كتاب : البدء والتاريخ
المؤلف : ابن المطهر

فلما شكاه الناس عزله و استعمل عليهم شراً منه سعيد بن العاص فقدم رجل عظيم الكبر شديد العجب و هو أول من وضع العشور على الجسور و القناطر و منها أن ابن سرح قتل سبعمائة رجل بدم رجل واحد فأمر بعزله و لم ينكر عليه و منها أنه جعل الحروف كلها حرفاً واحداً و أكره الناس على مصحفه و منها أنه سير عامر بن قيس من البصرة إلى الشام لتنزهه عن أعماله و سير أبا ذر الغفاري إلى الربذة و ذلك أن معاوية شكاه أنه يطعن عليه فدعاه و استعتبه و لم يعتب فسيره إلى الربذة و بها مات رحمه الله و منها أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية فأعطاها مائة ألف من بيت المال و أخذ سفطاً فيه حلي فأعطاه بعض نسائه و استسلف من بيت المال خمسة آلاف درهم و كان اشترط عليه عند البيعة أن يعمل بكتاب الله و سنة رسوله و بسيرة الشيخين رضي الله عنهما فسار بها ست سنين ثم تغير كما ذكر و نبرأ إلى الله من عيب الصحابة قدس الله أرواحهم أجمعين و منها أنه لما ولي صعد المنبر فتنسم ذروته حيث كان يقعد رسول الله صله و كان أبو بكر ينزل عنه درجة تعظيما لقدر النبي صله فلما ولي عمر نزل عن مقعد أبي بكر بدرجة فصارت رجلاه في الأرض لأن المنبر درجتان فتكلم الناس في ذلك و أظهروا الطعن فخطب عثمان و قال هذا مال الله أعطيه من أشاء و أمتعه من أشاء فأرغم الله أنف من رغم أنفه فقام عمار بن ياسر فقال أنا أول من رغم أنفه من ذلك فقال له عثمان لقد اجترأت علي يا بن سمية فوثبوا بنو أمية على عمار فضربوه حتى غشي عليه فقال ما هذا بأول ما أوذيت في الله و ضرب عبد الله بن مسعود في مخالفته قرأته فسار الأشتر النخعي قي مائتي راكب من أهل الكوفة و سار حكيم بن جبلة العبدي في مائتي راكب من أهل البصرة و سار عبد الرحمن بن عنبس البلوي و كانت له صحبة في ستمائة راكب من أهل مصر فيهم عمرو بن الحمق و محمد بن أبي بكر حتى نزلوا بذي خشب فرسخاً من المدينة و بعثوا إلى عثمان من يكلمه ويستعتبه فقال ما تنقمون علي فقال ننقم عليك ضربك عماراً قال فو الله ما أمرت به و لا ضربت فهذه يدي بعمارٍ فليقتص قالوا و ننقم عليك إذ جعلت الحروف حرفاً واحداً قال جاءني حذيفة فقال ما كنت صانعاً إذا قيل قراءة فلان و قراءة فلان فيختلفون كما اختلف أهل الكتاب فإن يكن صواباً فمن الله و إن يكن خطاءً فمن حذيفة و قالوا ننقم عليك أنك استعملت السفهاء من أقاربك قال فليقم أهل كل مصر فليسألوني صاحبكم فأوله عليهم فبعث علي رضي الله عنه إلى ذي خشبٍ فأرضاهم وردهم فانصرفوا حتى بلغوا حسمي مر بهم راكب معه كتاب إلى ابن أبي سرح بقتل القوم و لما انصرف الراكب تكلم الناس أمرهم و أرجفوا بالأراجيف فخطب عثمان و قال قد بلغني ما تحدثتم و إنما جاؤوا في صغير من الأمر فقال عمر بن العاص بل جاؤوا في كبير من الأمر و قد ركبت ما بك نهابر فإما أن تعتدل و إما أن تعتزل فقال عثمان يا بن النابغة هذا الآن عزلتك عن مصر قالوا و لما أعطي عثمان القوم ما أرادوا قال مروان بن الحكم لحمران بن أبان كاتب عثمان فكان خاتم عثمان مع مروان بن الحكم إن هذا الشيخ قد وهن و خرف وقم فاكتب إلى ابن أبي سرح أن يضرب أعناق من ألب على عثمان ففعلا و بعث الكتاب مع غلام لعثمان يقال له مدس على ناقة من نوقه فمر بالقوم و هم نزول بحسمي فاتهموه و أخذوه و قرروه و أخرجوا الكتاب من إداوة له و انصرفوا إلى المدينة و بدؤوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لأنه كان راوضهم و ضمن لهم فجاء علي معهم إلى عثمان فقالوا فعلت و فعلت فأنكر ذلك لعن الله الكاتب و المملي و الآمر به فقالوا فما تظن قال أظن كاتبي غدر و ارتجت المدينة برجوع القوم فحنق بنو مخزوم لضربه عمار و حنق بنو زهرة لحال عبد الله بن مسعود و حنق بنو غفار لمكان أبي ذر الغفاري و كان أشد الناس طلحة و الزبير و محمد بن أبي بكر و عائشة و خذلته المهاجرون و الأنصار و تكلمت عائشة في أمره واطلعت شعرة من شعر رسول الله صله و نعله و ثيابه و قالت ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم فقال عثمان في آل أبي قحافة ما قال و غضب حتى ما كاد يدري ما يقول فقال عمر بن العاص سبحان الله و هو يريد أن يحقق طعن الناس على عثمان فقال الناس سبحان الله ثم صعد عثمان المنبر و هو يريد أن يتكلم بعهده فقام رجل فشتمه و عابه و قال فعلت و فعلت و عثمان يلتفت

إلى الناس حوله فلا يرد عليه أحد ثم قام الجهجاه بن سنام الغفاري فأخذ القضيب من يده و كسرها فنزل عثمان و حوله ناس من بني أمية و دخل داره فحاصروه عشرين يوماً فلما اشتد الحصار كتب كتاباً و أطلع رأسه من داره و ترسوه بالترسة و قرأه بأعلى صوته إني أنزع عن كل شيءٍ أنكرتموه و أتوب إلى الله عز و جل من كل قبيح علمته كذا و كذا و أحذركم سفك دمي بغير حق فقالوا إن كنت مغلوباً على أمرك فاعتزل و ادفع إلينا مروان فأبى و قال لا أنخلع من قميص قمصنيه الله تعالى و لا أبلكم سعيكم و استأذنوا غلمانه في محاربة القوم فناشدهم أن لا يراق فيه محجمة دم و قال من كف يده فهو حر و كتب إلى علي رضوان الله عليه الناس حوله فلا يرد عليه أحد ثم قام الجهجاه بن سنام الغفاري فأخذ القضيب من يده و كسرها فنزل عثمان و حوله ناس من بني أمية و دخل داره فحاصروه عشرين يوماً فلما اشتد الحصار كتب كتاباً و أطلع رأسه من داره و ترسوه بالترسة و قرأه بأعلى صوته إني أنزع عن كل شيءٍ أنكرتموه و أتوب إلى الله عز و جل من كل قبيح علمته كذا و كذا و أحذركم سفك دمي بغير حق فقالوا إن كنت مغلوباً على أمرك فاعتزل و ادفع إلينا مروان فأبى و قال لا أنخلع من قميص قمصنيه الله تعالى و لا أبلكم سعيكم و استأذنوا غلمانه في محاربة القوم فناشدهم أن لا يراق فيه محجمة دم و قال من كف يده فهو حر و كتب إلى علي رضوان الله عليه
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكلي ... و إلا فأدركني و لما أمزق
أترضى أن يقتل ابن عمك و يسلب ملكك قال علي عليه السلام لا و الله و بعث بالحسن و الحسين إلى بابه يحرسانه فتسور محمد بن أبي بكر مع رجلين في حائط عثمان من دار رجل من الأنصار فأخذه محمد بن أبي بكر بلحيته حتى سمع وقع أضراسه قال ابن عثمان خل يا بن أخي فو الله لو رآك أبوك لساءه مكانك فتراخت يده و ضربه عمرو بن بديل بمشقص في أوداجه و قتله سنان بن عياض و المصحف في حجره لعشر مضين من ذي الحجة سنة خمس و ثلاثين و لبث في داره مقتولاً يوماً أو يومين ثم دفن في موضع يقال حش كوكب قال ابن إسحق قتل يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي الحجة و قال حسان بن ثابت فيما يرثيه
خذلته الأنصار إذ حضر المو ... ت و كانت حماته الأنصار
من عذيري من الزبير و من ط ... لحة هذا أمر له إعصار
و قال أيضاً في مرثيته
ضجوا أبا شمط عنوان السجود ب ... ه يقطع الليل تسبيحاً و قرآنا
لتسمعن و شيكاً في ديارهم ... الله أكبر يا ثأرات عثمانا
و قال الوليد بن عقبة
بني هاشم أنا و ما كان بيننا ... كصدع الصفا ما يومض الدهر شاعبه
بني هاشم كيف الترحم بيننا ... و سيف بن أروى عندكم و حرائبه
فأجابه الفضل بن العباس
سلوا أهل مصر عن سلاح أخيكم ... فعندهم أسلابه و حرائبه
و كان ولي الأمر بعد محمد ... علي و قي كل المواطن صاحبه
وقد أنزل الرحمن أنك فاسق ... فما لك في الإسلام سهم تطالبه
ذكر بيعة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه و كان الناس لا يشكون أن ولي الأمر بعد عثمان علي بن أبي طالب و كان يحدو الحادي لعثمان فيقول
إن الأمير بعده علي ... ثم الزبير خلفه مرضي

فلما قتل عثمان جلس طلحة في داره يبايع الناس و كانت مفاتيح بيت المال عنده و جاءه ناس يهرعون إلى علي رضي الله عنه فدخل داره و قال ليس ذاك إليكم ذاك إلى أهل بدر فما بقي بدري إلا أتاه فجاء علي فصعد المنبر فبايعوه و أمر بيوت الأموال فكسرت أغلاقها و جعل يفرقها في الناس بالسوية و يقال أن علياً لما قتل عثمان أرسل إلى طلحة و الزبير أن أحببتما أن أبايعكما بايعت فقالا بل نبايعك فبايعا ثم نكثا و بويع على سنة خمس و ثلاثين و يقال أول من بايعه طلحة و كانت إصبعه شلاء فتطير منها علي و قال يد شلاء و أمر أن لا يتم ما أخلقه أن ينتكث و تخلف من بيعة علي بنو أمية و مروان بن الحكم و سعيد العاص و الوليد بن عقبة ولم يبايعه العثمانية من الصحابة حسان بن ثابت و كعب بن عجرة و كعب بن مالك و النعمان بن بشير و رافع بن خديج و زيد بن ثابت و محمد بن مسلمة ثم بايعوه بعد أيام و كانت عائشة تولب على علي و تطعن فيه و ترى أنه سينخلع و كان هواها في طلحة فبينا هي قد أقبلت من الحج راجعة استقبلها راكب فقال ما وراءك قال قتل عثمان قالت كأني أنظر إلى الناس يبايعون طلحة و أن إصبعه يحسن أيديهم فجاء راكب آخر فقالت ما وراءك قال بايع الناس علياً قالت وا عثماناه ما قتله إلا علي ولليلة من عثمان خير من علي على الدهر كله و انصرفت إلى مكة و ضربت فسطاطاً في المسجد و أراد علي أن ينزع معاوية من الشام فقال له المغيرة بن شعبة أقره على الشام فإنه يرضى بذلك و سأل طلحة و الزبير أن يوليهما البصرة فأبى و قال تكونان عندي أتحمل بكما فإني أستوحش لفراقكما و أستأذناه في العمرة فأذن لهما فقدما على عائشة و عظما من أمر عثمان و قالا ما كنا نرى في التألب عليه أن يقتل فأما إن قتله فلا توبة لنا إلا الطلب بدمه و نقضا البيعة و أقاما بمكة و بث علي عماله فبعث عثمان بن حنيف الأنصاري إلى البصرة و انتزع عنها عبد الله بن عامر و أمر عبيد الله بن العباس على اليمن و نزع عنها يعلى بن منية و أمر قثم بن العباس على مكة و ولى جعدة بن هبيرة المخزومي ابن عمته على خراسان و قال لعبد الله بن عمر سر إلى الشام قالوا و لما بلغ الخبر معاوية قال إن خليفتكم قد قتل مظلوماً وأن الناس بايعوا علياً و لست أنكر أنه أفضل مني و أولى بهذا الأمر و لكن أنا و لي هذا الأمر و ولي عثمان و ابن عمه و الطالب بدمه و قتله عثمان معه فليدفعهم إلي أقتلهم بعثمان ثم أبايعه فرأى أهل الشام أنه قد طلب حقاً و هم قوم فيهم غفلة و قلة فطنة إما أعرابي جاف و إما مدني مغفل ثم لما سمع معاوية بقول عائشة في علي و نقض طلحة و الزبير البيعة ازداد قوة و جرأة و بعثت أم حبيبة بنت أبي سفيان بقميص عثمان مع النعمان بن بشير إلى معاوية فجعل يغري الناس و يحرضهم.

ذكر وقعة الجمل قالوا ولما قدم عثمان بن حنيف البصرة والياً طرد عبد الله بن عامر قدم إلى مكة بخير الدنيا و يعلى بن منية بمال كثير فاجتمعوا عند عائشة و أداروا الرأي بينهم أن يسيروا إلى البصرة فإنهم شيعة عثمان ويطلبوا بدمه و كتب معاوية إلى الزبير إني بايعتك و لطلحة من بعدك فلا تفوتنكما العراق و أعانهما ابن عامر و ابن منية بالمال و الظهر و الكراع و خرجوا بعائشة حتى قدموا البصرة فلما بلغوا بحوءب و هو ماء لبني كلاب سمعت عائشة نباح الكلب فقالت ما هذا قالوا الحوءب قالت إنا لله و إنا إليه راجعون ما أراني إلا صاحبة الحديث قالوا و ما ذاك يا أمتاه قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليت شعري أيتكن تنبح كلاب الحوءب سائرة في كتيبة نحو المشرق و همت بالرجوع فحلفوا لها أنها ليست بالحوءب فمرت و مر حتى قدموا البصرة فأخذوا عثمان بن حنيف و هموا بقتله ثم خشوا غضب الأنصار على من خلفوا بالمدينة فنالوا من شعره و بشرته و نتفوا لحيته و شعر حاجبيه و أشفاره و قتلوا من خزنة بيت المال خمسين رجلاً فانتهبوا الأموال و قام طلحة و الزبير خطيبين فقالا يا أهل البصرة توبة لحوبة إنما أردنا أن نستعتب أمير المؤمنين و لم نرد قتله و بلغ الخبر علياً فخرج من المدينة واستعمل عليها سهل بن حنيف و سار في سبع مائة رجل منهم سبعون بدرياً و أربع مائة من المهاجرين حتى نزل بذي قار و كتب إلى أهل الكوفة يستنفرهم فجاءه منهم ستة آلاف رجل و كانت الوقعة بالخريبة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست و ثلاثين فبرز القوم للقتال و أقاموا الجمل و عائشة في هودج و اسم ذلك الجمل عسكر فقال علي عليه السلام لا تبدؤهم بالقتال حتى يقتلوا منكم وإن هزموا فلا تأخذوا من أموالهم شيئاً ولا تجهزوا على جريح و لا تتبعوا مدبراً و من ألقى سلاحه فهو آمن فقتلوا من أصحاب علي ستة وشبت الحرب بينهم فخرج علي و دعا الزبير فجاء حتى وقف قال له علي ما جاء بك قال ما أراك لهذا الأمر أهلاً قال له أتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقاتلنك ابن عمتك و هو لك ظالم فانصرف الزبير فجاءه ابنه عبد الله بن الزبير و حثه و احفظه حتى عاد فوقف في الصف ثم سار علي حتى أتى طلحة فقال جئت بعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم و خبأت عرسك في بيتك و استعرت الحرب فقال علي أيكم يعرض هذا المصحف عليهم و يقول هذا بيننا و بينكم فأخذه فتى شاب و تقدم فقطعوا يده و أخذه بيده اليسرى ثم تقدم علي فناشدهم الله عز و جل في دمه فأبوا إلا القتال و ارتجزت بنو ضبة
نحن بني ضبة أصحاب الجمل ... ننزل بالموت إذا الموت نزل
ننعي ابن عفان بأطراف الأسل ... ردوا علينا شيخنا ثم بجل
وارتجزت امرأة منهم
يا رب فاعقل لعلي جمله ... و لا تبارك في بعير حمله
و كان ابن عتاب يقول
أنا ابن عتاب وسيفي ولول ... والموت دون الجمل المجلل

فحمل علي عليهم فانكشفوا و ولى الزبير فتبعه عمار بن ياسر و قال يا أبا عبد الله ما أنت بجبان و لكني أراك شككت قال هو ذاك قال يغفر الله لك فانطلق حتى أتى وادي السباع و ولى طلحة ظهره فرماه مروان بن الحكم بسهم و مروان منهزم فشك ساقه بساقه الأخرى فقتله و قال لأبان بن عثمان قد كفيتك أحد قتلة أبيك و قتل سبعون على زمام الجمل يأخذه واحد بعد واحد و قد شكت السهام الهودج حتى صار كأنه جناح نسر فقال علي عليه السلام ما أراكم يقاتلكم غير هذا الهودج فقال عمار لمحمد بن أبي بكر عليك مقدمه حتى تكون أنت تلقاها و عطف عمار على مؤخر الجمل و هذا الناس مكانه حتى وقف عليه و قال لمحمد بن أبي بكر انظر أحيت هي أم لا فأدخل محمد رأسه في الهودج فقالت من هذا الذي أطلع على حرمة رسول الله صله فقال محمد أبغض أهلك إليك ثم أخرج رأسه و قال ما أصابها إلا خدش لساعدها فقال علي صدق رسول الله صله ثم قال يا هذه استفززت الناس و ألبت بينهم في كلام كثير فقالت يا بن أبي طالب إذا ملكت فاسحج و جاء ابن عباس فقال إنما سميت أم المؤمنين بنا قالت نعم قال أولسنا أولياء زوجك قالت بلى قال فلم خرجت بغير إذننا قالت قضاء و أمر و أمر حذيفة إلى المدينة و قد روينا أنها قالت لو علمت أن يكون قتال ما حضرت و إنما أردت أن أصلح بين الناس حتى كف بصرها و كانت تقول ليتني كنت نسياً منسياً و لم أحضر الجمل و بعث الزبير إلى الأحنف بن قيس و كان اعتزل الفريقين يخبره بمكانه فسمع به عمرو بن جرموذ فأتاه فلما رآه الزبير و قام إلى الصلاة فأتاه ابن جرموذ من ورائه فضربه بسيفه فقتله و جاء بخاتمه إلى علي عليه السلام فقال علي بشر قاتل ابن صفية بالنار و إنما قال ذلك و الله أعلم لأن الزبير كان راجع و تاب و الباغي إذا ولى حرم دمه و أيضاً فإنه غدر به حيث آمنه ثم قتله و يروى أبيات لابن جرموذ هذا منها
لسيان عندي قتل الزبير ... و ضرطة عير بذي الجحفة
و يقال أنه قتل في وقعة الجمل اثني عشر ألفاً و الله أعلم و دخل علي البصرة و خطبهم فقال يا هل السبخة يا أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها ثلاثاً و على الله الرابعة يا جند المرأة يا تباع البهيمة رغا فأجبتم و عقر فانهزمتم أخلاقكم رقاق أعمالكم نفاق و ماؤكم زعاق ثم ولاها عبد الله بن العباس بحر الأمة و ولى مصر قيس بن سعد بن عبادة و ولى خراجها ماهوى دهقان مرو قاتلي يزدجرد و خرج علي إلى الكوفة وفي وقعة الجمل أشعار و قصائد كثيرة فمنها قول بعضهم
شهدت حروبا وشيبتني ... فلم أر يوماً كيوم الجمل
فليت الظعينة في بيتها ... وليتك عسكر لم ترتحل
ذكر صفين و هو موضع بين العراق و الشام و قامت الحرب بين الفريقين أربعين صباحاً قالوا و لما بلغ معاوية خبر الجمل دعا أهل الشام إلى القتال على الشورى و الطلب بدم عثمان فبايعوه أميراً غير خليفة و بعث علي جرير بن عبد الله البجلي رسولاً إلى معاوية يدعوه إلى البيعة فكتب إليه معاوية إن جعلت لي الشام و مصر طعمة أيام حياتك و إن حضرتك الوفاة لم تجعل لأحد بعدك في عنقي بيعة بايعتك فقال علي عليه السلام لم يكن الله عز و جل يراني اتخذ المضلين عضداً و خرج من الكوفة في تسعين ألفاً و جاء معاوية في ثمانين ألف رجل فنزل صفين يسبق علياً إلى شرعة الفرات و أمر أبا الأعور السلمي أن يحميها و يمنع أصحاب علي الماء فبعث علي الأشتر النخعي فقاتلهم و طردهم و غلبهم على الشرعة فأرسل إليه علي لا تنع عباد الله الماء و جرت الرسل و المخاطبات بينهما أياماً ثم ناوشوا القتال أربعين صباحاً كلما وقدت الحرب رفعوا قميص عثمان ويقول معاوية ادعوا لها جوازها حتى قتل سبعون ألفاً خمسة وعشرون ألفاً من أهل العراق و خمسة و أربعون ألفاً من أهل الشام و كان علي يخرج كل يوم خيلاً قالوا فخرج يوماً عبيد الله بن عمر و كان هرب إلى معاوية خوفاً من قصاص علي و هو يقول
أنا عبيد الله ينميني عمر ... خير قريش من مضى و من غبر
حبر رسول الله و الشيخ الأغر ... قد أبطأت في قصر عثمان مضر
و الربعيون فلا أسقطوا المطر

فناداه علي على ماذا تقاتلني فو الله لو كان أبوك ما قاتلني قال طلبا بدم عثمان بن عفان قال علي عليه السلام و الله يطلبك بدم الهرمزان فخرج إليه الأشتر النخعي و هو يقول
إني أنا الأشتر معروف الشتر ... إني أنا الأفعى العراقي الذكر
و أنت من خير قريش من نفر ... هذر مشائيم من أولاد عمر
فانصرف عبيد الله و كره مبارزته ثم قتل بعد ذلك و خرج عمار فقتله أبو عامر العاملي و قد ذكرت في فصل الصحابة قصته و قيل فيه
يا للرجال لعين دمعها جاري ... قد هاج حزني أبو اليقظان عمار
قال النبي له تقتلك شرذمة ... سيطت لحومهم بالبغي فجار
فاليوم يعلم أهل الشام أنهم ... أصحاب تلك و فيها الخزي و العار
فلما قتل عمار انتبه الناس و كادوا يختلفون على معاوية فقال معاوية إنما قتله علي حيث عرضه للقتل ثم خرج علي فقال علام يقتل الناس بيني و بينك أحاكمك إلى الله عز و جل فأينا قتل صاحبه استقام الأمر له فقال عمرو بن العاص له أنصفك و الله يا معاوية فقال معاوية تعلم و الله أنه لم يبارزه أحد إلا قتله فيزعم قوم أن معاوية قال فابرز أنت يا عمرو فلبس مدرعة ذات فرجين من قدامها وورائها و بارز علياً فلما حمل عليه و تمكن من ضربه رفع عمرو رجله فبدت عورته فيصرف عنه علي وجهه ويتركه قالوا و خرج يوماً علي في كتيبة و على مقدمته الأشتر النخعي فصدقوهم القتال حتى لم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض و قتلوا منهم جماعة كثيرة و كسفت الشمس و أشرف علي عليه السلام على الفتح فقال عمرو لمعاوية إني لأعلم كلمة لو قلتها لاستقام لك الأمر أفتجعل مصر لي طعمة فقال قد أطعمتك قال مرهم فلينشروا المصاحف ففعلوا و نادى ابن يا أهل العراق بيننا و بينكم كتاب الله ندعوكم إليه فقالوا قد أنصفك معاوية فقال علي عليه السلام و يحكم هذا مكر إنما قاتلناكم ليدينوا بحكم كتاب الله قالوا لابد لنا من الموادعة والإجابة إلى كتاب الله و كان ناشدهم في ذلك الأشعث بن قيس و هو يقول
فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا ... عليها كتاب الله خير قرآن
و نادوا عليا ً يا بن عليه السلام محمد ... أما تتقي أن يهلك الثقلان
قال علي عليه السلام هذا كتاب الله فمن يحكم بيننا فاختار أهل الشام عمرو بن العاص و اختار أهل العراق أبا موسى الأشعري فقال علي عليه السلام هذا ابن عباس فقال الأشعث بن قيس لا نرضى به و الله لا يحكم فينا مضري أبداً فقال الأحنف إن أبا موسى رجل قريب القعر اجعلني مكانه آخذ لك بالوثيقة وأضعك من هذا الأمر بحيث تحب فلم يرض به أهل اليمن و فيه يقول الشاعر
لو كان للقوم يعصمون به ... عند الخطوب رموكم بابن عباس
لكن رموكم بوعر من ذوي يمن ... لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس
فكتبوا القضية على أن يحكم الحكمان بكتاب الله و السنة و الجماعة غير الفرقة فإن فعلا غير ذلك فلا حكم لهما و صيروا الأجل شهر رمضان على أن يجتمع الحكمان في موضع عدلٍ بين الكوفة و الشام و يحكما بذلك القضية فخرج الأشعث بن قيس و جعل يقرؤها على الناس فمر به عروة بن أدية التميمي فسل سيفه و ضرب به عجز دابته و قال تحكمون الرجال و لا حكم إلا لله و فيه يقول الشاعر
أعلى الأشعث المعصب بالتا ... ج شهرت السلاح يا بن أدية

