كتاب:السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون
المؤلف:علي بن برهان الدين الحلبي

وأما حديث الزبيدي فقد حدث بعضهم قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه من الصحابة إذا رجل من زبيد يطوف على حلق قريش حلقة بعد أخرى وهو يقول يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المارة أو يجلب إليكم جلب أو يحل بضم الحاء أي ينزل بساحتكم تاجر وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه فقال له صلى الله عليه وسلم ومن ظلمك فذكر أنه قدم بثلاث أجمال خيرة إبله أي أحسنها فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها ثم لم يسمه بها لأجله سائم قال فأكسد علي سلعتي فظلمني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأين جمالك قال هذه هي بالحزورة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أصحابه فنظروا إلى الجمال فرأى جمالا حسانا فساوم ذلك الرجل حتى ألحقه برضاه وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع جملين منها بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه وكل ذلك وأبو جهل جالس في ناحية من السوق ولم يتكلم ثم أقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إياك يا عمرو أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الرجل فترى مني ما تكره فجعل يقول لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل على أبي جهل أمية بن خلف ومن معه من القوم فقالوا له ذللت في يد محمد فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه فقال لهم لا أتبعه أبدا إن الذي رأيتم مني لما رأيته رأيت معه رجالا عن يمينه ورجالا عن شماله معهم رماح يشرعونها إلي لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي
ونظير ذلك أن أبا جهل كان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده فاستغاث اليتيم بالنبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل فمشى معه إليه ورد عليه ماله فقيل له في ذلك فقال خفت من حربة عن يمينه وحربة عن شماله لو امتنعت أن أعطيه لطعنني
وأما حديث المستهزئين فمما استهزئ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدث به بعضهم أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص يقال له الإراشي بكسر الهمزة نسبة إلى إراشة بطن من خثعم أجمالا فمطله بأثمانها فدلته قريش على النبي صلى الله عليه وسلم لينصفه من أبي جهل استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل أي بعد أن وقف على ناديهم فقال يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب وابن سبيل وقد غلبي على حقي فقالوا له أترى ذلك

الرجل يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب إليه فهو يعينك عليه فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له حاله مع أبي جهل أي قال له يا أبا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام غلبني على حق لي قبله وأنا غريب وابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يأخذ لي بحقي منه فأشاروا إليك فخذ حقي منه يرحمك الله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه فقال من هذا قال محمد فخرج إليه وقد انتقع لونه أي تغير وصار كلون النقع الذي هو التراب وهو الصفرة مع كدرة كما تقدم فقال له أعط هذا حقه قال نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له فدفعه إليه قال ثم إن الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال جزاه الله خيرا يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقد والله أخذ لي بحقي وقد كانوا أرسلوا رجلا ممن كان معهم خلف النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له انظر ماذا يصنع فقالوا لذلك الرجل ماذا رأيت قال رأيت عجبا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال أعط هذا حقه فقال نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إليه فعند ذلك قالوا لأبي جهل ويلك ما رأينا مثل ما صنعت قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي وسمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله قط لو أبيت أو تأخرت لأكلني وإلى هذه القصة أشار صاحب الهمزية بقوله ** واقتضاه النبي دين الإراشي ** وقد ساء بيعه والشراء ** ** ورأى المصطفى أتاه بما لم ** ينج منه دون الوفاء النجاء ** ** هو ما قد رآه من قبل لكن ** ما على مثله يعد الخطاء **
أي وطلب صلى الله عليه وسلم من أبي جهل أن يؤدي دين الإراشي وقد ساء بيعه وشراؤه مع ذلك الرجل ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وقد أتاه بفحل من الإبل لم ينج منه دون الوفاء لذلك الدين كثير النجاء وذلك الذي أتاه به هو الفحل الذي قد رآه من قبل أي لما أراد عدو الله أن يلقي عليه صلى الله عليه وسلم الحجر وهو ساجد كما تقدم لكن ما على مثله فضلا عنه يعد الخطأ لأن خطأه لا ينحصر
أي ومن استهزاء أبي جهل بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الأوقات سار

خلف النبي صلى الله عليه وسلم يخلج بأنفه وفمه يسخر به فاطلع عليه صلى الله عليه وسلم فقال له كن كذلك فكان كذلك إلى أن مات
قال ابن عبدالبر وكان من المستهزئين الذين قال الله تعالى فيهم { إنا كفيناك المستهزئين } أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أي معيط والحكم بن العاص بن أمية وهو والد مروان بن الحكم عم عثمان بن عفان والعاص بن وائل فمن استهزاء أبي جهل ما تقدم
ومن استهزاء أبي لهب به صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرح القذر على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ومر يوما من الأيام فرآه أخوه حمزة رضي الله تعالى عنه قد فعل ذلك فأخذه وطرحه على رأسه فجعل أبو لهب ينفض رأسه ويقول صابئ أحمق
ومن استهزاء عقبة بن أبي معيط به صلى الله عليه وسلم أنه كان يلقى القذر أيضا على بابه صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقد قال صلى الله عليه وسلم كنت بين شر جارين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط إن كانا يأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي كما تقدم
ومن استهزائه أنه بصق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فعاد بصاقه على وجهه وصار برصا أي فإنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر مجالسة عقبة بن أبي معيط فقدم عقبة يوما من سفر فصنع طعاما ودعا الناس من أشراف قريش ودعا النبي صلى الله عليه وسلم فلما قرب إليهم الطعام أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل فقال ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله فقال عقبة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فأكل صلى الله عليه وسلم من طعامه وانصرف الناس وكان عقبة صديقا لأبي بن خلف فأخبر الناس أبيا بمقالة عقبة فأتى إليه وقال يا عقبة صبوت قال والله ما صبوت ولكن دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم فشهدت له فطعم والشهادة ليست في نفسي فقال له أبي وجهي ووجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأه وتبزق في وجهه وتلطم عينه فقال له عقبة لك ذلك ثم إن عقبة لقى النبي صلى الله عليه وسلم ففعل به ذلك قال الضحاك لما بزق عقبة لم تصل البزقة إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وصلت إلى وجهه هو كشهاب نار فاحترق مكانها وكان أثر الحرق في وجهه إلى الموت وحينئذ يكون المراد بقوله فيما تقدم فعاد بصاقه برصا في وجهه أي صار

كالبرص وأنزل الله تعالى في حقه { ويوم يعض الظالم على يديه } أي في النار يأكل إحدى يديه إلى المرفق ثم يأكل الأخرى فتنبت الأولى فيأكلها وهكذا
ومن استهزاء الحكم بن العاص أنه كان صلى الله عليه وسلم يمشى ذات يوم وهو خلفه يخلج بفمه وأنفه يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له كن كذلك فكان كذلك أي كما تقدم نظير ذلك لأبي جهل واستمر الحكم بن العاص يخلج بأنفه وفمه بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه حتى مات أسلم يوم فتح مكة وكان في إسلامه شيء اطلع على رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بيته وهو عند بعض نسائه بالمدينة فخرج إليه صلى الله عليه وسلم بالعنزة أي وقيل بمدرى في يده والمدرى كالمسلة يفرق به شعر الرأس وقال من عذيرى من هذه الوزغة لو أدركته لفقأت عينه ولعنه وما ولد وغربه عن المدينة إلى وج الطائف فلم يزل حتى ولى ابن أخيه عثمان رضي الله تعالى عنه الخلافة فدخل المدينة بعد أن سأل عثمان أبا بكر في ذلك فقال لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأل عمر لما ولى الخلافة فقال له مثل ذلك ولما أدخله عثمان نقم عليه الصحابة بسبب ذلك فقال أنا كنت شفعت فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعدني برده أي أني أرده ولا ينافى ذلك سؤال عثمان لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم في ذلك كما لا يخفى لأنه يحتمل أن يرده عثمان إما بنفسه أو بسؤاله وسيأتي ذلك في جملة أمور نقمها عليه الصحابة
وعن هند ابن خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالحكم فجعل يغمز بالنبي صلى الله عليه وسلم فرآه فقال اللهم اجعل به وزغا فرجف وأرتعش مكانه والوزغ الإرتعاش وفي رواية فما قام حتى ارتعش
وعن الواقدي استأذن الحكم بن العاص على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف صوته فقال ائذنوا له لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منه وقليل ما هم ذو مكر وخديعة يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأتى إليه بمروان لما ولد فقال هو الوزغ بن الوزغ الملعون ابن الملعون وعلى هذا فهو صحابي إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه لأنه يحتمل أنه أتى به إليه صلى الله عليه وسلم فلم يأذن بإدخاله عليه وربما يدل ذلك قوله هو الوزغ إلى آخره


وفي كلام بعضهم أن مروان ولد بمكة وفي كلام بعض آخر أنه ولد بالطائف بعد أن نفى أبوه إلى الطائف أي ولم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو ليس بصحابي ومن ثم قال البخاري مروان بن الحكم لم ير النبي صلى الله عليه وسلم وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان نزل في أبيك { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم } وقالت له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبيك وجدك الذي هو العاص بن أمية إنهم الشجرة الملعونة في القرآن ولى مروان الخلافة تسعة أشهر
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان بن الحكم حيث قال لأخيها عبدالرحمن بن أبي بكر لما بايع معاوية لولده قال مروان سنة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال عبدالرحمن بل سنة هرقل وقيصر وامتنع من البيعة ليزيد بن معاوية فقال له مروان أنت الذي أنزل الله فيك { والذي قال لوالديه أف لكما } فبلغ ذلك عائشة فقالت كذب والله ما هو به ثم قالت له أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه
وعن جبير بن مطعم كنا مع رسول الله صلى لله عليه وسلم فمر الحكم بن العاص فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويل لأمتي مما في صلب هذا قال بعضهم وكون النبي صلى الله عليه وسلم مع ما هو عليه من الحلم والإغضاء على ما يكره فعل بالحكم ذلك يدل على أمر عظيم ظهر له في الحكم وأولاده
وعن حمران بن جابر الجعفي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ويل لبني أمية ثلاث مرات أي وقد ولى منهم الخلافة أربعة عشر رجلا أولهم معاوية بن أبي سفيان وآخرهم مروان بن محمد وكان مدة ولايتهم ثنتين وثمانين سنة وهي ألف شهر وقال بعضهم لا يزيد ذلك يوما ولا ينقص يوما قال ابن كثير وهذا غريب جدا وفيه نظر لأن معاوية حين تسلم الخلافة من الحسن كان ذلك سنة أربعين أو إحدى وأربعين واستمر الأمر في بني أمية إلى أن انتقل إلى بني العباس سنة ثنتين وثلاثين ومائة ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة وألف شهر تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر هذا كلامه
ومن استهزاء العاص بن وائل أنه كان يقول غر محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث


أي ومن استهزائه أن خباب بن الأرت رضي الله تعالى عنه كان قينا بمكة أي حدادا يعمل السيوف وقد كان باع للعاص سيوفا فجاءه يتقاضى ثمنها فقال له يا خباب أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم أو ولد قال خباب بلى قال فانظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هناك حقك ووالله لا تكونن أنت وصاحبك آثر عندالله مني ولا أعظم حظا في ذلك
وفي لفظ أن العاص قال له لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك قال فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتى مالا وولدا فأقضيك فأنزل الله تعالى فيه { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا }
وفي كلام ابن حجر الهيتمي وفي البخاري من عدة طرق أن خبابا رضي الله تعالى عنه طلب من العاص بن وائل السهمي دينا له عليه قال لا أعطيك حتى تكفر بمحمد فقال لا أكفربه حتى يميتك الله ثم يبعثك
وفيه أن هذا تعليق للكفر بممكن أي وتعليق الكفر ولو بمحال عادي وكذا شرعي أو عقلي على إحتمال كفر لأنه ينافى عقد التصميم الذي هو شرط في الإسلام
وأجيب بأنه لم يقصد التعليق قطعا وإنما أراد تكذيب ذلك اللعين في إنكار البعث ولا ينافيه قوله حتى لأنها تأتي بمعنى إلا المنقطعة فتكون بمعنى لكن الذي صرحوا بأن ما بعدها كلام مستأنف وعليه خرج ابن هشام الخضراوي حديث كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أي لكن أبواه
وعد بعضهم من المستهزئين الحارث بن عيطلة ويقال ابن عيطل ينسب إلى أمه وكان من استهزائه ما تقدم عن العاص بن وائل وأبي جهل من الإختلاج خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعد منهم الأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة قد جاءكم ملوك الأرض الذي يرثون كسرى

وقيصر أي لأن الصحابة كانوا متقشفين ثيابهم رثة وعيشهم خشن ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم أما كلمت اليوم من السماء يا محمد وما أشبه هذا القول
وعد منهم الأسود بن عبدالمطلب ومن استهزائه أنه كان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويصفرون إذا رأوهم
وعد منهم النضر بن الحارث فهلك غالبهم قبيل الهجرة بضروب من البلاء
أقول والذي ينبغي أن يكون المراد بالمستهزئين في الآية وهي { إنا كفيناك المستهزئين } الوليد بن المغيرة والد خالد وعم أبي جهل فإنه كان من عظماء قريش وكان في سعة من العيش ومكنة من السيادة كان يطعم الناس أيام منى حيسا وينهى أن توقد نار لأجل طعام غير ناره وينفق على الحاج نفقة واسعه وكان الأعراب تثنى عليه كانت له البساتين من مكة إلى الطائف وكان من جملتها بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفا وببركته صلى الله عليه وسلم أصابته الجوائح والآفات في أمواله حتى ذهبت بأسرها ولم يبق له في أيام الحج ذكر وكان المقدم في قريش فصاحة وكان يقال له ريحانة قريش ويقال له الوحيد أي في الشرف والسودد والجاه والرياسة قال بعضهم بل هو وحيد في الكفر والخبث والعناد
والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن عيطلة وفي لفظ ابن الطلاطلة في اللغة الداهية قال بعضهم وهو إشتباه لأن ابن الطلاطلة اسمه مالك لا حارث
والحارث بن العيطلة كان أحد أشراف قريش في الجاهلية وإليه كانت الحكومة والأموال التي تجعل للآلهة وذكره ابن عبدالبر في الصحابة قال في أسد الغابة لم أر أحدا ذكره في الصحابة إلا أبا عمرو يعني ابن عبد البر والصحيح أنه كان من المستهزئين وهؤلاء الخمسة هم الذين اقتصر عليهم القاضي البيضاوي لما يروى أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد أي يطوف بالبيت وقال له أمرت أن أكفيكهم فلما مر الوليد بن المغيرة قال له يا محمد كيف تجد هذا فقال بئس عبدالله فأومأ إلى ساق الوليد وقال كفيته ومر العاص بن وائل فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأشار إلى أخمصه وقال كفيته ثم مر الأسود بن المطلب فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأومأ إلى عينه وقال كفيته ثم مر الأسود بن عبد يغوث

فقال كيف تجد هذا يامحمد قال عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال كفيته ثم مر الحارث بن عيطلة فقال كيف تجد هذا يا محمد قال عبد سوء فأومأ إلى بطنه وقال كفيته وحينئذ يكون معنى كفاية هذا له صلى الله عليه وسلم أنه لم يسع ولم يتكلف في تحصيل ذلك وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وجبريل لما استهزأت فرقة الردى ** أشار إلى كل بأقبح ميتة **

والله أعلم
قال وروى الزهري أن الأسود بن عبد يغوث خرج من عند أهله فاصابته السموم فاسود وجهه فأتى أهله فلم يعرفوه وأقفلوا دونه الباب وسلط عليه العطش فلا زال يشرب الماء حتى انشق بطنه وهذا يناسب ما سيأتي عن الهمزية ولا يناسب أن جبريل عليه الصلاة والسلام أشار إلى رأسه وف يكلام البلاذري عن عكرمة أن جبريل أخذ بعنق الأسود بن عبد يغوث فحنى ظهره حتى احقوقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خالي خالي أي لأنه كما تقدم ابن خاله فهو إما على حذف المضاف أو لأجل مراعاة أبيه أي يراعى لأجل أبيه الذي هو خالي فقال جبريل يا محمد دعه وفي رواية قال له جبريل خل عنك ثم حثاه حتى قتله وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه
والمناسب لذلك ما ذكره بعضه أنه امتخض رأسه قيحا ثم لم يزل يضرب برأسه أصل شجرة حتى مات وكذا الحارث بن عيطلة أي وفي كلام القاضي حارث ابن قيس
وفي تكملة الجلال السيوطي عدي بن قيس فقد أكل حوتا مملحا فلم يشرب عليه الماء حتى انقد بطنه وهذا المناسب لما ذكر هنا أن جبريل أشار إلى بطنه لكن لا يناسب ما قاله القاضي البيضاوي أنه أشار إلى أنفه فامتخض قيحا
وأما الأسود بن المطلب فقد عمى بصره فقد ذكر أنه خرج ليستقبل ولده وقد قدم من الشام فلما كان ببعض الطريق جلس في ظل شجرة فنجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها حتى عمى فجعل يستغيث بغلامه فقال له غلامه لا أحد يصنع بك شيئا أي وقيل ضربه بغصن فيه شوك فسالت حدقتاه وصار يقول ها هو ذا طعن بالشوك في عيني فيقال له ما نرى شيئا وقيل أتى شجرة فجعل ينطح رأسه بها حتى خرجت عيناه أي وفعل ذلك لا ينافي ما ورد فأشار أي جبريل إلى وجهه فعمى بصره

في الحال لجواز أن يراد بالحال الزمن القريب وفي رواية أنه كان يقول دعا علي محمد بالعمى فاستجيب له ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي وسيأتي عن بعضهم في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود بن المطلب بالعمى وفقد أولاده فعجل له العمى وفقد أولاده ببدر وأما الوليد بن المغيرة فمر بشخص يعمل النبل فتعلق بثوبه سهم فلم ينقلب لينحيه تعاظما فعدا فأصاب السهم عرقا في ساقه فقطعه فمات وأما العاص بن وائل فدخلت شوكة في أخمصه فانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات وإلى الخمسة الذين ذكرنا أنهم المرادون بقوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } أشار صاحب الهمزية بقوله ** وكفاه المستهزئين وكم سا ** ء نبيا من قومه استهزاء ** ** خمسة كلهم أصيبوا بداء ** والردى من جنوده الأدواء ** ** فدهى الأسود بن مطلب ** أي عمى ميت به الأحياء ** ** ودهى الأسود بن عبد يغوث ** أن سقاه كأس الردى استسقاء ** ** وأصاب الوليد خدشة سهم ** قصرت عنها الحية الرقطاء ** ** وقضت شوكة على مهجة العا ** ص فلله النقعة الشوكاء ** ** وعلى الحارث القيوح وقد سا ** ل بها رأسه وسال الوعاء ** ** خمسة طهرت بقطعهم الأر ** ض فكف الأذى بهم شلاء **
أي وكفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم المستهزئين به ومرات كثيرة أحزن نبينا صلى الله عليه وسلم كغيره من الأنبياء استهزاء قومه به وهؤلاء المستهزئون به صلى الله عليه وسلم خمسة كلهم أصيبوا بداء عظيم والهلاك من جملة جنوده الأمراض
فأهلك الأسود بن المطلب عمى عظيم الأحياء أموات بسببه وهو المناسب لكون جبريل أشار إلى عينيه ودهى أيضا الأسود بن عبد يغوث استسقاء سقاه كأس الموت وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه وأصاب الوليد أثر سهم في ساقه قصرت عنه الحية الرقطاء أي سمها وقضت شوكة على مهجة العاص دخلت في رجله فلله هذا النقعة الخشنة اللمس وقضت على الحارث القيوح والحال أنه قد سال رأسه وفسد ذلك الوعاء لتلك القيوح وهذا هو المناسب لكون جبريل أشار إلى أنفه

لا لقول بعضهم إنه أشار إلى بطنه خمسة طهرت بهلاكهم الأرض فكف الأذى بهم شلاء فاقدة الحركة
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الخمسة هلكوا في ليلة واحدة فعلم أن هؤلاء هم المرادون بقوله تعالى { إنا كفيناك المستهزئين } كما ذكرنا وإن كان المستهزئون غير منحصرين فيهم فلا ينافى عد منبه ونبيه ابنى الحجاج منهم
فقد قيل كانا ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يليقيانه فيقولان له أما وجد الله من يبعثه غيرك إن ها هنا من هو أسن منك وأيسر فإن كنت صادقا فأتنا بملك ليشهد لك ويكون معك وإذا ذكر لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا معلم مجنون يعمله أهل الكتاب ما يأتي به ولا ينافي عد أبي جهل وغيره منهم كما تقدم
وفي سيرة ابن المحدث قال عليه الصلاة والسلام من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه
ومن استهزاء أبي جهل أيضا بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوما لقريش يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذي يقذفونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر وأنتم أكثر الناس عددا فيعجز كل مائة رجل منكم عن واحد منهم
أي وفي رواية أن بعض قريش وكان شديدا قوي البأس بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدمه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه قال له أنا أكفيك سبعة عشر واكفوني أنتم إثنين ويقال إن هذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصارعة وقال له يامحمد إن صرعتني آمنت بك فصرعه اليب صلى الله عليه وسلم مرارا فلم يؤمن
أي وفي رواية أن أبا جهل قال أنا أكفيكم عشرة فاكفوني تسعة فأنزل الله تعالى { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي لا يطاقون كما تتوهمون { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } ضلالا { للذين كفروا } الآيات أي بأن يقولوا ما ذكر أو يقولوا لم كانوا تسعة عشرة وماذا أراد الله بهذا العدد أي وهذا العدد لحكمة استأثر الله تعالى بعلمها وقد أبدى بعض المفسرين لذلك حكما تراجع
وقد جاء في وصف تلك الملائكة أن أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصى

أي القرون ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة وفي رواية ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب لأحدهم قوة مثل قوة الثقلين نزعت الرحمة منهم
وأخرج العتبى في عيون الأخبار عن طاوس إن الله خلق مالكا وخلق له أصابع على عدد أهل النار فما من أهل النار معذب إلا ومالك يعذبه بأصبع من أصابعه فوالله لو وضع مالك أصبعا من أصابعه على السماء لأذابها وهؤلاء التسعة عشرة هم الرؤساء ولكل واحد أتباع لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى قال تعالى { وما يعلم جنود ربك إلا هو } أي وهؤلاء الأتباع منهم
وأخرج هناد عن كعب قال يؤمر بالرجل إلى النار فيبتدره مائة ألف ملك أي والمتبادر أن هؤلاء من خزنتها
وفي كلام بعضهم لم يثبت لملائكة النار عدد معين سوى ما في قوله تعالى { عليها تسعة عشر } وإنما ذلك لسقر التي هي إحدى دركات النار لقوله تعالى قبل ذلك { سأصليه سقر } وقد يكون على كل واحدة منها مثل هذا العدد أو أكثر قيل وبسم الله الرحمن الرحيم عدد حروفها على عدد هؤلاء الزبانية التسعة عشر فمن قرأها وهو مؤمن دفع الله تعالى عنه بكل حرف منها واحد منهم
أقول ومن استهزاء أبي جهل أيضا أنه قال يوما لقريش وهو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الحق يا معشر يخوفنا محمد بشجرة الزقوم يزعم أنها شجرة في النار يقال لها شجرة الزقوم والنار تأكل الشجر إنما الزقوم التمر والزبد
وفي لفظ العجوة تترب بالزبد هاتوا تمرا وزبدا تزقموا فأنزل الله تعالى { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أي منبتها في أصل جهنم ولا تسلط لجهنم عليها أما علموا أن من قدر على خلق من يعيش في النر ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق بها
وقد قال ابن سلام رضي الله تعالى عنه إنها تحيا باللهب كما يحيا شجر الدنيا بالمطر وثمر تلك الشجرة مر له زفرة وأخرج الترمذي وصححه النسائي والبيهقي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون

طعامه أي وقال يا محمد لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد فأنزلها الله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } فكف عن سب آلهتهم وجعل يدعوهم إلى الله عز وجل
ثم رأيت في الدر المنثور في تفسير { إنا كفيناك المستهزئين } قيل نزلت في جماعة مر النبي صلى الله عليه وسلم بهم فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل فغمز جبريل عليه الصلاة والسلام بأصبعه في أجسادهم فصارت جروحا وأنتنت فلم يستطع أحد يدنو منهم حتى ماتوا فلينظر الجمع على تقدير الصحة
وقد يدعى أنهم طائفة آخرون غير من ذكر لأنهم المستهزئون ذلك الوقت أي فقد تكرر نزول الآية والله أعلم
قال ومن استهزاء النضر بن الحارث أنه كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا يحدث فيه قومه ويحذرهم ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله تعالى خلفه في مجلسه ويقول لقريش هلموا فإني والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه يعني النبي صلى الله عليه وسلم ثم يحدثهم عن ملوك فارس لأنه كان يعلم أحاديثهم ويقول ما حديث محمد إلا أساطير الأولين
ويقال إنه الذي { قال سأنزل مثل ما أنزل الله } فانتهى أي لأنه ذهب إلى الحيرة واشترى منها أحاديث الأعاجم ثم قدم بها مكة فكان يحدث بها ويقول هذه كأحاديث محمد عن عاد وثمود وغيرهم ويقال إن ذلك كان سببا لنزول قوله تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث }
قال في الينبوع والمشهور أنها نزلت في شراء المغنيات وقال ولا بعد في أن تكون الآية نزلت فيهما ليتحقق العطف في قوله تعالى { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا } أي فإن هذا الوصف الثاني إنما يناسب النضر فليتأمل ولما تلا عليهم صلى الله عليه وسلم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين فأنزل الله تعالى تكذيبا له { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } أي معينا له
وجاء أن جماعة من بني مخزوم منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة تواصوا على قتله صلى الله عليه وسلم فبينما النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلى سمعوا قراءته فأرسلوا

الوليد ليقتله فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلى فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه فانصرف إليهم وأعلمهم بذلك فأتوه فلما سمعوا قراءته قصدوا الصوت فإذا الصوت من خلفهم فذهبوا إليه فسمعوه من أمامهم ولا زالوا كذلك حتى انصرفوا خائبين فانزل الله تعالى قوله { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وتقدم في سبب نزولها غير ذلك ويمكن أن يدعى أنها نزلت لوجود الأمرين فليتأمل
وجاء أن النضر بن الحارث رأى النبي صلى الله عليه وسلم منفردا أسفل ثنية الحجون فقال لا أجده أبدا أخلى منه الساعة فاغتاله فدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتاله فرأى أسود تضرب بأذنابها على رأسه فاتحة أفواهها فرجع على عقبه مرعوبا فلقى أبا جهل فقال من أين فأخبره النضر الخبر فقال أبو جهل هذا بعض سحره
ومما تعنتوا به أنه لما نزل قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } أي وقودها وحصب بالزنجية حطب أي حطب جهنم وقد قرأتها عائشة رضي الله تعالى عنها كذلك { أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } شق على كفار قريش وقالوا لعبدالله بن الزبعري قد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا حصب جهنم فقال ابن الزبعري أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعوه له فقال يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله فقال بل لكل من عبد من عبد دون الله فقال ابن الزبعري أخصمت ورب هذه البنية يعني الكعبة ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد من دون الله وكذا عزير والملائكة عبدت النصارى عيسى واليهود عزيرا وبنوا مليح الملائكة فضج الكفار وفرحوا فأنزل الله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } يعنى عيسى وعزيرا والملائكة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تم بعون الله الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله

باب الهجرة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم & باب الهجرة الاولى الى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر اليها من المسلمين الى مكة واسلام عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نزل بالمسلمين من توالى الاذى عليهم من كفار قريش مع عدم قدرته على انقاذهم مما هم فيه قال لهم تفرقوا فى الارض فان الله تعالى سيجمعكم قالوا الى أين نذهب قال هاهنا وأشار بيده الى جهة أرض الحبشة قال وفى رواية قال لهم أخرجوا الى جهة أرض الحبشة فان بها ملكا لا يظلم عنده احد اي وهى أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه انتهى أى ويجوز أن يكون قال ذلك عند استفساره صلى الله عليه وسلم عن محل اشارته فقد جاء فى الحديث من فر بدينه من أرض الى ارض وان كان شبرا من الارض استوجب له الجنة وكان رفيق أبيه ابراهيم خليل الله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم فهاجر اليها ناس ذو عدد مخافة الفتنة وفرارا الى الله تعالى بدينهم ومنهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه فممن هاجر بأهله عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه هاجر ومعه زوجته رقية بنت النبى صلى الله عليه وسلم وكان أول خارج وقيل أول من هاجر الى الحبشة حاطب بن أبي عمرو وقيل سليط بن عمرو ولا ينافيهما قوله صلى الله عليه وسلم ان عثمان لاول من هاجر بأهله بعد لوط أى حيث قال انى مهاجر الى ربى فهاجر الى عمه ابراهيم الخليل ثم هاجرا عليهما الصلاة والسلام حتى أتيا حران ثم هاجرا الى أن نزل ابراهيم عليه الصلاة والسلام فلسطين ونزل لوط عليه الصلاة والسلام المؤتفكة


ووجه عدم المنافى أن كلا من حاطب وسليط يجوز أن يكون هاجر بغير أهله وكان مع رقية أم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم وكانت رقية رضى الله تعالى عنها ذات جمال بارع وكذا عثمان رضى الله تعالى عنه ومن ثم كان النساء يغنينهما بقولهن ** أحسن شىء قد يرى انسان ** رقية وبعدها عثمان **
ومن ثم ذكر أنه صلى الله عليه وسلم بعث رجلا الى عثمان ورقية رضى الله تعالى عنهما فاحتبس عليه الرسول فلما جاء اليه قال له صلى الله عليه وسلم ان شئت أخبرتك ما حبسك قال نعم قال وقفت تنظر الى عثمان ورقية تعجب من حسنهما أى ومعلوم أن ذلك كان قبل اية الحجاب
ويذكر أن نفرا من الحبشة كانوا ينظرون اليها فتأذت من ذلك فدعت عليهم فقتلوا جميعا وقد جاء فى وصف حسن عثمان رضى الله تعالى عنه قوله صلى الله عليه وسلم قال لى جبريل ان أردت أن تنظر من أهل الارض شبيه يوسف الصديق فانظر الى عثمان بن عفان وسيأتى ذلك مع زيادة
وأبو سلمة هاجر ومعه زوجته أم سلمة أى وقيل هو أول من هاجر بأهله وهو مخالف للرواية السابقة أن عثمان أول من هاجر بأهله ويمكن أن تكون الاوليه فيه اضافية فلا ينافى ما سبق عن عثمان
وعامر بن ربيعة هاجر ومعه امرأته ليلى أى وعنها رضى الله تعالى عنها كان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه من أشد الناس علينا فى اسلامنا فلما ركبت بعيرى أريد أن أتوجه الى أرض الحبشة اذا أنا بعمر بن الخطاب فقال لى الى أين يا أم عبدالله فقلت قد اذيتمونا في ديننا نذهب فى أرض الله حيث لا نؤذى فقال صحبكم الله ثم ذهب فجاء زوجى عامر فأخبرته بما رأيت من رقة عمر فقال ترجين أن يسلم عمر والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب أى استبعادا لما كان يرى من قسوته وشدته على أهل الاسلام وهذا دليل على أن اسلام عمر كان بعد الهجرة الاولى للحبشة وهو كذلك أى خلافا لمن قال انه كان تمام الاربعين من المسلمين أى ممن أسلم
وفيه أن المهاجرين الى أرض الحبشه كانوا فوق ثمانين كما قاله بعضهم اللهم الا أن يقال انه كان تمام الاربعين بعد خروج المهاجرين الى أرض الحبشة وربما يدل لذلك قول عائشة رضى الله تعالى عنها فى قصة الصديق وفى ضرب قريش له رضى الله تعالى عنه

لما قام خطيبا في المسجد الحرام وقد تقدمت حيث قالت وكان المسلمون تسعة وثلاثين رجلا لكن فى الرواية أنهم قاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا وقد كان حمزة بن عبدالمطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر فليتأمل
وفى لفظ عن أم عبد الله زوج عام قالت انا لنرحل الى أرض الحبشة وقد ذهب عامر تعنى زوجها الى بعض حاجته اذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف على وكنا نتقى منه الاذى والبلاء والشدة علينا فقال انه لخروج يا أم عبدالله فقلت والله لنخرجن الى أرض فقد اذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا وفرجا فقال صحبكم الله ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وتفرست فيه حزنا لخروجنا وقلت لعامر يا أبا عبدالله لو رأيت ما وقع من عمر وذكرت ما تقدم
وممن هاجر أبو سبرة وهو أخو أبى سلمة رضى اله تعالى عنهما لامه أمهما برة بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر ومعه امرأته أم كلثوم
وممن هاجر بنفسه عبدالرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون رضى الله تعالى عنهما أى وكان أميرا عليهم كما قيل وجزم به ابن المحدث فى سيرته وقال الزهرى لم يكن لهم أمير وسهيل بن البيضاء أى والزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود رضى الله تعالى عنهم وقيل انما كان عبدالله بن مسعود فى الهجرة الثانية فخرجوا سرا أى متسللين منهم الراكب ومنهم الماشى حتى انتهوا الى البحر فوفق الله تعالى لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار أى وفى المواهب وخرجوا مشاة الى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار هذا كلامه فليتأمل
وكان مخرجهم فى رجب من السنة الخامسة من النبوة فخرجت قريش فى اثارهم حتى جاءوا الى البحر لم يجدوا أحدا منهم ولعل خروجهم سرا لا ينافيه ما تقدم عن ليلى امرأة عامر بن ربيعة من سؤال عمر لها واخبارها له بأنها تريد أرض الحبشة فلما وصلوا الى أرض الحبشة نزلوا بخير دار عند خير جار فمكثوا فى أرض الحبشة بقية رجب وشعبان الى رمضان فلما كان شهر رمضان قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين سورة { والنجم إذا هوى } أى وقد أنزلت عليه فى ذلك الوقت ففى كلام بعضهم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مع المشركين وأنزل الله تعالى عليه سورة { والنجم إذا هوى } فقرأها عليهم حتى اذا بلغ { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى }

وسوس اليه الشيطان بكلمتين فتكلم بهما ظانا أنهما من جملة ما أوحى اليه وهما تلك الغرانيق العلى أى الاصنام وان شفاعتهن لترتجى وفى لفظ لهى التى ترتجى شبهت الاصنام بالغرانيق التى هى طير الماء جمع غرنوق بكسر الغين المعجمه واسكان الراء ثم نون مفتوحة أو غرنوق بضم الغين والنون أيضا أو غرنوق بضم الغين وفتح النون وهو طير طويل العنق وهو الكركى أو يشبهه ووجه الشبه بين الاصنام وتلك الطيور أن تلك الطيور تعلو وترتفع فى السماء فالاصنام شبهت بها فى علو القدر وارتفاعه ثم مضى يقرأ السورة حتى بلغ السجدة فسجد وسجد القوم جميعا أى المسلمون والمشركون
أقول قال بعضهم ولم يكن المسلمون سمعوا الذى ألقى الشيطان وانما سمع ذلك المشركون فسجدوا لتعظيم الهتهم ومن ثم عجب المسلمون من سجود المشركين معهم من غير ايمان
قال بعضهم والنجم هى أول سورة نزل فيها سجدة أى أول سورة نزلت جملة كاملة فيها سجدة فلا ينافى أن { اقرأ باسم ربك } سورة نزلت فيها سجدة لان النازل منها أوائلها كما علمت
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قرأ يوما { اقرأ باسم ربك } فسجد في اخرها وسجد معه المؤمنون فقام المشركون على رءوسهم يصفقون
وقد روى أبو هريرة رضى الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم سجد في النجم أى غير سجدته المتقدمة التى سجد معه المشركون ومجموع ذلك يرد حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد فى شىء من المفصل قبل أن يتحول الى المدينة لان سورة النجم من المفصل لان عند أئمتنا أن أول المفصل الحجرات على الراجح من أقوال عشرة
لا يقال لعل ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ممن يرى أن النجم ليس من المفصل لانا نقول { اقرأ باسم ربك } من المفصل اتفاقا وعلى ما قال أئمتنا يكون فى المفصل ثلاث سجدات في النجم والانشقاق { اقرأ باسم ربك } وهى أى النجم أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
وذكر الحافظ الدمياطى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأى من قومه كفا عنه أى تركا وعدم تعرض له فجلس خاليا فتمنى فقال ليته لم ينزل على شىء ينفرهم عنى وفى رواية تمنى أن ينزل عليه ما يقارب بينه وبينهم حرصا على اسلامهم وقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما مجلسا فى ناد من تلك الاندية حول الكعبة فقرأ عليهم { والنجم إذا هوى } الى اخر ما تقدم والله أعلم

ومن جملة من كان مع المشركين حينئذ الوليد بن المغيرة لكنه رفع ترابا الى جبهته فسجد عليه لانه كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود
وقيل الذى فعل ذلك سعيد بن العاص ويقال كلاهما فعل ذلك وقيل الفاعل لذلك أمية بن خلف وصحح وقيل عتبة بن ربيعة وقيل أبو لهب وقيل المطلب
وقد يقال لا مانع أن يكونوا فعلوا ذلك جميعا بعضهم فعل ذلك تكبرا وبعضهم فعل ذلك عجزا وممن فعل ذلك تكبرا أبو لهب فقد جاء وفيها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والانس غير أبى لهب فانه رفع حفنة من تراب الى جبهته وقال يكفى هذا
ولا يخالف ذلك مانقل عن ابن مسعود ولقد رأيت الرجل أى الفاعل لذلك قتل كافرا لانه يجوز أن يكون المراد بقتل مات فعند ذلك قال المشركون له صلى الله عليه وسلم قد عرفنا أن الله تعالى يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما اذا جعلت لنا نصيبا فنحن معك فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فى البيت
وفيه أنه كيف يكبر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك مع أنه موافق لما تمناه من أن الله ينزل عليه ما يقارب بينه وبين المشركين حرصا على اسلامهم المتقدم ذلك عن سيرة الدمياطى الا أن يقال هذا كان بعد ما عرض السورة على جبريل وقال له ما جئتك بهاتين الكلمتين المذكور ذلك فى قولنا فلما أمسى صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فعرض عليه السورة وذكر الكلمتين فيها فقال له جبريل ما جئتك بهاتين الكلمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت على الله ما لم يقل أى فكبر عليه ذلك فأوحى الله تعالى اليه ما فى سورة الاسراء { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره } بموافقتك لهم على مدح الهتهم بما لم نرسل به اليك { وإذا } لو فعلت أى دمت عليه { لاتخذوك خليلا } الى قوله { ثم لا تجد لك علينا نصيرا } أى مانعا يمنع العذاب عنك وهذا يدل لما تقدم أنه تكلم بذلك ظانا أنه من جملة ما أوحى اليه
وقيل نزل ذلك لما قال له اليهود حسدا له صلى الله عليه وسلم على اقامته بالمدينة لئن كنت نبيا فالحق بالشام لانها أرض الانبياء حتى نؤمن بك فوقع ذلك فى قلبه فخرج برحله فنزلت فرجع أى بدليل ما بعدها وقيل ان التى بعدها نزلت فى أهل مكة

وقيل ان اية { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك } نزلت في ثقيف قالوا لاندخل فى أمرك حتى تعطينا خلالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا ننحنى في صلاتنا وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فان قالت العرب لم فعلت ذلك فقل ان الله أمرنى
وقيل نزلت فى قريش قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بالهتنا وتمسها بيدك
وقد يدعى أن هذا مما تعدد أسباب نزوله والقاضى البيضاوى اقتصر على ما عدا الاول والله أعلم
قال وقيل ان هاتين الكلمتين لم يتكلم بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وانما ارتصد الشيطان سكتة عند قوله الاخرى فقالهما محاكيا نغمته صلى الله عليه وسلم فظنهما النبى صلى الله عليه وسلم كما فى شرح المواقف ومن سمعه أنهما من قوله صلى الله عليه وسلم أى حتى قال قلت على الله ما لم يقل وتباشر بذلك المشركون وقالوا ان محمدا قد رجع الى ديننا أى دين قومه حتى ذكر أن الهتنا لتشفع لنا وعند ذلك أنزل الله تعالى قوله { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } أى قراءته ما ليس من القران أى مما يرضاه المرسل اليهم وفى البخارى اذا حدث ألقى الشيطان فى حديثه فينسخ الله ما يلقى الشيطان يبطله ثم يحكم الله اياته أى يثبتها والله عليم بالقاء الشيطان ما ذكر حكيم فى تمكينه من ذلك يفعل ما يشاء ليميز به الثابت على الايمان من المتزلزل فيه ولم أقف على بيان أحد من الانبياء والمرسلين وقع له مثل ذلك
وفيه كيف يجترىء الشيطان على التكلم بشىء من الوحى ومن ثم قيل هذه القصة طعن فى صحتها جمع وقالوا انها باطلة وضعها الزنادقة أى ومن ثم أسقطها القاضى البيضاوى ومن جملة المنكرين لها القاضى عياض فقد قال هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل وانما أولع به المفسرون المؤرخون المولعون بكل غريب أى وقال البيهقى رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم وقال الامام النووى نقلا عنه

وأما ما يرويه الاخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى على لسانه من الثناء على الهتهم فباطل لا يصح منه شىء لا من جهة النقل ولا من جهة العقل لان مدح اله غير الله كفر ولا يصح نسبة ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يقوله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك أى وألا يلزم عدم الوثوق بالوحى
وقال الفخر الرازى هذه القصة باطلة موضوعة لا يجوز القول بها قال الله تعالى { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } أى الشيطان لايجترىء أن ينطق بشىء من الوحى وقال بصحتها جمع منهم خاتمة الحفاظ الشهاب ابن حجر وقال رد عياض لافائدة فيه ولا يعول عليه هذا كلامه وفشا أمر تلك السجدة فى الناس حتى بلغ أرض الحبشة أن أهل مكة أى عضماءهم قد سجدوا وأسلموا حتى الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص
وفى كلام بعضهم والناقل لاسلامه أنه لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقد أنهم أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع معهم فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة فظنوا صحة ذلك فقال المهاجرون بها من بقي بمكة اذا أسلم هؤلاء عشائرنا أحب الينا فخرجوا أى خرج جماعة منهم من أرض الحبشة راجعين الى مكة أى وكانوا ثلاثة وثلاثين رجلا منهم عثمان بن عفان والزبير ابن العوام وعثمان بن مظعون وذلك فى شوال حتى اذا كانوا دون مكة ساعة من نهار لقوا ركبا فسألوهم عن قريش فقال الركب ذكر محمد الهتهم بخير فتابعه الملاء ثم عاد لشتم الهتهم وعادوا له بالشر وتركناهم على ذلك فائتمر القوم فى الرجوع الى أرض الحبشة ثم قالوا قد بلغنا مكة فندخل ننظر مافيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله ثم نرجع فدخلوا مكة أى بعضهم بجوار وبعضهم مستخفيا
قال فى الامتاع ويقال ان رجوع من كان مهاجرا بالحبشة الى مكة كان بعد الخروج من الشعب هذا كلامه وفيه نظر ظاهر ويرشد اليه التبرى لانهم مكثوا فى الشعب ثلاث سنين او سنتين ومكث هؤلاء عند النجاشى حينئذ كان دون ثلاثة أشهر كما علمت وأيضا الهجرة الثانية للحبشة انما كانت بعد دخول الشعب كما سيأتى

قال فى الاصل ولم يدخل أحد مهم الا بجوار الا ابن مسعود فانه مكث يسيرا ثم رجع الى أرض الحبشة
أى وهذا من صاحب الاصل تصريح بأن ابن مسعود كان فى الهجرة الاولى وهو موافق فى ذلك لشيخه الحافظ الدمياطى لكن الحافظ الدمياطى جزم بأن ابن مسعود كان فى الهجرة الاولى ولم يحك خلافا وصاحب الاصل حكى خلافا أنه لم يكن فيها وبه جزم ابن اسحاق حيث قال ان ابن مسعود انما كان فى الهجرة الثانية فكان ينبغى للاصل أن يقول على ما تقدم
هذا وفى كلام بعضهم فلم يدخل أحد منهم مكة الا مستخفيا ولكهم دخلوا مكة الا عبدالله بن مسعود فانه رجع الى أرض الحبشة
وقد يقال لما لم يطل مكث ابن مسعود بمكة ظن به أنه لم يدخلها فلا ينافى ما سبق ويجوز أن يكون أكثرهم دخل مكة بلا جوار فأطلقوا على الكل أنهم دخلوا مستخفين فلا يخالف ماسبق أيضا ولما رجعوا لقوا من المشركين أشد ما عهدوا
قال وممن دخل بجوار عثمان بن مظعون دخل فى جوار الوليد بن المغيره ولما رأى ما يفعل بالمسلمين من الاذى قال والله ان غدوى ورواحى امنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل دينى يلقون من الاذى فى الله مالا يصيبنى لنقص كبير فمشى الى الوليد فقال يا أبا عبدشمس وفت ذمتك وقد رددت اليك جوارك قال له يا ابن أخى لعله اذاك أحد من قومى وأنت فى ذمتى فأكفيك ذلك قال لا والله ما اعترض لى أحد ولا اذانى ولكن أرضى بجوار الله عز وجل وأريد أن لا أستجير بغيره قال انطلق الى المسجد فاردد الى جوارى علانية كما أجرتك علانية فانطلقا حتى أتيا المسجد فقال الوليد هذا عثمان قد جاء يرد على جوارى فقال عثمان صدق وقد وجدته وفيا كريم الجوار ولكنى لا أستجير بغير الله عزوجل قد رددت عليه جواره فقال الوليد أشهدكم أنى برىء من جواره الا أن يشاء ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك فى مجلس من قريش ينشدهم قبل اسلامه فجلس عثمان معهم فقال لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل فقال عثمان صدقت فقال لبيد وكل نعيم لا محالة زائل فقال عثمان كذبت نعيم الجنة لا يزول فقال لبيد يا معشر قريش ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم فقال رجل من القوم ان هذا سفيه فمن سفاهته فارق ديننا فلا

تجدن فى نفسك من قوله فرد عليه عثمان فقام ذلك الرجل فلطم عينه والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال أما والله يا ابن أخى كانت عينك عما أصابها لغنية ولقد كنت فى ذمة منيعة فخرجت منها وكنت عن الذى لقيت غنيا فقال عثمان رضى الله تعالى عنه بل كنت الى الذى لقيت فقيرا والله ان عينى الصحيحة التى لم تلطم لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها فى الله عز وجل ولى فيمن هو أحب الى منكم أسوة وانى لفى جوار من هو أعز منك انتهى فعثمان فهم أن لبيدا أراد بالنعيم ما هو شامل لنعيم الاخرة ومن ثم قال له نعيم الجنة لا يزول لا يقال لولا أن لبيدا يريد مطلق النعيم الشامل لنعيم الاخرة لما تشوش من الرد عليه لانا نقول يجوز أن يكون تشوشه من مشافهة عثمان له بقوله كذبت
على أن هذا السياق دال على أن لبيدا قال هذا الشعر قبل اسلامه ويؤيده ما قيل أكثر أهل الاخبار على أن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم وبه يرد ما فى الاستيعاب أن هذا أى قوله أ لا كل شىء الى اخره شعر حسن فيه ما يدل على أنه قاله فى الاسلام وكذلك قوله ** وكل امرىء يوما سيعلم سعيه ** اذا كشفت عند الاله المحاصل **
وقد يقال لا يلزم من قوله المذكور الذى لا يصدر غالبا الا عن مسلم أن يكون قاله فى حال اسلامه كما وقع لامية بن أبى الصلت حيث قال فى شعره ما لايقوله الا مسلم مع كفره ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيه امن شعره وكفر قلبه وفى رواية كاد يسلم
وذكر محيى الدين بن العربى فى قوله صلى الله عليه وسلم أصدق بيت قالته العرب وفى رواية أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد ألا كل شىء ما خلا الله باطل
اعلم أن الموجودات كلها وان وصفت بالباطل فهى حق من حيث الوجود ولكن سلطان المقام اذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله تعالى باطلا من حيث انه ليس له وجود من ذاته فحكمه حكم العدم وهذا معنى قول بعضهم قوله باطل أى كالباطل لان العالم قائم بالله تعالى لا بنفسه فهو من هذا الوجه باطل والعارف اذا وصل الى مقامات القرب فى بداية عرفانه ربما تلاشت هذه الكائنات وحجب عن شهودها بشهود الحق لا أنها زالت من الوجود بالكلية ثم اذا كمل عرفانه يشهد الحق تعالى

والخلق معا فى ان واحد وما كل أحد يصل الى هذا المقام فان غالب الناس ان شهد الحق لم يشهد الخلق وان شهد الخلق لم يشهد الحق كما تقدم عند الكلام على الوحدة أنه لا يدركها الا من أدرك اجتماع الضدين ولعل من المشهد الاول قول الاستاذ الشيخ أبى الحسن البكرى رضى الله تعالى عنه أستغفر الله مما سوى الله لان الباطل يستغفر من اثبات وجوده لذاته
ويوافق قول أكثر أهل الاخبار قول السهيلى وأسلم لبيد وحسن اسلامه وعاش فى الاسلام ستين سنة لم يقل فيها بيت شعر فسأله عمر رضى الله تعالى عنه أى فى خلافته عن تركه للشعر فقال ما كنت لاقول شعرا بعد أن علمنى الله تعالى البقرة وال عمران فزاده عمر فى عطائه خمسمائة من أجل هذا القول فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة وقيل انه قال بيتا واحدا فى الاسلام وهو ** الحمد لله الذى لم يأتنى أجلى ** حتى اكتسيت من الاسلام سربالا ** قال وممن دخل بجوار أبو سلمة بن عبد الاسد ابن عمته صلى الله عليه وسلم فانه دخل فى جوار خاله أبى طالب ولما أجاره مشى اليه رجال من بنى مخزوم فقالوا يا أبا طالب منعت منا ابن أختك فمالك ولصاحبنا تمنعه منا فقال انه استجار بى وهو ابن أختى وأنا ان لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى فقام أبو لهب على أولئك الرجال وقال لهم يا معشر قريش لا تزالون تعارضون هذا الشيخ فى جواره من قومه والله لتنتهن أو لاقومن معه فى كل مقام يقوم فيه حتى يبلغ ما أراد قالوا بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة أى لانه كان لهم وليا وناصرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى أى وطمع أبو طالب فى أبى لهب حيث سمعه يقول ما ذكر ورجا أن يقوم معه فى شأنه صلى الله عليه وسلم وأنشد أبياتا يحرضه فيها على نصرته صلى الله عليه وسلم
وممن أوذى فى الله بعد اسلامه ووقع له نظير ما وقع لعثمان بن مظعون رضى الله عنه عمر بن الخطاب
وسبب اسلامه على ما حدث به بعضهم قال قال لنا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدء اسلامى أى ابتداؤه والسبب فيه قلنا نعم قال كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا أنا فى يوم حار شديد الحر بالهاجرة فى بعض طرق مكة اذ لقينى رجل من قريش أى وهو نعيم بن عبدالله

النحام بالحاء المهملة قيل له ذلك لانه صلى الله عليه وسلم قال فيه لقد سمعت نحمته فى الجنة أى صوته وحسه كان يخفى اسلامه خوفا من قومه وأخبرنى أن أختى يعنى أم جميل واسمها فاطمة كما تقدم وقيل زينب وقيل امنة قد صبئت أى أسلمت وكذا زوجها وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وهو ابن عم عمر وكانت أخت سعيد عاتكة تحت عمر فرجعت مغضبا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين اذا أسلما عند الرجل به قوة يكونان معه يصيبان من طعامه وقد ضم الى زوج أختى رجلين ممن أسلم أى أحدهما خباب بن الارت بالمثناة فوق والاخر لم أقف على اسمه
وفى السيرة الهشامية الاقتصار على خباب وأنه كان يختلف اليهما ليعلمهما القران فجئت حتى قرعت الباب فقيل لى من بالباب قلت ابن الخطاب وكان القوم جلوسا يقرءون صحيفة معهم فلما سمعوا صوتى تبادروا أى واستخفوا ونسوا الصحيفة فقامت المراة يعنى أخته ففتحت لى فقلت لها يا عدوة نفسها قد بلغنى أنك قد صبوت وضربتها بشىء كان فى يدى فسال الدم فلما رات الدم بكت وقالت يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت فدخلت وجلست على السرير فنظرت فاذا بالصحيفة فى ناحية من البيت فقلت ما هذا الكتاب اعطينيه أى فان عمر كان كاتبا فقالت لا أعطيكه لست من أهله أنت لا تغتسل من الجنابة و لا تتطهر وهذا لا يمسه الا المطهرون فلم أزل حتى أعطتنيه أى بعد أن اغتسل كما فى بعض الروايات وفي بعض الروايات قالت له يا أخى انك نجس على شركك فانه لا يمسه الا المطهرون وقولها لا تغتسل من الجنابة ربما يخالف قول بعضهم ان أهل الجاهلية كانوا يغتسلون من الجنابة وكون عمر كان يخالفهم فى ذلك من البعيد وكون هذا منها يحمل على أنه لم يغتسل غسلا يعتد به يخالفه ما تقدم عن بعض الروايات أنه لما اغتسل دفعت له تلك الرقعة وفى لفظ قالت له انا نخشاك عليها قال لا تخافى وحلف لها بالهته ليردنها اذا قرأها فدفعتها له أى وطمعت فى اسلامه فاذا فيها { بسم الله الرحمن الرحيم } قال فلما مررت على { بسم الله الرحمن الرحيم } ذعرت أى فزعت ورميت الصحيفة من يدى ثم رجعت الى نفسى فأخذتها فاذا فيها { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فكلما مررت باسم من أسمائه عزوجل ذعرت أى فألقيها ثم ترجع الى نفسى

فاخذها حتى بلغت { آمنوا بالله ورسوله } الى قوله تعالى { إن كنتم مؤمنين } فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا منى وحمدوا الله عزوجل ثم قالوا يا ابن الخطاب أبشر فان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا فقال اللهم أعز الاسلام وفى لفظ أيد الاسلام بأحد الرجلين اما بأبي جهل بن هشام واما بعمر بن الخطاب أى وفى لفظ بأحب هذين الرجلين اليك أبى الحكم عمرو بن هشام يعنى أبا جهل وعمر بن الخطاب أى وفى غير ما رواية بعمر ابن الخطاب من غير ذكر أبى جهل
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت انما قال صلى الله عليه وسلم اللهم أعز عمر بالاسلام لان الاسلام يعز ولا يعز ولعل قول عائشة ما ذكر نشأ عن اجتهاد منها بدليل تعليلها واستبعادها أن يعز الاسلام بعمر فليتأمل وكان دعاؤه صلى الله عليه وسلم بذلك يوم الاربعاء فأسلم عمر يوم الخميس قال عمر رضى الله تعالى عنه فلما عرفوا منى الصدق قلت لهم أخبرونى بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا هو فى بيت بأسفل الصفا ووصفوه أى وهى دار الارقم فخرجت وفى رواية أن عمر قال ياخباب انطلق بنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خباب وابن عمه سعيد معه قال عمر لما قرعت الباب قيل من هذا قلت ابن الخطاب فما اجترأ أحد أن يفتح لى الباب لما عرفوه من شدتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا اسلامى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افتحوا له فان يرد الله به خيرا يهده وفى لفظ يهديه باثبات الياء وهى لغة ففتحوا لى أى والذى أذن فى دخوله حمزة بن عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فان اسلام عمر كان بعد اسلام حمزة بثلاثة أيام وقيل بثلاثة أشهر وكان اسلام عمر وهو ابن ست وعشرين سنة قال وأخذ رجلان بعضدى حى دنوت من النبى صلى الله عليه وسلم فقال أرسلوه فارسلونى فجلست بين يديه صلى الله عليه وسلم فاخذ بمجامع قميصى فجذبني اليه ثم قال أسلم يا ابن الخطاب اللهم اهده فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بطرف مكة
أى وفى الاوسط للطبرانى ورواه الحاكم باسناد حسن عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب صدر عمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول اللهم

أخرج ما فى صدر عمر من غل وأبدله ايمانا أى ولعل خبابا وسعيدا لم يدخلا معه والا لبشرا باسلام عمر
وفى رواية لما ضرب الباب وسمعوا صوته قام رجل فنظر من خلل الباب فراه متوشحا سيفه أى ولم ير معه خبابا ولا سعيدا فرجع الى النبى صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا سيفه نعوذ بالله من شره فقال حمزه بن عبدالمطلب فائذن له فان كان جاء يريد خيرا بذلنا له وان كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه
وفى لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال ان جاء بخير قبلناه وان جاء بشر قتلناه وفى لفظ ان يرد بعمر خير يسلم وان يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائذن له فاذن له الرجل ونهض اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه فى صحن الدار فأخذ بحجزته وجذبه جذبة شديدة وقال ما جاء بك يا بان الخطاب فو الله ما أدرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة وفى لفظ أخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه وقال ما أنت منته ياعمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما أنزل الله بالوليد بن المغيرة أى أحد المستهزئين به صلى الله عليه وسلم كما تقدم فقال يارسول الله جئت لأومن بالله ورسوله أشهد أنك رسول الله وفى رواية ( أشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيره عرفت وفى رواية سمعها أهل المسجد
وفى رواية لما جاء دفع الباب فوجد بلالا وراء الباب فقال بلال من هذا فقال عمر بن الخطاب فقال حتى أستأذن لك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بلال يا رسول الله عمر بالباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يرد الله به خيرا أدخله فى الدين فقال لبلال افتح له وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضبعه فهزه
وفى رواية أخذ ساعده وانتهره فارتعد عمر هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس وفى لفظ أخذ بمجامع ثيابه ثم نتره نترة فما تمالك عمر أن وقع على ركبتيه فقال صلى الله عليه وسلم الله اللهم هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب ما الذى تريد وما الذى جئت له فقال عمر اعرض على الذى تدعو اليه

فقال تشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأسلم عمر مكانه
أقول ولا ينافى هذا ما تقدم من اسلامه واتيانه بالشهادتين فى بيت اخته قبل خروجه اليه صلى الله عليه وسلم وقوله ولم يعلموا اسلامى لانه يجوز أن يكون مراده بقوله جئت لأومن جئت لاظهر ايمانى عندك وعند أصحابك وعند ذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم يا ابن الخطاب الى اخره وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم اعرض على الذى تدعو اليه يجوز أن يكون عمر جوز أن الذى يدعو اليه ويصير به المسلم مسلما أخص مما نطق به من الشهادتين والله أعلم قال عمر وأحببت أن يظهر اسلامى وأن يصيبنى ما يصيب من أسلم من الضرر والاهانة فذهبت الى خالى وكان شريفا فى قريش وأعلمته أنى صبوت أى وهو أبو جهل
وقد جاء فى بعض الروايات قال عمر لما أسلمت تذكرت أى أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة حتى اتيه فأخبره أنى قد أسلمت فذكرت أبا جهل فجئت له فدققت عليه الباب فقال من بالباب قلت عمر بن الخطاب فخرج الى فقال مرحبا وأهلا يا ابن أختى ما جاء بك قلت جئت لاخبرك وفى لفظ لابشرك ببشارة فقال أبو جهل وما هى يا ابن أختى فقلت انى قد امنت بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وصدقت ما جاء به فضرب الباب فى وجهى أى أغلقه وهو بمعنى أجاف الباب كما فى بعض الروايات وقال قبحك الله وقبح ما جئت به أى وانما كان أبو جهل خال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قيل لان أم عمر أخت أبى جهل وقيل لان أم عمر بنت هشام بن المغيرة والد أبى جهل فأبو جهل خال أم عمر وقيل ان أم عمر بنت عم أبى جهل وصححه ابن عبد البر وعصبة الام أخوال الابن قال عمر وجئت رجلا اخر من عظماء قريش وأعلمته أنى صبوت فم يصبنى منها شىء فقال لى رجل تحب أن يعلم اسلامك قلت نعم قال اذا جلس الناس يعنى قريشا فى الحجر واجتمعوا فائت فلانا لشخص كان لا يكتم السر وهو جميل بن معمر رضى الله عنه أسلم يوم الفتح وشهد مع النبى صلى الله عليه وسلم حنينا وكان يسمى ذا القلبين وفيه نزلت { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ومات فى خلافة عمر رضى الله تعالى عنه وحزن عليه عمر حزنا شديدا فقل له فيما بينك وبينه اني قد صبوت قال فلما اجتمعت الناس فى الحجر جئت الرجل فدنوت منه واخبرته فرفع صوته بأعلاه فقال

الا ان عمر بن الخطاب قد صبأ فما زال الناس يضربونى وأضربهم فقام خالى يعنى أباجهل على الحجر فأشار بكمه وقال ألا انى أجرت ابن اختى فانكشف الناس عنى فصرت أى بعد ذلك أرى الواحد من المسلمين يضرب وأنا لا أضرب فقلت ما هذا بشىء حتى يصيبنى ما يصيب المسلمين فأمهلت حتى جلس الناس فى الحجر وصلت الى خالى وقلت له جوارك عليك رد فقال لا تفعل يا ابن أختى فقلت بل هو ذاك فمازلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الاسلام
أى وفى السيرة الهشامية بينما القوم يقاتلونه ويقاتلهم اذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليه أى وهو العاص بن وائل فقال ويلكم ما شأنكم قالوا صبأ عمر قال فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون أترون بنى عدى بن كعب مسلمين لكم صاحبهم هكذا خلوا عن الرجل فانفرجوا عنه كأنهم ثوب كشط عنه
أى وفى البخارى لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره وقالوا صبأ عمر فبينما عمر في داره خائفا اذ جاءه العاص بن وائل فقال له مالك قال زعم قومك أنهم سيقتلونى ان أسلمت أى اذ أسلمت قال أمنت لا سبيل اليك فخرج العاص فلقى الناس قد سال بهم الوادى فقال أين تريدون فقالوا نريد هذا عمر بن الخطاب الذى صبأ قال لا سبيل اليه فأنا له جار فكسر الناس وتصدعوا عنه أى ويذكر أن عتبة بن ربيعة وثب عليه فالقاه عمر الى الارض وبرك عليه وجعل يضربه وأدخل أصبعيه في عينيه فجعل عتبة يصيح وصار لا يدنو منه أحد الا أخذ بشرا سيفه وهى أطراف أضلاعه
وعن عمر رضى الله تعالى عنه فى سبب اسلامه قال خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقنى الى المسجد فقمت خلفه فاستفتح بسورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القران فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش فقرأ { إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } قال قلت كاهن علم ما فى نفسى فقرأ { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } الى اخر السورة فوقع الاسلام فى قلبى كل موقع
أى ومن ذلك ما فى السيرة الهشامية عن عمر رضى الله تعالى عنه قال جئت المسجد

أريد أن أطوف بالكعبة فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى وكان اذا صلى استقبل الشام أى صخرة بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبين الشام فكان مصلاه بين الركن الاسود والركن اليمانى أى لانه لايكون مستقبلا لبيت المقدس الا حينئذ كما تقدم قال فقلت حين رأيته صلى الله عليه وسلم لو أنى استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول قال فقلت لئن دنوت منه أستمع لاروعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها يعنى الكعبة فجعلت أمشى رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى فقرأ صلى الله عليه وسلم الرحمن حتى قمت فى قبلته مستقبله ما بينى وبينه الا ثياب الكعبة فلما سمعت القران رق له قلبى فبكيت ودخلنى الاسلام فلم أزل قائما فى مكانى ذلك حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ثم انصرف فتبعته فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حسى عرفنى وظن أنما تبعته لاوذيه فنهمنى أى زجرني ثم قال ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة قلت جئت لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله وفى رواية ضرب أختى المخاض ليلا فخرجت من البيت فدخلت فى أستار الكعبة فجاء النبى صلى الله عليه وسلم فدخل الحجر فصلى فيه ماشاء الله ثم انصرف فسمعت شيئا لم أسمع مثله فخرج فاتبعته فقال من هذا قلت عمر قال ياعمر ماتدعنى لا ليلا ولا نهارا فخشيت أن يدعو على فقلت أشهد أن لا اله الا الله وأنك رسول الله فقال يا عمر أتسره قلت لا والذى بعثك بالحق لاعلننه كما أعلنت الشرك فحمد الله تعالى ثم قال هداك الله يا عمر ثم مسح صدرى ودعا لى بالثبات ثم انصرفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بيته
أى ويحتاج للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها ثم رأيت العلامة ابن حجر الهيتمى قال ويمكن الجمع بتعداد الواقعة قبل اسلامه هذا كلامه ليتأمل مافيه
قال ومن ذلك أى مما كان سببا لاسلام عمر أن أبا جهل بن هشام قال يا مشعر قريش ان محمدا قد شتم الهتكم وسفه أحلامكم وزعم أن من مضى من أسلافكم يتهافتون فى النار ألا ومن قتل محمدا فله على مائة ناقة حمراء وسوداء وألف أوقية من فضة أى وفى لفظ جعلوا لم يقتله كذا وكذا أوقية من الذهب وكذا كذا أوقية من الفضة وكذا كذا نافجة من المسك وكذا كذا ثوبا وغير ذلك فقال عمر أنا لها فقالوا له أنت لها ياعمر وتعاهد معهم على ذلك قال عمر فخرجت متقلدا سيفى متنكبا كنانتى

أى جعلتها فى منكبى أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت على عجل يذبح فسمعت من جوفه صوتا يقول يا ال ذريح صائح يصيح بلسان فصيح يدعو الى شهادة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فقلت فى نفسى ان هذا الامر لا يراد به الا أنت وذريح اسم للعجل المذبوح وقيل له ذلك من أجل الدم لان الذريح شديد الحمرة يقال أحمر ذريحى أى شديد الحمرة ثم مر برجل أسلم وكان يكتم اسلامه خوفا من قومه يقال له نعيم أى ابن عبدالله النحام كما تقدم فقال له أين تذهب يا ابن الخطاب فقال أريد هذا الصابى الذى فرق أمر قريش وسفه أحلامها وسب الهتها فأقتله فقال له نعيم والله لقد غرتك نفسك أترى بنى عبدمناف تاركيك تمشى على وجه الارض وقد قتلت محمدا فلا ترجع الى أهل بيتك فتقيم أمرهم قال وأى أهل بيتى قال ختنك أى زوج أختك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأختك قد أسلما فعليك وانما فعل ذلك نعيم ليصرفه عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل الذى لقيه سعد بن أبى وقاص فقال له أين تريد يا عمر فقال أريد أن أقتل محمدا قال له أنت أصغر وأحقر من ذلك تريد أن تقتل محمدا وتدعك بنو عبدمناف أن تمشى على الارض فقال له عمر ما أراك الا وقد صبأت فأبدأ بك فاقتلك فقال سعد أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله فسل عمر سيفه وسل سعد سيفه وشد كل منهما على الاخر حتى كاد أن يختلطا ثم قال سعد لعمر مالك يا عمر لا تصنع هذا بختنك وأختك فقال صبا قال نعم فتركه عمر وسار الى منزل أخته أى ولا مانع أن يكون لقى كلا من نعيم وسعد بن أبى وقاس وقال له كل منهما ماذكر
وفى هذه الرواية وجد عندهم خباب بن الارت معه صحيفة فيها سورة طه يقرؤها عليهم وانه دق عليهم الباب فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب أى وترك الصحيفة فلما دخل قال لاخته ما هذه الهينمة التى سمعت قالت له ماسمعت شيئا غير حديث تحدثنا به بيننا قال بلى والله لقد أخبرت أنكما يخاطب أخته وزوجها بايعتما محمدا على دينه وبطش بزوج أخته فألقاه الى الارض وجلس على صدره وأخذ بلحيته فقامت اليه أخته لتكفه عن زوجها فضربها فشجها أى فلما رأت الدم قالت له ياعدو الله أتضربنى على أن أوحد الله تعالى لقد أسلمت على رغم أنفك فاصنع ما أنت صانع فلما رأى ما بأخته وما صنع بزوجها ندم وقال لاخته أعطنى هذه الصحيفة أنظر ما هذا الذى جاء

