كتاب : البدء والتاريخ
المؤلف : ابن المطهر

كتاب البدء والتأريخ للمطهر بن طاهر المقدسي
الجزء الأول

الفصل الأول
تثبيت النظر وتهذيب الجدل
أقول وبالله التوفيق وَمَن عندَهُ العصمة والتسديد إن معرفة هذا الفصل من أعوان الأسباب على درك الحقّ والتمييز بينه وبين ما يضادّه لاغناء بأحدٍ عن مطالعته والإشراف عليه ليعرف الصدق من نفسه ومن غيره إذْ قد يعترض من الفكر والتخايل والأوهام الفاسدة والخطرات الردئة ما يلتبس معها الحقّ ويتغلّب عندها الظنّ والشكّ وليس ما يميّز بينها ويدلّ على صّحة الصحيح وبُطلان الباطل منها إلاَّ النظر وبه يعترف السؤال الساقط من السؤال اللازم والجواب الجائز من الجواب العادل فلنذكر الآن منه لمعاً لهام ما نحن قاصدوه يكون عُدّة للناظر وقوّة للمناظر ثّم من بعد يستقصيه إن شاء الله في كتاب استسناه على هذا النوع وسمّيناه كتاب العلم والتعليم ومن عند الله العصمة والتوفيق أقول أنّ العلمَ اعتقادُ الشيء على ما هو به إن كان محسوساً فبالحسّ وإن كان معقولاً فبالعقل والحسّ والعقل أصل ما تردّ إليه العلوم كلّها فما قضَيَا بإثباته ثبت وما قضيا بنَفْيه انتفى هذا إذا كانا سليمّيْن من الآفات برئَيْنِ من العاهات وعوارض النقص غسيلين من عشق عادة الألف والنشو لا يكاد يقع حينيذٍ في محسوسه ومعقوله اختلاف إلا من مخالف أو من معاند لأنهما على ضرورة لا يعترض للحاسّ شكٌّ في هيئّة المحسوس وصورته ولا يقدر المضطّر ببديهة عقله أن لا يعلم ما يعلمه ويتيقنه ولا يُصدّق مّنْ يدّعي خلافه ولو كان مضطّر إلى دعواه كما اضطّر في حواسّه لما ظهر من أحد خلاٌف ولا احتيج إلى كسر قوله والكشف عن عُوار كلامه ألا ترى أنّه يستحيل ان تجد الحاسّة النار باردّة والثلج حارًّا في الظاهر كما يستحيل إن يكون المعلوم متحرّكاً ويعلم ساكناً أو يكون في نفسه أبيض ويقع العلم بأنّه أسود ولو جاز هذا لبطلت العلوم كلّها رأساً وفسدت الاعتقادات فساغ لكل قائل ما أراد من ادّعاء السمع البصر والبصر السمع والحيّ ميتاً والميّت حياً وهذا محال لأن العلم إذا كان إدراك الشيء على ما هو به من حدٍ وحقّه ثم لم يُدرك ذاته كما هو لم يكن معلوماً وكذلك الحسّ إذا لم يدرك طبعه طبع ما يقع تحته لم يكن محسوساً وهذا لا خلاف فيه بين المتميّزين العاقلين قاطبةً إلاّ رجلّيْن اثنَيْن أحدهما العامي الذي لا نظر له لإغفاله آخذاً له استعماله ومتى لاح له الحقّ اتبعه وانقطع خلافه لأن قوله ذاك عن حَدْس وظنّ وسماع وتقليد فإذا قرع سمعه ما يشهد بتصديقه قلبه مال إليه وقبله والثاني الجاحد المعاند الذي يسمّيه القدماءُ السوفسطاني وسنذكر فساد مذهبهم في موضعه إن شاء الله تعالى، وضدّ العلم الجهل ومعناه اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به وليس كلّ من لا يعلم جاهلاً بالإطلاق ولكنّ الجاهل في الحقيقة التارك طلب حدّ الشيء وحقّه المعتقد له على غير ما هو به ولولا ذاك لما استحق اللائمة والمذمّة على جهله.

القول في كمية العلوم ومراتبها، أقول أنّ اسم العلم قد يُطاق في الحملة على الفهم والوهم والذهن والفطنة واليقين والخطرة والمعرفة وكلّ ما يحصل منه إدراك شيء ظاهراً أو باطناً ببديهة عقل أو مباشرة حاسّة أو استعمال آلة كالاستدلال والفكرة والبحث والتمييز والقياس والاجتهاد لأن هذه لخصال كلّها آلات إدراك لعلم وطُرُق التوصّل إليه وممّا يصاب من هذه الجهة فروع بالإضافة إلى علم البداية والحواس أ لا ترى أن الإنسان العاقل المميّز مضطرّ إلى شواهد عقله وحسّه غير مضطّر إلى استدلاله وبحثه أو لا ترى أن لا سبيل إلى البحث والاستدلال لمن عرى من عقله أو أصيب بحسه فأوّل العلم الخطرة الصادقة وهو كالبديهة مثلاً كل بقوة البديهة وآخره اليقين وهو استقرار الحقّ وانتفاء الشك والشبهة عنه وإنما اشترطنا في الخطرة الصدق لأنه قد يخطر النفس والهوى والطبع والعادة بم لا حقيقة له فلا يجوز أن نُعد من آخر العلم اليقين الذي يُحيط بالأشياء على وجهها ويدركها بكنهها المعرفة إدراك أينية الشئ وذاته فمن قائل أنها ضرورة آخر أنّها مكتسبة والفرق بينها وبين العلم إن العلم الإحاطة بذات الشيء عينه وحده والمعرفة إدراك ذاته وثباته وإن لم يدرك حدّه وحقيقته فالعلم اعمّ وابلغ لأن كلّ معلوم معروف وليس كلّ معروف معلوماً ألا ترى أنّ الموحّدين يعرفون ربّهم ولا يعلمونه إلا بالإثبات لأنَّ الكيفية والكميّة عن منفيتانِ، والوّهْم اعتقاد صورة شيء محسوس أو مظنون وان كل منفياً وجودُه في الظاهر لأنَّ قوة الوهم في انبساطها تضعُف فلذلك ترى ما لا تراه العيون وكذلك العين إذا امتدت قوّة بصرها وبعدت مسافة المرء عنها رأته على خلاف ما هو به من الصغَر والعظم والصورة واللون وغير ذلك من آلهيات وما خلا عن آلهيات والصفات والحدود كلّها فلا يمسّها الوهم ولا يتصوّر في النفس والفهم هو المعرفة وقوّة الذهن قريبة من قوّة العقل غير أنّ الذهن والفهم تطبّع والفطنة قريبة المعنى من الذهن وانّما احتجنا إلى هذا لأن كثيراً من الناس يولعون بالبحث عن هذه الأسامي ويستفرقون بينها وأما الأسباب التي يتوصّل بها إلى ما خفى من العلم فالفكرة وهي البحث عن علّة الشيء وحدّه الرأي والرويّة والاستنباط انتزاع ما في طي المعقول والمحسوس والاستدلال والاجتهاد وقد عدّ قومٌ ميل العادة والطبع إلا ما يميلان إليه أو ينفران منه علماً فهذه جملة أصول العلم وطُرقها ومحصولها راجع إلى ثلاثة أصناف إلى المعقول بديهةً والمحسوس ضرورة لأن ما يدرك يهما يدرك بلا واسطة ومقدّمات والثالث المستدلّ عليه المستنبط بالبحث والإمارة فهذه يقع فيها الاختلاف والإضطراب لخروجه عن حيّز الحاسة والبديهة وتفاوت قُوى المستدلّين والناظرين وتفاوت أرائهم وعقولهم وهذا يكثر حدّاً وفيه صُنفت الكتب ودُونت الدواوين من علمي الحكمة والملّة مُذ قامت الدنيا على ساقها ولا يزال كذلك إلى انقضاء الدهور وتخرُّم الأيام وكثير من الناس أبوا أن يسمّوا علم البديهة والحسّ علماً على الحقيقة لاشتراك الناس كلّهم فيه واستواء درجاتهم في ذلك ثم هو غير مستفاد ولا مكتسب بل أوجبه الطبع العزيزة وقوّة التمييز والخلقة

القول في العقل والمعقول، أقول أنّ العقل قوّة إلهية ممّيزة بين الحقّ والباطل والحسن والقبيح وأمّ العلوم وباعث الخطرات الفاضلة وقابل اليقين وقد قيل إنما سمّى عقلاً لأنه عقال للمرء عن التخطّى إلى ما خُطر عليه وقد أكثرت الفلاسفة الاختلاف في ذكره ووصفه قال ارسطاطاليس في كتاب البرهان أن العقل هو القوة التي بها يقدّر الإنسان على الفكرة والتمييز وبها يلتقط المقدّمات من الأشياء الجزؤية يؤلف منها القياسات وقال في كتاب الأخلاق أن العقل هو ما يحصل في الإنسان بطريق الاعتياد من أنواع الفضائل حتّى يصير له ذلك خُلقاً وملكة متمكنة في الناس وقال في كتاب النفس بخلاف هذا وقسّمه إلى ثلاثة أقسام إلى العقل الهيولاني والعقل والفعّال والعقل المستفاد وفسّره لاسكندر فقال إن العقل الهيولاني هو ما يوجد في شخص الإنسان من إمكان التهيؤ لتأثير العقل الفعّال وان العقل المستفاد هو المصوَّر والعقل الهيولاني بمنزلة العنصر وان العقل الفعّال هو المخرج للعقل المستفاد على الوجوه بالفعل وزعم بعضهم أن العقل هو النفس وبعضهم يقول هو البارىء جلّ جلاله مع تخليط كثير منهم في هذا الباب ممّا توارثناه عن الأسلاف قولهم العقل مولود والأدب مستفاد وإنما سمّاه بعضهم باسم أفعاله فلا يضايقه بعد أن أتى المعنى المطلوب منه ألا ترى أنه يقال لكتب المنصفين أخبار الأوائل والأسعار أنها عقولهم والمعنى نتائج عقولهم وأذهانهم وقيل ظن الرجل قطعة من عقله فكل هذا على التمثيل والاستعارة ولا يختلف قول القدماء في أن العقل الهيولاني أصفى جوهر النفس وحسّه فوق حسّ النفس ورتبتُه على رتب الجواهر ودون رتبة البارىء جل جلاله وهو أقرب الأشياء منه المسلمون لا يعلمون من العقل إلا ما هو مركب في الإنسان خاصّةً دون سائر الحيوان في العالم السُفلي فأما ما يحكى عن غيرهم فموقوف على الجواز ما لم يردّه العقل أو كتاب الشريعة وقد ذهب قوم أن حجّة الطبع فيما يوجبه ويسلبه أولى من حجّة العقل وادعوا ذلك من جهة اشتياق إلى ما وافقه ويلائمه وإنقباضه عمّا يعافه وينافره وان الله عزّ وجلّ خلقه إذ خلقه كذلك ولا يجوز ان يخلق شيئاً عبثاً أو لغير حكمة وفائدة والعقل مستحسن وهو يستحسن الشيء ثم يستقبحه ويستصوبه تم يستحطئه والطبع لا يستحلى مُراً ولا يستمر حلواً ولا يجد الشيء عن خلاف ما هو به فأجابهم مخالفوهم أن الطباع لا تعرف إلا ما يحسّ وتباشر وقد تغيرها العادات والعوارض عن أصل جلبلتّها فتميل في بعض الأوقات إلى ما كانت تنفر عنه وينفر عمّا كانت تميل إليه وليس من قوّتها التمييز بين الحسن والقبيح بالاستدلال كما في قوّة العقل وقد صحّت طبائع البهائم وسلمت أخلاطها ثم لم يحسن خطابها وامتناع الطبع عن استحسان الحسن واستقباح القبيح غير محلى له من الحكمة ولا موجب العبث في خلقه كما أنّ الموات لا تحسُّ بشيء من الأغراض ثمّ لم يخلُ من الحكمة بل دلالته وما تحويه من المنافع والمضار الذي خصّ به جنسه فائدته وحكمته فدلّنا ان موجب العقل هو المعوّل عليه في الاعتبار والاستدلال لإسقاط التكليف ووضع الامتحان على البهائم التي سلمت طباعها وأخلاطها فإن قيل بمّ عرفتم العقل قيل بنفس العقل لأنه الأصل والبديهة وأمّ علوم الاستدلال كما عرفنا الحسّ نفس الحسّ لأنه الطبع ولو كنَّا عرفنا العقل بعقل لأفضى الأمر إلى ما لا نهاية له ولمّا كان العقل أصل العلوم ورأسه فإن قيل فَبِمَ يفرقون بين دلالة العقل ودلالة الهوى والعادة قيل بالرد إلى الأصل لأن الفرع يشاكل الأصل ولو لم يشاكله لم يكن فرعاَ له ومن الدليل على وجوب حجّة الطبع تعظيم الناس كلّهم العقل وتبجيلهم إيّاه وتفضيلهم مراتب العقلاء ورفعهم أقدارهم واستنامتهم إلى آرائهم واعتمادهم على إشارتهم وتمنّيهم درجاتهم والاستخفاف بمن ذلّ عقله وبدا سخفه ولم يفعلوا ذلك بمن استقامت طباعه وكملت أخلاطه فعلمنا أنه معنى غير معنى الطبع وهو العقل

القول في الحسّ والمحسوس، أقول أنّ الحواس طُرُق وآلات مهيّأة لقبول التأثيرات كما وضعها الله عزّ وجلّ عليه فإذا باشرت الحاسّة المحسوس أثرت فيه بقدر قبوله وقبلت منه بقدر تأثيره فبدرت به النفس وأدّته إلى القلب واستقر فيه ثم تنازعته أنواع العلم من الفهم والوهم والظن والمعرفة وبحث عنه العقل وميزه فما حققه صار يقيناً وما نفاه صار باطلاً والحواسّ الخمس أولاً لا يوجد شيء لا يمكن وجوده بشيء من الحواس فيحتاج إلى حاسّة سادسة ويزعم قومٌ أنها أربع ويجعلون الذوق ضرباً من اللمس وبعض يقول ستّ ويعدون فعل القلب حاسّةً سادسةً وهذا سهل واسع بعد أن اقروا بصحة وجود فعل الحواس لأن من الناس من ينكر حقيقة فعلها تتغير أحوالها ويحتج برؤية من يؤدي وجهه في السيف طويلاً وقامته في الماء الذي لا يكون مساحة عمقه كمساحة قامته منكسة ويرى الصغير كبيراً والكبير صغيراً والواقف سائراً وهذا من رأى المعاندين والمموّهين إذ لا توجد هذه التغيرات في غير حاسّة البصر وذلك للعلل العارضة من بُعد المسافة وتكاثف الهواء فيقع الغلط من جهة الكيفية والكمية لأن الحاسّة لا تضبط الهئاة إذا بُعدت فأمّا الاينية فلا يقع فيها غلط ما لم يفرط بُعدها فلا تحصر شخصها الحاسّة وأما سائر الحواسّ التي فعلها بالمضامّة والمباشرة فلا يقع فيها اختلاف ما صحّت وسلمت وأهون ما يقابل به صاحب الرأي إنكار الحواسّ نفسها عروضّا لإنكار فعل الحواسّ وما أعلم أنا عقلاً يشتغل بردّ هذا الرأي وإنكاره ولظهور فساده وفُحش خطابه القول في درجات العلوم أقول أنّ الأشياء كلّها في العقول على ثلاثة أضرُب واجبٌ وسالبٌ ومُمكن فالواجب في العقل بنفس العقل واستدلاله كعلمنا بأن البناء يقتضي بانياً والكتابة يقتضي كاتباً ولابدّ لكلّ صنعةٍ من صانع وأن الواحد والواحد اثنان وأن الشيخ كان شباباً والصغير كان رضيعاً وما أشبه ذلك والسالب الممتع المستحيل في العقل بنفس العقل واستدلاله وهو أن يوجد كتاب بغير كاتب وصنعة من غير صانع فإن هذا لا يوجبه العقل ولا يتصوره الوّهمْ ولا يستقرّ عليه الطبع والممكن الجائز الموهوم في العقل بنفس العقل كما حكى عن القرون السالفة والبُلدان النائية وما يذكر أنه سيكون بعدُ فإن ذلك ممّا يجوز في العقل أنّه كذلك ويجوز أنه ليس كذلك لأنه لا يدل خاطر على تحقيق شيء من ذلك ألا ويجوز أن يدلّ خاطر على إبطاله لدخوله في حدّ الجواز والإمكان فلمّا تكافأت الأدلّة به قصر على حدّ الوقوف فلا شيء ألا وهو معقول معلوم أو معروف أو موهوم أو محسوس

في الحدّ والدليل والمعارضة والقياس والاجتهاد والنظر وغير ذلك، أقول أنّ الحدّ ما دلّ على عين الشيء وغرضه بإحاطة وإيجاز كحدود الدار والأرضيين التي تميز حصّة كل مالك من حصّة صاحبة فيعرف به داره فأرضه والزيادة في الحدّ نقصان والنقصان منه زيادة يبطل الحدّ المطلوب كقولك الإنسان حيٌّ ناطق هذا حدّه فإن زيد فيه شيءٌ أو نقص انتقض لأن الاعتبار صحّة الحدود في الاطّراد بالعكس والقلب فمتى لم ينعكس لم يستقِم هذا الذي اختاره في الحدود وإن كان للناس فيه أقوال ومذاهب لأن من رأى بعضهم أن حدّ الشيء وصفه له في ذاته كالعلّة وعند بعضهم حدّ الشيء من ذاته واسمه واعتبر بعضهم طرده من جانبين كما قُلنا وبعضهم اقتصر في جانب واحد إذا صحّ الطرد وهذا لا يستقيم إلا في باب الشرع والإلزام التي حجب عن الناس عللها الموجبة كقول من زعم مثلاً أنّ حدّ الصلاة أنّها طاعة ثم يقول وليس كلّ طاعة صلاةً فالأولى في هذا أنْ نسميه صفةً لا حداً لأنه لو كان حداً لسلم في الطرفين كما قال أن حدّ الإنسان أن يكون حياً ميتاً ناطقاً فكل حي ميت ناطق إنسان وكل إنسان حي ميت ناطقٌ وقد قيل الحدّ جامع لما يفرّقه بالتفصيل وأقول أن الدليل ما دّل على المطلوب ونبّه على المقصود كائناً ما كان من جميع المعاني. التي تتوصّل بها إلى المدلول عليه وقد يدلّ الدليل على فساد الشيء كما يدل على صحته فإذا دل على صحة شيء فهو دليل على فساد شيء والدليل على فساد الشيء فهو دليل صحّة ضدّه ويدّل الدلائل الكثيرة المختلفة على العين الواحدة كالطُرُق المؤدية إلى مكان واحد وكلّ ما هدى إلى شيء فهو دليل عليه فالبارئ سبحانه وتعالى دليل خلقه والرسول عليه السلام دليل أمته والكتاب دليل والخبر والأثر دليل والحركة والصواب دليل وما أشبه ذلك هذا الذي اختاره في الدليل الذي يستدلّ أهل النظر به وقد زعم بعض الناس أن الدليل هو المستدلّ نفسه فناقضه مخالفة بأنّه لو كان كذلك لجاز للمدّعى إذا طُولب بالدليل أن يقول أنا الدليل وهذا سهل قريب التفاوت لمن تأمّل أن اللغة لا تمنع أن يكون الدليل فاعل الدلالة كالشريب والسمير وأن يكون عين الدلالة والمدلول عليه كالصريع والقتيل يقول المدّعى أنا الدليل إذا أراد فاعل الدلالة غير خطاءٍ وإنما يستحيل إذا أراد به عين الدلالة على ما يطلب به وقد يكون عينه دليلاً على الصانع إذا سُئل لأنه ما من مدلول عليه إلا وهو دليل على شيء آخر وإن لم يكن دليلاً على نفسه وأقول أن العلّة السبب الموجب وهي ضربات عقليّة وشرعيّة فالعقلية الموجبة بذاتها غير سابقة لمعلولاتها كحركة المتحرك وسكون الساكن فالشرعية التي تطرى على الشيء فتغير حكمه ويكون مقدّماً لها معلولاً بعلة قبلها وشرط صحة العلة جريانها في معلولها فمتى ما تقاعست عن الإطراد تهافت ذلك كوجود عين أو حكم لعلة من العلل ثم وجود تلك العين والحكم مع زوال تلك العلّة أو زوال العين والحكم مع بقاء العلّة وصحّة العلّة كصحّة الحدّ سواء مع أنّ كثيراً من الناس يسمّون العلّة الحدّ وليس ببعيد لاتفاق المعنى وقيل أن العلة ذات وصف واحد وذات وصفين وذات أوصاف كثيرة ولا يصح الحكم بها إلا بإجتماع أوصافها كقولنا في الإنسان أنه حي ميّت ناطق لو اختزلت صفة من هذه الصفات لبطلت أن تكون حدّاً للإنسان وعلّة له وأقول أن المعارضة تصحيح ما رام خصمك إفساده من مذهبك بمثل مذهبه ومعنى المعارضة والمقابلة على السواء والمماثلة فإذا وقعت على خلاف ما يذهب الخصم إليه فهي ساقطة فاسدة وقد أنكر قوم هذا الباب وأبطلوه وزعموا أنه خارج عن حدّ الجواب والسؤال فأجابهم مخالفوهم بأنه ضربٌ من السؤال أو زيادة فيه واستدلّوا بأنّ المعارض مجيب أو مرئي مناقصه ولو جاز أن تمسك المسؤل عن جواب ما سئل إذا السائل مستجير والمعارض مجير ثم نزل المعارضة من صححها أربع منازل يصحّ منها ثلاث ويبطل واحدة وهي معارضة السؤال بالسؤال كسائل رجلاً ما قولك في كذا فيكُرُّ عليه وما قولك أنت في كذا فهذا لأنه ليس فيه شيء من جواب ما سئل والثانية معارضة الدعوى بالدعوى كقائل إن العالم قديم فيقول له الخصم ما الفرق بينك وبين ما يدّعى أنه مُحدث فيلزم مدّعى القدم إقامة البرهان والتفريق بين المدعوين ومتى بطل قول من ادّعى أنه محدث صحت له دعواه في القدم لأنّ في صحّة الشيء

فساد غيره والثالثة معارضة العلّة بالعلّة كقول الموحّد للمجسّم إذا قلت أنّ البارىء جسم لأنك لا تعقل فاعلاً إلا جسماً فَلِمَ لم تقل مركّب مؤلف لأنك لم تَرَ إلا جسماً مركباً مؤلفاً والرابعة معارضة الدليل بالدليل فهو أن يقال إذا كان دليلك كيت وكيت فما الفرق بينك وبين من يزعم أن الدليل شيءٌ آخر غير ذلك فالجواب أنك لا تقابل علّة بعلّة ومطالبتك بالفرق مطالبة بتصحيح الدليل وأقول أن القياس ردّ الشيء إلى نظيره بالعلّة المشاركة ويقال القياس معرفة المجهول بالمعروف وقيل كلّ ما عُلم بالاستدلال من غير بديهة ولا حاسة فهو قياس وقيل القياس التقدير واحتج قائلوه بقول الفرزدقاد غيره والثالثة معارضة العلّة بالعلّة كقول الموحّد للمجسّم إذا قلت أنّ البارىء جسم لأنك لا تعقل فاعلاً إلا جسماً فَلِمَ لم تقل مركّب مؤلف لأنك لم تَرَ إلا جسماً مركباً مؤلفاً والرابعة معارضة الدليل بالدليل فهو أن يقال إذا كان دليلك كيت وكيت فما الفرق بينك وبين من يزعم أن الدليل شيءٌ آخر غير ذلك فالجواب أنك لا تقابل علّة بعلّة ومطالبتك بالفرق مطالبة بتصحيح الدليل وأقول أن القياس ردّ الشيء إلى نظيره بالعلّة المشاركة ويقال القياس معرفة المجهول بالمعروف وقيل كلّ ما عُلم بالاستدلال من غير بديهة ولا حاسة فهو قياس وقيل القياس التقدير واحتج قائلوه بقول الفرزدق
ونحن إلى زفوف مغوّراتٍ ... نقيس على الحصا نطقاً يقينا
وهذه الأقوال قريبة المعاني كأنها في مشكاةٍ واحدةٍ وقد أجاز بعض القائسين القياس على الإسم كما أجازوه على المعنى والقياس الصحيح الذي يوافق المقيس عليه من جميع معانيه أو أكثرها وتسمَّى القياس البرهاني لدخوله في حيّز علوم الإمكان وقد أنكر بعض الناس القياس فلزمه أن ينكر ما فات حواسه وبدائهه ويقر بصحة كل ما جاء من حق وباطل وقضية العقول توجب أن تكون كل مشتبهين واحداً من حيث اشتبها وإلا فلا معنى للاشتباه ألا ترى أنه مستحيل أن توجد نار حارة ونار باردة لاشتراك النيران في طبع الحرارة وهو المعنى الموجب لهما في القضية وأقول أن الاجتهاد هو إمعان الفكرة والاستقصاء في البحث عن وجه الحق الذي لا يصاب بالبديهة ولا بالحس لكن بالطلب والاستدلال وهو مقدمة القياس وكان القضاء بالشيء على التمثيل والاجتهاد طلب وجه ذلك القضاء من أصح وجوهه والتحرز من وقوع الغلط فيه لأن القياس من غير اجتهاد كالقول بالظن من غير استدلال وأقول أن النظر فعل الناظر بقلبه ليرى ما خفي عليه فكما أن العين قد تقع على الشيء ولا يتبينه إلا بعد النظر والتفكر فكذلك القلب قد تعرض له الخطرة فلا يثبتها إلا بعد النظر والتفكر والمناظرة المفاعلة منه وقد تكون من تشبيه النظر بالنظير فيكون معناه القياس المحض.
القول في الفرق بين الدليل والعلة وأقول أن الدليل ما هدى إلى الشيء وأشار إليه والعلة ما أوجبه وأوجده ويوصل إلى الشيء بدليله لا بعلته لأن علته أيضاً مما يوصل إليها وتعلم بدليل لأن الذي يدل على العالم وقد يزول الدليل ولا يزول عينه ومتى زالت العلة زالت العين وتختلف الأدلة على العين والواحدة ولا تختلف العلة ومحال وجود ما يفوت الحواس والبدائه بغير دليل وغير محال ما لا علة له.
القول في الدليل، أقول أن من الدليل ما يوافق المدلول عليه بوجه أو وجوه كثيرة كرؤيتنا بعض الجسم والبعض يدل على الكل متصلاً كان أو منفصلاً ومنها ما لا يوافق المدلول عليه بوجه من الوجوه وسبب من الأسباب كالصوت يدل على المصوت ولا يشبه والفعل يدل على الفاعل ولا يشبه والدخان يدل على النار ولا يشبهها ويلزم من يزعم أن الدليل لابد أن يوافق المدلول عليه بجهة من جهاته وإن خالفه في أكثرها فإما إذا لم يكن بينهما مناسبة وارتفع الاشتباه ارتفع التعلق وإذا سقط تعلق الدليل بالمدلول عليه بطل أن يكون دليلاً إلا أن لا شيء في الغائب إلا جسم أو عرض لأنه لا يرى في الشاهد غير حدث وإن ينكر ما في العالم الأعلى لأن ما في العالم الأسفل مخالف له فلا يكون دليلاً عليه فإن زعم زاعم أنه كذلك لا شيء في جسم أو عرض أو حدث غير أنه مخالف لما في الشاهد طولب بالفرق لأن المخالفة تقطع التعلق والاشتباه والزم معارضه من عارضه بأن لا شيء في الغائب إلا وهو حادث ولا في الشاهد إلا غير حادث.

القول في الحدود، أقول أن الشيء اسم عام يطلق على الجوهر والعرض وما يدرك بالبديهة والحاسة والاستدلال من جميع ما مضى وانقضى وما هو ثابت في الحال وما سيكون فيما بعد وحد الشي ما يصح أن يعلم أو يذكر أو يوجد أو يخبر عنه فإذا كان هذا حد الشيء فقد ثبت أن المعدوم شيء لأنه يصح الخبر عنه وأنكر قوم أن يكون المعدوم شيئاً وجعلوا حد الشيء أن يكون مثبتاً موجوداً لأن الموجود والمثبت يعمان الأشياء كما يعم الشيء ولا نقيض لهما قالوا فلو كان الشيء المعلوم لوجد له نقيض وهو المجهول وزعم بعضهم أن حد الشيء المثبت لا غير ولا شيء منفي والمعدوم غير مثبت واحتج بعضهم بكتاب الله عز وجل " أَوَلا يَذْكُرُ الإنسانُ أنَّا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً " فنفى أن يكون الإنسان قبل أن يخلق شيئاً وبقوله تعالى هل " أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكون شيئاً مذكوراً " والشيء يذكر قبل الوجود ولو لم يكن شيئاً غير المثبت الموجود أوجب أن يكون ما يخبر عنه من أخبار العالم والقرون مذ قامت الدنيا باطلاً هذراً فإن قيل أن ذلك قد خرج مرة إلى الوجود قيل وما يدريك أن ما هو كائن بعد غير خارج إلى الوجود فهو شيء قيل فما خرج عن الوجود فلا شيء فإن قيل محال تقدم الاسم على المسمى قيل ذلك في الخواص فأما العام قغير ممتنع لأنا نقول سيكون في الدنيا أمور وأسباب وحيوان فتقدم أسماءها قبل وجود شخصها وقد كان أبو الهذيل يغايظهم بقوله في المعدوم أنه جسم خياط على رأسه قلنسوة يرقص ونقيض الموجود المعدوم ونقيض المثبت المنفي وليس نقيض الشيء لا شيء لأن المنفي والمعدوم شيئان قد نفى وعدم ولا شيء لا يوصف بالعدم والنفي فإن قيل فجسم هو أم عرض أم حركة أم سكون قيل هو شيء معلوم مقدور عليه لا غير وحد الجسم أن يكون طويلاً عريضاً عميقاً مؤلفاً مركباً من أجزاء وأبعاض شاغلاً للمكان حاملاً للأعراض ولا يوجد بتة خالياً منها أو من بعضها فإن أنكر منكر أن يكون الموصوف بهذه الصفات جسماً سلم له وسوهل في التسمية بما شاء وطولب بالفرق بينه وبين ما لا يوجد بهذه الصفات وكان هشام بن الحكم يزعم في حد الجسم أنه ما قام بنفسه لأنه كان يقول البارئ جل وعز عن قوله جسم فالجسم في اللغة ما غلظ وكثف وكذلك يقولون للجثة العظيمة جسيمة وإنما أطلق هذا الاسم على ما الموصوف به معناه فإن غير اسمه لم يتغير معناه وإنما يتبين الفرق عند تفصيل الأسماء والأشخاص وحد العرض أن لا يقوم بنفسه ولا يوجد إلا في جسم فإن أنكره منكر قوبل بما يقابل به منكر الجسم وطولب بالفرق بينه وبين غيره ثم كلم على ما أشار إليه من المعنى وقد زعم قوم أن لا عرض في العالم وأن الأشياء لها أعراض مجتمعة متفرقة وحد الجوهر حد بعينه لأنه جسم ولأن ما خلا عن حدود الجسم والعرض والجزء لم يضبطه الوهم ولا يتصور في الظن الذي هو اضعف أجزاء العلوم ودخل في خبر الامتناع وقد يسمى الجوهر الطينة والمادة والهيولى والجزء والعنصر والاسطقس واختلف الناس في الجزء الذي لا يتجزأ من الأجسام فقال كثير من الناس أنه لا يزال مجزأ حتى يصير في الصغر إلى حيث لا يجوز أن يتجزأ ولا يكون له ثلث ولا ربع ولا نصف قالوا ولولا ذلك لما كان للأجسام تناه ولما كان شيء أكبر من شيء ولا أصغر منه ولما جاز لقائل أن يقول أن الله قادر على أن يرفع من الجسم كل اجتماع خلقه فيه فأقل الاجتماع بين جزئين قال ابن بشار النظام وهشام بن الحكم أنه يتجزأ تجزءاً بلا نهاية ولم يتهيأ بالفعل فأنه موهوم واحتجوا بأنه كما لا يجوز أن يخلق الله شيئاً لا شيء أكبر منه فكذلك لا يجوز أن يخلق شيئاً لا شيء أصغر منه وقالوا لو كان قول من قال أن الجزء لا يتجزأ صحيحاً كان في نفسه لا طول له ولا عرض فإذا حدث له ثان حدث لهما طول فلن يعدوا الطول أن يكون لأحدهما دون الآخر أو لهما معاً فلما ثبت أنه لهما علم أنه يتجزأ وقال الحسين النجار الجزء يتجزأ حتى يعود إلى جزء لا يقبله الوهم فيبطل حينئذ وقال قوم لا ندرى كيف القول فيه واختلفوا في جواز الرؤية عليه وحلول الأعراض فيه واختلفوا في جواز الرؤية عليه وحلول الأعراض فيه من اللون والحركة والسكون وغير ذلك فأجازه قوم ونفاه آخرون والقدماء مختلفون في الفصل على خلاف قول أهل الإسلام فيزعم بعضهم أنه يرى قبل الاسطقسات الأربعة اسطقسات آخر صاغر الأجزاء غير

متجزئة في غاية الصغر منها تركيب الاسطقسات التي منها تركيب العالم وأما ارسطاطاليس يقول أما التجزئة بالقوة فإنها بلا نهاية وأما بالفعل فلها نهاية وقال بعضهم لا يتجزأ لا يقبل الانفعال مع اختلاف كثير بينهم، وحد الزمان حركة الفلك ومدى ما بين الأفعال هذا قول المسلمين وحكى عن افلاطن أنه يرى الزمان كوناً في الوهم وحكى ارسطاطاليس في كتاب السماع الطبيعي أن جميع القدماء كانوا يقولون بسرمدية الزمان ألا رجلاً واحداً يعنى افلاطن وروى عن افلوطرخس أنه قال جوهر الزمان هو حركة المساء هذا وفاق قول المسلمين وبعضهم يقول أن الزمان ليس بشيء مع اختلاف كثير بينهم وإنما ذكر ما ذكر من مذاهبهم لتطمئن نفس الناظر إلى خلاف القائلين بالعقل والتمييز وليستفيد يقيناً بما يعضده من وفاق قولهم لأن في الإجماع قوة وهو من أوكد أسباب الاستظهار عليهم، وجد المكان ما اعتمد عليه الجسم أو أحاط به أو حله العرض وهذا أراده ارسطاطاليس حيث قال المكان نهاية المحتوى الذي يماس ما يحتوي عليه واختلفوا في الخلاء والفضاء فقال قوم العالم لا خلاء فيه وإن الهواء جسم منتشر بسيط ويمتحن بالآلة التي هي على هيئة الرطل في أسفلها وإذا فتح سال فعقل أن الماء دفعة دافع وهو الهواء الداخل في الكوز وقال آخرون لا يخلو الأجسام من خلاء وهو الفرج بين الأجزاء واستدلوا بالماء الذي يصب على الأرض فيغوص فيها وفرق قوم بين الفضاء والخلاء فقالوا الخلاء هو الفراغ من الجسم والفضاء هو المحتوى على الخلاء بلا نهاية ويزعم قوم أن الخلاء والفضاء شيء واحد ويقول آخرون أنه ليس بشيء وحد المتغايرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر وقال بعضهم حدهما ما اختلف أوصافهما وحد الضدين ما لا يجوز وجود أحدهما إلا مع عدم الآخر وحد الموجود ما ثبت علماً أو حساً بالتمييز من جنسه والصفة كالاسم في بعض الأحوال إلا أن خاصية حدها الأخبار عما في الشيء كالعلم في العالم وقد يفرق قوم بين الوصف قول الواصف ذلك وحد الإرادة ما يضطمره الإنسان في قلبه من فعل أو قول أو حركة وحد القول ما يبديه القائل بلسانه وقد يقال للإشارة قول على المجاز وحد المعنى عقد القلب على ما أبدى بلفظه فزعم ابن كلاب أن معنى القول نفس القول ولو كان كذلك ما سأل السامع القائل ما معنى قولك وحد الحركة زوال وانتقال وهي على ضروب فمنها الحركة الذاتية والمكانية وقد قيل الحركة اختلاف وتغيير وحد السكون لبث واستقرار وزعم بعضهم أن السكون ليس بشيء وحد الجنس ما يجمع أشياء مختلفة الصور كالحيوان والنبات وقد قيل الجنس ما استوعب الأنواع وحد النوع تخصيص النظائر من الجنس والشخص تمييز الذات من النوع والشخص تحت النوع والنوع تحت الجنس وهذا المقدار من هذا الباب لإغناء بأحد عن مطالعته فإنه كالماد للنظر والآلة للجدل.متجزئة في غاية الصغر منها تركيب الاسطقسات التي منها تركيب العالم وأما ارسطاطاليس يقول أما التجزئة بالقوة فإنها بلا نهاية وأما بالفعل فلها نهاية وقال بعضهم لا يتجزأ لا يقبل الانفعال مع اختلاف كثير بينهم، وحد الزمان حركة الفلك ومدى ما بين الأفعال هذا قول المسلمين وحكى عن افلاطن أنه يرى الزمان كوناً في الوهم وحكى ارسطاطاليس في كتاب السماع الطبيعي أن جميع القدماء كانوا يقولون بسرمدية الزمان ألا رجلاً واحداً يعنى افلاطن وروى عن افلوطرخس أنه قال جوهر الزمان هو حركة المساء هذا وفاق قول المسلمين وبعضهم يقول أن الزمان ليس بشيء مع اختلاف كثير بينهم وإنما ذكر ما ذكر من مذاهبهم لتطمئن نفس الناظر إلى خلاف القائلين بالعقل والتمييز وليستفيد يقيناً بما يعضده من وفاق قولهم لأن في الإجماع قوة وهو من أوكد أسباب الاستظهار عليهم، وجد المكان ما اعتمد عليه الجسم أو أحاط به أو حله العرض وهذا أراده ارسطاطاليس حيث قال المكان نهاية المحتوى الذي يماس ما يحتوي عليه واختلفوا في الخلاء والفضاء فقال قوم العالم لا خلاء فيه وإن الهواء جسم منتشر بسيط ويمتحن بالآلة التي هي على هيئة الرطل في أسفلها وإذا فتح سال فعقل أن الماء دفعة دافع وهو الهواء الداخل في الكوز وقال آخرون لا يخلو الأجسام من خلاء وهو الفرج بين الأجزاء واستدلوا بالماء الذي يصب على الأرض فيغوص فيها وفرق قوم بين الفضاء والخلاء فقالوا الخلاء هو الفراغ من الجسم والفضاء هو المحتوى على الخلاء بلا نهاية ويزعم قوم أن الخلاء والفضاء شيء واحد ويقول آخرون أنه ليس بشيء وحد المتغايرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر وقال بعضهم حدهما ما اختلف أوصافهما وحد الضدين ما لا يجوز وجود أحدهما إلا مع عدم الآخر وحد الموجود ما ثبت علماً أو حساً بالتمييز من جنسه والصفة كالاسم في بعض الأحوال إلا أن خاصية حدها الأخبار عما في الشيء كالعلم في العالم وقد يفرق قوم بين الوصف قول الواصف ذلك وحد الإرادة ما يضطمره الإنسان في قلبه من فعل أو قول أو حركة وحد القول ما يبديه القائل بلسانه وقد يقال للإشارة قول على المجاز وحد المعنى عقد القلب على ما أبدى بلفظه فزعم ابن كلاب أن معنى القول نفس القول ولو كان كذلك ما سأل السامع القائل ما معنى قولك وحد الحركة زوال وانتقال وهي على ضروب فمنها الحركة الذاتية والمكانية وقد قيل الحركة اختلاف وتغيير وحد السكون لبث واستقرار وزعم بعضهم أن السكون ليس بشيء وحد الجنس ما يجمع أشياء مختلفة الصور كالحيوان والنبات وقد قيل الجنس ما استوعب الأنواع وحد النوع تخصيص النظائر من الجنس والشخص تمييز الذات من النوع والشخص تحت النوع والنوع تحت الجنس وهذا المقدار من هذا الباب لإغناء بأحد عن مطالعته فإنه كالماد للنظر والآلة للجدل.

القول في الأضداد، أقول أن قول من يزعم أن الشيء لا يعرف إلا بضده محال لأن معرفة الشيء بحدوده ودلائله بل شكله ونظيره أسكن من معرفته بضده ونديده لأن الشيء يدل على جنسه ونوعه ما لا يدل على ضده ولكن الضدين لا يجتمعان وعند صحة الشيء فساد ضده ولا يقع التضاد إلا بين الموجودات فبطل قول القائل أن ضد الجسم لا جسم وضد العرض لا عرض وضد الزمان لا زمان وضد المكان لا مكان وضد الشيء لا شيء لأن الأضداد أشياء متنافية وقل القائل لا جسم ولا عرض لا شيء في الحقيقة فكيف يضاد الشيء بلا شيء ولكن الأجسام والأعراض أشياء مضادة كالأسود ضد الأبيض والقديم ضد المحدث لأن القديم الموجود لا إلى أول والحادث ما يوجد بعد أن لم يكن.
القول في حدث الأعراض، أقول أن معرفة حدث الأعراض من أوائل العلوم القائمة في النفس البديهة وما المنكر لها إلا بمنزلة المنكر للظاهر المحسوس لمعاينتنا تعاقب الألوان المتضادة على الأجسام كالسواد بعد البياض والبياض بعد السواد وكذلك الروائح المتضاد كالكريهة والطيبة وسائر الحالات التي لا يخلو الجواهر منها كالحر والبرد والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة والحركة والسكون والاجتماع والاقتران والافتراق والطعوم والملاذ والمكاره وما نجده من أنفسنا من الحب والبغض والإرادة والكراهية والشوق والملامة والجين والشجاعة والقوة والضعف والشبيبة والمشيب والنوم واليقظة والجوع والشبع وما نراه من حال القيام والقعود والقرب والبعد والحياة والموت والفرح والحزن والرضا والغضب وسائر العوارض التي تطرأ على الأجسام وبعد أن لم يكن وتزول بعد أن كانت وهذا باب يستكمل جميع أوصاف العالم وما فيه لو تكلفه متكلف لأنه الدليل على الحدث والكون وقليل الشيء يدل على كثيره فإن زعم زاعم أن هذه الأعراض أجسام طولب بالفصل بين الحامل والمحمول ولابد من التفصيل بينهما ثم من الدليل على أن العرض غير الجسم جواز الاختلاف عليه وعين الجسم باقية كالبسرة الخضراء مثلاً تراها تصفر فتبطل خضرتها ثم تحمر بعد صفرتها وعينها قائمة وكالراضي يغضب فيختلف حاله وعينه لا تختلف والشاب يشيب والحي يموت فلما لم يجز أن يقال لمن قد شاب أنه ليس بذاك الشاب ولمن مات أنه ليس بذاك الحي مع ورود حال وارتفاع حال أخرى عقل أن العرض ليس بجسم ولا بعض الجسم لأنه لو كان كذلك لتغير الجسم كما تغير الأعراض الحادثة فإذا ثبت أن الأعراض غير الأجسام وجب إن ننظر أحادثة هي أم قديمة فلما رأيناها كائنة بعد أن لم تكن وزائلة بعد أن كانت دلنا ذلك على حدوثها وكونها كوجودنا الجواهر متفرقة بعد أن كانت مجتمعة ومجتمعة بعد أن كانت متفرقة ولن يخلو أن تكون مجتمعة بأنفسها أو باجتماع فيها فإن كانت مجتمعة لم يجز وجودها متفرقة ما دامت أنفسها قائمة فعلمنا أنها مجتمعة باجتماع ثم نظرنا أذلك الاجتماع جوهر أو عرض فدلنا أنه لو كان جوهراً لكان مجتمعاً باجتماع آخر ثم كذلك إلى ما لا نهاية فلما بطل ما قلنا علمنا أنه مجتمع باجتماع هو عرض لا جوهر وكذلك القول في الحركة والسكون فإن قيل أن الأعراض كانت كامنة في الجسم ثم ظهرت بعد ظهورها حادث أم غير حادث مع استحالة أن يكون الاجتماع والافتراق والحركة والسكون كامنة في الجسم فيكون الجسم في حال واحدة ووقت واحد ساكناً متحركاً ومجتمعاً متفرقاً فإن التجأوا إلى مذهب من يقول بالهيولى وأنه كان جوهراً قديماً لم يزل خالياً من الأعراض ثم حدثت فيه الأغراض فحدث فيه هذا العالم بما فيه قيل لا يخلو حدوث الأعراض فيه من أن يكون كانت كامنة فظهرت أو كانت في جوهر آخر فانتقلت أو لم تكن بتة فأحدثت فلما استحال كمون الأعراض في الجوهر الذي يزعمونه خالياً من الأعراض أن يكون مثل أجسام العالم أو دونها أو أعظم منها أو يكون جزءاً لا يتجزأ أو كيف ما كان فإن الصغر والكبر والمثل أعراض لم ينفك منها ولم ينفك من الحوادث فحادث، واعلم أن أحكام هذا الفصل من الفرض الواجب والحق اللازم وخاصة معرفة حدث الأعراض وإن الجوهر لا ينفك منها لأنها الدليل الظاهر على الحدث والحادث والاختراع ونسأل الله التوفيق والتسديد وأن يعصمنا برحمته ويزيدنا بصيرة في طاعته.