ذكر خروج الخوارج على علي كرم الله وجهه و أمر علي بالرحيل من صفين فما ارتحلوا حتى فشا فيهم التحكيم و رحل معاوية إلى الشام و قد أصاب ما أراد من إيقاع الخلاف و الفرقة بين علي عليه السلام فلما دخل علي الكوفة اعتزله اثنا عشر ألفاً من القراء و زالوا براياتهم حتى نزلوا حروراء و هي قرية من السواد و أمروا على القتال شبث بن ربعى و على الصلاة عبد الله بن الكواء فناظرهم علي عليه السلام ستة أشهر و هم ينادونه جزعت من البلية و رضيت بالقضية و قبلت الدنية لا تحكم إلا الله عز و جل فيقول علي عليه السلام انتظر بكم حكم الله فيقولون لئن أشركت ليحبطن عملك فيقول فاصبر إن وعد الله حق ثم بعث علي عبد الله بن عباس و صعصعة بن صوحان يدعونهم إلى الجماعة فقال علي أنا موادعكم إلى مدة نتدارس فيها كتاب الله عز و جل لعلنا نصطلح فما دوه تسعة عشر ليلة ثم قال ابعثوا إلى خطباء يقومون بحجتكم فبعثوا فقام علي فحمد الله و أثنى عليه ثم قال لم أكن أحرصكم على هذه القضية و التحكيم و لكنكم و هنتم في القتال و تفرقتم علي و دعاني القوم إلى كتاب الله عز و جل فخشيت أن يتأولوا على قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم و هم معرضون قالت خطباء الحرورية دعوتنا إلى كتاب الله عز و جل فأجبناك حتى قتلتنا و قتلنا بالجمل و صفين ثم شككت في أمرك الذي تركت و أنت على غيره و لا نرجع إلا أن تتوب و تشهد على نفسك بالضلالة فقال معاذ الله أن أشهد على نفسي بالضلالة و بنا هداكم الله عز و جل و استنقذكم من الضلالة و إنما حكمت الحكمين أن يحكما بكتاب الله عز و جل و السنة الجامعة غير المفرقة فإن حكما بغير ذلك لم يكن علي و لا عليكم و إنما تقع القضية في عام قابل فقالوا نخشى أن يحدث أبو موسى شيئاً يكون كفراً قال فلا تكفروا أنتم العام مخافة كفر عام قابل فرجع بعضهم إلى الجماعة ثم بعث إليهم ابن عباس رضي الله عنه فقال ما نقمتم على ابن عليه السلام رسول الله قالوا ثلاث خصال إحداهن أنه حكم الرجال في دين الله و الله يقول إن الحكم إلا لله و الأخرى أنه غير اسمه من إمارة المؤمنين و إن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين و الثالثة أنه قتل و لم يسب و لم يغنم فإن كانوا كفاراً حل سبيهم و إن كانوا مؤمنين فلم قتلتم فقال ابن عباس رضي الله عنه أما قولكم حكم الرجال في دين الله فإن الله عز و جل قد حكم في أرنب قيمته ربع درهم مسلمين عدلين وحكم في نشوز امرأة مسلمين فأناشدكم الله عز و جل أحكم الرجال في أرنب أفضل أم حكمهم في دماء الأمة و إصلاح ذات البين و أما قولكم أنه قاتل و لم يسب و لم يغنم فإن الله تعالى يقول إن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم فهل كنتم تسبون أمكم و تستحلون منها ما تستحلون من غيرها و أما قولكم أنه أخرج اسمه من إمارة المؤمنين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج اسمه يوم الحديبية من النبوة و وَ الله لرسول الله أفضل من علي فرجع منهم ألفان مع عبد الله بن الكواء و أمر الباقون عبد الله بن وهب الراسبي عليهم و أخذوا في الفساد فقال علي عليه السلام دعوهم حتى يأخذوا مالاً و يسفكوا دماً و كان يقول أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين فالناكثون أصحاب الجمل و القاسطون أصحاب صفين و المارقون الخوارج فوثب الخوارج على عبد الله بن خباب فقتلوه و بقروا بطن امرأته و قتلوا نسوة و ولداناً فقال لهم علي ادفعوا إلينا قتلة إخواننا و أنا تارككم فثاروا به و ناوشوه القتال فقال علي عليه السلام أن يغلب منهم عشرة و أن يقتل منهم عشرة فكان كذلك و هو يوم النهروان بموضع يقال له رميلة الدسكرة و قتل المخدج ذو الثدية و قد ذكرت هذه القصة في فصل مقالات أهل الإسلام فذكر قوم أنه قتل يوم النهروان أربعة آلاف و قيل جملة من قتل علي من الخوارج بالنهروان و غيره ستون ألفاً فهذا ما كان من أمر الخوارج و قد قال السيد الحميري
إني أدين بما دان الوصي به ... يوم الخريبة من قتل المضلين
و ما به دان يوم النهر دنت به ... و شاركت كفه كفي بصفينا
تلك الدماء معاً يا رب في عنقي ... ثم اسقني مثلها آمين آمينا

خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه و لما قتل عثمان رضي الله عنه بويع علي عليه السلام بيعة العامة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم و بايع له أهل البصرة و أهل الكوفة مع أبي موسى الأشعري و بايع طلحة و الزبير بالمدينة و لم يبق أحد إلا بايعه إلا معاوية بالشام في أهلها ثم نكث طلحة و الزبير و خرجا بعائشة إلى البصرة فسار إليهم علي عليه السلام فقاتلهم و هي وقعة الجمل ثم سار إلى أهل الشام بصفين ثم حكموا الحكمين و انصرفوا و خرجت عليهم الخوارج فقتلهم بالنهروان و كان علي بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى مصر والياً عليها فأجهض معاوية بدهائه و مكايدته و لم يكن لعمرو بن العاص التوصل إليها و قد أطعمها إياه معاوية عند تعليمهم التحكيم فاحتالوا في إزالة قيس عنها و ذلك أن معاوية كتب إلى بعض بني أمية أن جزى الله قيس بن سعد خيراً فإنه قد كف عن إخواننا من أهل مصر الذين قاتلوا في دم عثمان و اكتموا ذلك علياً فإني أخاف إن بلغه ذلك عزله فشاع ذلك في الناس فقالوا بدل قيس قال علي عليه السلام معاذ الله قيس لا يبدل فما زالوا به حتى كتب إليه أن اقدم فعلم أنه مكر من معاوية فقال لولا الكذب لمكرت بمعاوية مكراً يدخل عليه بيته و أقبل على علي فبعث علي الأشتر النخعي مكانه فلما انتهى إلى عريش كتب معاوية عليه اللعنة إلى دهقان عريش إن أنت قتلت الأشتر فلك خراجه عشرين سنة فأخرج له سويقاً و جعل فيه سماً فلما شربه الأشتر يبس مكانه فقال معاوية لما بلغه ما أبردها على الفؤاد إن لله جنوداً من عسل و بلغ الخبر علياً فبعث محمد بن أبي بكر إلى مصر مكانه و بعث معاوية عمرو بن العاص إليها فاقتتلا بالمسناة و قتل محمد بن أبي بكر و جعلوا جثته في جيفة حمار و أحرقوه بالنار.

ذكر الحكمين و كان ذلك بعد صفين بثمانية أشهر و اجتمع أبو موسى الأشعري و عمرو بن العاص للتحكيم بموضع يقال له دومة الجندل بين مكة و الكوفة و الشام و أحضروا جماعة من الصحابة و التابعين منهم عبد الله بن عمر و عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث و المسور بن مخرمة في صلحاء أهل المدينة و بعث علي ابن عباس من الكوفة في جماعة فقال ابن عباس لأبي موسى أنك قد رميت بحجر الأرض و داهية العرب فمهما نسيت فلا تنس أن علياً بايعه الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان و ليست فيه خصلة واحدة تباعده من الخلافة وليس في معاوية خصلة واحدة تدانيه من الخلافة فلما اجتمع أبو موسى و عمرو للحكومة ضربا فسطاطاً و قال عمرو يجب أن لا نقول شيئاً إلا كتبناه حتى لا نرجع عنه فدعيا بكاتب و كان قال عمرو قبل ذلك ابدأ باسمي فلما أخذ الكاتب الصحيفة و كتب بسم الله الرحمن الرحيم بدأ باسم عمرو فقال له عمرو أمحه و ابدأ باسم أبي موسى فإنه أفضل مني و أولى بالتقديم و كانت خديعة منه ثم قال ما نقول يا أبا موسى في قتل عثمان قال قتل و الله مظلوماً قال عمرو أكتب يا غلام ثم قال يا أبا موسى إن إصلاح الأمة و حقن الدماء و إبقاء الذماء خير مما وقع فيه علي و معاوية فإن رأيت أن نخرجهما و يستخلف على الأمة من يرضى المسلمون به فإن هذا أمانة عظيمة في رقابنا قال لا بأس بذلك قال عمرو أكتب يا غلام ثم ختما على ذلك الكتاب و قاما ذلك اليوم و قد تطاول النهار و سيم الكلام و قد ظفر عمرو بما أراد من إقرار أبي موسى بقتل عثمان ظلماً و إخراج علي و معاوية من الأمر فلما كان من الغد و قعدا للنظر قال عمرو يا أبا موسى قد أخرجنا علياً و معاوية من هذا الأمر فسم له ما شئت قال أسمي الحسن بن علي قال عمرو تراه تخرج أباه من الأمر و تجلس مكانه ابنه قال فعبد الله بن عمر قال هو أورع من أن يدخل في شيء من هذا و سمى أبو موسى عدة لا يرضيهم عمرو ثم قال سم أنت يا أبا عبد الله قال معاوية بن أبي سفيان قال ما هو أهل لذلك فابني عبد الله بن عمرو فعرف أبو موسى أنه يتلعب به فقال أفعلتها لعنك الله إنما مثلك كمثل الكلب أن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث فقال له عمرو بل أنت لعنك الله إنما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفاراً ثم قال عمرو إن هذا قد خلع صاحبه و أخرج عمرو خاتمه و أنا أيضا خلعته كما خلعت هذا الخاتم من يدي ثم أدخل خاتمه في يده الأخرى و قال أدخلت معاوية في الأمر كما أدخلت خاتمي في يدي و قال قوم خلع علياً و لم يدخل معاوية حتى أتى الشام ثم ركب أبو موسى راحلته إلى مكة و ركب عمرو إلى الشام و فيه يقول الشاعر
أبا موسى بليت و كنت شيخا ... قريب القعر مجرور اللسان
رمى عمرو صفاتك يا بن قيس ... بأمر لا تنوء به اليدان
فأعطيت المقادة مستجيبا ... فيا لله من شيخ يمان
و لما قدم عمرو الشام ولي عمرو الشام و بايعوه الناس و بلغ الخبر علياً فقال كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فمن دعا إليها فاقتلوه و عزم على المسير إلى معاوية و بايعه ستون ألفاً على الموت فشغلته الخوارج و قتالهم إلى أن قتل رضوان الله عليه و أخذ معاوية في تسريب السرايا إلى النواحي التي تليها عمال علي عليه السلام و شن الغارات و قتل الرجال و نهب الأموال و بعث بسر بن أرطاة إلى المدينة و على المدينة أبو أيوب الأنصاري فنحي عنها و صعد بسر المنبر و توعد أهل المدينة بالقتل حتى أجابوا إلى بيعة معاوية و أتى مكة و بها عبد الله بن العباس فهابه و خرج نحو علي و قتل بسر جماعة من شيعة علي عليه السلام و أخذ ابنين صغيرين لعبد الله بن عباس فقتلهما في حجر أمهما و فيهما تقول أمهما
ها من أحس بنيني اللذين هما ... كالدرتين تشظى عنهما الصدف
ها من أحس بنيني اللذين هما ... سمعي و عيني فقلبي اليوم مختطف
نبيت بسراً و ما صدقت ما زعموا ... من قولهم و من الكذب الذي وصفوا
و بلغ الخبر علياً فبعث في إثره جارية بن قدامة ففاته و لم يدركه و كان لبسر هذا ابنان بأوطاس فخرج إليهما رجل من قريش فقتلهما و قال فيهما
ما قتلتهما ظلماً فقد شرفت ... من صاحبينك قناتي دون أوطاس

فاشرب بكأس ذوي ثكل كما شربت ... أم الصبيين أو ذاق بن عباس
مقتل علي عليه السلام قالوا تعاقد ثلاثة نفر من الخوارج على قتل علي رضي الله عنه و معاوية و عمرو بن العاص منهم عبد الرحمن بن ملجم عليه لعائن الله تترى مرة بعد أخرى قال أنا أقتل علياً و البرك قال أنا أقتل معاوية عليه اللعنة و داود مولى لبني العنبر قال أنا أقتل عمرو بن العاص فاجتمعوا بمكة و شروا أنفسهم على أن يريحوا العباد من أئمة الضلال و مضوا لطيتهم فأما داود فأتى مصر و دخل المسجد و قام في الصلاة فخرج خارجة بن حذافة و كان على شرطة عمرو و عمرو يشتكي فضربه داود فقتله و هو ظنه عمراً فقال عمرو أردت عمراً و الله يريد خارجة فذهبت مثلا و أخذوا داود به فقتل و أما البرك و اسمه الحجاج فإنه مضى إلى الشام و دخل المسجد فخرج معاوية فافتتح الصلاة فضربه البرك و كان معاوية عظيم العجز فأصابت الضربة فقطعت منه عرقاً انقطع منه الولد فأخذ البرك فقطعت يداه و رجلاه و خلي عنه فعاش و قدم البصرة و نكح امرأة فولدت له فلما كان في أيام زياد بن أبيه أخذه فقال يولد لك و لم يولد لمعاوية فضرب عنقه و أما ابن ملجم عليه لعنة الله فإنه أتى الكوفة و جعل يختلف إلى علي عليه السلام و علي يلاطفه و يواصله و يتوسم فيه الشر و فيه يقول
أريد حياته و يريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
قالوا و شعف ابن ملجم عليه اللعنة بامرأة يقال لها قطام من الخوارج فخطبها فقالت الصداق قتل علي و كذا و كذا و كان قتل أباها و أخاها بالنهروان فضمن لها ذلك و سم سيفه و شحذه و جاء فبات تلك الليلة بالمسجد هو و روي عن الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال لما أصبح اليوم الذي ضربه الرجل فيه فقال لقد سنح لي الليلة النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك قال ادع الله أن يريحك منهم قالوا و دخل علي المسجد و نبه النيام فركل ابن ملجم برجله و هو ملتف بعباءة و قال له قم فما أراك إلا الذي أظنه و افتتح ركعتي الفجر فأتاه ابن ملجم عليه لعائن الله فضربه على صلعته حيث وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده و قال أشقى الناس أحيمر ثمود و الذي يخضب هذه من هذه و روي أنه كان ضربه عليه عمرو بن عبد ودٍ يوم الخندق و لم يبلغ الضربة مبلغ القتل و لكن عمل فيه السم فثار الناس إليه و قبضوا عليه فقال علي لا تقتلوه فإن عشت رأيت فيه رأياً و إن مت فشأنكم به فعاش ثلاثة أيام ثم مات يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان و هو اليوم الذي أوحى فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم و اليوم الذي فتح الله عليه بدراً فقتل ابن ملجم عليه لعنة الله و دفن علي رضي الله عنه و اختلفوا أين دفن فقال قوم دفن بالغري و قال قوم دفن بالكوفة و عمي مكانه و قال قوم جعل في تابوت و حمل على بعير يريدون المدينة فأخذه طىء و هم يظنونه مالا فلما رأوا الميت دفنوه عندهم و الله أعلم و مما رثي به عليه السلام قول أم الهيثم بنت أبي الأسود الدؤلي
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فلا قرت عيون الشامتينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا ... بخير الناس طراً أجمعينا
رزئنا خير من ركب المطايا ... و خيسها و من ركب السفينا
و قيل في ابن ملجم و قصته
فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام بين غير مبهم
ثلاثة آلاف و عبد و قينة ... و قتل علي بالحسام المسمم
فلا مهر أغلى من علي و إن علا ... و لا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
و يقول عمران بن حطان في ابن ملجم لعنهما الله
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
و روي أن علياً عليه السلام كان يقنت على معاوية إلى أن مات و معاوية يلعن علياً و ولده و كتب الوليد بن عقبة الفاسق إلى معاوية يهنئه بقتل علي رضوان الله عليه
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى ... تهدر في دمشق فما تريم
ليهنئك الإمارة كل ركب ... بأنضاء العراق لها رسيم

فإنك و الكتاب إلى علي ... كدابغة و قد حلم الأديم
و كانت خلافة علي عليه السلام خمس سنين لم يتفرغ إلى أن يحج بنفسه شغلته الحروب.
خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما ثم بويع الحسن بن علي رضي الله عنهما بالكوفة و بويع معاوية بالشام في مسجد إيليا فقدم الحسن قيس بن سعد في اثني عشر ألفاً للقاء معاوية و جاء معاوية حتى نزل جسر منبج و خرج الحسن حتى ساباط المدائن في أربعين ألفاً قد بايعوا على الموت و أحبوه أشد من حبهم لأبيه فأغذ السير حتى إلى مسكن من أرض الكوفة في عشر ليالٍ و رجلان يقرآن القرآن عن يمينه و عن شماله و فيه يقول كعب بن جعيل
من جسر منبج أضحى غب عاشره ... في نخل مسكن تتلا حوله السور
و قدم معاوية بسر بن أرطاة فكانت بينه و بين قيس مناوشة ثم تحاجزوا ينتظرون الحسن قالوا و نظر الحسن ما يسفك من الدماء و ينتهك من المحارم فقال لا حاجة لي في هذا الأمر و قد رأيت أن أسلمه إلى معاوية فيكون في عنقه تباعة هذا الأمر و أوزاره فقال له الحسين أنشدك الله أن تكون أول من عاب أباه و رغب عن رأيه فقال الحسن لتتابعني على ما أقول أو لأنشدنك في الحديد حتى أفرغ منه فقال له الحسين فشأنك به و إني لكاره فقام الحسن رضي الله عنه خطيباً فذكر رأيه و إئثاره السلامة فقال الناس هو خالع نفسه لمعاوية فشق عليهم ذلك و قد بايعوه على الموت فثاروا به و قطعوا عليه كلامه و خرقوا عليه سرادقه و طعنه رجل في فخذه أشوته و انصرفوا عنه إلى الكوفة فحمل الحسن إلى المدائن و قد نزف دمه فعولج و بعث إلى معاوية يذكر تسليمه الأمر إليه فكتب إليه معاوية أما بعد فأنت أولى بهذا الأمر و أحق به لقرابتك و كذا و كذا و لو علمت أنك أضبط له و أحوط على حريم هذه الأمة و أكيد للعدو لبايعتك فاسأل ما شئت و بعث بصحيفة بيضاء مختومة في أسفلها أن اكتب فيها ما شئت فكتب الحسن أموالاً و ضياعاً لشيعة علي و أشهد على ذلك شهوداً من الصحابة و كتب في تسليم الأمر كتاباً على أن يعمل بكتاب الله و سنة نبيه و سيرة الخلفاء الماضين و أن لا يعهد بعده إلى أحد و يكون الأمر شورى و أصحاب علي آمنين حيثما كانوا و قيس بن سعد نازل و على منازلته عازم فبعث إليه معاوية على طاعة من تنازعني و قد بايعني صاحبك و بعث إليه بصحيفة بيضاء و وضع خاتمه أسفلها و قال سل ما شئت فلم يسأل قيس غير الأمان له و لمن معه فآمنهم و انصرفوا و التقى معاوية مع الحسن على منزل من الكوفة فدخلا الكوفة معاً ثم قال يا أبا محمد نعرض به لقد جدت بشيءٍ لا تجود بمثله نفوس الرجال فقم و أعلم الناس ذلك فقام الحسن فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أيها الناس لو طلبتم ما بين جابلق إلى جابلص رجلاً جده رسول الله ما وجدتموه غيري و غير أخي و أن الله تعالى هداكم بأولنا و حقن دماءكم بآخرنا و إن معاوية نازعني حقاً لي دونه فرأيت أن أمنع الناس الحرب و أسلمه إليه و إن لهذا الأمر مدة و تلا و إن أدرى لعله فتنة لكم و متاع إلى حين فلما تلا الحسن هذه الآية خشي معاوية الاختلاف فقال له معاوية اقعد ثم قام خطيبا فقال كنت شروطاً في الفرقة أردت بها نظام الألفة و قد جمع الله كلمتنا و أزال فرقتنا و كل شرط شرطته فهو مردود و كل وعد وعدته فهو تحت قدمي هاتين فقام الحسن فقال إلا وأني اخترت العار على النار ليلة القدر خير من ألف شهر و سار إلى المدينة و قام بها إلى أن مات سنة سبع و أربعين من الهجرة رضوان الله عليه و كانت خلافته خمسة أشهر و يقال ستة أشهر و صحت رواية سفينة عن النبي صله الخلافة بعدي ثلاثون ثم يكون الملك و روى الحسن عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن ابني هذا سيد و سيصلح به بين فئتين.
الجزء السادس

الفصل الحادي و العشرون
في ولاية بني أمية إلى آخر أيامهم
على الاختصار و ما كان فيه من فتنة ابن الزبير و المختار بن أبي عبيد

ولاية معاوية بن أبي سفيان و صار الأمر إلى معاوية سنة أربعين من الهجرة و كان ولي لعمر و عثمان عشرين سنة و لما سلم الحسن الأمر إليه ولى الكوفة المغيرة بن شعبة و ولى البصرة و خراسان عبد الله بن عامر بن كريز و ولى المدينة مروان بن الحكم و انصرف معاوية إلى الشام و في هذه السنة افتعل المغيرة كتاباً من معاوية إلى أهل الموسم في الإمارة و حج بالناس فوقف يوم التروية و نحر يوم عرفة خوفاً أن يفطن الناس بكتابه ثم نزع معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة و ولاها زياد بن أبيه ثم لما مات بن شعبة جمع له العراقين و هما الكوفة و البصرة و هو أول من جمع العراقان.
قصة زياد بن أبيه قالوا أن معاوية أول من ادعى إلى غير أبيه فادعى زياداً أخاً من جلده و نفاذه و زياد هو ابن عبيد من ثقيف و أمه سمية و قد قال الحسن و الشعبي أن سرك أن لا تكذب فقل زياد بن أبيه و فيه يقول ابن المفرغ
العبد للعبد لا أصل و لا شرف ... ألوت به ذات أظفارٍ و أنياب
و كان زياد كاتباً للمغيرة بن شعبة ثم كتب لأبي موسى الأشعري ثم كتب لابن عامر ثم كتب لابن عباس ثم كتب لعلي بن أبي طالب عليه السلام و كان له من الولد ثلاثة و أربعون منهم عشرون ذكراً و ثلاث و عشرون أنثى و مات زياد بالكوفة سنة ثلاث و خمسين من الهجرة و ذلك أنه كان غشوماً ظلوماً هصوماً جبى العراق مائة ألف ألف و جعل يخطب الحجاز و يهدد أهله بالقتل و كتب إلى معاوية إني قد ضبطت العراق بيميني و شمالي فارغة فضم إليه الحجاز فاجتمع أهل المدينة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم و دعوا عليه فخرجت في يده الآكلة فشغله عن ذلك و كان يناله من علي عليه السلام فضربه النقاد ذو الرقبة يعنى الفالج فقتله بالكوفة.
موت المغيرة بن شعبة وقع الطاعون بالكوفة فهرب المغيرة بن شعبة ثم لما سكن عاد فطعن فمات فقال أعرابي
ارسم ديار للمغيرة تعرف ... عليه دواني الإنس و الجن تعزف
فإن كنت قد لاقيت هامان بعدنا ... و فرعون فاعلم أن ذا العرش منصف
وفاة عمرو بن العاص و مات عمرو بن العاص بمصر يوم الفطر فصلى عليه ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص ثم صلى بالناس صلاة العيد و خلف عمرو من المال ثلاثمائة ألف دينار و خمسة و عشرين ألف دينار و من الغلة ما يبلغ ارتفاعها في السنة مائتى ألف دينار و من الورق ألفي ألف درهم و فيه يقول الشاعر
ألم تر أن الدهر أذكى عيونه ... على عمرو السهمي تجبى له مصر
و لم يغن عنه كيده و احتياله ... و حيلته حتى أتيح له الدهر
قالوا و ولى معاوية خراسان الحكم بن عمرو الغفاري و كانت له صحبة و افتتح جبال الغور و مات بمرو ثم ولاها عبيد الله بن زياد فغزا طخارستان و ملكتها فتح خاتون فقاتلها و هزمها و انتهب مملكتها سبعاً ثم صارت إلى الصلح فصالحها على مال و خلى لها ملكها و نواحيها ثم غزا ما وراء النهر و أغار على بخارا و غنم منها غنائم كثيرة و عاد إلى البصرة ثم ولاها سعيد بن عثمان بن عفان و غزا ما وراء النهر و صالح أهل سمرقند على أن يدخل باباً من أبوابها و يخرج من الآخر و أخذ منهم رهائن أن لا يغدروا به فدخل و خرج و انصرف بالرهائن و غدر بهم و حملهم إلى المدينة و جعل يستغلهم في النخيل و الطين و هم أولاد الدهاقين و أرباب النعم فلم يطيقوا ذلك العمل و سئموا عيشهم فوثبوا عليه في حائط له فقتلوه ثم قتلوا أنفسهم بالحبل خنقاً ثم ولاها أسلم بن زرعة و كان غشوماً ظلوماً فأخذ أهل مرو بأن يكفوا عنه نقيق الضفاضع فأخبروه بأن ذلك غير ممكن فضاعف عليهم الخراج مائة ألف درهم و في أيام معاوية افتتح من الروم روذوس و هو على يومين من القسطنطينية و أقام المسلمون بها سبع سنين و افتتح من خراسان سمرقند و كش و نسف و بخارا و افتتح الربيع بن زياد الحارثي بلخ و ما يليها و كان والياً من عند معاوية فمات بمرو فلما حج معاوية جاءه الحسن و الحسين وابن عباس رضي الله عنهم و سألوه أن يفي لهم بما ضمن فقال أما ترضون يا بني هاشم أن نوفر عليكم دماءكم و أنتم قتلة عثمان و لم يعطهم مما في الصحيفة شيئاً.
وفاة الحسن بن علي رضي الله عنهما

و توفي الحسن في سنة تسع و أربعين و هو ابن سبع و أربعين سنة و اختلفوا في سبب موته فزعم قوم أنه زج ظهر قدمه في الطواف بزجٍ مسمومٍ و قال آخرون أن معاوية دس إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس بأن تسم الحسن و يزوجها يزيد فسمته و قتلته فقال لها معاوية إن يزيد منا بمكان و كيف يصلح له من لا يصلح لابن رسول الله و عوضها منه مائة ألف درهم و في أيام معاوية ماتت عائشة رضي الله عنها وأم سلمة و أبو هريرة و سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر و أبو أيوب الأنصاري بالقسطنطينية و كان معاوية قد أذكى العيون على شيعة علي عليه السلام يقتلهم أين أصابهم فقتل حجر بن عدي و عمرو بن الحمق في جملة من قتل و قال سعيد بن المسيب أن معاوية أول من غير قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم و أول من خطب قاعداً لأنه كان بطيناً بادناً و أول من قدم الخطبة على الصلاة خشي أن يتفرق الناس عنه قبل أن يقول ما بدا له و أول من نصب المحراب في المسجد و توفي و له من الأموال التي استصفاها من مال كسرى و قيصر خمسون ألف ألفَ درهم.
أخذ البيعة ليزيد بن معاوية ثم دعا الناس إلى بيعة يزيد فأول من بايع يزيد معاوية و كتب إلى مروان بن الحكم بأخذ بيعة أهل المدينة ليزيد عليه اللعنة فغضب مروان إذ لم يجعل إليه الأمر فسار إلى الشام فكلمه و جعله ولي عهد يزيد بعده و رده إلى المدينة فامتنع أهل المدينة من بيعته فجاء معاوية حاجاً في ألف فارس إلى المدينة و تلقاه الحسين و عبد الرحمن بن أبي بكر و عبد الله بن الزبير فسلموا عليه فلم يرد جواب سلامهم و أغلط بهم في القول و عنف و ذلك حيلة منه فتوجه القوم إلى مكة لما رأوا من جفائه و دخل معاوية المدينة و لم يبق بها أحد لم يبايعه و أخذ بيعة أهلها ليزيد و فرق فيهم أموالاً عظيمةً ثم خرج إلى مكة فتلقاه الحسين بن علي فلما وقع بصره عليه قال مرحباً بابن رسول الله و سيد شباب أهل الجنة دابةً لابن عبد الله ثم طلع عليه عبد الله بن الزبير فقال مرحباً بابن حواري رسول الله و ابن عمته دابةً لأبي خبيب ثم كذلك كلما طلع عليه طالع حياه و أمر له بدابةٍ وصلةٍ ثم دخل مكة و هداياه و جوائزه يروح عليهم و يغدو حتى أنماهم الأموال ثم أمر برواحله فعلقت بباب المسجد و جمع الناس و أمر بصاحب حرسه أن يقيم على رأس كل رجل من الأشراف رجلاً بالسيف و قال إن ذهب واحد منهم إلى أن يراجعني في كلامي فاضربوا عنقه ثم صعد النبر و خطب فقال إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين و خيارهم و لا يبتز أمر دونهم و لا يقضى أمر عن غير مشورتهم و قد بايعوا يزيد فبايعوه بسم الله فأما الأشراف فلم يكن يمكنهم تكذيبه و مراجعته و أما سائر الناس فلا جرأة لهم على الكلام و لا علم لهم بشيء مما يقول فأخذ البيعة و ركب رواحله و ضرب إلى الشام و كان يقول لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي و فيه يقول بعضهم
فإن تأتوا برملة أو بهند ... نبايعها أميرة مؤمنينا
إذا ما مات كسرى قام كسرى ... بنوه بعده متناسقينا
خشينا الغيظ حتى لو سقينا ... دماء بني أمية ما شفينا
وفاة معاوية رضي الله عنه و مات معاوية بدمشق سنة ستين وهو ابن ثمانين سنة و كان رجلاً طوالاً جسيماً بادناً أبيض جميل الوجه إذا ضحك انقلبت شفته العلياء و بايع أهل الشام يزيد بن معاوية على الوفاء بما أخذ له معاوية من بيعتهم.

