يقاتلوا إلا أن يقاتلوا حتى يأتيهم أمره وتصلهم أمداد المسلمين
تأمير عمر رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص على العراق وذكر الخبر عن حرب القادسية

ذكر المدائني بإسناده إلى رجال من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض
أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان يخير من قدم عليه من العرب بين الشام وبين العراق فكانت مضر تختار العراق وتختار أهل اليمن الشام فقال عمر اليمن أشد تعاطفا يحنون إلى سفلهم ونزار كلهم سلف نفسه ومضر لا تحن إلى سلفها ولم يكن أحد من العرب أشد إقداما على أرض فارس من ربيعة فبلغ عمر اختلاف المثنى بن حارثة وجرير بن عبد الله في الإمارة فاستشار الناس فقال المغيرة بن شعبة يا أمير المؤمنين تداركهم برجل من المهاجرين واجعله بدريا فقال أشيروا علي برجل فقال عبد الرحمن بن عوف قد وجدته قال من هو قال سعد بن أبي وقاص قال هو لها فكتب عمر إلى المثنى لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وكتب إلى جرير والمثنى إني موجه سعدا إليكما فاسمعا له وأطيعا

وذكر الطبري وغيره في هذا الموضع من تحرك عمر رضي الله عنه للخروج إلى العراق بنفسه واستدعائه وجوه المهاجرين والأنصار للمشورة عليه فيه بعد أن خرج بذلك الرسم فنزل صرارا وقدم بين يديه طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص وخلف بالمدينة علي بن أبي طالب واليا عليها وإشارة أولى الرأي عليه بالرجوع إلى المدينة والاستخلاف على ذلك الوجه واستنفار العرب له ما قد فرغنا من ذكره في صدر وقعة البويب من خبر الجسر حيث ذكره المدائني ولعل ذلك الموضع أولى به فإن يكن كذلك فقد ذكرناه حيث ينبغي وإن يكن موضعه هذا فقد نبهنا عليه ليعرف ما وقع فيه من الاختلاف بين المؤلفين في هذا الشأن بحسب ما تأدي إليهم من جهة النقل والأمر في ذلك قريب والاختلاف في المنقولات غير مستنكر والله تعالى أعلم
وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه استعمل سعد بن أبي وقاص على صدقات هوازن بنجد فأقره عمر عليها فلما أتاه اجتماع فارس وقيام يزدجرد في قول من جعل قيامه بعد وقعة البويب خلافا لما ذكره المدائني وآخرون معه من قيامه قبل ذلك حسب ما قدمناه كتب عمر إلى المسلمين بما عملوا به قبل انتهاء كتابه إليهم من الوقوف على حدود أرضهم وأن يستخرجوا كل دبي سلاح وفرس ممن له رأي ونجدة فيضموه إليهم حتى يأتيهم أمره وكتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث عشرة مخرجه إلى الحج يأمرهم أيضا بانتخاب الناس أولى الخيل والسلاح والنجدة والرأي ويستعجلهم في توجيههم إليه وكتب بمثل ذلك إلى سعد بن أبي وقاص فجاءه كتاب سعد
إني قد انتخبت لك ألف فارس مرد كلهم له نجدة ورأي يحوط حريم قومه ويمنع زمارهم إليهم انتهت أحسابهم وآراؤهم فشأنك بهم

فوافق وصول كتاب سعد بهذا مشاورة عمر الناس في رجل يوجهه إلى العراق فقالوا قد وجدته قال من قالوا الأسد عاديا سعد بن مالك فانتهى إلى رأيهم وأرسل إليه فقدم عليه فأمره على حرب العراق وأوصاه فقال يا سعد سعد بني وهيب عليك بتقوى الله فإن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن ولا يغرنك أن يقال صاحب رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وخال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فإن الله عز وجل ليس بينه وبين احد سبب إلا طاعته فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعاقبة ويدركون ما عنده بالطاعة ألم تسمع لقول الله تبارك وتعالى من جاء بالحسنة فله خير منها ( 84 القصص ) و من جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ( 90 النمل ) وقد رأيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} مذ بعثه الله حتى قبضه إليه فالزم ما رأيته عليه وإني موجهك إلى أرض فارس فسر على بركة الله فقد استعملنك على من مررت به من القبائل ممن سقط إليكم من العرب فاندبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه واعلمهم ما أعد الله لأهله فمن تبعك منهم فأحسن إليه وارفق بهم واجعل كل قبيلة على منزلها ومن لم يبلغ أن تستنفره بمن معه من قبيلة فاجعله مع من أحب وانزل فيدا حتى يأتيك أمري
وفي رواية أنه قال لما أراد أن يسرحه
إني قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق فعود نفسك ومن معك الخير واستفتح به واعلم أن لكل عادة عتادا وعتاد الخير الصبر فالصبر الصبر تجتمع لك به خشية الله تجتمع لك في أمرين في طاعته واجتناب معصيته وإنما أطاعه من أطاعه بحب الآخرة وبغض الدنيا وعصاه من عصاه بحب الدنيا

وبغض الآخرة وللقلوب حقائق ينشئها الله عز وجل انشاء منها السر والعلانية فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه وبمحبة الناس إليه فلا تزهد في التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم وإن الله تعالى إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه وإذا أبغض عبدا بغضه إليهم فاعتبر منزلتك عند الله عز وجل بمنزلتك عند الناس ممن يسرع معك في أمرك
وذكر المدائني أن عمر رضي الله عنه كتب لسعد مع ما أوصاه به عهدا يقول له فيه
أوصيك بتقوى الله والرغبة فيما عنده فادع الناس إلى الله فمن أجابك فهو أولى بماله وأهله وولده وليس لك منه إلا زاد بلاغ إن احتجت وعظ نفسك وأصحابك ولا تكثر عليهم فيملوا واجعلهم رفقاء أخوانا وألن لهم جناحك وحطهم بنفسك كنفسك واعلم أن المسلمين في جوار الله وأن المسلم أعظم الخلق عند الله حرمة ولا يطلبنك الله بخفرته في أحد منهم واحذر عليهم واحفظ قاصيتهم وعد مريضهم وانصف مظلومهم وخذ لضعيفهم من قويهم واصلح بينهم وألزمهم القرآن وخوفهم بالله وآمنهم من ذكر الجاهلية وما كان فيها فإنها تورث الضغينة وتذكرهم الدخول واعلم أن الله قد توكل من هذا الأمر بما لا خلف فيه فاحذر أن يصرف الله ذلك عنك بذنب ويستبدل بكم غيركم واحذر من الله ما حذركم من نفسه فإنك تجد ما قدمت يداك من خير محضرا وما علمت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا
ثم سرحه فيمن اجتمع إليه بالمدينة من نفير المسلمين فخرج سعد بن أبي وقاص من المدينة قاصدا للعراق في أربعة آلاف ثلاثة آلاف من أهل اليمن والسراة وألف من سائر الناس
قالوا وشيعهم عمر رحمه الله من صرار إلى الأعواص ثم قام في الناس خطيبا فقال

إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال وصرف لكم القول ليحيي بذلك القلوب فإن القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله تعالى من علم شيئا فلينتفع به وإن للعدل أمارات وتباشير فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين وأما التباشير فالرحمة وقد جعل الله لكل أمر باب بابا ويسر لكل باب مفتاحا فمتاحل فباب العدل الإعتبار ومفتاحه الزهد والإعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات والاستعداد له بتقديم الأعمال والزهد أخذ الحق إلى كل أحد له حق ولا يصانع في ذلك أحدا ويكتفي بما يكفيه من الكفاف فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء إني بينكم وبين الله وليس بيني وبين الله أحد وإن الله عز وجل قد ألزمني دفع الدعاء عنه فأنهوا شكاتكم إلينا فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع
فسار سعد في عام غيداق خصيب حتى نزل فيدا فأقام بها أشهرا وجعل عمر لا يأتيه أحد من العرب إلا وجهه إليه ثم كتب إليه أن يرتفع بالناس إلى زرود فاتاها وأقام بها واتاه من حولها من بني تميم من حنظلة وأتته سعد والرباب وعمرو فكان ممن أتاه عطارد ولبيد بن عطارد والزبرقان ابن بدر وحنظلة بن ربيعة الأسدي وربعي أبو شبيب بن ربعي الرياحي وهلال ابن علقمة التميمي والمنذر بن حسان الضبي فقالت رؤساء حنظلة يا بني تميم قد نزل بكم الناس وهم قبائل الحجاز واليمن وأهل العالية وقد لزمكم قراهم فشاطروهم الرسل ففعلوا فمن كان له منحتان قصر إحداهما عليهم ومن كان له أكثر فعلى حساب ذلك فقروهم شتوة بزورود

وكان عمر أمد سعدا بعد خرجه فيما ذكر سيف عن أشياخه بألفي يماني وألفي نجدي مرد من غطفان وسائر الناس فنزلوا معه زرود في أول الشتاء وتفرقوا فيما حولها وأقام سعد ينتظر اجتماع الناس وأمر عمر وانتخب من بني تميم والرباب أربعة آلاف منهم ألف من الرباب وانتخب من بني أسد ثلاثة آلاف وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة فأقاموا هنالك بين سعد بن أبي وقاص وبين المثنى بن حارثة والمثنى بذي قار ويقال بأليس وقال بعضهم بشراف وجرير ومن معه من أخلاط الناس متفرقون فيما بين العذيب إلى خصي ويقال غضي
وكان المثنى في ثمانية آلاف من ربيعة منهم ستة آلاف من بكر بن وائل وألفان من سائر ربيعة منهم أربعة آلاف ممن كان المثنى انتخبه بعد فصول خالد عنه إلى الشام وأربعة آلاف كانوا معه ممن بقي يوم الجسر وكان معه من أهل اليمن ألفان من بجيلة وألفان من قضاعة وطيء ممن انتخب إلى ما كان قبل ذلك على طيء عدي بن حاتم وعلى قضاعة عمرو بن وبرة وعلى بجيلة جرير بن عبد الله فبينا الناس كذلك سعد يرجوا أن يقدم عليه المثنى والمثنى يرجو أن يقدم عليه سعد انتقضت بالمثنى جراحاته التي كان أصيب بها يوم الجسر فمات رحمه الله ولما أحس بالموت استخلف على الناس بشير بن الخصاصية وكتب إلى سعد
كتبت إليك وأنا لا أراني إلا لما بي فإن اهلك أو أسلم فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وان الجنة مأوى المتقين وأن النار مثوى الكافرين ولا أخال العجم إلا سيجمعون على حربك فهم لاقوك بجمع لم يلقونا بمثله وقد أراني الله إن كان قضى بينك وبينهم حربا أن تقاتلهم على أدنى حجر من بلادك على حد أرضهم فإن ظفرتم فلكم ما وراءهم وإن كانت
الأخرى ولا أراها الله المسلمين كنتم أعلم بسبيلكم وأجرأ على طريقكم وأجرأ على أرضكم وانحزتم إلى فئتكم إلى أن يرد الله لكم الكرة عليهم

وكان مع بشير بن الخصاصية عندما استخلفه المثنى وجوه أهل العراق ومع سعد وجوه أهل العراق الذين قدموا على عمر رحمه الله فيهم فرات بن حيان العجلي وعتيبة بن النهاس فردهم مع سعد
فمن أجل ذلك اختلف الناس في عدد أهل القادسية فمن قال هم أربعة آلاف فلمخرجهم مع سعد من المدينة ومن قال ثمانية آلاف فلاجتماعهم بزرود ومن قال تسعة آلاف فللحاق القيسيين ومن قال اثنا عشر ألفا فلدفوف بني أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف وقدم عليه بعد ذلك ناس كثير مع الأشعث بن قيس وغيره
قالوا فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفا
وكتب سعد إلى عمر رحمه الله بموت المثنى فكتب إليه أن سر حتى تنزل بشراف وأحذر على من معك من المسلمين وعليك بالإصلاح ما استطعت
فارتحل سعد عن زرود ومعه تميم وقيس واليمن وغيرهم وفيهم رجالة فحمل بنو تميم ضعفاءهم حتى قدموا شراف فنزلها فاتاهم بشير بن الخصاصية وجرير ومن كان معه بفروع الحزن وقدم عليه المعنى بن حارثة أخو المثنى وقدمت معه زوج المثنى سلمى بنت خصفة من بني تيم اللات بوصيته إلى سعد وكان قد أوصى بها وأمرهم أن يعجلوها عليه بزرود فلم يفرغوا لذلك وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر إلى أن انقضى ذلك كما نذكره بعد عند ذكر مقتل قابوس على ما ذكره المدائني فقدم حينئذ المعنى وسلمى على سعد بوصية المثنى ورأيه فترحم عليه سعد عندم تانتهى ذلك إليه وأمر أخاه المعنى على عمله وأوصى بأهل بيته خيرا وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها وبنى مسجدا
بشراف فقال بعض التميميين يذكر نفيرهم إلى سعد وقراهم له وحملانهم
فنفرنا إليهم باحتساب
لم نعرج ولم نذق تغميضا
وقريناهم ربيعا من الرسل
حقينا مثملا وغريضا
وحملنا رجالهم من زرود
إذ تعايوا فلم يطيقوا النهوضا
الخفيف

وكتب سعد إلى عمر حين نزل شراف يخبره بمكانه فقال لأرمين فارس وابناءها بالمهاجرين وأبناء المهاجرين فوجه ألفا ومائة منهم ممن شهد بدرا نيف وأربعون رجلا وسائرهم ممن شهد بيعة الرضوان إلى الفتح وحضهم عمر رحمه الله فقال إن أحب عباد الله إلى الله وأعظمهم عنده منزلة أتقاهم له وأشدهم منه رجلا فعليكم بتقوى الله والإصلاح ما استطعتم وما التوفيق إلا بالله الزموا الطاعة يجمع الله لكم ما تحبون من دينكم ودنياكم واوفوا بالعهد لمن عاهدتم وإياكم والغدر والغلول فإنه من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ومن غدر أدال الله منه عدوه ووهن كيده فافهموا ما توعظون به واعقلوا على الله أمره ولا تكونوا كالجفاة الجاهلية
وعن سيف أن عمر رحمه الله قال والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب فلم يدع رئيسا ولاذا رأي ولا ذا شرف ولا ذا سلطة ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به فرماهم بوجوه الناس وغررهم
وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة وهو بالشام أن يمد سعدا بمن كان عنده من أهل العراق وكانوا ستة آلاف ومن اشتهى أن يلحق بهم وكتب إلى المغيرة بن شعبة أن يسير إلى سعد من البصرة وكتب إلى سعد بمثل رأي المثنى الذي أشار به على سعد
أما بعد فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين وتوكل على

الله واستعن به على أمرك كله واعلم أنك تقدم على أمة عددهم كثير وعدتهم فاضلة وبأسهم شديد وعلى بلد وإن كان سهلا كؤود لبحوره وفيوضه ودآدئه فإذا لقيتم القوم أو أحد منهم فابدءوهم الضرب والشد وإياكم والمناظرة لجموعهم ولا يخدعنكم فإنهم خدعة مكرة أمركم غير أمرهم إلا أن تجادوهم فإذا انتهيت إلى القادسية والقادسية باب فارس في الجاهلية وهي أجمع تلك الأبواب لما تريد ويريدون وهو منزل رحيب خصيب حصين دونه قناطر وانهار ممتنعة فتكون مسالحك على أنقابها ويكون الناس بين الحجر والمدر على أقصى حجر من أرض العرب وأدنى مدرة من أرض العجم ثم الزم مكانك فلا تبرحه فإنهم إذا أحسوك أنقضتهم ورموك بجمعهم الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم بقتالهم رجوت أن تنصروا عليهم ثم لا يجمع لكم مثلهم أبدا إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم وان تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى ادنى حجر من أرضكم ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم وكانوا عنها اجبن وبها أجهل حتى يأتيكم الله بالفتح ويرد لكم الكرة وليكن منزلك الذي تنزله رحيبا خصيبا وإذا نزلت منزلا فلا تستاخر عنه فإن ذلك وهن عليك وجرأة لعدوك وأذك العيون واتبع الغرض ولا تأمنن قريبا ولا بعيدا وصف لي منزلك الذي تنزله وكم بينك وبين أول عدوك وآخره وكيف مأتاهم وسم لي المنزل فإنه قد ألقى في روعي أنكم ستفتحون فارس وأنكم الأعلون
وفي رواية أنه كتب إليه باليوم الذي يرتحل فيه من شراف وأين ينزل بالناس فيما بين عذيب والهجانات وعذيب والقوادس وأن يشرق بالناس ويغرب بهم فارتحل سعد عن شراف يريد ان ينزل منزلا على ما كتب به إليه عمر فانتهى إلى المغيثة فأقام وبنى مسجدا بين الفرعاء والمغيثة وقدم بين

يديه زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الجوية يرتاد له منزلا فأقبل زهرة حتى انتهى إلى العذيب وكتب إلى سعد فأقبل في أثره فنزل المسلمون ما بين العذيب إلى القادسية وهي أحساء فقال في ذلك النعمان بن مقرن المزني وتروى لغيره
نزلنا بأحساء العذيب ولم تكن
لنا همة إلا إختيار المنازل
لنحوي أرضا أو نناهب غارة
يضج لها ما بين بصرى وبابل
الطويل
ونزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنطرة وقديس وهي يومئذ أسفل منها بميل وكتب سعد إلى عمر إنا نزلنا من القادسية والعذيب منزلا خصيبا رحيبا على أقصى حجر من أرضنا وأدنى مدرة من أرض عدونا فأما عن يسار القادسية فبحر أخضر لاج إلى الحيرة بين طرفين أما أحدهما فعلى الظهر وأما الآخر فعلى شاطى ء نهر يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة وأما عن يمين القادسية ففيض من فيوض مياههم وبيننا وبين أدنى عدونا منا خمسة عشر ميلا ولم يبلغني من الذي أسندوا إليه أمرهم إلى أن كتبت إليك ومتى يبلغني ذلك أكتب به إليك إن شاء الله ونحن متوكلون على الله راجعون له
ولما بلغ أهل فارس اجتماع العرب لهم وكثرة من انثال على سعد من رؤسائهم ووجوههم عظم ذلك عليهم ورعبهم وزادهم نزولهم القادسية رعبا وضيقا فعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار وأرسلوا إليه أن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب وأن فعلهم منذ نزلوها لا يبقى عليه شيء وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات فليس هنالك أنيس إلا في الحصون وقد ذهبت الدواب وكل شيء لم تحتمله الحصون من الأطعمة ولم يبق إلا أن يستنزلونا فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطف وأعانوهم عليه
ولما كثرت الإستغاثة من أهل السواد على يزدجرد خشعت نفسه واتقى

الحرب برستم فأرسل إليه فدخل عليه فقال إني أريد أن أوجهك في هذا الوجه وإنما يعد للأمور على قدرها وأنت رجل أهل فارس اليوم وأنت لها وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم منذ ولى آل أردشير
فأراه رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه فقال له الملك قد أحببت أن أنظر فيما لديك لأعلم ما عندك فصف لي العرب وفعلهم وصف لي العجم وما يلقون منهم فقال رستم صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت فقال ليس كذلك إنما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب فافهم عني إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مرقب عند جبل تأوي في ذراة الطير تبيت في أوكارها فإذا أصبحت الطير تجلت فأبصرت العقاب ترقبها فخافتها فلم تنهض وطمعت العقاب فلم ترم وجعلت كلما شذ منها طائر انقضت عليه فاختطفتها حتى أفنتها فلو نهضت بأجمعها نهضة واحدة لنجت وأشد شيء يكون في ذلك أن تنجوا كلها إلا واحدا فهذا مثلهم ومثل الأعاجم فاعمل على قدر ذلك فإني أريد أن أوجه إلى هؤلاء القوم جمعا أستأصلهم به
فسجد له رستم وقال الملك أفضل رأيا وأيمن أمرا وأسعد جدا وإن أذن لي تكلمت
قال قل قال هزيمة جيش بعد جيش أمثل وأبقى من هزيمة الجماعة التي ليس بعدها مثلها فأبى عليه يزدجرد إلا أن يجمع له الناس ويوجهه بهم إلى العرب فقال له رستم أيها الملك دعني فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بي ولعل دولة تكون فيكون الله قد كفى ونكون قد أصبناه المكيدة ورأي الحرب فإن الرأي فيها والمكيدة انفع من بعض الظفر فألح يزدجرد وترك الرأي وكان ضيقا لجوجا وقال لرستم امض حتى يأتيك أمرى فخرج حتى ضرب عسكره بساباط ووجه إليه الملك المرازبة والقواد والأساورة واستحثه

في المسير فأعاد عليه رستم كلامه وقال أيها الملك إن هزيمتي لهم دونها ما بعدها وعليكم دونها ما بعدها ولقد اضطرني تضييع الرأي إلى اعظام نفسي وتزكيتها ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به فأنشدك الله في أهلك ونفسك وملكك دعني أقم بعسكري وأسرج الجالينوس فإن تكن لنا فذاك وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة صبرنا لهم وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون موفورون فأبى إلا ان يسير
ولما نزل رستم بساباط وجمع أداة الحرب وآلاتها بعث على مقدمته الجالينوس في أربعين ألفا وخرج هو في ستين ألفا وساقته في عشرين ألفا وعليها الفيرزان وعلى ميمنته الهرمزان وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازي وقال رستم ليشجع الملك إن فتح الله علينا هؤلاء القوم فهو وجهنا إلى ملكهم في داره حتى نشغلهم في أهلهم وبلادهم إلا أن يقبلوا المسالمة ويرضوا بما كانوا يرضون به
وقال سيف عن أشياخه خرج رستم في عشرين ومائة ألف كلهم متبوع فكانوا بأتباعهم أكثر من مائتي ألف ثم أن رستم رأى رؤيا فكرهها وأحس لها الشر وكره لها الخروج ولقاء القوم واختلف عليه رأيه واضطرب وسأل الملك أن يمضي الجالينوس ويقيم حتى ينظر ما يصنعون وقال إن غناء الجالينوس كغنائي وإن كان اسمي أشد عليهم من اسمه فإن ظفر فهو الذي نريد وإن تكن الأخرى وجهنا مثله ودافعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما فإني لا أزال مرجوا في أهل فارس ما لم أهزم ولا أزال مهيبا في صدور العرب ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم وإن باشرتهم اجترءوا آخر دهرهم وانكسر أهل فارس آخر دهرهم
قالوا ولما أبى الملك إلا مسير رستم كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس بلاده من رستم بن البندوان إلى مرزبان الباب وسهم أهل فارس الذي كان يعد لكل عظيمة فيفض الله به الجموع ويفتح به الحصون ومن قبله من عظماء أهل