القول على أهل العنود ومبطلي النظر، أقول أن طائفة من الجاحدين سماهم السوفسطانية معنى هذه اللفظة عندهم المموهون الممخروقون وقد سماهم ارسطاطاليس الملحدين أبطلوا العلوم كلها رأساً وزعموا أن لا حقيقة لشيء من العلوم والمعلومات فأنكروا موجود الحواس ومعقول البدائه ومستنبطات الاستدلال وزعموا أن الأشياء على الخيلولة والحسبان وكما يراه النائم في المنام وقد أعرض كثير من الناس عن مناظرتهم وعيت على من اشتغل بالرد عليهم لأن ما أنكروه ضرورة المشاعر والبدائه التي يستغنى فيها عن الدليل لأنها أصل العلوم ومتى ذهب ذاهب يدل على صحته فقد أوجب الدليل لما لا يحتاج فيه حتى يقوده ذلك إلى ما لانهاية له وناقضهم من ناقضهم مرئي العامة فساد مذهبهم فقال الحس أوجدكم ما تدعون أم النظر قادكم إلى ما تزعمون فإن ادعوا الحس كذبهم العيان وإن ادعوا النظر قالوا لعلكم غالطون في نظر عقولكم ولعل نظر مخالفيكم يدل على خلاف نظركم فإن سلموا الأمر لزمهم أن لا يناظروا مخالفاً ولا يخطؤا مخطئاً ولا يحمدون محسناً ولا يذموا مسيئاً وهذا خلف من القول ووهن في الرأي وإن ادعوا ترجيح نظرهم فقد اثبتوا النظر ونقضوا الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم وقد احتبس هذا الرأي صنفان من هذه الأمة مقلد مبطل النظر ومدعي أن لا دليل على النافي فلزمهما من ذلك ما لزم أصحاب العنود وقيل لهم أبنظر وحجة أفسدتهم نظر العقول وحججها أم بغير حجة فإن قالوا بنظر فكيف يبطلون النظر وهم يثبتونه وإن زعموا بغير نظر فالسؤال والجواب من النظر ولا يلقى به من ليس من أهل النظر وكل كلام من غير نظر فجحود أو عنود أو سهو أو غلط أو عبث وبمثله يقابل الزاعم أن لا دليل على النافي ثم نفيت الدليل مع أنك مع نفيك ما نفيته أحد المدعيين إذ أنت لو عارضك خصمك بمثل قولك وابطل دعواك ثم إذا طالبته بتصحيح مذهبه أحال على مذهبك فهل غير إثبات الدعويين أو إسقاطهما ولنظار أهل الإسلام وفقهائهم حجاج كثيرة في هذا الباب وليس هذا من غرض هذا الكتاب ومما يستدل به على وجوب النظر أنه لما لم تكن الأشياء كلها موجودة حقاً ولا كلها باطلة حقاً ولكن حقاً وباطلاً ثم وجد الاختلاف فيها شائعاً على النظار إما من عالم معاند أو جاهل عاجز ولم يكن الأخذ به على اختلافه وجب عليه بالنظر الذي يميز بين الحق والباطل وأيضاً لما لم تكن الأشياء كلها ظاهرة لأنها لو ظهرت لما جعل شيء ولا كانت خفية لأنها لو خفيت كلها لما علم شيء وكان منها ظاهر جلي وباطن خفي وجب طلب علم ما خفي منها ولا يوجد ذلك إلا بالنظر.
القول في مراتب النظر وحدوده، أقول أن العلماء الذين وطأوا للنظار سبيل النظر ومهدوا لهم سبيل الجدل أضربوا في ذلك حد من تعداه أو قصر دونه تبين تنكبه وتعسفه وخلل مذهبه وفساد بينته فجعلوا السؤال أربعة أقسام لا يقع فيها صدق ولا كذب لأنها استخبار عن مائية المذهب أولاً ثم عن الدليل ثم عن العلة ثم عن تصحيح العلة وذلك نهاية فصول النظر واستقرار صحة الدعوى وفسادها وقابلوا أقسام السؤال بعددها من الجواب وكلها أخبار تحتمل الصدق والكذب الإخبار عنه بما ليس فيه والسؤال أحد الشيئين إما الجهل به وإما إمتحان المسئول عنه والجواب يوجب القبول والتسليم والرد والإنكار بمعارضة أو مطالبة بالدليل والدليل يوجب العلة والعلة تحقق الجواب إذا طردت صحت وحيثما انتهى الخصم وسلم انتهى الكلام.

القول في علامات الانقطاع، أقول المناقضة والانتقال والعجز عن بلوغ الغاية وجحد الضرورة ودفع المشاهدة والاستعانة بالغير والسكوت للعجز كلها من دلائل الانقطاع وكل سائل مخير في سؤاله متفقهاً كان أو متعنتاً أحق في سؤاله أو أحال وليست كذلك حال المجيب بل عليه القصد للحق وتعريف السائل وجه سؤال من إصابة وإحالة ولا عليه أن يجيبه عن مسئلة هي فرع لمسئلة يخالفه فيها حتى يقرره بإيجابها وتأخذ ميثاقه على القول بها لأن الخلاف إذا كان واقعاً في الأصل لم يطرد القياس في الفرع وذلك في التمثيل كسائل عن الرسالة منكر للتوحيد وإنما تصح النبوة بصحة التوحيد لأنه الموجب لها وكل سؤال يرجع إلى السائل بمثل ما يريد أن يلزمه المسئول فغير لازم لأن المعارضة فيه قائمة فطلي الدليل على الدليل والعلة على العلة إلى ما لانهاية له فاسد لأن محصول الظواهر المحسوس ومحصول البواطن المعقول وما لانهاية له غير موجود ولا معلوم ولا موهوم وقد يستحسن لابن الهذيل قوله إن صحة الصحيح وانتقاض المنقوض في جميع ما اختلف فيه المختلفون يعلم في ثلاثة أوجه أحدهما إجراء العلة في المعلول والثاني نقض العلة بالتفسير والثالث جحد الاضطرار فأما ترك إجراء العلة في المعلول فكقول الرجل فرسي هذا جواد فيقال ولم قلت ذلك قال لأني أجريته كذا فرسخاً فيقال له أكل فرس جرى في اليوم كذا فرسخاً فهو جواد فإن قال نعم أجرى علته وإن قال لا فقد نقضها وهو يحتاج إلى علة أخرى وأما نقض الجملة بالتفسير فكقول القائل إذا اشتد حر الصيفة اشتد برد الشتوة التي تليها وإذا اشتد برد الشتوة اشتد حر الصيفة التي تليها ثم يقول وقد يشتد حر الصيف ولا يشتد برد الشتاء الذي يليه فيكون قد نقض بهذا التفسير الجملة التي تقدمت لأنها لو صحت لم يشتد حر الصيف إلا باشتداد برد الشتاء أبداً وأما جحد الاضطرار ففي البدائه والحواس وذلك كسؤالنا الدهرية عن شيخ رأيناه على كرسي في هيئته وخضابه أيزعمون أنه لم يزل هكذا قاعداً في مكانه بحالة التي هو عليها من الكسوة والخضاب فإن قالوا نعم جحدوا الاضطرار بشهادة العقول بإبطالهم، وأعلم أن السكوت بعد استقرار الحق أبلغ من الكلام في الذب عنه وزيادة البيان هجنه وربما أورثت فرصة لأن الإفراط نقص وعلم بفلج الحجة ودحوصها أبلغ من إفصاحك بها لأن الشاهد شاهد القلب لا شاهد اللسان وليس كل من لزمه قول مناظره أو عجز عن جوابه في الوقت وجب عليه المصير إلى مذهب خصمه ولكن بعد التبين والتثبيت واستبراء الحال والرجوع إلى الأصول الموطودة والأعلام المنصوبة فإذا انكشف الغطاء عن وجهه وصرح المحض عن زبده وأومض الحق سيره فلا يسع حينئذ غير الإقرار والانقياد له وليس من الحق تكليف الخصم إظهار ما هو خفي في نفسه لأنه غير ممكن كما يمكنه إخفاء ما هو ظاهر في نفسه ولأن ذلك إزالة الشيء عن وجهه فهذه مقدمات قدمناها نظراً للناظر في كتابنا ونصحاً لمن احتاط لدينه وتحرز من تمويه الملحدين وتلبيس الممخرقين وخطرات المجان ووساوس الخلعاء الذين أفسد الفراغ فكرهم وأخمدت الكفاية قرائحهم وحلت عن الدقائق عقولهم وعاشت بصنوف الشهوات نفوسهم وملكهم الهزل وركبهم الجهل واسترقهم الباطل وهجرتهم الفكر وعميت عليهم مواقع النظر فاحتالوا في إسقاط التكليف عنهم ليمرحوا في ميادين الشهوات وليركبوا ما يهوونه من اللذات بإنكار علوم الأصول من البديهة والحواس والله المستعان وهو خير معين، وبعد فغن لأهل الإسلام أصولاً من لكتاب والسنة والإجماع والقياس عليها ما يقوم لهم الحجة بها بينهم ويقنعون بشهادتها ودلائلها وكذلك أهل كل ملة ودين وكتاب غير أن ذلك لتصحيح فروع دينهم وشرائع ملتهم فلذلك أضربنا عن ذكره صفحاً.
الفصل الثاني

إثبات البارئ وتوحيد الصانع بالدلائل
البرهانية والحجج الإضطرارية

أقول أن الدلائل التي تدل على إثبات الله عز وجل غير محصاة ولا متناهية في أوهام الخلائق لأنها بعدد أجزاء أعيان الموجودات من الحيوان والنبات وغير ذلك مما خفي من الأبصار لأنه ما من شيء وإن صغر جسمه ولطف شخصه إلا وفيه عدة دلائل تعبر عن ربوبيته وتصرح عن إلاهيته تصريحاً ينتفى مع أدناها الشبهة ويزاح العلة وإلى هذا المعنى نظر بعض المحدثين وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ولن يجوز غير ما قلنا لأنه لما كان هو خالق الخلق وصانع الصنع ومخترع الأعيان ومخرجها من العدم إلى الوجود لم نخل من آثار حلقه واختراعه فهي الدلائل المقترنة بها الشاهدة على صانعها ومنشئها فمن الدليل على إثبات البارئ سبحانه وتعالى أنه خلاف بين الأوائل والأواخر إن الأرض منها عامر مسكون معلوم وعامر مسكون غير معلوم وخراب مجهول غير مسكون وأن عظم المسكون المعلوم منها العرب وفارس والروم والهند وهم ذوو الآداب والأخلاق من سائر أهل الأرض لهم السير والسنن والآبين والحكمة والهمة والنظر والخصال المحمودة والعلوم المأثورة من الطب والتنجيم والحساب الخط والهندسة والفراسة والكهانة والأديان والكتب وغير ذلك مما يستعملونها في معاملاتهم وموضوعاتهم وما سواهم رعاع وهمج سافلوا الرتبة عن رتب من قدمنا ذكرهم وناقصوا الحظ من حظوظهم إما بهيمي الطبع في قلة التمييز والفطنة وإما سبعية في الجفوة والغلظة حتى أن منهم من ينزو بعضهم على بعض ومنهم من يأكل بعضهم بعضاً لعلل قد ذكرها القدماء ليس هذا موضع شرحها بقول الله سبحانه " ويخلق ما لا تعلمون " ثم إن هذه الأمم المحمودة أخلاقهم مع اختلاف أصنافهم وافتراق ديارهم وتفاوت آرائهم في المذاهب التي ابتجلوا والأديان التي اعتقدوا لم يختلفوا في وجود آثار الصانع الحكيم في هذا العالم وما يشاهدونه في أجزائه وأبعاضه واختلاف طباعه وتعاقب أعراضه فإذا صح وجود البارئ الأزلي القديم الأول السابق ببدائه العقول وشهادة النفوس واضطرار الفطرة والجاء الخلقة بذلك بني تأسيسهم وعليه بني تركيبهم إلا من شد من جاهل أو جاحد مؤوف في نفسه أو مغلوب على عقله إذ غير مفهوم ولا موهوم أثر من غير مؤثر لولا صنع من غير صانع ولا حركة من غير محرك كما يجحد الضرورة وجود كتاب بلا كاتب وبناء بلا بان وصورة بلا مصور فسبحان من لا انتهاء له إذ لا ابتداء له منه البداية وإليه النهاية مبدع القوى وممد المواد وسابق العلل ومنشىء البسائط ومركب العناصر وحافظ النظام ومدبر الأفلاك ومحدث الزمان والمكان ومحيل الأركان الحكيم العدل القائم بالقسط الناظر للخلق البرىء من المعائب الغني عن اجتلاب المنافع مدبر الأمور ومدهر الدهور أرخى على الأوهام ستور ربوبيته وضرب على مطالع العقول حب إلاهيته فليس يعرف إلا بما عرف به الخلق نفسه ولا يدرك أحد من صفاته كنهة الأبصار عن بدائع صنعه خاسئة والبصائر عن ملاحظتها نابئة والقلوب في آثار الدلائل عليه حائرة والنفوس مع حيرة القلوب إليه وإلهة والعقول عند محافظة الأشراف عليه مضمحلة متلاشية معبود في كل زمان معروف بكل لسان مذكور بكل اللغات موصوف بتضاد الصفات ليس كمثله شيء وهو السميع البصير نحمده على هدانا ولدينه اجتنابا ونشهد أن لا إله إلا الله نتميز به عن المشركين ونتزيل عدد الجاحدين ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق غير حادس ولا ساحر ولا كاهن ولا شاعر ولا محتال ولا متنب كذاب ولا مريد دنيا ولا قائل بالهدى فأبلغ وأدى وانذر وأهدى وصدع بأمر الله حتى أتاه اليقين فصلوات الله على روحه غادية وبردات رحمته مترادفة على آله أجمعين، هذا التحميد الذي وجب أن نصدر به كتابنا أخرناه إلى حيث قدرنا أنه أولى به وأليق، ومن الدليل على إثبات البارئ سبحانه وله النفوس وفزع القلوب إذا حزبت الحوادث إليه اضطراراً إذ لا يوجد مضطر وقد عضته نائبة ولدغته ناكبة يفزع إلى حجر أو شجر أو مدد أو شيء من الخلائق إلا إليه ويدعوه بما هو معروف عنده من اسم أو صفة هذا مشاهد عياناً كما تفزع النفس عند المكاره المخوفة إلى طلب المهرب والنجاة وكما يفزع الطفل إلى ثدي أمه ضرورة وخلقه كذاك الله في معرفة خلقه إياه لأن أثر الدلالة في الخلق عليه أعظم من أثر الطبع إلى مالا يلائمه وينافره ولا يمكن للملحد المنكر وإن غلا وتعمق في الإلحاد والامتناع في

معرفة الله وإجراء ذكره واسمه على لسانه شاء أم أبى في حال عمده ونسيانه لأن قلبه ولسانه على ذلك الخلق كما أ طبعه على الميل إلى المحبوب والازورار عن المكروه حبل ومن الدليل على إثبات البارئ جل وعز أنه لا يخلو لسان أمة من الأمم في أقطار الأرض وآفاقها إلا وهم يسمونه بخواص من أسمائه عندهم ومستحيل وجود اسم لا مسمى له كاستحالة وجود دليل على غير مدلول عليه بل المدلول موجب لدليل كذلك المسمى موجب الاسم وما هو في التمثيل إلا بمنزلة الحامل والعرض المحمول فكما يستحيل وجود عرض إلا في جوهر كذلك يستحيل وجود اسم إلا لمسمى فمن ذلك قول العرب له الله مفرداً من غير أن يشاركوه في هذا الاسم بأحد من معبوداتهم لأنه خاص لهم عندهم وكانوا يطلقون على غيره على التنكير وأما الرب بالتعريف والرحمن فلم يكونوا يجيزونه إلا لله تعالى وإنما تسمى مسيلمة الكذاب بالرحمن مضادة لله جل وعز ومعاندة لرسوله عليه السلم ذلك مشهور مستفيض في قوافي أوائلهم قبل قيام الإسلام فمن ذلك قول بعضهم في الجاهلية:رفة الله وإجراء ذكره واسمه على لسانه شاء أم أبى في حال عمده ونسيانه لأن قلبه ولسانه على ذلك الخلق كما أ طبعه على الميل إلى المحبوب والازورار عن المكروه حبل ومن الدليل على إثبات البارئ جل وعز أنه لا يخلو لسان أمة من الأمم في أقطار الأرض وآفاقها إلا وهم يسمونه بخواص من أسمائه عندهم ومستحيل وجود اسم لا مسمى له كاستحالة وجود دليل على غير مدلول عليه بل المدلول موجب لدليل كذلك المسمى موجب الاسم وما هو في التمثيل إلا بمنزلة الحامل والعرض المحمول فكما يستحيل وجود عرض إلا في جوهر كذلك يستحيل وجود اسم إلا لمسمى فمن ذلك قول العرب له الله مفرداً من غير أن يشاركوه في هذا الاسم بأحد من معبوداتهم لأنه خاص لهم عندهم وكانوا يطلقون على غيره على التنكير وأما الرب بالتعريف والرحمن فلم يكونوا يجيزونه إلا لله تعالى وإنما تسمى مسيلمة الكذاب بالرحمن مضادة لله جل وعز ومعاندة لرسوله عليه السلم ذلك مشهور مستفيض في قوافي أوائلهم قبل قيام الإسلام فمن ذلك قول بعضهم في الجاهلية:
ألاَ ضَرَبَتْ تِلكَ الفَتَاةُ هَجِينَهَا ... ألا قَطَعَ الرَّحمنُ منها يَمِينَهَا
فأضاف فعل القطع إلى الرحمن لأنه أراد به الدعاء وعلم أنه لا يجيب الدعاء إلا الله وقول أمية بن أبي الصلت:
والحَيَةُ الحَتْفَةُ الرِّقشاء أخرجها ... مِنْ جُحرها آمنات الله والقَسَمُ
إذا دَعَا باسمه الإنسان أو سَمِعَتْ ... ذَاتَ الإله يُرَى في سَعْيِهَا زَرَمُ
وإنما أتينا بهذا البيت حجة لإثبات اسم الإلاهية لا لرقية الحية وقول زيد بن عمرو:
إلى الله أهدى مدحتي وثنايايا ... وقولاً رصيناً لابني الدهر باقيا
إلى المَلِكَ الأعلَى الذي ليس فوقَهُ ... إلهٌ ولا ربٌّ سواه مُدَانِيا

وقول فارس هرمز وايزد ويزدان ويزعمون أن عبادتهم النار يقرب إلى البارئ عز وجل لأنها أقوى الإسطقسات وأعظم الأركان كما قال مشركوا العرب في عبادتهم الأوثان ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ولا يجوز أن يكون غير هذا حالة من يعبد شيئاً من دون الله لأنه يعلم أن معبوده من خشب أو حجر أو نحاس أو ذهب أو شيء من الجواهر غير خالقه ولا صانعه ولا مدبر أمره ولا محوله ولقد دخلت بيت نار خوز وهي كورة من كور فارس قديمة البناء وسألتهم عن ذكر البارئ في كتابهم فأخرجوا إلى صحفاً زعموا أنها الأبسطا وهو الكتاب الذي جاءهم به زردشت فقرءوا علي بلسانهم وفسروه علي بمفهومهم الفارسية فيكمازهم بهسته هرمز وبشتاسبندان فكمازهم رستخيز قالوا وهرمز فني فقم وقول الأعاجم بلسان الدرية خذاي وخذاوند وخذايكان وقد سمعت غير واحد قال في تأويله خذست وخوذبوذ منعاه أنه هو بذاته لم يكونه مكون ولا يحدثه محدث وقول الهند والسند شيتاوابت ومهاديو وأسماء كثيرة غير هذه يصفونه بخواص أفعاله وقول الزنوج ملكوي وجلوي قالوا معناه الرب الأعظم وقول الترك بين تنكري بعنون الرب واحد وزعم بعضهم أن تنكري اسم لخضرة السماء فإن كان كما ذكروا فإنهم قد أمنوا بالمعنى المطلوب من الإلهية وإنما شكوا في الصفة وقال بعضهم تنكري هو السماء واسم البارئ عندهم بالغ بايات معناه الغنى الأعظم وقول الروم والقبط والجبشة وما يدانيها من البلدان بالسريانية لأن عامتهم نصارى لاها ربا قدوسا ولا فرق بين السريانية والعربية إلا في أحرف يسيرة فكأن السريانية سلخت من العربية والعربية سلخت من السريانية وقول اليهود بالعبرانية ايلوهيم ادناي اهيا شراهيا ومعنى ايلوهيم الله وأول التورية برشيت بارا ايلوهيم يقول أول شيء خلقه الله هذا الذي عليه معظم الأمم والأجيال من أهل الكتاب وغيرهم فأما أقاطيع الناس في مجاهيل الأقاليم فمن يحيط بلغاتهم إلا الذي خلقهم وقسم بينهم ألسنتهم وسمعت قوما من برجان يسمونه ادفوا فسألتهم عن اسم الصنم فقالوا فع وسألت القبط من صعيد مصر عن اسم البارئ بلغتهم فزعموا أحد شنق كذا ظني والله أعلم.

ومن الدليل على إثبات البارئ سبحانه هذا العالم بما فيه من عجيب النظم وبديع الترتيب ومحكم الصنع ولطيف التدبير والاتساق والإتقان فلا يخلو من ثلثة أوجه إما أنه لم يزل كما هو وإما أنه لم يكن فكان بنفسه وإما أنه كونه مكون هو غيره فلما استحال أن يكون قديماً لم يزل لمقارنة الحوادث إياها وإن لم يخل من حادث فحادث مثله واستحال أن يكون الشيء نفسه لاستحالة الكائن أن يبقى نفسه فكيف يجوز توهم المعدوم من أن يتركب فيصير عالماً لم يبق غير الوجه الثالث وهو أنّ كوّنه مكوّنٌ هو غيره غير معدوم ولا محدث وهو البارئ جلّ جلاله واعلم أن البارئ عزّ وجلّ ليس بمحسوس فيحصره الحواسّ ولا معلوم بالإحاطة فيدرك كيفيّته وكميته وأينيّته ولا مقيّس بنظير له أو شبيه فُيعلم بأكثر الظنّ والحزر ولا موهوم بصورة من الصّوَر لكنّه معروف بدلائل أفعاله وآيات آثاره موجود في العقول لا غير ولا تُوجَدُ آثاره وأفعاله إلاّ في خَلْقه ومن الدليل على إثبات البارئ سبحانه تفاضل الخلق في الدرجات والطباع والهمم والإرادات والصُوَر والأخلاق وتمايز الأشخاص والأنواع من أجناس الحيوان والنبات فلو أنها مكونة بالطباع لاستوت أحوالها وتكافأت أسبابها وكانت تكون في أنفسها مختارة ولما يُوجَد فيها ناقص ولا عاجز ولا مذموم ولا متأخّر عن درجة صاحبه فلمّا وجدنا الأمر بخلافه علمنا أنّ مدبّراً دبّره ومرتّباً رتّبه وهو البارئ سبحانه، وقد قلنا في صدر هذه المقالة إن عدد الدلائل عليه تعالى وتقدّس غير محصاة ولا متقصّاة لأنّك لو عمدتَ إلى أصغر شخص من أشخاص الحيوان وأعلمتَ فكرك في تعداد ما يوجدك من آثار صُنع الصانع فيه لرجعت حسيراً عَييًّا وأعجزتك حُجَج البارئ جلّ وعز وحيّرتْك آثار صُنعه وذلك في المثل كناظر في بَعُوضةٍ أو نملةٍ أو ذُباب كيف بنى البارئ جلّ وعزّ جسمه في لطفه وصغر أجزائه وكيف أطلق له القوائم والأجنحة وكيف ركّب فيه من الأعضاء ما لو فُرِّقَتْ لما كان الطَرْف يدركها ولا الوهم يمسّها ولا الحاسّة تحدها وكيف ركّب فيه من الطبائع ما تمّ به قوام أركانه واستواء نظامه وكيف أودعه معرفة ما فيه صلاحه من طلب منافعه واجتناب مضارّه وكيف سلك في جوفه مداخل غذائه ومنافذ طعامه مع خفّة جسمه وقلّة ذاته وكيف حمل عليه الأعراض وصبغته بألوان الصِبْغ وكيف ركّب الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والصوت والصورة وكيف ركّب فيه العين بل كيف ركّب في عينه البصر هذا في صغار هوّام ما يتولّد وإن كان طبع الزمان علّةً لبعثه وإثارته فإنه لم يتركب هذا التركيب العجيب والنضيد الأنيق إلاّ من تدبير قادر حكيم وكذلك لو نظر إلى أدون نبت من النبات وما جُمع فيه من اختلاف ألوانه من نَورْ وورقه وفرقه وجذعه وعرقه واختلاف طعوم أجزائه ورائحتها ومنافعها ومضارها لدلّ ذلك على تدبير قادر حكيم وكيف لو رجع إلى نفسه فنظر إلى كمال صورته وحسن هيئته واعتدال بنيته مع ما خُصَّ به من الحكمة والعلم والفطنة والبحث والفكرة بلطيف الأُمور وجليلها وحذقه بأنواع الصناعات وحسن اهتدائه إليها وخبرته بالأمور الغامضة واستيلائه على جميع الحيوان بفضل عقله وزيادة فطنته ثم هو مع ما وصفناه به من الكمال والتمام مبني على الضعف والحاجة إلى ما صغير ما في العالم وكبيره مضمن بالنَصَب والتعب عاجز عن دفع ما يحلّ به من الآفات جاهل بأسباب كونه وتصرفه في نشوه ونمائه وزيادته ونقصانه محتاج إلى ما يقيمه ويعينه لدلّه ذلك على تدبير قادر حكيم وكذلك إذا نظر إلى هذا العالم وما يرى فيه من سواهد التدبير وآثار التركيب في الهيئة والشكل والصُور مع اتّصال بعضه في بعض وحاجة بعضه إلى بعض من اعتقاب الحرّ والبرد واختلاف الليل والنهار واتفاق الأركان وتقاومها على تضادّها وبيانها على أنّه من تدبير قادر حكيم ولو جاز لمتوّهم أن يتوهّم حدوث هذا العالم من غير محدث لجاز لغيره أن يتوهّم وجود بناء من غير بانٍ وكتابةٍ من غير كاتب ونقش من غير نقّاش وصورةٍ من غير مصوّر ولساغ له إذا نظر إلى قصر مشيّد وبناء وثيق أن يظنّ أنّه انساب إلى كومة من الترب مجتمعة لم يجمعها جامعٌ فاختلط بها من غير خالط حتّى التفّت ونديت ثم انسكبت لبناً على أكمل التقدير وآآنق التربيع من غير سابق ولا ضارب ثم تأسّس أساس القصر وتمكنت قواعده وارتفعت ساقاته وأعراقه

حتّى إذا تطاولت حيطانه وتكاملت أركانه وتطايرت اللبن وتراكمت على حواشيها وتناضدت أحسن التراكم والتناضد ثم تساقطت الجذوع والجوائز من أشجارها على قدر البيوت والخطط والمحتطّة للأبنية بلا حاصد لها ولا عاضد ثم انتجرت بلا ناجر وانتشرت بلا ناشر واسفنت بلا سافن فلما تهيّأ منه الكمال واستقام المائل ترفّعت بأنفها فانغرزت في مغارزها وتسقفت فوق بيوتها وفاقت أساطينها تحتها ثم انطبقت عليهما صفائحها وانتصبت أبوابها فانغلقت بذاتها ثم تكلّس القصر وتسيّع وتبلّط وتجصًّص وتنقّش بأنواع التزاويق والنقوش واستوى أمره وشاد بناؤه واجتمع متفرّقه على أحسن التقدير وأكمل التدبير حتَّى لا تعرّى منه ناحية ولا لبنة ولا قصبة إلا ومفهوم للناظر إليه موضع الحكمة والحاجة إليه من غير فاعل فعله ولا صانع صنعه ولا ساعٍ سعى فيه ولا مدبّر دبّره وكذلك لو نظر إلى سفينة مشحونة موقّرة بألوان الحمولات وأصناف السِلَع راكدة في لُجّة البحر أو سائرة أنها تركّبت ألواحها وأعضادها وتسمّرت مساميرها ودُسُرها وانضمّت حتّى اسفنت بذاتها ثم نقلت الحمولة إلى نفسها حتّى امتلأَت ثم ركدت في الماء فسافرت عند الحاجة وكذلك لو نظر إلى ثوب منسوج أو ديباج منقوش أنه انحلج قطنه وخلص قزّه ثم انعزل وانفتل وانصبغ والتأمت الوشائع وامتدّت الأشراع والتفّت إلى منوالها وانضمّت الخيوط بعضها إلى بعض فانتسج وانتقش فإذا لم يجُزْ هذا المتوهّم فكيف يتوّهمه على هذا العالم العجيب النظم الباهر التركيب فإن ذهب ذاهبٌ إلى الفرق بين تركيب العالم وتركيب ما يركبّه الإنسان بأنّ العادة لم تجوّز بابتناء الدور وانتساج الأثواب وانصباغ الأواني ولم يوجد مثل ذلك في الامتحان والطبائع قيل فكيف جوّزتم ما هو أعجب ممّا ذكرنا وأعظم من غير فاعل مختار ولا حكيم قاد فإن زعم أنّ تركيبّ هذا العالم على هذا النظم والتركيب من فعل الطبائع فالطبائع إذاً أحياء قادرة حكيمة عالمة ولم يبق بيننا وبينه من الخلاف إلى تحويل الاسم وتغيير الصفة وإن أنكر حياة الطبعة وحكمتها وقدرتها فكيف يجوز وجود فعل محكم متّقن من غير حكيم حيٍّ قادر فإن زعم بالحدّ والاتّفاق على هذا الاتّساق غيرُ موهوم وإنّما وقوعه في النوادر ولو حاز ذلك لجاز أن من له ساحة ولا بناء فيها ولا عمارة يتّفق اتّفاق ليلة فتُصبح مبنيّة دوراً مغروسة أشجاراً على أحسن الأبنية وأعجب التركيب ولا محيص للحد من حجج الله وآياته فكيف وهو حجّة بنفسه ولغيره وليس نورد من هذا الباب هاهنا إلا ما يضاهي الفصل وما يصّح ويحلّ دون ما يغمض ويدقّ لأن من عزمنا أن نبالغ في الاستقصاء والإيضاح لهذه المسائل في كتاب سمّيناه بالديانة والأمانة شكراً لمن أنعم علينا بالتوحيد ومناضلةً عن الدين وتبصّراً للمستبصرين ومن عند الله التوفيق، واعلم أنّه لو جاز أَنْ يُوجَد شيءٌ من الأَجسام لا من خلق الله لجاز أن يوجد عارياً من دلالة عليه فإذا لم يوجد إلا من خلقه لم يخلُ من دلالة عليه فإن قيل وكيف يعلم أَنَّه مصنوع مخلوق قيل بآثار الحدث فيه فإن قيل فما آثار الحدث قيل الأعراض الّتي لا تعرى الجواهر منها من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون واللون والطعم والرائحة وغير ذلك فإن أنكر الأعراض وحدوثها كُلّم بما ذكرناه في موضعه من الفصل الأوّل فبحدوث الأعراض يصحّ حدوث الجسام وبحدوث الأجسام يصح وجود المحدث البارئ لها سبحانه ولقد قرأتُ في بعض كتب القدماء إن ملكاً من ملوكهم سأَل حكيماً من الحكماء ما أدلُّ الأُمور على الله فقال له الدلائل كثيرة وأَوّلها مسئلتك عنه لأنّ السؤال لا يقع على لا شيء قال الملك ثم ما ذا قال شكّ الشاكّين فيه فإنّما يشكّ فيما هو لا فيما لا هو قال الملك ثم ما ذا قال وله الفطن إليه الذي لا يستطيع الامتناع منه قال الملك زدني قال حدوث الأشياء وتنقّلها على غير مشيّتها قال زدني قال الحياة والموت الّذان يسمّيهما الفلاسفة النشؤ والبِلَى فلستَ واجداً أحداً أحيا نفسه ولا حيّاً إلا كارهاً للموت ولن ينلْ منهم يعني لا ينجو قال زدني قال الثواب والعقاب على الحسنة والسيئة الجاريان على ألسنة الناس قال زدني قال أّجِدُ مزيداً، وجاء في الأخبار أن بني إسرائيل اختلفوا في هذا الباب ففزعوا إلى عالم فسألوه بِمَ عرفت البارئ قال بفسخ العزم ونقض الهمّة وكُتُب الله

المنزّلة مملؤة بدلائل الإثبات والتوحيد تأكيداً للحجّة لأنّه موضوع في نفس الفطرة وخاصّةً القرآن وقال الله لرسوله حيث سُئِل عن الدلالة عليه إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَات والأرض واختلاف الليل والنهار والفُلْك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كلّ دابّة وتصريف الرياح والسحاب المُسًّخر بين السماء والأرض لآياتٍ لقومٍ يعقلون فدلّ على نفسه بخواص أفعاله ومعجزات آثاره التي لا سعى لغيره في شيءٍ منها وقال ولقد خلقنا الإنسان من سُلالة من طين ثُمَّ جعلناه نطفةً في قرارٍ مكين إلى قوله فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ هل ترى أحداً يدّعى فعل شيء من ذلك وقال أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرض وأَنْزلَ لكم مِنَ السَّماءِ مَاءً فأنبتنا به حدائقَ ذاتَ بَهْجةٍ ما كان لكم أَنَ تُنْبِتُوا شَجَرها أَإِلَهٌ مع اللهِ بَلْ هُمْ قومٌ يَعدِلُون، أَمَّنْ جعلَ الأَرضَ قَرَاراً وجعلَ خِلالَها أَنْهاراً وجعل لها رواسِيَ وجعل بَيْنَ البحرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مع الله إلى آخر الآى الخمس وقوله أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُون، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، دلّهم على نفسه بصُنعه بإِعجازهم في آخر الآيات فَلَوْلاَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مُدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وتكلّف غير ما في كتاب الله فضل لأنّه معرض ممكن لمن تدبّره وتأمّله وقال وَفِي أنفسكم أفلا تبصرون إنكم توجدوها ولم تحدثوها ولستم تملكون شيئاً من أمرها من الصحة والسقم والشباب وقال سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق يعني بما ضمّنها من آثار الصنع وشواهد التدبير ودلائل الحدث ورُوينا في حديث أنّ رجلاً سأل محمّد بن عليّ أو ابنه جعفر بن محمّد يا ابن رسول الله هل رأيت ربّك حين عبدته فقال ما كنت لا أعبدُ ربًّا لم أرَه فقال الرجل وكيف رَأيته قال لم تَرَه العيون بمشاهدة العيان ولكن رأَتْه القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك بالحواسّ ولا يقاس بالقياس معروف بالدلالات موصوف بالصفات له الخلق والأمر يُعزّ بالحقّ ويُذلَ بالعدل وهو على كلّ شَيءٍ قدير وسُئِل عليّ بن الحسين رضى الله عنهما متى كان ربّك قال ومتى لم يكن ربّنا وحُكى عن بعض الحكماء أنّه كان يقصّر الناس على هذا القدر من التوحيد ولم يرخص لهم الخوض في أكثر منه فيقول التوحيد أربعة أشياء معرفة الوحدانيّة والإقرار بالربويّة وإخلاص الالهيّة والاجتهاد في العبوديّة وكانت حكماء العرب في كفرها وجاهليّتها يُشيرون إليه في أشعارهم ويمدحونه بالآئهِ ونعمائه فمن ذلك قول زيد بن عمرو بن نفيلنزّلة مملؤة بدلائل الإثبات والتوحيد تأكيداً للحجّة لأنّه موضوع في نفس الفطرة وخاصّةً القرآن وقال الله لرسوله حيث سُئِل عن الدلالة عليه إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَات والأرض واختلاف الليل والنهار والفُلْك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كلّ دابّة وتصريف الرياح والسحاب المُسًّخر بين السماء والأرض لآياتٍ لقومٍ يعقلون فدلّ على نفسه بخواص أفعاله ومعجزات آثاره التي لا سعى لغيره في شيءٍ منها وقال ولقد خلقنا الإنسان من سُلالة من طين ثُمَّ جعلناه نطفةً في قرارٍ مكين إلى قوله فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ هل ترى أحداً يدّعى فعل شيء من ذلك وقال أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرض وأَنْزلَ لكم مِنَ السَّماءِ مَاءً فأنبتنا به حدائقَ ذاتَ بَهْجةٍ ما كان لكم أَنَ تُنْبِتُوا شَجَرها أَإِلَهٌ مع اللهِ بَلْ هُمْ قومٌ يَعدِلُون، أَمَّنْ جعلَ الأَرضَ قَرَاراً وجعلَ خِلالَها أَنْهاراً وجعل لها رواسِيَ وجعل بَيْنَ البحرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مع الله إلى آخر الآى الخمس وقوله أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُون، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، دلّهم على نفسه بصُنعه بإِعجازهم في آخر الآيات فَلَوْلاَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مُدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وتكلّف غير ما في كتاب الله فضل لأنّه معرض ممكن لمن تدبّره وتأمّله وقال وَفِي أنفسكم أفلا تبصرون إنكم توجدوها ولم تحدثوها ولستم تملكون شيئاً من أمرها من الصحة والسقم والشباب وقال سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق يعني بما ضمّنها من آثار الصنع وشواهد التدبير ودلائل الحدث ورُوينا في حديث أنّ رجلاً سأل محمّد بن عليّ أو ابنه جعفر بن محمّد يا ابن رسول الله هل رأيت ربّك حين عبدته فقال ما كنت لا أعبدُ ربًّا لم أرَه فقال الرجل وكيف رَأيته قال لم تَرَه العيون بمشاهدة العيان ولكن رأَتْه القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك بالحواسّ ولا يقاس بالقياس معروف بالدلالات موصوف بالصفات له الخلق والأمر يُعزّ بالحقّ ويُذلَ بالعدل وهو على كلّ شَيءٍ قدير وسُئِل عليّ بن الحسين رضى الله عنهما متى كان ربّك قال ومتى لم يكن ربّنا وحُكى عن بعض الحكماء أنّه كان يقصّر الناس على هذا القدر من التوحيد ولم يرخص لهم الخوض في أكثر منه فيقول التوحيد أربعة أشياء معرفة الوحدانيّة والإقرار بالربويّة وإخلاص الالهيّة والاجتهاد في العبوديّة وكانت حكماء العرب في كفرها وجاهليّتها يُشيرون إليه في أشعارهم ويمدحونه بالآئهِ ونعمائه فمن ذلك قول زيد بن عمرو بن نفيل

وَأَنت الذي من فضل من ورحمة ... بعثت إلى موسى رسولاً مناديا
فقلت له فأذهب وهارون فادعو ... إلى الله فرعون الي كان طاغيا
وقولا له أأنت سمكت هذه ... بلا عمد حتى استقرت كما هيا
وقولا له أأن سويت هذه ... بلا وتد حتى اسقرت كما هيا
وقولا له من يرسل الشمس غدوةً ... فتصبح ما مست من الأرض صاحيا
وقولا له من ينبت الحي والثرى ... فتصبح منه البقل يهتز راسيا
وكان يقول
وأسلمت وجهي لمن اسلمت ... له الأرض يحمل صخراً ثقالا
دحاها فلما رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا
إذا هي سوقت إلى بلدة ... أطاعت فصبّت عليها سجالا
فجعل يصفه بالصفات الّتي يَعجز عنها المخلوقون معرفةً منه باستحالة فعل لا من فاعل وأذكُر أَنّي سألتُ بعضَ الأَعاجم بنواحي سنجار على نواحي المُزاح والمهازلة إذ ْ كنت أراه جلف الجثّة ثقيل اللهجة ما الدليل على أنّ لك خالقاً قال عجزي عن خلق نفسي فكأنما ألقمت حجراً وما شبّهتُه إلاّ بخبر عامر بن عبد قيس إذ خرج عليه عثمان بن عفّان رضى الله عنه وهو في شملّة اشعث اغبر في زي الأعاريب فقال أين ربّك يا اعرابي قال بالمرصاد فهال ذلك عثمان فارعد له ومن ذلك قول صرمة بن انس بن قيس قبل الإسلام:
وله الراهبُ الحبيس تراه ... رهن يونس وكان ناعم بال
وله هودت يهود وكانت ... كل دين وكل أمر عضال
وله شمس النصارى وقاموا ... كل عيدٍ لهم وكل احتفال
وله الوحش في الجبال تراه ... في حقاف وفي ظلال الرمال
يعني أنّ من مخافته هُوِدّت اليهود وحبست الرهبان أنفسها في الصوامع ومن دلائله عرفت الوحوش منافعها ومناكحها وليست بذات عقول مميّزة وإنَما يعرفه كلّ واحد بمقدار فهمه وكيفيّة استدلاله وأنشدني النهريبندي في جامع البصرة
ولو حل أقطار السماوات عاقلٌ ... أو احتل في أقصى بلاد تباعد
ولم ير مخلوقاً يدل على هدىً ... ولم يأته وحى من الله قاصد
ولم ير إلاّ نفسه كان خلقها ... دليلاً على بار له لا يعاند
دليلاً على إبداعها واختراعها ... منيراً على مرّ الدهور يشاهد

