كتاب : المستطرف في كل فن مستظرف
المؤلف : شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي

يمشي خارج عسكره يتميز عساكر المسلمين فجاء الخبر إلى عبد الله ابن ابي السرج وهو نائم في قبته فخرج فيمن وثق به من رجاله وحمل على العدو فقتل الملك وكان الفتح وبمثل هذا قهر ألب ارسلان ملك الترك ملك الروم وقمعه وقتل رجاله وأباد جمعه وكانت الروم قد جمعت جيوشا يقل أن يجمع لغيرهم من بعدهم مثلها وكان قد بلغ عددهم ستمائة الف كتائب متواصلة وعساكر مترادفة وكراديس يتلو بعضها بعضا لا يدركهم الطرف ولا يحصيهم العدد وقد استعدوا من الكراع والسلاح والمجانيق والآلات المعدة للحروب وفتح الحصون بما لا يحصى وكانوا قد قسموا بلاد المسمين الشام والعراق ومصر وخراسان وديار بكر ولم يشكوا أن الدولة قد دارت لهم وأن نجوم السعود قد خدمتهم ثم استقبلوا بلاد المسلمين فتواترت أخبارهم إلى بلاد المسلمين واضطربت لها ممالك أهل الإسلام فاحتشد للقائهم الملك ألب ارسلان وهو الذي يسمى الملك العادل وجمع مجموعة بمدينة أصبهان واستعد بما قدر عليه ثم خرج يؤمهم فلم يزل العسكران يتدانيان إلى أن عادت طلائع المسلمين إلى المسلمين وقالوا لألب أرسلان غدا يتراءى الجمعان فبات المسلمون ليلة الجمعة والروم في عدد لايحصيهم إلا الله الذي خلقهم وما المسلمون مم إلا أكلة جائع فبقي المسلمون وجلين لما دهمهم فلما أصبحوا صباح يوم الجمعة نظر بعضهم إلى بعض فهال المسلمين ما رأوا من كثرة العدو فأمر ألب أرسلان أن يعد المسلمين فبلغوا اثني عشر الفا كانوا كالشامة البيضاء في الثور الاسود فجمع ذوي الرأي من أهل الحرب والتدبير والشفقة على المسلمين والنظر في العواقب واستشارهم في استخلاص أصوب الرأي فتشاوروا برهة ثم اجتمع رأيهم على اللقاء قتوادع القوم وتحاللوا وناصحوا الإسلام واهله وتأهبوا أهبة اللقاء وقالو لألب أرسلان بسم الله نحمل عليهم فقال الب ارسلان يا معشر أهل الإسلام امهلوا فإن هذا يوم الجمعة والمسلمون يخطبون

المنابر ويدعون لنا في شرق البلاد وغربها فإذا زالت الشمس وعلمنا أن المسلمين قد صلوا ودعوا الله ان ينصر دينه حملنا عليهم إذ ذاك وكان الب أرسلان قد عرف خيمة ملك الروم وعلامته وزيه وزينته وفرسه ثم قال لرجاله لا يتخلف أحد منكم أن يفعل كفعلي ويتبع أثري ويضرب بسيفه ويرمى سهمه حيث اضرب بسيفي وارمي بسهمي ثم حمل برجاله حملة رجل واحد إلى خيمة ملك الروم فقتلوا من كان دونها ووصلوا إلى الملك فقتلوا من كان دونه وجعلوا ينادون بلسان الروم قتل الملك قتل الملك فسمعت الروم أن ملكهم قد قتل فتبددوا وتمزقوا كل بمزق وعمل السيف فيهم اياما وأخذ المسلمون اموالهم وغنائمهم وأتوا بالملك أسيرا بين يدي الب ارسلان والحبل في عنقه فقال له الب أرسلان ماذا كنت تصنع بي لو اسرتني قال وهل تشك أنني كنت اقتلك فقال له الب ارسلا انت اقل في عيني من ان اقتلك اذهبوا به فبيعوه لمن يزيد فيه فكان يقاد والحبل في عنقه وينادي عليه من يشتري ملك الروم وما زالوا كذلك يطوفون به على الخيام ومنازل المسلمين وينادون عليه بالدراهم والفلوس فلم يدفع فيه أحد شيئا حتى باعوه من إنسان بكلب فأخذه الذي ينادي عليه وأخذ الكلب وأتى بهما إلى ألب ارسلان وقال قد طفت به جميع العسكر وناديت عليه فلم يبذل أحد فيه شيئا سوى رجل واحد دفع فيه هذا الكلب فقال قد انصفك إن الكلب خير منه ثم امر الب ارسلان بعد ذلك باطلاقه وذهب إلى القسطنطينية فعزلته الروم وكحلوه بالنار فانظر ماذا يأتي على الملوك إذا عرفوا في الحرب من الحيلة والمكيدة اللهم انصر جيوش المسلمين وعساكر الموحدين وأهلك الكفرة والمشركين وانصر المسلمين نصرا عزيزا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين

الباب الحادي والأربعون في ذكر أسماء الشجعان وذكر الأبطال وطبقاتهم وأخبارهم وذكر الجبناء وأخبارهم وذم الجبن
الطبقة الاولى الذين أدركوا الجاهلية والإسلام
حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم رسول الله أسد الله وأسد رسوله قتل في غزاة أحد رماه وحشي مولى جبير بن مطعم بحربه فقتله وكان فارس قريش غير مدافع وبطلها غير ممانع وعظم قتله على النبي ونذر أن يقتل به سبعين رجلا من قريش وكبر عليه في الصلاة سبعين تكبيرة
أمير المؤمنين علي بن طالب رضي الله عنه وكرم وجهه آية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسول الله ومؤيد بالتأييد الإلهي كاشف الكروب ومجليها ومثبت قواعد الإسلام ومرسيها وهو المتقدم على ذوي الشجاعة كلهم بلا مرية ولا خلاف روي عنه رضي الله عنه أنه قال والذي نفس ابن ابي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من موته على فراش وقال بعض العرب ما لقينا كتيبه فيها علي بن ابي طالب رضي الله عنه إلا اوصى بعضنا على بعض وقال رضي الله عنه لمعاوية قد دعوت الناس إلى الحرب فدع الناس جانبا واخرج إلي ليعلم اينا المران على قلبه والمغطى على بصره وأنا أبو الحسن قاتل جدك وخالك وأخيك شدخا يوم بدر وذلك السيف معي وبذلك القلب ألقى عدوي وقيل له كرم الله وجهه إذا جالت

الخيل فأين نطلبك قال حيث تركتموني وقيل له كيف تقتل الابطال قال لأني كنت القي الرجل فأقدر أني اقتله ويقدر هو اني قتلته فأكون أنا ونفسه عونا عليه وقال مصعب بن الزبير كان علي رضي الله عنه حذرا في الحروب شديد الروغان لا يكاد أحد يتمكن منه وكانت درعه صدرا لا ظهر لها فقيل له أما تخاف أن تؤتي من قبل ظهرك فقال إذا مكنت عدوي من ظهري فلا أبقى الله عليه إن ابقي علي قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله تعالى عليه غدره وهو في صلاة الصبح وسبب ذلك أن عبدالرحمن بن ملجم لعنه الله تزوج بقطام بن علقمة وكانت خارجية فقالت له لا أقنع إلا بصداق أسميه وهو ثلاث آلاف درهم وعبد وأمة وأن تقتل علي بن أبي طالب فقال لها لك ما سألت إلا علي بن أبي طالب وكيف لي به قالت تغتاله فإن سلمت أرحت الناس من شره وأقمت مع أهلك وإن اصبت دخلت الجنة فقال
( ثلاثة آلاف وعبد وقينة ... وضرب علي بالحسام المخذم )
( فلا مهر أغلى من علي وإن علا ... ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
قيل أنه طعنه وهو داخل المسجد في الغلس وذلك في تاسع عشر رمضان المعظم سنة اربعين كفن رضي الله عنه في ثلاثة أثواب ودفن في الرحبة مما يلي باب كندة من أبواب المسجد قالوا ولما ضربه ابن ملجم لعنه الله ثار الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر رضي الله عنهم فاحتضنوه وقام المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب فاخذه فأومأ علي رضي الله عنه إلى المغيرة أن صل بالناس فصلى بهم الفجر وأقبلت همدان فدخلوا على علي فقالوا يا امير المؤمنين لا تقوم لهم قائمة إن شاء الله تعالى فقال لا تفعلوا إنما النفس بالنفس قال ثم إن الحسن رضي الله عنه صلى الفجر وصعد المنبر فأراد الكلام فخنقته العبرة ثم نطق فقال الحمد لله على ما أحببنا وكرهنا وأشهد

أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأني احتسب عند الله عز و جل مصابي بأفضل الآباء رسول الله القائل من أصيب بمصيبة فليتسل بمصيبته في فإنها اعظم المصائب والله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل على عبده الفرقان لقد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون بعد رسول الله ولا يدركه الآخرون فعند الله نحتسب ما دخل علينا وعلى جميع أمة محمد فوالله لا أقول اليوم إلا حقا لقد دخلت مصيبة اليوم على جميع العباد والبلاد والشجر والدواب ولقد قبض في الليلة الني رفع فيها عيسى بن مريم عليهما السلام إلى السماء وقبض فيها موسى بن عمران ويوشع بن نون عليهما السلام وأنزل فيها القرآن على محمد ولقد كان رسول الله يبعثه في السرية ويسير جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فما يرجع حتى يفتح الله عز و جل على يديه وما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم أراد ان يبتاع بها خادما لأهله إلا أن امور الله تعالى تجري على احوالها فما احسنها من الله وأسوأها من انفسكم إلا ان قريشا أعطت أزمتها شياطينها فقادتها بأعنتها إلى النار فمنهم من قاتل رسول الله حتى اظهره الله تعالى عليه ومنهم من اسر الضغينة حتى وجد عن النفاق أعوانا رفع الكتاب وجف القلم وأمور تقضي في كتاب قد خلا ثم أطرق الحسن فبكى الناس بكاء شديدا ثم نزل فجرد سيفه ودعا بابن ملجم فأقبل يخطر واضعا شعره على اذنيه حتى قام بين يديه فقال يا حسن إني ما عاهدت الله تعالى على عهد قط إلاوفيت به عاهدت الله تعالى على ان اقتل أباك وقد قتلته فإن تخلني أقتل معاوية فإن أنا قتلته أضع يدي على يدك وإن أقتل فهو الذي تريد فقال الحسن رضي الله عنه أما والله لا سبيل إلى بقائك ثم قام إليه فضربه بالسيف فاتقاه ابن ملجم بيد ثم أسرع بالسيف فيه فقتله
ومن الأبطال خالد بن الوليد بن المغيرة المخذومي رضي الله عنه سيف الله وسيف رسوله بطل مذكور وفارس مشهور في الجاهلية

والإسلام قتل مالك بن نويرة وقتل مسيلمة الكذاب لعنه الله وكان الفتح لخالد يوم اليمامة وهو الذي فتح دمشق وأكثر بلاد الشام وله وقائع عظيمة في الروم أيد الله بها الإسلام مات على فراشه وكان يقول لقد شهدت كذا وكذا أزحفا وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه أثر طعنة أو ضربة أو رمية وها انا اموت على فراشي لا نامت عين الجبان وكان ينشد ويرتجز ويقول
( لا ترعبونا بالسيوف المبرقه ... إن السهام بالردى مفرقة )
( والحرب دونها العقال مطلقة ... وخالد من دينه على ثقة ) رضي الله عنه
الزبير بن العوام رضي الله عنه حواري رسول الله وابن عمته بطل شجاع لا يماري وشهم لا يحاول قتله عمرو بن جرموز اغتاله وهو في الصلاة
عمرو بن معد يكرب الزبيدي فارس من فرسان الجاهلية وله مواقف مذكورة ومواطن مشهورة وأسلم ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام وشهد حروب الفرس وكان له فيها أفعال عظيمة وأحوال جسيمة وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رآه قال الحمد لله الذي خلقنا وخلق عمرا روي عنه رضي الله عنه أنه سأله يوما فقال له يا عمرو أي السلاح أفضل في الحرب قال فعن أيها تسأل قال ما تقول في السهام قال منها ما يخطيء ويصيب قال فما تقول في الرمح قال اخوك وربما خانك قال فما تقول في الترس قال هو الدائر وعليه تدور الدوائر قال فما تقول في السيف قال ذلك العدة عند الشدة وقيل إنه نزل يوم القادسية على النهر فقال لأصحابه إنني عابر على هذا الجسر قال فأن اسرعتم مقدار جزر ا لجزور وجدتموني وسيفي بيدي أقاتل به تلقاء وجهي وقد عرفني القوم أنا قائم بينهم وإن بطأتم وجدتموني قتيلا بينهم ثم انغمس

فحمل على القوم فقال بعضهم لبعض يا بني زبيد علام تدعون صاحبكم والله ما نظن أنكم تدركونه حيا فحلوه فانتبهوا إليه وقد صرع عن فرسه وقد أخذ برجل فرس رجل من العجم فأمسكها والفارس يضرب فرسه فلم تقدر أن تتحرك فلما رآنا ادركناه رمى الرجل نفسه وخلى فرسه فركبه عمرو وقال أنا أبو ثور كدتم والله تفقدونني فقالوا أين فرسك فقال رمى بنشابة فغار وشب فصرعني ويروي أنه حمل يوم القادسية على رستم وهو الذي كان قدمه يزدجرد ملك الفرس يوم القادسية على قتال المسلمين فاستقبله عمرو وكان رستم على فيل فضرب عمرو الفيل فقطع عرقوبه فسقط رستم وسقط الفيل عليه مع خرج كان فيه أربعون الف دينار فقتل رستموانهزمت العجم وقتل عمرو بنهاوند في وقعة الفرس بعد أن عمر حتى ضعف وكان من الشعراء المعدودين وفيه يقول العباس بن مرداس
( إذا مات عمرو قلت للخيل اوطئي ... زبيدا فقد اودى بنجدتها عمرو )
ومنهم طلحة الأسدي رضي الله عنه كان من أكبر الشجعان جاهلية وإسلاما ثم ارتد وتنبأ وجمع جمعا عظيما قفل خالد بن الوليد جمعه وكان يتكهن ثم عاد إلى الإسلام وشهد حرب القادسية وغيرها من الفتوح والمقداد بن الاسود رضي الله عنه كان من اشجع الفرسان شديد البأس قوي الجنان رابط الجأش وله في الشجعان اسم مشهور ووصف مذكور يعجز الواصف عن وصف صفاته رضي الله عنه وأرضاه وسعد بن أبي وقاص الزهري الأنصاري رضي الله عنه كان فارسا بطلا راميا وهو اول من رمى في سبيل الله بسهم ولما قتل عثمان ابن عفان رضي الله عنه اعتزل ولم يشهد الحرب بعده ومات حتف انفه أبو دجانة الانصاري رضي الله عنه الذي خرج يتبختر بين الصفين

فقال عليه الصلاة و السلام إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع والمثنى بن حارثة الشيباني رضي الله عنه هو اول من فتح حرب الفرس وأبو عبيد بن مسعود الثقفي رضي الله عنه قاتل القوم يوم قس الناطف في حرب القادسية وعمار بن ياسر رضي الله عنه صاحب رسول الله الذي قال فيه رسول الله الحق يدور مع عمار حيث دار وأخبر أنه تقتله الفئة الباغية فقتل بصفين مع علي رضي الله عنه هاشم بن عتبة رضي الله عنه من اكابر الشجعان صاحب راية علي رضي الله عنه مات مسموما في شربه من عسل فقال معاوية إن لله جنودا منها العسل القمقاع بن عمرو طاعن الفيل في عشية القادسية رضي الله عنه
الطبقة الثانية
عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه قاتل جرجير ملك افريقية الذي كان يرى أنه أشجع اهل عصره قال عمر بن عبد العزيز لابن أبي مليكة صف لي عبد الله بن الزبير فقال والله ما رأيت جلدا قط ركب على لحم ولا لحما على عصب ولا عصبا على عظم مثل جلده ولحمه وعصبه ولا رأيت نفسا بين جنبين مثل نفس ركبت بين جنبيه ولقد قام يوما إلى الصلاة فمر حجر من حجارة المنجنيق بين لحييه وصدره فوالله ما خشع له بصره وقطع له قراءته ولا ركع دون الركوع كان يركع قتله الحجاج بعد أن حوصر بمكة وأسلمه أصحابه وعشيرته وصلبه الحجاج إلا إلى الله تصير الامور
ابو هاشم محمد بن علي بن ابي طالب بن الحنفية رضي الله عنه كان أبوه يلقيه في الوقائع ويتقي به العظائم وهو شديد البأس ثابت الجنان قيل له يوما ما بال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهك علي كرم الله وجهك يقحمك الحروب دون الحسن والحسين رضي الله عنهما فقال لأنهما كانا عينة

حذف

وكنت أنا يديه فكان يتقي عينيه بيديه وقيل إن اباه عليا رضي الله عنه اشتري درعا فاستطالها فأراد ان يقطع منها فقال له محمد ياأبت علم موضع القطع فعلم على موضع منها فقبض محمد بيده اليمنى على ذيلها وبالأخرى على موضع العلامة ثم جذبها فقطعها من الموضع الذي حده ابوه وكان عبد الله بن الزبير مع تقدمه في الشجاعة يحسده على قوته وإذا حدت بهذا الحديث غضب مات حتف أنفه بشعب رضوى عبد الله بن حازم السلمي رضي الله عنه وإلي خراسان شجيع مضر وفارسها في عصره قتله وكيع بن أبي سويد بخراسان في الفتنة وكيع بن أبي سويد قاتل عبد الله بن حازم المتقدم ذكره شجاع فاتك اهوج ولي خراسان قيل لما قتل عبد الله بن حازم ولم يتم امره لهوجه مات حتف أنفه مصعب بن الزبير بن العوام شجاع بطل جواد جاد بماله وبنفسه قتله عبيد الله بن زياد في الحروب التي كانت بينه وبين عبدالملك بن مروان عمير بن الحباب السلمي فارس الإسلام قتله بنو تغلب في الحرب التي كانت بينهم وبين قيس مسلمة بن عبدالملك ابن مروان فحل بني أمية وفارسها ووالي حروبها قيل أنه جلس يوما ليقضي بين الناس بمصر فكلمته امرأة فلم يقبل عليها فقالت ما رأيت أقل حياء من هذا قط فكشف عن ساقه فإذا فيها اثر تسع طعنات فقال لها هل ترين أثر هذا الطعن والله لو أخرت رجلي قيد شبر ما أصابتني واحدة منهن وما منعني من تأخيرها إلا الحياء وأنت تنحليني قلته المعتصم بطل شجاع فارس صنديد لم يكن في بني العباس أشجع منه ولا أشد قلبا قال ابن أبي داود كان المعتصم يقول لي ياأبا عبد الله عض على ساعدي بأكثر قوتك فأقول والله يا أمير المؤمنين ما تطيب تفسي بذلك فيقول أنه لا يضرني فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الاسنة فكيف تعمل فيه الأسنان ويقال أنه طعنه بعض الخوارج وعليه درع فأقام المعتصم ظهره فقصم الرمح نصفين

وكان يشد يده على كتابة الدينار فيمحوها ويأخذ عمود الحديد فيلويه حتى يصير طوقا في العنق
إبراهيم بن الاشتر النخعي كان من الشجعان المعدودين حارب عبيد الله بن زياد وهو في أربعة آلاف وعبيد الله في سبعين الفا فظهر به وقتله بيده وهزم جيشه عبد الله بن الحر الجعفي شجاع شاعر فاتك له وقائع عظيمة هائلة وأخباره في الشجاعة مشهورة جحدر بن ربيعة العكلي كان بطلا شجاعا فاتكا مغيرا شاعرا قهر أهل اليمامة وأبادهم فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامله يوبخه بتغلب جحدر عليه ويأمر بالتجرد له حتى يقتله أو يحمله إليه أسيرا فوجه العامل إليه فتية من بني حنظلة وجعل لهم جعلا عظيما إن هم قتلوا جحدرا أو اتوا به اسيرا فتوجه الفتية في طلبه حتى إذا كانوا قريبا منه ارسلوا يقولون له أنهم يريدون الإنقطاع إليه والأرتفاق به فوثق بذلك منهم وسكن إلى قولهم فبينما هو معهم يوما إذ وثبوا عليه فشدوه وثاقا وقدموا به على العامل فوجه بهإلى الحجاج معهم فلما قدموا به عليه ومثل بين يديه قال له أنت جحدر قال نعم أصلح الله الامير قال ما جرأك على ما بلغني عنك قال اصلح الله الامير كلب الزمان وجفوة السلطان وجرأة الجنان قال وما بلغ من أمرك قال لو ابتلاني الامير وجعلني مع الفرسان لرأي منى يعجبه قال فتعجب الحجاج من ثبات عقله ومنطقه ثم قال يا جحدر إني قاذف بك في حاجر فيه أسد عظيم فإن قتلك كفانا مؤنتك وإن قتلته عفونا عنك قال اصلح الله الأمير قرب الفرج إن شاء الله تعالى فأمر به فصفدوه بالحديد ثم كتب إلى عامله أن يرتاد له أسدا ويحمله إليه فتحيل العامل وارتاد له اسدا كان كاسرا خبيثا قد افنى عامة المواشي فتحيلوا حتى أخذوه وصيروه في تابوت وسحبوه على عجل فلما قدموا به على الحجاج أمر به فألقى في الحاجر ولم يطعم شيئا ثلاثة ايام حتى جاع واستكلب ثم أمر بجحدر ان ينزلوه إليه فأعطوه سيفا

وأنزلوه إليه مقيدا وأشرف الحجاج والناس حوله ينظرون إلى الاسد ما هو صانع بجحدر فلما نظر الاسد إلى جحدر نهض ووثب وتمطى وزعق زعقة دويت منها الجبال وارتاعت أهل الأرض فشد عليه جحدر وهو ينشد ويقول
( ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو قوة وسفك )
( وصولة وبطشة وفتك ... إن يكشف الله قناع الشك )
( فأنت لي في قبضتي وملكي )
ثم دنا منه وضربه بسيفه ففلق هامته فكبر الناس وأعجب الحجاج ذلك وقال لله درك ما أنجبك ثم أمر به فأخرج من الحاجز وفك عنه قيوده وقال له اختر إما أن تقيم معنا فنكرمك ونقرب من منزلتك وإما أن نأذن لك فتلحق ببلادك وأهلك على أن تضمن لنا أن لا تحدث بها حديا ولا تؤذي بها أحدا قال بل اختار صحبتك أيها الامير فجعله من سماره وخواصه ثم لم يلبث أن ولاه على اليمامة وكان من امره ما كان المهلب بن ابي صفرة كان من الشجعان ومن الابطال المعدودة وأولاده كلهم أنجاد ابطال إلا أن المغيرة من بينهم كان أشد تمكنا وكان المهلب يقول ما شهد معي المغيرة حربا إلا رأيت البشرى في وجهه وحمل عليه بعض الشجعان وفي يديه شجرة فلما رآها نكس رأسه على قربوس السرج وحمل من تحتها فبراها بسيفه وكان المهلب يقول اشجع الناس ثلاثة ابن الكليبة وأحمر قريش وراكب البغلة فابن الكليبة مصعب بن الزبير وأحمر قريش عمر بن عبيد الله بن معمر ما لقي خيلا قط إلا فرقها وراكب البغلة عباد بن الحصين ما كان قط في كربة إلا فرجها وهو من الإسلام وكان للمهلب في الحروب مكايد مشهورة ووقائعه أبادت الخوارج بعد ان كانوا قد استولوا على المسلمين وكان سيدا كريما مات حتف أنفه وكذلك ابنه المغيرة وفيه يقول زياد الاعجم

( مات المغيرة بعد طول تعرض ... للقتل بين اسنة وصفائح )
وكان في الخوارج فوارس مشهورة لا تثبت لهم الرجال وذكرهم يطول ويخرج عما أردناه فمنهم أبو بلال مرداس خرج في اربعين فهزم ألفين وشبيب الخارجي الذي غرق في الفرات نذرت امرأته غزالة أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ في الأولى البقرة وفي الثانية آل عمران فعبر بها جسر الفرات وأدخلها الجامع ووقف على بابه يحميها حتى وفت بنذرها والحجاج في الكوفة في خمسين ألفا ومنهم قطري بن الفجاءة كان رأس الخوارج وخاطبوه بأمير المؤمنين وعظموه وبجلوه وأشعاره في الشجاعة تدل على مكانه منها قتل في بعض وقائع الخوارج
الطبقة الثالثة
معن بن زائدة الشيباني قتله الخوارج بسجستان في ايام المهدي الوليد بن طريف الشيباني قتله يزيد بن مزيد عمرو بن حنيف كان من الفرسان المعدودة نقل عنه أنه كان يتصيد فتتبع حمار وحش وما زال يركض إلى أن حاذاه فجمع رجليه ووثب من على فرسه وصار على ظهر حمار الوحش وصار يحز عنقه بسيف أو سكين في يده حتى قتله أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي فارس بطل شاعر نديم جامع لما تفرق في غيره طعن فارسين رديفين فأنفذ الرمح من ظهريهما وحمل برمحه أربعة نفر وفيه يقول بكر بن النطاح
( قالوا وينظم فارسين بطعنه ... يوم اللقاء ولا يراه جليلا )
( لا تعجبوا لو كان مد قناته ... ميلا إذا نظم الفوراس ميلا )
وسأله يوما رجل شيئا فقال له اتسأل وجدك القائل

( ومن يفتقر منا يعش بحسامه ... ومن يفتقر من سائر الناس يسأل )
( وإنا لنلهو بالسيوف كما لهت ... فتاة بعقد أو سحاب قرنفل )
فخرج الرجل فجرد سيفه فلم يصادفه في طريقه إلا وكيل لأبي دلف ومعه مال جزيل فاستلبه منه وقتله فبلغ الخبر أبا دلف فقال دعوه فإني علمته على نفسي بكر بن النطاح بطل شجاع فارس فاتك له اشعار مشهورة واخبار مذكورة
ومما جاء في مدح السيف
قال رسول الله الخير في السيف والخير مع السيف والخير بالسيف وكان صمصام عمرو أشهر سيوف العرب وممن تمثل به نهشل فقال
( أخ ماجد ما خانني يوم مشهد ... كما سيف عمرو لم تخنه مضاربة )
ولما وهبه عمرو لخالد بن سعيد بن العاص عامل رسول الله على اليمن قال
( خليلي لم أخنه ولم يخني ... إذا ما صاب أوساط العظام )
( خليلي لمأهبه من قلاه ... ولكن المواهب للكرام )
( حبوت به كريما من قريش ... فسر به وصين عن اللئام )
( وودعت الصفي صفي نفسي ... على الصمصام أضعاف السلام )
ولم يزل في آل سعيد حتى اشتراه خالد بن عبد الله القسري بمال جزيل لهشام وكان قد كتب إليه فيه فلم يزل عند بني مروان ثم طلبه السفاح والمنصور والمهدي فلم يجدوه فجد الهادي في طلبه حتى ظفر به وكان مكتوبا عليه هذا البيت
( ذكر على ذكر يصول بصارم ... ذكر يمان في يمين يماني )
وقال ابن الرومي
( لم أر شيئا حاضرا نفعه ... للمرء كالدرهم والسيف )

( يقضي له الدرهم حاجاته ... والسيف يحميه من الحيف )
وقال زيد بن علي رضي الله عنهما
( السيف يعرف عزمي عند هزته ... والرمح بن خبر والله لي وزر )
( إنا لنأمل ما كانت أوائلنا ... من قبل تأمله إن ساعد القدر )
وقال عبدالله بن طاهر
( يبيت ضجيعي السيف طورا وتارة ... يعض بهامات الرجال مضاربة )
( أخو ثقة أرضاه في الروع صاحبا ... وفوق رضاه إنني أنا صاحبه )
( وليس أخو العلياء إلا فتى له ... بها كلف ما تستقر ركائبه )
وقدم عروة بن الزبير على عبد الملك بن مروان بعد قتل أخيه عبد الله فطلب منه سيف الزبير وقال له رده علي فإنه السيف الذي أعطاه رسول الله له يوم حنين فقال له عبد الملك أو تعرفه قال نعم قال بماذا قال أعرفه بما لا تعرف به سيف أبيك أعرفه بقول الشاعر
( ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب )
وقال الاجدع الهمداني
( لقد علمت نسوان همدان أنني ... لهن غداة الروع غير خذول )
( وأبذل في الهجاء وجهي وإنني ... له في سوى الهيجاء غير بذول )
وقال آخر
( عشرون الف فتى ما منهم أحد ... إلا كالف فتى مقدامة بطل )
( راحت مزاودهم مملوءة أملا ... ففرغوها وأوكوها من الاجل )

ومن أخبار الشجعان ما حكاه الفضل بن يزيد
قال نزل علينا بنو ثعلب في بعض السنين وكنت مشغوفا بأخبار العرب أن اسمعها وأجمعها فبينما أنا ادور في بعض احيائهم إذا أنا بامرأة واقفة في فناء خبائها وهي آخذة بيد غلام قلما رأيت مثله في حسنه وجماله له ذؤابتان كالسبج المنظوم وهي تعاتبه بلسان رطب وكلام عذب تحن إليه الاسماع وترتاح له القلوب وأكثر ما أسمع منها اي بني وهو يبتسم في وجهها قد غلب عليه الحياء والخجل كأنه جارية بكر لا يرد جوابا فاستحسنت ما رأيت واستحليت ما سمعت فدنوت منه وسلمت فرد علي السلام فوقفت انظر إليها فقالت يا حضري ما حاجتك فقلت الإستكثار مما اسمع والإستمتاع بما أرى من هذا الغلام فقالت يا حضري إن شئت سقت اليك من خبره ما هو أحسن من منظره فقلت قد شئت يرحمك الله فقالت حملته والرزق عسر والعيش نكد حملا خفيفا حتى مضت له تسعة أشهر وشاء الله عز و جل أن اضعه فوضعته خلقا سويا فوربك ما هو إلا أن صار ثالث أبويه حتى أفضل الله عز و جل وأعطى وأتى من الرزق بما كفى وأغنى ثم أرضعته حولين كاملين فلما استتم الرضاع نقلته من خرق المهد إلى فراش أبيه فربي كأنه شبل أسد أقيه برد الشتاء وحر الهجير حاتى اذا مضت له خمس سنين أسلمته إلى المؤدب فحفظه القرآن فتلاه وعلمه الشعر فرواه ورغب في مفاخر قومه وآبائه وأجداده فلما أن بلغ الحلم واشتد عظمه وكمل خلقه حملته على عتاق الخيل فتفرس وتمرس ولبس السلاح ومشى بين بويتات الحي الخيلاء فأخذ في قرى الضيف وإطعام الطعام وأنا عليه وجلة أشفق عليه من العيون أن تصيبه فاتفق أن نزلنا بمنهل من المناهل بين أحياء العرب فخرج فتيان الحي في طلب ثأر لهم وشاء الله تعالى أن اصابته وعكة

شغلته عن الخروج حتى إذا أمعن القوم ولم يبق في الحي غيره ونحن آمنون وادعون ما هو إلا ان ادبر الليل وأسفر الصباح حتى طلعت علينا غرر الجياد وطلائع العدو فما هو إلا هنيهة حتى احرزوا الاموال دون أهلها وهو يسألني عن الصوت وأنا استر عنه الخبر إشفاقا عليه وضنا به حتى إذا علت الاصوات وبرزت المخدرات رمى دثاره وثار كما يثور الأسد وأمر باسراج فرسه ولبس لأمة حربه وأخذ رمحه بيده ولحق حماة القوم فطعن أدناهم منه فرمى به ولحق أبعدهم منه فقتله فانصرفت وجوه الفرسان فرأوه صبيا صغيرا لا مدد وراءه فحملوا عليه فأقبل يؤم البيوت ونحن ندعو الله عز و جل له بالسلامة حتى إذا مدهم وراءه وامتدوا في أثره عطف عليهم ففرق شملهم وشتت جمعهم وقلل كثرتهم ومزقهم كل ممزق ومرق كما يمرق السهم وناداهم خلوا عن المال فوالله لا رجعت إلا به أو لأهلكن دونه فانصرفت إليه الاقران وتمايلت نحوه الفرسان وتميزت له الفتيان وحملوا عليه وقد رفعوا إليه الاسنة وعطفوا عليه بالأعنة فوثب عليهم وهو يهدر كما يهدر الفحل من وراء الابل وجعل لا يحمل على ناحية إلا حطمها ولا كتيبة إلا مزقها حتى لم يبق من القوم إلا من نجا به فرسه ثم ساق المال وأقبل به فكبر القوم عند رؤيته وفرح الناس بسلامته فوالله ما رأينا قط يوما كان اسمح صباحا وأحسن رواحا من ذلك اليوم ولقد سمعته يقول في وجوه فتيان الحي هذه الابيات
( تأملن فعلي هل رأيتن مثله ... إذا حشرجت نفس الجبان من الكرب )
( وضاقت عليه الأرض حتى كأنه ... من الخوف مسلوب العزيمة والقلب )
( ألم اعط كلا حقه ونصيبه ... من السمهري اللدن والمرهف العضب )
( أنا ابن أبي هند بن قيس بن مالك ... سليل المعالي والمكارم والسيب )
( أبي لي أن اعطي الظلامة مرهف ... وطرف قوي الظهر والجوف والجنب )

( وعزم صحيح لو ضربت بحده الجبال ... الرواسي لانحططن إلى الترب )
( وعرض نقي اتقى أن اعيبه ... وبيت شريف في ذرى ثعلب الغلب )
( فإن لم أقاتل دونكن واحتمي لكن وأحميكن بالطعن والضرب )
( فلا صدق اللاتي مشين إلى أبي ... يهنيه بالفارس البطل الندب
وقال الشاعر
( آراؤهم ووجوههم وسيوفهم ... في الحادثات إذا دجون نجوم )
( منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدجى والأخريات رجوم )
وقال آخر
( فوارس قوالون للخيل اقدمي وليس على غير الرءوس مجال )
( بأيديهم سمر العوالي كأنما ... تشيب على أطرافهن ذبال )
وقال آخر
( قوم إذا اقتحموا العجاج رأيتهم ... شمسا وخلت وجوههم أقمارا )
( لا يعدلون برفدهم عن سائل ... عدل الزمان عليهم أو جارا )
( وإذا الصريخ دعاهم لملمة ... بذلوا النفوس وفارقوا الاعمارا )
ذكر الجبن والجبناء وأخبارهم وما جاء عنهم
قد استعاذ سيدنا رسول الله من الجبن فقال اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال نعوذ بالله مما استعاذ منه سيد الخلق رسول الله ويكفيك ان يقال في وصف الجبان إن احس بعصفور طار فؤاده وإن طنت بعوضة طال سهاده يفزع

من صرير الباب ويقلق من طنين الذباب إن نظر إليه شزرا أغمي عليه شهرا يحسب خفوق الرياح قعقعة الرماح قال الشاعر
( إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد )
وكان حسان بن ثابت رضي الله عنه من الجبناء روي عن ابن الزبير أنه قال كان حسان في قاع أطم مع النساء يوم الخندق فأتاهم في ذلك اليوم يهودي يطوف بالحصن فقالت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطوف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءه من اليهود فأنزل إليه فاقتله فقال يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا قال فاعتجرت صفية ثم أخذت عمودا ونزلت من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته ورجعت إلىالحصن فقالت يا حسان قم إليه فاسلبه فإنه ما منعني من سلبه إلا أنه رجل فقال مالي بسلبه من حاجة
وقيل كان لفتى من قريش جارية مليحة الوجه حسنة الادب وكان يحبها حبا شديدا فأصابته إضاقة وفاقه فاحتاج إلى ثمنها فحملها إلى العراق وكان ذلك في زمن الحجاج بن يوسف فابتاعها منه الحجاج فوقعت منه بمنزلة فقدم عليه فتى من ثقيف من أقاربه فأنزله قريبا منه وأحسن إليه فدخل على الحجاج والجارية تكبسه وكان الفتى جميلا فجعلت الجارية تسارقه النظر ففطن الحجاج بها فوهبها له فأخذها وانصرف فباتت معه ليلتها وهربت بغلس فأصبح لا يدري أين هي وبلغ الحجاج ذلك فأمر مناديا أن ينادي برئت الذمة ممن رأى وصيفة من صفتها كذا وكذا أولم يحضرها فلم يلبث أن اتي له بها فقال لها الحجاج يا عدوة الله كنت عندي من أحب الناس إلي فاخترت ابن عمي شابا حسن الوجه ورأيتك تسارقينه النظر فعلمت أنك شغفت