به محمد وكان عمر كاتبا قالت أخشاك عليها فحلف ليردنها اذا قرأها اليها فقالت له يا أخى أنت نجس ولا يمسه الا الطاهر فقام واغتسل أى وفى لفظ فذهب يغتسل فخرج اليها خباب وقال أتدفعين كتاب الله تعالى الى عمر وهو كافر قالت نعم انى أرجو أن يهدى الله أخى ورجع خباب الى محله ودخل عمر فأعطته تلك الصحيفة فلما قرأها عمر وبلغ { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } قال أشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا عبده ورسوله أه أى وفى رواية أنه لما قرأ الصحيفة قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه أى وقيل انه لما انتهى الى قوله تعالى { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } قال ينبغى لمن يقول هذا أن لا يعبد معه غيره فلما سمع ذلك خباب خرج اليه فقال يا عمر انى لارجو أن يكون الله تعالى قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فانى سمعته أمس وهو يقول اللهم أيد الاسلام بأبى الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر فقال له عند ذلك دلنى يا خباب على محمد حتى اتيه فأسلم أى عنده وعند أصحابه فلا ينافى ما فى الرواية الاولى أنه أسلم فقال له خباب هو فى بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه فعمد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث
أقول ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين حيث كانت القصة واحدة ولم تتعدد بأنه يجوز أن يكون زوج أخته استخفى أولا مع خباب ورفيقه ثم ظهر فأوقع به وباخته ما ذكر وأنه فى الرواية الاولى اقتصر على ذكر أخته والصحيفة تعددت واحدة فيها { سبح لله ما في السماوات والأرض } والثانية فيها طه اقتصر فى الرواية الاولى على احداهما وهى التى فيها { سبح لله } وفى الرواية الثانية على الاخرى التى فيها { طه } وانه في الرواية الاولى أسلم وفى الرواية الثانية سكت عن ذلك والله أعلم
وعن ابن عباس أيضا رضى الله تعالى عنهما لما أسلم عمر رضى الله تعالى عنه قال المشركون لقد انتصف القوم منا
وعن ابن عباس أيضا رضى الله تعالى عنهما لما أسلم عمر رضى الله تعالى عنه نزل جبريل عليه السلام على النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد استبشر أهل السماء باسلام عمر
قال وروى البخارى عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه مازلنا أعزة منذ أسلم

عمر اه وزاد بعضهم عن ابن مسعود والله لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلى بالكعبة أى عندها ظاهرين امنين حتى أسلم عمر فقاتلهم حتى تركونا فصلينا أى وجهروا بالقراءة وكانوا قبل ذلك لا يقرءون الا سرا كما تقدم وعن صهيب لما أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقا
وفى كلام ابن الاثير مكث صلى الله عليه وسلم مستخفيا فى دار الارقم ومن معه من المسلمين الى أن كملوا أربعين بعمر بن الخطاب وعند ذلك خرجوا وتقدم ما فى ذلك
ومما يؤثر عن عمر رضى الله تعالى عنه من اتقى الله وقاه ومن توكل عليه كفاه السيد هو الجواد حين يسأل الحليم حين يستجهل أشقى الولاة من شقيت به رعيته أعدل الناس أعذرهم للناس
وفى مختصر تاريخ الخلفاء لابن حجر الهيتمى أن عمر أول من قال أطال الله تعالى بقاءك وأيدك الله قال ذلك لعلى رضى الله تعالى عنه وهو أول من استقضى القضاة فى الامصار
ويروى أن الارقم هذا لما كان بالمدينة بعد الهجرة تجهز ليذهب فيصلى فى بيت المقدس فلما فرغ من جهازه جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم يودعه فقال له ما يخرجك أى من المدينة حاجة أم تجارة قال لا يا رسول الله بأبى أنت وأمى ولكن أريد الصلاة فى بيت المقدس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام فجلس الارقم ولم يذهب لبيت المقدس
ولما حضرته الوفاة أوصى أن يصلى عليه سعد بن أبى وقاص فلما مات كان سعد بالعقيق فقال مروان يحبس صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل غائب وأراد الصلاة عليه فأبى ولده ذلك على مروان ووقع بينهم كلام ثم جاء سعد وصلى على الارقم
أى وقيل لعمر رضى الله عنه ما سبب تسمية النبى صلى الله عليه وسلم لك بالفاروق قال لما أسلمت والنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه مختفون قلت يا رسول الله ألسنا على

الحق ان متنا وان حيينا قال بلى والذى نفسى بيده انكم على الحق ان متم وان حييتم فقلت ففيم الاختفاء والذى بعثك بالحق ما بقى مجلس كنت أجلس فيه بالكفر الا أظهرت فيه الاسلام غير هائب ولا خائف والذى بعثك بالحق لنخرجن فخرجنا فى صفين حمزة فى أحدهما وأنا فى الاخر له أى لذلك الجمع كديد ككديد الطحين أى لذلك الجمع غبار ثائر من الارض لشدة وطء الاقدام لان الكديد التراب الناعم اذا وطىء ثار غباره قال حتى دخلنا المسجد فنظرت قريش الى والى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها أى فطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم رجع ومن معه الى دار الارقم فسمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق فرق الله بى بين الحق والباطل
أى وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج فى صفين حمزة فى أحدهما وعمر فى الاخر لهم كديد ككديد الطحين
وفى رواية أن عمر رضى الله تعالى عنه قال له يارسول الله لا ينبغى أن تكتم هذا الدين أظهر دينك وفى رواية والله لا يعبد الله سرا بعد اليوم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المسلمون وعمر أمامهم معه سيفه يناى لا اله الا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد ثم صاح مسمعا لقريش كل من تحرك منكم لامكنن سيفى منه ثم تقدم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف والمسلمون ثم صلوا حول الكعبة وقرءوا القران جهرا وكانوا كما تقدم لا يقدرون على الصلاة عند الكعبة ولا يجهرون بالقرآن
وفى المنتقى على ما نقله بعضهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر أمامه وحمزة بن عبدالمطلب رضى الله تعالى عنهما حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الى دار الارقم
وفيه أن صلاة الظهر لم تكن فرضت حينئذ الا أن يقال المزاد بصلاة الظهر الصلاة التى وقعت فى ذلك الوقت أى ولعل المراد بها صلاة الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة صلاهما فى وقت الظهر
وعن عمر رضى الله عنه وافقت ربى فى ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى فنزلت { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وقلت يا رسول الله

ان نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن ان يحتجبن فنزلت اية الحجاب واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه فى الغيرة فقلت لهن عسى ربه ان طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت أى وقد قال له بعض نسائه صلى الله عليه وسلم يا عمر أما فى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ومنع رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى على عبدالله بن أبى بن سلول
وفى البخارئ لما توفى عبدالله بن أبى جاء ولده عبدالله رضى الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه وهذا لا يخالف مافى تفسير القاضى البيضاوى من أن ابن أبى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه فلما دخل عليه فسأله أن يستغفر له ويكفنه فى شعاره الذى يلى جسده الشريف ويصلى عليه فلما ما أرسل له صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه لانه يجوز أن يكون ارساله للقميص بسؤال ولده له صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه
قال فى الكشاف فان قلت كيف جازت له صلى الله عليه وسلم تكرمة المنافق وتكفينه فى قميصه
قلت كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له وذلك أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكا رجلا طوالا فكساه عبدالله قميصه أى ولأن الضنة بارساله القميص سيما وقد سئل فيه مخل بالكرم وقال له المشركون يوم الحديبية انا لانأذن لمحمد ولكن نأذن لك فقال لا ان لى فى رسول الله أسوة حسنة فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك واكراما لابنه
وفى هذا تصريح بأن ابن أبى كان مع المسلمين فى بدر وفى الحديبية ثم ان ابنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى عليه فقال له أسألك أن تقوم على قبره لا تشمت به الاعداء أى وذلك بعد سؤال ولده له صلى الله عليه وسلم فى ذلك كما تقدم عن القاضى البيضاوى فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه فقام عمر رضى الله تعالى عنه فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أتصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما خيرت فقال { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وسأزيده على السبعين وفى رواية أتصلى على ابن أبى وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعد عليه

قوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أخر عنى ياعمر فلما أكثرت عليه قال انى خيرت لو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } الى قوله { وهم فاسقون } ولينظر ما معنى التخيير فى الاية وما الجمع بين قوله سازيد علة السبعين وقوله ولو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها
ثم رأيت القاضى البيضاوى قال فى وجه التخيير وقوله سأزيد على السبعين انه صلى الله عليه وسلم فهم من السبعين العدد المخصوص لانه الاصل فجوز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له أى الحق سبحانه أن المراد به التكثير بقوله فى الاية الاخرى { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } هذا كلامه وحينئذ يشكل قوله لو أعلم أنى ان زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها فان هذا مقتض لعدم الصلاة عليه لا للصلاة عليه فليتأمل وقد قال على رضى الله تعالى عنه ان فى القران لقرانا من رأى عمر وما قال الناس فى شىء وقال فيه عمر الا جاء القران بنحو ما يقول عمر
وقد أوصل بعضهم موافقاته أى الذى نزل القران على وفق ما قال وما أراد الى أكثر من عشرين أى وقد أفردها بعضهم بالتأليف وقد سئل عنها الجلال السيوطي فأجاب عنها نظما
قال عبدالله بن عمر رضى الله تعالى عنهما ما نزل بالناس أمر فقال الناس وقال عمر الا نزل القران على نحو ما قال عمر
وعن مجاهد كان عمر يرى الرأى فينزل به القران وقد قال صلى الله عليه وسلم ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه ومن موافقاته ما سيأتى فى أسارى بدر
ومنها أنه لما سمع قوله تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الاية قال { فتبارك الله أحسن الخالقين } فنزلت كذلك
ومنها أن بعض اليهود قال له ان جبريل الذى يذكره صاحبكم عدو لنا فقال { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين } فنزلت كذلك واستأذن رضى الله تعالى عنه النبى صلى الله عليه وسلم فى العمرة فأذن له وقال يا أخى

لا تنسنا من دعائك أى وفى رواية يا أخى أشركنا فى صالح دعائك ولا تنسنا قال عمر ما أحب أن لى بقوله يا أخى ما طلعت عليه الشمس وجاء أول من يصافحه الحق عمر بن الخطاب وأول من يسلم عليه وجاء ان الله وضع الحق على لسان عمر يقول به وجاء لو كان بعدى نبى لكان عمر بن الخطاب وممن نزل القران على وفق ما قال مصعب بن عمير أيضا رضى الله تعالى عنه كان اللواء بيده يوم أحد وسمع الصوت أن محمدا قد قتل فصار يقول { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } فنزلت = باب اجتماع المشركين على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب ابنى عبدمناف وكتابة الصحيفة
قد اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا وقالوا لقومه خذوا منا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحونا وتريحون أنفسكم فأبى قومه فعند ذلك اجتمع رأيهم على منابذة بنى هاشم وبنى المطلب واخراجهم من مكة الى شعب أبى طالب
فيه تصريح بأن شعب أبى طالب كان خارجا عن مكة والتضييق عليهم بمنع حضور الاسواق وأن لا يناكحوهم وأن لايقبلوا لهم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل أى وفى لفظ لا تنكحوهم ولا تنكحوا اليهم ولا تبيعوهم شيئا ولا تبتاعوا منهم شيئا ولا تقبلوا منهم صلحا الحديث وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها فى الكعبة أى توكيدا على أنفسهم وقيل كانت عند خالة أبى جهل
وقد يجمع بأنه يجوز أن تكون كانت عندها قبل أن تعلق فى الكعبة على أنه سيأتى أنه يجوز أن الصحيفة تعددت وكان اجتماعهم وتخالفهم فى خيف بنى كنانة بالابطح ويسمى محصبا وهو بأعلى مكى عند المقابر فدخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم الشعب الا أبا لهب فانه ظاهر عليهم قريشا وكان سنه صلى الله عليه وسلم حين دخل الشعب ستة وأربعين سنة وفى الصحيح أنهم فى الشعب جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر
وفى كلام السهيلى كانوا اذا قدمت العير مكة يأتى أحدهم السوق ليشترى شيئا من

الطعام يقتاته فيقوم أبو لهب فيقول يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم فقد علمتم مالى ووفاء ذمتى فيزيدون عليهم فى السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع الى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس فى يده شىء يعللهم به فيغدو التجار على أبى لهب فيربحهم هذا كلامه
ولا منافاة بين خروج أحدهم السوق اذا جاءت العير بالميرة الى مكة وكونهم منعوا من الاسواق والمبايعة لهم كما لا يخفى
وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع من النبوة وحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان بمكة من المسلمين أن يخرجوا الى الحبشة
أقول وفى رواية أن خروج بنى هاشم وبنى المطلب الى الشعب لم يكن اخراج قريش لهم وانما خرجوا اليه لان قريشا لما قدم عليهم عمرو بن العاص من عند النجاشى خائبا وردت معه هديتهم وفقد صاحبه الذى هو عمارة بن الوليد وبلغهم اكرام النجاشى لجعفر ومن معه من المسلمين أى كما سيأتى وظهور الاسلام فى القبائل كبر ذلك عليهم واشتد أذاهم على المسلمين واجتمع رأيهم على أن يقتلوا النبى صلى الله عليه وسلم علانية فلما رأى أبو طالب ذلك جمع بنى هاشم والمطلب مؤمنهم وكافرهم وأمرهم أن يدخلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب ويمنعوه ففعلوا فبنو هاشم وبنو المطلب كانوا شيئا واحدا لم يفترقوا حتى دخلوا معهم فى الشعب وانخزل عنهم بنو عميهم عبد شمس ونوفل ولهذا يقول أبو طالب فى قصيدته ** جزى الله عنا عبدشمس ونوفلا ** عقوبة شر عاجلا غير اجل **
وقال فى قصيدة أخرئ ** جزى الله عنا عبدشمس ونوفلا ** وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما **
فلما علمت قريش ذلك أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق على أن لا يجالسوهم الحديث
وفيه أنه سيأتى أن خروج عمرو بن العاص الى الحبشة انما كان بعد الهجرة الثانية وهى بعد دخول بنى هاشم والمطلب الى الشعب والله أعلم

= باب الهجرة الثانية الى الحبشة
لا يخفى أنه لما وقع ماذكر انطلق الى الحبشة عامة من امن بالله ورسوله أى غالبهم فكانوا عند النجاشى ثلاثة وثمانين رجلا وثمانى عشرة امراة وهذا بناء على أن عمار بن ياسر كان منهم وقد اختلف فى ذلك وكلام الاصل يميل الى ذلك وكان من الرجال جعفر ابن ابى طالب ومعه زوجته أسماء بنت عميس والمقداد بن الاسود وعبدالله بن مسعود وعبيدالله بالتصغير بن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبى سفيان فتنصر هناك ثم مات على النصرانية أى وبقيت أم حبيبة رضى الله تعالى عنها على اسلامها وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سياتى
وعن أم حبيبة رضى الله تعالى عنها قالت رأيت فى المنام كأن عبيدالله بن جحش زوجى بأسواء حال وتغيرت صورته فاذا هو يقول حين أصبح يا أم حبيبة انى نظرت فى هذا الدين فلم أر دينا خيرا من دين النصرانية وقد كنت دنت بها ثم دخلت فى دين محمد ثم خرجت الى دين النصرانية قالت فقلت والله ماخير لك وأخبرته بما رأيته له لم يحفل بذلك وأكب على الخمر يشربه حتى مات فرأيت فى المنام كأن اتيا يقول لى يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجنى فكان كذلك
أى وذكر ابن اسحاق ان أبا موسى الاشعرى هاجر الى الحبشة ومراده أنه هاجر اليها من اليمن لامن مكة كما فهم الواقدى فاعترض عليه في ذلك فعن أبى موسى أنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو باليمن فخرج هو ونحو خمسين رجلا فى سفينة مهاجرين اليه صلى الله عليه وسلم فألقتهم السفينة الى النجاشى بالحبشة فوجدوا جعفرا وأصحابه فأمرهم جعفر بالاقامة واستمروا كذلك حتى قدموا عليه صلى الله عليه وسلم هم وجعفر عند فتح خيبر كما سيأتى
وبهذا يندفع قول بعضهم ما ذكره ابن اسحق من أن أبا موسى الاشعرى هاجر من مكة الى الحبشة من الغريب جدا ولعله مدرج من بعض الرواة فأقاموا بخير دار عند خير جار فبعثت قريش خلفهم عمرو بن العاص ومعه عمارة بن الوليد بن المغيرة التى أرادت قريش دفعه لابى طالب ليكون بدلا عن النبى صلى الله عليه وسلم اذا قتلوه بهدية

الى النجاشى والهدية فرس وجبة ديياج أى وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا ليرد من جاء اليه من المسلمين فلما دخلا عليه سجدا له وقعد واحد عن يمينه والاخر عن شماله
وفى كلام بعضهم فأجلس عمرو بن العاص على سريره وقبل هديتهما فقالا ان نفرا من بنى عمنا نزلوا أرضك فرغبوا عنا وعن الهتنا أى ولم يدخلوا فى دينكم بل جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا انتم وقد بعثنا الى الملك فيهم أشراف قريش لتردوهم اليهم قال وأين هم قالوا بأرضك فأرسل فى طلبهم أى وقال له عظماء الحبشة ادفعهم اليهما فهما أعرف بحالهم فقال لا والله حتى أعلم على أى شىء هم فقال عمرو هم لا يسجدون للملك أى وفى لفظ لايخرون لك ولا يحيونك بما يحييك الناس اذا دخلوا عليك رغبة عن سنتكم ودينكم فلما جاءوا قال لهم جعفر رضى الله تعالى عنه أنا خطيبكم اليوم أى فانه لما جاءهم رسول النجاشى يطلبهم اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل اذا جئتموه قال جعفر ما ذكر وقال انما نقول ما علمنا وما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ودع يكون ما يكون وقد كان النجاشى دعا أساقفته وأمرهم بنشر مصاحفهم حوله فلما جاء جعفر وأصحابه صاح جعفر وقال جعفر بالباب يستأذن ومعه حزب الله فقال النجاشى نعم يدخل بأمان الله وذمته فدخل عليه ودخلوا خلفه فسلم فقال له الملك مالك لا تسجد
وفى لفظ ان عمرا قال لعمارة ألا ترى كيف يكتنون بحزب الله وما أجابهم به وان عمرا قال للنجاشى ألا ترى أيها الملك أنهم مستكبرون لم يحيوك بتحيتك فقال النجاشى ما منعكم أن لا تسجدوا وتحيونى بتحيتى التى أحيى بها فقال جعفر انا لا نسجد الا لله عزوجل قال ولم ذلك قال لان الله تعالى أرسل فينا رسولا وأمرنا أن لا نسجد الا لله عز وجل وأخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام فحييناك بالذى يحيى به بعضنا بعضا أى وعرف النجاشى ذلك لانه كذلك فى الانجيل كما قيل أى وأمرنا بالصلاة أى غير الخمس لانها لم تكن فرضت بل التى هى ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى أى ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان قبل غروبها على ما تقدم والزكاة أى مطلق الصدقة لازكاة المال لانها انما فرضت بالمدينة أى فى السنة الثانية ومراده بالزكاة الطهارة قال عمرو بن العاص للنجاشى فانهم يخالفونك فى ابن مريم ولا يقولون انه ابن الله عز وجل وعلا قال فما تقولون فى ابن مريم وأمه قال نقول كما قال الله عز وجل

روح الله وكلمته ألقاها الى مريم العذراء أى البكر البتول أى المنقطعة عن الازواج التى لم يمسها بشر ولم يفرضها أى يشقها ويخرج منها ولد أى غير عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم فقال النجاشى يامعشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيدون على ما تقولون أشهد أنه رسول الله وأنه الذى بشر به عيسى فى الانجيل أى ومعنى كونه روح الله أنه حاصل عن نفخه روح القدس الذى هو جبريل ومعنى كونه كلمة الله تعالى أنه قال له كن فكان أى حصل فى حال القول
وفى لفظ أن النجاشى قال لمن عنده من القسيسين والرهبان أنشدكم الله الذى أنزل الانجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا أى صفته ما ذكر هؤلاء فقالوا اللهم نعم قد بشرنا به عيسى فقال من امن به فقد امن بى ومن كفر به فقد كفر بى فعند ذلك قال النجاشى والله لولا ما أنا فيه من الملك لاتيته فأكون أنا الذى أحمل نعله وأوضئه أى أغسل يديه وقال للمسلمين انزلوا حيث شئتم سيوم بأرضى أى امنون بها وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق وقال من نظر الى هؤلاء الرهط نظرة تؤذيهم فقد عصانى
وفى لفظ ثم قال اذهبوا فأنتم امنون من سبكم غرم قالها ثلاثا أى أربع دراهم وضعفها كما جاء فى بعض الروايات وأمر بهدية عمرو ورفيقه فردت عليهما
وفى لفظ أن النجاشى قال ما أحب أن يكون لى ديرا من ذهب أى جبلا وأن أوذى رجلا منكم ردوا عليهم هداياهم فلا حاجة لى بها فو الله ما أخذ الله تعالى منى الرشوة حين رد على ملكى فاخذ الرشوة وما أطاع الناس فى فأطيعهم فيه
وكان النجاشى أعلم النصارى بما أنزل على عيسى وكان قيصر يرسل اليه علماء النصارى لتأخذ عنه العلم
أى وقد بينت عائشة رضى الله تعالى عنها السبب فى قول النجاشى ما أخذ الله منى الرشوة حين رد على ملكى وهو أن والد النجاشى كان ملكا للحبشة فقتلوه وولوا أخاه الذى هو عم النجاشى فنشأ النجاشى فى حجر عمه لبيبا حازما وكان لعمه اثنا عشر ولدا لا يصلح واحد منهم للملك فلما رأت الحبشة نجابة النجاشى خافوا أن يتولى عليهم فيقتلهم بقتلهم لابيه فمشوا لعمه فى قتله فأبى وأخرجه وباعه ثم لما كان عشاء تلك الليلة مرت على عمه صاعقة فمات فلما رأت الحبشة أن لا يصلح امرها الا النجاشى ذهبوا

وجاءوا به من عند الذي اشتراه وعقدوا له التاج وملكوه عليهم فسار فيهم سيرة حسنة
وفى رواية ما يقتضى أن الذى اشتراه رجل من العرب وأنه ذهب به الى بلاده ومكث عنده مدة ثم لما مرج أمر الحبشة وضاق عليهم ماهم فيه خرجوا فى طلبه وأتوا به من عند سيده ويدل لذلك ما سيأتى عنه أنه عند وقعة بدر أرسل خلف من عنده من المسلمين فدخلوا عليه فاذا هو قد لبس مسحا وقعد على التراب والرماد فقالوا له ما هذا أيها الملك انا نجد فى الانجيل أن الله سبحانه وتعالى اذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعا وان الله تعالى قد أحدث الينا واليكم نعمة عظيمة هى أن محمدا صلى الله عليه وسلم التقى هو وأعداؤه بواد يقال له بدر كثير الاراك كنت أرعى فيه الغنم لسيدى وهو من بنى ضمرة وان الله تعالى قد هزم أعداءه فيه ونصر دينه
وذكر السهيلى أن بكاءه عند ما تليت عليه سورة مريم أى كما سيأتى حتى أخضل لحيته يدل على طول مكثه ببلاد العرب حتى تعلم من لسان العرب مافهم به تلك السورة
قال وعن جعفر بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا خير جار وأمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشى هدايا مما يستظرف من متاع مكة وكان أعجب ما يأتيه منها الادم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا الا أهدوا له هدية أى هيئوا له هدية ولا يخالف ما تقدم من أن الهدية كانت فرسا وجبة ديباج لانه يجوز أن يكون بعض الادم ضم الى تلك الفرس والجبة للملك وبقية الادم فرق على أتباعه ليعاونوهما على ما جاء بصدده والاقتصار على الفرس والجبة فى الرواية السابقة لان ذلك خاص بالملك ثم بعثوا عمارة بن الويد وعمرو ابن العاص يطلبان من النجاشى أن يسلمنا لهم أى قبل أن يكلمنا وحسن له بطارقته ذلك لانهما لما أوصلا هداياهم اليهم قالوا لهم اذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم لنا قبل أن يكلمهم أى موافقة لما وصت عليه قريش فقد ذكر أنهم قالوا لهما ادفعوا لكل بطريق هدية قبل أن تكلما النجاشى فيهم ثم قدما للنجاشى هداياه ثم اسألاه أن يسلمهم اليكما قبل أن يكلمهم فلما جاءا الى الملك

قالا له أيها الملك انه قد صبا الى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا فى دينك وجاءوا بدين مبتدع لانعرفه نحن ولا أنت أى جاءهم به رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتبعه منا الا السفهاء وقد بعثنا اليك فيهم أشراف قومهم من ابائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم اليهم فهم أعلم بما عابوا عليهم فقال بطارقته صدقوا أيها الملك قومهم أعلم بهم فأسلمهم لهما ليرداهم الى بلادهم وقومهم فغضب النجاشى وقال لا ها الله أى لا والله لا أسلمهم ولا يكاد قوم يجاورونى ونزلوا بلادى واختارونى على من سواى حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم فان كان كما يقولان سلمتهم اليهما والا منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاورونى ثم أرسل لنا ودعانا فلما دخلنا سلمنا فقال من حضره مالكم لا تسجدون للملك قلنا لانسجد الا لله عز وجل فقال النجاشى ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا فى دينى ولا فى دين أحد من الملل فقلنا أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الاصنام ونأكل الميتة ونأتى الفواحش ونقطع الارحام ونسىء الجوار ويأكل القوى الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولا كما بعث الرسل الى من قبلنا وذلك الرسول منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا الى الله تعالى لنوحده ونعبده ونخلع أى نترك ما كان يعبد اباؤنا من دونه من الحجارة والاوثان وأمرنا أن نعبد الله تعالى وحده وأمرنا بالصلاة أى ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى والزكاة أى مطلق الصدقة والصيام أى ثلاثة أيام من كل شهر أى وهى البيض أو أى ثلاثة على الخلاف فى ذلك وامرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الارحام وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء أى ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة فصدقناه وامنا به واتبعناه على ما جاء به فعدا علينا قومنا ليردونا الى عبادة الاصنام واستحلال الخبائث فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا الى بلادك واخترناك على من سواك ورجوناك أن لانظلم عندك يا أيها الملك فقال النجاشى لجعفر هل عندك مما جاء به شىء قلت نعم قال فقرأه على فقرأت عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشى حتى أخضل أى بل لحيته وبكت أساقفته وفى لفظ هل عندك مما جاء به عن الله تعالى شىء فقال جعفر نعم قال فاقرأه على قال البغوى فقرأ عليه سورة

العنكبوت والروم ففاضت عيناه وأعين أصحابه بالدمع وقالوا زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فقال النجاشى هذا والله الذى جاء به موسى أى وفى رواية ان هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة أى وهذا كما قيل يدل على أن عيسى كان مقررا لما جاء به موسى وفى رواية بدل موسى عيسى ويؤيده ما فى لفظ أنه قال ما زاد هذا على ما فى الانجيل الا هذا العود لعود كان فى يده أخذه من الارض
وفى لفظ أن جعفرا قال للنجاشى سلهما أعبيد نحن أم أحرار فان كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فأرددنا اليهم فقال عمروا بل أحرار فقال جعفر سلهما هل أهرقنا دماء بغير حق فيقتص منا هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه فقال عمروا لا فقال النجاشى لعمرو وعمارة هل لكما عليهما دين قالا لا قال انطلقا فو الله لا أسلمهم اليكما أبدا زاد فى رواية ولو أعطيتمونى ديرا من ذهب أى جبلا من ذهب ثم غدا عمرو الى النجاشى أى أتى اليه فى غد ذلك اليوم وقال له انهم يقولون فى عيسى قولا عظيما أى يقولون انه عبد الله أى وانه ليس ابن الله
أى وفى لفظ أن عمرا قال للنجاشى أيها الملك انهم يشتمون عيسى وأمه فى كتابهم فاسألهم فذكر له جعفر ما تقدم فى الرواية الاولى
هذا وعن عروة بن الزبير انما كان يكلم النجاشى عثمان بن عفان وهو حصر عجيب فليتأمل
وروى الطبرانى عن أبى موسى الاشعرى بسند فيه رجال الصحيح أن عمرو ابن العاص مكر بعمارة بن الوليد أى للعداوة التى وقعت بينه وبينه فى سفرهما أى من أن عمرو بن العاص كان معه زوجته وكا قصيرا دميما وكان عمارة رجلا جميلا فتن امرأة عمرو وهوته فنزل هو واياه فى السفينة فقال له عمارة مر امرأتك فلتقبلنى فقال له عمرو ألا تستحى فأخذ عمارة عمرا ورمى به فى البحر فجعل عمرو يصيح وينادى أصحاب السفينة ويناشد عمارة حتى أدخله السفينة وأضمرها عمرو في نفسه ولم يبدها لعمارة بل قال لامرأته قبلى ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه فلما أتيا أرض الحبشة مكر به عمرو فقال أنت رجل جميل والنساءيحببن الجمال فتعرض لزوجه النجاشى لعلها أن تشفع لنا عنده ففعل عمارة ذلك وتكرر تردده عليها حتى أهدت اليه

من عطرها أى ودخل عندها فلما رأى عمرو ذلك أتى النجاشى وأخبره بذلك أى فقال له ان صاحبى هذا صاحب نساء وانه يريد أهلك وهو عندها الان فاعلم علم ذلك فبعث النجاشى فاذا عمارة عند امرأته فقال لولا أنه جارى لقتلته ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل فدعا بساحر فنفخ فى احليله نفخة طار منها هائما على وجهه مسلوب العقل حتى لحق بالوحوش فى الجبال الى أن مات على تلك الحال اه
أى ومن شعر عمرو بن العاص يخاطب به عمارة بن الوليد ** اذا المرء لم يترك طعاما يحبه ** ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما ** ** قضى وطرا منه وغادر سبة ** اذا ذكرت أمثالها تملا الفما ** ولا زال عمارة مع الوحوش الى أن كان موته فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه وان بعض الصحابة وهو ابن عمه عبدالله بن أبى ربيعة فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قد استأذنه فى المسير اليه لعله يجده فأذن له عمر رضى الله تعالى عنه فسار عبدالله الى أرض الحبشة وأكثر النشدة عنه والفحص عن أمره حتى أخبر أنه فى جبل يرد مع الوحوش اذا وردت ويصدر معها اذا صدرت فجاء اليه ومسكه فجعل يقول له أرسلنى والا أموت الساعة فلم يرسله فمات من ساعته وسيأتى بد غزوة بدر أنهم أرسلوا للنجاشى عمرو بن العاص أيضا وعبدالله بن أبى ربيعة
هذا وكان اسمه قبل أن يسلم بجيرا فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله وأبوه ربيعة الذى هو أبو عبدالله كان يقال له ذو الرمحين وأم عبدالله هى أم أبى جهل بن هشام فهو أخو أبى جهل لامه أرسلوهما اليه ليدفع لها من عنده من المسلمين ليقتلوهم فيمن قتل ببدر
ومن العجب أن صاحب المواهب ذكر أن ارسال قريش لعمرو بن العاص وعبدالله ابن أبى ربيعة ومعهما عمارة بن الويد في الهجرة الاولى للحبشة وانما كان عمرو وعمارة فى الهجرة الثانية وابن أبى ربيعة انما كان مع عمرو بعد بدر كما علمت وان كان يمكن أن يكون عبدالله بن أبى ربيعة أرسلته قريش مرتين الا أنه بعيد
ويرده قول بعضهم ان قريشا أرسلت فى أمر من هاجر الى الحبشة مرتين الاولى أرسلت عمرو بن العاص وعمارة والثانية أرسلت عمرو بن العاص وعبدالله بن أبى ربيعة فليتأمل

ومكث بنو هاشم فى الشعب ثلاث سنين وقيل سنتين فى أشد ما يكون من البلاء وضيق العيش وولد عبدالله بن عباس فى الشعب فمن قريش من سره ذلك ومنهم من ساءه وقالوا انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة أى من شلل يده كما تقدم وصار لا يقدر أحد أن يوصل اليهم طعاما ولا أدما حتى أن أبا جهل لقى حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحا يريد عمته خديجة زوج النبى صلى الله عليه وسلم وهى معه فى الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام الى بنى هاشم والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة فقال له أبو البخترى بن هشام مالك وماله فقال أبو جهل انما يحمل الطعام لبنى هاشم فقال أبو البحترى طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها خل سبيل الرجل فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ أبو البحترى لحى بعير أى العظم الذى تنبت عليه الاسنان فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا وأبو البحترى بالحاء المهملة وفى مختصر أسد الغابة بالخاء المعجمة ممن قتل ببدر كافرا وحتى ان هاشم بن عمرو بن الحارث العامرى رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أدخل عليهم فى ليلة ثلاثة أجمال طعاما فعلمت بذلك قريش فمشوا اليه حين أصبح وكلموه فى ذلك فقال انى غير عائد لشىء خالفكم ثم أدخل عليه ثانيا جملا وقيل جملين فعلمت به قريش فغالظته أى أغلظت له القول وهمت به فقال أبو سفيان بن حرب دعوه وصل رحمه أما انى أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا وكان أبو طالب فى كل ليلة يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتى فراشه ويضطجع به فاذا نام الناس أقامه وأمر أحد بنيه أو غيرهم أى من اخوته أو بنى عمه ان يضطجع مكانه خوفا عليه أن يغتاله أحد ممن يريد به السوء أى وفى الشعب ولد عبدالله بن عباس رضى الله تعالى عنهما ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الارضة أى وهى سوسة تأكل الخشب اذا مضى عليها سنة نبت لها جناحان تطير بهما وهى التى دلت الجن على موت سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام أكلت ما فى الصحيفة من ميثاق وعهد أى الالفاظ المتضمنة للظلم وقطيعة الرحم ولم تدع فيها اسما لله تعالى الا أثبتته فيها وفى رواية ولم تترك الارضة فى الصحيفة اسما لله عز وجل الا لحسته وبقى ما فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم أى والرواية الاولى أثبت من الثانية
قال وجمع بين الروايتين بأنهم كتبوا نسخا فأكلت الارضة من بعض النسخ اسم

