كتاب : المستطرف في كل فن مستظرف
المؤلف : شهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي

( مدحته فتجنى ... تيها علي بزائد ) وقال آخر في مليح أرمد
(
( شكا رمدا فقلت الآن كلت ... لواحظه من الفتكات فينا ) وقالوا سيف مقلته تصدى ... فقلت نعم لقتل العاشقينا ) لمجد الدين بن مكانس فيه
( تورمت مقلة المحبوب من رمد ... وبات يشكو لهيب القلب والألما )
( وبات يرمي محبيه بأسهمه ... فينا له من حبيب قد شكا ورما ) لابن أبي حجلة في أعور
( ما شان من أهواه عين أصبحت ... مقلوعة بمحاسن متزايده )
( لولا استخف العالمين بأسرهم ... ما ظ ل ينظرهم بعين واحده ) وقال آخر في مليح راهب
( رأيته يضرب الناقوس قلت له ... من علم البدر ضربا بالنواقيس )
( وقلت للنفس أي الضرب يؤلمكي ... ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي ) القيراطي في مليح اسمه بدر
( سموه بدرا وذاك لما ... أن فاق في حسنه وتما )
( وأجمع الناس إذ رأوه ... بأنه اسم على مسمى ) وأخر في مليح اسمه حمزة
( منى يبدو لحمزة ما بقلبي ... ويرثي لي وينظر في بلائي )
( واشفى بالمبرد من لماه ... وأجمع بين حمزة والكسائي )

وقال آخر
( كلفت به ولم أبلغ مرادي ... غزال قد تحكم في قيادي )
( فتصحيف اسمه في وجنتيه ... وفي معسول فيه وفي فؤادي ) في مليح اسمه سروجي
( فتنت به سروجيا بديعا ... به قد ذبت وجدا من ضجيجي )
( إذا جذب الغرام له عناني ... يلذ لي الركوب على السروج ) وقال آخر في مليح محموم
( قالوا حبيبك محموم فقلت لهم ... أنا الذي كنت في حمائه السببا )
( عانقته ولهيب النار في كبدي ... فأثرت فيه تلك النار فالتهبا ) لأبي نواس في مليح ألثغ
( ومهفهف دنف الصبا ذي لثغة ... تصبو إليه ذوي العقول الرجح )
( قبلت فاه فقال لي متخوفا ... من كاشح متدللا بالثاء اثتحي ) وقال في مليح خباز
( إن خبازنا المليح المفدى ... في حشا الصب من جفاء كلوم )
( خلت دكانه البديع سماء ... وهو بدر والخبز فيه نجوم ) وقال في مليح حائك
( وحائك يا صاح أبصرته ... كالبدر في كفيه ماسوره )
( فلم أرح إلا وروحي لما ... عاينت في كفيه مأسوره ) وقال في مليح لاعب شطرنج
( لعبت بالشطرنج مع أهيف ... رشاقة الأغصان من قده )
( أحل عقد البند من خصره ... وألثم الشامات من خذه )

أيضا قال
( تلاعبت بالشطرنج مع من أحبه ... فنادمني حتى سكرت من الوجد )
( وأنشدني مالي أراك مفكرا ... تدور على الشامات وهي على الخد ) في مليح خياط
( خياطنا الفاتن المفدى ... بديع حسن فريد شكل )
( فصل للجسم ثوب سقم ... لما جفاني وكف وصلي ) وقال غيره
( فتنت بخياط بديع ملاحة ... له طلعة أبهى ضياء من الشمس )
( تراه على الكرسي للثوب خائطا ... فتقسم حقا أنه آية الكرسي ) الصفي الحلي في مليح قلع ضرسه
( لحا الله الطبيب لقد تعدى ... وجاء لقلع ضرسك بالمحال )
( أعاق الظبي في كلتا يديه ... وسلط كلبتين على غزال ) وقال في مليح سلم عليه
( تنبأ فيك قلبي فاسترابت ... به قوم وعمهم الضلال )
( وصدهم الهوى أن يؤمنوا بي ... وقالوا إن معجزه محال )
( ومذ سلمت سلمت البرايا ... إلي وقيل كلمه الغزال ) وقال في مليح يرمى بالسهام
( وظبي بشعر فوق طرف مفوق ... بقوس رمى في النقع وحشا بأسهم )
( كبدر بأفق فوق برق بكفه ... هلال رمى في الليل جنا بأنجم ) وقال في مليح يضرب بالعود
( فتن الأنام بعوده وبشدوه ... شنب تجمعت المحاسن فيه )
( حتى كأن لسانه بيمينه ... وكأن ما بيمينه في فيه )

أيضا فيه
( واغن قد أبدى لنا من عوده ... نغما أصح به القلوب وأمرضا )
( بيد إذا سخطت على أوتاره ... نال الرفاق بسخطها عين الرضا ) وقال في مليح مشبب
( يا نافخ الصور بل يا باعث الصور ... من رقدة السكر لا من رقدة الحفر )
( قرنت حسنك بالإحسان فيه لنا ... فكان فيك مراد السمع والبصر )
( ضمنت للصحب إقبال السرور كما ... ضمنت نايك نأى الهم والفكر
( صوت بسيط به أرواحنا انبسطت ... إذ جئت في اللفظ والمعنى على قدر ) وقال في مليح ساق
( وساق من بني الأتراك طفل ... أتيه به على جمع الرفاق )
( أملكه قيادي وهو رقي ... وأفديه بعيني وهو ساقي ) وقال أيضا في رسول مليح أتاه من عند من يحبه
( من كنت أنت رسوله ... كان الجواب قبوله )
( يا طلعة الشمس الذي ... جاء الصباح دليله )
( لم يبد وجهك قبلة ... إلا ارتقبت وصوله )
( فلذاك إذ واجهتني ... بل الفؤاد غليله ) في مليح قارئ
( نفسي الفداء لشادن شاهدته ... يوم الزيارة قارئا في المصحف )
( فتن الأنام ببهجة وبلهجة ... تسبي وتضني كل صب مدنف )
( فتلا مليا جل سورة يوسف ... وجلا محيا مثل صورة يوسف ) وقال آخر في مليح مكتمل العذار
( وكامل العارض قبلته ... فصدني وازور من قبلتي )

( وقال كم أنهاك عن مثل ذا ... وأنت ما تفكر في لحيتي ) وقال آخر في مليح حجام
( كلفت بحجام تحكم طرفه ... فغدا على سفك الدماء يواطي )
( أضحى كثير الاشتطاط ولم تكن ... منه اللحاظ كليلة المشراط )
فصل في الألغاز
في غزال
( إسم من قد هويته ... ظاهر في صروفه )
( فإذا زال ربعه ... زال باقي حروقه ) في كوز فقاع
( ومحبوس بلا ذنب جناه ... له في السجن ثوب من رصاص )
( إذا أطلقته وثب ارتفاعا ... يقبل فاك من فرح الخلاص ) في زر موزة
( مطية فارسها راجل ... تحمله وهو لها حامل )
( واقفة بالباب مزبولة ... لا تشرب الدهر ولا تأكل ) وقال في طاحون
( ومسرعة في سيرها طول دهرها ... تراها مدى الأيام تمشي ولا تتعب )
( وفي سيرها ما تقطع الأكل ساعة ... وتأكل مع طول المدى ولا تشرب )
( وما قطعت في السير خمسة أذرع ... ولا ثلث ثمن من ذراع وأقرب ) في دواة
( ومرضعة أولادها بعد ذبحهم ... لها لبن ما لذ قط لشارب )

( وفي بطنها السكين والثدي رأسها ... وأولادها مدخورة للنوائب ) وفي دواه أيضا
( وما أم يجامعها بنوها ... وليس عليهم تجب الحدود )
( كأنهم إذا ولجوا حشاها ... أفاعي في أمكانها رقود ) في قلم
( وأهيف مدبوح على صدر غيره ... يترجم عن ذي منطق وهو أبكم )
( تراه قصيرا كلما طال عمره ... ويضحي بليغا وهو لا يتكلم ) وفيه أيضا
( بصير بما يوحى إليه وما له ... لسان ولا قلب ولا هو سامع )
( كأن ضمير القلب باح بسره ... إليه إذا ما حركته الأصابع ) وفيه أيضا
( وأصفر عار أنحل السقم جسمه ... يشتت شمل الخطب وهو جموع )
( حمى الجيش مفطوما كما كان تحتمي ... به الأسد في الغابات وهو رضيع ) وقال وفيه أيضا
( وذي نحول راكع ساجد ... أعمى بصير دمعه جاري )
( ملازم الخمس لأوقاتها ... مجتهد في طاعة الباري ) في مرملة
( معشوقة لذوات العز قد صنعت ... حزينة ما تراها قط تبتسم )
( كأنها من صروف الدهر خائفة ... تبكي دماء على ما سطر القلم ) في كتاب
( وذي أوجه لكنه غير بائح ... بسر وذو الوجهين للسر يظهر )
( تناجيك بالأسرار أسرار وجهه ... فتسمعها بالعين ما دمت تبصر )

في سلطان حسن لابن أبي حجلة
( ما اسم محبب للقلوب لأنه ... حسن الحروف يجود بالإحسان )
( تصحيفة أمسى حبيبا كلما ... صحفت أحرفه بحسن بيان )
( لو جاد لي يوما برؤية وجهه ... نلت المراد وعشت بالسلطان في شبابة
( وما صفراء شاحبة ولكن ... تزينها النضارة والشباب )
( مكتبة وليس لها بنان ... منقبة وليس لها نقاب )
( تصبح لها إذا قبلت فاها ... أحاديث تلذ وتستطاب )
( ويحلو المدح والتشبيب فيها ... وليست لا سعاد ولا الرباب ) وفيها أيضا
( ومقروحة الأجفان مثلي شجية ... تناءت عن الأهلين أسقمها البعد )
( تزوجها عشر وذاك محرم ... ولا حرج كلا ولا وجب الحد )
( إذا وطئها قوم تصرخ صرخة ... يلين إليها كل قلب ولو صلد ) وفيها أيضا
( منقبة مهما خلت مع محبها ... يزودها لثما وينظرها شزرا )
( وتصحيفها في كف حاملها فقل ... إذا شئت في اليمنى وإن شئت في اليسرى ) في دملج
( إلى النساء يلتجي ... وعندهن يوجد )
( الجسم منه فضة ... والقلب منه جلمد )

في خلخال
( أيا عجبا من صابر صامت ولم ... يفه بكلام قط في ساعة الضرب )
( أقام ولم يبرح مكانا ثوى به ... على أنه أضحى يدور على الكعب )
في شعر اللحية
( وذي عدد كالرمل سام محله ... جميل على كل الملاح له حق )
( يحاذر من موسى ويرهب باسمه ... وفي القلب هرون له الهلك ) والمحق ) وفي التين
( أي شيء لذ طعمه ... ناعم الملمس لين )
( كيف لا يبدو وضوحا ... وهو في التصحيف بين ) في الموز
( ما اسم لشيء حسن شكله ... تلقاه عند الناس موزونا )
( تراه معدودا فان زدته ... واوا ونونا صار موزونا ) في حمزة
( من لي بمعتدل القوام مهفهف ... أروى بغصن البان لينة قده )
( في فيه تصحيف اسمه وبخده ... وبقلب عاشقه لشدة صده ) وفيه أيضا
( إسم الذي أنا أهواه وأعشقه ... وطول دهري أخشى من تجنيه )
( تصحيفة في فؤادي دائما أبدا ... يبدو في خده أيضا وفيه فيه ) في ساقية
( وجارية لولا الحوافر ما جرت ... أشاهدها تجري وليس لها رجل )
( وترضع أطفالا ولا هي أمهم ... وليس لها ثدي وليس لها بعل ) وفيها أيضا
( وجارية تبكي إذا الليل جنها ... بلا ألم فيها ولا ضرب ضارب )

( عليها رجال شنقوا بعد حرقهم ... وما كان شنق القوم إلا بواجب ) في زر وعروة
( وما أخت يجامعها أخوها ... وليس عليهما فيه جناح )
( ترى بجوازه الحكام طرا ... وفي أعناقهم ذاك النكاح ) في راوية
( وسوداء تشرب من رأسها ... وإن شئت تسقيك من فرد يد )
( ولونها مثل لون أختها ... وثنتاهما واحد في العدد )
( وتحبل في الوقت هي وأختها ... وفي ساعة يضعان الولد ) في شطرنج
( يا ذا النهى ما اسم له حالة ... يحار فيها الذهن والفكر )
( له حروف خمسة إنما ... ثلاثة منها له شطر ) في فيل
( أيما اسم تركيبه من ثلاث ... وهو ذو أربع تعالى الإله )
( حيوان والقلب منه نبات ... لم يكن عند جوعه يرعاه )
( فيك تصحيفة ولكن إذا ما ... رمت عكسا يكون لي ثلثاه ) في بجع
( ما طائر في قلبه ... يلوح للناس عجب )
( منقاره في بطنه ... والعين منه في الذنب ) في نار
( وما اسم ثلاثي به النفع والضرر ... له طلعة تغني عن الشمس والقمر )
( وليس له وجه وليس له قفا ... وليس له سمع وليس له بصر )
( يمد لسانا يختشي الرمح بأسه ... ويهزأ يوم الضرب بالصارم الذكر )
( يموت إذا ما قمت تستقيه عامدا
ويأكل ما يلقى من النبت والشجر )

( فيا قارئ الأبيات دونك شرحها ... وإلا فنم عنها ونبه لها عمر ) وفيها أيضا
( وآكلة بغير فم وبطن ... لها الأشجار والحيوان قوت )
( إذا أطعمتها انتعشت وعاشت ... وإن أسقيتها ماء تموت ) في يد الهاون
( قل لي فما شيء يرى ناعما ... منتصب العمامة طول الزمان )
( أطول من شبر له حزة ... مفيشل الرأس قوي الجنان )
( يسمع في القعر له رنة ... ويظهر الصفق لأعلى مكان ) وفيه أيضا
( خبروني أي شيء ... أوسع ما فيه فمه )
( وابنه في بطنه ... يرفسه ويلكمه )
( وقد علا صياحه ... ولم يجد من يرحمه ) في خشخاش
( وما قبة مبنية فوق شاهق ... لها علم يحكي الملاحة بالظرف )
( وأولادها في بطنها في جماعة ... يكونون ألفا أو يزيدون عن ألف )
( ويأخذها الطفل الصغير بجهله ... ويقلبها عسفا على راحة الكف ) في كوز زير
( وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا لب )
( إذا استولى على صب ... فقل ما شئت في الصب ) في اسم علي
( اسم الذي أعشقه ... أوله في ناظره )
( إن فاتني أوله ... فإن لي في آخره )

في موسى للصفدي
( وما شيء له حد وخد ... يكلم من يلامسه بحلقه )
( وكل حلقه من تحت راس ... وهذا الراس صارت تحت حلقه ) في حلب لابن الفارض رحمه الله تعالى
( ما بلدة بالشام قلب اسمها ... تصحيفه أخرى بأرض العجم )
( وثلثه إن زال من قلبه ... وجدته طيرا شجي النغم ) وقال في سمرقند
( وما اسم سداسي إذا ما لمحته ... ترى فيه أجزاء تذم وتشكر )
( له ثلث يأتي به الموت فجأة ... وثلث مع الكتاب يطوى وينشر )
( وثلث رعاك الله يا صاحبي له ... على مدى الأيام نشر معطر )
( وفي نصفه لما تحرك بعضه ... حديث شهي في الليالي يذكر )
( وفي نصفه الثاني إذا ما أعدته ... إلى النار للتحليل والعقد سكر )
( ففسر لنا ذا اللغز إن كنت ذا حجى ... فليس على ذي العقل لغز معسر ) وقال في كمون
( يا أيها العطار أعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومكا )
( تراه بالعين في يقظة ... كما ترى بالقلب في نومكا ) وقال في قالب الطوب
( وما آكل في قعدة ألف لقمة ... ولقمته أضعاف أضعاف وزنه )
( إذا أنزل المأكول جنبيه لم يقم ... سوى لحظة أو لحظتين ببطنه )

العين
( وباسطة بلا عصب جناحا ... وتسبق ما يطير ولا تطير )
( إذا ألقمتها الحجر اطمأنت ... وتجزع أن يباشرها الحرير ) ويكفي من ذلك ما أشرت إليه وما نبهت من هذا الفن عليه وقد مضى القول من الفنون السبعة على فن الشعر القريض وما فيه من الفنون المتقدم ذكرها
ولنذكر إن شاء الله تعالى بقية الفنون السبعة على وجه الاختصار والفنون السبعة المذكورة عند الناس هي الشعر القريض والموشح والدوبيت والزجل والمواليا والكان وكان والقوما ومنهم من جعل الحماق من السبعة وفي ذلك اختلاف وعند جمع المحققين أن هذه الفنون السبعة منها ثلاثة معربة أبدالا يغتفر اللحن فيها وهي الشعر القريض والموشح والدوبيت ومنها ثلاثة ملحونة أبدا وهي الزجل والكان وكان والقوما ومنها واحد وهو البرزخ بينهما يحتمل الاعراب واللحن وهو المواليا وقيل لا يكون البيت منه بعض ألفاظه معربة وبعضها ملحونة فإن هذا من أقبح العيوب التي لا تجوز وإنما يكون المعرب منه نوعان بمفرده ويكون الملحون فيه ملحونا لا يدخله الاعراب وقد أوضح قاعدة الجميع وأمثلتها صفي الدين أبو المحاسن الحلي في ديوانه وسماه ( بالعاطل الحالي والمرخص الغالي ) ولو بسطت المقال لاتسع المجال وكثر المقال ولكن الاختصار يذهب الأوجال والحمد لله رب العالمين على كل حال
فصل في بيان الفن الثاني وهو الموشح
لابن المبارك
( قد أنحل الجسم أسمر أكحل ... وأوجل القلب فيه مذ حل )

دور
( أميل له فلا يميل ... يحول وعنه لا أحول )
( أقول إذا زاد بي النحول ... )
( أما حل عقد الصدود ينحل ... وترحل عن نجم المزحل ) دور
( كم أبعد وكم أبيت مكمد ... ويعمد بهجره لا فقد )
( وأجهد لارتصاد من قد ... )
( تحمل والحاسدون رحل ... تمحل والوعد منه ما حل ) دور
( متوج بالحسن هذا الأبلج ... مدبج عذاره البنفسج )
( مفلج وطرفه ذا الأدعج ... )
( مكحل وثغره منحل ... مخلخل بعنبر معجل ) دور
( بر غمي من يستحل ظلمي ... ويرمي بحربه لسلمي )
( وجسمي من التزام سقمي ... )
( منحل وقد غدا مرحل ... فمن حل دمي وما حل ) دور
( قلاني واشتط ذا الفلاني ... غزاني بطرفه اليماني )
( تراني أنشد لمن يراني ... )
( قد أنحل الجسم أسمر أكحل ... وأوحل القلب فيه مذ حل ) لابن سناء الملك
( كللي يا سحب تيجان الربا بالخلى ... واجعلي سوارك منعطف الجدول )

دور
( يا سما فيك وفي الأرض نجوم وما ... كلما أخفيت نجما أظهرت أنجما )
( وهي ما تهطل إلا بالطلى والدما ... )
( فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي ... وانقلي للدن طعم الشهد والقرنفل ) دور
( تتقد كالكوكب الدري للمرتصد ... يعتقد فيها المجوسي بما يعتقد )
( فاتئد يا ساقي الراح بها واعتمد ... )
( وامل لي حتى تراني عنك في معزل ... قل لي فالراح كالعشق ان يزد يقتل ) دور
( لا أليم في شرب صهبا وفي عشق ريم ... فالنعيم عيش جديد ومدام قديم )
( لا أهيم إلا بهذين فقم يا نديم ... )
( واجل لي من أكؤس صيرت من فوفل ... ألذ لي من نكهة العنبر والمندل ) دور
( خذ هنى وأعطني كاسي مثل كاسك هنى ...
( واسقني على رضاب الفطن الملسن ... )
( والهنى ببعض ما صيغ من الألسن ... )
( لو تلى مدح سناه مع رشا أكحل ... لذ لي على سنا الصهباء والسلسل ) دور
( أزهرت ليلتنا بالوصل مذ أسفرت ... أصدرت بزورة المحبوب إذ بشرت )
( أخرت فقلت للظلماء مذ قصرت ... )
( طولي يا ليلة الوصل ولا تنجلي ... واسبلي سترك فالمحبوب في منزلي )

دور
( من ظلم في دولة الحسن إذا ما حكم ... فالألم يجول في باطنه والندم )
( والقلم يكتب فيه عن لسان الأمم ... )
( من ولي في دولة الحسن ولم يعدل ... يعزى لالحاظ الرشا الأكحل ) وله أيضا
( ترى هل يشتفي منك الغليل ... ويشفى من صبابته العليل ) دور
( لقد أسرفت في هجري وصدي ... بلا سبب سوى كلفي ووجدي )
( وماذا في سلو عنك يجدي ... )
( خضاب الوجد ليس له نصول ... وأسياف الهوى فينا تصول ) دور
( لئن شحيت عني بالسلام ... وطيفك قد جفا لجفا المنام )
( فقد جادت بأربعة سجام ... )
( جفون بالبكا كادت تحول ... على خد أسف به النحول ) دور
( لقد أرسلت في طي النسيم ... حديث هوى عن الوجد القديم )
( فعادت وهي عاطرة الشميم ... )
( تخبر أن ظعنهم نزول ... بدار لا يلم لها نزيل ) دور
( تلقته الموالي والموالي ... بألحاظ وزرق من نصال )
( وأعطاف وسمر من عوالي ... ) وله أيضا
( شمس الحيا أم القمر ... أم بارق الثغر بشر )
( أم البها حفه الخفر ... بطرز خديك مستطر )

سلسلة
( قم تباها بما ... تباها ولا تلاها ) قفلة
( فكل أحبابنا حضروا ... والعود يشجيك والوتر ) الدور
( أفديك بالسمع والبصر ... يا أهيف وصله وطري )
( بدر بدا في دجى الشعر ... قد لذ في حبه سهري ) سلسلة
( إذا تجلى وقد ... تجلى عليك يجلي ) قفلة
( تحير في وصفه الفكر ... والعقل والسمع والنظر ) الدور
( فهاك حدث عن الطرب ... وعن سلاف ابنة العنب )
( إذا سقاها مع الضرب ... بدر بأفق الجمال ربي ) سلسلة
( في ظل بان على ... المثاني من غير ثاني ) قفلة
( إلا الندامى إذا سكروا ... والروض والماء والشجر ) وقال رحمه الله تعالى
( وانسيم السحر هل لك خبر ... عن عريب همو بالمنحنى )
( فارقوني ولم أقض الوطر ... من لقاهم ولا نلت المنى )

( قلت يا قلب صبرا ما صبر ... والنبي ما الهوى إلا عنا )
( ما كتمت الهوى إلا ظهر ... مع شهود المدامع والضنى ) دور
( ليش تمنع وصالك يا حبيب ... عن محبك وهو لا يعشق سواك )
( راقب الله وارجع من قريب ... قبل يبلى جسمه في هواك )
( لست ألقى لدائي من طبيب ... غير رشفي يا حبيبي من لماك )
( لو رأى حالي العاذل عذر ... حينما ينظر جمالك والسنا ) دور
( يا قمر فوق غصن من نقا ... أثخنتنا مطالك والصدود )
( يا رعى الله لويلات اللقا ... ليتها يا خل يوما لي تعود )
( ليلة اسعد ما فيها شقا ... كيف تشقى وطالعها سعود )
( صفرها لا يمازجه كدر ... بالمسرات وأوقات الهنا ) غيره
( حملت مذ سارت الحمول ... وجد مضى العمر وهو باقي ) دور
( ساروا وسار الفؤاد لكن ... جسمي مقيم على المساكن )
( وعن الحب صار ظاعن ... )
( مالي إلى وصله وصول ... لو سرت بالبرق والبراق ) دور
( وغادة كالقضيب قدا ... والورد والياسمين خدا )
( كأنها البدر إذ تبدى ... )

( وشعرها أسود طويل ... كأنه ليلة الفراق ) دور
( هونا أتتنا تميل ميلا ... سحابة كالسحاب ذيلا )
( فقلت شمس تزور ليلا ... )
( وما درى كاشح عذول ... فذاك من أعجب اتفاق ) دور
( وسدتها ساعدي لسعدى ... وبت أرعى رياض وردي )
( وخمر ريق كذوب شهد ... )
( لو ذاقها مدنف عليل ... لعاش والروح في التراقي ) دور
( لما رأتني أذوب سقما ... ومن ورود الرضاب أظما )
( قالت كلمت الخدود لثما ... )
( ما يشتفي منك ذا الغليل ... بغير نومي وشيل ساقي )
فصل في الفن الثالث وهو الدو بيت
لسيدي شرف الدين بن الفارض رحمه الله تعالى
( أهوى قمرا له المعاني رق ... من صبح جبينه أضاء الشرق )
( تدري بالله ما يقول البرق ... ما بين ثناياه وبيني فرق ) وقال أيضا
( أهوى رشا كل الأسى لي بعثا ... مذ عاينه تصبري ما لبثا )
( ناديت وقد فكرت في خلقته ... سبحانك ما خلقت هذا عبثا )

وقال أيضا
( عرج بطويلع فلي ثم هوي ... واذكر خبر الغرام واسنده إلي )
( واقصص قصصي عليهم وابك علي ... قل مات ولم يحظ من الوصول بشي ) وقال أيضا
( روحي لك يا زائرا في الليل فدا ... يا مؤنس وحدتي إذا الليل هدا )
( إن كان فراقنا مع الصبح بدا ... لا أسفر بعد ذاك صبح أبدا ) وقال آخر
( يا شمس ضحى جبينه وضاح ... ساعات وصولك كلها أفراح )
( عشاقك لو فعلت ما شئت بهم ... ماتوا كمدا وبالهوى ما باحوا ) وقال آخر
( أهواه مهفهفا ثقيل الردف ... كالبدر يجل حسنه عن وصف )
( ما أحسن واو صدغه حين بدت ... يارب عسى تكون واو العطف ) وقال التلعفري
( قلبي ذهبت لبعدكم راحته ... ما الصبر على بعادكم عادته )
( بنتم فرثى لما به شامته ... لا كان فراقكم ولا ساعقه ) وقال المنشدي
( أحسانك طول الدهر لا أنساه ... لا أذكر بعد خالقي إلا هو )
( إن أبعدك الزمان عني حسدا ... مولاي خليفتي عليك الله ) وقال آخر
( إن جئت ربا الحمى ولاحت نجد ... فاذكر ولهي وما جناه البعد )
( قد كنت أقاسي الصدق حتى رحلوا ... يا ليتهم عادوا وعاد الصد )

فصل في الفن الرابع وهو الزجل
حمل للغبارى
( قل لغزلان وادي مصر والشام يقصروا ذا النفار ... لهم اجعل حشاشتي مرعى وفؤادي قفار ) دور
( مصر والشام فيها ملاح أقمار بالمحاسن تسود ... أبيض وذا أحمر وذا مليح أسمر لو عيون نجل سود )
( ذا غزال صار يفوق على الغزلان ويصيد الأسود ... وذا غصن بان أهيف قوام قد وقد الأغصان جهار )
( وذا بدر الكمال ظهر في الليل وذا شمس النهار ... ) دور
( تدر بالله إيش قالت مليح الشام بعد ذاك الصدود ... قد سمينا بصحة الأبدان واعتدال القدود )
( وتخضب تفاحنا الأحمر فوق بياض الخدود ... وأنتم يا عشاق لكم قلنا والحسود راح بنار ... أنتم التفاح وما نقصد منك إلا الخيار ... ) دور
( وملاح مصر قالت إحنا أصحاب الوجوه الملاح ... والحلاوة وطيبة الأخلاق في الخلائق مباح إحنا أقمار )
( واحنا بدور الليل وشموس الصباح ... وفي الألفاظ والظرف والمعنى ليس لنا حد صار )
( وورثنا الحسن من يوسف واكتسبنا الفخار ... ) دور
( حسن حبي الفرارجي فرحه بدر في السعد لاح ... فرخ ناجب خرج من القشرة فاق ملاح الملاح )
( كلما أعمل على رضاه يفسد بجفاه الصلاح ... )
( ومن البيض قد خرج نافر رد جفني بنار ... )
( وجفاني وخد بياض جسمي خلطوا بالصفار ... ) دور
( وقع الطل خط بالأبيض في اخضرار الطروس ... )
( قم يا ساقي على بساط زهري تحت ظل العروس ... )
( هاتها شمس راح شمول قرقف بكر عذرا عروس ... )
( عروس لها صفو النسيم ولطف الما وابتهاج الثمار ... )
( قد جلوها في كاس زجاج أبيض فاكتسى باحمرار ... ) دور
( خمر فيها سر لو جعل أشياف رد الأعمى بصير ... )
( اقطع القطف أسو يحاكي الليل شفق أحمر يصير ... )
( يا ترى ذا السر في كرمه أو يكون في العصير ... )
( وترى النوردا عليه يلمع ذاك من ايش استنار ... )
( وكذا الكاس يحاكي يا سمير من كساه جلنار ) دور
( فهو عطار عندي وشراب هندي وبراني جفاه ... )
( كل من مص من لسانو ريقو يلتقي فيه شفاه ... )
( ورد خد وحبتو سودا شبه خال في صفاه ... )
( جبل آس عارضو أسر قلبي والكبار والصغار ... )
( في المحب غاروا على حسنو وكل من حب غار ... )

( حسن حبي الفرارجي فرحه بدر في السعد لاح ... فرخ ناجب خرج من القشرة فاق ملاح الملاح )
( كلما أعمل على رضاه يفسد بجفاه الصلاح ... ومن البيضة قد خرج نافر رد جفني بنار )
( وجفاني وخد بياض جسمي خلطوا بالصفار ... ) دور
( وقع الطل خط بالأبيض في اخضرار الطروس ... قم يا ساقي على بساط زهري تحت ظل العروس )
( هاتها شمس راح شمول قرقف بكر عذرا عروس ... عروس لها صفو النسيم ولطف الما وابتهاج الثمار )
( قد جلوها في كاس زجاج أبيض فاكتسى باحمرار ... ) دور
( خمر فيها سر لو جعل أشياف رد الأعمى بصير ... قطع القطف أسود يحاكي الليل شفق أحمر يصير )
( يا ترى ذا السر في كرمه أو يكون في العصير ... وترى النوردا عليه يلمع ذاك من ايش استنار )
( وكذا الكاس يحاكي يا سمير من كساه جلنار ... ) دور
( فهو عطار عندي وشراب هندي وبراني جفاه ... كل من مص من لسانو ريقو يلتقي فيه شفاه )
( ورد خد وحبتو سودا شبه خال في صفاه ... جبل آس عارضو أسر قلبي والكبار والصغار )
( في المحب غاروا على حسنو وكل من حب غار ... )

دور
( دروني الملاح على كعبي ونصوا نصوص ... بلا دعوى التف لف اليسير في هواهم خصوص )
( وعليا صار نقشهم قاعد مثل نقش الفصوص ... والبساط انطوى وحين ما رأوا خلف له همه ولو اصطبار )
( قمروني في عشق هذا القمر والمحبة قمار ... ) دور
( لحبيبي ثغر من جوهر والشفيفات عقيق ... عوارض ما ضرهم عارض غير نبات الشقيق ... )
( وخدود ورد من غير نمش ووصفنا عن حقيق ... يحرس الورد خال عنبر تحت أهداب غزار )
( في صفا وجهو أنزه طرفي عند خلع العذار ... ) دور
( في رياض صفوف من الأزهار قابلتها صفوف )
( كيف لا نرقص والنسيم بها موصول وورقها دفوف )
( واعجب من النهر إذا صفق لو من الموج كفوف ... والغيوم نقطت وحين النسيم طار أعلى مطار ... )
( باختلاف الألحان سحر في الروض صاح على عود طار ... ) دور
( أشرف الخلق بين الإسلام والهدى والضلال ... والشرايع والحق والباطل والحرام والحلال )
( نبي من بين أصابعه تحقيق نبع الماء الزلال ... ولو أن النبات جميعه أقلام والمداد البحار )
( والخلايق تكتب مديحو تاه كل كاتب وحار ... )

دور
( خلف أستاذ في الفن ما ينطاق ذا ق عداه المنون ... ما يعيبو في الفن غير ناقص عقل زايد جنون )
( شيخ مصدر لبيب قيم في جميع الفنون ... باتضاعو مع الصغار مرفوع فوق رؤوس الكبار )
( وأهل الفنون تجري وما تلحق للغبارى غبار ... ) غيره لناصر الغيطي
( كنز روضي طالبو بسعد يا خليع قم في دجى الأسحار ... تلتقي در الندى يرهج فوق فصوص غرائب النوار ) دور
( كنز روضي نزهة الطالب جوهر وبين الندى يرهج ... ولجين الما بيتكسر يا خليع هيا تعا اتفرج )
( بين عنابر تلتقي الخلع كل حد مع إلفو يدرج ... وامش في عرض الرياض وارتع بين أغصان واطيار فوق )
( بساط زمرد ذو قضبان كل وردة حكت لنا دينار ... ) دور
( وترى الياسمين بحال فضه ضربت لاهل النزه صلبان ... والشحارير لابسين أسود وقلانس كنهم رهبان )
( وكذا الكتاب وهو أصفر بعمائم زرق للناس بان ... وانجلت بين القسوس في ألحان وعلينا دارها الخمار )
( والقطيع الراهبي يحكي لشماس لابس الزنار ... ) دور
( الفراق نار والوصال جنة والخلائق بعضهم يعشق ... دا حبيب قلبو عله راضي وذا محبوبو عليه يشفق )

( ولهيب الهجر يتوقد والوصال من الملاح يشتق ... المليح عندي وأنا مطمن وسط روضا زهر لها معطار في نعيم )
( مع حور ومع ولدان والعذول مسكين صح في نار ... ) دور
( وعمل في الروض سماع باكر بين الأغصان والزهور أنغام ... والنسيم شبب والغدير صفق والخليع من كتر وجدو هام )
( والنخيل بأكمامها ترقص واقبل الريحان بحال أعجام ... والعصافير شيخهم ريق لو طريق بين الأزاهر طار )
( والبلبل بالغنا يشجي فكأنوا ناي أو مزمار ... ) دور ناصر الغيطي
( يا خلايا صحبت إنسان أنكر الصحبة وعاداني ... )
( وبغضني حين بقيت مسمى والإله بالفضل أسماني )
( في بلاد قبلي وأرض الشام يشكروني ساير أقراني ... والشجيع الشاطر المذكور في جميع الأرض لو تذكار )
( والبلط يوقع لو تعلق ما يحصل شيء مع الشطار ... ) للغباري
( جار حبيبي فقلت ذا الحجاج جا يجور أو يزيد ... لو عدل عشت بو مسرور ويكون الرشيد ) دور
( أقلع القلب في هوى العشاق والدموع في انحدار ... وبحور الهوى إذا هاجت ليس لها من قرار )
( كنت أحسب قلبي معوريس غرتو ذا البحار ... صحت لما وحلت يا محبوب قلبي بحر عشقك يزيد )
( خفت فيه الغرق فقال افرح من غرق مات شهيد ... )

دور
( أنا يوم في الغبوق باتفرج على شط الغدير ... إذ رأيت على الشط واحد واقف شب صياد صغير ... نظرت مقلتي إلى منظر ما لحسنو نظير ... )
( قلت يا عين إن غرك الصياد بالجمال المصيد )
( يوقعك في فخاخ شباك عشقو وكراكي يصيد ... ) دور
( من نحبو جديد حبيب قلبي يوم صدفتو مصدف ... قلت لين يا قاسي لمن دمعو سال وحالو وقف )
( دار وقال لي ما لاسم بالانجيل قلت اسمي خلف ... قال علينا يكتب ومن يسمع دا الكلام يستفيد )
( في الحقيقة من لا يكون داود ما يلين لو الحديد ... ) دور
( لك عوارض في الخد مرقومة ليس لها من مثال ... وجفاك صار حماق وباب وصلك كان وكان يا غزال )
( وأنت دوبيت موشح القاما يا عزيز الدلال ... ولك ألفاظ صارت مواليا بالزجل والنشيد ... وبشعرك متوج القاما وأنت بيت القصيد ... ) دور
( عن محرم شرابنا ضمنا ونفطر بالثمار ... حين وجدنا سفرجل البستان يذهب الاصفرار )
( وغنا الطير به الجماد يطرب وكذا الجلنار ... في ربيع حين رأى الثمر قاعد فيه تعاليق عقيد )
( حسب الروض النص من شعبان صار يقيد فيه وقيد ... )