فارس والمرازبة والأساورة فرموا حصونكم واعدوا واستعدوا فكأنكم بالعرب هذه الأمة الذليلة كانت عندكم الخسيسة المنزلة الضيقة المعيشة قد وردوا بلادكم وقارعوكم على أرضكم وأبنائكم وانتزعوا ما في أيديكم وكان من رأيي مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود نجومنا فأبى الملك
ويقال إن رستم عندما أمره يزدجرد بالنهوض إلى ساباط كتب إلى أخيه بنحو الكتاب الأول وزاد فيه أن السمكة قد كدرت الماء وان النعائم قد حبست وحسنت الزهرة واعتدل الميزان وذهب بهرام ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ويستولون على ما قبلنا وأن أشد ما رأيت أن الملك قال لتسيرن إليهم أو لأسيرن إليهم بنفسي وأنا سائر إليهم
وكان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى وكان من أهل فرات بادقلي فأرسل إليه وقال ما ترى في مسير رستم وحرب العرب اليوم فخافه على الصدق فكذبه وكان رستم يعلم نحوا من علمه فثقل عليه مسيره لأجل ذلك وخف على الملك لما غره منه وقال الملك للغلام إني أحب أن تخبرني بشيء أراه أطمئن به إلى قولك فقال الغلام لزرنا الهندي أخبره فقال سلني فسأله فقال أيها الملك يقبل طائر فيقع على إيوانك فيقع منه شيء في فيه هاهنا وخط دائرة فقال الغلام صدق والطائر غراب والذي في فيه درهم فيقع منه على هذا المكان
وبلغ جابان ان الملك طلبه فأقبل حتى دخل عليه فسأله عما قال غلامه فحسب فقال صدق ولم يصب إنما الطائر عقعق والذي في فيه درهم فيقع منه على هذا المكان وكذب زرنا يندر الدرهم من هاهنا فيستقر هاهنا ودور دائرة أخرى فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق فسقط منه درهم في الخط الأول فنزا فسقط في الخط الآخر ونافر الهندي جابان حيث
خطاه فأتيا ببقرة نتوج فقال الهندي سخلتها غراء سوداء فقال جابان كذبت بل سوداء صبغاء فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها فإذا ذنبها أبيض وهو بين عينيها فقال جابان من هاهنا أتى وشجعاه على إخراج رستم فامضاه

ولما فصل رستم من ساباط لقيه جابان على القنطرة فشكا إليه فقال ألا ترى ما أرى فقال رستم أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ولابد من الإنقياد وأمر الجالينوس بالتقدم إلى الحيرة فمضى نحوها حتى اضطرب عسكره بالنجف وخرج رستم بعده حيث ينزل بكوثى وأمر الجالينوس عندما قدمه أن يصيب له رجلا من العرب من جند سعد فخرج هو والآزاذمرد مرزبان الحيرة في سرية حتى انتهيا إلى القادسية فأصابا دون قنطرتها رجلا فاختطفاه ونفر الناس فاعجزوهم إلا ما أصاب المسلمون في أخرياتهم فلما انتهيا إلى النجف سرحا به إلى رستم وهو بكوثي فقال له رستم ما جاء بكم وماذا تطلبون قال جئنا نطلب موعود الله عز وجل قال وما موعود الله عز وجل قال أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أنتم أبيتم أن تسلموا قال رستم فإن قتلتم قبل ذلك قال في موعود الله عز وجل من قتل منا قبل ذلك أدخله الله الجنة وانجز لمن بقي منا ما قلت لك فنحن من ذلك على اليقين فقال له رستم قد وضعنا إذا في أيديكم فقال ويحك يا رستم إن أعمالكم وضعتكم فاسلمكم الله بها فلا يغرنك ما ترى حولك فإنك لست تحاول الإنس إنما تحاول القضاء والقدر فاستشاط فأمر به فضربت عنقه رحمه الله
وارتحل رستم من كوثي وكأنه يقاد بزمام حتى إذا كان ببرس أفسد أصحابه وغصبوا الناس أموالهم ووقعوا على نسائهم فضج العلوج إلى رستم وشكوا إليه
ما يلقون من أصحابه فجمع المرازبة والرؤساء فقام فيهم فقال يا معشر أهل فارس والله لقد صدق العربي والله ما أسلمتنا إلا أعمالنا والله للعرب في هؤلاء وهم لهم ولنا حرب أحسن سيرة منكم إن الله عز وجل إنما كان ينصركم على العدو ويمكن لكم في البلاد بالعدل وحسن السيرة فأما إذ تحولتم عن ذلك فأظهرتم البغي وسارعتم في الفساد فلا ارى الله عز وجل إلا مغيرا ما بكم وما أنا بآمن أن ينزع الله سلطانه منكم فإنه لم يفعل هذا قوم إلا نزع عنهم النصر وسلط عليهم العدو

ثم بعث الرجال فلقطوا بعض الذين شكوا فضربت اعناقهم ثم نادى في الناس بالرحيل فسار حتى نزل بجبال دير الأعور ودعا أهل الحيرة وسرادقه إلى جنب الدير فأوعدهم وهم بهم وقال يا أعداء الله فرحتم بدخول العرب علينا بلادنا وكنتم عيونا لهم علينا واعنتموهم بالأموال فاتقوا بابن بقيلة وقالوا له كن أنت الذي تكلمه فتقدم إليه ابن بقيلة فقال له لا تجمع علينا أمرين العجز عن نصرنا واللائمة لنا في الدفع عن أنفسنا وبلادنا أما قولك أنا فرحنا بمجيئهم وبأي ذلك من أمرهم نفرح إنهم يزعمون أنا عبيد لهم وما هم على ديننا وأنهم ليشهدون علينا أنا من أهل النار وأما قولك أنا كنا لهم عيونا فما احتاجوا إلى العيون لقد ترك أصحابك البلاد حتى كانت خيولهم تذهب حيث شاءت وأما أعانتهم بالأموال فإنا صانعناهم بها إذ لم تمنعونا مخافة أن نسى ونخرب وتقتل مقاتلتنا وقد عجز عنهم من لقيهم منكم فكنا نحن اعجز منهم ولعمري لأنتم أحب إلينا منهم فامنعونا نكن لكم فإنما نحن بمنزلة علوج السواد عبيد من غلبنا فقال لهم رستم صدقكم الرجل
قال الرفيل ورأى رستم بالدير أن ملكا هبط من السماء حتى دخل عسكر فارس فاخذ سلاحهم فختم عليها ثم رفعها فأصبح كئيبا وقد أيقن أن ملكهم قد ذهب ثم ارتحل حتى نزل النجف فعادت عليه الرؤيا فرأى ذلك الملك ومعه النبي {صلى الله عليه وسلم} وعمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ الملك سلاح أهل فارس فختمه ثم دفعه إلى النبي {صلى الله عليه وسلم} فدفعه النبي {صلى الله عليه وسلم} إلى
عمر فأصبح رستم وقد ازداد جزعا فلما رأى الرفيل ذلك رغبه في الإسلام فأسلم وما كان داعيته إليه إلا ذلك

وكان رستم قد أرسل إلى قابوس بن المنذر وقال بعضهم ابن النعمان بن المنذر اكفنا ما كانت آباؤك تكفينا من العرب وعقد له على أربعة آلاف وقدمه إلى العذيب فلما قدم سعد بن أبي وقاص بين يديه زهرة بن الجوية يرتاد له منزلا قدم زهرة أمامه بكر بن عبد الله الكناني وقال بعضهم عبد الله بن بكير فانتهى إلى العذيب ووافاه زهرة هنالك فطرقوا قابوس بياتا في حصن العذيب فقتلوه وتفرق أصحابه منهزمين حتى وصلوا إلى رستم هكذا ذكر المدائني
وفي كتاب سيف أن الآزادمرد بن الأزاذبة هو الذي بعث قابوس إلى القادسية وقال له ادع العرب فأنت على من أجابك وكن كما كان آباؤك فلما نزل القادسية كاتب بكر بن وائل بمثل ما كان النعمان يكاتبهم به مقاربة ووعدا فلما انتهى خبره إلى المعنى بن حارثة أسرى من ذي قار حتى بيته فأنامه ومن معه ثم رجع فخرج إلى سعد بن أبي وقاص بزوجة المثنى ووصيته وهذا الوجه الذي خرج إليه هو الذي شغله عن تعجيل القدوم على سعد بوصية أخيه حسب ما ذكرناه قبل
وعن كريب بن أبي كرب العكلي وكان في المقدمات أيام القادسية قال قدمنا سعد من شراف فنزلنا في عذيب الهجانات ثم ارتحل فلما نزل علينا وذلك في وجه الصبح خرج زهرة بن الجوية في المقدمات فلما رفع لنا العذيب وكانت من مسالحهم استبنا على بروجه ناسا فما نشاء أن نرى على برج من بروجه رجلا أو بين شرفتين إلا رأيناه وكنا في سرعان الخيل فأمسكنا حتى تلاحق بنا كثف ونحن نرى أن فيها خيلا ثم أقدمنا على

العذيب فلما دنونا منه خرج منه رجل يركض نحو القادسية فانتهينا إليه فدخلنا فإذا ليس فيه أحد وإذا ذلك الرجل هو الذي تراءى لنا على البروج وبين الشرف مكيدة ثم انطلق بخبرنا فطلبناه فاعجزنا وسمع بذلك زهرة فلحق بنا وخلفنا وأتبعه وقال إن أفلت الذي أتاهم الخبر فلحق بالخندق فطعنه فجد له فيه وكان أهل القادسية يعجبون من شجاعة ذلك الرجل وعلمه بالحرب ولم تر عين قط اثبت منه ولا أربط جأشا لولا بعد غايته لم يلحق به زهرة ووجد المسلمون رماحا ونشابا وأسفاطا من جلود وغيرها انتفع المسلمون بها
ولما أمسى زهرة بن الجوية بعث سرية في جوف الليل وأمر عليهم بكير بن عبد الله الليثي وكانوا ثلاثين معروفين بالنجدة والبأس وفيهم الشماخ القيسي الشاعر وأمرهم بالغارة على الحيرة فساروا حتى جازوا السيلحين وقطعوا جسرها يريدون الحيرة فسمعوا جلبة فأحجموا عن الإقدام وأقاموا كمينا حتى يتبينوا فما زالوا كذلك حتى جازت بهم خيول تقدم تلك الغوغاء فتركوها فنفذت لطريق الصين وإذا هم لم يشعروا بهم وإنما ينتظرون ذلك العين الذي قتله زهرة وإذا أخت الآزاذمرد مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصين وكان من أشراف العجم وتلك الخيل تبلغها مخافة ما هو دون الذي لقوا فلما انقطعت الخيل عن الزواف والمسلمين كمين في النخل وحاذت بهم الأثقال حمل بكير على شيراز بن الأزاذبة أخي الآزاذمرد وهو بين أخته وبين الخيل فقصم بكير صلبه وطارت الخيل على وجوهها وأخذوا الأثقال وابنة الآزاذبة في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة امرأة من التوابع ومعهم ما لا يدري قيمته ثم عاج واستاق ذلك كله فصبح سعدا

بعذيب الهجانات بما أفاء الله عز وجل على المسلمين فكبروا تكبيرة شديدة فقال سعد أقسم بالله لقد كبروا تكبيرة عرفت فيها العز فقسم ذلك سعد على المسلمين ونفل من الخمس وأعطى المجاهدين بقيتة فوقع منهم موقعا ووضع سعد بالعذيب خيلا تحوط الحريم وانضم إليها حاطة كل حريم وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي ونزل سعد القادسية فنزل في قديس ونزل زهرة بحيال قنطرة العتيق في موضع القادسية اليوم وكتب سعد إلى عمر رحمه الله يعلمه بقتل الآزاذبة على يدي بكير بن عبد الله وقال فيما كتب به إليه
وأنا مقيم بالقادسية على أمرك ومنزلنا خصيب الجناب ونحن ننتصف فيه من عدوان نزل بنا في الخصب ننال من ذلك أفضل الذي نريد وهو يوم كتبت لك مباح لنا لايدفعوننا عنه إلا بالاعتصام بمعاقلهم ولن يزال عندك منا كتاب بما يحدث إن شاء الله
فأقام سعد شهرا ثم كتب بمثلها إلى عمر رحمهما الله نحن وعدونا على ما كتبت إليك لم يوجهوا إلينا أحدا ولا أسندوا حربا إلى أحد علمناه ومتى يبلغنا ذلك نكتب به فاستنصروا الله لنا فإنا بمنحاة دنيا عريضة دونها بأس شديد وقد تقدم الله إلينا في الدعاء إليهم فقال تعالى ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد ( 16 الفتح )
فكتب إليه عمر أما بعد فإن أبا بكر رحمه الله كان رشيدا موفقا محفوظا معانا أكرمه الله وأعانه حتى قبضه إليه راضيا مرضيا عنه وقد ابتلينا بالذي ولينا مما لاطاقة لنا بحفظه والقيام عليه إلا بتحنن القوى ذي العزة والعظمة وقد علمت ان فارس ستقبل إليك بمرازبتها وبأسها وعددها فأياك والمناظرة لجموعهم والقادسية على ما وصفت لي منزل جامع والجد الجد على الذي أنت عليه واكتب إلي بجمعهم الذي زحفوا إليك به ومن رأسهم الذي يسندون إليه أمرهم وكم بين ادنى عدوك منك وبين ملكهم واجعلني من أمرهم

على الجلية فإنك بحمد الله على أمر الله وليه وناصره والله ناصر من نصره وقد توكل لهذا الأمر بما لا خلف له والله متم أمره ومن يرد الله به صلاحا يلهمه رشده فيما أعطاه ويبصره الشكر لنعمته والعمل بطاعته والعرفان لأداء حقوقه ومن يكن بتلك المنزلة يعنه الله على حسن نيته ويعطه أفضل رغبته وإنما يستوجب كرامة الله بتمام نعمته من عصم له دينه وإنما يصلح الله النية لمن رغب فيما عنده وأذعن لطاعة ربه وإن منازل عباد الله عنده على نياتهم فاكثر ذكر الله وكن منه على الذي رغبك إليه وفيه فإن في ذلك رواحا للمستريح ونجاحا تجد فيه غدا نفع ما قدمت فإنك ممن أرغب له في الخير ويعنيني أمره للمكان الذي أنت فيه من عدو الإسلام نسأل الله لنا ولك إيمانا صادقا وعملا زاكيا
فكتب إليه سعد وقد علم بأن رستم هو الذي تعين لحرب العرب وقود جيوش فارس وانه قد زحف إلى المسلمين ودنا منهم إذ كان سعد وجه عيونا إلى الحيرة فرجعوا إليه بالخبر فكتب به فيما أجاب به عمر رضي الله عنهما
أتاني كتابك بما ذكرت من أبي بكر رحمة الله عليه ولم يكن أحد يذكر من أبي بكر شيئا إلا وقد كان أفضل من ذلك فبواه الله غرف الجنة وعرف بيننا وبينه وإنك عامل من عمال الله فاستعن بالله وشمر وليس شيء أهم عندي ولا أنا أكثر ذكرا لما نحب أن نكون عليه من الذي أمرتنا به والله ولي العون على ذلك وقد قدم علينا عظيم من عظمائهم يقال له رستم بالخيل والفيول والعدد والعدة والقوة فيما يرى الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله وبيننا وبينه خمسة عشر ميلا وبينه وبين ابن كسرى بأبيض المدائن نيف على ثلاثين فرسخا ولنا من عدونا النصف إن شاء الله ولن يزال منا عندك كتاب يخبرنا إن شاء الله فاستنصروا الله لنا بالدعاء والتضرع خفية وجهرا فإن الله يعطي من سعة ويأخذ بقدرة ويفعل ما يشاء
وكان عمر رحمه الله قد أمر بموالاة الكتب إليه بكل شيء فكان سعد
يكتب إليه في كل يوم
وكتب إليه عمر

أتاني كتابك تذكر مكان عدوك ونزولك حيث نزلت ومسافة ما بينك وبين ابن كسرى وانه من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام فأرسل إلى ابن كسرى من يدعوه إلى الإيمان أو إعطاء الجزية أو الحرب فإن أسلم عليه ما عليكم وإن اختار أعطاء الجزية ولم يسلم فله ما كسب وعليه ما اكتسب وقد حقن دمه وأحرز أرضه ولا سبيل عليه إلا في حق عليه فإن أبى الإسلام واعطاء الجزية فلا يعظم عندك حربه ولا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتوك به فاستعن بالله واستنصره وتوكل عليه وإذا لقيت عدوك فقدم أهل البأس والنجدة في غير إهانة لهم ولا تغرير بهم وعليكم بالصبر فإنه ينزل النصر فإذا ظهرت فأكثر القتل في دبر المشركين واقتل المقاتلة واستبق النساء والصبيان ثم لا تتركن أحدا من العدو وراءك وإن اعطوك الصلح فلا تصالح إلا على الجلاء إلا أن تترك فيها من لا كيد له ولا نكاية وأحط بأمري وخذ بعهدي
وفي رواية انه قال له فيما كتب به إليه وابعث أليهم رجالا من أهل المنظر والرأي والجلد يدعونهم فإن الله عز وجل جاعل دعاءهم توهينا لهم وفلجا عليهم
ولما انتهى إلى سعد أمر عمر رضي الله عنه بالتوجه إلى يزدجرد جمع نفرا لهم نجار ولهم آراء ونفرا لهم منظر وعليهم مهابة
فأما الذين لهم نجار ولهم آراء واجتهاد فالنعمان بن مقرن وبسر بن أبي رهم وجبلة بن جوية الكناني وحنظلة بن الربيع الأسدي وفرات بن حيان العجلي وعدي بن سهيل والمغيرة بن زرارة بن النباش بن حبيب
وأما الذين لهم منظر لأجسامهم وعليهم مهابة ولهم آراء فعطارد بن حاجب والأشعث بن قيس والحارث بن حسان وعاصم بن عمرو وعمرو
ابن معدي كرب وغيرهم ممن سماه سيف في كتابه
وخالفه المدائني في بعضهم فلم يذكرهم وذكر معهم ممن لم يذكره سيف طليحة بن خويلد وزهرة بن جوية ولبيد بن عطارد وشرحبيل بن السمط
قال المدائني فاتوا الحيرة فأرسل إليهم رستم أين تريدون قالوا نريد ابن كسرى فأرسل معهم أساورة فجوزوهم إلى المدائن فوقفوا ببابه

وقال سيف إنهم طووا رستم حتى انتهوا إلى باب يزدجرد فوقفوا على خيول عراب معهم جنائب وكلها صهال فاستأذنوا فحبسوا وبعث يزدجرد إلى وزرائه ووجوه أرضه ليستشيرهم فيما يصنع بهم ويقول لهم وسمع بهم الناس فحضروهم وهم ينظرون إليهم وعليهم المقطعات والبرود وفي أيديهم سياط رقاق وفي أرجلهم النعال فلما اجتمع رأيهم أذن لهم فدخلوا عليه
قال بعض من حضر هذا اليوم ممن سبي في القادسية ثم حسن إسلامه لما كان هذا اليوم الذي قدم فيه وفود العرب على يزدجرد ثاب إليهم الناس ينظرون إليهم فلم أر عشرة قط يعدلون في الهيئة بألف غيرهم وخيلهم تخبط ويوغر بعضها بعضا وجعل اهل فارس يسؤهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس وكان سيء الأدب فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن قال لترجمانه سلهم ما يسمون هذه الأردية فسأل النعمان بن مقرن وكان على الوفد ما تسمى رداءك قال البرد قال فتطير لموافقة هذا الاسم اسم شيء متطير به عندهم وتغيرت ألوان فارس وشق ذلك عليهم ثم قال سلهم عن أحذيتهم فسأله فقال النعال فتطير أيضا لمثل ذلك ثم سأله عن الذي في يده فقال سوط والسوط بالفارسية الحريق فقال احرقوا فارس أحرقهم الله وكان تطيره على أهل فارس ثم قال لترجمانه سلهم ما جاء بكم وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا أمن أجل انا أجممناكم وتشاغلنا عنكم اجترأتم علينا فقال لهم النعمان بن مقرن إن شئتم أجبت

عنكم ومن شاء آثرته قالوا بل تكلم وقالوا للملك كلام هذا الرجل كلامنا فتكلم النعمان فقال إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به ويعرفنا الشر وينهانا عنه ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة فلم يدع لذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين فرقة تقاربه وفرقة تباعده ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب ويبدأ بهم ففعل فدخلوا معه جميعا على وجهين مكره عليه فاغتبط وطائع أتاه فازداد فعرفنا جميعا فضل ما جاءنا به على ما كنا عليه من العداوة والضيق ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف فنحن ندعوهم إلى ديننا وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون ما آخر شر منه الجزاء فإن أبيتم فالمناجزة فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله وأقمناكم عليه وعلى أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم فإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا منكم ومنعناكم وإلا قاتلناكم
قال فتكلم يزدجرد فقال إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفونناكم لا نغزوكم فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم فإن كان عدد لحق فلا يغرنكم منا وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم
فأسكت القوم فقام المغيرة بن زرارة النباش الأسدي فقال أيها الملك إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم وهم أشراف يستحيون من الأشراف وإنما يكرم الأشراف الأشراف ويعظم حقوق الأشراف الأشراف وتفخم الأشراف الأشراف وليس كل ما ارسلوا به جمعوه لك ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه وقد احسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك فجاوبني لأكون الذي

أبلغك ويشهدون على ذلك انك قد وصفتنا فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أحد أسوأ حالا منا وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات فنرى ذلك طعاما وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض ولا نلبس إلا ما غزلنا من اوبار الإبل وأشعار الغنم ديننا أن يقتل بعضنا بعضا ويغير بعضنا على بعض فإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا فكانت حالتنا قبل اليوم على ما ذكرت لك وبعث الله إلينا رجلا معروفا نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده فأرضه خير أرضنا وحسبه خير احسابنا وبيته اعظم بيوتنا وقبيلته خير قبائلنا وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا واجملنا فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب له كان الخليفة من بعده فقال وقلنا وصدق وكذبنا وزاد ونقضنا فلم يقل شيئا إلا كان فقذف الله في قلوبنا اتباعه والتصديق له فصار فيما بيننا وبين رب العالمين فما قال لنا فهو قول الله وما امرنا به فهو أمر الله فقال لنا إن ربكم يقول إني أنا الله وحدي لا شريك لي كنت إذ لم يكن شيء وكل شيء هالك إلا وجهي وأنا خلقت كل شيء وإلي مصير كل شيء وإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي ولأحلكم داري دار السلام فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الله وقال من تابعكم على هذا فله مالكم وعليه ما عليكم ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ثم امنعوهم مما تمنعون منه أنفسكم ومن أبى فقاتلوه فأنا الحكم بينكم فمن قتل منكم أدخلته الجنة ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر وأن شئت فالسيف او تسلم فتنجوا بنفسك فقال أتستقبلني بمثل هذا فقال ما استقبلت إلا من كلمني ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به فقال لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم لا شيء لكم عندي وقال ائتوني بوقر