الله تعالى وأكلت من بعض النسخ ما عدا اسم الله تعالى لئلا يجتمع اسم الله تعالى مع ظلمهم انتهى أى والتى علقت فى الكعبة هى التى لحست تلك الدابة ما فيها من اسم الله تعالى كما يدل عليه ما يأتى فذكر ذلك لعمه أبة طالب فقال له عمه والثواقب أى النجوم لانها تثقب الشياطين وقيل التى تضىء لانها تثقب الظلام بضوئها وقيل الثريا خاصة لانها أشد النجوم ضوءا ما كذبتنى قط أى ما حدثتنى كذبا وفى رواية أنه قال له أربك أخبرك بهذا الخبر قال نعم فانطلق فى عصابة أى جماعة من قومه أى من بنى هاشم وبنى المطلب
أى وفى رواية أن أبا طالب لما ذكر لاهله قالوا له فما ترى قال أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم وتخرجوا الى قريش فتذكروا ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر فخرجوا حتى أتوا المسجد على خوف من قريش فلما رأتهم قريش ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل فتكلم معهم أبو طالب وقال جرت أمور بيننا وبينكم فأتوا بصحيفتكم التى فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح أى مخرج يكون سببا للصلح وانما قال أبو طالب ذلك خشية أن ينظروا فى الصحيفة قبل أن ياتوا بها أى فلا يأتون بها فأتوا بصحيفتهم لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع اليهم أى لانه الذى وقعت عليه العهود والمواثيق فوضعوها بينهم وقالوا لابى طالب أى توبيخا له ولمن معه قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم فقال أبو طالب انما أتيتكم فى أمر نصف بيننا وبينكم أى أمر وسط لا حيف فيه علينا ولا عليكم ان ابن أخى أخبرنى أن هذه الصحيفة التى فى أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة لم تترك فيها اسما من أسماء الله تعالى الا لحستة وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم
أقول هذه على الرواية الثانية وأما على الرواية الاولى التى هى أثبت فيكون قوله لم تترك اسما الا أثبتته ولحست مواثيقكم وعهدكم
ثم رأيت ابن الجوزى ذكر ذلك فقال ان أبا طالب قال ان ابن أخى قد أخبرنى ولم يكذبنى قط أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التى كتبتم الارضة فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقى فيها كل ما ذكر به الله تعالى
وفى الينبوع أن أبا طالب قال لما حضرت الصحيفة ان صحيفتكم هذه صحيفة اثم وقطيعة

رحم وان ابن أخى أخبرنى أن الله تعالى سلط عليها الارضة لم تدع ما كتبتم الا باسمك اللهم والله أعلم قال أبو طالب فان كان الحديث كما يقول فأفيقوا أى وفى رواية نزعتم أى رجعتم عن سوء رأيكم أى وان لم ترجعوا فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند اخرنا وان كان الذى يقول باطلا دفعنا اليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم فقالوا قد رضينا بالذى تقول أى وفى رواية أنصفتنا ففتحوا الصحيفة فوجدوا الامر كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا أى قال أكثرهم هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغيا وعدوانا وبعضهم ندم وقال هذا بغى منا على اخواننا وظلم لهم
أى وقد جاء أن أبا طالب قال لهم أى بعد أن وجدوا الامر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم يامعشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الامر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والاساءة ودخلوا بين أستار الكعبة وقالوا اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا ثم انصرفوا الى الشعب وعند ذلك مشى طائفة منهم وهم خمسة فى نقض الصحيفة أى ما تضمنته وهم هشام بن عمرو بن الحارث وزهير بن أمية ابن عمته صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبدالمطلب وقد أسلم بعد ذلك كالذى قبله كما تقدم والمطعم بن عدى مات كافرا كماتقدم وأبو البحترى بن هشام قتل ببدر كافرا كما تقدم وزمعة بن الاسود قتل ببدر كافرا
واختلف فى كاتب الصحيفة فعند ابن سعد أنه بغيض بن عامر فشلت يده ولم يعرف له اسلام وعند ابن اسحاق أن الكاتب لها هشام بن عمرو المتقدم ذكره
قال وقيل ان الكاتب لها منصور بن عكرمة أى فشلت يده فيما يزعمون كذا فى النور نقلا عن سيرة ابن هشام وقيل النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه وهو ممن قتل على كفره عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر وقيل الكاتب لها طلحة بن أبى طلحة العبدرى قال ابن كثير رحمه الله والمشهور أنه منصور
ويجمع بين هذه الاقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ أى فكل كتب نسخة أنتهى أى وينبغى أن يكون الذى شلت يده هو كاتب الصحيفة التى علقت فى الكعبة ولعلها هى التى كتبت أولا والى أكل الارضة الصحيفة والى عد الخمسة الذين سعوا فى نقض الصحيفة أشار صاحب الهمزية بقوله

** فديت خمسة الصحيفة بالخمسة اذ كان للكرام فداء ** ** فتية بيتوا على فعل خير ** حمد الصبح أمره والمساء ** ** بالامر أتاه بعد هشام ** زمعة انه الفتى الاتاء ** ** وزهير والمطعم بن عدى ** وأبو البحترى من حيث شاءوا ** ** نقضوا مبرم الصحيفة اذ شد ** دت عليه من العدا الانداء ** ** أذكرتنا بأكلها أكل منسا ** ة سليمان الارضة الخرساء ** ** وبها أخبر النبى وكم أخرج خبا له الغيوب خباء **
أى فديت خمسة الصحيفة أى الناقضين لها بالخمسة المستهزئين السابق ذكرهم فتية ثبتوا وتراودوا واشتوروا بالحجون ليلا على فعل خير وهو نقض الصحيفة حمد الصباح والمساء منهم ذلك الفعل بالامر عظيم وهو نقض الصحيفة أتاه بعد هشام زمعة بن الاسود وانه الكريم فى قومه الاتاء أى المبالغ فى ايتاء الخير وأتاه زهير وأتاه المطعم بن عدى وأتاه أبو البحترى من المكان الذى قصدوه فنقضوا مبرم الصحيفة أى الامر الذى أبرمته أذكرتنا الارضة الخرساء بأكلها تلك الصحيفة منساة أى عصى سليمان وبأكلها للصحيفة أخبر النبى صلى الله عليه وسلم ومرات كثيرة أخرج صلى الله عليه وسلم شيئا مخبأ الغيوب له ساترة والمراد أن كل واحد من هؤلاء الخمسة الذين نقضوا الصحيفة فدى بأولئك الخمسة المستهزئين من الاذى الذى أصابهم المتقدم ذكره فلا ينافى أن بعض هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة مات كافرا
قال جاء أن هشام بن عمرو بن الحارث رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك كما تقدم مشى الى زهير بن أمية بن عاتكة بنت عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أيضا كما تقدم فقال له يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وأخوالك قد علمت لا يبايعون ولا يبتاعون فقال ويلك يا هشام فماذا أصنع انما أنا رجل واحد والله لو كان معى رجل اخر لقمت لانقضها يعنى الصحيفة قال وجدت رجلا قال من هو قال أنا فقال زهير ابغنا رجلا ثالثا فذهب الى المطعم بن عدى فقال له يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف يعنى بنى هشام وبنى المطلب وأنت شاهد على ذلك فقال له ويحك ماذا أصنع انما أنا رجل واحد قال وجدت ثانيا قال من هو قلت أنا قال ابغنا رجلا ثالثا قال قد فعلت قال

من هو قلت زهير بن أمية قال ابغنا رابعا فذهبت الى أبى البحترى بن هشام فقلت له نحوا مما قلت للمطعم فقال وهل معين على هذا الامر قلت نعم قال من هو قلت زهير بن أمية والمطعم بن عدى وأنا معك قال ابغنا خامسا فذهبت الى زمعة بن الاسود فكلمته فقال وهل من أحد يعين على ذلك فسميت له القوم
ثم ان هؤلاء اجتمعوا ليلا عند الحجون وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام فى نقض الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم فلما أصبحوا غدوا الى أنديتهم وغدا زهير وعليه حلة فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم أى والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة فقال أبو جهل كذبت والله لا تشق قال زمعة بن الاسود أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت قال أبو البحترى صدق زمعة قال المطعم صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ الى الله تعالى منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك فقال أبو جهل هذا أمر قضى بالليل فقام المطعم بن عدى الى الصحيفة فشقها انتهى
أى وهذا يدل للرواية الدالة على أن الارضة لحست اسم الله تعالى وأثبتت ما فيها من العهود والمواثيق والا فبعد امحاء ذلك منها لا معنى لشقها
وفى كلام بعضهم يحتمل أن أبا طالب انما أخبرهم بعد سعيهم فى نقضها قال ابن حجر الهيتمى ويبعده أن الاخبار بذلك حينئذ ليس له كبيرجدوى وقام هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة ولبسوا السلاح ثم خرجوا الى بنى هاشم وبنى المطلب فأمروهم بالخروج الى مساكنهم ففعلوا = باب ذكر خبر وفد نجران
ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفد نجران وهم قوم من النصارى ونجران بلدة بين مكة واليمن على نحو من سبع مراحل من مكة كانت منزلا للنصارى وكانوا نحوا من عشرين رجلا حين بلغهم خبره ممن هاجر من المسلمين الى الحبشة فوجدوه صلى الله عليه وسلم في المسجد فجلسوا اليه سالوه وكلموه ورجال من قريش فى أنديتهم

حول الكعبة ينظرون اليهم فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرادوا دعاهم رسول اله صلى الله عليه وسلم الى الله تعالى وتلا عليهم القران فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وامنوا به وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم فلماقاموا عنه اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون أى تنظرون الاخبار لهم لتاتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم فصدقتموه بما قال لا نعلم ركبا أحمق أى أقل عقلا منكم فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه ويقال نزل فيهم قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب } الى قوله { لا نبتغي الجاهلين } ونزل قوله تعالى { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق }
وذكر فى الوفاء وفود ضماد الازدى عليه صلى الله عليه وسلم فقال عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقى من الريح أى ولعل المراد به اللمة من الجن فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون ان محمدا مجنون فقال لو أنى رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدى قال فأتيته فقلت يا محمد انى أرقى من الريح فان الله يشفى على يده من شاء فهل لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الحمد لله نحمده ونستعينه من يهدى الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادى له وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال ضماد أعد على كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء هات يدك أبايعك على الاسلام فبايعه وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قومك قال وعلى قومي

= باب ذكر وفاة أبي طالب وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله الله تعالى عنها
لتعلم أنهما ماتا في عام واحد أي بعد خروج بني هاشم والمطلب من الشعب بثمانية وعشرين يوما وإلى موتهما في عام واحد أشار صاحب الهمزية بقوله ** وقضى عمه أبو طالب والد ** دهر فيه السراء والضراء ** ** ثم ماتت خديجة ذلك العا ** م ونالت من أحمد المناء **
وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين وبعد مضى عشر سنين من بعثته صلى الله عليه وسلم أي من مجيء جبريل عليه السلام بالوحي وهو يرد قول ابن اسحاق ومن تبعه أن خديجة رضي الله تعالى عنها عنها ماتت بعد الاسراء
وأفاد كلام صاحب الهمزية أن موت خديجة كان بعد موت أبي طالب وقيل كانت وفات خديجة رضى الله عنها قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة وقيل بعده بثلاثة أيام ويؤيد ما في الهمزية قول الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل خديجة رضي الله تعالى عنها أي بثلاثة أيام ودفنت بالحجون ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها ولها من العمر خمس وستون سنة ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت
وذكر الفكهاني المالكي في شرح الرسالة أن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة لكن ذكر ما يخالفه في الشرح المذكور حيث قال وروى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما توفي أتى بحنوط وكفن من الجنة ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث عليه الصلاة والسلام الذي هو وصيه معهم فلما فرغوا قالوا له هكذا فاصنع بولدك وإخوتك فإنهم سنتكم هذا كلامه أي ويبعد أنه لم يفعل ذلك بعد القول المذكور له ويحتمل أن المراد بالصلاة مجرد الدعاء لا هذه الصلاة المعروفة المشتملة على التكبير لكن يبعده مافي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آدم لما مات قال ولده شيث لجبريل صل عليه فقال له جبريل بل أنت تقدم فصل على أبيك فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة وقد أخرج الحاكم نحوه مرفوعا وقال صحيح الإسناد

ومنه تعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة بناء على أن المراد بالصلاة الصلاة المشتملة على التكبير لا مجرد الدعاء
وحينئذ لا يحسن القول بأن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة إلا أن يقال لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك وسيأتي عنهم أنهم لم يفعلوا ذلك
وأيضا لو كانت معروفة لهم لصلى صلى الله عليه وسلم على خديجة ومن مات قبلها من المسلمين كالسكران ابن عم سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما الذي هو زوجها وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم الى المدينة وجد البراء بن معرور قد مات فذهب هو وأصحابه فصلى على قبره وأنها أول صلاة صليت على الميت في الإسلام ومعرور معناه في الأصل مقصود
لا يقال يجوز أن يكون المراد بتلك الصلاة مجرد الدعاء لأنا نقول قد جاء أنه كبر في صلاته أربعا وقد روى هذه الصلاة تسعة من الصحابة ذكرهم السهيلي وسيأتي عن الإمتاع لم أجد في شيء من السير متى فرضت صلاة الجنازة ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم على أسعد بن زرارة وقد مات في السنة الأولى ولا على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية
وفي كلام بعضهم صلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة وأول من صلى عليه صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة فليتأمل
وفي كلام بعضهم كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم وهو أن يقوم ولى الميت بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه كلها ويثنى عليه ثم يقول عليك رحمة الله ثم يدفن أي وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى ذلك العام عام الحزن ولزم بيته وأقل الخروج وكانت مدة إقامتها معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح
ويذكر أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة رضي الله تعالى عنها وهي مريضة فقال لها يا خديجة أتكرهين ما أرى منك وقد يجعل الله في الكره خيرا أشعرت أن الله قد أعلمني أنه سيزوجني وفي رواية أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران وكلثم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء وآسية امرأة فرعون فقالت آ لله أعلمك بهذا يا رسول الله وفي رواية آ لله فعل ذلك

يا رسول الله قال نعم قالت بالرفاء والبنين زاد في رواية أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة وقولها بالرفاء والبنين هو دعاء كان يدعى به فى الجاهلية عند التزويج والمراد منه الموافقة والملايمة مأخوذ من قولهم رفأت الثوب ضممت بعضه إلى بعض ولعل هذا كان قبل ورود النهى عن ذلك
هذا وفي الإمتاع أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال رفئوني فقالوا ماذا يا أمير المؤمنين قال تزوجت أم كلثوم بنت على هذا كلامه ولعل النهى لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله كما لم يبلغ سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهم
وفي الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وهو شهر رمضان بعد موتها بأيام تزوج سودة بنت زمعة وكانت قبله عند السكران ابن عمها وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها فلما انقضت عدتها تزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها أربعمائة درهم
وقد كانت رأت فى نومها أن النبي صلى الله عليه وسسلم وطىء عنقها فأخبرت زوجها فقال إن صدقت رؤياك أموت أنا ويتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رأت فى ليلة أخرى أن قمرا انقض عليها من السماء وهي مضطجعة فأخبرت زوجها فقال لا ألبث حتى أموت فمات من يومه ذلك
وعقد صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست أو سبع سنين في شوال فعن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت قلت لما ماتت خديجة يا رسول الله ألا تتزوج قال من قلت إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا قال فمن البكر قلت أحق خلق الله بك بنت أبى بكر رضى الله عنهما قال ومن الثيب قلت سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول قال فاذهبي فاذكريهما علي قالت فدخلت على سودة بنت زمعة فقلت لها ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة قالت وما ذاك قالت أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه قالت وددت ادخلي على أبى فاذكرى ذلك له وكان شيخا كبيرا فدخلت عليه وحيته بتحية الجاهلية فقال من هذه قلت خولة بنت حكيم قال فما شأنك قلت أرسلنى محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة قال كفء كريم

قال ما تقول صاحبتك قالت تحب ذلك قال ادعيها الى فدعوتها قال أى بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم أتحبين أن أزوجك منه قالت نعم قال ادعيه لى فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها ولما قدم أخوها عبد بن زمعة وقد بلغه ذلك صار يحثى على رأسه التراب ولما أسلم قال لقد كدنى السفه يوم أحثى على رأسى التراب إذ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة يعنى أخته وذهبت خولة إلى أم رومان أم عائشة فقالت لها ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير قد أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم اخطب عليه عائشة قالت انتظرى ابا بكر حتى ياتى فجاء ابو بكر فقلت له يا ابابكرماذاادخل عليكم من الخيروالبركة قال وما ذاك قلت قد ارسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة قال وهل تصلح أى تحل له إنما هي بنت أخيه فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال ارجعى إليه فقولي له أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لى أي تحل فرجعت فذكرت ذلك له قالت أم رومان رضي الله عنها إن مطعم بن عدى قد كان ذكرها على ابنه جبير ووعده والله ما وعد وعدا قط فأخلفه تعنى أبا بكر فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم ابنه المذكور فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان فى نفسه من عدته لمطعم فإن المطعم لما قال له أبو بكر ما تقول في أمر هذه الجارية أقبل المطعم على امرأته وقال لها ماذا تقولين يا هذه فأقبلت على أبى بكر وقالت له لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليكم تصيبه وتدخله في دينك الذى أنت عليه فأقبل أبوبكر على المطعم وقال له ماذا تقول أنت فقال إنها لتقول ما تسمع فقام أبو بكر وليس في نفسه من الوعد شيء فرجع فقال لخولة ادعى لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته فزوجه إياها وعائشة حينئذ بنت ست سنين وقيل سبع سنين وهو الأقرب
فعلم أن العقد على سودة تقدم على العقد على عائشة لأن العقد على سودة كان في رمضان الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وعلى عائشة كان فى شوال ومعلوم أن الدخول بسودة كان بمكة وعلى عائشة كان بالمدينة
ثم رأيت بعضهم ذكر أن خولة ذهبت إلى طلب عائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم

عقد عليها قبل ذهابها لسودة وعقده عليها ولا تخفى المخالفة إلا أن يراد بالعقد على سودة الدخول بها وفيه أنه لا يحسن ذلك مع قوله قبل ذهابها لسودة
ولما اشتكى أبو طالب أى مرض وبلغ قريشا ثقله أى اشتداد المرض به قال بعضهم لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا أى يسلبونه ومنه قولهم من عز بز أى من غلب أخذ السلب ووهو الثياب التي هي البز وفي لفظ إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء أي قتل محمد كما فى بعض الروايات فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعه وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم ليلة الفتح كما سيأتى وأرسلوا رجلا يدعى المطلب فاستأذن لهم على ابى طالب فقال هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فدخلوا عليه فقالوا يا أبا طالب أنت منا حيث قد علمت وفى لفظ قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه لينكف عنا وننكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه فبعث إليه صلى الله عليه وسلم أبو طالب فجاءه ولما دخل صلى الله عليه وسلم على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس فخشى أبو جهل أن يجلس النبي صلى اله عليه وسلم في تلك الفرجة فيكون أرقى منه فوثب أبو جهل فجلس فيها فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب أبى طالب فجلس عند الباب انتهى
وفى الوفاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم خلوا بينى وبين عمى فقالوا ما نحن بفاعلين وما أنت بأحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فقال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم يا ابن أخى هؤلاء أشراف قومك وفى لفظ هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك وفي لفظ سألوك النصف وفى لفظ أعط سادات قومك ما سألوك فقد أنصفوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك فقال رسول الله عليه وسلم أرأيتكم

إن أعطيتكم ما سألتم هل تعطونى كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم أى تطيع وتخضع فقال أبو جهل نعم وآتيك عشر كلمات وفى لفظ لنعطيكها وعشرا معها فما هى قال تقولون لا إله إلا الله وتقلعون عما تعبدون من دونه فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب فأنزل الله تعالى ص والقرآن ذى الذكر إلى آخر الآيات وفى لفظ قالوا أيسع لحاجاتنا جميعا إله واحد وفى لفظ قالوا سلنا غير هذه الكلمة وفى لفظ أن أبا طالب قال يا ابن أخى هل من كلمة غيرها فإن قومك قد كرهوها قال يا عم ما أنا بالذى يقول غيرها ثم قال صلى الله عليه وسلم لو جئتمونى بالشمس حتى تضعوها فى يدى ما سألتكم غيرها ثم قال بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا وفى لفظ قالوا عند قيامهم والله لنشتمك وإلهك الذى يأمرك بهذا أى وفى لفظ لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذى أمرك بهذا
قال فى الينبوع وهذه العبارة أحسن من الأولى لأنهم كانوا يعرفون أنه يعبد الله وما كانوا ليسبوا الله عالمين لكنهم ما كانوا يعرفون أن الله أمره بذلك وذكره أن ذلك سبب نزول قوله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }
هذا وفى النهر أن سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا لأبى طالب إما أن تنهى محمداعن سب آلهتنا والنقص منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه قال فيه وحكم هذه الآية باق فى هذه الأمة فإذا كان الكافر فى منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول فلا يحل للمسلم ذم دين الكافر ولا يتعرض لما يؤدى إلى ذلك لأن الطاعة إذا كانت تؤدى إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهى عنها كما ينهى عن المعصية هذا كلامه
وعند ذلك قال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم والله يا ابن أخى ما رأيتك سألتهم شحطا أى بالحاء والطاء المهملتين أمرا بعيدا فلما قال ذلك طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول أى عم فأنت فقلها أستحل بها الشفاعة يوم القيامة أى لو ارتكبت ذنبا بعد قولها وإلا فالاسلام يجب ما قبله فلما رأى حرص رسول الله عليه وسلم قال له والله يا ابن أخى لولا مخافة السبة أى العار عليك

وعلى بنى أبيك من بعدى وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا أى بالجيم والزاى خوفا من الموت وهذا هو المشهور وقيل بالخاء المعجمة والراء أى ضعفا لقلتها وفى رواية لأقررت بها عينك لما أرى من شدة وجدك لكنى أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف فأنزل الله تعالى إنك لا تهدى من أحببت الآية
أى وعن مقاتل أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بنى هاشم أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ياعم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخى قال أريد أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى فقال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق لكنى أكره أن يقال الحديث قال فى الهدى وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما فى ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها أى وكذا أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلاتم من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلام من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر وبنو عمه إلى الإيمان به لقيل قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم حتى إن الشخص منهم يقتل أباه وأخاه علم أن ذلك إنما هو عن بصيرة صادقة ويقين ثابت
وذكر أنه لما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فاصغى إليه بأذنه فقال يا ابن أخى والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته بقولها فقال رسول الله عليه وسلم لم أسمع وفيه أنه لم يثبت ن العباس ذكر ذلك بعد الإسلام وأيضا نزول الآية حيث ثبت أن نزولها فى حق أبى طالب يرد ذلك
ويرده أيضا ما فى الصحيحين عن العباس رضى الله تعالى عنه أنه قال قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحيطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال نعم وجدته أى كشف لى عن حاله وما يصير إليه يوم القيامة فوجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح أى وفى لفظ آخر قال نعم هو أى يوم القيامة فى ضحضاح من النار لولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار ولو كانت الشهادة المذكورة عند العباس ما سأل هذا السؤال ولأداها بعد الإسلام إذ لو أداها لقبلت
وقد يقال إنما سأل هذا السؤال ولم يعد الشهادة بعد الإسلام لأنه لما قال له صلى الله عليه وسلم أولا لم أسمع فهم أنه حيث لم يسمعها صلى الله عليه وسلم لم يعتد بها سأل هذا السؤال وفهم أن إعادة الشهادة بعد إسلامه لا تفيد شيئا

ويرده أيضا ما جاء فى رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما كرر على أبى طالب أن يقول كلمة الشهادة وهو يأبى إلى أن قال هو على دين عبد المطلب قال صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك مالم أنه عن ذلك أى عن الاستغفار لك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أى وتقدم أن سبب نزول هذه الآية طلب استغفاره لأمه عند زيارة قبرها أن يقال لا مانع من تكرر سبب نزولها لجواز أنه صلى الله عليه وسلم جوز الفرق بين أمه وعمه لأن أمه لم تدع للإسلام بخلاف عمه وفى منع استغفاره لأمه ما تقدم ولا يشكل على ذلك قوله يوم أحد اللهم اغفر لقومى لأن ذلك أى غفران الذنوب مشروط بالتوبة أى الإسلام فكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالتوبة التى هى الإسلام ويؤيده رواية اللهم اهد قومى أى للإسلام قال وأيضا جاء فى صحيح ابن حيان عن على رضى الله تعالى عنه قال لما مات أبو طالب أتيت رسول الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات قال اذهب فواره قال على رضى الله تعالى عنه فلما واريته جئت إليه فقال لى اغتسل
أقول لأنه غسله وبه وبقوله صلى الله عليه وسلم من غسل ميتا فليغتسل استدل أئمتنا على أن من غسل ميتا مسلما أو كافرا استحب له أن يغتسل
وروى البيهقى خبر أن عليا رضى الله تعالى عنه غسله بأمر النبى صلى الله عليه وسلم له بذلك لكن ضعفه وفى رواية عن على رضى الله تعالى عنه لما أخبرت النبى صلى اله عليه وسلم بموت أبى طالب بكى وقال اذهب فاغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه
وأما ما روى عنه أنه صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبى طالب فقال وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم فقال الذهبى إنه خبر منكر والله أعلم
وجاء أيضا أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال إنه ستنفعه شفاعتى وفى رواية لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار أى مقدار ما يغطى بطن قدميه وفى روايه فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منها دماغه وفى لفظ عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة شفعت لأبى وأمى وعمى أبى طالب وأخ لى كان فى الجاهلية يعنى أخاه من حليمة كما فى رواية تأتى

أقول يجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به كما قدمناه جوابا عن نهيه عن الإستغفار لهما والله أعلم
وفى لفظ آخر شفعت فى أبى وعمى أبى طالب وأخى من الرضاعة يعنى من حليمة ليكوونوا من بعد البعث هباء
ومما يستأنس به لإيمان أبيه ما جاء أنه صلى لله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضى الله تعالى عنها وقد عزت قوما من الأنصار فى ميتهم لعلك بلغت معهم الكدى بالدال المهملة أو الكرا بالراء يعنى القبور فقالت لا فقالت لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك يعنى عبد المطلب ولم يقل جدك يعنى أباه الذى هو عبد الله وتقدم القول بأن حليمة وأولادها أسلموا
وعليه فيجوز أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أخوه من الرضاعة كما تقدم مثل ذلك فى أبيه وأمه وفى رواة الحديث الأول من هو منكر الحديث وفى الثانى من هو ضعيف وقال فيه ابن الجوازى إنه موضوع بلا شك أى وهذا أى قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم فى عمه أبى طالب عد من خصائصه صلى الله عليه وسلم فلا يشكل بقوله تعالى فما تنفعهم شفاعة الشافعين أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين فى الإخراج من النار بالكلية أى وفى هذا الثانى أنه لا يناسب أن شفاعته لهم أن يكونوا من بعد البعث هباء أى فى صيرورتهم هباء إلا أن يقال إنه لم يستجب له فى ذلك
قال وجاء أيضا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله عليه وسلم قال إن أهون أهل النار أى وهم الكفار عذابا أبو طالب وهو ينتعل بنعلين يغلى منهما دماغه أى وفى رواية كما يغلى الماء فى المرجل أى القدر من النحاس حتى يسيل دماغه على قدميه وفى رواية كما يغلى المرجل بالقمقم قيل والقمقم بكسر القافين البسر الأخضر يطبخ فى المرجل استعجالا لنضجه يفعل ذلك أهل الحاجة
وذكر السهيلى الحكمة فى اختصاص قدميه بالعذاب وزعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم واستدل له بأخبار واهية ردها الحافظ ابن حجر فى الإصابة
أى وقد قال وقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبى طالب ولم يثبت من ذلك شيء
وروى أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثني محمد أن الله أمره بصلة

الأرحام وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره وقال سمعت ابن أخى الأمين يقول اشكر ترزق ولا تكفر تعذب انتهى
وفى المواهب عن شرح التنقيح للقرافى أن أبا طالب ممن آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع لأنه كان يقول إنى لا أعلم ما يقوله ابن أخى لحق ولولا أنى أخاف أن يعيرنى نساء قريش لأتبعته فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن للأحكام هذا كلامه وفيه أن الإيمان باللسان الإتيان بلا إله إلا الله ولم يوجد ذلك منه كما علمت وتقدم أن الإيمان النافع عند الله الذى يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود فى النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكين من ذلك ويمتنع وأبو طالب طلب منه ذلك وامتنع
وقد روى الطبرانى عن أم سلمة أن الحارث بن هشام أى أخا أبى جهل بن هشام أتى النبى صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع فقال إنك تحث عل صلة الرحم والإحسان إلى الجار وإيواء اليتيم وإطعام الضيف وإطعام المسكين وكل هذا مما يفعله هشام يعنى والده فما ظنك به يا رسول الله فقال رسول الله صى الله عليه وسلم كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار وقد وجدت عمى أبا طالب فى طمطام من النار فأخرجه الله لمكانه منى وإحسانه إلى فجعله فى ضحضاح من النار
وذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش فأوصاهم وكان من وصيته أن قال يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب فيكم المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة ولهم به إليكم الوسيلة أوصيكم بتعظيم هذه البنية أى الكعبة فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش صلوا أرحامكم ولاتقطعوها فإن فى صلة الرحم منسأ أى فسحة في الأجل وزيادة فى العدد واتركوا البغى والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم أجيبوا الداعى وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبة فى الخاص ومكرمة فى العام وإنى أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش أى وهو الصديق فى العرب وهو الجامع لكل ما أوصيكم به وقد جاء بأمر قبله الجنان

وأنكره اللسان مخافة الشنآن أى البغض وهو لغة فى الشنآن وايم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر فى الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد ولا يأخذ حد بهديه إلا سعد
وفى لفظ آخر أنه لما حضرته الوفاة دعا بنى عبد المطلب فقال لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فأطيعوه ترشدوا
ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم من الأذى مالم تكن تطمع فيه فى حياة أبى طالب حتى إن بعض سفهاء قريش نثنر على رأس النبى صلى الله عليه وسلم التراب فدخل صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكى لا تبكى يا بنية فإن الله تعالى مانع أباك وكان صلى الله عليه وسلم يقول مانالت قريش منى شيئا أكرهه أى أشد الكراهة حتى مات أبو طالب وتقدم وسيأتى بعض ما أوذوى به
قال ولما رأى قريشا تهجموا قال يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك ولما بلغ أبا لهب ذلك قام أبو لهب بنصرته أياما وقال له يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيا فاصنعه لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت
واتفق أن ابن العطيلة أى وهو أحد المستهزئين المتقدم ذكرهم سب النبى صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه ابو لهب ونال منه فولى وهو يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة يعنى أبا لهب فأقبلت قريش على أبى لهب وقالوا له أفارقت دين عبد المطلب فقال ما فارقت وفى لفظ قالوا له أصبوت قال ما فارقت دين عبد المطلب ولكن أمنع ابن أخى أن يضام حتى يمضى لما يريد قالوا قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك أياما لا يتعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إلى أن جاء أبو جهل وعقبة بن أبى معيط إلى أبى لهب فقالا له أخبرك

ابن أخيك أين مدخل أبيك أى المحل الذى يكون فيه يزعم أنه فى النار فقال له أبو لهب يا محمدأيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار فقال أبو لهب لا برحت لك عدوا وأنت تزعم أن عبد المطلب فى النار فاشتد عليه هو وسائر قريش انتهى
وفى لفظ قال له يا محمد أين مدخل عبد المطلب قال مع قومه فخرج أبو لهب إلى أبى جهل وعقبة فقال قد سألته فقال مع قومه فقالا يزعم أنه فى النار فقال يا محمد أيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الحديث ولا يخفى أن عبد المطلب من أهل الفترة وتقدم الكلام عليهم والله أعلم = باب ذكر خروج النبى صلى الله عليه وسلم الى الطائف
سميت بذلك لأن رجلا من حضرموت نزلها فقال لأهلها ألا أبنى لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه فسمى الطائف وقيل غير ذلك
لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم مالم تكن نالته منه فى حياته كما تقدم خرج إلى الطائف اى وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقى من قريش وقرابته وعترته خصوصا من أبى لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب
وعن على رضى الله تعالى عنه أنه قال بعد موت أبى طالب لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش تتجاذبه وهم يقولون له صلى الله عليه وسلم أنت الذى جعلت الآلهة إلها واحدا قال فوالله مادنا منا أحد إلا أبو بكر فصار يضرب هذا ويدفع هذا وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله
وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان فى شوال سنة عشر من النبوة وحده وقيل معه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا وأن يناصروه

على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه قال فى الإمتاع لأنهم كانوا أخواله قال بعضهم ومن ثم أى من أجل أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا على من ضاق صدره من أهل مكة كذا قال
وفى كلام غيره ولا جرم جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة فهى راحة الأمة ومتنفس كل ذى ضيق وغمة سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا فليتأمل
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا إخوة ثلاثة أحدهم عبد يا ليل أى واسمه كنانة لم يعرف له إسلام وأخوه مسعود أى وهو عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام لم يعرف له إسلام أيضا وحبيب قال الذهبى فى صحبته نظر أى وهم أولاد عمرو بن عمير بن عوف الثقفى وجلس صلى الله عليه وسلم إليهم وكلمهم فيما جاءهم به أى من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة أى ينتفها ويقطعها أى وقيل يسرقها إن كان الله أرسلك وقال له آخر ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال له الثالث والله لا أكلمك أبدا ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك فقام صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد أيس من خير ثقيف وقال لهم اكتموا على وكره صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له أخرج من بلدنا والحق بمنجاتك من الأرض وأغروا به أى سلطوا عليه سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه فلما مر صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما أى دقوهما بالحجارة تى أدموا رجليه صلى الله عليه وسلم
وفى لفظ حتى اختضبت نعلاه بالدماء وكان صلى الله عليه وسلم إذا أزلقته الحجارة أى وجد ألمها قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون كل ذلك وزيد بن حارثة أى بناء على أنه كان معه صلى الله عليه وسلم يقيه بنفسه حتى لقد شج رأسه شجاجا فلما خلص منهم رجلاه يسيلان دما