دور
( من لهيب مدمعي جرى الطوفان للهيب ما طفى ... وأنا هو الغباري في العشاق ما جرى لي كفي )
( حين عليا بالصد والهجران والبعد والجفا ... جار حبيبي فقلت ذا الحجاج جا يجور أو يزيد )
( لو عدل عشت بو مسرور ويكون الرشيد ... ) غيره
( حين سكنت القلب يا عيسى ... أمسى من بعدك الحزين فرحان )
( وتقدس بك ولكنو ... ما جرت فيه يا ابن عين سلوان ) دور
( عارضوا لما عشق خدو غرت من وجدي بقيت حاير ... جيت إلى طرفو وناديت لو أحرسوا وكون عليه ناظر )
( بعد حين نظرت في خدو النقي العارض وهو داير ... وعليه قد دب بالسرقة جيت لطرفو قلت يا كسلان )
( هكذا في عادة الحراس قال لي اعذرني أنا نعسان ... ) دور
( بدر شعبان منيتي لما في بروج السعد لاح نجمو ... قلت لو أقضي بفيض دمعي أطلقوا واجراه على رسمو )
( قلت لو دام الله اطلاقك فالحزين قلبو المشوم قسمو ... ايش قد أذنب حين قطرتو دا يملغط قول بالبهتان )
( قال لي صوم عن الوصال ناديت ليش أصوم يا بدر في شعبان ) دور
( حين تدبح احمرار خدو باخضرار العارض أسباني

ضحك فابيض واتبسم واسوداد شعري وأبكاني )
( وحين أضحيت باصفرار لوني أشعث أغبر في هواه عاني ... قال لي لونك قد صبح حايل وقد أبصر مدمعي طوفان )
( ذقت تبريح الغرام ناديت في هواك ذقت الهوان ألوان ... ) دور
( قلت لو حين عني تخلف لله كن لي يا رشيد مهدي ... قد تلون دمعي من بعدك وتجري اليوم على خدي دار )
( إلى إنسان مقلتي قال لو أنت ما عندك نظر بعدي ... ما ترى ما قد جرى منك على الخدود قال يا فتان )
( جرى الماء تحت من بعدك راقب الله فيا يا إنسان ... ) دور
( ذا الغزال النافر الأنسي للغزالة قد أعار النور ... كسر قلبي كسير جفنو فاعجبوا للكاسر المكسور )
( وبخمر الدن قد عربد وادعى أني أنا المخمور ... وابتسم لي عن نقا ثغرو وخطر والبشر فيا بان )
) ( صحت يا قلبي صفا وردك أنت ما بين النقا والبان ... ) للصفي الحلي
( أنت يا قبلة الكرام زينة المال والبنين ... الله يعطيك فوق ذا المقام ويعيدك على السنين ) دور
( أنت شاما بين الآنام الله يحرس شمايلك ... ويزيدك بالدوام كي نعيش في فواضلك )
( ما ينطوي ذكر الكرام لما تنشر فضايلك ... ونهنيك لكل عام والخلائق تقول آمين )

( قد بقينا بك في آمان الله يحييك طول السنين ... ) دور
( ما رأينا تحت ذا الفلك من ندي كفك أعم ... كل من جاء ليسألك ليس تقول له سوى نعم )
( أملك أنت أو ملك ضاعف الله لك النعم ... أنت في الجود كالغمام وسماك فوق ماردين )
( در غيثك في انسجام عم كل السائلين ... ) دور
( لا عد منا كل صوم ذا السحور فيك والهنا ... كل ليلة وكل يوم ينشر الذكر والثنا )
( الله يحييك من خير قوم بالغ يقصد والمنى ... ) دور
( حتى تقضي ذا الصيام ويليه باقي السنين ... وتعيش يا ذا الهمام بين ولدان وعين ) غيره
( خال عبد الرحيم حبر من غير قاف ولام ... واسم ثغر معشوقي الفتان نون وعين وميم )
( شال السعد فوق راسو عين ولام وميم ... داللي قد هواه قلبي صاد وبا ويا )
( مليح ما رأيت مثله ظا وبا ويا ... ما أحلاه عند ما يلبس قاف وبا ويا )
( ذقت من صدود حبي غين وصاد وصاد ... لما رأيت صبري نون وقاف وصاد )
( النوم من جفون عيني خا ولام وصاد ... وأصبحت وجود فكري عين ودال وميم )

( قلت يوم لمن كان لي سين ونون ودال ... اعدل في الذي صبرو نون وفا ودال )
( ولا تهجر العشاق با وعين ودال ... ما افلح قط يا ناس من ظا ولام وميم )
جمل في الألغاز
( المطلع في العين )
( وما طير أكلو الحجر يا كرام ... وجوهر حبابه يفسد أهل الصلاح )
( ولمس الحرير يؤذيه وريش النعام ... يصول بين جناحين سود كبيض الصفاح ) دور في السراج
( وما بجر ما هو ما وفي الليل يزيد ... وينقص ولا هو خوض ولا هو غريق )
( وفيه شيء صفات حيه بلا وكر استفيد ... لها جوهره في فمها يا رفيق )
( بلا شك ينظره القريب والبعيد ... ويخفي ويظهر كل يوم عن حقيق )
( يغيب في النهار لكن إذا جا الظلام ... تشوفو يضيء بين الوجوه الصباح )
( ويسهر بحال عاشق حليف الغرام ... قتيل الهوى بين الربا والبطاح ) دور في جوزة الكنافة
( وما هي التي تركب على ستين ألف ... وما مثل ذاك فسر لنا يا خبير )
( مليحه وقصيفه وتلبس ترف ... وتحمل وتوضع كل يوم في السعير )
( لها عشرة أعوان حالهم مختلف ... يشيلو أودها الكبير والصغير )
( لها فحل يخدمها عليه السلام ... يحادي سراها في المجي والرواح )
( وأكثر تعبها في ليالي الصيام ... وذا اللغز قلته ومن غير مزاح ) دور في الغربال
( وما هو الذي يا سعد كله عيون ... ولا يعتلم ضوء الظلام والضيا )
( وهو بين خشب مصلوب لتلك الفتون ... وميت وهو يحيي أصول الحيا )

( إذا غاب عن أهله فرد يوم ما يهون ... ولا حد يعوض موضعه لو عيا )
( وكم من رقيص في صتعته باهتمام ... مكابد عجاجه في المسا والصباح )
( ونحتاج له الناس كل يوم في الدوام ... على شان فنونه دول فنون ملاح )
الفن الخامس في المواليا وله وزن واحد وأربع قوافي
فمن تلك الأربعة واحدة لصفي الدين الحلي
( يا طاعن الخيل والأبطال قد غارت ... والمخصب الربع والأمواه قد غارت )
( هواطل السحب من كفيك قد غارت ... والشهب مذ شاهدت أضواك قد غارت ) وقال أيضا
( سل مقلتيك الكحال عمن سلاسلها ... ومرشفيك من رشف منها سلاسلها )
( وعارضيك التي مدت سلاسلها ... كم من أسود ضواري في سلاسلها ) وقال آخر
( قد أوعدونا الغضابا أننا نخلو ... في ظل بستان حافف بالتمر نخلو )
( والطل من فوقنا قد بلنا نخلو ... ومن كلام الأعادي قط ما نخلو ) وقال آخر
( قسما وبالله مفرقها وجامعها ... ومن أمرنا بمسجدها وجامعها )
( لو حل مع بغيتي عايد وجامعها ... كأن أفتتن في محاسنها وجامعها ) ومن اثنين واثنين قال آخر
( قوم اسقني ما تبقى في أباريقو ... أما ترى الصبح قد لاحت أباريقو )
( مع شادن كلما دار شقاريقه ... سقى المداما وإن عزت سقى ريقو ) وقال
( البارحة رأيت بعيني في الدجاجيين ... اثنين مثل البدوره في الدجى جيين )
( ناديتهم فين كنتم يا خفا جيين ... قالوا لمن قد وعدنا في الخفا جيين )

وقال
( قد زدت هجرك فجد بالعفو عن صبك ... ارحم خضوعي وخف في قتلتي ربك )
( يكفيك بهجر تكدر قلب من حبك ... ما ظن في الناس أقسى قلب من قلبك ) غيره خمري عاطل
( كاس الطلا لطلاها طال لما سر ... وصار لما حوى حمرا مكلل در )
( مدام لو طعم كله حلو ما هو مر ... ما حل مملوك إلا صار مالك حر ) غيره حربي
( لك يا إمام الوغا في كل موقع حرب ... سماع يطرب له السامع وينفي الكرب )
( هذا ولك كلما دارت رحاة الحرب ... سيوف تفني وكفك لا يمل الضرب ) الصفي الحلي في المدح
( أغنت وأقنت كفوفك في الندى والحرب ... في القرب والبعد من شرقها والغرب )
( وفيض جودك وسيقك بالعطا والضرب ... ذا الكرب فرج وهذا قد رمى في الكرب ) وقال أيضا
( من قال جودة كفوفك والحيا مثلين ... أخطأ القياس وفي قوله جمع ضدين )
( ما جدت إلا وثغرك مبتسم يا زين ... وذاك ما جاد إلا وهو باكي العين ) وقال في التهنيئة
( رأيت ذا العيد أول يوم في عصرك ... رأيت ذا اليوم مع ذا الشهر في نصرك )
( وديت ذا الشهر مع ذا العام طوع أمرك ... والكل بالكل أول مبتدا عمرك )

المعاتبة
( عن تسليت وآسياف الجفا سليت ... ومذ توليت عن طرق الوفا وليت )
( لما تمليت بالأعمال لي مليت ... إذا تخليت تعرف قدر من خليت ) وقال أيضا
( يا قلب إن غدروا فاغدر وإن خانوا ... فخن وإن هم قسوا فاقسا وإن لانو )
( فلن وإن قربوا فاقرب وإن بانوا ... فبن وكن لي معاهم كيفما كانوا ) وقال آخر
( حلف عليا جكاره أن يقاطعني ... وصد عني وأقسم ما يطاوعني )
( كم ذا يصد وكم يرجع يصدعني ... إن كنت أنا هو المطلق لا يراجعني ) وقال آخر هجوا
( قطع قفا ابن أخت خالك وابن أخو عمك ... والحق يصفع أبو بنتك أو ابن أمك )
( وإن تكلمت تصفع بل يسيل دمك ... وإن كنت تسكت يبول الكلب في فمك ) وقال آخر
( إن ردت تسلم بطول الدهر ما تبرح ... لا تيأسن ولا تقنط ولا تمرح )
( واستعمل الصبر لا تحزن ولا تفرح ... وإن ضاق صدرك ففكر في ألم نشرح ) وقال آخر
( إن كنت عاقل وربك بالتقى برك ... إدفع أذاك وهات خيرك ودع شرك )
( وإن تعدى حسودك والحسد ضرك ... ناديه يا أيها الإنسان ما غرك ) وقال آخر
( يا قلب إن خانك المحبوب لا تدبر ... عنو وعن قصة السلوان لا تخبر )

( واستعمل الصبر دائم للعدا تقهر ... فان والله ما خاب الذي يصبر )
الفن السادس كان وكان
وله وزن واحد وقافية واحدة ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الثاني فمنه هذه الوعظيات
( يا قاسي القلب مالك ... تستمع وما عندك خبر )
( ومن حرارة وعظي ... قد لانت الأحجار )
( أفنيت مالك وحالك ... في كل ما لا ينفعك )
( ليتك على ذي الحالة ... تقلع عن الأصرار )
( تحضر ولكن قلبك ... غايب وذهنك مشتغل )
( فكيف يا متخلف ... تحسب من الحضار )
( ويحك تنبه يا فتى ... وافهم مقالي واستمع )
( ففي المجالس محاسن ... تحجب عن الأبصار )
( يحصى دقائق فعلك ... وغمز لحظك يعلمه )
( وكيف تعزب عنه ... غوامض الأسرار )
( تلوت قولي ونصحي ... لمن تدبر واستمع )
( ما في النصحية فضيحة ... كلا ولا انكار ) وقال أيضا
( صرح بذكر المحبة ما في المعمى فائدهة ... وقل نعم أنا عاشق صادق بلا تمويه )
( ودع حديث العواذل ليس الخبر مثل النظر ... أنا عاشق لحبيب كل المعاني فيه )
( من أين للبدر حسن يحكيه أو شمس الضحى ... حاشا لذاك المحيا من مشيه يحكيه )
( إن غبت فهو أنيسي وإن حضرت نديمي ... وإن شربت مدامي فالكأس هو ساقيه )

( فمنه روحي وراحي إذا سكرت وراحتي ... وفيه عزي وذلي بمهجتي أفديه )
( قولوا لمن يلحاني في الحب قصر واعتبر ... هذا الذي قد عشقته قد حار وصفي فيه ) الصفي الحلي
( شاهدت في الليل طيري ... وقمت حتى أنصب شرك )
( ما كل صيد يحصل ... يفرح الصياد )
( طيري الذي كان إلفي ... لو ردت مثله ما حصل )
( وهو علي معود ... وأنا عليه معتاد )
( قد كان شرطي وخلقي ... لبرج غيري ما عرف )
( كأننا في الصحبة ... جينا على ميعاد )
( من قبل ما أبصبص له ... يجي ويدخل قصوري )
( أنا أرصده في مطاره ... خائف عليه ينصاد ) وقال آخر
( ما ذقت عمري جرعة ... أمر من طعم الهوى )
( الله يصبر قلبي ... على الذي يهواه )
( الناس تعلم مني ... حال الجلادة والقوى )
( وما أطيق التجلد ... على أليم جفاه )
( لي حب مثل الخوخة ... لو لون وطعم وريحة )
( ما أكثر مغابن حبيبي ... وما أقل وفاه )
( أنا عرفتو حظي ... وكل ما أحسن لويسي )
( لو كنت أعشق ظلي ... ما كنت قط أراه ) وله في الفراقيات
( يا سادة هجروني ... وهم نزول بخاطري )
( لا أوحش الله منكم ... في سائر الأوقات )

( أوحشتم العين مني ... وأنسكم في خاطري )
( والقلب في النور منكم ... والعين في ظلمات )
( قد انتهى الصبر مني ... وما بقي فيا رمق )
( هيهات إني أحيا ... من بعدكم هيهات )
( لم يبق غير خيالي ... يلوح كالشبح الخفي )
( أعد بين الأحياء ... وأنا مع الأموات )
( ودعتموني وسرتم ... والقلب يتبع ركبكم )
( إيش ضر لو كان جسمي ... من جملة التبعات )
( ما مر ما ريت ضدي ... يقول لي من فرحته )
( هنا تشق المراير ... وتسكب العبرات )
( لو لم أسلي روحي ... وارض نفسي بالمنى )
( لكان قلبي تقطع ... من بعدكم حسرات )
( وقفت لما رحلتم ... حيران بين أظعانكم )
( أخفض جناح المذلة ... وأرفع الأصوات )
( طول الليل أساهر ... كني أريد الكيميا )
( أقطر الدموع مني ... وأصد الزفرات )
( ما أطول ليالي جفاكم ... ساعتها مثل السنة )
( وما أقصر أيام وصلي ... كأنها ساعات )
( مالي أرى حسناتي ... بالسيئات تبدلت )
( وسيآت الأعادي ... اتبدلت حسنات )
( خالفتموني وعمري ... ما زلت أتبع أمركم )
( كذا العبيد تتابع ... أوامر السادات )
( أسكت وأصبر عنكمو ... ويفعل الله ما يشا )
( والدهر من عاداته ... يقلب الحالات )

الفن السابع في فن القوما
قيل أول من اخترعه ابن نقطة برسم الخليفة الناصر والصحيح أنه مخترع من قبله وكان الناصر يطرب له وكان لابن نقطة ولد صغير ماهر في نظم القوما فلما مات أبوه أراد أن يعرف الخليفة بموت أبيه ليجريه على مفروضه فتعذر عليه ذلك فصبر إلى دخول شهر رمضان ثم أخذ أتباع والده من المسحرين ووقف أول ليلة من الشهر تحت الطيارة وغنى القوما بصوت رقيق فأصغى الخليفة إليه وطرب له فكان أول ما قاله قوله
( يا سيد السادات ... لك بالكرم عادات )
( وأنا بني ابن نقطة ... تعيش أبويا مات ) فأعجب الخليفة منه هذا الإختصار فاستحضره وخلع عليه وفرض له ضعفي ما كان لأبيه
ومنها للصفي الحلي
( من كان يهوى البدور ... ووصل بيض الخدور )
( بالبيض والصفر يسخو ... وقد جلس في الصدر )
( من حب بيض الخدور ... ورام لزوم الصدور )
( يسمح وإلا فبقي ... من بينهم مهدور )
( كم بين سجف الخدور ... من عاشق مصدور )
( يرعى الكواكب تعلو ... يرى جمال البدور )
( بين الحلل والخدور ... وجوه مثل البدور )
( أشراقها في المعاجز ... وغربها في الصدور )
( قد كنت فوق الصدور ... بين الظبا والبدور )
( فصرت أحسد من أبصر ... خيامهم والخدور )
( نوائب المقدور ... مثل الكواكب تدور )
( من بعد طيب الخواطر ... يقضي بضيق الصدور )

( غيري يلازم الصدور ... أنا عليكم أدور )
( واصطلي الصد وأنا ... من بينهم مهدور ) وقال أيضا
( حال الهوى مخبور ... يريد جلد صبور )
( يصون سره وإلا ... يبقى من أهل القبور )
( من كان هواه مستور ... يحظى برفع الستور )
( ومن هتك سر حبو ... يمحى من الدستور )
( أبذل لبيض النحور ... أموال مثل البحور )
( إن أردت تملك وتظفر ... ولدانهم والحور )
( قم فابذل المدخور ... وفي العطا لا تجور )
( تريد هذي المحبة ... قلوب مثل الصخور )
( كم حول تلك الخدور ... من عاشق مذعور )
( مثل الدواليب تجري ... دموعها وتدور )
( من يركب المحذور ... هو في الهوى معذور )
( يظفر بحبه ويبلغ ... قصده ويوفي النذور )
( كن بالهوى مسرور ... ولا تبيت مغرور )
( واجعل تراب أعتابهم ... لاجفان عينك درور )
( طرق المحبة وعور ... كم بينها معذور )
( من فتك بيض السوالف ... على سواد الشعور )
( كم عاشق مذعور ... في حب بيض الثغور )
( يغار قلبه ولكن ... مدامعه ما تغور )
( كم بينهم يعفور ... كالظبي أنس نفور )
( من أهل بدر فديته ... إيش ما عمل مغفور ) ومن ذلك ما نظمه بعضهم ليسحر بعض الخلفاء في رمضان
( لا زال سعدك جديد ... دائم وجدك سعيد )

( ولا برحت مهتى ... بكل صوم وعيد )
( في الدهر أنت الفريد ... وفي صفاتك وحيد )
( والخلق شعر منقح ... وأنت بيت القصيد )
( يا من جنابه شديد ... ولطف رأيه سديد )
( ومن يلاقي الشدائد ... بقلب مثل الحديد )
( لا زلت في تأييد ... في الصوم والتعييد )
( ولا برحت مهنى ... بكل عام جديد )
( نحن لذكرك نشيد ... بقولنا والنشيد )
( ونبعث أوصاف مدحك ... على خيول البريد )
( ظلك علينا مديد ... ما فوق جودك مزيد )
( وكم غمرت بفضلك ... قريبنا والبعيد )
( لا زلت في كل عيد ... تحظى بجد سعيد )
( عمرك طويل وقدرك ... وافر وظلك مديد )
( لا زال قدرك مجيد ... وظل جودك مديد )
( ولا برحت موقى ... كما يوقى الوليد )
( ما زال برك يزيد ... على أقل العبيد )
( وما برح جود كفك ... منا كحبل الوريد )
( لا زال برك مزيد ... دائم وبأسك شديد )
( ولا عدمنا نوالك ... في صوم فطر وعيد ) ومما قيل في فن الحماق
( أنا ما عبوري الحمام ... لجسمي لكي ينظف )
( إلا لدمع جاري ... على الما ولا يوقف )
( وديك المجاري تجري ... ودمعي يسابقها )
( تقول الأنام في الحمام ... له أحباب فارقها )

وقال آخر
( ترى كل من نعشقو ... علينا يقيم أنفه )
( فاسلاه واترك هواه ... وسد الطريق خلفه )
( وإن زاد على عشقوا ... وزاد بي الهوى والذل )
( تركتو ولو كان يحيي ... لأهل القبور الكل ) وقد انتهى الكلام فيما أشرت إليه من الفنون السبعة وذكرت منها ما تبتهج به وتقربه العيون واختصرت ذلك إلى الغاية فجاء بتوفيق الله في الحسن نهاية وأسأل الله التوفيق بمنه وكرمه والمزيد من بره ونعمه وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثالث والسبعون في ذكر النساء وصفاتهن ونكاحهن وطلاقهن وما يحمد ويذم من عشرتهن وفيه فصول
الفصل الأول في النكاح وفضله والترغيب فيه
قال الله تعالى ( فانكحوا ما طاب لكمن من النساء مثنى وثلاث ورباع ) الآية وقال تعالى ( وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) وقال تعالى ( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ) الآية وقال رسول الله " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وقال رسول الله " استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عورا عندكم " وقال رسول الله " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة " وقال " سوداء ولود خير من حسناء عقيم " وقال رسول الله " أحسن النساء بركة أحسنهن وجها وأرخصهن مهرا فينبغي للرجل إذا أراد أن يتزوج أن يرغب في ذات الدين وأن يختار الشرف والحسب "

حكي أن نوح بن مريم قاضي مرو أراد أن يزوج ابنته فاستشار جار له مجوسيا فقال سبحان الله يستفتونك وأنت تستفتيني قال لا بد أن تشير علي قال إن رئيسنا كسرى كان يختار المال ورئيس الروم قيصر كان يختار الحسب والنسب ورئيسكم محمد كان يختار الدين فانظر أنت بأيهم تقتدي وقال رجل للحسن إن لي ابنة فمن ترى أن أزوجها له قال زوجها ممن يتقي الله عز و جل فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلم ها وقيل لرجل من الحكماء فلان يخطب فلانة أموسر من عقل ودين فقالوا نعم قال فزوجوه إياها ويستحب أن يختار البكر لقوله " عليكم بالأبكار فإنهن أطيب فواها وأنتق أرحاما " وقالوا أشهى المطي ما لم يركب وأحب اللآلئ ما لم يثقب وأنشد بعضهم
( قالوا نكحت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلى ما لم يركب )
( كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... نظمت وحبة لؤلؤ لم تثقب ) فأجابته إمرأة
( إن المطية لا يلذ ركوبها ... حتى تذلل بالزمام وتركبا )
( والدر ليس بنافع أربابه ... حتى يؤلف بالنظام ويثقبا ) قال خالد بن صفوان
( عليك إذا ما كنت في الناس ناكحا ... بذات الثنايا الغر والأعين النجل ) وقيل استشار رجل داود عليه السلام في التزويج فقال له سل سليمان وأخبرني بجوابه فصادفه ابن سبع سنين وهو يلعب مع الصبيان وراكبا قصبة فسأله فقال عليك بالذهب الأحمر أو الفضة البيضاء واحذر الفرس لا يضربك فلم يفهم الرجل ذلك فقال له داود عليه الصلاة و السلام الذهب الأحمر البكر والفضة البيضاء الثيب

الشابة ومن وراءهما كالفرس الجموح وقال رسول الله " تخيروا لنطفكم " وقال أنظر في أي شيء تضع ولدك فإن العرق دساس وقال عليه الصلاة و السلام " إياكم إياكم وخضراء الدمن قالوا وما خضراء الدمن يا رسول الله قال المرأة الحسناء في المنبت السوء " وأنشدوا فيه
( إذا تزوجت فكن حاذقا ... وأسأل عن الغصن وعن منبته ) وقال بعضهم
( وأول خبث الماء خبث ترابه ... وأول خبث القوم خبث المناكح ) وعن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي قال " لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء فإن اللبن يعدي ) وقيل إن جعفر بن سليمان بن علي عاب يوما على أولاده وأنهم ليسوا كما يحب فقال له ولده أحمد بن جعفر إنك عمدت إلى فاسقات مكة والمدينة وإماء الحجاز فأوعيت فيهن نطفك ثم تريد أن ينجبن وإنما نحن كصاحبات الحجاز هلا فعلت في ولدك ما فعل أبوك فيك حين اختار لك عقيلة قومها فزوجها منك وأنشدوا
( صفات من يستحب الشرع خطبتها ... جلوتها الأولى الألباب مختصرا )
( صبية ذات دين زانه أدب ... بكر ولود حكت في نفسها القمرا )
( غريبة لم تكن من أهل خاطبها ... تلك الصفات التي أجلوا لمن نظرا )
( فيها أحاديث جاءت وهي ثابتة ... أحاط علما بها من في العلوم قرا ) وقال آخر
( مطيات السرور فويق عشر ... إلى العشرين ثم قف المطايا )
( فإن جزت المسير فسر قليلا ... وبنت الأربعين من الرزايا ) وقال آخر
( فإياك إياك العجوز ووطأها ... فما هو إلا مثل سم الأراقم )

أن العيش كله مقصور على الحليلة الصالحة والبلاء كله موكل بالقرينة السوء التي لا تسكن النفس إلى عشرتها ولا تقر العيون برؤيتها وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام المرأة العاقلة تعمر بيت زوجها والمرأة السفيهة تهدمه
وروي أنه لما حضر أبو طالب نكاح رسول الله على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر خطب فقال الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إن محمد بن عبد الله ابن أخي من لا يوزن به رجل من قريش إلا رجح به برا وفضلا وكرما ومجدا ونبلا فإن كان في المال قل فالمال ظل زائل ورزق حائل وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا وكذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل
ولما خطب عمرو بن حجر الكندي إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أم إياس وأجابه إلى ذلك أقبلت عليها أمها ليلة دخولها بها توصيها فكان مما أوصتها به أن قالت أي بنية إنك مفارقة بيتك الذي منه خرجت وعشك الذي منه درجت إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له أمة ليكون لك عبدا واحفظي له خصالا عشرا يكن لك ذخرا فأما الأولى والثانية فالرضا بالقناعة وحسن السمع له والطاعة وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لمواقع عينيه وأنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم أنفه منك إلا أطيب الريح وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت طعامه ومنامه فإن شدة الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة وأما السابعة والثامنة فالاحراز لماله والارعاء على حشمه وعياله وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصي له أمرا ولا تفشي له سرا فإنك إن خالفت أمره أو غرت صدره وإن أفشيت سره لم تأمني غدره وإياك والفرح بين يديه إذا كان مهتما والكآبة لديه إذا كان فرحا فقبلت وصية أمها فأنجبت وولدت له الحرث بن عمرو جد أمرئ القيس الملك الشاعر

الهيثم بن عدي الطائي عن الشعبي قال لقيني شريح فقال لي يا شعبي عليك بنساء بني تميم فإني رأيت لهن عقولا فقلت وما رأيت من عقولهن قال أقبلت من جنازة ظهرا فمررت بدورهن وإذا أنا بعجوز على باب دار وإلى جانبها جارية كأحسن ما رأيت من الجواري فعدلت إليها واستسقيت وما بي عطش فقالت لي أي الشراب أحب إليك قلت ما تيسر قالت ويحك يا جارية ائتيه بلبن فإني أظن الرجل غريبا فقلت للعجوز ومن تكون هذه الجارية منك قالت هي زينب بنت جرير إحدى نساء بني حنظلة قلت هي فارغة أم مشغولة قالت بل فارغة قلت أتزوجينيها قالت إن كنت كفأ ( ولم تقل كفوا ) وهي لغة بني تميم فتركتها ومضيت إلى منزلي لأقيل فيه فامتنعت مني القائلة فلما صليت الظهر أخذت بيد إخواني من العرب الأشراف علقمة والأسود والمسيب ومضيت أريد عمها فاستقبلنا وقال ما شأنك أبا أمية قلت زينب ابنة أخيك قال ما بها عنك رغبة فزوجنيها فلما صارت في حبالي ندمت وقلت أي شيء صنعت بنساء بني تميم وذكرت غلظ قلوبهن فقلت أطلقها ثم قلت لا ولكن أدخل بها فإن رأيت ما أحب وإلا كان ذلك فلو شهدتني يا شعبي وقد أقبلت نساؤها بهدينها حتى أدخلت علي فقلت إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم ويصلي ركعتين ويسأل الله تعالى من خيرها ويتعوذ من شرها فتوضأت فإذا هي تتوضأ بوضوئي وصليت فإذا هي تصلي بصلاتي فلما قضيت صلاتي أتتني جواريها فأخذن ثيابي وألبسني ملحفة قد صبغت بالزعفران فلما خلا البيت دنوت منها فمددت يدي إلى ناصيتها فقالت على رسلك أبا أمية ثم قالت الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله أما بعد فإني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه وما تكره فأجتنبه فإنه قد كان لك منكح في قومك ولي في قومي مثل ذلك ولكن إذا قضى الله أمرا كان مفعولا وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله تعالى به إما إمساك بمعروف أو تسريح باحسان أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولك ولجميع المسلمين قال فأحوجتني

والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع فقلت الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله أما بعد فإنك قلت كلاما إن ثبت عليه يكن ذلك حظا لي وإن تدعيه يكن حجة عليك أحب كذا وأكره كذا وما رأيت من حسنة فابثثيها وما رأيت من سيئة فاستريها فقالت كيف محبتك لزيارة الأهل ؟ قلت ما أحب أن يملني أصهاري قالت فمن تحب من جيرانك يدخل دارك آذن له ومن تكرهه أكرهه قلت بنو فلان قوم صالحون وبنو فلان قوم سوء قال فبت معها يا شعبي بأنعم ليلة ومكثت معي حولا لا أرى منها إلا ما أحب فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء وإذا أنا بعجوز في الدار تأمر وتنهي قلت من هذه ؟ قالوا فلانة أم حليلتك قلت مرحبا وأهلا وسهلا فلما جلست أقبلت العجوز فقالت السلام عليك يا أبا أمية فقلت وعليك السلام ومرحبا بك وأهلا قالت كيف رأيت زوجتك قلت خير زوجة وأوفق قرينة لقد أدبت فأحسنت الأدب وريضت فأحسنت الرياضة فجزاكي الله خيرا فقالت أبا أمية إن المرأة لا يرى أسوأ حالا منها في حالتين قلت وما هما ؟ قالت إذا ولدت غلاما أو حظيت عند زوجها فإن رابك مريب فعليك بالسوط فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم أشر من الروعاء المدللة فقلت والله لقد أدبت فأحسنت الأدب وريضت فأحسنت الرياضة قالت كيف تحب أن يزورك أصهارك ؟ قلت ما شاءوا فكانت تأتيني في رأس كل حول فتوصيني بتلك الوصية فمكثت معي يا شعبي عشرين سنة لم أعب عليها شيئا وكان لي جار من كندة يفزع امرأته ويضربها فقلت في ذلك
( رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلت يميني يوم تضرب زينب )
( أأضربها من غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس يذنب )
( فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب )
وخطب الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على ألفي ألف في السر وخمسمائة ألف في العلانية فأجابه إلى ذلك وحملها إلى العراق فأقامت عنده ثمانية أشهر فلما خرج عبد الله بن

إلى عبد الملك بن مروان وافدا نزل بدمشق فأتاه الوليد بن عبد الملك على بغلة ومعه الناس فاستقبله ابن جعفر بالترحيب فقال له الوليد لكنك أنت لا مرحبا بك ولا أهلا قال مهلا يا ابن أخي فلست أهلا لهذه المقالة منك قال بلى والله وبشر منها قال وفيم ذلك ؟ قال لأنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب وسيدة نساء بني عبد مناف فعرضتها عبد ثقيف يتفخذها بتفخذ قال وفي هذا عتبت علي يا ابن أخي ؟ قال نعم فقال عبد الله والله ما أحق الناس أن لا يلومني في هذا إلا أنت وأبوك لأن من كان قبلكم من الولاة كانوا يصلون رحمي ويعرفون حقي وإنك وأباك منعتماني رفدكما حتى ركبني الدين أما والله لو أن عبدا حبشيا مجدعا أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها منه إنما فديت بها رقبتي فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه ومضى حتى دخل على عبد الملك فقال ما لك يا أبا عباس ؟ قال إنك سلطت عبد ثقيف وملكته حتى تفخذ نساء بني عبد مناف فأدركت عبد الملك غيرة فكتب إلى الحجاج يقسم عليه أن لا يضع كتابه من يده حتى يطلقها ففعل قال ولم يكن يقطع الحجاج عنها رزقا ولا كرامة يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا وما زال واصلا لعبد الله بن جعفر حتى مات وما كان يأتي عليه حول إلا وعنده عير مقبلة من عند الحجاج عليها أموال وكسوة وتحف
وحكي أن المغيرة بن شعبة لما ولي الكوفة سار إلى دير هند بنت النعمان وهي فيه عمياء مترهبة فاستأذن عليها فقالت من أنت ؟ قال المغيرة ين شعبة الثقفي قالت ما حاجتك ؟ قال جئت خاطبا قالت إنك لم تكن جئتني لجمال ولا مال ولكنك أردت أن تتشرف في محافل العرب فتقول تزوجت بنت النعمان بن المنذر وإلا فأي خير في اجتماع عمياء وأعور وكان عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قد تزود عاتكة بنت عمرو بن نفيل وكانت من أجمل نساء قريش وكان عبد الرحمن من أحسن الناس وجها وأبرهم بوالديه فلما دخل بها غلبت على عقله وأحبها حبا شديدا فثقل ذلك على أبيه فمر به أبو بكر يوما وهو في غرفة له فقال يا بني إني أرى هذه

قد أذهلت رأيك وغلبت على عقلك فطلقها قال لست أقدر على ذلك فقال أقسمت عليك إلا طلقتها فلم يقدر على مخالفة أبيه فطلقها فجزع عليها جزعا شديدا وامتنع من الطعام والشراب فقيل لأبي بكر أهلكت عبد الرحمن فمر به يوما وعبد الرحمن لا يراه وهو مضطجع في الشمس ويقول هذه الأبيات
( فوالله لا أنساك ما ذر شارق ... وما ناح قمري الحمام المطوق )
( فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها
ولا مثلها في غير شيء يطلق )
( لها خلق عف ودين ومحتد ... وخلق سوي في الحياء ومنطق ) فسمعه أبوه فرق له وقال له راجعها يا بني فراجعها وأقامت عنده حتى قتل عنها يوم الطائف مع رسول الله أصابه سهم فقتله فجزعت عليه جزعا شديدا وقالت ترثيه
( فآ ليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا )
( فتى طول عمري ما أرى مثله فتى ... أكر وأحمى في الهياج وأصبرا )
( إذا شرعت فيه الأسنة خاضها ... إلى القرن حتى يترك الرمح أحمرا ) ثم تزوجها بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته ودعا الناس إلى وليمته فأتوه فلما فرغ من الطعام وخرج الناس قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه يا أمير المؤمنين ائذن لي في كلام عاتكة حتى أهنيها وأدعو لها بالبركة فذكر عمر ذلك لعاتكة فقالت إن أبا الحسن فيه مزاح فائذن له يا أمير المؤمنين فأذن له فرفع جانب الخدر فنظر اليها فإذا ما بدا من جسدها مضمخ بالخلوق فقال لها يا عاتكة ألست القائلة
( فآ ليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا )

وقيل إن عمر لما قتل عنها جزعت عليه جزعا شديدا وتزوجت بعده الزبير بن العوام وكان رجلا غيورا وكانت تخرج إلى المسجد كعادتها مع أزواجها فشق ذلك عليه وكان يكره أن ينهاها عن الخروج إلى الصلاة لحديث رسول الله ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) فعرض لها ليلة في ظهر المسجد وهي لا تعرفه فضرب بيده عجيزتها ثم انصرف فقعدت بعد ذلك عن الخروج إلى المسجد وكان يقول لها ألا تخرجين يا عاتكة ؟ فتقول كنا نخرج إذا الناس ناس وما بهم من باس وأما الآن فلا ثم قتل عنها الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع وهو نائم ثم تزوجها بعده محمد بن أبي بكر فقتل عنها بمصر فقالت لا أتزوج بعده أبدا إني لأحسبني أني لو تزوجت جميع أهل الأرض لقتلوا عن آخرهم
وحكي عن الحرث بن عوف بن أبي حارثة أنه قال لخارجة بن سنان أترى أخطب إلى أحد فبردني قال نعم قال ومن هو ؟ قال أوس بن حارثة بن لام الطائي قال اركب بنا إليه فركبنا إليه حتى أتينا أوس بن حارثة في بلاده فوجدناه في فناء منزلة فلما رأى الحرث ابن عوف قال مرحبا بك يا حارث ثم قال ما جاء بك ؟ قال جئت خاطبا قالت لست هناك فانصرف ولم يكلمه فدخول أوس على امرأته مغضبا فقالت له من الرجل الذي سلم عليك فلم تطل معه الوقوف ولم تكلمه ؟ فقال ذلك سيد العرب الحارث بن عوف فقالت فما لك لا تستنزله ؟ قال إنه استهجنني قالت وكيف ؟ قال لأنه جاءني خاطبا فالت ألست تزعم أنه سيد العرب قال نعم قالت إذا لم تزوج سيد العرب في زمانه فمن تزوج ؟ قال قد كان ذلك قالت فتدارك ما كان منك قال فبماذا ؟ قالت بأن تلحفه فترده قال وكيف وقد فرط مني إليه ما فرط قالت تقول له إنك لقيتني وأنا مغضب لأمر فلك المعذرة فيما فرط مني فارجع ولك عندي كل ما طلبت قال فركب في أثرهما قال خارجة ابن سنان فوالله إنا لنسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته فقلت للحرث وهو ما يكلمني هذا أوس في أثرنا فقال ما أصنع به فلما رآنا

لا نقف قال يا حاراث اربع علي فوقفنا له وكلمه بذلك الكلام فرجع مسرورا قال خارجة بن سنان فبلغني أن أوسا لما دخل منزله قال لزوجته ادعيى لي فلانة أكبر بناته فأتته فقال لها أي بنية هذا الحرث بن عوف سيد من سادات العرب جاءني خاطبا وقد أردت أن أزوجك منه فما تقولين ؟ قالت لا تفعل قال ولم ؟ قالت لأن في خلقي رداءة وفي لساني حدة ولست بابنة عمه فيراعي رحمي ولا هو بجارك في البلد فيستحي منك ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي بذلك مسبة قال لها قومي بارك الله فيك ثم دعا ابنته الأخرى فقال لها مثل قوله لأختها فأجابته بمثل جوابها فقال لها قومي بارك الله فيك ثم دعا بالثالثة وكانت أصغرهن سنا فقال لها مثل ما قال لأختيها فقالت له أنت وذاك فقال لها إني عرضت ذلك على أختيك فأبتاه ولم يذكر لها مقالتهما فقالت والله أني الجميلة وجها الرفيعةخلقا الحسنة رأيا فإن طلقني فلا أخلف الله عليه فقال لها بارك الله فيك ثم خرج إليه فقال زوجتك يا حارث بابنتي هئيسة قال قد قبلت نكاحها وأمر أمها أن تهيئها له وتصلح شأنها ثم أمر ببيت فضرب له وأنزله إياه ثم بعثها إليه فلما دخلت عليه لبث هنيهة ثم خرج إلي فقلت له أفرغت من شأنك ؟ قال لا والله قلت له وكيف ذلك ؟ قال لما مددت يدي إليها قالت مه أعند أبي وأخوتي هذا والله لا يكون ثم أمر بالرحلة فارتحلنا بها معا وسرنا ما شاء الله قال لي تقدم فتقدمت فعدل عن الطريق فما لبث أن لحقني فقلت أفرغت من شأنك ؟ قال لا والله قلت ولم ؟ قال قالت تفعل بي كما يفعل بألأمة السبية الأخيذة لا والله حتى تنحر الجزر والغنم وتدعو العرب وتعمل ما يعمل مثلك لمثلي فقلت والله إني لأرى همة وعقلا فقال صدقت قال أرجو الله أن تكون المرأة النجيبة فوردنا إلى بلادنا فأحضر الإبل والغنم ونحر وأولم ثم دخل عليها وخرج إلي فقلت أفرغت من شأنك ؟ قال لا والله قلت ولم ذلك ؟ قال دخلت عليها أريدها فقلت لها أحضرت من المال ما تريدين قالت والله لقد ذكرت من الشرف

ليس فيك قلت ولم ذاك ؟ قالت أتستفرغ لنكاح النساء والعرب يقتل بعضها بعضا وكان ذلك في أيام حرب قيس وذبيان قلت فماذا تقولين ؟ قالت أخرج إلى القوم فاصلح بينهم ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك ما تريد فقلت والله إني لأرى عقلا ورأيا سديدا قال فاخرج بنا فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى ثم تؤخذ الدية فحملنا عنهما الديات فكانت ثلاثة الآف بعير فانصرفنا بأجمل ذكر ثم دخل عليها فقالت له أما الآن فنعم فأقامت عنده في ألذ عيش وأطيبه وولدت له بنين وبنات وكان من أمرهما ما كان والله أعلم بالصواب
وحكى الفضل أبو محمد الطيبي قال حدثنا بعض أصحابنا أن رجلا من بني سعد مرت به جاريه لأمية بن خالد بن عبد الله بن أسد ذات ظرف وجمال وكان شجاعا فارسا فلما رآها قال طوبى لمن كان له امرأة مثلك ثم اتبعها رسولا يسألها ألها زود ويذكره لها وكان جميلا فقالت للرسول وما حرفته فأبلغه الرسول ذلك فقال ارجع إليها وقل لها
( وسائلة ما حرفتي قلت حرفتي ... مقارعة الأبطال في كل شارق )
( إذا عرضت خيل لخيل رأيتني ... أمام رعيل الخيل أحمي حقائقي )
( أصبر نفسي حين لم أر صابرا ... على ألم البيض الرقاق البوارق ) فلحقها الرسول فأنشدها ما قال فقالت له ارجع إليه وقل له أنت أسد فاطلب لك لبوة فلست من نسائك وأنشدته تقول
( ألا إنما أبغي جوادا بماله ... كريما محياه كثير الصدائق )
( فتى همه مذ كان خود خريدة ... يعانقها في الليل فوق النمارق )
وحدث يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن عبد الحكم عن الإمام

الشافعي رضي الله عنه قال تزوج رجل امرأة جديدة على امرأة قديمة فكانت الجارية الجديدة تمر على بيت القديمة فتقول
( وما يستوي الرجلان رجل صحيحة ... وأخرى رمى فيها الزمان فشلت ) ثم تعود وتقول
( وما يستوي الثوبان ثوب به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديد ) فمرت الجارية القديمة على باب الجديدة يوما وقالت
( نقل فؤادك ما استطعت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول )
( كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل ) وقال عمرو بن العلاء وكان أعلم الناس بالنساء
( فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بادواء النساء طبيب )
( إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب ) وسئل المغيرة بن شعبة عن صفة النساء فقال بنات العم أحسن مؤاساة والغرائب أنجب وما ضرب رؤوس الأقران مثل ابن السوداء وقال عبد الملك بن مروان من أراد أن يتخذ جارية للمتعة فليتخذها بربرية ومن أراد أن يتخذها للولد فليتخذها فارسية ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذها رومية قال الشاعر
( لا تشتمن امرأ ممن يكون له ... أم من الروم أو سوداء عجماء )
( فإنما أمهات القوم أرعية ... مستودعات وللأنساب آباء ) وقال الأصمعي أتاني رجل من قريش يستشيرني في امرأة يتزوجها فقلت يا ابن أخي أقصيرة النسب أم طويلته فلم يفهم علي فقلت يا ابن أخي أما القصيرة النسب فالتي إذا ذكرت أياما اكتفت به والطويلة النسب فهي التي لا تعرف حتى تطيل في نسبها فإياك أن تقع مع قوم قد أصابوا كثيرا من الدنيا مع دناءة فيهم فتضيع نسبك فيهم وخرج رجل من أهل الكوفة في غزاة فكسب جارية وفرسا وكان مملكا على ابنة عمه فكتب إليها يعيرها ويقول

( إلا بلغوا أم البنين بأننا ... غنينا واغنتنا الغطارفة النجد )
( بعيد مناط المنكبي إذا جرى ... وبيضاء كالتمثال زينها العقد )
( فهذا لأيام العدو وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجند ) فلما ورد عليها كتابه وقرأته قالت يا غلام هات الدواة وكتبت جوابه تقول
( ألا فاقرء مني السلام وقل له ... غنينا وأغنتنا الغطارفة المرد )
( إذا شئت أغناني غلام مرجل ... ونازعته في ماء معتصر الورد )
( وإن شاء منهم ناشئ مد كفه ... إلى عكن ملساء أو كفل نهدي )
( فما كنتم تقضون حاجة أهلكم ... شهودا فتقضوها على النأى والبعد )
( فعجل إلينا بالسراح فإنه ... منانا ولا ندعو لك الله بالرد )
( فلا قفل الجنج الذي أنت فيهم ... وزادك رب الناس بعدا على بعد ) فلما ورد عليه كتابها لم يزد على أن ركب الفرس وأردف الجارية خلفه ولحق بابنة عمه فكان أول شيء بدأها به بعد السلام أن قال لها بالله عليك هل كنت فاعلة ذلك فقالت له الله في قلبي أعظم وأجل وأنت في عيني أذل وأحقر من أن أعصي الله فيك فكيف ذقت طعم الغيرة فوهب لها الجارية وانصرف إلى الغزاة والله تعالى أعلم بالصواب
الفصل الثاني في صفات النساء المحمودة
كتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب أن أخطب لعبد الملك بن مراون امرأة جميلة من بعيد مليحة من قريب شريفة في قومها ذليلة في

مؤاتية لبعلها فكتب إليه قد أصبتها لولا عظم ثديها فكتب إليه لا يكمل حسن المرأة حتى يعظم ثديها فتدفي الضجيع وتروي الرضيع وقال عبد الملك بن مروان لرجل من غطفان صف لي أحسن النساء قال خذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمين ردماء الكعبين ناعمة الساقين ضخماء الركبتين لفاء الفخذين ضخمة الذراعين رخصة الكفين ناهدة الثديين حمراء الخدين كحلاء العينين زجاء الحاجبين لمياء الشفتين بلجاء الجبين شماء العرنين شنباء الثغر محلولكة الشعر غيداء العنق مكسرة البطن فقال ويحك وأين توجد هذه قال تجدها في خالص العرب وفي خالص الفرس وقال حكيم عليكم بمن تربت في النعيم ثم أصابتها فاقة فأثر فيها الغنى وأدبها الفقر وقال رجل لخاطب ابغ لي امرأة لا تؤنس جارا ولا توطن دارا يعني لا تدخل على الجيران ولا تدخل الجيران عليها وفي مثل هذه قال الشاعر
( هيفاء فيها إذا استقبلتها صلف ... عيطاء غامضة الكعبين معطار )
( خود من الخفرات البيض لم يرها ... بساحة الدار لا بعل ولا جار ) وقال الأعشى
( لم تمش ميلا ولم تركب على جمل ... ولم تر الشمس دونها الكلل ) وكانت امرأة عمران بن حطان من أجمل الناس وجها وكان هو من أقبح الناس وجها فقال لها يوما أنا وإياك في الجنة إن شاء الله تعالى فقالت له وكيف ذلك فقال لأني أعطيت مثلك فشكرت وأعطيت مثلي فصبرت والصابر والشاكر في الجنة وقال بعضهم رأيت في طريق مكة أعرابية ما رأيت أحسن منها وجها فقعدت أنظر إليها وأتعجب من جمالها فجاء شيخ قصير فأخذ بردائها وسار بها ومضى فلقيتها مرة أخرى فقلت لها من هذا الشيخ قالت زوجي قلت كيف يرضى مثلك بمثله فأنشد

( أيا عجبا للخود يجري وشاحها ... تزف إلى شيخ بأقبح تمثال )
( دعاني إليه أنه ذو قرابة ... يعز علينا من بني العم والخال ) وسمع بعضهم قائلا يقول
( ومن لا يرد مدحي فإن مدائحي ... نوافق عند الأكرمين نوامي )
( نوافق عند المشتري الحمد بالندى ... نفاق بنات الحرث بن هشام ) فقال يا ابن أخي ما بلغ من نفاق بنات الحرث بن هشام قال كن من أجمل الناس وجوها وكان أبوهن إذا زوجهن يسوفهن ومهورهن إلى بعولتهن فقال يا ابن أخي لو فعل هذا ابليس ببناته لتنافست فيهن الملائكة المقربون
وقال عبد الملك لابن أبي الرقاع كيف علمك بالنساء قال أنا والله أعلم الناس بهن وجعل يقول
( قضاعية الكعبين كندية الحشا ... خزاعية الأطراف طائية الفم )
( لها حكم لقمان وصورة يوسف ... ومنطق داود وعفة مريم ) وقالوا الوجه الحسن أحمر وقد تضرب فيه الصفرة مع طول المكث في الكن والتضمخ بالطيب وقالوا أن الوجه الرقيق البشرة الصافي الأديم إذا خجل يحمر وإذا فرق يصفر ومنه قولهم ديباج الوجه يريدون تلونه من رقته قال علي بن زيد في وصفه
( حمرة خلط صفرة في بياض ... مثل ما حاك حائك ديباجا ) ( وقال علي بن عبد ربه )
( بيضاء يحمر خداها إذا خجلت ... كما جرى ذهب في صفحتي ورق ) وقالوا إن الجارية الحسناء تتلون بتلون الشمس فهي بالضحى بيضاء وبالعشى صفراء فقال ذو الرمة

( بيضاء صفراء قد تنازعها ... لونان من فضة ومن ذهب ) قالوا ليس المرأة الجميلة التي تأخذ ببصرك جملة على بعد فإذا دنت منك لم تكن كذلك بل الجميلة التي كلما كررت بصرك فبها زادتك حسنا وقالوا إن أردت أن ينجب ولدك فاغضبها ثم قع عليها قال الشاعر
( ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فعاش غير مهبل )
( حملت به في ليلة مزورة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل )
الفصل الثالث في صفة المرأة السوء نعوذ بالله تعالى منها
في حكمة داود عليه السلام " أن المرأة السوء مثل شرك الصياد لا ينجو منها إلا من رضي الله تعالى عنه " وقيل المرأة السوء غل يلقيه الله تعالى في عنق من يشاء من عباده وقيل لأعرابي كان ذا تجربة للنساء صف لنا شر النساء فقال شرهن النحيفة الجسم القليلة اللحم المحياض الممراض المصفرة الميشومة العسرة المبشومة السلطة البطرة النفرة السريعة الوثبة كأنها لسان حربة تضحك من غير عجب وتبكي من غير سبب وتدعو على زوجها بالحرب أنف في السماء وإست في الماء عرقوبها حديد منتفخة الوريد كلامها وعيد وصوتها شديد وتدفن الحسنات وتفشي السيآت تعين الزمان على بعلها ولا تعين بعلها على الزمان ليس في قلبها عليه رأفة ولا عليها منه مخافة إن دخل خرجت وإن خرج دخلت وإن ضحك بكت وإن بكى ضحكت كثيرة الدعاء قليلة الإرعاء تأكل لما وتوسع ذما ضيقة الباع مهتوكة القناع صبيها مهزول وبيتها مزبول إذا حدثت تشير بالإصبع وتبكي في المجامع بادية من حجابها نباحة عند بابها تبكي وهي ظالمة وتشهد وهي غائبة

دلى لسانها بالزور وسال دمعها بالفجور ابتلاها الله بالويل والثبور وعظائم الأمور ويقال إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها فإن علامة ذلك أن تكون عند قربها منه مرتدة الطرف عنه كأنها تنظر إلى إنسان غيره من ورائه وإن كانت محبة له لا تقلع عن النظر إليه قال بعضهم
( لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السوء يلقى معمر )
( فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلا ... وعذبها فيه نكير ومنكر ) وقال زيد بن عمير
( أعاتبها حتى قلت أقلعت ... أبى الله إلا خزيها فتعود )
( فإن طمثت قادت وإن طهرت زنت ... فهاتيك تزني دائما وتقود ) وقال داود عليه الصلاة و السلام المرأة السوء على بعلها كالحمل الثقيل على الشيخ الكبير والمرأة الصالحة كالتاج المرصع بالذهب كلما رآها قرت عينه برؤيتها والله أعلم
الفصل الرابع في مكر النساء وغدرهن وذمهن ومخالفتهن
في حكمة داود عليه الصلاة و السلام وجدت في الرجال واحدا في ألف ولم أجد واحدة في جميع النساء وقيل إن عيسى عليه الصلاة و السلام لقي إبليس يسوق أربعة أحمرة عليها أحمال فسأله فقال أحمل تجارة وأطلب مشترين فقال ما أحدها قال الحمور قال من يشتريه قال السلاطين قال فما الثاني قال الحسد قال فمن يشتريه قال العلماء قال فما الثالث قال الخيانة قال فمن يشتريها قال التجار قال فما الرابع قال الكيد قال

فمن يشتريه قال النساء وقال حكيم النساء شر كلهن وشر ما فيهن قلة الاستغناء عنهن وقالت الحكماء لا تثق بامرأة ولا تغتر بمال وإن كثر وقال النساء حبائل الشيطان قال الشاعر
( تمتع بها ملسا عفتك ولا تكن ... جزوعا إذا بانت فسوف تبين )
( وخنها وإن كانت تفي لك إنها ... على قدم الأيام سوف تخون )
( وإن هي أعطتك الليان فانها ... لغيرك من طلابها ستلين )
( وإن حلفت أن ليس تنقض عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين )
( وإن سكبت يوم الفراق دموعها ... فليس لعمر الله ذاك يقين ) وقال ابن بشار
( رأيت مواعيد النساء كأنها ... سراب لمرتاد المناهل حافل )
( ومنتظر الموعود منهن كالذي ... يؤمل يوما أن تلين الجنادل ) قال بعض الحكماء لم تنه عن شيء قط إلا فعلته وقال الغنوي
( إن النساء متى ينهين عن خلق ... فإنه واقع لا بد مفعول ) وقال النخعي من اقتراب الساعة طاعة النساء ويقال من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه وقال علي رضي الله تعالى عنه إياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن اكفف أبصارهن بالحجاب فإن شدة الحجاب خير لهن من الارتياب وليس خروجهن بأضر من دخول من لا يوثق به عليهن فإن استطعت أن لا يعرفهن غيرك فافعل قال السمعاني
( لا تأمنن على النساء ولو أخا ... ما في الرجال على النساء أمين )
( إن الأمين وإن تحفظ جهده ... لا بد أن بنظرة سيخون ) وقال غيره
( لا تركنن إلى النساء ... ولا تثق بعهودهن )

( فرضاؤهن جميعهن ... معلق بفروجهن ) وقال علي رضي الله تعالى عنه لا تطلعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال ولا تذروهن إلا لتدبير العيال إن تركن وما يردن أو ردن المهالك وأفسدن الممالك ينسين الخير ويحفظن الشر يتهافتن في البهتان ويتمادين في الطغيان وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ذل من أسند أمره إلى امرأة وقيل إن صيادا أتى أبرويز بسمكة فأعجبه حسنها وسمتها فأمر له بأربعة آلاف درهم فخطأته سيرين زوجته فقال لها ماذا أفعل فقالت له إذا جاءك فقل له أذكر كانت أم أنثى فإن قال لك ذكر فاطلب منه الأنثى وإن قال لك أنثى فاطلب منه الذكر فلما أتاه سأله فقال كانت أنثى فقال ائتني بذكرها فقال عمر الله الملك كنت بكرا لم تتزوج فقال زه وأمر له بثمانية آلاف درهم وقال اكتبوا في الحكمة الغدر ومطاوعة النساء يؤديان إلى الغرم الثقيل وقال حكيم اعص النساء وهواك وافعل ماشئت وقال عمر رضي الله تعالى عنه أكثروا لهن من قول لا فإن نعم تغريهن على المسألة قال أستعيذ بالله من أشرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر
ومما قيل في الباءة ذكر الجماع عند الإمام مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه قال هو نور وجهك ومخ ساقك منه أو أكثر وقال معاوية رضي الله تعالى عنه ما رأيت نهما في النساء إلا عرفت ذلك في وجهه وخلا تمام بجارية له فعجز عنها فقال ما أوسع حرك فأنشأت تقول
( أنت الفداء لمن قد كان يملؤه ... ويشتكي الضيق منه حين يلقاه ) وقال آخر
( شفاء الحب تقبيل ولمس ... وسحب بالبطون على البطون )

( ورهز تذرف العينان منه ... وأخذ بالمناكب والقرون ) وقالت امرأة من أهل الكوفة دخلت على عائشة بنت طلحة فسألت عنها فقيل هي مع زوجها في القيطون فسمعت شهيقا وشخيرا لم أسمع مثله ثم خرجت إلي وجبينها يتصبب عرقا فقلت لها ما ظننت حرة تفعل هذا بنفسها فقالت إن الخيل تشرب بالصفير وعاتبت امرأة زوجها على قلة إتيانها فأجابها يقول
( أنا شيخ ولي امرأة عجوز ... تراودني على ما لا يجوز )
( وقالت رق أيرك مذ كبرنا ... فقلت بلى قد اتسع القفيز ) وكان لرجل امرأة تخاصمه وكلما خاصمته قام إليها فواقعها فقالت ويحك كلما تخاصمني تأتيني بشفيع لا أقدر على رده وأتى رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقال إن لي امرأة كلما غشيتها تقول قتلتني فقال اقتلها بهذه القتلة وعلي إثمها وقالوا من ل جماعه فهو أصح بدنا وأنقى جلدا وأطول عمرا ويعتبر ذلك بذكور الحيوان وذلك أنه ليس في الحيوان أطول أعمارا من البغال ولا أقصر أعمارا من العصافير وهي أكثرها سفادا والله تعالى أعلم بالصواب
الفصل الخامس في الطلاق وما جاء فيه
عن عبد الرحمن بن محمد بن أخي الأصمعي قال قال عمي للرشيد في بعض حديثه يا أمير المؤمنين بلغني إن رجلا من العرب طلق في يوم واحد خمس نسوة قال وكيف ذلك وإنما لا يجوز للرجل غير أربعة قال يا أمير المؤمنين كان متزوجا بأربعة فدخل عليهن يوما فوجدهن متنازعات وكان شريرا فقال إلى متى هذا النزاع ما أظن

هذا إلا من قبلك يا فلانة لامرأة منهن اذهبي فأنت طالق فقالت له صاحبتها عجلت عليها بالطلاق ولو أدبتها بغير ذلك لكان أصلح فقال لها وأنت أيضا طالق فقالت له الثالثة قبحك الله فوالله لقد كانتا إليك محسنتين فقال لها وأنت أيضا أيتها المتعددة أياديهما طالق فقالت الرابعة وكانت هلالية ضاق صدرك إلا أن تؤدب نساءك بالطلاق فقال لها وأنت طالق أيضا فسمعته جاره له فأشرفت عليه وقالت له والله ما شهدت العرب عليك ولا على قومك بالضعف إلا لما بلوه منكم ووجدوه فيكم أبيت إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة فقال لها وأنت أيتها المتكلمة فيما لا يعنيك طالق إن أجازني بعلك فأجابه زوجها قد أجزت لك ذلك فعجب الرشيد من ذلك وطلق امرأته فلما أرادت الارتحال قال لها اسمعي وليسمع من حضر إني والله اعتمدتك برغبة وعاشرتك بمحبة ولم أجد منك زلة ولم يدخلني عنك ملة ولكن القضاء كان غالبا فقالت المرأة جزيت من صاحب ومصحوب خيرا فما استقللت خيرك ولا شكوت ضيرك ولا تمنيت غيرك ولا أجد لك في الرجال شبيها وليس لقضاء الله مدفع ولا من حكمة علينا ممنع وقال رجل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء فقال يكفيه من ذلك عدد نجوم الجوزاء
ذكر من طلق امرأته فتبعها نفسه قال الهيثم بن عدي كانت تحت ابن الغربان بن الأسود بنت عم له فطلقها فتبعتها نفسه فكتب إليها يعرض لها بالرجوع فكتبت إليه تقول
( إن كنت ذا حاجة فاطلب لها بذلا ... إن الغزال الذي ضيعت مشغول ) فكتب إليها يقول
( إن كان ذا شغل فالله يكلؤه ... فقد لهونا به والحبل موصول )
( وقد قضينا من استظرافه وطرا ... وفي الليالي وفي أيامها طول )

وطلق الوليد بن يزيد زوجته سعدى فلما تزوجت اشتد ذلك عليه وندم على ما كان منه فدخل عليه أشعب فقال له هل لك أن تبلغ سعدى عني رسالة ولك عشرة آلاف درهم قال أقبضنيها فأمر له بها فلما قبضها قال له هات رسالتك قال ائتها فأنشدها
( أسعدى هل إليك لنا سبيل ... ولا حتى القيامة من تلاق )
( بلى ولعل دهرا أن يؤاتي ... بموت من خليلك أو فراق ) قال فأتاها أشعب فاستأذن عليها فأذنت له فدخل فقالت له ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب فقال يا سيدتي أرسلني إليك برسالة ثم أنشدها الشعر فقالت لجواريها عليكن بهذا الخبيث فقال يا سيدتي إنه دفع إلي عشرة آلاف درهم فهي لك واعتقيني لوجه الله فقالت والله لا أعتقك أو تبلغ إليه ما أقول لك قال يا سيدتي فاجعل لي جعلا قالت لك بساطي هذا قال قومي عنه فقامت فأخذه وألقاه على ظهره وقال هاتي رسالتك فقالت
( أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع ) فلما بلغه الرسالة ضاقت عليه الأرض بما رحبت وأخذته كظمة فقال لأشعب اختر مني إحدى ثلاث إما أن أقتلك وأما أن أطرحك من هذا القصر وأما أن ألقيك إلى هذه السباع فتفترسك فتحير أشعب وأطرق مليا ثم قال يا سيدي ما كنت لتعذب عينا نظرت إلى سعدى فتبسم وخلى سبيله وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه الفرزدق الشاعر طلق النوار ثم ندم على طلاقها وقال
( ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار )
( فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... بأمر ليس لي فيه اختيار )
( وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار )

( ولو أني ملكت بها يميني ... لكان علي للقدر الخيار ) وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه فندم قيس بن ذريح وكان أبوه أمره بطلاقها فطلقها وندم على ذلك فأنشأ يقول
( فنى صبري وعاودني رداعي ... وكان فراق لبتي كالخداع )
( تكنفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع )
( فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على أمر وليس بمستطاع )
( كمغبون يعض على يديه ... تبين غبنه عند البياع ) وحدث العتبي قال جاء رجل بامرأة كأنها برج من فضة إلى عبد الرحمن بن الحكم وهو على الكوفة فقال إن امرأتي هذه شجتني فسألها عبد الرحمن فقالت نعم يا مولاي غير متعمدة لذلك كنت أعالج طيبا فوقع الفهر من يدي على رأسه وليس عندي علم ولا يقوى بدني على القصاص فقال للرجل علام تمسكها وقد فعلت بك ما أرى فقال يا مولاي إن صداقها علي أربعة آلاف درهم ولا تطيب نفسي بفراقها قال فإن أعطيتك الأربعة آلاف درهم تفارقها قال نعم قال هي لك قال فهي إذن طالق فقال لها عبد الرحمن احبسي علينا نفسك وأنشأ يقول
( يا شيخ يا شيخ من دلاك بالغزل ... قد كنت يا شيخ عن هذا بمعتزل )
( رضت الصعاب فلم تحسن رياضتها ... فاعمد لنفسك نحو القرح الذلل ) والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الرابع والسبعون في تحريم الخمر وذمها والنهي عنها قد أنزل الله تعالى في الخمر ثلاث آيات الأولى قوله تعالى ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) الآية فكان من المسلمين من شارب ومن تارك إلى أن شرب رجل فدخل في الصلاة فهجر فنزل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولوا ) فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها حتى شربها عمر رضي الله تعالى عنه فأخذ بلحى بعير وشج به رأس عبد الرحمن بن عوف ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر يقول
( وكائن بالقليب قليب بدر ... من الفتيان والعرب الكرام )
( أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام )
( أيعجز أن يرد الموت عني ... وينشرني إذا بليت عظامي )
( إلا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام )
( فقل لله يمنعني شرابي ... وقل لله يمنعني طعامي ) فبلغ ذلك رسول الله فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان

في يده فضربه به فقال أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فأنزل الله تعالى ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) فقال عمر رضي الله تعالى عنه انتهينا انتهينا
ومن الأخبار المتفق عليها في تحريمها قول سيدنا رسول الله " لا يدخل الجنة مدمن خمر " وقوله " أول ما نهاني ربي بعد عبادة الأوثان عن شرب الخمر وملاحات الرجال " وممن تركها في الجاهلية عبد الله بن جدعان وكان جوادا من سادات قريش وذلك أنه شرب مع أمية بن أبي الصلت الثقفي فضربه على عينه فأصبحت عين أمية مخضرة يخاف عليها الذهاب فقال له عبد الله ما بال عينك فسكت فألح عليه فقال ألست ضاربها بالأمس فقال أو بلغ مني الشراب ما أبلغ معه إلى هذا لا أشربها بعد اليوم ثم دفع له عشرة آلاف درهم وقال الخمر علي حرام لا أذوقها بعد اليوم أبدا وممن حرمها في الجاهلية أيضا قيس بن عاصم وذلك أنه سكر ذات ليلة فقال لابنته أو لأخته فهربت منه فلما أصبح سأل عنها فقيل له أو ما علمت ما صنعت البارحة فأخبر بالقصة فحرم الخمر على نفسه وممن حرمها في الجاهلية أيضا العباس بن مرداس وقيس بن عاصم وذلك أن قيسا شرب ذات ليلة فجعل يتناول القمر ويقول والله لا أبرح حتى أنزله ثم يثب الوثبة بعد الوثبة ويقع على وجهه فلما أصبح وأفاق قال مالي هكذا فأخبروه بالقصة فقال والله لا أشربها أبدا وقيل للعباس بن مرداس لم تركت الشراب وهو يزيد في سماحتك فقال أكره أن أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم ودخل نصيب على عبد الملك بن مروان فأنشده فأعجبه انشاده وشعره ووصله ثم دعا بالطعام فطعم منه فقال له عبد الملك يا نصيب هل لك فيما ينادم عليه قال يا أمير المؤمنين جلدي أسود وخلقي مشوه ووجهي قبيح وتكفيني مجالستك ومؤاكلتك ولم يوصلني إلى ذلك

إلا عقلي وأنا أكره أن يدخل عليه ما ينقصه فأعجبه كلامه ووصله وقال الوليد بن عبد الملك للحجاج في وفدة وفدها عليه هل لك في الشراب فقال يا أمير المؤمنين لا خلاف لما أمرت ولكن أنا أمنع أهل عملي منه وأكره أن أمنعهم عن شيء ولا أمتنع منه وقال الله تعالى ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) وقال تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) وقيل لأعرابي لم لا تشرب النبيذ فقال لا أشرب ما يشرب عقلي وقال الضحاك بن مزاحم لرجل ما تصنع بشرب النبيذ قال يهضم طعامي قال أما أنه يهضم من دينك وعقلك أكثر قال ابن أبي أوفى لقزمه حين نهوا عن الخمر
( ألا يا لقومي ليس في الخمر رفعة ... فلا تقربوا منها فلست بفاعل )
( فإني رأيت الخمر شيئا ولم يزل ... أخو الخمر دخالا لشر المنازل ) وقال الحسن لو كان العقل يشترى لتغالى الناس في ثمنه فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده وقال عليه السلام حب الدنيا رأس كل خطئية والنساء حبائل الشيطان والخمر داعية إلى كل شر وقال بعضهم
( بلوت نبيذ الخمر في كل بلدة ... فليس لأخوان النبيذ حفاظ )
( إذا دارت الأرطال أرضوك بالمنى ... وإن فقدوها فالوجوه غلاظ ) وقال حكيم إياك وإخوان النبيذ فبينما أنت متوج عندهم مخدوم مكرم معظم إذ زلت بك القدم فجروك على شوك السلم فاحفظ قول القائل فيه
( وكل أناس يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم )
( فإن قلت هذا لم أقل عن جهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم ) وللأعرج الطائي
( تركت الشعر واستبدلت منه ... إذا داعي صلاة الصبح قاما )

الصفدي
( دع الخمر فالراحات في ترك راحها ... وفي كأسها للمرء كسوة عار )
( وكم ألبست نفس الفتى بعد نورها ... مدارع قار في مدار عقار )
نكتة اجتمع نصراني ومحدث في سفينة فصب النصراني خمرا من زق كان معه في شربة وشرب ثم صب فيها وعرض على المحدث فتناولها من غير فكر ولا مبالاة فقال النصراني جعلت فداءك إنما هي خمر قال من أين علمت أنها خمر قال اشتراها غلامي من يهودي وحلف أنها خمر فشربها المحدث على عجل وقال للنصراني يا أحمق نحن أصحاب الحديث نضعف مثل سفيان ابن عيينة ويزيد بن هارون أفنصدق نصرانيا عن غلامه عن يهودي والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد
ومن المجون في ذلك ما حكي أن سكرانا استلقى على طريق فجاء كلب فلحس شفتيه فقال خدمك بنوك ولا عدموك فبال على وجهه فقال وماء حارا أيضا بارك الله فيك وقيل حالة السكارى ثلاثة قرد حرك رأسه فرقص وكلب هارش فنبح وحية زويت فنامت ومر عقال الناسك بمرداس بن خدام الأسدي فاستسقاه لبنا فصب له خمرا وعلاه بلبن فشربه وسكر ولم يتحرك ثلاثة أيام فقال
( سقيت عقالا بالعشية شربة ... فمالت بعقل الكاهلي عقالي )
( قرعت بأم الخل حبة قلبه ... فلم ينتعش منها ثلاث ليالي ) ويقال الخمر مصباح السرور ولكنها مفتاح الشرور اللهم تب علينا وعلى العصاة المذنبين برحمتك يا أرحم الراحمين آمين

الباب الخامس والسبعون في المزاح والنهي عنه وما جاء في الترخيص فيه والبسط والتنعم وفيه فصول
الفصل الأول في النهي عن المزاح
قال رسول الله " المزاح استدراج من الشيطان واختلاع من الهوى " وعن علي ما مزح أحد مزحة إلا مج الله من عقله مجة وعنه إياك أن تذكر من الكلام منا يكون مضحكا وإن حكيت ذلك عن غيرك وكتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى عماله أمنعوا الناس من المزاح فإنه يذهب بالمروءة ويوغر الصدور وقال بعض الحكماء تجنب سوء المزاح ونكد الهزل فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد غم وقال آخر لكل شيء بذر وبذر العداوة المزاح وعن محمد بن المنكدر قال قالت لي أمي لا تمازح الصبيان تهن عندهم وخرج أعرابي بالليل فإذا بجارية جميلة فراودها فقالت أما لك زاجر من عقلك إذا لم يكن لك واعظ من دينك فقال والله ما يرانا إلا الكواكب فقالت له يا هذا وأين مكوكبها فأخجله كلامها فقال لها إنما كنت مازحا فقالت
( فإياك إياك المزاح فإنه يجري ... عليك الطفل والرجل النذلا )

( ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورث بعد العز صاحبه ذلا ) وقال الأحنف كثرة الضحك تذهب الهيبة وكثرة المزاح تذهب المروءة ومن لزم شيئا عرف به ومما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتحادثون ويتناشدون الأشعار فإذا جاء ذكر الله انقلبت حماليقهم كأنهم لم يعرفوا أحدا
الفصل الثاني فيما جاء في الترخيص في المزاح والبسط والتنعم
لا بأس بالمزاح ما لم يكن سفها والله تعالى وعد في اللمم بالتجاوز والعفو فقال ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) وقيل إن يحيى بن زكريا لقي عيسى عليه الصلاة و السلام فقال مالي أراك لاهيا كأنك آمن فقال هل عيسى مالي أراك عابسا كأنك أيس فقال لا تبرح حتى يتنزل علينا الوحي فأوحى الله إليهما أن أحبكما إلي أحسنكما ظنا بي ويروى إن أحبكما إلى الطلق البسام وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لجارية خلقني خالق الخير وخلقك خالق الشر فبكت الجارية فقال عمر لا بأس عليك فإن الله خالق الخير والشر قال الشاعر
( إن الصديق يريد بسطك مازحا ... فإذا رأى منك الملالة يقصر )
( وترى العدو إذا تيق أنه ... يؤذيك بالمزح العنيف يكثر ) وكان رسول الله يمزح ولا يقول إلا حقا فمن مزحه أنه جاء رجل فقال يا رسول الله احملني على جمل فقال عليه الصلاة و السلام لا أحملك إلا على ولد الناقة فقال يا رسول الله إنه لا يطيقني فقال له الناس ويحك وهل الجمل إلا ولد الناقة وقال رسول الله لامرأة من الأنصار إلحقي زوجك ففي عينيه بياض فسعت إلى زوجها

مرعوبة فقال لها ما دهاك قالت إن النبي قال لي إن في عينيك بياضا فقال نعم والله وسوادا وأتته أيضا عجوز أنصارية فقالت يا رسول الله أدع الله لي أن يدخلني الجنة فقال لها يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز فولت المرأة تبكي فتبسم وقال لها أما قرأت قوله تعالى ( إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا ) وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها سابقت رسول الله فسبقته فلما كثر لحمي سابقته فسبقني فضرب بكتفي وقال هذه بتلك وعنها أيضا قالت كان رسول الله يدخل وأنا ألعب مع صويحباتي ولا يعيب علي وسئل النخعي هل كان أصحاب رسول الله يضحكون قال نعم والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي وكان نعيمان الصحابي من أولع الناس بالمزاح والضحك قيل إنه يدخل الجنة وهو يضحك فمن مزحه إنه مر يوما بمخرمة بن نوفل الزهري وهو ضرير فقال له قدني حتى أبول فأخذه بيده حتى أتى به إلى المسجد فأجلسه في مؤخره فصاح به الناس إنك في المسجد فقال من قادني قالوا نعيمان قال لله علي نذر أن أضربه بعصاي هذه إن وجدته فبلغ ذلك نعيمان فجاء إليه وقال له يا أبا المنور هل لك في نعيمان قال نعم قال ها هو قائم يصلي وأخذه بيده وجاء به إلى عثمان بن عفان وهو يصلي وقال هذا نعيمان فعلاه بعصاه فصاح الناس أمير المؤمنين فقال من قادني قالوا نعيمان فقال والله لا تعرضت بسوء بعدها وقال عطاء بن السائب كان سعيد بن جبير يقص علينا حتى يبكينا وربما لم يقم حتى يضحكنا وكان رجل يسمى تاج الوعظ يعظ الناس ويقص عليهم حتى يبكيهم ثم لم يقم حتى يضحكهم ويبسط آمالهم
فمن لطائفه أنه حكى يوما بعدما فرغ من ميعاده قال سمعت الناس يتكلمون في التصحيف وكنت لا أعرفه فوقع في قلبي أن أتعلمه فدخلت في سوق الكتيبة واشتريت كتابا في التصحيف فأول ما تصحفته

وجدت فيه سكباج تصحيفه سك تاج فرميت الكتاب من يدي وحلفت أني لا أشتغل به أبدا فضحك الناس حتى غشي عليهم ودخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان فوجده يتأوه فقال يا أمير المؤمنين لو أدخلت عليك من يؤنسك بأحاديث العرب ويباسطك استرحت فقال لست بصاحب لهو فقال ما الذي تشكوه يا أمير المؤمنين قال هاج بي عرق النسا في ليلتي هذه فبلغ مني ما ترى فقال إن بديحا مولاي أرقى الخلق منه فأمر باحضاره فلما مثل بين يديه قال عبد الملك يا بديح أرق رجلي فقال يا مولاي أنا أرقي الناس لها ثم وضع يده عليها وجعل يقول ما لا يسمع فقال عبد الملك قد وجدت راحة بهذه الرقية اين فلانة ائتوني بها تكتبها لئلا يهيج بي الوجع بالليل فقال له بديح الطلاق يلزمه ما اكتبها إلا بتعجيل جائزتي فأمر له بأربعة آلاف درهم فقال يا أمير المؤمنين الطلاق يلزمه ما أكتبها حتى تحمل جائزتي إلى بيتي قال تحمل فحملت فقال يا أمير المؤمنين الطلاق يلزمه ما رقيت رجلك إلا مباسطة بقول نصيب حيث قال
( ألا إن ليلى العامرية أصبحت ... على البعد مني ذنب غيري تنقم ) فقال ويلك ما تقول فقال الطلاق يلزمه ما رقيتك إلا بها فقال اكتمها علي فقال كيف وقد سارت بها الركبان إلى أخيك بمصر فضحك حتى فحص برجليه وأعجبه هذا البسط وروي أن ابن سيرين كان ينشد قول الشاعر
( أنبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول ) ثم يضحك حتى يسيل لعابه

ومما جاء في الشطرنج والملعب به والنهي عنه والترخيص فيه أما النهي عنه فقد قيل إن عليا كرم الله وجهه مر بقوم يلعبون الشطرنج فقال لهم ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وكان أبو القاسم الكسروي يقول لا ترى شطرنجيا غنيا إلا بخيلا ولا فقيرا إلا طفيليا ولا تسمع نادرة باردة إلا على الشطرنج واحتضر شطرنجي فصار يقول شاه مات شاه مات مكان الشهادتين حتى مات وأما الترخيص فيه فقد سئل الشعبي عن اللعب بالشطرنج فقال لا بأس به إذا لم يكن هناك تقامر وتبادل وقال بعضهم كنا في السجن مع ابن سيرين فكان يرانا ونحن نلعب بالشطرنج فيقوم فيأتي ويقول ارفع الفرس ارفع كذا افعل كذا ولا يعيب علينا وعن سعيد بن المسيب قال كنت ألعب الشطرنج مع صديق في بيته حين خفت الحجاج ومما قيل لعلي بن الجهم في الشطرنج وقيل للمأمون
( أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين خرين معروفين بالكرم )
( تذكر الحرب فاحتالا لها فطنا ... من غير أن يأثما فيها بسفك دم )
( هذا يغير على هذا وذاك على ... هذا يغير وعين الحزم لم تنم )
( فانظر إلى همم جاشت بمعركة ... في عسكرين بلا طبل ولا علم ) قالوا إن سبب وضع الشطرنج أن ملوك الهند ما كانوا يرون بقتال فإذا تنازع ملكان في كورة أو مملكة تلاعبا بالشطرنج فيأخذها الغالب من غير قتال وقيل إنه كان لبعض ملوك الفرس شطرنج من ياقوت أحمر وأصفر القطعة منه بثلاثة آلاف دينار
ما حكي أن غلمانا من أهل البحرين خرجوا يلعبون بالصوالجة وأسقف البحرين قاعد فوقعت الأكرة على صدره فأخذها فجعلوا يطلبونها

منه فأبى فقال غلام منهم سألتك بحق محمد إلا رددتها علينا فأبى لعنه الله وسب رسول الله فأقبلوا عليه بصوالجهم فما زالوا يخبطونه حتى مات لعنة الله عليه فرفع ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوالله ما فرح بفتح ولا غنيمة كفرحته بقتل الغلمان لذلك الأسقف وقال الآن عز الإسلام إن أطفالا صغارا شتم نبيهم فغضبوا له وانتصروا وأهدر دم الأسقف والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السادس والسبعون في النوادر وفيه فصول
الفصل الأول من هذا الباب في نوادر العرب
خرج المهدي يتصيد فغار به فرسه حتى وقع في خباء اعرابي فقال يا اعرابي هل من قرى فأخرج له قرص شعير فأكله ثم أخرج له فضله من لبن فسقاه ثم أتاه بنبيذ في ركوة فسقاه فلما شرب قال أتدري من أنا قال لا قال أنا من خدم أمير المؤمنين الخاصة قال بارك الله لك في موضعك ثم سقاه مرة أخرى فشرب فقال يا اعرابي أتدري من أنا قال زعمت أنك من خدم أمير المؤمنين الخاصة قال لا أنا من قواد أمير المؤمنين قال رحبت بلادك وطاب مرادك ثم سقاه الثالثة فلما فرغ قال يا أعرابي أتدري من أنا قال زعمت أنك من قواد أمير المؤمنين قال لا ولكني أمير المؤمنين قال فأخذ الأعرابي الركوة فوكأها وقال إليك عني فوالله لو شربت الرابعة لادعيت أنك رسول الله فضحك المهدي حتى غشي عليه ثم أحاطت به الخيل ونزلت إليه الملوك والأشراف فطار قلب الأعرابي فقال له لا بأس عليك ولا خوف ثم أمر له بكسوة ومال جزيل ووجد أعرابي يأكل ويتغوط ويفلي ثوبه فقيل له في ذلك فقال أخرج عتيقا وأدخل جديدا وأقتل عدوا وقيل لبعض الأعراب إن شهر رمضان قدم فقال والله لأبددن شمله بالأسفار وسمع أعرابي قارئا يقرأ القرآن حتى أتى على قوله تعالى ( الأعراب أشد

كفرا ونفاقا ) فقال لقد هجانا ثم بعد ذلك يقرأ ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) فقال لا بأس هجا ومدح هذا كما قال شاعرنا
( هجوت زهيرا ثم إني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح ) وحضر أعرابي على مائدة يزيد بن مزيد فقال لأصحابه افرجوا لأخيكم فقال الأعرابي لا حاجة لي بأفراجكم إن أطنابي طوال يعني سواعده فلما مد يده ضرط فضحك يزيد فقال يا أخا العرب أظن أن طنبا من أطنابك قد انقطع ورؤي اعرابي يغطس في البحر ومعه خيط وكلما غطس غطسة عقد عقدة فقيل له ما هذا قال جنابات الشتاء أقضيها في الصيف وسرق أعرابي غاشية من على سرج ثم دخل المسجد يصلي فقرأ الإمام ( هل أتاك حديث الغاشية ) فقال يا فقيه لا تدخل في الفضول فلما قرأ ( وجوه يومئذ خاشعة ) قال خذوا غاشيتكم ولا يخشع وجهي لا بارك الله لكم فيها ثم رماها من يده وخرج وحضر أعرابي مجلس قوم فتذاكروا قيام الليل فقيل له باأمامة أتقوم الليل فقال نعم قالوا ما تصنع قال أبول وأرجع أنام وسرق أعرابي صرة فيها دراهم ثم دخل المسجد يصلي وكان اسمه موسى فقرأ الإمام ( وما تلك بيمينك يا موسى ) فقال الأعرابي والله إنك لساحر ثم رمى الصرة وخرج
وحكى الأصمعي قال ضلت لي إبل فخرجت في طلبها وكان البرد شديدا فالتجأت إلى حي من أحياء العرب وإذا بجماعة يصلون وبقربهم شيخ ملتف بكساء وهو يرتعد من البرد وينشد
( أيا رب إن البرد أصبح كالحا ... وأنت بحالي يا إلهي أعلم )
( فإن كنت يوما في جهنم مدخلي ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم )

قال الأصمعي فتعجبت من فصاحته وقلت يا شيخ أما يستحي تقطع الصلاة وأنت شيخ كبير فأنشد يقول
( أيطمع ربي في أن أصلي عاريا ... ويكسو غيري كسوة البرد والحر )
( فوالله لا صليت ما عشت عاريا ... عشاء ولا وقت المغيب ولا الوتر )
( ولا الصبح إلا يوم شمس دفيئة ... وإن غممت فالويل للظهر والعصر )
( وإن يكسني ربي قميصا وجبة ... أصلي له مهما أعيش من العمر ) قال فأعجبني شعره وفصاحته فنزعت قميصا وجبة كانا علي ودفعتهما إليه وقلت له البسهما وقم فاستقبل القبلة وصلي جالسا وجعل يقول
( إليك اعتذاري من صلاتي جالسا ... على غير ظهر موميا نحو قبلتي )
( فمالي ببرد الماء يارب طاقة ... ورجلاي لا تقوى على ثني ركبتي )
( ولكنني استغفر الله شاتيا ... وأقضيكها يارب في وجه صيفتي )
( وإن أنا لم أفعل فأنت محكم ... بما شئت من صفعي ومن نتف لحيتي ) قال فعجبت من فصاحته وضحكت عليه وانصرفت وصلى أعرابي مع قوم فقرأ الإمام ( قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا ) فقال الأعرابي أهلكك الله وحدك ايش كان ذنب الذين معك فقطع القوم الصلاة من شدة الضحك وقيل دخلت أعرابية على قوم يصلون فقرأ الإمام ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) وجعل يرددها فجلت الأعرابية تعدو وهي هاربة حتى جاءت لأختها فقالت يا أختاه ما زال الإمام يأمرهم أن ينكحونا حتى خشيت أن يقعوا علي وصلى اعرابي خلف إمام فقرأ الإمام ( ألم نهلك الأولين ) وكان في الصف الأول فتأخر إلى الصف الآخر فقرأ ( ثم نتبعهم الآخرين ) فتأخر فقرأ ( كذلك نفعل بالمجرمين ) وكان

اسم البدوي مجرما فترك الصلاة وخرج هاربا وهو يقول والله ما المطلوب غيري فوجده بعض الأعراب فقال له ما لك يا مجرم فقال إن الإمام أهلك الأولين والآخرين وأراد أن يهلكني في الجملة والله لا رأيته بعد اليوم
وجلس بعض الأعراب يشرب مع ندائمه فاحتاج إلى بيت الخلاء فدلوه عليه فلما دخل جعل يضرط ضراطا شنيعا فضحكوا عليه فأنشد يقول
( إذا ما خلا الإنسان في بيت غائط ... تراخت بلا شك مصاريع فتحته )
( فمن كان ذا عقل فيعذر ضارطا ... ومن كان ذا جهل ففي وسط لحيته ) وكان لسابور ملك فارس نديم مضحك يسمى مرزبان فظهر له من الملك جفوة فلما زاد ذلك عليه تعلم نبيح الكلاب وعوي الذئاب ونهيق الحمير وصهيل الخيل وصوت البغال ثم احتال حتى دخل موضعا بقرب خلوة الملك وأخفى أمره فلما خلا الملك بنفسه نبح نبيح الكلاب فلم يشك الملك في أنه كلب فقال انظروا ما هذا فعوى عوي الذئاب فنزل الملك عن سريره فنهق نهيق الحمير فمضى الملك هاربا ومضت الغلمان يتبعون الصوت فلما دنوا منه صهل صهيل الخيل فاقتحموا عليه وأخرجوه عريانا فلما وصلوا به إلى الملك ورآه مرزبان ضحك الملك ضحكا شديدا وقال له ما حملك على ما صنعت قال إن الله عز و جل مسخني كلبا وذئبا وحمارا وفرسا لما غضب علي الملك قال فأمر الملك أن يخلع عليه وأن يرد إلى مرتبته الأولى ومن الملح بعض الشعراء
( أيا من فاق حسنا واعتدالا ... وولج في عطيته الشبابا )
( أما في مال ردفك من زكاة ... فتدخل فيه لي هذا النصابا ) وحكى الأصمعي أن عجوزا من الأعراب جلست في طريق مكة إلى فتيان يشربون نبيذا فسقوها قدحا فطابت نفسها فتبسمت

قدحا آخر فاحمر وجهها وضحكت فسقوها ثالثا فقالت خبروني عن نسائكم بالعراق أيشربن النبيذ قالوا نعم قالت زنين ورب الكعبة والله إن صدقتم ما فيكم من يعرف أباه
وصلى اعرابي خلف إمام فقرأ ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ) ثم وقف وجعل يرددها فقال الأعرابي أرسل غيره يرحمك الله وأرحنا وأرح نفسك
وصلى آخر خلف إمام فقرأ ( فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ) ووقف وجعل يرددها فقال الأعرابي يا فقيه إذا لم يأذن ذلك أبوك في هذا الليل نظل نحن وقوفا إلى الصباح ثم تركه وانصرف
ولزم أعرابي سفيان بن عيينة مدة يسمع منه الحديث فلما أن جاء ليسافر قال له سفيان يا أعرابي ما أعجبك من حديثنا قال ثلاثة أحاديث حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي أنه كان يحب الحلوى والعسل وحديثه عليه الصلاة و السلام إذا وضع العشاء وحضرت الصلاة فابدأوا بالعشاء وحديث عائشة عنه ايضا ليس من البر الصوم في السفر وقيل لأعرابية ما صفة الإير عندكم قالت عصبة ينفخ فيها الشيطان فلا يرد أمرها وانفرد الرشيد وعيسى بن جعفر ومعه الفضل ين يحيى فإذا هو بشيخ من الأعراب على حمار وهو رطب العينين فقال له الفضل هل أدلك على دواء لعينيك قال ما أحوجني إلى ذلك قال خذ عيدان الهواء وغبار الماء فصيره في قش بيض الذر واكتحل به ينفعك فانحنى الشيخ وضرط ضرطة قوية وقال خذ هذه في لحيتك أجرة وصفتك وإن زدت زدناك فضحك الرشيد حتى استلقى على ظهر دابته وخرج معن بن زائدة في جماعة من خواصه للصيد فاعترضهم قطيع ظباء فتفرقوا في طلبه وانفرد معن خلف ظبي حتى انقطع عن أصحابه فلما ظفر به نزل فذبحه فرأى شيخا مقبلا من البرية على حمار فركب فرسه واستقبله فسلم عليه فقال من أين وإلى أين قال أتيت من أرض لها عشرون سنة مجدبة وقد أخصبت في هذه السنة فزرعتها مقثاة فطرحت في غير وقتها فجمعت منها ما استحسنته وقصدت به معن بن زائدة لكرمه المشكور وفضله المشهور ومعروفه المأثور واحسانه الموفور قال وكم أملت منه

قال ألف دينار قال فان قال لك كثير قال خمسمائة قال فإن قال لك كثير قال ثلاثمائة قال فان قال لك كثير قال مائة قال فان قال لك كثير قال خمسين قال فان قال لك كثير قال فلا أقل من الثلاثين قال فإن قال لك كثير قال أدخل قوائم حماري في حر أمه وأرجع إلى أهلي خائبا فضحك معن منه وساق جواده حتى لحق بأصحابه ونزل في منزله وقال لحاجبه إذا أتاك شيخ على حمار بقثاء فأدخل به علي فأتى بعد ساعة فلما دخل عليه لم يعرفه لهيبته وجلالته وكثرة حشمه وخدمه وهو متصدر في دسته والخدم والحفدة قيام عن يمينه وشماله وبين يديه فلما سلم عليه قال ما الذي أتى بك يا أخا العرب قال أملت الأمير وأتيته بقثاء في غير أوان فقال كم أملت فينا قال ألف دينار قال كثير فقال والله لقد كان ذلك الرجل ميشوما علي ثم قال خمسمائة دينار قال كثير فما زال إلى أن قال خمسين دينار فقال له كثير فقال لا أقل من الثلاثين فضحك معن فعلم الأعرابي أنه صاحبه فقال يا سيدي إن لم تجب إلى الثلاثين فالحمار مربوط بالباب وها معن جالس فضحك معن حتى استلقى على فراشه ثم دعا بوكيله فقال أعطه ألف دينار وخمسمائة دينار وثلاثمائة دينار ومائة دينار وخمسين دينار وثلاثين دينار ودع الحمار مكانه فتسلم الأعرابي المال وانصرف
الفصل الثاني في نوادر القراء والفقهاء
عن محمد بن عبد الله قال كنا في دهليز عثمان بن شيبة فخرج إلينا فقال إن والقلم في أي سورة ومر بعضهم بقارئ يقرأ ( ألم غلبت الترك في أدنى الأرض ) فقال له الروم فقال له كلهم أعداؤنا قاتلهم الله وكان جماعة يجلسون إلى أبي العيناء وفيهم رجل لا يتكلم فقيل له يوما كيف علمك بكتاب الله قال أنا عالم به فقيل له هذه الآية في أي سورة ( الحمد لله لا شريك له ) فقال له في سورة

الحمد فضحكوا عليه وجاء رجل إلى فقيه فقال أفطرت يوما في رمضان فقال اقض يوما مكانه قال قضيت وأتيت أهلي وقد علموا مأمونية فسبقتني يدي إليها فأكلت منها فقال اقض يوما آخر مكانه قال قضيت وأتيت أهلي وقد عملوا هريسة فسبقتني يدي إلهيا فقال أرى أن لا تصوم إلا ويدك مغلولة إلى عنقك وجاء رجل إلى بعض الفقهاء فقال له أنا عبد اله على مذهب ابن حنبل وإني توضأت وصليت فبينما أنا في الصلاة إذ أحسست ببلل في سراويلي يتلزق فشممته فإذا رائحته كريهة خبيثة فقال الفقيه عافاك الله خريت باجماع المذاهب وجاء رجل إلى فقيه قال أنا رجل أفسو في ثيابي حتى تفوح روائحي فهل يجوز لي أن أصلي في ثيابي قال نعم لكن لا كثر الله في المسلمين مثلك ووقع بين الأعمش وبين امرأته وحشة فسأل بعض أصحابه من الفقهاء أن يرضيها ويصلح بينها فدخل إليها وقال إن أبا محمد شيخ كبير فلا يزهدنك فيه عمش عينيه ودقة ساقيه وضعف ركبتيه ونتن إبطيه وبخر فيه وجمود كفيه فقال له الأعمش قم قبحك الله فقد أريتها من عيوبي ما لم تكن تعرفه وسكن بعض الفقهاء في بيت سقفه يقرقع في كل وقت فجاءه صاحب البيت يطلب الأجرة فقال له أصلح السقف فإنه يقرقع قال لا تخف فإنه يسبح الله تعالى قال أخشى أن تدركه رقة فيسجد
الفصل الثالث في نوادر القضاة
كان لبعض القضاة بغلة فقرأ يوما في المصحف ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) فقال لغلامه اطلق البغلة ورزقها على الله فصارت البغلة تدور الأسواق والأزقة وتأكل من قشور الباذنجان وقشور الرمان وقشور البطيخ وقمامات الطريق فماتت فأمر الغلام بإحضار المشاعلية ليحملوها لظاهر المدينة فأحضرهم فطلبوا من القاضي عشرة

أجرة حملها وقالوا ليس لنا شيء نرتزق منه إلا من مثل هذا وسيدنا رجل غني وله أشياء كثيرة العدالة والتزويج والعقود والوراقة والسجن والإطلاق وجامكية الحكم وأجرة اليمين والتدريس والأقاف فقال لهم القاضي ألمثلي يقال هذا وأنتم لكم اثنا عشر بابا من المنافع منها الوسخ والزفر والهلع والولع وبيت النبذة وشركة النفوس وجباية الأسواق وحرق النار وسلب الشطار ولكم الضياح وثمن الإصلاح وما تروحوا من هذه البغلة بلا شيء جلدها للدباغين وذنبها للغرابلية ومعرفتها للشعار وتطبيقتها للبيطار قال فتقدم أحدهم إليه وقال بحق من تاب عليك ورد عاقبتك إلى خير وأراحك من هذا المعاش تصدق علينا بشيء ولا تدعنا نروح بلاش
تفسير هذه الألفاظ الزفر النساء الزانيات والوسخ المراحيض والهلع جباية الأسواق والولع القمار وبيت النبذة محل المزر وشركة النفوس كل من حمل ميتا ولحقوه قبل أن يخرج من باب البلد كانوا شركائه وسلب الشطار كل من شنقوه لهم سلبه وولي يحيى ابن أكثم قاضيا على أهل جبلة فبلغة أن الرشيد انحدر إلى البصرة فقال لأهل جبلة إذا اجتاز الرشيد فاذكروني عنده بخير فوعدوه بذلك فلما جاء الرشيد تقاعدوا عنه فسرح القاضي لحيته وكبر عمته وخرج فرأى الرشيد في الحراقة ومعه أبو يوسف القاضي فقال يا أمير المؤمنين نعم القاضي قاضي جبلة عدل فينا وفعل كذا وكذا وجعل يثني على نفسه فلما رآه أبو يوسف عرفه فضحك فقال له الرشيد مم تضحك فقال يا أمير المؤمنين المثني على القاضي هو القاضي فضحك الرشيد حتى فحص برجله الأرض ثم أمر بعزله فعزل وأحضر رجل ولده إلى القاضي فقال يا مولانا إن ولدي هذا يشرب الخمر ولا يصلي فأنكر ولده ذلك فقال أبوه يا سيدي أفتكون صلاة بغير قراءة فقال الولد إني أقرأ القرآن فقال له القاضي اقرأ حتى أسمع فقال
( علق القلب الربابا ... بعدما شابت وشابا )
( إن دين الله حق ... لا أرى فيه ارتيابا )

فقال أبوه إنه لم يتعلم هذا إلا البارحة سرق مصحف الجيران وحفظ هذا منه قال القاضي وأنا الآخر أحفظ آيه منها وهي
( فارحمي مضنى كئيبا ... قد رأى الهجر عذابا ) ثم قال القاضي قاتلكم الله يعلم أحدكم القرآن ولا يعمل به وتقدم اثنان إلى أبي صمصامة القاضي فادعى أحدهما على الآخر طنبور فأنكر فقال للمدعى ألك بينة فقال لي شاهدان فأحضر رجلين شهدا له فقال المدعى عليه سلهما يا سيدي عن صناعتهما فأخبر أحدهما أنه نباذ وقال الآخر أنه قواد فالتفت القاضي إلى المدعى عليه وقال أتريد على طنبور أعدل من هذين ادفع إليه طنبوره
وتحاكم الرشيد وزبيدة إلى أبي يوسف القاضي في الفالوذج واللوزينج أيهما أطيب فقال أبو يوسف أنا لا أحكم على غائب فأمر الرشيد باحضارهما وقدما بين يدي أبي يوسف فجعل يأكل من هذا مرة ومن هذا مرة حتى نصف الجامين ثم قال يا أمير المؤمنين ما رأيت أعدل منهما كلما أردت أن أحكم لأحدهما أتى الآخر بحجته وأتى بعض المجان لبعض القضاة فقال يا سيدي إن امرأتي قحبانا فقال له القاضي طلقهانا فقال عشقانا فقال قودهانا وادعى رجل عند قاض على امرأة حسناء بدين فجعل القاضي يميل إليها بالحكم فقال الرجل أصلح الله القاضي حجتي أوضح من هذا النهار فقال له القاضي اسكت يا عدو الله فإن الشمس أوضح من النهار قم لا حق لك عليها فقالت المرأة جزاك الله عن ضعفي خيرا فقد قويته فقال الرجل لا جزاك الله عن قوتي خيرا فقد أوهيتها ورفعت امرأة زوجها إلى القاضي تبغي الفرقة وزعمت أنه يبول في الفراش كل ليلة فقال الرجل للقاضي يا سيدي لا تعجل علي حتى أقص عليك قصتي إني أرى في منامي كأني في جزيرة في البحر وفيها قصر عالي وفوق القصر قبة عالية وفوق القبة جمل وأنا على ظهر الجمل وإن الجمل يطأطئ برأسه ليشرب من البحر فإذا رأيت ذلك بلت من شدة الخوف فلما

سمع القاضي ذلك بال في فراشه وثيابه وقال يا هذه أنا قد أخذني البول من هول حديثه فكيف بمن يرى الأمر عيانا
وحكي أن تاجرا عبر إلى حمص فسمع مؤذنا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن أهل حمص يشهدون أن محمدا رسول الله فقال والله لأمضين إلى الإمام وأسأله فجاء إليه فرآه قد أقام الصلاة وهو يصلي على رجل ورجله الأخرى ملوثة بالعذرة فمضى إلى المحتسب ليخبره بهذا الخبر فسأل عنه فقيل إنه في الجامع يبيع الخمر فمضى إليه فوجده جالسا وفي حجره مصحف وبين يديه باطية مملؤة خمرا وهو يحلف للناس بحق المصحف أن الخمرة صرف ليس فيها ماء وقد ازدحمت الناس عليه وهو يبيع فقال والله لأمضين إلى القاضي وأخبره فجاء إلى القاضي فدفع الباب فانفتح فوجد القاضي نائما على بطنه وعلى ظهره غلام يفعل فيه الفاحشة فقال التاجر قلب الله حمص فقال القاضي لم تقول هذا فأخبره بجميع ما رأى فقال يا جاهل أما المؤذن فإن مؤذننا مرض فاستأجرنا يهوديا صيتا يؤذن مكانه فهو يقول ما سمعت وأما الإمام فإنهم لما أقاموا الصلاة خرج مسرعا فتلوثت رجله بالعذرة وضاق الوقت فأخرجها من الصلاة واعتمد على رجله الأخرى ولما فرغ غسلها وأما المحتسب فإن ذلك الجامع ليس له وقف إلا كرم وعنبه ما يؤكل فهو يعصره خمرا ويبيعه ويصرف ثمنه في مصالح الجامع وأما الغلام الذي رأيته فإن أباه مات وخلف مالا كثيرا وهو تحت الحجر وقد كبر وجاء جماعة شهدوا عندي أنه بلغ فأنا أمتحنه فخرج التاجر ن البلد وحلف أنه لا يعود إليها أبدا
الفصل الرابع في نوادر النحاة
وقف نحوي على بياع يبيع أرزا بعسل وبقلا بخل فقال بكم الأرز بالأعسل والأخلل بالأبقل فقال بالأصفع في الأرؤس والأضرط في الأذقن ووقع نحوي في كنيف فجاء كناس ليخرجه فصاح به الكناس ليعلم أهو حي أم لا فقال له النحوي أطلب لي حبلا دقيقا وشدني شدا وثيقا واجذبني جذبا رفيقا فقال الكناس امرأته طالق إن أخرجتك منه ثم تركه وانصرف وكان لبعضهم ولد نحوي يتقعر في كلامه فاعتل أبوه علة شديدة أشرف منها على الموت فاجتمع عليه أولاده وقالوا له ندعو لك فلانا أخانا قال لا إن جاءني قتلني فقالوا نحن نوصيه أن لا يتكلم فدعوه فلما دخل عليه قال له يا أبت قل لا إليه إلا الله تدخل بها الجنة وتفوز من النار يا أبت والله ما أشغلني عنك إلا فلان فإنه دعاني بالأمس فأهرس وأعدس واستبذج وسكبج وطهبج وأفرج ودجج وأبصل وأمضر ولوزج وافلوزج فصاح أبوه غمضوني فقد سبق ابن الزانية ملك الموت إلى قبض روحي وجاء نحوي يعود مريضا فطرق بابه فخرج إليه ولده فقال كيف وجدت أباك قال يا عم ورمت رجليه قال لا تلحن قل رجلاه ثم ماذا قال ثم وصل الورم إلى ركبتاه قال لا تلحن قل إلى ركبتيه ثم ماذا قال مات وأدخله الله في بظر عيالك وعيال سيبويه ونفطويه وجحشويه وعاد بعضهم نحويا فقال ما الذي تشكوه قال حمى جاسية نارا حامية منها الأعضاء واهية والعظام باليه فقال له لا شفاك الله بعافية يا ليتها كانت القاضية
الفصل الخامس في نوادر المعلمين
قال الجاحظ مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق فقلت ما هذه فقال عندي صغار أوباش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفر لي بضرطة فأضربه بالعصا القصيرة فيتأخر فأضربه بالعصا الطويلة فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح

في الأذقن ووقع نحوي في كنيف فجاء كناس ليخرجه فصاح به الكناس ليعلم أهو حي أم لا فقال له النحوي أطلب لي حبلا دقيقا وشدني شدا وثيقا واجذبني جذبا رفيقا فقال الكناس امرأته طالق إن أخرجتك منه ثم تركه وانصرف وكان لبعضهم ولد نحوي يتقعر في كلامه فاعتل أبوه علة شديدة أشرف منها على الموت فاجتمع عليه أولاده وقالوا له ندعو لك فلانا أخانا قال لا إن جاءني قتلني فقالوا نحن نوصيه أن لا يتكلم فدعوه فلما دخل عليه قال له يا أبت قل لا إله إلا الله تدخل بها الجنة وتفوز من النار يا أبت والله ما أشغلني عنك إلا فلان فإنه دعاني بالأمس فأهرس وأعدس واستبذج وسكبج وطهبج وأفرج ودجج وأبصل وأمضر ولوزج وافلوزج فصاح أبوه غمضوني فقد سبق ابن الزانية ملك الموت إلى قبض روحي
وجاء نحوي يعود مريضا فطرق بابه فخرج إليه ولده فقال كيف وجدت أباك قال يا عم ورمت رجليه قال لا تلحن قل رجلاه ثم ماذا قال ثم وصل الورم إلى ركبتاه قال لا تلحن قل إلى ركبتيه ثم ماذا قال مات وأدخله الله في بظر عيالك وعيال سيبويه ونفطويه وجحشويه وعاد بعضهم نحويا فقال ما الذي تشكوه قال حمى جاسية نارها حامية منها الأعضاء واهية والعظام بالية فقال له لا شفاك الله بعافية يا ليتها كانت القاضية
الفصل الخامس في نوادر المعلمين
قال الجاحظ مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق فقلت ما هذه فقال عندي صغار أوباش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفر لي بضرطة فأضربه بالعصا القصيرة فيتأخر فأضربه بالعصا الطويلة فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح

فأجعل الطبل في عنقي والبوق في فمي وأضرب الطبل وأنفخ في البوق فيسمع أهل الدرب ذلك فيسارعون إلي ويخلصوني منهم
وحكى الجاحظ أيضا قال مررت على خربة فإذا بها معلم وهو ينبح نبيح الكلاب فوقفت أنظر إليه وإذا بصبي قد خرج من دار فقبض عليه المعلم وجعل يلطمه ويسبه فقلت عرفني خبره فقال هذا صبي لئيم يكره التعليم ويهرب ويدخل الدار ولا يخرج وله كلب يلعب به فإذا سمع صوتي ظن أنه صوت الكلب فيخرج فأمسكه وجاءت امرأة إلى المعلم بولدها تشكوه فقال له ما إن تنتهي وإلا فعلت بأمك فقالت يا معلم هذا صبي ما ينفع فيه الكلام فافعل ما شئت لعله ينظر بعينه ويتوب فقام وفعل بها أمام ولدها وقال الجاحظ رأيت معلما في الكتاب وحده فسألته فقال الصغار داخل الدرب يتصارعون فقلت أحب أن أراهم فقال أشير عليك بذلك فقلت لا بد قال فإذا جئت إلى رأس الدرب اكشف رأسك لئلا يعتقدوك المعلم فيصفعونك حتى تعمى وقال بعضهم رأيت معلما وقد جاء صغيران يتماسكان فقال أحدهما هذا عض أذني فقال الآخر لا والله يا سيدنا هو الذي عض أذن نفسه فقال المعلم يا ابن الزانية هو كان جمل يعض أذن نفسه وقال بعضهم رأيت معلما وهو يصلي العصر فلما ركع ادخل رأسه بين رجليه ونظر إلى الصغار وهم يلعبون وقال يا ابن البقال قد رأيت الذي عملت وسوف أكافئك إذا فرغت من الصلاة
وحكي عن الجاحظ أنه قال ألفت كتابا في نوادر المعلمين وما هم عليه من التغفل ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع ذلك فدخلت يوما مدينة فوجدت فيها معلما في هيئة حسنة فسلمت عليه فرد علي أحسن رد ورحب بي فجلست عنده وباحثته في القرآن فإذا هو ماهر فيه ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المعقول وأشعار العرب فإذا هو كامل الآداب فقلت هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب قال فكنت أختلف إليه وأزوره فجئت يوما لزيارته فإذا بالكتاب مغلق ولم أجده فسألت عنه فقيل مات فحزن عليه