به فوهبتك له فهربت من ليلتك فقالت يا سيدي اسمع قصتي ثم اصنع بي ماشئت قال هاتي ولا تخفى شيئا قالت كنت للفتى القرشي فاحتاج إلي ثمني فحملني إلى الكوفة فلما قربنا منها دنا مني فوقع علي فسمع زئير الاسد فوثب واخترط سيفه وحمل عليه وضربه فقتله وأتى برأسه ثم أقبل علي وما برد ما عنده ثم قضى حاجته وإن ابن عمك هذا الذي اخترته لي لما أظلم الليل قام إلي فلما علا بطني وقعت فأرة من السقف فضرط ثم غشي عليه فمكث زمانا طويلا وأنا أرش عليه الماء وهو لا يفيق فخفت أن يموت فتتهمني به فهربت فزعا منك فما ملك الحجاج نفسه من شدة الضحك وقال ويحك اكتمي هذا ولا تعلمي به أحدا قالت على ان لا تردني إليه قال لك ذلك
وحدث جار لأبي حنيفة النميري قال كان لأبي حنيفة سيف ليس بينه وبين العصا فرق وكان يسميه لعاب المنية فأشرفت عليه ذات ليلة وقد انتضاه وهو واقف على باب بيته وقد سمع حسا في دراه وهو يقول أيها المغتر بنا المجتريء علينا بئس والله ما اخترت لنفسك خير قليل وسيف صقيل وهو لعاب المنية الذي سمعت به أخرج بالعفو عنك قبل أن ادخل بالعقوبة عليك ثم فتح الباب على وجل فإذا كلب قد خرج فقال الحمد لله الذي مسخك كلبا وكفانا حربا وخرج المعتصم يوما إلى بعض متصيداته فظهر له أسد فقال لرجل من أصحابه اعجبه قوامه وسلاحه وتمام خلقه أفيك خيرا يا رجل قال لا فضحك المعتصم وقال قبح الله الجبان ورأى الإسكندر سميا له لا يزال ينهزم فقال له يا رجل إما أن تغير فعلك وإما أن تغير إسمك ووقع في بعض العساكر ضجة فوثب خراساني إلى دابته ليلجمها فصير اللجام في الذنب من الدهش وقال يخاطب الفرس هب جبهتك عرضت فناصيتك كيف طالت
وخرج أسلم بن زرعة الكلابي في الفين لمحاربة أبي بلال مرداس وكان مرداس في أربعين فانهزم اسلم منه فلاموه على ذلك وذمة

ابن أبي زياد فقال لأن يذمني ابن أبي زياد حيا أحب إلي من أن يمدحني ميتا وكان أسلم بعد ذلك إذا خرج إلى السوق ومر بصبيان صاحوا به أبو بلال وراءك فكبر ذلك عليه فشكاهم إلى ابن أبي زياد فأمر صاحب الشرطة أن يكفهم عنه وفي ذلك يقول بعضهم شعرا
( يقول جبان القوم في حال سكره ... وقد شرب الصهباء هل من مبارز )
( وأين الخيول الاعوجيات في الوغى ... أنازل منهم كل ليث مناهز )
( ففي السكر قيس وابن معدي وعامر ... وفي الصحو تلقاء كبعض العجائز )
هذا ما انتهى إلينا من هذا الباب والحمد لله الكريم الوهاب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين والحمد لله رب العالمين

الباب الثاني والاربعون في المدح والثناء وشكر النعمة والمكافأة وفيه فصول الفصل الأول
في المدح والثناء
المدح وصف الممدوح بأخلاق يمدح عليها صاحبها يكون نعتا حميدا وهذا يصح من المولى في حق عبده فقد قال الله تعالى في حق نبيه أيوب عليه الصلاة و السلام ( إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) وقال تعالى لنبيه محمد ( وإنك لعلى خلق عظيم ) و قال تعالى ( قد افلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) إلى آخر الآية فعلى هذا يجوز مدح الإنسان بما فيه من الأخلاق الحميدة و أما قوله إذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب فقد قال العتبي هو المدح الباطل والكذب واما مدح الرجل بما فيه فلا بأس به وقد مدح أبو طالب والعباس وحسان وكعب وغيرهم رسول الله ولم يبلغنا أنه حثا في وجه مادح ترابا وقد مدح هو المهاجرين و الأنصار رضي الله عنهم وفي حثو التراب معنيان أحدهما التغليظ في الرد عليه والثاني كأنه يقال له يكفيك التراب وكان ابو بكر الصديق رضي الله عنه إذا مدح قال اللهم أنت اعلم بي من نفسي

وأنا أعلم بنفسي منهم اللهم اجعلني خيرا مما يحسبون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون ومدح سارية الديلي رسول الله وهو سارية الذي أمره عمر رضي الله عنه على السرية وناداه في خطبته بقوله يا سارية الجبل فمن مدحه في رسول الله قوله
( فما حملت من ناقة فوق ظهرها ... ابر وأوفى ذمة من محمد )
وهو اصدق بيت قالته العرب ومن أحسن ما مدحه به حسان رضي الله عنه قوله
( وأحسن منك لم تر قط عيني ... وأجمل منك لم تلد النساء )
( خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء )
ومن احسن ما مدحه به عبدالله بن رواحة الانصاري رضي الله عنه قوله
( لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر )
ولما حججت وزرته تطفلت على جنابه المعظم وامتداحته بأبيات مطولة وأنشدتها بين يديه بالحجرة الشريفة تجاه الصندوق الشريف وأنا مكشوف الرأس وأبكى من جملتها
( يا سيد السادات جئتك قاصدا ... ارجو رضاك وأحتمي بحماكا )
( والله يا خير الخلائق إن لي ... قلبا مشوقا لايروم سواكا )
( ووحق جاهك إنني بك مغرم ... والله يعلم إنني اهواكا )
( أنت الذي لولاك ما خلق امرؤ ... كلا ولا خلق الورى لولاكا )
( أنت الذي من نورك البدر اكتسى ... والشمس مشرقة بنور بهاكا )
( أنت الذي لما رفعت إلى السما ... بك قد سمت وتزينت لسراكا )
( أنت الذي ناداك ربك مرحبا ... ولقد دعاك لقربه وحباكا )
( أنت الذي فينا سألت شفاعة ... ناداك ربك لم تكن لسواكا )
( أنت الذي لما توسل آدم ... من ذنبه بك فاز وهو اباك )

( وبك الخليل دعا فعادت ناره ... بردا وقد خمدت بنور سناكا )
( ودعاك ايوب لضر مسه ... فأزيل عنه الضر حين دعاكا )
( وبك المسيح اتى بشيرا مخبرا ... بصفات حسنك مادحا لعلاكا )
( وكذاك موسى لم يزل متوسلا ... بك في القيامة مرتج لنداكا )
( والانبياء وكل خلق في الورى ... والرسل والاملاك تحت لواكا )
( لك معجزات أعجزت كل الورى ... وفضائل جلت فليس تحاكى )
( نطق الذراع بسمة لك معلنا ... والضب قد لباك حين اتاكا )
( والذئب جاءك والغزالة قد أتت ... بك تستجير وتحتمي بحماكا )
( وكذا الوحوش أتت إليك وسلمت ... وشكا البعير إليك حين رآكا )
( ودعوت أشجارا اتنك مطيعة وسعت إليك مجيبة لنداكا )
( والماء فاض براحتيك وسبحت ... صم الحصى بالفضل في يمناكا )
( وعليك ظللت الغمامة في الورى ... والجذع حن إلي كريم لقاكا )
( وكذاك لااثر لمشيك في الثرى ... والصخر قد غاصت به قدماكا )
( وشفيت ذا العاهات من امراضه ... وملأت كل الارض من جدواكا )
( ورددت عين قتادة بعد العمى ... وابن الحصين شفيته بشفاكا )
( وكذا حبيب وابن عفرا عندما ... جرحا شفيتهما بلمس يداكا )
( وعلي من رمد به داويته في خيبر فشفي بطيب لماكا )
( وسألت ربك في ابن جابر بعدما ... قد مات أحياه وقد أرضاكا )
( ومسست شاة لأم معبد بعدما ... نشفت فدرت من شفا رقياكا )
( ودعوت عام المحل ربك معلنا ... فانهل قطر السحب عند دعاكا )
( ودعوت كل الخلق فانقادوا إلى ... دعواك طوعا سامعين نداكا )
( وخفضت دين الكفر يا علم الهدى ... ورفعت دينك فاستقام هناكا )
( أعداك عادوا في القليب بجهلهم ... صرعى وقد حرموا الرضا بجفاكا )

( في يوم بدر قد أتتك ملائك ... من عند ربك قاتلت أعداكا )
( والفتح جاءك يوم فتحك مكة ... والنصر في الاحزاب قد وافاكا )
( هود ويونس من بهاك تجملا ... وجمال يوسف من ضياء سناكا )
( قد فقت يا طه جميع الانبيا ... نورا فسبحان الذي سواكا )
( والله يا ياسين مثلك لم يكن ... في العالمين وحق من نباكا )
( عن وصفك الشعراء يا مدثر ... عجزوا وكلوا عن صفات علاكا )
( إنجيل عيسى قد أتى بك مخبرا ... وأتى الكتاب لنا بمدح حلاكا )
( ماذا يقول المادحون وما عسى ... أن يجمع الكتاب من معناكا )
( والله لو إن البحار مدادهم ... والعشب أقلام جعلن لذاكا )
لم تقدر الثقلان تجمع ذره ... ابدا وما استطاعوا له إدراكا )
( لي فيك قلب مغرم يا سيدي ... وحشاشة محشوة بهواكا )
( فإذا سكت ففيك صمتي كله ... وإذا نطقت فمادح علياكا )
( وإذا سمعت فعنك قولا طيبا ... وإذا نظرت فلا أرى إلاكا
( يا مالكي كن شافعي من فاقتي ... إني فقير في الورى لغناكا )
( يا أكرم الثقلين يا كنز الورى ... جد لي بجودك وارضني برضاكا )
( انا طامع في الجواد منك ولم يكن ... لابن الخطيب من الانام سواكا )
( فعساك تشفع فيه عند حسابه ... فلقد غدا مستمسكا بعراكا )
( ولأنت أكرم شافع ومشفع ... ومن التجا لحماك نال وفاكا )
( فاجعل قراي شفاعة لي في غد فعسى ارى في الحشر تحت لواكا )
( صلى عليك الله يا خير الورى ... ما حن مشتاق إلي مثواكا )
( وعلى صحابتك الكرام جميعهم ... والتابعين وكل من والاكا )
وماذا عسى أن يقول المادحون في وصف من مدحه الله تعالى وأثنى عليه وقد قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر والله لو أن

حذف

البحار مداد والاشجار أقلام وجميع الخلائق كتاب لما استطاعوا أن يجمعوا النزر اليسير من بعض صفاته ولكلوا عن الإتيان ببعض بعض وصف معجزاته ومدح رجل هشام بن عبدالملك فقال له يا هذا إنه قد نهى عن مدح الرجل في وجهه فقال ما مدحتك ولكن ذكرتك نعم الله عليك لتجدد لها شكرا فقال له هشام هذا أحسن من المدح ووصله وأكرمه وكتب رجل إلى عبدالله بن يحيى بن خاقان رأيت نفسي فيما أتعاطى من مدحك كالمخبر عن وضوء النهار الباهر والقمر الزاهر وايقنت أني حيث انتهى من القول منسوب إلى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك وقال الحرث بن ربيعة في رجل من آل المهلب
( فتى دهره شطران فيما ينوبه ... ففي بأسه شطر وفي وجوه شطر )
( فلا من بغاه الخير في عينه قذى ... ولا من زئير الحرب في أذنه وقر )
وقال أعرابي لرجل لا يذم بلد أنت تأويله ولا يشتكي زمان أنت فيه وكان الحجاج يستثقل زياد بن عمرو العكلي فلما قدم على عبدالملك بن مروان قال يا أمير المؤمنين إن الحجاج سيفك الذي لاينبو وسهمك الذي يبطش وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم فلم يكن بعد ذلك على قلب الحجاج أخف منه وقال رجل لآخر أنت بستان الدنيا فقال له وأنت النهر الذي يسقى منه ذلك البستان وقال رجل لأبي عمرو الزاهد صاحب كتاب الياقوتة في اللغة أنت والله عين الدنيا فقال له وأنت والله نور تلك العين وقال القاسم بن أمية بن أبي الصلت الثقفي
( قوم إذا نزل الغريب بدارهم ... تركوه رب صواهل وقيان )
( وإذا دعوتهم ليوم كريهة ... سدوا شعاع الشمس بالفرسان )

وقال أوس بن حاتم الطائي
( فإن تنكحي مادية الخير حاتما ... فما مثله فينا ولا في الأعاجم )
( فتى لا يزال الدهر أكبر همه فكاك أسير أو معونة غارم ) وقال ابن حمدون في آل المهلب
( آل المهلب معشر أمجاد ... ورثوا المكارم والوفاء فسادوا )
( شاد المهلب ما بنى آباؤه ... وأتى بنوه ما بناه فشادوا )
( وكذاك من طابت مغارس نبته ... وبنى له الآباء والأجداد )
وكان الفرزدق هجاء لعمر بن هبيرة فلما سجن ونقب له السجن وسار هو وبنوه تحت الأرض قال الفرزدق
( ولما رأيت الارض قد سد ظهرها ... ولم يبق إلا بطنها لك مخرجا )
( دعوت الذي ناداه يونس بعدما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا )
فقال ابن هبيرة ما رأيت أشرف من الفرزدق هجاني أميرا ومدحني أسيرا وقال سري بن عبد الرحمن الرفاء في خالد بن حاتم
( يا واحد العرب الذي دانت له ... قحطان قاطبة وساد نزارا )
( إني لأرجوا إن لقيتك سالما ... أن لا أعالج بعدك الاسفارا )
وقال كعب بن مالك الأنصاري في آل هاشم
( يا آل هاشم الإله حباكم ... ما ليس يبلغه اللسان المفصل )
( قوم لأصلهم السيادة كلها ... قدما وفرعهم النبي المرسل )
وقال الحسين بن دعبل الخزامي
( ملك الامور بجودة وحسامه ... شرفا يقود عدوه بزمامه )
( فأطاع أمر الجود في أمواله ... وأطاع أمر الله في أحكامه )

وقال آخر
( يلقي السيوف بصدره وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر )
( ويقول للطرف اصطبر لسني القنا ... فعقرت ركن المجد إن لم تعقر )
( وإذا تراءى شخص ضيف مقبل ... مستربل أثواب محل أغبر )
( اومي إلى الكوماء هذا طارق ... نحرتني الاعداء إن لم تنحر )
وقال شاعر بني تميم
إذا لبسوا عمائمهم طووها ... على كرم وإن سفروا أناروا )
( يبيع ويشتري لهم سواهم ... ولكن بالطعان هم تجار )
( إذا ما كنت جار بني تميم ... فأنت لأكرم الثقلين جار
وقالت امرأة من بني نمير وقد حضرتها الوفاة وأهلها مجتمهون من ذا الذي يقول
( لعمري ما رماح بني نمير ... بطائشة الصدور ولا قصار )
قالوا زياد الاعجم قالت أشهدكم أن له الثلث من مالي وكان مالا كثيرا وأثني رجل على رجل فقال هو أفصح أهل زمانه إذا حدث وأحسنهم استماعا إذا حدث وأمسكهم عن الملاحاة إذا خولف يعطي صديقه النافلة ولا يسأله الفريضة له نفس عن الفحشاء محصورة وعلى المعالي مقصورة كالذهب الإبريز الذي يعز كل أوان والشمس المنيرة التي لا تخفى بكل مكان هو النجم المضيء للحيران والمنهل البارد العذب للعطشان وقال الحسن بن هانيء
( إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثنى وفوق الذي نثني )
( وإن جرت الألفاظ يوما بمدحه ... لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني )

وله في الفضل بن الربيع
لقد نزلت أبا العباس منزلة ... ما إن ترى خلفها الابصار مطرحا
( وكلت بالدهر عينا غير غافلة ... بجود كفك تأسو كل ما جرحا )
وقال زياد الأعجم في محمد بن القاسم الثقفي
( إن المنابر أصبحت مختالة ... بمحمد بن القاسم بن محمد )
( قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... يا قرب سورة سؤدد من مولد )
ومن بدائع مدائح المتنبي قوله
( ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليب وأهل الاعصر الأول )
( خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل وقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل
ومدح أبو العتاهية عمرو بن العلاء فأعطاه سبعين الفا وخلع عليه خلعا سنية حتى إنه لم يستطع أن يقوم فغار الشعراء منه فجمعهم وقال يا لله العجب ما اشد حسد بعضكم لبعض إن أحدكم يأتينا ليمدحنا فيتغزل في قصيدته بخمسين بيتا فما يبلغنا حتى يذهب رونق شعره وقد تشبب أبو العتاهية بأبيات يسيرة ثم قال
( إني أمنت من الزمان وصرفه ... لما علقت من الأمير حبالا )
( لو يستطيع الناس من إجلاله ... جعلوا له حر الوجوه نعالا )
( إن المطايا تشتكيك لأنها قطعت إليك سباسبا ورمالا )
( فإذا وردن بنا وردن خفائفا ... وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا )
( ووفد أبو نواس على الخصيب بمصر فأذن له وعنده الشعراء فانشد الشعراء أشعارهم فلما فرغوا قال ابو نواس أنشد إيها الأمير

قصيدة هي كعصا موسى تلقف ما صنعوا قال أنشدها فأنشده قصيدته التي منها قوله
( إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأي فتى بعد الخصيب نزور )
( فتى يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أن الدائرات تدور )
( فما فاته جود ولا ضل دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير )
فاهتز الخصيب لها طربا وأمر له بألف دينار ووصيف ووصيفة
حكى أن أبا دلف سار يوما مع أخيه معقل فرأيا امرأتين تتماشيان فقالت إحداهما للأخرى هذا أبو دلف قالت نعم الذي يقول فيه الشاعر
( إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره )
( فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره )
فبكى ابو دلف حتى جرت دموعه فقال له معقل ملك يا أخي تبكي فقال لأني لم أقض حق الذي قال هذا قال أولم تعطه مائة ألف درهم قال والله ما في نفسي حسرة إلا لكوني لم اعطه مائة ألف دينار ويقال هذه المدحة فأين المنحة قال بعضهم
( إذا ما المدح صار بلا نوال ... من الممدوح كان هو الهجاء )
وامتدح محمد بن سلطان المعروف بابن جيوش محمد بن نصر صاحب حلب فأجازه بألف دينار ثم مات محمد بن نصر وقام ولده نصر مقامه فقصده محمد بن سلطان بقصيدة مدحة بها منها
( تباعدت عنكم حرمة لازهادة ... وسرت إليكم حين مسني الضر )
( فجاء أبو نصر بألف تصرمت ... وإني عليم أن سيخلفها نصر )
فلما فرغ من إنشادها قال نصر والله لو قال سيضعفها نصر

لاضعفتها له وأعطاه ألف دينار في طبق فضة ومدح بعض الشعراء وقيل هو البديع الهمذاني إنسانا فقال
( يكاد يحكيه صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا )
( والدهر لم لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا )
وقال آخر
( أخو كرم يفضي الورى من بساطة ... إلى روض مجد بالسماح مجود )
( وكم لجباه الراغبين لديه من ... مجال سجود في مجالس جود )
ويقال فلان رقيق الجود ودخيله وزميل الكرم ونزيله وغزة الدهر وتحجيله مواهبه الانواء وصدره الدهناء عونه موقوف على اللهيف وغوثه مبذول للضعيف يطفو جوده على موجوده وهمته على قدرته ينابيع الجود تتفجر من أنامله وربيع السماح يضحك عن فواضله إن طلبت كريما في جوده مت قبل وجوده أو ماجدا في أخلاقه مت ولم تلاقه باسل تعود الاقدام حيث تزل الاقدام وشجاع يرى الاحجام عارا لا تمحوه الايام له خلق لو مازح البحر لنفي ملوحته وصفى كدورته خلق كنسيم الاشجار على صفحات الانهار واطيب من زمن الورد في الايام وأبهج من نور البدر في الظلام خلق يجمع الاهواء المتفرقة على محبته ويؤلف الآراء المتشتتة في مودته هو ملح الأرض إذا فسدت وعمارة الدنيا إذا خربت يحل دقائق الأشكال ويزيل جلائل الاشكال البيان أصغر صفاته والبلاغة عنوان خطراته كأنما أوحي التوفيق إلى صدره وحبس الصواب بين طبعه وفكره فهو يبعث بالكلام ويقوده بألين زمام حتى كأن الالفاظ تتحاسد في التسابق إلى خواطره والمعاني تتغاير في الإمتثال لأوامره يوجز فلا يخل ويطنب فلا يمل كلامه يشتد مرة حتى تقول الصخر أو أيبس ويلين

تارة حتى تقول الماء أو اسلس فهو إذا أنشأ وشى وإذا عبر حبر وإذا أوجز اعجز تاهت به الايام وباهت في يمينه الاقلام له أدب لو تصور شخصا لكان بالقلوب مختصا قال الشاعر
( له خلق على الايام يصفو ... كما تصفو على الزمن العقار ) وقال آخر
( لو كان يحوي الروض ناضر خلقه ... ما كان يذبل نوره بشتائه )
( أو قابل الافلاك طالع سعده ... ماصار نحس في نجوم سمائه ) وقال آخر
( ووجهك بدر في الغياهب مشرق ... وكفك في شهب السنين غمام )
( عجيب لبدر لا يزال أمامه ... سحاب ولا يغشاه منه ظلام واعجب من هذا غمام إذا سطا ... تلظى مكان البرق منه حسام )
وقال الحسين بن مطير الأسدي
( له يوم بؤس فيه الناس ابؤس ... ويوم نعيم فيه للناس انعم )
( فيمطر يوم الجود من كفه الندى ... ويمطر يوم البؤس من كفه الدم )
( فلو أن يوم البؤس خلى عقابه ... على الناس لم يصبح على الارض مجرم )
( ولو ان يوم الجود خلى يمينه ... عن المال لم يصبح على الارض معدم )
وللشيخ جمال الدين بن نباته
( والله ما عجبي لقدرك إنه ... قدر على باغي مداه بعيد )
( إلا لكونك لست تشكو وحشة ... في هذه الدنيا وأنت وحيد )

ولصفي الدين الحلي
( اثني فتتنيني صفاتك مظهرا ... عيا وكم أعيت صفاتك خاطبا )
( لو أنني والخلق جميعا ألسن ... نثني عليك لما قضينا الواجبا )
وللشيخ برهان الدين القيراطي
( اوصافكم تجري أحاديثها ... مجرى النجوم الزهر في الافق )
( كما أحاديث الندى عنكم ... تسندها الركبان من طرق )
وللشيخ جمال الدين بن نباته
( روت عنك اخبار المعالي محاسنا ... كفت بلسان الحال عن السن الحمد )
( فوجهك عن بشر وكفك عن عطا ... وخلقك عن نبل ورأيك عن سعد )
وقال غيره
( من زار بابك لم تبرح جوارحه ... تروي أحاديث ما اوليت من منن )
( فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والسمع عن حسن )
ولأبي فراس بن حمدان
( لئن خلق الانام لحب كأس ... ومزمار وطنبور وعود )
( فلم يخلق بنو حمدان الا ... لمجد او لبأس أو لجود )
وقال آخر
( إن الهبات التي جاد الكرام بها ... مطروقة وندى كفيك مبتكر )
( ما زلت تسبق حتى قال حاسدكم ... له طريق إلى العلياء مقتصر ) ولمحمد بن مناذر في آل برمك
( أتانا بنو الأملاك من آل برمك ... فيا طيب أخبار وأحسن منظر )
( لهم رحلة في كل عام إلى الندا ... وأخرى إلى البيت العتيق المنور )

( إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر )
( فما خلقت إلا لجود أكفهم ... واقدمهم إلا لسعي مظفر )
( إذا رام يحيى الامر ذلت صعابه ... وناهيك من داع له ومدبر )
ولما عزل إبراهيم بن المنذر عن صدقات البصرة تلقاء مجنون وأنشد
( ليت شعري اي قوم أجدبوا ... فأغيثوا بك من بعد العجف )
( نظر الله لهم من بيننا ... وحرمناك بذنب قد سلف )
( يا ابا إسحاق سر في دعه ... وامض مصحوبا فما منك خلف )
( إنما أنت ربيع باكر ... حيثما صرفه الله انصرف ) وقال آخر
( لو كان يقعد فوق الشمس وارتفعوا ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس )
( ثم ارتقوا في شعاع الشمس وارتفعوا ... إلى السماء فأنتم سادة الناس )
وللحسين بن مطير الاسدي في المهدي
( ويعبد الناس يا مهدي افضلهم ... ما كان في الناس إلا أنت معبود )
( أضحت يمينك من وجود مصورة ... لا بل يمينك منها صور الجود )
( لو أن من نوره مثقال خردلة ... في السود طرا إذن لابيضت السود ) وقال آخر
( أوليتني نعما وفضلا زائدا ... وبررتني حتى رأيتك والدا )
( أقسمت لو جاز السجود لمنعم ... ما كنت إلا راكعا لك ساجدا )
وقال آخر ثناؤك في الدنيا من المسك أعطر ... وحظك في الدنيا جزيل موقر )
( وكفك بحر والانامل أنهر ... وعى الله كفا فيه بحر وأنهر )

أعيذك بالرحمن من كل حاسد ... فلا زالت الحساد تغبى وتصغر )
( لساني قصير في مديحك سيدي ... لأني فقير والفقير مقصر )
الفصل الثاني من هذا الباب
في شكر النعمة
أما الشكر الواجب على جميع الخلائق فشكر القلب وهو ان يعلم العبد أن النعمة من الله عز و جل وأن لا نعمة على الخلق من أهل السموات والارض إلا وبدايتها من الله تعالى حتى يكون الشكر لله عن نفسك وعن غيرك والدليل على ان الشكر محله القلب وهو المعرفة قوله تعالى ( وما بكم من نعمة فمن الله ) أيقنوا أنها من الله وقيل الشكر معرفة العجز عن الشكر وقد روى أن داود عليه السلام قال إلهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة من عندك فأوحى الله تعالى إليه الآن قد شكرتني وفي هذا يقال الشكر على الشكر أتم الشكر ولمحمود الوراق
( إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر )
( فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الايام واتصل العمر )
( إذا مس بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الاجر )
( فما منهما إلا له فيه نعمة ... تضيق بها الأوهام والسر والجهر )
وفي مناجاة موسى عليه السلام إلهي خلقت آدم بيدك وفعلت وفعلت فكيف شكرك فقال إعلم إن ذلك مني فكانت معرفته بذلك شكره لي وأما شكر اللسان فقد قال الله تعالى ( وأما بنعمة ربك فحدث ) ويروى عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير

ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بالنعم شكر وقال عمر ابن عبدالعزيز رضي الله عنه تذكروا النعم فإن ذكرها شكر وأما الشكر الذي في الجوارح فقد قال الله تعالى ( اعملوا آل داود شكرا ) الآية فجعل العمل شكرا وروي ان النبي قام حتى تورمت قدماه فقيل له يا رسول الله أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا لله شكورا وقال أبو هرون دخلت على ابي حازم فقلت له يرحمك الله ما شكر العينين قال إذا رأيت بهما خيرا ذكرته وإذا رأيت بهما شرا سترته قلت فما شكر الأذنين قال إذا سمعت بهما خيرا حفظته وإذا سمعت بهما شرا نسيته وفي حكمه إدريس عليه الصلاة و السلام لن يستطيع أحد أن يشكر الله على نعمة بمثل الأنعام على خلقه ليكون صانعا إلى الخلق مثل ما صنع الخالق إليه فإذا أردت تحرس دوام النعمة من الله تعالى عليك فأدم مواساة الفقراء وقد وعد الله تعالى عباده بالزيادة على الشكر فقال تعالى ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) وقد جعل لعبادة علامة يعرف بها الشاكر فمن لم يظهر عليه المزيد علمنا أنه لم يشكر فإذا رأينا الغني يشكر الله تعالى بلسانه وماله في نقصان علمنا أنه قد خل بالشكر إما أنه لا يزكى ماله أو يزكيه لغير أهله أو يؤخره عن وقته أو يمنع حقا واجبا عليه من كسوة عريان أو إطعام جائع أو شبه ذلك فيدخل في قول النبي لو صدق السائل ماأفلح من رده قال الله تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا مابأنفسهم ) وإذا غيروا مابهم من الطاعات غير الله ما بهم من الإحسان وقال بعض الحكماء من أعطى أربعا لم يمنع من أربع من أعطى الشكر لا يمنع المزيد ومن أعطى التوبة لا يمنع القبول ومن أعطى الإستخارة لم يمنع الخيرة ومن أعطى المشورة لم يمنع الصواب وقال المغيرة بن شعبة أشكر من أنعم عليك وأنعم على من شكرك فإنه لا بقاء

للنعم إذا كفرت ولا زوال لهاإذا شكرت وكان يقول الحسن ابن آدم متى تنفك من شكر النعمة وأنت مرتهن بها كلما شكرت نعمة تجد ذلك بالشكر أعظم منها عليك فأنت لا تنفك بالشكر من نعمة إلا إلى ما هو أعظم منها
وروى ان عثمان بن عفان رضي الله عنه دعى إلى أقوام ليأخذهم على ريبة فافترقوا قبل أن يأخذهم عثمان فأعتق رقبة شكرا لله تعالى إذ لم يجر على يديه فضيحة مسلم ويروى أن نملة قالت لسليمان بن داود عليهما السلام يا نبي الله أنا على قدري أشكر لله منك وكان راكبا على فرس ذلول فخر ساجدا لله تعالى ثم قال لولا أني أبجلك لسألتك عن أن تنزع مني ما اعطيتني وقال صدقة بن يسار بينما داود عليه السلام في محرابه إذ مرت به دودة فتفكر في خلقها وقال ما يعبأ الله بخلق هذه فأنطقها الله تعالى له فقال له يا داود تعجبك نفسك وأنا على قدر ما آتاني الله تعالى أذكر لله وأشكر له منك على ما آتاك وقال علي رضي الله عنه احذروا انفار النعم فما كل شارد مردود وعنه عليه السلام إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا اتصالها بقلة الشكر وقيل إذا قصرت يداك عن المكافأة فليطل لسانك بالشكر وقال حكيم الشكر ثلاث منازل ضمير القلب ونشر اللسان ومكافأة اليد قال الشاعر
( أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا )
وقال ابن عائشة كان يقال ما أنعم الله على عبد نعمة فظلم بها إلا كان له حقا على الله تعالى أن يزيلها عنه وأنشد أبو العباس بن عمارة في المعنى

( أعارك ماله لتقوم فيه ... بواجبه وتقضي بعض حقه )
( فلم تقصد لطاعته ولكن ... قويت على معاصيه برزقه ) وقال آخر ولو ان لي في كل منبت شعرة ... لسانا يطيل الشكر كنت مقصرا )
وقال محمد بن حبيب الراوية إذا قل الشكر خسر المن وروي إذا جحدت الصنيعة خسر الإمتنان وسئل بعض الحكماء ما أضيع الاشياء قال مطر الجود في أرض سبخه لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها وسراج يوقد في الشمس وجارية حسناء تزف إلى اعمى وصنيعة تسدي إلي من لا يشكرها وقال عبد الأعلى بن حماد دخلت على المتوكل فقال يا أبا يحيى قد هممنا أن نصلك بخير فتدافعته الامور فقلت يا أمير المؤمنين بلغني عن جعفر بن محمد الصادق أنه قال من لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة وأنشدته
( لأشكرن لك معروفا هممت به ... فإن همك بالمعروف معروف )
( ولاألومك إن لم يمضه قدر ... فالشر بالقدر المحتوم مصروف )
وقال أبو فراس بن حمدان
( وما نعمة مكفورة قد صنعتها ... إلى غير ذي شكر تمانعني اخرى )
( سآتي جميلا ما حييت فإنني ... إذا لم أفد شكرا أفدت به أجرا )
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من امتطى الشكر بلغ به المزيد وقيل من جعل الحمد خاتمه النعمة جعله الله فاتحة للمزيد وقال ابن السماك النعمة من الله تعالى على عبده مجهولة فإذا فقدت عرفت وقيل من لم يشكر على النعمة فقد استدعى زوالها وكان يقال إذا كانت النعمة وسيمة فاجعل الشكر لها تميمة وقال حكيم لا تصطنعوا ثلاثة اللئيم فإنه بمنزلة الأرض السبخة والفاحش فإنه يرى أن الذي

صنعت إليه إنما هو لمخافة فحشه والاحمق فإنه لا يعرف قدر ماأسديت إليه وإذا اصطنعت الكريم فازرع المعروف واحصد الشكر ودخل أبو نخيلة على السفاح لينشده فقال ماعسيت أن تقول بعد قولك لمسلمة
( أمسلمة يا فخر كل خليفة ... ويا فارس الدنيا ويا جبل الأرض )
( شكرتك إن الشكر دين على الفتى ... وما كل من أوليته نعمة يقضي )
( وأحييت لي ذكري وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض )
وسمعه الرشيد فقال هكذا يكون شعر الأشراف مدح صاحبه ولم يضع نفسه وعن نصر بن سيار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال من أنعم على رجل نعمة فلم يشكر له فدعا عليه استجيب له ثم قال نصر اللهم إني أنعمت علي بني سام فلم يشكروا اللهم اقتلهم فقتلوا كلهم وعن علي ابن الحسين رضي الله عنهما قال قال رسول الله إن المؤمن ليشبع من الطعام فيحمد الله تعالى فيعطيه من الاجر ما يعطي الصائم القائم إن الله شاكر يحب الشاكرين وعن محمد بن علي ما أنعم الله على عبد نعمة فعلم أنها من الله إلا كتب الله له شكرها قبل أن يحمده عليها ولا أذنب عبد ذنبا فعلم أن الله قد أطلع عليه إن شاء غفر له وإن شاء أخذه قبل أن يستغفره إلا غفر الله له قبل أن يستغفره وأولى رجل رجلا إعرابيا خيرا فقال لا أبلاك الله ببلاء يعجز عنه صبرك وأنعم عليك نعمة يعجز عنها شكرك وأنشد بعضهم وأجاد
( سأشكر لا أني أجازيك منعما ... بشكري ولكن كي يزاد لك الشكر )
( واذكر أياما لدي اصطنعتها ... وآخر ما يبقى على الشاكر الذكر )

وقال آخر
( أوليتني نعما أبوح بشكرها ... وكفيتني كل الامور بأسرها )
( فلأشكرنك ما حييت وإن أمت ... فلتشكرنك أعظمي في قبرها )
وقال آخر
( أيا رب قد احسنت عودا وبدأة ... إلي فلم ينهض بإحسانك الشكر )
( فمن كان ذا عذر لديك وحجة ... فعذري إقراري بأن ليس لي عذر )
وقال محمود الوراق
( إلهي لك الحمد الذي أنت أهله ... على نعم ما كنت قط لها أهلا )
( إن زدت تقصيرا تزدني تفضلا ... كأني بالتقصير أستوجب الفضلا )
وقد احسن نصيب في وصف الثناء والشكر بقوله
( فعاجوا وأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكنوا أثنت عليك الحقائب )
وقال رجل من غطفان
( الشكر افضل ما حاولت ملتمسا ... به الزيادة عند الله والناس )
وقيل شكر المنعم عليك وأنعم على الشاكر لك تستوجب من ربك الزيادة ومن اخيك المناصحة
الفصل الثالث من هذا الباب
في المكافأة
قال رسول الله من أسدى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تقدروا فادعوا له ولما قدم وفد النجاشي على رسول الله قام

يخدمهم بنفسه فقيل له يا رسول الله لو تركتنا كفيناك فقال كانوا لأصحابي مكرمين وقيل أتى رجل من الانصار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال
( اذكر صنيعي إذ فاجأك ذو سفه ... يوم السقيفة والصديق مشغول )
فقال عمر بأعلى صوته ادن مني فدنا منه فأخذ بذراعه حتى استشرفه الناس وقال إلا إن هذا رد عني سفيها من قومه يوم السقيفة ثم حمله على نجيب وزاد في عطائه وولاه صدقة قومه وقرأ ( هل جزاء الإحسان إلا الاحسان ) وقال رجل لسعيد بن العاص وهو امير الكوفة لي يد عندك بيضاء قال وما هي قال كبت بك فرسك فتقدمت إليك قبل غلمانك فأخذت بعضدك وأركبتك وأسقيتك ماء قال فأين كنت إلى الآن قال حجبت عن الوصول إليك قال قد أمرنا لك بمائتي ألف درهم وبما يملكه الحاجب إذ مجبك عنا
وقال قطري بن الفجاءة الخارجي أسره الحجاج ثم من عليه فأطلقه فقيل له عاود قتال عدو الله فقال أهيهات شديدا مطلقها وأرق رقبة معتقها ثم قال
( أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيد تقر بأنها مولاته )
( ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته )
( أأقول جار علي لا إني إذا ... لأحق من جارت عليه ولاته )
( وتحدث الاقوام أن صنائعا ... غرست لدي فحنظلت نخلاته )
واجتاز الشافعي رحمه الله تعالى بمصر في سوق الحدادين فسقط