عمد إلى حائط من حوائطهم أى بستان من بساتينهم فاستظل فى حبلة أى بفتح الباء الموحدة وتسكينها غير معروف شجرة كرم وقيل لها حبلة لأنها تحمل بالعنب وقد فسر نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة ببيع العنب قبل أن يطيب قال السهيلي وهو غريب لم يذهب إليه أحد فى تأويل الحديث فجاء إلى ذلك المحل وهو مكروب موجع أى وقد جاء النهى عن أن يقال لشجر العنب الكرم فى قوله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم الكرم فإن الكرم قلب المؤمن ولكن قولوا حدائق العنب قال وسبب النهى عن تسميتها كرما لأن الخمر تتخذ من ثمرتها وهو يحمل على الكرم فاشتقوا لها اسما من الكرم
وفى لفظ ثم إن هؤلاء الثلاثة أى عبد ياليل وإخوته أغروا عليه سفهاءهم وعبيدهم فصاروا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابنى ربيعة فلما دخل الحائط رجعوا عنه
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء منه اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلنى إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى أهوإذا فى الحائط أى البستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة أى وقد رأيا ما لقى من سفهاء أهل الطائف فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله فلما رأياه وما لقى تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس معدود فى الصحابة مات قبل الخروج إلى بدر فقالا خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا لا ينافى كون زيد بن حارثة كان معه كما لا يخفى ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له كل فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده الشريفة قال بسم الله ثم أكل أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع يده فى الطعام قال بسم الله ويأمر الآكل بالتسمية وأمر من نسى التسمية أوله أن يقول بسم الله أوله وآخره فنظر عداس فى وجهه وقال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أى البلاد أنت وما دينك يا عداس قال نصرانى وأنا من أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية وقيل بضمها قرية على شاطىء دجلة فى أرض الموصل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم

من أهل قرية أى وفى رواية من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى اسم ابيه أى كما فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما وفى تاريخ حماة أنه اسم أمه قال ولم يشتهر باسم أمه غير عيسى ويونس عليهما الصلاة والسلام
أى وفى مزيل الخفاء فان قيل قد ورد فى الصحيح لا تفضلونى على يونس بن متى ونسبه إلى أبيه وهو يقتضى أن متى أبوه لا أمه
أجيب بأن متى مدرج فى الحديث من كلام الصحابى لبيان يونس بما اشتهر به لا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم
ولما كان ذلك موهما أن الصحابى سمع هذه النسبة من النبى صلى الله عليه وسلم دفع الصحابى ذلك بقوله ونسبه إلى أبيه لا إلى أمه هذا كلامه
وعند ذلك قال عداس له صلى الله عليه وسلم وما يدريك ما يونس بن متى فإنى والله لقد خرجت منها يعنى نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متى فمن أين عرفت ابن متى وأنت أمى وفى أمة أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أخى كان نبيا وأنا نبى أمى وفى رواية أنا رسول الله والله أخبرنى خبره وما وقع له مع قومه أى حيث وعدهم العذاب بعد أربعين ليلة لما دعاهم فأبوا أن يجيبوا وخرج عنهم وكانت عادة الأنبياء إذا واعدت قومها العذاب خرجت عنهم فلما فقدوه قذف الله تعالى فى قلوبهم التوبة أى الإيمان بما دعاهم إليه يونس
وقيل كما فى الكشاف إنه قال لهم يونس أنا أؤجلكم أربعين ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أطبقت السماء غيما أسود يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى ودينتهم فعند ذلك لبسوا المسموح وأخرجوا المواشى وفرقوا بين النساء وأولادها وبين كل بهيمة وولدها فلما أقبل عليهم العذاب جأروا إلى الله تعالى وبكى الناس والولدان ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وعجاجيلها وثغت الغنم وسخالها وقالوا يا حي حيث لا حي ويا حي يحيى الموتى ويا حى لا إله إلا أنت
وعن الفضيل أنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله

وفى الكشاف أنهم عجوا أربعين ليلة وعلم الله تعالى منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب بعد أن صار بينه وبينهم قدر ميل فمر رجل على يونس فقال له ما فعل قوم يونس فحدثه بما صنعوا فقال لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم قيل وكان فى شرعهم أن من كذب قتل فانطلق مغاضبا لقومه وظن أن لن نقضى عليه بما قضى به عليه أى من الغم وضيق الصدر قال تعالى { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } أى لن نضيق عليه وكانت التوبة عليهم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة
أى وفى كلام بعضهم كشف العذاب عن قوم يونس يوم عاشوراء وأخرج فيه يونس من بطن الحوت وهو يؤيد القول بأنه نبذ من يومه وهو قول الشعبى التقمه ضحوة ونبذه عشية أى بعد العصر وقاربت الشمس الغروب وذكر أن الحوت لم يأكل ولم يشرب مدة بقاء يونس فى بطنه لئلا يضيق عليه
وقال السدى مكث أربعين يوما وقال جعفر الصادق سبعة أيام وقال قتادة ثلاثة أيام وذلك بعد أن نزل السفينة فلم تسر فقال لهم إن معكم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير ححتى تلقوه فى البحر وأشار إلى نفسه فقالوا لا نلقيك يا نبى الله أبدا قال فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مراتفألقوه فالتقمه الحوت وقيل قائل ذلك بعض الملاحين وحين خرجت القرعة عليه ثلاثا ألقى نفسه فى البحر وهذا السياق يدل على أن رسالته كانت قبل أن يلتقمه الحوت وقيل إنما أرسل بعد نبذ الحوت له وفيه كيف يدعوهم ويعدهم العذاب وهو غير مرسل لهم
وعن وهب بن منبه وقد سئل عن يونس فقال كان عبدا صالحا وكان فى خلقه ضيق فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها فألقاها عنه وخرج هاربا أى فقد تقدم أن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل وهم نوح وهود وإبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم
أما نوح فلقوله يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله الآية وأما هود فلقوله إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه الآية وأما ابراهيم فلقوله هو والذين آمنوا معه إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله الآية وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلقول الله تعالى له فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل فصبر صلى الله عليه وسلم

فعند ذلك أكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه أى فقال أحدهما أى عتبة وشيبة للآخر أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاءهما عداس قال له أحدهما ويلك مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما فى الأرض شيء خير من هذا لقد أعلمنى بأمر لا يعلمه إلا نبى قال ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك
أقول وفى رواية قال له وما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلته بأحدنا قال هذا رجل صالح أخبرنى بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى فضحكنا به وقالا لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ودينك خير من دينه وقد تقدم فى بعض الروايات أن خديجة رضى الله تعالى عنها قبل أن تذهب بالنبى صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل ذهبت به الى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام وتقدم أنه غير هذا خلافا لمن اشتبه عليه به
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه وقست أثر رجل واحد منهم فى الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثى شبر والله أعلم
وفى الصحيح عن عائشة رضى الله تعالى عنها إنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد من أحد قال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن كلال أى والمناسب لما سبق إسقاط لفظ ابن الأولى والإتيان بواو العطف موضع ابن الثانية أى فيقال عبد ياليل وكلال أى وعبد كلال ويكون خصهما بالذكر دون أخيهما حبيب لأنهما كانا أشرف وأعظم منه أو لأنهما كانا المحبين له صلى الله عليه وسلم بالقبيح دون حبيب إلا إن ثبت أن آباء هؤلاء الثلاثة شخصا يقال له عبد ياليل وعبد كلال وحينئذ يكون المراد هؤلاء الثلاثة لأن ابن مفرد مضاف ثم رأيته فى النور ذكر ما يفيد أن لفظ ابن ثابت فى الصحيح
والذى فى كلام ابن اسحاق وأبى عبيد وغيرهما إسقاطه ثم رأيت الشمس الشامى

قال الذى ذكره أهل المغازى أن الذى كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد ياليل نفسه لا ابنه
وعند أهل السير أن عبد كلال أخوه لا أبوه أى أبو أبيه كما لا يخفى فلم يجبنى إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب أى ويقال له قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد الحجاز أو اليمن بينه وبين مكة يوم وليلة وفى لفظ وهو موضع على ليلة من مكة وراء قرن بسكون الراء ووهم الجوهرى فى تحريكها وفى قوله إن أويسا القرنى منسوب إليه وإنما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت فى مسلم فرفعت رأسى فإذا أنا بالسحابة قد أظلتنى فنطرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فنادى فقال قد سمع قول قومك لك أى أهل ثقيف كما هو المتبادر وماردوا عليك به وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم فناداه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وسلم عليه وقال له إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت أى وهما جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى فمن الأول قوله وهما قبيس وقعيقعان وقيل الجبل الأحمر الذى يقابل أبا قبيس المشرف على قعيقعان ومن الثانية الجبلان اللذان تحث العقبة بمنى فوق المسجد
وفيه أن ثقيفا ليسوا بينهما بل الجبلان خارجان عنهم فكيف يطبقهما عليهم وفى لفظ إن شئت خسفت بهم الأرض أو دمدمت عليهم الجبال أى التى بتلك الناحية
ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال المراد بقوم عائشة فى قوله لقد لقيت من قومك قريش أى لا أهل الطائف الذين هم ثقيف لأنهم كانوا هم السبب الحامل على ذهابه صلى الله عليه وسلم لثقيف ولأن ثقيفا ليسوا قوم عائشة رضى الله تعالى عنها وعليه فلا إشكال ويوافقه قول الهدى فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين وهما جبلاها التى هى بينهما
وعبارة الهدى فى محل آخر وفى طريقه صلى الله عليه وسلم أرسل الله تعالى إليه ملك الجبال فأمره بطاعته صلى الله عليه وسلم وأن يطبق على قومه أخشبى مكة وهما جبلاها إن أراد هذا كلامه
ولا يخفى أن هذا خلاف السياق إذ قوله وكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسى إلى آخره وقول جبريل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به ظاهر فى أن

المراد بهم ثقيف لا قريش ويوافق هذا الظاهر قول ابن الشحنة فى شرح منظومة ده بعد أن ساق دعاءه صلى الله عليه وسلم المتقدم بعضه فأرسل الله عز وجل جبريل ومعه ملك الجبال فقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وحينئذ يكون المراد إطباقهما عليهم بعد نقلهما من محلها إلى محل ثقيف الذى هو الطائف لأن القدرة صالحة وعند قول ملك الجبال له ما ذكر قال النبى صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله تعالى وفي رواية أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا وعند ذلك قال له ملك الجبال أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم قال الحافظ ابن حجر ولم أقف على اسم ملك الجبال وإلى حلمه وإغضائه صلى الله عليه وسلم أشار صاحب الهمزية بقوله ** جهلت قومه عليه فأغضى ** وأخو الحلم دأبه الإغضاء ** ** وسع العالمين علما وحلما ** فهو بحر لم تعيه الأعباء **
أى جهلت قومه صلى اله عليه وسلم عليه فآذوه أذية لا تطاق فأغضى عنهم حلما وأخو الحلم أى وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل فإن علمه وسع لوم العالمين ووسع حلمه حلمهم فهو واسع العلم والحلم لم تعيه الأعباء أي لم تتعبه الأثقال لكن تقييده بقومه السياق يدل على أن المراد به ثقيف وقد علمت ما فيه فليتأمل
وعند منصرفه صلى الله عليه وسلم المذكور من الطائف نزل نخلة وهى محلة بين مكة والطائف فمر به نفر سبعة وقيل تسعة من جن نصيبين أى وهى مدينة بالشام وقيل باليمن أثنى عليها صلى الله عليه وسلم بقوله رفعت إلى نصيبين حتى رأيتها فدعوت الله تعالى أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل أى وسطه يصلى وفى رواية يصلى صلاة الفجر وفى رواية هبطوا على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلعله كان يقرأ فى الصلاة والمراد بصلاة الفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس ولعله صلاهما عقب الفجر وذلك ملحق بالليل وفى قوله جوف الليل تجوز من الراوى أو صلى صلاتين صلاة في جوف الليل وصلاة بعد الفجر وقرأ فيهما أو جمع بين القراءة والصلاة وأن الجن استمعوا للقراءتين وإطلاق صلاة الفجر على الركعتين المذكورتين سائغ وبهذا

يندفع قول بعضهم صلاة الفجر لم تكن وجبت وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الجن وفيه أى فى الصحيحين أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم
وقد يقال سيأتى ما يعلم منه أنه ليس المراد بالاستماع الاستماع المذكور هنا بل استماع سابق على ذلك وهو المذكور في رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الآتية ورواية صلاة الفجر هنا ذكرها الكشاف كالفخر وإلا فالروايات التى وقفت عليها فيها الاقتصار على صلاة الليل وصلاة الفجر كانت فى ابتداء البعث فى بطن نخلة عند ذهابه وأصحابه إلى سوق عكاظ كما سيأتى عن ابن عباس رضى الله عنهما فآمنوا به وكانوا يهودا لقولهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ولم يقواوا من بعد عيسى إلا أن يكون ذلك بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها ولا يخفى أنهم غلبوا ما نزل من الكتاب على مالم ينزل لأنهم لم يسمعوا جميع الكتاب ولا كان كله منزلا قال وأنكر ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماع النبى صلى الله عليه وسلم بالجن أى بأحد منهم
ففى الصحيحين عنه قال ما قرأ رسول الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ أى وكان بين الطائف ونخلة كان لثقيف وقيس عيلان كما تقدم وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب ففزعت الشياطين إلى قومهم فقالوا مالكم قالوا قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة فإذا هم بالنبى صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قل أوحى إلى أى قل أخبرت بالوحى من الله تعالى أنه استمع لقراءتى نفر من الجن أى جن نصيبين
أقول تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع ويجوز أن يكون صلى بهم إماما لأن الجماعة فى ذلك جائزة

ولا يخفى أن هذه القصة التى تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف يدل لذلك قوله انطلق فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظظ لأنه فى تلك القصة التي هى قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ماتقدم وكان مجيئه صلى الله عليه وسلم من الطائف قاصدا مكة وفى هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ وأنه قرأ فى تلك أى مجيئه من الطائف سورة الجن وفى هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك لأن قصة ابن عباس كانت فى ابتداء الوحى لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت فى ذلك الوقت وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة
وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به صلى الله عليه وسلم ولا قرأ عليهم وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم وقد صرح به ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فى هذه وصرح به الحافظ الدمياطى فى تلك حيث قال فى سيرته فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلى من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين فاستمعوا له صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الجن ولم يشعر بهم رسول الله عليه وسلم حتى نزل عليه وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن هذا كلامه ونزول ما ذكر كان بعد انصرافهم
فقد قال ابن إسحاق فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا به وأجابوا إلى ماسمعوا فقص الله تعالى خبرهم على النبى صلى الله عليه وسلم وبهذا يعلم مافى سفر السعادة
ولما وصل صلى الله عليه وسلم فى رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه وكذا يعلم مافى المواهب من قوله ولما انصرف صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف ونزل نخلة صرف إليه سبعة من جن نصيبين إلى أن قال وفي الصحيح أن الذي آذنه صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة الجن شجرة وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم إلى آخره لأن سؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد فرع اجتماعهم وقد ذكر هو أنهم لم يؤذنه صلى الله عليه وسلم إلا شجرة هناك وعلى جواز أن الشجرة آذنته بهم قبل انصرافهم أى أعلمته بوجودهم وأن ذلك كان سببا لاجتماعهم به صلى الله عليه وسلم وأن دعوى

ذلك لا ينافى أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر باجتماعهم للقرآن إلا مما نزل عليه من القرآن فسسؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد كان فى قصة اأخرى غير هاتين القصتين كانت بمكة سيأتى الكلام عليها
ثم رأيت عن ابن جرير أنه تبين من الأحاديث أن الجن سمعوا قراءة النبى صلى الله عليه وسلم بنخلة وأسلموا فأرسلهم صلى الله عليه وسلم إلى قومهم منذرين إذ لا جائز أن يكون ذلك فى أول البعث لمخالفته لما تقدم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وحينئذ يؤيد الاحتمال الثانى الذى ذكرناه من أنه يجوز أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم بعد أن آذنته بهم الشجرة وقوله فأرسلهم إلى قومهم منذرين لم أقف فى شىء من الروايات على ما هو صريح فى ذلك أى أن إرساله لهم كان من نخلة عند رجوعه من الطائف ولعل قائله فهم ذلك من قوله تعالى ولوا إلى قومهم منذرين
وغاية ما رأيت أن ابن جرير والطبرانى رويا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الجن الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم وهذا ليس صريحا فى أنه صلى الله عليه وسلم كان عند رجوعه من الطائف
لا يقال يعنى ذلك إنكار ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن المرة الأولى التى كانت عند البعث لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم كان فى بطن نخلة فى مرة أخرى ثالثة
ثم رأيت فى النور ما يخالف ما تقدم عن ابن عباس من قوله إنه لم يجتمع صلى الله عليه وسلم بهم بالجن حين خروجه إلى سوق عكاظ حيث قال الذى فى الصحيح وغيره أنه اجتمع بهم وهو خارج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه فليتأمل
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم أقام بنخله أياما بعد أن أقام بالطائف عشرة أيام وشهرا لا يدع أحدا من أشرافهم أي زيادة على عبد ياليل وأخويه إلا جاء إليه وكلمه لم يجبه أحد فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة كيف تدخل عليهم يعنى قريشا وهم قد أخرجوك أى كانوا سببا لخروجك وخرجت تستنصر فلم تنصر فقال يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه فسار صلى الله عليه وسلم إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق أى رضى الله تعالى

عنه فإنه أسلم بعد ذلك ليجيره أى ليدخل صلى الله عليه وسلم مكة فى جواره فقال أنا حليف والحليف لا يجير أى فى قاعدة العرب وطريقتهم واصطلاحهم فبعث صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك أيضا فقال إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب وفيه أنه هـلو كان كذلك لما سألهما صلى الله عليه وسلم وكونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف هذا الإصطلاح بعيد إلا أن يقال جوز صلى الله عليه وسلم مخالفة هذه الطريقة فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدى أى وقد مات كافرا قبل بدر بنحو سبعة أشهر يقول له إنى داخل مكة فى جوارك فأجابه إلى ذلك وقال له قل له فليأت فرجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ثم تسلح المطعم بن عدى وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى يا معشر قريش إنى قد أجرت محمدا فلا يؤذه أحد منكم ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله أى والمطعم بن عدى وولده مطيفون به صلى الله عليه وسلم قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم بات عنده تلك الليلة فلما أصبح خرج مطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه وكانوا ستة أو سبعة وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف مدة طوافه صلى الله عليه وسلم وأقبل أبو سفيان على المطعم فقال أمجير أم تابع فقال بل مجيز فقال إذن لا تخفر أى لا تزال خفارتك أى جوارك قد أجرنا من أجرت فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه اه
أى ولا بدع فى دخوله صلى الله عليه وسلم فى أمان كافر لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفى وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه لأهله أى ولهذا المعروف الذى فعله المطعم قال صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى لتركتهم له
ورأيت فى أسد الغابة أن جبيرا ولد المطعم رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بين الحديبية والفتح وقيل يوم الفتح جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو كافر فسأله

فى أسارى بدر فقال لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه فيهم كما سيأتى أى لأنه فعل معه صلى الله عليه وسلم هذا الجميل وكان من جملة من سعى فى نقض الصحيفة كما تقدم
قال وعن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه لما انصرف النفر السبعة من أهل نصيبين من بطن نخلة جاءوا قومهم منذرين ثم جاءوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وهم ثلثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك فوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من الليل بالحجون اه
وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنى أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن فليقم معى رجل منكم ولا يقم رجل فى قلبه مثقال حبة خردل من كبر فقمت معه أى بعد أن كرر ذلك ثلاثا ولم يجبه أحد منهم ولعلهم فهموا أن من الكبر ماليس منه وهو محبة الترفع فى نحو الملبس الذى لا يكاد يخلو منه أحد
وقد بين صلى الله عليه وسلم الكبر فى الحديث ببطر الحق وغمص الناس أى استصغارهم وعدم رؤيتهم شيئا بعد أن قالوا له يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق وغمط الناس بالطاء المهملة كما فى رواية أبى داود وجاء لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار أحد فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان قال الخطابى المراد بالكبر هنا أى فى هذه الرواية كبر الكفر لأنه قابله بالإيمان قال ابن مسعود وذهب صلى الله عليه وسلم فى بعض نواحى مكة أى بأعلاها بالحجون فلما برز خط لى خطا أى برجله وقال لا تخرج فإنك إن خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة وفى رواية لا تحدثن شيئا حتى آتيك لا يروعنك أى لا يخوفنك ويفزعنك ولا يهولنك أى لا يعظم عليك شىء تراه ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط وهم طائفة من السودان الواحد منهم زطى وكانوا كما قال الله تعالى كادوا يكونون عليه أى لازدحامهم لبدا أى كاللبد فى ركوب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم فأردت أن أقوم فأذب

عنه فذكرت عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكثت ثم إنهم تفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم فسمعتهم يقولون يا رسول الله إن شفتنا أى أرضنا التى نذهب إليها بعيدة ونحن منطلقون فزودونا أى لأنفسنا ودوابنا ولعله كان نفد زادهم وزاد دوابهم فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى يد أحدكم أوفر ما كان لحما رواه مسلم
وفى رواية إلا وجد عليه لحمه الذى كان عليه يوم أكل وكل بعر علف دوابكم وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم الزاد قال لهم لكم كل عظم عراق ولكم كل روثة خضرة والعراق بضم العين وفتح الراء جمع عرق بفتح العين وسكون الراء العظم الذى أخذ عنه اللحم وقيل الذى أخذ عنه معظم اللحم قلت يا رسول الله وما يغنى ذلك عنهم أى عن أنفسهم وعن دوابهم بدليل قوله فقال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت وفى رواية وجدوه أى الروث والبعر شعيرا فهذه الرواية تدل على أن الروثة مطعوم دوابهم ويوافقه ما جاء أن الشعير يعود خضرا لدوابهم ويحتاج للجمع بين كون الروث كالبعر يعود حبا يوم أكل وبين كونه يعود شعيرا وبين كونه يعود خضرا
هذا وفى رواية لأبى نعيم أن الروث يعود لهم تمرا وهى تدل على أن الروث من مطعومهم ويحتاج إلى الجمع وجمع ابن حجر الهيتمى بأن الروث يكون تارة علفا لدوابهم وتارة يكون طعاما لهم أنفسهم أى وفى لفظ سألونى المتاع فمتعتهم كل عظم حائل وكل روثة وبعرة والحائل البالى بمرور الزمن لأنه لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما كما يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم لهم لو حرق وصار فحما ولعل الغرض من ذكر الحائل الإشارة إلى أن زادهم العظم ولو كان حائلا لا أنه لم يمنعهم إلا الحائل وقوله إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل يدل على أن المراد عظم المذكاة وبدليل ذكر اسم الله تعالى عليه فلا يأكلون مالم يذكر اسم الله تعالى عليه من عظم أى وكذا من طعام الإنس سرقة كما جاء فى بعض الأخبار هذا ولكن فى رواية أبى داود كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه قال السهيلى وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبى داود
وقال بعض العلماء رواية ذكر اسم الله عليه فى الجن المؤمنين ورواية لم يذكر اسم الله تعالى عليه فى حق الشياطين منهم وهذا قول صحيح يعضده الأحاديث هذا

كلامه أى التى من تلك الأحاديث أن إبليس قال يا رب لليس أحد من خلقك إلا وقد جعلت له رزقا ومعيشة فما رزقى قال كل مالم يذكر عليه اسمى ومعلوم أن إبليس أبو الجن وأن مالم يذكر اسم الله عليه يشمل عظم الميتة
ومقابلة الشياطين بالمؤمنين تدل على أن المراد بهم فسقتهم لا الكفار منهم لأن فى كون الكفا رمن الجن اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين وأن كلا الفريقين سأله الزاد وأنه خاطب كلا بما يليق به فيه بعد لا سيما مع ما تقدم عن ابن مسعود ومايأتى من قوله إخوانكم من الجن ومن ثم قال بعضهم إن السائلين له صلى الله عليه وسلم الزاد كانوا مسلمين فليتأمل
ولما ذكر صلى الله عليه وسلم لهم العظم والروث قالوا يا رسول الله إن الناس يقذرونهما علينا فنهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم أو بروثه بقوله فلا يستنقين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة لأنه زاد إخوانكم من الجن
وفى رواية قالوا له صلى الله عليه وسلم انه أمتك عن الاستنجاء بهما فإن الله تعالى قد جعل لنا فيهما رزقا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالعظم والبعر أى وحرمه نحو البول أو التغوط عليهما تعلم من ذلك بالأولى ومنه يعلم أن مرادهم بالتقذير التنجيس لا ما يشمل التقذير بالطاهر كالبصاق والمخاط
وعن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنهما قال بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشى إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم وأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه فقال النبى صلى الله عليه وسلم نعم فانصرفت قال جابر فسألته فأخبرنى أنه رجل من الجن وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة أى العظم لأن الله تعالى جعل لنا فى ذلك رزقا ولعل هذا الرجل من الجن لم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ولا يخفى أن سؤال الزاد يقتضى أن ذلك لم يكن زادهم وزاد دوابهم قبل ذلك وحينئذ يسأل ماكان زادهم قبل ذلك وقد يقال هو كل مالم يذكر اسم الله عليه من طعام الآدميين وحينئذ يكون ماتقدم فى خبر إبليس المراد يمالم يذكر اسم اله عليه غير العظم فليتأمل والنهى عن الاستنجاء يدل على أن ذلك لا يختص بحالة السفر بل هو زادهم بعد ذلك دائما وأبدا

وقصة جابر هذه سيأتي فى غزوة تبوك نظيرها وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم فى الطريق فانحاز الناس عنها فأقبلت حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون من هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إلى يستمعون القرآن قال فى المواهب وفى هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب أى وإنما يتغذون بالشم
أقول ذكرت فى كتابى عقد المرجان فيما يتعلق بالجان أن فى أكل الجن ثلاثة أقوال قيل يأكلون بالمضغ والبلع ويشربون بالازدراد والثانى لا يأكلون ولا يشربون بل يتغذون بالشم والثالث أنهم صنفان صنف يأكل ويشرب وصنف لا يأكل ولا يشرب وإنما يتغذون بالشم وهو خلاصتهم والله أعلم
قال ابن مسعود فلماولوا قلت من هؤلاء قال هؤلاء جن نصيبين وفى رواية فتوارى عنى حتى لم أره فلما سطع الفجر أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى أراك قائما فقلت ماقعدت فقال ماعليك لو فعلت أى قعدت قلت خشيت أن أخرج منه فقال أما إنك لو خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة أى وفى رواية لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم وفيه أن الخروج لا ينشأ عن القعود حتى يخشى منه الخروج وفى رواية قال لي أنمت فقلت لا والله يا رسول الله ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس أى لما تراكموا عليك وسمعت منهم لغطا شديدا حتى خفت عليك إل أن سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول اجلسوا وسأله عن سبب اللغط الشديد الذى كان منهم فقال إن الجن تداعت فى قتيل قتل بينهم فتحاكموا إلى فحكمت بينهم بالحق
وفى رواية عن سعيد بن جبير أنه أى ابن مسعود قال له أولئك جن نصيبين وكانوا اثنى عشر ألفا والسورة التى قرأها عليهم اقرأ باسم ربك أى ولا ينافى ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه افتتح القرآن لأن المراد بالقرآن القراءة زاد ابن مسعود على ما فى بعض الروايات ثم شبك أصابعه فى أصابعى وقال إنى وعدت أن تؤمن بى الجن والإنس أما الإنس فقد آمنت وأما الجن فقد رأيت
أقول وفى هذا أن ابن مسعود لم يخرج من الدائرة التى اختطها له صلى الله عليه وسلم

وفى السيرة الهشامية ما يقتضى أنه خرج منها حيث قال عن ابن مسعود فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه صلى الله عليه وسلم من الجبال فازدحمواعليه إلى آخره فليتأمل
فعلم أن هذه القصة بعد كل من قصة ابن عباس وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف فإن قصة ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كانت فى أول البعث وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف بعدها بمدة مديدة كما علمت وهذه القصة كانت بعدهما بمكة والله أعلم ثم قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود هل معك وضوء أى ماء نتوضأ به قلت لا فقال ما هذه الإداوة أى وهى إناء من جلد قلت فيها نبيذ قال ثمرة طيبة وماء طهور صب على فصببت عليه فتوضأ وأقام الصلاة وصلى
أقول وهو محمول عند أئمتنا معاشر الشافعية على أن الماء لم يتغير بالتمر تغيرا كثيرا يسلب اسم الماء ومن ثم قال ماء طهور وقول ابن مسعود رضى الله تعالى عنه فيها نبيذ أى منبوذ الذى هو التمر وسماه نبيذا باعتبار الأول على حد قوله تعالى إنى أرانى اعصر خمرا وهذا بناء على فرض صحة الحديث وإلا فقد قال بعضهم حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى رضى الله تعالى عنه الذى أقول به منع التطهر بالنبيذ لعدم صحة الخبر المروى فيه ولو أن الحديث صح لم يكن نصا فى الوضوء به فإنه صلى الله عليه وسلم قال ثمرة طيبة وماء طهور أى قليل الامتزاج والتغير عن وصف الماء وذلك لأن الله تعالى ما شرع الطهارة عند فقد الماء إلا بالتيمم بالتراب خاصة
قال ومن شرف الإنسان أن الله تعالى جعل له التطهر بالتراب وقد خلقه الله من تراب فأمره بالتطهر أيضا به تشريفا له وعند أحمد ومسلم والترمذى عن علقمة قلت لابن مسعود هل صحب النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد فقال ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا استطير أو اغتيل وطلبناه فلم نجده فبتنا بشر ليلة فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل الحجون وفى لفظ من قبل حراء فقلنا يا رسول الله إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة فقال إنه أتانى داعى الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وهذه القصة

يجوز أت تكون هى المنقولة عن كعب الأحبار المتقدم ذكرها وهى سابقة على القصة التى كان فيها ابن مسعود ويجوز أن تكون غيرها وهى المرادة بقول عكرمة إنهم كانوا اثنى عشر ألفا جاءوا من جزيرة الموصل لأن المتقدم فى تلك عن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه أنهم كانوا ثلثمائة من جن نصيبين
وحينئذ يحتمل أن تكون هذه القصة سابقة على القصة التى كان بها ابن مسعود ويحتمل أن تكون متأخرة عنها وعلى ذلك يكون اجتماع الجن به صلى الله عليه وسلم فى مكة ثلاث مرات مرة كان فيها معه ابن مسعود ومرتين لم يكن معه ابن مسعود فيهما
قال فى الأصل ويكفى فى أمر الجن ما فى سورة الرحمن وسورة قل أوحى إلى وسورة الأحقاف
أقول فعلم أن الجن سمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به ولا شعر بهم فى المرة الأولى وهو ذاهب من مكة إلى سوق عكاظ فى ابتداء البعث المتقدمة عن ابن عباس على ما تقدم ولا فى المرة الثانية عند منصرفه من الطائف بنخلة على ما قدمنا فيه وعلم أن الروايات متفقة على استماعهم لقراءته صلى الله عليه وسلم فى المرتين وبه يعلم ما فى المواهب عن الحافظ ابن كثير أن كون الجن اجتمعوا له صلى الله عليه وسلم فى نخلة عند منصرفه من الطائف فيه نظر وإنما استماعهم له كان فى ابتداء البعث كما يدل عليه حديث ابن عباس أى من أن ذلك كان عند ذهابه إلى سوق عكاظ وعلم أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم وآمنوا به فى مكة مرتين أو ثلاثة بعد ذلك والله أعلم
وقد أخرج البيهقى فى شعب الإيمان عن قتادة أنه قال لما أهبط إبليس قال أى رب قد لعنته فما علمه قال السحر قال فما قراءته قال الشعر قال فما كتابته قال الوشم قال فما طعامه قال كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه أى من طعام الإنس يأخذه سرقة قال فما شرابه قال كل مسكر قال فأين مسكنه قال الحمام قال فأين محله قال فى الأسواق قال فما صوته قال المزمار قال فما مصايده قال النساء فالحمام محل أكثر إقامته والسوق محل تردده فى بعض الأوقات والظاهر أن مثل إبليس فيما ذكر كل من لم يؤمن من الجن

= باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسى وإسلامه رضى الله تعالى عنه
كان الطفيل بن عمرو الدوسى شريفا فى قومه شاعرا نبيلا قدم مكة فمشى إليه رجال من قريش فقالوا يا أبا الطفيل كنوه بذلك تعظيما ل فلم يقولوا يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل أمره بنا اى اشتد وفرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق به بين المرء وأخيه وبين الرجل وزوجته وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا فلا تكلمه ولا تسمع منه قال الطفيل فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت أى قصدت وعزمت على أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه أى حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا وهو بضم الكاف وسكون الراء ثم سين مهملة مضمومة ثم فاء أى قطنا فرقا أى خوفا من أن يبلغنى شىء من قوله فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله أى فسمعت كلاما حسنا فقلت فى نفسى أنا ما يخفى على الحسن من القبيح فما يمنعنى من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت فمكثت حتى انصرف إلى بيته فقلت يا محمد إن قومك قالوا لى كذا وكذا حتى سددت أذنى بكرسف حتى لا أسمع قولك فاعرض على أمرك فعرض عليه الإسلام وتلا عليه القرآن أى قرأ عليه قل هو الله أحد إلى آخرها و قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها وقل أعوذ برب الناس إلى آخرها
وفيه أنه سيأتى أن نزول قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس كان بالمدينة عند ما سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فقال والله ماسمعت قط قولا أحسن من هذا ولا أمرا أعدل منه فأسلمت فقلت يا نبى الله إنى امرؤ مطاع فى قومى وأنا راجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام فادع الله أن يكون لى عونا عليهم قال اللهم اجعل له آيه فخرجت حتى إذا كنت بثنية تطلعنى على الحاضر أى وهم النازلون المقيمون على الماء لا يرحلون عنه وكان ذلك فى ليلة مظلمة وقع نور بين عينى مثل المصباح فقلت اللهم فى غير وجهى فإنى أخشى أن