من تراب واحملوه على أشرف هؤلاء ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن ارجعوا إلى صاحبكم واعلموه أني مرسل إليهم رستم حتى يدفنه وجنده في خندق القادسية ومنكل به وبكم من بعده ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور
ثم قال من أشرفكم فسكت القوم فقال عاصم بن عمرو أراد لناخذ التراب أنا أشرفهم أنا سيد هؤلاء فحملنيه قال أكذلك قالوا نعم فحمله على عنقه فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته فحمله عليها فقال له أصحابه حملت ترابا قال نعم الفأل قد أمكنكم الله من أرضهم فلم يزل معه حتى قدم به على سعد فاخبره الخبر فقال سعد أبشروا فقد والله اعطانا الله أقاليد ملكهم وجعل المسلمون يزدادون في كل يوم قوة ويزداد عدوهم في كل يوم وهنا واشتد على جلساء الملك ما صنع وما صنع المسلمون من قبول التراب وراح رستم من ساباط إلى الملك يسأله عما كان من أمره وأمرهم وكيف رآهم فقال الملك ما كنت أرى أن في العرب مثل رجال رأيتهم دخلوا علي والله ما أنتم بأعقل منهم ولا احسن جوابا واخبره بكلام متكلمهم وقال لقد صدقني القوم لقد وعدوا أمرا ليدركنه أو ليموتن عليه على أني وجدت أفضلهم أحمقهم لما ذكروا الجزية اعطيته ترابا يحمله على رأسه فخرج به ولو شاء اتقى بغيره وأنا لا أعلم
قال أيها الملك اخذ التراب أعقلهم وما أخذه إلا تطيرا وأبصرها دون أصحابه وخرج رستم من عنده كئيبا غضبان فبعث في أثر الوفد وقال لبعثه أن ادركتموهم تلا فينا أرضنا وإن اعجزوكم سلبكم الله أرضكم فرجع إليه من كان وجه أثرهم من الحيرة فأعلمه بفواتهم فقال ذهب القوم بأرضكم غير ذي شك ما كان من شأن ابن الحجامة الملك ذهب القوم بمفاتيح أرضنا فكان ذلك مما زاد الله به فارس غيظا واغار بعد ما خرج الوفد إلى يزدجرد إلى أن جاءوا صيادين قد اصطادوا سمكا وسار سواد بن مالك التميمي إلى

النجاد والفراض إلى جنبها فاستاق ثلاثمائة دابة من بين بغل وحمار وثور فاوقروها سمكا واستاقوها فصبحوا بها العسكر فقسم سعد السمك بين الناس وقسم الدواب ونفل الخمس إلا ما رد منه على المجاهدين وأسهم على السبي وهذا يوم الحيتان وكان الآزاذمرد الازاذبة قد خرج في الطلب فعطف عليه سواد وفوارس معه فقاتلهم على قنطرة السيلحين حتى عرفوا أن قد نجت الغنيمة ثم أتبعوها حتى أبلغوها المسلمين وكانوا إنما يقرمون إلى اللحم وأما الحنطة والشعير والتمر فكانوا قد اكتسبوا منه ما اكتفوا به لو أقاموا زمانا فكانت السرايا إنما تسري للحوم ويسمون أيامها بها كيوم الأباقر ويوم الحيتان وخرج أيضا مالك بن ربيعة بن خالد من تيم الرباب ومعه المسافر بن النعمان التميمي في سرية اخرى فأغاروا على الفيوم فأصابوا أبلا لبني تغلب والنمر فشلوها ومن فيها فغدوا بها على سعد فنحرت الإبل في الناس واخصبوا
ولما كتب سعد إلى عمر رحمه الله يخبره بأمر ابن كسرى واعداده للمصادمة وان من كان صالح المسلمين من أهل السواد قد صاروا إلبا عليهم لأهل فارس قال وأمر الله بعد ماض وقضاؤه مسلم إلى ما قدر لنا وعلينا فنسأل الله خير القضاء وخير القدر في عافية كتب إليه عند ذلك عمر رحمه الله
قد جاءني كتابك وفهمته فاقم مكانك حتى ينغض الله لك عدوك واعلم أن لها ما بعدها فإن منحك الله أدبارهم فلا ينزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله
وجعل عمر يدعوا لسعد خاصة وللمسلمين عامة ويدعون له معهم
وفيما ذكر سيف عن رجاله قالوا كان بين خروج رستم من المدائن وعسكرته بساباط وزحفه عنها إلى أن لقي سعدا أربعة أشهر لايقدم ولايقاتل رجاء أن يضجروا بمكانهم وان يجهدوا فينصرفوا وكان يكره القتال مخافة أن يلقى ما لقي من قبله ويحب المطاولة له لولا أن الملك جعل يستعجله وينهضه ويقدمه حتى أقحمه
وكتب عمر رضي الله عنه إلى سعد

إنه قد ألقى في روعي أنكم إذا لقيتم العدو وهزمتموهم فاطرحوا الشك وآثروا عليه اليقين فمن لاحن منكم أحدا من العجم بامان بإشارة أو بلسان ولا يدري الأعجمي ما كلمتموه به وكان عندهم أمانا فاجروا ذلك مجرى الأمان وآثروا اليقين والنية على الشك وإياكم والمحك وعليكم بالوفاء فإن الخطأ مع الوفاء له بقية والخطأ بالغدر هلكة وفيها وهنكم وقوة عدوكم وذهاب ريحكم وإقبال ريحهم وإياكم أن تكونوا شينا على المسلمين وسببا لتوهينهم
وكتب إليه سعد يستمده فكتب إليه عمر
أتستمدني وأنت في عشرة آلاف ومعك مالك بن عوف وحنظلة بن ربيعة وطليحة بن خويلد وعمرو بن معدى كرب في أمثالهم من فرسان العرب ومن معك من أهل الحسبة والرغبة في الجهاد فتوكل على الله واستعنه وناهض عدوك ولا تهيب الناس واستفتحوا بحسن النية والحسبة والزهد في الدنيا والإنصاف والصبر الصبر والصدق الصدق فإن النصر ينزل مع الصبر
والأجر على قدر الحسبة واحذر على المسلمين وتحرز من البيات واكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله واندب على الناس إلى القتال ونفل أهل البلاء ومن قتل قتيلا فنفله سلبه ونكل على المعصية واجعل الناس أسباعا واستعمل على كل سبع رجلا وقال بعضهم أعشارا وقد كتبت إلى المغيرة بن شعبة أن يشخص إليك في طائفة ممن قبله بالبصرة وكتبت إلى أبي عبيدة أن يمدك بجمع من الشام فإذا قدموا عليك فناهض عدوك وإن رأيت فرصة قبل ذلك فاغتنمها ولا تؤخر ذلك إن شاء الله ولا تستوحشن لقلة من معك ولا تهن لكثرة عدوك فكثيرا ما ينصر القليل ويخذل الكثير وقبلك طليحة بن خويلد وعمرو بن معدي كرب وحنظلة بن ربيعة وأوس بن معدان وابن زيد الخيل فلا تؤمرن أحدا منهم على اكثر من مائة وشاور عمرا وطليحة في الحرب ولا تولهما جمعا

فانتهى سعد رحمه الله إلى كل ما أمره به عمر رضي الله عنه من تهيئة الناس أسبعا أو أعشارا وقدم عليه المغيرة في ثمانمائة ويقال في ألف وخمسمائة والمسلمون في ضيق فقال المغيرة رحمه الله من آسى أخوانه بطعامه وزاده وبناقته وجمله فنحروا لهم واخرجوا أطعماتهم فأصابوا منها ووقوا وأشار المغيرة على سعد أن يوجه السرايا فيصيبوا الطعام والعلف فقبل سعد مشورته وبث السرايا فأصابوا من الأطعمة ما كانوا يكتفون به زمانا
وقد روي عن الشعبي أن عمر رحمه الله كتب إلى سعد مرتحله من زرود أن ابعث الى فرج الهند رجلا ترضاه يكون بحياله ردءا لك من شيء إن اتاك من تلك التخوم فبعث إليه المغيرة بن شعبة في خمسمائة فكان بحيال الأبلة من أرض العرب فاتى غضبا ونزل على جرير وهو يومئذ هنالك فلما نزل سعد بشراف كتب إلى عمر بمنزله ومنزل الناس فكتب إليه عمر
إذا جاءك كتابي هذا فعشر الناس وعرف عليهم وأمر على أجنادهم وعبئهم ومر رؤساء المسلمين أن يشهدوا وقدرهم وهم شهود ثم وجههم
إلى أصحابهم وواعدهم القادسية واضمم إليك المغيرة في خيله واكتب إلي بالذي يستقر عليه أمرهم
فبعث سعد إلى المغيرة فانضم إليه وإلى رؤساء القبائل فاتوه فقدر الناس وعبأهم بشراف فأمر أمراء الأجناد وعرف العرفاء على كل عشرة رجلا كما كانت العرافات أزمان النبي {صلى الله عليه وسلم} وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء وأمر على الرايات رجالا من أهل النباهة وأمر على الأعشار رجالا من الناس لهم وسائل في الإسلام وولى الحرب رجالا فولى على مقدماتها ومجنباتها وساقتها ومجرداتها وركبانها وطلائعها فلم يخرج من شراف إلا عن تعبئة ولا فصل منها إلا بكتاب عمر وإذنه

قالوا فيما ذكر سيف عن رجاله وبعث عمر رحمه الله الأطبة وبعث على قضاء الناس عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي وجعل إليه الأقباض وقسمة الفيء وجعل داعيهم ورائدهم سلمان الفارسي فكان أمراء التعبئة يلون الأمير والذين يلون أمراء التعبئة أمراء الأعشار والذين يلون أمراء الأعشار أصحاب الرايات والذين يلون أصحاب الرايات والقواد رؤساء القبائل فلما فرغ سعد من تعبئته وأعد لكل شيء من أمره جماعات ورؤساء كتب بذلك إلى عمر رحمه الله ولا خفاء بما بين مقتضى هذا الحديث وبين ما قبله من الاختلاف بالتأخر أو التقدم والله تعالى أعلم
وبعث سعد في مقامه بالقادسية إلى أسفل الفرات عاصم بن عمرو فسار حتى أتى ميسان فطلب بقرا وغنما فلم يقدر عليها وتحصنوا منه في الأفدان وأوغلوا في الآجام فضرب حتى أصاب رجلا على طف أجمة فسأله واستدله على البقر والغنم فحلف له وقال ما أعلم وإذا هو راعي ما في تلك الأجمة فصاح منها ثور كذب والله وها نحن أولاء فدخل فاستاق الثيران وأتى بها العسكر فقسم ذلك سعد على الناس فأخصبوا أياما وهذا اليوم هو يوم الأباقر
وذكر المدائني أن حنظلة بن الربيع الأسيدي هو صاحب هذه الغارة وأنه أتى أسفل الفرات فلم يصب مغنما ولم يلق كيدا فرجع فلقوا رجلا فقالوا له هل تعلم مكان أحد من عدونا بحضرتك قال لا قد رغبتموهم فخلوا عن مساكنهم قالوا فتعلم مكان طعام أو شاء أو بقر قال لا وسمعوا خوار ثور من غيضة فدخلوها فأصابوا بقرا وغنما

قال وقال الحجاج لرجل من بني أسد أشهدت القادسية قال نعم قرمنا إلى اللحم فخرجت في رجال من المسلمين نلتمس اللحم فأخفقنا فلما أنصرفنا إذا بصوت عن إيماننا ادخلوا الغيضة فإن فيها غنيمة وأجرا فدخلنا غيضة قريبا منا فإذا عشرة من الأعاجم وإذا طعام وبقر وغنم فقاتلونا عما في أيديهم فاستشهد منا رجلان وقتلنا منهم ثمانية وأسرنا رجلين فقتلناهما صبرا وحملنا الطعام واستقنا الشاء والبقر فقسم سعد ذلك بين المسلمين ونفل كل رجل منا قتل رجلا سلبه فقال الحجاج هذه بشرى من الله لأوليائه لا يكون ذلك حتى يكون الجمع برا تقيا فكيف كانوا قال لا تسأل عن صدق قول ووفاء بالعهد وأداء للأمانة وصبر عند البأس والله أعلم ما يسرون فأما الظاهر فإنا لم نر قوما قط أزهد في دنيا ولا أشد لها بغضا ما اعتد على رجل منهم في يوم بواحدة من ثلاث لا بجبن ولا بغدر ولا بغلول أشداء على الكفار رحماء بينهم قال الحجاج هذه صفة الأبرار
وكتب عمر إلى سعد رضي الله عنهما أخبرني عن الناس وبلائهم أتفاضلت القبائل فيه أو خرجوا على السواء فكتب إليه إن القبائل لم تزل إلى أن كتبت إليك متساوية في كل غارة ومناهبة في جميع ما أعدوا وقسم ما ناهبوا ولم يفترقوا إلا في ثلاث لما نزلنا بلاد القوم وعسكرنا بالقادسية قرمت العرب إلى طعامهم وعاموا إلى شرابهم فانتدب لهم من مضر عاصم بن عمرو سواد بن مالك ومالك بن ربيعة والمساور بن النعمان وغالب بن عبد الله وعبيد الله بن وهب وعبيد الله بن عمير الأشجعي وعمرو بن الهذيل الأسدي وعمرو بن ربيعة والحارث بن ذي البردين فألحموا الناس

وألبنوهم حتى تفرغوا لحربهم وانتدب من ربيعة عبد الله بن عامر بن حجية وأبجر بن جابر وخالد بن المعمر وعائذ بن أبي مرضية ويزيد بن مسهر وسمى آخرين فانكحوا الناس واخدموهم بنات فارس وبنيهم فرغبوا في حربهم وانتدب من أهل اليمن خولى بن عمرو والحارث بن الحارث وعمرو بن خوثعة والقاسم بن عقيل وخميصة بن النعمان وسمى غيرهم فحملوا الناس على خيول وبغال وحمير ودعوا الخيل العراب
وأقام سعد بالمسلمين في منزله من القادسية ورستم بالحيرة وكف رستم عن القتال وطمع أن يضجر المسلمون بمكانهم وكف سعد عنهم والمسلمون وصبروا رجاء ان يصالحوا عن بلادهم ويعطوا الجزية ويسلموا
وكان عمر رحمه الله قد عرف أن القوم سيطاولونهم فلذلك ما عهد إلى سعد والمسلمين أن ينزلوا على حدود أرضهم وأن يطاولوهم أبدا حتى ينقضوهم فحينئذ نزلوا القادسية وقد وطنوا أنفسهم على الصبر وأبى الله إلا أن يتم نوره وإذا أراد الله أمرا أصابه فأقاموا واطمأنوا فكانوا يغيرون على السواد فانتسفوا ما يليهم فحووه وأعدوا للمطاولة أو يفتح عليهم
وكان عمر رضي الله عنه يمدهم بالأسواق إلى ما يصيبون فلما رأى ذلك يزدجرد من أمرهم وعلم أنهم غير منتهين وأنه إن أقام لم يتركوه وشكا إليه عظماء أهل فارس من نزولهم القادسية وإخرابهم البلاد بالغارات ورستم كاف عنهم مقيم بإزائهم أمر رستم بالشخوص لمنا جزتهم ورأى رستم أن ينزل بينهم وبين العتيق ثم يطاولهم مع المنازلة ورأى أن ذلك أمثل ما هم عاملون حتى يصيبوا من الإحجام حاجتهم وتدور لهم سعود
وعن سيف عن رجاله قالوا وجعلت السرايا تطوف ورستم بالنجف والجالينوس بين النجف والسيلحين وذو الحاجب بين رستم والجالينوس وقال
الناس لسعد قد ضاق بنا المكان فأقدم فزجر من كلمه بذلك وقال إذا كفيتم الرأي فلا تكلفوا فإنا لن نقدم إلا على رأي ذوي الرأي فاسكتوا ما سكتنا عنكم

وعن أبي عثمان النهدي أن سعدا رحمه الله لما نزل رستم النجف بعث الطلائع وأمرهم أن يصيبوا رجلا يسأله عن أهل فارس فأخرج طليحة في خمسة وعمرو بن معدي كرب في خمسة وذلك صبيحة قدم رستم الجالينوس وذا الحاجب وهم لا يشعرون بفصولهم من النجف فلم يسيروا إلا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الصفوف قد ملؤها فقال بعضهم ارجعوا إلى أميركم فإنه سرحكم وهو يرى أن القوم بالنجف فأخبروه الخبر وقال بعضهم ارجعوا لا ينذر بكم عدوكم فقال عمرو لأصحابه صدقتم وقال طليحة لأصحابه كذبتم ما بعثتم لتخبروا عن السرح أو ما بعثتم إلا للخبر قالوا فما تريد قال أريد أن أخالط عسكر القوم أو أهلك قالوا أنت رجل في نفسك غرر ولن تفلح بعد قتل عكاشة بن محصن فارجع معنا فأبى وأتى سعد الخبر برحيل فارس فبعث قيس بن هبيرة وأمره على مائة وعليهم أن لقيهم فانتهى إليهم وقد افترقوا وفارقهم طليحة فرجع بهم قيس فأخبروا سعدا بقرب القوم ومضى طليحة حتى دخل عسكر رستم وبات فيه يجوسه وينظر ويتوسم فلما أدبر الليل أتى أفضل من توسم في ناحية العسكر فإذا فرس لم ير في خيل القوم مثله وفسطاط أبيض لم ير مثله فانتضى سيفه فقطع مقود الفرس ثم ضمه إلى مقود فرسه وحرك فرسه فخرج يعدو به ونذر به القوم فتنادوا وركبوا الصعبة والذلول فخرجوا في طلبه فلحقه وقد أصبح فارس من الجند فلما غشيه وبوأ له الرمح ليطعنه عدل طليحة فرسه فبدر الفارسي بين يديه فكر عليه طليحة فقسم ظهره بالرمح ثم لحق به آخر ففعل به مثل ذلك ولحق به آخر وقد رأى مصرع صاحبيه وهما ابنا عمه فازداد حنقا ففعل معه طليحة كما فعل معهما ثم كر عليه ودعاه إلى الإسار فعرف الفارسي أنه قاتله

فاستأسر وأمره طليحة ان يركض بين يديه ففعل ولحق الناس فرأوا فارسي الجند قد قتلا وأسر الثالث وقد شارف طليحة عسكر المسلمين فأحجموا ونكصوا وأقبل طليحة حتى غشى العسكر وهم على تعبئة فأفزغ الناس وجوزوه إلى سعد فلما انتهى إليه قال ويحك ما وراءك قال دخلت عساكرهم وجستها وقد أخذت أفضلهم توسما وما أدري أصبت أو أخطأت وها هو ذا فاستخبره فأقيم الترجمان بين سعد وبين الفارسي فقال الفارسي أتؤمنني على دمي إن صدقتك قال نعم والصدق في الحرب أحب إلينا من الكذب قال أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمن قبلي باشرت الحرب وغشيتها وسمعت بالأبطال ولقيتها مذ أنا غلام إلى ان بلغت ما ترى فلم أرى ولم أسمع بمثل هذا أن رجلا قطع عسكرين لا يجترى ء عليهما الأبطال إلى عسكر فيه سبعون ألفا يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة إلى ما هو دون ذلك فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فارس الجند وهتك أطناب بيته وطلبناه فأدركه الأول وهو فارس الناس يعدل بألف فارس فقتله ثم أدركه الثاني وهو نظيره فقتله ثم أدركته ولا أظنني خلفت بعدي من يعدلني وأنا الثائر بالقتيلين وهما ابنا عمي فرأيت الموت فاستأسرت ثم أخبره عن أهل فارس أن الجند عشرون ومائة ألف وان الأتباع مثلهم خدام لهم وأسلم الرجل وسماه سعد مسلما وعاد إلى طليحة فقال لا والله ما تهزمون مادمتم على ما أرى من الوفاء والصدق والإصلاح والمواساة لا حاجة لي في صحبة فارس فكان من أهل البلاء يومئذ
وعن موسى بن طريف أن سعدا بعث طليحة وعمرو بن معدي كرب فأمر طليحة بعسكر رستم وأمر عمرا بعسكر الجالينوس فخرج في عدة وخرج طليحة وحده فبعث قيس بن هبيرة في آثارهما وقال إن لقيت قتالا فأنت عليهم فخرج حتى تلقى عمرا فسأله عن طليحة فقال لا علم لي به

فلما انتهيا إلى النجف قال له قيس ما تريد قال ان أغير على أدنى عسكرهم قال في هؤلاء قال نعم قال لا أدعك والله وذاك أتعرض المسلمين لما لا يطيقون قال وما أنت وذاك قال إني أمرت عليك ولو لم أكن أميرا لم أدعك فقال عمرو بعد ان شهد لقيس نفر باستعمال سعد إياه عليه وعلى طليحة والله يا قيس إن زمانا تكون علي فيه أميرا لزمان سوء لأن أرجع عن دينكم هذا إلى ديني الذي كنت عليه وأقاتل عليه حتى أموت أحب إلي من أن تؤمر علي ثانية ولئن عاد صاحبك الذي بعثك لمثلها لنفارقنه قال ذلك إليك بعد مرتك هذه فرده فرجع إلى سعد بالخبر وبأعلاج وأفراس وشكا كل واحد منهما صاحبه اما قيس فشكا عصيان عمرو وأما عمرو فشكا طاعة قيس فقال سعد يا عمرو الخير وسلامة مائة أحب إلي من مصاب مائة تقتل ألفا أتعمد إلى حلبة فارس فتصادمهم بمائة إن كنت لأراك أعلم بالحرب مما أرى فقال له عمرو إن الأمر لكمات قلت وخرج طليحة حتى أتى النجف فدخل عسكر رستم في ليلة مقمرة فتوسم فيه فهتك أطناب بيت رجل عليه واقتاد فرسه ثم خرج حتى مر بعسكر ذي الحاجب فهتك على آخر بيته وحل فرسه ثم دخل على الجالينوس عسكره فهتك عن آخر بيته وحل فرسه ثم خرج حتى أتى الخرار وأتبعه هؤلاء فكان أولهم لحاقا به الجالينوس ثم الحاجبي ثم النخعي فأصاب الأولين وأسر الآخر وأتى به سعدا فأخبره وأسلم فسماه سعد مسلما ولزم طليحة فكان معه في تلك المغازي كلها
وعن موسى بن طريف أيضا قال قال سعد لقيس بن هبيرة أخرج يا عاقل فإنه ليس وراءك من الدنيا شيء تحنوا عليه حتى تأتيني بخبر القوم فخرج وسرح معه عمرو بن معدي كرب وطليحة فلما جاز القنطرة لم يسر إلا يسيرا حتى انتهى إلى خيل عظيمة منهم بحيالها ترد عن عسكرهم وإذا رستم قد ارتحل من النجف فنزل منزل ذي الحاجب وارتحل الجالينوس فنزل ذو الحاجب منزله