سوطه فقام إنسان فأخذه ومسحه وناوله إياه فقال لغلامه كم معك قال عشرة دنانير قال ادفعها إليه واعتذر له واستنشد عبد الملك عامر الشعبي فأنشده لغير ما شاعر حتى أنشد لحسان
( من سره شرف الحياة فلم يزل ... في عصبة من صالحي الانصار )
( البائعين نفوسهم لنبيهم ... بالمشرفي وبالقنا الخطار )
( الناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الابصار )
فقام أنصاري فقال يا أمير المؤمنين استوجب عامر الصلة على ستون من الابل كما أعطينا حسان يوم قالها فقال عبد الملك وله عندي ستون ألفا وستون من الإبل وعن علي كرم الله وجهه احسنوا في عقب غيركم تحفظوا في عقبكم وقال المدائني رأيت رجلا يطوف بين الصفا والمروة على بغلة ثم رأيته ماشيا في سفر فسألته عن ذلك فقال ركبت حيث يمشي الناس فكان حقا على الله أن يرجلني حيث يركب الناس
ومما جاء في المكافأة
ما حكي عن الحسن بن سهل قال كنت يوما عند يحيى بن خالد البرمكي وقد خلا في مجلسه لأحكام أمر من امور الرشيد فبينما نحن جلوس إذ دخل عليه جماعة من أصحاب الحوائج فقضاها لهم ثم توجهوا لشأنهم فكان آخرهم قياما أحمد بنأبي خالد الأحوال فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه وقال يا بني إن لأبيك مع ابي هذا الفتى حديثا فإذا فرغت من شغلي هذا فاذكرني أحدثك به فلما فرغ شغله وطعم قال له ابنه الفضل أعزك الله يا أبي امرتني أن

أذكرك حديث أبي خالد الاحوال قال نعم يا بني لما قدم أبوك من العراق أيام المهدي كان فقيرا لا يملك شيئا فاشتد بي الأمر إلى أن قال لي من في منزلي إنا فقد كتمنا حالنا وزاد ضررنا ولنا اليوم ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتات به قال فبكيت يا بني لذلك بكاء شديدا وبقيت ولهان وحيران مطرقا مفكرا ثم تذكرت منديلا كان عندي فقلت لهم ما حال المنديل فقالوا هو باق عندنا فقلت ادفعوه لي فأخذته ودفعته إلى بعض أصحابي وقلت له بعه بما تيسر فباعه بسبعة عشر درهما فدفعتها إلى أهلي وقلت أنفقوها إلى أن يرزق الله غيرها ثم بكرت من الغد إلى باب أبي خالد وهو يومئذ وزير المهدي فإذا الناس وقوف على داره ينتظرون خروجه فخرج عليهم راكبا فلما رآني سلم علي وقال كيف حالك فقلت ياأبا خالد ما حال رجل يبيع من منزله بالأمس منديلا بسبعة عشر درهما فنظر إلي نظرا شديدا وما أجابني جوابا فرجعت إلى اهلي كسير القلب وأخبرتهم بما اتفق لي مع أبي خالد فقالوا بئس والله ما فعلت توجهت إلى رجل كان يرتضيك لأمر جليل فكشفت له سرك وأطلعته على مكنون أمرك فأزريت عنده بنفسك وصغرت عنده منزلتك بعد أن كنت عنده جليلا فما يراك بعد اليوم إلا بهذه العين فقلت قد قضى الأمر الآن بما لا يمكن استدراكه فلما كان من الغد بكرت إلى باب الخليفة فلما بلغت الباب استقبلني رجل فقال لي قد ذكرت الساعة بباب أمير المؤمنين فلم ألتفت لقوله فاستقبلني آخر فقال لي كمقالة الأول ثم استقبلني حاجب أبي خالد فقال لي أين تكون قد امرني أبو خالد باجلاسك إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين فجلست حتى خرج فلما رآني دعاني وأمر لي بمركب فركبت وسرت معه إلى منزله فلما نزل قال علي بفلان وفلان الحناطين فأحضرا فقال لهما ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف ألف درهم قالا نعم قال ألم اشترط عليكما شركة رجل معكما قالا بلى قال هو هذا الرجل الذي اشترطت شركته لكما ثم قال لي قم معهما فلما خرجنا قالا لي ادخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون لك فيه

الربح الهنيء فدخلنا مسجدا فقالا لي إنك تحتاج في هذا الامر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان ومؤن لم تقدر منها على شيء فهل لك أن تبيعن شركتك بمال نعجله فتنتفع به ويسقط عنك التعب والكلف فقلت لهما وكم تبذلان لي فقالا مائة ألف درهم فقلت لا أفعل فما زالا يزيداني وأنا لا أرضى إلى ان قالا لي ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا فقلت حتى أشاور ابا خالد قالا ذلك لك فرجعت إليه وأخبرته فدعا بهما وقال لهما هل وافقتماه على ما ذكر قال نعم قالا اذهبا فاقبضاه المال الساعة ثم قال لي أصلح أمرك وتهيأ فقد قلدتك العمل فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني به فما زلت في زيادة حتى صار أمري إلي ما صار ثم قال لولده الفضل يا بني فما تقول في ابن من فعل بأبيك هذا الفعل وما جزاؤه قال حق لعمري وجب عليك له فقال والله يا ولدي ماأجد له مكافأة غير أني أعزل نفسي واوليه ففعل ذلك رضي الله عنه وهكذا تكون المكافأة
ومن ذلك ما حكى عن العباس صاحب شرطة المأمون قال دخلت يوما مجلس أمير المؤمنين ببغداد وبين يديه رجل مكبل بالحديد فلما رآني قال لي عباس قلت لبيك ياأمير المؤمنين قال خذ هذا إليك فاستوثق منه واحتفظ به وبكر بهإلي في غد واحترز عليه كل الإحتراز قال العباس فدعوت جماعة فحملوه ولم يقدر أن يتحرك فقلت في نفسي مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الأحتفاظ به ما يجب إلا أن يكون معي في بيتي فأمرتهم فتركوه في مجلس لي في داري ثم أخذت أسأله عن قضيته وعن حاله ومن أين هو فقال أنا من دمشق فقلت جزى الله دمشق وأهلها خيرا فمن أنت من أهلها قال وعمن تسأل فلت أتعرف فلانا قال ومن أين تعرف ذلك الرجل فقلت وقع لي معه قضية فقال ما كنت بالذي أعرفك خبره حتى تعرفني قضيتك معه فقال ويحك ما كنت مع بعض الولاة بدمشق فبغى أهلها وخرجوا علينا حتى أن الوالي تدلى في زنبيل من قصر الحجاج وهرب هو وأصحابه وهربت في جملة القوم فبينما أنا هارب في بعض الدروب وإذا بجماعة يعدون خلفي فما

زلت أعدو أمامهم حتى فتهم فمررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك وهو جالس على باب داره فقلت أغثني أغاثك الله قال لا بأس عليك أدخل الدار فدخلت فقالت زوجته أدخل تلك المقصورة فدخلتها ووقف الرجل على باب الدار فما شعرت إلا وقد دخل والرجال معه يقولون هو والله عندك فقال دونكم الدار ففتشوها حتى لم يبق سوى تلك المقصورة وامرأته فيها فقالوا هو ههنا فصاحت بهم المرأة ونهرتهم فانصرفوا وخرج الرجل وجلس على باب داره ساعة وأنا قائم أرجف ما تحملني رجلاي من شدة الخوف فقالت المرأة اجلس لا بأس عليك فجلست فلم ألبث حتى دخل الرجل فقال لا تخف قد صرف الله عنك شرهم وصرت إلى الامن والدعة إن شاء الله تعالى فقلت له جزاك الله خيرا فما زال يعاشرني احسن معاشرة وأجملها وأفرد لي مكانا في داره ولم يحوجني إلى شيء ولم يفتر عن تفقد أحوالي فأقمت عنده أربعة أشهر في أرغد عيش وأهنئه إلى ان سكنت الفتنة وهدأت وزال أثرها فقلت له أتأذن لي في الخروج حتى أتفقد حال غلماني فلعلي أقف منهم على خبر فأخذ علي المواثيق بالرجوع إليه فخرجت وطلبت غلماني فلم أر لهم أثرا فرجعت إليه وأعلمته الخبر وهو مع هذا كله لا يعرفني ولا يسألني ولا يعرف اسمي ولا يخاطبني إلا بالكنية فقال علام تعزم فقلت عزمت على التوجه إلى بغداد فقال القافلة بعد ثلاثة أيام تخرج وها أنا قدأعلمتك فقلت له إنك تفضلت علي هذه المدة ولك علي عهد الله أني لا أنسى لك هذا الفضل ولأوفينك مهما استطعت قال فدعا غلاما له اسود وقال له اسرج الفرس الفلاني ثم جهز آلة السفر فقلت في نفسي أظن أنه يريد أن يخرج إلى ضيعة أو ناحية من النواحي فأقاموا يومهم ذلك في كد وتعب فلما كان يوم خروج القافلة جاءني السحر وقال لي يا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة وأكره أن تنفرد عنها فقلت في نفسي كيف أصنع وليس معي ما أتزود به ولا ما أكري به مركوبا ثم قمت فإذا هو وامرأته

يحملان بقجة من أفخر الملابس وخفين جديدين وآلة السفر ثم جاءني بسيف ومنطقة فشدهما في وسطي ثم قدم بغلا فحمل عليه صندوقين وفوقها فرش ودفع إلي نسخة ما في الصندوقين وفيهما خمسة الآف درهم وقدم إلي الفرس الذي كان جهزه وقال اركب وهذا الغلام الاسود يخدمك ويسوس مركوبك وأقبل هو وامرأته يعتذران إلي من التقصير في امري وركب معي يشيعني وانصرفت إلى بغداد وأنا أتوقع خبره لأفي بعهدي له في مجازاته ومكافأته وأشغلت مع أمير المؤمنين فلم أتفرغ أن ارسل إليه من يكشف خبره فلهذا أنا أسأل عنه
فلما سمع الرجل الحديث قال لقد أمكنك الله تعالى من الوفاء ومكافأته على فعله ومجازاته على صنيعه بلا كلفة عليك ولا مؤنة تلزمك فقلت وكيف ذلك قال أنا ذلك الرجل وإنما الضر الذي أنا فيه غير عليك حالي وما كنت تعرفه مني ثم لم يزل يذكر لي تفاصيل الاسباب حتى أثبت معرفته فما تمالكت أن قمت وقبلت رأسه ثم قلت له فما الذي أصارك إلى ما أرى فقال هاجت بدمشق فتنة مثل الفتنة التي كانت في أيامك فنسبت إلي وبعث أمير المؤمنين بجيوش فأصلحوا البلد وأخذت انا وضربت إلى أن اشرفت على الموت وقيدت وبعث بي إلي أمير المؤمينن وأمري عنده عظيم وخطبي لديه جسيم وهو قاتلي لا محالة وقد أخرجت من عند أهلي بلا وصية وقد تبعني من غلماني من ينصرف إلى أهلي بخبري وهو نازل عند فلان فإن رأيت أن تجعل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره لي حتى أوصيه بما أريد فإن أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة وقمت لي بوفاء عهدك قال العباس قلت يصنع الله خيرا ثم أحضر حدادا في الليل فك قيوده وأزال ما كان فيه من الأنكال وأدخله حمام داره وألبسه من الثياب ما احتاج إليه ثم سير من أحضر إليه غلامه فلما رآه جعل يبكي ويوصيه فاستدعى العباس نائبه وقال علي بالفرس

الفلاني والفرس الفلاني والبغل الفلاني والبغلة الفلانية حتى عد عشرة ثم عشرة من الصناديق ومن الكسوة كذا وكذا ومن الطعام كذا وكذا قال ذلك الرجل وأحضر لي بدرة عشرة الاف درهم وكيسا فيه خمسة الاف دينار وقال لنائبه في الشرطة خذ هذا الرجل وشيعه الى حد الانبار فقلت له ان ذنبي عند امير المؤمنين عظيم وخطبي جسيم وان انت احتججت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأرد وأقتل فقال لي أنج بنفسك ودعني أدبر أمري فقلت والله ما أبرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك فإن احتجت الى حضوري حضرت فقال لصاحب الشرطة إن كان الامر على ما يقول فليكن في موضع كذا فإن أنا سلمت في غداة غد أعلمته وإن أنا قتلت فقد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه وأنشدك الله أن لا يذهب من ماله درهم وتجتهد في إخراجه من بغداد قال الرجل فأخذني صاحب الشرطة وصيرني في مكان أثق به وتفرغ العباس لنفسه وتحنط وجهز له كفنا قال العباس فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا وأرسل المأمون في طلبي ويقولون يقول لك أمير المؤمنين هات الرجل معك وقم قال فتوجهت الى دار أمير المؤمنين فاذا هو جالس وعليه ثيابه وهو ينتظرنا فقال أين الرجل فسكت فقال ويحك أين الرجل فقلت يا أمير المؤمنين اسمع مني فقال لله علي عهد لئن ذكرت إنه هرب لأضربن عنقك فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب ولكن اسمع حديثي وحديثه ثم شأنك ما تريد أن تفعله في أمري قال قل فقلت يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كيت وكيت وقصصت عليه القصة جميعها وعرفته انني أريد أن أفي له وأكافئه على ما فعله معي وقلت أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين إما ما فعله معي إما أن يصفح عني فأكون قد وفيت وكافأت وإما أن يقتلني فأقيه بنفسي وقد تحنطت وها كفني يا أمير المؤمنين فلما سمع المأمون الحديث قال ويلك لا جزاك الله عن نفسك خيرا انه فعل بك ما فعل من غير معرفة وتكافئه بعد المعرفة والعهد بهذا لا غير هلا عرفتي خبره فكنا نكافئه عنك ولا نقصر في وفائك له فقلت يا أمير المؤمنين إنه ههنا قد حلف

أن يبرح حتى يعرف سلامتي فإن احتجت إلى حضوره حضر فقال المأمون وهذه منه أعظم من الاولى إذهب الآن إليه فطيب نفسه وسكن روعه وائتني به حتى أتولى مكافأته قال العباس فأتيت إليه وقلت له ليزل خوفك إنأمير المؤمنين قال كيت وكيت فقال الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه ثم قام فصلى ركعتين ثم ركب وجئنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه وأدناه من مجلسه وحدثه حتى حضر الغداء وأكل معه وخلع عليه وعرض عليه أعمال دمشق فاستعفي فأمر له المأمون بعشرة أفراس بسروجها ولجمها وعشرة أبغال بآلاتها وعشر بدر وعشرة آلاف دينار وعشرة مماليك بدوابهم وكتب إلى عامله بدمشق بالوصية به وإطلاق خراجه وأمره بمكاتبته بأحوال دمشق فصارت كتبه تصل إلى المأمون وكلما وصلت خريطة البريد وفيها كتابة يقول لي يا عباس هذا كتاب صديقك والله تعالى أعلم
ومن عجائب هذا الاسلوب وغرائبه
ما أورده محمد بن القاسم الأنباري رحمه الله تعالى أن سوارا صاحب رحبة سوار وهو من المشهورين قال انصرفت يوما من دار الخليفة المهدي فلما دخلت منزلي دعوت بالطعام فلم تقبله نفسي فأمرت به فرفع ثم دعوت جارية كنت أحبها وأحب حديثها واشتغل بها فلم تطب نفسي فدخل وقت القائلة فلم يأخذني النوم فنهضت وأمرت ببغلة فأسرجت واحضرت فركبتها فلما خرجت من المنزل استقبلني وكيل لي ومعه مال فقلت ما هذا فقال ألفا درهم جبيتها من مستغلك الجديد قلت أمسكها معك واتبعني فأطلقت رأس البغلة حتى عبرت الجسر ثم مضيت في شارع دار الرقيق حتى انتهيت إلىالصحراء ثم رجعت إلى باب الأنبار وانتهيت إلى باب دار نظيف عليه شجرة وعلى الباب خادم فعطشت فقلت للخادم أعندك ماء

تسفينيه قال نعم ثم دخل وأحضر قلة نظيفة طيبة الرائحة عليها منديل فناولني فشربت وحضر وقت العصر فدخلت مسجدا على الباب فصليت فيه فلما قضيت صلاتي إذ أنا بأعمى يلتمس فقلت ما تريد يا هذا قال إياك أريد قلت فما حاجتك فجاء حتى جلس إلى جانبي وقال شممت منك رائحة طيبة فظننت أنك من أهل النعيم فاردت أن أحدثك بشيء فقلت قل قال ألا ترى إلى باب هذا القصر قلت نعم قال هذا قصر كان لأبي فباعه وخرج إلى خراسان وخرجت معه فزالت عنا النعم التي كنا فيها وعميت فقدفت هذه المدينة فأتيت صاحب هذا الدار لأسأله شيئا يصلني به وأتوصل إلى سوار فإنه كان صديقا لأبي فقلت ومن ابوك قال فلان بن فلان فعرفته فإذا هو كان من أصدق الناس إلي فقلت له يا هذا ان الله تعالى قد أتاك بسوار منعه من الطعام والنوم والقرار حتى جاء به فأقعده بين يديك ثم دعوت الوكيل فأخذت الدراهم منه فدفعتها إليه وقلت له إذا كان الغد فسر إلى منزلي ثم مضيت وقلت ما أحدث أمير المؤمنين بشيء أظرف من هذا فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فلما دخلت عليه حدثته بما جرى لي فأعجبه ذلك وأمر لي بألفي دينار فأحضرت فقال ادفعها إلى الاعمى فنهضت لأقوم فقال اجلس فجلست فقال أعليك دين قلت نعم قال كم دينك قلت خمسون ألفا فحادثني ساعة وقال امض إلى منزلك فمضيت إلى منزلي فإذا بخادم معه خمسون ألفا وقال يقول لك أمير المؤمنين اقض بها دينك قال فقبضت منه ذلك فلما كان من الغد أبطأ على الاعمى وأتاني رسول المهدي يدعوني فجئته فقال قد فكرت البارحة في أمرك فقلت يقضي دينه ثم يحتاج إلى القرض أيضا وقد أمرت لك بخمسين الفا أخرى قال فقبضتها وانصرفت فجاءني الاعمى فدفعت إليه الألفي دينار وقلت له قد رزقك الله تعالى بكرمه وكافأك على إحسان أبيك وكافأني على إسداء المروف إليك ثم أعطيته شيئا آخر من مالي فأخذه وانصرف والله سبحانه وتعالى أعلم

ومما هو أوضح حسنا وأرجح معنى ما حكاه القاضي يحيى بن أكتم رحمة الله عليه قال دخلت يوما على الخليفة هرون الرشيد ولد المهدي وهو مطرق مفكر فقال لي أتعرف قائل هذا البيت
( الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد )
فقلت يا أمير المؤمنين إن لهذا البيت شأنا مع عبيد بن الأبرص فقال علي بعبيد فلما حضر بين يديه قال له أخبرني عن قضية هذا البيت فقال يا أمير المؤمنين كنت في بعض السنين حاجا فلما توسطت البادية في يوم شديد الحر سمعت ضجة عظيمة في القافلة ألحقت أولها بآخرها فسألت عن القصة فقال لي رجل من القوم تقدم تر ما بالناس فتقدمت إلى أول القافلة فإذا أنا بشجاع أسود فاغر فاه كالجذع وهو يخور كما يخور الثور ويرغو كرغاء البعير فهالني أمره وبقيت لا أهتدي إلى ما أصنع في أمره فعدلنا عن طريقه إلى ناحية أخرى فعارضنا ثانيا فعلمت أنه لسبب ولم يجسر أحد من القوم أن يقربه فقلت أفدي هذا العالم بنفسي وأتقرب إلى الله تعالى بخلاص هذه القافلة من هذا فأخذت قربة من الماء فتقلدتها وسللت سيفي وتقدمت فلما رآني قربت منه سكن وبقيت متوقعا منه وثبة يبتلعني فيها فلما رأى القربة فتح فاه فجعلت فم القربة فيه وصببت الماء كما يصب في الإناء فلما فرغت القربة تسيب في الرمل ومضى فتعجبت من تعرضه لنا وانصرافه عنا من غير سوء لحقنا منه ومضينا لحجنا ثم عدنا في طريقنا ذلك وحططنا في منزلنا ذلك في ليلة مظلمة مدلهمة فأخذت شيئا من الماء وعدلت إلى ناحية عن الطريق فقضيت حاجتي ثم توضأت وصليت وجلست أذكر الله تعالى فاخذتيي عيني فنمت مكاني فلما استيقظت

من النوم لم اجد للقافلة حسا وقد ارتحلوا وبقيت منفردا لم أر أحدا ولم أهتد إلى ما أفعله وأخذتني حيرة وجعلت أضطرب وإذا بصوت هاتف أسمع صوته ولا أرى شخصه يقول
( يا أيها الشخص المضل مركبة ... ما عنده من ذي رشاد يصحبه )
( دونك هذا البكر منا تركبه ... وبكرك الميمون حقا تجنبه )
( حتى إذا ما الليل زال غيهبه ... عند الصباح في الفلا تسيبه )
فنظرت فإذا انا ببكر قائم عندي وبكري إلى جانبي فأنخته وركبته وجنبت بكري فلما سرت قدر عشرة أميال لاحت لي القافلة وانفجر الفجر ووقف البكر فعلمت أنه قد حان نزولي فتحولت إلى بكري وقلت
( يا أيها البكر قد أنجيت من كرب ... ومن هموم تضل المدلج الهادي )
( ألا تخبرني بالله خالقنا ... من ذا الذي جاد بالمعروف في الوادي )
( وارجع حميدا فقد بلغتنا مننا ... بوركت من ذي سنام رائح غادي )
فالتفت البكر إلي وهو يقول
( أنا الشجاع الذي الفيتني رمضا ... والله يكشف ضر الحائر الصادي )
( فجدت بالماء لما ضن حاملة ... تكرما منك لم تمنن بانكاد )
( فالخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد )
( هذا جزاؤك مني لا أمن به ... فاذهب حميدا رعاك الخالق الهادي )
فعجب الرشيد من قوله وامر بالقصة والأبيات فكتبت عنه وقال لا يضيع المعروف أين وضع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
تم الجزء الاول من كتاب المستطرف ويليه الجزء الثاني وأوله الباب الثالث والأربعون

بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الثالث والأربعون في الهجاء ومقدماته
القصد من الهجاء الوقوف على ملحه وما فيه من ألفاظ فصيحة ومعان بديعة لا التشفي بالاعراض والوقوع فيها وليس الهجاء دليلا على إساءة المهجو ولا صدق الشاعر فيما رماه به فما كل مذموم بذميم وقد يهجي الانسان بهتانا وظلما أو عبثا أو ارهابا
قال المتوكل لأبي العيناء كم تمدح الناس وتذمهم قال ما أحسنوا وأساؤا
وقد رضي الله تعالى على عبد من عبيده فمدحه فقال نعم العبد إنه أراب وغضب على آخر فقال مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم قيل الزنيم الملصق بالقوم وليس منهم وقال دعبل في المأمون بعد البيعة له وقتل الأمين
( إني من القوم الذين همو همو ... قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد )
( شادوا لذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد )
فقال المأمون ما أبهته ليت شعري متى كنت خاملا وفي حجر الخلافة ربيت وبدرها غذيت
ولما قتل جعفر بن يحيى بكى عليه أبو نواس فقيل له أتبكي على جعفر وأنت هجوته فقال كان ذلك لركوب الهوى وقد بلغه والله أني قلت

( ولست وإن أطنبت في وصف جعفر ... بأول إنسان خري في ثيابه )
فكتب يدفع إليه عشرة آلاف درهم يغسل بها ثيابه
ومن العبث بالهجو ما روي أن الحطيئة هم بهجاء فلم يجد من يستحقه فقال
( أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بسوء فلا أدري لمن أنا قائله )
( أرى بي وجها قبح الله خلقه ... فقبح من وجه وقبح حامله )
وعبث بأمه فقال
( تنحي فاجلسي عنا بعيدا ... أراح الله منك العالمينا )
( أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا على المتحدثينا )
( حياتك ما علمت حياة سوء ... وموتك قد يسر الصالحينا )
وقال رجل ما أبالي أهجيت أم مدحت فقال له الأحنف أرحت نفسك من تعب الكرام
وقال رجل لآخر إن هجوتني أتموت ابنتي قال لا قال أفتخرب ضيعتي قال لا قال فرجلي مع ساقي إلى حلقي في حر أمك قال ولم تركت رأسك قال لأنظر ما تصنع وأنا أقول إنما يخشى من الهجو من يخاف على عرضه وأما من لا يخاف على عرضه فقد يستوي عنده المدح والذم وبئس الرجل ذاك
وكان الرجل من نمير إذا قيل له ممن الرجل يقول من نمير وأمال بها عنقه فلما هجاهم جرير بقوله
( فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا )
صار إذا قيل لأحدهم ممن الرجل يقول من بني عامر وما لقيت قبيلة من العرب بهجو ما لقيت نمير بهجو جرير
وهجا ابن سام رجلا فقال
( يا طلوع الرقيب من غير إلف ... يا غريما أتى على ميعاد )
( يا ركودا في وقت غيم وصيف ... يا وجوه التجار يوم كساد )

وقصد ابن عيينة قبيصة المهلبي واستماحه فلم يسمح له بشيء فانصرف مغضبا فوجه إليه داود بن يزيد بن حاتم فترضاه وأحسن إليه فقال في ذلك
( داود محمود وأنت مذمم ... عجبا لذاك وأنتما من عود )
( ولرب عود قد يشق لمسجد ... نصفا وباقيه لحش يهودي )
( فالحش أنت له وذاك بمسجد ... كم بين موضع مسلح وسجود )
( هذا جزاؤك يا قبيص لأنه ... جادت يداه وأنت قبل حديد )
وله هجاء في خالد
( أبوك لنا غيث يغيث بوبله ... وأنت جراد لست تبقي ولا تذر )
( له أثر في المكرمات يسرنا ... وأنت تعفي دائما ذلك الأثر )
وقال المبرد في حقه لم يجتمع لأحد من المحدثين في بيت واحد هجاء رجل ومدح أبيه إلا له
ولما قعد حماد عجرد لتأديب ولد الأمين قال بشار بن برد
( قل للأمين جزاك الله صالحه ... لا يجمع الله بين السخل والذيب )
( السخل يعلم أن الذئب آكله ... والذئب يعلم ما بالسخل من طيب )
وقال فيه أيضا
( يا أبا الفضل لا تنم ... وقع الذئب في الغنم )
( إن حماد عجرد ... شيخ سوء قد اغتنم )
( بين فخديه حربة ... في غلاف من الأدم )
( إن رأى ثم غفلة ... يجمع الميم بالقلم )
فشاعت الأبيات فأمر الأمين باخراج حماد
وقال رجل لأخيه لأبويه لأهجونك هجاء يدخل معك في قبرك قال كيف تهجوني وأبوك أبي وأمك أمي قال أقول

ذ 6
( بني أمية هبوا طال نومكمو ... إن الخليفة يعقوب بن داود )
( ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الماء والعود )
فدخل يعقوب على المهدي فأخبره أن بشارا هجاه فاغتاظ المهدي وانحدر إلى البصرة لينظر في أمرها فسمع أذانا في ضحى النهار فقال انظروا ما هذا وإذا به بشار وهو سكران فقال له يا زنديق عجب أن يكون هذا من غيرك ثم أمر به فضربه سبعين سوطا حتى أتلفه بها وألقي في سفينة فقال عين الشمقمق تراني حيث يقول ألقي في سفينة فقال عين الشمقمق تراني حيث يقول
( إن بشار بن برد ... تيس أعمى في سفينة )
فلما مات ألقيت جثته في الماء فحمله الماء فأخرجه إلى الدجلة فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة وأخرجت جنازته فما تبعه أحد وتباشر عامة الناس بموته لما كان يلحقهم من الأذى منه
وخاصم أبو دلامة رجلا فارتفعا إلى عافية القاضي فلما رآه أبر دلامة أنشد يقول
( لقد خاصمتني دهاة الرجال ... وخاصمتها سنة وافيه )
( فا أدحض الله لي حجة ... ولا خيب الله لي قافيه )
( ومن خفت من جوره في القضاء ... فلست أخافك يا عافيه )
فقال عافية لأشكونك إلى أمير المؤمنين ولأعلمنه أنك هجوتني قال له أبو دلامة إذا والله يعزلك
قال ولم قال لأنك لا تعرف الهجاء من المدح قال فبلغ ذلك المنصور فضحك وأمر له بجائزة
ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده إسماعيل بن علي وعيسى بن موسى والعباس بن محمد وجماعة من بني هاشم فقال له المهدي والله لئن لم تهج واحدا ممن في هذا البيت لأقطعن لسانك
فنظر إلى القوم وتحير في أمره وجعل ينظر إلى كل واحد فيغمزه بأن عليه رضاه قال

أبو دلامة فازددت حيرة فما رأيت أسلم لي من أن أهجو نفسي فقلت
( ألا أبلغ لديك أبا دلامة ... فلست من الكرام ولا كرامه )
( جمعت دمامة وجمعت لؤما ... كذاك اللؤم تتبعه الدمامه )
( إذا لبس العمامة قلت قردا ... وخنزيرا إذا نزع العمامه )
فضحك القوم ولم يبق منهم أحدا إلا أجازه
وقال ابن الأعرابي إن أهجى بيت قاله المحدثون قول محمد بن وهب في محمد بن هاشم
( لم تند كفاك من بذل النوال كما ... لم يند سيفك مذ قلدته بدم )
وهجا بعضهم القمر فقال يهدم العمر ويوجب أجرة المنزل ويشجب الألوان ويقرض الكتان ويضل الساري ويعين السارق ويفضح العاشق
ولابن منقذ في أبي طليب المصري وقد احترقت داره
( أنظر إلى الأيام كيف تسوقنا ... قسرا إلى الأقدار بالأقدار )
( ما أوقد ابن طليب قط بداره ... نارا وكان خرابها بالنار )
وكان للوجيه بن صورة المصري دلال الكتب دار بمصر موصوفة بالحسن فاحترقت فقال فيها ابن المنجم
( أقول وقد عاينت دار ابن صورة ... وللنار فيها وهجة تتضرم )
( فما هو إلا كافر طال عمره ... فجاءته لما استبطأته جهنم )
وقد أحسن الأديب كمال الدين علي بن محمد بن المبارك الشهير بابن الأعمى في ذم دار كان يسكنها حيث قال
( دار سكنت بها أقل صفاتها ... أن تكثر الحشرات في جنباتها )
( الخير عنها نازح متباعد ... والشر دان من جميع جهاتها )
( من بعض ما فيها البعوض عدمته ... كم أعدم الاجفان طيب سناتها )

( وتبيت تسعدها براغيث متى ... غنت لها رقصت على نغماتها )
( رقص بتنقيط ولكن قافه ... قد قدمت فيه على أخواتها )
( وبها ذباب كالضباب يسد عين ... الشمس ما طربي سوى غناتها )
( أين الصوارم والقنا من فتكها ... فينا وأين الأسد من وثباتها )
( وبها من الخطاف ما هو معجز ... أبصارنا عن وصف كيفياتها )
( وبها خفافيش تطير نهارها ... مع ليلها ليست على عاداتها )
( وبها من الجرذان ما قد قصرت ... عنه العتاق الجرد في حملاتها )
( وبها خنافس كالطنافس أفرشت ... في أرضها وعلت على جنباتها )
( لو شم أهل الحرب منتن فسوها ... أردى الكماة الصيد عن صهواتها )
( وبنات وردان وأشكال لها ... مما يفوت العين كنه ذواتها )
( أبدا تمص دماءن ا فكأنها ... حجامة لبدت على كاساتها )
( وبها من النمل السليماني ما ... قد قل ذو الشمس عن ذراتها )
( وما راعني شيء سوى وزغانها ... فتعوذوا الله من لدغاتها )
( سجعت على أوكارها فظننتها ... ورق الحمام سجعن في شجراتها )
( وبها زنابير تظن عقاربا ... حر السموم أخف من زفراتها )
( وبها عقارب كالأقارب ر تع ... فينا حمانا اله لدغ حماتها )
( كيف السبيل إلى النجاة ولا نجاة ... ولا حياة لمن رأى حياتها )
( منسوجة بالعنكبوت سماؤها ... والأرض قد نسجت على آفاتها )
( فضجيجها كالرعد في جنباتها ... وترابها كالرمل في خشناتها )
( والبوم عاكفة على أرجائها ... والدود يبحث في ثرى عرصاتها )
( والجن تأتيها إذا جن الدجى ... تحكي الخيول الجرد في حملاتها )
( والنار جزء من تلهب حرها ... وجهنم تعزى إلى لفحاتها )
( شاهدت مكتوبا على أرجائها ... ورأيت مسطورا على جنباتها )

( لا تقربوا منها وخافوها ولا ... تلقوا بأيديكم إلى هلكاتها )
( أبدا يقول الداخلون ببابها ... يا رب نج الناس من آفاتها )
( قالوا إذا ندب الغراب منازلا ... يتفرق السكان من ساحاتها )
( وبدارنا ألفا غراب ناعق ... كذب الرواة فأين صدق رواتها )
( صبرا لعل الله يعقب راحة ... للنفس إذ غلبت على شهواتها )
( دار تبيت الجن تحرس نفسها ... فيها وتندب باختلاف لغاتها )
( كم بت فيها مفردا والعين من ... شوق الصباح تسح من عبراتها )
( وأقول يا رب السموات العلا ... يا رازقا للوحش في فلواتها )
( أسكنتني بجهنم الدنيا ففي ... أخراي هب لي الخلد في جناتها )
( واجمع بمن أهواه شملي عاجلا ... يا جامع الأرواح بعد شتاتها )
ولبعضهم في بلان
( أشكوا إلى الله بلانا بليت به ... مست أنامله ظهري فأدماني )
( فلا يدلك تدليكا بمعرفة ... ولا يسرح تسريحا باحسان )
وللشيخ شمس الدين البدوي في بلان أيضا
( وبلان له ظهر يباهي ... به حد الشفار المرهفات )
( هرى جسمي فالبسه نجيعا ... على حلل الستور السابلات )
( ورام يلين أعضائي برفق ... فأيبسها وكسر فوقحاني )
( ولم أنظر له أبدا جميلا ... وذلك من عظيم المهلكات )
( وأعمى مقلتي بصنان أبط ... يفوح به على كل الجهات )
( فلا تجعل إلهي مثل هذا ... يغسلني إذا حانت وفاتي )
ولبعضهم في حمام
( وحمام دخلناه لأمر ... حكى سقرا وفيها المجرمونا )

( فيصطرخوا يقولوا أخرجونا ... فإن عدنا فانا ظالمونا )
وللشريف أبي يعلى الهاشمي البغدادي في نظام الملك يهدده بالهجاء يقول
( أيجمل يا نظام الملك أني ... أعاود من ذراك كما قدمت )
( وأصدر عن حياضك وهي نهب ... فأفواه السقاة وما وردت )
( يدل على فعالك سوء حالي ... ويخبر عن نوالك إن كتمت )
( إذا استخبرت ماذا نلت منه ... وقد عم الورى كرما سكت )
وممن عرض بالهجو في شعره الخوارزمي قال في أبي جعفر
( أبا جعفر لست بالمنصف ... ومثلك إن قال قولا يفي )
( فإن أنت أنجزت لي ما وعدت ... وإلا هجيت وأدخلت في )
( وقد علم الناس ما بعد في ... فغط الحديث ولا تكشف )
ومدح السراج الوراق إنسانا فلم يجزه فكتب يعرض له بالهجاء ويهدده يقول
( أعد مدحي علي وخذ سواه ... فقد أتعتبتني يا مستريح )
( ولا تغضب إذا أنشدت يوما ... سواه وقيل لي هذا صحيح )
وله أيضا يقول
( أعد مدحا كذبت عليك فيه ... وقد عوفيت بالحرمان عنه )
( ولكني سأصدق فيك قولا ... فلا يصعب عليك الحق منه )