يظنوا أنه مثله فتحول فى رأس سوطى فجعل الحاضر يتراءون ذلك كالقنديل المعلق أى ومن ثم عرف بذى النور وإلى ذلك أشار الإمام السبكى فى تائيته بقوله ** وفى جبهة الدوسى ثم بسوطه ** جعلت ضياء مثل شمس منيرة **
قال فأتانى أبى فقلت له إليك عنى يا أبت فلست منى ولست منك فقال لم يا بنى قلت قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم فقال أى بنى دينى دينك فأسلم أى بعد أن قال له اغتسل وطهر ثيابك ففعل ثم جاء فعرض عليه الإسلام ثم أتتنى صاحبتى فذكرت لها مثل ذلك أى قلت لها إليك عنى فلست منك ولست منى قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم قالت فدينى دينك فأسلمت ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا على ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد غلبنى دوس وفى رواية قد غلبنى على دوس الزنا فادع الله عليهم فقال الهم اهد دوسا قال زاد فى رواية وأت بهم فقال الطفيل فرجعت فلم أزل بأرض قومى أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق اه فأسلموا قال فقدمت بمن أسلم من قومى عليه صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر سبعين أو ثمانين بيتا من دوس أى ومنهم أبو هريرة فأسهم لنا مع المسلمين أى مع عدم حضورهم القتال اه
أقول قال فى النور وفى الصحيح ما ينفى هذا وأنه لم يعط أحدا لم يشهد القتال إلا أهل السفينة الجائين من أرض الحبشة جعفرا ومن معه أى ومنهم الأشعريون أبو موسى الأشعرى وقومه فقد تقدم أنهم هاجروا من اليمن إلى الحبشة ثم جاءوا إلى المدينة
وفيه أنه سيأتى أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه أن يشركوهم معهم فى الغنيمة ففعلوا وسيأتى أنه إنما أعطى أهل السفينة أى والدوسيين على ما علمت من الحصنين اللذين فتحا صلحا فقد أعطاهما مما أفاء الله عليه لا من الغنيمة وسؤال أصحابه فى إعطائهم من المشهورة العامة المأمور بها فى قوله تعالى وشاورهم فى الأمر لا لاستنزالهم عن شىء من حقهم والله أعلم

= باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس
أعلم أنه لا خلاف فى الإسراء به صلى الله عليه وسلم إذ هو نص القرآن عل سبيل الإجمال وجاءت بتفصيله وشرح أعاجيبه أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة من الرجال والنساء نحو ثلاثين أي ومن ثم ذهب الحاتمي الصوفي إلى أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة فجعل كل حديث إسراء واتفق العلماء على أن لإسراء كان بعد البعثة اه أى الاسراء الذى كان فى اليقظة بجسده صلى الله عليه وسلم فلا ينافى حديث البخارى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك كان فى نومه بروحه فكان هذا الإسراء توطئه له وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة
وفى كلام الشيخ عبد الوهاب الشعرانى أن إسراءاته صلى الله عليه وسلم كانت أربعا وثلاثين واحد بجسمه صلى الله عليه وسلم والباقى بروحه وتلك الليلة أى التى كانت بجسمه صلى الله عليه وسلم كانت ليلة سبع عشرة وقيل سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول وقيل ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان أي وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر الآخر وقيل من رجب واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغنى المقدسى وعليه عمل الناس وقيل فى شوال وقيل فى ذى الحجة
وفى كلام الشيخ عبد الوهاب ما يفيد أن إسرءاته صلى الله عليه وسلم كلها كانت فى تلك الليلة التى وقع فيها هذا الخلاف فليتأمل وذلك قبل الهجرة قيل بسنة وبه جزم ابن حزم وادعى فيه الإجماع وقيل بسنتين وقيل يثلاث سنين وكل من الإسراء والمعراج كان بعد خروجه صلى الله عليه وسلم للطائف كما دل عليه السياق وعن ابن إسحاق أن ذلك كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وفيه نظر ظاهر
واختلف فى اليوم الذى يسفر عن ليلتهما قيل الجمعه وقيل السبت وقال ابن دحية يكون يوم الاثنين إن شاء الله تعالى ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة أى لأنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الإثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين ومات يوم الإثنين فليتأمل

عن أم هانىء بنت أبى طالب رضى الله تعالى عنها أى واسمها على الأشهر فاختة وسأتى فى فتح مكة أنها أسلمت يوم الفتح وهرب زوجها هبيرة إلى نجران ومات بها على كفره قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس أى فى لظلام بعيد الفجر وأنا على فراشى فقال أشعرت أى علمت أنى نمت الليلة فى المسجد الحرام أي عند البيت أو فى الحجر وهو المراد بالحطيم الذى وقع فى بعض الروايات وفى رواية فرج سقف بيتى
قال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون السر فى ذلك أى فى انفراج السقف التمهيد لما يقع من شق صدره صلى الله عليه وسلم فكأن الملك أراه بانفراج السقف والتئامه فى الحال كيفية ما سيصنع به لطفا به وتثبيتا له صلى الله عليه وسلم أي زيادة تمهيد وتثبيت له وإلا فشق صدره صلى الله عليه وسلم تقدم له غير مرة وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم نام فى بيت أم هانىء قالت فقدته من الليل فامتنع منى النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش
أى وحكى ابن سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم فقد تلك الليلة فتفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه ووصل العباس إلى ذى طوى وجعل يصرخ يا محمد فأجابه لبيك لبيك فقال يا بن أخى عنيت قومك فأين كنت قال ذهبت إلى بيت المقدس قال من ليلتك قال نعم قال هل أصابك إلا خير قال ما أصابنى إلا خير ولعله صلى الله عليه وسلم نزل عن البراق فى ذلك المحل
وعن أم هانىء رضى الله تعالى عنها قالت ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو فى بيتى نائم عندى تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أقامنا من نومنا ومن ثم جاء في رواية نبهنا فلما صلى الصبح وصلينا معه قال يا أم هانيء لقد صليت معك العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين الحديث
والمراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاته التى كان يصليها وهى الركعتان فى الوقتين المذكورين وإلا فصلاة العشاء وصلاة الصبح التى هى صلاة الغداة لم يكونا فرضا وفى قولها وصلينا معه نظر لما تقدم ويأتى أنها لم تسلم إلا يوم الفتح ثم رأيت فى مزيل

الخفاء وأما قولها يعنى أم هانىء وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه فى الصلاة كذا أجاب
وأقرب منه أنها تكلمت على لسان غيرها أو أنها لم تظهر إسلامها إلا يوم الفتح فليتأمل فقال صلى الله عليه وسلم إن جبريل أتانى وفى رواية أسرى به من شعب أبى طالب قال الحافظ ابن حجر والجمع بين هذه الروايات أنه صلى الله عليه وسلم نام فى بيت أم هانىء وبيتها عند شعب أبى طالب ففرج عن سقف بيته الذى هو بيت أم هانىء لأنه صلى الله عليه وسلم كان نائما به فنزل الملك وأخرجه إلى المسجدوكان به أثر النعاس أى فاضطجع فيه عند الحجر فيصح قوله صلى الله عليه وسلم نمت الليلة فى المسجد الحرام إلى آخره
وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر أى وهو مضطجع فى المسجد فى الحجر بين عمه حمزه وابن عمه جعفر رضى الله تعالى عنهما فقال أحدهم خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم فاستقلوه على ظهره فتولاه منهم جبريل فشق من ثغرة نحره وهو الموضع المنخفض بين الترقوتين إلى أسفل بطنه أى وفى رواية إلى مراق بطنه وفى رواية إلى شعرته أى أشار إلى ذلك فانشق فلم يكن الشق فى المرات كلها بآلة ولم يسل منه دم ولم يجد لذلك ألما كما تقدم التصريح به فى بعض الروايات لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات ثم قال جبريل لميكائيل ائتنى بطشت من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح صدره فاستخرج قلبه أى فشقه فغسله ثلاث مرات ونزع ما كان فيه من أذى وهذا الأذى يحتمل أن يكون من بقايا تلك العلقة السوداء التى نزعت منه صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع فى بنى سعد بناء على تجزئتها كما تقدم فى المرة الثانية وهو ابن عشر سنين والثالث عند البعث فلا يخالف أن العلقة السوداء نزعت منه صلى الله عليه وسلم فى المرة الأولى وهو مسترضع فى بنى سعد ويستحيل تكرار إخراجها وإلقائها والذى ينبغى أن يكون نزع الملك العلقة إنما هو فى المرة الأولى والواقع فى غيرها إنما هو إخراج الأذى وأنه غير تلك العلقة وأن المراد به مايكون في الجبليات البشرية وتكرر إخراج ذلك الأذى استئصاله ومبالغة فيه وذكر العلقة في المرة الأولى وقول الملك هذا حظ الشيطان وهم من بعض الرواة

واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم ثم أتى بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا أى نفس الحكمة والإيمان لأن المعانى قد تمثل بالأجسام أو فيه ما هو سبب لحصول ذلك والمراد كما لهما فلا ينافى ما تقدم فى قصة الرضاع أنه ملىء حكمة وإيمانا ووضعت فيه السكينة ثم أطبقه ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة وتقدم فى قصة الرضاع أن فى رواية أن الختم كان فى قلبه وفى أخرى أنه كان فى صدره وفى أخرى أنه كان بين كتفيه وتقدم الكلام على ذلك وأنكر القاضى عياض شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وقال إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم صبى فى بنى سعد وهو يتضمن إنكار شقه عند البعثة أيضا أي والتي قبلها وعمره صلى الله عليه وسلم عشر سنين ورده الحافظ ابن حجر بأن الروايات تواردت بشق صدره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة وعند البعثة أى زيادة على الواقع له صلى الله عليه وسلم فى بنى سعد وأبدى لكل من الثلاثة حكمة وتقدم أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين وأنه صلى الله عليه وسلم شق صدره وهو ابن عشرين سنة وتقدم ما فيه
أقول ويمكن أن يكون إنكار القاضى عياض لشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على الوجه الذى جاء فى بعض الروايات أنه أخرج من قلبه علقة سوداء وقال الملك هذا حظ الشيطان منك لأن هذا إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم مسترضع فى بنى سعد ويستحيل تكرر إلقاء تلك العلقة وحمل ذلك على بعض بقايا تلك العلقة السوداء كما قدمناه ينافى قول الملك هذا حظ الشيطان منك إلا أن يقال المراد أنه من حظ الشيطان أى بعض حظ الشيطان أى بعض حظ الشيطان فليتأمل ذلك والأولى ماقدمناه فى ذلك ثم لا يخفى أنه ورد غسل صدرى وفى رواية قلبى
وقد يقال الغسل وقع لهما معا كما وقع الشق لهما معا فأخبر صلى الله عليه وسلم بإحداهما مرة وبالأخرى أخرى أى وتقدم فى مبحث الرضاع فى رواية شق بطنه صلى الله عليه وسلم ثم قلبه وفى أخرى شق صدره ثم قلبه وفى اخرى الاقتصار على شق صدره وفى أخرى الاقتصار على شق قلبه وتقدم أن المراد بالبطن الصدر وليس المراد بإحدهما القلب
وفى كلام غير واحد ما يقتضى أن المراد بالصدر القلب ومن ثم قيل هل شق صدره وغسله مخصوص به صلى الله عليه وسلم أو وقع لغيره من الأنبياء

وأجيب بأنه جاء فى قصة تابوت بنى اسرائيل الذى أنزله الله تعالى على آدم حين أهبطه إلى الأرض فيه صور الأنبياء من أولاده وفيه بيوت بعدد الرسل وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم وهو من ياقوتة حمراء ثلاثة أذرع فى ذراعين وقيل كان من نوع من الخشب تتخذ منه الأمشاط مموها بالذهب فكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم كان عند اسماعيل ثم عند ابنه قيدار فنازعه ولد اسحاق ثم أمر من السماء أن يدفعه الى ابن عمه يعقوب إسرائيل الله فحمله إلى أن أوصله له ثم وصل إلى موسى عليه الصلاة والسلام فوضع فيه التوراة وعصاه وعمامة هارون ورضاض الألواح التى تكسرت لما ألقاها وأنه كان فيه الطشت طشت من ذهب الجنة الذى غسل فيه قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك مقتض لعدم الخصوصية وكان هذا التابوت إذا اختلفوا فى شىء سمعوا منه ما يفصل بينهم وما قدموه أمامهم فى حرب إلا نصروا وكان كل من تقدم عليه من الجيش لا بد أن يقتل أو ينهزم الجيش
وفى الخصائص للسيوطى ومما اختص به صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبى قبله شق صدره فى أحد القولين وهو الأصح وجمع بعضهم بحمل الخصوصية على تكرر شق الصدر لأن تكرر شق صدره الشريف ثبت فى الأحاديث وشق صدر غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أخذ من قصة التابوت وليس فيها تعرض للتكرار ولو جمع بأن شق الصدر مشترك وشق القلب وإخراج العلقة السوداء مختص به صلى الله عليه وسلم ويكون المراد بالقلب في قصة التابوت الصدر وبالصدر فى كلام الخصائص القلب لم يكن بعيدا إذ ليس فى قصة التابوت مايدل على أن تلك العلقة السوداء أخرجت من غير قلب نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف على أثر يدل على ذلك وغسل قلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس من لازمة الشق بل يجوز أن يكون غسله من خارج وقد أحلنا على هذا الجمع فى بحث الرضاع وبهذا يرد ما قدمناه من قول الشمس الشامى الراجح المشاركة ولم أر لعدم المشاركة ما يعتمد عليه بعض الفحص الشديد فليتأمل
ثم رأيته ذكر أنه جمع جزءا سماه نور البدر فيما جاء فى شق الصدر ولم أقف عليه والله أعلم

قال فأتانى جبريل عليه الصلاة والسلام فذهب بى إلى باب المسجد أى وعن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم فى الحجر جاءنى جبريل عليه الصلاة والسلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاني الثانية فهمزنى بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فأخذ بعضدى فقمت معه فخرج بى ألى باب المسجد
وفيه أنه إذا لم يجد شيئا من أخذ بعضديه إلا أن يقال ثم رآه عند أخذه بعضديه فإذا دابة أبيض أى ومن ثم قيل له البراق بضم الموحدة لشدة بريقه وقيل قيل له ذلك لسرعته أى فهو كالبرق وقيل لأنه كان ذا لونين أبيض وأسود أى يقال شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء أى وهى العفراء ومن ثم جاء فى الحديث أبرقوا فإن دم عفراء عند الله أذكى من دم سوداوين أى ضحوا بالبلقاء وهى العفراء لكن فى الصحاح الأعفر الأبيض وليس بالشديد البياض وشاة عفراء يعلو بياضها حمرة ولغلبة بياض شعره على سواده أو حمرته قيل أبيض ولعل سواد شعره لم يكن حالكا بل كان قريبا من الحمرة فوصف بأنه أحمر وهذا لا يتم إلا لو كان البراق كذلك أي شعره أبيض داخله طاقات سود أو حمر ولعله كان كذلك ويدل له قول بعضهم إنه ذو لونين أى بياض وسواد والسواد كما علمت إذا صفا شبه بالأحمر وهذه الرواية طوى فيها ذكر أنه كان بين حمزة وجعفر وأنه جاءه جبريل وميكائيل وملك آخر وأنهم احتملوه إلى زمزم وشق جبريل صدره إلى آخر ما تقدم وذلك البراق فوق الحمار ودون البغل مضطرب الأذنين أى طويلهما أى وكان مسرجا ملجما كما فى بعض الروايات فركبته فكان يضع حافره مد بصره أى حيث ينتهى بصره
وفى رواية ينتهى خفها حيث ينتهى طرفها إذا أخذ فى هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أخذ فى صعود طالت رجلاه وقصرت يداه أى وقد ذكره هذا الوصف فى فرس فرعون موسى فقد قيل كان لفرعون أربع عجائب فذكر منها أن لحيته كانت خضراء ثمانية أشبار وقامته سبعة أشبار فكانت لحيته أطول منه بشبر وكان لهه فرس وقيل برذون إذا صعد الجبل قصرت يداه وطالت رجلاه وإذا انحدر يكون على ضد ذلك وفى رواية أن البزاق خطوه مد البصر قال ابن المنير فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء فى خطوة واحدة لأن بصر الذى فى الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السموات فى سبع خطوات انتهى أى لأن بصر من يكون فى سماء الدنيا يقع

على السماء فوقها وهكذا وهذا بناء على أنه عرج به صلى الله عليه وسلم على المعراج راكب البراق وسيأتى ما فيه
قال صلى الله عليه وسلم فلما دنوت منه اشمأز أى نفر وفى رواية فاستصعب ومنع ظهره أن يركب فقال جبريل اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد وفى رواية فى فخذيها أى تلك الدابة التى هى البراق جناحان تحفز بهما أى تدفع بهما رجليها ففى اللغة الحفز الحث والإعجال فلما دنوت لأركبها شمست أى نفرت ومنعت ظهرها وفى رواية شمس وفى رواية صرت أذنيها أى جمعتهما وذلك شأن الدابة إذا نفرت فوضع جبريل يده على معرفتها ثم قال ألا تستحين يا براق مما تصنعين والله ما ركب عليك أحد وفى رواية عبد الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم أكرم على الله منه فاستحيت حتى ارفضت عرقا أى كثر عرقها وسال ثم قرت حتى ركبها أى وفى رواية فقال جبريل مه يا براق فوالله ماركبك مثله من الأنبياء أى لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت تركبها قبله صلى الله عليه وسلم
ففى البيهقى وكانت الأنبياء تركبها قبلى وعند النسائى وكانت تسخر للأنبياء قبلى وبعد عليها العهد من ركوبهم لأنها لم تكن ركبت فى الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كما ذكره ابن بطال وهو يقتضى أنه لم يركبه أحد ممن كان بين عيسى ومحمد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجاء التصريح بذلك فى بعض الروايات أى والمتبادر منها أنها التى بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام فيكون عيسى ممن ركبها دون من بعده من الأنبياء عليهما الصلاة والسلام على تقدير ثبوت وجود أنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد عيسى وتقدم عن النهر أنه كان بينهما ألف نبى
وقوله لأن الأنبياء ظاهرة يدل على أن جميع الأنبياء أى عيسى ومن قبله ركبوه قال الإمام النووى القول باشتراك جميع الأنبياء فى ركبوها يحتاج إلى نقل صحيح هذا كلامه
ومما يدل على أن الأنبياء كانت تركبه قبله صلى الله عليه وسلم ما تقدم وظاهر ما سيأتى فى بعض الروايات فربطه بالحلقة التى توثق بها الأنبياء وإنما قلنا ظاهر لأنه لم يذكر الموثق بفتح المثلثة إذ يحتمل أن الأنبياء كانت تربط غير البراق من دوابهم بها ثم رأيت فى رواية البيهقى فأوثقت دابتى يعنى البراق التى كانت الأنبياء تربطها فيه

ومن ثم قال الشيخ عبد الوهاب الشعرانى رحمه الله مامن رسول إلا وقد أسرى به راكبا على ذلك البراق هذا كلامه وقد تقدم أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حمل هو وهاجر وولدهما يعنى إسماعيل على البراق إلى مكة
وفى تاريخ الأزرقى وكان إبراهيم يحج كل سنة على البراق فعن سعيد بن المسيب وغيره أن البراق هو دابة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التى كان يزور عليها البيت الحرام وعلى تسليم أنه لم يركب البراق أحد قبله صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن دحية ووافقه الإمام النووى فقول جبريل عليه الصلاة والسلام ما ركبك ونحوه لا ينافيه لأن السالبة تصدق بنفى الموضوع ومن ثم قال فى الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بركوب البراق فى أحد القولين أى وقيل إن الذى خص به هو ركوبه مسرجا ملجما
وفى المنتقى أن البراق وإن كان يركبه الأنبياء إلا أنه لم يكن يضع حافره عند منتهى طرفه إلا عند ركوب النبى صلى الله عليه وسلم وجاء فى غريب التفسير أن البراق لما شمس قال له جبريل لعلك يا محمد مسيت الصفر اليوم وهو صنم كان بعضه من ذهب وبعضه من نحاس كسره صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال له صلى الله عليه وسلم ما مسيته إلا أنى مررت به وقلت تبا لمن يعبدك من دون الله فقال جبريل وما شمس إلا لذلك أى لمجرد مرورك عليه وهذا حديث موضوع كما نقل عن الإمام أحمد
وقال الحافظ ابن حجر إنه من الأخبار الواهية وقال مغلطاى لا ينبغى أن يذكر ولا يعزى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال فرس شموس أى صعبة ولا يقال شموسة وذكر لاستصعاب البراق غير ذلك من الحكم لانطيل بذكره
قال وعن الثعلبى بسند ضعيف فى صفة البراق عن ابن عباس له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس وقوائم كالإبل وأظلاف وذنب كالبقر أى وحينئذ يكون إطلاق الخف على ذلك فى الرواية السابقة ينتهى خفها حيث ينتهى طرفها مجازا لأن مع كونها لها قوائم كقوائم الإبل لا خف لها بل ظلف وهو الحافر
وفى كلام بعضهم فى صفة البراق وجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال لا ذكر ولا أنثى اه ومن وصف بوصف المذكر تارة وبوصف المؤنث أخرى فهى حقيقة ثالثة ويكون خارجا من

قوله تعالى ومن كل شىء خلقنا زوجين كما خرجت من ذلك الملائكة فإنهم ليسوا ذكورا ولا إناثا
وذكر بعضهم أن أذنيها كأذنى الفيل وعنقها كعنق البعير وصدرها كصدر الفيل كأنه من ياقوت أحمر لها جناحان كجناح النسر فيهما من كل لون قوائمها كقوائم الفرس وذنبها كذنب البعير ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير الصحة
قال صلى الله عليه وسلم ثم سرت وجبريل عليه الصلاة والسلام لا يفارقنى أى وفى رواية أنه ركب معه البراق وفى الشفاء مازايلا ظهر البراق حتى رجعا وفى رواية ركبت البراق خلف جبريل أى وفى صحيح ابن حبان وحمله جبريل على البراق رديفا له
قال وفى الشرف كان الآخذ بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل وفى رواية جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره اه
أقول لا منافاة لجواز أن يكون جبريل تارة ركب مردفا له صلى الله عليه وسلم وتارة أخذ بركابه من جهة اليمين وميكائيل تارة أخذ بالزمام وتارة لم يأخذه وكان جهة يساره أو كان آخذ بالزمام من جهة اليسار ولا يخالف هذا الجمع قول الشفاء مازايلا ظهر البراق لإمكان حمله على غالب المسافة هذا وفى حياة الحيوان الظاهر عندى أن جبريل لم يركب مع النبى صلى الله عليه وسلم البراق ليلة الإسراء لأنه المخصوص بشرف الإسراء هذا كلامه فليتأمل والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم انتهيت إلى بيت المقدس فأوثقته بالحلقة التى بالباب أى باب المسجد التى كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توثق أى تربط بهاأى تربطه بها على ما تقدم عن رواية البيهقى وفى رواية أن جبريل خرق بأصبعه الحجر أى الذى هو الصخرة وفى كلام بعضهم فأدخل جبريل يده في الصخرة فخرقها وشد به البراق
أقول لا منافاة لجواز أن يكون المراد وسع الخرق بأصبعه أو فتحه لعروض انسداده وأن هذا الخرق هو المراد بالحلقة التى فى الباب لأن الصخرة بالباب وقيل لهذا الخرق حلقة لاستدارته
وفى الإمتاع وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين فربط دابته فيها والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم هذا كلامه

وجمع بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم ربطه بالحلقة خارج باب المسجد الذى هو مكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأدبا فأخذه جبريل فربطه فى زاوية المسجد فى الحجر الذى هو الصخرة التى خرقها بأصبعه وجعله داخلا عن باب المسجد فكأنه يقول له إنك لست ممن يكون مركوبه على الباب بل يكون داخلا
وفى حديث أبى سفيان قبل إسلامه لقيصر أنه قال لقيصر يحط من قدره صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك أيها الملك عنه خبرا تعلم منه أنه يكذب قال وما هو قال إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا فى ليلة واحدة فقال بطريق أنا أعرف تلك الليلة فقال له قيصر ما علمك بها قال إنى كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كها غير باب واحد أى وهو الباب الفلانى غلبنى فاستعنت عليه بعمالى ومن يحضرنى فلم نقدر فقالو إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتى بعض النجارين فيصلحه فتركته مفتوحا فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذى من زاوية الباب مثقوب أى زيادة على ماكان عليه على ماتقدم وإذا فيه أثر مربط الدابة أى التى هى البراق أى ولم أجد بالباب مايمنعه من الإغلاق فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده فى العلم القديم أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء وعند ذلك قلت لأصحابى ماحبس هذا الباب الليلة إلا هذا الأمر وسيأتى ذلك عند الكلام على كتابه صلى الله عليه لقيصر ولا يخفى أن المراد بالصخرة الحجر الذي بالباب لا الصخرة المعروفة كما هو المتبادر من بعض الروايات وهي فأتى جبريل الصخرة التى فى بيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق لأن الذى فى بابه يقال إنها فيه ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان آية وإلا فجبريل عليه الصلاة والسلام لا يمنعه باب مغلق ولا غيره
وفى رواية عن شداد بن أوس أنه قال ثم انطلق بى أى جبريل حتى دخلنا المدينة يعنى مدينة بيت المقدس من بابها اليمانى فأتى قبلة المسجد فربط فيها دابته
قد يقال لا يخالفه لأنه يجوز أن يكون ذلك الباب كان بجانب قبلة المسجد ولعل هذا الباب هو اليمانى الذى فيه صورة الشمس والقمر ففى رواية ودخل المسجد من باب فيه تمثال الشمس والقمر أى مثالهما فيه والله أعلم
وأنكر حذيفة رضى الله تعالى عنه رواية ربط البراق وقال لم يفر منه وقد سخره له

عالم الغيب والشهادة ورد عليه بأن الأخذ بالحزم لا ينافى صحة التوكل فعن وهب ابن منبه رضى الله عنه الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقى المهالك قال وهب وجدته فى سبعين من كتب الله عزوجل القديمة اى ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم اعقلها وتوكل وقد كان صلى الله عليه وسلم يتزود فى أسفاره ويعد السلاح فى حروبه حتى لقد ظاهر بين درعين فى غزوة أحد قال وفى رواية فلما استوى النبى صلى الله عليه وسلم فى صخرة المسجد قال جبريل يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين قال نعم قال جبريل فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فرددن عليه السلام فقال من أنتن قلن خيرات حسان قوم أبرار نقلوا فلم يدرنوا وأقاموا فلم يظنعوا وخلدوا فلم يموتوا اه
أقول فى كلام بعضهم أنه لم يختلف أحد أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من عند القبة التى يقال لها قبة المعراج من عند يمين الصخرة وقد جاء صخرة بيت المقدس من صخور الجنة وفى لفظ سيدة الصخور صخرة بيت المقدس وجاء صخرة بيت المقدس على نخلة والنخلة على نهر من أنهار الجنة وتحت النخلة آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة قال الذهبى إسناده مظلم وهو كذب ظاهر
قال الإمام أبو بكر بن العربى فى شرحه لموطا مالك صخرة بيت المقدس من عجائب الله تعالى فإنها صخرة قائمة شعثاء فى وسط المسجد الأقصى قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه فى أعلاها من جهة الجنوب قدم النبى صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق وقد مالت من تلك الجهة لهيبته صلى الله عليه وسلم وفى الجهة الأخرى أصابع الملائكة التى أمسكتها لما مالت ومن تحتها المغارة التى انفصلت من كل جهة أى فهى معلقة بين السماء والأرض وامتنعت لهيبتها من أن أدخل تحتها لأنى كنت أخاف أن تسقط على بالذنوب ثم بعد مدة دخلتها فرايت العجب العجاب تمشى فى جوانبها من كل جهة فتراها منفصلة عن الأرض لا يتصل بها من الأرض شىء ولا بعض شىء وبعض الجهات أشد انفصالا من بعض وهذا الذى ذكره ابن العربى أن قدمه صلى الله عليه وسلم أثر فى صخرة بيت المقدس حين ركب البراق وأن الملائكة أمسكتها لما مالت قال به الحافظ ناصر الدين الدمشقى حيث قال فى معراجه المسجع ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعماها فصعد من جهة الشرق

أعلاها فاضطربت تحت قدم نبينا صلى الله عليه وسلم ولانت فأمسكتها الملائكمة لما تحركت ومالت
وقول ابن العربى حين ركب البراق يقتضى أنه عرج به على البراق وسيأتى الكلام فيه وتقدم أن الجلال السيوطى سئل عن غوص قدمه صلى الله عليه وسلم فى الحجر هل له أصل فى كتب الحديث فأجاب بأنه لم يقف فى ذلك على أصل ولا رأى من خرجه فى شىء من كتب الحديث وتقدم مافيه
وفى العرائس قال أبى بن كعب ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت الصخرة ببيت المقدس ثم يتفرق فى الأرض والله سبحانه وتعالى أعلم
قال صلى الله عليه وسلم فنشر لى بضم النون وكسر الشين المعجمة أى أحيي لى بعد الموت رهط من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن نشر الميت إحياؤه والرهط مادون العشرة من الرجال فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام أى وحكمة تخصيص هؤلاء بالذكر لا تخفى فصليت بهم وكلمتهم أى فالمراد نشروا عند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد وصلى بهم ركعتين ووصفهم بالنشور واضح فى غير عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لم يمت ووصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإحياء بعد الموت سيأتى فى قصة بدر فى الكلام على أصحاب القليب ما يعلم منه أن المراد بإحياء الأنبياء بعد الموت شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى انهم فى البرزخ بسبب ذلك أحياء كحياتهم فى الدنيا وقد ذكرنا هناك الكلام على صلاتهم فى البرزخ وحجهم وغير ذلك وفى رواية ثم صلى صلى الله عليه وسلم هو وجبريل كل واحد ركعتين فلم يلبثا إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير أى مع أولئك الرهط فلا مخالفة بين الروايتين فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة
أقول ذكر ابن حبيب أن آية واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء ويجوز أن يكون قوله واقيمت الصلاة من عطف التفسير فالمراد بالأذان الإقامة وليس المراد بالإقامة الألفاظ المعروفة الآن لما سيذكر فى الكلام على مشروعية الأذان والإقامة بالمدينة وعلى أنه من عطف المغاير ويدل له مافى بعض الروايات فلما استوينا فى المسجد أذن مؤذن ثم أقام الصلاة فليس من لازم ذلك أن يكون كل من التأذين والإقامة باللفظين المعروفين الآن لأنهما كما علمت لم يشرعا إلا فى المدينة أى فى السنة الأولى من الهجرة وقيل فى الثانية كما سيأتى

وحديث لما أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء أوحى الله تعالى إليه بالأذان فنزل به فعلمه بلالا قال الحافظ ابن رجب موضوع وحديث علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان ليلة أسرى به فى إسناده متهم وفى الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم علم الإقامة ليلة الإسراء فقد جاء لما أراد الله عزوجل أن يعلم رسوله الأذان أى الإقامة عرج به إلى أن انتهى إلى الحجاب الذى يلى الرحمن أى عرشه خرج ملك من الحجاب فقال الله أكبر الله أكبر فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى أنا أكبر أما أكبر ثم قال الملك أشهد أن لا إله إلا الله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى لا إله إلا أنا فقال الملك أشهد أن محمدا رسول الله فقيل من وراء احجاب صدق عبدى أنا أرسلت محمدا فقال الملك حى على الصلاة حى على الفلاح قد قامت الصاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فأخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه يؤم بأهل السموات قال فى الشفاء والحجاب إنما هو فى حق المخلوق لا فى حق الخالق فهم المحجوبون قال فإن صح القول بان محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فيحتمل أنه فى غير هذا الموطن بعد رفعالحجاب عن بصره حتى رآه
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن ذلك فقال جبريل إن هذا الملك ما رأيته قبل ساعتي هذه وفي لفظ والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه وفيه أن هذا يقتضى أن جبريل عليه السلام كان معه صلى الله عليه وسلم فى هذا المكان وسيأتى أنه تخلف عنه عند سدرة المنتهى فليتأمل والله أعلم
ولما أقيمت الصلاة ببيت المقدس قاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم فأخذ جبريل بيده صلى الله عليه وسلم فقدمه فصلى بهم ركعتين
أى وأما حديث لما أسرى بى أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلى بهم فقدمنى فصليت بالملائكة قال الذهبى منكر بل موضوع والغرض من تلك الصلاة الإعلام بعلو مقامه صلى الله عليه وسلم وأنه المقدم لا سيما فى الإمامة
وفى رواية ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا أى دفعوا حتى قدموا محمد صلى الله عليه وسلم أى ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون جبريل قدمه صلى الله عليه وسلم بعد دفعهم وتقديمهم له صلى الله عليه وسلم وفى رواية فأذن جبريل أى أقام الصلاة ونزلت

الملائكة من السماء وحشر الله له المرسلين أى جميعهم وقد نزلت الملائكة وحشر له الأنبياء أى جميعهم بدليل مافى بعض الروايات بعث له آدم فمن دونه فهو تعميم بعد تخصيص بناء على أن الرسول أخص من النبى لا بمعناه وهذا هو المراد بقوله الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم إحياء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وصلاته إماما بهم وبالملائكة لأن الأنبياء أحياء
وفيه إذا كان الأنبياء أحياء فما معنى إحيائهم له ليصلى بهم وقد علمت معنى إحيائهم فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال جبريل يا محمد أتدرى من صلى خلفك قال لا قال كل نبى بعثه الله تعالى أى والنبى غير الرسول بعثه الله تعالى إلى نفسه
أقول ولا يخاللف ما سبق من أنه عرف النبيين منه بين قائم وراكع وساجد لجواز أن يكون المراد عرف معظمهم أو أنه عرفهم بعد هذا القول
وذكر القرطبى فى تفسيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس جمع الله له الأنبياء آدم فمن دونه وكانوا سبعة صفوف ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين وأربعة من سائر الأنبياء وكان خلف ظهره إبراهيم الخليل وعن يمينه إسمعيل وعن يساره إسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والله أعلم وفى رواية ثم دخل أى مسجد بيت فصلى مع الملائكة فلما قضيت الصلاة قالوا يا جبريل من هذا الذى معك قال هذا محمد رسول االع صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين قالوا وقد أرسل إليه أي للمعراج بناء على أنه كان في ليلة الإسراء قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة وهذه الرواية قد يقال لا تخالف ماسبق من أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالملائكة مع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لأنه يجوز أن يكون إنما أفردهم بالذكر لسؤالهم
وفيه أن سؤالهم يدل على أن نزولهم من السماء لبيت المقدس لم يكن لأجل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم
قال القاضى عياض والأظهر أن صلاته صلى الله عليه وسلم بهم يعنى بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فى بيت المقدس كانت قبل العروج أى كما يدل على