وفي هذا المقدار مقنَعٌ وبلاغ لمن ناصَح نفسَه وأعطى النَصفة وجانب الجحود والعنود ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نورٍ وإذا صحّ إثبات البارئ ووجود الصانع فلنقُل الآن في صفاتها أقول أن السؤال عن المائيّة والمنيّة والهويّة محالٌ من وجه التفتيش عن ذاته لأنّ الإشارة إلى هذه الأشياء تصوّرها في الوهم ولا يتصوّر في الوهم غير محدود أو نظير محسوس وهذه من صفات الحدث فإمّا أن أراد السؤال عن إثباته وإثبات صفاته فلا وذلك كقائل يزعم أنه قد ثبت عندي وجود البارئ سبحانه فما هو فالجواب الصواب أنه هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن القديم الخالق حتى يُعدُّ جميع أسمائه وصفاته فإن زعم أنه سأل عن هويّة ذاته قيل غير محسوسة ولا موهومة ولا معلومة بالإدراك والإحاطة فإن زعم أن هذا من صفاته اللاَشيَّةِ والبطلان فهذا من وساوس الجهل وهذيان الخطل ويكلمّ في إيجاب الصنعةِ الصانع والفعِل لفاعلَ بما قد سبق ذكره فإن طلب نظيراً أو شبيهاً بهذه الصفات فهذا يكلّفنا أن نتّخذ إلهين اثنين محسوساً وغير محسوس ثمّ نشبّه الغائب بالشاهد ليتحقّقه وما من إلهٍ إلاّ إِلَه واحدٌ وليس يحجب علم ما تيقّنّاه لجهل ما جهلنا ألا ترى أنّا إذا آنَسْنا شخصاً في السواد ولم نعلم ما هو ومن هو لم يجب أن نُبطِل علمنا في ذات الشخص بما خفي علينا من بعض هيئاته كذلك لمّا قامت الدلالة أن يستحيل وجود فعل لا من فاعل ثم وجدنا فعلاً لم نشاهد فاعله لم يجب أن نُبطل علمنا البديهيّ بجهلنا وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هويّته فنزل الجواب في صفاته قُلْ هُوَ الله أحد اللهُ الصّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كفواً أحد فأخبر أنّه أحد لا كأحدٍ وصَمَد لا كصمد لم يلد ولم يولد يعني الملائكة وسائر الناس من الخلائق الروحانيّين بقوله ولم يكن له كفؤاً أحد فنفى النظير والشبيه عنه وقال الرسول عليه السلام فيما رُوِيَ لرجل من الأعراب سأله عنه هو الذي إذا مسّك ضرٌّ فدعوتَه أجابك وإذا أصابتك سنةً فدعوتَه امطر السحاب وأنبت النبات وإذا ضلَّتْ راحلتُك بفلاةٍ من الأرض فدعوتَه ردّها إليك فجعل يدلّ على ربّه بدلالة فعله وشهادة الكتاب تُغْنِيْ عن طلب الأسانيد لمثل هذه الأخبار بقول الله تعالى امّن يجيب المضطّر إذا دعاه ويكشف السو وفي رواية المَقْبريّ عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنّ الشيطان يأتي أحدكم فلا يزال يقول له مَنْ خَلَقَ هذا فتقول الله حتّى يقول فمن خلق اللهَ فإذا سمعتم ذلك فافزعوا إلى سورة الإخلاص فقال أبو هريرة رضى الله عنه فبينا أنا قاعد إذ أتاني آتٍ فقال مَن خلق الخلق قلتُ الله قال فمن خلق الله فقُمْتُ وقلت صدقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ولهذا نهى عن التفكّر فيه إذ لا مَطْلَع للوهم والتفكر عليه من طلب ما لا سبيل إليه رجع بأحد الأمرَيْن إِمّا شاكًّا وإمّا جاحداً والجحود والشكّ فيه كُفْر وقد قيل تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق لأنّ الخلق يدلّ عليه والخالق لا يُدْرَك ولا أَعلمُ أحداً من أصناف الخلق والأمم إلاّ وهو مُقِزّ بوجود شيء في الغائب خلاف الحاضر فمن ذلك قول الفلاسفة الهيولي وإنه خلاف الأجرام العلويّة والسُّفليّة ومنهم من يقول بحيٍّ ناطق لا يجوز عليه الموت وهو لم يشاهده حيًّا ناطقاً إلاّ ميتاً ومنهم من قال بأنّ جوهرَ الأفلاك من غير الطبائع ومن قال بمواضع من الأرض يبلغ طوال النهار بها أربعة وعشرين ساعة ومواضع يغيب الشمس عنها ستّة أشهر وهو لم يشاهدها ومن قال بأنّ النطفة تنقلب علقةً والعلقة تنقلب مضغةً ولم يشاهدها عياناً ومن قال بأرض لا بتركب منها حيوان ولا نبات ومن قال من الثنويّة بنور خالصٍ في الغائب وظلمة خالصة غير مماسَّيْن ولا ممتزجّيْن وهو لم يشاهد جسماً إلاّ مؤلّفاً مركّباً في أَشْباهٍ لهذا يطول الكلام بذكرها حتّى تعلم أن أقول القائل لا شيء غير ما يعاينه ولا شيء غاب عنه إلاّ كما يشاهده محال باطل وبعد فانّا نجدُ الحركة والسكون والاجتماع والافتراق والفَرَح والحُزْن واللذّة والكراهية والحبّ والبُغض وغير ذلك من كثير من الأعراض ولا يمكن صفتها بطول ولا لون ولا عَرْضٍ ولا ريح ولا طعم أو صفة من

الصفات ثمّ لم يجب إبطالها لعدم صفاتها وكذلك العقل والفهم والنفس والروح والنوم لا شكّ أنّها أشياء ثابتة ولها ذوات قائمة من الأعراض ثم لا يُحاط بكميتها ولا بكيفيتها غير وجودها فإذا كانت هذه الأشياء قُربها منّا وتمكّنها فينا ونعجز عن الإحاطة بها ولم يجز إنكارها لوحوهها وكيف بمُبْدِعها ومُنْشئها ومُقيمها على مراتبها وكلّ صانع لا شكّ أَعْلى رتبةً من مصنوعاته وأَرفع درجةً فإن قال قائل سَوَّيْتَ بين صفات العقل والروح والنفس وسائر ما ذكرت وبين البارئ الذي يدعونا إليه وتساوي الصفات يوجب تساوي الموصوفات فما ينكر ممّن يزعم أنه هو النفس أو العقل لا من الناس من يقول هو نفس الخلائق ومنهم من يقول هو عقولهم قيل إنما يجب تساوي الموصوفات إذا تساوت حدود الصفات فأمّا الألفاظ فمشتركة والمعاني مختلفة ألا ترى أنّا نقول له هو ولغيره هو ونقول ذاته ولغيره من الحيوان والنبات ذواتها ونقول قال الله وفعل الله فقال فلان وفعل فلان لأنّ الألفاظ سِمَاتٌ للمعاني لا يمكن العبارة إلاّ بها فإذا جِئْنا إلى التفصيل قلنا فِعْلُ الإِنسان بجارحةٍ وفِعْله ليس بجارحة وفِعْل الإنسان بآلةٍ وفِعْله ليس بآلةٍ وفعل الإنسان في زمان ومكان وفعل الله قبل الزمان والمكان فهَلْ بقى بين الفعلَيْن من التشابه غير سمة اللفظ وهكذا سائر الأوصاف ثمّ من الدلائل على أنّ البارئ جلّ جلاله ليس بالنفس ولا بالعقل ولا بالروح كما ذهب إليه من ذهب أن الأنفس متجزّئة قد فرّقت بينها الهياكل والأشخاص والتجزّئ تفرُّق والتفرُّق عارض ولا متفرّق إلاّ ومتوهّم تجمعه والتجمّع عارض وقد يعيش عائش ويموت مائت ولا يخلو من أن تبطُل نفسٌ بموت صاحبها أو ترجع إلى كلّيتها أو تنتقل إلى غيره والبطلان والرجوع كلّها أعراض وقد أَوضَحْنا الدلالة على حدث الأعراض وهكذا القول في الأرواح على السواء وكذلك تفاوت العقول واختلافها وما يعرِضُ فيها من الخلل والنقص والسهو والغلط كلّها من دليل الحدث وما العقل في قصور المعرفة إلاّ بمنزلة سَمْع الأذن وبصر العين وشمّ الأنف كلّها موجودة غير معلومة الكيفيّة والكميّة فإن قيل أَلَهُ هُويّة وإن لم نعلمها قيل الهويّة إضافة هو إلى معناه وهو إشارة فإما معنى الهويّة فالذات وأي لعمري له ذات عالمة سميعة بصيرة قادرة حيّة غير معلومة كيفيّتها فإن قيل فهو عالم بذاته قيل له ليس هو غير ذاته فتكون معلومة له غير علمه ويكون له من ذاته علم ومعلوم وقد قال قوم أنه هو الطبائع ومنه حّدّثُ العالم وتركّبه فالطبائع أشياء متنافرة متضادّة مقهورة مجبورة وهذه هي علامات الحدث ثمّ هي غير حيّة ولا عالمة ولا مختارة ولا قادرة فيصحّ منها هذه الأفعال المحكمة المُتْقَنَة فإن أطلقوا عليها هذه الصفات فهي البارئ بزعمهم وإنّما غلطوا في التسمية وإن أَبَوْا في الفعل لا يصحّ إلاّ ممّن هذه صفاتُه واختلف أهل الإسلام في أشياء من هذا الباب فأنكر كثير منهم القول بالأَيْنيّة والمائيّة ولا يخلوان من أن يكونا إياه أو غيره أو بعضه فإن كانا غيره أو بعضه انتقض التوحيد وإن كانا إيّاه فهو إذاً أشياء كثيرة وقال ضرار بن عمرو وأبو حنيفة رضى الله عنهما له أينيّة ومائيَة لأنّه لا يكون شيء موجود إلاّ وله أينيّة ومائيّة وعلّة الأينيّة غير علّة المائية وذلك أنك تسمع الصوت فتعلم أنّ له مُصوّتاً وتجهل ما هو ثمّ تراه بعد ذلك فتعلم ما هو فعِلْمُك ما هو غير علمك بأينيّته ومعنى المائية عندهما أنه يعلم نفسَه بالمشاهدة لا بدليل كما يعلمه واختلف المُشبّهة فزعمت النصارى أنه جوهر قديم ورغم هشام بن الحكم وأبو جعفر الأحوال الملقّب بشيطان الطاق انه جسم محدود متناهٍ وقال هشام هو جسم مُصْمَتٌ له قدر من الأقدار من العَرْض كأنه سبيكة تلأْلأْ كالدُرّة من جميع أطرافها واحدة ليس بمجوّف ولا متخلخل وحُكى عن مُقاتل أنه قال على صورة إنسان لحمٍ ودمٍ وسُئل هشام كيف معبودُك فأوقد سراجاً وقال هكذا إلاّ أنّه لا ذُبالة له وقال قومٌ جسم فضاء مكان الأشياء كلّها وأكبر من كلّ شيء وقال قومٌ هو علي بن أبي طالب وذهب قومٌ إنّه المسيح وقال قومٌ هو علي بن أبي طالب وذهب قومٌ أنّه المسيح وقال قومٌ هو علي بن أبي طالب وذهب قومٌ إلى أشياء كثيرة متبعّضة مختلفة لقُوَى والفعل إلاّ أنّ بعضها متّصل ببعض وبعضها أعلى

من بعض فأعلاها البارئ سبحانه ويزعمون أنه لا جسم له ولا صفة ولا يُعرف ولا يعلم ولا يجوز أن يُذْكَر ودونه العقل ودون العقل ودون النفس الهيولي ودون الهيولي الأثير ثم الطبائع ويرون كلّ حركة أو قُوّة حسّاسة أَو نَامية منه وسيمرّ بك النقض عليهم مجملاً في باب التوحيد إن شاء الله وأحسنُ ما اختاروه في هذا الفصل أَلاّ يخوض الإنسان في شيء منه إلاّ بإثبات الذات بدلائل الصفات فإمّا ما سِوَى ذلك فيسكت عنه وليقتَدِ نبيّ الله موسى حيثُ قال له الكافر وما ربّ العالمين قال ربّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم مُوقنين هذا طريق السلامة فإن سأل بعضُ مَنْ لا يعلم كيف هو وأين هو وكم هو فإنّ كيف يوجب التشبيه ولا شبه له وكم استخبار عن العدد وهو واحد وأين طل المكان وليس بجسم فيُشْغِل الأماكن. فأعلاها البارئ سبحانه ويزعمون أنه لا جسم له ولا صفة ولا يُعرف ولا يعلم ولا يجوز أن يُذْكَر ودونه العقل ودون العقل ودون النفس الهيولي ودون الهيولي الأثير ثم الطبائع ويرون كلّ حركة أو قُوّة حسّاسة أَو نَامية منه وسيمرّ بك النقض عليهم مجملاً في باب التوحيد إن شاء الله وأحسنُ ما اختاروه في هذا الفصل أَلاّ يخوض الإنسان في شيء منه إلاّ بإثبات الذات بدلائل الصفات فإمّا ما سِوَى ذلك فيسكت عنه وليقتَدِ نبيّ الله موسى حيثُ قال له الكافر وما ربّ العالمين قال ربّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم مُوقنين هذا طريق السلامة فإن سأل بعضُ مَنْ لا يعلم كيف هو وأين هو وكم هو فإنّ كيف يوجب التشبيه ولا شبه له وكم استخبار عن العدد وهو واحد وأين طل المكان وليس بجسم فيُشْغِل الأماكن.

القول في أن البارئ واحد لا غير أقولُ أنّه لما صحّ وجود البارئ بالدلائل العقليّة وجب أن يُنظر الواحد هو أم أكثر لأنّ الفعل قد يفعله الواحد والاثنان وقد يشترك الجماعة في بناء دار ورفع منار ونظرنا فإذا الدلائل على وحدانيّته بأذلاء الدلائل على إثباته وذلك أنّه لو كانا اثنّيْن لم يخلُ من أن يكونا متساوِيَيْن في القوّة والقُدرة والعِلم والإرادة والقِدَم والمشيَّة حتَّى لا يُفْرق بينهما بصفةٍ من الصفات فإن كانا كذلك فهذه صفة الواحد لا يثبت في العقول غيره أّو يكون كذلك فهذه صفة الواحد لا يثبت في العُقول غيره أّو يكون أحدُهما أَقْدم من الآخر وأَقدر فَالإِْلَهُ إِذاً القديمُ القادر إِذ العاجز الحادث لا يستحقّ الإلهيّة أَو يكونا معاً مقاومين مُتضادَّيْن فأذَنْ لا يجوز وجود خَلقٍ ولا أمرٍ لأنّه لو كانا كذلك لم يخلُقْ أَحدُهما خَلْقاً إلاّ أفناه الآخر ولم يُحْيِ حيّاً إلاّ أماته الآخر فلمّا وجدنا الأمر بخلافه علمنا أنّه واحد قدير وهذا ضمْنُ قول الله تعالى لّوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ لَفَسَدَتَا فسُبْحَانَ اللهَ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ وقال قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُون إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سُبُلاً ولو كانا اثنين لكانا قادرَيْن على التمانع والتقاوم أو عاجزَيْن عن ذلك فإن كانا قادرَيْن لم يتّصل تدبير ولم يتم وجود خَلْق وإنْ كانا عاجزَيْن فوجود الخَلْق عن العاجز مُحالٌ أَو كان أحدهما عاجزاً والآخر قادراً فهو كما قلناه آنفاً ولو جاز القول باثنين لوجود الشيء وضدّه لجاز القول بعدد أعيان الموجودات لاختلاف أجناسها وأنواعها وأنّها تمام القُدرة جوازها على الشيء وضدّه ففاعل الشيء إذا كان عاجزاً عن ضدّه غير كامل القُدرة والبارئ عزّ وجلّ دلّ على كمال قُدرته بإيجاد الشيء وضدّه ومن هاهنا تفرّقت المجوس والثنويّة والدَهْرية وسائر فرق الضلالة فزعمت المجوس بأنّ فاعل الخير لا يفعل الشرّ وأنّ الشرّير لا يفعل الخير لأنّ الجنس الواحد لا يَقَعُ منه إلا الفعل الواحد كالنّار لا يكون منها إلاّ التسخين والثلج لا يكون منه إلاّ بالتبريد فسمّوا الإله الخير هرمز والشرّير الخبيث آهرمَن وأَضافوا كلّ حُسْنٍ وجميل وفعل حميد إلى الخير وكل قبيح وذميم إلى الشرّير الخبيث المضادّ له ثمّ اختلفوا بعد إجماعهم على أنّ الخير منهما قديم لم يزل وزعم بعضهم أن الشرّير قديم أيضاً كقول الثنويّة بقدم الكونين من النور والظلمة وزعمت طائفةٌ أُخرى انّه حادث ثم اختلف الذين قالوا بحدوث الشرير الخبيث كيف كان حدوثه فزعمت فرقة منهم أنّ القديم الخبير نفكّر فكرةً رديئة فاسدة فحدث من فكرته هذا الخبيث الشرير وهذا نقض أصلهم بأنّ جوهر القديم جوهرٌ خير لا يشوبه شيء من الشرور والآفات وزعم آخرون أنّ الخير هفا هَفْوةً فحدث منه هذا الضدّ بلا إرادةٍ منه ولا مشيّة فجعلوا الخير كالمغود الجاهل الذي لا يملك نفسه وأمره وقد أقرّ هذان الصنفان بوقوع الشرّ من الخير المحمود ووجود جنسَيْن مختلفَيْن منه فما حاجتهما إلى إثبات فاعلَيْن مختلفَيْن فإذا جاز وقوع الشرّ من هذا الخير المحمود فما يؤمنهم وقوع الخير من هذا الشرّير المذموم وزعمت فرقة ثالثة منهم أنه لا يدري كيف حدث هذا الشرّير المنازع للخير القديم فأفصحوا بالحَيْرة ونادَوا على أنفسهم بالشبهة وبم ينفصلون ممّن يعارضهم إذا جاز حدوث شرير فاعل للشرّ لِمَ لَمْ يُجْز حدوث خير فاعل للخير حتّى يكون خالقهم اثنين حادثَيْن وقد زعموا جميعاً أنّ هذا الشرير كايدَ الخير ونازعه الأمر وجمع الخير جنوده من النور والشرير جنوده من أبعاض الظلمة فاقتتلا مدَةً من الدهر طويلة ثمّ توسّطت الملائكة بينهما ودعَوهما إلى الهُدْنة والموادعة إلى أن يضع بينهما مدّة سبع آلاف سنة وهي مدّة قوام العالم فاصطلحا على أنْ يكون أكثر الأمر والحكم والغلبة في هذه المدّة المضروبة للجوهر الشرّير فإذا انقضت المدّة أفضى الأمر إلى القديم الخير فأخذ الشرّير يستوثق منه إلى أن ينقضي عالم الشرّ والفتنة والفساد ويصير الحكم إلى الخير المحض وهذا ظاهر الانتفاض والاختلاف وكيف تطمئن النفس إلى عبادة عاجز مغلوب على أمر وكيف يؤمن الشرير الخبيث على الوفاء بالعهود والمواثيق وهل هي منه ألا أفضل الخير

وأتم الإحسان فقد وجد من جوهره الخير وهو من غير جنسه كما وجد من جوهر الخير العجز والغلبة وهو شر وليس من جنسه واختلفت الثنوية فزعم ماني وابن أبي العوجاء أن النور خالق الخير والظلمة خالق الشر وأنهما قديمان حيان حساسان وأن فعلهما في الخلق اجتماعهما وامتزاجهما بعد أن لم يكونا ممتزجين فحدث هذا العالم من نفس الامتزاج فأقر بحادث حدث في القديم من غير سبب أوجبه ولا إرادة منه فضاهيا المجوس في قولهم أن الخير حدث منه الشر بلا إرادة منه ولا مشية وزعم ديصان أن النور حي والظلمة موات فأحال أشد الإجالة إذ أجاز من الموات الفعل في خلق الشرور والآفات فناقضوا بأجمعهم نفس الامتزاج لأنه لو كان بدأبه النور فقد أساء في مخالطة الظلام وإن كان بدوه من الظلام فقد غلب النور وأفسده وعندهم أن النور لا يكون منه ألا الخير والظلمة لا يكون منها إلا الشر فكل خير منسوب إلى النور وكل شر منسوب إلى الظلمة واكتفى من جوابهم بما يومض عن مناقضاتهم كفاء ما يشاكل كتابنا هذا بعد أن نستقصيه في كتاب المعدلة ونشبع القول فيه بمشية الله وقد سألهم جعفر بن حرب عن مسئلة قليلة الحروف عظيمة الخطر فقال لهم أخبرونا عن رجل قتل رجلاً قال فقد كذب النور والنور عندكم لا يفعل الشر قالوا فهو الظلمة قال فقد صدقت والظلمة لا تفعل الخير وقال هل اعتذر أحد من شيء قط قالوا نعم والاعتذار حسن جميل قال فمن المعتذر قالوا النور قال فصنع شيئاً يجب الاعتذار منه قالوا فالظلمة قال فقد أحسنت إذا اعتذرت فقطعهم واستعظم قوم القول بإيجاد أعيان لا من سابق فقالوا بقدم البارئ وشيء قديم معه أم الأشياء وآخر الهويات ومادة العالم والأصل الذي حدثت منه الأجسام والأشخاص فأنه جوهر بسيط عار من الأعراض ثم أحدث الصانع فيه أعراضاً من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فتركب من حركاته العالم بأجزائه فهولاء قد أوجبوا شيئين قديمين مختلفين إلى الذات والصفة أحدهما حي والآخر ميت ودخلوا في مذاهب الثنوية وناقضوا أصلهم بأن البارئ لم يزل يصنع فيه فأبطلوا قولهم بأنه علة والعلة لا تفارق المعلول وجملة القول في الإعتقاد في المعدوم والموجود أن الموجود ما يعقل أو يعلم أو يحس أو يعرف أو يصح منه تأثير أو فيه أو معه أو به فإذا خلا من هذه المعاني فهو المعدوم ولولا ذلك لكان كيف يعتقد المعتقد المعدوم من الموجود فإن قيل فقد اعتقدتم القديم أفعدم هو وأنتم لا تصفونه بشيء من الحدوث والأغراض قيل افتسوون أنتم بينه وبين الهيولى في المعنى أم لا وأنتم لا تصفونها بشيء من الحدود والأعراض ونحن إنما نعتقد وجود البارئ بدلائل صنعه وآثاراه وليس يصح الهيولى أثر ويوجب اعتقاده موجوداً بل لو وصفتموه بأفعال خاصية وجب اعتقاده وسنزيد إيضاحاً لهذه المسئلة في فصل ابتداء الخلق إن شاء الله تعالى،وأتم الإحسان فقد وجد من جوهره الخير وهو من غير جنسه كما وجد من جوهر الخير العجز والغلبة وهو شر وليس من جنسه واختلفت الثنوية فزعم ماني وابن أبي العوجاء أن النور خالق الخير والظلمة خالق الشر وأنهما قديمان حيان حساسان وأن فعلهما في الخلق اجتماعهما وامتزاجهما بعد أن لم يكونا ممتزجين فحدث هذا العالم من نفس الامتزاج فأقر بحادث حدث في القديم من غير سبب أوجبه ولا إرادة منه فضاهيا المجوس في قولهم أن الخير حدث منه الشر بلا إرادة منه ولا مشية وزعم ديصان أن النور حي والظلمة موات فأحال أشد الإجالة إذ أجاز من الموات الفعل في خلق الشرور والآفات فناقضوا بأجمعهم نفس الامتزاج لأنه لو كان بدأبه النور فقد أساء في مخالطة الظلام وإن كان بدوه من الظلام فقد غلب النور وأفسده وعندهم أن النور لا يكون منه ألا الخير والظلمة لا يكون منها إلا الشر فكل خير منسوب إلى النور وكل شر منسوب إلى الظلمة واكتفى من جوابهم بما يومض عن مناقضاتهم كفاء ما يشاكل كتابنا هذا بعد أن نستقصيه في كتاب المعدلة ونشبع القول فيه بمشية الله وقد سألهم جعفر بن حرب عن مسئلة قليلة الحروف عظيمة الخطر فقال لهم أخبرونا عن رجل قتل رجلاً قال فقد كذب النور والنور عندكم لا يفعل الشر قالوا فهو الظلمة قال فقد صدقت والظلمة لا تفعل الخير وقال هل اعتذر أحد من شيء قط قالوا نعم والاعتذار حسن جميل قال فمن المعتذر قالوا النور قال فصنع شيئاً يجب الاعتذار منه قالوا فالظلمة قال فقد أحسنت إذا اعتذرت فقطعهم واستعظم قوم القول بإيجاد أعيان لا من سابق فقالوا بقدم البارئ وشيء قديم معه أم الأشياء وآخر الهويات ومادة العالم والأصل الذي حدثت منه الأجسام والأشخاص فأنه جوهر بسيط عار من الأعراض ثم أحدث الصانع فيه أعراضاً من الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فتركب من حركاته العالم بأجزائه فهولاء قد أوجبوا شيئين قديمين مختلفين إلى الذات والصفة أحدهما حي والآخر ميت ودخلوا في مذاهب الثنوية وناقضوا أصلهم بأن البارئ لم يزل يصنع فيه فأبطلوا قولهم بأنه علة والعلة لا تفارق المعلول وجملة القول في الإعتقاد في المعدوم والموجود أن الموجود ما يعقل أو يعلم أو يحس أو يعرف أو يصح منه تأثير أو فيه أو معه أو به فإذا خلا من هذه المعاني فهو المعدوم ولولا ذلك لكان كيف يعتقد المعتقد المعدوم من الموجود فإن قيل فقد اعتقدتم القديم أفعدم هو وأنتم لا تصفونه بشيء من الحدوث والأغراض قيل افتسوون أنتم بينه وبين الهيولى في المعنى أم لا وأنتم لا تصفونها بشيء من الحدود والأعراض ونحن إنما نعتقد وجود البارئ بدلائل صنعه وآثاراه وليس يصح الهيولى أثر ويوجب اعتقاده موجوداً بل لو وصفتموه بأفعال خاصية وجب اعتقاده وسنزيد إيضاحاً لهذه المسئلة في فصل ابتداء الخلق إن شاء الله تعالى

القول بإبطال التشبيه أقول أن التشبيه يوجب الاتفاق في الحكم والمعنى على قدر المواقع من الاشتباه وذلك يزعم أن حد الجسم أنه طويل عريض عميق يلزمه أن يقتضي على كل ذي طول وعرض وعمق بالتجسيم لأن الاشتباه بينهما واقع في جميع الوجوه فإذا قال جسم لا كالأجسام وأراد أن يبطل الحدود المضروبة فيه فكأنه يقول جسم لا جسم ويلزمه أن يحكم على كل ذي طول بحد من حدود الجسم لأنه من حيث استحق بعض أوصافه استحق الحكومة به كما أنه إذا حد العرض بأنه لا يقوم بنفسه لزمه القول بأن كل ما لا يقوم بنفسه فهو عرض فإن قيل أليس قلتم أنه شيء لا كالأشياء فما تنكرون من يقول أنه جسم لا كالأجسام أو له وجه لا كالوجوه وجارحة لا كالجوارح فإن الشيء اسم عام للموجود والمعدوم والقديم والمحدث وحده ما قد ذكرناه في موضعه فإذا سمع السامع به لم يذهب به إلى جسم دون عرض ولا إلى قديم دون محدث حتى يفرق به إلى التفسير ما يدل على المراد فإذا سمع بالجسم لم يعقل منه إلا المؤلف المركب فلذلك لم يجز إطلاق أسماء المحدثات عليه لأن استواء أحكام المثلين من حيث تماثلا وإلى هذا المعنى ذهب الناشئ في قوله:
لو كان لله شبه من خليقته ... كانت دلائله من خلقه فيه
قد كان مقتضياً من نشو صانعه ... ما يقتضي النشو من آثار ناشيه
لكنه جل عن أوهام واصفه ... فالحس يعدمه والعقل يبديه
؟؟

الفصل الثالث
صفاته وأسمائه
وكيف يجب أن يعتقد القول والفعل منه سبحانه

أقول أنه إذا ثبت وجود البارئ عز وجل وثبتت وحدانيته بالدلائل التي قامت وجب أن ينظر في صفاته وما يليق به أن يضاف إليه ويعرف به فنظرنا فإذا من صفاته خاص وعام فالخاص ما لا يجوز أن يوصف بضده كالحياة والعلم والقدرة ولا أن يوصف بالقدرة عليها ألا ترى أنه لا يصح القول لأنه بقدر أن يحيا أو يقدر أن يعلم أو يقدر أن يقدر ولا القول بأنه يعلم كذا ولا يعلم كذا أو يقدر على كذا ولا يقدر على كذا لأن ما كان موصوفاً بنفسه ثم وصف بضدها كان الضد راجعاً إلى نفسه ولا تستقيم الإلهية بغير حياة وقدرة وعلم وهذه تسمى صفات الذات والعام ما يجوز أن يوصف بضدها ويوصف بالقدرة عليها كالإرادة والرزق والخلق والرحمة وهي صفات الفعل وللمسلمين ومن قبلهم في هذا الفصل تشاجر كثير واختلاف يدعو إلى ضلال من خالف صاحبه في ذلك فقال بعض الناس لا اسم للبارئ ولا صفة ولا ذكر وإنما ينبغي أن ينسب كل عدل ورحمة وفضل وجود إليه بمعرفة القلوب أنه منه وقالت المعتزلة أن صفات الله أقوال وكنايات وهي كلها من قول القائلين ووصف الواصفين وقال قوم لا معنى لصفات الفعل وإنما المعنى لصفات الذات والصفة ما قامت في الموصوف ولا تباينه ولا يجوز أن يوجد الموصوف مع عدمها قالوا فلم يزل الله خالقاً بارئاً رازقاً مريداً متكلماً رحيماً حتى أتو على آخر صفاته وفرق ناس منهم بين الوصف والصفة فجعلوا الصفة ما يلاصق الموصوف كالعرض للجوهر والوصف قول الواصف تلك الصفة فصفات الله غير مخلوقة لأنه بها موصوف وهو غير غير مخلوق وهو واحد بصفاته كهلا وصفاته لا هو ولا بعضه ولا غيره واحتجوا بأنها ليست هو ولو كانت هو لكان صفة ولدعي فقيل يا علم يا قدرة يا سمع يا بصر ولما قام بذاته كما أن الصفات لا تقوم بأنفسها ولا هي غيره لأن حد المتغايرين جواز وجود أحدهما مع عدم الآخر فلو كان علمه وقدرته وسمعه وبصره غيره لجاز عدم العلم والقدرة وغيرها مع وجود البارئ فيحصل بلا علم ولا قدرة ولا هي بعضه لأن التبعيض من دلائل الحدث والله لا يوصف بالابعاض والأجزاء وقالت المعتزلة في صفات الذات أنها ليست من غير الذات شيئاً فذات البارئ عالمة حكيمة قادرة سميعة بصيرة وهو عالم بذاته قادر بذاته سميع بذاته بصير بذاته وإنما الصفات ما وصف الله به نفسه أو وصفه العباد بها قالوا ولا يجوز أن يكون علمه وقدرته هو ولا غيره لأنها لو كانت هو لكان أشياء كثيرة مختلفة ولعبدت ودعيت فلو كانت غيره لكانت قدماء كثيرة وإن لم يزل مع البارئ وإن كانت محدثة فكان قبل أحداث العلم غير عالم وقبل أحداث القدرة غير قادر وكذلك سائر الصفات فثبت أن ذاته عالمة قادرة إن كان له علم به يعلم وقدرة بها يقدر ولم يخل من أن يكون هي هو أو غيره وقالوا لا فصل بين زعم أنه هو أو غيره أو بعضه قالوا وقول القائل لا هو هو نفي وقوله لا غيره رجوع عن ذلك النفي وإثبات له فهؤلاء يزعمون أنه لو كان له علم لكان معه غيره ومخالفوهم يزعمون أن لو يكن له علم لكان جاهلاً قالوا وهو موصوف بالقدم والقدرة والعلم فلو كان عالماً بنفسه قديماً لما جاز أن يوصف بنفسه كما لا يصور المصور بنفسه ولا يكتب المكتوب بنفسه ولا يشتم المشتوم بنفسه وإنما بشتم المشتوم ويصور المصور فصح أنه موصوف بصفات والصفات يشتق منها الأسامي فالقديم من القدم والقدير من القدرة والعالم من العلم كما أن الحمرة للأحمر والصفرة صفة للأصفر ثم هو لا هي ولا غيرها قالوا ولو لم يشاهد عالماً إلا بعلم ولا قادراً إلا بقدرة فكذلك ما غاب عنا فقال لهم مخالفوهم أليس الحمرة والصفرة عرضان في الأحمر والأصفر أو ليس العالم منا بعلم علمه عارض فيه فهل إلى تمثيل البارئ بجسم ذي عرض وبم ينفصلون ممن يزعم أنه جسم أو عرض لوجود الفعل منه لأنه لا يظهر الفعل فيما يشاهده إلا من جسم حدث فهل يجب علينا القضاء بأنه جسم ذو أعراض وأبعاض إذا لم نشاهد الفعل إلا من جسم ذي أعراض وأبعاض كذلك لا يجب القضاء بأنه عالم بعلم إذا لم نشاهد عالماً إلا بعلم فإن قيل إذا أجزت عالماً لا يعلم فأجز جسماً لا بصفات الجسم قيل لو لزم ذا للزمك هو بعينه في إجازتك عالماً بعلم لا هو ولا غيره وأما قولهم أن المصور لا يصور بنفسه والمكتوب لا يكتب بنفسه وإنما يصور بصورة ويكتب بكتابة والصورة والكتابة لا شك غيرها وقولهم من الصفات يشتق الأسامي

فالصفات هي الأسامي بعينها ليست أنها أشياء كامنة فيه كالأعراض في الجواهر ولكنه إذا أبدى فعلاً من أفعاله تسمى به أو سماه العباد به والكلام يطول في هذا ويمتد ومتى اعمل الناظر فكره في هذا المقدار تبين له وجه الصواب بحول الله وقوته.الصفات هي الأسامي بعينها ليست أنها أشياء كامنة فيه كالأعراض في الجواهر ولكنه إذا أبدى فعلاً من أفعاله تسمى به أو سماه العباد به والكلام يطول في هذا ويمتد ومتى اعمل الناظر فكره في هذا المقدار تبين له وجه الصواب بحول الله وقوته.

القول في الأسامي أقول أن اختلافهم في الأسامي كاختلافهم في الصفات وعامة المعتزلة على أن الأسامي هي الصفات وأن الاسم غير المسمى وهو قول المسمى وحد الاسم ما دل على المعنى وقالت فرقة أن الاسم والمسمى واحد واحتجوا بقوله تعالى " سبح اسم ربك الأعلى " فلو كان كان الاسم غيره لكان قد أمر بعبادة غيره وقد قال " سبح لله ما في السموات والأرض " فدل على أن اسم الله هو الله وقال " اذكروا الله " ثم قال في موضع " واذكروا اسم الله " وناقضهم مخالفوهم بأن الاسم لو كان المسمى لكان إذا غير تغير المسمى وإذا أحرق أو خرق أو غرق أثر ذلك كله في المسمى وكل مسمى سابق اسمه وجائز تبدل الاسم عليه والأسماء مختلفة كثيرة والمسمى واحد غير مختلف وقد قال الله عز وجل " ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها " وما هو له به يدعى وهو غيره لا شك وأجمعت الأمة أنه غير جائز أن يقال له يا حسن على أن يكون حسنه في ذاته وإنما يوصف بحسن القول والفعل وقد أخبر أن له أسماء حسنة في غاية الحسن ونهايته فعقل أنه غير أسمائه وأسماؤه معلومة محدودة معدودة الحروف ولا يجوز إطلاق شيء من ذلك على البارئ سبحانه وتعالى وأسماؤه تختلف باختلاف اللغات فكما أن لغة الفرس هي غير لغة العرب ولغة العرب غير لغة الحبش لقول الله تعالى " واختلاف ألسنتكم وألوانكم كذلك التسمية بها مختلفة فإذا اختلف الاسم وهو واسمه واحد فذاك الاختلاف شائع فيه لا شك اللهم إلا أن ينكر أن لا يكون له غير اسم واحد وأن لا يختلف ذلك الاسم باختلاف اللغات فهذا جاحد ضرورة لا غير وقوله تعالى " سبح اسم ربك الأعلى " أي اذكره باسمه وصفته لأنه غير ممكن ذكر شيء إلا باسمه ثم قوله سبح لله وذاكروا الله واذكر ربك على ما يتعارفه الناس أن الشيء إذا لم يكن ذكراً في نفسه لم سكن ذكره إلا باسمه وقول القائل الله معلوم أنه اسم عربي لمعرفة معناه واشتقاقه وغير جائز القول بأن الله عربي أو عجمي فإن قال قائل إذا كان الأسماء والصفات من أقوال العباد وكناياتهم فلم يكن له اسم ولا صفة قبل الخلق وكان عطلاً غفلاً إلى أن سماه العباد قيل قد قلنا أن صفاته على وجهين صفة ذات فعل فما كان من صفات الذات لم يزل بها موصوفاً وإن لم يصفه بها واصفه كما أنه لم يزل واحداً فرداً وإن لم يكن خلق يوحده وعالماً وإن لم يكن المعلوم موجوداً وقادراً وقديماً فإما القول بأنه لم يزل مدعواً أو معبوداً أو مشكوراً فالشاكر والعابد والداعي ليسوا لم يزالوا وكذلك القول بأنه لم يزل خالقاً رازقاً يقتضي أزلية المخلوق والمرزوق اللهم إلا على جهة القدرة على الخلق والرزق فإنه يستقيم له ذلك وكذلك لو قال لم يزل سميعاً بصيراً على معنى سيبصر وسيسمع وأجمع المسلمون أن الله حي قادر قديم سميع بصير واحد فرد عالم حكيم متكلم جواد فاعل مختار موجود رحيم عدل متفضل غني واختلفوا في تفصيل هذه الصفات وعللها فزعمت طائفة أنه عالم لأن له علماً وزعم آخرون أنه عالم بذاته لأنه يدرك الأشياء كما هي وقد تقدم حجج الفريقين مجملاً وكذلك قولهم في القدم والقدرة فمن أبى القول بأن حد القديم والقادر أن يكون له قدم وقدرة قال حد القديم الموجود لا إلى أول وحد القادر الذي لا يمتنع الفعل عليه باختياره وأجمع هؤلاء أنه موجود بعينه وذاته ولا يوجد لأنه لو كان موجوداً بوجود لم يخل ذلك الوجود من أن يكون موجوداً أو ليس بموجود فإن كان غير موجود فقد دخل باب العدم وإن كان موجوداً فقد وجب أن يوجد بوجود آخر إلى ما لا نهاية والقول بما ليس له نهاية يؤدي إلى قول الدهر وقالت طائفة أنه حي بحياة عالم بعلم وزعم آخرون أن معنى الحي وجود الأفعال منه على اتفاق واتساق واختلفوا في ذاته ألها نهاية أم لا فقال أكثرهم أنه غير متناه لأنه لا بجسم ولا عرض ولا حد له فيقتضي النهاية وهو مبدع النهايات والحدود وزعم هشام بن حكم أنه متناه وكذلك يلزم كل مجسم وقد قال أصحاب القضاء أنه غير متناهي الذات واختلفوا أذاته مرءية أم غير مرءية فمن قال بالتشبيه أو رأى الرؤية العلم قال هو مرءي كما هو موجود معلوم ومن أبى ذلك قال غير مرءي كما هو محسوس ولا ملموس بقى الاختلاف في التوفيق بين الرؤية والعلم واللمس والتفريق بينهما واختلفوا في الكلام فمن قال هو من صفات الذات قال غير محدث ولا مخلوق لأن الله لم يزل منكما بكلام لا هو هو