وجلس في بيته للعزاء فذهبت إلى بيته وطرقت الباب فخرجت إلي جارية وقالت ما تريد قلت سيدك فدخلت وخرجت وقالت باسم الله فدخلت إليه وإذا به جالس فقلت عظم الله أجرك لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة كل نفس ذائق الموت فعليك بالصبر ثم قلت له هذا الذي توفي ولدك قال لا قلت فوالدك قال لا قلت فأخاك قال لا قلت فزوجتك قال لا فقلت وما هو منك قال حبيبتي فقلت في نفسي هذه أول المناحس فقلت سبحان الله النساء كثير وستجد غيرها فقال أتظن أني رأيتها قلت وهذه منحسة ثانية ثم قلت وكيف عشقت من لم تر فقال اعلم أني كنت جالسا في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلا عليه برد وهو يقول
( يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ... ردي علي فؤادي أينما كانا )
( لا تأخذين فؤادي تلعبين به ... فكيف يلعب بالإنسان إنسانا ) فقلت في نفسي لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتها فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول
( لقد ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار ) فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها وأغلقت المكتب وجلست في الدار فقلت يا هذا إني كنت ألفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه والآن قد قويت عزمي على إبقائه وأول ما أبدأ أبدأ بك إن شاء الله تعالى
الفصل السادس في نوادر المتنبئين
ادعى رجل النبوة في أيام الرشيد فلما مثل بين يديه قال له ما الذي يقال عنك قال إني نبي كريم قال فأي شيء يدل على صدق دعواك قال سل عما شئت قال أريد أن تجعل هذه المماليك

المرد القيام الساعة بلحى فاطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال كيف يحل أن أجعل هؤلاء المرد بلحى وأغير هذه الصورة الحسنة وإنما أجعل أصحاب هذه اللحى مردا في لحظة واحدة فضحك منه الرشيد وعفا عنه وأمر له بصلة وتنبأ إنسان فطالبون بحضرة المأمون بمعجزة فقال أطرح لكم حصاة في الماء فتذوب قالوا رضينا فأخرج حصاة معه وطرحها في الماء فذابت فقالوا هذه حيلة ولكن نعطيك حصاة من عندنا ودعها تذوب فقال لستم أجل من فرعون ولا أنا أعظم حكمة من موسى ولم يقل فرعون لموسى لم أرض بما تفعله بعصاك حتى أعطيك عصا من عندي تجعلها ثعبانا فضحك المأمون وأجازه وتنبأ رجل في أيام المعتصم فلما حضر بين يديه قال أنت نبي قال نعم قال وإلى من بعثت قال إليك قال أشهد أنك لسفيه أحمق قال إنما يبعث إلى كل قوم مثلهم فضحك المعتصم وأمر له بشيء وتنبأ رجل في أيام المأمون وادعى إنه إبراهيم الخليل فقال له المأمون إن إبراهيم كانت له معجزات وبراهين قال وما براهينه قال أضرمت له نارا وألقي فيها فصارت عليه بردا وسلاما ونحن نوقد لك نارا ونطرحك فيها فإن كانت عليك كما كانت عليه آمنا بك قال أريد واحدة أخف من هذه قال فبراهين موسى قال وما براهينه قال ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى وضرب بها البحر فانفلق وأدخل يده في جيبه فأخرجها بيضاء قال وهذه علي أصعب من الأولى قال فبراهين عيسى قال وما هي قال إحياء الموتى قال مكانك قد وصلت أنا أضرب رقبة القاضي يحيى بن أكثم وأحييه لكم الساعة فقال يحيى أنا أول من آمن بك صدق وتنبأ آخر في زمن المأمون فقال المأمون أريد منك بطيخا في هذه الساعة قال أمهلني ثلاثة أيام قال ما أريده إلا الساعة قال ما أنصفتني يا أمير المؤمنين إذا كان الله تعالى الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ما يخرجه إلا في ثلاثة أشهر فما تصبر أنت علي ثلاثة أيام فضحك منه ووصله وتنبأ آخر في زمن المأمون فلما مثل بين يديه قال له من أنت قال أنا أحمد النبي قال لقد ادعيت زورا فلما رأى

الأعوان قد أحاطت به وهو ذاهب معهم قال يا أمير المؤمنين أنا أحمد النبي فهل تذمه أنت فضحك المأمون منه وخلى سبيله وتنبأ آخر في زمن المتوكل فلما حضر بين يديه قال له أنت نبي قال نعم قال فما الدليل على صحة نبوتك قال القرآن العزيز يشهد بنبوتي في قوله تعالى ( إذا جاء نصر الله والفتح ) وأنا إسمي نصر الله قال فما معجزتك قال ائتوني بامرأة عاقر أنكحها تحمل بولد يتكلم في الساعة ويؤمن بي فقال المتوكل لوزيره الحسن بن عيسى أعطه زوجتك حتى تبصر كرامته فقال الوزير أما أنا فأشهد أنه نبي الله وإنما يعطي زوجته من لا يؤمن به فضحك المتوكل وأطلقه وادعى رجل النبوة زمن خالد بن عبد الله القسري وعارض القرآن فأتى به إلى خالد فقال له ما تقول قال عارضت القرآن قال بماذا قال قال الله تعالى ( إنا أعطيناك الكوثر ) الآية وقلت إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر ولا تطع كل ساحر فأمر به خالد فضرب عنقه وصلب فمر به خلف بن خليفة الشاعر فضرب بيده على الخشبة وقال إنا أعطيناك العود فصل لربك من قعود وأنا ضامن لك أن لا تعود
وأتي المأمون برجل ادعى النبوة فقال له ألك علامة على نبوتك قال علامتي أني أعلم ما في نفسك قال وما في نفسي قال في نفسك أني كاذب قال صدقت ثم أمر به إلى السجن فأقام فيه أياما ثم أخرجه فقال هل أوحى إليك بشيء قال لا قال ولم قال لأن الملائكة لا تدخل الحبوس فضحك منه وخلى سبيله وأتي بامرأة تنبأت في أيام المتوكل فقال لها أنت نبية قالت نعم قال أتؤمنين بمحمد قالت نعم قال فإنه قال لا نبي بعدي قالت فهل قال لا نبية بعدي فضحك المتوكل وأطلقها وتنبأ رجل ي سمى نوحا وكان له صديق نهاه فلم يقبل فأمر السلطان بقتله فمر به صديقه فقال له يا نوح ما حصلت من السفينة إلا على الصاري

الفصل السابع في نوادر السؤال
وقف أعرابي بباب يسأل فقال له صغير من باب الدار بورك فيك فقال قبح الله هذا الفم لقد تعلمت الشر صغيرا ووقف سائل على باب فقال يا أصحاب المنزل فبادر صاحب الدار قبل أن يتم كلامه وقال فتح الله عليك فقال السائل يا قرنان كنت تصبر لعلي جئت أدعوك إلى وليمة وقال أبو عثمان الجاحظ وقف سائل بقوم فقال إني جائع فقالوا له كذبت فقال جربوني برطلين من الخبز ورطلين من اللحم ووقف سائل على باب فقالوا يفتح الله عليك فقال كسرة فقالوا ما نقدر عليها قال فقليل من بر أو فول أو شعيرقالوا لا نقدر عليه قال فقطعة دهن أو قليل زيت أو لبن قالوا لا نجده قال فشربة ماء قالوا وليس عندنا ماء قال فما جلوسكم ههنا قوموا فاسألوا فأنتم أحق مني بالسؤال
الفصل الثامن في نوادر المؤذنين
قيل لمؤذن ما نسمع أذانك فلو رفعت صوتك فقال إني أسمع صوتي من مسيرة ميل وقال بعضهم رأيت مؤذنا أذن ثم غدا يهرول فقلت له إلى أين فقال أحب أن أسمع أذاني أين بلغ واختصم رجلان في جارية فأودعاها عند مؤذن فلما أصبح وفرغ من الأذان قال لا إله إلا الله ذهبت الأمانة من الناس فقالوا له كيف ذهبت الأمانة من الناس قال هذه الجارية التي وضعت عندي قيل إنها بكر فلما أتيتها وجدتها ثيبا وسمع مؤذن حمص يقول في سحور رمضان تسحروا فقد أمرتكم وعجلوا في أكلكم قبل أن أؤذن فيسخم الله وجوهكم وشوهد مؤذن يؤذن من رقعة فقيل له ما تحفظ الأذان فقال سلوا القاضي فأتوه فقالوا السلام عليكم فأخرج دفترا وتصحيفة وقال وعليكم فعذروا المؤذن وسمعت امرأة

مؤذنا يؤذن بعد طلوع الشمس ويقول الصلاة خير من النوم فقالت النوم خير من هذه الصلاة ومر سكران بمؤذن رديء الصوت فجلد به الأرض وجعل يدوس بطنه فاجتمع إليه الناس فقال والله ما بي رداءة صوته ولكن شماتة اليهود والنصارى بالمسلمين
الفصل التاسع في نوادر النواتية
حكي أن بعض النواتية تولى أحد الكراسي السلطانية لما ساعده الزمان فبينما هو جالس في داره إذ سمع صوتا وراء الباب فقال لزوجته إني أسمع غاغة في البر حلي قلوعي واعملي أسفيرتي على جاموري وقدمي إلى إسقالة الرجل وقيميني بمدرة فامتثلت كلامه فنزل وجلس على مصطبته وقد علت مرتبته واصطفت المقدمون بين يديه ووقفت الحبرتية حوليه وإذا بشيخ قد أقبل وثيابه مقطعة وعمامته في حلقه والدم نازل من أنفه وهو يصيح بصوت عال أنا بالله وبالوالي فقال تعالى يا شيخ مالي أرى أرطمونك في حلقك وشبورتك مكسورة وأنت بتزلع ماء متغير وتقيم الهليلا في الساحل دخل عليك شرد غربي وإلا دخلت على بواجي فقال الشيخ والله يا سيدي بعض نواتية البحر عمل بي هذا فقال يا أولاد جيبوا غريمو بخنسوا عدته وقشطوا ظهره وجروه على مقدمه فامتثلوا كلام الأمير وجاءوا بالغريم فلما مثل بين يديه قال له ويلك هو أ نت بغنوس بسفر البحر أنت الذي قطعت القلس وخرجت في الشعث حتى لقيت هذا الرجل نطحت مخطمته وكسرت اسقالته لو انصلح كنت علمتك في بدراوة وعلقتك في الصاري فلما سمع الرجل كلام الوالي علم أنه من أولاد المعيشة فقال له بهمترة النواتية والله يا خوند هو كار زني في معاشي اجصطن على الوحسة وأنا عايم في الليل إلا وشرد جاني من الشرق كابس هز أطرافي وكسر شابورتي وقطع لباني وها هو يحمد الله على بر السلامة وإن كان انصلح فيه شيء فأنا بمرسوم الأمير أجيب له القلفاط أسد فتحه وأعيد له وسقه وأخليه يروح

في طريقه فقال له الوالي أنت بتقذف في وجهي وتطرح مقاديفك حتى نعبر على الحجر يا رجالة الصاري سلسلوا أطرافه وعروا مقاديفه وبلوا شيبنة اللبان وانزلوا عليه وأوسقوه الجنبين والظهر حتى تلعب المية على بطونسته هيا قوامك خلوا جنب برا وجنب جوا قدام الخن وراء الصاري فأكل علقة من كعبه إلى أذنه فقالت النواتية يا خوند هو خنفست عليه الطمية البحرية قال مدراتين وقيموه فلما أقاموه باس يد الأمير وقال يا خوند سألتك بهبوب الرياح وطيب النسيم الرب لا يبليك بجر اللبان في الحلافي وأنت حافي الصيافي ويكفيك شر الأربعينيات قال فرق عليه قلب الأمير وقال هل وحق من ضرب القلع باللبان الحلفا عند بخنسة الريح وفروغ الزاد بعيد من البلاد وعياط الركاب عند قيام الموجة وبعد البر في أيام النيل لولا شفاعة الركاب لكنت أهد سقالتك وأقعد في زوايدك حتى أخلي ظهرك جيفة فقال له والله يا خوند ما بقي جنبي يحمل هذا الوسق العظيم ولكن إن عدت أعبر لهذا الوجه أخسف من أضلاعي لوح غرقني بالقايم فقال له الأمير أحمد الله على السلامة واخرج في دي الطيابة وكتب له مرسوم وعلم عليه علامة الرياس البحرية للنواتية الله لك الله لي يا عملات على أبوس
الفصل العاشر في نوادر جامعة
سمعت امرأة في الحديث أن صوم يوم عاشوراء كفارة سنة فصامت إلى الظهر ثم أفطرت وقالت يكفيني كفارة ستة أشهر منها شهره رمضان وأسلم مجوسي في شهر رمضان فثقل عليه الصيام فنزل إلى سرداب وقعد يأكل فسمع ابنه حسه فقال من هذا فقال أبوك الشقي يأكل خبز نفسه ويفزع من الناس وسئل بعض القصاص عن نصراني قال لا إله إلا الله لا غير إذا مات أين يده قال يدفن بين مقابر المسلمين والنصارى ليكون مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وأهدى إلى سالم القصاص خاتم بلا فص فقال إن صاحب هذا الخاتم يعطى في الجنة

غرفة بلا سقف وبنى بعض المغفلين نصف دار وبنى رجل آخر النصف الآخر فقال المغفل يوما قد عولت على بيع النصف الذي لي وأشتري به النصف الآخر لتكمل لي الدار كلها وسئل جامع الصيدلاني عن عمر ابنته فقال لا أدري إلا أن أمها ذكرت أنها ولدتها في أيام البراغيث وقيل لطفيلي أي سورة تعجبك من القرآن قال المائدة قال فأي آية قال ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ) قيل ثم ماذا قال ( آتنا غداءنا ) قيل ثم ماذا قال ( ادخلوها بسلام آمنين ) قيل ثم ماذا قال ( وما هم منها بمخرجين ) وقيل لعثمان بن دراج الطفيلي يوما كيف تصنع بدار العرس إذا لم يدخلك أصحابها قال أنوح على بابهم فيتطيرون من ذلك فيدخلوني وقيل له أتعرف بستان فلان قال إي والله إنه الجنة الحاضرة في الدنيا قيل لم لا تدخله وتأكل من ثماره وتستظل بأشجاره وتسبح في أنهاره قال لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال وقيل له يوما ما هذه الصفرة التي في لونك قال من الفترة من المضيفين وقال مرت بنا جنازة يوما ومعي ابني ومع الجنازة امرأة تبكي وتقول الآن يذهبون بك إلى بيت لا فراش فيه ولا غطاء ولا وطاء ولا خبز ولا ماء فقال ابني يا أبت إلى بيتنا والله يذهبون وحكي عن هارون الرشيد أنه أرق ذات ليلة أرقا شديدا فقال لوزيره جعفر بن يحيى البرمكي إني أرقت هذه الليلة وضاق صدري ولم أعرف ما أصنع وكان خادمه مسرور واقفا أمامه فضحك فقال له ما يضحكك استهزاء بي أم استخفافا فقال وقرابتك من سيد المرسلين ما فعلت ذلك عمدا ولكن خرجت بالأمس أتمشى بظاهر القصر إلى أن جئت إلى جانب الدجلة فوجدت الناس مجتمعين فوقفت فرأيت رجلا واقفا يضحك الناس يقال له ابن المغازلي فتفكرت الآن في شيء من حديثه وكلامه فضحكت والعفو يا أمير المؤمنين فقال له الرشيد ائتني الساعة به فخرج مسرور مسرعا إلى أن جاء إلى ابن المغازلي فقال له أجب أمير المؤمنين فقال سمعا وطاعة فقال له بشرط أنه إذا أنعم عليك بشيء يكون لك منه الربع والبقية لي فقال له بل اجعل لي النصف

ولك النصف فأبى فقال الثلث لي ولك الثلثان فأجابه إلى ذلك بعد جهد عظيم فلما دخل على الرشيد سلم فأبلغ وترجم فأحسن ووقف بين يديه فقال له أمير المؤمنين إن أنت أضحكتني أعطيتك خمسمائة دينار وإن لم تضحكني أضربك بهذا الجراب ثلاث ضربات فقال ابن المغازلي في نفسه وما عسى أن تكون ثلاث ضربات بهذا الجراب وظن في نفسه أن الجراب فارغ فوقف يتكلم ويتمسخر وفعل أفعالا عجيبة تضحك الجلمود فلم يضحك الرشيد ولم يتبسم فتعجب ابن المغازلي وضجر وخاف فقال له الرشيد الآن استحقيت الضرب ثم أنه أخذ الجراب ولفه وكان فيه أربع زلطات كل واحدة وزنها رطلان فضربه ضربة فلما وقعت الضربة في رقبته صرخ صرخة عظيمة وافتكر الشرط الذي شرطه عليه مسرور فقال العفو يا أمير المؤمنين اسمع مني كلمتين قال قل ما بدا لك قال إن مسرورا شرط علي شرطا واتفقت أنا وإياه على مصلحة وهو أن ما حصل لي من الصدقات يكون له فيه الثلثان ولي فيه الثلث وما أجابني إلى ذلك إلا بعد جهد عظيم وقد شرط علي أمير المؤمنين ثلاث ضربات فنصيبي منها واحدة ونصيبه اثنتان وقد أخذت نصيبي وبقي نصيبه قال فضحك الرشيد ودعا مسرورا فضربه فصاح وقال يا أمير المؤمنين قد وهبت له ما بقي فضحك الرشيد وأمر لهما بألف دينار فأخذ كل واحد منهما خمسمائة دينار ورجع ابن المغازلي شاكرا والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السابع والسبعون في الدعاء وآدابه وشروطه وفيه فصول
الفصل الأول في الدعاء وآدابه
قال الله تعالى ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) اختلف في سبب نزولها فقال مقاتل إن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع امرأته بعدما صلى العشاء في رمضان فندم على ذلك وبكى وجاء إلى رسول الله فأخبره بذلك ورجع مغتما وكان ذلك قبل الرخصة فنزلت هذه الآية ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام وغلظ كل سماء مثل ذلك فنزلت هذه الآية وقال الحسن إن قوما قالوا للنبي أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت هذه الآية قوله تعالى ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) أي أقبل عبادة من عبدني فالدعاء بمعنى العبادة والإجابة بمعنى القبول وقال قوم إن الله تعالى يجيب كل الدعاء فأما أن يعجل الإجابة في الدنيا وإما أن يكفر عن الداعي وإما أن يدخر له في الآخرة لما رواه أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما

يعجل له دعوته وإما أن يدخر له ثوابها وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها وروي أنه إذا كان يوم القيامة واستقر أهل الجنة في الجنة فبينما العبد المؤمن في قصره وإذا ملائكة من عند ربه يأتونه بتحف من عند الله فيقول ما هذا أليس الله قد أنعم علي وأكرمني فيقولون ألست كنت تدعو الله في الدنيا هذا دعاؤك الذي كنت تدعوه قد أدخر لك
واعلم أن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط فشرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر إلا الله وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب فإن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب لاه وأن يكون متجنبا لأكل الحرام ولا يمل من الدعاء ومن شروط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا كما قال عليه الصلاة و السلام ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم قال ابن عطاء الله إن الدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا فإن وافق أركانه قوي وإن وافق أجنحته طار إلى السماء وإن وافق مواقيته فاز وإن وافق أسبابه نجح فأركانه حضور القلب والخشوع وأجنحته الصدق ومواقيته الأسحار وأسبابه الصلاة على النبي ومن شروط الدعاء أن يكون سليما من اللحن كما قال بعضهم
( ينادي ربه باللحن ليث ... كذلك إذ دعاه لا يجاب ) وقيل إن الله تعالى لا يستجيب دعاء عريف ولا شرطي ولا جاب ولا عشار ولا صاحب عرطبة وهي الطنبور ولا صاحب كوبة وهي الطبل الكبير الضيق الوسط ومن آداب الدعاء أن يدعو الداعي مستقبل القبلة ويرفع يديه لما روي عن رسول الله قال إن الله ربكم حي كريم ليستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا أو أن يمسح بهما وجهه بعد الدعاء لما روي عن عمر قال كان رسول الله إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه وأن لا يرفع بصره إلى السماء لقوله " لينتهن أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء أو ليخطفن الله أبصارهم " وأن يخفض الداعي صوته

بالدعاء لقوله تعالى ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) وعن ابي عبد الرحمن الهمداني قال صليت مع أبي إسحاق الغداة فسمع رجلا يجهر في الدعاء فقال كن كزكريا إذ نادى ربه نداء خفيا وينبغي للداعي أن لا يتكلف وأن يأتي بالكلام المطبوع غير المسجوع لقوله ( إياكم والسجع في الدعاء بحسب أحدكم يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ) وقيل ادعوا بلسان الذلة والاحتقار ولا تدعوا بلسان الفصاحة والانطلاق وكانوا لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات فما دونها كما في آخر سورة البقرة وعن سفيان بن عيينة لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فقد أجاب الله دعاء شر الخلق إبليس إذ قال ( رب انظرني إلى يوم يبعثون ) وعن النبي إذا سأل أحدكم مسألة فتعرف الإجابة فليقل الحمد لله على الذي بنعمته تتم الصالحات ومن أبطأ عليه من ذلك شيء فليقل الحمد لله على كل حال وعن سلمة بن الأكوع قال ما سمعت رسول الله يستفتح الدعاء يستفتح الدعاء إلا قال ( سبحان ربي الأعلى الوهاب ) وعن أبي سليمان الداراني من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على رسول الله وينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء وأن يكون على رجاء من الإجابة ولا يقنط من رحمة الله لأنه يدعو كريما
وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة وذلك وقت السحر ووقت الفطر وما بين الأذان والإقامة وعند جلسة الخطيب بين الخطبتين إلى أن يسلم من الصلاة وعند نزول الغيث وعند التقاء الجيش في الجهاد في سبيل الله تعالى وفي الثلث الأخير من الليل لما جاء في الحديث ( إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاه ) وفي حالة السجود لقوله عليه الصلاة و السلام أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض هذه كله جاءت به الآثار

قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه دعا رسول الله في مسجد الفتح ثلاثة أيام يوم الاثنين ويوم الثلاثاء واستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرفت السرور في وجهه قال جابر ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فادعو فيها فاعرف الإجابة وفي بعض الكتب المنزلة يا عبدي إذا سألت فاسألني فإني غني وإذا طلبت النصرة فاطلبها مني فإني قوي وإذا أفشيت سرك فافشه إلي فإني وفي وإذا أقرضت فأقرضني فإني ملي وإذا دعوت فادعني فإني حفي ) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له " وقال وهب بن منبه بلغني أن موسى مر برجل قائم يبكي ويتضرع طويلا فقال موسى يا رب أما تستجيب لعبدك ؟ فأوحى الله تعالى إليه " يا موسى لو أنه بكي حتى تلفت نفسه ورفع يديه حتى بلغ عنان السماء ما استجبت له " قال يا رب لم ذلك ؟ قال لأن في بطنه الحرام ومر إبراهيم بن أدهم بسوق البصرة فاجتمع الناس إليه وقالوا يا أبا إسحاق ما لنا ندعوا فلا يستجاب لنا ؟ قال لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء الأول أنكم عرفتم الله فلم تؤدوا حقه الثاني زعمتم أنكم تحبون رسول الله ثم تركتم سنته الثالث قرأتم القرآن ولم تعملوا به الرابع أكلتم نعمة الله ولم تؤدوا شكرها الخامس قلتم إن الشيطان عدوكم ووافقتموه السادس قلتم إن الجنة حق فلم تعملوا لها السابع قلتم إن النار حق ولم تهربوا منها الثامن قلتم إن الموت حق فلم تستعدوا له التاسع انتبهتم من النوم واشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم العاشر دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم
وكان يحيى بن معاذ يقول من أقر لله باساءته جاد الله عليه بمغفرته ومن لم يمن على الله بطاعته أوصله إلى جنته ومن أخلص لله في دعوته من الله عليه بإجابة وقال علي رضي الله تعالى عنه ارفعوا أفواج البلايا بالدعاء وعن أنس رضي الله تعالى عنه ( يرفعه ) " لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد "

الفصل الثاني في الأدعية وما جاء فيها
كان من دعاء شريح رحمه الله تعالى اللهم إني أسألك الجنة بلا عمل عملته وأعوذ بك من النار بلا ذنب تركته ودعت إعرابية عند البيت فقالت إلهي لك أذل وعليك أدل وكان من دعاء بعض الصالحين اللهم إن كنا عصيناك فقد تركنا من معاصيك أبغضها إليك وهو الإشراك وإن كنا قصرنا عن بعض طاعتك فقد تمسكنا بأحبها إليك وهو شهادة أن لا إله إلا أنت وإن رسلك جاءت بالحق من عندك
ومن دعاء سلام بن مطيع " اللهم إن كنت بلغت أحدا من عبادك الصالحين درجة ببلاء فبلغنيها بالعافية " وقيل لفتح الموصلي ادع الله لنا فقال اللهم هبنا عطاءك ولا تكشف عنا غطاءك وكان من دعاء بعض السلف اللهم لا تحرمني خير ما عندك لشر ما عندي فإن لم تقبل تعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى الناس فنضيع وقال الحسن من دخل المقابر فقال اللهم رب الأرواح الفانية والأجساد البالية والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة أدخل عليها روحا من عندك وسلاما مني كتب الله بعدد من مات من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات
وحكي عن معروف القاضي أن الحجيج كانوا يجتهدون في الدعاء وفيهم رجل من التركمان ساكت لا يحسن أن يدعو فخشع قلبه وبكى فقال بلغته اللهم إنك تعلم أني لا أحسن شيئا من الدعاء فاسألك ما يطلبون منك بما دعوا فرأى بعض الصالحين في منامه أن الله قبل حج الناس بدعوة ذلك التركماني لما نظر إلى نفسه بالفقر والفاقة وقال الأصمعي حسدت عبد الملك على كلمة تكلم بها عند الموت وهي اللهم إن ذنوبي وإن كثرت وجلت عن الصفة فإنها صغيرة في جنب عفوك فاعف عني وركب إبراهيم بن أدهم في سفينة فهاجت الريح وبكى الناس وأيقنوا بالهلاك وكان إبراهيم نائما في كساء فاستوى جالسا وقال أريتنا

قدرتنا فأرنا عفوك فذهب الريح وسكن البحر وقال الثوري كان من دعاء السلف اللهم زهدنا في الدنيا ووسع علينا فيها ولا تزوها عنا ولا ترغبنا فيها وكان بعض الأعراب إذا آوى إلى فراشه قال اللهم إني أكفر بكل ما كفر به محمد وأؤمن بكل ما آمن به ثم يضع رأسه وسمعت بدوية تقول في دعائها يا صباح يا مناح يا مطعم يا عريض الجفنة يا أبا المكارم فزجرها رجل فقالت دعني أصف ربي وأمجد إلهي بما تستحسنه العرب وقال الزمخشري في كتابه " ربيع الأبرار " سمعت أنا من يدعو من العرب عند الركن اليماني يا أبا المكارم يا أبيض الوجه وهذا ونحوه منهم إنما يقصدون به الثناء على الله تعالى بالكرم والنزاهة عن القبيح على طريق الاستعارة لأنه لا فرق عندهم بين الكريم وأبي المكارم ولا بين الجواد والعريض الجفنة ولا بين المنزه والأبيض الوجه وقيل لأعرابي أتحسن أن تدعو ربك ؟ قال نعم قال اللهم إنك أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك فلا تحرمنا الجنة ونحن نسألك وذكر لعبد السلام بن مطيع أن الرجل تصيبه البلوى فيدعو فتبطئ عنه الإجابة فقال بلغني أن الله تعالى يقول كيف أرحمه من شيء به أرحمه وقال طاوس بينما أنا في الحجر ذات ليلة إذ دخل علي علي ابن الحسين فقلت رجل صالح من أهل بيت الخير لأسمعن دعاءه فسمعته يقول عبيدك بفنائك مسكينك بفنائك فقيرك بفنائك فما دعوت بهما في كرب إلا فرج عني ودعا أعرابي فقال اللهم إنا نبات نعمتك وقال ابن المسيب سمعت من يدعو بين القبر والمنبر اللهم إني أسألك عملا بارا ورزقا دارا وعيشا قارا فدعوت به فما وجدت إلا خيرا ودعت أعرابية بالموفق فقالت أسألك سترك الذي لا تزيله الرياح ولا تخرقه الرماح وقيل اتقوا مجانيق الضعفاء أي دعواتهم ودعا أعرابي فقال اللهم أمح ما في قلبي من كذب وخيانة واجعل مكانه صدقا وأمانة وصلى رجل إلى جنب عبد الله بن المبارك وبادر القيام فجذب ثوبه وقال أما لك إلى ربك حاجة ؟ وقال سفيان الثوري سمعت أعرابيا يقول اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله وإن كان في الأرض فأخرجه وإن كان بعيدان فقربه وإن

كان قريبا فيسره وإن كان قليلا فكثره وأن كان كثيرا فبارك لي فيه
وقال أبو نواس
( أحببت من شعر بشار وكلمته ... بيتا لهجت به من شعر بشار )
( يا رحمة الله حلي في منازلنا ... وجاورينا فدتك النفس من جار ) وكان بشار يعني بذلك جارية بصرية كان يحبها ويتغزل بها ونعني بها هنا رحمة الله التي وسعت كل شيء وسمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلا يقول وهو متعلق بأستار الكعبة يا من لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يبرمه إلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك فقال علي والذي نفسي بيده لو قلتها وعليك ملء السماوات والأرض من الذنوب لغفر لك ومن دعائه رضي الله عنه اللهم صن وجهي باليسار ولا تبدل جاهي بالاقتار فأسترزق طامعا رزقك من غيرك وأستعطف شرار خلقك وأبتلي بحمد من أعطاني وأفتتن بذم من منعني وأنت من وراء ذلك كله ولي الإجابة والمنع وعن أبي عباس رضي الله عنهما عن النبي قال " ما انتهيت إلى الركن اليماني قط إلا وجدت جبريل قد سبقني إليه يقول قل يا محمد " اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والفاقة وهي من مواقف الخزي " وهبط جبريل على يعقوب فقال يا يعقوب إن الله تعالى يقول لك قل يا كثير الخير يا دائم المعروف رد علي ابني فقالها فأوحى الله تعالى إليه وعزتي لو كان ميتين لنشرتهما لك وكان أبو مسلم الخراساني إذا نابه أمر قال يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين وقال جعفر بن محمد ما المبتلي الذي اشتد بلاؤه بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن وقوع البلاء وكان الزهري يدعو بعد الحديث بدعاء جامع فيقول اللهم إني أسألك من خير ما أحاط به علمك في الدنيا والآخرة وأعوذ بك من شر ما أحاط به علمك في الدنيا والآخرة وعن عقبة بن عبد الغافر دعوة في السر أفضل من سبعين دعوة في العلانية واعلم أن التوحيد والدعاء عند نوازل الملمات هو سفينة النجاة من الحوادث المهلكات

أبي الدرداء قال صلى بنا رسول الله العصر فمر بنا كلب فما بلغت يده رجله حتى وقع ميتا فلما انصرف رسول الله من صلاته قال من الداعي على الكلب آنفا ؟ قال رجل من القوم أنا يا رسول الله قال لقد دعوت الله باسمه الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى كيف دعوت الله ؟ قال قلت اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام وقيل أنه دخلت أذن رجل من أهل البصرة حصاة فعالجها الأطباء فلم يقدروا عليها حتى وصلت إلى صماخه فأتى إلى رجل من أصحاب الحسن فشكا له ما أصابه من الحصاة فدعا له بدعاء العلاء بن الحضرمي وهو " يا علي يا عظيم يا حليم يا عليم " قال الراوي فما برحنا حتى خرجت الحصاة من أذنه ولها طنين حتى ضربت الحائط وعن أنس إذا قال العبد يا رب يا رب يا رب يقول الله عز و جل لبيك عبدي وعنه قال مر رسول الله برجل وهو يقول يا أرحم الراحمين فقال له الرسول سل حاجتك فقد نظر إليك
وروي عن رسول الله أنه قال " إذا فتح الله على عبد الدعاء فليكثر فإن يستجيب له " وروي عن علي بن أبي زفر عن أخ له وكان فاضلا صالحا فقال دعوت الله أن يريني الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب فقمت ليلة أصلي فسمعت قعقعة في سقف البيت ثم هبط نور حتى صار تلقاء وجهي وإذا مكتوب بالنور فقرأته يا الله يا رحمن يا ذا الجلال والإكرام ومن دعاء الكرب ما روي عن وهب أن ابن عباس رضي الله عنهما قال له هل تجد فيما تقرأ من الكتب دعاء تدعو به عند الكرب ؟ قال نعم اللهم إني أسألك يا من يملك حوائج السائلين و يعلم ضمير الصامتين فإن لكل مسألة منك سمعا حاضرا و جوابا عتيدا ولكل صامت منك علما ناطقا محيطا أسألك بمواعيدك الصادقة وأياديك الفاضلة ورحمتك الواسعة أن تفعل بي كذا وكذا فقال ابن عباس هذا دعاء علمته في النوم ما كنت أرى أن أحدا يحسنه وعن وهب أيضا قال لما أهبط الله تعالى آدم من الجنة إلى الأرض استوحش لفقد أصوات الملائكة فهبط إليه جبريل وقال يا آدم هل

أعلمك شيئا تنتفع به في الدنيا والآخرة ؟ قال بلى قال قل اللهم أتمم النعمة حتى تهنيني المعيشة اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي اللهم أكفني مؤنة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تدخلني الجنة معافى وعن معروف الكرخي قال اجتمعت اليهود أخزاهم الله على قتل عيسى عليه الصلاة و السلام بزعمهم وأهبط الله تعالى عليه جبريل وفي باطن جناحيه مكتوب اللهم إني أدعوك باسمك الأجل الأعز وأدعوك اللهم باسمك الأحد الصمد وأدعوك باسمك العظيم الوتر وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعالي الذي ملأ الأركان كلها أن تكشف عني ضر ما أصبحت وأمسيت فيه فأوحى الله عز و جل إلى جبريل أن أرفع عبدي إلي فقال رسول الله لأصحابه عليكم بهذا الدعاء ولا تستبطئوا الإجابة فإن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إسناد هذا متصل إلى معروف الكرخي ثم هو منقطع ولو لم يكن فيه من البركة إلا رواية معروف لكان كافيا في قبوله والعمل به حدث عبد الله بن أبان الثقفي رضي الله عنه قال وجهني الحجاج ابن يوسف في طلب أنس بن مالك فظننت أنه يتوارى عني فأتيته بخيلي ورجلي فإذا هو جالس على باب داره مادا رجليه فقلت له أجب الأمير فقال أي الأمراء ؟ فقلت أبو محمد الحجاج فقال غير مكترث به قد أذله الله ما أراني أعزه لأن العزيز من عز بطاعة الله والذليل من ذل بمعصية الله وصاحبك قد بغى وطغى واعتدى وخالف كتاب الله والسنة والله لينتقم الله منه فقلت له أقصر عن الكلام وأجب الأمير فقام معنا حتى حضر بين يدي الحجاج فقال له أنت أنس بن مالك ؟ قال نعم قال أنت الذي تدعو علينا وتسبنا ؟ قال نعم قال ومم ذاك ؟ قال لأنك عاص لربك مخالف لسنة نبيك تعز أعداء الله وتذل أوليائه فقال له أتدري ما أريد أن أفعل بك قال لا قال أريد أن أقتلك شر قتلة قال أنس لو علمت أن ذلك بيدك لعبدتك من دون الله قال الحجاج ولم ذاك قال لأن رسول الله علمني دعاء وقال من دعاء به في كل صباحي لم يكن لأحد عليه سبيل وقد دعوت به في صباح هذا فقال الحجاج