ونزل الجالينوس بطيز ناباذ وقدم تلك الخيل فقال قيس قاتلوا عدوكم يا معشر المسلمين فأنشب القتال وطاردهم ساعة ثم حمل عليهم فكانت هزيمتهم وأصاب منهم اثني عشر رجلا وأسر ثلاثة وأصاب أسلابا فأتوا سعدا بالغنيمة وأخبروه الخبر فقال هذه بشرى إن شاء الله إذا لقيتم جمعهم الأعظم وحدهم فلهم أمثالها ودعا عمرا وطليحة فقال كيف رأيتما قيسا فقال طليحة رأيناه أكيس منا وقال عمرو الأمير أعلم بالرجال منا فقال سعد إن الله أحيا بالإسلام قلوبا كانت ميتة وأمات به قلوبا كانت حية وإني أحذركما أن تؤثرا أمر الجاهلية على أمر الإسلام فتموت قلوبكما وأنتما حيان الزموا السمع والطاعة والإعتراف بالحقوق فما رأى الناس كأقوام أعزهم الله بالإسلام
قالوا ولما انتهى رستم إلى العتيق وقف عليه بحيال عسكر سعد ونزل الناس فما زالوا يتلاحقونى وينزلهم فينزلون حتى اعتموا من كثرتهم
وقال المدائني مكثوا ليلتهم كلها يتحدرون ومن غد إلى قريب من نصف النهار بعده تجب منها القلوب
وقال قيس بن أبي حازم وكان شهد القادسية كان مع رستم ثمانية عشر فيلا ومع الجالينوس خمسة عشر فيلا
وقال غيره كان في جملتها فيل سابور الأبيض وكانت الفيلة تألفه وكان أعظمها وأقدمها
وقال الرفيل كانت ثلاثة وثلاثون في القلب ثمانية عشر وفي المجنبتين خمسة عشر
قال ولما نزل رستم العتيق وبات به أصبح غاديا على التصفح والتحرز

فساير العتيق نحو خفان حتى أتى على مقطع عسكر المسلمين ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة فتأمل القوم حتى أتى على تل يشرف عليهم فلما وقف على القنطرة أرسل زهرة بن جوية وكان هناك مسلحة لسعد فخرج إليه حتى واقفه فأراده على أن يصالحهم ويجعل له جعلا على أن ينصرفوا عنه وجعل يقول فيما يقول إنكم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا فكنا نحسن جواركم ونكف الأذى لا عنكم ونوليهم المرافق الكثيرة ونحفظهم في أهل باديتهم فنرعيهم مراعينا ونميرهم من بلادنا ولا نمنعهم التجارة في شيء من أرضنا فقد كان لهم في ذلك معاش يعرض له بالصلح ولا يصرح فقال له زهرة صدقت قدكان ما تذكر وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا طلبتهم إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طالبتنا وهمتنا الآخرة كنا كما ذكرت يدين لكم من قدم عليكم منا ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم ثم بعث الله عز وجل إلينا رسولا فدعانا إلى دينه فأجبناه فقال لنبيه {صلى الله عليه وسلم} إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني فانا منتقم بهم منه وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل ولا يعتصم به أحد إلا عز قال رستم وما هو قال عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والإقرار بما جاء به من عند الله تعالى قال ما أحسن هذا وأي شيء أيضا
قال وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى
قال حسن وأي شيء أيضا
قال والناس بنو آدم وحواء أخوة لأب وأم
فقال ما أحسن هذا ثم قال له رستم أرأيت لو أني رضيت هذا الأمر وأجبتكم إليه ومعي قومي كيف يكون أمركم أترجعون
قال أي والله ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة
قال صدقتني والله أما أن أهل فارس منذ ولى أردشير لم يدعوا أحدا يخرج من عمله من السفلة كانوا يقولون إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم

فقال له زهرة نحن خير الناس للناس ولا نستطيع أن نكون كما تقولون نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصى الله فينا
فانصرف عنه ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا منه وأنفوا فقال أبعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أجزعنا وأجبننا
وعن سيف عن رجاله قالوا أرسل سعد إلى المغيرة وبسر بن أبي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محسن وربعي بن عامر وقرفة بن أبي زاهر التيمي الوائلي ومذعور بن عدي العجلي والمضارب بن يزيد وسعيد بن مرة وهما من بني عجل أيضا وكان سعيد من دهاة العرب فقال لهم سعد إني مرسلكم إلى هؤلاء فما عندكم
قالوا نتبع ما تأمرنا به وننتهي إليه فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شيء نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس فكلمناهم به
قال سعد هذا فعل الحزمة اذهبوا فتهيئوا
فقال ربعي بن عامر إن الأعاجم لهم آراء وأدب ومتى نأتهم جميعا يرون أنا قد أحتفلنا لهم فلا تزدهم على رجل فمالئوه جميعا على ذلك فقال فسرحني فسرحه فخرج ربعي بن عامر ليدخل على رستم عسكره فاحتسبه الذي على القنطرة وأرسل إلى رستم بمجيئه فاستشار عظماء أهل فارس فقال ما ترون أنباهي أم نتهاون فاجتمع ملؤهم على المباههاة فأظهروا الزبرج وبسطوا البسط والنمارق ولم يتركوا شيئا ووضعوا لرستم سرير الذهب وألبس زينته من

الأنماط والوسائد المنسوجة بالذهب وأقبل ربعي يسير على فرس له زباء قصيرة معه سيف له مشوف وغمده لفافة ثوب خلق ورمحه معلوب بقد معه حجفة من جلود البقر على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف ومعه فرسه ونبله فلما انتهى إلى أدنى البسط قيل له انزل فحمل فرسه عليها فلما استوت على البسط نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما ثم ادخل الحبل فيهما فلم يستطيعوا أن ينهوه وإنما أروه التهاون وعرف ما أرادوا فأراد استحراجهم وعليه درع له كأنه أضاة ويلمقة عباءة بعيره قد جابها وتدرعها وشدها على وسطه بسلب ولرأسه أربع ضفائر قد قمن قيما كأنهن قرون الوعول وكان أكثر العرب شعره فقالوا له ضع سلاحك فقال إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم أنتم دعوتموني فإن أحببتم أن آتيكم كما أريد وإلا رجعت فأخبروا رستما فقال أئذنوا له هل هو إلا رجل فأقبل يتوكأ على رمحه وزجه نصل يقارب الخطو ويزج النمارق والبسط فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركها متهتكة مخرقة فلما دنا من رستم تعلق به الحرس وجلس على الأرض وركز رمحه في البساط فقالوا ما حملك على هذا قال أنا لا نستحب القعود على زينتكم فقال له رستم ما جاء بكم فقال الله ابتعثنا وجاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخر ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبله قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها

دوننا ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله قال وما موعود الله قال الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي قال رستم قد سمعنا مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا قال نعم كم أحب إليك أيوم أم يومان قال لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا فقال إن مما سن لنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وعمل به أئمتنا ألا نمكن الأعداء من بداتنا ولا نؤجلهم عند الإلتقاء أكثر من ثلاث فنحن مترددون عنكم ثلاثا فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل اختر الإسلام وندعك وأرضك أو الجزاء فنقبل ونكف عنك وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه وإن كنت إليه محتاجا منعناك أو المنابذة في اليوم الرابع ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا أنا كفيل لك بذلك على جميع من ترى قال أسيدهم أنت قال لا ولكن المسلمين فيما بينهم كالجسد بعضهم من بعض يجير أدناهم على اعلاهم فخلص رستم برؤساء أهل فارس فقال ما ترون هل سمعتم كلاما قط أوضح نصرا ولاأعز من كلام هذا الرجل قالوا معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب أما ترى إلى ثيابه فقال ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب ليسوا مثلكم في اللباس ولا يرون فيه ما ترون وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه ويزهدونه فيه فقال لهم هل لكم أن تروني فأريكم فأخرج سيفه من خرقة كأنه شعلة نار ثم رمى ترسا ورموا حجفته فخرق ترسهم وسلمت حجفته فقال ياأهل فارس إنكم عظمتم الطعام والشراب وأنا صغرناهما ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل فلما كان الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن فأقبل في نحو ذلك الزي حتى إذا كان على أدنى البساط قيل له أنزل قال ذلك لو جئتكم في حاجتي فقولوا لملككم أله حاجة أم لي فإن قال لي فقد كذب ورجعت عنه وتركتكم وإن قال له لم آته إلا على ما أحب فقال

دعوه فجاء حتى وقف عليه ورستم على سريره
فقال له انزل قال لا أفعل فلما أبى سأله ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس قال إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء فهذه نوبتي قال ما جاء بكم قال الله عز وجل من علينا بدينه وأرانا آياته حتى عرفناه وكنا له منكرين ثم أمرنا بدعاء الناس إلى واحدة من ثلاث فأيها أجابوا إليه قبلناه الإسلام وننصرف عنكم أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك أو المنابذة فقال أو الموادعة إلى يوم فقال نعم ثلاثا من أمس فلما لم يجد عنده إلا ذلك رده وأقبل على أصحابه فقال ويلكم ألا ترون ما أرى جاءنا الأول بالأمس فغلبنا على أرضنا وحقر ما نعظم وأقام فرسه على زبرجنا وربطه به فهو في يمن الطائر ذهب بأرضنا وما فيها إليهم مع فضل عقله وجاءنا هذا اليوم فوقف علينا فهو في يمن الطائر سيقوم على أرضنا دوننا فراده أصحابه الكلام حتى أغضبوه وأغضبهم فلما كان من الغد أرسل ابعثوا إلينا رجلا فبعثوا إليه المغيرة بن شعبة
قالوا فلما جاء إلى القنطرة يعبرها إلى أهل فارس حبسوه واستأذنوا رستما في إجازته فأذن في ذلك فأقبل المغيرة والقوم في زيهم في الأمس لم يغيرا شيئا من شارتهم تقوية لتهاونهم عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب وبسطهم على غلوة لايصل إلى صاحبهم حتى يمشي عليها غلوة وجاء المغيرة وله أربع ضفائر يمشي حتى جلس معه على سريره وشارته فوثبوا إليه فنتروه وأنزلوه ومغثوة فقال إنه كانت تبلغنا عنكم أحلام ولا أرى قوما أسفه منكم إنا معشر العرب سواء لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه ولم آتكم ولكنكم دعوتموني زاد المدائني وليس ينبغي لكم إذا أرسلتم إلي

أن تمنعوني من الجلوس حيث أردت وما أكلمكم إلا وأنا جالس معه اليوم علمت أنكم مغلوبون وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول
فقالت السفلة صدق والله العربي وقالت الدهاقين والله لقد رمى بكلام لايزال خولنا والضعفاء منا ينزعون إليه قاتل الله أولينا ما كان أحمقهم حين يصغرون أمر هذه الأمة فمازحه رستم ليمحو ما صنع به فقال له يا عربي إن الحاشية قد تصنع ما لايوافق الملك فيتراخى عنها مخافة أن يكسرها عما ينبغي من ذلك والأمر على ما تحب من الوفاء وقبول الحق وليس ما صنعوا بضائرك ولا ناقصك عندنا فاجلس حيث شئت فأجلسه معه ثم قال ما هذه المغازل التي معك يعني السهام قال ما ضر الجمرة أن لا تكون طويلة ثم رماهم ثم قال له رستم تكلم أو أتكلم فقال المغيرة أنت الذي بعثت إلينا فتكلم فأقام الترجمان بينهما وتكلم رستم فحمد قومه وعظم الملك والمملكة وقال لم نزل متمكنين في البلاد ظاهرين على الأعداء أشرافا في الأمم ليس لأحد من الملوك مثل عزنا وشرفنا وسلطاننا ننصر على الناس ولا ينصرون علينا إلا اليوم أو اليومين أو الشهر أو الشهرين لأجل الذنوب فإذا انتقم الله منا فرضي رد إلينا عزنا ثم إنه لم تكن في الناس أمة أصغر عندنا أمرا منكم كنتم أهل قشف ومعيشة سيئة لا نراكم شيئا ولا نعدكم وكنتم إذا قحطت أرضكم وأصابتكم السنة استعنتم بناحية أرضنا فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ثم نردكم وقد علمت أنه لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما أصابكم من الجهد في بلادكم فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم وآمر لكل واحد منكم بوقر من تمر وبثوبين وتنصرفون عنا فإني لست أشتهي أن أقتلكم ولا آسركم
فتكلم المغيرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله سبحانه خالق كل شيء ورازقه يرفع من يشاء ويضع من يشاء فمن صنع شيئا فإن الله تبارك اسمه وتعالى هو يصنعه والذي صنعه وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل

بلادك من الظهور على الأعداء والتمكين في البلاد وعظم السلطان في الدنيا فنحن نعرفه ولا ننكره والله صنعه لكم ووضعه فيكم وهو له دونكم وأما ما ذكرت فينا من سوء الحال وضيق المعيشة واختلاف القلوب فنحن نعرفه والله ابتلانا بذلك وصيرنا إليه والدنيا دول ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه وأهل رخائها يتوقعون الشدة حتى تنزل بهم ويصيروا إليها ولو كنتم فيما آتاكم الله دوننا أهل شكر لكان شكركم يقصر عما أوتيتم ولأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه إن الله تعالى بعث فينا رسولا فكذبه مكذبون وصدقه منا آخرون وأظهر الله دعوته وأعز دينه على كره ممن كذبه وحاده حتى دخلوا في الإسلام طوعا وكرها فأمرنا أن ندعوا من خالفنا إلى ديننا فمن أباه قاتلناه
وذكر نحو ما تقدم من الكلام في الأحاديث المتقدمة من دعائه إلى الإسلام وقال له فإن أبيت فكن لنا عبدا تؤدي الجزية عن يد وأنت صاغر وإلا السيف إن أبيت
فنخر رستم عند ذلك نخرة واستشاط غضبا ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الضحى غدا حتى أقتلكم أجمعين
فانصرف المغيرة وخلص رستم بأشراف فارس فقال أين هؤلاء منكم ما بعد هذا ألم يأتكم الأولان فجسراكم واستخرجاكم ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا وسلكوا طريقا واحدا ولزموا أمرا واحدا هؤلاء والله الرجال صادقين أو كاذبين والله لئن كان بلغ من رأيهم وصونهم أمرهم أن لا يختلفوا ما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم وإن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء فلجوا وتجلدوا فقال والله إني لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم وإن هذا منكم رياء فازدادوا الجاجا

وفي بعض الروايات أن مما قال المغيرة لرستم وقد توعد المسلمين بأنهم مقتولون قال هو الذي نتمنى أن المقتول منا صائر في الجنة والهارب في النار وللباقي الصابر الظفر بحديث صادق ووعد لا خلف له وقد أصبنا في بلادكم حبة كأنها قطع الأوتار فأكلنا منها وأطعمنا أهالينا فقالوا لا صبر لنا حتى تنزلونا هذه البلاد
قال رستم أما لنقرننكم في الجبال
قال المغيرة أما وبنا حياة فلا
قال رستم ارجع إلى أصحابك واستعدوا للحرب فليس بيننا وبينكم صلح ولنفقأن عينك غدا
فقال المغيرة وأنت ستقتل غدا إن شاء الله وإن ما قلت لي ليسرني لولا أن أجاهدكم بعد اليوم لسرني أن تذهبا جميعا
ورجع المغيرة فتعجبوا من قوله فقال رستم ما أظن هذا الملك إلا قد انقضى وأن أجمل بنا ألا يكون هؤلاء أصبر منا ولقد وعدوا وعدا ليموتن أو ليدركنه ولقد حذروا وخوفوا من الفرار خوفا لا يأتونه وقد رأيت ليلتي هذه كأن القوس التي في السماء خرت وكأن الحيتان خرجن من البحر وأن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فهل لكم أن تقبلوا بعض ما عرضوا عليكم قالوا لا
قال فأنا رجل منكم وكتب إلى يزدجرد بما كلمه به المغيرة فقال شاهين الأزدي لو لم يكن إلا ساسة دوابنا لأخذناهم بهم فكتب إليه يأمره بقتالهم وقال إذا لقيتهم فضع الرجال فيما بيني وبينك على كل ربوة رجلا فكلما حدث أمر نادى به بعضهم بعضا حتى يفضي الخبر إلي
وحدث سيف عن رجاله قالوا أرسل إليهم سعد بقية ذوي الرأي

جميعا وحبس الثلاثة فخرجوا حتى أتوه فقالوا له إن أميرنا يقول لك إن الحرب تحفظ الولاة وإني أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك وهي العاقبة بأن تقبل منا ما دعاك الله عز وجل إليه ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض إلا أن داركم لكم وأمركم فيكم وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا وكنا لكم عونا على أحد إن أرادكم أو قوي عليكم واتق الله يا رستم ولا يكونن هلاك قومك على يديك فإنه ليس بينك وبين أن تغتبط إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك

فقال رستم إني قد كلمت منكم نفرا ولو أنهم فهموا عني رجوت أن تكونوا قد فهمتم وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام وسأضرب لكم مثلكم إنكم كنتم أهل جهد في المعيشة وقشف في الهيئة لا تمتنعون ولا تنتصفون فلم نسيء جواركم ولم ندع مواساتكم تقتحمون المرة بعد المرة فنميركم ثم نردكم وتأتوننا أجراء وتجارا فنحسن إليكم فلما تطعمتم طعامنا وشربتم شرابنا وأظلكم ظلنا وصفتم ذلك لقومكم ثم دعوتموهم فأتيتمونا بهم وإنما مثلكم في ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له كرم فرأى فيه ثعلبا فقال وما ثعلب فانطلق الثعلب فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم فلما اجتمعت عليه سد عليها صاحب الكرم مدخلها فقتلها وقد علمت أن الذي حملكم على هذا الحرص والطمع مع الجهد فارجعوا عنا عامكم هذا وامتاروا حاجتكم ولكم العود كلما احتجتم فإني لا أشتهي أن أقتلكم وقد أصاب أناس كثير منكم ما أرادوا من أرضنا ثم كان مصيرهم القتل والمهرب ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم وخرج مما كان أصاب ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب وفي الجرة ثقب فدخل الأول فأقام فيها وجعلت الأخر ينقلن منها ويرجعون ويكلمنه في الرجوع فيأبى فانتهى سمن الذي في الجرة فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله فضاق عليه الجحر ولم يطق الخروج فشكى القلق إلى أصحابه وسألهم المخرج فقالوا ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل
أن تدخل فكف وجوع نفسه وبقي في الجرة حتى إذا عاد كما كان أتى عليه صاحب الجرة فقتله فاخرجوا أو ليكونن هذا لكم مثلا
وقال لهم أيضا فيما قال لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب ما خلاكم يا معشر العرب ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع ومثلكم في هذا مثل الذباب إذ رأى العسل طار وقال من يوصلني إليه وله درهمان حتى يدخله لا ينهاه أحد إلا عصاه فإذا دخله غرق ونشب وقال من يخرجني وله أربعة دراهم وضرب للقوم أمثالا غير هذه نحوا منها

قالوا فتكلم القوم فقالوا أما ما ذكرت من سوء حالنا فيما مضى وانتشار أمرنا فلم نبلغ كنهه يموت الميت منا إلى النار ويبقى الباقي منا في بؤس فبينا نحن في أسواء ذلك بعث الله عز وجل فينا رسولا من أنفسنا إلى الأنس والجن رحمة رحم بها من أراد رحمته ونقمه ينتقم بها ممن رد كرامته فبدأبنا قبيلة قبيلة فلم يكن أحد أشد عليه ولا أشد إنكارا لما جاء به ولا أجهد على قتله ورد ما جاء به من قومه ثم الذين يلونهم حتى طابقناه على ذلك كلنا فنصبنا له جميعا وهو وحده فرد ليس معه إلا الله تعالى فأعطى الظفر علينا فدخل بعضنا طوعا وبعضنا كرها ثم عرفنا جميعا الحق والصدق لما أتى به من الآيات المعجزة وكان مما أتى به من عند ربنا عز وجل جهاد الأدنى فالأدنى فصرنا في ذلك فيما بيننا نرى أن الذي قال لنا ووعدنا لا نخرج عنه ولا ننقص منه حتى اجتمعت العرب على هذا وكانوا من الاختلاف فيما لا يطيق الخلائق بالتفهم معه ثم أتيناكم بأمر ربنا نجاهد في سبيله وننفذ لأمره ونستنجز موعوده وندعوكم إلى الإسلام وأحكامه فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله عز وجل وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزاء فإن فعلتم وإلا فإن الله عز وجل قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم فاقبلوا نصيحتنا فو الله لإسلامكم أحب إلينا

من غنائمكم ولقتالكم بعد أحب إلينا من صلحكم وأما ما ذكرت من رثاثتنا وقلتنا فإن إرادتنا الطاعة وقتالنا الصبر وأما ما ضربتم لنا من الأمثال فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد الهزل ولكنا سنضرب لكم مثلا إن مثلكم مثل رجل غرس أرضا واختار لها الشجر والحب وأجرى لها الأنهار وزينها بالقصور وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ويقومون على جناتها فخلفه الفلاحون في القصور بما لا يحب وفي الجنان بمثل ذلك فأطال نظرتهم فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم استعتبهم فكابروه فدعا إليهم غيرهم فأخرجهم منها فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس وإن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبدا ووالله لو لم يكن ما نقول لكم حقا ولم تكن إلا الدنيا لما كان لنا عما ضربنا به من لذيذ عشيكم ورأينا من زبرجكم من صبر ولقارعناكم أو نغلبكم عليه
فقال رستم أتعبرون إلينا أو نعبر إليكم فقالوا بل اعبروا إلينا فخرجوا من عنده عشيا فأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم وأرسل إليهم شأنكم والعبور فأرادوا القنطرة فأرسل إليهم لا ولا كرامة أما شيء قد غلبناكم عليه فلن نرده عليكم تكلفوا معبرا غير القناطر فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم
وذكر المدائني أن رستم وجه الجالينوس ليعبر القنطرة فوقف بحيال زهرة بن جوية وكان عليها وقال ليخرجن إلي الموكل بهذا الموضع فخرج زهرة على فرس كميت أغر ذنوب معه رمح معلوب وسيف رث الجفن فقال له الفارسي إنك لم توضع هذا الموضع إلا وأنت ركن من أركان أصحابك وأرى سيفك رث الجفن قال إن يكن رث المنظر فإنه حديد الضربة وقرب إليه الفارسي بالصلح ولم يصرح ومناه وقال نحسن جواركم ونرفقكم في معايشكم فقال زهرة إنا لم نأتكم نطلب الدنيا بغير آخرة إنما أتيناكم ندعوكم إلى ديننا فإن أبيتموه فدنياكم التي تعرضون علينا لنا إن شاء الله فقال له الفارسي فخلوا لنا الطريق فنعبرإليكم فنناجزكم قال لا قال ولم وأنتم تمنون