بيعة يزيد بن معاوية عليه اللعنة قالوا مات معاوية و على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان و على العراق عبيد الله بن زياد فلما ورد نعي معاوية قال مروان بن الحكم للوليد بن عتبة أبعث إلى الحسين بن علي و عبد الله بن الزبير فإن بايعا وإلا فاضرب أعناقهما فاستدعاهما في جوف الليل و نعى إليهما معاوية و أخذهما بالبيعة ليزيد فقالا حتى نصبح و انصرفا من عنده و خرجا من تحت الليل إلى مكة و أبيا أن يبايعا و بلغ أهل الكوفة تلكؤ الحسين في بيعة يزيد فكتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم و بعثوا بحمل بعير و كتبوا البيعة فأرسل الحسين مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليأخذ البيعة من أهلها فجاء حتى نزل على هانئ بن عروة و اجتمع إليه خلق كثير من الشيعة يبايعون الحسين و خرج الحسين بأهله و ولده و بلغ الخبر عبيد الله بن زياد عليه اللعنة و هو بالبصرة فهم إلى الكوفة فسار إليه الشيعة و قاتلوه حتى دخل قصره و أغلق بابه فلما كان عند المساء و تفرق الناس عن المسلم بن عقيل بعث عبيد الله بن زياد خيلاً في خفية فقبضوا على مسلم و على هانئ و رفعوا مسلما بين شرف القصر و قتل أدناه من العضادة ثم ضربوا عنقه و فيه يقول
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئ في السوق و ابن عقيل
ترى رجلاً قد جدع السيف أنفه ... و آخر يهوي من طمارٍ قتيل
ترى جسداً قد غير الشمس لونه ... ونضح دم قد سال كل مسيل
مقتل أبي عبد الله الحسين بن علي رضي الله عنهما و لما بلغ الحسين قتل مسلم بن عقيل هم بالرجوع إلى المدينة فبعث إليه عبد الله بن زياد الحر بن يزيد التميمي في ألف فارس فلقي الحسين بزبالة فقال له الحسين لم آتكم حتى انتهت إلي كتبكم فإن كان رأيكم على غير ما نطقت به كتبكم انصرفت فقال الحر بن يزيد إني لم أؤمر بقتالك و لكن أمرت أن لا أفارقك حتى تقدم الكوفة فإذا أتيت فخذ طريقاً يدخلك الكوفة و لا نزول إلى المدينة حتى أكتب إلى ابن زياد فانثنى الحسين عن طريق العذيب و الحر بن زياد يسايره حتى انتهى إلى الغاضرية فنزل بها و هو يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة إحدى و ستين و قدم عليه يوم الجمعة عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف و زعم قوم أن عبيد الله بن زياد قال له إن قتلت الحسين فلك عمل الري و بعث معه بشر بن ذي الجوشن و قال إن لم يقتله فاقتله و أنت على الناس فنزلوا بين نهري كربلا وجرت الرسل بينهم و بين الحسين و منعوه و من معه الماء أن يشربوا فقال الحسين لعمر بن سعد اكتب إلى صاحبك فاعرض أن أرجع إلى الموضع الذي أقبلت منه أو آتي ثغراً من ثغور المسلمين إلى أن ألحق بالله عز و جل أو يبعث بي إلى يزيد بن معاوية فيرى في رأيه فإن الرحم تمنعه قتلي فكتب عمر بن سعد إلى عبيد الله بن زياد بذلك فلم يقبل من ذلك شيئاً و قال لا إلا أن ينزل على حكمي فقال الحسين و الله لا أنزل على حكم مرجانة أبداً يعني عبيد الله بن زياد و ناهضهم القتال يوم عاشوراء و هو يوم الجمعة و معه تسعة عشر إنساناً من أهل بيته و انحاز إليه الحر التيمي تائباً من ذنبه فقاتل معه فقتل الحسين عطشان و قتل معه سبعة من ولد علي عليه السلام و ثلاثة من ولد الحسين و تركوا علي بن الحسين و هو علي الأصغر لأنه كان مريضاً فمنه عقب الحسين عليه السلام إلى اليوم و قتلوا من أصحابه سبعة و ثمانين إنساناً و زعم قوم الحسين رضي الله عنه قتل بعدما قتل منهم عدة و لولا الضعف الذي أدركه من العطش لكان يأتي على أكثرهم قالوا فرماه الحصين بن تميم في حنكه و ضرب زرعة بن شريك كفه و طعنه سنان بن أنس بالرمح ثم نزل فاجتز رأسه وأوطأ الخيل جثته و ساقوا علي بن الحسين مع نسائه و بناته إلى عبيد الله بن زياد فزعموا أنه وضع رأس الحسين في طست و جعل ينكت في وجهه بقضيب و يقول ما رأيت مثل حسن هذا الوجه فقط فقال أنس بن مالك أما أنه كان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعث به وبأولاده إلى يزيد بن معاوية فذكر أن يزيد أمر بنسائه و بناته فأقمن بدرجة المسجد حيث توقف الأسارى لينظر الناس إليهن و وضع رأسه بين يديه و جعل ينكت بالقضيب في وجهه و هو يقول
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا و استهلوا فرحاً ... و لقالوا يا يزيد لا تسل
فقام أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه فقال أما و الله لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يرشفه و قتل الحسين عليه السلام سنة إحدى و ستين من الهجرة يوم عاشوراء و هو يوم الجمعة و كان بلغ من السن ثمانياً و خمسين سنة و كان يخضب بالسواد رضي الله عنه ثم بعث يزيد عليه اللعنة بأهله و بناته إلى المدينة و رثته ابنة عقيل بن أبي طالب
ماذا تقولون أن قال المليك لكم ... ماذا فعلتم و أنتم آخر الأمم
بعترتي و بأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى و قتلى ضرجوا بدمي
قال و سمع أهل المدينة ليلة قتل الحسين في نهارها هاتفاً يهتف
مسح الرسول جبينه ... فله بريق في الخدود
أبواه من عليا قريش ... و جده خير الجدود
و اعلم أن للروافض في هذه القصة من الزيادات و التهاويل شيئاً غير قليل و في مقدار ما بيناه سقط كثير لأن من الناس من ينكر أن يكون يزيد أمر بقتله أو رضي به و الله أعلم بذلك قصة عبد الله بن الزبير بن العوام و هو ابن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم و أول مولود ولد بالمدينة في الإسلام . قالوا و لما بويع يزيد تلكأ الحسين و عبد الله بن الزبير عن بيعته و لحقا بمكة فأما الحسين فخرج إلى الكوفة حتى استشهد بكربلا و أما عبد الله بن الزبير فامتنع بمكة و لاذ بالكعبة و دعا الناس إلى الشورى و جعل يلعن يزيد و سماه الفاسق المتكبر و قال لا يرضى الله بعهد معاوية إلى يزيد و إنما ذاك إلى عامة المسلمين فأجابه الناس إلى ذلك و رأوا الحق فيه و أظهر ابن الزبير التألد و التنسك و جعل يصوم و يصلي حتى أثر فيه و مال الناس إليه و كتب إلى أهل المدينة أن اخرجوا بني أمية من أظهركم فأخرجوهم و بلغ الخبر يزيد فبعث مسلم بن عقبة المرى في جيش كثيف و جعل يرتجز
أبلغ أبا بكر إذا الجيش سرى ... و مرت الخيل على وادي القرى
عشرين ألف بين كهل وفتى ... أجمع نشوان من القوم ترى
وقعة الحرة قال فجاء مسلم بن عقبة فأوقع بالمدينة و قتل أربع آلاف رجل من أفناء الناس و سبعين رجلاً من الأنصار و بقر عن بطون النساء و أباح الحرم و أنهب المدينة ثلاثة أيام و بايعهم على أنه فيء ليزيد و جعل يفعل فيهم ما شاء و كانت الوقعة بالحرة و هي ضاحي المدينة و بتلك سميت الحرة و سموا مسلم بن عقبة مسرف بن عقبة و كان يسمى ابن الزبير الملحد و قد قال محمد بن أسلم الساعدي
فإن يقتلونا يوم حرة واقمٍ ... فنحن على الإسلام أول من قتل
ثم سار مسلم نحو مكة يريد ابن الزبير فطعن بقديد لدعوة أهل المدينة و استخلف على الجيش الحصين بن نمير اليشكري أوصاه يزيد بذلك و قال له يا برذعة الحمار لولا أن أمير المؤمنين أمرني باستخلافك ما استخلفتك فإذا أنا مت فامض بالجيش عني حتى تواقى الملحد و لا تجعل أذنك قمعاً لقريش فأنهم سحرة بالكلام و لكن عليك إذا وافيت بالوقاف ثم النقاف ثم الانصراف و مات مسرف فسار الحصين حتى أتى مكة و حاصر ابن الزبير أياماً و رمى بالمنجنيق و النفاطات الركن فأحرق الأستار فبعث الله على أصحاب المنجنيق صاعقة فأحرقت منهم بضعة عشر رجلاً و كان المختار بن أبي عبيد الثقفي بايع ابن الزبير على أن لا ينفرد برأي و لا يقضي أمراً دونه فوجه المختار إلى الحصين و قاتله فردهم عن مكة فبيناهم كذلك إذ أتاهم نعي يزيد فانصرفوا إلى الشام و كان يزيد ولى سلم بن زياد بن أبيه خراسان و سجستان فغزا ما وراء النهر و امرأة تملك بخاراً يقال لها خاتون فكتبت إلى طرخان ملك الترك تستمده و تستنجده على أن تزوجه نفسها و جاء طرخان في جيش عظيم من الترك و السغد و ناهضهم القتال فهزمهم و غنم من أموالهم و أولادهم ما يفوت الإحصاء و في سلم يقول يزيد بن معاوية
عتبت على سلم فلما فقدته ... و جربت أقواماً بكيت على سلم
موت يزيد بن معاوية

و لما احتضر يزيد بن معاوية ولى ابنه معاوية بن يزيد و سلم الأمر إليه و كان ولد يزيد بالماطرون و مات بحوارين و هو ابن ثمان و ثلاثين سنة و كان ملكه ثلاث سنين و ثمانية أشهر و ذكر أنه تمثل عند موته بهذين البيتين
فيا ليتني لم أغن بالناس ساعةً ... و لم أغن في لذات عيش مفاخر
و كنت كذي طمرين عاش ببلغةٍ ... من العيش حتى صار رهن المقابر
و فيه يقول الشاعر
يا أيها القبر بحوارينا ... ضممت شر الناس أجمعينا
ولاية معاوية بن يزيد بن معاوية و لما مات يزيد صار الأمر إلى ولده معاوية بن يزيد و كان قدرياً لأنه أشخص عمراً المقصوص فعلمه ذلك فدان به و تحققه فلما بايعه الناس قال للمقصوص ما ترى قال إما أن تعتدل و إما أن تعتزل فخطب معاوية فقال إنا بلينا بكم و ابتليتم بنا و إن جدي معاوية نازع الأمر من كان أولى به و أحق فركب منه ما تعلمون حتى صار مرتهناً بعمله ثم تقلده أبي و لقد كان غير خليق به فركب ردعه و استحسن خطاءه و لا أحب أن ألقى الله بتبعاتكم فشأنكم و أمركم ولوه من شئتم فوالله لئن كانت الخلافة مغنماً لقد أصبنا منها حظاً و إن كانت شراً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها ثم نزل و أغلق الباب في وجهه و تخلى للعبادة حتى مات بالطاعون في سنة أربع و ستين اثنتي وعشرين سنة و كانت ولايته عشرين يوماً و يقال أربعين يوماً و يقال ثلاثة أشهر فوثب بنو أمية على عمرو المقصوص و قالوا أنت أفسدته و علمته فطمروه و دفنوه حياً و كان قيل فيه
تلقفها يزيد عن أبيه ... فخذها يا معاوي عن يزيد
و قال آخر
إني أرى فتنة تغلي مراجلها ... و الملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
ابن الزبير ومروان بن الحكم فتنة ابن الزبير كان يدعو الناس في زمن يزيد بن معاوية إلى الإمارة و الشورى فلما مات يزيد دعاهم إلى البيعة لنفسه و ادعى الخلافة بالحجاز و العراق و خراسان و اليمن و مصر و الشام إلا الأردن فإنهم أرادوا أن يكون الأمر لخالد بن يزيد بن معاوية و دعوا له على المنبر و بويع بالخلافة فلما تسمى ابن الزبير بالخلافة فارقه المختار بن أبي عبيد من أعماله و قدم الكوفة و دعا الشيعة و قال أنا رسول الله أبي القاسم محمد بن علي بن أبي طالب و أخذ بيعة الناس له على أن يطلبوا بدم الحسين رضي الله عنه و خرج الضحاك بن قيس الفهري الخارجي و استمال الناس و صلى بهم ينتظر استقرار الخلافة و بويع مروان بن الحكم بالأردن و بويع خالد بن يزيد بن معاوية بعده واجتمع أهل البصرة على عبيد الله بن زياد و كان واليها في أيام معاوية و يزيد و نصبوه أميراً وسألوه أن يطلق عن الخوارج الذين في السجون فأطلقهم و فيهم نافع بن الأزرق و عبيد الله بن الماخور و قطري بن الفجاءة المازني فعاثوا في الأرض و أفسدوا و خافهم عبيد الله بن زياد على نفسه فهرب إلى الشام.
مروان بن الحكم و أخذ بيعة أهل الشام له،بويع له بالأردن سنة أربع و ستين و هو أول من أخذ الخلافة بالسيف و كان يلقب خيط باطل لطول قامته و اضطراب خلقه و فيه يقول الشاعر
لحى الله قوماً أمروا خيط باطلٍ ... على الناس يعطي من يشاء و يمنع
و سار إليه الضحاك بن قيس فاقتتلوا بمرج راهط من غوطة دمشق فقتل الضحاك و خرج سليمان بن صردٍ الخزاعي من الكوفة في أربعة آلاف من الشيعة يطلبون بدم الحسين فبعث إليه مروان عبيد الله بن زياد و الحصين بن نمير فالتقوا برأس عين فقتلوا سليمان بن صرد و تفرق أصحابه فمالت الشيعة إلى المختار بن أبي عبيد و قوي أمره فأظهره الدعوة إلى محمد بن الحنفية و الطلب بدم الحسين و مات مروان بدمشق و كانت ولايته سبعة أشهر و أياماً وبايع أهل الشام عبد الملك بن مروان.
موت مروان بن الحكم ذكروا أنه تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية و جرى بينه و بين خالد كلام فقال له يا بن الطرطبة فأحقدت المرأة فسقته سماً في الشراب فأبطأ القضاء عليه فلما كان في الليل و ضعت وسادة على وجهه و قعدت عليه حتى مات و صار إلى جهنم و مروان يعد من قتلى النساء و اختلفوا في حليته فقيل كان طوالاً وقيل كان قصيراً و كان لدة الحسين بن علي بن أبي طالب و الحسين و لد بعد الهجرة بسنتين.

ما جرى بين المختار و بين ابن الزبير و قالوا و غلب المختار على الكوفة و وجه عماله على كور الجبل و أرمينية و أفسدت الخوارج بالبصرة فولى أهلها المهلب بن أبي صفرة قتالهم إذ لم يكن لهم أمير يدفع عنهم و بعث عبد الله بن الزبير عبد الله بن المطيع والياً على الكوفة فخرج المختار بن أبي عبيد في جماعة من القراء منهم أبو إسحق الثقفي و جابر الجعفي و واقع بن المطيع فطرده و انكفى عنهم و فيه يقول
ابن مطيع لج في الشقاقيقول لما ضيق في الخناقيا قوم هل لي فيكم من واق
وبلغ الخبر ابن الزبير فأخذ محمد بن الحنفية بالبيعة له و الانقياد فقال محمد بن الحنفية أنا أولى بهذا الأمر منك إن كانت خلافة فجمع أصحاب ابن الحنفية و حبسهم معه في المسجد و أعطى الله عهداً أن يحرقهم بالنار إن لم يبايعوه فكتب محمد بن الحنفية إلى المختار بن أبي عبيد بالخبر فأرسل المختار مدداً و مالاً فدخلوا مسجد الحرام بغتةً لا علم لأحد بهم ينادون يا ثارات الحسين حتى انتهوا إلى ابن الحنفية و أصحابه قد حسبوا في الحظائر و وكل بهم الحرس يحفظونهم و جمعوا الكثير من الحطب و أعد لإحراقهم فأشعلوا النار في الحطب و أخرجوا ابن الحنفية و أصحابه معه إلى شعب علي بن أبي طالب و اجتمع عليه أربعة آلاف رجل فبايعوه ففرق فيهم الأموال التي حملها المختار إلى عبيد الله بن زياد إبرهيم الأشتر النخعي في اثني عشر ألفاً فالتقوا بالزاب من أرض الموصل فقتل عبيد الله بن زياد عليه اللعنة و الحصين بن نمير و شمر بن ذي الجوشن و عمر بن سعد و كل من شرك في قتل الحسين بن علي عليه السلام و حملت رؤوسهم إليه قال و كان ابن عمر بن سعد قائماً على رأس المختار لما دخلوا برأس أبيه فقال له المختار أتعرف هذا الرأس قال أي و الله رأس أبي حفص قال المختار الحقوا حفصاً بأبي حفصٍ فضرب عنقه و في عبيد الله بن زياد يقول يزيد بن المفرغ
إن الذي عاش ختاراً بذمته ... و مات عبداً قتيل الله بالزاب
العبد للعبد لا أصل و لا شرف ... ألوت به ذات أظفار و أنياب
ما شق جيب و لا قامتك نائحة ... و لا بكتك جياد عند أسلاب
ثم بعث ابن الزبير أخاه مصعباً على العراق فقدم البصرة و أعطاها أهلها الطاعة و أمضى للمهلب بن أبي صفرة ما كان أهلها و لوه من قتال الأزارقة و خرج إلى الكوفة و كان المختار يحتال في استمالة الناس بضروب من الحيل و كان يروي الروايات و يستعمل المخاريق و يدعي المعجزات و يزعم أن جبريل و ميكائيل يأتيانه و يأمر بعض أصحابه أن يشهد له أنه رأى الملائكة نزلت لنصرته و فيه يقول
أ لا أبلغ أبا إسحق عني ... بأن الخيل كعت مصميات
أرى عيني ما لم تبصرا ... كلانا عالم بالترهات
فزحف إليه مصعب بن الزبير فبيته المختار و قتل من أصحابه ستة آلاف و قتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب و محمد بن الأشعث بن قيس و كانا محبوسين في عسكر مصعب و لم يشعر بهما فلما كان من الغد جد مصعب في قتاله فلجأ إلى قصر الكوفة فحاصره مصعب إلى أن قتله و قتل من كان معه في القصر و هم ست آلاف و ثمان مائة رجل و أخذ عمرة بنت النعمان بن بشير و كانت تحت المختار بن أبي عبيد و عرض عليها البراءة من المختار فأبت فضرب عنقها و فيها يقول عبد الرحمن بن حسان
كتب القتل و القتال علينا ... و على الغانيات جر الذيول
و استولى مصعب على العراقين فسار إليه عبد الملك بن مروان فالتقوا بمسكن و قتل مصعب و بعث برأسه إلى عبد الملك بن خازم بخراسان و قد بايع لابن الزبير و دعا له و كتب إن بايعتني أطعمتك خراسان عشر سنين فكتب إليه ابن حازم
أعيش زبيري الحياة فإن أمت ... فإني موص هامتي بالتزبر

واستقام العراق لعبد الملك بن مروان قال عبد الملك بن عمير الليثي دخلت قصر الإمارة بالكوفة و عبد الملك بن مروان قاعد في الإيوان على سريره و بين يديه ترس و عليه رأس مصعب بن الزبير فتبسمت فقال مما تبسمت فقلت يا أمير المؤمنين أتيت عبيد الله بن زياد في هذا الإيوان بين يديه رأس الحسين بن علي ثم رأيت المختار وبين يديه رأس عبيد الله بن زياد في هذا الإيوان ثم أتيت بن الزبير في هذا الإيوان و بين يديه رأس المختار بن أبي عبيد ثم أراك و بين يديك رأس مصعب فقام عبد الملك فزعاً و أمر بهدم الإيوان قال و كذلك لما بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد و عمر بن سعد إلى محمد بن الحنفية لينصبهما في المسجد الحرام كان محمد يأكل فقال محمد الحمد لله أتي ابن زياد برأس الحسين و هو يأكل و أتينا برأس ابن زياد و نحن على هذه الحالة و في مصعب بن الزبير يقول ابن قيس الرقيات
إن الرزية يوم مسك ... ن و المصيبة و الفجيعة
بابن الحواري الذي لم ... يعده يوم الوقيعة
و لما قتل مصعب لاذ عبد الله بن الزبير بالكعبة و أظهر الزيادة في نسكه و جعل يقول بطني شبر و ما عسى أن يشبع شبر و هو أشره خلق الله و أحرصه فقيل
لو كان بطنك شبراً قد شبعت و قد ... أفضلت فضلاً كثيراً للمساكين
فإن أتتك من الأيام جائحة ... لم ينل منك شياء من دنيا و لا دين
و لا نقول إذا يوماً نعيت لنا ... إلا بآمين رب العرش آمين
مازال في سورة الأعراف يقرأها ... حتى يوارى مثل الخز في اللين
و كان يخرج للناس من تمور الصدقة و يكنز الذهب و الفضة و يقول أكلتم تمري و عصيتم أمري و خرج عبد الملك من الكوفة إلى الشام و كان الحجاج على شرطته فولاه الساقة ينزل بنزوله و يرحل برحيله فرأى عبد الملك من نفاذه و جلادته ما أعجب به و ولى الكوفة خالد بن عبد الله القسري و ولى البصرة أخاه بشراً و رجع إلى الشام و لا هم له إلا ابن الزبير فأتاه الحجاج فقال ابعثني إليه فإنه أرى في المنام كأني أقتله و أسلخ جلده فبعثه إليه فقتله و سلخ جلده و صلبه و كانت فتنة ابن الزبير تسع سنين منذ موت معاوية إلى أن مضت ست سنين من ولاية عبد الملك.
مقتل ابن الزبير قالوا و بعث عبد الملك الحجاج إلى مكة فحاصر ابن الزبير فنزل ببئر ميمون وفسد على الناس حجهم تلك السنة لأنهم وقفوا بعرفات و لم يصلوا إلى البيت و اشتد الحصار فقال له أخوه عروة بن الزبير أن لك في الصلح لإسوة بالحسن فركضه برجله و قال ما أنت بابن أبٍ و عرض عليه الحجاج الأمان و بذل له العهد فأبى أن يقبله و كان شحيحاً بخيلاً فقيل فيه
رأيت أبا بكر وربك غالب ... على أمره بغي الخلافة بالتمر
ثم اقتحم الحجاج المسجد في أصحابه و شددوا على ابن الزبير فقتلوه و من معه و سلخوا جلده و حشوه تبناً و صلبوه ويقال أصابه رمية فمات وهو ابن ثلاث و سبعين سنة و ولي الحجاج الحجاز و اليمامة و بايع أهل مكة لعبد الملك بن مروان.
ولاية عبد الملك بن مروان