ولا هو غيره ولا بعضه ومن قال من صفات الفعل قال هو محدث لأن الكلام يقتضي متكلماً واختلفوا في الإرادة بحسب اختلافهم في الكلام واختلفوا في المكان فقال أكثرهم أنه بكل مكان حافظاً مدبراً وعالماً وقادراً وليست ذاته بجسم فيشغل الأماكن ولا بعرض فيحل الأجسام ومن كان بهذه الصفة فغير محتاج إلى المكان وقال هشام بن الحكم والمشية أنه في كل مكان ذو مكان وذلك مطرد على أصله لم يراه جسماً وقال قوم أنه في السماء فوق العرش بذاته بلا نهاية لا ككون الشيء على الشيء بالمماسة والاظلال وزعم ابن كلاب أنه على العرش لا في فكان وإذا أجازوا أن يخلق الله جسماً لا في مكان وأن يقيم العالم لا في مكان فما ينكرون من كونه لا في مكان وليس هو بجسم ولا عرض واختلفوا في العلم فقال قوم عالم بما كان قبل أن يكان وبما يكون قبل أن يكون ولا يجوز أن يخفى عليه شيء إلا بأنه استفاد علماً أو أحدثه لنفسه بل ذاته متنبهة عالمة وزعم قوم من الإمامية أن الله لا يعلم ما هو كائن حتى يكون قالوا ولو كان يعلم أن من يخلقه يكفر به ويعصيه ويؤذيه لما خلقه وأجازوا فسخ الخبر والبداء وأول من أبدع هذا الرأي في هذه الأمة المختار بن أبي عبيد كان يزعم أنه يعلم ما يحدث من جهة الوحي فيخبر أصحابه بكوائن فإن اتفقت فهو ما أراد وإن خالف قد ابدأ لربكم وكان جهم بن صفوان وينفى الصفات كلها عن الله سبحانه وينكر القول بأنه شيء زعم فراراً من التشبيه ويقول علم الله محدث وجملة الرد على هؤلاء أن الجاهل منقوص ومستحق المذمة لا يستحق الإلاهية وأجاز المعتزلة كون ما علم الله أنه لا يكون لأن علم الله ليس بعلة ككون الشيء ولا حامل للمعلوم على الكون كما أنه لم يزل عالماً بخلقه العالم قبل خلقه ثم لم يجز القول بأن علمه علة الخلق وحامل له على إيجاده قالوا ومما علم الله أنه لا يكون أمور علم أنها لا يكون لاستحالة كونها ككون إله معه أو كون شريك أو كون غالب يغلبه أو كون نهاية وانقضاء له ومنها أمور علم أنها لا تكون لاستحالة كونها فلا يجوز كونها بحال قالوا وغير جائز أن يأمر عبداً بما يعلم أنه لا يكون منه ما يأمره به ولا يقدر عليه لاستحالته أو لعجزه وإنما يجوز الأمر لمن علم أنه قادر على الفعل لأن القدرة هي التي تقتضي التكليف لا العلم وقال مخالفوه لا يجوز كون خلاف ما علم الله ويجوز الأمر بخلاف ما علم لأنه لو جاز كون خلاف ما علم كان عاجزاً جاهلاً وهذه هي مناظرة بين الفريقين مليحة مفيدة قالوا لهم أليس في قولكم أن الله لم يزل عالماً بأن فرعون لا يؤمن قالوا بلى قالوا فكان فرعون يقدر أن يؤمن وقد علم الله أنه لا يؤمن قالوا نعم فكان فرعون يقدر على إبطال علم الله وتجهيله قالوا لو علم أن فرعون لا يقدر أن يؤمن كما علم أنه لا يؤمن ثم قلناه أنه آمن أو يؤمن لكنا مبطلين مجهلين ولكنا قلن علم الله أنه لا يؤمن وعلم أنه يقدر أن لا يؤمن ولم يؤمن فلم نكن مبطلين ولا مجهلين ثم قلبوا عليهم السؤال فقالوا أليس الله عالماً بأنه يقيم القيامة في وقتها وهو القادر على أن لا يقيمها قالوا بلى قالوا فهل يجوز القول بأن الله قادر على إبطال علمه علمه وتجهيل نفسه إذا كان قادراً على أن لا يفعل ما علم أنه يفعله وعلى أن يفعل ما علم أنه لا يفعله قالوا وليس علم الله أن فرعون لا يؤمن وأمره بأن يؤمن فهل أمره بتجهيل علم الله فيه واختلفوا في جواز وصف الله بالقدرة على المحال كإدخال العالم في جوزةلا هو غيره ولا بعضه ومن قال من صفات الفعل قال هو محدث لأن الكلام يقتضي متكلماً واختلفوا في الإرادة بحسب اختلافهم في الكلام واختلفوا في المكان فقال أكثرهم أنه بكل مكان حافظاً مدبراً وعالماً وقادراً وليست ذاته بجسم فيشغل الأماكن ولا بعرض فيحل الأجسام ومن كان بهذه الصفة فغير محتاج إلى المكان وقال هشام بن الحكم والمشية أنه في كل مكان ذو مكان وذلك مطرد على أصله لم يراه جسماً وقال قوم أنه في السماء فوق العرش بذاته بلا نهاية لا ككون الشيء على الشيء بالمماسة والاظلال وزعم ابن كلاب أنه على العرش لا في فكان وإذا أجازوا أن يخلق الله جسماً لا في مكان وأن يقيم العالم لا في مكان فما ينكرون من كونه لا في مكان وليس هو بجسم ولا عرض واختلفوا في العلم فقال قوم عالم بما كان قبل أن يكان وبما يكون قبل أن يكون ولا يجوز أن يخفى عليه شيء إلا بأنه استفاد علماً أو أحدثه لنفسه بل ذاته متنبهة عالمة وزعم قوم من الإمامية أن الله لا يعلم ما هو كائن حتى يكون قالوا ولو كان يعلم أن من يخلقه يكفر به ويعصيه ويؤذيه لما خلقه وأجازوا فسخ الخبر والبداء وأول من أبدع هذا الرأي في هذه الأمة المختار بن أبي عبيد كان يزعم أنه يعلم ما يحدث من جهة الوحي فيخبر أصحابه بكوائن فإن اتفقت فهو ما أراد وإن خالف قد ابدأ لربكم وكان جهم بن صفوان وينفى الصفات كلها عن الله سبحانه وينكر القول بأنه شيء زعم فراراً من التشبيه ويقول علم الله محدث وجملة الرد على هؤلاء أن الجاهل منقوص ومستحق المذمة لا يستحق الإلاهية وأجاز المعتزلة كون ما علم الله أنه لا يكون لأن علم الله ليس بعلة ككون الشيء ولا حامل للمعلوم على الكون كما أنه لم يزل عالماً بخلقه العالم قبل خلقه ثم لم يجز القول بأن علمه علة الخلق وحامل له على إيجاده قالوا ومما علم الله أنه لا يكون أمور علم أنها لا يكون لاستحالة كونها ككون إله معه أو كون شريك أو كون غالب يغلبه أو كون نهاية وانقضاء له ومنها أمور علم أنها لا تكون لاستحالة كونها فلا يجوز كونها بحال قالوا وغير جائز أن يأمر عبداً بما يعلم أنه لا يكون منه ما يأمره به ولا يقدر عليه لاستحالته أو لعجزه وإنما يجوز الأمر لمن علم أنه قادر على الفعل لأن القدرة هي التي تقتضي التكليف لا العلم وقال مخالفوه لا يجوز كون خلاف ما علم الله ويجوز الأمر بخلاف ما علم لأنه لو جاز كون خلاف ما علم كان عاجزاً جاهلاً وهذه هي مناظرة بين الفريقين مليحة مفيدة قالوا لهم أليس في قولكم أن الله لم يزل عالماً بأن فرعون لا يؤمن قالوا بلى قالوا فكان فرعون يقدر أن يؤمن وقد علم الله أنه لا يؤمن قالوا نعم فكان فرعون يقدر على إبطال علم الله وتجهيله قالوا لو علم أن فرعون لا يقدر أن يؤمن كما علم أنه لا يؤمن ثم قلناه أنه آمن أو يؤمن لكنا مبطلين مجهلين ولكنا قلن علم الله أنه لا يؤمن وعلم أنه يقدر أن لا يؤمن ولم يؤمن فلم نكن مبطلين ولا مجهلين ثم قلبوا عليهم السؤال فقالوا أليس الله عالماً بأنه يقيم القيامة في وقتها وهو القادر على أن لا يقيمها قالوا بلى قالوا فهل يجوز القول بأن الله قادر على إبطال علمه علمه وتجهيل نفسه إذا كان قادراً على أن لا يفعل ما علم أنه يفعله وعلى أن يفعل ما علم أنه لا يفعله قالوا وليس علم الله أن فرعون لا يؤمن وأمره بأن يؤمن فهل أمره بتجهيل علم الله فيه واختلفوا في جواز وصف الله بالقدرة على المحال كإدخال العالم في جوزة

أو بيضة فقال الجمهور من أهل العلم لا يجوز ذلك لأنه يقتضي العلم مقدوراً كما يقتضي العلم معلوماً فكل ما هو غير مقدور عليه محال إجازة القدرة عليه وزعم بعضهم أنه قادر عليه واختلفوا في وصف الله تعالى بالقدرة على الظلم والجور فأحاله قوم لأن ذلك مذموم لا يفعل إلا عن نقص أو حاجة ولو جاز ذلك لم يكن مأموماً أن يقع ولجاز وصفه بالقدرة على الجهل والعجز وكان أبو هذيل يقول هو قادر على ذلك ولكن لا يفعله لرحمته وحكمته وليس يفعل الظلم والكذب غير مقدور عليه فيكون محالاً واختلفوا في قدرة الله تعالى هل هي علم الله أم غيره وكذلك الحيرة فالقدم وسائر صفات الذات وزعمت طائفة أن علم الله ليس قدرته ولا غيرها لأنه لو كان العلم والقدرة لكان ما هلم فقد قدر عليه وهو يعلم نفسه ولا يصلح القول بأنه يقدر على نفسه ولو كان علمه غير قدرته لكن يجوز وجود أحدهما مع عدم الآخر ولو جاز هذا لجاز أن يكون البارئ في حال عالماً غير قادر أو قادراً وأما المعتزلة فليس من قولهم أن له علماً وقدرة حتى يلزمهم التفصيل بينهما واختلفوا في التعديل والتجويز من خلقه أفعال العباد وما هم يكتسبوه من المعاصي والمآثم وقضائه إياها عليهم وإرادته منهم وعقوبته لهم عليها بعد أن أوجدها منهم فقال قوم كل ذلك منه وفعله وهو عدل وحكمة لأن الخلق خلقه والأمر أمره لا يكون منه ظلم ولا جور ولو جاز حدوث بغير مراده أو مشيته وإيجاده لكان عاجزاً مغلوباً وقال آخرون لو كان كما يزعمون لما كان الخلق عاجزاً مغلوباً وقال آخرون لو كان كما يزعمون لما كان الخلق ملومين ولا معاقبين ولا من يفعل بهم هذا حكيماً ولا عالماً ولا رحيماً وهذا من باب الحير والقدر والاختلاف فيه قائم مذ وجد في العالم حيان ناطقان ولا يجوز غير ذلك لتكافئ الدلالة وأعدل الأمور أوساطها فقد قيل الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس لا يزداد على طول النظر ألا حيرة ودهشاً ومن طاوعته نفسه بالإمساك عن الخوض فيه والاقتصار على ما في الكتاب رجوت أن يكون من الفائزين.
الفصل الرابع

تثبيت الرسالة وانجاب النبوة

أقول أن منكري الرسل صنفان أحدهما المعطلة الذين ينكرون إثبات البارئ سبحانه فلا وجه للكلام معهم إلا بعد إقرارهم بالتوحيد والثاني البراهمة أقروا بالصانع وأنكروا الرسالة واحتجوا بأن الرسول لا يأتي إلا بما في العقل كاف مما يجب لله تعالى على العباد من معرفته وتوحيده وشكره وعبادته واستعمال الحسن واستقباح القبيح وأن كان يأتي بخلافه فلا وجه لقبوله لأن الخطاب وقع على نوى العقول والقضية لها والتمييز ودعتاها فأجابهم المسلمون بأن الرسول أبداً لا يأتي إلا بما في العقل إيجابه أو تجويزه وحاشا لله ولرسوله أن يأتوا بخلاف ما في العقول ولكن من الأشياء مما يغمض ويلطف حتى يخطئه العقل أويخفى ويحتجب حتى يقصر دونه العقل كانتفاع الإنسان بما ينزع إليه نفسه ويشتاق إليه طبعه من ملاذ الأغذية والملاهي المقوية فإن حسن في العقل الأخذ منها بقدر الحاجة بل واجب وغير حسن إذا كان لا يملكها الإنتفاع بشيء منها إلا بعد الإذن من مالكها فصار فعل العقل في حال خلاف فعله في حال فدل أن العقل لا يستغني بنفسه ولم يضامه شيء من المع مع أن العقل محتاج إلى الرياضة والتمييز والسمع والتجارب لا غير موهوم لو أن أكمل الخلق عقلاً وأوفاهم فطنة غيب عن اناس وليداً حتى لم يسمع شيئاً إلى أن بلغ فأدرك أنه يمكنه استخراج علم الفلسفة والهندسة والطب والتنجيم وغير ذلك فدل هذا كله أن العقل غير مكتف به ولا بد من معلم ومعرف وهاد ومذكر ولا يجوز أن يقع العلم بهذه الأشياء إلهاماً ضرورياً لأنا ليس نشاهد ذلك في أجناسها وأمثالها وأن لا يكون كلها بالاستخراج والاستنباط من غير مقدمة وأصل سابق فإن قيل إذا كان البارئ مريداً لصلاح خلقه غير بخيل ولا عاجز ولا يمسه تكلف ولا علاج فيما يفعله فهلا جعل خلقه رسلاً وألهمهم من العلم ما استغنوا به على الرسل أو حبس طباعهم عن التخطي إلى محظور قيل لو فعل ذلك لم ينزلهم دار البلوى والامتحان ولا عرضهم لشرف الثواب وما هو إلا كقول من يزعم لم خلق الله الخلق وأسقط عنهم التكليف وابتدأهم في الجنة وهذا باب التجويز والتعديل وليس كتابنا هذا بنينا له ولكن لو فعل كان له ما فعل فإذا لم يفعل فنقول أساء أو جهل أو عجز وهذا الظن نقض التوحيد وإبطال الدين فيعاد الكلام فيه وتقرر بأنه عادل حكيم لا يفعل إلا الأصلح بخلقه والأعود عليهم ولو جعلهم كلهم رسلاً لوجب أن يسوى بينهم في الفضل والعقل والجاه والمال والقوة ولو فعل لما عرف فاضل فعله ولا قوى قوته ولما شكر وحمد في إسقاط موجبات الشكر والحمد وإباحة الفكر والذم وهذا قبيح في العقل فدل أنه لم يجز التسوية بين الخلق لا في الحال ولا في المال ولا في الرسالة فإن طعنوا في الرسالة بما يوجد فيها من سفك الدماء وذبح البهائم وإيلام الناس فإن العقل لا يرد شيئاً من ذلك إذا كان نفيه ضرب من الصلاح كما يكره الإنسان على شرب الأدوية الكريهة وعلى الفصد والحجامة وقطع بعض الجوارح عند انتظار مخوفة وتأديب الأطفال وغير ذلك فيوجب عليه أن لا يردع ظالماً ولا يفتص من جارحة وهذا قبيح وترخيص في الفساد ومن أعظم الدلائل على وجوب الرسل هذه اللغات المختلفة التي تلفظ الناس بها ويتعارفون بها ما يحتاجون إلى معرفته ولابد من معرف ومعلم لها أسماء المسميات باختلاف اللغات وكذلك الصناعات والآلات التي يتوصل بها إليها وليس في وسع الناس استخراج لغة ووضع لفظ يتفقون عليه إلا بكلام سابق به يتداعون ويتواضعون ما يريدون وليس في المعقول معرفة ذلك ولا بدّ من معلّم قال الله عزّ وجلّ " وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئونِي بِأسْمَاءِ هَؤلاَء إِنْ كُنْتُمْ صَادقِينَ " ثمّ إذا صحّت النبوّة ووجبت الرسالة بقى أن يُعلم الفرق بين النّبي وبين المتنبّي لأنّ الأشخاص متساوية متماثلة ففرّق الله تعالى لما أراد من أقسامه حجّته وإظهار دعوته بين الصادق والكاذب منهم بما خصّه به من الآيات الباهرة والعلامات المعجزة الخارجة عن العادة والحسّ وذلك معروف معدود كما يُحكى عن موسى وعيسى ومحمّد عليهم السلم وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

القول في كيفيّة الوحي والرسالة، أقول أنّ المسلمين ومن فيهم اختلفوا في هذا الباب اختلافاً كثيراً فزعمت طائفة أنّ الوحي إلهام وتوفيق وزعم آخرون أنّه قوّة الروح القُدسيّ وعند الفلاسفة النبوّةُ علم وعمل والمسلمون يقولون الوحي على وجوه فمنه الإلهام ومنه الرويا ومنه تلقين ومنه تنزيل وهذه مسألة من فصل الصفات أغفلناها في موضعها فحرّرناها في هذا الفصل وهي كيفيّة القول والفعل من الله لأنّ أهل الإسلام في ذلك مختلفون فزعم بعضهم أنّ كلام الله فعل منه فهو به متكلّم وكذلك إرادته ومشيّته وحبّه وبُغضه وقوله " كُنْ فَيَكُونُ " تكوين منه للشيء والقول زيادة قالوا لأنّ هذه الأشياء أعراض تحلّ في مواضع لها معلومة وليس هو بمحلّ الأعراض وقال عامّتهم أن الفعل تكوين وإيجاد من غير معالجة بجارحةٍ إلاّ مَنْ شَذّ فزعم أنّه يخلق بيدَيْه والأفعال على وجوه كثيرة فمنه الفعل بالقصد والاختيار ومنه الفعال من غير قصد على السَهْو ومنه الفعل بالاتّفاق والبحث وكلّها حركات ومنه فعل التولّد كما ينفعل الشيء بطبعه وفعل الله تعالى غير مُشبّه بشيء ممّا ذكرنا وزعم قوم أنّ كلامه ليس من أفعاله وفرقوا بين القول والفعل ولقد امتدّ بنا القول إلى هذه وما كان قصدُنا أن نبلغ كلّه ولكن لما رجونا من الخير وأمّلناه من هُدَاتِهِ الناظر في كتابنا واهتدائه به ولمّا نرى من فساد الزمان وأهله وتحرم طالع الإلحاد والنفاق وإعجاب كلّ ذي حرفين بنفسه لانتقاض العلماء ودروس آثارهم وما قدّمت من عمل هو أَوْكَدَ في نفسي أم لا وأوثق عُدّة من جميع هذا الكلام والاجتهاد في شرحه وأسأل الله الذي منّ وأعان أن يعصم من نزعات الشيطان وينفع به الناظرين والمستفيدين وإن يرحم من عذرنا في تقصير إن كان منّا وقام بتقويم أَوَدِهِ وإصلاح غلطة مشاركاً لنا في ثوابه وأجره فلم يتعمّد فيه خطاءً وتحريفاً ولا حملتنا الحميّة والتعصّب على تزيّد أَو إبطال أو تغيير رواية أو حكاية بل سُقناها على وجهها وأدّيناها بأوجز لفظها لعلمنا بعموم الحاجة إليه من الأعاجم والأمّيّين مبتدئ المتعلّمين.
الفصل الخامس

ذكر ابتداء الخلق

قال أنّ الموحّدين في معنى إيجاد الخلق مختلفون لأنّ الله خلق الخلق لا لاجتذاب منفعةٍ ولا لدفع مضرّة وكلّ فاعل من غير نفع ولا ضرّ فسفيهٌ غير حكيم قال المسلمون هذا إذا كان الفاعل يلحقه المنافع والمضارّ فأمّا إذا كان غنيًّا من احتراز منفعةً ممتنعاً من لحوق ضرر فغير سفيه ولا عابث وقد قامت الدلالة على أنّ البارئ كذلك حكيم غير سفيه ومحال وجود العَبَث من الحكيم فلا يخلو خلقه من الحكمة وإن خفي علينا وجهه لعلمنا بأنّ الحكيم لا يفعل ما هو غير حكمة واختلف آراء الناس في ما لاح لهم من الحكمة في خلقه وإن كان لا يجوز القطع على شيء منه لظنّه معظم علمه عنهم فقال قوم خلق الله الخلق لجوده ولرحمته إذ الجواد بإفاضة الجودُ على المجود عليه يظهر جوده والقادر بإظهار المقدور يظهر قدرته وقال قوم خلقهم لينفعهم وينفع بهم يعنون لتعبر المتكلّفون بالمخلوق غير المكلّف وقال قوم ليأمرهم وينهاهم وقال قوم خلقهم لاستدعاء الشكر والثناء وقيل لعِلم علمّهُ أَنّه يخلقهم وقال قوم لا نقول شيئاً من ذلك خلقهم لما شاء ولا علم لنا بمشيّته هذا قول من أقرّ بحدوث العالم وأنّ له مُحدثاً سابقاً له فأمّا من أنكر ذلك فإنّه احتجّ للقِدَم والإهمال بأنّه لو كان للعالَم صانع أو مدبّر ناظر لما كان فيه تفاوت خلق ولا تعادي سباع ولا شمول بوار ولا وقوع فساد ولا اعتراض أسقام وأَوْجاع ولا هَرَم ولا موت ولا حزَن ولا فاقة وأنّه حكمة في إنشاء صورة حيوانيّة أو ناميّة ثم في إفنائها ولما استوى حال المعاند والمجيب ولما فضل العالِمَ الجاهلُ بالجاه والمال والمنزلة وهل لا أخبر الخلق أن كان له خالق على التناصف والتواصل ولِمَ خُلّى بينهم وبين التعادي والتظالم والتباغي والتهارج وهذا كلّه مضمحلّ متلاشٍ بشهادة آثار الخلق على تفاوته واختلافه في الظاهر من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والأعراض والمقارنة له بمعرفة كمال القدرة ووجوب العبرة في خلق الأضداد وللكاره وإعطاء الخلق والقوة والقدرة والاختيار ليستحقّوا بأعمالهم أشرف الثواب وليرتدعوا بالاعتبار عن الظلم والفساد ولو كانوا مجبورين كما يزعمون أو مجبولين على فعل واحد دون ضدّه لكانوا جماداً مواتاً ولو كانوا على طبع واحد لما عرفوا بحواسّهم ولا وجدوا بعقولهم إلاّ الشيء الواحد الذي يلائم طبعهم فلم يصلح حينئذٍ تكليف ولا وقع منهم تمييز وترك إلحادهم على هذه الصورة أنفع لهم وأبلغ في الحكمة ولا يفعل الله إلاّ الأصلح الأحكم وأمّا فضل الجاهل العالم بالمال والجاه فالعلم أفضل من المال لأنّه السعادة اللازمة والمال من السعادة المفارقة فلو أنصف هذا الزاعم في القضيّة لفضّل الجاهل بالمال على العالم لفضّل العالم على الجاهل بأضعاف علمه لتساوي حالَيْهما وقد سُئل جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنه عن هذه القضيّة قال ليعلم العاقل أن ليس إليه من أمره شيء وأي لعمري هو من أدلّ دليل على مُدبّر قدير قاهر وهؤلاء المعطّلة أقلّ الناس عدداً وأوهنهم عُدّةً وأفيلهم رأياً وأوهاهم عزماً وأنقصهم حجّةً وأخسّهم دعوىً وأدناهم منزلةً وأغربهم ذهناً لا يظهر واحد في أمّة وجيل إلاّ في الدهر والحين لأنّه رأى مشرذل وعقيدة مهجورة وعزم مدحول لا يبدو من فَدْمٍ جاهلٍ أو معاندٍ وما أَراه انتشر في أمّة من الأمم وزَمَن من الأزمنة انتشاره في زماننا هذا وأمّتنا هذه لتستّر أهله بالإسلام وتحلّيهم تحلية شرائعهم ودخولهم في غمار أهله واحتال من احتال لهم بلطيف التمويه في تسليم الأصول الظاهرة والمصير به إلى التأويلات الباطنة فهم يرقّقون عن صَبُوح ويحتسون في إرتغاء وذلك الذي حقن دمائَهم وغمد سيف الحقّ عنهم نابغ في قديم الدهر وحديثه وأبدا صفحته إلاّ عوجل بالاستئصال واحثت منه الأوصال واستنجر العدّة فيهم سنّة الله في الدين خلَو من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلاً زعموا أنّ هذه الدنيا قديمة لم تزل على ما هي عليه ولا تزال كذلك من صيفةٍ بعد شتوةٍ وشتوةٍ بعد صيفة وليل بعد نهار ونهار بعد ليل ونطفة من إنسان وإنسان من نطفة ووالد من ولد وولد من والد وبيض من طير وطير من بيض وكذلك جميع الأشياء الحسّاسة والنامية بعضها من بعض بلا صانع ولا مدبّر لا أوّل لها ولا آخر فإنّ هذه دعوى جائزة ومقالة باطلة ولو كان هذا المدَّعى لم يزل مع أزليّة العالم

بزعمه لما ساغت له دعواه إن لم يقُمْ له دليل من غيره على أزليّته فكيف وليس هو ممّن هو لم يزل ولا هو ممّن لا يزال وإن اعتمد فيه خبر من كان قلبه وإن من أخبره لهو في حاله وحدوثه لم يشاهد من ذلك إلاّ ما شاهد من كان قبله مع معارضة الخصم له في الكون والحدوث لأنّ الدعاوى تصحّ بالحجج لا بالصفات وإن زعم أنّه قاس ما مضى منه بما هو مُستقبَل فيما بعدُ وأنّه غير مُنْقَضٍ فهذا القضاء أجود من الأوّل وأضعف مدّة بل هو نفس دعواه التي خولف فيها والمعارضة قائمة فإن زعم الحال والوقت الذي هو فيه فإنّ هذا رأيُ مَنْ قَصُر عِلمه وسَخُفَتْ معرفته وأوجب أن يكون هو بنفسه لم يزل على ما هو عليه في الحال والوقت لم يكن قط نطفة ولا علقة ولا مضغة ولا جنيناً ولا رضيعاً ولا يتغيّر فيما بعدُ فيكتهل ويشيب ويهرم وتجرى عليه الحوادث وتنتقل به الأحوال ومعاينة هذه يضطّره إلى الإقرار ويبيّن عنه وجه العناد وإن زعم أنّ حكمه في نفسه خلاف حكم العالم قيل ولِمَ زعمتَ ذلك وهل أنت إلاّ جُزْءٌ من العالم بل قد شبّهت في جميع معانيه فسُمِيّتَ العالم الأصغر وكذلك كلّ ما يعاين من الأشخاص والأنواع العُلويّة والسُفلية من الحيوان والنبات ألا ترى أنّك لو عمدت إلى كلّ جزء من أجزاء العالم فاختصصتَه باسمٍ لحصل العالم لا شيء كما أنّك لو فرقت الجوارح والأعضاء لحصل الإنسان لا شيء فهذا يدُلّك أنّ الكلّ اجتماع الجزء لا غير فإن قال لا يقوم في الوهم ولا يتصوّر في النفس حدوث هذا العالم ولا فنائه وانقضاؤه عُورض بأنّه لا يقوم في الوهم ولا يتصوّر في النفس قدم العالم ولا بقاؤُه مع أنّ القضاء عليه بالحدث والانقضاء أقرب إلى الأوهام وأشدّ ارتباطاً لنفوس لقيام الدلائل الواضحة والبراهين الشافية فإن قال كيف يمكن اعتقاد حدوث هذا العالم لا من شيء ولا في زمان ولا مكان فإنّ هذا اشتطاطٌ في المطالبة وجَوْرٌ في القضيّة لأنّه تكليف تمثيل ما لا مثل له وإحساس شيء غير محسوس وليس نعلم كالدنيا دُنياً غيرها فنشبّه هذه بهذه وإنما نحكم بحدوثها لشهادة أَثَر الحدوث بها والعامّي الذي لا أرى له ولا نظر عنده يطلب الدلائل الظاهرة على الأشياء الخفيّة وذلك مُحال بمنزلة مَنْ يجب أن يرى ما لا يُرى وأن يَسمع ما لا يُسمع أو يسمع ما يُرى ويُرى ما هو مسموع ومن أنصف نفسه أنزل المعلومات منازلها واكتفى من الموهوم بالوهم ومن المحسوس بالحسّ ومن المدلول عليه بالدلالة وقد لعمري لا يتصوّر في الوهم إحداث هذه الجواهر والأعراض لا من غير سابق ثمّ لا يتصور وجود حدث لا من مُحدث فإذا تكافأت الصورتان لزم المصير إلى أشيعهما دلالةً وأدناها إلى الحقّ درجةً فإنّ الدلائل شاهدة بآثار الحدث والقدم موهوم وقضيّة الدلالة عليه من قضيّة الوهم والدليل على أنّ العالم حادث غير قديم كما يزعمون وأنّه لا أوّل له ولا حركة إلاّ وقبلها حادثة لو كان كذلك لما جاز وجود ما هو حاضر في الحال من حركة أو ليل أو نهار أو شخصٍ ما لأنّ ما لا نهاية له في وجوده وعدمه فمحال أن يوصف بأنه قد تناهى وانقضى حدوثه وفُرِغ منه ولأنّ ما لا أوّل له فغير جائز وجود ثانيه ولا وجود ثالثٍ ما لا ثاني له ولا وجود رابعٍ ما لا ثالثَ له على هذا القياس كما أنّ ما لا غاية له ولا نهاية في المستقبل محال أن يُوصَف بأنّه ينقضي أو ينقطع يوماً كذلك من زعم من الحوادث لم يزل يحدُثُ بلا أوّل فهذا الحادث في الحال والوقت المشاهد لا يخلو من وجود ثلثة إمّا أن يكون هو الأوّل أو بعد الأوّل ولا أوّل ولا بعد الأوّل فإن كان هو الأوّل وإن كان بعد الأوّل فقد ثبت الأوّل وإن كان لا أوّل ولا بعد الأوّل فهذا فسادة ظاهرة فكأنّه قال شيء لا شيء ولو جاز وجود ما لا أوّل له لجاز وجود العشرات من غير تقدّم الآحاد ووجود المئين من غير تقدّم العشرات ووجود الألوف من غير تقدّم المئّين لأنّ بالأحد يتمّ الاثنان وبالاثنين يتم الثلاثة ألا ترى أنّ قائلاً لو قال لا تُنبِت الأرض حتّى تمطر السماء ولا تمطر السماء حتّى تتغيّم ولا تتغيّم حتّى يثور البُخار ولا يثور البخار حتى تهبّ الرياح ولا تهبّ الرياح حتّى يحرّكها الفلك ولا يحركها الفلك حتى تكون كذا ويمدّ في هذا الاشتراط شيئاً قبل أبداً إلى غير نهاية ولا غاية لم يجز وجود نبت ولا مطر ولا غيم ولا ريح لأنّه مُعلّق بشرط

ما قبله غير جائز وجوده لأنّه غير متناهٍ وكذلك من زعم أنّه لم يكن حركة إلاّ وقبلها حركة ولا إنسان إلاّ وقبله إنسان ولا نَبْت ألاّ وقبله نبت إلى ما لا غاية ولا نهاية فمحال وجود هذا الإنسان والنبت لأنّ وجوده كان معلّقاً بشرائط لا أوّلها وما لا غاية له لا يُوجد ولا يُعلم ولا يُوهم وكذلك لو قال قائل لا أدخلُ هذه الدار حتّى يدخلها زيد ولا يدخل زيد حتّى يدخل عمرو ولا يدخلها عمرو حتى يدخلها فلان ثم كذلك إلى غير غاية لم يجز دخول زيد ولا غيره أبداً وكذلك لو قال لا آكل تفّاحاً حتى آكل قبلها، ومن الدليل على حدث العالم أو أنّ له أوّلاً أنّا لو توهَمنا عند كلّ حركة مضَتْ من حركات الجسم حدوث حَدَثٍ أو ظهور شخص لكان ذلك أجساماً حاضرةً يحضرها العَدَدُ ويأتي عليها الحسابُ وكذلك لو توّهمنا هذا العالم حيّاً عالماً لجاز أن يُعدّ حركاته وسكناته فيكون ذلك عدداً قائماً معروفاً لمبلغ وما له مبلغ وأتى الحساب عليه فمتناه وكل متناه له وأول وإن لم يتناه ومن الدليل على حدث العالم وأن له أولاً أن ما مضى من حركات الفلك لا يخلو من أن يكون مثل سكناتها متساوية أو أكثر منها أو أقل فإن كانت مثلها فالمثل كالنصف وما له نصف فمتناه والأكثر والأقل تدل الكثرة على تضاعف أجزاء الأكثر على الأقل فإذا ثبت تقدم إحدى الحركات على الأخرى وما له تقدم فمتناه وله أول وهذا من الحجج الواضحة التي يفهمها كل سامح وللموحدين في هذا الباب من دقائق النظر بما ألهمهم الله من توفيقه ما لا يظهر عليها إلا اللقن الفطن ولها موضعها من كتابه فإن قيل أليس الحوادث عندكم في المستقبل لا تزال إلى الآخر وإن كان لها أول يريدون قول أهل التوحيد ببقاء الآخرة على الأبد فما أنكرتم أن ما مضى من الحوادث لا أول لها وإن كان لها آخر قيل أنا لا نزعم أن ما له أول لا يجوز أن يكون له آخر وإن الحوادث غير متناهية ولكننا نقول أن الحوادث لا يزال يحدث منها حادث بعد حادث لا إلى غاية ولا يخرج كلها إلى الوجود حتى يرى موجوداً لم يبق منه شيء لم يوجد وليس أول الشيء بموقوف على صحة وقوع آخره كما أن آخره موقوف على صحة وقوع أوله لأنه يستحيل وقوع آخر لا أول له ولا يستحيل وقوع آخر بعد آخر أبداً كما يستحيل وقوع فعل لا من فاعل متقدم ثم لا يجب وجود الفاعل بعد فعله باقياً أبداً أو كما أن الأعداد مفتقرة أبداً إلى أول تنشؤ منه وتبتدئ ثم لم يجب وجود تناهيها لتناهى أولها ومن الفرق بين المستقبل والمستدير أنه يجوز وجود ما لا يزال يتحرك ولا يجوز وجود ما لم يزل يتحرك كما أنه يجوز وجود من لا يزال يعتذر من ذنب ولا يجوز وجود من لم يزل معتذراً لأن الاعتذارات لابد لها من أول وقد يجوز أن يكون لا آخر لها كذلك الأفعال لابد أن لها أولاً ولا يجب أن يكون لها آخر ومن ها هنا التزم بعض الموحدين بأن الحوادث لها آخر آخر العلة الحدث وإن زعم أن هذا العالم وما فيه من فعل الطبائع وما أوجبته ذواتها فالطبائع كركبة من البسائط والتركيب عرض وهو دلالة الحدث فالطبائع إذاً محدثة ثم هي جماد وموات كالحجر والشجر ثم هي مسخرة مقهورة بدلالة أن من شأنها التنافر والتضاد فلما رأيناها متواطئة متوافقة لعمنا أنه بقهر قاهر وضبط ضابط ثم هي غير عالمة ولا مميزة وإذا كان هذا هكذا استحال وجود هذه الصنعة المحكمة المتقنة العجيبة البديعة من مسخر غير عالم وليس ننكر فعل الطبائع وتأثيراتها في المطبوعات من الحر والبرد في الفصل والأرباع لأن الله تعالى وضعها على ذلك وركب فيها تلك القوة وسخرها لما أراد أن يصرفها عليه وجعلها سبباً لتلك المسببات ومتى شاء سلبها تلك القوة وأبطل فعلها كما جعل الطعام مشبعاً والماء مروياً وكثير من الناس يأتون القول لما أطلقناه تحرزاً لمذهبهم وأن يصح فعل من حي قادر فأما الاختيار والتدبير فغير جائز إلا من قادر حكيم وكذلك على من يزعم أن هذا العالم وما فيه من فعل الفلك النجوم وغيرها فإن قيل إذا لم تروا حياً قادراً فعل إنساناً وصورة وركب فيه العقل والقوة والسمع والبصر ثم قضيتم بأن في الغائب حياً قادراً يفعل ذلك ما أنكرتم أن يكون الطبائع تصور مثل هذا الإنسان وإن لم تروا مثل هذا في الشاهد قيل وما سوآ لأنا وإن لم نشاهد حساً قادراً فعل إنساناً فقد شاهدنا حياً قادراً فعل شيئاً وأبدعه فدلنا أنه

لا يجوز فعل في الغائب إلا من حي وليست الطبائع بحية ولا قادرة فإن قيل أليس النار تحرق والماء يرطب قيل فقد يقولون فلان يحرق ويبرد ويضيفون الفعل إلى المختار الحي والموات المضطر ولو كانت الطبائع بذاتها لما جاز عليها الاتفاق مع تضادها فإن قيل شيء تعلمونه خالياً من الطبائع أو غير متولد منها قيل الطباع نفسها متولدة منها.جوز فعل في الغائب إلا من حي وليست الطبائع بحية ولا قادرة فإن قيل أليس النار تحرق والماء يرطب قيل فقد يقولون فلان يحرق ويبرد ويضيفون الفعل إلى المختار الحي والموات المضطر ولو كانت الطبائع بذاتها لما جاز عليها الاتفاق مع تضادها فإن قيل شيء تعلمونه خالياً من الطبائع أو غير متولد منها قيل الطباع نفسها متولدة منها.

وأكثر القدماء على أن الأفلاك ليست من جنس الطبائع وهل يصح القول بأن الحركة والسكون والصوت والعجز والقدرة والعلم والجهل والحب والبغض والألم واللذة والكراهية والإرادة وغير ذلك من الأضداد والأشكال من الطبائع أو أنها ليست بشيء لخروجها من أنواع الطبائع وأما احتجاجهم بالاستحالة فذلك محال إلا بمحيل لأنه لو جاز أن يستحيل الشيء بنفسه لجاز أن يتلاشى بنفسه ولو جاز أن يتلاشى بنفسه لجاز أن يتركب ويخرج إلى الوجود من العدم وهو عدم فلما لم يجز هذا لم يجز ذاك وبالله التوفيق، ومن الدليل على حدث العالم أنه لا يخلو من أحد الأمرين إما أن قد كان وإما أن لم يكون فكان فإن كان قد كان فهذه الحوادث المقارنة له شاهدة بأنه ما كان فدل أنه لم يكون فكان ثم لم يهل هذا من أحد الأمرين إما أنه كان بنفسه وإما أنه كان بمكون غيره فإن كان بنفسه فمحال أن يكون العدم وجوداً لعجز الكائن عن تكوين مثله فكيف يقدر على تكوين ذاته وهي معدوم بقي الوجه الآخر وهو أنه كونه مكون ومن الدليل على حدث العالم أنه لا يخلو أن يكون قديماً أو حادثاً أو قديماً حادثاً أو لا قديماً ولا حادثاً فاستحال القول بأنه لا قديم ولا حادث لمشاهدتنا إياه فاستحال أن يكون قديماً حادثاً لاستحالة اجتماع الضدين بقي القول بالقديم والحدث والدعوى يتساوى فيه لأنه ليس قول من زعم أن العلم كان أولى من قول من زعم بأنه لم يكون ولا جواب من قال لِمَ لَمْ يكن بأسعد من قول مَنْ قال لِمَ كان فنظرناه فإذا دلائل الحدث يشهد بما لا يشهد دلائل القدم ومتى أراد الملحد أن يعارضك في قولك بالقديم فطالبه بصفات القديم فإن أعطاك فقد أقر بالمعنى الخلاف في التسمية وهذه مناظرة جرت بين الموحد والملحد من أوضح المسائل وأنفعها لا بد لكل مسلم من تحفظها، إن سأل سائل فقال ما الدليل على حدث العالم قيل الدليل على حدثه أنه جواهر وأعارض والجواهر لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو متفرقة أو ساكنة أو متحركة إلا في حال واحدة ولن يجتمع المجتمع بالاجتماع ولا يفترق المفترق بالافتراق وكذلك المتحرك والساكن والاجتماع والافتراق والحركة محدثة وهو إذا كان كذلك ولم تخل الجواهر منها فهي محدثة لأن ما لم يسبق الحوادث ولم يتقدمها فحادث مثلها مثال ذلك أن فلاناً لو قال أن عمروا لم يوجد فيها زيد أمس فوجب أن عمروا إنما أوجد فيها أمس فإن قيل ليس قد وجدتم الباقي الذي ليس بمنتقض لا يخلو مما لا يبقى وينقضي ولا يوجد بعده متعرياً منه فما أنكرتم أن القديم الذي لم يزل لا يخلو من حادث ولا يوجد سابقاً له متعرياً منه قليل المعارضة فاسدة من قبل أنه ليس مما لا يبقى وينقضي عروضاً للحدث أو المحدث وإنما عروض ذلك لم يبق وانقضى وذلك أن قولك لا يبقى وينقضي الحالة على وقت يأتي به يستحق الحكم بأنه منقض غير باق فلم يكن منكراً لأن يقارن الباقي حتى لا يخلو منه إذا لم يسبق الوصف المضاد لوصفه وقولك قد حدث حكم قد وجب له في وقته لا ينتظر وجوبه في وقت فاستحال أن يقارن القديم حتى لا يكون القديم سابقاً له فإن قيل فأوجبوا أن يكون الباقي متغرباً ممن لم يبق وانقضى كما أوجبتم أن يكون القديم سابقاً للمحدثات موجوداً قبلها قيل ذلك يفعل وهو الواجب كما أنه سابق للحوادث فكذلك يجب أن يكون باقياً متأخراً عنها ومتى ما لم يكن كذلك يكن باقياً متأخراً عنها ومتى ما لم يكن كذلك لم يكن باقياً كما أنه لم يسبقها لم يكن قديماً فإن قال إذا زعمتم أن المقارن للحوادث حوادث فما ينكرون أن يكون المقارن للحوادث أمس حادثاً أمس قيل لأنا نقول أن الذي يقارن للحوادث حادث بالإطلاق ولكن نقول ما لم يسبقها فحادث مثلها والجسم فإن قارن الحوادث أمس كان موجوداً قبله فلذلك لم يجب أن يكون حادثاً معه وهذه يؤكد ما قلنا له كما وجب أن يكون ما لم يسبق الحادث أمس حادثاً أمس فكذلك يجب أن يكون ما لم يسبق الحوادث بإطلاق حادثاً بالإطلاق فإن قيل أليس لم نشاهد والأجسام مقارنة لحوادث إلا وقد كانت موجودة قبلها مقارنة لحوادث غيرها فهلا زعمتم أن ذلك سبيلها وأنها لم تزل كذلك قبل هذا غير واجب لأنا وإن كنا حكمنا بأن الأجسام التي شاهدناها كانت متقدمة للحوادث المقارنة له المقارنة لغيرها فلم نحكم بذلك من طريق الوجوب ولا لأن الجسم إنما كان جسماً موجوداً لأنه لابد من أن يكون

متقدماً للحوادث المقارنة لها مقارناً لغيره لأن هذا حد الجسم وحقيقته بل إنما حكمنا بذلك لأنا لم نشاهد جسماً حدث في وقت مشاهدتنا له ولأنه صح عندنا بالخبر والدليل أن هذه الأجسام التي شاهدناها قد كانت موجودة قبل مشاهدتنا لها وصح أن الجسم لا يخلو من حادث ولو أنا شاهدنا جسماً في وقت لم نشاهده قبله ثم لم يقم لنا دليل على أنه كان موجوداً قبل تلك الحال ولا خبر صادق بذلك لما حكمنا بأنه قد كان موجوداً قبل الحوادث المقارنة له مقارناً لغيرها بل كنا نخبر ذلك ونخبر أن لا يكون سبق ما هو موجود معه منها، فإن قيل ولم جوزتم هذا وهلا قضيتم على كل جسم غاب أو حضر ورد فيه خبراً ولم يرد قام على تقدمه دليل أو لم يقم بمثل ما شاهدتم عليه هذه الأجسام وقضيتم بها عليها من تقدمها الحوادث الموجودة منها ومقارنتها لغيرها وإلا فكيف تزعمون أنكم تقضون بالشاهد على الغائب قيل ليس القضايا بالشاهد على الغائب على ما ظننتموه لأنه ليس يجب إذا شاهدنا جسماً على صفة من الصفات أن تقضي كل جسم غاب عنا كذلك إنما يجب إذا شاهدناه على صفة ما أن ينظر هل هو عليها من جهة الوجوب الذي هو حده وحقيقته أم لا فإن كان كذلك قضينا على كل جسم غاب عنا كذلك إنما يجب إذا شاهدناه على صفة ما أن ينظر هل هو عليها من جهة الوجوب الذي هو وحده وحقيقته أم لا فإن كان كذلك قضينا على كل جسم غاب عنا بحكمه وإلا فلا كما قلتم أن لا جسم في الشاهد إلا مركباً من الطبائع الأربع ولا مركبا من الطبائع إلا جسماً ثم قلتم إن الأفلاك من طبيعة خامسة ولم يشاهدوا ذلك فكذلك إذا لم نر إنساناً إلا أبيض لم يجب القضاء بأن كل إنسان أبيض أو لم نَرَ رُمّاناً إلاّ وقد كان عندنا متقدّماً له مقارناً لحادث غيره فلم يكن جسماً لأنّه كذلك ولا ذلك حدّه بل حدّه أن يكون طويلاً عريضاً عميقاً فلمّا لم يكن جسماً لأنّه يسبق الحوادث فيُوجد مع غيرها لم يجب أن يكون ذلك حال كلّ جسم في كلّ وقت وهذا أيضاً جواب قولهم إذا لم يَروْا أرْضنا إلاّ ومن ورائها أرض ولا بيضة إلاّ من دجاجة ولا دجاجة إلاّ من بيضة فكيف قضيتم بخلاف ما شاهدتم فيقال ليس حدّ البيضة أن تكون من الدجاجة ولا حدّ الدجاجة أن تكون من البيضة وإنّما الدلائل قامت على حدثها فإن قال ولِمَ زعمتم أن الجواهر لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو متفرّقة قيل هذا من أوائل العلوم التي تُعرف بالبديهة ولا يعترض عليها بالشبه فإن قال ما الدليل على المجتمع اجتماعاً به كان مجتمعاً وللمفترق افتراقاً دونَ أن يكون مفترقاً ومجتمعاً بنفسه قيل لو كان مجتمعاً بنفسه لما جاز وجوده مفترقاً ما دام نفسه موجودة وكذلك المفترق فدلّ أنّ المجتمع مجتمع باجتماع وكذلك الافتراق، فإن قيل وما الدليل على الاجتماع والافتراق مُحدَثان قيل الدليل على ذلك أنّا نقصد الجسم المجتمع مفترقة فيُوجد فيه افتراق فلا يخلو ذلك الافتراق من أن كان موجوداً فيه قبل ذلك أو لم يكن فحدث فإن كان موجوداً فيه فقد كان مجتمعاً مفترقاً وهذا محال فثبت أنه حدث عند الافتراق وبطل أن يكون الاجتماع والافتراق كامنين في الجسم فإن قال ما أنكرتم أن يكون الاجتماعات والافتراقات لا نهاية لها وأنّه لا اجتماع إلاّ وقبله اجتماع ولا افتراق إلاّ وقبله افتراق قيل هذا فاسد لأنّه لو كان كذلك لما جاز أن يوجد واحدٌ منهما كما أنّ قاصداً لو قصد إلى جماعة فقال لا يدخلنّ هذا البيت أحدٌ منكم حتّى يدخله قبله آخر ما جاز أن يوجد واحدٌ منهم في ذلك البيت ولو وجد كان في ذلك انتقاض الشرط فإن قيل فما تنكرون أن يكون الاجتماع والافتراق خمسين قبل لو كانا كذلك لم يخلُ من أن يكونا مجتمعَيْن أو مفترقَيْن باجتماع وافتراق ها هما أو غيرهما فإن كانا مجتمعين باجتماع هو هما استحال وجود الافتراق فيهما ما دامت أعيانهما قائمةً وإن كانا مجتمعين باجتماع هو غيرهما احتاج ذلك الاجتماع إلى اجتماع إلى ما لا نهاية له ولا غاية وكلّ ما لا نهاية له ولا غاية فغير جائز وجود ما في الحال منه وهذه مسألة جارية منذ قديم الزمان ولقد رأيتُ أهل النظر يقحّمون أمرها ويرفعون من شأنها ووجدتها في عدّة كتب بألفاظ مختلفة فلم أجدها أكمل وأتمّ من قول أبي القاسم الكعبي في كتاب أوائل الأدلّة فأنبتّ بها على وجهها وقد ثبت حدث العالم كما ترى فيجب أن يُنظر أَأَحدث

جملةً واحدةً وضربة واحدة أم شيئاً بعد شيء لأنّ ذلك كلّه مجوز في العقل فإن أوجد كما هو فابتداؤه ما أوجد منه وليس ذلك إلى العقل فيُعتمد ولكن سبيله السمع والخبر والناس مختلفون فيه القدماء ومَنْ بعدهم من أهل الكتاب والمسلمون وأنا ذاكر من ذلك ما رُوى ومُرجّح ما وافق الحقّ إن شاء الله عزّ وجلّ.واحدةً وضربة واحدة أم شيئاً بعد شيء لأنّ ذلك كلّه مجوز في العقل فإن أوجد كما هو فابتداؤه ما أوجد منه وليس ذلك إلى العقل فيُعتمد ولكن سبيله السمع والخبر والناس مختلفون فيه القدماء ومَنْ بعدهم من أهل الكتاب والمسلمون وأنا ذاكر من ذلك ما رُوى ومُرجّح ما وافق الحقّ إن شاء الله عزّ وجلّ.