ذلك سياق القصة وقال الحافظ ابن كثير صلى بهم فى بيت المقدس قبل العروج وبعده فإن فى الحديث مايدل على ذلك ولا مانع منه
قال ومن الناس من يزعم أنه إنما أمهم فى السماء أى لا فى بيت المقدس أى وهذا الزاعم هو حذيفة فإنه أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فى بيت المقدس قال بعضهم والذى تظافرت به الروايات صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ببيت المقدس
والظاهر أنه بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إليه أى فلم يصل فى بيت المقدس إلا مرة واحدة وإنها بعد نزوله صلى الله عليه وسلم لأنه لما مر بهم فى منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا وهو يخبره بهم أى ولو كان صلى بهم أولا لعرفهم بل تقدم أنه صلى الله عليه وسلم عرف النبيين مابين قائم وراكع وساجد وما بالعهد من قدم وهذا هو اللائق لأنه صلى الله عليه وسلم أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوى أى بناء على أن المعراج كان فى ليلة الإسراء وحيث كان مطلوبا لذلك اللائق أن لا يشتغل بشىء عنه فلما فرغ من ذلك اجتمع هو صلى الله عليه وسلم وإخوته من النبيين ثم أظهر شرفه عليهم فقدمه فى الإمامة هذا كلامه
أقول بحث أن صلاته صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ولم تكن إلا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من العروج والاستدلال على ذلك بسؤاله صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء عليهم الصلاة واللام واحدا واحدا فى السماء وأن ذلك هو اللائق فيه نظر ظاهر لأنه لا بحث مع وجود النقل بخلافه ومجرد الاستحسان العقلى لا يرد النقل فقد تقدم عن الحافظ ابن كثير أنه ثبت فى الحديث مايدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده وكونه سأل عن الأنبياء فى السماء لا ينافى صلاته بهم أولا وأنه عرفهم بناء على تسليم أن معرفته لهم كانت عند صلاته بهم أولا وأنه عرفهم كلهم لا معظمهم على ما قدمناه لأنه يجوز أن يكونوا فى السماء على صور لم يكونوا عليها ببيت المقدس لأن البرزخ عالم مثال كما تقدم
وبهذا يعلم مافى قول بعضهم رؤيته صلى الله عليه وسلم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فى السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى وإدريس عليهما الصلاة والسلام ورؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى بيت المقدس يحتمل أن المراد أرواحهم ويحتمل

أجسادهم ويدل للثانى وبعث له أدم فمن دونه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفى رواية فنشر لى الأنبياء من سمى الله ومن لم يسم فصليت بهم صلى الله عليه وسلم وعليهم والاشتغال عن الجناب العلوى المدعو له بما فيه تأنيس وهو اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلاته بهم مناسب لائق بالحال والله أعلم
واختلف فى هذه الصلاة فقيل العشاء أى الركعتان اللتان كان صلى الله عليه وسلم يصليهما بالعشاء بناء على أنه صلى ذلك قبل العروج
وفيه أنه صلى تينك الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة أى وهذا يدل على أن الفجر طلع وهو صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس بعد العروج وتقدم وسيأتى أنه صلى الغداة بمكة وعليه تكون معادة بمكة
قال والذى يظهر والله أعلم أنها كانت من النفل المطلق انتهى أى ولا يضر وقوع الجماعة فيها وبقولنا أى الركعتان إلى آخره يسقط ماقيل القول بأنها العشاء أو الصبح ليس بشيء لأن أول صلاة صلاها من الخمس مطلقا الظهر ومن حمل الأولية على مكة أى ويكون صلى الصبح ببيت المقدس فعليه الدليل أى دليل يدل على أن تلك الصلاة إحدى الصلوات الخمس
وفى زين القصص كان زمن ذهابه صلى الله عليه وسلم ومجيئه ثلاث ساعات وقيل أربع ساعات أى بقيت من تلك الليلة لكن فى كلام السبكى أن ذلك كان فى قدر لحظة حيث قال فى تائيته وعدت وكل الأمر فى قدر لحظة أى ولا بدع لأن الله تعالى قد يطيل الزمن القصير كما يطوى الطويل لمن يشاء وقد فسح الله فى الزمن القصير لبعض أولياء أمته ما يستغرق الأزمنة الكثيرة وفى ذلك حكايات شهيرة
قال صلى الله عليه وسلم وأتيت بإنائين أحمر وأبيض فشربت الأبيض فقال لى جبريل شربت اللبن وتركت الخمر لو شربت الخمر لارتدت أمتك أى غوت واتهمكت فى الشرب بدليل الرواية الأخرى وهى رواية البخارى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به بإيليا بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فاخذ اللبن فقال جبريل الحمد لله الذى هداك للفطرة اى الإستقامة لو أخذت الخمرة غوت

أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل أى يكونوا على ما أنت عليه من ترك ذلك فالمراد بالارتداد الرجوع عما هو الصواب وإتيانه بذلك وهو فى المسجد ببيت المقدس وسيأتى ما يدل على أنه أتى له صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا بعد خروجه صلى الله عليه وسلم منه قبل العروج
قال صلى الله عليه وسلم واستويت على ظهر البراق فما كان بأسرع من أن أشرفت على مكة ومعى جبريل فصليت به الغداة ثم قال صلى الله عليه وسلم لأم هانىء بعد أن أخبرها بذلك أنا أريد ان أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت قالت أم هانىء فعلقت بردائه صلى الله عليه وسلم وقلت أنشدك الله أى بفتح الهمزة أسألك بالله ابن عم أى يا ابن عم أن تحدث أى لا تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك وفى رواية إنى أذكرك الله عز وجل أنك تأتى قوما يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك فضرب بيده الشريفة على ردائه فانتزعه من يدى فارتفع على بطنه صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى عكنه أى طبقات بطنه من السمن فوق ردائه صلى الله عليه وسلم وكأنه طى القراطيس أى الورق وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف بفتح الطاء وربما كسرت بصرى فخررت ساجدة فلما رفعت رأسى إذ هو قد خرج فقلت لجاريتى نبعة أى وكانت حبشية معدودة فى الصحابة رضى الله عنها اتبعيه وانظرى ماذا يقول فلما رجعت أخبرتنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش فى الحطيم هو مابين باب الكعبة والحجر الأسود وفى كلام بعضهم بين الركن والمقام سمى بذلك لأن الناس يحطم بعضهما بعضا فيه من الازدحام لأنه من مواطن إجابة الدعاء قيل ومن حلف فيه آثما عجلت عقوبته وربما أطلق كما تقدم على الحجر بكسر الحاء وأولئك النفر الذين انتهى صلى الله عليه وسلم إليهم فيهم المطعم بن عدى وأبو جهل بن هشام والوليد ابن المغيرة فقال صلى الله عليه وسلم إنى صليت الليلة العشاء أى أوقعت صلاة فى ذلك الوقت فى هذا المسمجد وصليت به الغداة أى أوقعت صلاة فى ذلك الوقت وإلا فصلاة العشاء لم تكن فرضت وكذا صلاة الغداة التى هى الصبح لم تكن فرضت كما تقدم وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس
أى لا يقال كان المناسب لذلك أن يقول وأتيت فى لحظة أو ساعات وعلى ما تقدم فيما بين ذلك ببيت المقدس ولم يوسع لهم الزمن لأنا نقول وسع لهم الزمن لأن الطباع لا تنفر منه نفرتها من تلك فليتأمل

قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد قطع وعرف أن الناس تكذبه أى وما أحب أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله تعالى وما هو دليل على علو مقامه صلى الله عليه وسلم الباعث على اتباعه فقعد صلى الله عليه وسلم حزينا فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم فقال كالمستهزىء هل كان من شيء قال نعم أسرى بى الليلة قال إلى أين قال إلى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين ظهرانينا قال نعم قال فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه قال أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتنى قال نعم قال يا معشر بنى كعب بن لؤى فانقضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما فقال حدث قومك بما حدثتنى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنى أسرى بى الليلة قالوا إلى أين قال إلى بيت المقدس الحديث انتهى فنشر لى رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وصليت بهم وكلمتهم فقال أبو جهل كالمستهزىء صفهم لى فقال صلى الله عليه وسلم أما عيسى عليه الصلاة والسلام ففوق الربعة ودون الطويل أى لا طويل ولا قصير عريض الصدر ظاهر الدم أى لونه أحمر وفى رواية يعلوه حمرة كأنما يتحادر من لحيته الجمان وفى رواية كأنه خرج من ديماس أى من حمام وأصله الكن الذى يخرج منه الإنسان وهو عرقان وأصله الظلمة يقال ليل دامس والحمام لفظ عربى وأول واضع له الجن وضعته لسيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقيل الواضع له بقراط وقيل شخص سابق على بقراط استفاده من رجل كان به تعقيد العصب فوقع في ماء حار في جب فسكن فصار يستعمله حتى برىء
وجاء من طرق عديدة كلها ضعيفة لكن يقوى بعضها بعضا إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما دخله ووجد حره وغمه قال أواه من عذاب الله لان دخول الحمام يذكر النار لأن الحمام أشبه شىء بجهنم لان النار أسفله والسواد والظلمة أعلاه وقد قيل خير الحمام ماقدم بناؤه واتسع فناؤه وعذب ماؤه قال بعضهم ويصير قديما بعد سبع سنين قال بعضهم ولم يعرف الحمام فى بلاد الحجاز قبل البعثة وإنما عرفه الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم بعد أن فتحوا بلا د العجم
وفيه أن فى البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون بيتا يقال له الحمام قالوا يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض

قال فاستتروا وفى رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم اتقوا بيتا يقال له الحمام فقالوا يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض الوسخ ويذكر النار قال إن كنتم لا بد فاعلين فمن دخله فليستتر وهو صريح فى أن الصحابة رضى الله تعالى عنهم عرفوه فى زمنه صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال جاز أن يكونوا عرفوه من غيرهم بهذا الوصف لهم والمنفى فى كلام هذا البعض معرفتهم له بالدخول فيه ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم بيتا يقال له الحمام وقوله صلى الله عليه وسلم ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات
وأما ما جاء عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم دخل حمام الجحفة فلا يرد لأنه على تقدير صحته فالمراد به أنه محل للاغتسال فيه لا بالهيئة المخصوصة وكذا لا يرد مافى معجم الطبرانى الكبير عن أبى رافع أنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع فقال نعم موضع الحمام هذا فبنى فيه حمام لجواز أن يكون بنى ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم فهو من أعلام نبوته قال بعضهم ولعله قال ذلك لقبح الموضع أى فقول بعضهم ويكفى ذلك فى فضيلة الحمام ليس فى محله
وفيه أن هذا البعض لم يعول فى الفضيلة على هذا فقط بل عليه وعلى ما رواه البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما الذى فيه لأنه يذهب بالدرن وينفع المريض
ولايرد أيضا مافى مسند أحمد عن أم الدرداء رضى الله تعالى عنها أنها خرجت من الحمام فلقيها رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال لها من أين يا أم الدرداء قالت من الحمام لأن فى سنده ضعيفا ومتروكا ولأنه يجوز أن يكون المراد به أنه محل الاغتسال لا أنه المبنى على الهيئة المخصوصة كما تقدم وبه يجاب أيضا عما فى مسند الفردوس إن صح عن ابن عمر رضى اله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما وقد خرجا من الحمام طاب حمامكما
قال ابن القم ولم يدخل المصطفى صلى الله عليه وسلم حماما قط ولعله ما رآه بعينيه هذا كلامه وعن فرقد السنجى أنه ما دخل الحمام نبى قط ويشكل عليه ماتقدم عن سليمان عليه الصلاة والسلام
واعترض بعضهم قول ابن القيم لعله صلى الله عليه وسلم مارأى الحمام بعينه بأنه صلى الله عليه وسلم دخل الشام وبها حمامات كثيرة فيبعد أنه ما رأها نعم لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم دخل شيئا منها

وفيه أنه قد يقال هو صلى الله عليه وسلم لم يدخل بلاد الشام إلا بصرى وجاز أن لا يكون بها حمام حين دخوله صلى الله عليه وسلم إليها
وفى الطبرانى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما مرفوعا شر البيوت الحمام تعلو فيه الأصوات وتكشف فيه العورات فمن دخله لا يدخله إلا مستترا ورجاله رجال الصحيح إلا شخص منهم فيه مقال وما أحسن قول الإمام الغزالى ورد نعم البيت الحمام يطهر البدن ويذهب الدرن ويذكر النار وبئس البيت الحمام يبدى العورة ويذهب الحياء فهذا تعرض لأنفه وذلك تعرض لفائدته ولا بأس بطلب الفائدة مع التحرز عن الآفة
والحاصل أن الحمام تعتريه الأحكام الخمسة فيكون واجبا وحراما ومندوبا ومكروها ومباحا والاصل فيه عندنا معاشر الشافعية الإباحة للرجال مع ستر العورة مكروه للنساء مع ستر العورة حيث لا عذر وهو محمل ما جاء من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا يدخل الحمامات ومع عدم ستر العورة حرام وهو محمل ما جاء الحمام حرام على نساء أمتى
وأول من اتخذ الحمام فى القاهرة العزيز ابن المعز العبيدى أحد الفواطم قال بعضهم ليس فى شأن الحمام ما يعول عليه إلا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فى صفة عيسى عليه الصلاة والسلام كأنما خرج من ديماس
وقال غيره أصح حديث فى هذا الباب حديث اتقوا بيتا يقال له الحمام فمن دخله فليستتر وقال ابن عمر فى وصف عيسى عليه الصلاة والسلام إنما هو آدم وحلف بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل فى عيسى إنه أحمر وإنما قال آدم وإنما اشتبه على الراوى وأجاب الإمام النووى بأن الراوى لم يرد حقيقة الحمرة بل ما قاربها أى والحمرة المقاربة لها أى للأدمة يقال لها أدمة أى كما يقال لها حمرة فلا منافاة قال صلى الله عليه وسلم جاعد الشعر أى فى شعره تثن وتكسر
أقول ينبغى حمل جعد الذى جاء فى بعض الروايات وإذا هو بعيسى جعد على هذا ثم رأيت النووى قال قال العلماء المراد بالجعد هنا جعوده الجسم وهو اجتماعه واكتنازه وليس المراد جعودة الشعر فليتأمل والله أعلم تعلوه صهبة أى يعلو شعره

شقرة كأنه عروة بن مسعود الثقفى أى رضى الله تعالى عنه فإنه بعد انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف لحق به قبل أن يدخل المدينة وأسلم ثم جاء إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه وقال صلى الله عليه وسلم فى حقه إن مثله فى قومه كصاحب يس كما سيأتى ذلك
وأما موسى عليه الصلاة والسلام فضخم آدم أى أسمر ومن ثم كان خروج يده بيضاء مخالفا لونها لسائر لون جسده آية طويل كأنه من رجال شنوءة طائفة من اليمن أى ينسبون إلى شنوءة وهو عبد الله بن كعب من أولاد الأزد لقب بذلك لشنآن كان بينه وبين اهله وقيل لأنه كان فيه شنوءة وهو التباعد من الأدناس وفى رواية كأنه من رجال أزدعمان هو أبو حى من اليمن وعمان هذه بضم العين المهملة وتخفيف الميم بلدة باليمن سميت بذلك لأنه نزلها عمان بن سنان من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام زأما عمان بفتح العين وتشديد الميم فيلدة بالشام سميت بذلك لأن عمان بن لوط كان سكنها وكما يقال أزدعمان يقال أزد شنوءة ورجال الأزدمعروفون بالطول
قال صلى الله عليه وسلم كثير الشعر غائر العينين متراكم الأسنان مقلص الشفتين خارج اللثة أى وهو اللحم الذى حول الأسنان عابس وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوالله إنه لأشبه الناس بى خلقا وخلقا وفى رواية لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه يعنى نفسه صلى الله عليه وسلم فضجوا وأعظموا ذلك وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا فقال المطعم بن عدى إن أمرك قبل اليوم كان أمما أى يسيرا غير قولك اليوم وأنا أشهد أنك كاذب نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا أتزعم أنك أتيته فى ليلة واحدة واللات والعزى لا أصدقك وما كان هذا الذى تقول قط وقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه يا مطعم بئس ماقلت لابن أخيك جبهته أى استقبلته بالمكروه وكذبته أنا أشهد أنه صادق وفى رواية حين حدثهم بذلك ارتد ناس كانوا أسلموا أى وحينئذ فقول المواهب فصدقه الصديق وكل من آمن بالله فيه نظر إلا أن يراد من ثبت على الإسلام
وفى رواية سعى رجال من المشركين إلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقالوا هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس قال أوقد قال ذلك

قالوا نعم قال لئن قال ذلك لقد صدق قالوا تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح قال نعم إنى لاصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه فى خبر السماء فى غدوته أى وهى ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس وروحة أى وهى اسم للوقت من الزوال إلى الليل أى وهذا تفسير لهما بحسب الأصل وإلا فالمراد أنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة واحدة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أى مجىء الخبر له من السماء بواسطة الملك أبعد مما تعجبون منه أى وحينئذ يجوز أن يكون قول أبى بكر للمطعم ما تقدم كان بعد هذا القول أى قاله بعد أن اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقود بلغته مقالته فلا مخالفة بين الروايتين وإلى إسرائه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتحديثه قريشا بذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** حظى المسجد الحرام بممشا ** هـولم ينس حظه إيلياء ** ** ثم وافى يحدث الناس شكرا ** إذ أتته من ربه النعماء **
أى جميع المسجد الحرام حصل له الحظ الأوفر بممشاه صلى الله عليه وسلم فيه ففضل سائر البقاع ولم ينس حظه من ممشاه صلى الله عليه وسلم بيت المقدس بل شرفه الله تعالى بمشيه فيه أيضا ففضل على ما عدا المسجدين أى مسجد مكة ومسجد المدينة ثم وافى صلى الله عليه وسلم مكة يحدث الناس لأجل قيامه بالشكر لله تعالى أو حال كونه شاكرا له تعالى وقت أو لأجل أن أتته من ربه النعماء فى تلك الليلة
ثم قال المطعم يا محمد صف لنا بيت المقدس أراد بذلك إظهار كذبه وقيل القائل له ذلك أبو بكر قال له صفه لى فإنى قد جئته أراد بذلك إظهار صدقه صلى الله عليه وسلم لقوله فقال دخلته ليلا وخرجت منه ليلا فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فصوره فى جناحه أى جاء بصورته ومثاله فى جناحه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول باب منه كذا فى موضع كذا وباب منه كذا فى موضع كذا وأبو بكر رضى الله تعالى عنه يقول صدقت أشهد انك رسول الله حتى أتى على أوصافه أى ومعلوم أن من ذهب بيت المقدس من قريش يصدق على ذلك أيضا
وفى رواية لما كذبتنى قريش أى وسألتنى عن اشياء تتعلق ببيت المقدس لم أثبتها أى قالوا له كم للمسجد من باب فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط قمت فى الحجر

فجلى الله عزوجل لى بيت المقدس أى وجلى بتشديد اللام وربما خففت كشفه لى أى بوجود صورته ومثاله فى جناح جبريل
وفى رواية فجىء بالمسجد أى بصورته وأنا أنظر إليه حتى وضع أى بوضع محله الذى هو جناح جبريل فلا مخالفة بين الروايات وهذا من باب التمثيل ومنه رؤية الجنة والنار فى عرض الحائط لا من باب طى المسافة وزوى الأرض ورفع الحجب المانعة من الاستطراق الذى ادعى الجلال السيوطى أنه أحسن ما يحمل عليه حديث رفع بيت المقدس حتى رآه النبى صلى الله عليه وسلم بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء إذ ذلك لا يجامع مجىء صورته فى جناح جبريل وإنما قلنا إن ذلك من باب التمثيل لأن من المعلوم أن أهل بيت المقدس لم يفقدوه تلك الساعة من بلدهم فرفعه إنما هو برفع محله الذى هو جناح جبريل
ثم رأيت ابن حجر الهيتمى قال الأظهر أنه رفع بنفسه كما جىء بعرش بلقيس إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فى اسرع من طرفة عين ولك أن تتوقف فيه فان عرش بلقيس فقد بخلاف بيت المقدس وكان ذلك التجلى عند دار عقيل وتقدم أنها عند الصفا وأنها استمرت فى يد أولاد عقيل إلى أن آلت إلى يوسف أخى الحجاج وأن زبيدة أو الخيزران جعلتها مسجدا لما حجت كما تقدم وتقدم مافيه قال صلى الله عليه وسلم فطفقت أى جعلت أخبرهم عن آياته أى علاماته وأنا أنظر إليه أى وذلك قبل أن تحول الأبنية بين الحجرتلك الدار أى لقوله صلى الله عليه وسلم فقمت فى الحجر وهم يصدقونه صلى الله عليه وسلم على ذلك
ومن ثم قيل إن حكمة تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشا تعرفه فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفونه مع علمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط فتقوم الحجة عليهم وكذلك وقع
وأما قول المواهب ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عما رأى أى فى السماء لأنهم لا عهد لهم بذلك يقتضى سياقه أنه أخبرهم بالمعراج عند إخباره لهم بالإسراء وسيأتى ما يخالفه على أنه سيأتى أنه قيل إن المعراج كان بعد الإسراء فى ليلة أخرى وقيل فى حكمة ذلك أيضا أن باب السماء الذى يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس فيحصل العروج مستويا من غير تعويج

قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر لورود أن فى كل سماء بيتا معمورا وأن الذى فى السماء الدنيا حيال الكعبة فكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج هذا كلامه ويقال عليه وإن سلم ذلك لكن لم يكن الباب فى تلك الجهة فإن ثبت أن فى السماء بابا يقابل الكعبة اتجه سؤاله
قالت نبعة جارية أم هانىء فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ يا أبا بكر إن الله تعالى قد سماك الصديق أى ومن ثم كان على رضى الله تعالى عنه يحلف بالله تعالى إن الله تعالى أنزل اسم أبى بكر من السماء الصديق
وأما ما رواه إسحاق بن بشر بسنده إلى أبى ليلى الغفارى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيكون بعدى فتنة فإذا كان ذلك فالزموا على بن أبى طالب فإنه أول من يرانى وأول من يصافحنى يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين قال فى الاستيعاب إسحاق بن بشر لا يحتج بنقله إذا انفرد لضعفه ونكارة أحاديثه هذا كلامه وفى مسند البزار بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلى بن أبى طالب أنت الصديق الأكبروأنت الفاروق الذى يفرق بين الحق والباطل
وفى رواية أن كفار قريش لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم بالإسراء إلى بيت المقدس ووصفه لهم قالوا له ما آية ذلك يا محمد أى ما العلامة الدالة على هذا الذى أخبرت به فإنا لم نسمع بمثل هذا قط أى هل رأيت فى مسراك وطريقك ما نستدل بوجوده على صدقك أى لأن وصفك لبيت المقدس يحتمل أن تكون حفظته عمن ذهب إليه قال صلى الله عليه وسلم آية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا فأنفرهم أى أنفر عيرهم حس الدابة يعنى البراق فند لهم بعير أى شرد فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بمحل كذا مررت بعير بنى فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت مافيه ثم غطيت عليه كما كان أى وفى كلام بعضهم فعثرت الدابة يعنى البراق فقلب بحافره القدح الذى فيه الماء الذى كان يتوضأ به صاحبه فى القافلة وشرب الماء الذى للغير جائز لأنه كان عند العرب كاللبن مما يباح لكل مجتاز من أبناء السبيل على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يأخذ ما يحتاج إليه من مالكه المحتاج إليه ويجب على مالكه حينئذ بذله وأما الجواب عن ذلك

بأنه مال حربى غير صحيح لأن هذا كان قبل مشروعية الجهاد ومع عدم مشروعيته لا يحل مال أهل الحرب كما لا يحل قتالهم لأن الواجب حينئذ مسالمتهم ولاتتم إلا بترك التعرض لأموالهم كنفوسهم قاله ابن حجر فى شرح الهمزية لكن فى قطعة التفسير للجلال المحلى فى تفسير قوله تعالى فرددناه إلى أمه كى تقر عينها أن أمه أرضعته بأجرة وساغ لها أخذها لأنها مال حربى أى من مال فرعون إلا أن يقال ذاك أى أخذ مال الكافر كان جائزا فى شريعتهم قال صلى الله عليه وسلم وآية ذلك أى علامته المصدقة لما أخبر به صلى الله عليه وسلم أن عيرهم الآن تصوب من الثنية يقدمها جمل أورق وهو ما بياضه إلى سواد وهو أطيب الإبل لحما عند العرب وأخسها عملا عندهم أي ليس بمحمود عندهم في عمله وسيره عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء أى فيها بياض وسواد كما تقدم فابتدر القوم الثنية فأول مالقيهم الجمل الأورق عليه الغرارتان فسألوهم عن الإناء وعن نفار العير وعن ند البعير وعن الشخص الذى دلهم عليه فصدقوا قوله
أقول قد علم أن العير التى نفرت وند منها البعير ودلهم عليه مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الشام والعير التى كان بها الإناء الذى شربه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهو راجع إلى مكة وهى التى صوبت من الثنية وحينئنذ لا يحسن سؤال أهلها عما وقع لأهل تلك العير تصديقهم له صلى الله عليه وسلم فيما أخبر إلا أن يقال يجوز أن تكون هذه العير التى مر عليها صلى الله عليه وسلم فى العود اجتمعت فى عودها بتلك العير الذاهبة إلى الشام وأخبروهم بما ذكر والله تعالى أعلم
وفى رواية قالوا يا مطعم دعنا نسأله عما هو أغنى لنا عن بيت المقدس أى فقولهم ذلك كان بعد أن أخبرهم بيت المقدس يا محمد أخبرنا عن عيرنا أى عيراتنا الذاهبة والآتية هل لقيت منها شيئا فقال نعم أتيت على عير بنى فلان بالروحاء أى وهو محل قريب من المدينة أى بينه وبين المدينة ليلتان قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا فى طلبها فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك فقالوا هذه واللات والعزى آية أى علامة
أقول وهذه العير هو التى مر صلى الله عليه وسلم عليها فى العود وهى قادمة إلى مكة وفى هذه الرواية زيادة أنهم أضلوا ناقة وتقدم فى تلك الرواية أنه صلى الله عليه

وسلم وجدهم نياما وفى هذه الرواية إنه ليس بها منهم أحد وقد يقال لا مخالفة بين الروايتين لأنه يجوز أن يكون الراوى أسقط منها هذه الزيادة وهى إضلال الناقة وأن قوله صلى الله عليه وسلم ليس بها منهم أحد أى مستيقظ بل بعضهم ذهب فى طلب تلك الناقة وبعضهم كان نائما لكن فى هذه الرواية انه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهى بالروحاء وهو لا يناسب قوله فى تلك إنها الآن تصوب من الثنية لأن كونها تأتى من الروحاء إلى مكة فى ليلة واحدة من أبعد البعيد إلا أن يقال إن الروحاء مشتركة بين المحل المعروف المتقدم ذكره ومحل آخر قريب من مكة والله أعلم
ثم قال صلى الله عليه وسلم فانتهيت إلى عير بنى فلان فنفرت منها أى من الدابة التى هى البراق الإبل أى التى هى العير وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق مخطط ببياض لا أدرى أكسر البعير أم لا وهذه الرواية يحتمل أنها ثالثة ويمكن أن تكون هى الأولى أسقط من تلك قوله فى هذه وبرك منها جمل إلى آخره كما أسقط من هذه قوله فى تلك فند لهم بعير
وفى رواية ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فلما حاذت العير نفرت وصرع ذلك البعير وانكسر أى وأضلوا بعير لهم قد جمعه فلان أى بدلالتى لهم عليه فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد فاسألوهم عن ذلك فعلم أن هذه الرواية والتى قبلها هى الأولى غاية الأمر أن زيد فى هذه قوله فسلمت عليهم فقالوا هذه واللات والعزى آية قال صلى الله عليه وسلم ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بالأبواء أى وهو كما تقدم غير مرة أنه محل بين مكة والمدينة يقدمها جمل أورق أى بياضه إلى سواد كما تقدم هاهى تطلع عليكم من الثنية فانطلقوا لينظروا فوجدوا الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم فقالوا صدق الوليد فيما قال أى فى قوله إنه ساحر وأنزل الله تعالى وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس وهذا يدل على أن المراد رؤيا الإسراء وأنها رؤيا العين وأنه يقال في مصدرها رؤيا كما يقال رؤية بالتاء خلافا لمن أنكر ذلك إذ لو كان رؤيا الإسراء مناما لما أنكر عليه فى ذلك أى وقيل نزلت وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم ولد الحكم بن أبى العاص أبى مروان وهم بنو أمية على منبره كأنهم القردة وقد ورد رأيت بنى مروان يتعاورون منبرى وفى لفظ ينزلون على منبرى نزو القردة زاد وفى رواية فما استجمع

صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى مات وأنزل الله تعالى فى ذلك وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس وفى رواية فنزل إنا أعطيناك الكوثر وفى رواية فنزل إنا أنزلناه فى ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر قال بعضهم أى خير من ألف شهر يملكها بنو أمية فإن مدة ملك بنى أمية كانت أثنتين وثمانين سنة وهى ألف أشهر وكان جميع من ولى الخلافة منهم أربعة عشر ر جلا أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد
وقد قيل لبعضهم ما سبب زوال ملك بنى أمية مع كثرة العدد والعدد والأموال والموالى فقال أبعدوا أصدقائهم ثقة بهم وقربوا أعداءهم جهلا منهم فصار الصديق بالإبعاد عدوا ولم يصر العدو صديقا بالتقريب له وحديث رأيت بنى مروان إلى آخره قال الترمذى هو حديث غريب وقال غيره منكر قال صلى الله عليه وسلم ورأيت بنى العباس يتعاورون منبرى فسرنى ذلك وقيل إن هذه الآية أى آية وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس إنما نزلت فى رؤيا الحديبية حيث راى النبى صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه يدخلون المسجد محلقين رؤوسهم ومقصرين ولم يوجد ذلك بل صدهم المشركون وقال بعض الصحابة له صلى الله عليه وسلم ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا قال بلى أفقلت لكم من عامى هذا قالوا لا قال فهو كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام كما سيأتى ذلك فى قصة الحديبية
وقيل إنما نزلت هذه الآية فى رؤيا وقعة بدر حيث أراه جبريل مصارع القوم ببدر فأرى النبى صلى الله عليه وسلم الناس مصارعهم فتسامعت بذلك قريش فخروا منه أى ولا مانع من تعدد نزول هذه الآية لهذه الأمور فقد يتعدد نزول الآية لتعدد أسبابها
قال ابن حجر الهيتمى إن اتحاد النزول لا ينافى تعدد أسبابه أى وذلك ذا تقدمت الأسباب ويروى أنه عين لهم اليوم الذى تقدم فيه العير أى قالوا له متى تجىء قال لهم يأتوكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل أورق عليه مسح آدم وغرارتان فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك وقد ولى النهار ولم تجىء حتى كادت الشمس أن تغرب أى دنت للغروب فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدم العير أى كما وصف صلى الله عليه وسلم

أقول يجوز أن يكون هذا بالنسبة لبعض العيرات التى مر عليها فلا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال فى بعض العيرات إنها الآن تصوب من الثنية وإلى حبس الشمس عن المغيب أشار الإمام السبكى فى تائيته بقوله ** وشمس الضحى وقت مغيبها ** فما غربت بل وافقتك بوقفة **
وجاء فى بعض الروايات أنها حبست له صلى الله عليه وسلم عن الطلوع ففى رواية أن بعضهم قال له أخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وعدة من فيها وقال تطلع عند طلوع الشمس فحبس الله تعالى الشمس عن الطلوع حتى قدمت العير
فلما خرجوا لينظروا فإذا قائل يقول هذه الشمس قد طلعت وقال آخر وهذه العير قد أقبلت فيها فلان وفلان كما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى تقدير صحة هذه الروايات يجاب عنها بمئل ما تقدم والله أعلم وحبس الشمس وقوفها عن السير أى عن الحركة بالكلية وقيل بطء حركتها وقيل ردها إلى ورائها قالوا ولم تحبس له صلى الله عليه وسلم إلا ذلك اليوم وما قيل إنها حبست له صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن الغروب أيضا حتى صلى العصر معارض بأنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر بعد غروب الشمس وقال شغلونا عن الصلاة الوسطى كما سيأتى ثم رأيت فى كلام بعضهم ما يؤخذ منه الجواب وهو أن وقعة الخندق كانت أياما فحبست الشمس فى بعض تلك الأيام إلى الإحمرار والاصفرار وصلى حينئذ وفى بعضها لم تحبس بل صلى بعد الغروب قال ذلك البعض ويؤيده أن راوى التأخير إلى الغروب غير راوى التأخير إلى الحمرة والصفرة
وجاء فى رواية ضعيفة أن الشمس حبست عن الغروب لداود عليه الصلاة السلام وذكرى البغوى أنها حبست كذلك لسليمان عليه الصلاة والسلام
أى فعن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه أن الله أمر الملائكة الموكلين بالشمس حتى ردوها على سليمان حتى صلى العصر فى وقتها وهذا رد لها لا حبس لها عن غروبها الذى الكلام فيه والذى فى كلام بعضهم إنما ضرب سيدنا سليمان سوق خيله واعناقها حيث عرضها عليه عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغرب ولم يتصدق بها مبادرة