يكنى أبا الذبان لبخر فمه و يلقب برشح الحجر لبخله و كان معاوية بن أبي سفيان جعله مكان زيد بن ثابت على ديوان المدينة ثم ولاه أبوه مروان هجر ثم جعله ولي عهده بعده و بويع سنة خمس و ستين بالشام و بايعه أهل مكة بعد قتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين و كتب إليه ابن عمر ببيعته و كتب إليه محمد بن الحنفية يستوثق لنفسه و أصحابه و توفي بدمشق سنة ست وثمانين و كانت ولايته من يوم مقتل ابن الزبير إلى أن مات تسع سنين و عشرة أيام ومن يوم بويع بالشام إحدى و عشرين سنة و كتب إلى عبد الله بن خازم بخراسان إن بايعتني أطعمتك خراسان عشر سنين فأبى إلا التزبر و كان بعث إليه برأس ابن الزبير فأخذه و رده إلى المدينة فكتب عبد الملك إلى بكير بن وشاح خليفة عبد الله بن خازم على مرو يأمره بالوثوب بعبد الله بن خازم فسار إليه فواقعه فقتله و ولى بكيراً خراسان و صفت المملكة لعبد الملك بن مروان و مات بشر بن مروان بالبصرة و اشتدت شوكة الخوارج بالعراق و الأهواز و المهلب يقاومهم و يدافعهم فولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراقين و كان العراق إذ ذاك من فم الرقة إلى أقصى خجند بخراسان و منها السند و الهند.
خبر الحجاج بن يوسف زعم قوم أن الحجاج بلاء صبه الله عز و جل على أهل العراق بدعوة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال اللهم أن أهل العراق قد ليسوا على ما ليس لهم اللهم عجل لهم الغلام الثقفي الذي يحكم بحكم الجاهلية لا يقبل من محسنهم و لا يتجاوز عن مسيئهم فإن الشيطان قد باض فيهم و فرخ و روى هذا الخبر أبو عرفة الحضرمي من أهل الشام و روى أن عمر أتاه خبر العراق و أنهم حصبوا أمامهم و سمعت غير واحد يقول بل كانت دعوة علي عليه السلام قال اللهم كما نصحتهم و غشوني و آمنتهم فخانوني أبعث فيهم فتى يحكم بحكم الجاهيلة هكذا الرواية و الله أعلم لأن مثل هذا من المحال إذ لا يجوز لمسلم أن يسأل ربه الجور و الظلم.
حلية الحجاج و نسبه و حرفته قالوا كان الحجاج رجلاً أخفش حمش الساقين منقوص الجاعرتين صغير الجثة دقيق الصوت أكتم الحلق و هو الحجاج بن يوسف بن الحكم بن عقيل بن مسعود بن عامر من أجلاف ثقيف و كنيته أبو محمد و أمه سمته كليباً و كان أول أمره أن يعلم الصبيان بالطائف و أول ولاية وليها تبالة بالحجاز فلما أشرف عليها احتقرها و انصرف فمن ثم يقال في المثل أهون من تبالة على الحجاج ثم ولي على شرط أبان بن مروان ثم جعله عبد الملك على ساقته عند رجوعه إلى الشام ثم بعثه لقتال ابن الزبير فقتله و ولاه الحجاز ثلاث سنين ثم ولاه العراق.
قدوم الحجاج العراق و أخباره إلى أن مات قالوا و لما دخل الحجاج العراق دخل المسجد معتماً بعمامة قد غطى أكثر وجهه متقلدا سيفاً متوكئاً قوساً فصعد المنبر و سكت ساعة حتى قال بعض الناس قبح الله بني أمية حين يستعملون مثل هذا على العراق و قال عمير بن ضابئ البجمي ألا أحصبه لكم فقالوا امهل حتى ترى فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام و نهض قائماً
أنا ابن جلا و طلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
و الله يآهل العراق إني أرى رؤوساً قد أينعت و حان قطافها و إني لصاحبها فكأني أنظر إلى دماء من فوق العمائم و اللحى
هذا أوان الحرب فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل و لا غنم ... و لا بجزار على ظهر و ضم
قد شمرت عن ساقها فشدوا ... و جدت الجرب بكم فجدوا
و القوس فيها وتر عرد ... مثل ذراع البكر أو أشد

إني و الله ما يقعقع لي بالشنان و لقد فرزت عن ذكاء و فتشت عن تجربة و إن أمير المؤمنين مثل كنانته فعجم عيدانها عوداً أعور فوجدني أشدها عوداً و أصلبها مكسرا فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم بالفتنة و اضطجعتم في مراقد الضلال و الله لأحرصنكم حرص السلمة و لأضربنكم ضرب غرائب الإبل فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعونه إني و الله ما قلت إلا وقيت و لا أهم إلا مضيته وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً بتخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا وضربت عنقه يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين فقام الغلام و قال بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى من بالكوفة من المسلمين سلام عليكم فلم يقل أحد شيئاً فقال الحجاج يا غلام اكفف يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه هذا أدب ابن نهية أما و الله لأؤدبنكم غير هذا اقرأ يا غلام فقرأ ثم نزل و وضع للناس إعطياتهم فجعلوا يأخذون حتى أتى شيخ قد انحنى كبراً فقال أيها الأمير إن بي من الضعف ما ترى وأن ابني هو أقوى على الأسفار مني افتقبله بدلاً مني فقال نفعل أيها الشيخ فلما ولى قيل له هذا عمير بن ضابئ البرجمي دخل على عثمان مقتولاً فوطئ بطنه حتى كسر ضلعين من أضلاعه فقال أيها الشيخ هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان يوم الدار بدلاً إن في قتلك لصلاحاً للمسلمين يا حرسي اضربا عنقه و فيه يقول عبد الله بن الزبير الأسدي
تجهز فإما أن تزور بن ضابئ ... عميراً وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حولياً من الثلج أشهبا
يحذر الناس عن التخلف إلى الخروج إلى قتال الأزارقة و نادى الحجاج في الناس أن عميراً أتانا بعد ثالثة قتلناه فمن وجدناه بات بعد هذه الليلة فقد برئ الله من دمه فلم يبق أحد إلا لحق بالمهلب و جد المهلب في قتال الأزارقة و هم الخوارج إلى أن مات نافع بن الأزرق فولى أصحابه عليهم عبيد الله بن ماحوز و قال شاعرهم
فلئن أمير المؤمنين أصابه ... ريب المنون ومن يصبه يعلق
نعم الخليفة من حذانا نعله ... ذاك ابن ماحوز بقية من بقي
و لما رآهم المهلب بالأمداد التي وردت عليه من جهة الحجاج أجلاهم إلى حدود الأهواز و فارس و فيه يقول
قد نفينا العدو أمس عن الجس ... ر و قد زحزحوا عن الأهواز
و طعان يهولك القرب منهواشك الخطف للنفوس العزاز و سار المهلب في إثر الخوارج إلى خراسان فوقع قطري بن الفجاءة المازني إلى طبرستان و كتب عبد الملك إلى المهلب بعهده على خراسان و قد كان وفاها مع الحكم بن عمرو الغفاري أيام معاوية و لما غرق شبيب بن يزيد الخارجي في دجيل بعد إذٍ افترقت الأزارقة فرقتين مع قطري بن فجاءة المازني و فرقة مع عبد الرب الكبير و مضوا حتى أتوا سجستان وأصل الخوارج بها منهم إلى اليوم فلحقهم المهلب و قاتلهم و قتل عبد الرب الكبير و صار قطري إلى سجستان فبعث الحجاج سفيان الكلبي في إثره حتى قتله و حمل إليه رأسه و كان يكنى أبا نعامة و قاتلهم عشرين سنة يدعي الخلافة و كان شبيب هذا أحد الرجال المذكورين بالبأس و النجدة و بلغه تهدد الحجاج إياه فجاء مع امرأته غزالة في فوارس دون عشرين حتى دخلوا الكوفة و وقفوا بباب قصر الحجاج و نادته غزالة يا حجاج هل لك في البراز فهابها و تحصن و كانت غزالة نذرت نفسها أن تبول على منبره فدخلت مسجد الكوفة و بالت على المنبر و قام شبيب في الصلاة فصلى ركعتي الفجر قرأ في أحديهما بالبقرة و في الأخرى بآل عمران و لم يجسر الحجاج أن يفتح باب قصره إلى أن انصرفوا ثم جعل الناس يقولون
أوفت غزالة نذرها ... يا رب لا تغفر لها
وقيل فيما يهجا به الحجاج بن يوسف
غزالة في مائتي فارس ... يئط العراقان منها أطيطا
و خيل غزالة تخوي النهاب ... وتسبي السبايا و تجبي النبيطا
و كتب عمران بن حطان إلى الحجاج و كان يمشي متوارياً لأنه كان يطلبه

أسد علي و في الحروب نعامة ... ربداء تجفل عن صفير الطائر
صدعت غزالة قلبه بفوارس ... تركت منابره كأمس الدائر
هلا خرجت إلى غزالة في الوغى ... أم كان قلبك في جوانح طائر
و سار المهلب إلى ما وراء النهر و غزا السغد فصالحه ملكهم طرخان على مال و انصرف عنه و بعث موسى بن عبد الله بن خازم إلى الترمذ فأغار عليها و على ما يليها و ولى عبد الملك بن مروان عبيد الله بن أبي بكرة سجستان و كان جواداً شجاعاً فغزا كابل فدهمهم العدو في مضيق التجؤا إلى عقر دوابهم فأكلوها و بلغ الرغيف سبعين درهماً فمات عبيد الله و الخلق معه بالجوع و السيف و لم يلق جيش في الإسلام ما لقوا و فيه يقول أعشى همدان
أسمعت بالجيش الذين تمزقوا ... و أصابهم ريب الزمان الأعوج
لبثوا بكابل يأكلون جيادهم ... في شر منزلة و شر معرج
لم يلق جيش في البلاد كما لقوا ... فلمثلهم قل للنوائح تنشج
ثم بعث الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس على العمال التي كان يليها عبيد الله بن أبي بكرة و جاء و غزا رتبيل بناحية بست و صالحه على مال و غزا كابل و افتتح قصوراً من قصور العجم و أصاب سبايا و غنائم و كتب إلى الحجاج فكتب إليه أن توغل في البلاد يريد بذلك هلاكه فاستعصى ابن الأشعث و جمع الجموع و توجه نحو الحجاج.
خبر عبد الرحمن بن الأشعث جمع الجموع و دعا القراء إلى مناجزة الفاسق الحجاج بن يوسف و صاحبه عبد الملك بن مروان فأجابه الخلق و أقبل إلى العراق في جمع مثل عدد النمل فيهم الشعبي و سعيد بن جبير و ابن القرية و ابن أبي ليلى و سويد بن غفلة و جابر الجعفي و أبو إسحق السبيعي و أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود و أعشى همدان و غلب على ما وراء دجلة و نفى عمال الحجاج و تسمى القحطاني و كتب إلى النواحي من عبد الرحمن ناصر أمير المؤمنين و خطب الناس فقال ألا إني قد خلعت أبا ذبان عبد الملك بن مروان فقيل فيه
خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شجر القرى و عراعر الأقوام
و سار ابن الأشعث حتى أتى تستر و جاءه الحجاج في مثل جمعه فقاتلهم ابن الأشعث و قتل منهم ثمانية آلاف رجل وانهزم الحجاج و عاد إلى البصرة و قطع القناطر و الجسور و خرج إلى الكوفة.
خروج الزنوج بالبصرة قالوا و اضطرب الأمر بخروج ابن الأشعث و نجمت النواجم و تجمع السودان فغلبوا على البصرة وأحرقوا الأسواق و انتهبوا الأموال و السلاح فبعث إليهم الحجاج فقتلهم و سباهم ثم سار ابن الأشعث حتى دخل البصرة و طالت المناهضة بينه و بين الحجاج فواقعه ثمانين و قعة بالكوفة و البصرة و أمد عبد الملك بن مروان الحجاج بأخيه محمد بن مروان و ابنه عبد الله بن عبد الملك بن مروان فبعث ابن الأشعث بماله و أهله إلى البصرة و أسر الحجاج من أصحابه ثلاثة آلاف رجل فضرب أعناقهم صبراً و هم ابن الأشعث إلى سجستان و انحاز إلى ناحية رتبيل بألفِ ألف درهم و أربعمائة ألف درهم مع عمارة بن تميم في ثلاثين فارساً على أن يسلم عليه عبد الرحمن بن الأشعث فغدر به رتبيل و سلمه إليهم فأوثقوه بالحديد على أن يحملوه إلى الحجاج فقال ابن الأشعث و الله لا يتلاعب بي الحجاج تلعب الهرة بالفأرة فرمى نفسه من فوق قصر كانوا عليه بالرخج فمات فحملوا رأسه إليه فبعثه إلى عبد الملك بن مروان فبعثه عبد الملك إلى مصر و فيه يقول الشاعر
يا بعد مصرع جثة من رأسها ... رأس بمصر و جثة بالرخج
و مات المهلب بخراسان و قد استخلف ابنه يزيد بن المهلب فعزله الحجاج و بعث قتيبة بن مسلم الباهلي مكانه و كان على الري فسار إلى خراسان و أقبل يزيد حتى إذا كان ببعض الطريق هلك عبد الملك بن مروان و صار الأمر إلى الوليد بن عبد الملك فقبض الحجاج على يزيد و أكب عليه يعذبه و ينتهب ماله فهرب من حبسه و استجار بسليمان بن عبد الملك فشفع له إلى الوليد فكف عنه و كان يزيد سرياً و قتيبة شجاعاً و فيهما يقال
كانت خراسان إذ يزيد بها ... و كل باب من الخيرات مفتوح
فاستبدلت بعده جعداً أنامله ... كأنما وجهه بالخل منضوح
الجوع يهبط في عمياء مظلمة ... لا متع الله أهل الجوح ما الجوح

قالوا كان رجلاً عيوفاً لفوعاً خبيث الولاية فأقر العمال على النواحي و في ولايته خرج قتيبة بن مسلم إلى ما وراء النهر و صار إلى مدينة بخارا و كانوا قد ارتدوا فجاشت الترك و السغد و الشاش و فرغانة و أحدقوا به أربعة أشهر ثم هزمهم و قتل منهم خمسين ألف فارس و افتتح بخارا ثم مضى حتى أناخ على سمرقند صيفية حتى افتتحها صلحاً و قتل طرخان التركي الذي جاء إلى مرو لنصرة يزدجرد و بعث برأسه و منطقته إلى الحجاج و هي المنطقة التي كانت على يزدجرد يوم قتل ثم غزا فرغانة و عاد منها إلى خوارزم فبلغ سبى هاتين مائة ألف رجل و ليس في ذكورهم و لا إناثهم كهل.
مقتل سعيد بن جبير و كان سعيد بن دبير من أفاضل الناس و كان من أفاضل التابعين كتب لعبد الله بن عتبة بن مسعود ثم كتب لأبي بردة و هو على القضاء و خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث فلما انهزم ابن الأشعث من دير الجماجم هرب سعيد إلى مكة فأخذه خالد بن عبد الله القسري و كان عاملاً للوليد عليها فبعثه إلى الحجاج فقال له الحجاج يا شقي بن كسير ألم أولك القضاء فضج أهل الكوفة و قالوا لا يصلح القضاء إلا لعربي فاستقضيت أبا بردة و امرأته أن لا يقطع أمراً دونك قال بلى قال أوما أعطيتك من المال كذا و كذا لتفرقه في ذوي الفاقات و ذوي الحاجات ثم لم أسألك عن شيء منه قال بلى قال فما أخرجك علي قال بيعة كانت لابن الأشعث في عنقي فقال كانت بيعة أمير المؤمنين أولى بك لأقتلنك فاعتذر سعيد رحمه الله و تضرع و ترحمه بصغار بناته فقال اختر أي قتلةٍ شئت قال بل اختر أنت لنفسك فإن القصاص أمامك فقتله ثم لم ينتفع بعده بعيش إلى أن مات.
موت الحجاج ذكر أنه أخذه السل و هجره الرقاد فلما أحتضر قال لمنجم عنده هل ترى ملكاً يموت قال أرى ملكاً يموت اسمه كليب فقال أنا و الله الكليب بذلك سمتني أمي قال المنجم أنت و الله تموت كذلك دلت عليه النجوم قال له الحجاج لأقدمنك أمامي فأمره فضرب عنقه و مات الحجاج في ولاية الوليد بن عبد الملك بن مروان و قد بلغ من السن ثلاثاً و خمسين سنة و ولى الحجاز و العراق عشرين سنة و كان قتل من الأشراف و الرؤساء المذكورين مائة ألف و عشرين ألفاً صبراً سوى عوام الناس و من قتل في معارك الحروب و كان مات في حبسه خمسون ألف رجل و ثلاثون ألف امرأة و مات قبل موته ابنه محمد بن يوسف في ليلة واحدة فقيل في ذلك
في ليلتين و ساعتين ... دفن الأمير محمدين
فلما مات الحجاج قالت امرأته هند بنت أسماء
ألا أيها الجسد المسجى ... لقد قرت بمصرعك العيون
و كنت قرين شيطان رجيم ... فلما مت سلمك القرين
و كان الحجاج استخلف قبل موته يزيد بن أبي كبشة السكستكي فأقره الوليد عليها و في أيام الوليد فتح طارق بن زياد مدينة الأندلس و عبر عليها من طنجة من البحر و غزا مدينة طليطلة و أصاب بها مائدة ذكر أهل الكتاب أنها كانت لسليمان بن داود عليه السلام كان حملها بعض ملوك العرب من بيت المقدس حين ظهر على بني إسرائيل و كانت خليطين من ذهب و فضة بثلاثة أطواق من لؤلؤ و ياقوت و زبجرد و كان استعمل خالد بن عبد الله القسري على مكة فأمره أن يحفر بها بئراً فحفر فخرج عليه ماء عذب فكتب إلى الوليد إن خليفة الله أكرم على الله من رسوله ابراهيم لأن ابراهيم عليه السلام استسقاه فسقاه ماء غير عذب و أمير المؤمنين سقاه ماء عذباً فراتاً و مات الوليد سنة تسع و ستين و كانت ولايته تسع سنين و ثمانية أشهر و خلف من الولد الذكور أربع عشر نفراً منهم يريد بن الوليد الناقص ولي خمسة أشهر ومات وكان حسن السيرة محمود الطريقة وابراهيم ولي شهرين ثم خلع نفسه و دخل في طاعة مروان و عمر بن الوليد يقال له فحل بن مروان و كان يركبون وراءه ستون رجلاً لصلبه.
ولاية سليمان بن عبد الملك بن مروان قالوا و كان حبراً فصيحاً نشأ بالبادية عند أخواله بني عبس فافتتح بخير و اختتم بخير و رد المظالم و آوى المسيرين و أخرج المحبسين و استخلف عمر بن عبد العزيز و عزل ابن أبي كبشة عن العراق و استعمل عليها يزيد بن المهلب فاستخلف يزيد على العراق مروان بن المهلب أخاه و سار إلى خراسان فهابه قتيبة بن مسلم فتوجه إلى فرغانة فوثب عليه و كيع ابن حسان فولاه سليمان خراسان و فيه يقول الفرزدق

و نحن قتلنا الباهلي بن مسلم ... و نحن قتلنا قبل ذاك ابن خازم
كأن رؤوس الناس إذ سمعوا بنا ... مدمغة هاماتهم بالأهائم
ثم عزل وكيع بن حسان عن خراسان و وفاها يزيد بن المهلب فافتتح جرجان.
فتح جرجان و طبرستان قالوا و كان أهل جرجان يصالحون أهل الكوفة على مائة ألف و مائتي ألف فجاءهم ابن المهلب و صالحهم على مال كثير و استخلف عليهم رجلاً من أصحابه و صار إلى دهستان و قد كان غلب عليها و على جرجان الترك فحاصرهم حتى نزلوا على حكمه فقتل أربعة عشر ألفاً منهم صبراً و مضى إلى طبرستان فصالح الأصفهبذ على مال عظيم و أربع مائة حمار موقرة زعفراناً و أربع مائة رجل على رأس كل رجل منهم ترس و طيلسان و جام من ذهب و كذا فعل عبد الرحمن بن سمرة القرشي لما حاصر زرنج صالحهم على ألف ألف درهم و ألف وصيف على رأس كل رجل جام من ذهب و كان عبد الرحمن هذا بعثه أبو موسى الأشعري إليها في أيام عثمان قالوا و قد نقض أهل جرجان العهد فحلف يزيد بن المهلب ألا يبرح حتى يقاتل المقاتلة و يسبي الذراري و تحصن القوم منه فأناخ بناحيتهم مدة لا يجد فيهم حيلة قال فخرج رجل من العسكر يتصيد فاتبع وعلاً يتوقل في جبل حتى أشرف على عورة البلد فجاء فأخبر يزيد بذلك فلما كان من الليل احتال الرجل في طائفة فاقتحموا البلد من النقرة و فتحوا باب المدينة و استولوا عليها و وكل يزيد بأبوابها و طرقها و منافذها الرجال يحفظونها و أمر بالجذوع فنصب على الطريق فراسخ ثم أخرج المقاتلة فصلبهم كلهم ثم سبي الذراري و نهب الأموال فلم يبق من الناس بجرجان إلا من هرب أو توارى إلا شيخ لا منة فيه و من المال إلا ما دفن أو لم يؤمر به فيحمل.
غزاة مسلمة بن عبد الملك الصائفة و جهز سليمان مسلمة فسار حتى بلغ القسطنطينية في مائة ألف و عشرين ألفاً و كان استصحب اليون المرعشي ليدله على الطريق و العورات و أخذ عهوده و مواثيقه على الوفاء و المناصحة فعبروا الخليج و حاصروا القسطنطينية فلما برح بهم الحصار عرضوا الفدية على مسلمة فأبى أن يفتحها إلا عنوة قالوا فابعث إلينا اليون فإنه رجل منا و يفهم كلامنا فبعثه إليهم فسألوه عن وجه الحيلة فقد ضاق عليهم الأمر فقال يا أهل القسطنطينية إن ملكتموني عليكم لم أفتحها لمسلمة فبايعوه على الملك و الأمرة فخرج اليون و قال لمسلمة قد أجابوني إلا أنهم لا يفتحون ما لم يتنح عنهم قال مسلمة أخشى و الله أن هذا منك غدر فحلف له اليون أنه يدفع كل ما في قسطنطينية من ذهب و فضة و ديباج و سبي فارتحل مسلمة فتنحى إلى بعض الرساتيق و دخل اليون فلبس التاج و قعد على سرير الملك و أمر بنقل الطعام و العلوفات من خارج فملئوا الأهراء و شحنوا المطامير و بلغ الخبر لمسلمة فعلم أنه كان غدر فأقبل راجعاً فأدرك شيئاً من الطعام و أغلقوا الأبواب دونه و بعث إلى اليون يناشده الوفاء بالعهد فأرسل إليه اليون ملك الروم لا يبايع بالوفاء و نزل مسلمة بفنائهم ثلاثين شهراً ثم رحل و انصرف و توفي سليمان بن عبد الملك بدابق سنة تسع و تسعين و كان بايع ابنه أيوب بن سليمان فمات قبله فاستخلف عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم و لما احتضر سليمان قيل له أوص فقال
إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كانت له ربعيون
إن بني صبية صغار ... أفلح من كانت له كبار
و فيه يقول الشاعر
لم يأخذ الولي بالولي ... و هدم الديماس و النسي
يا أيها الخليفة المهدي ... خليفة سمية النبي
و آمن الشرقي و الغربي
و كانت ولايته ثلاث سنين.
ولاية عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه و أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول إن من ولدي رجلاً يملأ الأرض عدلاً و كثير من الناس يقولون أنه كان المهدي و فيه يقول الشاعر
من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن و من كان جده الفاروقا

و كان أخوه الأصبغ بن عبد العزيز عالماً بخبر ما يكون و ابنته حبيبة عالمة بخبر ما يكون و ذلك لعلم وقع إليهم و يقال لعمر أشج بني أمية و ذلك أنه ضربته دابة في وجهه فلما رآه الأصبغ أخذه و قال الله أكبر أشج بني مروان الذي يملك قال الأصمعي هو في كتاب دانيال الدردق الأشج فلما بايعوه و صعد المنبر أمر برد المظالم و وضع اللعنة عن أهل البيت رضي الله عنهم و حض على التقوى و التواصل و قال و الله ما أصبحت و بي على أهل القبلة موجذة إلا على إسراف و مظلمة ثم تصدق بثوبه و نزل فكتب إليه عمر بن الخارجي
لئن قصدت سبيل الحق يا عمر ... أخاك في الله أمثالي و أشباهي
و إن لحقت بقوم أنت وارثهم ... وسرت سيرتهم فالحكم لله
و عزل عمر بن عبد العزيز يزيد بن المهلب عن خراسان و طالبه بالأموال التي أصابها من جرجان و كان يقول لا أحب آل المهلب لأنهم جبابرة و يزيد ين المهلب كان يقول إني لأظنه مرائياً و ولى خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغفاري و العراق عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب و كان ينزل خناصرة من أرض الشام فلما مرض دخل عليه بعض بني أمية فرآه على فراش من ليف تحته وسادة من أدم مسجى بشملة ذابل الشفة كاسف اللون فسبح الله و بكى و قال يرحمك الله لقد خوفتنا بالله عز و جل و أيقنت لنا ذكراً في الصالحين و مات رحمه الله بدير سمعان و هو ابن تسع و ثلاثين سنةً سنة إحدى و مائة و كانت ولايته سنتين و خمسة أشهر و أياماًً فقيل فيه
قد غيب الدافنون اللحد إذ دفنوا ... بدير سمعان قسطاس الموازين
من لم يكن همه أرضاً يفجرها ... و لا النخيل و لا ركض البراذين
و لما مات عمر بن عبد العزيز هرب يزيد بن المهلب عن حبسه و صار إلى البصرة و استجاش و دعا إلى التبرئ من بني أمية و الرجوع إلى الكتاب و السنة و في أيام عمر بن عبد العزيز تحركت دولة بني هاشم.
مروان صاحب حبابة و لما ولى استعمل على العراقين و خراسان عمرو بن هبيرة الفزاري و بعث زيد بن مسلمة بن عبد الملك لقتال يزيد بن المهلب فقتله و بعث برأس يزيد إلى يزيد و كان يزيد صاحب لهو و قصف و شعف لحبابة و استهتر بذكرها ثم عزم على الرشد و التشبه بعمر بن عبد العزيز فخشيت حبابة على حظها منه فسألت الأحوص أن يعمل لها أبياتاً تزين اللهو و الطرب فقال
ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا ... فقد غلب المحزون أن يتخلدا
ركبت الصبي جهدي فمن شاء لامني ... و من شاء آسا في البلاء و أسعدا
إذا كنت عزهاة عن اللهو و الصبى ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ و تشتهي ... و إن لام فيه ذو الشنان و فندا
فلما غنته بهذه الأبيات أقبل يرددها و عاد إلى ما كان عليه ثم خلى يوماً بحبابة و قال لحجابه و خدمه لا تأذنوا علي اليوم لأحد و لا تنهوا إلي خبراً و لا تفتحوا علي باب المقصورة و إن أمرتكم و صحت بكم لأنفرد اليوم و آخذ حظي منها فلما استقر بهما المجلس و أخذ الشراب منهما غنته عمرك إني لاحب سلعاً فقال لو شئت لنقلت إليك حجراً حجراً فقالت إنما أحب من به لا حجره ثم فلقت رمانة فتنقل بها فغصت بها فماتت فجعل ينادي الخدم و الحشم و يناشدهم و هم عنه معرضون لأمره الأول فبقي معها و هي ميتة طول نهاره إلى أن أمسى ثم خرج في جنازتها يحملها على عاتقه و عاش بعدها خمسة عشر يوماً و مات سنة خمس و مائة و كانت ولايته أربع سنين و شهراً.
ولاية هشام بن عبد الملك يقال له أحول بني أمية و يكنى أبا الوليد و لما بويع له عزل عمرو بن هبيرة عن العراق و ولاها خالد بن عبد الله القسري ثم ولاها يوسف بن عمر و في أيامه خرج زيد بن علي بن أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم.