القول في ابتداء الخلق قرأت في كتاب منسوب إلى رجل من القدماء يقال له افلوطرخس ذكر فيه اختلاف مقالات الفلاسفة ووسمه بكتاب ما يرضاه الفلاسفة من الآراء الطبيعيّة حُكى عن تاليس الملطي أنّه كان يرى مبدأ الموجودات الماء منه بدأ وإليه ينحلّ وإنّما دعاه إلى توهّم هذا الرأي أنّه وجد جميع الحيوان من الجواهر الرَطْب الذي هو المنّى فأوجب أن يكون مبدأ جميع الأشياء من الرطوبة ومتى ما عدمت الرطوبة جفّت وبطلت وحُكى أن فيثاغورث من أهل شاميا وهو أوّل ما سمّى الفلسفة بهذا الاسم وتاليس أوّل من ابتدأ الفلسفة أنّه كان يرى المبادئ هي الأعداد المتعادلات وكان يسمّيها تأليفات وهندسيّات ويسمّى من جملة ذلك اسطقسات ويقول الواحدة والثانية لا حدّ لهما في المبادئ ويرى أنّ أحد هذه المبادئ هي العلّة الفاعلة الخاصّة وهي الله عزّ وجلّ والثاني العقل والثالث العنصر وهو الجوهر القابل للانتقال وعنه كان العالم المدرك بحسّ البصر وأنّ طبيعة العدد تنتهي إلى العشرة وإذا بلغها رجع إلى الواحد وأنّ العشرة بالقوّة في الأربعة وذلك إذا اجتَمعت الأعدادُ من الواحد إلى الأربعة استكملت عدد العشرة وقد ذكر ابن رزام هذا الفصل في كتاب النقض على الباطنيّة قال افلوطرخس وكذلك كان الفيثاغوريّون يقولون في الأربعة قسماً عظيماً ويأتون في ذلك بشهادة الشِعْر إذْ يقولون لا وحقّ الرباعية التي تدبر أنفسنا التي هي أصلٌ لكلّ طبيعة التي تسيل دائماً كذلك النفس التي فينا مركّبة من أربعة أشياء وهي العقل والعلم والرأي والحواسّ ومنها تكون كلّ صناعة وكل مِهْنَة وبها كنّا نحس أنفسنا فالعقل هو الواحدة وذلك أنّ العقل إنّما يجري وحده وإمّا الثانية التي ليست بمحمودة فالعلم وذلك أن كلّ برهان وكلّ إقناع فمنه وأمّا الثالثة فالرأي لأنّ الرأي لجماعة والرابعة الحواسّ وحُكى عن برافطليس أنّه كان يرى مبدأ كلّ شيء النار واليها انتهاؤها وإذا انطفأت النار يشكّل به العالم وأوّل ذلك أنّ الغليظ منه إذا تكاثف واجتمع بعضه إلى بعض صار أرضاً وإذا تحلّلت الأرض وتفرّقت أجزاؤها بالنار صارت ماء والنار يحللّ الأجسام ويثيرها وحُكى عن انغمامُس انه كان يرى الهواء أوّل الموجودات منه كان الكلّ وإليه ينحلّ الموجودات مثل النَفْس التي فينا وإن ّ الهواء هو الذي يحفظ فينا الروح والهواء يُمسكان العالم كلّه والروح والهواء يقالان جميعاً لأنّ على معنى واحد قولاً متواطئاً وحُكى عن فيثاغورث أنّه كان يرى أنّ مبدأ الموجودات هو المتشابه الأجزاء وأن الكائنات يكون بالغذاء الذي نتغذى به ومن هذه الكائنات يكون معنى المتشابه الأجزاء وعنده أنّ الأشياء يدرك بالعقل لا بالحسّ وهي أجزاء الغذاء وإنّما سمّيت متشابه الأجزاء من أجل أنّ هذه الأعضاء المكوّنة من الغذاء متشابهة بعضها يشبه بعضاً فسميّت متشابهة الأجزاء وجعلها مبادئ الموجودات وصيّر المتشابه الأجزاء عنصراً وحُكى عن ارسلاوس أنّه يرى مبدأ العالم ما لا نهاية له وقد يعترض فيه التكاثف والتخلخل فمنه ما يصير ماءً ومنه يصير ناراً وحُكى عن ايقورس أنّه كان يرى الموجودات أجساماً مدركة عقولاً لا خلاء فيها ولا كون سرمديّة غير فاسدة لا يحتمل التكسّر والتهشّم ولا يعترض في أجزائها خلاف ولا استحالة وهي مدركة بالعقل لا بالحواسّ وهي لا يتجزّأ وليس معنى قوله لا يتجزّأ أنّها في غاية الصغر لكن لا تقبل الانفعال والاستحالة وحُكى عن اثمادقليس أنّه لا يرى الاسطقسات الأربع التي هي الماء والنار والهواء والأرض وأنّ المبدأ مبدآن وهما المحبّة والغلبة واحدهما يفعل الإيجاد والآخر يفعل التفرقة وحُكى عن سُقراط بن سقرنقس وافلاطون بن آرسطو الإلاهيّ أنّهما يريان المبادئ ثلاثة الله والعنصر والصورة زعم المفسّرون أنّ معنى قولهم الله هو العقل العالم ومعنى العنصر هو الموضوع الأوّل للكون والفساد ومعنى الصورة جوهر لا جسم في التخييلات وحُكى عن ارسطاطاليس بن توماجس صاحب المنطق أنّه يرى المبادئ الصورة والعنصر والعدم والاسطقسات الأربع وجسم خامس هو الأمر غير المستحيل وحُكى عن دنوهرماوس أنّه يرى المبادئ هي الله تعالى وهي العلة الفاعلة والعنصر المنفعل والاسطقسات الأربع فهذا جملة ما حكاه افلوطرخس من أقاويل الفلاسفة في المبادئ وزعم أيوب الرهاوي في كتاب التفسير أنّ

المبادئ هي العناصر المفردة يعني الحرّ والبرد والبلّة واليُبْس فكُوِّنت النارُ من تركيب الحرّ مع اليُبْس وكُوِّن الهواء من تركيب البرد مع البلّة وكُوِّنت الأرض من تركيب البرد مع اليبس فصارت هذه العناصر المركّبة ثم كُوِّنَ من تركيب هذه العناصر المركبّة الحيوانُ والنباتُادئ هي العناصر المفردة يعني الحرّ والبرد والبلّة واليُبْس فكُوِّنت النارُ من تركيب الحرّ مع اليُبْس وكُوِّن الهواء من تركيب البرد مع البلّة وكُوِّنت الأرض من تركيب البرد مع اليبس فصارت هذه العناصر المركّبة ثم كُوِّنَ من تركيب هذه العناصر المركبّة الحيوانُ والنباتُ ذكر ما حكى أهل الإسلام عنهم، حكى زُرقان في كتاب المقالات أنّ ارسطاطاليس قال بهيولي قديم وقوة معه لم يزل وجوهر قابل للأعراض وأنّ الهيولي حرّك القوّة فحدث البرد ثم حرّكها فحدث الحرّ ثم قبلها الجوهر قال وشبّه إحداثَ الهيولي بالحركة بإحداث الإنسان الفعل بعد أن كان غير فاعل له والفعل عَرَض وهو غير الإنسان فكذلك الهيولي أحدث أعراضاً هي غيره ولا يقال كيف أحدثها كما لا يقال كيف حدثت هذه الحركة من الإنسان وحُكى عن جالينوس أنهّ قال بأربع طبائع لم ينفكّ العالم قال وقال سائر الفلاسفة بأربع طبائع وخامس معها خلافها لولا هو لما كان للطبائع ائتلاف على تضادّها قال وقال هرمس بمثل مقالة هؤلاء فاثبت العالم ساكناً ثم تحرّك والحركة معنىً وهو زوال وانتقال والسكون ليس بفعل قال وقال بلعم بن باعوراء العالم قديم وله مدّبر يدبّره وهو خلافه من جميع المعاني وأثبت الحركات فقال أنّ الحركة الأولى هي الثانية معاودة لأنّ من قوله أنّ الحركة مع أصل العالم والعالم قديم عنده قال وقال أصحاب الاضطراب بمثل مقالة بلعم إلاّ أنّهم زعموا أنّ العالم لم يزل متحرّكاً بحركات لا نهاية لها وأنكروا أن يكون الحركة لها أوّل وآخر لأنّها ليست بمحدثة قال وقال أصحاب الجنّة أن العالم لم يزل مصوّراً قديماً جُثّةً مُصْمتةً فانقلعت الجثّةً وكان الخلق كامناً فيها فظهر على نحو ما يظهر في النطفة والبيضة والنواة قال وقال أصحاب الجوهرة أن العالم جوهرة قديمة وأحديّة الذات وإنما اختلفت على قدر التقاء الجوهرة وحركاتها فإذا كانا جزءّيْن كانا حرّاً وإذا كان ثلاثة أجزاء صار برداً وإذا كانت أربعة صارت رطوبة وزعم أنّ حركة قبل حركة إلى ما لا نهاية وقد جمع الناشئ مذاهب هؤلاء كلّهم بلفظة واحدة فقال هم أربع طبقات فطبقة قالت بِقدَم الطينة وحَدَث الصبغة وطبقة قالت بحدث الطينة والصبغة وطبقة شكّت فلم تدرِ أقديمة هي أم حديثة لتكافئ الأدلّة عندها وقد قال جالينوس وما على أنْ لم أدرِ أقديمة هي أم حديثة وما حاجتي إلى ذلك في صناعة للطبّ

ذكر مقالات الثنويّة والحرّانيّة أصل اعتقاد هؤلاء في الجملة أنّ المبدأ شيئان اثنان نور وظلمة وأنّ النور كان في أعلى العُلْو وأنّ الظلمة كانت أسفل السُفْل نوراً خالصاً وظلمةً خالصةً غير مماسّين على مثال الظلّ والشمس فامتزجا فكان من امتزاجهما هذا العالم بما فيه هذا الذي يجمع أصل عقائدهم ثم اختلفوا بعد ذلك فزعم ابن ديصان أن النور خالق الخير والظلمة خالقة الشرّ بعد قوله بأنّ النور حيّ حسّاس والظلمة موات فكيف يصحّ الفعل من الموات ولما رأى من فنون ما لحق المانويّة والديصانيّة من التناقض والفساد أحدث مذهباً زعم أنّ الكونين النوري والظلامي قديمان ومعهما شيئ قديم ثالث لم يزل خلافها وخارجاً عن خارجهما وهو الذي حمل الكونين على المشابكة والامتزاج ولولا ذلك المُعَدّلُ بينهما لما كان من جوهرهما إلاّ في التباين والتنافر وزعم كنّان أنّ أصل القديم ثلاثة أشياء الأرض والنار غير أنّ المدبّر لها اثنان خير وشرّ، وأمّا الحرّانيّة فمختلف عندهم في الحكاية زعم أحمد ابن الطيب في رسالة له يذكر فيه مذاهبهم أنّ القوم مجمعون على أنّ للعالم علّة لم يزل ويقولون المدبّرات سبع واثنا عشر ويقولون في الهيولي والعدم والصورة والزمان والمكان والحركة والقوّة بقول ارسطاطاليس في كتاب سمع الكيان وزعم زرقان أنّهم يقولون مثل قول المانيّة وقال بعضهم أنّ مذهب الحرّانيّة ناموس مذهب الفلاسفة وما لم يكن يجسر أحدٌ أنْ يُظهر خلافهم، وأمّا المجوس فأصناف كثيرة ولهم هوس عظيم وترّهات متجاوزة الحدّ والمقدار لا يكاد يوقف عليها فبعضهم يقول بقول الثنوية وبعضهم على مذهب الحرّانيّة والخُرّميّةُ جنسٌ منهم يتستّرون بالإسلام ويقولون مبدأ العالم نور وأنّه نسخ بعضه فاستحال ظلمةً وأمّا أهل الصين فعامّتهم الثنويّة إلى كثير ممّن يليهم من التُرك وفيهم المعطّلة الذين يقولون بقدم العيان وأنّ العالم لا صانع له ولا مدبّر والهنود أصناف كثيرة وتجمعهم البراهمة والسمنيّة والمعطلّة الأخرى يقولون بالتوحيد غير أنّهم يُبطلون الرسالة ومنهم المهادرزيّة يزعمون أنّ المبدأ ثلاثة أخوة أحدهم مهادرز فاحتال أخواه في المكر به فعثرت به دابّته فسقط ميتاً فسلخا جلده وبسطاه على وجه العالم فصار من جلدته هذه الأرض ومن عظامه الجبال ومن دمائه الأودية والأنهار ومن شَعْره الأشجار والنبات هذا ما بلغنا من مذاهب سكّان الأرض والقدماء في هذا الباب وقد أشرنا إلى فساد مذهبهم ومذهب مَنْ يقول بقدم العالم أو شيء مع الله تعالى بما فيه كفاية وغُنية وهذه الحكايات كلّها إن لم يكن شيء منها زُمراً أو ألغازاً أو تمثيلاً أو روايةً عن كتاب من كتب الله عزّ وجلّ أو رسول من رُسل الله أو بوفاق ما جاء منهم أو بشهادة العقول قاطبةً فمردودة غير مقبولة ومحمولة على تمويه واضعها وتزوير مبتدعها وليس في كثرة الترداد والتكرار كثير فائدة ومتى مرّنْتَ نفسك على تحفّظ مسألة إحداث العالم استغنيتَ عن كثرة الخوض في الفروع التي بنيت على أصل القدم لأنّه إذا وَهَى البناء وضعُف لم يَثْبُت فروعُه ولا قامت أركانه.

ذكر مقالات أهل الكتاب في هذا الباب، قرأت في كتاب موسوم بشرائع اليهود أن جماعة من علمائهم نهوا عن التفحص عن هذا الباب والشروع فيه وزعموا أنه لا ينبغي للإنسان أن يبحث عما يتعجب منه ويخفى عليه وزعم بعضهم أن الشيء الذي خلقه الله تعالى في الابتداء سبعة عشر شيئاً خلقها الله بلا نطق ولا حركة ولا فكرة ولا زمان ولا مكان وهي المكان والزمان والريح والهواء والنار والماء والأرض والظلمة والنور والعرش والسموات وروح القدس والجنة وجهنم وصور جميع الخلائق والحكمة قال ومخلوقه ذو جهات ست وهو محصور بين هذه الجهات التي هي الأمام والخلف والعلو والسفل واليمين والشمال وزعم بعضهم أن أول ما خلق الله سبعة وعشرون شيئاً فذكر هذه السبعة عشر وأضاف إليها كلام موسى الذي سمعه وجميع ما رأته الأنبياء والمن والسلوى والغمام والعين التي ظهرت لبنى إسرائيل والشياطين واللباس الذي ألبس آدم وحواء وكلام والجبار الذي كلم به بلعام هكذا الحكاية عنهم والمسطور في أول سفر من التورية بالعبرانية برشت مارا ايلوهيم اث هشومائم واث هو اورس وهو اورس هو ننو ثوهم وحوشخ على هي تهوم يقول أول شيء خلقه السماء والأرض وكانت الأرض جزيرة خاوية مظلمة على الغمر وريح الله يزف على وجه الأرض كذا فسره المفسرون فلا أدري كيف خالفته الحكاية عنهم ضمن التورية ولعل ما ذكروه في بعض أسفارهم لأن التورية مشتملة على عدة كتب من كتب الأنبياء والله أعلم وأما النصارى فدينهم في هذا دين اليهود لأنهم يقرءون التورية ويقرون بما فيها والصابئون محرون في مذهبهم فأكثر الناس على أن دينهم بين دين اليهود والنصارى فإن كان كذلك فقولهم قولهم وحكى زرقان أن الصابئين يقولون بالنور والظلمة على نحو ما يقوله المنائية والله أعلم.

ذكر قول أهل الإسلام في المبادئ وما جاء من الروايات فيها، حدثنا الحسن ابن هشام ببلد قال حدثني ابراهيم بن عبد الله العبسي حدثنا وكيع عن الأعم عن أبي طبيان عن ابن عباس رضي الله عنه قال أول ما خلق الله من شيء القلم قال اكتب فقال أي ربي وما أكتب قال القدر فجرى القلم بما هو كائن من ذلك اليوم إلى يوم القيامة قال ثم خلق النون فدحا الأرض عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات فاضطربت النون فمارت الأرض فأثبتت بالجبال وإن الجبال تنفجر على الأرض إلى يوم القيامة وحدثنا عبد الرحمن بن أحمد المروزي بمرو حدثنا السراج محمد بن اسحق حدثنا قتيبة بن سعد حدثنا خالد بن عبد الله بن عطاء عن أبي الضحا عن ابن عباس رضي الله عنه قال أول شيء خلق الله تبارك وتعالى القلم فقال له اكتب ما يكون إلى يوم القيامة ثم خلق نون فكبس عليها الأرض يقول الله تعالى نون والقلم وما يسطرون وحدثني محمد بن سهل باسوار حدثنا أبو بكر بن زيان حدثنا دعه عيسى بن حماد عن الليث بن سعد عن بني هانئ عن أبي عبد الرحمن البجلي عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كتب الله القادر كل شيء قبل أن خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام وقد اختلفت الروايات عن ابن عباس رضي الله عنه أول ما خلق الله القلم وروى عنه سعيد بن حبير أول ما خلق الله العرش والكرسي وروى أول ما خلق الله النور والظلمة وروينا خلاق ذلك كله عن الحسن أنه قال أول ما خلق من شيء العقل وروى عنه أول ما خلق الله الأرواح وفي رواية أبي الوليد عن أبي عوانه عن أبي بشر عن مجاهد قال بدء الخلق العرش والماء والهواء وخلقت الأرض من الماء وحدثني حاتم بن السندي بتكريت حدثنا أحمد بن منصور الرمادي عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم كما وصف لكم وأما حديث حماد بن سلمة عن يعلى بن عطا عن وكيع بن حرس عن عمه أبي رزين العقيلي أنه قال قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن خلق السموات والأرض قال كان في عماد ما تحته هواء ولا فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء فإنه إن صح وصح تأويل من تأول العماء السحاب والغمام دل أن خلق الغمام المذكور في الخبر والقرآن كان قبل خلق السموات والأرض وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كتب الله كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ووضعه على العرش فإن صحت الرواية دل أن خلق العرش كان قبل سائر الخلق وفي كتاب أبي حذيفة عن حبير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه أن الله لما أراد أن يخلق الماء خلق من النور ياقوتة خضراء ووصف في طولها وعرضها وسمكها ما الله به عليم قال فلحظها الجبار لحظة فصارت ماء يترقرق لا يثبت في ضحضاح ولا غير ضحضاح يرتعد من مخالفة الله ثم خلق الريح فوضع الماء على متن الريح ثم خلق العرش فوضعه على متن الماء فذلك قوله تعالى وكان عرشه على الماء وروى عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن ابن جبير قال سألت ابن عباس رضي الله عنه عن قوله تعالى وكان عرشه على الماء فعلام كان الماء قبل أن يخلق شيئاً قال على متن الريح فإن صحت الرواية عن الضحاك دل أن النون قبل خلق الماء وأما محمد بن اسحق فإن يقول في كتابه وهو أول كتاب عمل في بدء الخلق لقول الله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء فكان كما وصف نفسه تبارك وتعالى إذ ليس إلا الماء عليه العرش ذو الجلال والإكرام والعزة والسلطان فكان أول ما خلق النور والظلمة ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً أسودا مظلما وجعل النور نهاراً مضيئاً مبصراً ثم سمك السموات السبع من دخان الماء حتى استقللن ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال وقدر فيها الأقوات ثم استوى إلى السماء وه دخان، لا يختلف أحد من المسلمين ومن يدين الله بالكتاب والرسالة أن ما دون الله تعالى مخلوق محدث وإن لم يذكر خلقه وإحداثه وإنما مرادنا أن نعرف أول ما خلق الله منه إن كان ذلك ممكناً منه اختلف الرواة عن وهب بن منبه وغيره من منى أهل الكتاب فروى عن عبد الله بن سلام أنه قال خلق الله نوراً وخلق من ذلك النور ظلمةً وخلق من تلك الظلمة نوراً وخلق من ذلك النور ماءً يخلق من ذلك الماء الأشياء كلها وعن وهب بن منبه

قال وجدت فيما أنزل الله على موسى بن عمران عليه السلم أن الله لما أراد خلق الخلق خلق الروح ثم خلق من الروح الهواء ثم خلق من الهواء النور والظلمة ثم خلق من النور الماء ثم خلق النار والريح وكان عرشه على الماء وسمعت بعض الشيعة يزعمون أن أول ما خلق الله نور محمد وعلي ويرون فيه رواية والله اعلم بحقها وقد ذكرت حكماء العرب ومن كان يدين الله منهم بدين الأنبياء في أشعارها وخطبها كيف كان مبدأ الخلق فمنه قول عدي بن زيد العبادي وكان نصرانياً يقرأ الكتب: وجدت فيما أنزل الله على موسى بن عمران عليه السلم أن الله لما أراد خلق الخلق خلق الروح ثم خلق من الروح الهواء ثم خلق من الهواء النور والظلمة ثم خلق من النور الماء ثم خلق النار والريح وكان عرشه على الماء وسمعت بعض الشيعة يزعمون أن أول ما خلق الله نور محمد وعلي ويرون فيه رواية والله اعلم بحقها وقد ذكرت حكماء العرب ومن كان يدين الله منهم بدين الأنبياء في أشعارها وخطبها كيف كان مبدأ الخلق فمنه قول عدي بن زيد العبادي وكان نصرانياً يقرأ الكتب:
اسمع حديثاً لكي يوماً تجاوبه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا
إن كيف أبدى إله الخلق نعمته ... فينا وعرفنا آياته الأولا
كانت رياحاً وماءا ذا عرانية ... وظلمة لم يدع فتقاً ولا خللا
فأمر الظلمة السوداء فانكشفت ... وعزل الماء عما كان قد شغلا
وبسط الأرض بسطاً قم قدرها ... تحت السماء سواءاً مثل ما فعلا
وجعل الشمس مصيراً لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فضلا
قضى لستة أيام خلائقه ... وكان آخر شيء صور الرجلا
وقد حكى الفرس عن علماء دينهم وموبذيهم أول ما خلق الله السموات والأرض ثم النبات ثم الإنسان.

ذكر تصويب أرجح المذاهب، أقول أن رأى من رأى تقديم أحد الأركان على غيره هو محتل واه لأنهم يختلقون في الاستحالة والفساد وكيف يصح على رأي تاليس الماء وهو عنده مستحيل من الأرض وعلى رأي يراقليطس النار وهي مستحيلة عنده من الهواء وكذلك سائر الأركان أم كيف يجوز عندهم تولد حيوان أو تكب نبات من غير اجتماع هذه الأخلاط الأربع فيها لأن ما تفرد بطبع واحد لا يوجد منه غير حركته الطبيعية أو من زعم بابتداء البسائد ثم العناصر المركبة فإنه يفحش قوله لأن البسائط أعراض لا تقوم بذواتها ولا بد لها من حامل فكيف يصح وجودها بلا حامل وكذلك من زعم النور والظلمة لأنهما عرضان لا جسمان والأصح على مذهب هؤلاء ما رأى اثمادقليس من تقدم الاسطقسات الأربع وفساد هذا ظاهر عند المسلمين بأن الاسطقسات لا تخلو أن تكون أعراضاً فإن كانت أعراضاً فالعرض لا يقوم بنفسه أو يكون أجساماً وحد الجسم ما ذكرناه وإثر الحدث مقارن له أو يكون لا أجساماً ولا أعراضاً فهذا غير معقول عند المسلمين إلا البارئ جل جلاله فإنه خلاف خلقه من جميع الوجوه وإذا لم تكن أجساماً ولا أعراضاً عندهم فلابد أن يكون هو الهيولى الموهوم في مذهبه وهذا شيء لو كان موهوماً لما جاز وقوع الاختلاف فيه إلا من معاند كما لا يجوز وقوع الاختلاف في المعقول إلا من معاند مع أن الوهم لا يحصر ما لا حد ولا صفة من لون أو مقدار أو شيء من الأعراض المحسوسة وجملة هذا القول في هذا الباب مراعاة إثر الحدث فيما سوى البارئ جل جلاله فإذا ثبت ذلك علم أن ما كان محدثاً فلا بد له من ابتداء وإذا كان لا يقول بحدث العالم إلا الموحدون لم يوجد ابتداء ذلك إلا من جهتهم وهم يختلفون في الرواية عن علمائهم في الظاهر ومتفقون في المعنى إذا انعموا النظر فأما أهل الكتاب وما حكى عنهم فمحتمل غير أنه لا يجوز القطع به ما لم يصدقه كتابنا أو خبر نبينا صلى الله عليه وسلم لما وقع فيهم من التحريف والتبديل ولأنه خلاف ما ذكر في أول التورية في ابتداء الخلق فالذي يوجبه العقل أن يكون مكان كل متمكن سابق له وإن لا يحل حركة إلا في جسم ولا يوجد إلا في زمان وإن لا يصح فعل اختيار وتدبير إلا من حي عالم وإن لا يحدث شيء إلا من شيء وإن الأركان الأربع سابقة للأجسام فمن قال بقدم هذه ومذهبه ومن قال بحدثها فما حاجته إلى تقديم ما قدم منها وقد أقر بأن الله أحدث الزمان من غير زمان والمكان في غير مكان والأركان من غير اللهم إلا أن يعمد فيه شيئاً من كتب الله فليس يجد في كتاب أول ما خلق ما هو فيقضي على ما خالفه بالرد والإنكار ولا بد لكل حادث من غاية ينتهي إليها كقولنا الساعة من اليوم واليوم من الأسبوع والأسبوع من الشر والشهر من السنة والسنة من الزمان والزمان من الدهر فقد انتهى إلى الزمان والزمان غايته وكما نقول فلان من فلان وفلان من فلان كما ترفع مثلاً نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أدم ثم يقال وآدم من تراب فالتراب آخره وكذلك سائر الأشياء الحادثة لابد لها من غاية هذا ما يعاينه ويشاهده فلذلك وضعنا ما روينا عن أهل الكتاب على وجه الاحتمال فقد ذهب بعض أهل الإسلام إلى أن أول ما أحدث الزمن العلوي وهو وقت يظهر فيه الفعل ليس السفلي الذي هو من حركات الفلك ثم المكان الذي هو غير متجزئ ولا متماسك وهو فضاء وبسيط ذاهب خلاء محيط بالعالم قال وليس الهواء من الفضاء في شيء لأن الهواء جسم متجزئ ومنتشر وليس الخلاء بمتجزئ ولا محسوس ومعنى قوله لتجزئ أن الخلاء لا يدخل العالم منه شيء إلا يتحلله بتةً والهواء ما بين السماء والأرض ولا يخلو منه شيء والخلاء ما فيه السماء والأرض والهواء وثم الأجسام بأعراضها كذا رأيت في بعض كتبهم والله أعلم فإذا سأل سائل عن ابتداء الخلق فجوابه أن ما دون الله مخلوق نعم سؤالك عن العالم العلوي أم العالم السفلي أم عن الآخرة الموعودة أم عن الدنيا الفانية لأن كل شيء من هذه الأشياء ابتداء منه ابتداء ونشو فإن قيل هل غير الدنيا والآخرة شيء قيل العرش والكرسي والملائكة واللوح والقلم وسدرة المنتهى مخلوقة كلها ولا تعد من الدنيا ولا من الآخرة وكذلك الجنة والنار والصراط والميزان والصور والأعراف والرحمة والعذاب مخلوقة عند كثير من الأمة ثم من بعدهم من أهل الكتاب ولا يعد من الدنيا ولا من الآخرة فإن قيل فقد قال

الله تعالى فلله الآخرة والأولى ولم يذكر شيئاً غيرهما قيل ولم يذكر الأشياء غيرهما مع أكثر أهل التفسير يقولون معناه لله الحكم في الآخرة والأولى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعد الموت مستعتب ولا بعد الدنيا إلا الجنة والنار لأنه لا شيء غيرهما وإنما يصح هذا إذا عرفت الدنيا والآخرة ما هما على أنه لا عتب على من عد ما ذكرناه من أمر الآخرة ولا مضايقة فيه بعد أن اعتقدها كما جاءت به كتب الله وينبغي أن يعلم أن كلما دون الدنيا روحاني حيواني خلق للبقاء والخلود على الأبد لا يجوز عليه الانحلال والدثور بقول الله تعالى " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كان يعلمون " .لله تعالى فلله الآخرة والأولى ولم يذكر شيئاً غيرهما قيل ولم يذكر الأشياء غيرهما مع أكثر أهل التفسير يقولون معناه لله الحكم في الآخرة والأولى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعد الموت مستعتب ولا بعد الدنيا إلا الجنة والنار لأنه لا شيء غيرهما وإنما يصح هذا إذا عرفت الدنيا والآخرة ما هما على أنه لا عتب على من عد ما ذكرناه من أمر الآخرة ولا مضايقة فيه بعد أن اعتقدها كما جاءت به كتب الله وينبغي أن يعلم أن كلما دون الدنيا روحاني حيواني خلق للبقاء والخلود على الأبد لا يجوز عليه الانحلال والدثور بقول الله تعالى " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كان يعلمون " .
ذكر أول ما خلق في العالم العلوي من الحيوانات يدل على أن أول ما أوجدوه الله تعالى القلم واللوح على رواية أبي ظبيان عن ابن عباس ثم العرش والكرسي على رواية مجاهد وقد قال قائل أن أول ما خلق الروح والعقل على رواية الحسن لأن في رواية ابن عباس أنه قال للقلم اكتب فقال أي رب وما اكتب والأمر في الحقيقة والجواب لا يصح إلا من حي عاقل قال ثم الحجب ومنها الغمام والنور والملائكة ثم الرحمة والعذاب يعني الجنة والنار والصراط والميزان وغير ذلك مما ذكر وأول ما خلق في العالم السفلي من الحيوانات الماء والهواء كما قال مجاهد وخلقت الأرض من الماء فهذه أركان العالم ثم النور والظلمة ومن الناس من يفرق بين النور العلوي والنور السفلي بأن هذا جسم لطيف وذلك روح خالص مع اختلافهم في الروح أجسم هو أم غير جسم وسيمر بك في بابه مشروحاً مفسراً إن شاء الله عز وجل فإذا سأل سائل مم خلق الخلق قيل أن الخلق أجزاء مختلفة فعن أي جزء من أجزاء الخلق سؤالك ولن يجاب حتى يشير إلى ما أردنا فإن سأل عن الأرض قيل من زبد الماء كما جاء في الحديث وإن سأل عن الكواكب قيل من ضوء النهار وإن سأل عن الأركان المركبة قيل من البسائط المفردات وإن سأل عن البسائط قيل يمكن أن يكون خلقت مما خلق قبلها ويمكن أن يكون خلقت لا من شيء لأنا نرى الله يخلق الشيء من الشيء ويخلق من لا شيء وقد دللنا على أن لا شيء غير الله تعالى إلا مخلوق وأن الله ابتدعه بدئاً لا من شيء كما شاء ما لا حاجة إلى إعادة القول فيه بقول الله تعالى " بديع السموات والأرض " وقال الله " خلق كل دابة من ماء " وقال الله " خلقكم من نفس واحدة " وقال " خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار " مع سائر ما وصفت أنه خلقه من خلق خلقه قبله وكذلك يفعل الشيء بسبب ويفعله بلا سبب موجب قال الله تعالى " وانزل من المساء ماء فاخرج به من الثمرات رزقاً لكم " فأخبر عز وجل أنه جعل سبب إخراج الثمر والنبات إنزال الماء وكذلك جعل سبب كون الإنسان النطفة وسائر ما يوجده ويحدثه وقد أوجد أمهات هذه الأسباب بغير سبب موجب لها بل بقدرته وحكمته وإن سأل سائل فيم خلق قيل فيم سؤال عن المكان ولا مكان ألا وهو مفتقر إلى مكان وقد سبقت الدلالة على فساد الحلل بما ليست له نهاية فلو قال القائل أن العالم لا في مكان لكان قولاً لأنه ليس بأعجب من إقراره بإيجاد الأعيان لا من ير سابقة وقد قيل أنه في خلاء وهو مكان له وزعم آخرون أن العالم بعضه مكان لبعض وفي كتاب وهب بن منبه أن السموات والجنة والنار والدنيا والآخرة والريح والنار كلها في جوف الكرسي فإن صحت الرواية كان الكرسي مكاناً لهذه الأشياء والله اعلم وأحكم.

وإن سأل كيف خلق قيل كيف سؤال يقتضي التشبيه في الجواب وليس نعلم العالم مثلاً غيره فنشبهه به ولكنا مشاهدين له عند أحداثه ولا فعل الله تعالى بحركة ولا معالجة والكيفية منتفية عن فعله كما هي منتفية عنه سبحانه فإن أردت كيف أوجده من عدم فكيف تراه أجساماً وجواهر حاملة للأعراض قال له كن فكان كما أخبرنا عنه وإن أردت شكلاً وهيئة لفعله فهذه من حالات الأعراض التي تتعاقب على المخلوقين فإن سأل سائل متى خلق قيل متى سؤال عن المدة والوقت من الزمان والمدة عندنا من حركات الفلك ومدى ما بين الأفعال وقد قامت الدلالة على حدث الفلك ولا يطلق المسلمون القول بأن الله تعالى لم يزل يفعل لأن ذلك يوجب أزلية الخلق ويؤدي إلى قول من يرى المعلول مع العلة حتى يكون بين فعل سابق له إلى أن فعل العالم مدة وقد زعم بعض الناس أنه أحدث زماناً أوجد فيه العالم كمن قال أنه أحدث مكاناً فيه العالم فقال قوم الزمان ليس بشيء وإن سأل سائل لم خلق قيل لم سؤال عن العلة الموجبة للفعل وفاعل ذلك مضطر غير مختار والمضطر مقهور مغلوب ولا يجوز ذلك في صفة القديم فإن أردت بالعلة الغرض المقصور في الخلق فهو ما ذكرناه في أول هذا الفصل أنه خلق الخلق لرأفته ورحمته وجوده وقدرته لينفعهم وليأكلوا من رزقه وليتقلبوا في نعمته ويستحقوا شرف الثواب بطاعته.
الفصل السادس

في ذكر اللوح والقلم والعرش والكراسي
والملائكة والصور والصراط والميزان والحوض والأعراف والثواب والعقاب
والحجب وسدرة المنتهى وسائر ما يرويه الموحدون مما يعد من أمور الآخرة واختلاف من اختلف فيها.