وقال بعضهم في حجاج قدموا ولم يهدوا إليه شيئا
( مضوا ليحجوا والوجوه كأنها ... تكاد لفرط البشر أن توضح السبلا )
( وعادوا كأن القار فوق وجوههم ... فلا مرحبا بالقادمين ولا سهلا )
( وجاؤا وما جادوا بعود أراكة ... ولا وضعوا في كف طفل لنا نقلا )
وقال آخر
( إذا رمت هجوا في فلان تصدني ... خلائق قبح عنه لا تتزحزح )
( تجاوز قدر الهجو حتى كأنه ... بأقبح ما يهجى به المرء يمدح )
وهجا بعضهم امرأة فقال
( لها جسم برغوث وساق بعوضة ... ووجه كوجه القرد بل هو أقبح )
( تبرق عينيها إذا ما رأيتها ... وتعبس في وجه الضجيع وتكلح )
( لها منظر كالنار تحسب أنها ... إذا ضحكت في أوجه الناس تلفح )
( إذا عاين الشيطان صورة وجهها ... تعوذ منها حين يمسي ويصبح )
ولبعضهم في عظيم أنف
( لك وجه وفيه قطعة أنف ... كجدار قد دعموه ببغله )
( وهو كالقبر في المتال ولكن ... جعلوا نصفه على غير قبله )
وفيه أيضا
( رأينا للزكي جدار أنف ... يضاهي في تشامخه الجبالا )
( تصدى للهلاك لكي يراه ... فلولا عظمه لرأى الهلالا )
ولبعضهم في أبخر مخنث
( قالوا فلان به نتن فقلت لهم ... يا قوم قد حار فكري في مساويه )

( يا قوم لا تعجبوا من نتن نكهته ... فالأير يدفع ما فيه إلى فيه )
ولصفي الدين الحلي
( رأى فرسي اصطبل عيسى فقال لي ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلي )
( به لم أذق طعم الشعير كأنني ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
( تقعقع من برد الشتاء أضالعي ... لما نسجتها من جنوب وشمال )
وله أيضا
( ليهتك إن لي ولدأا وعبدا ... سواء في المقال وفي المقام )
( فهذا سابق من غير سين ... وهذا عاقل من غير لام )
وله في طبيب يدعى إسحاق
( مباضع إسحق الطبيب كأنها ... لها بفناء العالمين كفيل )
( معودة أن لا تسل نصالها ... فتغمد حتى يستباح قتيل )
وله في أحمق طويل اللسان
( لو أن قوة وجهه في قلبه ... قنص الأسود وجندل الأبطالا )
( أو كان طول لسانه بيمينه ... أفنى الكنوز وأنفذ الأموالا )
وهجا اعرابي رجلا ثم مدحه فقال
( إني مدحتك من فساد قريحتي ... وعلمت أن المدح فيك يضيع )
( لكن رأيت المسك عند فساده ... يدني إلى بيت الخلا فيضوع )
وقيل لبعضهم ما تقول في فلان وفلان قال هما الخمر والميسر إثمهما أكبر من نفعهما
وقيل لرجل كيف وجدت فلانا قال طويل اللسان في اللؤم قصير الباع في الكرم وثابا على الشر مناعا للخير
وسمع أعرابي قوله تعالى ( الأعراب أشد كفرا ونفاقا ) فانتفض ثم سمع قوله تعالى

( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر )
فقال الله أكبر هجانا ثم مدحنا وكذلك قال الشاعر
( هجوت زهيرا ثم إني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح )
استب رجلان فقال أحدهما للآخر لو قطع زبك وعلق لم تبق زانية بالكوفة إلا عرفته
وقال أبو زيد العبدي
( ولقد قتلتك بالهجاء فلم تمت ... إن الكلاب طويلة الأعمار )
وقال المتوكل لأبي العيناء ما بقي أحد في المجلس إلا هجاك وذمك غيري فقال
( إذا رضيت عني كرام عشيرتي ... فلا زال غضبانا علي لئامها )

الباب الرابع والأربعون في الصدق والكذب وفيه فصلان
الفصل الأول
في الصدق
قال الله تعالى مبشرا للصادقين ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ) وقال تعالى ( والصادقين والصادقات ) فمدحهم وبين لهم المغفرة والأجر العظيم
وقال عمر رضي الله عنه عليك بالصدق وإن قتلك
وما أحسن ما قيل في ذلك
( عليك بالصدق ولو أنه ... أحرقك الصدق بنار الوعيد )
( وابغ رضا المولى فأغبى الورى ... من أسخط المولى وأرضى العبيد )
وقال إسماعيل بن عبيد الله لما حضرت أبي الوفاة جمع بنيه فقال لهم يا بني عليكم بتقوى الله وعليكم بالقرآن فتعاهدوه وعليكم بالصدق حتى لو قتل أحدكم قتيلا ثم سئل عنه أقربه
والله ما كذبت كذبة قط مذ قرأت القرآن
وعن عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله بم يعرف المؤمن قال بوقاره ولين كلامه وصدق حديثه وقيل لكل شيء حلية وحلية النطق الصدق

وقال محمود الوراق
( الصدق منجاة لأربابه ... وقربة تدني من الرب )
وقيل الصدق عمود الدين وركن الأدب وأصل المروءة فلا تتم هذه الثلاثة إلا
به وقال أرسطاطاليس أحسن الكلام ما صدق فيه قائله وانتفع به سامعه
وقال المهلب بن أبي صفرة ما السيف الصارم في يد الشجاع بأعزله من الصدق وكان يقال على الصدوق فلان وقف لسانه على الصدق ويقال الصدق محمود من كل أحد إلا من الساعي
ويقال لو صدق عبد فيما بينه وبين الله تعالى حقيقة الصدق لأطلع على خزائن الغيب ولكان أمينا في السماوات والأرض
وقيل من لزم الصدق وعود لسانه به وفق
ويقال الصدق بالحر أحرى
وقال عتبة بن أبي سفيان إذا اجتمع في قلبك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه فان الصواب أقرب إلى مخالفة الهوى
وقال أرسطا طاليس الموت مع الصدق خير من الحياة مع الكذب
وكان نقش خاتم ذي يزن وضع الخد للحق عز وامتدح ابن ميادة جعفر بن سليمان فأمر له بمائة ناقة فقبل يده وقال والله ما قبلت يد قرشي غيرك إلا واحد فقال أهو المنصور قال لا والله قال فمن هو قال الوليد بن يزيد قال فغضب
وقال والله ما قبلتها لله تعالى فقال والله ولا يدك ما قبلتها لله تعالى ولكن قبلتها لنفسي فقال والله لا ضرك الصدق عندي أعطوه مائة أخرى
وقال عامر العدواني في وصيته إني وجدت صدق الحديث طرفا من الغيب فاصدقوا يعني من لزم الصدق وعود لسانه وفق فلا يكاد ينطق بشيء يظنه إلا جاء على ظنه
وخطب بلال لأخيه امرأة قرشية فقال لأهلها نحن من قد عرفتم كنا عبدين فأعتقنا الله تعالى وكنا ضالين فهدانا الله تعالى وكنا فقيرين فأغنانا الله تعالى وأنا أخطب إليكم فلانة لأخي فان تنكحوها له فالحمد لله تعالى وإن تردونا فالله أكبر
فأقبل بعضهم على بعض فقالوا بلال ممن عرفتم سابقته ومشاهده ومكانه من رسول الله فزوجوا أخاه فزوجوه فلما

انصرفوا قال له أخوه يغفر الله لك أما كنت تذكر سوابقنا ومشاهدنا مع رسول الله وتترك ما عدا ذلك فقال مه يا أخي صدقت فأنكحك الصدق
وخطب الحجاج فأطال فقام رجل فقال الصلاة فان الوقت لا ينتظرك والرب لا يعذرك فأمر بحبسه فأتاه قومه زعموا أنه مجنون وسألوه أن يخلي سبيله فقال إن أقر بالجنون خليته فقيل له فقال معاذ الله لا أزعم أن الله ابتلاني وقد عافاني
فبلغ ذلك الحجاج فعفا عنه لصدقه
الفصل الثاني من هذا الباب
في الكذب وما جاء به
قال الله تعالى في الكاذبين ( ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) وقال تعالى ( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ) وقال رسول إياكم والكذب فان الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار وتحروا الصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله إذا كذب العبد كذبة تباعد الملكان عنه مسيرة ميل من نتن ما جاء به ويقال راوي الكذب أحد الكذابين
ويقال رأس المآثم الكذب وعمود الكذب البهتان
وقيل أمران لا ينفكان من الكذب كثرة المواعيد وشدة الاعتذار
وقال الحسن في قوله تعالى ( ولكم الويل مما تصفون )
وهي لكل واصف كذب إلى يوم القيامة
وقال الأصمعي قلت لكذاب أصدقت قط قال لولا أني أخاف أصدق في هذا لقلت لك لا فتعجب

وقال محمود بن أبي الجنود
( لي حلية فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيلة )
( من كان يخلق ما يقول ... فحيلتي فيه قليلة )
ويقال فلان أكذب من لمعان السراب ومن سحاب تموز وكان بفارس محتسب يعرف بجراب الكذب وكان يقول إن منعت الكذب انشقت مرارتي وإني والله لأجد به مع ما يلحقني من عاره من المسرة ما لا أجده بالصدق مع ما ينالني من نفعه
وقال فيلسوف من عرف من نفسه الكذب لم يصدق الصادق فيما يقوله
ولبعضهم
( حسب الكذوب من البلية ... بعض ما يحكى عليه )
( فمتى سمعت بكذبة ... من غيره نسبت إليه )
وأضاف صيرفي قوما فأقبل يحدثهم فقال بعضهم نحن كما قال تعالى ( سماعون للكذب أكالون للسحت )
وعن عبد الله ابن السدي قال قلت لابن المبارك حدثنا حديثا قال ارجعوا فلست أحدثكم فقيل له إنك لم تحلف فقال لو حلفت لكفرت وحدثتكم ولكن لست أكذب فكان هذا أحب إلينا من الحديث وقال مجاهد يكتب على ابن آدم كل شيء حتى أنينه في سقمه وحتى أن الصبي ليبكي فتقول له أمه اسكت وأشتري لك كذا ثم لا تفعل فتكتب كذبة
وقال الفضيل ما من مضغة أحب إلى الله تعالى من اللسان إذا كان صدوقا ولا مضغة أبغض إلى الله تعالى من اللسان إذا كان كذوبا
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا أعظم الخطايا اللسان الكذوب
قال الشاعر
( لا يكذب المرء إلا من مهانته ... أو فعله السوء أو من قلة الأدب )

( لبعض جيفة كلب خير رائحة ... من كذبة المرء في جد وفي لعب )
ولما نصب معاوية ضي الله تعالى عنه ابنه يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء وجعل الناس يسلمون على معاوية ثم يسلمون على يزيد حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية فقال يا أمير المؤمنين أعلم إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها والأحنف ساكت فقال معاوية مالك لا تقول يا أبا بحر فقال أخاف الله تعالى إن كذبت وأخافكم إن صدقت
فقال جزاك الله خيرا عما تقول ثم أمر له بألوف فلما خرج الأحنف لقيه ذلك الرجل بالباب فقال له يا أبا بحر إني لأعلم أن هذا من شرار خلق الله تعالى ولكنهم استوثقوا من الأموال بالأبواب والأقفال فلسنا نطمع في إخراجها إلا بما سمعت فقال له الأحنف يا هذا أمسك فان ذا الوجهين خليق أن لا يكون عند الله وجيها
وقيل إن الكذب يحمد إذا وصل بين المتقاطعين أو أصلح بين الزوجين ويذم الصدق إذا كان غيبة
وقد رفع الحرج عن الكاذب في الحرب وعن المصلح بين المرء وزوجه
وكان المهلب في حرب الخوارج يكذب لأصحابه يقوي بذلك جأشهم فكانوا إذا رأوه مقبلا إليهم قالوا جاءنا بكذب
وقال يحيى بن خالد رأينا شارب خمر نزع ولصا أقلع وصاحب فواحش رجع ولم نر كذابا صار صادقا
وكان عمر بن معد يكرب مشهورا بالكذب
وقيل لخلف الأحمر وكان شديد التعصب لليمن أكان ابن معد يكرب يكذب فقال كان يكذب في المقال ويصدق في الفعال
قيل إن بلالا لم يكذب مذ أسلم رضي الله تعالى عنه والحمد لله وحده

الباب الخامس والأربعون في بر الوالدين وذم العقوق وذكر الأولاد وما يحب لهم وعليهم وصلة الرحم والقرابات وذكر الأنساب وفيه فصول
الفصل الأول في بر الوالدين وذم العقوق
قال الله تعالى ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا )
وقال تعالى ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا )
وقال تعالى ( أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير )
وقال تعالى ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) وعن علي رضي الله تعالى عنه لو علم الله شيئا في العقوق أدنى من أف لحرمه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فإن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار
وقيل إن رضا الرب في رضا الوالدين وسخط الرب في سخط الوالدين
وحكى أبو سهل عن ابي صالح عن ابي نجيح عن ربيعة عن عبد الرحمن عن عطاء بن أبي مسلم أن رسول الله قال من حج عن والده بعد وفاته كتب الله لوالده حجة وكتب له براءة من النار

رسول الله إياكم وعقوق الوالدين فان ريح الجنة يوجد من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق
وكان رجل من النساك يقبل كل يوم قدم أمه فأبطأ يوما على أخوته فسألوه فقال كنت أتمرغ في رياض الجنة فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات وبلغنا أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام ثلاثة آلاف وخمسمائة كلمة فكان آخر كلامه يا رب أوصيني قال أوصيتك بأمك حسنا قال له سبع مرات
قال حسبي ثم قال يا موسى ألا إن رضاها رضاي وسخطها سخطي
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه لابن مهران لا تأتين أبواب السلاطين وإن أمرتهم بمعروف أو نهيتهم عن منكر ولا تخلون بامرأة وإن علمتها سورة من القرآن ولا تصحبن عاقا فإنه لن يقبلك وقد عق والديه
وقال فيلسوف من عق والديه عقه ولده
وقال المأمون لم أر أحدا أبر من الفضل بن يحيى بأبيه بلغ على بره له إنه كان لا يتوضأ إلا بماء سخن فمنعهم السجان من الوقود في ليلة باردة فلما أخذ يحيى مضجعه قام الفضل إلى قمقم نحاس فملأه ماء وأدناه من المصباح فلم يزل قائما وهو في يده إلى المصباح حتى استيقظ يحيى من منامه
وقيل طلب بعضهم من ولده أن يسقيه ماء فلما أتاه بالشربة نام أبوه فما زال الولد واقفا بالشربة في يده إلى الصباح حتى استيقظ أبوه من منامه
وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إن لي أما بلغ منها الكبر إنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري لها مطية فهل أديت حقها قال لا
لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك وأنت تصنعه وتتمنى فراقها
وقال ابن المنكدر بت أكبس رجل أبي وبات آخر يصلي ولا يسرني ليلته بليلتي وقيل إن محمد بن سيرين كان يكلم أمه كما يكلم الأمير الذي لا ينتصف منه وقيل لعلي ابن الحسين رضي الله تعالى عنه إنك من أبر الناس ولا تأكل مع أمك في صحفة فقال نخاف ان تسبق يدي يدها ما تسبق عيناها إليه فأكون قد عققتها

الفصل الثاني في الأولاد وحقوقهم وذكر النجباء والأذكياء والبلداء والأشقياء
قال رسول الله الولد ريحانة من الجنة
وقال الفضل ريح الولد من الجنة
وكان يقال ابنك ريحانتك سبعا ثم حاجبك سبعا ثم عدو أوصديق
وعن ابي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال قلت لسيدي رسول الله يا رسول الله هل يولد لأهل الجنة قال والذي نفس بيده إن الرجل يشتهي أن يكون له ولد فيكون حمله ووضعه وشبابه الذي ينتهي إليه في ساعة واحدة
وقيل من حق الولد على والده أن يوسع عليه حاله كي لا يفسق
وقال عمر رضي الله تعالى عنه إني لأكره نفسي على الجماع رجاء أن يخرج الله مني نسمة تسبحه وتذكره
وقال رضي الله تعالى عنه أكثروا من العيال فأنكم لا تدرون بمن ترزقون
وقال شبيب ابن شبة ذهب اللذات إلا من ثلاثة شم الصبيان وملاقاة الأحزان والخلوة مع النسوان
ودخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده ابنته عائشة فقال من هذه يا أمير المؤمنين قال هذه تفاحة القلب فقال انبذها عنك فإنهن يلدن الأعداء ويقربن البعداء ويورثن الضغائن قال لا تقل يا عمرو ذلك فوالله ما مرض المرضى ولا ندب الموتى ولا أعان على الاخوان إلا هن فقال عمرو يا أمير المؤمنين إنك حببتهن إلي وقيل لرجل أي ولدك أحب إليك قال صغيرهم حتى يكبر ومريضهم حتى يبرأ وغائبهم حتى يحضر وقال ابن عامر لامرأته أمامة بنت الحكم الخزاعية إن ولدت غلاما فلك حكمك فلما ولدت قالت حكمي أن تطعم سبعة ايام كل يوم على ألف خوان من فالوذج وإن تعق بألف شاة ففعل لها ذلك وغضب معاوية على يزيد فهجره فقال الأحنف يا أمير المؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن لهم سماء ظليلة وأرض ذليلة وبهم نصول على كل جليلة فإن غضبوا فارضهم وإن سألوا فاعطهم وإن لم يسألوا فابتدئهم ولا تنظر إليهم شزرا فيملوا حياتك ويتمنوا وفاتك فقال معاوية يا غلام إذا رأيت يزيد فاقرأه السلام

واحمل إليه مائتي ألف درهم ومائتي ثوب فقال يزيد من عند أمير المؤمنين فقيل له الأحنف فقال يزيد بن معاوية علي به فقال يا أبا بحر كيف كانت القصة فحكاها له فشكر صنيعه وشاطره الصلة
حكى الكسائي أنه دخل على الرشيد يوما فأمر باحضار الأمين والمأمون ولديه قال فلم يلبث أن قليلا أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هداهما ووقارهما وقد غضا أبصارهما حتى وقفا في مجلسه فسلما عليه بالخلافة ودعوا له بأحسن الدعاء فاستدناهما وأسند محمدا عن يمينه وعبد الله عن يساره ثم أمرني أن ألقي عليهما أبوابا من النحو فما سألتهما شيئا إلا أحسنا الجواب عنه فسره ذلك سرورا عظيما وقال كيف تراهما فقلت
( أرى قمري أفق وفرعين شامة ... يزينهما عرق كريم ومحتد )
( سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريث ما أبقي النبي محمد )
( يسدان انفاق النفاق بشيمة ... يزينهما حرم وسيف مهند )
ثم قلت ما رأيت أعز الله أمير المؤمنين أحدا من أبناء الخلافة ومعدن الرسالة وأغصان هذه الشجرة الزلالية آدب منهما ألسنا ولا أحسن ألفاظا ولا أشد اقتدارا على الكلام روية وحفظا منهما أسأل الله تعالى أن يزيد بهما الإسلام تأييدا وعزا ويدخل بهما على أهل الشرك ذلا وقمعا
وأمن الرشيد على دعائه ثم ضمهما إليه وجمع عليهما يديه فلم يبسطهما حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره ثم أمرهما بالخروج وقال كأني بهما وقد دهم القضاء ونزلت مقادير السماء وقد تشتت أمرهما وافترقت كلمتهما بسفك الدماء وتهتك الستور
وكان يقال بنو أمية دن خل أخرج الله منه زق عسل يعني عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه
وسب أعرابي ولده وذكر له

حقه فقال يا أبتاه إن عظيم حقك علي لا يبطل صغير حقي عليك
قال سيدي عبد العزيز الديريني رحمه الله تعالى
( أحب بنيتي ووددت أني ... دفنت بنيتي في قاع لحد )
( وما بي أن تهون علي لكن ... مخافة أن تذوق الذل بعدي )
( فان زوجتها رجلا فقيرا ... أراها عنده والهم عندي )
( وإن زوجتها رجلا غنيا ... فيلطم خدها ويسب جدي )
( سألت الله يأخذها قريبا ... ولو كانت أحب الناس عندي )
وقال هرون بن علي بن يحيى المنجم
( أرى ابني تشابه من علي ... ومن يحيى وذاك به خليق )
( وإن يشبههما خلقا وخلقا ... فقد تسري إلى الشبه العروق )
وقال ابو النصر مولى بني سليم
( ونفرح بالمولود من آل برمك ... ولا سيما إن كان من ولد الفضل )
وقال الحسن بن زيد العلوي
( قالوا عقيم لم يولد له ولد ... والمرء يخلفه من بعده الولد )
( فقلت من علقت بالحرب همته ... عاف النساء ولم يكثر له عدد )
وكان الزبير بن العوام رضي الله عنه يرقص ولده ويقول
( أزهر من آل بني عتيق ... )
( مبارك من ولد الصديق ... )
( ألذه كما ألذ ريقي ... )

وكانت اعرابية ترقص ولدها وتقول
( يا حبذا ريح الولد ... ريح الخزامى في البلد )
( أهكذا كل ولد ... أم لم يلد مثلي أحد )
وكان أعرابي يرقص ولده ويقول
( أحبه حب الشحيح ماله ... )
( قد ذاق طعم الفقر ثم ناله ... )
( إذا أراد بذله بدا له ... )
وكان لأعرابي امرأتان فولدت أحداهما جارية والأخرى غلاما فرقصته أمه يوما وقالت معايرة لضرتها
( الحمد لله الحميد العالي ... أنقذني العام من الجوالي )
( من كل شوهاء كشن بالي ... لا تدفع الضيم عن العيال )
فسمعتها ضرتها فأقبلت ترقص ابنتها وتقول
( وما علي أن تكون جارية ... تغسل رأسي وتكون الفالية )
( وترفع الساقط من خمارية ... حتى إذا ما بلغت ثمانية )
( أزرتها بنقبة يمانية ... أنكحتها مروان أو معاوية )
( أصهار صدق ومهور غالية ... )
قال فسمعها مروان فتزوجها على مائة ألف مثقال وقال إن أمها حقيقة أن لا يكذب ظنها ويخان عهدها فقال معاوية لولا مروان سبقنا إليها لأضعفنا لها المهر ولكن لا نحرم الصلة فبعث إليها بمائتي ألف درهم والله أعلم

ومما جاء في الأولاد البلداء القليلي التوفيقي
قيل نظر أعرابي إلى ولد له قبيح المنظر فقال له يا بني إنك لست من زينة الحياة الدنيا
وقال رجل لولده وهو في المكتب في أي سورة أنت قال لا أقسم بهذا البلد ووالدي بلا ولد فقال لعمري من كنت أنت ولده فهو بلا ولد
وأرسل رجل ولده يشتري له رشاء للبئر طوله عشرون ذراعا فوصل إلى نصف الطريق ثم رجع فقال يا أبت عشرون في عرض كم قال في عرض مصيبتي فيك يا بني
وكان لرجل من الأعراب ولد اسمه حمزة فبينما هو يوما يمشي مع أبيه إذا برجل يصيح بشاب يا عبد الله فلم يجبه ذلك الشاب فقال ألا تسمع فقال يا عم كلنا عبيد الله فأي عبد تعني فالتفت أبو حمزة إليه وقال يا حمزة ألا تنظر إلى بلاغة هذا الشاب فلما كان من الغد إذا برجل ينادي شابا يا حمزة فقال حمزة بن الأعرابي كلنا حماميز الله فأي حمزة تعني فقال له أبوه ليس يعنيك يا من أخمد الله به ذكر أبيه
وكان لمحمد بن بشير الشاعر ابن جسيم فأرسله في حاجته فأبطأ عليه ثم عاد ولم يقضها فنظر إليه ثم قال
( عقله عقل طائر ... وهو في خلقه الجمل )
فأجابه
( مشبه بك يا أبي ... ليس لي عنك منتقل )
ونهى اعرابي ابنه عن شرب النبيذ فلم ينته وقال
( أمن شربة من ماء كرم شربتها ... غضبت علي الآن طابت لي الخمر )
( سأشرب فاسخط لارضيت كلاهما ... حبيب إلى قلبي عقوقك والسكر )
وقيل قال ذلك يزيد بن معاوية لأبيه حين نهاه عن شرب الخمر
ومما جاء في صلة الرحم
قال رسول الله صلة الرحم منهاة للولد مثراة للمال
وقيل وجد حجر حين حفر ابراهيم الخليل عليه السلام أساس البيت

عليه بالعبرانية أنا الله ذوبكة خلقت الرحم وشققت لها إسما من أسمائي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته أي قطعته
وقال رسول الله أعجل الخير ثوابا صلة الرحم
وحدثنا أبو سهل عن صالح بن جرير بن عبد الحميد عن منصور عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه كعب الأحبار أنه قال والذي فلق البحر لموسى بن عمران إن في التوراة لمكتوبا يا ابن آدم اتق ربك وبر والديك وصل رحمك أزد في عمرك وأيسر لك في يسيرك وأصرف عنك عسيرك
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي أنه قال صنائع المعروف تقي مصارع السوء وصدقة السر تطفئ غضب الرب جلا وعلا وصلة الرحم تزيد في العمر وذكر تمام الحديث
الفصل الثالث من هذا الباب في ذكر الأنساب والأقارب والعشيرة
قال عمر رضي الله عنه تعلموا أنسابكم تعرفوا بها أصولكم فتصلوا بها أرحامكم وقيل لو لم يكن من معرفة الأنساب إلا اعتزازها من صولة الأعداء وتنازع الأكفاء لكان تعلمها من أحزم الرأي وأفضل الثواب ألا ترى إلى قول قوم شعيب عليه السلام حيث قالوا ولولا رهطك لرجمناك فأبقوا عليه لرهطه
وقال عمر رضي الله عنه تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة وتعلموا النسب فرب رحم مجهولة قد وصلت بعرفان نسبها
وسئل عيسى عليه السلام أي الناس أشرف فقبض قبضتين من تراب وقال أي هاتين أشرف ثم جمعهما وطرحهما وقال الناس كلهم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم
كان أبو كبشة جد رسول الله من قبل أمه فلما خالف رسول الله دين قريش

قالوا نزعة عرق أبي كبشة حيث خالفهم في عبادة الشعري
وقال خالد بن عبد الله القشيري سألت واصل بن عطاء عن نسبه فقال نسبي الإسلام الذي من ضيعه فقد ضيع نسبه ومن حفظه فقد حفط نسبه فقال خالد وجه عبد وكلام حر
ومن كلام علي كرم الله وجهه أكرم عشيرتك فإنهم جناحك الذي به تطير فإنك بهم تصول وبهم تطول وهم العدة عند الشدة أكرم كريمهم وعد سقيمهم وأشركهم في أمورك ويسر عن معسرهم
وكان يقال إذا كان لك قريب فلم تمش إليه برجلك ولم تعطه من مالك فقد قطعته
ويقال حق الأقارب إعظام الأصغر للأكبر وحنو الأكبر على الأصغر
قال رسول الله حق كبير الأخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده قال بعضهم
( وإذا رزقت من النوافل ثروة ... فامنح عشيرتك الأداني فضلها )
( واعلم بأنك لم تسود فيهم ... حتى ترى دمث الخلائق سهلها )

الباب السادس والأربعون في الخلق وصفاتهم وأحوالهم وذكر الحسن والقبيح والقصر والألوان والثياب وما أشبه ذلك وفيه فصول
الفصل الأول
في الحسن ومحاسن الأخلاق
وإلى سيدنا محمد رسول الله ينتهي الحسن والجمال
كان سيدنا محمد ربعة من القوم لا بائنا من طول ولا تقتحمه عين من قصر أبيض اللون مشربا بحمرة أدعج العينين مفلج الثنايا دقيق المسربة أزهر الجبين واضح الخد أقنى الأنف كأن عنقه إبريق فضة ظاهر الوضاءة يتلألأ وجهه تلألؤ القمر شثن الكفين مسبح القدمين واسع الصدر من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب ليس في بطنه ولا صدره شعر غير أشعر الذراعين والمنكبين لم يبلغ شيبه في رأسه ولحيته عشرين شعرة ضخم الكراديس أنور المتجرد إذا مشى كأنما ينحط من صبب وإذا التفت التفت جميعا بين كتفيه خاتم النبوة كأنه زر حجلة أو بيض حمامة لونه كلون جسده أبلج

حسن الخلق وسيما قسيما في جبينه زجج وفي عينيه دعج وفي عنقه سطع وفي لحيته كثافة إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحسنهم وأكملهم من قريب كأنما منطقه خرزات نظم يتحدرن
قال أنس رضي الله عنه ما رأيت من ذي لمة سوداء في حلة حمراء أحسن من رسول الله ومدحه حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال
( وأحسن منك لم ترقط عيني ... وأجمل منك لم تلد النساء )
( خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء )
اللهم صلى وسلم عليه واجعله شفيعا لمن يصلي عليه
وقال ما حسن الله خلق عبد وخلقه إلا استحيا أن يطعم لحمه النار وقد كان المتوكل رحمه الله من أحسن الخلفاء العباسية وجها وأبهاهم منظرا وكان مصعب بن الزبير من أحسن الناس وجها
حكي إنه كان جالسا بفناء داره يوما بالبصرة فإذا جاءت امرأة فوقفت تنظر إليه فقال لها ما وقوفك يرحمك الله فقالت طفئ مصباحنا فجئنا نقتبس من وجهك مصباحا
وقيل لإعرابية ظريفة ما بال شفتيك مشفقة فقالت إن التين إذا حلا تشقق والورد يتشقق إذا مسه الندى وكانت لبابة بنت عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم من أجمل الناس وجها وكانت عند الوليد بن عتبة بن أبي سفيان فكانت تقول ما نظرت وجهي في مرآة مع إنسان إلا رحمته من حسن وجهي إلا الوليد فكنت إذا نظرت إلى وجهي مع وجهه رحمت وجهي من حسن وجهه قال الشاعر
( ولو أنها في عهد يوسف قطعت ... قلوب رجال لا أكف نساء )
وقال كثير
( لو أن عزة حاكمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها )

ومما جاء في محاسن الخلق منظوما على الترتيب من الفرق إلى القدم
ما قيل في الشعر كان يقال من تزوج امرأة أو اتخذ جارية فليتحسن من شعرها فإن الشعر الحسن أحد الوجهين قال بكر بن النطاح
( بيضاء تسحب من قيام شعرها ... وتغيب فيه وهو وجه أسحم )
( فكأنها فيه نهار ساطع ... وكأنه ليل عليها مظلم )
وللمتنبي
( نشرت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا )
( واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا )
وله أيضا
( لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن كي يصن به الجمالا )
( وصفرن الغدائر لا لحسن ... ولكن خفن في الشعر الضلالا )
وقال الصفدي
( لولا شفاعة شعره في صبه ... ما كان زار ولا أزال سقاما )
( لكن تنازل في الشفاعة عنده ... فعذا على أقدامه يترامى )
وقال ابن الصائغ
( ثنى غصنا ومد عليه فرعا ... كحظ حين أطلب منه وصلا )

( وبليله على الأرداف منه ... فلم أر مثل ذاك الفرع أصلا )
وقال آخر
( أرخى ثلاثا يوم حمامه ... ذوائبا تعبق منها الغوال )
( فقلت والقصد ذؤاباته ... واسهرى في ذي الليالي الطوال )
وقال آخر
( بدت ثريا قرطها وشعرها ... متصل بكعبها كما ترى )
( يا عجبا لشعرها لما ابتدى ... من الثريا فانتهى إلى الثرى )
وقال ابن المعتز
( توارت عن الواشي بليل ذوائب ... لها من محيا واضح تحته فجر )
( يغطى عليها شعرها بظلامه ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر )
ومما قيل في الأصداغ
قال ابن المعتز
( ريم يتيه بحسن صورته ... عبث النعاس بلحظ مقلته )
( وكأن عقرب صدغه وقفت ... لما دنت من ورد وجنته )
وقال العادلي
( وعهدي بالعقارب حين تشتو ... يخفف لدغها ويقل ضرا )
( فما بال الشتاء أتى وهذي ... عقارب صدغها تزداد شرا )
وقال آخر
( وما ضره نار بخديه ألهبت ... ولكن بها قلب المحب يعذب )
( عناقيد صدغيه بخديه تلتوي ... وأمواج ردفيه بخصريه تلعب )
( شربت الهوى صرفا زلالا وإنما ... لواحظه تسقى وقلبي يشرب )

وقال آخر
( حل القبا ولوى صدغيه فانعقدا ... واحيرتي بين محلول ومعقود )
( وأسكرتني ثناياه وريقته ... هل هذه الخمر من تلك العناقيد )
ومما قيل في مدح العذار قال أبو فراس بن حمدان
( يا من يلوم على هواه جهالة ... انظر إلى تلك السوالف تعذر )
( حسنت وطاب نسيمها فكأنها ... مسك تساقط فوق خد أحمر )
وقال محمد بن وهب
( صدودك والهوى هتكا استتاري ... وساعدني البكاء على اشتهاري )
( وكم أبصرت من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختباري )
( ولم أخلع عذارا فيك إلا ... لما عاينت من خلع العذار )
وقال آخر
ومعذر رقت حواشي خده ... فقلوبنا وجدا عليه رقاق )
( لم يكس عارضه السواد وإنما ... نفضت عليه سوادها الأحداق )
وقال آخر
( ومهفهف راقت نصارة وجهه ... والعين تنظر منه أحسن منظر )
( أصلى بنار الخد عنبرخاله ... فبدا العذار دخان ذاك العنبر )
وقال آخر
( أصبحت سلطان القلوب ملاحة ... وجمال وجهك للبرية عسكر )
( طلعت طلائع وجنتيك مغيرة ... بالنصر يقدمها اللؤاء الأخضر )
وقال آخر
( يا ذا الذي خط العذار بخده ... خطين هاجا لوعة وبلابلا )

( ما صح عندي أن لحظك صارم ... حتى حملت بعارضيك حمائلا )
وقال آخر
( من لا رأى كعبة الحسن التي حرست ... بالنمل حيث مقام النحل في فمه )
( فلينظر النمل أضحى فوق عارضه ... يطوف سبعا وسبعا حول مبسمه )
وقال بدر الدين الدماميني
( تحدث ليل عارضه بأني ... سأسلوه وينصرم المزار )
( فأشرق صبح غرته ينادي ... حديث الليل يمحوه النهار )
وقال آخر
( وقالوا تسلى فقد شأنه ... عذار أراحك من صده )
( فقلت وهممتم ولكنني ... خلعت العذار على خده )
سيدي أبو الفضل بن أبي الوفاء
( على وجنتيه جنة ذات بهجة ... ترى لعيون الناس فيها تزاحما )
( حمى ورد خديه حماة عذاره ... فيا حسن ريحان العذار حماحمى )
وقال ابن نباتة
( وبمهجتي رشأ يميس قوامه ... فكأنه نشوان من شفتيه )
( شغف العذار بخده ورآه قد ... نعست لواحظه فدب عليه )
وقال الموصلي
( لحديث نبت العارضين حلاوة ... وطلاوة هامت بها العشاق )
( فإذا نهاني المرء قلت ترفقوا ... فاليكم هذا الحديث يساق )
وقال آخر
( أصبحت مكسورا بسهم لحاظه ... ومقيدا من صدغه ولسانه )
( حتى بدا سيف العذار مجردا ... فخشيت يقتلني وذا من شأنه )

وقال آخر
( يا صاح قد حضر المدام ومنيتي ... وحظيت بعد الهجر بالايناس )
( وكسا العذار الخد حسنا فاسقني ... واجعل حديثك كله في الكأس )
وقال ابن نباته
( وضعت سلاح الصبر عنه فما له ... يغازل بالألحاظ من لا يغازله )
( وسال عذار فوق خديه سائل ... على خده فليتق الله سائله )
ومما قيل في ذم العذار قال الشاعر
( غدا لما التحى ليلا بهيما ... وكان كأنه قمر منير )
( وقد كتب السواد بعارضيه ... لمن يقرأ وجاءكم النذير )
وقال آخر في ذمه
( قلت لأصحابي وقد مر بي ... منتقيا بعد الضيا بالظلم )
( بالله يا أهل ودي قفوا ... ثم انظروا كيف زوال النعم )
وقال آخر
( ما زال ينتف ريحانا بعارضه ... حتى استطال عليه صار يحلقه )
( كأنما طور سينا فوق عارضه ... طول الزمان فموسى لا يفارقه )
وقال آخر
( ما زال يحلف لي بلك ألية ... أن لا يزال مدى الزمان مصاحبي )
( لما جنى نزل العذار بخده ... فتعجبوا لسواد وجه الكاذب )
قال ابن المعتز
( يا رب إن لم يكن في وصل طمع ... ولم يكن فرج من طول جفوته )
( فاشفت السقام الذي في لحظه مقلته ... واستر ملاحة خديه بلحيته )