مقتل زيد بن علي بن الحسين وذلك أنه قدم الكوفة و أسرعت إليه الشيعة و قالوا إنا لنرجو أن يكون هذا الزمان الذي يهلك فيه بنو أمية و جعلوا يبايعونه سراً وبلغ الخبر يوسف بن عمر فأمر زيداً بالخروج و بايعه أربعة عشر ألفاً على جهاد الظالمين و الدفع على المستضعفين و يوسف بن عمر جاد في طلبه و تواعدت الشيعة بالخروج و جاؤوا إلى زيد فقالوا ما تقول في أبي بكر و عمر فقال ما أقول فيهما إلا خيراً فتبرؤوا منه و نكثوا بيعته و سعوا به إلى يوسف بن عمر فبعث في طلبه قوماً فخرج زيد ولم يخرج معه إلا أربعة عشر رجلاً فقال جعلتموها حسينية ثم ناوشهم القتال فأصابه سهم بلغ دماغه فحمل من المعركة و مات تلك الليلة و دفن فلما أصبحوا استخرجوه من قبره و صلبوه فأرسل هشام إلى يوسف بن عمر أن حرق عجل العراق فحرقوه و هرب ابنه يحيى بن زيد حتى أتى بلخ و قال
خليلي عني بالمدينة بلغا ... بني هاشم أهل النهى و التجارب
لكل قتيل معشر يطلبونه ... و ليس لزيد بالعراقين طالب
و قال الكميت و كان دعاه زيد عند خروجه إلى نصرته فلم يجبه
دعاني ابن الرسول فلم أجبه ... ألا يا لهف للرأي الوثيق
حذار منيةٍ لا بد منها ... و هل دون المنية من طريق
و رأيت في كتاب تأريخ خورزاذ أن شريكاً قال رأيت سفيان الثوري متأبطاً يحرس جذع زيد و رزقه ثلاثة دراهم في كل يوم وكان من أعوان الشرط و الله أعلم و مات هشام برصافة من أرض قنسرين سنة خمس و عشرين و ماية و كانت ولايته عشرين سنة إلا شهراً.
ولاية الوليد بن يزيد بن عبد الملك و يقال له الخليع بن الفاسق و كان صاحب لعب و لهو الذي يقول
أشهد الله و الملائكة الأب ... رار و العابدين أصل الصلاح
أنني أشتهي السماع و شرب الب ... راح و العض في الخدود الملاح
و قال يوم أتاه نعي هشامٍ
طاب نومي و طاب شرب السلافة ... إذ أتاني نعي من بالرصافة
و كان يكتب إلى الناس
ضمنت لكم إن لم تعقني منيتي ... بأن سماء الضر عنكم ستقلع
ولما صار الأمر إليه ولي عشور المدينة و سوقها ابن حرملة و هو لعثمان بن عفان فكان إذا تزوج رجل امرأة أخذ الزكاة من مهرها و إن مات أحد أخذ الزكاة من ميراثه فقالوا فيه
و لما وليت السوق أحدثت سنة ... و حيدية يعتادها كل ظالم
و شاركت نسواناً لنا في مهورها ... و من مات منا غنى و عادم
مقتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام و لما قتل زيد بالكوفة هرب يحيى بن زيد حتى أتى بلخ فكتب يوسف بن عمر إلى نصر بن سيار يأمره بطلبه و أذكى عليه العيون حتى ظفر به و كان نصر يتشيع سراً فكتب إلى الوليد فسار حتى إذا كاد يخرج من حدود خراسان خشي اغتيال يوسف بن عمر فكر راجعاً إلى شابوركرد فاحتشد سلم بن الأعور و قاتلهم فهزمهم و سار حتى إذا كان بأرض الجوزجان لحقه سلم فقتله و صلبه و حدثني أبو طالب الصوفي باخميم أن الوليد هذا لعنه الله كان ماجناً سفيهاً قليل الديانة يستهدف المصحف و يرميه و يقول
تهدد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ ... فقل يا رب خرقني وليد
وكان نصر بن سيار كتب إليه يخبره أمر علي بن الكرماني و اجتماع الشيعة فكتب في جوابه أن كل خراسان واكفيه فإني مشغول بالغريض و معبد و ابن عائشة و كانت ولايته سنة و شهرين.
ولاية يزيد بن الوليد بن عبد الملك و إنما سمي الناقص لأنه نقص الجند من أرزاقهم و كان محمود السيرة مرضي الطريقة و كانت ولايته خمسة أشهر و مات فلما ولي مروان استخرجه من قبره و صلبه و يقال أنه مذكور في الكتب بحسن السيرة و العدل كما قال بعضهم يا مبذر الكنوز يا سجاداً بالأسحار كانت ولايتك و وفاتك فتنة أخذوك فصلبوك.
ولاية إبرهيم بن الوليد بن عبد الملك و ولاية عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، بويع إبرهيم و بويع بعده عبد العزيز و لم يبايعهما مروان بن محمد و طلب الخلافة لنفسه

و كان سبب ذلك أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك جعل ولي عهده من بعده ابنه الحكم بن الوليد فقتل مع أبيه الوليد يوم قتل و كان قال
فإن أهلك أنا و ولي عهدي ... فمروان أمير المؤمنينا
فقاتلهم مروان و هزمهم ثم جاء إبرهيم بن الوليد و خلع نفسه و دخل في طاعة مروان فلما رأى ذلك عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بعث يزيد بن خالد بن عبد الله القسري إلى السجن و قتل يوسف بن عمر بن هبيرة بخالد بن عبد الله و كانت ولاية إبرهيم شهرين و نصفاً.
ولاية مروان بن محمد بن مروان بن الحكم يقال له مروان الجعدي و يلقب بحمار الجزيرة و كانت بنو أمية يكرهون الإماء لأنه بلغهم أن ذهاب ملكهم على رأس أمة و مروان أمة كردية و قيل له الجعدي لأن جعد بن درهم الزنديق كان غلب عليه و فيه يقول الشاعر
أتاك قوم برجال جرد ... مخالفاً ينثر دين الجعد
مكذباً يجحد يوم الوعد
وبويع مروان سنة سبع و عشرين و صار الأمر إلى بني العباس سنة اثني و ثلاثين و مائة و قتل مروان في هذه السنة و كانت ولايته خمس سنين و خرج عليه الضحاك بن قيس الخارجي من شهرزور فقاتله و استعمل مروان على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة و أقر نصر بن سيار على خراسان ثم أنتفض أمر بني أمية بظهور أبي مسلم الخرساني.
الفصلالفصل الثاني و العشرون

في صفة بني هاشم و عدة خلفاء بني العباس
من اثنتي و ثلاثين و مئة إلى سنة خمسين و ثلاثمائة
ابتداء أمرهم

روي في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم العباس استيلاء ولده على الخلافة و استأذنه العباس في أن يختص أو يجب مذاكيره فقال لا فإنه أمر كائن و الله أعلم بالحق و الصدق و مات العباس رضي الله عنه في خلافة عثمان بن عفان و دفن بالبقيع و جلس عثمان على قبره حتى دفن و مات عبد الله بن العباس بالطائف في فتنة بن الزبير سنة ثمان و ستين و من ولده علي بن عبد الله أبو الخلفاء و يقال له السجاد لأنه كان يصلي كل يوم و ليلة ألف ركعة و روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه افتقد يوماً عبد الله بن العباس في وقت صلاة الظهر فسأل عنه فقالوا ولد له مولود فقضى علي صلاته فقال امضوا بنا إليه فأتاه و هنأه وقال ما سميته فقال ما يجوز لي أن أسميه حتى تسميه فأخذه و حركه و دعا له ثم رده إليه و قال خذ إليك أبا الأملاك و يقال هاك أبا الخلفاء و قد سميته علياً و كنيته أبو محمد و كان يدعى السجاد ذات الثفنات لأنه له خمس مائة أصل زيتون و كان يصلي كل يوم إلى كل أصل ركعتين وضربه الوليد بن عبد الملك بالسياط مرتين إحداهما في تزويجه بنت عبد الله بن جعفر و كانت عند الملك بن مروان فطلقها لأنه عض على تفاحة ثم رمى بها إليها فأخذت سكيناً فقال ما تصنعين قالت أميط الأذى عنها فكان عبد الملك أبخر فطلقها فقال له الوليد لم تزوجت بها قال لأني ابن عمها و قد أرادت الخروج من هذا البلد فزوجتها لأكون لها محرماً فقال الوليد إنما تتزوج بأمهات الخلفاء لتضع منا لأن مروان بن الحكم تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية لتضع منه و الثانية في قوله إن هذا الأمر يكون في ولدي قال ابن الكلبي فضربه سبع مائة سوط وحمله على بعير و وجهه مما يلي ذنب البعير و صائح يصيح عليه هذا علي بن الله الكذاب فأتاه آت فقال ما هذا الذي نسبوه إليك فقال بلغهم قولي أن هذا الأمر سيكون في ولدي قال و الله ليكونن حتى يملكهم عبيدهم الصغار الأعين العراض الوجوه يعني الترك و قد روى الواقدي أن علي بن عبد الله ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه و كانت بنو أمية يمنعون بني هاشم من تزويج الحارثية للخبر المروي أن هذا الأمر يتم لابن الحارثية فلما قام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بالأمر أتاه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فقال إني أريد أن أتزوج ابنة خالي من بني الحارث بن كعب أفتأذن لي قال تزوج من شئت فتزوج ريطة بنت عبد الله بن عبد المدان فأولدها أبا العباس و كان بين محمد و أبيه علي أربعة عشر سنة قالوا و دخل علي بن عبد الله بن العباس على هشام بن عبد الملك و معه الخليفتان أبو العباس و أبو جعفر فقال هشام إن هذا الشيخ قد اختل و اختلط يقول أن هذا الأمر ينتقل إلى ولده فسمع علي فالتفت إليه فقال و الله ليكونن و يملكن هذان و أشار إليهما و كان محمد بن الحنفية أخبر محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أن الخلافة صائرة إلى ولده فقال له إذا مضت مائة سنة فوجه دعاتك و اعلم أن الأمر يتم لابن الحارثية من ولدك فابتدأ الإمام محمد بن علي في دعاء الناس سنة مائة فأول من استجاب له أربعة نفر من أهل الكوفة المنذر الهمداني و أبو رياح النبال و أبو عمر البزاز و مصقلة الطحان و أمرهم أن يدعو الناس إلى إمارته و لا يجوز الكوفة فاستجاب لهم نفر بكر بن ماهان المروزي و أبو سلمة الخلال و غيرهما فاستأذنوه في بث الدعوة فقال محمد الإمام الكوفة شيعة علي و البصرة شيعة عثمان و الشام لا يعرفون إلا آل أبي سفيان و مكة و المدينة قد غلب عليها أبو بكر و عمر لكن عليكم بخراسان فإني أتفاءل إلى مطلع الشمس سراج الدنيا و مصباح الخلق و كان هذا في سنة مائة من الهجرة في ولاية عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه و في سنة إحدى و مائة وجه أبو رياح النبال دعاته إلى خراسان يدعون إلى إمامة بني هاشم و ولاية أهل البيت فجعلوا يدعونهم سراً و استجاب لهم ناس فلما كان سنة أربع و مائة قدم أبو عكرمة من خراسان على محمد بن علي الإمام في جماعة من أصحابه و قد مهدوا الأمر له و في هذه السنة ولد أبو العباس فأخرجه إليهم محمد في خرقة و قال إن الأمر يتم لهذا و يقوم به حتى تدركوا آثاركم من عدوكم و كان في ولاية هشام بن عبد الملك بن مروان وجه أبو هاشم بكر بن ماهان المروزي أبا محمد الصادق في جماعة من الشيعة إلى خراسان دعاة

فنزلوا مرو الروذ فاستجاب لهم قوم فنقبوا عليهم اثني عشر نقيبا منهم سليمان بن كثير الخزاعي و قحطبة بن شبيب الطائي و لاهز بن قريظ التميمي فوشى بهم واشٍ إلى أسد بن عبد الله القسري أخي خالد بن عبد الله و كان خليفة على خراسان لهشام بن عبد الملك فقبض عليهم فقطع أيديهم و أرجلهم و صلبهم و عفا أثر القوم إلى سنة سبع عشرة و مائة ثم تحولوا و أفشوا الدعوة فأخذ أسد بن عبد الله لاهز بن قريظ فضربه ثلاثمائة سوط و ألجم موسى بلجام ثم جذبه فحطم أسنانه و ضرب من أصحابه و من تباعهم و خلى سبيلهم و في سنة ثمان عشرة و مائة مات أبو محمد علي بن عبد الله بن العباس بالحميمة من أرض الشام و في هذه السنة وجه بكر بن ماهان عمار بن بديل واليا على الشيعة بخراسان فجاء حتى نزل مرو و غير اسمه و تسمى بخداش فسارع الناس إلى الاستجابة له ثم لم يلبث أن غير ما دعاهم إليه و مثل لهم الباطل في صورة الحق فرخص لبعضهم في نساء بعض و هو أول من أبدأ مذهب الباطنية في الأرض و زعم أنه أمر الإمام محمد بن علي و دينه و شريعته فأخذه أسد بن عبد الله القسري فقطع يديه و رجليه و لسانه و سمل عينيه و فعل من ظفر به من أصحابه كذلك ثم كتبت الشيعة من خراسان إلى الإمام محمد بن علي بأن يقدم عليهم و الإمام مشمئز منهم لاتباعهم رأي خداش فكتب إليهم كتاباً فلما فكوه لم يجدوا فيه غير بسم الله الرحمن الرحيم فهالهم ذلك و عرفوا أن ما جاءهم به خداش باطل ثم وجه الإمام بكر بن ماهان و كتب معه أن خداشاً حمل الشيعة على غير منهاجه فكذبه من بقي منهم على رأس خداش و استخفوا به فرجع و رده إليهم ثانياً و معه عصياً و أمره أن يدفع إلى كل رجل من الرؤساء و الدعاة و النقباء عصىً يكون علامة بينه و بينهم لأن أبا رياح النبال كان وعدهم ذلك من الإمام فلما أتاهم بها عرفوا أنه الحق تابوا و رجعوا و في سنة خمس و عشرين و مائة سار النقباء من خراسان إلى الكوفة فأتوا يونس بن عاصم العجلي و هو في حبس ابن هبيرة و أبو مسلم غلامه يخدمه و قد فهم الدعوة و سارع إليها فلما رأته النقباء و فيه العلامات تفرسوا فيه ارتفاع الأمر على يديه ثم سارت النقباء إلى مكة فلقوا الإمام إبرهيم بن محمد بن علي فأخبروه بخبر أبي مسلم و أعطوه مالاً كانوا حملوه من خراسان فقال لهم إبرهيم إن كان أبو مسلمٍ عبداً فاشتروه وإن كان حراً فخذوه معكم و في سنة ثمان و عشرين و مائة في ولاية مروان بن محمد وجه إبرهيم الإمام أبا مسلم إلى خراسان و كتب معه إلى الشيعة بتأميره عليهم فوقعت الفتنة بخراسان و ذلك أنه لما قتل يحيى بن زيد بن علي رضي الله عنهم اختلف الناس فحبس نصر بن سيار علي بن الكرماني في قهندز مرو و احتال بن الكرماني و انسل من مجرى الماء و جمع الناس و احتشد و زعم أنه يطلب الكتاب و السنة و الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يرضى بنصر و عماله ولاة على المسلمين.زلوا مرو الروذ فاستجاب لهم قوم فنقبوا عليهم اثني عشر نقيبا منهم سليمان بن كثير الخزاعي و قحطبة بن شبيب الطائي و لاهز بن قريظ التميمي فوشى بهم واشٍ إلى أسد بن عبد الله القسري أخي خالد بن عبد الله و كان خليفة على خراسان لهشام بن عبد الملك فقبض عليهم فقطع أيديهم و أرجلهم و صلبهم و عفا أثر القوم إلى سنة سبع عشرة و مائة ثم تحولوا و أفشوا الدعوة فأخذ أسد بن عبد الله لاهز بن قريظ فضربه ثلاثمائة سوط و ألجم موسى بلجام ثم جذبه فحطم أسنانه و ضرب من أصحابه و من تباعهم و خلى سبيلهم و في سنة ثمان عشرة و مائة مات أبو محمد علي بن عبد الله بن العباس بالحميمة من أرض الشام و في هذه السنة وجه بكر بن ماهان عمار بن بديل واليا على الشيعة بخراسان فجاء حتى نزل مرو و غير اسمه و تسمى بخداش فسارع الناس إلى الاستجابة له ثم لم يلبث أن غير ما دعاهم إليه و مثل لهم الباطل في صورة الحق فرخص لبعضهم في نساء بعض و هو أول من أبدأ مذهب الباطنية في الأرض و زعم أنه أمر الإمام محمد بن علي و دينه و شريعته فأخذه أسد بن عبد الله القسري فقطع يديه و رجليه و لسانه و سمل عينيه و فعل من ظفر به من أصحابه كذلك ثم كتبت الشيعة من خراسان إلى الإمام محمد بن علي بأن يقدم عليهم و الإمام مشمئز منهم لاتباعهم رأي خداش فكتب إليهم كتاباً فلما فكوه لم يجدوا فيه غير بسم الله الرحمن الرحيم فهالهم ذلك و عرفوا أن ما جاءهم به خداش باطل ثم وجه الإمام بكر بن ماهان و كتب معه أن خداشاً حمل الشيعة على غير منهاجه فكذبه من بقي منهم على رأس خداش و استخفوا به فرجع و رده إليهم ثانياً و معه عصياً و أمره أن يدفع إلى كل رجل من الرؤساء و الدعاة و النقباء عصىً يكون علامة بينه و بينهم لأن أبا رياح النبال كان وعدهم ذلك من الإمام فلما أتاهم بها عرفوا أنه الحق تابوا و رجعوا و في سنة خمس و عشرين و مائة سار النقباء من خراسان إلى الكوفة فأتوا يونس بن عاصم العجلي و هو في حبس ابن هبيرة و أبو مسلم غلامه يخدمه و قد فهم الدعوة و سارع إليها فلما رأته النقباء و فيه العلامات تفرسوا فيه ارتفاع الأمر على يديه ثم سارت النقباء إلى مكة فلقوا الإمام إبرهيم بن محمد بن علي فأخبروه بخبر أبي مسلم و أعطوه مالاً كانوا حملوه من خراسان فقال لهم إبرهيم إن كان أبو مسلمٍ عبداً فاشتروه وإن كان حراً فخذوه معكم و في سنة ثمان و عشرين و مائة في ولاية مروان بن محمد وجه إبرهيم الإمام أبا مسلم إلى خراسان و كتب معه إلى الشيعة بتأميره عليهم فوقعت الفتنة بخراسان و ذلك أنه لما قتل يحيى بن زيد بن علي رضي الله عنهم اختلف الناس فحبس نصر بن سيار علي بن الكرماني في قهندز مرو و احتال بن الكرماني و انسل من مجرى الماء و جمع الناس و احتشد و زعم أنه يطلب الكتاب و السنة و الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يرضى بنصر و عماله ولاة على المسلمين.

ابتداء خروج أبي مسلم فتشوشت لذلك واضطربت فأصاب أبو مسلم الفرصة و جد في إقامة الدعوة و نصر بن سيار يناوش ابن الكرماني لا يتفرغ لأبي مسلم و قد بث الدعاة في الأقطار فدخل الناس أفواجاً أفواجاُ و فشت الدعوة ثم كتب الإمام إبرهيم إلى أبي مسلم أن يوافي الموسم و يحمل ما جبى من الأموال فخرج أبو مسلم و حمل ثلاثمائة و ستين ألف درهم سوى الأمتعة و الحمولات و خرج معه النقباء و عدة من الشيعة فلقيه كتاب الإمام في الطريق و لواء عقده له يأمره بالانصراف إلى خراسان و إظهار الدعوة فبعث قحطبة بن شبيب بالمال و عاد أبو مسلم حتى قدم مرو مستخفياً و واعداً الشيعة في الآفاق و النواحي أن يوافوه يوم الفطر فخرج و أمر قاسم بن مجاشع أن يصلي بهم و هي أول جماعة بني العباس ثم كتب أبو مسلم إلى الشيعة في الكوفة بإظهار الدعوة و مكاشفة أعمال أعوان بني أمية وأقبل أبو مسلم حتى نزل خندق نصر بن سيار و عند خندق علي بن الكرماني و كثرت جموعه و هو يظهر لكل واحد منهما و يعده النصر على صاحبه فلما قوي أمره و تكاشف بؤسه هابه الفريقان و كتب نصر بن سيار إلى مروان يخبره بذلك
أرى خلل الرماد وميض جمر ... و يوشك أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تدكى ... وإن الشر ينتجه الكلام
أقول من التعجب ليت شعري ... أيقاظ أمية أم نيام
فكتب إليه مروان أما بعد فإن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فاحسم الثؤلول قبلك فقال نصر لأصحابه قد أعلمكم صاحبكم أنه لا قوة عنده فاحتالوا لأنفسكم ثم لم يلبث نصر إلا قليلاً حتى خرج هارباً إلى نيسابور و بعث أبو مسلم في إثره ففاته و بعث في الليل إلى منازل قواده و نقبائه فاستحضرهم و ضرب أعناقهم و نصب رؤوسهم في المسجد فلما أصبح الناس و نظروا إليها هالهم ذلك و دخلهم رعب عظيم و عظم أبو سلم في نفوسهم و انكسرت مضر و بعث قحطبة بن شبيب الطائي في أثر نصر بن سيار و خرج قحطبة على طريق جرجان و فيها ابن حنظلة عامل لمروان فخرج إليه فقاتله قحطبة فقتله و خرج نصر بن سيار إلى ساوة فمات بها و سار قحطبة إلى الري و وافى أبو مسلم نيسابور ليكون ردءاً لقحطبة و جعل يمده بالأموال و الرجال فبعث ابنه الحسن بن قحطبة إلى نهاوند فاستنزلهم و بذل لهم الأمان إلا من كان من أهل خراسان فإنه قتلهم كلهم لأنهم خرجوا من خراسان عند ظهور أبي مسلم و سار قحطبة إلى العراق و جاء يوسف بن عمر بن هبيرة خليفة مروان على العراق حتى نزل جلولاء وخندق بها و نزل قحطبة حلوان و قدم ابنه إلى خانقين و أبو مسلم يقدم ابن الكرماني في هذه الأحوال كلها و يسلم عليه بالإمارة و يريه أنه يتبعه و يعمل برأيه استظهاراً منه على ربيعة و مضر فلما أفنى ربيعة و مضر وثب على ابن الكرماني فقتله و صفت المملكة له و أمد قحطبة بالأموال و الرجال فلما ترادفت الامداد إليه سار إلى جلولاء وانصرف يوسف بن عمر بن هبيرة إلى العراق و استولى قحطبة على ما وراء دجلة و أبو سلمة السبيعي رأس النقباء بالكوفة في جمع كثير من العرب و الخراسانية و هي سنة إحدى وثلاثين و مائة و حج في هذه السنة الإمام إبرهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس و معه أخواه أبو العباس و أبو جعفر و ولده و مواليه على ثلاثين نجيباً عليهم الثياب الفاخرة و الرحال و الأثقال فشهره أهل الشام و أهل البوادي و الحرمين معما انتشر في الدنيا من ظهور أمرهم و بلغ مروان خبر حجهم فكتب إلى عامله بدمشق الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم يأمره بتوجيه خيل إليه و كان مروان بأرض الجزيرة يقاتل الشراة فوجه إليه الوليد خيلاً فهجموا على إبرهيم فأخذوه و حملوه إلى سجن حران و أثقلوه بالحديد و ضيقوا عليه الحلقة حتى مات فدفن بقيده و لما أحس إبرهيم بالطلب أوصى إلى أبي العباس و نعى نفسه إليه و أمره بالمسير إلى الكوفة بأهل بيته فسار أبو العباس و أخوه أبو جعفر و عماه داود بن علي و عبد الله بن عبد الله بن العباس و ابن عمه موسى بن داود بن علي ستة رجال شايعهم يحيى بن جعفر بن شمام بن العباس حتى قدموا الكوفة مستخفين و جاء الشيعة نعي إبرهيم الإمام فقال أبو هدبة
ناع نعى لي إبرهيم قلت له ... شلت يداك و عشت الدهر حيرانا