لقاءنا قال نكره أن نرد عليكم شيئا قد غلبناكم عليه فرجع إلى رستم فأخبره فأعظم ذلك فانصرف الجالينوس فجلس رستم يفكر فيما أخبره وغلبته عيناه فنام فانتبه ويده في كتف جارية قاعدة بين يدي فراشه فقال مالك قالت مالت يدك فرفعتها فقال أشفقت أن سقطت من فراش ديباج علي بساط ديباج فكيف بها غدا إذا انعفرت في التراب ووطئتها الخيل قالت وما يضطرك إلى ذلك وقد اعطوك مالك فيه نصف ونجاة إما أن تدخل في دينهم فتكون مثلهم وإما أن تفتدي منهم بشيء تعطيهم ويبقى لك أمرك وإما أن تذهب إلى مأمنك من الأرض فقال إن في عنقي حبلا أقاد به إلى مصرعي لا أقدر على الإمتناع
وبات الأعاجم ليلتهم يسكرون العتيق بالقصب والتراب والبراذع حتى جعلوه طريقا واستتم بعدما ارتفع النهار من الغد
قالوا ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء فأخذ قسى أصحابه فختم عليها ثم صعد بها إلى السماء فاستيقظ مهموما حزينا فدعا خاصته وقصها عليهم وقال إن الله عز وجل ليعظنا لو أن فارس تركوني أتعظ أما ترى النصر قد رفع عنا وترى الريح مع عدونا وأنا لا نقوم لهم في فعل ولا منطق
يوم أرماث
ولما تم السكر عبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم وجلس رستم على سريره وضربت عليه طيارة وعبأ في القلب ثمانية عشر فيلا عليها الصناديق والرجال وفي المجنبتين ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته والبيزران بينه وبين ميسرته وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين

وأخذ المسلمون أيضا مصافهم وكانت التعبئة التي تقدم بها سعد قبل انفصاله عن شراف بإذن عمر رضي الله عنه أن جعل على المقدمة زهرة بن الجوية وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم وكان من أصحاب النبي {صلى الله عليه وسلم} وأحد التسعة الذين قدموا عليه فتممهم طلحة بن عبيد الله عشرة في العرافة وعلى الميسرة شرحبيل بن السمط الكندي وكان شابا قد قاتل أهل الردة على الردة ووفي الله عز وجل فعرف ذلك له وعلى الساقة عاصم بن عمرو السعدي وعلى الطلائع سواد بن مالك التميمي وعلى المجردة سلمان بن ربيعة الباهلي وعلى الرجال حمال بن مالك الأسدي وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمين الخثعمي فلما تصافوا يومئذ جعل سعد زهرة وعاصما بين عبد الله بن المعتم وبين شرحبيل بن السمط ووكل صاحب الطلائع بالطرد وخلط بين الناس في القلب والمجنبات ونادى مناديه ألا إن الحسد لا يحل إلا على الاجتهاد في أمر الله تعالى يا أيها الناس فتحاسدوا وتغايروا على الاجتهاد وذكر المدائني أنه كان على الميمنة يوم القادسية شرحبيل بن السمط وعلى
الميسرة هاشم بن عتبة وعلى الخيل قيس بن مكشوح وعلى الرجل المغيرة بن شعبة فالله تعالى أعلم
وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس كان به عرق النسا ودماميل وإنما هو على وجهه وفي صدره وسادة وهو مكب عليها مشرف على الناس من القصر يرمي بالرقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة وهو أسفل منه وكان الصف إلى جانب القصر وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا مشرفا
وقيل بل استخلفه على الناس لأجل شكواه فاختلف عليه الناس فقال سعد احملوني فأشرفوا به على الناس فارتقوا به فأكب مطلعا عليهم والصف في أصل حائط قديس حيث كان سعد يأمر خالدا فيأمر خالد الناس وكان ممن شغب عليه وجوه من وجوه الناس فهم بهم سعد وشتمهم وقال أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالا لغيركم فحبسهم في القصر وقيدهم منهم أبو محجن الثقفي

وقال جرير يومئذ أما أني بايعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على أن أسمع وأطيع لمن ولي الأمر وإن كان عبدا حبشيا
وقال سعد والله لايعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويساغبهم وهم بإزائهم إلا سننت فيه سنة يؤخذ بها من بعدي وذكر المدائني أنه أتى رستما رجل من أهل الحيرة ليلا فقال له أمير المسلمين وجع وهو في قصر العذيب مع العيال ولو طرقته خيل لقتل لا يشعر به أصحابه فانتخب رستم خمسمائة فارس فوجههم إليه فترفعوا عن العسكرين وقطعوا الوادي وأخذوا في خفض من الأرض وجاء رجل من العجم إلى المسلمين مستأمنا فأخبرهم فانتدب حنظلة بن الربيع الأسيدي في خمسمائة من تحت الليل فسار إلى العذيب وقال لأصحابه إنه ليطيب نفسي أن عبد الله بن سبرة بن سعد فانتهى إلى سعد عند طلوع الفجر ولم تصل إليهم الفرس
فأنذروه وأصبحوا فإذا الأساورة متحدرون من ناحية وادي السباع فتلقاهم عبد الله بن سبرة الواقفي أحد بني حرملة بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة في سرعان الناس معه عشرة فوارس وغلام له رومي يقال له يزيد كان أصابه يوم اليرموك وأتبعهم حنظلة في أصحابه فقتل عبد الله بن سبرة قبل أن تتام إليه الخيل اسوارين
وقال مرة الهمداني وكان مع حنظلة لما دنونا من معتركهم سمعنا صوتا منكرا شديدا فقال حنظلة صوت ابن الكندية ورب الكعبة بعض هنات أبي قيس فانتهينا إليهم فإذا عبد الله بن سبرة يذمر أصحابه وهو يقول لغلامه يا يزيد ثكلتك أمك إن فاتك أحد وقد انكسر رمحه وهو يضربهم بعمود ما يضرب به رجلا إلا قتله ولا دابة إلا عقرها وإن غلامه ليذودهم عليه بالرمح فلما غشيهم حنظلة وأصحابه انهزموا فما تشاء أن تجد الخمسة والستة من المسلمين يخفقون أسوارا بأسيافهم إلا وجدته فقتل منهم ثلاثون ويقال مائة وأفلت الآخرون أكثرهم جريح فرجعوا إلى رستم فطلب الحيري ليقتله وظن أنه عين دس له فلم يقدر عليه وتحول سعد فنزل مع جماعة الناس

وفيما حكاه سيف عن رجاله أن سعدا رحمه الله بعدما تهدم على الذين اعترضوا على خالد بن عرفطة خطب من يليه يومئذ فحمد الله وأثنى عليه وقال إن الله وهو الحق وقوله الحق لا شريك له في الملك وليس لقوله خلف قال ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( 105 الأنبياء إن هذا ميراثكم وهو موعد ربكم وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج وأنتم تطعمون منها وتأكلون وتقتلون أهلها وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منه أصحاب الأيام منكم وقد جاءكم منهم هذا الجمع وأنتم وجوه العرب وأعيانهم وخيار كل قبيلة وعزمن وراءكم فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة يجمع الله لكم الدنيا والآخرة ولا يقرب ذلك أحدا إلى أجله وأن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم
وكتب سعد إلى أهل الرايات إني قد استخلفت عليكم خالد بن عرفطة وليس يمنعني أن أكون مكانه إلا وجعي الذي كان يعودني وما بي من جبون وإني مكب على وجهي وشخصي لكم باد فاسمعوا له وأطيعوا فإنه إنما يأمركم بأمري ويعمل برأي فقريء على الناس فزادهم خيرا فانتهوا إلى رأيه وقبلوا منه وتحاثوا على السمع والطاعة واجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع
قالوا وأرسل سعد للذين انتهى إليهم رأي الناس والذين انتهت إليهم نجدتهم وأصناف الفضل منهم إلى الناس فقال انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم وعليهم عند مواطن البأس فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به وانتم شعراء العرب وخطباؤهم وذووا رأيهم ونجدتهم وسادتهم فسيروا فيهم وحرضوهم على القتال فساروا فيهم
فقال قيس بن هبيرة أيها الناس احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم يزدكم واذكروا آلاء الله وارغبوا إليه في عادته فإن الجنة والغنيمة أمامكم وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء والأرض القفر والظراب الخشن والفلوات التي لا تقطعها الأدلة

وقال غالب بن عبد الله الليثي أيها الناس احمدوا الله على ما أبلاكم وسلوه يزدكم وادعوه يجبكم يا معشر معد ما علتكم اليوم وانتم في حصونكم يعني الخيل ومن لا يعصيكم معكم يعني السيوف فاذكروا حديث الناس في غد فإنه بكم غدا يبدأ وبمن بعدكم يثني
وقال ابن الهذيل الأسدي يا معشر معد اجعلوا حصونكم السيوف وكروا عليهم كأسود الأجم وتربدوا إليهم تربد النمور وادرعوا العجاج
وثقوا بالله تعالى وغضوا الأبصار فإذا كلت السيوف فإنها مأمورة فأرسلوا عليهم الجنادل فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه
وقال بسر بن أبي رهم احمدوا الله وصدقوا قولكم بفعل لا تموتن إلا وانتم مسلمون انصروا الله ينصركم ولا يكونن شيء بأهون عليكم من الدنيا فإنها تأتي من تهاون بها ولا تميلوا إليها فتهرب منكم
وقال عاصم بن عمرو يا معشر العرب إنكم أعيان العرب وقد صمدتم لأعيان العجم إنما تخاطرون بالجنة ويخاطرون بالدنيا فلا يكونن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم لا تحدثن اليوم أمرا تكونون به شينا على العرب غدا
وقال ربيع السعدي يا معشر العرب قاتلوا للدين والدنيا سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ( 133 آل عمران ) فإن عظم الشيطان عليكم الأمر فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل
وتقدم كل واحد من أولئك الذين بعثهم سعد من وجوه الناس بمثل هذا الكلام وتواثق الناس وتعاهدوا واهتاجوا لكل ما ينبغي لهم
وفعل أهل فارس فيما بينهم مثل ذلك وتعاهدوا وتوصوا واقترنوا بالسلاسل وكان المقترنون ثلاثين ألفا

وقال سعد للناس الزموا مواقفكم لا تحركوا شيئا حتى نصلي الظهر فإذا صليتم الظهر فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا واعلموا ان التكبير لم يعطه أحد قبلكم وإنما أعطيتموه تأييدا فإذا سمعتم الثانية فكبروا ولتستتموا عدتكم فإذا كبرت الثالثة فكبروا ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا ويطاردوا فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعا حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم
ويروى أنه لما نادى منادي سعد بالظهر نادى رستم أكل عمر كبدي أحرق الله كبده علم هؤلاء حتى علموا
وقيل إن رستم قال نحوا من هذا عندما نزل بين الحصن والعتيق وقد أذن مؤذن سعد الغداة ورأى الناس يتخشخشون فنادى في أهل فارس أن اركبوا فقيل له ولم قال أما ترون إلى عدوكم قد نودي فيهم فتخشخشوا لكم فقال له رجل قد كان رستم بعثه قبل ذلك عينا إلى عسكر المسلمين فانغمس فيهم وعرف حالهم وانصرف إليه فأخبره ان ذلك تخشخشهم للصلاة فقال رستم بالفارسية ما تفسيره أتاني صوت عند الغداة وإنما هو عمر الذي يعلم الكلاب العقل فلما سمع الأذان بالصلاة قال أكل عمر كبدي
قالوا ولما صلى سعد الظهر أمر غلاما كان عمر رحمه الله ألزمه إياه وكان من القراء بقراءة سورة الجهاد وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها فقرأها على الكتيبة التي تليه وقرئت في كل كتيبة فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها
قال مصعب بن سعد وكانت قراءتها سنة يقرأها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} عند الزحوف ويستقرئها فعمل الناس بذلك
قالوا ولما فرغ القراء كبر سعد فكبر الذين يلونه وكبر بعض الناس بتكبير بعض فتخشخش الناس ثم ثنى فاستتم الناس ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال وخرج أمثالهم من فارس فاعتوروا الطعن والضرب وخرج غالب بن عبد الله الليثي وهو يقول
قد علمت واردة المسالح
ذات البنان واللبان الواضح
أني سمام البطل المشايح
وفارج الأمر المهم الفادح
الرجز

فخرج إليه هرمز وكان من ملوك الباب وكان متوجا فأسره غالب أسرا فجاء به فأدخل إلى سعد وانصرف غالب للمطاردة
وذكر المدائني أن رستم أمر هرمز فتقدم في كتيبة فشد عليه غالب وزهرة ابن جوية فسبق إليه غالب في خيل فقتله
قالوا وخرج عاصم بن عمرو وهو يقول
قد علمت صفراء بيضاء اللبب
مثل اللجين يتغشاه الذهب
أني أمر الأمر إمرارا السبب
مثلي على مثلك يعديه الكثب
الرجز
فطارد رجلا من أهل فارس فهرب منه وأتبعه حتى إذا خالط صفهم والتقى بفارس معه بغل فترك الفارس البغل واعتصم بأصحابه فحموه واستاق عاصم البغل والرحل حتى آوى به إلى الصف وإذا الفارس خباز الملك وإذا الذي كان معه لطف الملك الأخبصة والعسل المعقد فنفل ذلك سعد أهل موقف عاصم وبعث إليهم ليأكلوه وهم في موقفهم
وجال عمرو بن معدي كرب بين الصفين يحرض الناس ويقول إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقي من فرسه فإنما هو تيس
قال قيس بن أبي حازم فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم فوقف بين الصفين فرماه بنشابة فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها
فالتفت إليه ثم حمل عليه فاعتنقه ثم أخذ بمنطقته فاحتمله فوضعه بين يديه فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه ثم ألقاه وقال هكذا فافعلوا بهم فقلنا من يستطيع يا أبا ثور أن يصنع كما تصنع وقال بعضهم وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج كانت عليه ثم تكتبت الكتائب من هؤلاء وهؤلاء

وذكر المدائني أن رستم ظاهر يومئذ بين درعين وقرب له فرس فنزا عليه ولم يمسه بيده وقال اليوم ندق العرب دقا فقال له رجل قل إن شاء الله قال إن شاء وإن لم يشأ وقدم كتيبة عليها الدروع والمغافر والأداة الكاملة فدفعوا إلى جعفي وهم حديثوا العهد بالشرك فنازلوهم فلم تحك سيوفهم في جنبهم فظنوا أن الحديد لا يحك فيهم حتى حمل رجل منهم على أسوار فطعنه فقتله ونادى يا آل جعفي السلاح تنفذ فيهم فشأنكم بهم ونحو هذا قول عمرو بن معدي كرب في ذلك اليوم وقد رماه رجل من أهل العجم بنشابة فوقعت في كتفه وعليه درع حصينة فلم تنفد وحمل هو على الرجل فعانقه ثم صرعه فقتله وقال
أنا أبو ثور وسيفي ذو النون
أضربهم ضرب غلام مجنون
يا زيد إنهم يموتون
السريع
ولم يكن عمرو ولا قومه يجهلون أن القوم يموتون ولكن الشعر تحسن فيه هذه المآخذ ويملح بهذه المقاصد
ومثله قول الآخر
القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لاينشرون أن قتلوا
المنسرح
ويفوق هذا كله قول الله سبحانه ولكتابه المثل الأعلى ولا تهنوا في
ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ) ( 104 النساء )
وقد بعدنا عما كنا بسبيله فلنعد إليه
قالوا لما تكتبت الكتائب بعد الطراد وتزاحف الناس صرفت الأعاجم فيولها نحو المسلمين فوجهت إلى الوجه الذي فيه بجيله ثلاثة عشر فيلا وصفوا على سائر الناس سبعة عشر ولما حمل أصحاب الفيلة تفرقت الكتائب وابذعرت الخيل وكادت بجبيلة تؤكل فرت خيلها نفارا فأرسل سعد بن بني أسد يا بني أسد ذببوا على بجيلة ومن لافها من الناس فخرج طليحة بن خويلد وحمال بن مالك الأسدي وغالب بن عبد الله والرفيل بن عمرو في كتائبهم فباشروا الفيلة حتى عزلها ركبانها وإن على كل فيل يومئذ عشرين رجلا

وقال موسى بن طريف قام طليحة في قومه حين استصرخهم سعد فقال يا عشيرتاه إن المنوه بإسمه الموثوق به أنتم وإن هذا يعني سعدا لو علم أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم لا ستغاثهم ابدؤهم الشدة وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعلهم شدوا ولا تصدوا وكروا ولا تفروا لله در ربيعة أي فري يفرون وأي قرن يغنون هل يوصل إلى مواقفهم فاغنوا عن مواقفكم أعانكم الله شدوا عليهم باسم الله فقام المعرور بن سويد وشقيق فشدوا والله عليهم فما زالوا يضربونهم ويطعنونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه فما ألبثه طليحة أن قتله
قالوا وقام الأشعث بن قيس فقال يا معشر كندة لله در بني أسد
أي فري يفرون وأي هذ يهذون عن موقفهم منذ اليوم أغنى كل قوم ما يليهم وانتم تنظرون من يكفيكم البأس أشهد ما أحسنتم اسوة أخوانكم من العرب وأنهم ليقتلون ويقتلون وانتم جثاة على الركب فوثب إليه منهم عشرة فقالوا عثر جدك إنك لتؤبسنا يا هذا نحن احسن الناس موقفا فمن أين خذلنا قومنا العرب واسأنا أسوتهم فها نحن معك فنهد ونهدوا فأزالوا الذين بإزائهم

ولما رأى أهل فارس ما تلقى الفيلة من كتيبة بني أسد رموهم بحدهم وبدر المسلمون الشدة عليهم وهم ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد فاجتمعت حلبة فارس فيهم ذو الحاجب والجالينوس على بني أسد ومعهم تلك الفيلة وقد ثبتوا لهم وكبر سعد التكبيرة الرابعة فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على بني أسد وحملت الفيول في الميمنة والميسرة على الخيول فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد وألح فرسانهم على الرجل وجد المقاتلة مع الفيلة فقال بعض الأسديين والله لأموتن أو لأطعنن عيني بعض هذه الفيلة فقصد لأعظمها فيلا فقاتل حتى وصل إليه وعلى كل فيل قوم يقاتلون فطعن في عين ذلك الفيل بسيفه وضربه سائس الفيل بعمود فهشم وجهه وأدبر الفيل فخبط من حوله واشتد القتال عند فيل منها فقال حبيش الأسدي لبشر بن أبي العوجاء الطائي أرى القتال قد أشتد عند هذا الفيل فتبايعني على الموت فنحمل على حماته فنكشفهم أو نقتل دونه قال نعم فحملا فضرب حبيش رجلا من الفرس من حماة الفيل فقتله ودنوا من الفيل فضرب حبيش مشفره فرمى به وضرب الطائي ساقه فبرك الفيل وانطوت الفرس على بني أسد فقتل حبيش
وأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو فقال يا معشر بني تميم ألستم أصحاب

الإبل والخيل أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة قالوا بلى والله ثم نادى عاصم في رجال من قومه رماة وأخر أهل ثقافة فقال يا معشر الرماة ذبوا ركبان الفيلة عنا ويا معشر أهل الثقافة استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها وخرج يحميهم والرحى دائرة على بني أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد وأقدم أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذنابها وذباب توابيتها فقطعوا وضنها فما بقي لهم يومئذ فيل إلا أعرى وقتل أصحابها وتقاتل الناس ونفس عن بني أسد وردوا عنهم الفرس إلى مواقفهم فاقتتلوا حتى غربت الشمس ثم حتى ذهبت هدأة من الليل ثم رجع هؤلاء وهؤلاء وأصيب من بني أسد تلك العشية خمسمائة وكانوا ردءا للناس وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم فهذا يوم القادسية الأول وهو يوم أرماث
وقال عاصم بن عمرو التميمي في ذلك
ألم يأتيك والأنباء تسري
بما لاقيت في يوم النزال
ولما أن تزايل مقرفوهم
عصينا القوم بالاسل الطوال
وعريت الفيول من التوابي
وعطلت الخيول من الرجال
ولولا ذبنا عمن يلينا
للج الجمع فعل الضلال
حمينا يوم أرماث حمانا
وبعض القوم أولى بالحمال
الوافر
وقال عمرو بن ساس الأسدي
( فلا وأبيك لا ينفك فينا من السادات حظ ما بقينا
ألسنا المانحين لدى قديس
جموع الفرس مرداة طحونا
ولسنا مثل من لاطرق فيه
ولكن غثنا يلفى سمينا
ونحن إذا يريح الليل أمرا
يهم الناس عصمة من يلينا
ومرقصة منعناها إذا ما
رأت دون المحافظة التقينا
نذكرها إذا ولهت بنيها
ونحميها إذا نحمي بنينا
إذا افترش النواحي بالنواجي
و كان القوم في الأبدان جونا
إذا ثار الغبار كأن فيه
إذا اصطفت عجاجته طحينا
وقد علمت بنو أسد بأنا
نضارب بالسيوف إذا غشينا
( ونحن فواري الهيجا إذا مارأيت الخيل مسندة عرينا ) الوافر