ومما قيل في الجبين والحواجب
قال خالد الكاتب
( لها من ظباء الرمل عين مريضة ... ومن ناضر الريحان خضرة حاجب )
( ومن يانع الأغصان قد وقامة ... ومن حالك الحبر اسوداد الذوائب )
وقال آخر
( غزاني الهوى في جيشه وجنوده ... وهب على الجيش من كل جانب )
( بميسرة أجنادها أعين المها ... وميمنة تقضي بزج الحواجب )
وقال آخر
( أيا قمرا تبسم عن أقاح ... ويا غصبا يميل مع الرياح )
( جبينك والمقبل والثنايا ... صباح في صباح في صباح )
ومما قيل في العيون
قال الأصمعي ما وصف أحد العيون بمثل ما وصف أحمد بن الرقاع في قوله
( وكأنها دون النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم )
( وسنان أقصده النعاس تلاعبت ... في جفنه سنة وليس بنائم )
وقال ابن المعتز
( عليم بما تحت العيون من الهوى ... سريع بكسر اللحظ والقلب جازع )
( فيجرح أحشائي بعين مريضة ... كما لان متن السيف والحد قاطع )
وقال الأخطل
( ولا تلمم بدار بني كليب ... ولا تقرب لها أبدا رحالا )
( ترى فيها بوارق مرهفات ... يكدن يكدن بالحرق الرجالا )

وقال أبو فراس وأحسن
( وبيض بألحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفا واستللن خناجرا )
( تصدين لي يوما بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادرا )
( سفرن بدورا والتقين أهلة ... ومسن غصونا والتفتن جآذرا )
وقال آخر
( ومريض جفن ليس يصرف طرفه ... نحو امرئ إلا رماه بحتفه )
( قد قلت إذ أبصرته متمايلا ... والردف يجذب خصره من خلفه )
( يا من يسلم خصره من ردفه ... سلم فؤاد محبه من طرفه )
وقال أبو هتان
( أخو دنف رمته فاقصدته ... سهام من جفونك لا تطيش )
( فواتك لا يقال سوى احورار ... بهن ولا سوى الأهداب ريش )
( أصبن فؤاد مهجته فأضحى ... سقيما لا يموت ولا يعيش )
( كئيبا إن ترحل عنه جيش ... من البلوى أناخ به جيوش )
وقال آخر
( وجاؤا إليه بالتعاويذ والرقى ... فصبوا عليه الماء من شدة النكس )
( وقالوا به من أعين الجن نظرة ... ولو أنصفوا قالوا به أعين الأنس )
وقال عز الدين الموصلي
( لها عين لها غزو وغزل ... مكحلة ولي عين تباكت )
( وحاكت في فعائلها المواضي ... فيا لك مقلة غزلت وحاكت )
وقال برهان الدين القيراطي
( شبه السيف والسنان بعيني ... من لقتلي بين الأنام استحلا )
( فأتى السيف والسنان وقالا ... حدثا دون ذاك حاشى وكلا )

وله أيضا
( بأبي أهيف المعاطف لدن ... حسد الأسمر المثقف قده )
( ذو جفون مذ رمت منها كلاما ... كلمتني سيوفهن بحده )
وقال بدر الدين بن حبيب
( عيناه قد شهدت بأني مخطئ ... وأتت بخط عذاره تذكارا )
( يا حاكم الحب ائتد في قتلتي ... فالخط زور الشهود سكارى )
وقال جلال الدين بن خطيب داريا
( شهدت جفون معذبي بملالة ... مني وأن وداده تكليف )
( لكنني إلم أنأ عنه لأنه ... خبر رواه الجفن وهو ضعيف )
وقال الشيخ عز الدين الموصلي
( يا مقلة الحب مهلا ... فقد أخذت بثارك )
( وأنت يا وجنتيه ... لا تحرقيني بنارك )
وقال ابن الصائغ
( لمثلي من لواحظها سهام ... لها في القلب فتك أي فتك )
( إذا رامت تشك به فؤادا ... يموت المستهام بغير شك )
وقال الصلاح الصفدي
( يا عاذلي على عين محجبة ... خف سحر ناظرها فالسحر فيه خفى )

( وخذ فؤادي ودعه نصب مقلتها ... لا ترم نفسك بين السهم والهدف )
وقال آخر
( بسهم أجفانه رماني ... فذبت من هجره وبينه )
( إن مت ما لي سواه خصم ... لأنه قاتلي بعينه )
وقال آخر
( سهام الجفن كم قتلت لنفس ... مبراة من السلوى زكية )
( فما أقوى جفونك وهي مرضى ... وأقدرها على قتل البرية )
ومما قيل في الخال
للصلاح الصفدي
( بروحي خده المحمر أضحى ... عليه شامه شرط المحبة )
( كأن الحسن يعشقه قديما ... فنقطه بدينار وجبه )
ولابن الصائغ
( بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال )
( تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخال )
للشيخ جمال الدين بن نباتة
( لله خال على خد الحبيب له ... في العاشقين كما شاء الهوى عبث )
( أورثته حبه القلب القتيل به ... وكان عهدي بأن الخال لا يرث )
وقال آخر
( يا سالبا قمر السماء جماله ... ألبستني في الحزن ثوب سمائه )
( أحرقت قلبي فارتمي بشرارة ... علقت بخدك فانطفت في مائه )
للشيخ تقي الدين بن حجة
( قلت للخال إذ بدا ... في نقا جيده السعيد )

( فزت يا عبد قال لي ... أنا عبد لكل جيد )
وقال ابن أيبك
( في الجانب الأيمن من خدها ... نقطة مسك اشتهى شمها )
( حسبته لما بدا خالها ... وجدته من حسنها عمها )
وقال الحسين بن الضحاك
( يا صائد الطير كم ذا ... باللحظ تضني وتسبي )
( نصبت نقطة خال ... فصدت طائر قلبي )
ومما قيل في الخدود
قال ابن المعتز
( صل بخدي خديك تلق عجيبا ... من معان يحار فيها الضمير )
( فبخديك للربيع رياض ... وبخدي للدموع غدير )
وقال آخر
( ورد الخدود ونرجس اللحظات ... وتصافح الشفتين في الخلوات )
( شيء أسر به وأعلم أنه ... وحياته أحلى من اللذات )
ومما قيل في الثغور
قال يوسف بن مسعود الصواف
( بروحي من ولى فولى بمهجتي ... وولى منامي وهو كالوصل شارد )
( حمى ثغره مني بسيف لحاظه ... وحتام يحمى ثغره وهو بارد )
وقال آخر
( أنفقت كنز مدامعي في ثغره ... وجمعت فيه كل معنى شارد )
( وطلبت منه جزاء ذلك قبلة ... فمضى وراح تغزلي في البارد )

وقال آخر
( رأى ثغر من أهوى عذولي فقال لي ... ولم يدر أن اللوم في خده يغري )
( شغلت بهذا وارتبطت بحسنه ... وأحسن ما كان الرباط على ثغر )
وقال ابن ريان
( لاحت على مبسمه المشتهى ... ثلاث شامات غدت في التثام )
( لا تعجبوا إن كثرت حوله ... فالمنهل العذب كثير الزحام )
ومما قيل في طيب الريق والنكهة
قال ذو الرمة
( أسيلة مجرى الدمع هيفاء طفلة ... عروب كايماض الغمام ابتسامها )
( كأن على فيها وما ذقت طعمه ... زجاجة خمر فيها مدامها )
وقال شهاب الدين الكردي
( ذكرت ريح حبيبي ... بشرب راح تعطر )
( وليس ذا بعجب ... فالشيء بالشيء يذكر )
وقال غيره
( رشفت ريقا حلوا ... ولم يكن لي صبر )
( وسوف أحظى بوصل ... فأول الغيث قطر )
وقال الصلاح الصفدي
( نقل الأراك بأن ريقه ثغره ... من قهوة مزجت بماء الكوثر )
( قد صح ما نقل الأراك لأنه ... يرويه نصا عن صحاح الجوهري )
وقال آخر
( ثلاث تجمعن في ثغرها ... ملاح أدلتها واضحة )

( فإن قيل ما هي قل لي أقل ... هي الطعم واللون والرائحة )
وقال آخر
( يا رب ممتنع الوصال محجب ... بستوره كالبدر بين غيومه )
( دارت مراشفه علي وكأسه ... فسكرت في الحالين من خرطومه )
وقال آخر
( أريقا من رضابك أم رحيقا ... رشفت فكدت منه لن أفيقا )
( وللصهباء أسماء ولكن ... جهلت بأن في الأسماء ريقا )
ومما قيل في حسن الحديث
قال البحتري
( ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدر حسنا ولاقطه )
( فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه )
وقال سلم الخاسر
( ظللنا فبتنا عند أم محمد ... بيوم ولم نشرت شرابا ولا خمرا )
( إذا صمتت عنا ضجرنا لصمتها ... وإن نطقت هاجت لالبابنا سكرا )
وقال ابن الرومي
( يمسي ويصبح معرضا فكأنه ... ملك عزيز قاهر سلطانه )
( ليست اسائته بناقصة له ... در يساقطه إلي لسانه )
وما أحسن هذه الأبيات
وهي من طارف الشعر ووافره وناقده وجيد الكلام وبارع الوصف
( وكل حديث الناس إلا حديثها ... رجيع وفيما حدثتك الطرائف )
( جرحن باعناق الظباء واعين الجآذر ... وارتجت بهن الروادف )
( رجحن بأرداف ثقال وأسوق ... جزال وأعضاء عليها المطارف )

ومما قيل في رقة البشرة
قال ابن المعتز
( نضت عنها القميص لصب ماء ... فورد خدها فرط الحياء )
( وقابلت الهواء وقد تعرت ... بمعتدل أرق من الهواء )
( ومدت راحة كالماء منها ... إلى ماء عتيد في إناء )
( فلما قضت وطرا وهمت ... على عجل إلى أخذ الرداء )
( رأت شخص الرقيب على تدان ... فاسبلت الظلام على الضياء )
( فغاب الصبح منها تحت ليل ... وظل الماء يقطر فوق ماء )
وقال آخر
( تغير عن مودته وحالا ... وكان مواصلا فطوى الوصالا )
( وعلمه التدلل كيف هجري ... فليت الوصل كان له دلالا )
( ترى من فوق حقويه قضيبا ... إذ ما حركته خطاه مالا )
( إذا كلمته أثرت فيه ... وإن حركته فالخمر سالا )
وقال بشار
( وما ظفرت عيني غداة لقيتها ... بشيء سوى أطرافها والمحاجر )
( كحوراء من حور الجنان غريرة ... يرى وجهه في وجهها كل ناظر )
ومنه أخذ أبو نواس قوله
( نظرت إلى وجهه نظرة ... فأبصرت وجهي في وجهه )
وقال آخر
( توهمه قلبي فأصبح خده ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر )
( ومر بفكري جسمه فجرحته ... ولم أر جسما قط تجرحه الفكر )

وقال آخر
( سقى الله روضا قد تبدى لناظر ... به شادن كالغصن يلهو ويمرح )
( وقد نضحت خداه من ماء ورد ... وكل إناء بالذي فيه ينضح )
وقال آخر
( وأهيف خده كسي احمرارا ... وحاز الحسن فهو بلا شبيه )
( فلو أخجلته بالقول جهدي ... لحمرة خده ما بان فيه )
ومما قيل في التقبيل
لمظفر الأعمى
( قبلته فتلظى جمر وجنته ... وفاح من عارضيه العنبر العبق )
( وجال بينهما ماء ولا عجب ... لا ينطفى ذا ولا ذا منه يحترق )
وقال آخر
( سألته في ثغره قبلة ... فقال ثغري لم يجز لثمه )
( فها كهافي الخد واقنع بها ... ما قارب الشيء له حكمه )
وقال صاحب حماة
( قال الذي تيمني ... قولوا لمن خبلته )
( يروم مني قبلة ... لو مات ما قبلته )
وللشيخ عز الدين الموصلي
( كالزرد المنظوم أصداغه ... وخده كالورد لما ورد )
( بالغت في اللثم وقبلته ... في الخد تقبيلا يفك الزرد )

وقال آخر
( رأيت الهلال على وجهه ... فلم أدر أيهما أنور )
( سوى أن ذاك بعيد المزار ... وهذا قريب لمن ينظر )
( وذاك يغيب وذا حاضر ... وما من يغيب كمن يحضر )
( ونفع الهلال قليل لنا ... ونفع الحبيب لنا أكثر )
وقال ابن صابر
( قبلت وجنته فألفت جيده ... خجلا وماس بعطفه المياس )
( فانهل من خديه فوق عذاره ... عرق يحاكي الطل فوق الآس )
( فكأنني استقطرت ورد خدوده ... بتصاعد الزفرات من أنفاسي )
وقال آخر
( قبلت رجل حبيبي ... فازور واحمر خدا )
( وقال تلثم رجلي ... لقد تنازلت جدا )
( فقلت ما جئت بدعا ... ولا تجاوزت حدا )
( رجل سعت بك نحوي ... حقوقها لا تؤدي )
ومما قيل في الوجه الحسن
قال ابن نباتة
( إنسية في مثال الجن تحسبها ... شمسا بدت بين تشريق وتغميم )
( شقت لها الشمس ثوبا من محاسنها ... فالوجه للشمس والعينان للريم )
وقال عبد الله بن أبي خبيص
( تصد من غير علة ... بالعز أضحت مذلة )
( كأنها حين تدنو ... شمس عليها مظلة )
( وأن أضاءت بليل ... تفوق نور الأهلة )

وقال آخر
( أقسم بالله وآياته ... ما نظرت عيني إلى مثله )
( ولا بدا وجهه طالعا ... الا سألت الله من فضله )
وقال آخر
( أقيمي مكان البدر إن أفل البدر ... وقومي مقام الشمس قد أمها الفجر )
( ففيك من الشمس المنيرة نورها ... وليس لها منك التبسم والثغر )
وقال عمر بن أبي ربيعة
( ذات حسن إن تغب شمس الضحى ... فلنا من وجهها عنها خلف )
( أجمع الناس على تفضيلها ... وهواهم في سوى هذا اختلف )
أخذ أبو تمام هذا المعنى فرده إلى المدح فقال
( لو أن إجماعنا في فضل سؤدده ... في الدين لم يختلف في الأمة اثنان )
وقال آخر
( يا مفردا في الحسن والشكل ... من دل عينيك على قتلي )
( البدر من شمس الضحى نوره ... والشمس من نورك تستملي )
وقال آخر
( ففي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا أدري أيها هاج لي كربي )
( أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي )
فلما سمعه اسحق بن يعقوب الكندي قال هذا تقسيم فلسفي وجعله العلوي خمسة فقال
( وفي خمسة مني حلت منك خمسة ... فريقك منها في فمي طيب الرشف )
( ووجهك في عيني ولمسك في يدي ... ونطقك في سمعي وعرفك في أنفي )
وقال ابن نباتة
( أيها العاذل الغبي تأمل ... من غدا في صفاته القلب ذائب )

( وتعجب لطرة وجبين ... إن في الليل والنهار عجائب )
وقال محمود المخزومي
( رأيتك في الشمس المنيرة غدوة ... فكنت على عيني أبهى من الشمس )
( لأنك تزهو إن بدا الليل بهجة ... وشمس الضحى ليست تضيء إذا تمنى )
وقال آخر
( إذا احتجبت لم يكفك البدر وجهها ... وتكفيك فقد البدر إن غرب البدر )
( وحسبك من خمر مذاقة ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمر )
ومما قيل في البنان المخضب قال ابن الرومي
( وقفت وقفة بباب الطاق ... ظبية من مخدرات العراق )
( بنت سبع وأربع وثلاث ... أسرت قلب صبها المشتاق )
( قلت من أنت يا غزال فقالت ... أنا من لطف صنعة الخلاق )
( لا ترم وصلنا فهذا بنان ... قد صبغناه من دم العشاق )
وقال الراضي بالله
( قالوا الرحيل فأنشبت أظفارها ... في خدها وقد اعتلقت خطابها )
( فظننت أن بنانها من فضة ... قطفت بنور بنفسج عنابها )
وقال آخر
( لما اعتنقنا للوداع وأعربت ... عبراتنا عنا بدمع ناطق )
( فرقن بين محاجر ومعاجر ... وجمعن بين بنفسج وشقائق )
وقال آخر
( ولما تلاقينا رأيت بنانها ... مخضبة تحكى عصارة عندم )
( فقلت خضبت الكف بعدي أهكذا ... يكون جزاء المستهام المنيم )
( فقالت وأذكت في الحشى لاعج الجوى ... مقالة من بالود لم يتبرم )
( بكيت دما يوم النوى فمسحته ... بكفي فاحمرت بناني من دمي )

حذف حذف حذف حذف حذف

وقال آخر
( دنوت عشية التوديع مني ... ولي عينان بالدم تجريان )
( فلم يمسحن إكراما جفوني ... ولكن رمن تخضيب البنان )
ومما قيل في النحور
قال دعبل
( أتاح لك الهوى بيضا حسانا ... تباهى بالعيون وبالنحور )
( نظرت إلى النحور فكدت تقضي ... فكيف إذا نظرت إلى الحضور )
ومما قيل في نعت النهود
قال العباس بن الأحنف
( والله لو أن القلوب كقلبها ... ما رق للولد الضعيف الوالد )
( جال الوشاح على قضيب زانه ... تفاح صدر ما حوته ناهد )
وقال آخر
( ومحبوبة عند الوداع رأيتها ... تنشف دمعا بالرداء الممسك )
( وتبكي حذار البين منها بدمعة ... تسيل على الخدين في حسن مسلك )
( فتحست مجرى الدمع من وجناتها ... بقية طل فوق ورد ممعك )
( وقد سفرت عن غرة بابلية ... وصدر به نهد بحق مفكك )
وقال عمر بن كلثوم
( تراك إذا دخلت على خلاء ... قد امتدت عيون الكاشحينا )
( لنهد مثل حق العاج حسنا ... حصينا من أكف اللامسينا )
وقال آخر
( بصدرها كوكبا در كأنهما ... ركنان لم يدنسا من لمس مستلم )

( صانتهما بستور من غلائلها ... فالناس في الحل والركنان في الحرم )
وقال آخر
( صدور فوقهن حقاق عاج ... ودر زانه حسن اتساق )
( يقول الناظرون إذا رأوه ... أهذا الحلي من هذي الحقاق )
( وما تلك الحقاق سوى ثدي ... جعلن من الحقاق على وفاق )
( نواهد لا يعد لهن عيب ... سوى منع المحب من العناق )
وقال آخر
( لقد فتكت عيون الغيد فينا ... ببيض مرهفات وهي سود )
( وتطعننا القدود إذا التقينا ... بسمر من اسنتها النهود )
ومما قيل في الأرداف والخصور
ابن الرومي
( وشربت كأس مدامة من كفها ... مقرونة بمدامة من ثغرها )
( وتمايلت فضحكت من أرادفها ... عجبا ولكني بكيت لخصرها )
الطنبغا المحاربي
( ردفه زاد في الثقالة حتى ... أقعد الخصر والقوام السويا )
( نهض الخصر والقوام وقالا ... فضعيفان يغلبان قويا )
وقال آخر
( يا خصره كم جفاء ... تبدي وأنت نحيل )
( يا ردفه ملت عني ... ما أنت إلا بخيل )
القيراطي
( بدت روادف بدري ... تحت الحنين لعيني )
( فقلت يا بدر هذا ... حقا خيال لحيني )

وقال آخر
( أسائلها أين الوشاح وقد سرت ... معطلة منه معطرة النشر )
( فقالت وأومت للسوار نحلته ... إلى معصمي لما تلقلق في خصري )
وقال آخر
( بيض وسمر مقلتاه وقده ... بدر وليل وجنتاه وشعره )
( أقسى من الحجر الأصم فؤاده ... وأرق من شكوى المتيم خصره )
وقال آخر
( رخيمات المقال مدللات ... جواعل في الثرى قضبا جذالا )
( جمعن فخامة وخلوص جيد ... رقدا بعد ذلك واعتدالا )
ومما قيل في المعاصم
قال عمر بن ابي ربيعة
( حسروا الوجوه بأذرع ومعاصم ... ورنوا بنجل للقلوب كوالم )
( حسروا الأكمة عن سواعد فضة ... فكأنما انتصبت متون صوارم )
ومما قيل في اعتدال القوام
قال صلاح الدين الصفدي
( تقول له الأغصان مذ هز عطفه ... أتزعم أن اللين عندك ما ثوى )
( فقم نحتكم للروض عند نسيمه ... لتقضي على من مال منا إلى الهوى )
وقيل ليس لأحد من شعراء العرب في نعت محاسن النساء من الأوصاف البارعة مع جودة السبك ورقة اللفظ ما لذي الرمة حتى كأنه حضري من أهل المدن لا من أهل الوبر وقال القاضي مجد الدين بن مكانس

( أقول لحبي قم ومل يا معذبي ... كميلة خود غير السكر حالها )
( ولا تلة عن شيء إذا ما حكيتها ... فقام كغصن البان لينا وما لها )
وقال آخر
( ومحكم أعطافه ... في قتل صب ما غوى )
( فاعجب لعادل قده ... في النفس يحكم بالهوى )
وقال آخر
( ومهفهف عني يميل ولم يمل ... يوما إلى فصحت من ألم الجوى )
( لم لا تميل إلي يا غصن النقا ... فأجاب كيف وأنت من أهل الهوى )
ومما قيل في الساق
قال ذو الرمة
( لم أنسه إذ قام يكشف عامدا ... عن ساقه كاللؤلؤ البراق )
( لا تعجبوا إن قام فيه قيامتي ... إن القيامة يوم كشف الساق )
وقال آخر
( جاءت بساق أبيض أملس ... كلؤلؤ يبدو لعشاقها )
وقال ابن منقذ
( بدر ولكنه قريب ... ظبي ولكنه أنيس )
( إن لم يكن قده قضيبا فما لأعطافه تميس )
ومما قيل في مشي النساء
قال بعضهم
( يهززن للمشي أطرافا مخضبة ... هز الشمال ضحى عيدان نسرين )
( أو كاهتزاز رديني تداوله ... أيدي الرجال فزاد المتن في اللين )

وقال آخر
( يمشين مشي قطا البطاح تأودا ... قب البطون رواجح الأكفال )
( فكأنهن إذا أردن زيارة ... يقلعن أرجلهن من أوحال )
ومما قيل في العناق وطيبه
لابن المعتز
( ما أقصر الليل على الرافد ... وأهون السقم على العائد )
( كأنني عانقت ريحانة ... تنفست في ليلها البارد )
( فلو ترانا في قميص الدجى ... حسبتنا في جسد واحد )
وقال آخر
( وموشح نازعت فضل وشاحه ... وأعرته من ساعدي وشاحا )
( بات الغيور يشق جلدة وجهه ... وأمال أعطافا علي ملاحا )
وقال ابن المعدل
( أقول وجنح الدجى مسبل ... والليل في كل فج يد )
( ونحن ضجيعان في مسجد ... فلله ما ضمنا المسجد )
( أيا غد إن كنت لي محسنا ... فلا تدن من ليلتي يا غد )
( ويا ليلة الوصل لا تقصري ... كما ليلة الهجر لا تنفد )
وقال آخر
( ليل رقيق الطرتين تظلمت ... كواكبه من بدره المتألق )
( لهونا بغزلان الصريمة تحته ... نميت الهوى ما بين صدر ومرفق )

قال ابن المعتز
( وكم عناق لنا وكم قبل ... مختلسات حذار مرتقب )
( نقر العصافير وهي خائفة ... من النواطير يانع الرطب )
( وقال ديك الجن
( ومعدولة مهما أمالت أزارها ... فغصن وأما قدها فقضيب )
( لها القمر الساري شقيق وإنها ... لتطلع أحيانا له فيغيب )
( أقول لها والليل مرخ سدوله ... وغصن الهوى غض النبات رطيب )
( لأنت المنى يا زين كل مليحة ... وأنت الهوى أدعى له فأجيب )
وقال علي بن الجهم
( سقى الله ليلا ضمنا بعد فرقة ... وأدنى فؤادا من فؤاد معذب )
( فبتنا جميعا لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرب )
وقال آخر
( يا ليل دم لي لا أريد براحا ... حسبي بوجه معذبي مصباحا )
( حسبي به نورا وحسبي ريقه ... خمرا وحسبي خده تفاحا )
( حسبي بمضحكه إذا استضحكته ... مستغنيا عن كل نجم لاحا )
( طوقته طوق العناق بساعد ... وجعلت كفي للثام وشاحا )
( هذا هو اليوم النعيم فخلنا ... متعانقين فلا نريد براحا )
وقال آخر
( ولم أنس ضمي للحبيب على رضا ... ورشفي رضابا كالرحيق المسلسل )
( ولا قوله لي عند تقبيل خده ... تنقل فلذات الهوى في التنقل )
ومما قيل في السمن
قال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول ما رأيت سمينا عاقلا إلا محمد بن الحسن قال الشاعر

( لا أعشق الأبيض المنفوخ من سمن ... لكنني أعشق السمر المهازيلا )
( إني امرؤ أركب المهر المضمر في ... يوم الرهاب وغيري يركب الفيلا ) ومما قيل في مدح الألوان والثياب
مدح البياض قال رسول الله البياض نصف الحسن وكان أبيض أزهر اللون مشربا بحمرة
قال الشاعر
( بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول )
ومما قيل في مدح السواد قيل لبعضهم ما تقول في السواد ؟ قال النور في السواد أراد بذلك نور العينين في سوادهما وقال بعضهم
( قالوا تعشقتها سوداء قلت لهم ... لون العوالي ولون المسك والعود )
( إني امرؤ ليس شأن البيض مرتفعا ... عندي ولو خلت الدنيا من السود )
وقال الحيقطان
( لئن كنت جعد الرأس واللون فاحم ... فأني بسيط الكف والعرض أزهر )
( وإن سواد اللون ليس بضائري ... إذا كنت يوم الروع بالسيف أخطر )
دخل إبراهيم بن المهدي على المأمون فقال إنك لنعم الخليفة الأسود فقال إبراهيم نعم فتمثل المأمون ببيت نصيب فقال
( إن كنت عبدا فنفسي حرة كرما ... أو أسود اللون إني أبيض الخلق )
ثم قال يا عم أخرجنا الهزل إلى الجد فأنشد إبراهيم
( ليس يزرى السواد بالرجل الشهم ... ولا بالفتى الأريب الأديب )
( إن يكن للسواد فيك نصيب ... فبياض الأخلاق منك نصيبي )
وقال آخر
( لام العواذل في سوداء فاحمة ... كأنها في سواد القلب تمثال )

( وهام في الخال أقوام وما علموا ... أني أهيم بشخص كله خال )
وقيل لمدني كيف رغبتم في السواد ؟ فقال لو وجدنا بيضاء لسودناها
وقال آخر
( يكون الخال في خد قبيح ... فيكسوه الملاحة والجمالات )
( فكيف يلام ذو عشق على من ... يراها كلها في الخد خالا )
وقال آخر
( فاستحسنوا الخال في خد فقلت لهم ... إني عشقت مليحا كله خال )
وقال أبو حاتم المدني ينشد
( ومن يك معجبا ببنات كسرى ... فإني معجبا ببنات حام )
وتفاخرت حبشية ورومية فقالت الرومية أنا حبة كافور وأنت عدل فحم فقالت الحبشة أنا حبة مسك وأنت عدل ملح وقد قال الشاعر
( أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب )
وقال آخر
( أشبهك المسك وأشبهته ... قائمة في لونه قاعده )
( لا شك إذ لونكما واحد ... أنكما من طينة واحدة )
ومما قيل في الصفرة
قال الشاعر
( أصفراء كان الهجر منك مزاحا ... ليالي كان الود منك مباحا )
( كأن نساء الحي ما دمت فيهم ... قباحا فلما غبت صرن ملاحا )

وقال آخر
( قالوا به صفرة شانت محاسنة ... فقلت ما ذاك من عيب به نزلا )
( عيناه مطلوبة في ثار من قتلت ... فلست تلقاه إلا خائفا وجلا )
ومما قيل في طول اللحية
قيل إن اللحية الطويلة عش البراغيث
ونظر يزيد الشيباني إلى رجل ذي لحية عظيمة تلتف على صدره وإذا هو خاضب فقال له يا هذا إنك من لحيتك في مؤنة فقال أجل ولذلك أقول
( لها درهم للدهن في كل جمعة ... وآخر للحناء ينتدبان )
( ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لأصبح في حافاتها الحمنان )
وقال إسحاق بن خلف في قصير طويل اللحية
( ماشيت داود فاستضحكت من عجب ... كأنه والد يمشي بمولود )
( ما طول داود إلا طول لحيته ... يظن داود فيها غير موجود )
وقال ابن المقفع
( تأملت أسواق العراق فلم أجد ... دكاكينهم إلا عليها المواليا )
( جلوسا عليها ينفضون لحاءهم ... كما نفضت عجف البغال المخاليا )
ومما جاء في عظم الخلقة والطول والقصر قيل خرب القهندر فبرزت منه جماجم أموات فتصدعت جمجمة فانتثرت أسنانها فوزن السن منها فكان وزنها أربعة أرطال فأتى بها إلى ابن المبارك فجعل يقلبها ويتعجب من عظمها ثم قال
( إذا ما تذكرت أجسامهم ... تصاغرت النفس حتى تهون )

وأراد ملك الروم أن يباهي أهل الاسلام فبعث إلى معاوية رجلين أحدهما طويل والثاني قصير شديد القوة فدعا الطويل بقيس بن سعد بن عبادة فنزع قيس سراويله ورمى بها إليه فلبسها الطويل فبلغت ثدييه فلاموا قيسا على نزع السراويل فقال
( أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود )
( وكي لا يقولوا خان قيس وهذه ... سراويل عاد أحرزتها ثمود )
( وإلي من القوم اليمانين سيد ... وما الناس إلا سيد ومسود )
ثم دعا معاوية للرجل الشديد في قوته بمحمد بن الحنفية فخيره بين أن يقعد فيقيمه أو يقوم فيقعده فغلبه في الحالتين وانصرفا مغلوبين
وقيل كان سلمة بن مرة الناموسي أسر امرأ القيس بن النعمان اللخمي الملك وكان الناموسي قصيرا مقتحما واللخمي طويلا جسيما
فقالت بنت امرئ القيس يا هذا القصير أطلق أبي فسمعه سلمة بن مرة فقال
( لقد زعمت بنت امرئ القيس أنني ... قصير وقد أعيا أباها قصيرها )
( ورب طويل قد نزعت سلاحه ... وعانقته والخيل تدمى نحورها )
وقالوا عظم اللحية يدل على البله وعرضها على قلة العقل وصغرها على لطف الحركة وإذا وقع الحاجب على العين دل على الحسد والعين المتوسطة في حجمها تدل على الفطنة وحسن الخلف والمروءة والتي يطول تحديقها تدل على الحمق والتي تكسر طرفها تدل على خفة وطيش والشعر على الأذن يدل على جودة السمع والأذن الكبيرة المنتصبة تدل على حمق وهذيان
ومما قيل في القبح والدمامة
أراد رجل أن يكتب كتابا لبعض أصحابه فلم يجد من يرسله معه إلا رجلا وحش الصورة بشع المنظر فلم يقدر على تحليته لفرط دمامته فكتب إلى صاحبه يأتيك بهذا الكتاب آية على آيات الله تعالى وقدره فدعه يذهب إلى نار الله وسقره

ومر أبو الأسود الدؤلي بمجلس لبني بشير فقال بعض فتيانهم كأن وجهه وجه عجوز راحت إلى أهلها بطلاقها
وقال الجاحظ ما أخجلني قط إلا امرأة مرت بي إلى صائغ فقالت له اعمل مثل هذا فبقيت مبهوتا ثم سألت الصائغ فقال هذه المرأة أرادت أن أعمل صورة شيطان فقلت لا أدري كيف أصوره فأتت بك إلى لأصوره على صورتك وفي الجاحظ يقول الشاعر
( لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا ... ما كان إلا دون قبح الجاحظ )
( رجل ينوب عن الجحيم بوجهه ... وهو العمى في عين كل ملاحظ )
( ولو أن مرآة جلت تمثاله ... ورآه كان له كأعظم واعظ )
وقال الأصمعي رأيت بدوية من أحسن الناس وجها ولها زوج قبيح فقلت يا هذه أترضين أن تكوني تحت هذا ؟ فقالت يا هذا لعله أحسن فيما بينه وبين ربه فجعلني ثوابه وأسأت فيما بيني وبين ربي فجعله عذابي أفلا أرضى بما رضى الله به وحج مخنث فرأى رجلا قبيح الوجه يستغفر فقال يا حبيبي ما أراك أن تبخل بهاذا الوجه على جهنم وقال بعضهم لرجل طلع لي دمل في أقبح المواضع فقال له كذبت هذا وجهك ليس فيه شيء وخرج رجل قبيح الوجه إلى المتجر فدخل اليمن فلم ير فيها أحسن منه وجها فقال
( لم أر وجها حسنا ... منذ دخلت اليمنا )
( فيا شقاه بلدة ... أحسن من فيها أنا )
وخطب رجل عظيم الأنف امرأة فقال لها قد عرفت أني رجل كريم المعاشرة محتمل المكاره فقالت لا شك في احتمالك المكماره مع حملك هذا الأنف أربعين سنة
وقال الشاعر في رجل كبير الأنف
( لك وجه وفيه قطعة أنف ... كجدار قد أدعموه ببغله )
( وهو كالقبر في المثال ولكن ... جعلوا نصبه على غير قبله )

وقال آخر
( لك أنف من أنوف ... أنفت منه الأنوف )
( أنت في القدس تصلي ... وهو في البيت يطوف )
ومما جاء في الثقلاء
قال مطيع بن إياس
( قلت لعباس أخينا ... يا ثقيل الثقلاء )
( أنت في الصيف سموم ... وجليد في الشتاء )
( أنت في الأرض ثقيل ... وثقيل في السماء )
ومما جاء في الملابس وألوانها والعمائم ونحوها
قال الله تعالى ( وأما بنعمة ربك فحدث )
وقال تعالى ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد )
وقال رسول الله " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " وقال الرسول " تعمموا تزدادوا جمالا " وقال الرسول " العمائم تيجان العرب "
وكان الزبير ابن العوام يقاتل يوم بدر وعليه عمامة صفراء فنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر قد أرخوها
وبعث رسول الله عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل فتخلف عن الجيش وأتى إلى رسول الله وعليه عمامة سوداء من خز فنقضها رسول الله وعممه بيده وأسدلها بين كتفيه قدر شبر وقال هكذا اعتم يا ابن عوف
وبعث ملك الروم

إلى النبي جبة ديباج فلبسها ثم كساها عثمان وكان سعيد بن المسيب يلبس الحلة بألف درهم ويدخل المسجد فقيل له في ذلك فقال إني أجالس ربي وقيل المروءة الظاهرة الثياب الطاهرة
وقيل البس البياض والسواد فان الدهر هكذا بياض نهار وسواد ليل
ومما قيل في لبس السواد قول أبي قيس
( رأيتك في السواد فقلت بدرا ... بدا في ظلمة الليل البهيم )
( وألقيت السواد فقلت شمس ... محت بشاعها ضوء النجوم )
وقدم تاجر إلى المدينة يحمل من خمر العراق فباع الجميع إلا السود فشكا إلى الدارمي ذلك وكان الدارمي قد نسك وتعبد فعمل بيتين وأمر من يغني بهما في المدينة وهما هذان البيتان
( قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بزاهد متعبد )
( قد كان شمر للصلاة إزاره ... حتى قعدت له بباب المسجد )
قال فشاع الخبر في المدينة إن الدارمي رجع عن زهده وتعشق صاحبة الخمار الأسود فلم يبق في المدينة مليحة إلا اشترت لها خمارا أسود فلما أنفذ التاجر ما كان معه رجع الدارمي إلى تعبده وعمد إلى ثياب نسكه فلبسها وقال آخر في لابسة الأحمر
( وشمس من قضيب في كثيب ... تبدت في لباس جلناري )
( سقتني ريقها صرفا وحيت ... بوجنتها فهاجت جل ناري )
وقال آخر في لابسه ثوب خمري
( في ثوبها الخمري قد أقبلت ... بوجنة حمراء كالجمر )
( فملت سكرا حين أبصرتها ... لا تنكروا سكري من الخمر )
وقال الصنوبري في لابسة أخضر
( وجارية أدبتها الشطاره ... ترى الشمس من حسنها مستعاره )
( بدت في قميص لها أخضر ... كما ستر الورق الجلناره )