ذكر اللوح والقلم قال الله تعالى في محكم كتابه " ن والقلم وما يسطرون " وقال " في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون " وقال " وكل شيء أحصيناه في أمام مبين " وقال " ما فرطنا في الكتاب من شيء " وقال " في لوح محفوظ " قال أكثر المفسرين أنه لوح وقلم خلقهما الله كما شاء وألهم القلم أن يجري بما أراد وجعل اللوح واسطة بينه وبين ملائكته كما جعل الملائكة واسطة بينه وبين رسله ورسله واسطة بينه وبين خلقه وهذا لا يختلف فيه موحد ولا يسوغ الاختلاف فيه لظاهر النص من الكتاب والسنة فإن خطر خاطر بأنه أية فائدة في اللوح والقلم فليقل له لأن أسرار حكمة الله عز وجل عن العباد محجوبة إلا ما أطلعهم عليه وما طوى عنهم فليس إلا التصديق به والاستسلام له لقول الله عز وجل يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وأعلم أن الكلام في الفصل مع من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لأن هذا سبيله سبيل الخبر والسمع والمسلون وأهل الكتاب قاطبة قد تلقوه بالقبول وقد قال قائل أن الله تبارك وتعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هو كائن وما هو مكونه فأجرى القلم به في اللوح وروى فيه أخبار مسطرة في كتب أهل الحديث رضينا بما صح منها واستسلمنا له وجاء في ذلك القلم أن طوله ما بين السماء والأرض وأنه خلق من نور وفي صفة اللوح أنه لوح محفوظ طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب معقود بالعرش يصك ما بين عيني إسرافيل وهو أقرب الملائكة إلى العرش فإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يحدث في خلقه شيئاً قرع اللوح جبهة إسرافيل فأطلع فيه فإذا فيه ما أراد الله تعالى بقول الله يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب فيأمر به جبرئيل أو من يليه من الملائكة وأكثر أهل الدين على أن البارئ لا يسمه كما أنه لا يلمس وإنما يسمع كلامه كما يلمس خلقه هذا قول أهل الإسلام وقد ذهب قوم من المتسترين بالدين إلى تأويلات مكروهات مردودات فزعم بعضهم أن معنى القلم العقل لأنه دون البارئ جل وعز في الرتبة وجرى بنفسه لأن العقل يدرك الأشياء بغير واسطة قال ومعنى اللوح المحفوظ النفس لأنه دون العقل في الرتبة يدبرها العقل كما جرى القلم في اللوح المحفوظ وزعم أن القلم واللوح غير محدثين ولا مخلوقين وقد دللنا على حدث العقل والنفس في الفصل الثاني بما يجري عليهما من الزيادة والنقصان والسهو والضعف والثقلة والتجزئ بتفرق الهياكل والأجسام وحاجة العقل إلى التجربة والامتحان وحاجة النفس إلى الغذاء والقوام ما فيه كفاية وبلاغ وذلك أن القديم البارئ لا يجوز عليه شيء من هذه العوارض وزعم آخرون أن اللوح هو العالم السفلي والقلم العالم العلوي يؤثر في السفلي وبعضهم يزعم أن القلم هو الروح واللوح الجسد وأهون الأمور إنكار اللوح والقلم وسائر ما وصف من أمر الآخرة والدخول في الإلحاد المحض حتى يقع الكلام معهم من حيث ينبغي أن يقع لأن هذه الأشياء من شرائع الأنبياء عليهم السلام فكما لم يوجبها العقل فكذلك لا يرد تأويلها إلى العقل بل تسلم كما جاءت، وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور وكلامه بر ينظر الله فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة يحيي بكل نظرة ويميت بكل نظرة ويرفع ويضع ويعز ويذل ويخلق ما يشاء ويحكم ما يريد والله أعلم واحكم وقد دللنا لك أن كل ما كان من أمر الآخرة فروحاني حيواني وإن شارك جسمانياً في الأسامي فمن ذلك قوله درة بيضاء وياقوتة حمراء.
ذكر العرش والكرسي وحملة العرش قال الله تبارك وتعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش وقال ويحمل عرش ربك فوقهم يوميذ ثمانية فذكر العرش في غير موضع من كتابه وقال وسع كرسيه السموات والأرض فلم يجز وقوع الاختلاف فيه بين المسلمين لظاهر شهادة الكتاب وإنما اختلفوا في التأويل فقال بعضهم أن العرش شبه السرير واستدلوا على قولهم بقوله أيكم يأتيني بعرشها وبقوله ورفع أبويه على العرش وكثير من أهل التشبيه يذهب إلى إنه كالسرير له وهو مذهب أهل الكتاب ومن كان من العرب بدينهم يدل عليه قول أميه بن أبي الصلت:
شد القطوع على المطايا ربنا ... كل بنعماء الإله مقيد
فاصحن وافترش الرحائل شرجع ... نفخ على اثباجهن مؤكد

بفصوص ياقوت وكظ بعرشه ... هول ونار دونه تتوقد
فعلا طوالات القوائم فاستوى ... فوق الجلود ومن أراد مخلد
وقال أيضاً
مجدوا الله وهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
ذلك المنشئ الحجارة والمو ... تى وأحياهم وكان جديرا
بالبناء الأعلى الذي سبق النا ... س وسوى فوق السماء سريرا
شرجعاً لا يناله بصر النا ... س ترى دونه الملائك صورا
وقال لبيد
لله نافلة الأجل الأفضل ... وله العلى ولبيت كل مؤثل
سوى فأغلق دون غرفة عرشه ... سبعاً طباقاً دون فرع المعقل
وقال كثير من المسلمين أن العرش شيء خلقه الله لمنتهى علم عباده وتعبد الملائكة بتعظيمه والطواف حوله ومسئلته الحوائج عنده كما تعبد الناس بتعظيم الكعبة واستنجاح الحوائج لديها والصلوة له إليها لا أن يكون ذلك مكاناً له أو حاملاً جل وتبارك البارئ أن يكون محمولاً أو محدوداً أو محاطاً وبعضهم يقول العرش الملك ويتأول قوله الرحمن على العرش استوى قال استولى على الملك واحتج بقول الشاعر:
إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم ... وأودت كما أودت إياد وحمير
وأما الكرسي فخلق مثل العرش وقد روينا عن الحسن أنه قال الكرسي هو العرش وجاء في بعض الروايات أن الكرسي بين يدي العرش كدرة بأرض فلاة والسموات السبع والأرضون السبع وما فيها بجنب الكرسي كحلقة من حلق الدرع في أرض فيحاء ومن المسلمين خلق كثير يذهبون إلى أن الكرسي هو العلم واستدلوا بقوله تعالى " وسع كرسيه السموات والأرض " قالوا معناه أحاط علمه بها وبما فيها والكراسي العلماء وانشدوا بيتاً:
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالإحداث حين تنوب
وقد روى أصحاب الحديث أن الكرسي موضع القدمين والله أعلم بصدقه وتأويله إن صح لأن مذهبنا تسليم ما قصر عنه علمنا، وأما حملة العرش الملائكة خلقوا لذلك فيوصف من أقدارها وأجسامها ما الله به عليم قالوا وهم اليوم أربعة وجه أحدهم على صورة وجه النسر والثاني كوجه الأسد والثالث كوجه الثور والرابع كوجه الرجل فإذا كان يوم القيمة ضمت إليهم أربعة أخرى بقول الله سبحانه ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية وفي رواية أبي اسحق أن رسول اله صلى الله عليه وسلم أنشد قول أمية بن أبي:
حبس السرافيل الصوافي تحته ... لا واهن منهم ولا مستوغد
رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد
فقال عليه السلم صدق هكذا الرواية والله أعلم بصدقها وقد يستدرج أهل الزيغ الأغمار من الأحداث بالأول والثاني والثالث والرابع يعنون بالأول القلم وهو عندهم العقل وبالثاني اللوح وهو عندهم النفس وبالثالث العرش وهو عندهم الفلك المستقيم والضابط للأفلاك وبالرابع الكرسي وهو فلك البروج عند بعضهم لأن المنجمين مختلفون في هذا التقسيم والملائكة الذين هم حملة العرش الأركان الأربعة وهذه الأشياء عندهم لم يزل ولا يزال فكيف يصح الخبر عنها بالأول والثاني والثالث لأن كلها أوائل عندهم كما يزعمون وما الفرق بينهم وبين من بعضهم من المشبهة بأن العرش ممهد والكرسي مستقر القدمين مع وفاق ظاهر اللفظ لتأويلهم لبعده عن تأويل الزائغين لأنا لم نجد شيئاً فيكتب المنجمين وأهل الطبائع بأنهم سموا العقل قلماً والنفس لوحاً والفلك عرشاً يعرفونها بأسمائها المشهورة عند سامعيها ونعوذ بالله من الخزلان والحرمان وسوء الاختيار والعجز عن إتباع الحق.
في ذكر الملائكة وما قيل في صفاتها، روى المسلمون أن الملائكة خلقت من نور وذكر ابن سحق أن أهل الكتاب يزعمون أن الله خلق الملائكة من نار والنار والنور واحد في معنى اللطافة والضوء ويمكن التوفيق بين الخبرين بأن ملائكة الرحمة خلقوا من نور وملائكة العذاب خلقوا من نار ولا نعلم أحداً ممن يدين الله بدين إلا وهو مقر بالملائكة وإن كانوا مختلفين في قدمها وحدوثها وهيئاتها فمنه قول أمية بن أبي الصلت:
ينتابه المتنصفون بسجرة ... في ألف ألف من ملائك يحشد
رسل يجوبون السماء بأمره ... لا ينظرون ثواء من يتقصد

فهم كأوب الريح بينا أدبرت ... رجعت بوادي وجهها لا تكرد
حد مناكبهم على أكتافهم ... زف يزف بهم إذا ما استنجدوا
وإذا تلاميذ الإله تعانوا ... غلبوا ونشطهم جناح معتد
نهضوا بأجنحة فلم يتواكلوا ... لا مبطئ منهم ولا مستوغد
واختلف المسلمون في عدم البصر والحواس لهم فمن قائل أن البصر يفقدهم للطاقة أجسامهم وأجزائهم لا لون لها البصر لا يدرك إلاّ ذا لونٍ وكذلك قالوا أليس نحسّ بها وهي معنا حَفَظة علينا والهواء أغلظ وأكثف من الملائكة فإذا كنّا لا نُحِسّ به حادثاً من حركة واضطراب فكيف بالروحانيّين الذين هم ألطف وألطف وقالوا فيما ناقضهم المخالفون به من صفة الله إيّاهم في كتابه بالغلظة والشدّة فقال ملائكة غلاظ شداد وما جاء من عظيم صفاتهم وعُظم أجسامهم وإن الملك كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله في صورة الرجل وكذلك سائر الأنبياء أنه غير منكر أن يُحدث الله تعالى في الملك شيئاً ومعنىً يُرى ويُشاهَدُ إذا أراد ذلك كما يحدث في الجوّ فيتركّب وينعقد غمامٌ من أجزاء الهباء لا يدركها البصر ثم ينحلّ ويتفرّق حتى لا يُرى كما كان أوّلاً وكذلك حال الجنّة والشياطين وسائر الروحانيّين من الخلق وأيضاً فإنّ الملك سُمّى هذا الاسم لدُؤُوبه في الطاعة وانقياده لِما يُراد منه تخصيصاً وتفضيلاً فغير بعيد أن يكون الملائكة أصنافاً روحانيًّا وجسمانيًّا ونامياً وجامداً وقد جاء في بعض الأخبار أنّ الرعد مَلَك والنار ملك والملائكة يسجدون جنودُ الله ورُسُلُه وسفراؤه وأولياؤه بقول الله عزّ وجلّ ولله جنود السموات والأرض وقيل الجراد جند من جنود الله والنمل جند من جنود الله ألا ترى أنّه لمّا بلغ معاوية أنّ الاشتر قد أُمّر فسُقي سمًّا في سَوِيق وعَسَل قال ما أبردها على الفؤاد إنّ لله جنوداً من عسل وقيل الأرض ملك والسماء ملك حتّى عدد أكثر أجسام العالم واحتجّوا بقول الله عزّ وجلّ قالتا أتينا طائعين والقول هو الأوّل فإن كان جائزاً إطلاق اسم الملك على هذه الأشياء فيكون مجازاً لا حقيقةً.
ذكر اختلاف الناس في الملائكة ما هي أمّا المسلمون وأهل الكتاب فيولون هم خلق روحانيّون كما ذكرناه آنفاً وكان مشركوا العرب يزعمون أنّ الملائكة بنات الله وأنّه صاهر الجنّ فولدت له قال الله تعالى " وجعلوا الله شركاء الجنّ وخلقهم وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً " وقالت الحرّانيّة الملائكة النجوم وهي المدبّرات للعالم وهو أحدث الباطنيّة فزعمت أنّها سبعة وإثنا عشر والخُرَّميّة يُسمّون رُسُلهم الذين يتردّدون فيما بينهم ملائكة وأمّا المجوس فلا ينكرون الملائكة وأنهم خلق غائب عنهم ويسمّونهم شتاسبندان في ملّتهم الإقرار بهم والتصديق وزعم قوم أنّ الملائكة هي النفوس الصافية وذلك أنّ الإنسان إذا بالغ في الارتياض بمعرفة حقائق الأشياء واجتهد في اقتناء الفضائل واختيار المحامد اتّصل بالعالم العلويّ فصار عند مفارقة الهيكل عقلاً خالصاً ونفساً صافيةً فيسمّونه حينئذٍ المَلَك قالوا وأقصى الدرجات في الأسفل وزعمت فرقة أنّ الملائكة أبعاضٌ من الله وعندهم أنّه تبارك وتعالى شيءٌ بسيط روحانيّ وسمّاهم أُميّة في شعره تلاميذ الله وأعوانه مع مقالات كثيرة متباينة وليس هذا الباب ممّا يدرك بالعقل ولكنّه يُعرَف فإذا كان هذا سبيله فلا معنى لردّ ما سبيله الخبر إلى غير الخبر

ذكر صفات الملائكة روى ابن اسحاق الواقديّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قال أَلاَ أُحدّثكُم عن مَلَكٍ من ملائكة الله أذن لي ربّي في الحديث عنه قالوا بِلى يا رسول الله قال إنّ لله ملكاً قد نفذ بقدمه الأرض السُفلى ثمّ خرج من هواء ما بين ذلك حتّى أنّ هامته لتحت العرش والذي نفس محمّد بيده لو سُخّرت الطير فيما بين عُنُقه إلى شحمة أُذنه لحففت فيه سبعمائة عام قبل أن يقطعه وروى ابن جُريح عن عكرمة عن ابن عبّاس رضى الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجبرئيل إنّي أُحبّ أن أراك في صورتك الّتي تكون عليها في السماء قال لا تقوى على ذلك قال بلى قال فأين تُحب أن أتخيّل لك قال في الأبطح قال لا يَسعُني قال بعرقات قال ذلك بالحَرَى فواعده ذلك وخرج النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم للوقت فإذا هو بجيرئيل قد أقبل من جبل عرفات وقد ملأ بين المشرق والمغرب وسدّ الخافقين رأْسُه في السماء ورجلاه في الأرض وله كذا ألف جناح ينتثر منها التهاويل فلمّا رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم خرّ مغشيًّا عليه فتحوّل جبرئيل عن صورته إلى صورة التي كان يأتيه فيها وهي صورة دُجية الكلبيّ وهو ابن خليفة بن فروة الكلّبي فضمّه إلى صدره فلمّا أفاق قال ما ظننتُ أن لله تعالى خلقا يشبهك قال يا محمد فكيف لو رأئتَ اسرافيل رأسه من تحت العرش ورجلاه في تخويم الأرض السابعة وإن العرش لعلى كاهله وأنه ايتضال أحياناً من مخافة الله تعالى حتّى يصير كالصعوة وما يحمل عرش ربّك إلاّ عظمته وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال أنّ لله ملكاً البحار كلّها في نقرة إبهامه وعن كعب الأحبار أنه قال أن لله ملكاً للسموات على منكبه يدور بها كما تدور الرحا وعن ابن مسعود رضي الله عنه في صفة ملائكة العذاب قال ما منهم ملك إلاّ ولو أمره الله أن يلتقم السموات والأرض وما فيهما من شيء لهان ذلك عليه لما عظّم الله من أجسامهم وقد جاء في صفة ملائكة الرحمة وملائكة العذاب وصفة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وغير هؤلاء من الملائكة ما يعتقد المؤمن الإيمان به والتسليم له وجاء في صفة حملة العرش أنّهم ملائكة قدرُ قَدَم أحدهم مسيرة سبعة ألف سنة ولهم قرون كقرون الوعول وقيل العرش على كواهلهم وقيل على مناكبهم ناشية في العرش والله أعلم وأحكم، وروى أبو حُذيفة عن مقاتل عن عطاء أنّ الله يبعث جبرئيل كلّ يوم إلى جنة العدن فيغمس بجناحيه في نهرها ثمّ يجيء فينفُضها فيسقط من كلّ جناح سبعون ألف قطرة يخلق الله من كلّ قطرة ملكاً قال وما يُقطر من السماء إلى الأرض قطرة إلاّ ومعها مَلَكٌ ينزل إلى الأرض ثم لا يعود إليها قال وما في السموات موضعُ شبرٍ إلاّ وفيه مَلَك قائم أو ساجد أو راكع لم يرفع رأسه منذ خُلِقَ فإذا كان يوم القيامة رفع رأسه فيقول سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك قال ولله ملك موكّل بالبحار فإذا وضع قدمه في البحر مدّ وإذا رفعها جزر قال والملائكة أربعة جبرئيل ملك الرسالة واسرافيل ملك الصُور وعزرائيل ملك الموت وميكائيل ملك الرزق ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال الرعد ملك موكّل بالسحاب يسوقه من بلد إلى بلد معه كذا من حديد كلّما خالفت سحابة صاح بها والبرق معه السحاب به وروى ابن الأنباريّ في كتاب الزاهر أنّ السحاب ملك يتكلّم بأحسن الكلام ويبكي ويضحك والرعد كلامه والبرق ضحكته والمطر بكاؤه وعن كعب لولا أنّ الله وكّل بطعامكم وشرابكم في نومكم ويقظتكم مَن يذبّ عنكم ليحفكم بقول الله تعالى له مُعَقّبات من بين يدَيْه ومن خلْفه يحفظونه من أمر الله وروى هشام ابن عمّار بن عبد الرحيم بن مطرف عن سعيد بن سلمة عن ابان عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال أنّ لله ملكاً له ألف رأس في كلّ رأس ألف وجه في كلّ وجه ألف فم في كلّ فم ألف لسان يُسبّح الله ويُقدسّه كلُّ لسان بألف لغة من التسبيح فهذا وما أشبهه موقوف على صحّة الخبر وصدق الراوي إذ ليس يمتنع عن البارئ سبحانه وتعالى شيء وما عسى أن يقوله قائل وهو مُصَدق بابتداع الله أعيان هذا العالم لا من عين سابقة فمن لم يعجز عن هذا فليس عن اعجب منه بعاجز وإذا كانت أحوال الملائكة كما وصفنا من إطلاق اسم الملائكة على الجماد والموات فغير بديع ما حُكى عنهم وقد قيل الريح ملك وقيل من نَفَسِ

مَلَك وأَذْكُرُ أنّي حاجنّي رجل من البهافريديّة وهم صنف من المجوس أطلبهم للخير وآلفهم عن الأذى في دفننا موتانا ما تعنينا بذلك فقال أنّ الأرض مَلَكٌ وانتم تلقمونه الموتى فكيف تستحسنون ذلك وقد يرى بعض الناس أنّ الشياطين كلّ شرّير داعر والملك كلّ خير فاضل ومذهب الدنانير ما حكيناه ووصفناه.لَك وأَذْكُرُ أنّي حاجنّي رجل من البهافريديّة وهم صنف من المجوس أطلبهم للخير وآلفهم عن الأذى في دفننا موتانا ما تعنينا بذلك فقال أنّ الأرض مَلَكٌ وانتم تلقمونه الموتى فكيف تستحسنون ذلك وقد يرى بعض الناس أنّ الشياطين كلّ شرّير داعر والملك كلّ خير فاضل ومذهب الدنانير ما حكيناه ووصفناه.

القول في الملائكة أمكلّفون أم مجبورون وهم أفضل أم صالحو المسلمين قال قوم هم مضطرّون إلى أفعالهم مجبورون عليها وروي عن ابن عبّاس أنّه قال في قوله يُسبّحون الليل والنهار لا يفترقون أن التسبيح لهم بمنزلة النفس لنا وقال آخر هم مكلّفون مجبورون لأنّ الله تعالى يقول " ومن يقل منهم إنّي إله من دونه فذلك نُجْزٍيه جهنّم " ولا يصحّ الوعيد على غير المقدور عليه وقد قال أنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي اعلم ما لا تعلمون فدلّ هذا القول منهم على اختيارهم وقال لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولو لم يكونوا قادرين على المعصية لما كان يمدحهم بترك المعصية ومعنى قوله يسبحون الليل والنهار لا يفترقون مدح لهم على المواظبة على الطاعة أو لا يقطعهم عنها ما يقطع الناس من الحوائج والشغال وقول ابن عبّاس رضي الله عنه أنّ التسبيح سهلٌ عليهم كالنفس في سُرعة المؤتاة والمطاوعة ويجوز أن يكون من تسبيحهم ما هو اضطرار ومنه ما هو اختيار فإن قيل إذا كانت الطاعة منهم باختيار فهل لهم على ذلك من ثواب فمن قائل أن ثوابهم تقريب المنزلة ورفع الدرجة وآخر أنه زيادة القوّة على الطاعة وتجديد الجِدّ والنشاط في العبادة وآخر أنه اخدامهم أهل الجنّة وليس الثواب كلّه المطعمُ والمشربُ لأنهم ليسوا بذوي أجسام مجوّفة فيُلجئهم الحاجة إلى ما يحتاج إليه ذوو الأجسام المجوّفة وقد قيل أنّ ثوابهم أن يستجيب دعاؤهم في الموحّدين وذلك قوله تعالى " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً الآيةَ فطاعتهم مذ خُلقوا أن يستجاب في الموحّدين ولهم مسئلة وتضرّع وطاعتهم بعد ذلك بشكر وبعرف واختلفوا في الملائكة وصالحي المؤمنين أيّهم أفضل فذهب كثير من المسلمين إلى تفضيل الملائكة واحتجّوا بقوله تعالى " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنّي ملك " وقوله تعالى فيما يحكى عن الشيطان " ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " وقول صواحب يوسف ما هذا بشراً إنْ هذا إلاّ ملك كريم وقوله تعالى " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون " وقوله تعالى " يسبّحون الليل والنهار لا يفترقون " وقوله " ولقد كرمنا بني آدم وحملناها في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً " فلمّا لم يقُلْ على من خلقنا علمنا أن هاهنا من هو أفضل منهم قالوا وهل يستوي حال من لا يُعصى قطّ وحال من لا يتعرّى عن معصيته وكيف بفضيلة عمل مَنْ أقصى عُمره مائة سنة وفضيلة مَنْ عُمره الأبد وذهب إلى أنّ صالحي المؤمنين أفضل لمكابدتهم مشقّة الطاعة مع منازعة الشهوة وممانعة الشيطان والعمل بالغيب خوفاً وطمعاً وإنّى يقع طاعة من أُصْفِي عن شوائب الهوى وأُخْلص من مزاحمة الشهوة وأُمِدّ بظلّ العصمة وحُرسَ من الوساوس من طاعة مجبول على الهوى مطبوع على الشهوات موكّل به أعداء من نفسه وجنسه وشيطانه وإنّما يستحقّ العمل تمام الفضيلة باحتمال الكدّ والعناء والمشقّة فيه قالوا وليس ينكر أن الملائكة أفضل من الناس ومن كثير من أهل الإسلام حتّى تكرمنا ما تلاه خصمنا من الآيات وإنّما تفضيلنا فاضلي المؤمنين وصالحيهم وقد أسجدهم الله لصفّيه آدم عليه السلام فهلاّ كان ذلك على سَبْقه بالفضيلة وقال جلّ وعزّ وان تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين بالذكر لفضيلتهم على كثير من الملائكة وليس في وجوب الإيمان بهم أكثر فضيلة من وجوب الإيمان بالمؤمنين قال الله عزّ وجلّ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ثم هم مع ذلك خَوَلٌ لبني آدم وحفظة عليهم وقد رُوي في الحديث أنّ الملائكة سألوا الجنّة فقال الله سبحانه لا أجعل صالح من خلقتُ بيديّ كمن قلتُ له كن فكان ورُوينا عن كعب أنّه قال ركب الله في الملائكة العقل بلا شهوة وفي البهائم الشهوة بلا عقل وفي ابن آدم كليهما فمن غلب عقلُه شهوتَه فهو خير من الملائكة ومن غلب شهوتُه عقلَه فهو شرٌّ من البهائم واحتجّ بعضُ المتأخّرين بقول شاعر يمدح ابن موسى الرضا ويقال هي لأبي نواس:

قِيلَ لي أَنْتَ أَوْحَدُ النّاس في كُ ... لِّ مقالٍ من الكلام النَبيهِ
لك من جيدَ الكلام نظامٌ ... يُجتَنَى الدُرُّ من يَدَي مُجْتَنِيهِ
فلماذا تركتَ مَدْحَ ابن موسى ... والخصالَ الّتي يجمعْنَ فيهِ
قُلْتُ لا أَهتدي لمدح إمامٍ ... كان جبرئيل خادماً لأبيهِ
ذكر ما جاء في الحجب أعلم أنّ الحجاب لا يوجب حدًّا على الإرسال لأنّ الله محجوب عن خلقه ولا يطلق القول بأنه محدود لأنّ الحجاب يحتمل وجوهاً من المعاني وروى وهب بن أبي سلام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل احتجب الله بشيء عن خلقه غير السموات فقال نَعَمْ بينَه وبين الملائكة الذين هم حملة العرش سبعون حجاباً من نور وسبعون حجاباً من نار وسبعون حجاباً من ظلمة حتّى عدّ خمسة عشر وفي حديث المعراج فانتهيتُ إلى بحر من بحر اخضر فنُودي أن ارح محمّداً في النور وذكر عدّة بحار من أنوار ومن المسلمين من يستعظم القول بالحجاب كيف وقد روى حمّاد بن سلمة عن عمران الحرّاني عن زُرارة بن أوفي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جبرائيل هل رأيتَ ربّك قال يا محمّد بيني وبينه سبعون حجاباً من نور لو دَنَوتُ من أدناها لاحترقتُ وفي حديث أبي موسى الأشعريّ لو انكشفت سُبُحاتُ وجهه لاحترق ما عليها من شيء ويسير هذا كلّه ما روي عن الحسن أنه قال ليس شيء أقرب إلى الله تعالى من اسرافيل وبينه وبين ربّ العزّة سَبْع حجب من حجاب العزّة وحجاب الجبروت والعظمة وليست ممّا يوجب الحد في الاحتجاب لأنّها ليست بأجسام حاملةٍ بين الحاجب والمحجوب ولكنّه يمتثل في بُعد وقوع الحواسّ وقطع الأطماع في الإحاطة به والاختصاص بالعظمة والسلطان دون خلقه ومثل هذا أبلغ عند العبّاد وتعظيم البارئ وتفخيم قدره للرغبة إليه والرهبة منه إذ أكثرهم يرون ما لا يُدركه حواسّهم ولا يتصوّر في أوهامهم بإطلاق لا شيء ويدلّ على هذا التأويل ما روى في الخبر العظمة إزارى والكبرياء ركابي فمن نازعنيهما أَلقَيْتُه في النار ولا أبالي فهل يعرض لسامع شك في أنّ العظمة لا يتّزر بها والكبرياء لا يتردّى بها ولكنّ الوجه ما ذهبنا إليه والله أعلم، الحُجب موجودة في أشعارهم قال بعضهم:
لك الحمدُ والنعماءُ والشكرُ رَبَّنَا ... فلا شيء أَعْلَى مِنْكَ حَدًّا وأَمْجَدُ
مليكٌ على عرش السماء مُهيمِنٌ ... لِعزَته تَعْنُوا الوجوهُ وتسجُدُ
فلا بَشَرٌ يسمو إليه بطَرْفه ... ودُونَ حجاب النور خَلْقٌ مُؤَيَّدُ
ذكر ما جاء في سدرة المنتهى وهي مذكورة في كتاب الله عزّ وجلّ روى أنها على هيئة شجرة يمرّ الراكب في ظلّ فَنَنٍ منها سنة قبل أن يقطعها ثمرها كالقلال وورقها كآذان الفيلة يأوي إليها أرواح الشُهداء والصِدِّيقين في صورة فراش من ذهب بقول الله عزّ وجلّ عند سدرة المنتهى عندها جنّة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى وقد ذكرها حَسّانُ في شِعْره
مقام لدى سدرة المنتهى ... لا تجد لها شك للمرتضى
وقوله تعالى عندها جنّة المأوى يرُدُّ قول من يزعم أنّ السدرة الشجرة التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم تحتها بحراء إذ نزل عليه جبرائيل بالوحي اللهمّ ألا أن يشبهه بقوله إِنّ منبرئ هذا نزعة من نُزع الجنّة فيكون مذهباً وكذلك قوله عليه السلام الجنّة تحت ظلال السيوف غير أنّ الأخذ بالظاهر على القول الأوّل أعرف وأشهر والأخبار به أكثر قالوا وإنّما سُميّت سدرة المنتهى لأنّها منتهى علم العلماء فلا يعلم أحدٌ من الملائكة والأنبياء ما ورائها إلاّ الله وحده وسمعتُ بعض القرامطة يتأوّلها بعلهم بحرّاء محمّد صلى الله عليه وسلم ما علمه وأفشاه السرّ إليه لما رأى فيه من الامارات وتوسّمه فيه فضّ الله أفواههم وخيّب آمالهم.

ذكر الجنّة والنار لا أعلم أحداً من أهل الأديان يُنكر الجزاء من الثواب والعقاب وإن اختلفوا في صفته واسمه ومكانه ووقته لأنّ في إبطال الجزاء إبطال الأمر والنهي والوعد والوعيد وإجازة إهمال الخلق وإرسالهم ويؤدّي ذلك إلى تسفيه الصانع وتجهيله أو الإلحاد والتعطيل وهذه المسألة مُعَلّقة بأصل التوحيد وذلك أنّه لمّا قامت الدلالة على إثبات البارئ جلّ وعزّ وقدرته وحكمته لم يجز أنْ يكون شيء من أفعاله غير حكمة وصواب فعملنا أنّ الحكيم لم يخلق هذا الخلق عبثاً ولا لعباً ولا سهواً ولم يأمرهم ولم ينهّهم ؟إلاّ للثواب الذي عرضهم له والعقاب الذي حذّرهم وحاشى لله سبحانه وتعالى على أن نظنّ به غير الحقّ فالجزاء يوجبه مُوجب التوحيد وحجّته حجته ثم لطباق أكثر أهل الأرض على الإقرار به من أعظم الحجج إذا كانت العارضة يكشفها حجّة العقل واجتماع الخلق فأيّ عذر بعدها لمتخلّف عنها أو مائل إلى ضدّها وإن أحسّ من نفسه بنفرة فأَولى به أن يَتهم عقله دون عقل المؤمنين والأمم والأجيال فإمّا القول في أينيّة الجزاء وماهيّته أجنّة ونار أم غيرهما فشيء يتبع فيه الأخيار ولو شاء الله يجزئ بغيرهما كما شاء ولكن المعلوم من الثواب النعمة والاغتباط والمعلوم من العقاب المكروه والنكال ولا نعمة أعظم من دوام البقاء ولا عقوبة أبلغ من النار التي هي آكلة الأضداد ذكر اختلاف الناس في الجنّة والنار قرأتُ في شرائع الحرّانيّة أنّ البارئ عزّ وجلّ وعد من أطاع نعيماً لا يزول وأوعد من عصى العذاب بقدر استحقاقه وهذا ناموس أكثر القدماء ومنهم من يزعم أن النفس الشرّيرة الّتي عاثت في هذا العالم وأفسدت وآذت إذا فارقت هيكلها حُبست في الأثير وهي نار في أعلى عُلو العالم وانفس الخيّرة التي استفادت الفضائل تعود إلى عنصرها الأزليّ ومنهم من زعم أنّ الفاضل يعلو في العُلو والراذل يتسافل فيبقى في الظلمة والخمود وقد قال أرسطاطاليس أن العُلُو الأعلى محلّ الخلود وإنّ السفل الأسفل محلّ الموت وعامّة أهل الهند يُقرّون بالجزاء والذين يهلكون أنفسهم بأنواع العذاب من القتل والحرق والغرق يزعمون أن جواري الجنّة يختطَفْنَهُ قبل زهوق نفسه وإنّما أثبتُ هذا لأُبَيّن لك إقرارهم بالجنة في كفرهم وجهلهم وأهل الكتاب مجمعون على الإقرار به لأن ذكر الجنة والنار في غير موضع من كتابهم إلا أنهم مختلفون في صفاتها بالجنة فتسمى بالعبرانية برديسا وبالعبرية كنعاذن ويزعم طائفة من اليهود أنه إذا كان يوم القيمة أظهرت جهنم من وادي وأحرثت ناراً في الوادي ونصب عليه جسر وأظهرت الجنة من ناحية بيت المقدس وأمر الخلق أن يسيروا عليه فمن كان منهم برئاً جرى مثل الريح ومن كان منهم آثماً تهافت في النار زعمت فرقة منهم أن الجنة والنار يفنيان وذلك بعد ألف سنة من وقت أن صار الناس إليهما ثم يصير أهل الجنة ملائكة وأهل النار رميماً وزعم آخرون أنهما لا يفنيان أبداً وأما المتناسخة وأنهم يرون الجزاء في النسخ والمسخ ويزعمون أن من استمر عل طبع من طباع السباع والبهائم حول إلى صورته عقوبة له ومن تعاطى الحق وكف عن الأذى وتجمل بالجمل حول في صورة ملك أو قائد أو رئيس وهذا مذهب كثير من القدماء، ومن المعطلة من لا ينكر الجزاء في الدنيا بالفقراء والفاقة والآلام والأحزان ما ارتكبه من قبيح والسعة في الدنيا والراحة والفرح واللذة جزاء ما عمله من جمل ويزعم السمنية من الهنود أن من كان قليل الخير يصير كاسف البال رث الهيئة يأتي لأبواب فلا يتصدق عليه ومن كان كثير يصير ملكاً عظيماً عزيزاً فمن أطعم الطعام أصاب القوة لأن البدن تقوى بالطعام ومن كسا الثياب أصاب الجمال ومن أوقد في الظلم أصاب حسن العيش لأن الصباح يطرد الظلمات.

ذكر اختلاف المسلمين في الجنة والنار اعلم أنهم فيها على ثلث فرق فزعمت المعتزلة إلا أبا الهذيل وبشر بن المعتمر أنهما لم يخلقا بعد وأنهما يخلقان يوم القيامة وأجاز النجار أن يكونا خلقتا وأن لم يخلقا بعد وأنهما يخلقان يوم القيامة وقال سائر المسلمين أنهما مخلوقتان مفروغ منهما واحتجوا بأي من القرآن وأحاديث من السنة فمنها قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون وقوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون وقوله تعالى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فهل يجوز أن يعد غير مخلوق وجاء في الحديث أن الله خلق الجنة كذا وكذا بصفات مضبوطة في الكتب وقال واتقوا النار التي أعدت للكافرين وقال النار يعرضون عليهما غدوا وعشياً وقال ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وقال مخالفوهم أن الجنة والنار ثواب وعقاب والثواب والعقاب لا يستحقان إلا بعد وجود الأعمال الموجبة لهما قالوا ولو كانت الجنة مخلوقة فأين مكانها وهي لا تسعها السموات والأرض لقوله عرضها السموات والأرض وتأولوا كل ما في القرآن والسنة من ذكرهما على العدة المنتظرة وقد قال الله عز وجل أن الأبرار لفي نعيم وأن الفجار لفي جحيم فأخبر عنهم وليسوا في الوقت قالوا وغير ممتنع على الله تعالى أن يخلق كل يوم جناناً ويفنيها أو يبقيها كما يشاء وأن ينعم أرواح المطيعين في جنة يخلقها لهم أو في غير جنة ويعذب أرواح الظالمين في نار أو في غير نار وقالوا وقد سبقت عدته في إفناء ما خلق وثوابه وعقابه غير فانيين أبداً فإن كانا موجودين فلا بد من فنائهما وذلك خلاف وعده فلا مبدل لكلماته قال خصاؤهم ليست الجنة والنار ثواباً ولا عقاباً إنما هما مقر الثواب والعقاب فيهما يثاب ويعاقب والاستثناء قد تناولهما من الفناء والهلاك لقوله إلا ما شاء ربك ولحكمه عليهما بالسرمدية والأبدية وكما أنه وعد أن يفنى الخلق فكذلك وعد أن لا يفنيها ثم اختلف هؤلاء في مكان الجنة فقال بعضهم هي في الآخرة والآخرة مخلوقة وقال بعضهم بل هي في عالم لها ولله عوالم الخلق ما يشاء وقال بعضهم بل هي في السماء السابعة سقفها عرش الرحمن وروى خبراً وزعم بعضهم أنها مخلوقة ولا يدري أين هي وليس بعجب أن يمسكها الله في مكان كما أمسك العالم لا في مكان قالوا والنار تحت الأرض السابعة السفلي وروى فيه خبراً.

ذكر صفة الجنة والنار أجمع ما في القرآن لوصفها قوله تعالى وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وانتم فيها خالدون وأجمع خبر فيها خبر أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وبله ما اطلعتم عليه قال أبو هريرة رضي الله عنه ومصداق هذا في كتاب الله عز وجل فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعلمون ورواه حمزة بن حبيب عن المنهال بن عمرو عن محمد بن الحنفية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثوا عن الجنة بما شئتم فلن تحدثوا عنها بشيء إلا وهي أشد منه فمن ها هنا استجاز من استجاز صفة الجنة والنار بما لم يأت في الرواية لأن الواصف وإن أفرط في الوصف لم يعد مدى خاطر همته وغاية معرفته لا بلغ كنه ما فيها ولا بعضه لأن نعم الله ونقمه فوق ما يحصه المحصون إذ لا غاية لها ولا نهاية أبداً وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الجنة فقال جرد مرد مكحلون من أبناء ثلث وثلثين سنة هذا من طريق حماد بن سلمة عن علي بن مريد عن المسيب عن أبي هريرة وفي رواية أخرى من أبناء ثلث وثلثين سنة على سن عيسى وصورة يوسف وقلب إبراهيم وطول آدم وصوت داود ولسان محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين وقال أبو هريرة إن أهل الجنة ليزدادون جمالاً وحسناً كما يزدادون في الدنيا قباحة وهرماً وأنكر قوم من أهل الكتاب الأكل والوطىء في الجنة وذلك أن منهم من لا يرى البعث إلا للأرواح فكذبهم الله في القرآن بذكر الطعام الحواري التي وصفها في الجنة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لما يذكر قال إن الرجل منهم يعطي قوة ألف رجل في الطعام والجماع قالوا وكيف المس يا رسول الله قال دحماً دحماً إذا قام عنها رجعت مطهرة بكراً بذكر لا يمل وفرج لا يحفى وشهوة لا تنقطع فقال يهود من أكل يغوط فال النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتغوطون وإنما هو عرض يفيض من أعراضهم مثل المسك فتضمر له بطونهم وسئل عن النوم فقال صلى الله عليه وسلم النوم أخو الموت وأهل الجنة لا يموتون وسئل عن الود قال فتنة وروى أنه قال لو أرادوا لكان حمله ووضعه ونشوه في ساعة واحدة وسئل عن المرأة التي يكون لها زوجان لمن تكون في الجنة ففي رواية حذيفة أنه قال تكون لآخر زوجيها ولما خطب معاوية أن الدرداء قالت لست أبغي بأبي الدرداء بديلاً سمعته يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة زوجيها ولذلك حرم أزواج النبي صلى الله عليه من بعده ليكن أزواجه في الجنة وروى عن الحسن أنه قال تخير المرأة فتختار أحسنهما خلقاً وسئل ضمرة بن حبيب أيدخل الجنة فقال نعم واستدل بقوله تعالى لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان فللأنس أنسيات وللجن جنيات وسئل أبو العالية عن أوقات الجنة قال كمثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لا شمس فيها ولا قمر ولا ليل ولا نهار وهم في نور أبداً وإنما يعرفون مقادير الليل والنهار بإرخاء الحجب وفتح الأبواب وسئل الحسن عن الحور العين فقال عجائزكم هؤلاء العمش الرمص وتلا أنا أنشاناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً الآية فقال ويعطون أزواجاً غيرهم من الحر العين وفي حديث ابن المبارك عن رشيد بن سعد عن ابن أنعم أن من دخل من نساء أهل الدنيا الجنة فضلن على الحور العين لما عملن في دار الدنيا وهذه الأخبار أتينا بها لشهرتها عند عوام الأمة واستغنائها عن الأسانيد وسئل عن قوله عز وجل وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين فلو اشتهت ما يستقبحه العقول كالقتل والغصب والظلم ونكاح الأخوات والبنات فأجابهم المسلمون بأن هذا وما أشبهه مما لا يشتهون في الجنة لأنها ليس فيها كما لا يشتهون الموت والمرض والذل والفاقة لأنها ليست فيها فتحبس طباعهم عن التشوق إلى ما يستقبح في العقول وينسون ذكرها واعلم هداك الله أن كل ما وصف به من ذهبها وفضتها وجواهرها وطيبها وطعامها وسائر ما وصف منها كلها على الحقيقة في الأسماء الكثيفة كلما خلقت جواهر الأرض وثمارها بقول الله عز وجل وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون وروى عن ابن عباس رضي الله عنه عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الجنة فقال نور يتلألأ وحدثنا الحسن بن هشام العبسي عن وكيع عن الأعمش عن ابن عباس ورضي الله عنه قال ليس في

الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء.جنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء.
ذكر صفة النار وأهلها أجمع أية في وصف النار قوله والذين كفروا نار جهنم لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها وأجمع خبر محمد بن الحنفية وإن كان مرسلاً حدثوا عن النار بما شئتم فلن تحدثوا عنها بشيء إلا وهي أشد منه والذي يوجب القياس الشديد أن يكون كل وما وصف به النار من أغلالها وإنكالها وحياتها وعقاربها وأوديتها ومقامعها وسائر ما ذكر في القرآن والأخبار خلاف ما هو في الدنيا كما قلنا في صفة الجنة وأن يكون الجمع بينهما من جهة الاسم لا من جهة المعنى لأن النار دار خلود كما أن الجنة دار خلود وسئل إبراهيم النخعي عن صفة نار جهنم فقال ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم ولقد ضرب بها البحر مرتين ولولا ذلك لما انتفعتم بها وسئل الحسن عن النار فقال يصير البحر ناراً ثم تلا وإذا البحار سجرت فقال يفجر بعضها من بعض ثم يرسل عليها من الجنوب ريحاً ويسلط عليها الشمس حتى يسجرها فتصير ناراً فجعلها الله محبساً لأهل المعاصي زعم قوم أن النار مخلوقة اليوم وأنها تحت تخوم الأرضين السفلى والبحار هي الحاجزة عن الخلق وأن حرارة الشمس وحمى الصيف مؤخرها ورووا أن النار اشتكت فقالت أكل بعضي بعضاً فأذن لها في نفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء وأراك أشد ما يكون في الحر والبرد وفي الصحاح من الحديث ابردوا بالظهر فإن في شدة الحر من فيح جهنم واستعظم قوم بقاء ذي روح في النار وذلك لقصور علمهم لأن النار ضورب كالأثير الذي يزعمون في علو الهواء وكالنار الكامنة في الحجر والشجر وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه فيما رووا فقال النيران أربع نار تأكل وتشرب وهي ناركم هذه ونار لا تأكل ولا تشرب وهي النار في الحجر ونار تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر ونار تأكل ولا تشرب وهي نار جهنم تأكل لحومهم ولا تشرب دماءهم فلذلك يبقى أرواحهم فأخبر أن نار جهنم خلاف النيران التي ذكرها بقول الله تعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها فأخبر سبحانه أنه يبدل لهم الجلود لتبقى لهم الأرواح لا تأتي عليهم النار فيفنيهم وقد أرانا الله من قدرته فيما ركب عليه طباع بعض الحيوانات ما دلنا به على جواز بقاء ذي روح بالنار كالنعام التي تأكل النار ولا يضرها والطائر الذي يدخل النار فلا تحرقه وما أراه جعل ذلك إلا عبرة فدلنا على جواز بقاء الحياة في أهل النار وإلا فما جاز في طباع الحيوان الاغتذاء بالنار والحديدة المحماة وجاء في صفة أهل النار بالعجيب الفظيع فمن ذلك ما روى أنه سئل أبو هريرة رضي الله عنه قوله تعالى " ومن يغلل يأتي بما غل يوم القيامة وكيف يأتي من غل مائة بعير ومائتي شاة " فقال أرأيت من كان ضرسه مثل الأحد وفخذه مثل ورقان وساقه مثل البيضاء ومجلسه ما بين المدينة إلى الربذة وعن الربيع بن أنس قال مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه وأنه ليبكي حتى يصير في وجهه أخاديد من الدمع لو طرح فيها السفن لجرت كذا الرواية والله أعلم، وأعلم أن كل ما يوصف من الجنة والنار فسبيله السمع والخبر وما موجب العقل فالأصل الذي هو الجزاء فلا تشتغل بجواب السائل عن الصفات إذا كان منكراً للأصل حتى يقر به.

ذكر اختلاف الناس في بقاء الجنة وفنائهما قرات في شرائع الحرانيين أن للعالم علة لم زيل وأنه واحد لم يتكثر ولا يلحقه وصف شيء من المعلومات كلف أهل التمييز الإقرار بربوبيته وبعث الرسل للدلالة وتثبيت الحجة فودعوا من أطاع نعيماً لا يزول وأوعدوا من عصى عذاباً بقر استحقاقه ثم ينقطع وقال بعض أوايله أنه يعذب سبعة آلاف دور ثم ينقطع العذاب ويصير إلى رحمة الله تعالى والهند على كثرة اختلافها يجمعها نحلتان السمنية المعطلة والبراهمة الموحدة وكلهم مقرون بالجزاء وأن العذاب سينقطع يوماً والسمنية تقول أن الثواب والعقاب موجودان في هذا العالم بالحواس جزاء ما اكتسبته النفوس باقية خالدة فاعلة وفعلها الإيجاد بالأجساد وأنها لا يزال ساكنة الأبدان فإذا فارقت جسداً لم تعد فيه أبداً وأنها تتناسخ على فعالها لا يأتي أمراً إلا على قدر هواها وهمتها فإذا اجترحت السيئات أثرت تلك الأفعال في جوهرها وصار غرضاً لازماً لها فإذا فارقت الجسد ذهبت بذلك التأثير إلى الجنس الذي لا يلايم همتها فتلابسه فيصير بذلك السبب إلى المكروه وهو التناسخ في أجساد الحيوان كله من الهوام والأنعام والآنام والطير في البر والبحر قالوا وأشد ذلك كله إذا حولت في جسد حيوان تحت الأرض حيث لا ماء ولا معمورة ويطول عذابها بالجوع والعطش والحر والبرد ثم تجوء إلى جهنم وعذابها وذلك نهاية العذاب وأخراه ثم يعود من جهنم القهقرى إلى وجه الأرض للعمل قالوا والتي عملت الصالحات والأفعال الفاضلة بالضد مما وصفنا فيلابس الجمال والكمال والصحة والأمن والقوة والإنس والنشاط والملك والعز وطيب النفس ويصير آخر ذلك كله إلى الجنة فيمكث فيها بقدر استحقاقها ثم يرجع إلى الدنيا للعمل قالوا والجنة اثنتان وثلاثون مرتبة ويمكث أهلها في أدنى مرتبة منها أربع مائة ألف سنة وثلث وثلاثين ألف سنة وستمائة وعشرين سنة وكل مرتبة أضعاف ما دونها بحساب يطول عدده قالوا والنار اثنتان وثلاثون مرتبة ثم وصفوها بعجائب الصفات من الحريق والزمهرير وزعموا أن من قتل شيئاً من الحيوان دون الناس قتل به مائة مرة ومرة ومن قتل إنساناً قتل به ألف مرة ومرة قالوا وليس عضو من الأعضاء قبح أو سمج خلقته إلا وقد أتى صاحبة بذلك العضو داهية من الدواهي هذا أصل التناسخ ومنهم انتشر في سائر الأمم وليس من أمة من الأمم إلا وهي مقرة بالجزاء كما ذكرنا إما التناسخ وإما الذخر في الآخرة وأجمعوا أن العذاب بقدر الاستحقاق ثم ينقطع وزعم كثير من اليهود أنه إذا أتى على الجنة والنار ألف سنة بعد ما صار إليهما أهلهما فنيتا وتعطلتا وصار أهل الجنة ملائكة وأهل النار رميماً واحتجوا بقول الأنبياء الاثنى عشر أنه مكتوب في سفر يهوشوع أن الله يقول إن تمسكت أمري وأتممت ميثاقي أعطيتك موضعاً وسط هؤلاء الواقفين قدامي وقال في أهل النار يصيرون رميماً تحت أرجل معاشر أهل الجنة وسمعت رجلاً من يهود عليهم اللعنة يزعمون أن منهم من يقول أن العالم ينقضي في كل ستة ألف سنة ويجدد وأن يوم السبت يوم الحساب ومقداره ألف سنة ويوم الأحدث يوم الابتداء والله أعلم بما قال وكثير منهم يقول ببقاء الجنة والنار على الأبد ويحتجون بقول شعيا في سفره أن أهل الجنة يخرجون ويرون أجساد الذين عصوني لا يموت أرواحهم ولا تخمد نارهم والمجوس يزعم أن المسيء يجازى بقدر استحقاقه بعد موته بثلاثة أيام كفاء ما فعل سواء لا زيادة ولا نقصان ومنهم من يزعم أن الجنة والنار في الدنيا بأرض الهند مع هوس كبير وتخليط ظاهر.