وذكر المدائني خبر هذا اليوم وقد أورد كثيرا مما أورده في تضاعيف الأخبار المتقدمة وفي بعض ما ذكره أن المسلمين هم الذين عبروا إلى الفرس خلافا لما تقدم ذكره أنه لما عزم الفريقان على اللقاء أرسل سعد إلى جرير والمغيرة وحنظلة فقال إنكم قد أصبحتم في دار قد أذل الله لكم أهلها فأنتم تطئونهم منذ سنتين وقد أتوكم في جمع لا أظنهم يريدون أن يزايلوكم حتى يفصل بينكم ولستم وهم سواء في دنيا تقاتلون عنها وقد خلفوا مثلها فإن فروا فروا إلى مثلها وأنتم تقاتلون عن دينكم فإن فررتم فررتم عنه إلى فيافي لا خير فيها وأنتم غرر قومكم إنكم إن ظهرتم عليهم كان لكم أبناؤهم ونساؤهم وإن تواكلتم لم يبقوا منكم باقية مخافة أن تعودوا عليهم والأرض من وراءكم قفر بسابس ليس لكم فيها معقل ولا ملجأ فاتقوا الله واصبروا وحضوا المسلمين وواسوهم وتنجزوا موعود الله فإنه قال ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ( 105 الأنبياء ) وقد وليت الحرب خالد بن عرفطة فالزموا السمع والطاعة ولاتهنوا ولاتفشلوا فتذهب ريحكم فخرجوا من عند سعد وقد استعد المشركون لقتالهم وهم وقوف يهابون العبور والإقدام فأرسل سعد إلى الناس لا تعبروا حتى آذن لكم وقد أخذ الناس العدة للقتال فوقفوا ينتظرون الإذن من سعد وحض رؤساء القبائل عشائرهم فلما طال وقوفهم ولم يأتهم إذن سعد قال جرير بن عبد الله أيها الناس ما تنتظرون أما تريدون أن تقاتلوهم إن لم يقاتلوكم وعبر النهر في بجيله فقال قيس بن مكشوح يا معشر مذحج قد تقدمكم أخوانكم فسابقوهم فوالله لا يسبق أحد اليوم إلا

أعطاه الله غدا على قدر سبقه في الدنيا وعبر قيس وعبر بعده عمرو بن معدي كرب وقال زهرة بن جوية يا بني تميم ما تنتظرون وقد مضى أخوانكم وعبروا واتبع الناس بعضهم بعضا فقال سعد اللهم أنهم عبروا ولم يستأمروني فاقض لهم بالنصر فصف المسلمون على ميمنتهم شرحبيل بن السمط وعلى ميسرتهم هاشم بن عتبة وعلى الخيل قيس بن مكشوح وعلى الرجالة المغيرة بن شعبة والمسلمون عشرة آلاف ويقال ما بين السبعة الآلاف إلى الثمانية عامة جثهم براذع الرحال قد عرضوا به الجريد يستترون بها وعلى رؤوسهم أنساع الرجال يطوي الرجل نسعة رحله على رأسه والمشركون ستون ألفا وقيل أكثر
وظاهر رستم بين درعين وقدم كتيبة عليهم الدروع والمغافر والأداة الكاملة فدفعوا إلى جعفي وقد تقدم خبرهم وأخرج رستم بعد ذلك كتيبة فيها الجالينوس فتقدم الجالينوس وقد اعتصب بعصابة ديباج معه ترس مذهب فتلقاه طليحة واختلفا ضربتين فوقعت ضربة الجالينوس في جحفة طليحة ووقع سيف طليحة في رأس الجالينوس قهشم البيضة وندرت عن رأسه وقد جرحه فولوا منهزمين إلى رستم فعظموا أمر العرب ليعذرهم وأخذ طليحة البيضة فنفلها فكانت قيمتها أربعمائة مثقال وأقبل قيس بن مكشوح يومئذ فوقف على المغيرة فقال ما رأيت كاليوم عديدا ولاحديدا فقال المغيرة إن هذا زبد من زبد الشيطان والله جاعل بعضه على بعض وحض المغيرة الناس وقال إن الكلام عند القتال فشل فالزموا الصمت ولا يزولن أحد منكم عن مركزه فإذا حركت رايتي فاحملوا فقال له رجل ما تنتظر قال اجلس فقال له رجل من بني مجاشع الله أكبر إني لأرى الأرض من خلل صفهم فكبروا واحملوا فقال له المغيرة اجلس وأقبل المغيرة على قيس بن مكشوح فقال احمل يا قيس فإني حامل ونكبني خيلك لا

أعرفنك إذا غلبت رجالي فيهم إن تجاوزها خيلك فإذا عضك السلاح رددتها على أعقابها في وجوه رجالي فيكون أشد عليهم من عدوهم وهز المغيرة رايته وحمل وأتبعه قيس فما وصلوا كتيبته حتى رجع فيهم طعنتين فقال طليحة يا بني أسد ما تستحيون الناس يقاتلون وانتم وقوف فحمل فقلت امرأة من بني أسد لبنيها وهم أربعة يا بني والله ما نبت بكم دار ولا أفحمتكم سنة ولقد أسلمتم طائعين وهاجرتم راغبين وجئتم بأمكم عجوزا كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس فقاتلوا عن دينكم وأمكم فوالله إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة فاشهدوا أشد القتال فحملوا فقالت اللهم احفظ في بني
وروى الشعبي أن هذه المرأة كانت من النخع وذكر حديثها بنحو ما تقدم إلى قولها كما أنكم بنو امرأة واحدة وزاد هاهنا ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره فأقبلوا يشتدون فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهي تقول اللهم ادفع عن بني فرجعوا إليها وقد احسنوا القتال فما كلم رجل منهم كلما
قال الشعبي فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء فيأتون أمهم فيلقونه في حجرها فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يصلحهم
وقد ذكر الزبير بن بكار نحو هذا عن الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية في بنين لها أربعة شهدت معهم حرب القادسية فقالت لهم من أول الليل يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين وذكرت من صونها لنسبهم نحو ما ذكر قبل ثم قالت لهم وقد تعلمون ما اعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظالها على سباقها وجللت نارا على أرواقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام

حميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة فخرج بنوها قابلين لنصحها فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم وأنشأ أولهم يقول
يا اخوتي إن العجوز الناصحة
قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
مقالة ذات بيان واضحه
فباكروا الحرب الضروس الكالحه
وإنما تلقون عند الصالحه
من آل ساسان كلابا نابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه
وأنتم بين حياة صالحه
أو موتة تورث غنما رابحه
الرجز
وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله ثم حمل الثاني وهو يقول
إن العجوز ذات حزم وجلد
والنظر الأوفق والرأي السدد
قد أمرتنا بالسداد والرشد
نصيحة منها وبرا بالولد
فباكروا الحرب حماة في العدد
إما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبد
في جنة الفردوس والعيش الرغد
الرجز
فقاتل حتى استشهد رحمه الله ثم وحمل الثالث وهو يقول
والله لانعصي العجوز حرفا
قد أمرتنا حدبا وعطفا
نصحا وبرا صادقا ولطفا
فبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل كسرى لفا
وتكشفوهم عن حماكم كشفا
الرجز
فقاتل حتى استشهد رحمه الله وحمل الرابع وهو يقول
لست لخنساء ولا لاخزم
ولا لعمر وذي السناء الأقدم
حميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة فخرج بنوها قابلين لنصحها فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم وأنشأ أولهم يقول
يا اخوتي إن العجوز الناصحة
قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
مقالة ذات بيان واضحه
فباكروا الحرب الضروس الكالحه
وإنما تلقون عند الصالحه
من آل ساسان كلابا نابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه
وأنتم بين حياة صالحه
أو موتة تورث غنما رابحه
الرجز
وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله ثم حمل الثاني وهو يقول
إن العجوز ذات حزم وجلد
والنظر الأوفق والرأي السدد
قد أمرتنا بالسداد والرشد
نصيحة منها وبرا بالولد
فباكروا الحرب حماة في العدد
إما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبد
في جنة الفردوس والعيش الرغد
الرجز
فقاتل حتى استشهد رحمه الله ثم وحمل الثالث وهو يقول

والله لانعصي العجوز حرفا
قد أمرتنا حدبا وعطفا
نصحا وبرا صادقا ولطفا
فبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل كسرى لفا
وتكشفوهم عن حماكم كشفا
الرجز
فقاتل حتى استشهد رحمه الله وحمل الرابع وهو يقول
لست لخنساء ولا لاخزم
ولا لعمر وذي السناء الأقدم
إن لم أرد في الجيش جيش العجم
ماض على الهول خضم خضرم
أما لفوز عاجل ومغنم
أو لوفاة في السبيل الأكرم
الرجز
فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه وعلى أخوته فبلغ الخبر أمهم فقالت الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجوا من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته فكان عمر رضي الله عنه يعطي الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة لكل واحد مائتي درهم حتى قبض رحمه الله
فهذا ما ذكره الزبير بن بكار والذي قبله ذكره المدائني رحمهما الله ولعل الخبرين صحيحان والله أعلم أي ذلك كان
ثم ذكر المدائني بعد من حسن بلاء بني أسد وانطواء الفرس عليهم في مجال الفيلة ما قد ذكرناه قبل في موضعه
وذكر أيضا أن الأشعث بن قيس قال عندما اشتد قتالهم لله در بني أسد أي فري يفرون وأنتم تنظرون يا معشر كندة
وقال زهرة بن جوية يا بني تميم قد صبر إخوانكم من بني أسد وأحسنوا فذودوا عنهم الفيلة وحماتها فحمل زهرة في بني تميم وجرير في بجيلة فكشفوا المشركين عن بني أسد وقد استشهد منهم خمسون رجلا وتحاجزوا قريبا من العصر فجمعوا بين الصلاتين ثم عاودوا القتال مطاردة ومشاولة حتى غابت الشمس
والتقى حنظلة بن الربيع الأسيدي وذو الحاجب فاختلفا طعنتين فصارا جميعا إلى الأرض فضرب حنظلة ذا الحاجب على رأسه فصرعه فحامت عنه الأساورة حتى ركب وحامى عن حنظلة القعقاع بن عمرو أحد بني يربوع وذريح أحد بني تيم اللات حتى ركب فقال ذريح
لما رأيت الخيل شك نحورها
رماح ونشاب صبرت جناحا
على الموت حتى أنزل الله نصره
وود جناح لو قضى فأراحا
كأن سيوف الهند حول لبانه
بوارق غيث من تهامة لاحا
الطويل

قال وأصيبت يومئذ عين المغيرة بن شعبة وتحاجزوا حين أمسوا فرجع المسلمون إلى عسكرهم ورجع رستم إلى عسكره هذا ما ذكره المدائني
ويقال إن القعقاع لم يشهد يوم أرماث هذا وإنما قدم من الشام بعد انقضائه فشهد سائر الأيام وأبلى فيها وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله
وذكر سيف عن بعض رجاله أن سعدا كان قد تزوج سلمى بنت خصيفة امرأة المثنى بن حارثة كما تقدم فنزل بها القادسية فلما كان يوم أرماث وجال الناس جعل سعد يتململ ويجول جزعا فوق القصر وكان لا يطيق جلوسا إلا على بطنه فلما رأت سلمى ما يصنع أهل فارس قالت وامثنياه ولا مثنى للخيل اليوم وهي عند رجل قد أضجره ما يرى من أصحابه ومن نفسه فلطم وجهها وقال أين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى يعني أسدا وعاصما وبجيلة فقال أغيرة وجبنا قال والله لا يعذرني أحد اليوم إذا أنت لم تعذريني وأنت ترين ما بي فالناس أحق ألا يعذروني
فلما ظهر المسلمون لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه وكان غير جبان ولا علوم رضي الله عنه
وكانت القادسية في شوال سنة خمس عشرة وإبتداء أيامها يوم الاثنين لثلاث ليال خلون من شوال أو لأيام بقين منه وقيل كانت في المحرم سنة أربع عشرة والأول أصح وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى

ذكر اليوم الثاني من أيام القادسية وهو يوم أغواث
قالوا ولما أصبح الناس من الغد يعنون الغد من يوم أرماث أصبحوا على تعبئة وقد وكل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب ونقل الرثيث فأما الرثيث فأسلموا إلى النساء يقمن عليهم حتى يقضي الله فيهم قضاءه وأما الشهداء فليدفنونهم هنالك على مشرق واد بين العذيب وبين عين شمس في عدوتيه جميعا وفي ذلك يقول سعد رحمه الله
جزى الله أقواما بجنب مشرق
غداة دعا الرحمن من كان داعيا
جنانا من الفردوس والمنزل الذي
يحل به ذو الخير ما كان باقيا
الطويل

وانتظر الناس بالقتال حمل الرثيث والأموال فلما استقلت بهم الإبل موجهة نحو العذيب طلعت عليهم نواصي الخيل من نحو الشأم وكان عمر رضي الله عنه قد أمر أبا عبيدة بن الجراح لما انقضى شأن اليرموك وفتح دمشق بصرف أهل العراق أصحاب خالد الذين قدم بهم عليه إلى العراق ولم يذكر له عمر خالدا فضن أبو عبيدة بخالد فحبسه وقد قيل إن عمر أمر بحبسه فأمسكه وسرح الجيش وهم ستة آلاف ألف من أبناء العرب من أهل الحجاز وسائرهم من ربيعة ومضر وأمر عليهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو أي التميمي فعجله أمامه وجعل على إحدى مجنبتيه قيس بن مكشوح المرادي ولم يكن شهد الأيام وإنما أتاهم وهم باليرموك حين صرف أهل العراق فصرف معهم وعلى المجنبة الأخرى الهزهاز بن
عدي العجلي فطوى القعقاع وتعجل فقدم على الناس صبيحة يوم أغواث وقد عهد إلى أصحابه أن ينقطعوا أعشارا وهم ألف فكلما بلغ عشرة مد البصر سرح في آثارهم وتقدم هو في عشرة فأتى الناس فسلم عليهم وبشرهم بالجنود وقال يا أيها الناس إني قد جئتكم في قوم والله لو كانوا بمكانكم ثم احسوكم لحسدوكم حظوتها وحاولوا أن يطيروا بها دونكم فاصنعوا كما أصنع فتقدم ثم نادى من يبارز فسكن الناس إليه وقالوا لقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يهزم جيش فيهم مثل القعقاع فخرج إليه ذو الحاجب فقال له القعقاع من أنت فقال أنا بهمن جاذوية فنادى بالتارت أبي عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر فاجتلدا فقتله القعقاع وجعلت خيله ترد قطعا وما زالت إلى الليل وتنشط الناس وكأن لم تكن بالناس مصيبة وكأنما استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبي وبلحاق القطع وانكسرت الأعاجم لذلك

وكان أول القتال قبل ان يقدم القعقاع المطاردة فلما قدم قال أيها الناس اصنعوا كما أصنع فنادى من يبارز فبرز له ذو الحاجب فقتله وآخر فقتله وخرج الناس من كل ناحية وبدأ الضرب والطعان ونادى القعقاع أيضا من يبارز فخرج إليه رجلان أحدهما البيزران والأخر البندوان فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان أحد بني تيم اللات فبارز القعقاع البيزران فضربه فأذرى رأسه وبارز ابن ظبيان البندوان فضربه فأذرى رأسه وحمل بنو عم القعقاع يومئذ عشرة عشرة من الرجال على إبل قد ألبسوها فهي مجللة مبرقعة وأطافت بهم خيولهم وأمروا أن تحمل تلك الإبل على خيل الفرس يشبهون بالفيلة التي أرسلت عليهم الفرس بالأمس فجعلت تلك الإبل لاتصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم وركبتهم خيول المسلمين فاستنوا بهم فلقي أهل فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث
ولم يقاتلوا في هذا اليوم على فيل كانت توابيتها قد تكسرت بالأمس واستأنفوا علاجها حين أصبحوا فلم ترتفع حتى كان من الغد ولم ير اهل فارس في هذا اليوم شيئا يعجبهم وأكثر المسلمون فيهم القتل
وقالوا قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين في ثلاثين حملة كلما حمل حملة قتل فيها وآزر القعقاع يومئذ ثلاثة من بني يربوع وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمون ويحمل ويحملون وقدم ذلك اليوم رسول لعمر رضي الله عنه بأربعة أفراس وأربعة أسياف ليقسمها سعد فيمن انتهى إليه البلاء إن كان لقى حربا فدعا حمال بن مالك والرفيل بن عمرو بن ربيعة الوالبين وطليحة بن خويلد الفقعسي وكلهم من بني أسد وعاصم بن عمرو التميمي فأعطاهم الأسياف ودعا القعقاع بن عمرو التميمي واليربوعيين وهم نعيم بن عمرو بن عتبان وعتاب بن نعيم بن عتاب وعمرو بن شبيب بن زنباع أحد بني زيد فحملهم على الأفراس فأصاب ثلاثة من بني يربوع ثلاثة أرباعها وأصاب ثلاثة من بني أسد ثلاثة أرباع السيوف فقال الرفيل في قطعة يذكر السيوف

لقد علم الأقوام أني أحقهم
إذا حصلوا بالمرهفات البواتر
الطويل
وقال القعقاع في شأن الخيل
ولم تعرف الخيل العراب سواءنا
عشية أغواث بجنب القوادس
الطويل
وذكر المدائني حرب هذا اليوم فخالف بعض ما تقدم وقال إن الناس لما اصبحوا غداة الثلاثاء عبر رستم إلى المسلمين بجنوده وفيلته من حين طلعت
الشمس إلى قريب من نصف النهار وأخذوا عدة الحرب وصافهم المسلمون وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم وعلى الميسرة هاشم بن عتبة وعلى الخيل المغيرة ابن شعبة وعلى الرجالة سلمة بن حديم فقال سعد بن عبيد الأنصاري يا أيها الناس إن الدنيا دار زوال وفتنة وأنتم منقلبون إلى دار الجزاء فلا يكونن شيء أحب إليكم من فراقها فإن ما عند الله خير للأبرار وتقدم أمام الناس فبرز له شهريار السجستاني فقتل كل واحد منهما صاحبه ثم طاردت الفرسان واقتتلوا حتى زالت الشمس وتحاجزوا وصلى المسلمون ثم عادوا إلى مصافهم فنصل من عسكر المشركين رجل يسأل المبارزة فبرز له زهرة بن جوية فقتله وحمل فوارس من المشركين على زهرة فعقروا به وندر سيفه من يده فقاتلهم راجلا يحثو في وجوههم التراب حتى توافت إليه خيل المسلمين فكشفوهم عنه وقد ذهبوا بسيفه فقال
فإن تأخذوا سيفي فإني محرب
خروج من الغلماء محتضر النصر
وإني لحام من وراء عشيرتي
أطاعن فيهم بالمثقفة السمر
الطويل
وقد روى غير المدائني هذا الشعر والخبر للأعرف بن الأعلم العقلي في هذا اليوم

وقال عمرو بن معدي كرب لقومه يا بني زبيد إني مخالط الجمع فانظروني قد نحر جزور وتعسيرها ثم اطلبوني فإنكم تجدوني وسيفي في يدي أقاتل به قدما لاأزول وفي رواية فإن تأخرتم عني فقد فقدتم أبا ثور وأين لكم مثل أبي ثور وحمل حتى خالطهم فستره الغبار فقال بعض الزبيديين أيا بني زبيد علام تدعون صاحبكم وقد توسط جمع المشركين والله ما أرى أن تدركوه حيا وإن فقدتموه فقد المسلمون فارسهم فحملوا وحمل الناس حملة واحدة فانتهوا إليه وقد رمى فرسه بنشابة فسب فصرعه وعار وأخر عمرا
عنه المشركون وذلك بعدما طعنوه وإن سيفه لفي يده يضاربهم به فلما رأى أصحابه أخذ برجل فرس اسوار فاحتبسه وإن الفارسي ليضرب فرسه فما يتحرك فلما غشيه الجمع رمى بنفسه وخلا فرسه فركبه عمرو وقال أنا أبو ثور كدتم تفقدونني وثبت عمرو يقاتل فارسا وراجلا إذا قاتل راجلا شد مقود فرسه في وسطه وقاتل
وتزاحف الناس فقال رجل من المسلمين لرجل من الأنصار أعرني ترسك قال ما بي عنه غنى ولكن أي أتراس العجم تريد أتيتك به إن شاء الله فأشار له إلى ترس مذهب فحمل فلم يزل يقاتل حتى خلص إلى صاحب الترس فقتله واستلب ترسه فأتى به صاحبه فقال دونك
وصار الناس إلى السيوف فقاتلوا حتى أعتموا وتحاجزوا عند العتمة عن قتلى وجرحى كثير في الفريقين وقتل يومئذ رجل من طيء يكنى أبا كعب رجلا من المشركين وأخذ قلنسوته فلبسها وأقبل يعدو به فرسه وهو يقاتل فنظر إليه رجل من بجيلة يقال له مضرس وهو يقاتل فظن أنه من الفرس فطعنه فقال بسم الله قتلتني فقال مضرس إنا لله وعانقه فقال غفر الله لك يا أخي فبكى مضرس واحتمل أبو كعب فقال سعد الشهادة لا تقاد ولا كل ميتة مظنون غيرها ولكن من أحب أخذ الدية فكان مضرس يأتيه يعوده فيبكي حتى تبل دموعه لحيته ويقول أبو كعب غفر الله لك يا أخي
وقال أبو كعب
لعمري لقد ثارت رماح مضرس
بعلج هوى في الصف من آل فارس
الطويل

ثم مات أبو كعب بعد أيام من تلك الطعنة وصفح وليه عن الدية
ويروى أنه عرض مثل هذا بعينه لرجل آخر من طيء أيضا يقال له
بجير بن عميرة وكان أحمر شبيها بالعجم فاستلب رجلا من أهل فارس رايته فأقبل بها فبصر به رجل من كندة يدعى فروة فحمل عليه فطعنه فأصاب مقتله فنادى بجير بسم الله فاعتنقه فروة فأتيا سعدا فقال لهما أن الشهادة لا ثواب لها في الدنيا ولكن كفوا العجلات
وخرج يومئذ رجل من أهل فارس ينادي من يبارز فبرز له علباء بن جحش العجلي فبعجه علباء فأصاب سحره وبعج الفارسي علباء فخرق أمعاءه وخرا جميعا فأما الفارسي فمات من ساعته وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه فلم يستطع القيام فعالج ادخالها فلم يتأت له حتى مر به رجل من المسلمين فقال له يا هذا أعني على بطني فأدخله له فأخذ بصفاقيه ثم زحف نحو صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صف فارس فقال
أرجو بها من ربنا الثوابا
قد كنت ممن يحسن الضرابا
الرجز
قالوا وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف الليل فكانت ليلة أرماث تدعى ليلة الهدأة وليلة أغواث تدعى ليلة السواد والنصف الأول يدعى السواد ثم لم يزل المسلمون يرون في يوم أغواث الظفر على فارس وقتلوا فيه عامة أعلامهم وجالت خيل القلب وثبت رجلهم فلولا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا فلما ذهب السواد تفايأ الناس وباتوا على مثل ما بات القوم عليه ليلة أرماث ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا إلى أن تفايأوا فلما امسى سعد وسمع ذلك نام وقال لبعض من عنده إن تم الناس على الإنتماء فلا توقظوني فإنهم أقوياء على عدوهم وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظوني فإنهم على التساوي فإن سمعتم ينتمون فأيقظني فإنما إنتماؤهم من السوء