( فقلت لها ما اسم هذا اللباس ... فأبدت جوابا لطيف العبارة )
( شققنا مرائر قوم به ... فنحن نسميه شق المرارة )
وقال حكيم لابنه إياك أن تلبس ما يديم الملك نظره إليك به واعلم أن الوشي لا يلبسه إلا الأحمق أو ملك
وعليك بالبياض
وقيل لباس البخلاء الاستبرق لطول بقائه ولباس المترفين السندس لقلة بقائه ولباس المقتصدين الديباج لتوسط بقائه وقال بعض الأمراء لحاجبه أدخل علي عاقلا فأتاه برجل فقال بم عرفت عفله ؟ فقال رأيته يلبس الكتان في الصيف والقطن في الشتاء والملبوس في الحر والجديد في البرد وقيل كان لأبرويز عمامة طولها خمسون ذراعا إذا اتسخت ألقاها في النار فيحترق الوسخ ولا تحترق وكان له رداء حسن يتلون كل ساعة وسراويل مجوهرة وتكة من أنابيب الزمرد وقيل الأقبية لباس الفرس والقراطق لباس الهند والأزر لباس العرب
وسئل بعض العرب عن الثياب فقال الصفر أشكل والحمر أجمل والخضر أقبل والسود أهول والبيض أفضل وقال أفلاطون الصبغ الشقائقي والروائح الزعفرانية تسكن الغضب والصبغ الياقوتي والروائح الوردية تحرك السرور وإذا قرب اللون الأحمر إلى اللون الأصفر تحركت القوة العشقية وإذا مزجت الحمرة بالصفرة تحركت القوة الغريزية وإذا مزجت التفاحية بالحمرة تحركت الطبائع كلها وكان مصعب بن الزبير يقول لكل شيء راحة وراحة البيت كنسه وراحت الثوب طيه وقال بعض الأعراب رأيت في البصرة برودا كأنها نسجت بأنواع الربيع ودخل بعض العذريين على معاوية وعليه عباءة فازدراه فقال يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك وإنما يكلمك من فيها
ومما قيل فيمن رذل لبسه وعرف نفسه
قال الأصمعي رأيت أعرابيا فاستنشدته فأنشدني أبياتا وروى أخبارا فتعجبت من جماله وسوء حاله فسكت سكتة ثم قال

( أأخي إن الحادثات ... عركنتي عرك الأديم )
( لا تنكرن أن قد رأيت ... أخاك في طمري عديم )
( إن كان أثوابي رثاث ... فإنهن على كريم )
قال بعضهم وقيل للشافعي رحمه الله تعالى
( علي ثياب لو تقاس جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثرا )
( وفيهن نفس لو يقاس ببعضها ... نفوس الورى كانت أجل وأكبرا )
( وما ضر نصل السيف أخلاق غمده ... إذا كان عضبا حيث وجهه برى )
ودخل بعضهم على الرشيد فازدراه فأنشده
( ترى الرجل الخفيف فتزدريه ... وفي أثوابه أسد هصور )
( ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير )
( لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير )
( يصرفه الصبي بغير وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير )
( وتضربه الوليدة بالهراوي ... فلا عار عليه ولان نكير )
( فإن أك في شراركمو قليلا ... فاني في خياركمو كثير )
ويقال كل ما تشتهيه نفسك والبس ما تشتهيه الناس وقد نظمه من قال
( إن العيون رمتك إذ فاجأتها ... وعليك من مهن الثياب لباس )
( أما الطعام فكل لنفسك ما اشتهت ... واجعل لباسك ما اشتهته الناس )
وفي هذا القدر كفاية والله أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السابع والاربعون في التختم والحلى والمصوغ والطيب والتطيب وما أشبه ذلك
ما جاء في التختم عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله يتختم في يمينه وقبض عليه الصلاة و السلام والخاتم في يمينه قال بعض من مدحه عليه الصلاة و السلام
( كف الرسالة ليس يخفى حسنها ... وتمام حسن الكف لبس الخاتم ) وذكر السلامي أن رسول الله كان يتختم في يمينه والخلفاء بعده فنقله معاوية رضي الله تعالى عنه إلى اليسار وأخذ الأموية بذلك ثم نقله السفاح إلى اليمين فبقي إلى أيام الرشيد رضي الله تعالى عنه فنقله إلى اليسار وأخذ الناس بذلك وعن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي " تختموا بخواتيم العقيق فإنه لا يصيب أحدكم غم ما دام عليه ذلك " وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أن ابنه اشترى فص خاتم بألف دينار فكتب إليه عزمت عليك إلا ما بعت خاتمك بألف دينار وجعلتها في بطن جائع واستعمل خاتما من ورق وانقش عليه رحم الله امرأ عرف قدر نفسه وكان خاتم علي رضي الله عنه من ورق ونقشه نعم القادر الله وكان لأبي نواس خاتمان أحدهما عقيق مربع وعليه مكتوب
( تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما )

حديد صيني عليه أشهد أن لا إله إلا الله مخلصا وأوصى عند موته أن يغسل الفص ويجعل في فمه
قال جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنه ما افتقرت يد تختمت بخاتم فيروزج وقيل الخواتم أربعه الياقوت للعطش والفيروزج للمال والعقيق للسنة والحديد الصيني للحرز وقيل للخوف والله سبحانه وتعالى أعلم
ذكر ما جاء في الحلى
قيل إن قرطي مارية بنت ظالم بن وهب بن الحرث بن معاوية كان فيهما درتان كبيض الحمام لم ير مثلهما ولم يدر قيمتهما
وقال محمد بعثني يوسف بن عمر إلى هشام بياقوتة حمراء يخرج طرفاها من كفي كانت للرائقة جارية خالد بن عبد الله القسري اشترتها بثلاثة وسبعين ألف دينار وحبة لؤلؤ أعظم ما يكون من الحب فدخلت عليه بهما فقال اكتب معك بوزنهما فقلت يا أمير المؤمنين هما أعظم من أن يكتب بوزنهما فقال صدقت وبعث معاوية إلى عائشة رضي الله تعالى عنها طوقا من ذهب فيه جوهرة قومت بمائة ألف دينار فقسمته بين أزواج النبي
وكان ملك العرب كلما مرت عليه سنة من سني ملكه زيدت في تاجه خرزة وكان يقال لها خرزات الملك
ذكر ما جاء في الطيب والتطيب
قال رسول الله " أطيب الطيب المسك " وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كأني أنظر إلي وبيض الطيب في مفارق رسول الله وهو محرم وعن سهل بن سعد يرفعه " إن في الجنة لمرعى من مسك مثل مراعي دوابكم هذه " وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال دخل علينا رسول الله فنام فعرق فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها فاستيقظ وقال يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين ؟ فقالت هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب ريحه الطيب وعن عمر رضي الله تعالى عنه قال لو كنت تاجرا ما اخترت على العطر إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه وناول المتوكل فتى فارة المسك فقال

( لئن كان هذا طيبنا وهو طيب ... لقد طيبته من يديك الانامل ) وأهدى عبد الله بن جعفر لمعاوية قارورة من الغالية فسأله كم أنفق عليها فذكر مالا جزيلا فقال هذه غالية فسميت بذلك وشمها مالك بن سليمان بن خارجة من أخته هند بنت أسماء فقال علميني كيف تصنعين طيبك ؟ فقالت لا أفعل تريد أن تعلمه جواريك هو لك مني كلما أردته ثم قالت والله إني ما تعلمته إلا من شعرك حيث تقول
( أطيب الطيب عرف أم أبان ... فار مسك بعنبر مسحوق )
قال أبو قلابة كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا خرج من بيته إلى المسجد عرف جيران الطريق أنه مر من طيب ريحه وعن الحسن ابن زيد الهاشمي عن أبيه قال رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلي جسده فإذا مر في الطريق قال الناس أمر ابن عباس أم مر المسك ؟ وعنه عن أبيه قال رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين أحرم والغالية على صدغيه كأنها لزقة
وقال أبو الضحى رأيت على رأس الزبير من المسك ما لو كان لي لكان رأس مالي
وقيل لما بنى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه بفاطمة بنت عبد الملك أسرج في مسارجه تلك الليلة بالغالية
وقال الشعبي الرائحة الطيبة تزيد في العقل
وقال علي كرم الله تعالى وجهه تشمموا النرجس ولو في العام مرة فإن في قلب الانسان حالة لا يزيلها إلا النرجس
وكان الشعبي يقول إذا ورد الورد صدر البرد
وكانت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يستحبون إذا قاموا من الليل أن يمسوا لحاهم بالطيب وكان من اختلف في طرقات المدينة وجد عرفا طيبا قيل ولذلك سميت طيبة وأقول واله ما طابت طيبة إلا بالقلب الطاهر وما أحسن ما قيل
( إذا لم أطب في طيبة عند طيب ... به طيبة طابت فأين أطيب )

وقيل إن فارة المسك دويبة شبيهة بالخشف تصاد لسرتها فاذا صادها الصياد عصب السرة بعصابة شديدة فيجتمع فيها دمها ثم يذبحها ثم يأخذ السرة فيدفنها في الشعير حتى يستحيل الدم المجتمع فيها مسكا ذكيا بعد أن كان لا يرام نتنا
وقد يوجد جرذان سود يقال لها فأرات المسك ليس عندها إلا رائحة لازمة لها
وحكي أن العنبر يأتي على طفاوة الماء لا يدري أحد معدنه فلا يأكله شيء إلا مات ولا ينقره طائر إلا بقي منقاره فيه ولا يقع عليه حيوان إلا نصلت أظفاره فيه والتجار والعطارون ربما وجدوا أظفارا فيه وقال الزمخشري عفا الله عنه سمعت ناسا من أهل مكة يقولون هو من زبد بحر سرنديب وأجود العنبر الأشهب ثم الأزرق وأدونه الأسود وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما ليس في العنبر زكاة إنما هو شيء نثره البحر وأما العود فأجوده المندلي وهو منسوب إلى مندل قرية من قرى الهند وأجوده أصلبه وامتحان رطبه أن تطبع فيه نقش الخاتم فان انطبع فرطب وإلا فلا ومن خصائصه أن رائحته تطبع في الثوب أسبوعا فلا يقمل ما دامت فيه وأما الكافور فهو ماء شجر بجزيرة الكافور يحزونه بالحديد فاذا خرج ظاهرا وضربه الهواء انعقد كالصموغ الجامدة على الاشجار وأما الند فمصنوع وهو العود المستقطر والعنبر واللبان
( لو كنت أحمل جمرا حين زرتكم ... لم ينكر الكلب إني صاحب الدار )
( لكن أتيت وريح المسك يقدمني ... والعنبر الند مشبوب على النار ) وكانت ملوك الفرس تأمر برفع الطيب أيام الورد
وكان المتوكل يلبس أيام الورد الثياب الموردة ويفرش الورد في مجلسه ويطيب جميع آلاته بالورد وقال الحسن بن سهل أمهات الرياحين تقوى بأمهات الطيب فالنرجس يقوى بالورد والورد يقوى بالمسك والبنفسج يقوى بالعنبر والريحان يقوى بالكافور والنسرين يقوى بالعود وقال جالينوس المسك يقوي القلب والعنبر يقوي الدماغ والكافور يقوي الرئة والعود يقوي المعدة والغالية تحل الزكام والصندل يحل

الأورام وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي قال لا تردوا الطيب فانه طيب الريح خفيف المحمل " تبخر بعض الأمراء وعنده أعرابي ففرطت من الأمير ريح خفيفة فأراد أن يعلم هل فطن بها الأعرابي أم لا ؟ فقال ما أطيب هذا المثلث ! قال نعم ولكنك ربعتها
وقال الأحنف إن شم رائحة المسك يحيي القلب وقال سلمة لابن عباس وعنده جعفر بن سليمان ما شمت أنفي من ريح مسك شممته من الناس إلا ريح كفك أطيب فأمر له بألف دينار ومائة مثقال مسك ومائة مثقال عنبر والله أعلم بالصواب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم

الباب الثامن والأربعون في الشباب والصحة والعافية وأخبار المعمرين وما أشبه ذلك وفيه فصول
الفصل الأول في الشباب وفضله
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال ما بعث الله نبيا إلا شابا ولا أوتي عالما إلا شابا ثم تلا هذه الآية ( قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ) وقد أخبر الله تعالى به ( ثم أتى يحيى بن زكريا الحكمة ) وقال تعالى ( وآتيناه الحكم صبيا ) وقال تعالى ( إذ آوى الفتية إلى الكهف ) وقال تعالى ( إنهم فتية آمنوا بربهم ) وقال تعالى ( وإذ قال موسى لفتاه ) وقال أنس رضي الله تعالى عنه قبض رسول الله وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء وقد قدم رسول الله أسامة بن زيد على جميع الأنصار وكبار المهاجرين على حداثة سنه وعتاب بن أسيد ولاه مكة وبها أكابر قريش وعبد الله بن عباس على جلالة قدره وحفظه من العلم
وقال بعض البلغاء الشباب باكورة الحياة وأطيب العيش أوائله كما أن أطيب الثمار بواكيرها والشباب أبلغ الشفعاء عند النساء وأكثر الوسائل لقلوبهن ولذلك قال الشاعر

( أحلى الرجال مع النساء مواقعا ... من كان أشبههم بهن خدودا )
وما بكت العرب على شيء ما بكت على الشباب ولو لم يكن هذا الشباب حميدا وزمانه حبيبا لوسامة صورته وبهجة منظره وجمال خلقته واعتدال قامته لما جاور الله في جنات خلده الشباب كما قال رسول الله " جردا مردا أبناء ثلاثين " وقد جاء في ذلك أشياء كثيرة ليس هذا موضع بسطها
الفصل الثاني في الشيب وفضله
أول من شاب سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام وفي الخبر أن الله تعالى يقول " الشيب نوري وأنا أستحي أن أحرقه بناري " وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال جاء رجلان إلى النبي شيخ وشاب فتكلم الشاب قبل أن يتكلم الشيخ فقال عليه الصلاة و السلام " كبر كبر "
وبهذه الرواية من وقر كبيرا لكبر سنه آمنه الله من فزع يوم القيامة وعن أنس رضي الله عنه عن النبي أنه قال " يقول الله تعالى وعزتي وجلالي وفاقة خلقي إلى أني لأستحي من عبدي وأمتي يشيبان في الإسلام أن أعذبهما " ثم بكى فقيل له ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال أبكي ممن يستحي الله منه وهو لا يستحي من الله وقال من بلغ ثمانين من هذه الأمة حرمه الله على النار
وقال إذا بلغ المؤمن ثمانين سنة فانه أسير الله في الأرض تكتب له الحسنات وتمحى عنه السيئات وقيل كان الرجل فيمن كان قبلكم لا يحتمل حتى يبلغ ثمانين سنة وقال ابن وهب إن أصغر من مات من ولد آدم ابن مائتي سنة فبكته الانس والجن لحداثة سنه وقال النخعي كان يقال إذا بلغ الرجل أربعين سنة على خلق لم يتغير عنه حتى يموت وعن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه " من أتى عليه أربعون سنة ثم لم يغلب خيره على شره فليتجهز إلى النار " وعن أنس رضي الله عنه قال قال ملك الموت لنوح عليه الصلاة و السلام يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها ؟ قال كرجل دخل

بيت له بابان فقام وسط البيت ساعة ثم خرج من الباب الثاني
ويقال أطلع أكبر منك ولو بليلة وقال عبد العزيز بن مروان من لم يتعظ بثلاث لم ينته بشيء الإسلام والقرآن والشيب قال الشاعر
( يا عامر الدنيا على شيبه ... فيك أعاجيب لمن يجب )
( ما عذر من يعمر بنيانه ... وعمره منهدم يخرب )
وقال الشعبي الشيب علة لا يعاد منها ومصيبة لا يعزى عليها وقال الفرزدق
( ويقول كيف يميل مثلك للظبا ... وعليك من عظم المشيب عذار )
( والشيب ينقص في الشباب كأنه ... ليل يصيح بعارضيه نهار )
وقال أبو دلف في بياض اللحية
( تكونني هم لبيضاء نابته ... لها بغضة في مضمر القلب ثابته )
( ومن عجب أني إذا رمت قصها ... قصصت سواها وهي تضحك نابته )
وقال أيضا
( أرى شيب الرجال من الغواني ... بمبلغ شيبهن من الرجال )
وقال ابن المعتز
( فظللت أطلب وصلها بتذلل ... والشيب يغمزها بأن لا تفعلي )
قيل صاح شاب بشيخ أحدب بكم ابتعت هذا القوس يا عماه ؟ فقال يا بني إني أعطيتها بغير ثمن ومر رجل أشمط بامرأة عجيبة في الجمال فقال يا هذه إن كان لك زوج فبارك الله لك فيه وإلا فأعلمينا فقالت كأنك تخطبني ؟ قال نعم فقالت إن في عيبا قال وما هو ؟ قالت شيب في رأسي فثنى عنان دابته فقالت على رسلك فلا والله ما بلغت عشرين سنة ولا رأيت في رأسي شعرة

ولكنني أحببت أن أعلمك أني أكره منك مثل ما تكره مني فأنشد ويقال إنه لاين المعتز
( رأين الغواني الشيب لاح بمفرقي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر )
وقال آخر
( سألتها قبلة يوما وقد نظرت ... شييبي وقد كنت ذا مال وذا نعم )
( فأعرضت ومالت وهي قائلة ... لا والذي أوجد الأشياء من عدم )
( ما كان لي في بياض الشيب من أرب ... أفي الحياة يكون القطن حشو فمي )
وقال آخر
( قالت أرى مسكة الشعر البهيم غدت ... كافورة قد أحالتها يد الزمن )
( فقلت طيب بطيب والتنقل في ... معادن الطيب أمر غير ممتهن )
( قالت صدقت وما أنكرت ذاك بذا ... ألمسك للشم والكافور للكفن )
وقال آخر
( قالت آراك خضبت الشيب قلت لها ... سترته عنك يا سمعي ويا بصري )
( فقهقهت ثم قالت من تعجبها ... تكاثر الغش حتى صار في الشعر )
وقال ابن نباتة
( تبسم الشيب بوجه الفتى ... يوجب سح الدمع من جفنه )
( وكيف لا يبكي على نفسه ... من ضحك الشيب على ذقنه )
وقال ابن المعتز
( فما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس شامل )
وكان المأمون يتمثل بقول الشاعر
( رأت وضحا في الرأس مني فراعها ... فريقان مبيض به وبهيم )
( تفاريق شيب في السواد لوامع ... فيا حسن ليل لاح فيه نجوم )

ويقال في الرجل إذا شاب ليله عسعس وصبحه تنفس
( إذا نازع الشيب الشباب فاصلتا ... بسيفيهما فالشيب لا شك غالب )
وقال آخر
( ألا إن شيب العبد من نقرة القفا ... وشيب كرام الناس شيب المفارق )
وقال العتبي
( قالت عهدتك مجنونا فقلت لها ... أو الشباب جنون برؤه الكبر )
وقال علي بن ربيع
( كبرت ودق العظم مني وعقني ... بني وزالت عن فراشي العقائد )
( وأصبحت أعشى أخبط الأرض بالعصا ... يقودونني بين البيوت الولائد )
وقال آخر
( عريت من الشباب وكنت غصنا ... كما يعرى من الورق القضيب )
( ونحت على الشباب بدمع عيني ... فما نفع البكاء ولا النحيب )
( فيا ليت الشباب يعود يوما ... فاخبره بما فعل المشيب )
وقال ابن النقيب
( وكم كان من عين علي وحافظ ... وكم كان من واش لها ورقيب )
( فلما بدا شيبي اطمأنت قلوبهم ... ولم يحفظوني واكتفوا بمشيبي )
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ما شبهت الشباب إلا كشي كان في كمي فسقط
قال الشاعر
( شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناك حتى يؤذنا بذهاب )
( لم يبلغا المعشار من حقيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحباب )

وقال الجاحظ
( أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت في زمن الشباب )
( لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب )
ومما جاء في الخضاب
قال " عليكم بالخضاب فانه أهيب لعدوكم وأعجب لنسائكم "
وعن أبي عامر الأنصاري رضي الله عنه رأيت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يغير بالحناء والكتم
وقيل خضاب الحناء يصفي البصر ويذهب بالصداع ويزيد في البهاء
( تسود أعلاها وتأبى أصولها ... وليس إلى رد الشباب سبيل )
وقيل وفد عبد المطلب بن هاشم على سيف بن ذي يزن فقال له لو خضبت شعرك فلما رجع إلى مكة اختضب فقالت امرأته نبيلة ما أحسن هذا لو دام فقال
( ولو دام لي هذا الخضاب حمدته ... وكان بديلا من خليل قد انصرم )
( تمتعت منه والحياة قصيرة ... ولا بد من موت نبيلة أو هرم )
وقال آخر
( يا خاضب الشيب الذي ... في كل ثالثة يعود )
( إن الخضاب إذا نضا ... فكأنه شيب جديد )
( فدع المشيب وما يريد ... فلن يعود كما تريد )
وقال محمود الوراق
( فما منك الشباب ولست منه ... إذا سامتك لحيتك الخضابا )

الفصل الثالث في العافية والصحة
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله " إليك انتهت الأماني يا صاحب العافية "
وعنه أنه قال " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة أن يقال له ألم أصح بدنك وأروك بالماء البارد " ؟ وقال علي رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى ( ثم لتسلئن يومئذ عن النعيم )
هو الأمن والصحة والعافية وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يسأل الله العباد عن الأبدان والأسماع والأبصار فيم استعملوها وهو أعلم بذلك وقال ابن عيينة من تمام النعمة طول الحياة في الصحة والأمن والسرور وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها لو رأيت ليلة القدر ما سألت الله إلا العفو والعافية وقال قبيصة بن ذؤيب كنا نسمع نداء عبد الملك بن مروان من وراء الحجرة في مرضه يا أهل النعم لا تستقلوا شيئا من النعم مع العافية ويقال البحر لا جوار له والملك لا صديق له والعافية لا ثمن لها قال ابن الرومي
( إذا ما كساك الدهر سربال صحة ... ولم تخل من قوت يحل ويقرب )
( فلا تغبطن أهل الكثير فإنما ... على قدر ما يعطيهم الدهر يسلب )
ويقال صحة الجسم أوفر القسم وذكر بعضهم العافية فقال وأي وطاء وأي عطاء وقال حكيم إن كان شيء فوق الحياة فالصحة وإن كان شيء مثل الحياة فالغني وإن كان شيء فوق الموت فالمرض وإن كان شيء مثل الموت فالفقر
وقال علي رضي الله تعالى عنه ما المبتلي الذي اشتد به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء
وقيل إن فأرة البيوت رأت فأرة الصحراء في شدة ومحنة فقالت لها ما تصنعين ههنا ؟ اذهبي معي إلى البيوت التي فيها أنواع النعيم والخصب فذهبت معها وإذا صاحب البيت الذي كانت تسكنه قد هيأ لها الرصد لبنة تحتها شحمة فاقتحمت لتأخذ الشحمة فوقعت عليها اللبنة فحطمتها

فهربت الفارة البرية وهزت رأسها متعجبة وقالت أرى نعمة كثيرة وبلاء شديدا إلا و أن الفقر والعافية أحب إلي من غنى يكون فيه الموت ثم فرت إلى البرية وكان عند رومي خنزير فربطه إلى أسطوانة ووضع العلف بين يديه ليسمنه وكان بجنبه أتان لها جحش وكان ذلك الجحش يلتقط من العلف ما يتناثر فقال لأمه يا أماه ما أطيب هذا العلف لو دام فقالت له يا بني لا تقربه فإن وراءه الطامة الكبرى فلما أراد الرومي أن يذبح الخنزير ووضع السكين على حلقه جعل يضرب وينفخ فهرب الجحش وأتى إلى أمه وأخرج لها أسنانه وقال ويلك يا أماه أنظري هل بقي في خلال أسناني شيء من ذلك العلف فاقلعيه فما أحسن القنع مع السلامة والله أعلم بالصواب
الفصل الرابع في أخبار المعمرين في الجاهلية والاسلام
قال الحسن رضي الله تعالى عنه أفضل الناس ثوابا يوم القيامة المؤمن المعمر
وقال رسول الله " ألا أنبئكم بخياركم ؟ قالوا بلي يا رسول الله قال أطولكم أعمارا في الإسلام إذا سددوا "
وزعموا أن تبعا الفزازي كان من المعمرين وإنه دخل على بعض خلفاء بني أمية فسأله عن عمره فقال عشت أربعمائة وعشرين سنة في فترة عيسى بن مريم عليه السلام في الجاهلية وستين في الاسلام
قال له أخبرني عما رأيت في سالف عمرك قال رأيت الدنيا ليلة في أثر ليلة ويوما في أثر يوم ورأيت الناس بين جامع مال مفرق ومفرق مال مجموع وبين قوي يظلم وضعيف يظلم وصغير يكبر وكبير يهرم وحي يموت وجنين يولد وكلهم بين مسرور بموجود ومحزون بمفقود
وقد قال ابن الجوزي إن آدم عليه السلام عاش ألف سنة وعاش ابنه شيث تسعمائة سنة وعاش ابنه مهلايبل ثمانمائة وخمسا وتسعين سنة وعاش ابنه إدريس ثلثمائة وخمسا وتسعين سنة وعاش ابنه هود تسعمائه واثنتين وستين سنة

ابنه متوشلخ تسعمائة وستين سنة وأما ابنه نوح عليه السلام فروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال عاش نوح عليه السلام ألفا وأربعمائة وخمسين عاما
وأما الخضر عليه السلام واسمه خضرون فهو أطول بني آدم عمرا
وذكر أن لقمان عليه السلام عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة وكانت العرب لا تعد من الأعمار إلا ما بلغ مائة وعشرون سنة فما فوقها
وعاش أكثم بن صيفي ثلاثمائة وستين سنة وأدرك الإسلام وعاش سطيح سبعمائة سنة وعاش قس بن ساعدة الأيادي سبعمائة سنة وكان من حكماء العرب وعاش لبيد بن ربيعة الشاعر مائة وعشرين سنة وأدرك الإسلام وعاش دريد بن الصمة مائة وسبعين سنة حتى سقط حاجباه على عينيه وأدرك الإسلام ولم يسلم
ومن المعمرين عدي بن حاتم الطائي وزهير بن جنادة عاشا مائتين وعشرين سنة ومن المعمرين ذو الأصابع العذري عاش مائتين وعشرين سنة وهو أحد حكماء العرب في الجاهلية ومن المعمرين عمرو بن معد يكرب الزبيدي ومن المعمرين عبد المسيح بن نفيلة عاش ثلاثمائة وعشرين سنة وأدرك الإسلام وقد رأيت رجلا من أهل محلة مسير بالغربية وذكر أنه بلغ من العمر مائة وأربعين سنة وإن امرأته بلغت من العمر كذلك ولقد رأيت منه ما لم أر من بعض شبان هذا العصر في القوة وشدة البأس ورأيت له ولدا شيخا هو أشد قوة من ولده وذلك في صفر سنة تسع وعشرين وثمانمائة والله سبحانه وتعالى أعلم

الباب التاسع والاربعون في الاسماء والكنى والألقاب وما استحسن منها
فأشرف الأسماء وأعظمها بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى ( هل تعلم له سميا ) وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله " من رفع قرطاسا من الأرض مكتوبا عليه بسم الله الرحمن الرحيم اجلالا له ولاسمه عن أن يداس كان عند الله من الصديقين وخفف عنه وعن والديه العذاب وإن كانا مشركين " وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يرن إبليس لعنه الله قط إلا ثلاث رنات رنة حين لعن وأخرج من ملكوت السموات والأرض ورنة حين ولد محمد ورنة حين أنزلت سورة الحمد وفي أولها بسم الله الرحمن الرحيم وعن رسول الله " لا يرد دعاء أوله بسم الله الرحمن الرحيم وإن أمتي يأتون يوم القيامة يقولون بسم الله الرحمن الرحيم فتثقل حسناتهم في الميزان فتقول الأمم ما أثقل موازين أمة محمد فتقول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ابتداء كلامهم ثلاثة أسماء من أسماء الله تعالى لو وضعت في كفة الميزان ووضعت سيئات الخلق في كفة لرجحت كفة الأسماء "
وأما الأسماء والكنى
ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله " أحب أسمائكم إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة وينبغي أن تنادي من لا تعرف

اسمه بعبارة لطيفة لا يتأذى بها ولا يكون فيها كذب كقولك يا فقيه يا أخي يا فقير يا سيدي يا صاحب الثوب الفلاني أو البغل الفلاني أو الفرس الفلاني أو السيف الفلاني وما أشبه ذلك "
ودخل عبادة على المتوكل وبين يديه جام من ذهب فيه ألف مثقال فقال له أسألك عن شيء إن أجبتني عنه ابتداء من غير أن تفكر فلك الجام بما فيه فقال سل يا أمير المؤمنين قال أسألك عن شيء له اسم ولا كنية له وعن شيء له كنية ولا اسم له قال المنارة وأبو رياح فعجب المتوكل وأعطاه الجام بما فيه
وقيل لعثمان " ذو النورين " رضي الله عنه لأنه هو ورقية كانا أحسن زوجين في الاسلام وقيل لأنه تزوج برقية ثم بأم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يوجد من تزوج بابنتي نبي غيره وكان قتادة بن النعمان الأنصاري رضي الله تعالى عنه أصيب في عينه يوم أحد فسقطت على خده فردها رسول الله فكانت أحسن وأصح من الأخرى فكانت تعتل أي ترمد عينه الباقية ولا تعتل عينه المردودة فقيل له ذو العينين
وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه كنيت بهرة صغيرة كنت أحملها في حجري فالعب بها وكان رسول الله يقول يا أبا هريرة واختلف في اسمه فقيل عبد الرحمن وقيل عبد شمس وقيل عمير وقيل سليمان وقال الشعبي رضي الله تعالى عنه كنيت الدجال أبو يوسف ذو الشهرة أبو دجانة الأنصاري رضي الله تعالى عنه كان له شهرة يلبسها بين الصفين ذو الرياستين الفضل بن سهل لأنه دبر أمر السيف والقلم وولي رياسة الجيوش والدواوين ودخل عليه شاعر يوم المهرجان وبين يديه الهدايا فقال
( واليوم يوم المهرجان ... هديتي فيه اللسان )
( لك دولتان حديثة ... وقديمة ورياستان )
( لك في الورى من هاشم ... نبت وبيت خسروان )
( علم الخليفة كيف أنت ... فصرت في هذا المكان ) فأمر له بجميع الهدايا المطيبون بنو عبد مناف وبنو أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب ونعيم بن مرة والحرث بن فهر غمسوا أيديهم في

ثم تحالفوا شيبة جد عبد المطلب لقب بشيبة كانت في رأسه حين ولد قال حذافة بنو شيبة الحمد الذي كان وجهه يضيء ظلام الليل كالقمر البدر وقيل له عبد المطلب لأن عمه المطلب مر به في سوق مكة مردوفا له فجعلوا يقولون من هذا الذي وراءك فيقول عبد لي سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه اسمه عبد الله ولقباه العتيق والصديق لجماله وتصديقه بخبر الاسراء أو لأنه من صدق رسول الله سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه لقب بالفاروق لأنه قال يوم أسلم لا يعبد الله اليوم سرا فظهر به الاسلام وفرق بين الحق والباطل الكامل سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه لأنه كان يكتب ويحسن الرمي والعوم طلحة بن عبد الله رضي الله تعالى عنه كان يقال له طلحة الخير وطلحة الفياض وطلحة الطلحات لسخائه رشح الحجر وأبو الريان عبد الملك ابن مروان لقب بذلك لبخله وبجره عكة العسل سعيد بن العاص رضي الله تعالى عنه الحبر عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه لقب بذلك لعلمه كان يقال له مرة الحبر ومرة البحر
الأشدق عمرو بن سعيد لأنه كان مائل الشدق الفياض عكرمة بن ربعي لقب بذلك لسخائه المصطلق خزيمة بن سعد الخزاعي قيل له المصطلق لحسن صوته وشدته وكان أول من غنى من خزاعة راح يكذب لقب به المهلب لأنه كان يضع الحديث أيام الخوارج فيحدث به فاذا رأوه قالوا راح يكذب وأصل الغزال كان يكثر الجلوس في سوق الغزالين وكان يتتبع العجائز فيتصدق عليهم ولم يكن غزالا سليمان التميمي كان داره ومسجده في بني تميم ولم يكن منهم وهو شيباني أبو عمرو الشيباني لم يكن من بني شيبان وإنما كان يعلم يزيد بن مزيد الشيباني اليزيدي كان يعلم يزيد بن منصور الحميري فنسب إليه ذو القروح امرؤ القيس كان ملك الروم كساه المسمومة فقرحته وقالوا لم تكن الكنى لأحد من الأمم إلا العرب وهي مفاخرهم وقال بعضهم
( أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسودة اللقب )

في قوله تعالى ( فقولا له قولا لينا ) أي كنياه ولما ضرب موسى عليه الصلاة و السلام البحر ولم ينفلق أوحى الله تعالى إليه أن كنه فقال انفلق أبا خالد فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم
وأما الألقاب فقد قال الله تعالى ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) سماه الله تعالى فسوقا واتفق العلماء رضي الله تعالى عنهم على جواز ذلك على وجه التعريف لمن لا يعرف إلا بذلك كالأعمش والأعمى والأعرج والأحول والأفطس والأقرع ونحو ذلك وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب ولم يزل في الأمم كلها يجري في المخاطبات والمكاتبات من غير نكير
غير أنها كانت تطلق على حسب الموسومين وأما ما استحسن من تلقيب السفلة بالألقاب العلية حتى زال الفضل وذهب التفاوت وانقلب النقص والشرف شرعا واحدا فمنكر وهب أن العذر مبسوط في ذلك فما العذر في تلقيب من ليس من الدين في دبير ولا قبيل ولا له فيه ناقة ولا فصيل بل هو محتو على ما يضاد الدين وينافي كمال الدين وشرف الإسلام وهي لعمر الله الغصة التي لا تساغ والغبن الذي يعجز الصبر دونه فلا يستطاع نسأل الله تعالى إعزاز دينه وإعلاء كلمته وأن يصلح فسادنا ويوقظ غافلنا
الرجل يكنى باسم ولده والمرأة كذلك وإذا كنوا من لم يكن له ولد فعلى جهة التفاؤل وبناء الأمر على رجاء أن يعيش فيولد له وقد يكنون بما يلائم المكنى من غير الأولاد كقول رسول الله في علي رضي الله تعالى عنه أبو تراب وذلك أنه نام في غزوة ذي العشيرة فذهب به النوم فجاء رسول الله وهو متمرغ في التراب فقال له اجلس أبا تراب وكان أحب أسمائه إليه
وكقولهم أبي لهب لحمرة

خديه ولونه
وقال الزمخشري رحمه الله تعالى وسمعتهم يكنون الكبير الرأس والعمامة بأبي الرأس وأبي العمامة وسمعت العرب ينادون الطويل اللحية يا أبا الطويلة وسمعت عرب البحيرة يكنون بأسماء بناتهم كأبي زهو وأبي سلطانة وأبي ليلى ونحو ذلك ولا حرج في ذلك وقد تكنى جماعة من أفاضل الصحابة بأبي فلانة منهم سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان له ثلاث كنى أبو عمرو وأبو عبد الله وأبو ليلى
ومنهم أبو أمامة وأبو رقية تميم الداري وأبو كريمة المقداد بن معد يكرب وكثير من الصحابة ومن التابعين رضوان الله عليهم أجمعين أبو عائشة مسروق بن الأجدع وكان لأنس أخ صغير وله نغير يلعب به فمات فدخل رسول الله فرآه حزينا فقال ما شأنه ؟ فقالوا مات نغيره فقال يا أبا عمير ما فعل النغير ونظر المأمون إلى غلام حسن في الموكب فسأله عن اسمه فقال لا أدري فقال
( تسميت لا أدري فإنك لا تدري ... بما فعل الحب المبرح في صدري ) وعن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي " إذا سميتم الولد محمدا فاكرموه ووسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها "
وعنه ما من قوم كان بينهم مشورة فحضر من اسمه محمدا أو أحمد فادخلوه في مشورتهم إلا كان خيرا لهم وما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه محمد أو أحمد إلا قدس الله ذلك المنزل في كل يوم مرتين كل ذلك ببركة هذا الاسم الشريف
ومما جاء في مدح الأسماء منظوما قال بعضهم في مليح اسمه ابراهيم
( رأيت حبيبي في المنام معانقي ... وذلك للمهجور مرتبة عليا )
( وقد رق لي من بعد هجر وقسوة ... وما ضر إبراهيم لو صدق الرؤيا )

وفيه أيضا
( لا زال بابك كعبة محجوجة ... وترابها فوق الجباه وسيم )
( حتى ينادي في البقاع بأسرها ... هذا المقام وأنت ابراهيم )
وفيه أيضا
( يا سمي الخليل إن فؤادي ... فيه من لوعة الغرام جحيم )
( وعجيب يا قاتلي أن قلبي ... فيه نار وأنت فيه مقيم )
ولبعضهم في مليح اسمه عمر
( يا أعدل الناس اسما كم تجور على ... فؤاد مضناك بالهجران والبين )
( أظنهم سرقوك القاف من قمر ... وأبدلوها بعين خيفة العين )
وفيه أيضا
( ما عليهم في الهوى لونظروا ... حين سموك فقالوا عمر )
( أبدلوا قافك عينا غلطا ... أخطأوا ما أنت إلا قمر )
ولبعضهم في مليح حامل شمعة موقودة اسمه عثمان
( وافى إلى بشمعة وضياؤها ... وضياؤه حكيا لنا القمرين )
( ناديته ما الاسم يا كل المنى ... فأجابني عثمان ذو النو رين )
ولبعضهم في مليح اسمه يوسف
( يا من سبى الشعراء نمل عذاره ... النجم يشهد لي بأني مدنف )
( صيرت قلبي من صدودك فاطرا ... فامنن علي بزورة يا يوسف )
وللصفي الحلي فيمن اسمه داود
( وثقت بأن قلبي من حديد ... وفيه على الهوى بأس شديد )
( فلان على هواك ولا عجيب ... إذا داود لان له الحديد )