علمنيه فقال معاذ الله أن أعلمه لأحد ما دمت أنت في الحياة فقال الحجاج خلوا سبيله فقال الحاجب أيها الأمير لنا في طلبه كذا وكذا يوما حتى أخذناه فكيف تخلي سبيله قال رأيت على عاتقه أسدين عظيمين فاتحين أفواههما ثم أن أنسا رضي الله عنه لما حضرته الوفاة علم الدعاء لأخوانه وهو بسم الله الرحمن الرحيم باسم الله خير الأسماء باسم الله الذي لا يضر مع اسمه أذى باسم الله الكافي باسم الله المعافي باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم باسم الله على نفسي وديني باسم الله على أهلي ومالي باسم الله على كل شيء أعطانيه ربي الله أكبر الله أكبر الله أكبر أعوذ بالله مما أخاف وأحذر الله ربي لا أشرك به شيئا عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك ولا إله غيرك اللهم إني أعوذ بك من شر كل جبار عنيد وشيطان مريد ومن شر قضاء السوء ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم وهذا دعاء مشهور الإجابة وله شرح طويل وتركناه لطوله وهو اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك وعلانية القول كالسر في علمك وانقاد كل شيء لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك لا بيد غيرك اجعل لي من كل هم وغم أصبحت أو أمسيت فيه فرجا ومخرجا إنك على كل شيء قدير اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك عن قبيح عملي أظعمني أن أسألك ما لا أستوجبه منك مما قضيته لي أدعوك آمنا وأسألك مستأنسا لا خائفا ولا وجلا لأنك أنت المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك تتودد إلي بالنعم مع غناك عني واتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك فلم أر مولى كريما أعطف منك على عبد لئيم مثلي لكن الثقة بك حملتني على الجرأة على الذنوب فاسألك بجودك وكرمك وإحسانك مع طولك أن تصلي على محمد وآله وأن تفتح لي باب الفرج بطولك وتحبس عني باب الهم بقدرتك ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأعجز ولا إلى الناس فأضيع برحمتك يا أرحم الراحمين

وروى الحافظ النسفي باسناده عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال مر رسول الله برجل ساجد وهو يقول في سجوده اللهم إني استغفرك وأتوب إليك من مظالم كثير لعبادك قبلي فأيما عبد من عبادك أو أمة من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في مال أو بدن أو عرض علمتها أو لم أستطع أن أتحللها فأسألك أن ترضيه عني بما شئت وكيف شئت ثم تهبها لي من لدنك إنك واسع المغفرة ولديك الخير كله يارب ما تصنع بعذابي ورحمتك وسعت كل شيء فلتسعني رحمتك فإني لا شيء وأسألك يارب أن تكرمني برحمتك ولا تهني بذنوبي وما عليك أن تعطيني الذي سألتك يارب يا الله فقال رسول الله ارفع رأسك فقد غفر الله لك إن هذا دعاء أخي شعيب عليه السلام وقال صالح المزني قال لي قائل في منامي إذا أحببت أن يستجاب لك فقل اللهم إني أسألك باسمك المحزون المكنون المبارك الطيب الطاهر المطهر المقدس فما دعوت بها في شيء إلا تعرفت الاجابة
وقيل إن هذا الدعاء فيه اسم الله الأعظم وهو بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إني أسألك بالعزة التي لا ترام والملك الذي لا يضام والعين التي لا تنام والنور الذي لا يطفأ وبالوجه الذي لا يبلى وبالديمومة التي لا تفنى وبالحياة التي لا تموت وبالصمدية التي لا تقهر وبالربوبية التي لا تستذل أن تجعل لنا في أمورنا فرجا ومخرجا حتى لا نرجو غيرك يا أرحم الراحمين وقال سيعد بن المسيب دخلت المسجد في ليلة مقمرة وأظن أني قد أصبحت وإذا الليل على حاله فقمت أصلي وجلست أدعو وإذا بهاتف يهتف من خلفي يا عبد الله قل قلت ما أقول قال قل اللهم إني أسألك بأنك ملك وأنت على كل شيء قدير وما تشاء من أمر يكون قال سعيد فما دعوت به قط في شيء إلا رأيت نجحه وعن الشيخ كمال لدين الدميري قال روينا عن قاضي القضاة عز الدين ابن جماعة قال أنبأنا الشيخ شرف الدين أبو العباس أحمد بن ابراهيم ابن مناع الفزاري خطيب دمشق أنبأنا الشيخ زين الدين أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي بقراءتي عليه قال أنبأنا الحافظ بهاء الدين ناصر السنة محمد بن الامام أبي محمد بن الحافظ أبي القاسم علي بن الحسين بن هبة الله

ابن عساكر قراءه عليه وأنا أسمع قال رويت بالاسناد وذكر إسناده إلى الإمام الحجة التابعي الجليل محمد بن سيرين قال نزلنا بنهر تيرا فأتانا أهل ذلك المنزل فقالوا لنا ارحلوا فإنه لم ينزل هذا المنزل أحد إلا أخذ متاعه فرحل أصحابي وتخلفت فلما أمسينا قرأت آيات فما نمت حتى رأيت أقواما قد أقبلوا وجاءوا إلى جهتي أكثر من ثلاثين نفرا وقد جردوا سيوفهم فلم يصلوا إلى فلما أصبحت رحلت فلقيني شيخ على فرس ومعه قوس عربية فقال لي يا هذا أنسي أنت أم جني فقلت بل أنا من بني آدم قال فما بالك لقد أتيناك في هذه الليلة أكثر من سبعين مرة وفي كل ذلك يحال بيننا وبينك بسور من حديد قلت حدثني ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله أنه قال من قرأ في ليلة ثلاثا وثلاثين آية لم يضره في تلك الليلة لص طار ولا سبع ضار وعوفي في نفسه وأهله وماله حتى يصبح فنزل عن فرسه وكسر قوسه وأعطى الله تعالى عهدا أن لا يعود لهذا الأمر وهذه الآيات وهي أن تقرأ بعد الفاتحة ( ألم ذلك الكتاب ) إلى قوله ( المفلحون ) وآية الكرسي إلى قوله ( هم فيها خالدون ) و ( آمن الرسول ) إلى آخر السورة و ( أن ربكم الله الذي ) إلى قوله ( المحسنين ) و ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) إلى آخر السورة ( والصافات صفا ) إلى قوله تعالى ( لازب ) و ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم ) إلى قوله ( فلا تنتصران ) ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا ) إلى آخرها ( وأنه تعالى جد ربنا ) إلى قوله ( شططا ) زاد البوني إلى قوله ( شهابا رصدا ) و ( الله من ورائهم محيط ) إلى قوله ( محفوظ ) قال محمد بن سيرين فذكرت هذا الحديث لشعيب بن حرب فقال كنا نسميها آيات الحرز ويقال إن فيها شفاء من مائة داء وعدوا منها الجذام وغير ذلك قال محمد بن علي قرأتها على شيخ لنا قد أفلج فأذهب الله تعالى ذلك الفالج قال البوني هذه الآيات شرفها مشهور وفضلها مذكور لا ينكرها إلا غبي أو غيور وقد جربها المشايخ وعرف سرها من له في العلم قدم راسخ وقدر شامخ وهي على ما رويناه بل ما رأيناه أولها الفاتحة ثم أول البقرة إلى آخر الآيات
وقال أبو العباس أحمد القسطلاني سمعت الشيخ أبا عبد الله القرشي

يقول سمعت أبا زيد القرطبي يقول في بعض الآثار أن من قال لا إله إلا الله سبعين ألف مرة كانت فداءه من النار فعملت ذلك رجاء بركة الوعد ففعلت منها لأهلي وعملت أعمالا ادخرتها لنفسي وكان إذ ذاك يبيت معنا شاب يكاشف بالجنة والنار وكانت الجماعة ترى له فضلا على صغر سنه وكان في قلبي منه شيء فاتفق أن استدعانا بعض الإخوان إلى منزله فنحن نتناول الطعام والشاب معنا إذ صاح صيحة منكرة واجتمع في نفسه وهو يقول يا عم هذه أمي في النار ويصيح بصياح عظيم لا شك من سمعه أنه عن أمر فلما رأيت ما به من الانزعاج قلت اليوم أجرب صدقه فألهمني الله تعالى السبعين ألفا ولم يطلع على ذلك إلا الله تعالى فقلت في نفسي الأثر حق والذين رووه لنا صادقون اللهم أن هذه السبعين ألفا فداء أم هذا الشاب من النار فما استتممت هذا الخاطر في نفسي إن قال يا عم هذه أمي أخرجت من النار والحمد لله فحصل عندي فائدتان امتحاني لصدق الأثر وسلامتي من الشاب وعلمي بصدقه ومن خاف إنسانا فليصل ركعتين بعد صلاة المغرب ثم يضع جبهته على التراب ويقول يا شديد المحال يا عزيزا أذللت بعزتك جميع من خلقت صل على محمد وآله وأكفني فلانا بما شئت كفاه الله تعالى شره وروى الثقفي رحمه الله تعالى بإسناده إلى محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول لولده يا بني من أصابته مصيبة في الدنيا أو نزلت به نازلة فليتوضأ وليحسن الوضوء وليصل أربع ركعات أو ركعتين فإذا انصرف من صلاته يقول يا موضع كل شكوى ويا سامع كل نجوى ويا شاهد كل بلوى ويا منجي موسى والمصطفى محمد والخليل إبراهيم عليهم السلام أدعوك دعاء من اشتدت فاقته وضعفت حركته وقلت حيلته دعاء الغريب الغريق الفقير الذي لا يجد لكشف ما هو فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال علي بن الحسين رضي الله عنهما لا يدعو به مبتلي إلا فرج الله عنه وقيل الاسم الأعظم هو بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إني أسألك يا مؤنس كل وحيد يا قريبا غير بعيد يا شاهدا غير غائب يا غالبا غير مغلوب يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض

ذا الجلال والإكرام أسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم وأسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الذي عنت له الوجوه وخشعت له الأصوات ووجلت له القلوب أن تصلي على محمد وعلى آله وأن تعطيني كذا وكذا إنك على كل شيء قدير وهذه أبيات الفرج لأحمد بن حمزة البوني قيل إن فيها اسم الله الأعظم وهي هذه
( إني لأرجو عطفة الله ولا ... أقول إن قيل متى ذاك متى )
( لا بد أن ينشر ما كان طوى ... جودا وأن يمطر ما كان خوى )
( وربما ينشر ما كان زوى ... وربما قدر ما كان لوى )
( وكل شيء ينتهي إلى مدى ... والشيء يرجى كشفه إذا انتهى )
( لطائف الله وإن طال المدى ... كلمحة الطرف إذا الطرف رمى )
( كم فرج بعد إياس قد أتى ... وكم سرور قد أتى بعد الأسى )
( من لاذ بالله نجا فيمن نجا ... من كل ما يخشى ونال ما رجا )
( سبحان من نهفوا ويعفوا دائما ... ولم يزل مهما هفا العبد عفا )
( يعطي الذي يخطي ولا يمنعه ... جلاله من العطا لذي الخطا ) ومن المنظوم أيضا
( يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع )
( يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع )
( يا من خزائن رزقه في قول كن ... أمنن فإن الخير عندك أجمع )
( مالي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع )
( مالي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع )
( ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع )

( حاشا لجودك أن تقنط عاصيا ... الفضل أجزل والمواهب أوسع )
( ثم الصلاة على النبي وآله ... خير الأنام ومن به يتشفع ) وقال آخر
( يا خالق الخلق يارب العباد ومن ... قد قال في محكم التنزيل أدعوني )
( إني دعوتك مضطرا فخذ بيدي ... يا جاعل الأمر بين الكاف والنون )
( نجيت أيوب من بلواه حين دعا ... بصير أيوب يا ذا اللطف نجيني )
( واطلق سراحي وامنن بالخلاص كما ... نجيت من ظلمات البحر ذا النون ) ثم يقرأ ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) قال بعضهم
( يارب ما زال لطف منك يشملني ... وقد تجدد بي ما أنت تعلمه )
( فاصرفه عني كما عودتني كرما ... فمن سواك لهذا العبد يرحمه ) وقال آخر
( يا من تحل بذكره ... عقد النوائب والشدائد )
( يا من إليه المشتكى ... وإليه أمر الخلق عائد )
( يا حي يا قيوم يا ... صمد تنزه عن مضادد )
( أنت الرقيب على العباد ... وأنت في الملكوت واحد )
( أنت المعز لمن أطاعك ... والمذل لكل جاحد )
( إني دعوتك والهموم ... جيوشها نحوي تطارد )
( فافرج بحولك كربتي ... يا من له حسن العوائد )

( فخفي لطفك يستعان ... به على الزمن المعاند )
( أنت الميسر والمسبب ... والمسهل والمساعد )
( يسر لنا فرجا قريبا ... يا إلهي لا تباعد )
( كن راحمي فلقد يئست ... من الأقارب والأباعد )
( ثم الصلاة على النبي ... وآله الغر الأماجد )
( وعلى الصحابة كلهم ... ما خر للرحمن ساجد )
دعاء عظيم مأثور اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بغيض يتجهمني أو إلى قوي ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك فلك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة لنا إلا بك يارب العالمين
ومما جاء في أدعية الناس بعضهم لبعض دعا رجل لآخر فقال سرك الله بما ساءك ولا ساءك فيما سرك ودعا رجل لآخر فقال لا أخلاك الله تعالى من ثناء صادق باق ودعاء صالح واق ودعا أعرابي لآخر فقال رحب واديك وعز ناديك ولا ألم بك ولا طاف بك عدم وسلمك الله ولا أسلمك وسمعت بعض العرب يدعو لرجل ويقول سلمك الله تعالى من الرهق والوهق وعافاك الله تعالى من الوحل والزحل وسلمك الله من الشاردات والواردات وسلمك الله بين الأعنة والأسنة ودعا أعرابي لعبد الله بن جعفر رضي الله عنه فقال لا ابتلاك الله تعالى ببلاء يعجز عنه صبرك وأنعم عليك نعمة يعجز عنها شكرك وأبقاك ما تعاقب الليل والنهار وتناسخت الظلم والأنوار ودعا بعضهم لآخر فقال زودك الله تعالى

الأمن في مسيرك والسعد في مصيرك ولا أخلاك من شهر تستجده وخير من الله تستمده وعزى شبيب بن شبة يهوديا فقال أعطاك الله على مصيبتك ما أعطى أحدا من أهل ملتك
ومما جاء في الدعاء على الأعداء والظلمة ونحوهم دعا اعرابي على ظالم فقال لا ترك الله لك شفرا ولا ظفرا أي عينا ولا يدا ومن دعاء العرب فته الله فتا وحته حتا وجعل أمره شتى وخرج أعرابي إلى سفر وكانت له امرأة تكرهه فاتبعته نواة وقالت شط نواك ونأى سفرك ثم أتبعته روثة وقالت رثتك أهلك وورث خيرك ثم أتبعته حصاة وقالت حاص رزقك وحص أثرك ودعا أعرابي على آخر فقال أطفأ الله ناره وخلع نعليه أي جعله أعمى مقعدا ودعا أعرابي على آخر فقال سقاه الله دم جوفه أي قتل ابنه وأخذ ديته فشرب لبنها ودعا أعرابي على آخر فقال بعث الله عليه سنة فاشورة تحلقه كلما يحلق الشعر بالنورة ودعا رجل على أمير فقال
( أزال الله دولته سريعا ... فقد ثقلت على عنق الليالي ) وقالت امرأة من بني ضبة في زوجها
( وما دعوت عليه حين ألعنه ... إلا وآخر يتلوه بآمين )
( فليته كان أرض الروم منزله ... وليتني قبله قد صرت للصين ) وقال رسول في خطبته يوم الأحزاب اللهم كل سلاحهم واضرب وجوههم ومزقهم في البلاد تمزيق الريح للجراد ودعا رجل فقال اللهم أكفنا أعداءنا ومن أرادنا بسوء فلتحط به ذلك السوء إحاطة القلائد بترائب الولائد ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على هام أصحاب الفيل وحسبنا الله ونعم الوكيل
ولنختم هذا الباب بهذا الدعاء المبارك وهو اللهم إنك وغرقتنا بربوبيتك وغرقنا في بحار نعمتك ودعوتنا إلى دار قدسك ونعمتنا بذكرك وأنسك إلهي إن ظلمة ظلمنا لنفوسنا قد عمت وبحار الغفلة

على قلوبنا قد طمت والعجز شامل والحصر حاصر والتسليم أسلم وأنت بالحال أعلم إلهي ما عصيتك جهلا بعاقبك بعقابك ولا تعرضا لعذابك ولكن سولتها نفوسنا وأعانتنا شقوتنا وغرنا سترك علينا وأطمعنا عفوك برك بنا فالآن من عذابك من ينقذنا وبحبل من نعتصم إن قطعت حبلك عنا واخجلتاه غدا من الوقوف بين يديك وافضيحتاه إن عرضت فعالنا القبيحة عليك اللهم اغفر ما علمت ولا تهتك ما سترت إلهي إن كنا عصيناك بجهل فقد دعوناك بعقل حيث علمنا أن لنا ربا يغفر لنا ولا يبالي إلهي تحرق بالنار وجها كان لك مصليا ولسانا كان لك ذاكرا وداعيا لا بالذي دلنا عليك وأمرنا بالخشوع بين يديك وهو محمد خاتم أنبيائك وسيد أصفيائك فإن حقه علينا أعظم الحقوق بعد حقك كما أن منزلته لديك أشرف المنازل سيد خلقك ومعدن أسرارك صل يارب على محمد وآله وأصحابه وارحم عبادا غرهم طول أمهالك وأطمعهم كثرة أفضالك فقد ذلوا لعزك وجلالك ومدوا أكفهم لطلب نوالك ولولا ذلك لم يصلوا إلى ذلك اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولكل المسلمين أجمعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثامن والسبعون في القضاء والقدر وأحكامه والتوكل على الله عز و جل أعلم أن كل ما يجري في العالم من حركة وسكون وخير وشر ونفع وضر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية فكل بقضاء الله وقدره وكذلك فلا طائر يطير بجناحيه ولا حيوان يدب على بطنه ورجليه ولا تطن بعوضة ولا تسقط ورقه إلا بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته كما لا يجري شيء من ذلك إلا وقد سبق علمه به واعلم أن كل ما قضاه الله تعالى وقدره فهو كائن لا محالة كما أن ما في علم الله تعالى يكون فهو كائن قريب وما قدر الله وصوله إليك بعد الطلب فهو لا يصل إليك إلا بالطلب والطلب أيضا من القدر فإن تعسر شيء فبتقديره وإن اتفق شيء فبتيسيره فمن رام أمرا من الأمور ليس الطريق في تحصيله أنه يغلق بابه عليه ويفوض أمره لربه وينتظر حصول ذلك الأمر بل الطريق أن يشرع في طلبه على الوجه الذي شرعه له فيه وقد ظاهر النبي بين درعين واتخذ خندقا حول المدينة حين تحزبت عليه الأحزاب يحترس به من العدو وأقام الرماة يوم أحد ليحفظوه من خالد بن الوليد وكان يلبس لأمة الحرب ويهيئ الجيوش ويأمرهم وينهاهم لما فيه من مصالحهم واسترقى وأمر بالرقية وتداوى وأمر بالمداواة وقال الذي أنزل الداء أنزل الدواء فإن قيل قد روي أن النبي قال من استرقى أو اكتوى فهو برئ من التوكل قلنا أليس قد قال أعقلها وتوكل فإن قيل فما الجمع بين ذلك قلنا معناه من استرقى أو اكتوى متكلا على الرقية أو الكي وأن البرء من قبلهما خاصة فهذا يخرجه عن التوكل وإنما يفعله كافر يضيف

الحوادث إلى غير الله وقد أمرنا بالكسب والتسبب ألا ترى أن الله قال لمريم عليها السلام وهزي إليك بجذع النخلة فهلا أمرها بالسكون وحمل الرطب إلى فمها وأنشدوا في ذلك
( ألم تر أن الله قال لمريم ... وهزي إليك الجذع يساقط الرطب )
( ولو شاء أن تجنيه من غير هزها ... جنته ولكن كل شيء له سبب ) وقد تقدم هذا الشعر في باب الكسب والتسبب ولهذا قال رسول الله " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا فلم يحمل أرزاقها إليها في أوكارها بل ألهمها طلبه بالغدو والرواح " وقد جمعوا بين الطلب والقدر فقالوا إنهما كالعدلين على ظهر الدابة أن أحمل في واحد منهما أرجح مما في الآخر سقط حمله وتعب ظهره وثقل عليه سفره وإن عادل بينهما سلم ظهره ونجح سفره وتمت بغيته وضربوا فيه مثالا عجيبا فقالوا إن أعمى ومقعدا كانا في قرية بفقر وضر لا قائد للأعمى ولا حامل للمقعد وكان في القرية رجل يطعمهما قوتهما في كل يوم احتسابا لله تعالى فلم يزالا بنعمة إلى أن هلك ذلك الرجل فلبثا أياما واشتد جوعهما وبلغ الضر منهما جهده فأجمع رأيهما على أن الأعمى يحمل المقعد فيدله المقعد على الطريق ببصره فاشتغل الأعمى بحمل المقعد ويدور به ويرشده إلى الطريق وأهل القرية يتصدقون عليهما فنجح أمرهما ولولا ذلك لهلكا فكذلك القدر سببه الطلب والطلب سببه القدر وكل واحد منهما معين لصاحبه ألا ترى أن من طلب الرزق والولد ثم قعد في بيته لم يطأ زوجته ولم يبذر أرضه معتمدا في ذلك على الله واثقا به أن تلد امرأته من غير مواقعة وأن ينبت الزرع من غير بذر كان عن المعقول خارجا ولأمر الله كارها قال الغزالي أما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبرا لضعفهم وتسكينا لقلوبهم وقد أدخر رسول الله قوت

ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر شيئا وقال أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا وقال عبد الله بن الفرج أطلعت على إبراهيم بن أدهم وهو في بستان بالشام فوجدته مستلقيا على قفاه وإذا بحية في فمها باقة نرجس فما زالت تذب عنه حتى انتبه فحسبك توكل يؤدي إلى هذا وعن عبد الله الهروي قال كنا مع الفضيل بن عياض على جبل أبي قيس فقال لو أن رجلا صدق في توكله على الله ثم قال لهذا الجبل اهتز لاهتز فوالله لقد رأيت الجبل اهتز وتحرك فقال له الفضيل رحمه الله تعالى لم أعنك رحمك الله فسكن وفي الإسرائيليات أن رجلا احتاج إلى أن يقترض ألف دينار فجاء إلى رجل من المتمولين فسأله في ذلك وقال له تمهل علي بدينك إلى أن أسافر إلى البلد الفلاني فإن لي مالا آتيك به وأوفيك منه وتكون مدة الأجل بيني وبينك كذا وكذا فقال له هذا غرر فأنا ما أعطيك مالي إلا أن تجعل لي كفيلا إن لم تحضر طلبته منه فقال الرجل الله كفيل بمالك وشاهد على أن لا أغفل عن وفائك فإن رضيت فافعل فداخل الرجل خشية الله تعالى وحمله التوكل على أن دفع المال للرجل فأخذه ومضى إلى البلد الذي ذكر فلما قرب الأجل الذي بينه وبين صاحبه جهز المال وقصد السفر في البحر فعسر عليه وجود مركب ومضت المدة وبعدها أيام وهو لا يجد مركبا فاغتم لذلك وأخذ الألف دينار وجعلها في خشبة وسمر عليها ثم قال اللهم إني جعلتك كفيلا بإيصال هذه إلى صاحبها وقد تعذر علي وجود مركب وعزمت على طرحها في البحر وتوكلت عليك في إيصالها إليه ثم نقش على الخشبة رسالة إلى صاحبها بصورة الحال وطرحها في البحر بيده وأقام في البلدة مدة بعد ذلك إلى أن جاءت مركب فسافر فيها إلى صاحب المال فابتدأه وقال أنت سيرت الألف دينار في خشبة صفتها كيت وكيت وعلهيا منقوش كذا وكذا قال نعم قال قد أوصلها الله تعالى إلي والله نعم الكفيل فقال فكيف وصلت إليك قال لما مضى الأجل المقدر بيني وبينك بقيت أتردد إلى

البحر لأجدك أو أجد من يخبرني عنك فوقفت ذات يوم إلى الشط وإذا بالخشبة قد استندت إلي ولم أر لها طالبا فأخذها الغلام ليجعلها حطبا فلما كسرها وجد ما فيها فأخبرني بذلك فقرأت ما عليها فعلمت أن الله تعالى حقق أملك لما توكلت عليه حق التوكل وقيل إن سبب بداية ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه رأى طيرا أعمى بعيدا عن الماء والمرعى فبينما هو يتفكر في أمر ذلك الطائر فإذا هو بسكرجتين برزتا من الأرض إحداهما ذهب والأخرى فضة هذه فيها ماء والأخرى فيها قمح فلقط القملبح وشرب الماء ثم غابا بعد ذلك فذهل ذو النون وانقطع إلى الله تعالى من ذلك الوقت
وحكي أن رجلا من أبناء الناس كانت له يد في صناعة الصياغة وكان أوحد أهل زمانه فساء حاله وافتقر بعد غناء فكره الإقامة في بلده فانتقل إلى بلد آخر فسأل عن سوق الصاغة فوجد دكانا لمعلم السلطنة وتحت يده صناع كثيرة يعملون الأشغال للسلطنة وله سعادة ظاهرة ما بين مماليك وخدم وقماش وغير ذلك فتوصل الصائغ الغريب إلى أن بقي من أحد الصناع الذين في دكان هذا المعلم وأقام يعمل عنده مدة وكلما فرغ النهار دفع له درهمين من فضة وتكون أجرة عمله تساوي عشرة دراهم فيكسب عليه ثمانية دراهم في كل يوم فاتفق أن الملك طلب المعلم وناوله فردة سوار من ذهب مرصعة بفصوص في غاية من الحسن قد علمت في غير بلاده كانت في يد إحدى محاظيه فانكسرت فقال له إلحمها فأخذها المعلم وقد اضطرب عليه في عملها فلما أخذها وأراها للصناع الذين عنده وعند غيره فما قال له أحد إنه يقدر على عملها فازداد المعلم لذلك غما ومضت مدة وهي عنده لا يعلم ما يصنع فاشتد الملك على إحضارها وقال هذا المعلم نال من جهتنا هذه النعمة العظيمة ولا يحسن أن يلحم سوارا فلما رأى الصانع الغريب شدة ما نال المعلم قال في نفسه هذا وقت المروءة اعملها ولا أؤاخذه ببخله علي وعدم إنصافه ولعله يسحن إلي بعد ذلك فحط يده في درج المعلم وأخذها وفك جواهرها وسبكها ثم صاغها كما كانت ونظم علهيا جواهرها فعادت أحسن مما كانت فلما رآها المعلم فرح

فرحا شديدا ثم مضى بها إلى الملك فلما رآها استحسنها وادعى المعلم أنها صنعته فأحسن إليه وخلع عليه خلعة سنية فجاء وجلس مكانه فبقي الصائغ يرجو مكافأته عما عامله به فما التفت إليه المعلم ولما كان النهار ما زاده على الدرهمين شيئا فما مضت إلا أيام قلائل وإذا الملك اختار أ يعمل زوجين أساور على تلك الصورة فطلب المعلم ورسم له بكل ما يحتاج إليه وأكد عليه في تحسين الصفة وسرعة العمل فجاء إلى الصانع وأخبره بما قال الملك فامتثل مرسومه ولم يزل منتصبا إلى أن عمل الزوجين وهو لا يزيده شيئا على الدرهمين في كل يوم ولا يشكره ولا يعده بخير ولا يتجمل معه فرأى المصلحة أن ينقش على زوج الأساور أبياتا يشرح فيها حاله ليقف عليها الملك فنقش في باطن أحدهما هذه الأبيات نقشا خفيفا يقول
( مصائب الدهر كفي ... إن لم تكفي فعفي )
( خرجت أطلب رزقي ... وجدت رزقي توفي )
( فلا برزقي أحظى ... ولا بصنعة كفي )
( كم جاهل في الثريا ... وعالم متخفي ) قال وعزم الصانع على أنه ظهرت الأبيات للمعلم إن شرح له ما عنده وإن غم عليه ولم يرها كان ذلك سبب توصله إلى الملك ثم لفهما في قطن وناولهما للمعلم فرأى ظاهرهما ولم ير باطنهما لجهله بالصنعة ولما سبق له في القضاء فأخذها المعلم ومضى بهما فرحا إلى الملك وقدمهما إليه فلم يشك الملك في أنهما صنعته فخلع عليه وشكره ثم جاء فجلس مكانه ولم يلتفت إلى الصانع وما زاده في آخر النهار شيئا على الدرهمين فلما كان اليوم الثاني خلا خاطر الملك فاستحضر الحظية التي عمل لها السوارين الذهب فحضرت وهما في يديها فأخذهما ليعيد نظره فيهما وفي حسن صنعتهما فقرأ الأبيات فتعجب وقال هذا شرح حال صانعهما والمعلم يكذب فغضب عند ذلك وأمر باحضار المعلم فلما حضر قال له من عمل هذين السوارين قال أنا أيها الملك قال فما سبب نقش هذه الأبيات قال لم يكن عليهما أبيات

قال كذبت ثم أراه النقش وقال إن لم تصدقني الحق لأضربن عنقك فأصدقه الحق فأمر الملك باحضار الصانع فلما حضر سأله عن حاله فحكى له قصته وما جرى له مع المعلم فرسم الملك بعزل المعلم وأن تسلب نعمته وتعطى للصانع وإن يكون عوضا عنه في الخدمة ثم خلع عليه خلعة سنية وصار مقدما سعيدا فلما نال هذه الدرجة وتمكن عند الملك تلطف به حتى رضي عن المعلم الأول وصارا شريكين ومكثا على ذلك إلى آخر العمر ورحم الله من قال
( إذا كان سعد المرء في الدهر مقبلا ... تدانت له الأشياء من كل جانب ) وقال آخر
( ما سلم الله هو السالم ... ليس كما يزعم الزاعم )
( تجري المقادير التي قدرت ... وأنف من لا يرتضي راغم ) وقال كعب بن زهير
( لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر )
( يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... والنفس واحدة والهم منتشر )
( والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينتهي ذاك حتى ينتهي العمر ) وروي في الإسرائيليات أن نبيا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مر بفخ منصوب وإذا بطائر قريب منه فقال له الطائر يا نبي الله هل رأيت أقل عقلا ممن نصب هذا الفخ ليصيدني به وأنا أنظر إليه قال فذهب عنه ذلك النبي ثم رجع وإذا بطائر في الفخ فقال له عجبا لك ألست القائل كذا وكذا آنفا فقال يا نبي الله إذا جاء الحين لم يبق أذن ولا عين ويروى أن رجلا قال لبرزجمهر تعال نتناظر في

القدر قال وما تصنع بالمناظرة قال رأيت شيئا ظاهرا استدللت به على الباطن رأيت جاهلا مبرورا وعالما محروما فعلمت أن التدبير ليس للعباد ولما قدم موسى بن نصير بعد فتح الأندلس على سليمان بن عبد الملك قال له يزيد بن المهلب أنت أدهى الناس وأعلمهم فكيف طرحت نفسك في يد سليمان فقال إن الهدهد ينظر إلى الماء في الأرض على ألف قامة ويبصر القريب منه والبعيد على بعد في التخوم ثم ينصب له الصبي الفخ بالدودة أو الحبة فلا يبصره حتى يقع فيه وأنشدوا في ذلك
( وإذا خشيت من الأمور مقدرا ... وفررت منه فنحوه تتوجه ) وقال آخر
( أقام على المسير وقد أنيخت ... مطاياه وغرد حادياها )
( وقال أخاف عادية الليالي ... على نفسي وأن ألقى رداها )
( مشيناها خطا كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطا مشاها )
( ومن كانت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها ) ولما قتل كسرى بزرجهمر وجد في منطقته كتاب فيه إذا كان القضاء حقا فالحرص باطل وإذا كان الغدر في الناس طباعا فالثقة بكل أحد عجز وإذا كان الموت بكل أحد نازلا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق وقال ابن عباس وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى ( وكان تحته كنز لهما ) إنما كان الكنز لوحا من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن وعجبت لم يوقن بالرزق كيف ينصب وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يوقن بالحساب كيف وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله وحكي الطرطوشي رحمه الله تعالى في كتابه سراج الملوك قال من عجيب ما اتفق بالاسكندرية أن رجلا من خدم نائب الاسكندرية غاب

خدمته أياما ففي بعض الأيام قبض عليه صاحب الشرطة وحمله إلى دار النائب فانفلت في بعض الطرق وترامى في بئر والمدينة إذ ذاك مسردبة بسرداب يمشي الماشي فيه قائما فما زال الرجل يمشي إلى أن لاحت له بئر مضيئة فطلع منها فاذا البئر في دار النائب فملا طلع أمسكه النائب وأدبه فكان فيه المثل السائر الفار من القضاء الغالب كالمتقلب في يد الطالب وأنشدوا فيه
( قالوا تقيم وقد أحاط ... بك العدو ولا تفر )
( لا نلت خيرا أن بقيت ... ولا عداني الدهر شر )
( إن كنت أعلم أن ... غير الله ينفع أو يضر )

الباب التاسع والسبعون في التوبة والاستغفار قد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة وأمر الله تعالى بالتوبة فقال ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) ووعد بالقبول فقال تعالى ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) وفتح باب الرجاء فقال ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) وروي في الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رسول الله يقول أيها الناس توبوا إلى الله تعالى فإني أتوب إلى الله تعالى في اليوم مائة مرة وروى أحمد بن عبد الرحمن السلماني قال اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله فقال أحدهم سمعت رسول الله يقول إن الله تعالى يقبل التوبة من عبده قبل أن يموت بيوم فقال الثاني أنت سمعت هذا من رسول الله قال نعم قال وأنا سمعته يقول إن الله تعالى يقبل توبته قبل أن يموت بنصف يوم فقال الثالث أنت سمعت هذا من رسول الله قال نعم قال وأنا سمعته يقول إن الله تعالى يقبل توبة العبد قبل موته بضحوة أو قال بضجعة

فقال الرابع أنت سمعت هذا من رسول الله ؟ قال نعم قال وأنا سمعته يقول إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن الرسول الله قال الله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل بأرض دوية مهلكة معه راحلته فنام واستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا أدركه الموت قال أرجع إلى المكان الذي ضللتها فيه وأموت فإني مكانه فغلبته عينه فاستيقظ وإذا راحلته عند رأسه فيها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله يقول والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة رواه البخاري وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها رواه مسلم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله قال كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعبد أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ قال لا فقتله وكمل به المائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فأتاه وقال له أنه قد قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ قال نعم ومن يحل بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فأعبد الله تعالى معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى كان نصف الطريق أدركه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فحكموه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فالى أيتهما كان أدنى ؟ فهو أقرب لها فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة متفق عليه وفي الصحيحين فكان أدنى إلى أرض التوبة الصالحة فجعل من أهلها

وعن أبي نجيد بضم النون وفتح الجيم عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت رسول الله وهي حبلى من الزنا فقالت يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فدعاني رسول الله فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال عمر يا رسول الله تصلي عليها وقد زنت ؟ قال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل ممن جادت بنفسها لله عز و جل رواه مسلم وعن أبي نصرة قال لقين مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له سمعت من أبي بكر شيئا قال نعم سمعته يقول قال رسول الله ما أصر من استغفر ولو عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة وحكي أن نبهان التمار وكنيته أبو مقبل أتته امرأة حسناء تشتري تمرا فقال لها هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له اتق الله فتركها وندم على ذلك فأتى النبي فذكر له ذلك فأنزل الله تعالى ( والذين إذا فعلوا فاحشة ) إلى آخر الآية وعن أسماء بن الحكم الفزاري قال سمعت عليا يقول إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله يقول ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ويصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له وروي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله يقول إذا أذنب العبد ذنبا فقال يا رب أذنبت ذنبا فاغفره لي قال الله عز و جل علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم إذا مكث ما شاء الله وأصاب ذنبا آخر فقال يا رب أذنبت