نعى الإمام و خير الناس كلهم ... أخنت عليه يد الجعدي مروانا
و أنزلهم أبو سلمة في دار و كتم أمرهم و قال ينبغي أن يتربصوا فإن الناس بايعوا إبرهيم و قد مات و لعل يحدث بعده أمر و أراد أن يصرف الأمر إلى علي بن أبي طالب لأن أول الأمر كان دعوا الناس إليهم فكانوا في حصنه نحواً من شهرين و عسكر أبو سلمة بحمام أيمن و فرق عماله في السهل و الجبل و كتب إلى جعفر بن محمد وإلى عبد الله بن الحسين و إلى عمر بن الحسين بن علي و دفعها إلى رجل و أمره أن يلقى جعفر بن محمد فإن قبل ما كتب به إليه مزق الكتابين و إن لم يقبل لقي عبد الله بن الحسين بن الحسن فإن قبل مزق الكتاب الثالث فإن لم يقبل لقي عمر بن علي بن الحسين بن علي فقدم الرسول المدينة و لقي جعفر بن محمد بالكتاب ليلاً فقرأ الكتاب وسكت فقال له الرسول ما تجيب فقدم الكتاب من السراج و أحرقه و قال هذا جوابه فلقي الرسول عبد الله بن الحسين بن الحسن و أوصل الكتاب إليه فقبل و أجاب إلى ذلك فأشار عليه جعفر بن محمد بالإعراض عنه فإن أبا سلمة مخدوع مقتول و إن هذا الأمر لا يتم لكم فإن أبا هاشم أخبرهم أنه يكون في ولد العباس و فات الوقت الذي كان قوم ينتظرونه بخروجهم فارتاب أهل خراسان فاجتمعوا إلى أبي سلمة و قالوا قد خرجنا من قعر خراسان إليك و قد مضى من الوقت ما ترى فإما أن تخرج إلينا الإمام الذي دعوتنا إليه و إما أن نعود إلى أوطاننا و كان الناس يسمونهم المسودة لسواد ثيابهم و كتب أبو مسلم إلى قحطبة أن صادم ابن هبيرة فالتقيا بفم الزاب و هو على عشرين فرسخاً من الكوفة فانهزم ابن هبيرة و مضى إلى واسط و تحصن فيها و فقد قحطبة فلم يدر أقتل أم غرق و ولى أمر المسودة حميد بن قحطبة فسار في إثر ابن هبيرة فحاصره و كان أبو مسلم واعد إبرهيم الخروج يوم كذا من شهر كذا و بعث معهم القواد و النقباء الذين كانوا استجابوا له و تابعوه إلى الكوفة لذلك اليوم و بعث معهم بالسواد و السيف و المراكب و ما يحتاج الإمام إليه من المال و الفرش و الأثاث و السلاح ففات الوقت و لم يروا من ذلك شيئاً لموت إبرهيم و غدر أبي سلمة و كان يقال لأبي سلمة وزير آل محمد فناظروا بأبي سلمة في ذلك و ألحوا عليه فقال أبو سلمة لا تعجلوا و جعل ينتظر ورود من كاتبهم من العلوية و كان أبو حميد السمرقندي أحد القواد أهدى غلاما خوارزمياً يقال له سابق إلى الإمام إبرهيم فلقيه في بعض الطريق فسأله عن الإمام فأخبره أنه في دار بني فلان و أن أبا سلمة ينهاه عن الظهور و الخروج فقال له أبو حميد خذني إليه لا أفعل إلا بإذنه قال فاستأذنه و أعلمني فذهب سابق إليهم فأخبرهم بخبر أبي حميد فخشوا و هابوا و قالوا لا نأمن إن أظهرنا حميداً على أمرنا أن يقتلنا أبو سلمة لأنه كان يحذرهم الخروج فقال أبو العباس إلى متى نحن في خفية و قد أوعدنا أبو هاشم أن الأمر صائر إلينا فهات أبا حميد فخرج سابق إلى أبي حميد فجاء به فلما بلغ الدار قال له سابق ألق عنك سلاحك و سوادك فإنهم يهابونك فألقى سلاحه ثم دخل فلما رأى شيعتهم سلم عليهم و وقف و قال من إبرهيم الإمام منكم قالوا ذاك قد مضى لسبيله فاسترجع و ترحم عليه و عزاهم عنه ثم قال من ابن الحارثية منكم فأشاروا إلى ابن العباس فسلم عليه بالخلافة و قبل الأرض بين يديه و قال هذا إمامكم و خليفتكم و خرج فأخبر القواد و النقباء فأسرعوا إليه و سروا به و سلموا عليه بالخلافة وبلغ الخبر أبا سلمة فانتفض عليه تدبيره و جاء فاعتذر و قال إنما أردت بما فعلت الخير فقال له أبو العباس قد عذرناك غير معتذر حقك لدينا معظم و سالفتك في دولتنا مشكورة و زلتك مغفورة فارجع إلى معسكرك لا يدخله خلل.

ابتداء خلافة بني العباس و خرج أبو العباس ليلة الجمعة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول في مثل مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم هجرته سنة اثنتين وثلاثين و مائة و عليه دراعة سوداء و كساء أسود فصلى المغرب في مسجد بني أيوب فهي أول صلاة صلاها في الخلافة و دخل منزله فلما أصبح غدا القواد في التعبية و الهيبة و قد أعدوا له السواد و المركب و السيف فخرج أبو العباس في من معه إلى قصر الإمارة ثم خرج إلى المقصورة و صعد المنبر و جلس و صعد معه عمه داود بن علي و كان فصيحاً بليغاً و قد اجتمع القواد و أعيان الناس فقال و الله ما قام على منبركم هذا أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق به من علي بن أبي طالب رضي الله عنه و أمير المؤمنين هذا أبسط يدك أبايعك فبسط يده فقال داود أنا داود بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب و قد بايعتك ثم نزل فصعد أبو جعفر أخوه فبايعه ثم بايعه أهل بيته و بنو هاشم ثم القواد ثم الرعايا و لم يزالوا يضربون على يده إلى أن أذن للصلاة قام أبو العباس فخطب و صلى ثم ركب حتى أتى معسكر أبي سلمة حفص بن سليمان فنزل و جاء أبو سلمة فبايعه و بايعه أهل عسكره فوجه أخاه أبا جعفر لمعاضدة ابن قحطبة و وجه عمه عبد الله بن علي إلى مروان و هو نازل بالزاب و ولى خالد بن برمك الخراج ابن أبي ليلى القضاء و سابق الخوارزمي الشراب و أكمن رجالاً ففتكوا بأبي سلمة و أرجفوا بأن الخوارج قتلته ثم ارتحل أبو العباس من الهاشمية إلى الحيرة فنزلها و بعث الوفود ببيعته في سلطانه و استأمن ابن هبيرة فآمنوه و قتلوه و واقع عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس مروان بن محمد فهزمه و انتهب معسكره فمر مروان على وجهه حتى أتى الموصل فلم يفتح له و مضى فعبر جسر الفرات فوق حران و أحرق السفن فنزل عبد الله بن علي على الفرات يصلح السفن ليعبر و فتح الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان الخزائن و فرض للناس و اجتمع إليه خمسون ألفاً من المقاتلة بدمشق و جمع مروان جمعاً عظيماً بنهر فطرس من أرض فلسطين و بعث أبو العباس أخاه أبا جعفر إلى أبي مسلم بخراسان يخبره بغدر أبي سلمة و يعتذر من قتله فبايعه أبو مسلم ببيعة أهل خراسان له و وصل أبا جعفر بمال له خطر و مقدار و حمل إلى أبي العباس خيلاً و رقيقاً و سلاحاً و هدايا جمة و عبر عبد الله بن علي الفرات و حاصر دمشق حتى افتتحها و قتل من بها من بني أمية و هدم سورها حجراً حجراً و نبش عن قبورهم فأحرقهم و أحرق عظامهم بالنار و لم يجد في قبر معاوية عليه اللعنة إلا خطاً أسود كأنه رماد و لا في قبر يزيد لعنه الله إلا فقارة ظهره فأحرقه و بعث بمن ظفر به من أولادهم و مواليهم إلى أبي العباس فقتلهم و صلبهم كلهم بالحيرة و ارتحل عبد الله بن علي نحو مروان فهزمه و استباح عسكره و نزل في مناخ الاستراحة و اجتمع رؤساء بني أمية اثنان و ثمانون رجلاً و جاؤوا يستأذنون على عبد الله معتذرين فأذن لهم و قد أكمن رجالاً من المسودة و معهم الكافر كوبات و قال إذا ضربت بقلنسوتي الأرض فابرزوا و دخل القوم فسلموا عليه بالخلافة فنادى يا حسن بن علي يا حسين بن علي يا زيد بن علي يا يحيى بن زيد ما لكم لا تجيبون و تجيب بنو أمية فأيقن القوم بالهلاك و أنشأ عبد الله يقول
حسبت أمية أن استرخي هاشم ... عنها و يذهب زيدها و حسينها
كلا و رب محمد و كتابه ... حتى يشار كفورها و خؤونها

ثم ضرب بقلنسوته الأرض و قال يا ثارات الحسين فخرجت المسودة و دقوهم بالكافر كوبات حتى شدخوهم عن آخرهم ثم دعا بالبسط و الأنطاع و فرشها عليهم و دعا بالطعام فأكل فوق هامهم و إن منهم لمن يأن أسى و قال ما أكلت طعاماً مذ سمعت بقتل الحسين أطيب من هذا قالوا ما أكلت طعاماً مذ سمعت بقتل الحسين أطيب من هذا قالوا و حلف ناس من أهل الشام أنهم ما علموا لرسول الله قرابة غير بني أمية و بعث عبد الله بن علي في أثر مروان فلحقوه ببوصير من حدود مصر فقتله و بعث برأسه إلى أبي العباس فبعثه أبو العباس إلى أبي مسلم و أمره أن يطيف به في خراسان و قالوا و لما أيقن مروان بالهلاك دفن قضيب رسول الله صلى الله عليه وسلم و مخصفته في رمل كي لا يعثر عليه أحد و لا ينال فدلهم عليه خصي من خصيانه فاستخرجا و بعثا بهما إلى أبي العباس ويقال أن الذي قتل مروان عامر بن إسماعيل من أهل مرو.
خروج السفياني على أبي العباس و في السنة الثانية من ولاية أبي العباس و هي سنة ثلاث و ثلاثين و مائة خرج زياد بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بحلب و بيضوا ثيابهم و أعلامهم و ادعى الخلافة فبعث أبو العباس أخاه فأتاه من جانب الجزيرة و جاءه عبد الله بن علي من فوقه فواقعاه و هزماه و مزقوا جموعه كل ممزق و قتلوا ما لا يحصى ثم اذكوا العيون على الأمويين يقتلون رجالهم و نساءهم و ينبشون عن قبورهم فيحرقونهم فمن سمى عبد الله بن علي السفاح و فيه يقول الشاعر
و كانت أمية في ملكها ... تجول و تظهر طغيانها
فلما رأى الله أن قد طغت ... و لم تطق الأرض عدوانها
رماهم بسفاح آل الرسول ... فحز بكفيه أذقانها

و في السنة الثالثة من ولاية أبي العباس انتفض أمر بخارا بنجوم شريك بن شيخ الفهري في ثلاثين ألفاً من فلال العرب و سائر الناس و نقموا على أبي مسلم سفكه الدماء بغير حق و إسرافه في القتل فنهض إليهم أبو مسلم وعلى مقدمته زياد بن صالح و أبو داود خالد بن إبرهيم الذهلي فناجزهم و قتل شريك بن شيخ و افتتح بخارا و السغد ثانيا و أمر ببناء حائط سمرقند ليكون حصناً لهم إن دحمهم عدو و بعث زياد بن صالح فافتتح كور ما وراء النهر حتى بلغ طرازاً و اطلخ فتحرك أهل الصين و جاؤوا أكثر من مائة ألف و تحصن سعيد بن حميد في مدينة الطراز و أقام أبو مسلم في معسكره بسمرقند و استمد العمال و حشر المطوعة إلى سعيد بن حميد فواقعهم دفعات و قتل منهم خمسة و أربعين ألفاً و أسر خمسة و عشرين ألفاً و انهزم الباقون فاستولى المسلمون على عسكرهم و انصرف إلى بخارا و بسط يده على ملوك ما وراء النهر و دهاقينها فضرب أعناقهم و سبى ذراريهم و استصفى أموالهم و عبر النهر من السبى غير مرة بخمسين ألفاً خمسين ألفاً و هم أبو مسلم بغزو الصين و هيأ أهبة لذلك فشغله عنه إظهار زياد بن صالح كتاباً من أبي العباس بولايته على خراسان من غير أن كان لذلك أصل فعمل أبو مسلم في ذلك حتى قتل زياداً و بعث برأسه إلى أبي العباس و كتب إليه يستأذنه في الحج و اختار من جلة رجاله خمسة آلاف فقدمهم أمامه و خرج و استخلف على خراسان أبا داود فلما انتهى إلى الري تلقاه كتاب أبي العباس بتخليف من معه من الجنود بالري و أن تقدم في خمسمائة رجل فكتب إني قد وترت الناس و لا آمن على نفسي ألا أن أكون في كنف قوي فكتب إليه أن أقبل في ألف فلما بلغ أبو مسلم الحيرة تلقاه أبو العباس في بني هاشم و سائر القواد من العرب و الموالي و بالغ في إلطافه و تكرمته وشكر صنيعه و أشار أبو جعفر عليه بقتله فقال أبو العباس يا أخي قد عرفت بلاءه عندنا و قيامه بأمرنا و سابقته في دولتنا قال إن في رأسه و إنما بلغ ما بلغ بدولتنا و أيامنا فتغد به قبل أن يتعش بك قال و كيف الحيلة فيه قال إذا دخل عليك فاشغله بالكلام حتى آتيه من ورائه فأضربه عنقه قال دونك فاصنع ما أنت صانع و دخل أبو مسلم للسلام فأخذ أبو العباس يسأله عن وقائعه و حيله إذ أدركته حالة صرفته عما هم به فقال لبعض شاكريته قل لأبي جعفر لا يفعل ذلك ثم قال لأبي مسلم لولا أن أبا جعفر ولى ابن أخيه أميراً على الحاج لكنت أنت فخرج أبو جعفر و أبو مسلم بتقدمته حتى إذا بلغ صفينة موضعاً بين البستان و ذات عرق بلغه خبر وفاة أبي العباس فسار حتى حج بالناس و أقبل منصرفاً إلى الحيرة.
خروج عبد الله بن علي على أبي جعفر

و لما مات أبو العباس ادعى الخلافة عبد الله بن علي و بايعه أهل الشام و الجزيرة و ذلك أن أبا العباس لما ظهر أمره وضع سيفاً و قال من تقلد هذا السيف و سار إلى مروان فله الخلافة بعدي فتحاماه الناس و قام عبد الله بن علي فتقلده و سار فقاتل مروان فقتله فلما مات أبو العباس قام بالخلافة و بايعه الناس على ذلك و كان أجلدهم و أشجعهم فهال ذلك أبا جعفر و استشار أبا مسلم فقال الرأي إن تعاجله و لا تتأنى به فأنهض أبا مسلم و جعل له الشام و ما وراءه من الخراسانيات فسار أبو مسلم إلى نصيبين و قد وافاها عبد الله بن علي في مائة ألف مقاتل و مائة ألف من الفعلة و حفر الخندق من جبل نصيبين إلى نهرها و جعل فيه ما يحتاج إليه من العدة و الآلة و نصب المجانيق و العرادات و بث الحسك و سد الطريق على من يقصده من العراق و جعل الخصب و القرى وراءه فلما نظر أبو مسلم إلى ذلك و أنه قد بلغ الخصب و القرى و الميرة و العلوفات و أن لا مقام للعسكر بأذائه احتال في إخراجه فعدل عن عبد الله و أخذ في طريق الشام فخشي عبد الله أن يستولي أبو مسلم على الشام فوجه أخاه المنصور بن علي في جيش عظيم فهزمهم أبو مسلم و قتل منهم مقتلة عظيمة و مر على وجهه يظهر أنه يريد الشام فخرج عبد الله في أثره كلما ارتحل أبو مسلم من منزل نزل عبد الله فيه حتى علم أبو مسلم أنه خرج جميع عساكره عن الخندق و ضيعوا العورة عطف أبو مسلم على نصيبين ركضاً فغلب على الخندق و صار في يده جميع ما فيه و أقبل عبد الله حتى نزل على أربعة فراسخ من نصيبين في موضع ليس فيه ماء إلا ماء الآبار فبسط الأمان للناس و بذل الأموال ثم لم يمكن عبد الله المقام فهرب ليلاً و استولى أبو مسلم على خزائنه و أمواله و ما كان احتواه من نهب بني أمية و كنوز الشام ثم أسر عبد الله بن علي و حمل إلى أبي جعفر فخلده الحبس إلى أن مات و أقام أبو مسلم بنصيبين و استقامت له أمور الشام و سرح أبو جعفر أمناء على الأفياض و الخزائن و بعث يقطين بن موسى و أمره بإحصاء ما في العسكر فغضب أبو مسلم و شتم أبا جعفر و قال أمناء على الدماء خونة على الأموال و أقبل من الجزيرة مجمعاً على الخلاف معارضاً بخراسان و خرج أبو جعفر من الأنبار إلى المدائن و كتب إلى أبي مسلم بالمصير فكتب إليه أبو مسلم أما بعد فإنه لم يبق لأمير المؤمنين عدو إلا أمكنه الله منه و قد كنا نروي عن ملوك ساسان أن أخوف ما تكون الوزراء إذا سكنت الدهماء فنحن نافرون من قربك حريصون على الوفاء بعهدك ما وفيت حريون بالسمع و الطاعة غير أنهما من بعيد حيث يقارنهما السلامة فإن أرضاك ذلك فأنا أحسن عبيدك و إن أبيت ألا تعطي نفسك إرادتها نقضت ما أبرمت ضناً بنفسي فكتب إليه المنصور قد فهمت كتابك و ليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة الذين اضطراب حبل الدولة إليهم لكثرة جرائمهم و إنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة فلم سويت نفسك بهم و أنت في طاعتك و مناصحتك و اضطلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر بحيث أنت و قد حمل أمير المؤمنين رسالة لتسكن إليها إن أصغيت نحوها فاسأل الله تعالى أن يحول بين الشيطان و بين نزغاته منك و وجه بجرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي و كان أوحد زمانه في المكر و الخداع و الدهاء و التلبيس و اللسان فخدعه بكلامه و سحره بمواعيده و حلف له أبو جعفر بكل عين يحلف بها ذوو الأديان من الطلاق و العتاق و الأيمان و ضمن له بن موسى و جرير بن يزيد بن جرير الوفاء من أبي جعفر بالعهد و كتبوا له كتب الأمان و كان أبو مسلم يقول لأقتلن بأرض الروم و أقبل منصرفاً من الري إلى العراق.
مقتل أبي مسلم

قالوا و لما أخذ أبو مسلم على طريق الجبال من أرض الجزيرة اشتد رعب أبي جعفر و خشي إن هو سبقه إلى خراسان أن يقاتله بما لا قبل له به فاجتمع الرأي و عمل المكائد و هجر النوم و جعل يقعد و حده و يخاطب نفسه و أتاه أبو مسلم و هو بالرومية في مضاربه فأمر الناس بتلقيه و إنزاله و إكرامه غاية الكرامة أياماً ثم أخذ في التجني عليه فهابه أبو مسلم و كان استشار بانويه رجلاً من أصحابه بالري عند ورود الرسل عليه فأشار عليه بالامتداد إلى خراسان و ضرب أعناق الرسل فقال أبو مسلم هوذا أرى يرميني فما الرأي قال تركت الرأي بالري فذهبت مثلاً و لكن الحيلة أن تبدأ به فإنك مقتول فإذا دخلت عليه فأعله بسيفك و نحن على الباب ثم إن أمكنك أن تدافع عن نفسك إلى أن نصل إليك و أجمع أبو جعفر على قتله وأعد من أصحاب الحرس أربعة نفر فأكمنهم في البيوت منهم شبيب المروزي و أبو حنيفة حرب بن قيس و قال إذا أنا صفقت بيدي فشأنكم و بعث إلى أبي مسلم يدعوه في غير وقت فجاء إليه باستدعائه عيسى بن موسى وهو صاحب عهده و ذمته فقال له عيسى تقدم و أنا ورائك فقال له أبو مسلم أنا أخافه على نفسي فقال عيسى أنت في ذمتي و جواري و كيف تظن بأمير المؤمنين أن ينقض عهدك و أرسل أبو جعفر إلى عيسى أن تخلف عن المجيء و جاء أبو مسلم فقام إليه البواب و قال ليعطيني الأمير سيفه قال ما كان يفعل هذا قبل قال هذا لا بد منه فأعطاه و دخل فشكا إلى أبي جعفر ذلك و قال و من أمره ذلك قبحه الله ثم أقبل عليه يعاتبه و يذكر عثراته فمما عد عليه أن قال ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك و دخلت إلينا فقلت أين ابن الحارثية و جعلت تخطب آمنة بنت علي بن عبد الله بن العباس و تزعم أنك سليط بن عبد الله بن عباس ما دعاك إلى قتل سليمان بن كثير الخزاعي مع أثره في دعوتنا و سعيه في دولتنا قبل أن يدخلك في شيء من هذا الأمر فجعل أبو مسلم يعتذر إليه و يقبل الأرض بين يديه و يقول أراد الخلافة علي فقتلته فقال أبو جعفر يعصيك و حاله عندنا حاله فتقتله فتعصينا فلا نقتلك قتلني الله إن لم أقتله ثم ضربه بعمود في يده و صفق فخرج الحرس فضربوه بسيوفهم و هو يستصرخ و يستأمن و يقول أبو جعفر ما تزيد يا بن اللخنا إلا غيظاً المقتل قتلكم الله اقتلوه فقتلوه و لفوه في بساط و نحوه ناحية ثم استأذن إسماعيل بن علي الهاشمي فأذن له فلما قام قال إني رأيت في المنام كأنك ذبحت كبشاً و إني توطأته برجلي قال صدقت رؤياك قتل الله عز و جل الفاسق قم فتوطأه برجلك و أمر أبو جعفر أن لا يؤذن عليه و نام نومة ثم قام و قال ما تهيأت للخلافة إلى اليوم و بانويه في ثلاثة آلاف من الخراسانية و وقوف على الباب لا يدرون ما الخبر فقال أبو جعفر فرقوا هؤلاء العلوج عني أنشأ يقول
زعمت أن الدين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
سقيت كأسا كنت تسقى بها ... أمر في الحلق من العلقم
و كتب أبو جعفر إلى أبي داود بعهده على خراسان.
خروج سنفاد المجوسي و لما قتل أبو مسلم خرج سنفاد المجوسي بنيسابور يزعم أنه ولى أبي مسلم و الطالب بثأره و سار حتى غلب على الري و ما وراء النهر من النواحي و قبض خزائن أبي مسلم و فرقها في الفروض و بلغت جموعه تسعين ألفاً فبعث المنصور جمهور العجلي في عشرة آلاف فالتقوا بين همذان والري فقتل منهم ستين ألفاً و سبي من نسائهم و أولادهم ما الله به عليم و قتل سنفاد فكان بين مقتله و مخرجه سبعون يوماً.
موت أبي داود خالد بن إبرهيم و هم أبو داود بالمسير إلى ما وراء النهر و قاد العساكر إلى مرو فبينا هو نازل للاستراحة في قصر بكشمهن إذ ثار الجند ليلاً تشويشاً فأشرف عليهم أبو داود ليلاً من القصر معتمداً على أجرة فزلت الأجرة فسقط أبو داود على رقبته فانكسر فولى المنصور ابنه المهدي و أمره أن ينزل الري و يستعمل على خراسان عبد الجبار بن عبد الرحمن الحارثي.