وله فيمن اسمه موسى
( أتى موسى بآية خال خد ... حوته صوارم الحدق المراض )
( فآية ذا بياض في سواد ... وآية ذا سواد في بياض )
( فجاء بضد ما قد جاء موسى ... كليم الله في الحقب المواضي )
وللقيراطي في مليح اسمه بدر
( سموه بدرا وذاك لما ... أن فاق في حسنه وتما )
( وأجمع الناس إذا رأوه ... بأنه اسم على مسمى ) ولمؤلفه رحمه الله تعالى في قاضي القضاة علم الدين صالح البقليني
( وعظ الأنام أمامنا الحبر الذي ... سكب العلوم كبحر فضل طافح )
( فشفى القلوب بعلمه وبوعظه ... والعلم تشفي إن تكن من صالح ) وتوجهت مرة إلى بلناج لاجتمع بالحاج خليل بن منصور في ضرورة فلم أجده ولم يقم أحد من أخوته بقضاء ما توجهت بسببه فقلت
( خصال خليل كلهن حميدة ... وأوصافه تزري بكل جميل )
( فلا خير في بلتاج إن لم يكن بها ... ولا خير في الدنيا بغير خليل )
وقال آخر في مقبل
( يا من تحجب عن محب صادق ... ما زال عنه كل يوم يسأل )
( من لي بيوم فيه تسمح باللقا ... ويقال لي هذا حبيبك مقبل )
ولبعضهم في مليح اسمه محسن
( وأهيف يعلو على عشاقه ... برتبة من الجمال نالها )
( واسمه وهو العجيب محسن ... وكم دموع في الهوى أسالها )

صفي الدين الحلي في اسم حسين
( حبيبي وافر والشوق مني ... طويل والهوى عندي مديد )
( وأعجب أنني أهوى حسينا ... وشوق في محبته يزيد )
ومما قيل في أسماء النساء في فاطمة
( عجبت من فاتنة لم تزل ... لمرتجى الوصل لها فاطمة )
( تنكر ما ألقاه من وجدها ... وهي بشوقي والجوى عالمة )
ابن مكانس في اسم عائشة
( يا دهر خبرني بحقك واشفني ... فسهام فكري في أمورك طائشة )
( أيحل أني في المحبة ميت ... وحبيبتي من بعد موتي عائشة )
شمس الدين البديري في اسم حليمة
( ولما رأتني في هواها متيما ... أكابد من حر الغرام أليمه )
( فجادت بطيب الوصل منها ولم تجز ... ومن أين تدري الجور وهي حليمه )
ولبعضهم في اسم بركة ذو بيت
( لما نصب الهوى لقلبي شركة ... ناديت وقلبي تارك من تركه )
( يا قلب أفق ولا تمل لشركه ... تغنيك سنين ساعة من بركة )
مردوفا أيضا
( لما نصب الهوى لقلبي شركه ... في كل طريق )
( ناديت وقلبي تارك من تركه ... لو كن يفيق )
( يا قلب أفق ولا تمل للشركة ... ما الشرك يليق )
( تغنيك سنين ساعة من بركة ... عن كل صديق ) ولا تتبعت هذا المعنى لاحتجت إلى مجلدات ولكن فيما ذكرته كفاية والله الموفق وأسأله العناية وصلى الله على سيدنا ومحمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الخمسون فيما جاء في الأسفار والاغتراب وما قيل في الوداع والفراق والحث على ترك الاقامة بدار الهوان وحب الوطن والحنين إليه أما ما جاء في الاسفار والحث على ترك الاقامة بدار الهوان
فقد قال الله تعالى ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ) الآية وفي الأثر سافروا تغنموا وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله " لو يعلم الناس رحمة الله للمسافر لأصبح الناس على ظهر سفر وهو ميزان الاخلاق إن الله بالمسافر رحيم " ويقال الحركة ولود والسكون عاقر وقال حكيم السفر يسفر عن أخلاق الرجال وكان بعضهم يريد السفر فيمنعه والده إشفاقا عليه فقال يوما
( ألا خلني لشاني ولا أكن ... على الأهل كلا إن ذا لشديد )
( تهيبني ريب المنون ولم أكن ... لأهرب عما ليس منه محيد )
( فلو كنت ذا مال لقرب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت أنت رشيد )
( فدعني أجول الأرض عمري لعله ... يسر صديق أو يغاظ حسود ) وقال رسول الله " عليكم بالدلجة فان الأرض تطوى بالليل ولا تطوى بالنهار " وقال كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه كان رسول الله يكره أن يسافر الرجل في غير رفقة وقال

" الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب " وقال " إذا خرج ثلاثة في ركب فيلؤمروا أحدهم "
وقيل أغار حذيفة بن بدر على هجان النعمان بن المنذر بن ماء السماء وسار في ليلة مسافة ثماني ليال فضرب به المثل وقال قيس بن الحطيم
( هممنا بالاقامة ثم سرنا ... مسير حذيفة الخير بن بدر )
وسار ذكوان مولى عمر رضي الله تعالى عنه من مكة إلى المدينة في يوم وليلة وقال المأمون لا شيء ألذ من السفر في كفاية وعافية لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحل فيها وتعاشر قوما لم تعرفهم
ومما قيل في ترك الاقامة بدار الهوان
قال الفرزدق
( وفي الأرض عن دار القلى متحول ... وكل بلاد أوطنتك بلاد )
وقال آخر
( وما هي إلا بلدة مثل بلدتي ... خيارهما ما كان عونا على دهر )
وقال آخر
( وإذا البلاد تغيرت عن حالها ... فدع المقام وبادر التحويلا )
( ليس المقام عليك فرضا واجبا ... في بلدة تدع العزيز ذليلا )
وقال الصفي الحلي
( تنقل فلذات الهوى في التنقل ... ورد كمل صاف لا تقف عند منهل )
( ففي الأرض أحباب وفيها منازل ... فلا تبك من ذكرى حبيب ومنزل )
( ولا تستمع قول امرئ القيس إنه ... مضل ومن ذا يهتدي بمضلل )
وقال عبد الله الجعدي
( فان تجف عني أو تزرني إهانة ... أجدعنك في الأرض الفريضة مذهبا )

ومما قيل في الوداع والفراق والشوق والبكاء
قال جرير
( لو كنت أعلم أن آخر عهدكم ... يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل ) وقيل لعمارة بن عقيل بن بلال بن جرير ما كان جدك صانعا في قوله فعلت ما لم أفعل ؟ قال كان يقلع عينيه حتى لا يرى مظعن أحبابه ثم أنشد يقول
( وما وجد مغلول بصنعاء موثق ... بساقيه من ماء الحديد كبول )
( قليل الموالي مسلم بجزيرة ... له بعد نومات العيون أليل )
( يقول له الحداد أنت معذب ... غداة غد أو مسلم فقتيل )
( بأكبر مني لوعة يوم راعني ... فراق حبيب ما إليه سبيل )
وقال الشاعر
( وما أم خشف طول يوم وليلة ... ببلقعة بيداء ظمآن صاديا )
( تهيم ولا تدري إلى أين تبتغي ... مولهة حزنا تجوز الفيافيا )
( أضر بها حر الهجير فلم تجد ... لغلتها من بارد الماء شافيا )
( اذا ابعدت عن خشفها انعطفت له ... فالفته ملهوف الجوانح طاويا )
( بأوجع مني يوم شدوا حمولهم ... ونادى مناد البين أن لا تلاقيا )
وقال عبد العزيز الماجشون وهو من فقهاء المدينة قال لي المهدي يا ماجشون ما قلت حين فارقت أحبابك قال قلت يا أمير المؤمنين
( لله باك على أحبابه جزعا ... قد كنت أحذر هذا قبل أن يقعا )
( ما كان والله شؤم الدهر يتركني ... حتى يجرعني من بعدهم جرعا )
( ان الزمان رأى إلف السرور لنا ... فدب بالبين فيما بيننا وسعى )

( فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهدا ... فلا زيادة شيء فوق ما صنعا ) فقال والله لأعيننك فأعطاه عشرة آلاف دينار
( وقال آخر )
( وقفت يوم النوى منهم على بعد ... ولم أودعهم وجدا واشفاقا )
( إني خشيت على الاظعان من نفسي ... ومن دموعي إحراقا واغراقا )
( وقال عمر بن أحمد )
( أني الرحيل فحين جد ترحلت ... مهج النفوس له عن الاجساد )
( من لم يبت والبين يصدع قلبه ... لم يدر كيف تفتت الاكباد ) وحكى بعضهم قال دخلنا إلى دبر هرقل فنظرنا إلى مجنون في شباك وهو ينشد شعرا فقلنا له أحسنت فأومأ بيده إلى حجر يرمينا به وقال ألمثلي يقال أحسنت ففررنا منه فقال أقسمت عليكم الا ما رجعتم حتى أنشدكم فان أحسنت فقولوا أحسنت وان أنا أسأت فقولوا أسأت
فرجعنا إليه فأنشد يقول
( لما أناخوا قبيل الصبح عيسهمو ... وحملوها وسارت بالدمى الابل )
( وقلبت بخلال السجف ناظهرها ... يرنو إلي ودمع العين ينهمل )
( وودعت ببنان زانه عنهم ... ناديت لا حملت رجلاك يا جمل )
( يا حادي العيس عرج كي أودعهم ... يا حادي العيس في ترحالك الأجل )
( إني على العهد لم أنقص مودتهم ... ياليت شعري لطول البعد ما فعلوا )
فقلنا له ماتوا فقال والله وأنا أموت ! ثم شهق شهقة فاذا هو ميت رحمه الله تعالى
( وقال آخر )
( لما علمت بأن القوم قد رحلوا ... وراهب الدير بالناقوس مشتغل )

( شبكت عشري على رأسي وقلت له ... يا راهب الدير هل مرت بك الإبل )
( فحن لي وبكى رق لي ورثى ... وقال لي يا فتى ضاقت بك الحيل )
( إن الخيام التي قد جئت تطلبهم ... بالأمس كانوا هنا والآن قد رحلوا )
( وقال الشيخ الأكبر سيدي محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى )
( ما رحلوا يوم ساروا البزل العيسا ... إلا وقد حملوا فيها الطواويا )
( من كل فاتكة الألحاظ مالكة ... تخالها فوق عرش الدر بلقيسا )
( إذا تمشت على صرح الزجاج ترى ... شمسا على فلك في حجر ادريسا )
( أسقفه من بنات الروم عاطلة ... ترى عليها من الأنوار ناموسا )
( وحشية ما لها أنس قد اتخذت ... في بيت خلوتها للذكر ناوسا )
( ان اومأت تطلب الانجيل تحسبهم ... قساقسا أو بطاريقا شماميسا )
( ناديت إذ رحلوا للبين ناقتها ... يا حادي العيس لا تحدو بها العيسا )
( غيبت أجناد صبري يوم بينهم ... على الطريق كراديسا كراديسا )
( ساروا وأصبحت أنعي الربع بعدهمو ... والوجد في القلب لا ينفك مغروسا )
وقال آخر
( ولما تبدت للرحيل جمالنا ... وجد بنا سير وفاضت مدامع )
( تبدت لنا مذعورة من خبائها ... وناظرها باللؤلؤ الرطب دامع )
( أشارت بأطراف البنان وودعت ... وأومت بعينيها متى أنت راجع )
( فقلت لها والله ما من مسافر ... يسيرويدري ما به الله صانع )
( فشالت نقاب الحسن من فوق وجهها ... فسالت من الطرف الكحيل مدامع )

( وقالت إلهي كن لي عليه خليفة ... فيارب ما خابت لديك الودائع )
( وقال آخر )
( يا راحلا وجميل الصبر ينبعه ... هل من سبيل إلى لقياك يتفق )
( ما أنصفتك دموعي وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو يحترق )
( وقال البغدادي )
( قالت وقد نالها للبين أوجعه ... والبين صعب على الأحباب موقعه )
( اجعل يديك على قلبي فقد ضعفت ... قواه عن حمل ما فيه واضلعه )
( واعطف على المطايا ساعة فعسى ... من شق الهوى بالبين يجمعه )
( كأنني يوم ولت حسرة وأسى ... غريق بحر يرى الشاطيء ويمنعه )
( وقال ابن البديري )
( قفا حاديا ليلى فاني وامق ... وتعجلا يوما على من يفارق )
( وزما مطاياها قبيل مسيرها ... ليلتذ منها بالتزود عاشق )
( ولا تزجرا بالسوق أظعان عيسها ... فان حبيبي للظعائن سائق )
( ولما التقينا والغرام يذيبنا ... ونحن كلانا في التفكر غارق )
( وقفنا ودمع العين يحجب بيننا ... تسارقني في نظرة وأسارق )
( فلا تسألا ما حل بالبين بيننا ... ولا تعجبا أنا مشوق وشائق )
( وقال أيضا )
( تذكرت ليلى حين شط مزارها ... وعادت منازلها خليات بلقع )
( بكرت عليها والقنا يقرع القنا ... وسمر العوالي للمنايا تشرع )
( وخالفت لوامي عليها وعذلي ... وخالفت سهدي والخليون هجع )
( ولم أستطع يوم النوى رد عبرة ... فؤادي أسى من حرها يتقطع )
( فقال خليلي إذ رأى الدمع دائما ... يفيض دما من مقلتي ليس يدفع )
( لئن كان هذا الدمع يجري صبابة ... على غير ليلى فهو دمع مضيع )

وقال آخر
( مددت إلى التوديع كفا ضعيفة ... وأخرى على الرمضاء فوق فؤادي )
( فلا كان هذا آخر العهد منكمو ... ولا كان ذا التوديع آخر زادي )
وقال آخر
( ولما وقفنا للوداع عشية ... وطرفي وقلبي دامع وخفوق )
( بكيت فاضحكت الرشاة شماتة ... كأني سحاب والوشاة بروق )
( ولمؤلفه رحمه الله تعالى (
( يا سادة في سويد القلب مسكنكم ... وفي منامي أرى أني أعانقهم )
( أوحشتمونا وعز الصبر بعدكمو ... يا من يعز علينا أن نفارقهم )
وقال آخر
( لو أن مالك عالم بذرى الهوى ... ومحله من أضلع العشاق )
( ما عذب العشاق إلا بالهوى ... وإذا استغاثوا غاثهم بفراق )
( وقال ابن الوردي )
( دهرنا أضحى ضنينا ... باللقا حتى ضنينا )
( يا ليالي الوصل عودي ... اجمعينا اجمعينا )
( وقال الشريف الرضي )
( عللاني بذكرهم واسقياني ... وامزجا لي دمعي بكأس دهاق )
( وخذا النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق )

( وقال آخر عند ذلك )
( قالوا أترقد إذ عبنا فقلت لهم ... نعم وأشفق من دمعي على بصري )
( ما حق طرف هداني نحو حسنكمو ... أني أعذبه بالدمع والسهر )
وقال الموصلي
( فسدت لطول بعادكم أحلامنا ... وعقولنا وجفا الجفون منام )
( والطيف قد وعد الجفون بزورة ... يا حبذا إن صحت الأحلام )
ومما قيل في البكاء قال الشاعر
( رجوت طيف خياله ... وكيف لي بهجوع )
( والذاريات جفوني ... والمرسلات دموعي ) وقال آخر
( ارحم رحمت للوعتي ... وابعث خيالك في الكرى )
( ودموع عيني لا تسل ... عن حالها يا ما جرى )
وقال آخر
( إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهى )
( بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها )
وقال آخر
( يا قلب صبرا على الفراق ولو ... روعت ممن تحب بالبين )
( وأنت يا دمع إن ظهرت بما ... أخفيه من قلبي سقطت من عيني )

وقال آخر
( خاض العواذل في حديث مدامعي ... مما غدا كالبحر سرعة سيره )
( خبأته لأصون سر هواكمو ... حتى يخوضوا في حديث غيره )
وقال ابن المواز
( رحت يوم الفراق أجري دموعي ... حسرة إذ قضى الفراق ببيني )
( قيل كم إذا تجري دموعك تعمى ... أوقف الدمع قلت من بعد عيني )
وقال آخر
( لما لبست لبعده ثوب الضنى ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا )
( أجريت وقف مدامعي من بعده ... وجعلته وقفا عليه جاريا )
وقال آخر
( ولم أر مثلي غار من طول ليله ... عليه كأن الليل يعشقه معي )
( وما زلت أبكي في دجى الليل صبوة ... من الوجد حتى ابيض من فيض أدمعي )
وقال الموصلي
( عين أفاضت دموعي ... لطول صد وبين )
( ووجنة الخد قالت ... رأيت غسلي بعيني )
وقال آخر
( وما فارقت ليلى من مراد ... ولكن شقوة بلغت مداها )
( بكيت نعم بكيت وكل إلف ... إذا ماتت حبيبته بكاها ) وفي بعض الكتب السماوية أن مما عاقبت به عبادي أن ابتليتهم بفراق الأحبة

ومما جاء في الحنين إلى الوطن أما محبة الوطن فمستولية على الطباع مستدعية أشد الشوق إليها روي أن أبان قدم على النبي فقال يا أبان كيف تركت مكة ؟ قال تركت الأذخر وقد أعذق والنمام وقد أورق فاغرورقت عينا رسول الله وقال بلال رضي الله تعالى عنه
( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... براد وحولي أذخر وجليل )
( وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل )
وقيل من علامة الرشد أن تكون النفس إلى بلدها تواقة وإلى مسقط رأسها مشتاقة
ومن حب الوطن ما حكي أن سيدنا يوسف عليه الصلاة و السلام أوصى بأن يحمل تابوته إلى مقابر آبائه فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك فلما بعث موسى عليه الصلاة و السلام وأهلك الله تعالى فرعون لعنه الله حمله موسى إلى مقابر آبائه فقبره بالأرض المقدسة وأوصى الاسكندر رحمه الله تعالى أن تحمل رمته في تابوت من ذهب إلى بلاد الروم حبا لوطنه واعتل سابور ذو الأكتاف وكان أسيرا ببلاد الروم فقالت له بنت الملك وكانت قد عشقته ما تشتهي ؟ قال شربة من ماء دجلة وشمة من تراب اصطخر فأتته بعد أيام بشربة من ماء وقبضة من تراب وقالت له هذا من ماء دجلة ومن تربة أرضك فشرب واشتم بالوهم فنفعه من علته وقال الجاحظ كان النفر في زمن البرامكة إذا سافر أحدهم أخذ معه من تربة أرضه في جراب يتداوى به وما أحسن ما قال بعضهم
( بلاد ألفناها على كل حالة ... وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن )
( ونستعذب الأرض التي لا هوا بها ... ولا ماؤها عذب ولكنها وطن )

ووصف بعضهم بلاد الهند فقال بحرها در وجبالها ياقوت وشجرها عود وورقها عطر
وقال عبد الله بن سليمان في نهاوند أرضها مسك وترابها الزعفران وثمارها الفاكهة وحيطانها الشهد وقال الحجاج لعامله على أصبهان قد وليتك على بلدة حجرها الكحل وذبابها النحل وحشيشها الزعفران وكان يقال البصرة خزانة العرب وقبة الإسلام لانتقال قبائل العرب إليها واتخاذ المسلمين بها وطنا " ومركزا "
وكان أبو إسحاق الزجاج يقول بغداد حاضرة الدنيا وما سواها بادية وأنا أقول مصر كنانة الله في أرضه والسلام
ومما جاء في ذم السفر
قيل لرجل السفر قطعة من العذاب فقال بل العذاب قطعة من السفر وقال بعضهم
( كل العذاب قطعة من السفر ... يآرب فارددنا على خير الحضر )
وقيل لاعرابي ما الغبطة ؟ قال الكفاية مع لزوم الاوطان
ومر إياس بن معاوية بمكان فقال أسمع صوت كلب غريب فقيل له بم عرفت ذلك ؟ قال بخضوع صوته وشدة نباح غيره وأراد اعرابي السفر فقال لامرأته
( عدي السنين لغيبتي وتصبري ... وذري الشهور فانهن قصار ) فأجابته
( فاذكر صبابتنا اليك وشوقنا ... وارحم بناتك إنهن صغار ) فاقام وترك السفر
ويقال رب ملازم لمهنته فاز ببغيته وقال ابن الهيثم
( لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق ) وفيما ذكرته كفاية وأسأل الله التوفيق والهداية و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الحادي والخمسون في ذكر الغنى وحب المال والافتخار بجمعه قال الله تعالى ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا )
وقيل الفقر رأس كل بلاء وداعية الى مقت الناس وهو مع ذلك مسلبة للمروءة مذهبة للحياء فمتى نزل الفقر بالرجل لم يجد بدا من ترك الحياء ومن فقد حياءه فقد مروءته ومن فقد مروءته مقت ومن مقت ازدري به ومن صار كذلك كان كلامه عليه لا له وقال رسول الله ان تذر ورثتك اغنياء خير من ان تذرهم عالة يتكففون الناس ) وفي الحديث ( لا خير فيمن لا يحب المال ليصل به رحمه ويؤدي به امانته ويستغني به عن خلق ربه ) وقال على كرم الله تعالى وجهه الفقر الموت الأكبر وقد استعاذ رسول الله من الكفر والفقر وعذاب القبر وقيل من حفظ دنياه حفظ الأكرمين دينه وعرضه قال الشاعر
( لا تلمني إذا وقيت الأواقي ... بالأواقي لماء وجهي واقي ) وقال لقمان لابنه يابني اكلت الحنظل وذقت الصبر فلم ار شيئا أمر من الفقر فان افتقرت فلا تحدث به الناس كيلا ينتقصوك ولكن اسأل الله تعالى من فضله فمن ذا الذي سأل الله فلم يعطه أو دعاه فلم يجبه أو تضرع اليه فلم يكشف ما به
وكان العباس رضي الله

تعالى عنه يقول الناس لصاحب المال الزم من الشعاع للشمس وهو عندهم أعذب من الماء وارفع من السماء وأحلى من الشهد وأزكى من الورد خطؤه صواب وسيئاته حسنات وقوله مقبول يرفع مجلسه ولا يمل حديثه والمفلس عند الناس اكذب من لمعان السراب واثقل من الرصاص لا يسئل عليه ان قدم ولا يسلم عنه ان غاب ان حضر اردوه وان غاب شتموه وان غضب صفعوه مصافحته تنقض الوضوء وقراءته تقطع الصلاة
وقال بعضهم طلبت الراحة لنفسي فلم أجد لها أروح من ترك ما لا يعنيها وتوحشت في البرية فلم أر وحشة أقر من قرين السوء وشهدت الزحوف وغالبت الأقران فلم أر قرينا أغلب للرجل من المرأة السوء ونظرت الى كل ما يذل القوي ويكسره فلم أر شيئا أذل له ولا أكبر من الفاقة
( وكل مقل حين يغدو لحاجة ... الى كل ما يلفى من الناس مذنب )
( وكانت بنو عمي يقولون مرحبا ... فلما رأوني معدما مات مرحب ) وقال آخر
( المال يرفع سقفا لا عماد له ... والفقر يهدم بيت العز والشرف ) وقال آخر
( جروح الليالي ما لهن طبيب ... وعيش الفتى بالفقر ليس يطيب )
( وحسبك ان المرء فى حال فقره ... تحمقه الاقوام وهو لبيب )
( ومن يغترر بالحادثات وصرفها ... يبت وهو مغلوب الفؤاد سليب )
( وما ضرني ان قال أخطأت جاهل ... إذا قال كل الناس أنت مصيب ) وقال آخر
( الفقر يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسود بغير السيد المال ) وقال آخر
( لعمرك ان المال قد يجعل الفتى ... سنيلا وأن الفقر بالمرء قد يزري )

( وما رفع النفس الدنية كالغنى ... ولا وضع النفس النفيسة كالفقر ) وقال آخر
( إذا قل مال المرء لانت قناته ... وهان على الأدنى فكيف الأباعد )
وقال ابن الأحنف
( يمشي الفقير وكل شيء ضده ... والناس تغلق دونه أبوابها )
( وتراه مبغوضا وليس بمذنب ... ويرى العداوة لا يرى أسبابها )
( حتى الكلاب اذا رأت ذا ثروة ... خضعت لديه وحركت أذنابها )
( وإذا رأت يوما فقيرا عابرا ... نبحت عليه وكشرت أنيابها ) وقال آخر
( فقر الفتى يذهب أنواره ... مثل اصفرار الشمس عند المغيب )
( والله ما الانسان فى قومه ... إذا بلي بالفقر الا غريب ) وقال آخر
( إن الدراهم في الموطن كلها ... تكسو الرجال مهابة وجمالا )
( فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السلاح لمن أراد قتالا ) وقال آخر
( ما الناس الا مع الدنيا وصاحبها ... فكلما انقلبت يوما به انقلبوا )
( يعظمون أخا الدنيا فان وثبت ... يوما عليه يما لا يشتهي وثبوا ) وقال بعض الفرس من زعم انه لا يحب المال فهو عندي كذاب . وقال الكناني
( أصبحت الدنيا لنا عبرة ... فالحمد لله على ذلكا )
( قد أجمع الناس على ذمها ... وما أرى منهم لها تاركا ) وقال الزمخشري
( وإذا رأيت صعوبة في مطلب ... فاحمل صعوبته على الدينار )

( وابعثه فيما تشتهيه فإنه ... حجر يلين قوة الأحجار )
قال الثوري رحمه الله تعالى لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى لئيم وفي هذا المعنى قال الشاعر
( احفظ عرى مالك تحظى به ... ولا تفرط فيه تبقى ذليل )
( وإن يقولوا باخل بالعطا ... فالبخل خير من سؤال البخيل )
( واحفظ على نفسك من زلة ... يرى عزيز القوم فيها ذليل )
وأما ما جاء في الاحتراز على الأموال
فقد قالوا ينبغي لصاحب المال أن يحترز ويحتفظ عليه من المطمعين و المبرطحين والمحترفين والموهمين والمتنسمين
فأما المطمعون فهم الذين يتلقون أصحاب الاموال بالبشر والاكرام والتحية والاعظام إلى أن يأنسوا بهم ويعرفوهم بالمشاهدة وربما قضوا ما قدروا عليه من حوائجهم الى أن يألفوهم ويحصل بينهم سبب الصداقة ثم ان أحدهم يذكر لصاحب المال في معرض المقال أنه كسب فائدة كثيرة في معيشته ثم يمشي معه في الحديث الى ان يقول اني فكرت فيما عليك من المؤن والنفقات وهذا أمر يعود ضرره في المستقبل ان لم تساعد بالمكاسب وغرضي التقرب اليك ونصحك وخدمتك وأريد أن أوجه إليك فائدة من المتجر بشرط ان لا أضع يدي لك على مال بل يكون مالك تحت يدك أو تحت يد أحد من جهتك
ويخرج له في صفة الناصحين المشفقين فإذا أجابه الى ذلك كان أمره معه على قسمين أن ائتمنه وجعل المال بيده أعطاه اليسير منه على صفة أنه من الربح وطاول به الأوقات ودفع اليه في المدة الطويلة الشيء اليسير من ماله ثم يحتج عليه ببعض الآفات ويدعي الخسارة فإن لزمه صاحب المال قابحه وبرطل من جملة المال صاحب جاه فيدفعه ويقول هذا راباني فإن روعي

صاحب المال وفق بينهما على ان يكتب عليه ببقية المال وثيقة فلا يستوفي ما فيها الا في الاخرة وان هو لم يأتمنه وعول ان يكون القبض بيده والمتاع مخزونا لديه واطأ عليه البائعين والمشترين وحصل لنفسه وعمل ما يقول به فان حصل لصاحب المال أدنى ربح أوهمه ان مفاتيح الأرزاق بيده وان كسد المشترى او رخص احال الامر على الاقدار وقال ليس لي علم بالغيب ومن أشد المطمعين المتعرضون لصنعة الكيمياء وهم الطماعون المطمعون في عمل الذهب والفضة من غير معدنها فيجب أن يحذر التقرب منهم والاستماع لهم في شيء من حديثهم فإن كذبهم ظاهر وذلك أنهم يوهمون الغير أنهم ينيلونهم خيرا ويطلعونهم على صنعتهم ابتداء منهم لا لحاجة وهذا يستحيل ويحتجون بأن ما يلجئهم إلى ذلك إلا عدم الامكان وتعذر المكان فمنهم من يكون شوقه إلى أن يدخل إلى مكان ويترك عنده عدة لها قيمة فيأخذها وينسحب ومنهم من يشترط أن عمله لا ينتهي إلى مدة فيقنع في تلك المدة بالأكل غدرة وعشية وسبيله بعد ذلك إن كان معروفا قال فسد علي العمل من جهة كيت وكيت ويقول للذي ينفق عليه هل لك في المعاودة فان حمله الطمع ووافقه كان هذا له أتم غرض ثم يحتال آخر المدة على الفراق بأي سبب كان وإن كان منكورا غافل صاحب المكان وخرج هاربا ومن المطمعين قوم يجعلون في الجبال أمارات من ردم وحجر ويأتون إلى أصحاب الأموال ويقولون إنا نعرف علم كنز فيه من الإمارات كيت وكيت ثم يوقفونهم على ورقة متصنعة ويقولون نريد أن تأخذ لنا عدة تنفق علينا ومهما حصل من فضل الله تعالى لنا ولك فيوافقهم على ذلك ويوطن نفسه على أن المدة تكون قريبة فيعملون يوما أو يومين فيظهر لهم أكثر الامارات فيزداد طمعا ويعتقد الصحة ثم يدرجونه إلى أن ينفق عليهم ما شاء الله تعالى ويكون آخر أمرهم كصاحب الكيمياء وإن كانوا منكورين ورغبتهم الطمعة في قماشه أو في العدة التي معه فربما قتلوه هناك لأجل ذلك ومضوا فهذا أمر المطمعين

وأما المبرطحون فهم من الخونة والناس بهم أكثر غررا وذلك أنهم إذا ندب صاحب المال أحد منهم لشراء حاجة سارع فيها واحتاط في جودتها وتوفير كيلها أو وزنها أو درعها ووضع من أصل ثمنها شيئا وزنه من عنده حتى يبيض وجهه عند صاحب المال ويعتقد نصحه وأمانته ونجح مساعيه وكذلك إن ندبه لشيء يبيعه استظهر واستجاد النقد ولا يزال هكذا دأبه حتى يلقى مقاليد أموره إليه فيستعطفه ويفوز به ثم يغير الحال الأول في الباطن فينبغي لصاحب المال أن لا يغفل عنه
وأما المحترفون الموهمون فهم الذين يتعرضون لذوي الأموال فيظهرون لهم الغنى والكفاية ويباسطونهم مباسطة الأصدقاء ويعتمدون جودة اللباس ويستعملون كثيرا من الطيب ثم إن أحدهم يذكر أنه يربح الأرباح العظيمة فيما يعانيه ويذكر ذلك مع الغير ولا يزال كذلك حتى يثبت ويستقر في ذهن صاحب المال أنه يكتسب في كل سنة الجمل الكثيرة من المال وأنه لا يبالي إذا أنفق أو أكل أو شرب فتشره نفس صاحب المال لذلك فيقول له على سبيل المداعبة يا فلان تريد الدنيا كلها لنفسك
لم لا تشركنا في متاجرك هذه وأرباحك ؟ فيقول له أنت جبان يعز عليك إخراج الدينار وتظن أنك إن أظهرته خطف منك ولا تدري أنه مثل البازي إن أرسلته أكل وأطعمك وإن أمسكته لم يصد شيئا واحتجت إلى أن تطعمه وإلا مات وأنا والله لو كان عندي علم أنك تنبسط لهذا كنت فعلت معك خيرا كثيرا ولكن ما كان إلا هكذا وما كان لا كلام فيه والعمل في المستأنف فيشكره صاحب المال ويسأله أخذ المال فيمطله بتسليمه فيزداد فيه رغبة إلى أن يسلمه إليه فيكون حاله كحال المطمع إذا صار المال تحت يده
وأما المتنسمون فهم أهل الرياء المظهرون التعفف والنسك ومجانبة ومجانبة الحرام ومواظبة

الصلاة والصيام لكي يشتهر ذكرهم عند الخاص والعام ثم يلقون ذوي الأموال بالبشر والاكرام والتلطف في المقال ويمشون إلى أبواب الملوك على صفة التهاني بالأعياد وربما يأتي معه بأحد من الأولاد ويظهرون النزاهة والغنى ويجعلون الدين سلما إلى الدنيا وأكثر أغراضهم أن تودع عندهم الأموال وتفوض إليهم الوصايا ويجلهم العوام وتقبل شهادتهم الحكام وتندبهم الملوك إلى الوصايا والأموال وهؤلاء أشر من اللصوص والقطاع وذلك أن شهرة اللصوص والقطاع تدعو إلى الاحتراز منهم وتشبه هؤلاء بأهل الخير يحمل الناس على الاغترار بهم
قال الشاعر
( صلى وصام لأمر كان أمله ... حتى حواه فما صلى ولا صاما ) وقيل لا فقير أفقر من غنى يأمن الفقر قال الشاعر
( ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى ... وأن الغنى يخشى عليه من الفقر ) وأوصى بعض الحكماء ولده فقال له يا بني عليك بطلب العلم وجمع المال فإن الناس طائفتان خاصة وعامة فالخاصة تكرمك للعلم والعامة تكرمك للمال وقال بعض الحكماء إذا افتقر الرجل اتهمه من كان به موثقا وأساء به الظن من كان ظنه حسنا ومن نزل به الفقر والفاقة لم يجد بدا من ترك الحياء ومن ذهب حياؤه ذهب بهاؤه وما من خلة هي للغنى مدح إلا وهي للفقير عيب فإن كان شجاعا سمي أهوج وإن كان مؤثرا سمي مفسدا وإن كان حليما سمي ضعيفا وإن كان وقورا سمي بليدا وإن كان لسنا سمي مهذارا وإن كان صموتا سمي عييا قال ابن كثير
( الناس أتباع من دامت له نعم ... والويل للمرء إن زلت به القدم )
( المال زين ومن قلت دراهمه ... حي كمن مات إلا أنه صنم )
( لما رأيت إخلائي وخالصتي ... والكل مستتر عني ومحتشم )
( أبدوا جفاء وإعراضا فقلت لهم ... أذنبت ذنبا فقالوا ذنبك العدم )

وكان ابن مقلة وزيرا لبعض الخلفاء فزور عنه يهودي كتابا إلى بلاد الكفار وضمنه أمورا من أسرار الدولة ثم تحيل اليهودي إلى أن وصل الكتاب إلى الخليفة فوقف عليه وكان عند ابن مقلة حظية هويت هذا اليهودي فأعطته درجا بخطه فلم يزل يجتهد حتى حاكى خطه ذلك الخط الذي كان في الدرج فلما قرأ الخليفة الكتاب أمر بقطع يد ابن مقلة وكان ذلك يوم عرفة وقد لبس خلعة العيد ومضى إلى داره وفي موكبه كل من في الدولة فلما قطعت يده وأصبح يوم العيد لم يأت أحد إليه ولا توجع له ثم اتضحت القضية في أثناء النهار للخليفة أنها من جهة اليهودي والجارية فقتلهما أشر قتلة ثم أرسل إلى ابن مقلة أموالا كثيرة وخلعا سنية وندم من فعله واعتذر إليه فكتب ابن مقلة على باب داره يقول
( تحالف الناس والزمان ... فحيث كان الزمان كانوا )
( عاداني الدهر نصف يوم ... فانكشف الناس لي وبانوا )
( يا أيها المعرضون عني ... عودوا فقد عاد لي الزمان ) ثم أقام بقية عمره يكتب بيده اليسرى
قال بعضهم
( إنما قوة الظهور النقود ... وبها يكمل الفتى ويسود )
( كم كريم أزرى به الدهر يوما ... ولئيم تسعى إليه الوفود ) والأطباء يعلمون أمراضا من علاجها اللعب بالدينار وشرب الأدوية والمساليق التي يغلى فيها الذهب
قال الشاعر
( احرص على الدرهم والعين ... تسلم من العيلة والدين )
( فقوة العين بإنسانها ... وقوة الإنسان بالعين ) واعلم أن القلب عمود البدن فإذا قوي القلب قوي سائر البدن وليس له قوة أشد من المال
وبالضد إذا ضعف الفقر له البدن