ذكر اختلاف الناس في هذا الفصل زعمت طائفة منهم أنه لابد من فناء النار وانقضائها يوماً ما رووا فيه روايات فرووا عن ابن مسعود رضي الله عنه انه قال يأتي على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما لبثوا أحقاباً وعن الشعبي جهنم أسرع الدارين خراباً وعن عمر رضي الله عنه وأرضاه لو لبث أهل النار في عدد رمل عالج لكان لهم يرجون واحتجوا بأشياء من باب التعديل ولم يختلفوا في بقاء الجنة على الأبد وقالوا آخرون أنهما مؤبدتان دائمتان لا تفنيان ولا تزولان واحتجوا بأنه لم يكن لنعم الله انتهاء وجب أن لا يكون لنقمه انقضاء ورووا عن الأوزاعي أنه ذكر هذه الروايات التي احتج بها الأولون وقال قد كان الناس يرجون لأهل النار الخروج عند قوله خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك وقوله لابثين فيها أحقاباً أن يخرجوا في المائدة وهي آخر ما نزل في القرآن يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم علموا أنها لا تفنى أبداً فإن قيل كيف يجوز على الحكم العدل أن يعاقب على جرم منقض بعقوبة غير منقضية قيل هو الجزاء على السواء وكما أنه لم تقصر مدة عمره على الكفر في دار الدنيا وجب أن لا يقصر عنه العذاب مدة عمره في الآخرة وأيضاً فإن نعمة ما لم تكون منهية وجب أن لا يكون نقمة منهية وقد كانت العرب في جاهليتها تؤمن بالجزاء ومن نظر منهم في الكتب كان مقراً بالجنة والنار فمنه قول أمية:
جهنم تلك لا تبغي بقيا ... وعدن لا يطالعها رجيم
إذا جهنم ثم فارت ... وأعرض عن قوابسها الجحيم
يحب بصندل صم صرب ... كأن الصاحيات لها قضيم
فتسموا ما يعنيها ضواء ... ولا يحبوا فيبردها السموم
فهم يطفون كالاقذاء فيها ... لئن لم يغفر الرب الرحيم
بدانية من الآفات نزه ... للااء لا يرى فيه سقيم
سواعدها تحلب لا تصرى ... بها الأيدي محللة تحوم
سواعدها حلابها من غير ضرع ... ولا بشم زلا فيها جزوم
فيحرم عنهم ولكل عرق ... عجيج لا أحذ ولا يتيم
فذا عسل وذا لبن وخمر ... وقمح في منابته صريم
ونخل ساقط الأكتاف عد خلال أصوله رطب قميم
وتفاح ورمان ورموز ... وماء بارد عذب سليم
وفيها لحم شاهدة ونحر ... وما فاهوا لهم فيها مقيم
وحور لا يرين الشمس فيها ... على صور الدمى فيها سهوم
نواعم في الأرائك قاصرات ... فهن عقائل وهم قروم
على سرر ترى متقابلات ... الاثم النضارة والنعيم
عليهم سندس وجناب ريط ... وديباج يرى فيها فيوم
وحلوا من أساور من لجين ... ومن ذهب وعسجدة كريم
ولا لغو ولا تأثيم فيها ... ولا غول ولا فيها مليم
وكأس لا يصدع شاربيها ... يلذ بحسن رويتها النديم
يصفوا في صحاف من لجين ... ومن ذهب مباركة رذوم
إذا بلغوا التي اجروا إليها ... تقبلهم وحلل من يصوم
وخفقت البدور وأردفتهم ... فضول الله وانتهت القسوم

اعلم أن هذه الأشياء جاءت به الرواية والخبر فمنها ما هو ثواب ومنها ما هو عقاب ومنها ما هو تمييز وتفريق والمسلمون لا يختلفون في أساميها وإنما الخلاف في معانيها فإما الصراط فقد جاء في الحديث أنه ينصب جسر على ظهر جهنم ويحمل الخلق عليه فمن كان من أهل الجنة جازه ومن كان من أهل النار تهافت فيها وقيل في صفته أنه أحد من السيف وأدق من الشعرة دحص مزلة وفيه كلاليب وخطاطيف وسعدان مضرسة وحسك مفلطحة مسيرة كذا سنة صعوداً وهكذا هبوطاً وكذا وطأ والناس يجوزونه بقدر أعمالهم فمنهم من يمر كالبرق الخاطف ومنهم من يمر كالريح العاصف ومنهم من يمر كالطير الهادي ومنهم من يمر كالجواد المضمر ومنهم من يمر عدواً ومنهم من يمر هرولة ومنهم من يمشي مشياً ومنهم من يزحف زحفاً ومنهم من يحبو حبواً ومنهم من يحتضنه بكشحه وصدره والزالون والزالات كثير وقد أجيب من يزعم أي ظلم أعظم من حمل الناس على ما هذه صورته أنه جعل تمييزاً بين أهل الطاعة وأهل المعصية وعلامة للحق على هلاك من هلك ونجاة من نجا وقد جاء في بعض الأخبار أن أهل الطاعة يجوزونه ولا يشعرون به وقيل ينزوي تحت أقدامهم كما ينزوي الجلدة من النار فإذا استقروا في الجنة قالوا ما بالنا لم نجز الصراط ولم نرد النار التي وعدنا فيقال أنكم جزتم الصراط في الدنيا بأعمالكم ووردتم النار وهي خامدة ومن ها هنا ذهب من ذهب وإلى تأويل الصراط وما الزم الإنسان وكلف من مشقة الطاعة ومجاهدة النفس فيما ينزع إليه وعلى هذا فسر بعضهم فلا اقتحم العقبة وما أدرك ما العقبة فك رقبة الآية وأما المعتزلة وأهل النظر فإنهم يذهبون إلى أن الصراط هو الدين الذي أمر الله بلزومه والتمسك به وكان أبو الهذيل من بينهم يجيز ما جاء في الخبر كما جاء ويحتج بما ذكرناه بدئاً وأما الميزان فروى كثير من المسلمين أنه خلق على هيئة الميزان التي يتعاطاه الناس بينهم فيم عاملاتهم ومبايعاتهم يوزن به أعمال العباد والأعمال عندهم مخلوقة وفي كتاب وهب عن ابن عباس أن له كفتين وعموداً كل كلفة طباق الأرض إحداهما من ظلمة والأخرى من نور وعموده ما بين المشرق والمغرب وهو معلق بالعرش وله لسان وصيح ينادي الأسعد فلان والأشقى فلان فإن صحت الرواية فالمعنى فيه ما ذكرناه في الصراط أنه جعل مميزاً فارقاً وهو قول أبي الهذيل يجوز أن ينصب ميزان يجعل رجحانه علامة لمن نجا وخفته علامة لمن هلك وقالت المعتزلة غيره وكثير من الأمة أن الميزان مثل لتسوية الجزاء وتحقيق العدل وهو قول مجاهد والضحاك الشعبي واحتجوا بقول الناس للرجل الأمين العدل ما هو إلا كالميزان المستقيم ألا ترى إلى ما يرثى به عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
قد غيب الدافنون الترب إذ دفنوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين
وأنشد الفراء بيتاً:
قد كنت قبل لقائكم ذا مرة ... عندي لكل مخاصم ميزان
ويسمى الحجة ميزاناً والله أعلم واحكم وختلفوا في الموزون فقال قوم يوزن عين الأعمال فتخف السيئة لأنه يأتيها الإنسان بخفة ونشاط وتثقل الحسنة لأنه يأتيها بعناء وكلفة وقالت طائفة بل يوزن صحف الأعمال وهو قول ابن عباس رضي الله عنه ويعضد رواية عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى برجل القيامة ويؤتى بتسعة وتعسين سجلاً كل سجل مد البصر فيها ذنوبه وخطاياه فيوضع في كفة ثم يخرج له قرطاس مثل واشد بطرف سبابته على بعض إبهامه فيه شهادة أن لا إله إلا الله فيوضع في الكفة الأخرى فيرجح به وقال قوم يوزن ثواب الأعمال وذلك أن الله يظهره في صورة ويحدث عند الوزن ثقلاً في الطاعة وخفة في المعصية وكل ما حكى وروى ممكن والله أعلم بالحق وأحكم وأما الأعراف فذكر أنه كسور بين الجنة والنار يوقف عليها قوم إلى أن يقضي الله تعالى بين خلقه مع اختلاف كثير في من يقام عليه ويدل على أنه من الجنة قوله عز وعلا ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله وفيه يقول أمية بن أبي الصلت:
وآخرون على الأعراف قد طعموا ... بجنة حفها الرمان والحصر
منهم رجال على الرحمن رزقهم ... مكفر عنهم الأخباث والوزر

وأما الصور فإن الرواة مختلفة فيه فروى أنه كهيئة القرن يجمع فيه الأرواح ثم ينفخ منه في الأجساد عن البعث وقال قوم يخلق الصور يوم القيامة وتأولوا قوله " وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق " ويوم يقول " كن فيكون " قال يقول للسموات كوني صوراً ينفخ فيه وقال بعضهم الصور جمع الصورة وإن صح الخبر كيف أنعم وصاحب الصور قد التقمه وحنا جبهته ينظر متى يؤمر فينفخ لزم التسليم والقول به وأما الحوض جاء في الحديث بروايات مختلفة وقال كثير من أهل التفسير أن الكوثر اسم حوض النبي صلى الله عليه وسلم وروى ما بين جنبي حوضي كما بين صنعاء وايلة وآنيته في عدد نجوم السماء ماءه أحلى من العسل وأبرد من الثلج وأشد بياضاً من اللبن من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً وقال قوم في تأويل الحوض أنه عمله ودينه وطريقته والله أعلم.
1 67 -
الجزء الثاني

الفصل السابع
خلق السماء والأرض وما فيها

قد بينا مقالات الأمم في حدث العالم وقدمه وقد ذكرنا أراءهم في المبادىء وكشفنا عن عوار كل من خالف الحق ودللنا على أن مأخذ هذا العالم لا يصح إلا من جهة الوحي والنبوة بما لا مزيد عليه في مقدار الشريطة التي نصبناها في كتابنا هذا والله أعلم والموفق والمعين وقد اختلفت الروايات في هذا الباب عن ابن عباس ومجاهد وابن اسحق والضحاك وكعب ووهب وابن سلام والسندي والكلبي ومقاتل وغيرهم من يتحرى هذا العلم وينحو نحوه فلنذكر الأصح من رواياتهم والأقسط للحق والأشبه بالصواب ونسوق ما يحكيه أهل الكتاب ولا يكذبهم إلا فيما يتيقنه من وفاق كتابنا أو خبر نبينا صلى الله عليه وسلم وروى أبو حذيفة عن رجال أسماءهم أن الله تعالى لما أراد أن يخلق السماء والأرض سلط الريح على الماء حتى خربته فصار موجاً ودهنا ودخأنا فأجمد الزبد فجعله أرضاً وأجمد الزبد فجعله أرضاً وأجمد الموج فجعله جبالاً وأجمد الدخان فجعله سماء وربما يقع تغيير في العبارة لزيادة بيان فليراع الناظر المعنى لا اللفظ وزعم محمد بن اسحق أن أول ما خلق الله النور والظلمة فجعل الظلمة ليلاً وجعل النور نهاراً ثم سمك السماوات السبع من الدخان دخان الماء حتى استقللن ولم يحبكهن وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها واخرج ضحاها فجرى منها الليل والنهار وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم ثم دحا الأرض وأرساها بالجبال وقدر فيها الأوقات ثم استوى إلى السماء وهي دخان قال فحبكهن وجعل في السماء الدنيا شمسها وقمرها ونجومها وأوحى في كل سماء أمرها وقريب من هذا ما روى عن عبد الله بن سلام أنه حكى عن التورية أن خلق البخار الذي خرج من الماء والجبال والأرض من الأمواج ودحا الأرض من تحت موضع الكعبة عن الكلبي والسندي أن الأرض كانت تكفأ كما تكفأ السفينة فأشمخ الله جبالها وأرساها بالأوتاد حتى استقرت وتوطدت لقول الله تعالى " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وفي صدر التورية " التي في أيدي أهل الكتاب أن أول ما خلق الله السماء والأرض وكانت الأرض خربة خاوية وكانت الظلمة على الأرض وريح الله تعالى يزف على وجه الماء فقال الله ليكن النور فكان النور فرأى الله حسناً فميزه من الظلمة وسماه نهاراً وسمى الظلمة ليلاً وقال ليكن رفيعاً وسط السماء فليحل بين الماء والسماء فكان سقفاً يميز بين الماء الذي أسفل وبين الماء الذي هو أعلى وسماه سماء وقال الله ليجمع الماء الذي تحت السماء وليكن اليبس فكان كذلك فسمى مجتمع الماء البحار وسمى اليبس الأرض وقال الله ليخرج الأرض الزهر والعشب والشجر ذا الحمل فأخرجت الأرض ذلك ثم قال الله تعالى " ليكن نوران في سقف السماء ليميزا بين الليل والنهار وليكونا آيتين للأيام والشهور والسنين فكان نوران الأكبر والأصغر فالأكبر لسلطان النهار والأصغر والنجوم لسلطان الليل " فرأه الله حسناً وقال الله تعالى " ليحرك الماء كل نفس حية وليطر الطير في جوف السقف وخلق الله ثمانين عظاماً " وحرك الماء كل نفس حية لجنسها وكل طائر لجنسه فرأى الله ذلك حسناً فقال انموا واكثروا واملأوا الأرض وقال الله تعالى " نخلق بشراً كصورتنا وشبهنا ومثالنا ويكون مسلطاً على سمك البحار وطير السماء ودواب الأرض " فخلق آدم على صورته ومثال وشبهه، وأما الفرس فإنهم يحكون على علمائهم وموبذيهم أن الله خلق في ثلثمائة وخمسة وستين يوماً ووضع ذلك على أزمنة كاه انبار دين ماه وأن أول ما خلق الله تعالى السماء في خمسة وأربعين يوماً وهو كاه ابنار دي ماه وخلق الماء في ستين يوماً وهو كاه انبار اردبيهشت ماه وخلق النبات في ثلاثين يوماً وهو كاه انبار ماه هذا ما عليه عامة من يعرفهم من أهل الأرض بحدث العالم والأصدق من ذلك ما نطقت به كتب الله أو جاءت به رسله لأنه لم يشاهد الخلق أحد فيخبر عنه ولا العقل موجب كيفية ذلك ثم لا شيء أحمل للزيادة واخلط في الرواية وأكثر تشويشاً واضطراباً من هذا الباب قال الله تبارك وتعالى خلق السماوات فبدأ بذكر السماء على الأرض في غير موضع من كتابه ثم قال " أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له انداداً " الآية إلى قوله ثم استوى إلى السماء وهي دخان وقال " أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها رفع سمكها فسواها إلى قوله والأرض بعد ذلك دحاها فأخبر أن خلق السماء كان قبل خلق الأرض وبسط الأرض كان قبل

تسوية السماء وما فيها كما ذكره ابن اسحق.سوية السماء وما فيها كما ذكره ابن اسحق.
صفة السماوات قال الله تعالى " خلق سبع سماوات طباقاً " فأخبر أن بعضها فوق بعض وزعم الكلبي أن السماوات فوق الأرض كهيأة القبة الملتصق منها أطرافها وقول الله أحق أن يتبع ما لم يرد تخصيص صادق أو تبيين وروى وهب عن سلمان الفارسي رحمه الله أن الله خلق السماء الدنيا من زمردة خضراء وسماها برقع وخلق السماء الثانية من فضة بيضاء وسماها كذا وخلق السماء الثالثة من ياقوتة حتى سبع سماوات بأسمائها وجواهرها وروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال إن السماء الدنيا من رخام أبيض وإنما خضرتها من خضرة جبل فاق وروى أن السماء موج مكفوف واختلف القدماء فيه فزعم بعضهم أن جوهر السماء من حديد وزعم بعضهم أنه جوهر صلب وجمد بالنار حتى صار مثل الجليد ومنهم من يزعم أنه جوهر ناري وبعضهم يراه جوهراً مركباً من حار وبارد وبعضهم يقول هو دخان من بخار الماء تكاثف وتصلب وبعضهم يراه جوهراً خارجاً من مزاج الطبائع فكلهم يسمون السماوات الأفلاك فالذي يحب أن يعتقد منه أنه جوهر ما آن لو لم يكن كذلك ما قبلت الأعراض التي تراها من سواد الليل وخضرة واختلاف القدماء فيه دليل على قصور فهمهم عنه وروايات أهل الإسلام لا يوجب إعتقادها ما لم يكن إجماع أو شهادة نص من كتاب أو خبر نبي صادق مؤيد بالمعجزات الباهرة اللهم إلا أن يكون وفاق في الأسامي لا في المعاني لمخالفة أجسام السفل أجسام العلو وقد شبه أمية السماء بالزجاج من جهة لونه ولم يرو عن أحد من الفلاسفة ولا من أهل الكتاب:
فكأن برقع والملائك حوله ... سدد تواكله القوائم مجرد
خضراء ثانية تظل رؤوسهم ... فوق الذوائب فاستوت لا يحصد
كزجاجة الغسول أحسن صنعها ... لما بناها ربنا يتجرد
صفة الفلك قال الله تعالى " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " قال بعض المفسرين تدور كدوران الرحا وأهل النجوم يزعمون أنه الفلك الأعظم المحيط بالأفلاك السبعة ولها في كل يوم وليلة دورة واحدة من المشرق إلى المغرب وسائر الأفلاك في جوفها تدور من المغرب إلى المشرق كمشي النمل على الرحا الدائرة بالعكس ومنهم من يقول هو الفلك الثابت وهي التاسعة من الأفلاك الضابطة لها وأكثرهم على أنها الثامنة وفيها الكواكب الثابتة وفي رواية المسلمين أن من سماء إلى سماء مسيرة خمس مائة سنة وما بين كل سماء مسيرة خمس مائة سنة وللقدماء في هذا تقدير فزعم الفزاري أن بين فلك وفلك مسيرة ثلثة آلاف سنة وقد ذكر في كتاب المجسطي مقادير أجرام الكواكب وأبعادها من نقطة الأرض وبعد بعضها من بعض في العلو وكم قطر فلك يدور بها وعظم الأفلاك وسعتها وحال الأرض وكميتها في الطول والعرض والاستدارة ما الله به عليم فإن كان حقاً فهو الوحي لأن قوى الخلق تقصر عن أمثاله وإن كان حزراً وتخميناً فرواية أهل الإسلام أحق وأصدق وإذا صحت فهي تحتمل وجهين من التأويل أحدهما البعد في المسافة والثاني العجز عن الترقي إليه ومن العجب ضرب من لا يرى السماوات والأفلاك أجراماً مركبة ولا أجساماً متحركة حداً لها في البعد والقرب والبسائط غير محصورة ولا متناهية واختلف ذي ذات الفلك الذين زعموا أنها جرم فزعمت منهم أنها من تركيب الطبائع الأربع وقال قوم بل هي طبيعة خامسة خارجة عن هذه الطبائع والطبائع خفيفات النار والهواء وثقليات الأرض والماء والفلك لا خفيف ولا ثقيل وزعم قوم أنه لحم ودم وقال أعظمهم عندهم رأياً أن الفلك حي ناطق والكواكب لها النفس الناطقة ورأيت في كتب بعض المفسرين ميلاً إلى هذا الرأي واحتج له بقول الله تعالى قالتا أتينا طائعين والنطق قد يكون بالعبارة والبيان وبالدلالة والأثر.

صفة ما فوق الفلك قال المسلمون فوق الأفلاك العرش وفوق العرش ما الله به عليم ومنهم من يقول فوق العرش البارئ عز وجل وهذا قول سديد وهو من شعار الإسلام ما لم يوصف بالمكان والتمكن لأن فوق يحتمل وجوهاً من التأويل ومن قال بوجود الجنة في الوقت قال هي في السماء السابعة واحتج بقوله عز وجل وفي السماء رزقكم وما توعدون قال كثير من أهل التفسير أنه الجنة وقال قدماء في ترنيب العوالم بعد ذكر الفلك المستقيم وأنه الثامن أو التاسع على اختلافهم ن فوق الأفلاك كلها علام النفوس محيط بجميعها ثم فوقه عالم العقل مسبول على هذه العوالم والبارئ سبحانه وتعالى فوق ذلك كله فإن أرادوا المسافة فقريب من قول بعض المسلمين وإن أرادوا الرفعة والعظمة والعلو كان أقرب إلى الحق والله أعلم وأحكم وفي أخباره أصدق.
صفة ما في الأفلاك والسماوات كما جاء في الخبر وروى في الخبر أن في السماء الدنيا بيتاً بحذاء الكعبة يقال له الضراح يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه أبداً وقال هو البيت المعمور وروى أن أرواح الصالحين تصعد إليه قالوا وتحت العرش بحر من ماء أخضر كمنى الرجال يحيي الله به الموتى بين النفختين وهو الذي قال الله عز وجل ص والقرآن ذي الذكر وروى عن الضحاك أن في السماء جبالاً من برد خلقه الله مقداراً معلوماً لكل سنة فإذا فنى ذلك قامت القيامة وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال ليست سنة بأقل مطراً من سنة ولكن الله قسم هذه الأرزاق فجعلها من هذا القطر فإذا عمل قوم بالمعاصي حول ذلك إلى غيرهم وقد فسر بعضهم وفي السماء رزقكم وما توعدون المطر وزعم وهب أن الله خلق في الهواء طيراً أسود فهي التي طارت بالحجارة على لوط وعلى أصحاب الفيل وروى ابن اسحق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن مما خلق الله ديكاً براثنه تحت الأرض السابعة وعرفه منطو تحت العرش قد أحاط جناحاه بالأفقين فإذا بقي ثلث الليل الأخير ضرب بجناحيه ثم قال سبحان ربنا الملك القدوس فيسمعها من بين الخافقين فترون أن الديكة إذا سمعت ذلك وروى أن في السماء موجاً مكفوفاً وقيل دون السماء بحر مكفوف فيه مجاري الشمس والقمر والجواري الخنس وزعم بعضهم أن ذلك قوله والبحر المسجور قالوا وليس في السماوات والسبع موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد وجاء في حديث المعراج بعجيب الصفة للخلق الذي في السماوات والله أعلم وهكذا جاءت الأخبار في غير حديث المعراج وهكذا كله جائز في حد الإمكان لأنا قد علمنا أن ما تعالى عن وجه الأرض دخل في حد الروحانيين فكل ما ارتفع درجة ازداد لطافة ورقة وليس البيت كله من طين وخشب ولا البحر الماء المجتمع وقد قلنا هذا إن ما خرج عن هذا العالم الأسفل فقد انقطعت النسبة إلا في التسمية ولا يختلف مخالفونا أن المطر قبل أن ينزل أجزاء متفرقة لطيفة ومن لطف أجزائه ممسك في السماء فغير مستنكر أن يكون في السماء بحر على هيئة أجزاء المطر وكذلك البرد والثلج مع هذه رواية الضحاك وأكثر المسلمين على خلافها وكذلك رواية وهب في الطير والحجر وإنما الاجتماع في كون الملائكة في السماء قد أجازت جماعة من القدماء أن يكون في العلو سباع وبهائم غير محسوسة للطافة أجسامها فما ينقمون ممن أقر بصورة الملائكة.

صفة الكواكب والنجوم قال الله تعالى " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظاً من كل شيطان مارد " وقال تعالى " وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر فأخبر في النجوم زينة وحراسة وهداية " وقال عز ذكره " فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس " وقال كثير من أهل التفسير أنهن الكواكب السيارة المتحيرة فأولهن زحل في السماء السابعة بارد الطبيعة وهو أبطأ الكواكب سيراً والثاني المشتري في السماء السادسة معتدل الطبع والثالث المريخ في السماء الخامسة حار الطبع والرابع الشمس في السماء الرابعة حارة الطبع والخامس الزهرة في السماء الثالثة رطبة الطبع والسادس عطارد في السماء الثانية ممازج الطبع والسابع القمر في السماء الدنيا بارد الطبع وهو أسرع الكواكب سيراً وكل هذه الكواكب سعود إلا زحل والمريخ وقد تميز عنهن الشمس والقمر فيقال سعدان ونحسان وممازج فالسعدان المشتري والزهرة والنحسان زحل والمريخ والممازج عطارد من النحوس نحس ومع السعود سعد والنيران الشمس والقمر فالشمس مثل الملك والقمر مثل الوزير له وزحل كالشيخ ذو الرأي السديد والمشتري كالقاضي العادل والمريخ كالشرطي المعذب والزهرة كالمرأة الحسناء وعطارد كالكاتب ولكل كوكب من هذه الكواكب بيتان من البروج الإثنى عشر إلا النيرين فإن لكل واحد منهما بيتاً واحداً ومعنى البيت أنه يحله في فصله ويزيد سلطانه وشرفه فيه فالأسد بيت الشمس والسرطان بيت القمر والجدي والدول بيتا زحل والقوي والحوت بيتا المشتري والحمل والعقرب بيتا المريخ والثور والميزان بيتا الزهرة والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد وسنفرد بمشيئة الله وعونه كتاباً لطيفاً في ذكر النجوم وما يصح فيها ويوافق قول أهل الحق فأني أرى الجهال قد استخفوا بها كل الاستخفاف ووضعوا من شأن متعاطيها وصغروا من أقدارها لتحلي الزراق والكهان بها وتنزع أبواعها إلى الأحكام التي عينها الله عن خلقه واستأثر نفسه بعلمها دونهم وكيف المدخل إليها والمأخذ فإن جحد البرهان ورد العيان نقص عظيم عند أهل البيان وذوي الأديان قال الله عز وجل " والسماء ذات البروج " وقال تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً وقال تعالى " أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج " وقال سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وقال تعالى " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب " مع آي كثيرة ودلالات ظاهرة ولقد استدل المحققون من أهل التنجيم على التوحيد بدلالة ما أعظم خطرها وأسنى رتبتها قالوا لما رأينا الفلك متحركاً فباضطرار علمنا أن حركته من شيء غير متحرك لأنه إن كان المحرك له متحركاً لزم أن يكون ذلك إلى ما لا نهاية له والفلك دائم الحركة فقوى المحرك له غير ذات نهاية فليس يمكن أن يكون جسماً بل يجيب أن يكون محركاً لأجسام وكما لا نهاية لقوته فليس إذاً هو بزائل ولا فاسد قالوا فانظروا كيف أدركنا الخالق الصانع المبدئ المبدع المحرك للأشياء من الأشياء الظاهرة المعروفة المدركة بالحواس وأنه أزلي ذو قوة وقدرة غير ذات نهاية ولا متحرك ولا فاسد ولا متكون تبارك وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، فالبروج اثنى عشر ينزل الشمس كل شهر من شهور السنة برجاً منها فألوها الحمل ثم الثور ثم الجوزاء ثم السرطان ثم الأسد ثم السنبلة ثم الميزان ثم العقرب ثم القوس ثم الجدي ثم الدلو ثم الحوت، وهذه البروج مقسومة على ثمانية وعشرين جزءاً تسمى منازل القمر ينزل القمر منها كل ليلة منزلاً وهي الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك والغفر والزباني والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الأول وفرغ الثاني وبطن الحوت، كل برج منها منزلان وثلث منزل فيما يقطعه الشمس في السنة ويقطعه القمر في الشهر يقول الله تعالى " والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون " القديم فمن البروج ثلثة نارية الحمل والأسد والقوس وثلثة هوائية الجوزاء والميزان والدلو وثلثة مائية السرطان والعقرب والحوت وثلثة أرضية الثور والسنبلة والجدي وذلك أنها خلقت من هذه الطبائع وأعلم إن إضافة

الفعل الاختياري إلى البروج والنجوم من أعظم الخطاء والخطل إنما هي مخلوقة مسخرة موضوعة على ما أراد الله منها كسائر السموات والجوامد المخلوقة على طباعها وكما جعلت النار محرقة والماء مرطبة قال الله تعالى " وسخر لكم الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " وقد رويت في النجوم روايات ما يحكى بعضها ويضيف العلم إلى الله عز وجل. الاختياري إلى البروج والنجوم من أعظم الخطاء والخطل إنما هي مخلوقة مسخرة موضوعة على ما أراد الله منها كسائر السموات والجوامد المخلوقة على طباعها وكما جعلت النار محرقة والماء مرطبة قال الله تعالى " وسخر لكم الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " وقد رويت في النجوم روايات ما يحكى بعضها ويضيف العلم إلى الله عز وجل.

ذكر صورة الشمس والقمر والنجوم وما فيها روى أبو حذيفة عن عطاء أنه قال بلغني أنه قال الشمس والقمر طولهما وعرضهما تسع مائة فرسخ في تسع مائة فرسخ قال الضحاك فحسبناه فوجدناه تسع آلاف فرسخ والشمس أعظم من القمر قال وعظم الكواكب اثنا عشر فرسخاً في اثني عشر فرسخاً وروينا عن عكرمة أنه قال سعة الشمس مثل الدنيا وثلثها وسعة القمر مثل الدنيا سواء وعن مقاتل أنه قال الكواكب معلقة من المساء كالقناديل قاولا وخلقت الشمس والقمر والنجوم من نور العرش هذا قول أهل الإسلام من غير رواية من كتب ولا خبر صادق واختلف القدماء في ذلك فحكى افلوطرخس عن بعضهم أنه كان يرى الشمس مساوية في عظمها الأرض وأن الدائرة التي يصير عليها هي مثل الأرض تسعاً وعشرين مرة وعن بعضهم أنه قال هي تسعة أقدام الرجل وعن بعضهم أنها في المقدار الذي يراها وعامة والمنجمين على أن الشمس أعظم من الأرض مائة وست وستين مرة وربع ثمن مرة فانظر إلى هذا الاختلاف الظاهر والتفاوت البين وهل يستجيز ذو عقل عيب المسلمين في روايتهم مع ما يرى من اختلاف أصحابه واختلاف قولهم واختلفوا في جرم الشمس فحكى عن ارسطاطاليس أنه كان يرى جرم الشمس من العنصر الخامس وكذلك جرم الفلك وعن أفلاطن أنه كان يرى أكثر جوهر الشمس ناراً وعن الرواقيين أنهم يرون الشمس جوهراً عقلياً يرتفع من البحر ومنهم من يزعم أنّ جرم الشمس كالخضرة المستنيرة ومنهم من يراه كالزجاج تقبل استنارة النار التي في أعلى العالم ويبعث الضوء إلينا فيكون الشمس على رأيه ثلاثاً إحداها التي في أعلى العالم في السماء وهي ناريّة والثانية التي تكون على سبيل المرآة والثالثة الانعكاس الذي ينعكس إلينا بضوءه ومنهم من يقول أنّ جوهر الشمس أرضيّ متخلخل كالغيم يلتهب ناراً وأمّا المسلمون فإنهم يقولون إنما خلقت من نور ومنهم من يقول من ونار والنار والنور قريب في المعنى والله أعلم واختلفوا في شكل الشمس والقمر والكواكب فحكى عن الرواقيين أنهم يرون هذه الأشكال كريّة كما العالم كروي وعن بعضهم أنّ شكلها شكل السفينة المقعرة المملوءة ناراً وقال طائفة منهم أن النجوم بمنزلة المسامير المسمرة في الجوهر الجليدي والفصوص المركبة وقال قوم هي صفائح دقاق والله أعلم واختلفوا في جرم القمر فحكى بعضهم أن جرم القمر سحاب مستدير وافلاطون يقول الجوهر الناريّ في تركيب القمر جسم صلب مستنير فيه سطوح وجبال وأدوية ويحتج ما يرى في وجهه من الأثر وأكثر المنجمة يزعمون أنه عين صقيلة تقبل من ضوء الشمس ولذلك يتسق في المقابلة وكذلك النجوم فأخذ ضوءها من الشمس والله أعلم واختلفوا في عظم القمر والكواكب فحكي عن بعضهم أنه مثل الشمس وعن بعضهم أنه أصغر منها وزعم قوم أنه أعظم من الأرض وزعم الآخرون أن الأرض أعظم منه والمنجمة منهم من يزعم أن أصغر كوكب من الكواكب الثابتة هو أعظم من الأرض ست عشر مرة وأكبرها مائة وعشرين مرة وأما السيارة فالشمس أعظم من الأرض مائة مرة وستين مرة ونيفاً كما قلنا وزحل مثل الأرض تسعاً وتسعين مرة ونيفاً والمشتري مثل الأرض مرة ونصفاً والزهرة مثل الأرض أربعاً وأربعين مرة وعطارد مثل الأرض اثنين وستين مرة والقمر مثل الأرض تسعة وثلاثين مرة وربعاً والله أعلم واختلفوا في أجرام الكواكب وأشكالها كما اختلفوا في الشمس والقمر فزعم انها أنوار كروية وكان أرسطاطاليس يرى الكواكب حية ولها النفس الناطقة قال فلذلك يدل على اتفاق النفس الناطقة الحيوانية وزعم بعضهم أن الكواكب والشمس والقمر تنشأ في المشرق وتبلى في المغرب وزعم قوم أن الكواكب والشمس والقمر في فلك واحد لا في أفلاك مختلفة وقرأت في كتاب الخرمية أن الكواكب كرىً وثقب وأنها تنزع أرواح الخلائق وتسلمها إلى القمر فذلك زيادة القمر حتى إذا انتهى في الكمال والتمام غايته سلمها إلى من فوقه واستفرغ ثم عاد في تسلم الأرواح من الكواكب حتى يعود مملئياً فاعتبر بهذه العجائب واتبع كتاب الله عز وجل وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله يقول الله تعالى وجعل الشمس سراجاً والقمر نوراً لأن السراج يجمعها وكذلك خبره عن الكواكب حيث قال فأتبعه شهاب ثاقب قال وجعل القمر فيهن نوراً وجملة القول أن كل ما روى في هذا الباب عن القدماء وأصحاب النجوم مما لم يكن نقصاً للتوحيد وإبطالاً للشريعة أو

جحداً للعيان فموقوف على سبيل الجواز والامكان قال الله تعالى رب المشرقين ورب المغربين وقال تعالى رب المشارق والمغارب على الجميع ورب المشرق والمغرب على الإرسال وذلك أن للشمس مائة وثمانين مشرقاً ومائة وثمانين مغرباً تطلع كل يوم من مشرق وتغرب في مغرب يقابله والمشرقان مشرق أطول يوم في السنة عند حلول الشمس برأس السرطان وأقصر يوم عند حلولها برأس الجدي ومغرباها محاذياً بهما على السواء وقال لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر فأخبر أنهما يتقاربان ولا يتداركان وكلما دنا من الشمس منزلة انمحق ضوءه حتى يستتر وكلما بعد ازداد ضوءاً حتى إذا قابلها كمل واتسق قال بعض المفسرين في قوله فمحونا آية الليل فهو ما امتهن القمر به من الزيادة والنقصان والله أعلم للعيان فموقوف على سبيل الجواز والامكان قال الله تعالى رب المشرقين ورب المغربين وقال تعالى رب المشارق والمغارب على الجميع ورب المشرق والمغرب على الإرسال وذلك أن للشمس مائة وثمانين مشرقاً ومائة وثمانين مغرباً تطلع كل يوم من مشرق وتغرب في مغرب يقابله والمشرقان مشرق أطول يوم في السنة عند حلول الشمس برأس السرطان وأقصر يوم عند حلولها برأس الجدي ومغرباها محاذياً بهما على السواء وقال لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر فأخبر أنهما يتقاربان ولا يتداركان وكلما دنا من الشمس منزلة انمحق ضوءه حتى يستتر وكلما بعد ازداد ضوءاً حتى إذا قابلها كمل واتسق قال بعض المفسرين في قوله فمحونا آية الليل فهو ما امتهن القمر به من الزيادة والنقصان والله أعلم ذكر طلوع الشمس والقمر وكسوفهما وانقضاض الكواكب وغير ذلك مما يتعرض في السماء وروي في الأخبار أن الشمس إذا غربت مرت حتى تقطع الأرض فتخر ساجدة بين يدي العرش فتسلب ضوءها فتكتسى نوراً جديداً ثم تؤمر أن ترجع فتطلع فتأبى ذلك وتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله حتى ينخسها ثلث مائة وستة وستون ملكاً فإذا طلعت خلع عليها ثلاث حلل حمراً وبيضاً وصفراً وكذلك ما يرى من تغير ألوانها عند طلوعها وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى قول أمية
والشمس تصبح كل آخر ليلة ... حمراء تضحى لونها يتوقد
تأبى فما تطلع لنا في رسلها ... إما معذبة وإما تجلد
فقال النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله صدق وعند أهل النجوم الشمس لا تزال طالعة على قوم وغاربة على قوم لأنها دائرة على كرة الأرض دوراً مستقيماً وقد ينكر كثير من الناس نخس الشمس وإبأها الطلوع لأنها مسخرة جماد غير مكلفة ولا مختارة من أن الخبر ما أراه يصح وإن صح فالتأويل والتمثيل من ورائه لأن العرش محيط بالعالم فحيث ما سجدت تحت العرش ولكن ربما فضل بعض البقاع على بعض فوصف بالتقريب كقولنا فلان يعين الله وكل شيء يعينه وكقولنا بيوت الله وما أشبه ذلك وأما سجدة الشمس والقمر والنجوم والشجر وغير ذلك مما يوصف به الأرض والسماء وسائر الخلق الذي ليس بمميز ولا عاقل فهو انقياد لما يراد منها وتذللها لما وضعت عليه من طبع أو حركة وقلة امتناعها على السجود لصانعها فأضيف السجود إليها لما كانت هي سببه ومن يرى الشمس والقمر والكواكب أحياء ناطقة فما ينكر من سجودها وتسبيحها مع أنّا نجيز أن يحدث الله في الجماد معنىً يسجد به ويطيع لأن ذلك على الله غير عزيز وقد سبق ذكر هذه الأشياء ومعنى حقائقها على التقصي والبيان في كتاب معاني القرآن وإما نخس الملائكة إياها فيشبه أن يكون تمثيلاً ليكون كما قال الشاعر وهو طرفة بن العبد
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها ... عليه نقى اللون لم يتخدد

فإن كان الخبر محتملاً للتأويل فلا معنى للتسرع إلى التخطئة والتكذيب وزعم وهب أن الشمس على عجلة لها ثلثمائة وستون عروة قد تعلق بكل عروة ملك من الملائكة يجرونها في السماء وكذلك القمر وعجلة القمر من نور الشمس قال وللبحر موج مكفوف في الهواء كأنه جبل ممدود ولو بدت الشمس من ذلك البحر لأفتن أهل الأرض حتى يعبدوه من دون الله وروى غيره أن الله تعالى قد وكل بعين الشمس حتى تغرب فال في نار حامية لولا ما يزعها من ملائكة الله لأحرقت ما عليها وقيل أن الشمس يضيء وجهها لأهل السماء وظهرها لأهل الأرض قالوا والشمس إذا هبطت من سماء إلى سماء انفجر الصبح حتى إذا انتهت إلى سماء الدنيا اسفر قال وهب فإذا أراد الله أن يرى العباد آية يستعتبهم زالت الشمس عن تلك العجلة في ذلك البحر وإذا أراد الله أن يعظم الآية وقعت كلها وكذلك القمر وقد قلت لك في غير موضع أن الاعتماد على شيء من هذه الأخبار ما لم يكن نص كتاب أو صدق خبر ولكن يوقف ولا يقطع على شيء منه حتى يصح والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كسفت الشمس يوم مات ابنه ابراهيم عليه السلام فقال الناس إنما كسفت الشمس لموته فخطب وقال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة والقدماء مختلفون في الكسوفات كما حكى افلوطرخس زعم أن بعضهم يرى كسوف الشمس بمسير القمر تحتها وبعضهم يرى ذلك لانقلاب جسم الشبيه بالسفينة فيصير مقعهره إلى فوق ومحدود به إلى أسفل وبعضهم يرى الشمس شموساً كثيرة والقمر أقماراً كثيرة في كل إقليم من أقاليم الأرض وفي كل قطعة ومنطقة وزمان وزعم بعضهم أن كسوف القمر بانسداد القعر الذي في تقويسه وأما أفلاطون وارسطاطاليس والخلاف منهم فيرون الكسوفات بدخولها تحت ظل الأرض وذلك إذا كانت الشمس تحت الأرض والقمر في مقابلتها وكانا في طريقة واحدة وقع ظل الأرض على جرمه فحال بينه وبين الشمس المضيئة له لأن ضوءه من الشمس وأما كسوف الشمس فبمرور القمر تحتها فيعتبر منكر أن يجعل الله كسوفه بظل الأرض آية للحق يستعتهبهم وإن كان سقوطه عن العجلة كما روى تمثيلاً لدخوله تحت ظل الأرض وقوله أن عجلة القمر من نور الشمس رمز إلى اقتباس القمر من نور الشمس وقولهم الشمس على عجلة لها ثلاثمائة وستون عروة يعني به الفلك ودرجاته الثلاثمائة والستين والله أعلم وقوله كلما هبطت الشمس من سماء إلى سماء انفجر الصبح يعني بها مسيرها في درجاتها وارتفاعها من منزلة إلى منزلة لأن أهل التنجيم لا يختلفون أنها في سماء واحدة واختلفوا في السواد الذي يرى في وجه القمر فروى المسلمون أنه لطخه ملك ورووا أن القمر كان مثل الشمس فلم يكن يعرف الليل من النهار فأمر الله الملك أن يمر جناحه عليه فمحاه هو ما يرى من السواد في وجهه وحكى عن ديمقريطيس أن جسم القمر مستنير صلب فيه سطوح وأودية وجبال فلذلك ما يرى في وجهه وزعم بعضهم أنه سحاب مستنير يلتهب وقال قوم أنه عين صقيلة كالمرآة يقبل ضوءه من الشمس إذا ما قابلها فذاك الحبال في وجهه ما قابله من عين الشمس والأمر في هذا سهل وذلك أنه لو كان كما زعم القوم كان يمحو الله إياه كما جاء في الخبر إما لخلق جبال فيه أو بإظهار جبال أو بما شاء واختلفوا في انقضاض الكواكب فقال المسلمون هو رجوم الشيطان كما قال الله تعالى وقلما ينكر الصور الروحانية في السماء إلا أهل التعطيل والإلحاد ثم هم مقرون بتأثير الفلك والكواكب وما فيها فلا معنى لإنكارهم استراق من يسترق السمع مع من أنكر الصور السماوية فهو الأرضية من الجن والشياطين أنكر فإن قيل لم تزل الكواكب تنقض وأنتم تزعمون أن السماء حرست عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قيل انقضاض الكواكب ليس كله رجوماً للشياطين ولعل الذي يرجمون به لا يشعر أحد ولا يراه أو ينقض الكواكب لعلة من العلل أو يقرن الله إليه عذاباً للشياطين وقد سئل الزهري هل كانت السماء تحرس في الجاهلية قال نعم فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم غلظ وشدر ومن المنجمين من يزعم أنه يجلد السماء وحكى عن بعضهم أنه قال بمنزلة الشرارة تسقط من الأثير فيطفأ عل المكان وزعم بعضهم أنه برغوث من الشمس مع اختلاف كثير واختلفوا في المجرة فحكى افلوطرخس عن بعضهم أنه فلك وسحاب وعن بعضهم أنه تخييل في العين وعن بعضهم أن

مسير الشمس كان أولاً عليه وقال أرسطاطاليس أنه التهاب بخار يابس كثير متصل في صورة النار تحت الكواكب المتحيرة ومن المسلمين من يسميها باب السماء ومنهم من يسميها شرج السماءير الشمس كان أولاً عليه وقال أرسطاطاليس أنه التهاب بخار يابس كثير متصل في صورة النار تحت الكواكب المتحيرة ومن المسلمين من يسميها باب السماء ومنهم من يسميها شرج السماء

ذكر الرياح والسحاب والأنداء والرعد والبرق وغير ذلك مما يعترض في الجو، اختلفوا في الرياح قال الله تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته فأخبر أنها بشرى المطر وقال عز ذكره الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فأخبر أنها باعثة الغيم ومثيرة السحاب وقال تعالى وأرسلنا الرياح لواقح فأخبر أنها تلقح الشجر والأرض قال الله تعالى وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم فأخبر أنها ضد الرياح اللاقحة لأنها عذاب واللاقحة رحمة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نصرت بالصبا وأهلك عاداً بالدبور وما جنوب إلا صب الله بها غيثاً وروى لا بئسو الرياح فإنها نفس الرحمن وقال المفسرون أن الله تنفس بها عن كمد الأرض وكربة الخلق بما ينزل بها من الغيث ويروح من الهواء وقيل الريح نفس ملك والله أعلم والرياح أربع الصبا والجنوب والشمال والدبور ويقال الريح واحدة وإنما يختف في المهب من الجهات فالصبا هي القبول ومخرجها بين المشرقين مشرق الصيف ومشرق الشتاء من مطلع الذراع إلى مطلع سعد الذابح والدبور يقابلها والجنوب مخرجها ما بين مشرق الشتاء إلى مغرب الشتاء من مطلع سعد الذابح إلى مسقط العقرب والشمال يقابلها والمطالع مائة وثمانون والمغارب مائة وثمانون لكل مطلع ريح ولكل مغرب ريح وكلها داخلة في هذه الأربع والريح هي الهواء بعينه فإذا أحدث الله فيه حركة هبت واضطربت وكذا يقول أكثر القدماء أن الريح سيلان الهواء ويزعمون أن هبوبها مرور الشمس بالأرض فيرتفع منها البخار فإذا كان البخار رطباً كان مادة الأمطار وإن كان يابساً كان مادة الرياح وهذا جائز أن يجعل الله مرور الشمس علة لإثارتها إذا شاء كما جعل السحاب سبباً للمطر وقد جاء في بعض الأخبار أن الصبا من الجنة والدبور من النار وروينا عن الحسن أنه قال الجنوب يخرج من الجنة فيمر بالنار فمن ثم حرها والشمال تخرج من النار فتمر بالجنة فمن ثم بردها وهذا والله أعلم وإن صح إضافة التمثيل لا من التبعيض كما يقال للرجل الفاضل هو من الملائكة وللشرير هو من الشياطين يراد به التشبيه بهم لا من جنسهم وجملتهم والمنجمون يزعمون أن حرارة الجنوب لمجيئها من بلاد حارة فتقرب الشمس منها وبرد الشمال لبعد الشمس عن تلك النواحي والله أعلم، فأما الغيوم والسحاب والأنداء والضباب فهي بخار يرتفع من الأرض فما غلظ منها صار سحاباً وما رق صار ضباباً وقتاماً قال الله تعالى " الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً والمنجمون يزعمون أن الشمس تمر بمواضع ندية وبطائح غمر فتثير سحاباً بحرارة مرورها فإذا تكاثف ذلك البخار صار غيماً قالوا والمطر اجتماع ذلك البخار وانعصاره فيقطر كما يقطر طبق القدر لأن كل شيء ند إذا حمي ثار منه البخار وذلك أن الحرارة إذا خالطت الرطوبة لطفت أجزائها فصيرتها هواء فإذا كثر في ذلك البخار برد الهواء رده البرد إلى الأرض فتكاثف وانعصر وصار ماء فانحدر فإن كان ذلك المنحدر شيئاً صغيراً يسيراً سمي نداً ولذلك تكون الأنداء في الشتاء وفي الليالي أكثر لكثر برودة الهواء فإن كان البخار الصاعد خفيفاً يسيراً وكان البرد الذي هجم عليه من فوق شديداً صار ذلك البخار جامداً وإن كان البخار كثيراً والبرد شديداً صار ذلك ثلجاً وإن ألح البرد على السحاب انقبض الماء الذي فيه فجمد وصار برداً وإنما الاختلاف في صغره وكبره لبعد مسافة الغيم من الأرض وقربه فإذا قرب نزل بسرعة لم يذب عن جوانبه شيء فبقي كبير الحب والقطر وكذلك المطر كله ممكن جائز لا نعلم في شيء منه رداً للكتاب ولا إبطالاً للدين وقد روينا عن ابن عباس رضي الله عنه أن الله تبارك وتعالى يرسل الرياح فتثير سحاباً وينزل عليه المطر فتمخضه الريح كما تمخض النتوح بولدها فإما حكاية وهب أن الأرض شكت إلى الله أيام الطوفان وأنه جددها فجعل السحاب غربالاً للمطر فإن صح فالمعنى أنه زيد في كثافة السحاب وغلظه كما كان قول ذلك وقوله تعالى " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " فأكثر أهل اللغة على أن البرد في الأرض كالجبال إذا نزل من المساء والسماء السحاب لا يختلف أهل اللغة في ذلك وقال قوم أن الأمطار كلها من بخار الأرض وما البخار إلا مطرة واحدة ينزلها الله من السماء في كل سنة فيحيي بها الأرض والشجر والنبات وهو قوله " ونزلنا من السماء ماء مباركاً الآية والله

اعلم " .اعلم " .