خروج الروندية و خرج ناس من أهل خراسان بمدينة الهاشمية و قالوا قولاً عظيماً و هو أن أبا جعفر إلاهنا يحيينا و يميتنا و يطعمنا و يسقينا قالوا بتناسخ الأرواح و أن روح آدم تحولت في عثمان بن نهيك و أبو الهيثم بن معاوية هو جبريل و جاءوا إلى قصر أبي جعفر يطوفون به و يقولون هذا قصر ربنا فأنكر ذلك أبو جعفر و خرجوا إلى الناس يهرجونهم بالسيوف فخرج المنصور في مواليه فقتلهم أبرح قتل فأبلى معن بن زائدة ذلك اليوم بين يديه بلاء حسناً.
خروج محمد و إبرهيم من ولد الحسين بن علي على أبي جعفر قال و كان أبو العباس ملاطفاً لعبد الله بن الحسن باراً به فأخرج يوماً سفطاً من جوهر و قاسمه فأنشأ عبد الله يقول
ألم تر حوشباً أمسى يبني ... قصوراً نفعها لبني نفيله
يؤمل أن يعمر عمر نوح ... و أمر الله ينزل كل ليله
فغضب أبو العباس من قوله و نفاه إلى المدينة ثم لما ولي أبو جعفر ألح في طلب ابنيه محمد و إبرهيم فتوارى عن الطالبين و تغيبوا عنه و حج أبو جعفر و أمر بطلب أبيهما عبد الله بن الحسن و داود و إبرهيم فأتي بهم و هم بالربذة فسأله عبد الله بن الحسن و هو شيخ كبير أن يأذن له فلم يأذن و بسطوا عليهم العذاب حتى دلوا على من كان اختفى منهم بجبلى طيءٍ فبعث في طلبهم فأخذوا اثني عشر إنساناً و رحلهم كلهم إلى الكوفة و حبسهم في بيت ضيق لا يتمكن أحدهم من مقعده يبول بعضهم عل بعض و يتغوط لا يدخل عليهم روح الهواء و لا يخرج عنهم رائحة القذر حتى ماتوا عن آخرهم فخرج محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة و جمع الجموع و فرض الفروض و تسمى بالمهدي فبعث إليه أبو جعفر عيسى بن موسى و حميد بن قحطبة بن شبيب في الخرسانية و حاصروا المدينة أياماً و واقعوهم مراراً ثم خرج محمد بن عبد الله و قال لأهله إن قطرت السماء قطرة فأحرقوا الديوان فأنى مقتول و واقف القوم و قال يا أهل فارس يعني الخرسانية اخترتم الدينار و الدرهم على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أنا محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فانتفضت الخرسانية و خاف عيسى بن موسى الخلاف فنادى حميد بن قحطبة بن شبيب الطائي إن كنت محمد بن عبد الله فأنا حميد بن قحطبة بن شبيب الطائي سلمان كشند فحملوا عليه حملة واحدة فقتلوه و حزوا رأسه من أصل رقبته معلقاً به أحشاءه و ما يتصل به و حملوه إلى أبي جعفر قالوا و لما خرج محمد بن عبد الله هاجت سحابة فمطرت فأحرق الديوان.
ثم خروج أخيه إبراهيم بن عبد الله بالبصرة في ثلاثين ألفاً و يقال في سبعين ألفاً و اشتدت مخافة أبي جعفر وأعد الرواحل للهرب و نقل ديوانه و أهل بيته إلى دمشق و بعث عيسى للقاء إبرهيم ويئس أبو جعفر من الأمر و قال أترون أن هذا الذي بلغنا باطلاً إن الأمر لا يزال فينا حتى تلعب به صبياننا فقال له سهل لا بأس فإن الظفر لكم فلم يلبث أن جاء عيسى برأس إبرهيم فتمثل بقول الشاعر
فألقت عصاها و استقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
ومن ثم مر إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى المغرب فهم بها إلى اليوم.
خروج استادسيس قالوا و اجتمع من الغزية نحو ثلاثمائة ألف مقاتل من أهل هراة و باذغيس و كنج رستاق و سجستان و نواحيها و معهم المرور و المساحي و الفؤوس و رئيسهم استادسيس وغلبوا على عامة خراسان فوجه أبو جعفر خازم بن خزيمة فقاتلهم قتالاً شديداً و قتل منهم في المعركة تسعين ألفاً و هزمهم و فرق جمعهم وسبى ذراريهم.

قتل عمر بن حفص بن أبي صفرة بإفريقية كان أبو جعفر ولاها إياه فخرج عليه أبو عادي و أبو حاتم الأباضيان في أربع مائة ألف رجل من البربر و المغاربة منهم ثلثمائة و خمسة عشر ألفاً رجالاً و خمسة و ثمانون ألفاً فرساناً فغلبوه و قتلوه وغلبوا على المغرب فوجه أبو جعفر يزيد بن حاتم في خمسين ألفاً وأنفق على ذلك الجيش ثلاثة و ستين ألف ألفَ درهم يكون بالأوقار ألفي وقر و ثمانين و قراً و كل و قر ثلاثون ألفاً فقتل أبو عادي و أبو حاتم و حمل رؤوسهما إليه واستوت له بلاد المغرب و بنى أبو جعفر مدينة بغداد سنة خمس و أربعين و مائة و بنى قصر الخلد سنة سبع و خمسين و مائة و نقل الأسواق من مدينة السلام إلى باب الكرخ و باب المحول و خندق على الكوفة و سورها و كذلك البصرة و خندق عليها و خلع عيسى بن موسى و عقد البيعة لابنه محمد المهدي و لعيسى بن موسى من بعده و مات أبو جعفر في طريق مكة ببئر ميمون وفي أيامه صار عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك سنة ستين إلى الأندلس فملكها ثم ابنه هشام بن عبد الرحمن عشرين سنة و كان وقوع عبد الرحمن إليها سنة ثمان و ثلاثين فهم ولاتها إلى اليوم.
خلفاء بني العباس أولهم أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بويع يوم الجمعة لاثني عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة اثنتين و ثلاثين ومائة و هو أبو العباس أمير المؤمنين المرتضى بن محمد بن علي السجاد ذي الثفنات بن عبد الله الحبر بن العباس ذي الرأي بن عبد المطلب شيبة الحمد و أم أبي العباس ريطة بنت عبيد الله بن عبد المدان و هو الذي انتشرت الأخبار بإفضاء الخلافة إليه و كان أبو العباس رجلاً طوالاً أبيض اللون حسن الوجه ولد بالشراة في أيام هشام بن عبد الملك و لما قدم الكوفة نزل بحمام أعين في موضع عسكر أبي سلمة فسمى الهاشمية ثم تحول من الهاشمية إلى الحيرة ثم تحول من الحيرة إلى الأنبار و بنى بها مدينة و مات سنة ست و ثلاثين و ماية و كانت ولايته أربع سنين و ثمانية أشهر و كان سنة أربعاً و عشرين سنة و خلف أربعة أقمصة و خمس سراويلات وأربع طيالسة و ثلاث مطارف خز و رثاه أبو دلامة
من مجمل في الصبر عنك فلم يكن ... جزعي و لا صبري عليك جميلا
يجدون أبدالاً و إني عالم ... ما عشت دهري ما وجدت بديلا
إني سألت الناس بعدك كلهم ... فوجدت أجود من سألت بخيلا
فقالت له امرأة أبي العباس ما أصيب به غيري وغيرك فقال أبو دلامة و كان مزاحاً و لا سوء لك منه ولد و لا ولدي منه و كانت ولدت له محمد بن أبي العباس و دفن في قصره بالأنبار و في تأريخ خرزاد أنه بلغ من السن ثلاث و ثلاثين سنة و الله أعلم و كان يكره الدماء و يحابي على أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم و كان مختصاً بسليمان بن هشام ابن عبد الملك و عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب و كان يقعد عبد الله بن الحسن عن يمينه و الأموي عن يساره فلما أنشده عبد الله ألم تر حوشباً نفاه إلى المدينة ثم لما أنشأ يقول سديف
لا يغرنك ما ترى من رجالٍ ... إن تحت الرجال داء دويا
فضع السيف و ارفع السوط عنهم ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
ثم أمر بسليمان فقتل أبو جعفر المنصور بويع أخوه أبو جعفر المنصور و هو عبد الله بن محمد بن العباس سنة سبع وثلاثين و مائة و أمه بربرية يقال لها سلامة ولد بأرض الشراة في أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان و كان أكبر من أبي العباس بثماني عشرة سنة و ذكروا أنه كان رجلاً أسمر نحيفاً طويل القامة قبيح الوجه و دميم الصورة ذميم الخلق أشح خلق الله و أشده حباً للدينار و الدراهم سفاكاً للدماء ختاراً بالعهود غداراً بالمواثيق كفوراً بالنعم قليل الرحمة و كان جال في الأرض و تعرض للناس و كتب الحديث و حدث في المساجد و تصرف في الأعمال الدنية و الحرف الشائنة و قاد القود لأهلها و ضربه سليمان ابن حبيب بالسياط في الجملة و التفصيل كان رجلاً دنياً خسيساً كريهاً شريراً فلما أفضى الأمر إليه أمر بتغيير الزي و تطويل القلانس فجعلوا يحتالون لها بالقصب من داخل فقال أبو دلامة في هجوه

و كنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى بالقلانس
تراها على هام الرجال كأنها ... ديار يهود جللت بالبرانس
و أمر بعدد أهل الكوفة و وظف خمسة دراهم على كل دار فلما عرف عددهم جباهم أربعين درهماً أربعين درهماً فقالوا
يا لقوم ما لقينا من أمير المؤمنينا ... قسم الخمسة فينا و جباها أربعينا
و حج غير مرة و زار القدس و بنى مدينة المصيصة و مدينة الرافقة بالرقة على قدر مدينة السلام و وسع طرق المدينة و أرباضها و أمر بهدم ما شخص عنها و وسع المسجد الحرام و جمع من المال ما لم يجمعه أحد قبله و لذلك قيل له أبو الدوانيق و خرج محرماً بالحج فعرض له وجع ببئر ميمون هاض له بطنه ثم انقض كوكب في إثره إلى طلوع الشمس و مات فحمل إلى مكة فدفن مكشوف الرأس و خلف من الصامت تسع مائة ألف ألف درهم و ستين ألف ألف درهم سوى سائر الأصناف و لم يروا منها بشيء و زعم زاعم أنه وقف عليه أعرابي في طريقه قبل موته بست أيام فأنشده
أبا جعفر حانت وفاتك و انقضت ... سنوك و أمر الله لا بد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... بحيلته عنك المنية دافع
و يقال بل هتف به في نومه و رثاه مروان بن أبي حفصة
أبا جعفر صلى عليك إلاهنا ... لموتك أمسى أعظم الحدثان
بكى الثقلان الإنس و الجن إذ ثوى ... و لم يبك ميتاً قبلك الثقلان
خبر أبي مسلم صاحب الدعوة اختلف الناس في اسمه و بلده فأكثرهم على أنه أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم ولد بأصبهان و نشأ عند إدريس بن عيسى جد أبي دلف فكان مع ولده في المكتب إلى أن حفظ القرآن و روى الأشعار و قال بعضهم هو أبو إسحق إبرهيم بن عثمان و أمه وشيلة بنت فلان و زعم قوم أنه كان من قرية من قرى مرو و يقال بل كان من العرب و قيل كان عبداً و أما أبو دلامة فإنه نسبه إلى الأكراد حيث هجاه و قالوا في حليته و هيأته أنه كان قصير القامة أسمر اللون دقيق البشرة حلو المنظر طويل الظهر قصير الساق لم ير ضاحكاً و لا ممازحاً يأتيه الفتوح العظام فلا يعرف بشره في وجهه و ينكب النكبة العظيمة فلا يرى مكتئباً لها قليل الرحمة قاسي القلب سوطه سيفه قتل من الأصناف كلها بدأ بمضر في خراسان فأفناهم ثم اليمن ثم الربيعة ثم القضاة ثم القراء ثم الملوك ثم الدهاقين و المرازبة و النصارى و الدماوندية و النهاوندية و اليهود و قتل ستمائة ألف ممن يعرف صبراً سوى من لا يعرف ومن قتل في الحروب و الهيجات و قتل و لم يترك داراً و لا عقاراً و لا عبداً و لا أمةً و لا ديناراً و لا درهماً و كانت عنده ثلاث نسوة و كان لا يطأ المرأة منهن في السنة إلا مرة واحدة و يقال يكفي الإنسان أن يختن نفسه في السنة مرة و كان من أغير الناس لا يدخل قصره أحد غيره و فيه كوى يطرح لنسائه منها ما يحتجن إليه قالوا وليلة زفت إليه أمرأته أمر بالبرذون الذي ركبته فذبح و أحرق سرجه لئلا يركبه ذكر بعدها قال ابن شبرمة دخلت على أبي مسلم ليلاً فرأيت في حجره مصحفاً و في يده سيفاً فقال يا بن شبرمة إنما هما و أشار إليهما أترهب هذا أم السيف قلت أصلح الله الأمير من أشجع الناس فقال كل قوم في إقبال دولتهم و كان أقل الناس طمعاً و أكثرهم طعاماً يخبز في مطبخه كل يوم ثلاثة آلاف مآزف و يطبخ مائة شاة سوى البقر و الطير و كان له مائة طباخ و آلة المطبخ تحمل على ألف و مائتين من الدواب و لما حج نادى في الناس برئت الذمة ممن أوقد ناراً فكفى العسكر و من معه أمر طعامهم و شرابهم في ذهابهم و منصرفهم و هربت الأعراب فلم يبق في المناهل منهم أحد لما كانوا سمعوا به من ولوعه بسفك الدماء و تناشدوا له بيتاً قال نصر بن سيار
فمن يكن سائلاً عن دين قومهم ... فإن دينهم أن يقتل العربا

و كان مروان بن محمد كتب إلى أهل مكة يهجو أبا مسلم و أنه يحرق المصاحف و يهدم المساجد فلما سمعوا بقدومه خرجوا ينظرون إليه فلما بلغ الحرم نزل عن دابته و خلع نعليه و مشى حافياً على رجليه إعظاماً للبيت و قضى نسكاً قل ما قضاه أحد من الملوك غيره فقالوا ما رأينا سلطاناً أعظم الحرم إعظامه و ولد سنة مائة و اثنتين و قتل سنة سبع و ثلاثين و هو ابن خمس و ثلاثين سنة و خلف بنتاً يقال لها فاطمة بت أبي مسلم يتولاها الخرمية و يزعمون أنه يخرج من نسلها رجل يستولي على الأرض كلها و يسلب بني العباس ملكهم و فيه يقول
أبا مجرم ما غير الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد
و في دولة المهدي حاولت غدرة ... إلا إن أهل الغدر آباؤك الكرد
أبا مجرم خوفتني الفتك فانتحي ... عليك بما خوفتني الأسد الورد
المهدي محمد بن أبي جعفر و بويع ابنه المهدي محمد بن أبي جعفر سنة تسع و خمسين و مائة و صار إليه خاتم الخلافة و قضيب النبي صلى الله عليه وسلم و بردته فكان كما سمي هادياً مهدياً رد المظالم و شهد الصلوات في جماعة و فرق خزائن المنصور في سبل الخير و رد ولاء آل أبي بكرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و رد ولاء آل زياد من نسبهم إلى أبي سفيان إلى عبيد من ثقيف و كتب بذلك إلى المدن و الأمصار و وسع المسجد الحرام و مسجد المدينة و فرق في حجه بمكة و المدينة ثلاثين ألف ألف درهم سوى ما حمل إليه من مال مصر و اليمن و حمل إليه محمد بن سليمان الثلج من أرض الموصل و لم يحمله أحد قبله و أمر بنزع المقاصير عن المسجد و تقصير المنابر إلى الحد الذي كان عليه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم و وضع دور المرضى و أجرى على العميان و المجذمين و الضعفى و أغزى الصائفة ابنة هارون بن المهدي في مائة ألف من المسترقة سوى المطوعة والأتباع و أهل الأسواق و الغزاة فقتلوا من الروم خمسة و أربعين ألفا وأصابوا من المال ما بيع البرذون بدرهم و الدرع بدرهم و عشرون سيفاً و ألزموهم الجزية كل سنة سبعين ألف دينار و فيه يقول ابن أبي حفصة
أطفت بقسطنطينية الروم مستنداً ... إليها القفاء حتى اكتسى الذل سورها
و ما رمتها حتى تفيك ملوكها ... بجزيتها و العرب تغلي قدورها
و كثير من الناس يرون ذلك الفتح الفتح الذي وعد الله به وفي أيامه خرج رجل يقال له يوسف البرم و استغوى خلقاً كثيراً و جمع بوشا و أدعى النبوة فبعث إليه جيشاً ففضوا جموعه فأسروه فأمر به المهدي فصلب و خرج حكيم المقنع و قال بتناسخ الأرواح و اتبعه ناس كثير و كان حكيم هذا رجلاً قصيراً أعور من قرية من قرى مرو يقال لها كاره و كان لا يسفر عن وجهه لأصحابه فلذلك قيل له المقنع و زعم أن روح الله التي كانت في آدم تحولت إلى شيث ثم إلى نوح ثم إلى إبرهيم ثم إلى موسى ثم إلى عيسى ثم إلى محمد بن الحنفية ثم إليه و كان يحسن شيئاً من الشعبذة و النيرنجات فاستغوى أهل العقول الضعيفة فاستمالهم فبعث المهدي في طلبه فصار إلى ما وراء النهر و تحصن في قلعة كش و جمع فيها من الطعام و العلوفة و بث الدعاة في الناس و ادعى إحياء الموتى و علم الغيب و ألح المهدي في طلبه فحوصر فلما اشتد الحصار عليه سقى نساءه و غلمانه كلهم السم و شرب هو منه فماتوا عن آخرهم و حمل إلى المهدي و كان وعد أصحابه أن يتحول روحه إلى قالب رجل أشمط على برذون أشهب و أنه يعود إليهم بعد كذا سنة و يملكهم الأرض فهم ينتظرونه و يسمون المبيضة و في أيامه خرج المحمرة بخراسان و عليهم رجل يقال له عبد الوهاب فغلب على خرسان و ما يليها و قتل خلقاً كثيراً من الناس فانهض إليه المهدي عمرو بن العلاء فقتله و فض جموعه و في أيامه ظهرت الزنادقة فقتل المهدي بعضهم و استتاب بعضها و عقد البيعة لابنه موسى الهادي و بعده لأخيه هارون الرشيد و اعتل المهدي فحمل إلى ماسبذان يتروح إلى ذلك بالهواء فمات فحمل درابة إذ لم يجدوا جنازة فجزت حسنة عبيدها و لبست المسوح في وصائفها ولم تزل كذلك إلى أن فارقت الدنيا و كانت من أجمل النساء فقال أبو العتاهية
رحن في الوشي وأصبح ... نَ عليهن المسوح
كل نطاح وإن عا ... ش له يوم نطوح

نح على نفسك يا مس ... كين إن كنت تنوح
لتموتن و لو عم ... رت ما عمر نوح
بين عيني كل حيٍ ... علم الموت يلوح
كلنا في غفلة و ... الموت يغدو و يروح
و توفي المهدي ست و ستين و مائة و كان ابن ثمان و أربعين سنة و ولايته عشر سنوات و شهر و قيل فيه
و أفضل قبر بعد قبر محمد ... نبي الهدى قبر بما سبذان
عجبت لأيد حثت الترب فوقه ... غداة فلم يرجع بغير بنان
الهادي و بويع الهادي و تولى له البيعة هارون و هو بجرجان فأقبل إلى بغداد على دواب البريد و خرج عليه الحسين بن علي بن الحسن بن أبي طالب بالمدينة في الطالبيين يحيى و إدريس و إسماعيل الذي يقال له طباطبا و علي و عمر الذي يقال له الأفطس و أخرجوا عامل المدينة و نهبوا بيت المال ثم قصد الحسين بن علي على مكة و بعث الهادي موسى بن عيسى فأدركه على فرسخ من مكة فقتله و حمل رأسه إلى المهدي و تفرق من كان معه من آل أبي طالب فوقع إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى الأندلس و غلب عليها و أخوه يحيى بن عبد الله إلى جبال الديلم فأما إدريس فولى إلى تلك الناحية و ولده إلى اليوم بها و أما يحيى فإنه آمنة هارون و أخرجه ثم غدر به و بنى على بطنه اسطوانة و غضب الهادي على موسى بن عيسى في قتل الحسين بن علي من غير موفقة و تركه أن يقدم به عليه فيرى فيه رأيه فقبض على أمواله و ضياعه و تتبع الهادي الزنادقة فقتلهم أبرح قتلٍ منهم ازديادار كاتب يقطين بن موسى نظر إلى الناس في الطواف يهرولون فقال ما أشبههم ببقر تدوس البيدر فقال الشاعر فيه
ماذا ترى فر رجل كافر ... يشبه الكعبة بالبيدر
و قال آخر
قد مات ماني منذ أعصارٍ ... و قد بدا إزدايادار
حج إلى البيت أبو خالد ... مخافة القتل أو العار
وود والله أبو خالد ... لو كان بيت الله في النار
لا يقتل الحيات في دينه ... كفراً ولا العصفور في الدار
و ليس يؤذي الفأر فيحجره ... يقول روح الله في الفأر
فقتله الهادي و صلبه فسقطت خشبته على رجل من الحاج فقتله و قتلت حماره و مات الهادي بعيسى آباذ سنة سبعين و مائة و كان بلغ من السن ثلاثاً و عشرين سنة و ولي سنة و شهراً.
هارون الرشيد و بويع هارون الرشيد يوم توفي الهادي و ولد له المأمون فمات خليفة و ولى خليفة و ولد خليفة و لما بويع الرشيد ولي الوزارة يحيى بن خالد بن برمك و ولى خرسان جعفر بن محمد بن الأشعث بن قيس و بذل الأمان للطالبيين و أخرج الخمس لبني هاشم و قسم للذكر ألفاً وللأنثى خمس مائة و ساوى بين صلبيتهم و مواليهم و فرض لأبناء المهاجرين و الأنصار و عمر طرسوس وأنزل فيها أبا سليمان الخادم في جماعة من الموالي و خرج عليه بن طريف الوليد بن طريف الشاري بأرض الجزيرة و استولى عليها و على و على أرمينية و آذربيجان و هزم عدة جيوش لهارون و فتك بهم و يقول
أنا الوليد بن الطريف الشاري ... أخرجني ظلمكم من داري
و دامت فتنته قريباً من عشر سنين ثم انتهز بعض الأعراب منه الفرصة فقتله غيلة و حمل رأسه إلى هارون فاعتمر شكراً لله عز و جل على ما أبلاه و كفاه و ذلك في سنة تسع و سبعين و مائة و رثته أخته الفارعة بنت الطريف
ألا يا لقوم للحيوف وللبلى ... و للدار لما أزمعت بخسوف
و للبدر من بين الكواكب إذ هوى ... و للشمس همت بعده بكسوف
و لليث فوق النعش إذ يحملونه ... إلى وهدة ملحودة و سقوف
بكت جشم لما استقلت على العلى ... و عن كل هولٍ بالرجال مطيف
أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن الطريف
فتى لا يعد الزاد إلا من التقى ... و لا الكال إلا من قنى و سيوف
و خرج عليه حمزة الشاري بخراسان فعاش بباذغيس فأفسد و وثب على عيسى بن علي بن عيسى ففض جموعه و قتل فيهم أبرح قتل و انتهت الهزيمة لعيسى إلى كابل و قندهار فقال أبو العذافر

كاد عيسى يكون ذا القرنين ... بلغ المشرقين و المغربين
لم يدع كابلاً و زابلستا ... ن وما حولها إلى الرخجين
ثم غرق حمزة في واد بكرمان و تسمى طائفته الحمزية و خرج أبو الخصيب بنسا و غلب عليها أبيورد و طوس و سرخس و نيسابور و خرب و أفسد و كثفت جموعه و قوي أمره فبعث إليه هارون عيسى بن علي فقتله و سبى أهله و ذراريه و حمل إليه رأسه و استقامت أحوال خراسان و تحركت الخرمية بأذربيجان فانتدب لهم عبد الله بن مالك فقتل منهم ثلاثين ألفاً و سبى نساءهم و صبيانهم و وافى بهم هارون بقرميسين فأمر بقتل الأسارى و بيع السبى و خطب الفضل بن يحيى إلى خاقان ابنته فحنق لذلك خاقان و خرجت الخزر من باب الأبواب و أوقعوا بالمسلمين و أهل الذمة و سبوا مائة ألف وأربعين ألف إنسان و قتلوا من الرجال و النساء و الولدان ما لا يعلم عددهم إلا الله عز و جل و أحرقوا المدن والقرى و انتهكوا من الإسلام ما لم يذكر مثله قبله و لا بعده.
قصة البرامكة قيل أنهم كانوا من أهل بيوتات بلخ ممن يتولون البهار و بيت النار فقيل لهم البرامكة على معنى أنهم سدنة البيت و حجابه فأول ما ولوا من الأعمال في أيام أبي العباس ولي الخراج خالد بن برمك ثم صار يدور فيهم إلى أيام الرشيد فولى الوزارة يحيى بن خالد بن برمك و ولي خراسان و ما دون باب بغداذ مما يليها ابنه الفضل بن يحيى و ولى ابنه الآخر جعفر بن يحيى الخاتم قال بعضهم الوزارة برمكية لا بقي منهم بقية ثم سخط عليهم هارون فأفناهم و اختلفوا في السبب الذي حمله على ذلك فقال قوم أنهم أرادوا إظهار الزندقة و إفساد الملك و نقله إلى عثمان بن نهيك الفاسق فقتلهم هارون على ذلك و قال آخرون إن هارون كان مختصاً بجعفر بن يحيى بن برمك حتى أمر فخيط له قميص ذو جيبين يلبسه هارون و جعفر لثقته به و اختصاصه به و كان باراً بأخته عباسة مولعاً بها لا يكاد يصبر عنها فزوجها من جعفر بن يحيى على أن لا يمسها و لا يلم بها ليكون لها محرماً إذا حضرت المجلس فقضى من القضاء إن حملت منه و ولدت توأمين فغضب هارون لذلك و أمر بضرب عنق جعفر بن يحيى وحبس أخاه الفضل و أباه بالرقة حتى ماتا في الحبس و أمر بجثة جعفر و رأسه إلى مدينة السلام فقطعت بنصفين و صلبت به ثم أحرقت بالنار و كتب إلى العمال في جميع النواحي و البلدان بالقبض على البرامكة و حاشيتهم و أولادهم و مواليهم فكل من هو منهم يسئل و الاستيثاق منهم و اجتياح أموالهم و استصفائها منهم و إذكاء العيون على من اختفى منهم و تغيب و الاحتيال في القبض عليه حتى إذا علم أنه قد أحاط بهم أو بأكثرهم كتب إلى كل عامل كتابا مدرجاً مختوماً بأمره أن ينظر فيه يوم كذا من سنة كذا فيمثل ما مثل له فيه فوافق قتلهم كلهم في يوم واحد ثم أمر بعباسة فحطت في صندوق و دفنت في بئر و هي حية و أمر بابنيها كأنهما لؤلؤتان فأحضرا فنظر إليهما ملياً و شاور نفسه و بكى ثم رمى بهما إلى البئر و طمها عليهم و قال الأصمعي في البرامكة
إذا ذكر الشرك في مجلسٍ ... أنارت وجوه بني برمك
و إن تليت عندهم سورة ... أتوا بالأحاديث من برمك
و حج هارون بابنيه محمد الأمين وعبد الله المأمون و كتب كتاباً بالعهد و البيعة للأمين و بعده للمأمون و أشهد عليه و علقه على الكعبة فقال إبرهيم الموصلي
خير الأمور مغبة ... و أحق أمر بالتمام
أمر قضى أحكامه ... في الكعبة البيت الحرام
و كان عقد العهد لمحمد و سماه الأمين و هو ابن خمس سنين و ذلك في سنة خمس و سبعين و مائة فقال سلم الخاسر
قد وفق الله الخليفة إذ بنى ... بيت الخلافة للهجان الأزهر
قد بايع الثقلان في مهد التقى ... لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر
و قال أبان بن حميد اللاحقي
و ما قصرت سن به أن ينالها ... و قد خص عيسى بالنبوة في المهد