لتعظيم أمر الله تعالى بالصلاة فى وقتها لأن التصديق يحتاج إلى صرف زمن في دفعها وأخذها وحبست كذلك ليوشع ابن أخت موسى عليه الصلاة والسلام وهو ابن نون بن يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام أى وهو الذى قام بالأمر بعد موسى لأن موسى عليه الصلاة والسلام لما وعده الله تعالى أن يورثه وقومه بنى إسرائيل الأرض المقدسة التى هى أرض الشام وكان سكنها الكنعانيون الجبارون وأمر بمقاتلة أولئك الجبارين وهم العماليق سار بمن معه وهم ستمائة ألف مقاتل حتى نزل قريبا من مدينتهم أريحا فبعث إليهم اثنى عشر رجلا من كل سبط واحدا ليأتوه بخبر القوم فدخلوا المدينة فرأوا أمرا هائلا من عظم أجسادهم فقد ذكر بعضهم أنه رأى فى فجاج أى نقرة عين رجل منهم ضبعة رابضة أى جالسة هى وأولادها حولها والفجاج فى الأصل الطريق الواسع واستظل سبعون رجلا من قوم موسى فى قحف رجل منهم أى فى عظم أم رأسه وفى العرائس وكان لا يحمل عنقود عنبهم الا خمسة أنفس منهم ويدخل فى قشرة الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة وإن رجلا من العماليق أخذ الاثنى عشر ووضعهم فى كمه مع فاكهة كانت فيه وجاء بهم إلى ملكهم فسألهم فقالوا نحن عيون موسى فقال ارجعوا وأخبروه وفى العرائس أنه عوج بن عنق إحدى بنات آدم عليه السلام من صلبه ويقال إنها أول بغى فى الأرض
وفى العرائس أنه لما لقيهم كان على رأسه حزمة حطب وأخذ الاثنى عشر فى حجره وانطلق بهم لامرأته وقال انظرى إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال لها ألا أطحنهم برجلى فقالت امرأته لا ولكن خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك فلما رجعوا أخبروا موسى عليه الصلاة والسلام فقال اكتموا خوفا من بنى إسرائيل أن يفشلوا ويرتدوا عن موسى فلم يفعلوا وأخبر كل واحد سبطه بشدة ما رآه من أمرهم الهائل ففشلوا وجنبوا عن القتال إلا رجلان لم يخبرا سبطيهما وهما يوشع بن نون من سبط يوسف وكالب بن يوقنا من سبط بنيامين وقالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فدعا عليهم وقال رب إنى لا املك إلا نفسى وأخى أى فإنه لم يبق معه موافق يثق به غير أخيه هرون وكالب ويوشع وهما المذكوران بقوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون لأن الله منجز وعده وإنا قد

خبرناهم فوجدنا أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلا تخشوهم { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } وحينئذ يكون مراد موسى بقوله وأخى من واخاه ووافقه لا خصوص هرون ثم دعا بقوله فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين اى باعد بيننا وبينهم فضرب عليه التيه فتاهوا أى تحيروا فى ستة فراسخ من الأرض يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا وأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى لأنهم شغلوا عن المعاش وأبقيت عليهم ثيابهم لا تخلق ولا تتسخ وتطول مع الصغير إذا طال وظلل عليهم الغمام من الشمس ولما رأى موسى عليهم الصلاة والسلام ما بهم من التعب ندم على دعائه عليهم
وفى حياة الحيوان لما عبد بنو إسرائيل العجل أربعين يوما عوقبوا بالتيه أربعين سنة لكل يوم سنة فأوحى الله تعالى له فلا تأس أى لا تحزن على القوم الفاسقين أى الذين فسقوا أى خرجوا عن أمرك
قال في أنس الجليل وفى زمن الاسلام منزل حكام الشرطة فإنها الآن قرية من قرى بيت المقدس ثم مات وهرون بالتيه مات هرون أولا ثم موسى بعد سنتين وفى ذلك رد على من قال إن قبر هرون أخى موسى بأحدكما سيأتى وفيه رد أيضا على من يقول موسى مات قبل هرون وأنه دفنه وقيل إن هرون رأى سريرا فى بعض الكهوف فقام عليه فمات وإن بنى إسرائيل قالوا قتل موسى هرون حسدا له على محبة بنى إسرائيل له فقال لهم موسى ويحكم كان أخى ووزيرى أفترنى أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير الذى قام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه وعلى الأول أن موسى انطلق ببنى إسرائيل إلى قبره ودعا الله أن ينجيه فأحياه الله تعالى وأخبرهم أنه مات ولم يقتله موسى وعند ذلك قام بالأمر يوشع بن نون المذكور أى فإن موسى لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبى وإن الله أمره بقتال الجبارين فسار بهم يوشع وقاتل الجبارين وكان يوم الجمعة ولما كاد أن يفتحها كادت الشمس أن تغرب فقال للشمس أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور بحرمتى عليك إلا ركدت أى مكثت ساعة من النهار
وفى رواية قال اللهم احبسها على فحبسها الله تعالى حتى افتتح المدينة أى قال

ذلك خوفا من دخول السبت المحرم عليهم فيه المقاتلة وقد عبر الإمام السبكى عن حبسها ليوشع نردها فى قوله ** وردت عليك الشمس بعد مغيبها كما أنها قدما ليوشع ردت **
ولولا قوله بعد مغيبها لما أشكل وأمكن أن يراد بالرد وقوفها وعدم غروبها ومن ثم ذكر ابن كثير فى تاريخه أن فى حديث رواه الإمام أحمد وهو على شرط البخارى إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه السلام ليالى سار إلى بيت المقدس وفيه دلالة على أن الذى فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون لا موسى وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا في فتح أريحا هذا كلامه وهو خلاف السياق
وفى العرائس أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمت فى التيه بل سار ببنى إسرائيل إلى أريحا وعلى مقدمته يوشع فدخل يوشع وقتل الجبارين ثم دخلها موسى عليه الصلاة والسلام ببنى إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله ثم قبض ولا يعلم موضع قبره من الخلق أحد قال وهذا أولى الأقاويل بالصدق وأقربها إلى الحق وذكر بعد ذلك أن موسى لما حضرته الوفاة قال يا رب أدننى من الأرض المقدسة برمية حجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنى عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر
قال ابن كثير قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر يدل على أن هذا من خصائص يوشع عليه الصلاة والسلام فيدل على ضعف الحديث الذى رويناه أن الشمس رجعت أى بعد مغيبها فى خيبركما سنذكره هنا حتى صلى علي بن أبى طالب العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبى صلى الله عليه وسلم على ركبته وهو حديث منكر ليس فى شئ من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعى على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها هذا كلامه وسيأتى قريبا ما فيه على أن قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر أى غيره صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن الحبس لها يكون منعا لها عن مغيبها والرد لها يكون بعد مغيبها فليتأمل
وفى كلام سبط ابن الجوزى إن قيل حبسها ورجوعها مشكل لأنها لو تخلفت أو ردت لاختلت الأفلاك ولفسد النظام قلنا حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس فى خرق العادات
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد إذ قعد يعظ بعد العصر صم أخذ فى ذكر فضائل

آل البيت فجاءت سحابة غطت الشمس فظن وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت فأرادوا الانصراف فأشار إليهم أن لا يتحركوا ثم أدار وجهه إلى ناحية الغرب وقال ** لا تغربى يا شمس حتى ينتهى مدحى لآل المصطفى ولنجله ** **

إن كان للمولى وقوفك فليكن هذا الوقوف لولده ولنسله
**
فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمى عليه من الحلى والثياب هذا كلامه
ولما افتتحوا المدينة التى هى أريحا أصابوا بها أموالا عظيمة وكانوا أى الأمم السابقة إذا أصابوا الغنائم قربوها فتجئ النار تأكلها أى إذا لم يكن فيها غلول كما تقدم فمجئ النار وأكلها دليل على قبولها ولم تحل إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم كما سيأتى فلما أصابوا تلك الغنائم قربوها فلم تجئ إليها النار فقالوا له يا نبى الله ما لها لا تأكل قرباننا قال فيكم الغلول فدعا رأس كل سبط وصافحه فلصق كف واحد منهم فى كف يوشع عليه السلام فقال الغلول فى سبطك فقال كيف أعلم ذلك قال تصافح واحدا بعد واحد فلصقت كفه بكف واحد منهم فسئل فقال نعم رأيت رأس بقرة من ذهب عيناها من ياقوت وأسنانها من لؤلؤ فأعجبتنى فغللتها فجاء بها ووضعها فى الغنيمة فجاءت النار فأكلتها
وذكر البغوى أن الشمس حبست عن الطلوع لموسى عليه الصلاة والسلام كما حبست كذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم وكذا القمر حبس لموسى عليه الصلاة والسلام عن الطلوع له فعن عروة بن الزبير رضى الله تعالى عنه قال إن الله تعالى حين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بالمسير ببنى إسرائيل إلى بيت المقدس أمره أن يحمل معه عظام يوسف عليه الصلاة والسلام وأن لا يخلفها بأرض مصر وأن يسير بها حتى يضعها بالأرض المقدسة أى وفاء بما أوصى به يوسف عليه الصلاة والسلام
فقد ذكر أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أدركته الوفاة أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك فسأل موسى عليه الصلاة والسلام عمن يعرف موضع قبر يوسف فما وجد أحدا يعرفه إلا عجوزا من بنى إسرائيل فقالت له يا نبى الله أنا أعرف مكانه وأدلك عليه إن أنت أخرجتنى معك ولم تخلفنى بأرض مصر قال أفعل وفى لفظ إنها قالت أكون معك فى الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له أعطها طلبتها فأعطاها

وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام وعدبنى إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف عليه الصلاة والسلام ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته أيلة فى ناحية من النيل وفى لفظ فى مستنقعة ماء أى وتلك المستنقعة فى ناحية من النيل فقالت لهم أنضبوا عنها الماء أى ارفعوه عنها ففعلوا قالت احفروا فحفروا وأخرجوه وفى لفظ أنها انتهت به إلى عمود على شاطئ النيل أى فى ناحية منه فلا يخالفه ما سبق فى أصله سكة من حديد فيها سلسلة أى ويجوز أن يكون حفرهم الواقع فى تلك الرواية كان على إظهار تلك السكة فلا مخالفة ووجدوه فى صندوق من حديد وسط النيل فى الماء فاستخرجه موسى عليه الصلاة والسلام وهو فى صندوق من مرمر أى داخل ذلك الصندوق الذى من الحديد فاحتمله
وفى أنس الجليل أن موسى عليه الصلاة والسلام جاءه شيخ له ثلثمائة سنة فقال له يا نبى الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتى فقال له موسى قم معى إلى والدتك فقام الرجل ودخل منزله وأتى بقفة فيها والدته فقال لها موسى ألك علم بقبر يوسف فقالت نعم ولا أدلك على قبره إلا إن دعوت الله تعالى أن يرد على شبابى إلى سبع عشرة سنة ويزيد فى عمرى مثل ما مضى فدعا موسى لها وقال لها كم عمرك قالت له تسعمائة سنة فعاشت ألفا وثمانمائة سنة فأرته قبر يوسف وكان فى وسط نيل مصر ليمر النيل عليه فيصل إلى جميع مصر فيكونون شركاء فى بركته
وأما عود الشمس بعد غروبها فقد وقع له صلى الله عليه وسلم فى خيبر فعن أسماء بنت عميس أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه فى حجر على ولم يسر عن النبى صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس وعلى لم يصل العصر أى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أصليت العصر فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس
قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت
قال بعضهم لا ينبغى لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ هذا الحديث لأنه من أجل أعلام النبوة وهو حديث متصل وقد ذكر فى الإمتاع أنه جاء عن أسماء من خمسة طرق وذكرها وبه يرد ما تقدم عن ابن كثير بأنه تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها وبه يرد على ابن الجوزى حيث قال فيه إنه حديث موضوع بلا شك

لكن فى الامتاع ذكر فى خامس الطرق أن عليا اشتغل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا على صليت العصر قال لا يا رسول الله فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فى المسجد فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش فارتجعت الشمس كهيئتها فى العصر فقام على فتوضأوصلى العصر ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما تكلم به قبل ذلك فرجعت إلى مغربها فسمعت لها صريرا كالمنشار فى الخشب وذلك مخالف لسائر الطرق إلا أن هذه الطريق فيها حذف والأصل اشتغل مع النبى صلى الله عليه وسلم فى قسمة غنائم خيبر ثم وضع رأسه فى حجر على فما استيقظ حتى غابت الشمس فلا مخالفة
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى بيت المقدس ساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل فقال له جبريل انزل فصل هنا ففعل ثم ركب فقال أتدرى أين صليت قال لا قال صليت بطيبة وإليها المهاجرة وسيأتى ما فيه فى الكلام على الهجرة فانطلق البراق يهوى يضع حافره حيث أدرك طرفه حتى إذا بلغ أرضا فقال له جبريل انزل فصل ههنا ففعل ثم ركب فقال له جبريل أتدرى أين صليت قال لا قال صليت بمدين أى وهى قرية تلقاء غزة عند شجرة موسى سميت باسم مدين بن إباهيم لما نزلها ثم ركب فانطلق البراق يهوى به ثم قال انزل فصل ففعل ثم ركب فقال له أتدرى أين صليت قال لا قال صليت ببيت لحم أى وهى قرية تلقاء بيت المقدس حيث ولد عيسى عليه الصلاة والسلام أى وفى الهدى وقيل إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه فقال له جبريل ألا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه فقال صلى الله عليه وسلم بلى فقال جبريل قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ماذرأ فى الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن أي فقال ذلك فانكب لفيه وطفئت شعلته ورأى حال المجاهدين في سبيل الله أى كشف له عن حالهم فى دار الجزاء بضرب مثاله فرأى قوما يزرعون فى يوم أى فى وقت ويحصدونه فى يوم

أى فى ذلك الوقت كما يرشد إليه الحال كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل ما هذا قال هؤلاء المجاهدون فى سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما انفقوا من خير فهو يخلفه هذا الثانى هو المناسب لحالهم دون الأول فالأولى الاقتصار عليه إلا أن يدعى أنه صلى الله عليه وسلم شاهد الحصاد والعود العدد المذكور الذى هو سبعمائة مرة على أن المضاعفة المذكورة لا تختص بالمجاهدين فقد جاء كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا أن يقال المراد تكرر الجزاء العدد المذكور للمجاهدين أمر مؤكد لا يكاد يتخلف وفى غيرهم بخلافه
ووجد صلى الله عليه وسلم ريح ماشطة بنت فرعون ووجد داعى اليهود وداعى النصارى فأما الأول فقد رأى عن يمينه داعيا يقول يا محمد انظرنى أسالك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل فقال داعى اليهود أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك أى لتمسكوا بالتوراة والمراد غالب الأمة وأما الثانى فقد رأى عن يساره داعيا يقول يا محمد انظرنى أسألك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل قال هذا داعى النصارى أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك أى لتمسكت بالإنجيل وحكمة كون داعى اليهود على اليمين وداعى النصارى على اليسار لاتخفى
ورأى صلى الله عليه وسلم حال الدنيا أى كشف له عن حالتها بضرب مثال فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها كأن ذلك شأن المقتص لغيره وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى أى ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجذب القلوب إليه فكيف بوجود سائر أنواع الزينة فقالت يا محمد انظرنى أسألك فلم يلتفت إليها فقال من هذه يا جبريل قال تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة ورأى عجوزا على جانب الطريق فقالت يا محمد انظرنى أسالك فلم يلتفت إليها فقال من هذه يا جبريل فقال إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا ما بقى من عمر تلك العجوز أى فزينتها لا ينبغى الالتفات إليها لأنها على عجوز شوهاء لم يبق من عمرها إلا القليل ولينظر لم لم يقل تلك الدنيا ولم يبق من عمرها إلى آخره
وفى كلام بعضهم الدنيا قد يقال لها شابة وعجوز بمعنى يتعلق بذاتها وبمعنى يتعلق بغيرها الأول وهو حقيقة أنها من أول وجود هذا النوع الإنسانى إلى أيام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه سبعة بعدها تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم كهلة ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزا

واعترض بأن الأئمة صرحوا بأن الشباب ومقابله إنما يكون فى الحيوان ويجاب بأن الغرض من ذلك التمثيل
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال فأتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الصلاة المفروضة فى دار الجزاء فأتى على قوم ترضح رءوسهم كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شئ فقال يا جبريل ما هؤلاء قال هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة أى المفروضة عليهم
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع وهو اليابس من الشوك والزقوم ثمر شجر مر له زفرة قيل إنه لايعرف بشجر الدنيا وإنما هو لشجرة من النار وهى المذكورة فى قوله تعالى { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أى منبتها فى أصل الجحيم وتقدم الكلام عليها عند الكلام على المستهزئين ويأكلون رضف جهنم أى حجاراتها المحماة لآن الرضف بالضاد المعجمة الحجارة المحماة التى يكوى بها فقال من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال الزناة بضرب مثال ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج فى قدور ولحم نئ أيضا فى قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتى امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح والمرأة تقوم من عنده زوجها حلالا طيبا فتأتى رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال ثم أتى على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شئ إلا خرقته فقال ما هذه يا جبريل قال هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه وتلا ولا تقعدوا بكل صراط توعدون


وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يأكل الربا أى حالته التي يكون عليها فى دار الجزاء فرأى رجلا يسبح فى نهر من دم يلقم الحجارة فقال له من هذا قال آكل الربا وقد شبهه الله تعالى فى القرآن بقوله { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أى إذا بعث الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين من قبورهم إلا أكلة الربا فإنهم لا يقومون من قبورهم إلا مثل قيام الذى يصرعه الشيطان فكلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم وظهورهم كما أن المصروع حاله ذلك أى فهذه حالته فى الذهاب إلى المحشر زيادة على حالته المتقدمة التى تكون فى دارالجزاء
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يعظ ولا يتعظ ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء خطباء الفتنة خطباء أمتك يقولون مالا يفعلون
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال المغتابين للناس فمر على قوم لهم أظفار من نجاس يخدشون وجوههم وصدورهم فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم لحوم الناس ويقعون فى أعراضهم وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال فأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع فقال ما هذا الرجل يا جبريل فقال هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال الجنة فأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة وريح المسك وسمع صوتا فقال يا جبريل ما هذا قال هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتنى بما وعدتنى أى لأنه يجوز أن يكون محل الجنة من السماء السابعة مقابلا لذلك الوادى
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال النار فأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة فقال ما هذا يا جبريل قال هذا صوت جهنم تقول يا رب ائتنى بما وعدتنى أى وليست جهنم بذلك الوادى كما سيأتى أن الوادى التى هى به هو الذى ببيت المقدس ولعل هذا الوادى مقابل لذلك الوادى وينبغى أن لا يكون هذا هو المراد بما فى الخصائص الصغرى للسيوطى


وخص صلى الله عليه وسلم باطلاعه على الجنة والنار بل المراد بذلك رؤية ذلك فى المعراج وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الوادى الذى ببيت المقدس بالنسبة للنار ورأى صلى الله عليه وسلم الدجال شبيها بعبد العزى بن قطن أى وهو ممن هلك فى الجاهلية أى قبل البعثة
ومر صلى الله عليه وسلم على شخص متنحيا على الطريق يقول هلم يا محمد قال جبريل سر يا محمد قال من هذا قال هذا عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه اه
وفى رواية لما وصلت بيت المقدس وصلت فيه ركعتين أى إماما بالأنبياء والملائكة أخذنى العطش أشد ما أخذنى فأتيت بإناءين فى إحداهما لبن وفى الأخرى عسل فهدانى الله تعالى فأخذت اللبن فشربت وبين يدى شيخ متكئ على منبر له فقال أى مخاطبا لجبريل أخذ صاحبك الفطرة إنه لمهدى فلما خرجت منه جائنى جبريل عليه الصلاة والسلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة أى الاستقامة التى سببها الإسلام ومنه كل مولود يولد على الفطرة أى على الإسلام
وفى رواية أخرى فأتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها فأتى بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا وفى رواية أنه لم يشرب منه شيئا وأنه قيل له لو شربت الماء أى جميعه أو بعضه لغرقت أمتك أى وفى رواية أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته ثم رفع إليه إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى روى
أى وفى روايه سمع قائلا يقول إن أخذ اللبن هدى وهديت أمته ثم رفع إليه إناء فيه خمر فقيل له اشرب فقال لا أريده فقد رويت فقال له جبريل إنها ستحرم على أمتك أى بعد إباحتها لهم
وفى رواية أنه قيل له لو شربت الخمر لغويت أمتك ولم تتبعك أى لايكون على طريقتك منهم إلا قليل أى وفى رواية أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الخمر غوى وغويت أمته
أقوم وهذه الرواية محتملة لأن تكون وهو فى بيت المقدس ولأن تكون وهو خارج عنه ومن هذا كله تعلم أنه تكرر عليه عرض اللبن والخمر داخل بيت المقدس

وخارجه ولا مانع من تكرر عرض آنيتى الخمر واللبن قبل خروجه من بيت المقدس وبعد خروجه منه قبل العروج
ولا تعارض بين الإخبار بأن إحداهما كان فيه عسل مع اللبن وبين الإخبار بأن إحداهما كان فيه خمر مع اللبن ولا بين الإخبار بإناءين والإخبار بأوانى ثلاثة لأنه يجوز أن يكون بعض الرواة اقتصر على إناءين ولا بين كون الإناء الثالث كان فيه عسل أو ماء لأنه يجوز أن يكون إحدى الأوانى الثلاثة كان فيها عسل ثم جعل فيها الماء بدل العسل أو مزج العسل به وغلب الماء على العسل أو تكون الأوانى أربعة وبعض الرواة اقتصر
وقد قال ابن كثير مجموع الأوانى أربعة فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التى تخرج من أصل سدرة المنتهى ولكن لم يسقط اللبن وفى رواية بخلاف غيره فإنه تارة ذكر معه الخمر فقط وتارة ذكر معه العسل فقط وتارة ذكر معه الماء والخمر
وعلى الاحتمال الأول يسأل عن سر عدم ذكر جبريل عليه الصلاة والسلام حكمة عدم الشرب من العسل والله أعلم
قال ومر على موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصلى فى قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته أكرمته فضلته اه
وفى رواية سمعت صوتا وتذمرا هو بالذال المعجمة الحدة فسلم عليه فرد عليه السلام فقال يا جبريل من هذا قال هذا موسى بن عمران قال ومن يعاتب قال يعاتب ربه فيك قال أو يرفع صوته على ربه والعتاب مخاطبة فيها إدلال وهذا يدل على أن الصوت الذى سمعه كان مشتملا على عتاب وتذمر مع رفعه وفى رواية على من كان تذمره أى حدته قال على ربه قلت أعلى ربه قال جبريل إن الله عز وجل قد عرف له حدته وهذا كما علمت كان كالذى بعده قبل وصوله إلى مسجد بيت المقدس والله أعلم
وجاء وليلة أسرى بى مر بى جبريل على قبر أبى إبراهيم فقال انزل فصل ركعتين قال ومر على شجرة تحتها شيخ وعياله فقال ومن هذا فقال هذا أبوك إبراهيم عليه الصلاة والسلام فسلم عليه فرد عليه السلام فقال من هذا الذى معك يا جبريل فقال هذا ابنك أحمد قال مرحبا بالنبى العربى الأمى ودعا له بالبركة أى فموسى

عرفه فلم يسأل عنه وإبراهيم لم يعرفه فسأل عنه لكن فى السيرة الهاشمية أن موسى سأل عنه أيضا فقال من هذا يا جبريل فقال هذا أحمد فقال مرحبا بالنبى العربى الذى نصح أمته ودعا له بالبركة وقال اسأل لأمتك اليسير والظاهر أن قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان تحت تلك الشجرة أو قريبا منها فلا مخالفة بين الروايتين
وسار صلى الله عليه وسلم حتى أتى الوادى الذى فى بيت المقدس فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابى أى وهى النمارق أى الوسائد فقيل يا رسول الله كيف وجدتها قال مثل الحممة أى الفحمة اه
قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بنا إلى السماء أى من الصخرة كما تقدم أى على المعراج بكسر الميم وفتحها الذى تعرج أرواح بنى آدم فيه وهو كما فى بعض الروايات سلم له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب أى عشر مراقى وهو المراد بقول بعضهم وكانت المعاريج ليلة الإسراء عشرة سبع إلى السماوات والثامن إلى سدرة المنتهى والتاسع إلى المستوى والعاشر إلى العرش والرفرف أى فأطلق على كل مرقاة معراجا وهذا المعراج لم ير الخلائق أحسن منه أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء أى بعد خروج روحه فإن ذلك عجبه بالمعراج الذى نصب لروحه لتعرج عليه وذلك شامل للمؤمن والكافر إلا أن المؤمن يفتح لروحه إلى السماء دون الكافر فترد بعد عروجها تحسيرا وندامة وتبكيتا له وذلك المعراج أتى به من جنة الفردوس وإنه منضد بالؤلؤ أى جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة فصعد هو وجبريل عليهما الصلاة والسلام قال الحافظ ابن كثير ولم يكن صعوده على البراق كما توهمه بعض الناس أي ومنهم صاحب الهمزية كما يأتي عنه حتى انتهى إلى باب من أبواب سماء الدنيا أى ويقال له باب الحفظة عليه ملك يقال له إسمعيل أى وهذا يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الأرض قط إلا مع ملك الموت لما نزل لقبض روحه الشريفة وتحت يده اثنا عشر ألف ملك
أى وفى رواية أن تحت يده سبعين ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك فاستفتح جبريل فقيل من أنت وفى رواية فضرب بابا من أبوبها فناداه أهل سماء الدنيا أى حفظتها من هذا قال جبريل فقيل ومن معك أى فإنهم رأوهما ولم يعرفوهما ولعل جبريل لم يكن على الصورة التى يعرفونه بها قال محمد وفى رواية قال معك

أحد يجوز أن يكون هذا القائل لم يرهما ويكون الرائى له معظم الحفظة قال نعم معى محمد قيل وقد بعث إليه أى للإسراء والعروج أى لأنه كان عندهم علم بأنه سيعرج به إلى السموات بعد الإسراء به إلى بيت المقدس وإلا فبعثه صلى الله عليه وسلم ورسالته إلى الخلق يبعد أن تخفى على أولئك الملائكة إلى هذه المدة وأيضا لو كان هذا مرادهم لقالوا أو قد بعث ولم يقولوا إليه
فإن قيل قد جاء فى حديث أنس إن ملائكة سماء الدنيا قالت لجبريل أو قد بعث قلنا تقدم أن حديث أنس كان قبل أن يوحى إليه وأنه كان مناما لا يقظة قال السهيلى ولم نجد فى رواية من الروايات أن الملائكة قالوا وقد بعث إلا فى هذا الحديث
وفى رواية بدل بعث إليه أرسل إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا قال صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بآدم فرحب بى ودعا لى بخير
واختلف فى لفظ آدم فقيل أعجمى ومن ثم منع الصرف وقيل عربى لأنه مشتق من الأدمة التى هى السمرة والمراد بها هنا لون بين البياض والحمرة حتى لا ينافى كونه أحسن الناس أو هو مشتق من أديم الأرض أى وجهها لأنه مخلوق منه وعلى أنه عربى يكون منع صرفه للعلمية ووزن الفعل
وفي رواية تعرض عليه أرواح بنيه فيسر بمؤمنها أي عند رؤيته ويعبس بوجهه عند رؤية كافرها
قال وفى رواية فإذا فيها آدم كيوم خلقه الله تعالى على صورته أى على غاية من الحسن والجمال فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب اجعلوها فى عليين وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار فيقول روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث اجعلوها فى سجين
أقول وهذا وإن اقتضى كون أرواح العصاة من المؤمنين فى عليين كأرواح الطائفين منهم لكن لا يقتضى تساويهما فى الدرجة كما لا يخفى
وفى رواية تعرض عليه أعمال ذريته وهو إما على حذف المضاف أى صحف أعمالهم التى وقعت منهم وهى التى فى صحف الحفظة أو التى ستقع منهم وهى ما فى صحف الملائكة غير الحفظة أو تعرض عليه نفس أعمال تجسمت لما سيأتى أن المعانى تجسم ففى كل من الروايتين اقتصار والله أعلم


وفى رواية سندها ضعف كما قاله الحافظ ابن حجر وعن يمينه أسودة وباب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله أسودة وباب يخرج منه ريح خبيثة فإذا نظر عن يمينه أى إلى تلك الأسودة ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله أى إلى تلك الأسودة حزن وبكى فسلم عليه صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح فقال النبى صلى الله عليه وسلم من هذا فقال هذا أبوك آدم أى وزاد فى الجواب قوله وهذه الأسودة نسم أى أرواح بنيه فأهل اليمين أهل الجنة وأهل الشمال أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله حزن وبكى وزاد فى الجواب أيضا قوله وهذا الباب الذى عن يمينه باب الجنة إذا نظر من سيدخله من ذريته ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر من سيدخله من ذريته حزن وبكى اه أى إذا نظر إلى أرواح من سيدخلهما وفيه أن الجنة فوق السماء السابعة والنار فى الأرض السابعة وهى محيطة بالدنيا فكيف يكون بابهما فى السماء الدنيا وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما تقدم
وأجيب عن الثانى بأن عرضها أى أرواح ذريته الكفار عليه نظرة إليها وهى دون السماء لأنها شفافة أو من ذلك الباب أى وكونها عن يساره الذى أخبر به صلى الله عليه وسلم أى فى جهة يساره
ويجاب عن الأول بأن الباب الذى على يمينه يجوز أن يكون محاذيا لموضع الجنة من السماء السابعة ولهذا قيل له باب الجنة وكذا يقال فى باب جهنم لأن الإضافة تأتى لأدنى ملابسة وبما أجبنا به عن كون أرواح ذريته الكفار عن جهة يساره يعلم أنه لا حاجة فى الجواب عن ذلك إلى قول الحافظ ابن حجر ويحتمل أن يقال إن النسم المرئية هى الأرواح التى لم تدخل الأجساد بعد أى الآن ومستقرها عن يمين آدم وشماله وقد أعلم بما سيصيرون إليه بناء على أن الأرواح مخلوقة قبل أجسادها على أنه لا يناسب قوله روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب إلى آخره
ولا حاجة لما نقل عن القرطبى فى الجواب عن ذلك من أن الكفار التى لا يفتح لها أبواب السماء المشركون دون الكفار من أهل الكتاب فيجوز أن تكون تلك الأسودة أرواح كفار أهل الكتاب إذ هو يقتضى أن المراد بأرواح بنيه فى الرويتين السابقتين الأرواح التى خرجت من أجسادها

قال صلى الله عليه وسلم ورأيت رجالا لهم مشافر كمشافرالإبل أى كشفاه الإبل أى وفى أيديهم قطع من نار كالأفهار أى الحجارة التى كل واحد منها ملء الكف يقذفونها فى أفواههم تخرج من أدبارهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الارض أى ولعل المراد بالرجال الأشخاص أو خصوا بذلك لأنهم أولياء الأيتام غالبا قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط وفى رواية أمثال البيوت زاد فى رواية فيها حيات ترى من خارج البطون بسبيل أى طريق آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار ولا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك أى فتطؤهم آل فرعون الموصوفون بما ذكر المقتضى لشدة وطئهم لهم والمهيومة التى أصابها الهيام وهو داء ياخذ الإبل فتهيم فى الأرض ولا ترعى وفى كلام السهيلى الإبل المهيومة العطاش والهيام شدة العطش أى وفى رواية كلما نهض أحدهم خر أى سقط قال قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الأرض لا بهذا الوصف بل إن الواحد منهم يسبح فى نهر من دم يلقم الحجارة أى ولا مانع من اجتماع الوصفين لهم أى فيخرجون من ذلك النهر ويلقون فى طريق من ذكر وهكذا عذابهم دائما
قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم خبيث منتن يأكلون من الغث أى الخبيث المنتن ويتركون السمين الطيب قال قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن أى وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم أي الرجال والنساء في الأرض بنحو هذا الوصف
وفي رواية رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون قال جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام أي من الأموال أعم مما قبله أي وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الأرض
قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت نساء متعلقات بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء اللاتى أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهم أى بسبب زناهن أى

وهؤلاء لم يتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهن فى الأرض والذى تقدم رؤيته لهن الزانيات لا بهذا القيد وهو إدخالهن على أزواجهن ما ليس من أولادهم على أنه يجوز أن يكون المراد مطلق الزانيات لأن الزنا سبب فى حصول ما ذكر غالبا ولا مانع من اجتماع الوصفين لهن
قال ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام يقطع اللحم من جنوبهم فيلقمونه فيقال له أى لكل واحد منهم كل كما كنت تأكل لحم أخيك قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون أى المغتابون للناس النمامون لهم اه أى وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم للمغتابين فى الأرض بغير هذا الوصف أى وروى أنه صلى الله عليه وسلم رأى فى هذه السماء النيل والفرات يطردان أن يجريان وعنصرهما أى أصلهما وهو يخالف ما يأتى أنه صلى الله عليه وسلم رأى في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران وأن الظاهرين النيل والفرات
وأجيب بأنه يجوز أن يكون منبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما وهو المراد بعنصرهما الذى هو أصلهما فى السماء الدنيا أى بعد مرورهما فى الجنة ومن سماء الدنيا ينزلان إلى الأرض فقد جاء فى تفسير قوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } أنهما النيل الفرات أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل عليه الصلاة والسلام فأودعهما بطون الجبال ثم إن الله سبحانه وتعالى سير فعهما ويذهب بهما عند رفع القرآن وذهاب الإيمان وذلك قوله تعالى وإنا على ذهاب به لقادرون وذكره السهيلى وفى زيادة الجامع الصغير أن النيل ليخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يسبح لوجدتم فيه من ورقها
قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه الصلاة والسلام فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل قد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابنى الخالة عيسى ابن مريم ويحيى ابن زكريا صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما أى شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما فرحبا بى ودعوا لى بخير وفى بعض الروايات التى حكم عليها بالشذوذ أنهما فى السماء الثالثة وقد ذكرها الجلال السيوطى فى أوائل الجامع الصغير وذكر بعضهم أنها رواية الشيخين عن أنس والشذوذ لا ينافى الصحة المطلقة
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15