قالوا ولما اشتد القتال بالسواد وكان أبو محجن قد حبس وقيد فهو في القصر صعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله فزبره سعد ورده فنزل وأتى سلمى بنت خصفة فقال لها يا بنت خصفة هل لك إلي خير قالت وما ذاك قال تخلين عني وتعيرنني البلقاء فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي وإن أصبت وخشيت هذا فما أكثر من يفلت ويجرب صاحبه فقالت وما انا وذاك فرجع يرسف في قيوده ويقول
كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا
وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت
مصاريع من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وأخوة
فقد تركوني واحدا لا أخا ليا
ولله عهد لا أخيس بعهده
لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا
الطويل
فقالت سلمى إني استخرت الله ورضيت بعهدك فأطلقته وقالت أما الفرس فلا اعيرها ورجعت إلى بيتها فاقتاد أبو محجن الفرس فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها قيل بسرجها وقيل عريا ثم ذبب عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة فكبر وحمل على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبرز أمام الناس فحمل على القوم يلعب بين صفين برمحه وسلاحه وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا ويعجب الناس منه وهم لايعرفونه ولم يروه من النهار فقال بعضهم أوائل أصحاب هاشم بن عتبة أوهاشم نفسه

وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر والله لولا محبس أبي محجن الثقفي لقلت إن هذا أبو محجن وهذه البلقاء وقال بعض الناس إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن أن صاحب البلقاء الخضر وقال آخرون والله لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا ملك بيننا ولا يذكر الناس أبا محجن ولا يأبهون له لمبيته في محبسه فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس وتراجع المسلمون وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج فوضع عن نفسه وعن دابته واعاد رجله في قيده وقال
لقد علمت ثقيف غير فخر
بأنا نحن أكثرهم سيوفا
وأكثرهم دروعا سابغات
وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وانا وفدهم في كل يوم
فإن عيوا فسل بهم عروفا
وليلة قادس لم يشعروا بي
ولم أشعر بمخرجي الزحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائي
وإن أترك أذيقهم الحتوفا
الطويل فقالت له سلمى في أي شيء حبسك هذا الرجل قال اما والله ما حبسني لحرام أكلته ولا شربته ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية وأنا أمرؤ شاعر يدب الشعر في لساني وينبعث على شفتي فيساء لذلك ثنائي فعلى ذلك حبسني قلت
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت أن لاأذوقها
الطويل
ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث وليلة الهدأة وليلة السواد حتى إذا أصبحت أتته فصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبي محجن فدعا به فأطلقه وقال اذهب فما أنا بمؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله قال لاجرم والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبدا
حديث يوم عماس وهو اليوم الثالث من أيام القادسية

قالوا وأصبح المسلمون من اليوم الثالث وهم على مواقفهم وأصبحت الأعاجم كذلك وبين هؤلاء وهؤلاء قدر ميل في عرض ما بين الصفين وقد قتل من المسلمين ألفان بن رثيث وميت ومن المشركين عشرة آلاف وقال سعد من شاء غسل الشهيد الميت والرثيث ومن شاء فليدفنهم بدمائهم وجعلهم المسلمون وراء ظهورهم وأقبل الذين يحملونهم إلى القبور يتبعون القتلى ويبلغون الرثيث إلى النساء وكان النساء والصبيان يحفرون المقابر في اليومين يوم أرماث ويوم أغواث بعدوتي مشرق وكان في الطريق أصل نخلة بين القادسية والعذيب ليس بينهما يومئذ نخلة غيرها فكان الرثيث إذا انتهى بهم إليها وأحدهم يعقل سألهم أن يقفوا به تختها يستروح إلى ظلها فمر حاجب بن يزيد وكان على الشهداء بتلك النخلة مع بعض الشهداء وولاتهم ورجل من الجرحى من طيء يدعى بجيرا يقول وهو مستظل بظلها
ألا يا آسلمى يا نخلة بين قادس
وبين العذيب لا يجاورك النخل
الطويل
وآخر من بني ضبة أو من بني ثور يدعى غيلان وهو يقول
ألا يا آسلمى يا نخلة فوق جرعة
يجاورك الجمان والرمث والرغل
الطويل
قالوا وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه بالأمس ثم قال إذا طلعت لكم الشمس فأقبلوا مائة مائة وكلما توارث عنكم مائة فليتبعها مائة فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا ففعلوا ولا يشعر بذلك أحد وكان مكانهم مما صنع الله للمسلمين فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل طلعت نواصيها فكبر وكبر الناس وقالوا جاء المدد

وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها فجاءوا من قبل خفان فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب فاختلف الطعن والضرب ومدد المسلمين متتابع فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى إنتهى إليهم هاشم وقد طوى في سبعمائة فأخبروه برأي القعقاع وما صنع في يومه فعبأ أصحابه سبعين سبعين فلما نجز آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم في سبعين معه فيهم قيس بن هبيرة المرادي وهو ابن المكشوح فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب كبر وكبر المسلمون وقد أخذوا مصافهم وقال هاشم أول القتال المطاردة ثم المراماة فأخذ قوسه فوضع سهما ثم نزع فرفعت فرسه رأسها فخل أذنيها فضحك وقال وأسوأتاه من رمية رجل ينتظره كل من رآه أين ترون سهمي كان بالغا فقيل العتيق فنزقها وقد نزع السهم عن أذنيها ثم ضربها فأقبلت تخرقهم حتى عاد إلى موقفه وقيل إنه نزل عن فرسه وفعل ذلك راجلا فالله أعلم
وما زالت مقانبة تطلع وقد بات المشركون في علاج توابيتهم حتى أعادوها على الفيلة فأصبحوا على مواقفهم وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وضنها ومع الرجالة فرسان يحمونهم إذا أرادوا كتيبة دلفوا إليها بفيل
واتباعه لينفروا بهم خيلهم فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه احد كان أوحش وإذا طافوا به كان آنس فكان الفيل كذلك حتى عدل النهار
ولما قدم قيس بن المكشوح مع هاشم قام فيمن يليه فقال يا معشر العرب إن الله عز وجل قد من عليكم بالإسلام وأكرمكم بمحمد {صلى الله عليه وسلم} فأصبحتم بنعمتة أخوانا دعوتكم واحدة وأمركم واحد بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد ويختطف بعضكم بعضا اختطاف الذئاب فانصروا الله ينصركم وتنجزوا من الله تعالى فتح فارس فإن أخوتكم من أهل السام قد أنجز الله تعالى لهم فتح الشام وانتثال القصور الحمر والحصول الحمر

وخرج يوم عماس رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى من يبارز فخرج إليه رجل من المسلمين يقال له شبر بن علقمة وكان قصيرا دميما فقال يا معشر المسلمين قد أنصفكم الرجل فلم يجبه أحد ولم يخرج إليه أحد فقال أما والله لولا أن تزدروني لخرجت إليه فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه وجحفته ثم تقدم فلما رآه الفارسي هدر ثم نزل إليه فاحتمله فألقاه ثم جلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه ومقود فرسه مشدود بمنطقته فلما استل السيف حاص الفرس حيصه فجذبه المقود فقلبه عنه فقام إليه وهو يسحب فافترسه فجعل أصحابه المسلمون يصيحون به فقال صيحوا ما بدا لكم فوالله لا أفارقه حتى أقتله ثم أسلبه فذبحه وسلبه ثم أتى سعدا بالسلب فنفله إياه فباعه باثنى عشر ألفا
قالوا ولما رأى سعد الفيلة تفرق الناس وعادت لفعلها يوم أرماث سأل هل لها مقاتل فقيل له نعم المشافر والعيون لا تنتفع بها بعدها فأرسل إلى القعقاع وأخيه عاصم أن اكفياني الفيل الأبيض وكان بإزائهما فأخذ القعقاع وعاصم رمحين أصمين لينين ودنوا في خيل ورجل وقالا اكتنفوه لتحيروه وفعل الآخران مثل ذلك فلما اكتنف الفيلان نظر كل واحد منهما يمنة ويسرة وهما يريدان أن يتخبطا فحمل القعقاع وعاصم والفيل الأبيض متشاغل بمن حوله فوضعا رمحيهما معا في عينيه وقبع ونفض رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره فنفحه القعقاع ورمى به ووقع لجنبه وقتلوا كل من كان عليه وقال حمال لصاحبه وقد قصدا إلى الفيل الأجرب إما أن تضرب المشفر وأطعن في عينهأو طعن في عينه وأضرب مشفره فاختار صاحبه الضرب فحمل عليه حمال وهو متشاغل بملاحظة من اكتنفه لا يخاف سائسه إلا على بطانه فطعنه في عينه فأقعى ثم استوى فنفحه الآخر فأبان مشفره وبصر به السائس ففقر أنفه وجبينه بفأسه

ويروى أن الفيلين صاحا عند ذلك صياح الخنزير ثم ولى الأجرب الذي عور فوثب في العتيق فأتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم فعبرت العتيق في أثره فبيتت المدائن في توابيتها وهلك من فيها
وقيل إنه بقي منها الفيل الأبيض لم يبق في المعركة غيره وإن الناس رشقوا مشافر الفيلة فعند ذلك انبعث الفيل الآخر فلم تنته عن المدائن وكانت تفعل بالناس الأفاعيل فاستقام للناس بعدها وجه القتال وخلصوا بأهل فارس فاجتلدوا على جرد بالسيوف حتى أمسوا وهم في ذلك على السواء
فكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدا العرب والعجم فيه على السواء
ولايكون بينهم لفظة إلا تقاولها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرد بالمدائن إذ كان أمر رستم بأن يرتب الرجال على الطريق بينهما ليبلغه بالتنادي ما يطرأفي العسكر من حينه فيرسل إليهم أهل النجدات ممن بقي عنده فيتقوون بهم وأصبحت عنده للذي لقى بالأمس الأمداد على البرد فلولا الذي صنع الله للمسلمين في الذي ألهم إليه القعقاع في اليومين وما أتاح لهم بهاشم لكسر ذلك المسلمين
وأصيب يومئذ مؤذن سعد بن أبي وقاص فتشاح الناس على الأذان حتى كادوا يجتلدون بالسيوف فأقرع بينهم سعد
قالوا ولما أمسى الناس من يومهم ذلك وأطعنوا إلى الليل واشتد القتال فصبر الفريقان فخرجا على السواء فلم يسمع إلا الغمائم من هؤلاء وهؤلاء فسميت ليلة الهرير لم يكن بعدها قتال بليل في القادسية

وجدد المشركون في تلك الليلة تعبئة وأخذوا في أمر لم يكونوا عليه في الأيام الثلاثة وبقي المسلمون على تعبئتهم فخرج مسعود بن مالك الأسدي وقيس بن هبيرة المرادي وهو ابن المكشوح وأشباههم فطاردوا القوم وحركوهم للقتال فإذا هم فيه أمة لايشهدون ولا يريدون إلا الزحف فقال قيس بن مكشوح لمن يليه ولم يشهد شيئا من لياليها إلا تلك الليلة إن عدوكم قد أبى إلا المزاحفة والرأي رأي الأمير وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجال فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم فتيسروا للحملة
قال دريد بن كعب النخعي وكان معه لواء النخع إن المسلمين قد تهيئوا للمزاحفة فاسبقوا المؤمنين الليلة إلى الله والجهاد فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه فنافسوهم في الشهادة وطيبوا بالموت أنفسا فإنه لا
نجاء من الموت إن كنتم تريدون الحياة وإلا فالآخرة ما أردتم
وقال الأشعث بن قيس يامعشر العرب إنه لاينبغي ان يكون هؤلاء أجرأ على الموت ولا أسخى أنفسا عن الدنيا منكم تنافسوا ولا تجزعوا من القتل فأنة أماني الكرام ومنايا الشهداء وترجل
وقال حنظلة بن الربيع وأمراء الأعشار ترجلوا أيها الناس وافعلوا كما نفعل ولا تجزعوا مما لابد منه فالصبر أنجى من الجزع
وفعل طليحة وغالب أهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك
وقال أنس بن الجليس ليلة الهرير فكان صليل الحديد فيها كضرب القيون ليلتهم حتى الصباح أفرغ عليهم الصبر افراغا
وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها ورأى العرب والعجم أمرالم يروا مثلة قط وانقطعت الأصوات والأخبار عن سعد ورستم فبعث سعد في تلك الليلة نجادا وهو غلام إلى الصف إذ لم يجد رسولا فقال انظر ماذا ترى من حالهم فرجع إليه فقال ما رأيت يابنى فقال رأيتهم يلعبون فقال أويجدون فأقبل سعد على الدعاء حتى إذاكان في وجه الصبح انتمى الناس فاستدل سعد بذلك على أنهم الأعلون وأن الغلبة لهم

قال بعضهم أول شى ء سمعه سعد ليلتئذ ممايستدل به على الفتح في نصف الليل الباقي صوت القعقاع بن عمرو وهويقول
نخن قتلنا معشرا وزائدا
أربعة وخمسة وواحدا
تحسب فوق البلد الأساودا
حتى إذا ماتوا دعوت واحدا
الله ربي واحترزت جاهدا
الرجز
فاستدل سعد بهذا وربما سمع معه من غير القعقاع من الإنتماء واتسع له الرجاء فسمع عمرو بن معدي كرب يقول أنا ابن أسلة وطليحة يقول أنا ابن ليلى وسعد بن عمارة يقول أنا ابن أروى ثم سمع الانتساب من كل ناحية خذها وأنا الغلام الجرمي من النخع خذها وأنا الغلام المالكي من بني أسد خذها وأنا الغلام الأسعدي من عجل فأصبحوا والناس على مواقفهم متحاجزين فصلى المسلمون الغداة وقضوا من شأنهم
خبر اليوم الرابع من أيام القادسية
وهذا هو آخر أيامها ويسمى من بينها يوم القادسية وفية قتل الله رستم وأتم الفتح للمسلمين
قالوا وأصبح الناس ذلك اليوم حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها فسار القعقاع في الناس فقال إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ اليوم فاصبروا واحملوا فإن النصر مع الصبر فاجتمع إليه هلال بن علفة ومالك بن ربيعة والكلح الضبي وضراربن الخطاب وابن الهذيل وغالب وطليحة وعاصم بن عمرو ابن ذي البردين وأمثالهم ممن اختصر ذكره ومعهم عشائرهم ثم صمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح
ولما رأت ذلك القبائل قام فيهم رجال منهم فقالوا لايكونن هؤلاء أجد في أمرالله تعالى منكم ولا أسخى نفسا عن الدنيا تنافسوها فحملوا مما يليهم حتى خالطوا الذين باءزائهم
وقام في ربيعة عتبة بن النهاس وفرات بن حيان والمعنى بن حارثة وسعيد بن مرة في امثالهم فقالوا أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم

واقتتل الناس إلى أن انفرج قلب المشركين حين قام قائم الظهيرة ؤقد ركد عليهم النقع واشتد الحر وسقفتهم الشمس فهبت ريح عاصف فقلعت طيارة رستم عن سريرة فهوت في العتيق فانتهى القعقاع وأصحابة إلى السرير فعثروا به وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قدمت عليه يومئذ
بمال فهي واقفة فاستظل في ظل بغل منها وحمله وضرب هلال بن علفة العدل الذي على البغل الذي رستم تحتة فقطع حباله فوقع عليه أحد العدلين ولا تراه هلال ولا يشعر به فأزال من ظهره فقارا ويضربه ضربة فنفحت مسكا ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه فاقتحمه عليه هلال فتناوله وقد عام فأخرجه ثم ضرب جبينه بالسيف حتى قتله ثم جاء به فرمى به بين أرجل البغال وصعد السرير ثم نادى قتلت رستما ورب الكعبة إلي إلي فأطافوا به ما يحسون السرير وما يرونه وكبروا وتنادوا وانبت قلب المشركين عندها وانهزموا وقام الجالينوس على الردم ونادى أهل فارس إلى العبور وانسفى الغبار فأما المقترنون فإنهم خشعوا فتهافتوا في العتيق فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر وهم ثلاثون الفا

وأخذضرار بن الخطاب درفش كابيان راية كسرى فعوض عنها ثلاثين ألفا وكانت قيمتها ألف ألف ومائتي ألف وقتلوا في المعركة من الليل يعني ليلة الهرير عشرة آلاف سوى من قتلوا في تلك الثلاثة الأيام وأكب المسلمون على من ثبت لهم وعلى من سفل منهم عن الردم ومن ارتفع عنه فقتلوا منهم ستين ألفا فقتلوا يوم القادسية مائة ألف سوى من قتلوا في الأيام قبلة قالوا فلما انكشف أهل فارس فلم يبق منهم بين الخندق والعتيق أحد وطبقت القتلى ما بين قديس والعتيق أمر سعد زهرة بن جوية باتباعهم فنادى زهرة في المقدمات وساروا وأمر سعد القعقاع بمن سفل وشرحبيل بمن علا وأمر خالد بن عرفطة بسلب القتلى وبدفن الشهداءفدفن شهداءليلة الهرير ويوم القادسية ألفين وخمسمائة وقيل ثلاثة آلاف من وراء العتيق بحيال مشرق ودفن شهداءالأيام الثلاثة قبل ذلك على مشرق ويقال كانوا ألفين وخمسمائة وجمعت الأسلاب والأموال فجمع منها شيءلم يجمع قبله ولابعده
وأرسل سعد إلى هلال بن علفة فدعا له فقال أين صاحبك يعني رستما قال رميت به تحت بغل فقال أذهب فجيء به فذهب فجاء به فقال له سعد جرده إلا ما شئت فخذ سلبه فلم يدع عليه شيئا ويقال إنه باع الذي سلبه بسبعين ألفا وكان قد تخفف حين وقع في الماء ولم توجد قلنسوته وكانت قيمتها مائة ألف

وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد فرأوا رستما ببابه مطروحا فقالوا أيهالأمير رأينا جسد رستم على باب قصرك وعليه رأس غيره وكان الضرب قد شوهه فضحك سعد وخرج زهرة في آثار أهل فارس فانتهى إلى الردم وقد تبعوه ليمنعوهم به من الطلب فقال زهرة لبكير بن عبد الله الليثي وهوالذي يقال له فارس أطلال وهو اسم فرس له كان يعرف بها يابكير أقدم وكان يقاتل على الإناث فضرب فرسه وقال ثبي أطلال فتجمعت وقالت وثبا وسورة البقرة ثم وثبت ووثب زهرة وكان على حصان وتتابع ذلك ثلاثمائة فارس فلحق زهرة بالقوم والجالينوس في آخرهم يحميهم فشاوله زهرة فاختلفا ضربتين فقتله زهرة وأخذ سلبه وقتل أولئك الفرار ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف ورجع زهرة في أصحابه حين أمسوا فباتوا في القادسية ولما رجع القعقاع وشرحبيل إلى سعد قال لشرحبيل أغد في طلب القعقاع وقال القعقاع أغد في طلب شرحبيل فعلا هذا وسفل هذا حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية قال الشعبي خرج القعقاع وأخوه وشرحبيل في طلب من ارتفع وسفل فقتلوهم في كل قرية وأجمة وشاطئ نهر ورجعوا فوافوا صلاة الظهر وهنأ الناس أميرهم و أثنى على كل حي خيرا وذكره منهم وقال في ذلك هلال بن علفة
جدعت أنوف العجم يوم لقيتهم
برستم والجمعان في أشغل الشغل
فضضت به رض الصفوف فقوضت
صفوفهم والحرب جامحة تغلي
الطويل
وقال الشماخ في قصيدة يرثي بكير بن عبد الله فارس أطلال ويذكر ما كان من فرسه في وثبتها المذكورة قبل
وغيب عن خيل بموقان أسلمت
بكير بني الشداخ فارس أطلال
غداة اقتحام القوم من بعد نطقها
وحلفتها عرض العتيق بادلال
الطويل
ولما قتل زهرة الجالينوس وأخذ سلبه جاء به إلى سعد فعرفه الأسارى الذين كانوا عند سعد وقالوا هذا سلب الجالينوس وكان سيدا من ساداتهم وعظيما من عظمائهم فقال سعد لزهرة هل أعانك عليه أحد قال نعم قال من قال الله عز وجل فنفله إياة

وقيل إنما جاء بالسلب وقد لبسه فانتزعه منه سعد وقال ألا انتظرت إذني وكتب فيه إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر أن يمضي لزهرة ذلك السلب وعاتب سعدا في كتابه وقال له تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به وبقي عليك مابقي من حربك تكسر قرنه وتفسد قلبه
ويروى ان سعدا استكثر له السلب فكتب فيه إلى عمر فكتب إليه إني قد نفلت من قتل رجلا سلبه فدفعه إليه سعد فباعه بسبعين ألفا
وقال زهرة في قتل الجالينوس
تبعنا جيوش الجالينوس وقد رأى
بعينه أمرا ذا إياس منكرا
لحقنا به نرمي الكرانيف سادرا
ويعجب إذخلى الجموح وشمرا
فوليته لما التقينا مصمما
أراه محياالموت أحمر أصفرا
الطويل
وقال سيف عن رجاله ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة استحيوا من الفرارفصمد لهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين لكل كتيبة منها رأس
من رؤساء المسلمين فأباد الله تلك الكتائب يومئذ
وقال سعيد بن المرزبان أصاب أهل فارس يومئذ بعدما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم قتلوا حتى أن كان الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه فيضرب عنقه وحتى أنه ليأخذ سلاحه فيقتله به وحتى أنه ليأمر أحدالرجلين منهم بقتل صاحبه
وقال بعض من شهدها أبصر سلمان بن ربيعه الباهلي أناسامن الأعاجم تحت راية لهم قدحفروا لهاوجلسواتحتها وقالوا لا نبرح حتى نموت فحمل عليهم فقتلهم وسلبهم وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية وأحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت وكذلك أخوه عبد الرحمن بن ربيعة ذو النور مال على آخرين قد تكتبوا ونصبوا للمسلمين فطحنهم بخيله وقال الشعبي كات يقال لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور
وقال بعض بني معرض مارأينا مثل أهل القادسية هزمناهم فأتبعناهم وهم على خيولهم كأنها في طين ونحن على أرجلنا كأنا ظباءولقد أدركنا رجلا يعدو بة فرسه فصحنا به فلم يتحرك فأخذناه أسيرا