ذنبا فأغفر لي قال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء وكان قتادة رضي الله تعالى عنه يقول القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم أما دواؤكم فالاستغفار وأما داؤكم فالذنوب وكان علي رضي الله تعالى عنه يقول العجب لمن هلك ومعه كلمة النجاة قيل وما هي ؟ قال الاستغفار وقال رسول الله من قال عشرا حين يصبح وحين يمسي أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وأسأله التوبة والمغفرة من جميع الذنوب غفرت ذنوبه ولو كانت مثل رمل عالج ومن قال سبحانك ظلمت نفسي وعملت سوءا فأغفر لي ذنوبي فانه لا يغفر الذنوب إلا أنت غفرت ذنوبه ولو كانت مثل دبيب النمل وقال أبو عبد الله الوراق لو كان عليك من الذنوب مثل عدد القطر وزبد البحر محيت عنك إذا استغفرت بهذا الاستغفار وهو هذا اللهم إني أسألك وأستغفرك من كل ذنب تبت إليك منه عدت فيه وأستغفرك من كل ما وعدتك من نفسي ثم لم أوف لك به وأستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطه غيرك وأستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فاستعنت بها على معصيتك يقول الله عز و جل لملائكته ويح ابن آدم يذنب الذنب ثم يستغفرني فأغفر له ثم يذنب الذنب فيستغفرني فاغف له لا هو يترك الذنب من مخالفتي ولا ييأس من مغفرتي أشهدكم يا ملائكتي إني قد غفرت له وقال بشر الحافي بلغني أن العبد إذا عمل الخطيئة أوحى الله تعالى إلى الملائكة الموكلين ترفقوا عليه سبع ساعات فان استغفرني فلا تكتبوها وإن لم يستغفرني فاكتبوها

نكتة قيل انقطع الغيث عن بني إسرائيل في زمن موسى عليه الصلاة و السلام حتى احترق النبات وهلك الحيوان فخرج موسى عليه الصلاة و السلام في بني إسرائيل وكانوا سبعين رجلا من نسل الأنبياء مستغيثين إلى الله تعالى قد بسطوا أيدي صدقهم وخضوعهم وقربوا قربان تذللهم وخشوعهم ودموعهم تجري على خدودهم ثلاثة أيام فلم يمطر لهم فقال موسى اللهم أنت القائل ادعوني أستجب لكم وقد دعوتك وعبادك على ما ترى من الفاقة والحاجة والذل فأوحى الله تعالى إليه يا موسى إن فيهم من غذاؤه حرام وفيهم من يبسط لسانه بالغيبة والنميمة وهؤلاء استحقوا أن أنزل عليهم غضبي وأنت تطلب لهم الرحمة كيف يجتمع موضع الرحمة وموضع العذاب ؟ فقال موسى ومن هم يا رب حتى نخرجهم من بيننا ؟ فقال الله تعالى يا موسى لست بهتاك ولا نمام ولكن يا موسى توبوا كلكم بقلوب خالصة فعساهم يتوبوا معكم فأجود بانعامي عليكم فنادى منادي موسى في بني إسرائيل إن اجتمعوا فاجتمعوا فاعلمهم موسى عليه الصلاة و السلام بما أوحى إليه و العصاة يسمعون فذرفت أعينهم ورفعوا مع ببني إسرائيل أيديهم إلى الله عز و جل وقالوا إلهنا جئناك من أوزارنا هاربين ورجعنا إلى بابك طالبين فارحمنا يا أرحم الراحمين فما زالوا كذلك حتى سقوا بتوبتهم إلى الله تعالى اللهم تب علينا وعلى سائر العصاة والمذنبين يا رب العالمين أوحى الله إلى داود عليه الصلاة و السلام يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني فكيف إرادتي بالمقبلين على ولقد أحسن من قال
( أسيء فيجزي بالإساءة إفضالا ... وأعصي فيوليني برا وإمهالا )
( فحتى متى أجفوه وهو يبرني ... وأبعد عنه وهو يبدل إيصالا )
( وكم مرة قد عن نهج طاعة ... ولا حال عن ستر القبيح ولا زالا ) وهذا آخر ما يسره الله تعالى في هذا الباب والله أعلم بالصواب

الباب الثمانون فيما جاء في ذكر الأمراض والعلل والطب والدواء وما جاء في السنة من العبادة وما أشبه ذلك وفيه فصول
الفصل الأول في الأمراض والعلل وما جاء في ذلك من الاجر والثواب
روي عن عبد الله بن أنيس رضي الله تعالى عنه عن النبي أنه قال أيكم يحب أن يصح جسمه فلا يسقم ؟ فقالوا كلنا يا رسول الله قال أتحبون أن تكونوا كالحمير الصوالة ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلايا وأصحاب كفارات والذي بعثني بالحق نبيا أن الرجل لتكونن له الدرجة في الجنة فلا يبلغها بشيء من عمله فيبتليه الله تعالى ليبلغ درجة لا يبلغها بعمله وقال ما من مسلم يمرض إلا حط الله من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها وكان يقول لا تزال الأوصاب والمصائب بالعبد حتى تتركه كالفضة البيضاء والنقية المصفاة
وقيل إن الناس قد حموا في فتح خيبر فشكوا إلى رسول الله فقال أيها الناس إن الحمى رائد الموت وسجن الله في الأرض وقطعة من النار فإذا وجدتم ذلك فبردوا لها الماء في الشنان ثم صبوا عليكم بين المغرب والعشاء ففعلوا ذلك فزالت عنهم
وعن انس رضي الله تعالى عنه قال دخل رسول الله على شاب وهو في الموت فقال له كيف تجدك ؟ فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال عليه الصلاة و السلام هما لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف

عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة الزاهدة رحمها الله تعالى أنها سمعت رجلا يقول ما أشد العمى على من كان بصيرا فقالت له يا عبد الله عمى القلب عن الله أشد من عمي العين عن الدنيا والله لوددت أن الله وهب لي كنه معرفته ولم يبق مني جارحة إلا أخذها
وكتب مبارك لأخيه سفيان الثوري يشكو إليه ذهاب بصره فكتب إليه أما بعد فقد فهمت كتابك فيه شكاية ربك فاذكر الموت يهن عيك ذهاب بصرك والسلام وقيل لعطاء في مرضه ما تشتهي ؟ قال ما ترك خوف جهنم في قلبي موضعا للشهوة وأصاب ابن أدهم بطن فتوضأ في ليلة سبعين مرة وقيل لأعرابي في مرضه ما تشتهي ؟ قال الجنة فقيل أفلا ندعوا لك طبيبا ؟ قال طبيبي هو الذي أمرضني
الفصل الثاني من هذا الباب في ذكر العلل كالبخر والعرج والعمى والصمم والرمد والفالج وغير ذلك نسأل الله العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة
قيل تسارر أبخر وأصم فقال له الأصم قد فهمت ثم فارقه فسأله رجل فقال والله لا أدري غير انه فسا في أذني وقيل ان عبد الملك بن مروان كان أبخرا فعض يوما على تفاحة ورمى بها إلى زوجته فدعت بسكين فقال ما تصنعين بها ؟ قالت أميط الأذى عنها فشق عليه ذلك منها فطلقها و سارر أبو الأسود الدؤلي سليمان ابن عبد الملك وكان أبو الأسود أبخر فستر سلميان أنفه بكمه فعبر أبو الأسود وهو يقول لا يصلح للخلافة من لا يقدر على مناجاة الشيوخ البخر وقيل طول انطباق الفم يورث البخر وكل رطب الفم سائل اللعاب سالم منه وقيل ان الزنج أطيب الناس أفواها والسباع موصوفة بالبخر ولا المثل مضروب بالأسد والصقر في البخر والكلب من بينهما طيب الفم وليس في البهائم أطيب أفواها من الظباء

وحكي أن أبخر تزوج بامرأة فلما ضاجعها عافته وتولت عنه بوجهها ثم أنشدت تقول
( يا حب والرحمن إن فاكا ... أهلكني فولني قفاكا )
( إذا غدوت فاتخذ مسواكا ... من عرفط ان لم تجد أراكا )
( لا تقربني بالذي سواكا ... إني أراك ماضغا خراكا ) في ديوان المنثور كم من ذي عرج في درج المعالي عرج وكم من صحيح قدم ليس له في الخير قدم وقيل ان من الصم من يسمع السر فإذا رفعت إليه الصوت لم يسمعه ورأيت من العمش من لا ينظر صورة الإنسان من قريب ولكن يقرأ الخط الرقيق الحواشي وقيل إن طريفا الشاعر مدح عمرو بن هداب وكان أبرص فلما انتهى إلى قوله ابرص فياض اليدين مهذب صاح به الناس وقالوا قطع الله لسانك فقال عمرو مه إن البرص مما تتفاخر به العرب أما سمعتم قول سهل حيث قال
( أيشتمني زيد بأن كنت أبرصا ... وكل كريم لا أبا لك أبرص )
( كفى حزنا أني أعاشر معشرا يخوضون ... بعض الحديث وأمسك )
( وما ذاك من عي ولا من جهالة ... ولكنه ما في للصوت مسلك )
( فان سد مني السمع فالله قادر ... على فتحه والله للعبد أملك ) ومما جاء في العمى ما روى عن النبي أنه قال من عدم أحدى كريمتيه ضمنت له على الله الجنة وكان أبو عبد الرحمن بن الحرث بن هشام يطعم الطعام وكان أعور فجعل أعرابي يطيل النظر إليه حابسا نفسه عن طعامه فكلمه المغيرة في ذلك فقال والله إني ليعجبني طعامك وتريبني عينك قال فما يريبك من عيني ؟ قال أعور وأراك تطمع الطعام وهذه صفة

فقيل له إن عينه اصيبت في فتح الروم فقال ان الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي أنه قال من قاد أعمى أربعين خطوة لم تمسه النار وقال علي كرم الله وجهه ربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده وقال أبو علي البصير
( لئن كان يهديني الغلام لوجهتي ... ويقتادني في السير إذ أنا راكب )
( لقد يستضيء القوم بي في وجوههم ... ويخبو ضياء العين والقلب ثاقب ) وقال
( إذا عدمت طلابة العلم مالها ... من العلم إلا ماتسطر في القلب )
( غدوت بتشمير وجد عليهم ... ومحبرتي سمعي وها دفتري قلبي )
وقال
( إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور )
( فهمي ذكي وقلبي غير ذي غفل ... وفي فمي صارم كالسيف مشهور ) وقال
( عزاءك أيها العين السكوب ... وحقك انها نوب تنوب )
( وكنت كريمتي وسراج وجهي ... وكانت لي بك الدنيا تطيب )
( على الدنيا السلام فيما لشيخ ... ضرير العين في الدنيا نصيب )
( يموت المرء وهو يعد حيا ... ويخلف ظنه الأمل الكذوب )
( إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فإن البعض من بعض قريب ) وحكى أن ربيعة رمدت عينه فارسل إلى امرأة كان يحبها ثم أنشد يقول
( عينا ربيعة رمداوان فاحتسبي ... بنظرة منك تشفيه من الرمد )
( ان تكتحل بك عيناه فلا رمد ... على ربيعة يخشى آخر الأمد )

وعن عبد الرحمن بن قيس عن النبي أنه قال داء الأنبياء الفالج واللقوة قال الجاحظ ومن المفاليج سيدنا إدريس عليه الصلاة و السلام وأكثر ما يعتري المتوسطين من الناس لأن الشاب كثير الحرارة والشيخ كثير اليبس وقيل أن أبان بن عثمان كان أفلج حتى صار مثلا فكانت الناس تقول لا رماك الله بفالج ابن عثمان وكان معاوية ألوق وعبد الملك بن مروان أبخر وحسان أعمى وابن سيرين أصم وممن فلج ابن أبي دؤاد قاضي قضاة المعتصم كان من الشرف والكرم بمنزلة عظيمة قد ضرب المثل بفالجه قال الشاعر في رجل ضرب غلامه
( أتضرب مثله بالسوط عشرا ... ضربت بفالج ابن أبي دؤاد ) وشجة عبد الحميد كانت مثلا في الحسن وهو عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم وكان بارعا في الحسن والجمال فزادته حسنا إلى حسنه حتى إن النساء كن يخططن في وجوههن شجة عبد الحميد وكان يقال لعمر بن عبد العزيز أشج بني أمية وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول ان من ولدي رجلا بوجهه أثر في جبهته قال أصبغ الله أكبر هذا أشج بني أمية يملأ الأرض عدلا وقال أعور لأبي الأسود ما الشيء ونصف الشيء ولا شيء فقال أما الشيء فالبصير كأنا وأما لا شيء فالأعمى وأما نصف الشيء فانت يا أعور اللهم اكفنا شر العاهات برحمتك ومنك وكرمك آمين
الفصل الثالث من هذا الباب في التداوي من الأمراض والطب
قال رسول الله تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وقال ما أنزل الله داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله
وسئل رسول الله عن الدواء والرقي هل يردان شيئا من قضاء الله تعالى قال هما من قدر الله تعالى وقال عبد الله بن عكرمة عجيب لمن يحتمي من الطعام خوف الداء ولا يحتمي من الذنوب خوف النار

ان الربيع بن خيثم لما مرض قالوا له ألا ندعوا لك طبيبا فقال لهم إن مرضي من الطبيب وأنه متى أراد عافاني ولا حاجة لي بطبيبكم وأنشد
( فأصبحت لا أدعو طبيبا لطبه ... ولكنني أدعوك يا منزل القطر ) وعاد الفرزدق مريضا فقال
( يا طالب الطب من داء تخوفه ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء )
( فهو الطبيب الذي يرجى لعافية ... لا من يذيب لك الترياق بالماء ) قال ولما مرض بشر الحافي رحمه الله تعالى قالوا أندعوا لك طبيبا فقال إني بعين الطبيب يفعل بي ما يريد فألح عليه أهله وقالوا لا بد أن ندفع ماءك إلى الطبيب فقال لأخته ادفعي إليهم الماء في قارورة وكان بالقرب منهم رجل ذمي وكان حاذقا في الطب فأتوه بمائه في القارورة فلما رآه قال حركوه فحركوه ثم قال ضعوه ثم قال ارفعوه فقالوا له ما بهذا وصفت لنا قال وبم وصفت لكم قالوا بالحذق والمعرفة قال هو كما تقولون غير أن هذا الماء إن كان ماء نصراني فهو راهب قد فتتت كبده العبادة وإن كان مسلما فهو ماء بشر الحافي فإنه أوحد أهل زمانه في السلوك مع الله تعالى قالوا هو ماء بشر الحافي فاسلم النصراني وقطع زناره فلما رجعوا إلى بشر قال لهم أسلم الطبيب فقالوا ومن أعلمك قال لما خرجتم من عندي هتف لي هاتف وقال يا بشر ببركة مائك أسلم الطبيب وصار من أهل الجنة وفلج الربيع بن خيثم فقيل له هلا تداويت فقال قد عرفت أن الدواء حق ولكن عاد وثمود وقرون بين ذلك كثير كانت فيهم الأوجاع كثيرة والأطباء أكثر فلم يبق المداوي ولا المداوى وقد أبادهم الموت ثم قال هذا المفرد
( هلك المداوي والمداوى والذي ... جلب الدواء وباعه والمشتري ) وقيل لجالينوس حين نهكته العلة أما تتعالج فقال إذا كان الداء من السماء بطل الدواء من الأرض وإذا نزل قضاء الرب بطل حذر

المربوب ومر قوم بماء من مياه العرب فوصف لهم ثلاث بنات مطببات وهن من أجمل الناس فأحبوا أن يروهن فحكوا ساق أحدهم حتى أدموها ثم قصدوهن فقالوا هذا جريح مريض فهل من طبيب فخرجت صغراهن وهي كأنها الشمس الطالعة فلما رأت جرحه قالت ليس هو بمريض بل خدشه عود بالت عليه حية فإذا طلعت الشمس مات فكان الأمر كما قالت وقيل دواء كل مريض بعقاقير أرضه فإن الطبيعة تتطلع لهوائها وقالوا من قدم إلى أرض غير أرضه وأخذ من ترابها وجعله في مائها وشربه لم يمرض فيها وعوفي من وبائها واحتمى أحمد بن العدل لعلة أصابته فبرئ فقال الحمية طالع الصحة لأهل الدنيا تبرئهم من المرض ولأهل الآخرة تبرئهم من النار وقيل إن الأبدان المعتادة بالحمية آفتها التخليط والمعتادة بالتخليط آفتها الحمية لأن الحكماء تقول عودوا كل جسد بما اعتاد وكان كسرى أنو شروان يمسك عما تميل إليه شهوته ولا ينهمك عليه ويقول تركنا ما نحبه لنستغني عن العلاج بما نكرهه وقال لقمان لا تطيلوا الجلوس على الخلاء فإنه يورث الباسور وكانت هذه الحكمة مكتوبة على أبواب الحشوس أي الكنف وقيل كفى بالمرء عارا أن يكون صريع مأكله وقتيل أنامله
( فكم أكلة أكلت نفس حر ... وكم أكلة جلبت كل ضر ) وقيل من غرس الطعام أثمره الأسقام وعن بعض أهل البيت النبوي عليهم السلام أنه كان إذا أصابته علة جمع بين ماء زمزم والعسل واستوهب من مهر أهله شيئا وكان يقول قال الله تعالى ( ونزلنا من السماء ماء مباركا ) وقال تعالى ( فيه شفاء للناس ) وقال عليه الصلاة و السلام ماء زمزم لما شرب له وقال تعالى ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) من جمع بين ما بورك فيه وبين ما فيه شفاء وبين الهني المريء يوشك أن يلقى العافية وقيل خمسة من

المهلكات دخول الحمام على الشبع والمجامعة على الشبع وأكل القديد وشرب الماء البارد على الريق ومجامعة المرأة العجوز وقال لا تنكح العجوز ولا تخرج الدم وأنت مستغن عن إخراجه وقال الإمام رضي الله عنه
( توق مدى الأيام ادخال مطعم ... على مطعم من قبل هضم المطاعم )
( وكل طعام يعجز السن مضغة ... فلا تقربنه فهو شر لطاعم )
( ووفر على الجسم الدماء فإنها ... لقوة جسم المرء خير الدعائم )
( وإياك أن تنكح طواعن سنهم ... فإن لها سما كسم الأراقم )
( وفي كل أسبوع عليك بقيئة ... تكن آمنا من شر كل البلاغم ) ومما يورث الهزال النوم على غير وطاء وكثرة الكلام برفع الصوت وقال النظام رحمه الله تعالى ثلاثة تخرب العقل طول النظر في المرآة وكثرة الضحك والنظر إلى النجوم وفي الحديث احتجم رسول الله في أم مغيث وهي وسط الرأس وكان يحتجم في الأخدعين ونهى عن الحجامة في نقرة القفا فإنها تورث النسيان وأمر بالاستنجاء بالماء البارد فإنه أما من الباسور وخبط المأمون بمسجد مروان فوجد غالب أهل المسجد يشكون السعال فقال في آخر خطبته من كان يشكو سعالا فليتداو بالخل ففعلوا فعافاهم الله وقال بعض الحكماء إياك أن تطيل النظر في عين أمرد وإياك أن تسجد على حضير جديدة قبل أن تمسها بيدك فرب شظية حقرة قلعت عينا خطيرة وقيل كانت الأدوية تنبت في محراب سليمان عليه الصلاة و السلام ويقول كل دواء يا نبي الهل أنا دواء لكذا وكذا وقال لجالينوس البطنة تقتل الرجال وتورث الفالج والإسهال الذريع والاقعاد وصنفا من الجذام يقال له الفهد لا يسمع صاحبه ولا يبصر نسأل الله العفو والعافية وقيل البطنة تورث الصداع والكمنة في العينين والضربان في الأذنين والقولنج في البدن فعليك أيها الإنسان بالطريقة الوسطى واتق الليل وطعامه جهدك وقال

جالينوس الغم المفرط يميت القلب ويجمد الدم في العروق فيهلك صاحبه والسرور المفرط يلهب حرارة الدم حتى يغلب الحرارة الغريزية فيهلك صاحبه وقيل أنه وضع على مائدة المأمون في يوم عيد أكثر من ثلاثين لونا فكان يصف وهو على المائدة منفعة كل لون ومضرته فقال يحيى بن أكثم يا أمير المؤمنين أن خضنا في الطب فانت جالينوس في معرفته أو في النجوم فانت هرمس في صناعته أو في الفقه فانت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في علمه أو في السخاء فانت حاتم في كرمه أو في الحديث فانت أبو ذر في صدق لهجته أو في الوفاء فانت السمرءل ابن عادباء في وفائه فسر بكلامه وقال يا أبا محمد إنما فضل الإنسان على غيره بالعقل ولولا ذاك لكانت الناس والبهائم سواء وقال طبيب الهند إن منفعة الحقنة للجسد كمنفعة الماء للشجر وقال سفيان بن عيينة أجمع أطباء فارس على أن الداء ادخال الطعام على الطعام وقالوا ادخال اللحم على اللحم يقتل السباع في البر وقيل الشرب في آنية الرصاص أمان من القولنج وعرض رجل على طبيب قارورته فقال له ما هي قارورتك لأنه ماء ميت وأنت حي تكلمني فما فرغ من كلامه حتى خر الرجل ميتا وقيل إن ملكا من الملوك حصل عنده صداع في رأسه فأحضر الطبيب فأمره أن يضع قدميه في الماء الحار وكان عنده خصي فقال أين القدمان من الرأس فقال له الطبيب وأين وجهك من خصيتك نزعتا فذهبت لحيتك وقيل إن المأمون حصل له صداع بطرسوس فأحضر طبيبا كان عنده فلم ينفعه علاجه فبلغ قيصر فأرسل إليه قلنسوة وكتب له بلغني صداعك فضعها على رأسك يزل ما بك فخاف أن تكون مسمومة فوضعها على رأس القاصد فلم يصبه شيء ثم إنه أحضر رجلا به صداع فوضعها على رأسه فزال ما به فتعجب المأمون ثم إنه فتحها فوجد فيها رقعة مكتوبا فيها بسم الله الرحمن الرحيم كم من نعمة لله تعالى في عرق ساكن وغير ساكن حمسق لا يصدعون عنها ولا ينزفون من كلام الرحمن خمدت النيران ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال علي رضي الله تعالى عنه ادهنوا بالبنفسج فإنه حار في الشتاء بارد في الصيف وقال أيضا رضي الله عنه عليكم بالزيت فإنه يذهب البلغم ويشد العصب ويحسن

ويطيب النفس ويذهب الغم وعنه رضي الله عنه إن لم يكن في شيء شفاء ففي شرطة حاجم أو شربة من عسل وقال الحجاج لطبيبه أخبرنا بجوامع الطب فقال لا تنكح إلا فتاتا ولا تأكل من اللحم إلا فتيا وإذا تغديت فنم وإذا تعشيت فامش ولو على الشوك ولا تدخلن بطنك طعاما حتى تستمرئ ما فيه ولا تأو إلى فراشك حتى تدخل الخلاء وكل الفاكهة في إقبالها وذرها في إدبارها
وأوصى حكيم خليفته وصية ووعده أنه إذ لازمها لا يمرض إلا مرض الموت فقال إياك أن تدخل طعاما على طعام ولا تمش حتى تعيا ولا تجامع عجوزا ولا تدخل حماما على شبع وإذا جامعت فكن على حال وسط من الغذاء وعليك في كل اسبوع لقيئة ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها ولا تأكل القديد من اللحم وإذا تغديت فنم وإذا تعشيت فأمش أربعين خطوة ونم على يسارك لتقطع الكبد على المعدة فينهضم ما فيها وتستريح الكبد من حرارة المعدة ولا تنم على يمينك فيبطيء الهضم ولا تأكل بشهوة عينيك بعد الشبع ولا تنم ليلا حتى تعرض نفسك على الخلاء أن احتجت إلى ذلك أو لم تحتج واقعد على الطعام وأنت تشتهيه وقم عنه وأنت تشتهيه قال بعضهم
( شره النفوس على الجسوم بلية ... فتعوذوا من كل نفس تشره )
( ما من فتى شرهت له نفس وإن ... نال الغنى إلا رأى ما يكره ) وقال أبو الفيض القضاعي بمدح الفضل وقد فصد
( أرقت دما لو تسكب المزن مثله ... لأصبح وجه الأرض أخضر زاهيا )
( دما طيبا لو يطلق الشرع شربه ... لكان من الأسقام للناس شافيا )

الفصل الرابع فيما جاء في العيادة وفضلها
قال رسول الله ثلاثة في ظل العرش عائد المريض ومشيع الموتى وطائع والديه وفي رواية ومعزى الثكلى ومن السنة تخفيف الجلوس في العيادة مرض بكر بن عبد الله المزني فعاده أصحابه فأطالوا الجلوس عنده فقال المريض يعاد والصحيح يزار قال الشاعر
( يعدن مريضا هن هيجن داءه ... ألا إنما بعض العوائد دائيا ) وقيل إذا دخل العواد على الملك فحقهم أن لا يسلموا عليه فيحوجوه إلى رد السلام ويتعبوه فإذا علموا أنه لاحظهم دعوا له وانصرفوا قيل مرض إنسان فكتب إليه بعض أصدقائه كشف الله عنك ما بك من السقم وطهرك بالعلة من الخطايا ومتعك بأنس العافية وأعقبك دوام الصحة ومرض إنسان فكتب إليه صديقه
( بإخوانك الأدنين لا بك كل ما ... شكوت إلي اليوم من ألم الود )
( فكل امرئ منهم بقدر احتماله ... وإن عجوزا عنه تحلمته وحدي ) ( وقال آخر )
( بي السوء والمكر وه لا بك كلما ... أراداك كانا بي وكان لك الأجر ) ( وقال عبد الله بن مصعب )
( مالي مرضت فلم يعدني عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود ) فسمى بعد ذلك عائد الكلاب وعاد مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه بعض المرضى فقال
( عادني مالك فلست أبالي ... بعد من عادني ومن يعدني )

وقال علي بن الجهم
( أراقد الليل مسرورا عدمت إذا ... عيشي وأحمد يرعى ليلة وصبا )
( الله يعلم أني قد نذرت له ... صيام شهر إذا ما أحمد ركبا ) ( وقال أخر )
( إذا مرضتم أتيناكم نعودكمو ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر ) ( وقال آخر )
( أعاذك الله من أشياء أربعة ... الموت والعشق والإفلاس والجرب ) وقيل إن حق العيادة يوم ويوم بعد يومين وعلى الأول قول الشاعر
( قالت مرضت فعدتها فتبرمت ... فهي الصحيحة والعليل العائد )
( والله لو أن القلوب كقلبها ... ما رق للولد الصغير الوالد ) ( وعلى الثاني قول بعضهم )
( حق العيادة يوم بعد يومين ... وجلسة مثل خلس اللحظ بالعين )
( لا تبرمن عليلا في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين ) وفضل العيادة مشهور وشرفها مذكور وبها تعظم الأجور وهذا ما انتهى إلينا من هذا الباب والله الموفق للصواب

الباب الحادي والثمانون في ذكر الموت وما يتصل به من القبر وأحواله
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قال رسول الله إذا مات لأحدكم ميت فحسنوا كفنه وعجلوا انجاز وصيته وأعمقوا له في قبره وجنبوه جار السوء قيل يا رسول الله وهل ينفع الجار الصالح في الآخرة قال وهل ينفع في الدنيا قالوا نعم قال وكذلك في الآخرة ومن وصية علي رضي الله عنه لأبي ذر زر القبور تذكر بها الآخرة ولا تزرها بالليل وأغسل الموتى يتحرك قلبك وصل على الجنائز لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله تعالى ويقال جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك ونظر فيلسوف إلى ميت يحمل إلى قبره فقال حبيب تحمله أهله إلى حبس الأبد ودخل عمرو بن العاص رضي الله عنه على معاوية في مرضة مرضها فقال له أعائذ أنت أم شامت فقال له عمر ولم تقول هذا والله ما كلفتني رهقا ولا أصدعتني زلقا ولا جرعتني علقا فلم أستطل حياتك ولم استبطئ وفاتك فأنشد معاوية يقول
( فهل من خالدين إذا هلكنا ... وهل في الموت بين الناس عار ) ولما مرض معاوية رضي الله عنه مرضه الذي مات فيه وفد إليه الناس يعودونه فقال لأهله مهدوا لي فراشا واسندوني وأوسعوا رأسي دهانا ثم أكحلوا عيني بالإثمد ثم ائذنوا للناس يدخلوا ويسلموا علي قياما ولا تجلسوا عندي أحدا ففعلوا ذلك فلما خرجوا من عنده أنشد يقول
( وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع )
( وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع )

وقيل لما دنا منه الموت تمثل بهذا البيت
( هو الموت لا منجى من الموت والذي ... نحاذر بعد الموت أدهى وأقطع ) ثم قال رفع يديه وقال اللهم أقل العثرة وأعف عن الزلة وعد بحلمك على من لم يرج غيرك ولا يثق إلا بك فإنك واسع المغفرة وليس الذي خطيئة منك مهرب ومات رحمه الله تعالى وذكر أبو العباس الشيباني قال وفد على أبو دلف عشرة من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في العلة التي مات فيها فأقاموا ببابه شهرا لا يؤذن لهم لشدة العلة التي أصيب بها ثم أفاق فقال لخادمه بشر إن قلبي يحدثني إن بالباب قوما لهم إلينا حوائج فافتح الباب ولا تمنعن أحدا قال فكان أول من دخل آل علي رضي الله عنه فسلموا عليه ثم ابتدأ الكلام رجل منهم من ولد جعفر الطيار فقال أصلحك الله أنا من أهل بيت رسول الله وفينا من ولده وقد حطمتنا المصائب وأجحفت بنا النوائب فان رأيت أن تجبر كسيرا وتغني فقيرا لا يملك قطميرا فأفعل فقال لخادمه خذ بيدي وأجلسني ثم أقبل معتذرا إليهم ودعا بدواة وقرطاس وقال ليكتب كل منكم بيده أنه قبض مني ألف دينار قالوا فبقينا والله متحيرين فلما أن كتبنا الرقاع ووضعناها بين يديه قال لخادمه علي بالمال فوزن لكل واحد منا ألف دينار ثم قال لخادمه يا بشر إذا أنا مت فادرج هذه الرقاع في كفني فإذا لقيت محمدا في القيامة كانت حجة لي إني قد أغنيت عشرة من ولده ثم قال يا غلام ادفع لكل واحد منهم ألف درهم ينفقها في طريقه حتى لا ينفق من الألف دينار شيئا حتى يصل إلى موضعه قال فأخذناها ودعونا له وانصرفنا ثم مات رحمه الله وقيل لما دفن عمر بن عبد العزيز نزل عند دفنه مطر من السماء فوجدوا بردة مكتوبا فيها بالنور ( بسم الله الرحمن الرحيم أمان لعمر بن عبد العزيز من النار ) وقيل لأعرابي إنك تموت قال وإلى أين أذهب قالوا إلى الله تعالى فقال لا أكره أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه وبكى الخولاني عند موته فقيل له ما يبكيك قال أبكي لطول السفر وقلة الزاد وقد سلكت عقبة ولا أدري إلى أين أهبط وإلى أي مكان

أسقط ودخل ملك الموت على داود عليه السلام فقال له من أنت قال أنا الذي لا يهاب الملوك ولا تمنع منه القصور ولا يقبل الرشا فقال إذن أنت ملك الموت وإني لم أستعد بعد فقال له يا داود أين فلان جارك أين فلان قريبك قال ماتا قال أما كان لك في موت هؤلاء عبرة لتستعد بها ثم قبضه عليه السلام ( وفي الخبر ) من حديث حميد الطويل عن أنس بن مالك عن النبي قال إن الملائكة تكتنف العبد وتحتبسه ولولا ذلك لكان يعدو في الصحراء والبراري من شدة سكرات الموت وقد أجمعت الأمة على أن الموت ليس له زمن من معلوم فليكن المرء على أهبة من ذلك وقيل بينما حسان جالس وفي حجره صبي يطعمه الزبد بالعسل إذ شرق الصبي فمات فقال
( إعمل وأنت صحيح مطلق فرح ... ما دمت ويحك يا مغرور في مهل )
( يرجو الحياة صحيح ربما كمنت ... له المنية بين الزبد والعسل ) وقيل إن المأمون لما قربت وفاته دخل عليه بعض أصدقائه فوجده قد فرش له جلد دابة وبسط عليه الرماد وهو يتمرغ فيه ويقول يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه ولما احتضر عمرو بن العاص دعا بغل وقيد وقال ألبسوني أياهما فإني سمعت رسول الله يقول إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه ثم استقبل القبلة وقال اللهم إنك أمرتنا فعصينا فارتكبنا وهذا مقام العائذ بك فان تعف فأنت أهل العفو وإن تعاقب فبما قدمت يداي لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ثم مات وهو مغلول القيد فبلغ ذلك الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما فقال استسلم الشيخ ولعلها تنفعه
ولما احتضر المعتصم جعلوا يهونون عليه فقال هان على النظارة ما يمر بظهر المجلود وسمع أبو الدرداء رجلا في جنازة يقول من هذا فقال أنت فإن كرهت فأنا وقيل مات عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكثير عزة في يوم واحد فقال اللهم كما

جمعتهما في زيارة القبور فلا تفرق بينهما يوم النشور فما بقي في المدينة أحد إلا استحسن كلامه ولما احتضر ابراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام قال هل رأيت خليلا يقبض روح خليله فأوحى الله إليه هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله قال فاقبض روحي الساعة وقيل إذا قضى الله لرجل أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة فيسيره إليها وقال بعضهم
( إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير )
حكي أن شابا تقيا من بني إسرائيل كان يجتمع مع سليمان عليه السلام ويحضر مجالسه فبينما هو عند سليمان في مجلسه إذ دخل ملك الموت عليه فلما رآه الشاب صفر لونه وارتعدت فرائضه وقال يا نبي الله إني خفت من هذا الرجل فمر الريح أن تذهب بي إلى الهند فأمر سليمان الريح فذهبت به فما كان إلا قليل حتى دخل ملك الموت على سليمان وهو متعجب فقال له سليمان مم تعجب قال أعجب أني أمرت بقبض روح الشاب الذي كان عندك بأرض الهند ودخلت عليك فوجدته عندك فصرت متعجبا ثم توجهت إلى الهند فرأيته هناك وقبضت روحه فهذا عجبي فقال له سليمان إنه لما رآك خاف وانزعج وطلب مني أن تحمله الريح إلى الهند فأمرتها فحملته وفي ذلك المعنى قال محمد بن الحسن
( ومتعب الروح مرتاح إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد ) وقيل إن الإنسان يحصل له عند الموت قوة حركة نحو ما يحصل للسراج عند انطفائه من حركة سريعة وضياء ساطع وتسميها الأطباء النعشة الأخيرة والله أعلم وقيل إن الرشيد ماتت له جارية وكانت من خواص محاظيه فجزع عليها جزعا شديدا فقال لبعض أصدقائه أما ترى ما بليت به ما أحببت أحدا إلا مات فقال يا أمير المؤمنين أحببني فقال ويحك إن الحب ليس هو شيء يصنع إنما هو شيء يقع