و في سنة ست و ثمانين و مائة أخذ البيعة للقاسم ابنه بولاية العهد بعد المأمون و سماه المؤتمن فصاروا بعهده ثلاثة الأمين ثم المأمون ثم المؤتمن و خرج رافع بن ليث بن نصر بن سيار بسمرقند و غلب على ما وراء النهر فولى الرشيد هرثمة بن أعين خراسان و استكفاه أمر رافع و قدم المأمون إلى مرو و سار بنفسه فلما بلغ طوس توفي بها فدفن في سنة ثلاث و تسعين و مائة و قد بلغ من السن سبعاً و أربعين سنة و كانت ولايته ثلاثاً و عشرين سنة و شهرين و أياماً فرثاه أبو الشيص
غربت في المشرق الشم ... س فقل للعين تدمع
ما رأينا قط شمساً ... غربت من حيث تطلع
فلما مات هارون بايع الناس لولده الثلاثة على الوفاء بالعهد بعضهم لبعضٍ.
محمد الأمين

و بويع محمد الأمين فنكث و غدر و ولى ابنه موسى العراق و هو طفل و لقبه الناطق بالحق و أمر بالدعاء له على المنابر و نهى عن الدعاء للمأمون و أمر بإبطال ما ضرب المأمون من الدراهم و الدنانير بخراسان و أغرى الفضل بن الربيع بينه و بين المأمون و زين له بكر بن المعتمر خلع المأمون فولى بن عيسى بن هامان الحرب و أخذ البيعة لابنه الناطق بالحق و صيره في حجره و ندبه للقاء المأمون و دفع إليه قيداً من ذهب و قال أوثق المأمون و لا تقتله حتى تقدم به علي و أعطاه من الصامت ألفي ألف دينار سوى الأثاث و الكراع و بلغ الخبر المأمون فتسمى بأمير المؤمنين و قطع الخراج عن الأمين و ألقى اسمه من الطراز و الدراهم و الدنانير و انهض طاهر بن الحسين و هرثمة بن أعين إلى علي بن عيسى فالتقوا بالري و قتلوا جيوشه و احتووا على أمواله و كتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون كتبت إليك و رأس علي بن عيسى في حجري و خاتمه في يدي و الحمد لله رب العالمين فنهض الفضل بن سهل و دخل على المأمون و سلم عليه بالخلافة فبعث المأمون إلى طاهر بالهدايا و الأموال و أمده بالرجال و القواد و سماه ذا اليمينين و صاحب خيل الدين و أمره أن يمضي إلى العراق فأخذ طاهر على طريق الأهواز و أخذ هرثمة على طريق حلوان و رفع المأمون قدر الفضل بن سهل و عقد له على المشرق من جبل همذان إلى جبل سقين و تبت طولاً و من بحر فارس و الهند إلى بحر جرجان و الديلم عرضاً و عقد له لواء على سنان ذي شعبتين و سماه ذا الرياستين رياسة الحرب و رياسة التدبير ولما صار طاهر إلى الأهواز و استولى عليها ثم امتد إلى واسط و تمكن هرثمة من حلوان شغب الجند على محمد الأمين فأعطاهم رزق أربعة و عشرين شهراً ثم و ثبوا عليه و هو في قصر الخلد فأخرجوه و خلعوه و حبسوه مع أمه و ولده في مدينة أبي جعفر فقال جاء الخبر من العجب لأحد عشر من رجب ثم أخرجوه و بايعوه و كان حبسه يومين ثم تشوشت الدنيا فخرج ابن طباطبا العلوي بالكوفة و بيض و معه أعرابي من بني شيبان يقال له أبو السرايا و غلبوا على الكوفة و السواد ثم مات ابن طباطبا وهو محمد بن إبرهيم بن اسمعيل بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين ونقش الخاتم و الدراهم إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص و في وسطه الفاطمي الأصغر و خرج بالبصرة علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فغلب و بيض و خرج بمكة ابن الأفطس الحسين بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فغلب و بيض و حج بالناس سنة مائتين و خرج بالمدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم فغلب و بيض و خرج باليمن إبرهيم بن موسى بن جعفر بن محمد و غلب و بيض و خرج بالشام على بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية يدعو إلى نفسه و حاصر طاهر و هرثمة محمداً الأمين و جعلا يحاربان أصحابه سنة ببغداد فقتل أصحابه و خفت يده من المال و ضعف أمره و كتب طاهر إلى المأمون يستأمره في قتل محمد فبعث إليه بقميص غير مقور فعلم أنه يأمره بقتله و خلص الجيش إلى قصر محمد و أحدقوا به فوجه إلى هرثمة يسأله الأمان فآمنه و ضمن له الوفاء من المسلمين فجاء طاهر مسرعاً و حمل على الحراقة بالنفط و الحجارة فانكفأت بمن فيها فأما هرثمة فإنه ركب زورقاً قريباً منه وأما محمد فسبح حتى خرج بشط البصرة فأخذه أصحاب طاهر و جاؤوا به فقتله من ليلته و بعث برأسه إلى خراسان و خلص الأمر للمأمون و بعث المأمون إلى علي بن موسى بن جعفر فأقدمه خراسان و عقد له العهد من بعده و سماه الرضا و زوجه ابنته أم حبيبة بنت المأمون و خضر الثياب و اللباس و الرايات و أمر بطرح السواد فشق ذلك على بني هاشم و غضب بنو العباس و قالوا يخرج الأمر منا إلى أعدائنا فخلعوا المأمون و بايعوا إبرهيم بن المهدي و سموه المبارك و توجه المأمون نحو العراق فلما بلغ سرخس قتل الفضل بن سهل في الحمام غيلة و مات علي بن موسى الرضا بطوس و دفن عند قبر هارون و اختلفوا في سبب موته فمن قائل أنه سم وآخر أنه أكل عنباً فمات و جاء المأمون حتى دخل بغداذ و عليه الخضرة فأمر بطرحها و أمر بإعادة السواد و خلع القاسم المؤتمن و قتل محمد الأمين سنة

ثمان و تسعين و مائة و كان سنة ثمان و عشرين سنة و أياماً ولايته أربع سنين و أربعة أشهر و أياماً و يقال خمس سنين و فيه يقولثمان و تسعين و مائة و كان سنة ثمان و عشرين سنة و أياماً ولايته أربع سنين و أربعة أشهر و أياماً و يقال خمس سنين و فيه يقول
أضاع الخلافة غش الوزير ... و فسق الأمير و جهل المشير
فبكر مشير و فضل وزير ... يزيدان ما فيه حذف الأمير
و بويع إبرهيم بن المهدي سنة اثنتين و مائتين فخرج إلى الحسن بن سهل فألحقه بواسط ثم بايع بغداذ المأمون و كانت أيام إبرهيم بن المهدي سنة وأحد عشر شهراً و دخل المأمون بغداذ سنة أربع و مائتين.
المأمون و بويع عبد الله المأمون سنة أربع و مائتين و كانوا بايعوه بمرو عندما خلعه أخوه فأحسن السيرة و تفقد أمور الناس و قعد للقضاء و الصلاة و الخطبة و خلع أخاه القاسم و أخذ البيعة لأخيه أبي إسحق المعتصم من بعده و كتب الناس من عبد الله المأمون أمير المؤمنين و أخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق المعتصم و أمر بامتحان القضاة و المحدثين و نادى مناديه بربث الذمة ممن ذكر معاوية بخير و فضله على أحد من الصحابة و أحيا العلم القديم و نقل إلى لسان العرب و أظهر علم النجوم و الفلسفة و كان فاضلاً في نفسه فطيناً ذكياً أبيض البشرة تعلوه حمرة أعين طويل اللحية دقيقها في خده خال أسود و أمر أبو إسحق باتخاذ الأتراك للخدمة و كان يشتري الواحد منهم بمئة ألف ومئتي ألف و في أيامه تحركت الخرمية و ادعى بابك أن روح جاويذان دخلت فيه فبعث إليه المأمون محمد بن حميد فقتل محمد بن حميد و عامة أصحابه و أصاب الناس مجاعة حتى بلغ المد عشرين ديناراً و رؤي قبله الكوكب ذو الذنب ثم وقع بعده موت ذريع أفنى كثيراً من الناس و ظفر المأمون بإبرهيم بن المهدي في زي امرأة يمشي بين امرأتين فعفا عنه و آمنه و نادمه فقال إبرهيم
إن الذي قسم المكارم حازها ... من صلب آدم للإمام السابع
فعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفو و لم يشفع إليك بشافع
و غزا الروم غير مرة فافتتح منها حصوناً و قلاع و مات بها فحمل إلى طرسوس و قال الشاعر
خلفوه بعرقوة طرسوس ... مثلما خلفوا أباه بطوس
هل رأيت النجوم أغنيت عن المأ ... مون أو عن وزير المألوس
و توفي سنة ثمان عشر و مئتين و كانت خلافته منذ قتل محمد عشرين سنة و عمره ثمانيا و أربعين سنة و كانت أم المأمون باذغيسية تسمى مراجل و كان المأمون ضربه أبوه في شيء فقال الرقاشي يهجوه
لم تلد أمة تع ... رف في السوق التجارا
لا ولا حد ولا خا ... ن ولا في الحكم جارا
أبو إسحق المعتصم بالله و بويع أبو إسحق المعتصم بالله و هو محمد بن هارون سنة ثمانٍ عشر و مئتين فتخرم كثير من أهل الجبال من مشاهير همذان و ماسبذان و مهرجان و تجمعوا فبعث إبرهيم بن إسحق بن مصعب و قتل منهم ستين ألفاً و سبى ستين ألفاً و هرب الباقون إلى بلاد الروم و خرج العباس بن المأمون و دعا إلى نفسه و بايعه كثير من القواد فحبسه وأمر بلعنه على المنابر و سماه اللعين فمات بالحبس و شغب عليه الأتراك فأمر برد المقاصير في مساجد الجماعة ثم مضى بإنزاله إلى سر من رأى فابتني فيها و اتخذها داراً و قتل بابك الخرمي سنة ثلاث و عشرين و مائتين.

قصة بابك الخرمي ذكروا أنه كان لغير رشده و أن أمه كانت امرأة عوراء فقيرة من قرى أذربيجان فشغف بها رجل من نبط السواد يقال له عبد الله فحملت منه و قتل الرجل و بابك حمل فوضعته أمه و جعلت تكتسب عليه إلى أن بلغ مبلغ السعي و صار غلاماً حذوراً و استأجره أهل قريته على سرحه بطعام بطنه و كسوة ظهره فزعموا أن أتته ذات يوم بطعامه و هو قائل في ظل حائط فرأت شعر بدنه قد اقشعر يقطر من رأس كل شعرة قطرة دم فقالت إن لابني هذا شأناً عظيماً و كان في تلك الجبال قوم من الخرمية و عليهم رئيسان يتكافحان و يخالف أحدهما الآخر يقال لأحدهما جاويذان و الآخر عمران فمر جاويذان في بعض حاجاته بقرية بابك فرآه فتفرس فيه الجلادة فاستأجره من أمه و حمله إلى ناحيته قالوا فمالت إليه امرأة جاويذان و أفشت إليه أسرار زوجها و أطلعته على دفائنه و كنوزه فلم يلبث إلا قليلاً حتى وقعت حرب بين جاويذان و عمران فأصابت جاويذان جراحة فمات منها فزعمت امرأة جاويذان أن بابك قد استخلف هذا على أمره و تحولت روحه إليه و إن الذي كان وعدكم من الظفر و النصرة كله صائر إليكم على يدي هذا و ذلك أن الخرمية لا يصبحون و لا يمسون إلا على توقع الحركة فأتبعوه قومه و صدقوا المرأة على شهادتها و أمر بابك أصحابه من النواحي و القرى و كان في قلة و ذلة و أعطاهم سيوفاً و خناجر و أمرهم أن يرجعوا إلى قراهم و منازلهم و ينتظروا ثلث الليل الأخير فإذا كان ذلك الوقت يخرجوا على الناس فلا يدعوا رجلاً و لا امرأة و لا صبياً و لا طفلاً من قريب و بعيد إلا قطعوه و قتلوه ففعل القوم ذلك فأصبح أهل تلك القرى قتلى بيد الخرمية و لا يدرون من أمرهم بذلك و لا ما السبب فيه و دخل الناس رعب شديد و هول عظيم ثم لم يمهل أن بعثهم إلى ما نأي عنه من النواحي فيقتلون من أصابوا من الناس من أي صنف كان صغيراً كان أو كبيراً أو مسلماً أو ذمياً حتى مرن القوم على القتل و انضوى عليه القطاع و الحراب و الذعار و أصحاب الفتن و أرباب النحل الزائغة و تكاثفت جموعه حتى بلغ فرسان رجاله عشرين ألف فارس سوى الرجالة و احتوى على مدن و قرى و أخذ بالتمثيل بالناس و التحريق بالنار و الانهماك في الفساد و قلة الرحمة و المبالاة و هزم جيوشا كثيرةً للسلطان و قتل عدة قواد له و ذكر في بعض الكتب أنه قتل فيما حفظ ألف ألفَ إنسان من بين رجل و امرأة و ذكر في التاريخ أن جميع من قتل بابك مائتا ألف إنسان و خمسة و خمسون ألف إنسان و خمس مائة إنسان و الله أعلم فندب المعتصم الإفشين للقاء بابك و عقد له على الجبال كلها و وظف له كل يوم يركب فيه عشرة ألف درهم صلة و يوم لا يركب خمسة آلاف درهم سوى الأرزاق و الأنزال و المعاون و ما يصل إليه من عمل الجبال و أجازه عند خروجه بألف ألف درهم فقاومه الإفشين سنة و انهزم بابك من يديه غير مرة و عاوده بابك يلتجئ إلى البذ و هي مدينة حصينة فلما قرب أجله و ضاق أمره خرج هارباً بأهله و ولده إلى أرمينية في زي التجار فعرفه سهل بن سنباط النصراني أحد بطارقة أرمينية و كان في إساره فافتدى نفسه منه بمال عظيم فلم يقبل منه بعد ما ركب من أمه و أخته و امرأته الفاحشة بين يديه و كذا كان الملعون يفعل بالناس إذا أسرهم مع حرمهم فقبض عليه و بعثه إلى الإفشين و كان المعتصم جعل ألفي ألف لمن جاء برأسه و ألف ألفَ لمن جاء به حياً فحمل إلى سهل بن سنباط ألفي ألف و سوغ له عمال ناحيته و حمل الإفشين بابك إلى المعتصم و هو بسر من رأى فأمر به فقطعت يداه و رجلاه و صلب سنة ثلاث و عشرين و زعم قوم أن بابك الملعون لما قطعت يده لطخ وجهه بدمه و ضحك يري الناس أنه لم يؤلمه القطع و أن روحه ليست تحس بشيء من ذلك و كان ذلك من أعظم الفتوح في الإسلام و يوم قبض عليه كان عيداً للمسلمين و كان يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث و عشرين و مائتين فرفع المعتصم قدر الإفشين و توجه و ألبسه وشاحين منطومين بالدر و الجواهر و سوره سوارين و وصله بعشرين ألف ألفَ درهم و أمر الشعراء بمدحه و جعل صلتهم عنده فمما قيل فيه
كل مجد غير ما أثله ... لبني كاووس أولاد العجم
إنما الإفشين سيف سله ... قدر الله بكف المعتصم
لم يدع في البذ من ساكنه ... غير أمثال كأمثال إرم

و في أيامه خرجت الروم فنزلت زبطرة فتوجه المعتصم إليهم و فتح عمورية و قتل ثلاثين ألفاً و أسر ثلاثين ألفاً و في ذلك الفتح يقول الطائي
السيف أصدق أنباء من الكتب
و قال غيره في ذلك
أقام الإمام منار الهدى ... و أخرس ناقوس عمورية
فقد أصبح الدين مستوثقاً ... و أضحت زناد الهدى مورية
و خرج عليه أبو حرب المبرقع بالشام فوجه إليه جيشاً فقتلوا من أصحابه عشرين ألفاً و حملوه إلى المعتصم و هو بسر من رأى و صلبوه و كان يقول بتناسخ الأرواح ثم غضب المعتصم على الإفشين و ذلك أنه كاتب مازيار اصفهبذ طبرستان وسأله الخلاف والمعصية وأراد أن ينقل الملك إلى العجم فقتله وصلبه بأذاء بابك و وجده بقلفته لم يختن و أخرجوا من منزله أصناماً فأحرقوها و مات المعتصم سنة ست و عشرين و مائتين و كانت خلافته ثمان سنين و ثمانية أشهر و خلف ثماني بنين و ثماني بنات و هو الذي امتحن أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه و ضربه بالسياط و في أيامه مات ابراهيم بن المهدي و كان عمر المعتصم ثمانياً و أربعين سنة.
هارون الواثق بالله و بويع هارون الواثق بالله و هو الذي يقول فيه الطائي هارون فيه كأنه هارون و مات و في أيامه انفرد البحتري بالرياسة في الشعر و في أيامه أقبلت نار من المشرق فيها دوي كدوي الريح فأحاطت ببيوتات فأحرقت ثم تبعها ريح عاصف فهدمت بيوتاً و مات خلق كثير من الفزع و مات الواثق سنة اثنتين و ثلاثين و مائتين و كانت خلافته خمس سنين و تسعة أشهر و سنه اثنين و ثلاثين سنة.
جعفر بن أبي إسحق المتوكل على الله و بويع جعفر بن أبي إسحق المتوكل على الله فأخذ البيعة لولده الثلاثة لمحمد بن جعفر المنتصر بالله و لإبرهيم بن جعفر المؤيد بالله و لأبي عبد الله بن جعفر المعتز بالله و جعل العهد للمنتصر و بعده للمعتز و بعده للمؤيد و عقد لكل واحد منهم لواء و ولى المنتصر العراق و الحجاز و اليمن و ولى المعتز خراسان و الري و الجبال و ولى المؤيد أجناد الشام و في أيامه امتنع إسحق بن اسمعيل بتفليس فبعث إليه بغا الكبير فقتل اسحق و أحرق المدينة و كانت كلها من خشب الصنوبر و أحرق أكثر من خمسين ألف إنسان و هاجت الزلزلة و تقطع الجبل الأقرع و سقط في البحر فمات أكثر أهل اللاذقية من تلك الهدة و تناثرت الكواكب و أخرج أحمد بن حنبل من الحبس و وصله و صرفه إلى بغداد و نفى أحمد بن دؤاد و قبض على أمواله فقال أبو العتاهية
لو كنت في الرأي منسوباً إلى رشد ... و كان عزمك عزماً فيه توفيق
لكان في الفقه شغل لو قنعت به ... من أن يقال كتاب الله مخلوق
و كتب المتوكل إلى أهل بغداد كتاباً قرئ على المنبر بترك الجدل في القرآن و أن الذمة برئة ممن يقول بخلق أو غير خلق و ولى يحيى بن أكثم قضاء الشرقية حسان بن قيس و كان أعور و ولى قضاء الغربي سوار بن عبد الله و كان أعور فقال بعض الشعراء
رأيت من الكبائر قاضيين ... هما أحدوثة في الخافقين
هما اقتسما العمى نصفين قسماً ... كما اقتسما قضاء الجانبين
وفي أيامه ظهر رجل بسر من رأى يقال له محمود بن الفرج النيسابوري وزعم ذو القرنين و معه مصحف قد ألف كلاماً و تبعه على ذلك سبعة عشر رجلاً فقيل له كيف ذهبت إلى ذي القرنين من بين الناس قال لأن رجلين ببغداذ يدعيان النبوة فكرهت أن أكون ثالثهما فصفع صفيعات و تاب هو و أصحابه و بنى المتوكل و تحول إليها و اتخذها وطناً فاغتيل ليلاً وهو ثمل فقتل فقيل فيه
حانت منيته و العين هاجعة ... هلا أتته المنايا و القنا قصد
هلا أتته أعاديه مهاجرة ... و الحرب تسعر و الأبطال تجتلد
و قتل سنة سبع و أربعين و مائتين و كانت ولايته أربع عشرة سنة و عشرة أشهر و أياماً و عمره أربعين سنة و يقال أن ابنه المنتصر دس لقتله فعاش بعده ستة أشهر و روى دعبل بن علي الخزاعي عن الحسن ليلة قتل فيها المتوكل و بويع المنتصر قائلاً يقول
خليفة مات لم يأسف له أحد ... و قام آخر لم يفرح به أحد
فمر ذاك ومر الشؤم يتبعه ... و قام هذا فقام النحس و النكد

و لما بويع المنتصر خلع المعتز و المؤيد و مات بعد ستة أشهر و كان بن أربع و عشرين سنة ثم بويع أحمد بن محمد ابن المعتصم فحبس المعتز و المؤيد و أطلق الحسن بن الأفشين و إخوته و مواليه من الحبس و خلع عليهم و عقد لمحمد بن طاهر بن عبد الله على خراسان فشغب الوالي و الشاكرية و كسروا باب السجن و أنزلوا المعتز و خلعوا المستعين و كانت أيامه سنتين و تسعة أشهر و في أيامه خرج الحسن بن زيد بطبرستان.
أبو عبد الله المعتز و بويع أبو عبد الله المعتز ثم اجتمعت الأتراك و الفراعنة فخلعوا المعتز و كانت أيامه أربع سنين و تسعة أشهر.
المهتدي بالله محمد بن هارون الواثق و بويع المهتدي بالله محمد بن هارون الواثق سنة خمس و خمسين و مائتين و قتل سنة ست و كانت أحد عشر شهراً من أيامه إلى أن توفي المعتز بالله و ظهر البرقعي بالبصرة و جمع الزنج الذين كانوا يكنسون السباخ و قوي أمره.
المعتمد على الله و بويع المعتمد على الله و هو أحمد بن جعفر المتوكل سنة ست و ستين و مائتين و بايعه ممن أبوه خليفة بنو الواثق و بنو المعتز و بنو المتوكل و بنو المنتصر و بنو المستعين و بنو المعتصم و بنو المعتمد و توفي سنة تسع و سبعين و مائتين و كانت ولايته ثلاثاً و عشرين سنة و في أيامه قوي أمر الزنج بالبصرة و غلب الحسن بن زيد على الري و جرجان و طبرستان و خرج يعقوب بن الليث بسجستان و غلب أحمد بن عبد الله الخجستاني على خراسان و خرج سرحب الجمال في إخوته منصور و نعمان فغلبوا مرو و سرخس و خرج علويان بالمدينة اسم أحدهما محمد واسم الآخر حسن و قتلا من أهل المدينة مقتلةً عظيمةً و طالبوهم بعشرة آلاف دينار و مات نسوانها و ولدانها و ضعفاؤها جوعاً ولم يصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعات و وثب الأعراب على كسوة البيت فنهبوها و صاروا إلى الزنج بالبصرة و خرجت فزارة و قيس و طيء على الحاج فانتهبوهم و سبوا حرمهم و استاقوا إبلهم و قتلوا منهم خلقاً كثيراً و لم يفلت أحد إلا بقطع أو جراحة و خرج علوي بأذربيجان و تسمى الرافع بالله و تغلب عليها و جمع الأكراد و استغواهم و خرج أحمد بن طولون بمصر واستعصى على السلطان و عاث رافع بن أعين في أقاصي خراسان و أفسد و صار عبد الله بن الواثق إلى يعقوب بن الليث يستعينه على المعتمد فذلك الذي أطعمه في قصد بغداذ و كوتب نصر بن أحمد بن أسد شاهان خذاي بولاية ما وراء النهر و لكل واحد ممن ذكرنا قصة و خبر و أخذ المعتمد البيعة لابنه جعفر بن أحمد و سماه المفوض إلى الله و جعل ولي العهد بعده أخاه أبا أحمد الموفق بالله فلما توفي الموفق خلع المعتمد ابنه المفوض إلى الله و أثبت العهد لأبي العباس بن الموفق و سماه المعتضد بالله و توفي المعتمد سنة تسع و سبعين و مائتين.
المعتضد بالله و بويع المعتضد بالله في هذه السنة و مات سنة ست و ثمانين و مائتين فكانت ولايته ست سنين و ستة أشهر و عشرين يوماً و في أيامه خرج زكرويه بن مهرويه في كلب على الحاج فقتلهم و سباهم و قصد الكوفة فأنهض إليه السلطان جيشاً فمارسهم خمسة أشهر ثم ظفروا به فحملوه إلى بغداذ على طريق الشهرة و النكال و حبس فمات في الحبس ثم أخرج فصلب فسرقه القرامطة عن خشبته.
المكتفي بالله علي بن أحمد وبويع المكتفي بالله علي بن أحمد ولي خمس سنين و سبعة أشهر و أياماً و توفي سنة أربع و تسعين و مائتين و كنيته أبو محمد، وبويع المقتدر بالله أبو الفضل جعفر و لم يلي الخلافة أصغر منه و في أيامه فسدت أمور الخلافة و كانت أيامه خمساً و عشرين سنةً، القاهر بالله وسلمت عيناه بويع القاهر بالله و سلمت عيناه و كانت ولايته عاماً واحداً و ستة أشهر، و بويع الراضي محمد بن جعفر المقتدر و كانت ولايته سبع سنين، و بويع المتقي بالله إبرهيم بن جعفر المقتدر و كان صالحاً، و بويع المستكفي خلع وسلمت عيناه، و بويع المطيع لله لثمان بقين من جمادى الآخر سنة أربع و ثلاثين و خلع نفسه يوم الأربعاء الثالث عشر من ذي القعدة فلج و نزع نفسه غير مكره.

هذا آخر كتاب البدء و التأريخ و الحمد لله و صلواته على سيدنا محمد النبي و آله و سلم،و كتبه العبد الضعيف الفقير الراجي رحمة ربه اللطيف خليل بن الحسين الكردي الولاشجرضي غفر الله له و لجميع المسلمين في شهور سنة ثلاث و ستين و ستمائة و الحمد لله و حده و الصلوة على محمد و آله.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5