قال أبو وائل وشهدها لقد سمعت الفرس يقولون ما تقطع سيوفنا الشعر ولقد نزع منا النصر وقال الأسود النخعي شهدت القادسية فلقد رأيت غلاما منا من النخع يسوق ستين أوثمانين رجلا من أبناء الأحرار وأتى رجل سعدا فقال تجعل لي ثلث ما أجيئك به قال نعم فأتاه بأساورة قد أسرهم فقال له سعد كيف
أخذت هؤلاء وحدك قال صحت بهم وهم منهزمون فوقفوا لم يمتنع منهم أحد فجعل سعد يتعجب
وكان سعد أجرأ الناس وأشجعهم إنه نزل قصرا غير حصين يشرف منه على الناس ويرى قتالهم وصف المسلمين إلى أصل حائط القصر ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذوا برمته فوالله ما كربه هول تلك الأيام ولا أغلقه ودخل إليه في اليوم الرابع رجل من بجيلة فقال أبا إسحاق إن الناس قد جبنوك وقالوا لم يمنعك من الخروج الوجع قال ما أخاف ذلك على نفسي أوما ترى ما بي وسأخرج وكان به حبون ودماميل لا يستطيع أن يقر لها إلا مكب على صدره فركب فرسا فانتهى إلى باب القصر وقد تبوأ فيه حمام فطرنا فنفر الفرس فشب فانفجر ما كان من قروحه وخرج فوقف وحض المسلمين وقال لا تكون هذه الأعاجم أصبر على المقارعة منكم واعلموا ان القوم ملوا إن كنتم مللتم فنشط الناس وفي حديث غير هذا أن جريرا البجلي قال في ذلك اليوم
أنا جرير كنيتي أبو عمرو
قد نصر الله وسعد في القصر
الرجز
وقال رجل من المسلمين أيضا
نقاتل حتى أنزل الله نصره
وسعد بباب القادسية معصم
فأبنى وقد أمت نساء كثيرة
ونسوة سعد ليس فيهن أيم
الطويل
فلما بلغ ذلك من قولهما سعدا خرج إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح في فخذيه فعذره الناس وقال سعد يجيب جريرا من أبيات
وما أرجوا بجيلة غير أني
أؤمل أجرهم يوم الحساب
الوافر

وفي حديث يروى عن قيس بن أبي حازم وكان شهد تلك الحرب أن الفرس لما إنهزموا لحقوا بدير قرة وما وراءه ونهض سعد بالمسلمين حين نزل بدير قرة على من هناك من الفرس وقدم عليه بالدير عياض بن غنم في ألف رجل من الشام مددا لهم فأسهم لهم سعد مع المسلمين في ما أصابوا بالقادسية ثم أن الفرس هربت من دير قرة إلى المدائن يريدون نهاوند واحتملوا معهم الذهب والفضة والديباج والفرنت والحرير والسلاح وثياب كسرى وخلوا ما سوى ذلك وأتبعهم سعد الطلب فبعث خالد بن عرفطة ووجه معه عياض بن غنم في أصحابه وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة وعلى ميمنتهم جرير بن
عبد الله وعلى الميسره زهرة بن جوية وتخلف سعد لما به من الوجع فلما أفاق من وجعه أتبع الناس بمن بقي معهم من المسلمين حتى أدركهم دون دجلة فلما وضعوا على دجلة العسكر والأثقال طلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها حتى أتى سعدا علج من أهل المدائن فقال أدلكم على طريق تدركونهم قبل ان يمنعوا فخرج بهم على مخاضة بقطربل فكان أول من خاضها هاشم واتبعه خيله ثم جاز خالد بن عرفطة بخيله وتتابع الناس فخاضوا حتى جاوزوا فزعموا أنه لم يهتدي لتلك المخاضة بعد ثم ساروا حتى انتهوا إلى مظلم ساباط فأشفق الناس أن يكون به كمين للعدو فتردد الناس وجبنوا عنه فكان أول من دخله بجيشه هاشم فلما جاز الاح للناس بسيفه فعرف الناس أن ليس به شيء يخافونه فأجاز بهم خالد بن عرفطة ثم لحق سعد بالناس حين انتهوا إلى جلولاء وبها جماعة من الفرس فكانت وقعة جلولاء بها فهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها أفضل مما أصابوا بالقادسية وأصيبت إبنة لكسرى يقال لها من جانت ويقال ابنة ابنه وقال شاعر من المسلمين
يارب مهر حسن مطهم
يحمل أثقال الغلام المسلم
ينجو إلى الرحمن من جهنم
يوم جلولاء ويوم رستم
ويوم زحف الكوفة المقدم
ويوم لافي حدفه مهزم
وخر دين الكافرين للفم
الرجز

وفي كتاب المدائني عن أبي وائل قال هزمناهم يعني يوم القادسية حتى انتهوا إلى الفرات فقاتلونا عليه فهزمناهم حتى انتهوا إلى الصراة فقاتلونا عليها فهزمناهم حتى انتهوا إلى المدائن فدخلوها ونزل المسلمون دير السباع فجعلنا
نغاديهم فنقاتلهم فقال المسلمون هؤلاء في البيوت ونحن في الصحراء اعبروا إليهم فعبرنا إليهم فحصرناهم في الجانب الشرقي حتى أكلوا الكلاب والسنانير فخرجوا على حامية معهم الأثقال والعيال حتى نزلوا جلولاء الوقعية وتبعناهم فقاتلوا بها قتالا شديدا عن العيال والذراراي فجال المسلمون جولة فناداهم سعد يا معشر المسلمين أين أين أما رأيتم ما خلفكم أتأتون عمر منهزمين فعطفوا وهزم الله المشركين وسميت جلولاء الوقعية فتح الفتوح وسيأتي عبد ذكر فتح جلولاء والمدائن على التمام بعد انقضاء بقايا الأخبار عن شأن القادسية ومغانمها إن شاء الله تعالى
قال الشعبي بلغ الفيء بالقادسية ستمائة ألف ألف وكان خمسها عشرين ومائة ألف ألف وكان الملك يزدجرد بن كسرى قد حمل نصف الأموال إلى أهل فارس بالقادسية ليتوردوا بها بلاد العرب وليغزوا عمر رضي الله عنه في داره وقراره فعل مقتدر مغرور وأمر الجنود أن يحضروا الحرب بأموالهم وأن يختلفوا ليكون أجد لهم في الامتناع والمخاطرة لدنياهم فاجتمعت معهم من الأموال والزين والشارات على قدر أحسابهم مالا يحصى وكان سبب ذلك ما قضى الله عز وجل للمسلمين فساقه إليهم وكان يزدجرد قد استبقى النصف من الأموال وأقره في بيت المال على حاله فأفاءه الله على المسلمين يوم المدائن
وذكر المدائني أن المسور بن مخرمة أصاب يوم القادسية إبريق ذهب عليه يا قوت فقال له بعض الفرس آخذه منك بعشرة آلاف فأبى وأتى به سعدا فباعه بمائة ألف

وقال مخنث بن سليم إني لفي طلب المشركين يومئذ إذ لحقت رجلين أحدهما على فرس والآخر على بغل ثم ذكر حديثا إنتهى فيه إلى أن فاته صاحب الفرس ولحق بصاحب البغل فأخذه قال وأنا أريد ان آتي به سعدا وما من رأي أن انظر إليه فجاء مولى لي وأنا أصلي فحط الثقل واستخرج سفطا فنظر إليه وقال
لي أتدري ما معك قلت لا قال بعض كنوز كسرى فنظرت فإذا ناقة ذهب عليها رجل ذهب وبطان ذهب وزمام ذهب وإذا ذلك كله مكلل بالجوهر عليه مثال رجل من فضة فأتيت بها سعدا فقال ابشر بأفضل منه من ثواب الله وولاني مغانم القادسية ومعي غيري فجاء رجل بسفط آخر فألقاه في المغانم وقال أما والله لولا خوف الله ما أديته فإذا الذي جئت به لا يقارب ما جاء به الرجل فقلت من أنت قال والله ما اخبرك لتحمدني أنت ولا أحد من الناس وأصاب الناس رثة ومتاعا كبيرا
وقال طلحة بن مصرف أمروا مما وجدوا من الطيب للنساء ببعضه فأصاب كل إمرأة مع الناس يومئذ ثلاثة وثلاثون مثقالا من عنبر ومثلها من مسك وأشرك صبيان الذين استشهدوا في ذلك فأما الكافور فلم يعبأوا به شيئا وبعضهم استبدل منه بالملح كيلا بكيل وأصاب الرجل من المسلمين خمسة آلاف ونيف من سهمه وصير الله عز وجل العدة والأداة إلى المسلمين فلم يبق أحد إلا أردى وركب وفضل عنهم حتى جنبوا الجنائب
وذكر سيف عن رجاله قالوا وقسم سعد الفيئ بالقادسية على تسعة وثلاثين ألفا أو يزيدون وكان من شهدها أكثر من تسعة وثلاثين ألفا وأقل من الأربعين فأصيب منهم خمسة آلاف ومائتان وقيل وخمسمائة ثم لحق في الأيام الثلاثة بعد الوقعة عدد من استشهد فقسم الفيء على تلك العدة التي هي أقل من أربعين ألفا قالوا وأعطى الناس المتاع بالقيمة في سهم الرجل
قال إبراهيم بن يزيد كانوا ليقومون الشيء الثمين بالشيء اليسير

وقال الشعبي لم يقسم يومئذ لأكثر من فرسين ولا يقسم لأكثرمن هما قالوا فبلغ سهم الفرسين وصاحبهما سبعه وعشرين ألفا للرجل خمس ذلك وللفرسين سائر ذلك وللفرس الواحد بحساب ذلك عشرة آلاف ونيف وسهم الرجل الواحد خمسة آلاف ونيف وسهم الرجل الفارس ذي الفرس الواحد خمسة عشر
ألفا ونيف وكان القاسم بين الناس والمميز للخيل والذي يلي الأقباض سلمان بن ربيعة الباهلي
قال المدائني فجاء عمرو بن معدي كرب بفرسين يقودهما فقال سلمان لأحد الفرسين هذا هجين فقال عمرو الهجين يعرف الهجين فأغلظ له سعد عند ذلك وهدده فقال عمرو
إذا قتلنا ولا يبكي لنا أحد
قالت قريش ألا تلك المقادير
نعطي السوية من طعن فهل نهل
ولا سوية إذ تعطى الدنانير
ونحن في الصف قد تدمى حواجبنا
نعطى السوية مما أخلص الكير
البسيط
قالوا وكتب سعد بالفتح إلى عمر رحمه الله وبعدة من أصيب من المسلمين جملة وسمى له منهم من كان عمر يعرفه وكان كتابه إليه
أما بعد فإن الله عز وجل نصرنا على أهل فارس ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم بعد قتال طويل وزلزال شديد وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراءون مثل زهوها فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبهموه ونفله عنهم إلى المسلمين وأتبعهم المسلمون يقتلونهم على الأنهار وعلى صفوف الآجام وفي الفجاج وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القاريء وفلان وفلان ورجال من المسلمين لاتعلمهم الله بهم عالم كانوا إذا جن عليهم الليل يدوون بالقرآن دوي النحل وهم آساد من الناس لا تشبههم الأسود ولم يفضل من مضى منهم على من بقي إلا بفضل الشهادة إذ لم تكتب لهم
ولما أتى عمر الكتاب بالفتح قام في الناس فقرأه عليهم وكان رضي الله عنه

لما أتاه الخبر بنزول رستم القادسية يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى بيته فلما لقيه البشير سأله من أين جاء فأخبره فقال يا عبد الله حدثني قال هزم الله العدو وعمر رضي الله عنه يخب معه ويستخبره والآخر يسير على ناقته وهو لايعرفه حتى دخل المدينة فإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين فقال الرجل فهلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين وجعل عمر يقول له لا عليك يا أخي
وقال عمر للناس عندما قرى ء عليهم الفتح إني حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض فإذا عجز ذلك عنا تأسينا حتى نستوي في الكفاف إني والله ما أنا بملك فاستعبدكم ولكني عبد الله عرض علي الأمانة فإن أبيتها ورددتها عليكم وأتبعتكم حتى تشبعوا وترووا في بيوتكم سعدت وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتي شقيت ففرحت قليلا وحزنت طويلا وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب
وكتب سعد أيضا إلى عمر في ثلاثة أصناف من المسلمين اجتمعوا إليه يسأله عنهم عمن أسلم بعدما فتح الله تعالى عليهم ممن كان له عهد ومعونة وعمن أعتق الجند من رقيقهم بعد الفتح وعمن جاء بعدما فتح الله عليهم وأخبره أنه ممسك عن القسم حتى يأتيه رأيه
قالوا وكانت طائفة من الديلم ورؤساء أهل المسالح قد استجابوا للمسلمين واختاروا عهودهم على عهد فارس وقاتلوا مع المسلمين على غير الإسلام وكان حشوة فيمن أسلم منهم فلما فتح الله تعالى على المسلمين قال أولئك الذين لم يكونوا أسلموا إخواننا الذين سبقونا دخلوا في هذا الأمر من أول الشأن خير وأصوب رأيا والله لايفلح أهل فارس بعد رستم إلا من دخل في هذا الأمر منهم فأسلموا فهم الصنف الأول من الذين سأل عنهم سعد عمر رضي الله عنهما قالوا وتتابع أهل العراق من أصحاب الأيام الذين شهدوا اليرموك

ودمشق ورجعوا ممدين لأهل القادسية فتوافوا بها من الغد ومن بعد الغد جاء أولهم يوم أغواث وآخرهم من بعد الغد من يوم الفتح وقدمت أمداد فيها مراد وهمدان ومن أبناء الناس فهذا الصنف الثاني من ممن كتب فيهم سعد
وأقام المسلمون في انتظار أمر عمر رضي الله عنه يقومون أقباضهم ويحزرون جندهم ويرمون أمورهم ويجددوون حربهم حتى جاءهم جواب عمر
أما بعد فالغنيمة لمن شهد الوقعة والمواساة لمن أغاث في ثلاث بعد الوقعة فاشركوهم ومن أعانكم في حربكم من أهل عهدكم ثم أسلم بعد الحرب في ثلاث ومن شهد حربكم من مملوك ثم عتق في ثلاث بعدها فأشركوا هؤلاء الاصناف الثلاثة فيما أفاء الله عليكم
وكانوا كتبوا إليه - أيضا - يسألونه عمن احتلم بعد الوقعة ممن شهدها فأجابهم عن ذلك أما بعد فمن أدرك الحلم ممن شهد الوقعة في ثلاث بعدها فأشركوهم وألحقوهم وأقسموا لهم ولمن لحق في ثلاث أو أسلم في ثلاث فإن الله لن يزيدكم بذلك ألا فضلا وليست في الفيوء أسوة بعد الخمس ألا هؤلاء الطبقات
وكتبو إلى عمر ايضا أن أقواما من أهل السواد ادعو عهودا ولم يقم على عهد ألايام لنا ولم يف به أحد علمناه ألا أهل بانقيا وبسما وأهل أليس الأخيرة وادعى سائر أهل السواد أن فارس أكرهوهم حشروهم فلم يخالفوا إلينا ولم يذهبوا في الأرض
وكتبوا إليه أيضا في كتاب آخر أن أهل السواد جلوا فجاءنا من تمسك بعهده ولم يجلب علينا فتممنا لهم على ما كان بين المسلمين وبينهم قبلنا وزعموا أن أهل الأرض قد لحقوا بالمدائن فأحدث إلينا فيمن أقامو فيمن جلا وفي من ادعى أنه استكره وحشر فهرب ولم يقاتل أو استسلم فإنا بأرض رغيبة
والأرض خلاء من أهلها وعددنا قليل وقد كثر أهل صلحنا وإن اعمر لها وأوهن لعدونا تألفهم

فلما انتهى ما كتبوا به إلى عمر رضي الله عنه قام في الناس فقال إنه من يعمل في بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا يضر إلا نفسه ومن يتبع السنة وبينه إلى الشرائع ويلزم السبيل النهج ابتغاء ماعند الله لأهل طاعته أصاب أمره وظفر بحظه وذلك أن الله عز وجل يقول ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحد ( 49 الكهف ) وقد ظهر أهل الأيام والقوادس بما يليهم وجلا أهله وأتاهم من أقام على عهدهم فما رأيكم فيمن زعم أنه استكره وحشر وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا وفيمن أقام ولم يدع شيئا ولم يجل وفيمن استسلم
فأجمعوا على ان الوفاء لمن أقام وكف وأن من ادعى وصدق بمنزلتهم ومن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم وأن يجعل أمر من جلا إلى المسلمين فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة وإن شاءوا أتموا على منعهم من أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال وأن يخيروا من أقام واستسلم بين الجزاء والجلاء وكذلك الفلاح
فكتب عند ذلك عمر رضي الله عنه جوابا عما كتبوا إليه في ذلك
أما بعد فإن الله عز وجل أنزل في كل شيء رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين العدل في السيرة والذكر فأما الذكر فلا رخصة فيه في حالة ولم يرضى منة إلا بالكثير وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد ولا في شدة ولا رخاء والعدل وإن رئي لنا فهو اقوى وأطفاء للجور وأقمع للباطل من الجور وإن رئي شديدا فهو انكس للكفر فمن تم على عهده من أهل السواد ولم يعن عليكم بشيء فله الذمة وعليهم الجزية وأما من ادعى أنه استكره ممن لم يخالفهم أو يذهب في الأرض فلا تصدقوهم بما ادعو من ذلك إلا أن تشاءوا وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم وأبلغوهم مأمنهم ومن أقام ولم يجل وليس له عهد فلهم ما لأهل الذمة بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة والفلاحون إذا فعلوا ذلك وكل من ادعى شيئا فصدق فلهم الذمة وإن كذبوا نبذ إليهم وأما

من أعان وجلا فذلك أمر جعله الله إليكم فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقوموا لكم في أرضكم ولهم الذمة وعليهم الجزية فإن كرهوا ذلك فاقتسموا ما أفاء الله عليكم منهم
فلما قدمت كتب عمر على سعد بن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى من أهل السواد أن يتراجعوا ولهم الذمة وعليهم الجزية وتراجعوا وصاروا ذمة كمن تم ولزم عهده إلا أن خراجهم أثقل وأنزلوا من ادعى الاستكراه وهرب منزلتهم وعقدوا لهم وانزلوا من اقام منزلة ذي العهد وكذلك الفلاحون ولم يدخل في الصلح ما كان لآل كسرى ولا كان لمن خرج معهم ولم يجب إلى الأسلام ولا إلى الجزية فصارت فيئا لمن أفاء الله عليه كالصوافي في الأول وسائر السواد لهم ذمة وأخذوهم بخراج كسرى وكان على رءوس الرجال وما بأيديهم من الحصة والأموال وكان مما أفاء الله عليهم ما كان لآل كسرى ومن صوب معهم وعيالهم وعيال من قاتل معهم وماله وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه وما كان للسكك فلم يتأت قسم ذلك الفيء الذي كان لآل كسرى ومن صوب معهم لأنه كان متفرقا في كل السواد فكان يليه لأهل الفيءمن وثقوا به وتراضوا عليه
قالوا وأدلى جرير وبجيلة يوم القادسية بمثل ما كان عمر جعل لهم من ربع الخمس مما أفاء الله يوم البويب فكتب سعد إلى عمر بذلك فأجابه قد ضللت إذا وما أنامن المهتدين إني إنما كنت جعلت لهم ربع الخمس مما أفاء الله على المثنى حين أمددته بهم في وجههم ذلك إلى البويب نفلا فقد أخذوه أيام البويب ثم ولم يمضوا ولكن رجعوا إلى أرض العرب فعنفهم بما ادعوا مما ليس لهم ولا لي وقل لهم والله لولا أني قاسم مسئول لبلغت منكم فلما بلغ الكتاب سعدا أمر جريرا بجمع بجيلة فجمعهم له فقرأ عليهم سعد الكتاب فقال جرير صدق والله عمر وأسأنا وتتابع على ذلك قومه إلا امرأة يقال لها أم

كرز فإنها قالت كذبت والله يا جرير وجعل جرير يقول لها حلا يا أم كرز فتعود له بالتكذيب فلا يزيد على أن يقول حلا يا أم كرز
وخالف المدائني ما ذكره سيف في قصة جرير وقومه وقال إن سعدا لما جمع الغنائم وعزل الخمس وأراد قسمة الباقي قال له جرير إن أمير المؤمنين جعل لنا الربع وقال بعضهم الثلث بعد الخمس من كل شيء فبعث سعد بالخمس إلى عمر كتب إليه بقول جرير فقال عمر صدق جرير قد جعلت له ولقومه ما كان من السواد فخيروهم فإن شاءوا اعطوا وكان قتالهم للجعالة وإن شاءوا فلهم سهم المسلمين وقتالهم فخيرهم سعد فاختاروا سهام المسلمين فالله أعلم أي ذلك كان
وذكر المدائني أيضا أنه كان فيمن قدم على عمر مع الخمس الأسدي الذي طعن الفيل فضربه سائسه على وجهه فهشم وجهه فقال له عمر من أنت وما هذا يعني الضربه التي في وجهه قال أصابني قدر من قدر الله فأخبر القوم عمر خبره فعانقه عمر وقال أبشر فهي نور لك يوم القيامة فهل لك من حاجة قال تكتب إلى سعد يعطيني محتلما يخدمني وفرسي فكتب إلى سعد أعطه محتلمين ففعل ذلك سعد
قال الشعبي وأمر عمر رضي الله عنه في الأعشار بخمسمائة فرس نفلا من خيل فارس لتقسم في أهل البلاء فأصاب كل عشر خمسون فرسا فأصاب النخع عشرون وقيل خمسة وعشرون وأصاب سائرهاسائر مذحج
قالوا وكتب عمر رحمه الله إلى سعد أنبئني أي فارس كان يوم القادسية أفرس وأى راجل كان أرجل وأى راكب كان أثبت فكتب إليه إني لم أر فارسا مثل القعقاع بن عمرو حمل في يوم ثلاثينحملة فقتل في كل حملة كميا ولم أر راجلا مثل يعفور بن حسان الذهلي إنه جاء في يوم بخمسة
فوارس يختل الفارس منهم حتى يردفه ثم يغلبه على عنانه حتى يأتي به سلما ولم أر راكبا مثل الحارث بن قرم البهزي إنه جاء ببعيره يرفعه ثم ركب الكراديس ففرق بينها فإذا نفر بالفارس انحط عنه فعانقه ثم قتله ثم يثب على بعيره من قيام
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9