حكي أن ملكا رأى شيخا قد وثب وثبة عظيمة على نهر فتخطاه والشاب يعجز عن ذلك فعجب منه فاستحضره فحادثه في ذلك فأراه ألف دينار مربوطة على وسطه
وقال لقمان لابنه يا بني شيئان إذ أنت حفظتهما لا تبالي بما صنعت بعدهما دينك لمعادك ودرهمك لمعاشك
والكلام في هذا المعنى كثير
وقد اقتصرت منه على النزر اليسير وقد كان في الناس من يتظاهر بالغنى ويراه مروءة وفخرا
فمن ذلك ما حكي عن أحمد بن طولون أنه دخل يوما بعض بساتينه فرأى النرجس وقد تفتح زهرة فاستحسنة فدعا بغدائه فتغدى ثم دعا بشرابه فشرب فلما انتشى قال علي بألف مثقال من المسك فنثره على أوراق النرجس ولنذكر الآن نبذة من الذخائر والتحف
حكى الرشيد بن الزبير في كتابه الملقب بالعجائب والطرف أن أبا الوليد ذكر في كتابه المعروف بأخبار مكة أن رسول الله لما فتح مكة عام الفتح في سنة ثمان من الهجرة وجد في الجب الذي كان في الكعبة سبعين ألف أوقية من الذهب مما كان يهدى للبيت قيمتها ألف ألف وتسعمائة ألف وتسعون ألف دينار
وباع زهرة التميمي يوم القادسية منطقة كان قد قتل صاحبها بثمانين ألف دينار ولبس سلبه وقيمته خمسمائة ألف وخمسون ألفا
وأصاب رجل يوم القادسية راية كسرى فعوض عنها ثلاثين ألف دينار وكانت قيمتها ألف ألف دينار ومائتي ألف ووجد المستورد بن ربيعة يوم القادسية أبريق ذهب مرصعا بالجوهر فلم يدر أحد ما قيمته فقال رجل ن الفرس أنا آخذه بعشرة آلاف دينار ولم يعرف قيمته فذهب إلى سعد بن أبي وقاص فأعطاه إياه وقال لا تبعه إلا بعشرة آلاف دينار فباعه سعد بمائة ألف دينار ولما أتت الترك إلى عبد الله بن زياد ببخارى في سنة أربع وخمسين كان مع ملكهم امرأته خانون فلما هزمهم الله تعالى أعجلوها عن لبس خفها فلبست إحدى فردتيه ونسيت الأخرى فأصابها المسلمون فقومت بمائتي ألف دينار ولما فتح قتيبة بن مسلم بخارى في سنة تسع وثمانين وجد فيها قدر ذهب ينزل إليها بسلالم ودفع مصعب ابن الزبير حين

أحس بالقتل الى زياد مولاه فصا من ياقوت احمر وقال له انج به وكان قد قوم ذلك الفص بألف ألف درهم فأخذه زياد ورضه بين حجرين وقال والله لا ينتفع به أحد بعد مصعب
وذكر مصعب بن الزبير ان بعض عمال خراسان في ولايته ظهر على كنز فوجد فيه حلة كانت لبعض الأكاسرة مصوغه من الذهب مرصعة بالدر والجواهر والياقوت الأحمر والأصفر والزبر جد فحملها الى مصعب بن الزبير فخرج من قومها فبلغت قيمتها ألفي ألف دينار فقال إلى من ادفعها ؟ فقيل إلى نسائك وأهلك
فقال لا بل إلى رجل قدم عندنا يدا وأولانا جميلا ادع لي عبد الله بن أبي دريد فدفعها إليه
ولما صار موجود عماد الدولة في قبضة أمير الجيوش وجد في جملته دملج ذهب فيه جوهرة حمراء كالبيضة وزنها سبعة عشر مثقالا فأنفذها أمير الجيوش الى المستنصر فقومت بتسعين ألف دينار ووجد في بستان العباس بن الحسن الوزير مما أعد له من آلة الشرب يوم قتل سبعمائة صينية من ذهب وفضة ووجد له مائة الف مثقال عنبر
وترك هشام بن عبد الملك بعد موته اثنى عشر الف قميص وشي وعشرة آلاف تكة حرير وحملت كسوته لما حج على سبعمائة جمل وترك بعد وفاته احد عشر الف ألف دينا ولم تأت دولة بني العباس الا وجميع أولاده فقراء لا مال لواحد منهم وبين الدولة العباسية ووفاة هشام سبع سنين ولما قتل الأفضل بن أمير الجيوش في شهر رمضان سنة خمس عشرة وخمسمائة خلف بعده مائة ألف ألف دينار ومن الدراهم مائة وخمسين اردبا وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج ودواة من الذهب قوم ما عليها من الجواهر واليواقيت بمائتي ألف دينار وعشرة بيوت في كل بيت منها مسمار ذهب قيمته مائة دينار على كل مسمار عمامة لونا وخلف كعبة عنبر يجعل عليه ثيابه اذا نزعها وخلف عشرة صناديق مملوءة من الجوهر الفائق الذي لا يوجد مثله وخلف خمسمائة صندوق كبار لكسوة حشمه وخلف من الزبادي الصيني والبلور المحكم وسق مائة جمل وخلف عشرة آلاف ملعقة فضة وثلاثة آلاف ملعقة ذهب

آلاف زباية فضة كبار وصغار وأربع قدور ذهبا كل قدر وزنها مائة رطل وسبعمائة جام ذهبا بفصوص زمرد وألف خريطة مملوءة دراهم خارجا عن الارادب في كل خريطة عشرة الاف درهم وخلف من الخدم والرقيق والخيل والبغال والجمال وحلى النساء ما لا يحصى عدده الا الله تعالى وخلف ألف حسكة ذهبا وألفي حسكة فضة وثلاثة آلاف نرجسة ذهبا وخمسة آلاف نرجسة فضة وألف صورة ذهبا وألف صورة فضة منقوشة عمل المغرب وثلاثمائة تور ذهبا وأربعة آلاف تور فضة وخلف من البسط الرومية والأندلسية ما ملأ به خزائن الايوان وداخل قصر الزمرد وخلف من البقر والجاموس والأغنام ما يباع لبنه في كل سنة بثلاثين الف دينار وخلف من الحواصل المملوءة من الحبوب ما لا يحصى ولما احتوى الناصر على ذخائر قصر العاضد وجد فيه طبلا كان بالقرب من موضع العاضد محتفظا به فلما رأوه سخروا منه فضرب عليه انسان فضرط فضحكوا منه ثم أمسكه آخر وضربه فضرط فضحكوا عليه فكسروه استهزاء وسخرية ولم يدروا خاصيته وكانت الفائدة فيه أنه وضع للقولنج فلما أخبروا بخاصيته ندموا على كسره
وقد جمعت الملوك من الأموال والذخائر والتحف كنوزا لا تحصى وبعد ذلك ماتوا ونفذت ذخائرهم وفنيت أموالهم فسبحان من يدوم ملكه وبقاؤه
قال بعضهم
( هب الدنيا تقاد اليك عفوا ... اليس مصير ذلك للزوال ) فضمنت أنا هذا البيت وقلت
( أيا من عاش في الدنيا طويلا ... وأفنى العمر في قيل وقال )
( وأتعب نفسه فيما سيفني ... وجمع من حرام أو حلال )
( هب الدنيا تقاد اليك عفوا ... اليس مصير ذلك للزوال ) وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثاني والخمسون في ذكر الفقر ومدحه قد دل قوله تعالى ( كلا ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى ) على ذم الغنى ان كان سبب الطغيان
وسئل ابو حنيفة رحمه الله تعالى عن الغنى والفقر فقال وهل طغى من طغى من خلق الله عز و جل الا بالغنى وتلا هذه الآية المتقدمة والمحققون يرون الغنى والفقر من قبل النفس لا في المال وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يرون الفقر فضيلة وحدث الحسن رضي الله عنه أن رسول الله قال يدخل فقراء امتي الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاما فقال جليس للحسن أمن الأغنياء أنا أو من الفقراء ؟ فقال هل تغديت اليوم ؟ فال نعم قال فهل عندك ما تتعشى به ؟ قال نقم قال فإذا أنت من الأغنياء وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان النبي يبيت طاويا ليالي ما له ولا لأهله عشاء وكان عامة طعامه الشعير وكان تعصب الحجر على بطنه من الجوع وكان يأكل خبز الشعير غير منخول هذا وقد عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض فأبى أن يقبلها صلوات الله وسلامه عليه وكان يقول ( اللهم توفني فقيرا ولا تتوفني غنيا واحشرني في زمرة المساكين ) وقال جابر رضي الله تعالى عنه دخل النبي على ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل فبكي وقال ( تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة ) قال الله تعالى ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) وقال

موهبة من مواهب الآخرة وهبها الله تعالى لمن اختاره ولا يختار الا أولياء الله تعالى ) وفي الخبر اذ كان يوم القيامة يقول الله عز و جل لملائكته أدنوا الى أحبائي فتقول الملائكة ومن أحباؤك يا اله العالمين ؟ فيقول فقراء المؤمنين أحبائي فيدنونهم منه فيقول يا عبادي الصالحين إني ما زويت الدنيا عنكم لهوانكم على ولكن لكرامتكم تمتعوا بالنظر الي وتمتعوا ما شئتم فيقولون وعزتك وجلالك لقد أحسنت الينا بما زويت عنا منها ولقد أحسنت بما صرفت عنا فيأمر بهم فيكرمون ويحبرون ويزفون الى أعلى مراتب الجنان
وقال ( هل تنصرون الا بفقرائكم وضعفائكم والذي نفسي بيده ليدخلن فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام والأغنياء يحاسبون على زكاتهم ) وقال عليه الصلاة و السلام ( رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله تعالي لأبره أي لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئا
وقال عليه الصلاة و السلام ( إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به الذين اذا استأذنوا على الأمير لا يؤذن لهم وإن خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لهم
حوائج أحدهم تتلجلج في صدره لم قسم نوره على الناس يوم القيامة لوسعهم )
وروي عن خالد ين عبد العزيز أنه قال كان حيوة ين شريح من البكائين وكان ضيق الحال جدا فجلست اليه ذات يوم وهو جالس وحده يدعو فقلت له يرحمك الله لو دعوت الله تعالى ليوسع عليك في معيشتك قال فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا فأخذ حصاة من الأرض وقال اللهم اجعلها ذهبا فإذا هي تبرة في كفه ما رأيت أحسن منها قال فرمى بها الى وقال هو أعلم بما يصلح عباده فقلت ما أصنع بهذه ؟ قال انفقها على عيالك فهبته والله أن أرجها عليها وقال عون بن عبد الله صحبت الأغنياء فلم أجد فيهم أحدا أكثر مني هما لأني كنت أرى ثيابا أحسن من ثيابي ودابة أحسن من دابتي ثم صحبت الفقراء بعد ذلك فاسترحت
قال بعضهم
( وقد يهلك الأنسان كثرة ماله ... كما يذبح الطاوس من أجل ريشه )

عبد الله بن طاهر
( ألم تر أن الدهر يهدم مابنى ... ويأخذ ما أعطى ويفسد ما أسدى )
( فمن سره أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئا ينال به فقدا ) وكان من دعاء السلف رضي الله تعالى عنهم ( اللهم اني أعوذ بك من ذل الفقر وبطر الغني ) وقيل مكتوب على باب مدينة الرقة ويل لمن جمع المال من غير حقه وويلان لمن ورثه لمن لا يحمده وقدم على من لا يعذره ولما فتحت بلخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وجد على بابها صخرة مكتوب فيها إنما يتبين الفقير من الغني بعد الانصراف من بين يدي الله تعالى أي بعد العرض قال الشاعر
( ومن يطلب الأعلى من العيش لم يزل ... حزينا على الدنيا رهين غبونها )
( إذا شئت أن تحيا سعيدا فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها )
وقال آخر
( ولا ترهبن الفقر ما عشت في غد ... لكل غد رزق من الله وارد )
وقال هارون بن جعفر الطالبي
( بوعدت همتي وقورب مالي ... ففعالي مقصر عن مقالي )
( ما اكتسى الناس مثل ثوب اقتناع ... وهو من بين ما اكتسوا سربالي )
( ولقد تعلم الحوادث أني ... ذو اصطبار على صروف الليالي ) وقال اعرابي من ولد في الفقر أبطره الغنى ومن ولد في الغنى لم يزده إلا تواضعا فما أحسن الفقر وأكثر ثوابه وأعظم أجر من رضي به وصبر عليه اللهم اجعلنا من الصابرين برحمتك يا أرحم الراحمين يارب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الباب الثالث والخمسون في التلطف في السؤال وذكر من سئل فجاد
روى الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال " أعطوا السائل ولو جاء على فرس "
وما سئل عليه السلام شيئا قط فقال لا
وأتى إعرابي إلى علي رضي الله تعالى عنه فسأله شيئا فقال والله ما أصبح في بيتي شيء فضل عن قوتي فولى الاعرابي وهو يقول والله ليسألنك الله عن موقفي بين يديك يوم القيامة فبكى علي رضي الله تعالى عنه بكاء شديدا وأمر برده وقال يا قنبر ائتني بدرعي الفلانية فدفعها إلى الاعرابي وقال لا نخدعن عنها فطالما كشفت بها الكروب عن وجه رسول الله فقال قنبر يا أمير المؤمنين كان يجزيه عشرون درهما فقال يا قنبر والله ما يسرني أن لي زنة الدنيا ذهبا وفضة فتصدقت به وقبل الله مني ذلك وإنه يسألني عن موقف هذا بين يدي وقال علي رضي الله تعالى عنه إن لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح وقال مسلمة لنصيب سلني فقال كفك بالعطية أبسط من لساني بالمسألة فقال لحاجبه إدفع اليه ألف دينار وسأل رجل الحسن رضي الله تعالى عنه فقال له ما وسيلتك ؟ قال وسيلتي أني أتيتك عام أول فبررتني فقال مرحبا بمن توسل إلينا بنا ثم وصله وأكرمه
ويقال الكريم إذا سئل ارتاح واللئيم إذا سئل ارتاع
ولما وفد المهدي من الري إلى العراق امتدحه الشعراء فقال أبو دلامة
( إني نذرت لئن رأيتك قادما ... أرض العراق وأنت ذو وقر )

( لتصلين على النبي محمد ... ولتملأن دراهما حجري ) فقال المهدي صلى الله على محمد فقال أبو دلامة ما أسرعك للأولى وأبطأك عن الثانية فضحك وأمر ببدرة فصبت في حجره وسمع الرشيد أعرابيه بمكة تقول
( طحنتنا كلاكل الأعوام ... وبرتنا طوارق الأيام )
( فأتيناكمو نمد أكفا ... لالتقام من زادكم والطعام )
( فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا ... أيها الزائرون بيت الحرام ) فبكى الرشيد وقال لمن معه سألتكم بالله تعالى إلا ما دفعتم إليها صدقاتكم فألقوا عليها الثياب حتى واربها كثرة وملأوا حجرها دراهم ودنانير
وسأل اعرابي بمكة وأحسن في سؤاله فقال أخ في الله وجار في بلد الله وطالب خير من عند الله فهل من أخ يواسيني في الله
قال الشاعر
( ليس في كل وهلة وأوان ... تتهيا صنائع الإحسان )
( فاذا أمكنت فبادر إليها ... حذرا من تعذر الامكان )
وقال البصري
( أضحت حوائجنا إليك مناخة ... معقولة برحابك الوصال )
( أطلق فديتك بالنجاح عقالها ... حتى تثور بنا بغير عقال ) وعن علي رضي الله تعالى عنه قال يا كميل مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ويدلجوا في حاجة من هو نائم فوالذي وسع سمعه الأصوات ما من أحد أودع قلبا سرورا إلا خلق الله تعالى من ذلك السرور لطفا فإذا نابته نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الابل
وقال لجابر بن عبد الله يا جابر من كثرت نعم الله

عليه كثرت حوائج الناس إليه فإذا قام بما يجب لله فيها فقد عرضها للدوام والبقاء ومن لم يقم بما يجب لله فيها عرض نعمه لزوالها
وكان لبيد رحمه الله تعالى آلى على نفسه كلما هبت الصبا أن ينحر ويطعم وربما ذبح العتاق إذا ضاق الخناق فخطب الوليد بن عتبة يوما فقال قد علمت ما جعل أبو عقيل على نفسه فأعينوه على مروءته ثم بعث إليه بخمس من الابل وبهذه الأبيات
( أرى الجزار يشحذ مديتيه ... إذا هبت رياح بني عقيل )
( طويل الباع أبلج جعفري ... كريم الجد كالسيف الصقيل )
( وفي ابن الجعبري بما نواه ... على العلات بالمال القليل ) فدعا لبيد بنتا له خماسية وقال يا بنية إني تركت الشعر فأجيبي الأمير عني فقالت
( إذا هبت رياح بني عقيل ... تداعينا لهبتها الوليدا )
( طويل الباع أبلج عبشمي ... أعان على مروءته لبيدا )
( بأمثال الهضاب كأن رعيا ... عليها من بني حام قعودا )
( أبا وهب جزاك الله خيرا ... نحرناها وأطعمنا الثريدا )
( فعد إن الكريم له معاد ... وظني في ابن عتبة أن يعودا ) فقال لقد أحسنت والله يا بنية لولا أنك سألت وقلت عد فقالت يا أبت إن الملوك لا يستحيا منهم في المسئلة فقال والله لأنت في هذا أشعر مني
ووفد رجل من بني ضبة على عبد الملك فأشده
( والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلب )
( ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحدا سواك إلى المكارم ينسب )
( فاصبر لعادتك التي عودتنا ... أولا فارشدنا إلى من نذهب )

له بألف دينار فعاد إليه من قابل وقال يا أمير المؤمنين إن الروي لينازعني وإن الحياء يمنعني فأمر له بألف دينار وقال والله لو قلت حتى تنفد بيوت الأموال لأعطيتك
وقيل إن رجلا عرض للمنصور فسأله حاجة فلم يقضها فعرض له بعد ذلك فقال له المنصور أليس قد كلمتني مرة قبل هذه ؟ قال نعم يا أمير المؤمنين ولكن بعض الأوقات أسعد من بعض وبعض البقاع أعز من بعض فقال صدقت وقضى حاجته وأحسن إليه
وروي أن أبا دلامة الشاعر كان واقفا بين يدي السفاح في بعض الأيام فقال له سلني حاجتك
فقال كلب صيد فقال أعطوه إياه فقال ودابة أصيد عليها فقال أعطوه دابة فقال وغلاما يقود الكلب ويصيد به قال أعطوه غلاما قال وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه قال أعطوه جارية فقال هؤلاء يا أمير المؤمنين عيال ولا بد لهم من دار يسكنونها
فقال أعطوه دارا تجمعهم قال فان لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون ؟ قال قد أقطعته عشر ضياع عامرة وعشرة ضياع غامرة فقال ما الغامرة يا أمير المؤمنين ؟ قال ما لا نبات فيها قال قد أقطعتك يا أمير المؤمنين مائة ضيعة غامرة من فيافي بني أسد فضحك وقال اجعلوها كلها عامرة
فانظر إلى حذقه بالمسئلة ولطفه فيها كيف ابتدأ بكلب صيد فسهل القضية وجعل يأتي بمسئلة بعد مسألة على ترتيب وفكاهة حتى سأل ما سأله ولو سأل ذلك بديهة لما وصل إليه
وحكي عن المأمون أنه قال ليحيى بن أكثم يوما سر بنا نتفرج فسارا فبينما هما في الطريق وإذا بمقصبة خرج منها رجل بقصبة للمأمون يتظلم له فنفرت دابته فألقته على الأرض صريعا فأمر بضرب عنق ذلك الرجل فقال يا أمير المؤمنين إن المضطر يرتكب الصعب من الأمور وهو عالم به ويتجاوز حد الأدب وهو كاره لتجاوزه ولو أحسنت الأيام مطالبتي لأحسنت مطالبتك ولأنت علي ما لم تفعل أقدر مني على رد ما قد فعلت قال فبكى المأمون وقال بالله أعد علي

قلت فأعاده فالتفت المأمون إلى يحيى بن أكثم وقال أما تنظر إلى مخاطبة هذا الرجل بأصغريه ؟ والنبي يقول " المرء بأصغريه قلبه ولسانه "
والله لا وقفت لك إلا وأنا قائم على قدمي فوقف وأمر له بصلة جزيلة واعتذر إليه فلما هم المأمون بالانصراف قال الرجل يا أمير المؤمنين بيتان قد حضراني ثم أنشد يقول
( ما جاد بالوفر إلا وهو معتذر ... ولا عفا قط إلا وهو مقتدر )
( وكلما قصدوه زاد نائله ... كالنار يوخذ منها وهي تستعر )
وقيل إن بعض الحكماء لزم باب كسرى في حاجة دهرا فلم يوصل إليه فكتب أربعة أسطر في ورقة ودفعها للحاجب فكان في السطر الأول العديم لا يكون معه صبر على المطالبة وفي السطر الثاني الضرورة والأمل أقدماني عليك وفي السطر الثالث الانصراف من غير فائدة شماتة الأعداء وفي السطر الرابع أما نعم فمثمرة وأما لا فمريحة
فلما قرأها كسرى دفع له في كل سطر ألف دينار
وحكي أن رجلا كان جارا لابن عبيد الله فأصاب الناس قحط بالعراق حتى رحل أكثر الناس عنه فعزم جار ابن عبيد الله على الخروج من البلاد في طلب المعيشة وكانت له زوجة لا تقدر على السفر فلما رأت زوجها تهيأ للسفر قالت له إذا سافرت من الذي ينفق علينا ؟ قال إن لي على ابن عبيد الله دينار ومعي به أشهاد عليه شرعي فخذي الأشهاد وقدميه إليه فإذا قرأه أنفق عليك مما عنده حتى أحضر ثم ناولها رقعة كتب فيها هذه الأبيات يقول
( قالت وقد رأت الأحمال محدجة ... والبين قد جمع المشكو والشاكي )
( من لي إذا غبت في ذا المحل قلت لها ... الله وابن عبيد الله مولاكي ) فمضت إليه المرأة وحكت له ما قال زوجها وأخبرته بسفره وناولته الرقعة فقرأها وقال صدق زوجك وما زال ينفق عليها

بالبر والاحسان إلى أن قدم زوجها فشكره على فضله وإحسانه
وحكي أن مطيع بن أياس مدح معن بن زائدة بقصيدة حسنة ثم أنشدها بين يديه فلما فرغ من إنشاده أراد معن أن يباسطه فقال يا مطيع إن شئت أعطيناك وإن شئت مدحناك كما مدحتنا فاستحيا مطيع من اختيار الثواب وكره اختيار المدح وهو محتاج فلما خرج من عند معن أرسل إليه بهذين البيتين
( ثناء من أمير خير كسب ... لصاحب نعمة وأخي ثراء )
( ولكن الزمان برى عظامي ... ومالي كالدراهم من دواء ) فلما قرأها معن ضحك وقال ما مثل الدراهم من دواء وأمر له بصلة جزيلة ومال كثير قال الشاعر
( هززتك لا إني جعلتك ناسيا ... لأمري ولا إني أردت التقاضيا )
( ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجا وإن كان ماضيا )
وقال لآخر
( ماذا أقول إذا رجعت وقيل لي ... ماذا لقيت من الجراد الأفضل )
( إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ... بخل الجواد بماله لم يجمل )
( فاختر لنفسك ما أقول فانني ... لا بد أخبرهم وإن لم أسئل )
وقال آخر
( لنوائب الدنيا خبأتك فانتبه ... يا نائما من جملة النوام )
( أعلى الصراط تزيل لوعة كربتي ... أم في المعاد تجود بالانعام )

ومما يستحسن الحاقه بهذا الباب ذكر شيء مما جاء في ذم السؤال والنهي عنه
روي عن عبد الرحمن بن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه قال كنا عند رسول الله تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال ألا تبايعون رسول الله ؟ فبسطنا أيدينا وكنا حديثي عهد بالمبايعة فقلنا قد بايعناك يا رسول الله فعلام يا رسول الله نبايعك ؟ قال أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وتقيموا الصلوات الخمس وتطيعوا الله وأسر كلمة خفية وهي ولا تسألوا الناس شيئا فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه رواه مسلم وقال رجل لابنه إياك أن تريق ماء وجهك عند من لا ماء في وجهه وكان لقمان يقول لولده يا بني إياك والسؤال فانه يذهب ماء الحياء من الوجه وأعظم من هذا استخفاف الناس بك وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام لأن تدخل يدك فم التنين إلى المرفق خير لك من أن تبسطها إلى غني قد نشأ في الفقر وقيل لأعرابي ما السقم الذي لا يبرأ والجرح الذي لا يندمل ؟ قال حاجة الكريم إلى اللئيم وقال أبو محلم السعدي
( إذا رماك الدهر في الضيق فانتجع ... قديم الغنى في الناس إنك حامده )
( ولا تطلبن الخير ممن أفاده ... حديثا ومن لا يورث المجد والده )
وقال رسول الله " مسألة الناس من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها " وقال عليه الصلاة و السلام " لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه "
قال الشاعر
( ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضا ولو نال الغني بسؤال )
( وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخف كل نوال )
وقال أحمد الأنباري
( لموت الفتى خير من البخل للغنى ... وللبخل خير من سؤال بخيل )

( لعمرك ما شيء لوجهك قيمة ... فلا تلق انسانا بوجه ذليل )
وقال سلم الخاسر
( إذا أذن الله في حاجة ... أتاك النجاح على رسله )
( فلا تسأل الناس من فضلهم ... ولكن سل الله من فضله )
ويقال أحب الناس إلى الله من سأله وأبغض الناس إلى الناس من احتاج إليهم وسألهم وفي هذا المعنى قيل
( لا تسألن من ابن آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تحجب )
( الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسئل يغضب ) وقال محمود الوراق
( شاد الملوك قصورهم وتحصنوا ... من كل طالب حاجة أو راغب )
( فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن ... يا ذا الضراعة طالبا من طالب ) وقال ابن دقيق العيد
( وقائلة مات الكرام فمن لنا ... إذا عضنا الدهر الشديد بنابه )
( فقلت لها من كان غاية قصده ... سؤالا لمخلوق فليس بنابه )
( إذا مات من يرجى فمقصودنا الذي ... ترجينه باق فلو ذي ببابه ) وقال بعض أهل الفضل
( لما افتقرت لصحبي ما وجدتهمو ... لجأت لله لباني وأغناني )
( واها على بذل وجهي للورى سفها ... فلو بذلت إلى مولاي والاني ) وسأل رجل رجلا حاجة فلم يقضها فقال سألت فلانا حاجة أقل من قيمتة فردني رد أقبح من خلقته وسأل عروة مصعبا حاجة فلم يقضها

علم الله تعالى أن لكل قوم شيخا يفزعون إليه وأنا أفزع منك
ويقال لا شيء أوجع للأخيار من الوقوف بباب الأشرار وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى
( بلوت بني الدنيا فلم أر فيهم ... سوى من غدا والبخل ملء إهابه )
( فجردت من غمد القناعة صارما ... قطعت رجائي منهم بذبابه )
( فلا ذا يراني واقفا في طريقه ... ولا ذا يراني قاعدا عند بابه )
( غني بلا مال عن الناس كلهم ... وليس الغنى إلا عن الشيء لا به )
( إذا ظالما يستحسن الظلم مذهبا ... ولج عتوا في قبيح اكتسابه )
( فكله إلى صرف الليالي فإنها ... ستبدي له ما لم يكن في حسابه )
( فكم قد رأينا ظالما متمردا ... يرى النجم تيها تحت ظل ركابه )
( فعما قليل وهو في غفلاته ... أناخت صروف الحادثات ببابه )
( فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى ... ولا حسنات تلتقي في كتابه )
( وجوزي بالأمر الذي كان فاعلا ... وصب عليه الله سوط عذابه ) وقال آخر
( لا تسألن إلى صديق حاجة ... فيحول عنك كما الزمان يحول )
( واستغن بالشيء القليل فانه ... ما صان عرضك لا يقال قليل )
( من عف خف على الصديق لقاؤه ... وأخو الحوائج وجهه مملول )
( وأخوك من وفرت ما في كفه ... ومتى علقت به فأنت ثقيل ) وقال آخر
( ليس جودا أعطيته بسؤال ... قد يهز السؤال غير جواد )
( إنما الجود ما أتاك ابتداء ... لم تذق فيه ذلة الترداد )

وقال آخر
( لا تحسبن الموت موت البلى ... إنما الموت سؤال الرجال )
( كلاهما موت ولكن ذا ... أخف من ذاك لذل السؤال ) وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه
( قنعت بالقوت من زماني ... وصنت نفسي عن الهوان )
( خوفا من الناس أن يقولوا ... فضل فلان على فلان )
( من كنت عن ماله غنيا ... فلا أبالي إذا جفاني )
( ومن رآني بعين نقص ... رأيته بالتي رآني )
( ومن رآني بعين تم ... رأيته كامل المعاني ) والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الرابع والخمسون في ذكر الهدايا والتحف وما أشبه ذلك
قال الله تعالى ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) فسرها بعضهم بالهدية وقال " تهادوا تحابوا فانها تجلب المحبة وتذهب الشحناء " وقال " الهدية مشتركة " وقال " من سألكم بالله فاعطوه ومن استعاذكم فأعيذوه ومن أهدى إليكم كراعا فاقبلوه " وكان يقبل الهدية ويثيب عليها ما هو خير منها وفي الأثر الهدية تجلب المودة إلى القلب والسمع والبصر ومن الأمثال إذا قدمت من سفر فأهد أهلك ولو حجرا
وقال الفضل بن سهل ما استرضى الغضبان ولا استعطف السلطان ولا سلبت السخائم ولا دفعت المغارم ولا استميل المحبوب ولا توقى المحذور بمثل الهدية وأتى فتح الموصلي بهدية وهي خمسون دينارا فقال حدثنا عطاء عن النبي أنه قال " من أتاه الله رزقا من غير مسألة ورده فكأنما رده على الله تعالى " وأهدى رسول الله هدية إلى عمر فردها فقال يا عمر لم رددت هديتي ؟ فقال رضي الله تعالى عنه إني سمعتك تقول خيركم من لم يقبل شيئا من الناس فقال يا عمر إنما ذاك ما كان عن ظهر مسألة فإما إذا أتاك من غير مسألة فإنما هو رزق ساقه الله إليك
وقالت أم حكيم الخزاعية سمعت رسول الله يقول " تهادوا فإنه يضاعف الحب ويذهب بغوائل الصدور "
ويقال في نشر المهاداة طي المعاداة

ذكر أنواع الهدايا للخلفاء وغيرهم ممن قصرت به قدرته فاهدى اليسير وكتب معه مكاتبة يعتذر بها أهدي إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ثمانية أشياء متباينة في يوم واحد
فيلة من ملك الهند وجارية من ملك الترك وفرس من ملك العرب وجوهر من ملك الصين واستبرق من ملك الروم ودرة من ملك البحر وجرادة من ملك النمل وذرة من ملك البعوض
فتأمل ذلك وقال سبحان القادر على جمع الأضداد وأهدى ملك الروم إلى المأمون هدية فقال المأمون أهدوا له ما يكون ضعفها مائة مرة ليعلم عز الإسلام ونعمة الله تعالى علينا ففعلوا ذلك فلما عزموا على حملها قال ما أعز الأشياء عندهم ؟ قالوا المسك والسمور وقال وكم في الهدية من ذلك ؟ قالوا مائتا رطل مسكا ومائتا فروة سمور وأهدت قطر الندى إلى المعتضد بالله في يوم نيروز في سنة اثنتين وثمانين ومائتين هدية كان فيها عشرون صينية ذهب في عشرة منها مشام عنبر وزنها أربعة وثمانون رطلا وعشرون صينية فضة في عشرة منها مشام صندل زنتها نيف وثلاثون رطلا وخمس خلع وشى قيمتها خمسة آلاف دينار وعلمت شمامات ليوم النيروز بلغت النفقة عليها ثلاثة عشر ألف دينار
وأهدى يعقوب بن الليث الصفار إلى المعتمد على الله هدية في بعض السنين من جملتها عشرة بازات منها باز أبلق لم ير مثله ومائة مهر وعشرون صندوقا على عشر بغال فيهم طرائف الصين وغرائبه ومسجد فضة بدرابزين يصلي فيه خمسة عشر إنسانا ومائة رطل من مسك ومائة رطل عود هندي وأربعة آلاف ألف درهم وأهدت ثريا بنت الأوباري ملكة افرنجة وما والاها إلى المكتفي بالله في سنة ثلاث وسبعين ومائتين خمسين سيفا وخمسين رمحا وعشرين ثوبا منسوجا بالذهب وعشرين خادما صقلبيا وعشرين جارية صقلبية وعشرة كلاب كبار لا تطيقها السباع وستة بازات وسبع صقور

ومضرب حرير مثلون بجميع الألوان كلون قوس قزح يتلون في كل ساعة من ساعات النهار وثلاثة أطيار من الأطيار الافرنجية إذا نظرت إلى الطعام أو الشراب المسموم صاحت صياحا منكرا وصفقت بأجنحتها حتى يعلم ذلك وخرزا يجذب النصول بعد نبات اللحم عليها بغير وجع وحمارة وحشية عظيمة الخلقة في قدر البغل وآذانها شبه آذان البغل وهي مخططة تخطيطا عاما لجميع خلقتها
وأهدى قسطنطين ملك الروم إلى المستنصر بالله في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة هدية عظيمة اشتملت قيمتها على ثلاثين قنطار من الذهب الأحمر كل قنطار منها عشرة آلاف دينار عربية قيمة ذلك ثلاثمائة ألف دينار عربية
وحكي أن الخيزران جارية المهدي كانت أديبة شاعرة فعزم المهدي على شرب دواء فأنفذت إليه جام بلور فيه شراب اختارته له مع وصيفة بكر بارعة الجمال وكتبت إليه تقول
( إذا خرج الإمام من الدواء ... وأعقب بالسلامة والشفاء )
( وأصلح حاله من بعد شرب ... بهذا الجام من هذا الطلاء )
( فينعم للتي قد أنفذته ... إليه بزورة بعد العشاء ) فسر بذلك ووقعت الجارية منه أعظم موقع وزار الخيزران وأقام عندها يومين وأهدى الصابي إلى عضد الدولة اسطرلابا في يوم المهرجان وكتب إليه يقول
( أهدى إليك بنو الأملاك واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت تبليه )
( لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... سمو قدرك عن شيء يدانيه )
( لم يرض بالأرض يهديها إليك وقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه ) وأهدى رجل إلى المتوكل قارورة ذهب وكتب معها بأن الهدية إذا كانت من الصغير إلى الكبير فكلما لطفت ودقت كانت أبهى وأحسن وإذا كانت من الكبير إلى الصغير فكلما عظمت وجلت كانت أوقع وأنفع

مرة أبو الهذيل إلى موسى بن عمران دجاجة ووصفها له بصفات جليلة ثم لم يزل يذكرها وكلما ذكر شيء بجمال أو سمن قال هو أحسن أو أسمن من الدجاجة التي أهديتها إليكم وإن ذكر حادث قال ذلك قبل أن أهدي لكم الدجاجة بشهر وما كان بين ذلك وبين إهداء الدجاجة إلا أيام قلائل فصارت مثلا لمن يستعظم الهدية ويذكرها
قال الشاعر
( وإن امرأ أهدى إلي صنيعة ... وذكرنيها مرة للئيم ) وقال سفيان الثوري إذا أردت أن تتزوج فأهد للأم وكان سفيان يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أهديت إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها فأهدى إليه صديق له ثيابا من ثياب مصر وعنده قوم فذكروا الخبر فقال إنما ذلك فيما يؤكل ويشرب أما في ثياب مصر فلا وكتب الحمدوني إلى جارية اسمها برهان وقد حج مواليها فقال
( حجوا مواليك يا برهان واعتمروا ... وقد أتتك الهدايا من مواليك )
( فأطرفيني بما قد أطرفوك به ... ولا تكن طرفتي غير المساويك )
( ولست أقبل إلا ما جلوت به ... ثنيتيك وما رددت في فيك ) وكتب بعضهم إلى صديقه وقد أهدى إليه هدية يسيرة يقول
( تفضل بالقبول علي إني ... بعثت بما يقل العبد عندك ) وأهدى بعضهم إلى صديقه هدية في يوم نيروز وكتب إليه يقول هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العبيد للسادة وقدر الأمير يجل عما تحيط به المقدرة وفي سؤدده ما يوجب التفضل ببسط المعذرة وقد وجهت ما حضر علما بأنه لا يستكثر ما جل ولا يستقل لعبده ما قل فإن رأى أن يتطول بقبول القليل كتطوله باهداء الجزيل فعل وجعل يقول
( رأيت كثير ما يهدى إليكم ... قليلا فاقتصرت على الدعاء )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8