القلب تسوقه الأسباب فقال قل أنا أحبك قال نعم أحبك فحم من وقته ومات
وفي الحديث المرفوع كسر عظم الميت ككسره في حياته وقال يزيد بن أسلم لقد كان يمضي في الزمن الأول أربعمائة سنة ما يسمع فيها بجنازة وعن ميمون بن مهران قال شهدت جنازة ابن عباس رضي الله عنه بالطائف فلما وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى وقف على أكفانه ثم دخل فيها فالتمسناه فلم نجده ولما سوينا عليه التراب سمعنا من يسمع صوته ولا نرى شخصه يقول ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك ) الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما إن قبر آدم عليه السلام بمسجد الخيف بمنى وقال عطاء بلغني أن قبره تحت المنارة التي وسط الخيف وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى ما لا يبكيه عند ذكر الجنة والنار فقيل له في ذلك فقال سمعت رسول الله يقول " القبر أول منازل الآخرة فإن نجا العبد منه فما بعده أيسر منه " وعن معاذ بن رفاعة الزرقي قال أخبرني رجل من رجال قومي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله في جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش فقام رسول الله يجر ثوبه مبادرا إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه فوجده قبض وقال الحسن رضي الله عنه ما من يوم إلا وملك الموت يتصفح وجوه الناس خمس مرات فمن رآه على لهو ولعب أو معصية أوضاحكا حرك رأسه وقال له مسكين هذا العبد غافل عما يراد به ثم يقول له اعمل ما شئت فإن لي فيك غمزة أقطع بها وتينك وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجاء بن حيوه يا رجاء إذا وضعت في لحدي فاكشف الثوب عن وجهي فإن رأيت خيرا فاحمد الله وإن غير ذلك فاعلم أن عمر قد هلك قال رجاء فلما دفناه كشفت عن وجهه

فرأيت نورا ساطعا فحمدت الله تعالى أن قد صار إلى خير وقال أيضا دخلت على عمر ابن عبد العزيز وهو محتضر فقال يا رجاء إني أرى وجوها كراما ليست بوجوه إنس ولا جان وهو يقلب طرفه يمينا وشمالا ثم رفع يده فقال اللهم أنت ربي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت فإن غفرت فقد مننت وإن عاقبت فما ظلمت ألا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك المصطفى ونبيك المرتضى بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة فعليه السلام والرحمة ثم قضى نحبه رحمه الله وعن أسماء بنت عميس قالت كنت عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعدما ضربه ابن ملجم إذ شهق شهقة بعد أن أغمي عليه ثم أفاق وقال مرحبا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فقيل له ما ترى قال هذا رسول الله وهذا أخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة والملائكة ينزلون علي يبشرونني بالجنة وهذه فاطمة قد أحاط بها وصائفها من الحور العين وهذه منازلي لمثل هذا فليعمل العاملون
ولما احتضر عبد الملك بن مروان قال لإبنه الوليد إذا أنا مت إياك أن تجلس وتعصر عينيك كالمرأة الوكعاء لكن ائتزر وشمر والبس جلد النمر وضعني في حفرتي وخلني وشأني وعليك شأنك وادع الناس إلى بيعتك فمن قال برأسه هكذا فقل له بسيفك هكذا ثم بعث إلى محمد وخالد ابني يزيد بن معاوية فقال هل عندكما ندامة في بيعة الوليد فقالوا لا نعرف أحدا أحق منه بالخلافة فقال أما أنكما لو قلتما غير هذا لضربت الذي فيه أعينكما ثم رفع كنار فراشه فإذا تحته سيف مسلول تحت يمينه كل هذا وروحه تتردد في حنجرته وهو يقول الحمد لله الذي لا يبالي أصغيرا أخذ أم كبيرا لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم بعد ساعة نفذت روحه فدخل عليه الوليد ومعه بناته يبكون فتمثل بقول الشاعر
( ومستخبر عنا يريد بنا الردى ... ومستخبرات والعيون سواكن )

وقال محمد بن هرون
( كأني باخواني على جنب حفرتي ... يهيلون فوقي والعيون دما تجري )
( فيا أيها المذري علي دموعه ... ستعرض في يومين عني وعن ذكري )
( عفا الله عني أنزل القبر ثاويا ... أزار فلا أدري وأجفى فلا أدري ) وكان يزيد الرقاشي يقول من كان الموت موعده والقبر بيته والثرى مسكنه والدود أنيسه وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف تكون حالته ثم يبكي حتى يغشى عليه فيجب على العاقل أن يحاسب نفسه بنفسه على ما فرط من عمره ويستعد لعاقبة أمره بصالح العمل ولا يغتر بالأمل فإن من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويوفقنا لاتباع أوامره واجتناب نواهيه وأن يجعل الموت خير غائب ننتظره وأن يختم لنا بالخير وأن يتغمدنا برحمته إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثاني والثمانون في الصبر والتأسي والتعازي والمراثي ونحو ذلك وفيه فصول
الفصل الأول في الصبر
قال الله تعالى ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) وقال " ما من مسلم يصاب بمصيبة وإن قل عهدها فاحدث استرجاعا إلا أحدث الله له مثله وأعطاه مثل أجره ذلك يوم أصيب بها " وعن أنس بن الملك رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله " من أصبح حزينا أصبح ساخطا على ربه ومن أصبح يشكو مصيبة فكأنما يشكو الله ومن تواضع ليغنى سأله من في يده أحبط الله ثلثي عمله ومن أعطي القرآن ولم يعمل به وتهاون به حتى دخل النار أبعده الله عن رحمته لأنه هو الذي فعل ذلك بنفسه حيث لم يعرف حرمة القرآن " وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي أنه قال " من مات له ثلاثة من الولد لا يلج النار إلا تحلة القسم يعني قوله تعالى وإن منكم إلا واردها " وعن أم سلمة رضي الله تعالى عن أن رسول الله قال " من أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها إلا فعل الله به

ذلك " وروي أنه لما مات إبراهيم بن رسول الله ذرفت عيناه فقال له عبد الرحمن بن عوف يا رسول الله ألم تنه عن البكاء قال إنما نهيت عن الغناء والصوتين الأحمقين والندب ولكن هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوبنا ومن لا يرحم لا يرحم فإن القلب يخشع والعين تدمع وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي الله ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون وقال ابن عباس رضي الله عنهما أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ إنني أنا لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر نعمائي كتبته صديقا وبعثته مع الصديقين ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي فليتخذ ربا سواي وقال ابن المبارك إن المصيبة واحدة فإذا جزع صاحبها فهما اثنتان لأن لإحداهما المصيبة بعينها والثانية ذهاب أجره وهو أعظم من المصيبة وعن العلاء بن عبد الرحمن أن النبي لما حضرته الوفاة بكت فاطمة فقال لا تبكي يا بنتاه قولي إذا مت إنا لله وإنا إليه راجعون فإن لكل إنسان مصيبة معوضة قالت ومنك يا رسول الله قال ومني عن عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله " من أصابته مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب ) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال من أخذت حبيبتاه يعني عينيه فصبر واحتسب أدخله الله الجنة وقيل إن امرأة أيوب عليه الصلاة و السلام قالت لو دعوت الله تعالى أن يشفيك فقال لها ويحك كنا في النعماء سبعين عاما أفلا نصبر على الضراء مثلها فلم يلبث إلا يسيرا أن عوفي وقيل الصبر مفتاح الظفر والتوكل على الله تعالى رسول النجاح وقيل من لم يلق نوائب الدهر بالصبر طال عتبه عليه وقيل إن معاوية رضي الله تعالى عنه خرج يوما ومعه عبد العزيز بن زرارة الكلبي وكان ذا منصب وشرف وعقل وأدب فقال له معاوية يا عبد العزيز أتاني نعي سيد شباب العرب فقال له ابني أو ابنك قال لا ابنك قال للموت تلد الوالدة ومما قيل اصبر لحكم من لا تجد معولا إلا عليه ولا مفزوعا إلا إليه وقال سويد السدوسي

( فأوصيكما يا ابني سدوس كلاكما ... بتقوى الذي أعطاكما ويراكما )
( بشكر إذا ما أحدث الله نعمة ... وصبر لأمر الله فيما ابتلاكما ) وقال
( أيا صاحبي إن رمت أن تكسب العلا ... وترقى إلى العلياء غير مزاحم )
( عليك بحسن الصبر في كل حالة ... فما صابر فيما يروم بنادم ) وقال آخر
( هو الدهر قد جربته وبلوته ... فصبرا على مكروهه وتجلدا ) وحدث الزبير قال قامت عائشة بعدما دفن أبوها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقالت نضر الله وجهك وشكر صالح سعيك فقد كنت للدنيا مذلا بادبارك عنها وللآخرة معزا باقبالك عليها ولئن كان رزؤك أعظم المصائب بعد رسول الله وأكبر الأحداث بعده فإن كتاب الله تعالى قد وعدنا بالثواب على الصبر في المصيبة وأنا تابعة له في الصبر فأقول إنا لله وإنا إليه راجعون ومستعيضة بأكثر الاستغفار لك فسلام الله عليك توديع غير قالية لحياتك ولا رازئة على القضاء فيك
ولما مات ذر الهمداني جاء أبوه فوجده ميتا وكان موته فجأة وعياله يبكون عليه فقال مالكم والله ما ظلمناه ولا قهرناه ولا ذهب لنا بحق ولا أصابنا فيه ما أخطأ من كان قبلنا في مثله ولما وضعه في حفرته قال رحمك الله يا بني وجعل أجري فيك لك والله ما بكيت عليك وإنما بكيت لك فوالله لقد كنت بي بارا ولي نافعا وكنت لك محبا وما بي إليك من وحشة وما بي إلى أحد غير الله من فاقة وما ذهبت لنا بعزة وما أبقيت لنا من ذل ولقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك يا ذر لولا هول المطلع لتمنيت ما صرت إليه فليت شعري ماذا قلت

قيل لك ثم رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم إنك وعدت الصابرين على المصيبة ثوابك ورحمتك اللهم وقد وهبت ما جعلت لي من الأجر إلى ذر صلة مني فلا تحرمني ولا تعرفه قبيحا وتجاوز عنه فإنك رحيم بي وبه اللهم قد وهبت لك إساءته لي فهب لي إساءته إليك فإنك أجود مني وأكرم اللهم إنك قد جعلت لك عليه حقا وجعلت لي عليه حقا قرنته بحقك فقلت أشكر لي ولوالديك إلي المصير اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من حقي فاغفر له ما قصر فيه من حقك فإنك أولى بالجود والكرم فلما أراد الإنصراف قال يا ذر قد انصرفنا وتركناك ولو أقمنا عندك ما نفعناك
وفي الحديث إذا مات ولد العبد يقول الله تعالى للملائكة ماذا قال عبدي عند قبض روح ولده وثمرة فؤاده فيقولون إلهنا حمدك واسترجع فيقول الله تعالى أشهدكم يا ملائكتي أني بنيت له بيتا في الجنة وسميته بيت الحمد وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه دفن إبنا له وضحك عند قبره فقيل له أتضحك عند القبر قال أردت أن أرغم أنف الشيطان فينبغي للعبد أن يتفكر في ثواب المصيبة فتسهل عليه فإذا أحسن الصبر استقبله يوم القيامة ثوابها حتى يود لو أن أولاده وأهله وأقاربه ماتوا قبله لينال ثواب المصيبة وقد وعد الله تعالى في المصيبة ثوابا عظيما إذا صبر صاحبها واحتسب وقال تعالى ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) وقال تعالى ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) الآية اللهم رضينا بقضائك وصبرنا على بلائك واغفر لنا ولوالدينا ولكل المسلمين يارب العالمين

الفصل الثاني من هذا الباب في التعازي والتأسي
روى الترمذي في كتاب السنن للبيهقي عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال " من عزى مصابا فله مثل أجره " وروينا في كتاب الترمذي أيضا بسند متصل إلى رسول الله قال " من عزى ثكلى كسي برداء في الجنة " وروينا في سنن ابن ماجة والبيهقي باسناد حسن عن عمرو بن حزم عن النبي قال " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة "
واعلم أن التعزية هي التصبير وذكر ما يسلي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهون مصيبته وهي مستحبة فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أيضا داخلة في قوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ) وهي من أحسن ما يستدل به في التعزية وثبت في الصحيح أن النبي قال " والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه واعلم أن التعزية مستحبة قبل الدفن وبعده وتكره بعد ثلاثة أيام لأن التعزية لتسكين قلب المصاب والغالب سكونه بعد ثلاثة أيام فلا يجدد الحزن هكذا قال الجماهير من أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه وقيل إنها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين وهما إذا كان المعزى أو صاحب المصيبة غائبا حال الدفن فاتفق رجوعه بعد الثلاثة وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصلت واستحب أصحاب الشافعي أن يقول في تعزية المسلم بالمسلم عظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك وفي المسلم بالكافر أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وفي الكافر بالكافر أخلف الله عليك ولا نقص لك عددا

أن النبي فقد بعض أصحابه فسأل عنه فقالوا يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك فلقيه النبي فسأل عن بنيه فقال يا رسول الله هلك فعزاه فيه ثم قال يا فلان أيما كان أحب إليك أن تتمتع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته وقد سبقك إليه فيفتحه لك فقال يا رسول الله سبقه إلى باب الجنة أحب إلي من التمتع به في دار الدنيا قال ذلك لك وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي رحمهما الله أن الشافعي قد بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا فبعث إليه الشافعي رحمه الله يقول يا أخي عز نفسك بما تعز به غيرك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك واعلم أن أمض المصائب فقد سرور وحرمان أجر فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر ألهمك الله عند المصائب صبرا وأجزل لنا ولك بالصبر أجرا وروي عن ابن المبارك قال مات لي ابن فمر بي مجوسي وقال ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام فقال اكتبوها منه عن معاذ بن جبل أنه قال مات لي ابن فكتب إلي رسول الله من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل سلام عليكم فإني أحمد الله الملك الذي لا إله إلا هو أما بعد فعظم الله لك الأجر والهمك الصبر ورزقنا وإياك الشكر ثم اعلم أن أنفسنا وأموالنا وأهلنا وأولادنا من مواهب الله تعالى الهنية وعواريه المستودعة يمتعنا بها إلى أجل معدود ويقبضها لوقت معلوم ثم فرض الله تعالى علينا الشكر إذا أعطى والصبر إذا ابتلى وكان ابنك من موهب الله الهنية وعواريه المستودعة متعك الله به في غبطة وسرور وقبضه بأجر كبير إن صبرت واحتسبت فاصبر واحتسب واعلم أن الجزع لا يرد ميتا ولا يطرد حزنا وروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان إذا عزى مرزأ قال ليس مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة والموت أشد مما قبله وأهون مما بعده فاذكر مصيبتك برسول الله تهن عليك مصيبتك وعزى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه صديقا له فقال

( إنا نعزيك لا أنا على ثقة ... من الحياة ولكن سنة الدين )
( فما المعزى بباق بعد ميته ... ولا المعزي ولو شاعا إلى حين ) وكتب بعضهم إلى أخ له يعزيه أنت يا أخي أعزك الله عالم بالدنيا وما خلقت له من الفناء وإنها لم تعط إلا أخذت ولم تسر إلا أحزنت وأن الموت سبيل محتوم على الأولين والآخرين لا دافع عنه ولا مؤخر لما قضى الله عز و جل منه وإنا لله وإنا إليه راجعون وعزى رجل بعض الخلفاء بابن له فكتب إليه يقول
( تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغدو الصغير ويولد )
( هل الابن إلا من سلالة آدم ... لكل على حوض المنية مورد ) وكتب بعضهم إلى صديق له وقد ماتت ابنته فقال
( الموت أخفى سوأة للبنات ... ودفنها يروى من المكرمات )
( أما رأيت الله سبحانه ... قد وضع النعش بجنب البنات ) وكتب بعضهم إلى صديق له يعزيه بأخيه ويسليه ما تصنع يا أخي والقضاء نازل والموت حكم شامل وإن لم تلذ بالصبر فقد اعترضت على مالك الأمر وأنت تعلم أن نوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر فاجعل بين هذه اللوعة الغالبة والدمعة الساكبة حاجبا من فضلك وحاجزا من عقلك ودافعا من دينك ومانعا من يقينك فإن المحن إذا لم تعالج بالصبر كانت كالمنح إذا لم تقابل بالشكر فصبرا صبرا ففحول الرجال لا تستفزها الأيام بخطوبها كما أن متون الجبال لا تهزها العواصف بهبوبها فعزيز علي أن أخاطب مولاي معزيا وأكاتبه مسليا عن كبير أو صغير مما يتعلق بخدمته أو ينتهي إلى جملته فكيف بالصنو الأكرم والذخر الأعظم والركن الأشد والسهم الأسد والشهاب الأسطع والحسام الأقطع لكن التعزية سيرة سائرة وسنة ماضية غابرة وقدر الله هو المقدر وأجل الله إذا جاء لا يؤخر ولولا أن الذكرى تنفع والتعزية يستوي فيها الأشرف والأوضع لأجللت مولاي أن أفاتحه معزيا وأخاطبه مسليا ولكن بحمد الله العالم لا يعلم والسابق لا يتقدم فبمولاي يقتدي

في الصبر على النوائب وبنوره يهتدى في مشكلات المذاهب وكل ما كان من الرزء أوجع كان الأجر عليه أوسع جعل الله مولاي من الصابرين على المصيبة وأعظم أجره وجعل الجنة نصيبه
وعزى رجل فتى عن أبيه فلم يجده كما أحب فقال يا بني سوء الخلف أضر علينا من فقد السلف ومات لبعض ملوك كندة ابنة فوضع بين يديه بدرة من المال وقال من بالغ في تعزيته فهي له فدخل عليه أعرابي وقال عظم الله أجر الملك كفيت المؤونة وسترت العورة ونعم الصهر القبر فقال قد أبلغت وأوجزت ثم دفعها له وعزت أعرابية قوما فقالت جافى الله عن ميتكم الثرى وأعانه على طول البلى وآجركم ورحمه وكان لعلي بن الحسين جليس مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا فعزاه علي بن الحسين رحمه الله ووعظه فقال يا ابن رسول الله إن ابني كان مسرفا على نفسه فقال لاتجزع فإن من ورائه ثلاث خلال أولهن شهادة أن لا إله إلا الله وأن سيدنا محمدا رسول الله والثانية شفاعة جدي والثالثة رحمه الله التي وسعت كل شيء فأين يخرج ابنك عن واحدة من هذه الخلال وقال سليمان بن عبد الملك عند موت ابنه لعمر بن عبد العزيز ورجاء ابن حيوة إن في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة فقال عمر اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر فنظر إلى رجاء كالمستريح بمشورته فقال رجاء أفضها يا أمير المؤمنين فما بذلك من بأس لقد دمعت عينا رسول الله على ابنه إبراهيم وقال إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع ولانقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون فأرسل سليمان عينيه حتى قضى أربه ثم أقبل عليهم قال لولا نزفت هذه العبرة لا نصدع كبدي ثم إنه لم يبك بعدها وكتب الإسكندر إلى أمه قبل وفاته بقليل إذا وصل إليك كتابي هذا فاجمعي أهل بلدك وأعدي لهم طعاما ووكلي بالأبواب من يمنع من إصابته مصيبة في أم أو أب

أو أخت أو ولد ففعلت فلم يدخل إليها أحد فعلمت أن الإسكندر عزاها في نفسه
ولما قتل الفضل بن سهل دخل المأمون على أمه يعزيها فيه فقال يا أماه لا تحزني على الفضل فأنا خلف منه فقالت كيف أحزن على ولد عوضني عنه خليفة مثلك فعجب المأمون من جوابها وكان يقول ما سمعت قط أحسن منه ولا أجلب للقلوب فقال لها عليك بالصبر فإن فيه مزيد الأجر وممن جزع على ولده جعفر بن علية لما قتله الحرث قام نساء الحي يبكون عليه وقام أبوه إلى ولد كل شاة وناقة فذبحه وألقاها بين أيديها وقال لها ابكين معي على جعفر فما زالت النوق ترغو والشياه تيعر والنساء يصرخن ويبكين وهو يبكي معهن فلم ير مأتم كان أوجع منه وقال يحيى بن خالد التعزية بعد ثلاثة أيام تجدد الحزن والتهنئة بعد سنة تجدد الفرح
ومما قيل في التأسي والتسلي بالخلف عن السلف قيل عزى بعض الشعراء يزيد بن معاوية في والده فقال
( أصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر إلهك من بالملك حاباكا )
( لا رزء أصبح في الأيام نعرفه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا ) وقال آخر
( لا بد من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد ) وقال آخر
( تبصر فلو أن البكا رد هالكا ... على أحد فاكثر بكاك على عمر ) وكتب بعضهم إلى أولاد صديقه يعزيهم ويسليهم في والدهم فقال
( فلو كان فيض الدمع ينفع باكيا ... لعلمت غرب الدمع كيف يسيل )

( فإن غاب بدر فالنجوم طوالع ... ثوابت لا يقضى لهن أفول )
( يغاث بها في ظلمة الليل حائر ... ويسري عليها بالرفاق دليل ) ودخل عبد الملك بن صالح على الرشيد وقد مات له ولد وولد له في تلك الليلة ولد فقال سرك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك ولا ساءك فيما سرك وجمع لك بين أجر الصابر وثواب الشاكر وقال بعضهم
( أليس لهذا صار آخر أمرنا ... فلا كانت الدنيا القليل سرورها )
( فلا تعجبي يا نفس مما ترينه ... فكل أمور الناس هذا مصيرها ) وسئل الأصمعي عن قول الخنساء في نعيها صخر حين مات ونعته فقالت
( يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأندبه لكل غروب شمس ) فقالوا له لماذا أنها خصت الشمس دون القمر والكواكب فقال لكونه كان يركب عند طلوع الشمس يشن الغارات وعند غروبها يجلس مع الضيفان فذكرته بهذا مدحا لأنه كان يغير على أعدائه ويتقيد بضيفه وقد رثته بعد البيت الأول بأبيات منها
( ألا يا نفس لا تنسيه حتى ... أفارق عيشتي وأزور رمسي )
( ولولا كثرة الباكين حولي ... على أمواتهم لقتلت نفسي )
( وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلي النفس عنه بالتأسي ) وقال آخر
( ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعة ... ولكن إذا ناديت جاوبني مثلي ) وقال آخر
( وهون وجدي عن خليلي أنني ... إذا شئت لاقيت الذي أنا صاحبه )

وقال آخر
( ومما يؤديني إلى الصبر والعزا ... تردد فكري في عموم المصائب )
الفصل الثالث في المراثي
لما توفي رسول الله رثاه جماعة من أصحابه وآله بمراث كثيرة منها ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فإنه كان أقرب الناس إليه وهو أول من رثاه فقال
( لما رأيت نبينا متجندلا ... ضاقت علي بعرضهن الدور )
( فارتاع قلبي عند ذاك لموته ... والعظم مني ما حييت كسير )
( أعتيق ويحك إن خلك قد ثوى ... والصبر عندك ما بقيت يسير )
( يا ليتني من قبل مهلك صاحبي ... غيبت في لحد عليه صخور )
( فلتحدثن بدائع من بعده ... تعيابهن جوانح وصدور ) وقال آخر
( فقدت أرضنا هناك نبيا ... كان يغدو به النبات زكيا )
( خلقا عاليا ودينا كريما ... وصراطا يهدي الأنام سويا )
( وسراجا يجلو الظلام منيرا ... ونبيا مؤيدا عربيا )
( حازما عازما حليما كريما ... عائدا بالنوال برا تقيا )
( إن يوما أتى عليك ليوم ... كورت شمسه وكان خليا )
( فعليك السلام منا جميعا ... دائم الدهر بكرة وعشيا ) ورثاه أبو سفيان بن الحرث فقال
( أرقت فبات ليلي لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول )

( وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل )
( لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول )
( وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل )
( فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل )
( وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كادت تسيل )
( نبي كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول )
( ويهدينا فلا نخشى ملاما ... علينا والرسول لنا دليل )
( أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي فهو السبيل )
( فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول ) ولما مات أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رثاه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بهذه الأبيات حين رجع من دفنه فقال
( ذهب الذين أحبهم ... فعليك يا دنيا السلام )
( لا تذكرين العيش لي ... فالعيش بعدهم حرام )
( إني رضيع وصالهم ... والطفل يؤلمه الفطام ) ورثى بعضهم محمد بن يحيى بعد موته فقال
( سألت الندى والجود مالي أراكما ... تبدلتما عزا بذل مؤبد )
( وما بال ركن المجد أمسى مهدما ... فقالا أصبنا بابن يحيى محمد )
( فقلت فهلا متما بعد موته ... وقد كنتما عبديه في كل مشهد )
( فقالا أقمنا كي نعزى بفقده ... مسافة يوم ثم نتلوه في غد ) وقال آخر
( ولا أرتجي في الموت بعدك طائلا ... لا أتقي للدهر بعدك من خطب ) وفي المعنى لبعضهم
( لقد أمنت نفسي المصائب بعده ... فأصبحت منها آمنا إن أروعا )

( فما أتقي للدهر بعدك نكبة ... ولا أرتجي للعيش بعدك مرتعا ) ورثى أشجع السلمي عبد الله بن سعيد فقال
( مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلا له فيه مادح )
( وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح )
( وأصبح في لحد من الأرض ميتا ... وكان به حيا تضيق الصحاصح )
( سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك مني ما تكن الجوانح )
( وما أنا من رزء وإن جل جازع ... ولا بسرور بعد فقدك فارح )
( لئن حسنت فيك المراثي بذكرها ... فقد حسنت من قبل فيك المدائح ) وقال آخر
( إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب )
( أخلاي لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الدهر معتب ) وقال العباس بن الأحنف
( إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر )
( فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر ) وقال آخر يرثي صديقه
( خليلي ما أزداد إلا صبابة ... إليك وما تزداد إلا تنائيا )
( خليلي لو نفس فدت نفس ميت ... فديتك مسرورا بنفسي وماليا )
( وقد كنت أرجو أن تعيش وإن أمت ... فحال رجاء الله دون رجائيا )

( ألا فليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا ) أخذها بعضهم فقال
( كنت السواد لمقلتي ... يبكي عليك الناظر )
( من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ) وقال أخر يرثي بعض أولاده
( وقاسمني دهري بني مشاطرا ... فلما تقضى شطره عاد في شطري )
( ألا ليت أمي لم تلدني وليتني ... سبقتك إذ كنا إلى غاية تجري )
( وقد كنت ذا ناب وظفر على العدا ... فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري ) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخنساء أخبريني بأفضل بيت قلته في أخيك فقالت
( وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله ) ولأبي المحاسن الشواء في صديق له مات وسقط الثلج عقيب موته
( لم أنسه وبنو الملوك أمامه ... يدمون للأسف الأكف عضاضا )
( والثلج قد غطى الربا فكأنها ... من حزنها لبست عليه بياضا ) وقال آخر
( وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصفوا )
( وليس نسيم المسك ريا حنوطه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف ) وقال مقاتل بن عطية يرثي الوزير نظام الملك
( كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمن من شرف )
( عزت ولم تعرف الأيام قيمتها ... فردها عندما عزت إلى الصدف ) وقال آخر
( وقبرت وجهك وانصرفت مودعا ... بأبي وأمي وجهك المقبور )

( وأرى ديارك بعد وجهك قفرة ... والقبر منك مشيد معمور )
( فالناس كلهم لفقدك واجد ... في كل بيت رنة وزفير )
( عجبا لأربع أذرع في خمسة ... في جوفها جبل أشم كبير ) وكان رجل توفي ولده في يوم عيد فقال
( لبس الرجال جديدهم في عيدهم ... ولبست حزن أبي الحسين جديدا )
( أيسرني عيد ولم أر وجهه ... فيه ألا بعدا لذلك عيدا )
( فارقته وبقيت اخلد بعده ... لا كان ذاك بقا ولا تخليدا )
( من لم يمت جزعا لفقد حبيبه ... فهو الخؤون مودة وعهودا )
( مت مع حبيبك إن قدرت ولا تعش ... من بعده ذا لوعة مكمودا )
( ما أم خشف قد ملا أحشاءها ... حذرا عليه وجفنها تسهيدا )
( إن نام لم تهجع وطافت حوله ... فيبيت مكلوما بها مرصودا )
( مني بأوجع إذ رأيت نوائحا ... لأبي الحسين وقد لطمن خدودا )
( ولقد عدمت أبا الحسين جلادتي ... لما رأيت جمالك المفقودا )
( كنت الجليد على الرزايا كلها ... وعلى فراقك لم أجد تجليدا )
( ولئن بقيت وما هلكت فإن لي ... أجلا وإن لم أحصه معدودا )
( لا موت لي إلا إذا الأجل انقضى ... فهناك لا أتجاوز المحدودا )
( حزني عليك بقدر حبك لا أرى ... يوما على هذا وذاك مزيدا )
( ما هد ركني بالسنين وإنما ... أصبحت بعدك بالأسى مهدودا )
( يا ليت إني لم أكن لك والدا ... وكذاك إنك لم تكن مولودا )
( فلقد شقيت وربما شقي الفتى ... بفراق من يهوى وكان سعيدا )
( من ذم جفنا باخلا بدموعه ... فعليك جفني لم يزل محمودا )
( فلأنظمن مراثيا مشهورة ... تنسي الأنام كثيرا ولبيدا )
( وجميع من نظم القريض مفارق ... ولدا له أو صاحبا مفقودا ) وقال الفقيه منصور بن إسماعيل المصري
( سألت رسوم القبر عمن ثوى به ... لأعلم ما لاقى فقالت جوانبه )

( أتسأل عمن عاش بعد وفاته ... بإحسانه أخوانه وأقاربه ) وقال الإمام السبكي رحمه الله تعالى يرثي فضل الله العالم
( مصاب ليس يشبهه مصاب ... لذي الألباب إذ فقد الشهاب )
( إمام قد حوى من كل علم ... كنوزا نحوها يسعى الركاب )
( ليبكي كل ذي علم عليه ... فكم علم له ضم التراب )
( وكم كلكم موانع قد أتته ... ثناها وهي عاصية صعاب )
( فسلطان البلاغ بغير شك ... شهاب الدين ما فيه ارتياب )
( سقى الله الكريم ثراه صوبا ... له من كل رضوان رضاب ) وقال الصفدي
( يا غائبا في الثرى تبلى محاسنه ... الله يوليك غفرانا وإحسانا )
( إن كنت جرعت كأس الموت واحدة ... في كل يوم أذوق الموت ألوانا ) وقال محمد بن عبد الله العتبي يرثي إبنا له
( أضحت بخدي للدموع رسوم ... أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم )
( والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم ) وكتب أحمد بن يوسف إلى عمر بن سعيد يرثي بنتا له فقال
( عجبا للمنون كيف أتتها ... وتخطت عبد الحميد أخاكا )
( شملتنا مصيبتان جميعا ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا ) وله يرثي الأمير يلبغا
( ألا إنما الدنيا غرور وباطل ... فطوبى لمن كفاه منها تفرغا )

( وما عجبي إلا لمن بات واثقا ... بأيام دهر ما وعى حق يلبغا ) وقال آخر
( إلى الله أشكو أن كل قبيلة ... من الناس قد أفنى الحمام خيارها ) وقال رجل يرثي صديقا له توفي وكان من الكرماء
( ما درى نعشه ولا حاملوه ... ماعلى النعش من عفاف وجود ) ولبعض الكتاب في ابن مقلة
( استشعر الكتاب فقدك سالفا ... وقضت بصحة ذلك الأيام )
( فلذاك سودت الدواة كآبة ... أسفا عليك وشقت الأقلام ) وقال الحسن بن مطير الأسدي يرثي معن بن زائدة رحمه الله تعالى
( هلما إلى معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا )
( فيا قبر معن كنت أول حفرة ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا )
( ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا )
( بلى قد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا )
( فتى عاش في معروفه بعد موته ... أناس لهم بالبر قد كان أوسعا )
( ولما مضى معن مضى الجود كله ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا ) وقال آخر
( عجبت لصبري بعده وهو ميت ... وقد كنت أبكيه دما وهو غائب ) وقال آخر
( فديتك لم أصبر ولي فيك حيلة ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر )

وقالت ريطة بنت عاصم
( وقفت فأبكتني ديار عشيرتي ... على رزئهن الباكيات الحواسر )
( غدوا كسيوف الهند وراد حومة ... من الموت أعيا وردهن المصادر )
( فوارس حاموا عن حريمي وحافظوا ... بدار المنايا والقنا متشاجر )
( ولو أن سلمى نالها مثل رزئنا ... لهدت ولكن محمل الرزء عامر ) ولما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسين وحمل رأسه إلى المنصور أنفذها المنصور مع الربيع إلى عميه إدريس ومحمد وكانا في حبسه وكان أبوه قائما يصلي فقال له محمد أوجز فأوجز وسلم فلما أتاه وضع الرأس في حجره فقال أهلا وسهلا يا أبا القاسم تالله لقد كنت من الناس الذين قال الله تعالى في حقهم ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) ثم قبله بين عينيه وأنشأ يقول
( فتى كان يحميه من العار سيفه ... ويكفيه سوآت الأمور اجتنابها ) ثم قال للربيع قل لصاحبك المنصور قد مضى من بؤسنا أيام ومن نعمتك أيام والملتقى غدا بين يدي الله تعالى فكان ذلك فألا على المنصور ولم ير بعد ذلك اليوم راحة وقيل لحسان ما بالك لم ترث رسول الله ؟ قال لم أر شيئا إلا رأيته يقصر عنه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثالث والثمانون في ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها والزهد فيها قال الله تعالى ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ) فوصف سبحانه وتعالى جميع الدنيا بأنها متاع قليل وأنت أيها الانسان تعلم أنك ما أوتيت من القليل إلا قليلا ثم إن القليل إن تمتعت به فهو لعب ولهو لقوله تعالى ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ) وقال تعالى ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) فلا تبع أيها العاقل حياة قليلة تفنى بحياة كثيرة تبقى كما قال ابن عياض لو كانت الدنيا ذهبا يفنى والآخرة خزفا يبقى لوجب علينا أن نختار ما يبقى على ما يفنى ثم تأمل بعقلك هل أتاك الله من الدنيا مثل ما أوتي سليمان عليه الصلاة و السلام حيث ملكه الله تعالى جميع الدنيا من إنس وجن وسخر له الريح والطير والوحوش ثم زاده الله تعالى أحسن منها حيث قال ( هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب ) فوالله ما عدها نعمة مثل ما عددتموها ولا حسبها رفعة مثل ما حسبتموها بل خاف أن يكون استدراجا من حيث لا يعلم فقال ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ) وهذا فصل الخطاب لمن تدبر هذا وقد قال لك ولجميع أهل الدنيا ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) وقال تعالى ( وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين )

عن رسول الله أنه قال لو كانت الدنيا تزن عندالله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال لي رسول الله ألا أريك الدنيا بما فيها قلت بلى يا رسول الله فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذرات وخرق بالية وعظام البهائم فقال يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم وهي اليوم صارت عظاما بلا جلد ثم هي صائرة عظما رميما وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبتموها في الدنيا فأصبحت والناس يتحامونها وهذه الخرق البالية رياشهم أصبحت والرياح تصفقها وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكيا على الدنيا فليبك قال فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا
وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على النبي وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبه فبكى عمر رضي الله تعالى عنه فقال رسول الله ما يبكيك يا عمر فقال تذكرت كسرى وقيصر وما كانا فيه من سعة الدينا وأنت رسول الله وقد أثر الشريط بجنبك فقال هؤلاء قوم عجلت لهما طيباتهم في حياتهم الدنيا ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة وروى عن الضحاك قال لما أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض ووجدا ريح الدنيا وعن ابن معاذ قال الحكمة تهوى من السماء إلى القلوب فلا تسكن في قلب فيه أربع خصال ركون إلى الدنيا وهم عدو وحسد أخ وحب شرف وعن النبي أنه قال لعلي يا علي أربع خصال من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وبعد الأمل وحب الدينا وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء العينين أنيابها بادية مشوهة الخلق لا يراها أحد إلا هرب منها فتشرف على الخلائق أجمعين فيقال لهم أتعرفون هذه فيقولون لا نعوذ بالله من معرفة هذه فيقال هذه الدنيا التي تفاخرتم بها وتقاتلتم عليها وعن الفضيل بن عياض أنه قال جعل الخير كله في بيت واحد وجعل

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8