فأما الرعود والبروق والصواعق والشهبان وقوس قزح والهدات والزلال جاء في بعض الأخبار أن الرعد ملك موكل بالحساب معه كذا من حديد يسوقه من بلد إلى بلد كما يسوق الراعي الإبل كلما خالف سحاب صاح به فصوته زجره السحاب والبرق مصعه والصواعق شراره وفي الحديث الآخر أن السحاب ملك يتكلم بأحسن الكلام ويضحك بأحسن الكلام ويضحك بأحسن الضحك فالرعد كلامه والبرق ضحكه والله اعلم بصحة هذه الأخبار لأن محمد ابن جريد الطبري رحمه الله روى في كتاب التفسير أن ابن عباس رضي الله عنه كتب إلى ابن الجلد يسأله على الرعد والبرق فقال الرعد الريح والبرق الماء قال الله تعالى " يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء " فأخبر عن تسبيح الرعد وإرساله الصواعق كما أخبر عن قول السماوات والأرض قالتا أتينا طائعين والقدماء مختلفون في هذه الأشياء وأرضاهم عندهم ارسطاطاليس وهو يزعم أن الشمس إذا مرت بالأرض فأثارت البخار اليابس والبخار الرطب فانعقد غيماً فإذا اجتمع ذلك البخار الرطب هناك حصر ما فيه من البخار اليابس في جوف السماء فقرع السحاب وحكه وصدعه فيكون من ذلك الصدم والاحتكال الرعد ويكون من ذلك الخرق والصدع البرق والصواعق في المثل كما يتطاير من شرار الزند وذلك إذا اجتمع إلى ذلك الاحتكاك حرارة الشمس واليبوسة فعند ذلك يحدث الصواعق وقد بينا فيما مضى أن اسم الكل قد يقع على الصور الروحانية وعلى الجماد من جهة الانقياد والاستسلام لما وضع له فغير بعيد أن يسمى الرعد وهو ريح أو صدم سحب ملكاً على هذه الوجوه والله اعلم وقد شبه ارسطاطاليس الصوت الذي يكون في السحاب بالحطب الرطب الذي يستعمل في النار فيسمع له صوت وقعقعة ويجوز أن يكون الله يخلق من اضطرب الريح في السحاب ملكاً يسميه الرعد ونحن نوفق بين مقالات أهل الإسلام وأراء القدماء ما لم نجد النص من كتابنا والخبر الصادق من نبينا صلى الله عليه وسلم فمتى وجدنا شيئاً م نذلك بخلاف آرائهم فذاك الرأي منبوذ مهجور، وأما هالة الشمس والقمر والكواكب فمن اجتماع البخار في الجو وتكاثفه فإذا سطع نور الشمس والقمر في الهواء عطف ذلك النور راجعاً في الهواء على ذلك البخار فترى تلك الدارات وقد يقول وقم بخلاف هذا والله اعلم، وأما الشهبان والأعمدة فهي من البخار اليابس إذا علا في الجو حتى قرب من فلك القمر فلينحن هنالك ويلتهب بحركة الفلك فإذا كان ذلك البخار متصلاً بعضه ببعض يرى كالشهاب والعمود والكوكب ذي الذؤابة وقال قوم أن ذلك تخيل في البصر لا حقيقة له وأما قوس قزح فمن شعاع الشمس الراجع إلى البخار الرطب كمثل ما يشرق الشعاع في الماء ثم يرجع إلىالحائط وقد يعرض مثل ذلك لغربة رمد إذا نظر إلى السراج ويمكن يمتحن ذلك بأن يقف واقف بحذاء الشمس ويأخذ ماء فيريقه فيما بينهما ويفعل ذلك متصلاً حتى إذا كان انعكاس وجد من ذلك قوس قزح وأما حمرته وصفرته فمن قبل الرطوبة واليبس وقياس ذلك النار فإنها إذا كانت من حطب رطب كان لون تلك النار أحمر كدراً وإن كانت منح طب يابس كان لونها أصفر صافياً والخضرة التي فيه بعد الصفرة فلأن الجسم الذي ينعكس عنه يكون أكبر كدورة وزعم بعضهم أن ذلك تخيل لا حقيقة له كراكب السفينة يتخيل إليه أن الأرض تسير معه وروى أن ابن عباس كان يكره أن يقول قوس قزح ويقول قوس قزح للشيطان وحكى وهب أن الله أظهر ذلك بعد الطوفان أماناً من الغرق والله أعلم، وأما الزوبعة فهي التقاء ريحين مختلفتين من جهتيهما ومهابهما فيرتفع منها إعصار مستطيل في الهواء وقد يقال أنه شيطان والله اعلم، وأما الهدة فمن وقفات الريح في الهواء وفي الأرض، وأما الزلازل فعلى وجوه وذلك أن الأرض يابسة الطبيعة فإذا مطرت رطبت فيعمل فيها الشمس ويتولد منها بخار رطب وبخار يابس فالبخار الرطب مادة الأنداء والبخار اليابس مادة الرياح ومن طبع البخار الحركة إلى فوق فإذا تحرك وصادف أرضاً صلبة اضطرت الأرض لذلك وإن صادف أرضاً رخوة خرجت من غير زلزلة فإن كانت الأرض حجارية صلبة وتزعزعت الريح في جوفها ولم يجد منفذاً فربما شقته وصدعته وربما خرجت على أثر الزلزلة الهدة الهائلة والصوت الشديد وذلك لاحتقان البخار في جوف الأرض فإذا انشقت أصاب مخرجاً وربما قلبت الأرض فيصير أعلاها أسفلها وربما شق عن عيون ومياه فأغرقت

كثيراً من الأرض وللقدماء في عله الزلزلة كلام كثير ومذاهب مختلفة وأما المسلمون فيقولون أنها من فعل الله إذا أراد أن يرى العباد أنه يستعتبهم وليس بعجيب أن جعل الله هذه الآية بتحريك الريح الأرض وزلزلت الأرض بدمشق فخطب أبو الدرداء فقال إن الله يستعتبكم فأعتبوا أو أما ما روى من القصص أن لكل أرض عرقاً متصلاً بجبل قاف والملك موكل به فإذا أراد الله أن يخسف بقوم أومى إليه أن حرك ذلك العرق فإن صح وما أراه يصح إلا من جهة أهل الكتاب وليسوا بأمناء على ما في أيديهم فهو تشبيه وتقريب من إفهام الخلق وتعليم بأن ذلك كله من فعل الله لا من ذات نفسها.ً من الأرض وللقدماء في عله الزلزلة كلام كثير ومذاهب مختلفة وأما المسلمون فيقولون أنها من فعل الله إذا أراد أن يرى العباد أنه يستعتبهم وليس بعجيب أن جعل الله هذه الآية بتحريك الريح الأرض وزلزلت الأرض بدمشق فخطب أبو الدرداء فقال إن الله يستعتبكم فأعتبوا أو أما ما روى من القصص أن لكل أرض عرقاً متصلاً بجبل قاف والملك موكل به فإذا أراد الله أن يخسف بقوم أومى إليه أن حرك ذلك العرق فإن صح وما أراه يصح إلا من جهة أهل الكتاب وليسوا بأمناء على ما في أيديهم فهو تشبيه وتقريب من إفهام الخلق وتعليم بأن ذلك كله من فعل الله لا من ذات نفسها.
ذكر الليل والنهار عند القدماء الليل غيبوبة الشمس والنهار طلوعها وكثير من المسلمين يقولون الليل والنهار خلقان لله غير الشمس والقمر قالوا لأنا نرى الشمس أشياء كثيرة فيها جرمها ومنها ضوءها ومنها حرها وقد نشاهد حرارة فلا ضوء وضوءاً بلا حرارة فنعلم أن كل واحد منها معنى منفرد بذاته وقد قال الله تعالى " والشمس وضحاها والقمرإذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها " قال بعض المفسرين النهار يحلي الشمس فيكسوها ضوءاً وفي رواية أهل الكتاب أن أول ما خلق الله النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً والنور نهاراً ثم سمك السماوات السبع من دخان الماء حتى استقللن وأغطش في السماء الدنيا ليلها وأخرج ضحاها فجرى فيه الليل والنهار وليس فيهما شمس ولا قمر ولا نجوم ثم دحا الأرض فأرساها بالجبال وهكذا روى محمد بن اسحق في المبتدأ فهذا كله يدل على أن الليل والنهار ليستا من الشمس في شيء وإن كانت الشمس تعطي النهار ضوءاً وحرارة بالشمس عرفنا حر النهار من حر الليل وروى في بعض القصص أن الله خلق حجاباً من ظلمة مما يلي المشرق ووكل به ملكاً يقال له شراهيل فإذا غربت الشمس قبض الملك قبضة من تلك الظلمة واستقبل به المغرب فلا يزال يخرج الظلمة من خلل أصابعه ويرسلها وهو يراعي الشفق فإذا غاب الشفق يبسط كفه فطبقت الدنيا ظلمة ثم نشر جناحه فساق ظلمة الليل بالتسييح إلى المغرب فذلك كل ليلة حتى تنقل تلك الظلمة من الشرق إلى المغرب فإذا نقلها قامت القيامة وحكى وهب عن سلمان في هذه القصة أن ملك الليل يقال له شراهيل بيده خرزة سوداء قد دلاها من قبل المغرب فإذا نظرت الشمس إليها وجبت وبذلك أمرت وملك النهار يقال هراميل بيده خرزة بيضاء يعلقها من قبل المطلع فإذا رأها شراهيل مدها إلى خرزته السوداء فينظر الشمس إلى الخرزة البيضاء فتطلع وبذلك أمرت فإن كان شيء من هذا حقاً آمنا به وصدقنا وإن كان غير ذلك فالله اعلم فمحمول على التأويل والتمثيل.

صفة الأرض وما فيها قال الله تعالى " ألم نجعل الأرض مهاداً والجبل أوتاداً " وقال تعالى " جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء " وقال الله تعالى " والله جعل لكم الأرض بساطاً " وقال قوم في معنى المهاد والبساط القرار عليها والتمكن منها والتصرف فيها وقد اختلف القدماء في هيأة الأرض وشكلها فذكر بعضهم أنها مبسوطة مستوية السطح في أريع جهات والمشرق والمغرب والجنوب والشمال ومن هؤلاء من زعم أنها كهيئة الترس ومنهم من زعم أنها كهيئة المائدة ومنهم من زعم أنها كهيئة الطبل وذكر بعضهم تشبيه بنصف الكرة كهيئة القبة وأن السماء مركنة على أطرافها وقال بعضهم هي في جابن من الفلك الأوسط وقال قوم هي مستطيلة كالأسطوانة الحجرية كالعمود وقال قوم أن الأرض إلى ما لا نهاية وأن السماء يرتفع إلى ما لا نهاية وقال قوم أن الذي يرى من دوران الكواكب إنما هو دور الأرض لا دور الفلك والذي يعتمده جماهيرهم أن الأرض مستديرة كالكرة وأن السماء محيطة فيها من كل جانب إحاطة البيضة بالمحة فالصفرة بمنزلة الأرض وبياضها بمنزلة الهواء وجلدها بمنزلة السماء غير أن خلقها ليس فيه استطالة كاستطالة البيضة بل هي مستديرة كاستدارة الكرة المستوية الخرط حتى قال مهندسوهم لو حفر في الوهم وجه الأرض لأدى إلى الوجه الآخر ولو نقب مثلاً بفوشنج لنفذ بأرض الصين قالوا والناس على وجه الأرض كالنمل على البيضة واحتجوا لقولهم بحجج كثيرة منها برهاني ومنها إقناعي فالذي يجب على المسلم اعتقاده إجازة ذلك على الإمكان لأن البسيط يحتمل نشر الشيء ومده كالثوب وغيره ويحتمل التمكن منه فإن كان الناس على الأرض كما زعموا فالأرض لمن هي تحته بساط كمثل من هي فوقها وما نبأ ولله الحمد علينا معاندة الحق ومعاداة أهله ولا الإزراء بشيء من العلوم والآداب وإن كانت تتخيله الديانة يقطع وثبت الولاية ولا نصرة للدين أعظم من تنزل الحق منزلته وإعطاء كل ذي حق حقه وزعم بعضهم أن الأرض مقعرة وسطها كالجام واختلفوا في كمية عدد الأرضين قال الله تعالى " الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن " فاحتمل هذا التمثيل أن يكون في العدد والأطباق فروى في بعض الأخبار أن بعضها فوق بعض غلظ كل أرض مسيرة خمس مائة عام وما بين أرض وأرض مسيرة خمس مائة عام وحتى عد بعضهم لكل أرض أهلاً على صفة وهيئة عجيبة وسمى كل أرض باسم خاص كما سما كل سماء باسم خاص وزعم بعضهم أن في الأرض الرابعة حيات أهل النار وفي الأرض السادسة حجار أهل النار فمن نازعته نفسه إلى الإشراف عليه نظر في كتب وهب وكعب ومقاتل وطبقه هذا العلم فاستوفى فيها حظه فإنها معرضة ممكنة وعن عطاء بن يسار في قول الله تعالى " الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن " قال في كل أرض آدم ونوح مثل نوحكم وإبراهيم مثل إبراهيمكم والله اعلم وأحكم وليس ذا بأعجب من قول الفلاسفة أن الشموس شموس كثيرة وأن القمر أقمار كثيرة في كل إقليم شمس وفي كل إقليم قمر ونجوم وقالت القدماء أن الأرض سبع على المجاورة والملاصقة وافتراق الأقاليم لا على المطابقة والمكابسة وأهل النظر من المسلمين يميلون إلى هذا القول ومنهم من يرى أن الأرضين سبع على الانخفاض والارتفاع كدرج المراقي ويزعم بعضهم الأرض مقسومة بخمس مناطق وهي المنطقة الشمالية والجنوبية والمستوية والمعتدلة والوسطى واختلفوا في مبلغ الأرض وكميتها فروى عن مكحول أنه قال مسيرة ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها خمس مائة سنة مائتان من ذلك البحر ومائتان ليس يسكنها أحد وثمانون فيه يأجوج ومأجوج وعشرون فيه سائر الخلق وعن قتادة قال الدنيا عشرون وأربع آلاف فرسخ فملك السودان اثنا عشر ألف فرسخ وملك الروم ثمانية آلاف فرسخ وملك العجم ثلثة آلاف فرسخ وملك العرب ألف فرسخ وعن عبد الله بن عمر قال ربع من لا يلبس الثياب من السودان أكثر من جميع الناس وقد أخرج بطليموس مقدار قطر الأرض واستدارتها في المجسطي بالتقريب قال استدارة الأرض مائة ألف وثمانون ألف اسطاديوس وهي أربعة وعشرون ألف ميل ويكون ثمانية آلاف فرسخ بما فيها من البحار والجبال والفيافي والغياض والفرسخ ثلثة أميال والميل ثلثة ألف ذراع بذارع الملك والذاراع ثلثة أشبار وثلثة أشبار ستة وثلثون أصبعاً والأصبع الواحدة خمس شعيرات مضمومات بطون بعضها إلى بعض والاسطاديوس أربع مائة ذراع قال وغلظ الأرض وهي

قطرها سبعة آلاف وستمائة وثلاثون ميلاً يكون ألفين وخمس مائة فرسخ وأربعين فرسخاً وثلثا قال فبسيط الأرض كلها مائة واثنان وثلاثون ألف ألف وستماية ألف ميل يكون مائتي ألف وثمانية وثمانين فرسخاً فإن كان حقاً فهو وحي من الحق أو إلهام وإن كان قياساً واستدلالاً فقريب أيضاً من الحق وإن كان غير ذلك من تنجيث وتنجيم فالله أعلم وأما قول قتادة ومكحول فلا يوجب العلم اليقيني الذي يقطع على الغيب به واختلفوا في البحار والمياه والأنهار فروى المسلمون أن الله خلق البحار مراً زعافاً وأنزل من السماء الماء العذب كما قال وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وكل ماء عذب من بئر أو نهر أو غير ذلك فمن ذلك الماء فإذا اقتربت الساعة بعث الله ملكاً معه طست فجمع تلك المياه فردها إلى الجنة وزعم أهل الكتاب أن أربعة أنهار تخرج من الجنة الفرات وسيحان وجيحان ودجلة وذلك أنهم يزعمون أن الجنة من مشارق الأرض وروى أن الفرات جزر زمن معاوية برمانة مثل البعير البازل فقال كعب أنه من الجنة فإن صدقوا فليست هي بجنة الخلد ولكنها من جنان الأرض وعند القدماء أن المياه من الاستحالات فطعم كل ماء على طعم تربته ونحن لا ننكر قدرة الله سبحانه على إحالة الشيء على ما يشاء كما يحول النطفة علقة والعلقة مضغة ثم كذلك حالاً بعد حال إلى أن يفنيه كما أنشأه واختلفوا في ملوحة ماء البحر فزعم قوم أنه لما طال مكثه وألحت الشمس عليه الإحراق صار مراً ملحاً واجتذب الهواء ما لطف من أجزائه فهو نقيه ما صفته الأرض من الرطوبة فغلظ وزعم آخرون أن في البحر عروقاً تغير ماء البحر ولذلك صار مراً زعافاً واختلفوا في المدر والجزر فزعم ارسطاطاليس أن علة ذلك من الشمس إذا حركت الريح فإذا ازدادت الرياح كان منها المد وإذا نقصت كان عنها الجزر وزعم كيماوس أن المد بانصباب الأنهار في البحر والجزر بسكونها وزعم بعضهم أن ذلك المد بامتلاء القمر والجزر بنقصانه وقد روى في بعض الأخبار أن لله ملكاً موكلاً بالبحر فإذا وضع يده في البحر مد وإذا رفعه جزر فإن صح ذلك والله أعلم كان اعتقاده أولي من المصير إلى ما لا يفيد حقيقة ولو ذهب ذاهب إلى أن ذلك الملك يهب الرياح التي تكون سبب المد ويزيد في الأنهار أو يفعل ذلك عند امتلاء القمر حتى يكون توفيقاً بين الروايات والآراء لكان هذا مذهباً والله أعلم، واختلفوا في الجبال قال الله عز وجل " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " وقال تعالى " ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً " وقال تعالى ق والقرآن المجيد قال قوم من المفسرين أنه جبل محيط بالعالم من زمردة خضراء ثم اختلفوا فقال بعضهم أن منه إلى السماء مقدار قامة رجل وقال آخرون بل السماء مطبقة عليه وقال قوم وراءه عوالم وخلائق لا يعلمها إلا الله ومنهم من يقول ما وراءه من حد الآخرة ومن حكمها وإن الشمس تغرب فيه وتطلع منه وهو الساتر لها عن الأرض ويسميه القدماء بالفارسية كوه البرز وحكى افلوطرخس عن ديمقريطيس أن الأرض كانت في الابتداء تكفأ لصغرها وخفتها على طول الزمان فتكاثفت وثبتت وهذا قول المسلمين بعينه لو أن زاد فيه ثبت بالجبال ومنهم من يزعم أن الجبال عظام الأرض وعروقها واختلفوا فيما تحت الأرض أما القدماء فأكثرهم يزعمون أن الأرض يحيط بها الماء والماء يحيط به الهواء والهواء تحيط به النار والنار يحيط بها السماء الدنيا ثم الثانية إلى السبع ثم فوقها فلك الكواكب الثابتة محيك بهذه السماوات والأركان التي ذكرنا ثم فوقها الفلك الأعظم المستقيم ثم فوقه عالم النفس وفوق عالم النفس عالم العقل وفوق عالم العقل البارئ جل جلاله ليس وراءه شيء وهو فوق كل شيء فعلى مذهبهم أن تحت الأرض سماء كما فوقها وفي كتاب قصاص المسلمين أشياء يضيق الصدر عنها وروى أن الله تعالى لما خلق الأرض كانت تكفأ كما تكفأ السفينة فبعث الله ملكاً فهبط حتى دخل تحت الأرض فوضع الصخرة على عاتقه ثم أخرج يديه إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب ثم قبض على الأرضين السبع فضبطها فاستقرت ولم يكن لقدمه قرار فأهبط الله ثوراً من الجنة له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة فجعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تصل قدماه إليه فبعث الله ياقوتة خضراء من الجنة غلظها مسيرة كذا ألف عام فوضعها على سنام الثور فاستقرت عليها قدماه وقرون الثور خارجة

من أقطار الأرض مشبكة تحت العرش ومنخر الثور في ثقبين من ملك الصخرة تحت البحر فهو يتنفس كل يوم نفسين فإذا تنفس مد البحر وإذا رد نفسه جزر البحر قال ولما لم يكن للكمكم مستقر فخلق الله حوتاً يقال له بهموت فوضع الكمكم على وتر الحوت والوتر الجناح الذي يكون في وسط ظهره وذلك الحوت على الريح العقيم وهو مزموم بسلسلة كغلظ السماوات والأرضين معقودة قال ثم انتهى إبليس عليه اللعنة إلى ذلك الحوت فقال ما خلق الله خلقاً أعظم منك فلم لا نزيل الدنيا فهم بشيء من ذلك فسلط الله عليه بقة في عينه فشغلته وزعم بعضهم أن الله سلط عليه سمكة كالشطبة فهو ينظر إليها ويهابها قالوا ثم أنبت الله من تلك الياقوتة جبل قاف وهو من زمردة خضراء وله رأس ووجه وأسنان وأنبت من جبل قاف الشواهق كما أنبت الشجر من عروق الشجر وزعم وهب أن الثور والحوت يبتلعان ما ينصب من مياه الأرض فإذا امتلأت أجوافهما قامت القيامة قالوا والأرض على ماء والماء على الصخرة والصخرة على سنام ثور والثور على كمكم من الرمل متلبد والكمكم على ظهر الحوت والحوت على الريح العقيم والريح في حجاب من الظلمة والظلمة على الثرى وإلى الثرى انتهى علم الخلائق لا يعلم أحد ما دون ذلك إلا الله بقوله تعالى له ملك السموات الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وحكى وهب فيما روى عن عيسى عليه السلام أنه سئل عما تحت الأرض فقال ظلمة الهواء وقيل فما تحته قال انقطع علم العلماء فهذه القصص ما تولع بها العوام ويتنافسون فيه ولعمري أنه لما يريد المرء بصيرة في دينه وتعظيماً لقدرة ربه وتحيراً في عجائب خلقه فإن صحت فما خلقها على الله بعزيز وإن لم يكن من اختراع أهل الكتاب وتزوير القصاص فكلها تمثيل وتشبيه والله أعلم وقد روى شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال هل تدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال النبي اعلموا أن هذه زوايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ثم قال هل تدرون ما الذي فوقكم قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف قال هل تدرون كم بينكم وبينها قالوا الله ورسوله أعلم قال مسيرة خمس مائة عام ثم قال أتدرون ما فوق ذلك قالوا الله ورسوله أعلم قال فوقه العرش وبينه وبين السماء بعد مثل ما بين سماءين ثم قال أتدرون ما تحتكم قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن تحتها أرضاً أخرى بينهما مسيرة خمس مائة عام ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل لهبطتم على الله ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن الآية فهذا الخبر يشهد بصدق كثير مما يروون إن صح والله أعلم وليس فيه ذكر الكمكم والصخرة والثور وغير ذلك وأما أهل النظر فمختلفون فيما تحت الأرض فزعم هشام بن الحكم أن تحت الأرض جسماً من شأنه الارتفاع والعلو كالنار والريح وأنه المانع للأرض من الانحدار وهو نفسه غير محتاج إلى ما يعمده من تحته لأنه ليس مما ينحدر بل يطلب الارتفاع وزعم أبو الهذيل أن الله وقفها بلا عمود ولا علاقة وقال بعضهم أن الأرض ممزوجة من جنسين خفيف وثقيل فالخفيف شأنه الارتفاع والصعود والثقيل شأنه الهبوط فيمنع كل واحد منهما صاحبه من الذهاب في جهة لتكافئ تدافعهما والله أعلم واختلف القدماء في ذلك فزعم قوم منهم أن الأرض تهوي إلى ما لا نهاية وزعم آخرون أن بعضها يمسك بعضاً وزعم بعضهم أنها في خلاء لا نهاية لذلك الخلاء وعامتهم أن دوران الفلك عليها يمسكها في المركز من جميع نواحيها ويقول أرسطاطاليس أن خارج العالم من الخلاء مقدار ما يتنفس السماء فالذي ينبغي أن يعتقد من هذا أن العالم لو كان في مكان احتاج ذلك المكان إلى مكان آخر فإذا جاز أن يخلق الله المكان لا في مكان فأي عجب أن يخلق الأرض لا في مكان ولا كان ما فيه الأرض من خلاء أو فضاء شيئاً لوجب أن يكون مخلوقاً بدلالات أثر الخلق في ما دون الخالق سبحانه وقد سبق ذكر فيما قبلمن أقطار الأرض مشبكة تحت العرش ومنخر الثور في ثقبين من ملك الصخرة تحت البحر فهو يتنفس كل يوم نفسين فإذا تنفس مد البحر وإذا رد نفسه جزر البحر قال ولما لم يكن للكمكم مستقر فخلق الله حوتاً يقال له بهموت فوضع الكمكم على وتر الحوت والوتر الجناح الذي يكون في وسط ظهره وذلك الحوت على الريح العقيم وهو مزموم بسلسلة كغلظ السماوات والأرضين معقودة قال ثم انتهى إبليس عليه اللعنة إلى ذلك الحوت فقال ما خلق الله خلقاً أعظم منك فلم لا نزيل الدنيا فهم بشيء من ذلك فسلط الله عليه بقة في عينه فشغلته وزعم بعضهم أن الله سلط عليه سمكة كالشطبة فهو ينظر إليها ويهابها قالوا ثم أنبت الله من تلك الياقوتة جبل قاف وهو من زمردة خضراء وله رأس ووجه وأسنان وأنبت من جبل قاف الشواهق كما أنبت الشجر من عروق الشجر وزعم وهب أن الثور والحوت يبتلعان ما ينصب من مياه الأرض فإذا امتلأت أجوافهما قامت القيامة قالوا والأرض على ماء والماء على الصخرة والصخرة على سنام ثور والثور على كمكم من الرمل متلبد والكمكم على ظهر الحوت والحوت على الريح العقيم والريح في حجاب من الظلمة والظلمة على الثرى وإلى الثرى انتهى علم الخلائق لا يعلم أحد ما دون ذلك إلا الله بقوله تعالى له ملك السموات الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وحكى وهب فيما روى عن عيسى عليه السلام أنه سئل عما تحت الأرض فقال ظلمة الهواء وقيل فما تحته قال انقطع علم العلماء فهذه القصص ما تولع بها العوام ويتنافسون فيه ولعمري أنه لما يريد المرء بصيرة في دينه وتعظيماً لقدرة ربه وتحيراً في عجائب خلقه فإن صحت فما خلقها على الله بعزيز وإن لم يكن من اختراع أهل الكتاب وتزوير القصاص فكلها تمثيل وتشبيه والله أعلم وقد روى شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال هل تدرون ما هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال النبي اعلموا أن هذه زوايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ثم قال هل تدرون ما الذي فوقكم قالوا الله ورسوله أعلم قال فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف قال هل تدرون كم بينكم وبينها قالوا الله ورسوله أعلم قال مسيرة خمس مائة عام ثم قال أتدرون ما فوق ذلك قالوا الله ورسوله أعلم قال فوقه العرش وبينه وبين السماء بعد مثل ما بين سماءين ثم قال أتدرون ما تحتكم قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن تحتها أرضاً أخرى بينهما مسيرة خمس مائة عام ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل لهبطتم على الله ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن الآية فهذا الخبر يشهد بصدق كثير مما يروون إن صح والله أعلم وليس فيه ذكر الكمكم والصخرة والثور وغير ذلك وأما أهل النظر فمختلفون فيما تحت الأرض فزعم هشام بن الحكم أن تحت الأرض جسماً من شأنه الارتفاع والعلو كالنار والريح وأنه المانع للأرض من الانحدار وهو نفسه غير محتاج إلى ما يعمده من تحته لأنه ليس مما ينحدر بل يطلب الارتفاع وزعم أبو الهذيل أن الله وقفها بلا عمود ولا علاقة وقال بعضهم أن الأرض ممزوجة من جنسين خفيف وثقيل فالخفيف شأنه الارتفاع والصعود والثقيل شأنه الهبوط فيمنع كل واحد منهما صاحبه من الذهاب في جهة لتكافئ تدافعهما والله أعلم واختلف القدماء في ذلك فزعم قوم منهم أن الأرض تهوي إلى ما لا نهاية وزعم آخرون أن بعضها يمسك بعضاً وزعم بعضهم أنها في خلاء لا نهاية لذلك الخلاء وعامتهم أن دوران الفلك عليها يمسكها في المركز من جميع نواحيها ويقول أرسطاطاليس أن خارج العالم من الخلاء مقدار ما يتنفس السماء فالذي ينبغي أن يعتقد من هذا أن العالم لو كان في مكان احتاج ذلك المكان إلى مكان آخر فإذا جاز أن يخلق الله المكان لا في مكان فأي عجب أن يخلق الأرض لا في مكان ولا كان ما فيه الأرض من خلاء أو فضاء شيئاً لوجب أن يكون مخلوقاً بدلالات أثر الخلق في ما دون الخالق سبحانه وقد سبق ذكر فيما قبل

ذكر قوله تعالى " هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام " فروي عن ابن عباس أنه قال في مقادير ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم ألف سنة من أيام الدنيا وروى عن الحسن أنه قال في ستة أيام من أيام الدنيا ولو شاء بساعة ولو شاء بأسرع من طرفة عين ولكنه أراد إظهار قدرته بخلقه وآيات حكمته لملائكته ما يرون من ظهور آثار صفته شيئاً بعد شيء وقد قيل أن مدة الدنيا ستة أيام فلذلك خلقت في ستة أيام وروى طائفة من اليهود أن الدنيا تنقضي في كل ستة آلاف سنة وتعاد في السابعة قال أبو اسحاق يقول أهل التورية ابتداء الخلق يوم الأحد وفرغ منه يوم السبت فجعله عيداً لعباده وعظمة شرفه وكرمه ويقول أهل الإنجيل الابتداء يوم الإثنين وكان الفراغ يم الأحد ويقول المسلمون ابتداء الخلق يوم السبت وكان الفراغ يوم الجمعة وإنما سميت يوم الجمعة لاجتماع الخلق فيه وكثير من المسلمون ينكرون هذه الرواية ويوقلون ابتداء الخلق يوم الأحد وإما المجوس فإنهم يعظمون يوم الإثنين وهم يزعمون أن الله خلق الخلق في ثلاثمائة وستين يوماً وسمعت بعض أهل العلم يزعم ما من يوم إلا وهو عيد لقوم والله اعلم قال الله تعالى " إنكم لتفكرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين " قال الأحد والإثنين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين إلى قوله فقضاهن سبع سموات في يومين الخميس والجمعة وهكذا روى عكرمة ن ابن عباس خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين وشق الأنهار وغرس الأشجار وقدر الأقوات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السموات وما فيها يوم الخميس ويوم الجمعة قال عدي بن زيد
قضى لستة أيام خلائقه ... وكان آخر شيء صور الرّجلا
فإن قيل إذا كان اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها فكيف يجوز القول بأنه خلق في اليوم قبل اليوم قيل قد بين قول المسلمين أن النهار والليل خلقا قبل الشمس والقمر وأنهما ليسا من الشمس والقمر في شيء وليست أيام الخلق كأيام الدنيا ولكنها المقادير كان يظهر الخلق فيها وقد سمى الله يوم القيامة ولا شمس ثم ولا قمر يوماً وقال لهم رزقهم فيها بكرة وعشياً ويقال أن الله خلق الشمس يوم الأحد والقمر يوم الإثنين والمريخ يومك الثلاثاء وعطارد يوم الأربعاء والمشتري يوم الخميس والزهرة يوم الجمعة وزحل يوم السبت فلذلك نسبت الأيام إليها فيقال رب يوم الأحد الشمس ورب يوم الاثنين القمر ورب يوم الثلاثاء المريخ ورب يوم الأربعاء عطارد ورب يوم الخميس المشتري ورب يوم الجمعة الزهرة ورب يوم السبت زحل ويستحب ابتداء الأعمال يوم الأحد لعظم قوة الشمس وسلطانها والسفر يوم الاثنين لسرعة سير القمر والحجامة والفصد يوم الثلاثاء لمكان المريخ والدواء يوم الأربعاء لممازجة عطارد والخميس قضاء الحوائج وطلبها لفضل المشتري واللهو والفرح يوم الجمعة لأجل الزهرة والصيد يوم السبت وفيه يقول بعض المتأخرين
لنعم اليوم يوم السبت حقاً ... لصيد إن أردت بلا امتراء
وفي الأحد البناء لأن فيه ... تبدّا الرب في خلق السماء
وفي الاثنين إن سافرت فاعلم ... سترجع بالنجاح والسراء
وإن ترد الحجامة فالثلاثا ... ففي ساعاته سفك الدماء
وإن ترد الدواء فنعم يوماً ... لشرب المرء يوم الأربعاء
وفي يوم الخميس قضاء حاجٍ ... وفيه الله يأذن بالقضاء
وفي الجمعات تزويج وعرس ... ولذات الرجال مع النساء

ذكر ما حكي من المدة قبل خلق الخلق روى حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاووس عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال قيل لموسى مذ كم خلق الله الدنيا فقال موسى يا رب ما تسمع ما يقول عبادك فأوحى الله إليه إني خلقت أربعة عشر ألف مدينة من فضة وملأتها خردلاً وخلقت لها طيراً وجعلت رزقه كل يوم حبة حتى أفني ذلك ثم خلقت الدنيا فقيل لابن عباس فأين كان عرشه قال على الماء قيل فأين كان الماء قال على متن الريح وروى مثل هذا عن علي بن أبي طالب عليه السلام فهذا شيء غامض صعب موكل إلى علم الله إذ ليس يدري ما الذي كان قبل هذا الخلق مثل هذا الخلق أو على خلافهم وهل تعيد الدنيا بعد فناء هذه الدنيا أم لا لأنه لم يخبرنا في كتابه ولا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك ولا في قوة العقل والاستدلال عليه فأما الخبر فغير معتمد عليه وغير عجيب ما ورد فيه ولا خارج من القدرة ولا مبطل الحكمة ولو كان أضعاف ذلك وزعم بعض الناس أنه عد قبل آدم هذا الذي ينسب إليه ابتداء الشيء ألف ومائتا آدم والله أعلم وكأنه جائز كونه وداخل في حد الإمكان فأما الذي لا يسع القول إلا به ويلزم اعتقاده انفراد الله تعالى عن خلقه سابقاً من غير شريك ولا جوهر قديم ثم أبدع الأشياء لا من شيء ولو كان بين شيئين من المد ما لا يأتي عليه الإحصاء والعدد إلا أنه لا يصح إلا من جهة خبر صادق لأنا نخبر بقاء الحوادث على الأبد إلى ما لانهاية فليس ذكر تلك المدة بأعجب من هذا وكون أهل الجنة في الجنة وكون أهل النار في النار خلق السموات والأرض في ستة أيام فزعم قوم أن مدة الدنيا ستة آلاف سنة مكان كل يوم ألف سنة وروي عن كعب أن الله وضع الدنيا على سبعة أيام وروى أبو المقوم الأنصاري عن أبي جبير عن ابن عباس قال الدنيا جمعة من جمع الآخرة وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد وأبان عن عكرمة في قوله تعالى في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قال هي الدنيا من أولها إلى آخرها وجاء خبر آخر في أمد الدنيا أنه مائة ألف سنة وخمسون ألف سنة وخبرني هربذ المجوس بفارس أن في كتاب لهم أن مدة الدنيا أربعة أرباع فأولها ثلث مائة ألف سنة وستون ألف سنة عدد أيام السنة وقد مضت والثاني ثلاثون ألف سنة عدد أيام الشهر وقد مضت والثالث اثنا عشر ألف سنة عدد شهور السنة وقد مضت والرابع سبعة آلاف سنة عدد أيام الأسبوع ونحن فيها وللهند وأهل الصين فيه حساب يطول نذكره في موضعه إن شاء الله ووجدت في كتاب رواية عن وهب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل مذ كم خلقت الدنيا فقال أخبرني ربي أنه خلقها منذ سبعمائة ألف سنة إلى اليوم الذي بعثني فيه رسولاً إلى الناس ثم زعم صاحب الكتاب أن مما يدل على ذلك ما جاء في الخبر أن إبليس عبد الله خمسة وثمانين ألف سنة وإنه خلق بعد ما خلق السموات والأرض بما شاء وهذا كله ممر على وجهه إن لا يقوم يقطع العلم به وما على إذا علمت أن الدنيا محدثة مكونة ولها انتهاء وانقضاء إن لا أعلم كم مضى منها وكم بقى فكيف تطمئن النفس إلى قول من يزعم أنه قد أحصى سني الدنيا وشهورها وأسابيعها وعدد أيامها ولياليها وساعاتهما ودقائقها وثوانيها وهل يقول مثل هذا عاقل

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5