كتاب : جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة
المؤلف : أحمد زكي صفوت

وروى المسعودي في مروج الذهب قال قال معاوية يوما وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي وعنده وجوه الناس الأرض لله وأنا خليفة الله فما آخذ من مال الله فهو لي وما تركت منه كان جائزا لي فقال صعصعة
( نمنيك نفسك مالا يكون ... جهلا معاوى لا تأثم )
فقال معاوية يا صعصعة تعلمت الكلام قال العلم بالتعلم ومن لا يعلم يجهل قال معاوية ما أحوجك إلى أن أذيقك وبال أمرك قال ليس ذلك بيدك ذلك بيد الذي لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها قال ومن يحول بيني وبينك قال الذي يحول بين المرء وقلبه قال معاوية اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير للشعير قال اتسع بطن من لا يشبع ودعا عليه من لا يجمع

343 -

تتمة في الحكم
من كلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه
إن الله قرن وعده بوعيده ليكون العبد راغبا راهبا ليست مع العزاء مصيبة الموت أهون مما بعده وأشد مما قبله ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر ذل قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة لا يكونن قولك لغوا في عفو ولا عقوبة إذا فاتك خير فأدركه وإن أدركك شر فاسبقه إن عليك من الله عيونا تراك احرص على الموت توهب لك الحياة قاله لخالد بن الوليد حين بعثه إلى أهل الردة رحم الله امرأ أعان أخاه بنفسه أطوع الناس لله أشدهم بغضا لمعصيته إن الله يرى من باطنك ما يرى من ظاهرك إن أولى الناس بالله أشدهم توليا له لا تجعل سرك مع علانيتك فيمرج أمرك خير الخصلتين لك أبغضها إليك صنائع المعروف تقي مصارع السوء
ومن كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
من كتم سره كان الخيار في يده أشقى الولاة من شقيت به رعيته اتقوا من تبغضه قلوبكم أعقل الناس أعذرهم للناس لا تؤجل عمل يومك لغدك من لم يعرف الشر كان جديرا أن يقع فيه ما الخمر صرفا بأذهب للعقول من الطمع قلما أدبر شئ فأقبل مر ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا غمض عن الدنيا عينك وول عنها قلبك وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك فقد رأيت مصارعها

وعاينت سوء آثارها على أهلها وكيف عرى من كست وجاع من أطعمت ومات من أحيت احتفظ من النعمة احتفاظك من المصيبة فوالله لهي أخوفها عندي عليك أن تستدرجك وتخدعك الدنيا أمل مخترم وأجل منتقص وبلاغ إلى دار غيرها وسير إلى الموت ليس فيه تعريج فرحم الله امرأ فكر في أمره ونصح لنفسه وراقب ربه واستقال ذنبه إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة مفسدة للجوف مؤدية إلى السقم رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي أفلح من حفظ من الطمع والغضب والهوى نفسه
ومن كلام عثمان رضي الله عنه
ما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال قاله يوم صعد المنبر فأرتج عليه
ومن كلام ابن عباس رضي الله عنه
صاحب المعروف لا يقع فإن وقع وجد متكا الحرمان خير من الامتنان ملاك أمركم الدين وزينتكم العلم وحصون أعراضكم الأدب وعزكم الحلم وحليتكم الوفاء القرابة تقطع والمعروف يكفر ولم ير كالمودة لا تمار سفيها ولا حليما فإن السفيه يوذيك والحليم يقليك واعمل عمل من يعلم أنه مجزى بالحسنات مأخوذ بالسيئات
ومن كلام ابن مسعود رضي الله عنه
ما الدخان على النار بأدل من الصاحب على الصاحب الدنيا كلها غموم فما كان منها في سرور فهو ربح

ومن كلام المغيرة ابن شعبة
إن المعرفة لتنفع عند الكلب العقور والجمل الصئول فكيف بالرجل الكريم
ومن كلام أبي الدرداء
السودد اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة والشرف كف الأذى وبذل الندى والغنى قلة التمني والفقر شره النفس
ومن كلام أبي ذر
إن لك في مالك شريكين الحدثان والوارث فإن قدرت ألا تكون أخس الشركاء حظا فافعل

سقطت هذه الخطب سهوا في أثناء الطبع فأوردناها في آخر الجزء وها هي ذي

خطب الوفود بين يدي عمر بن الخطاب
لماقدمت الوفود على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام هلال بن بشر فقال
244 -
خطبة هلال بن بشر
يا أمير المؤمنين إنا غرة من خلفنا من قومنا وسادة من وراءنا من أهل مصرنا وإنك إن تصرفنا بالزيادة في أعطياتنا والفرائض لعيالاتنا يزدد بذلك الشريف تأميلا وتكن لهم أبا وصولا وإن تكن مع ما نمت به من وسائلك وندلي به من أسبابك كالحدل لا يحل ولا يرتحل نرجع بأنوف مصلومة وجدود

عائرة فمحنا وأهالينا بسجل مترع من سجالك المترعة
345 -

خطبة زيد بن جبلة
وقام زيد بن جبلة فقال
يا أمير المؤمنين سود الشريف وأكرم الحسيب وازرع عندنا من أياديك ما تسد به الخصاصة وتطرد به الفاقة فإنا بقف من الأرض يابس الأكناف مقشعر الذروة لا متجر ولا زرع وإنا من العرب اليوم إذ أتيناك بمرأى ومسمع
346 -
خطبة الأحنف بن قيس
فقام الأحنف فقال
يا أمير المؤمينن إن مفاتيح الخير بيد الله والحرص قائد الحرمان فاتق الله فيما لا يغني عنك يوم القيامة قيلا ولا قالا واجعل بينك وبين رعيتك من العدل والإنصاف شيئا يكفيك وفادة الوفود واستماحة الممتاح فإن كل امرئ يجمع في وعائه إلا الأقل ممن سعى أن تقتحمه الأعين فلا يوفد إليك

347 -

خطبة الأحنف بن قيس بين يدي عمر بن الخطاب
قدم الأحنف بن قيس التميمي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أهل البصرة وأهل الكوفة فتكلموا عنده في أنفسهم وما ينوب كل واحد منهم وتكلم الأحنف فقال
يا أمير المؤمنين إن مفاتيح الخير بيد الله وقد أتتك وفود أهل العراق وإن إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازل الأمم الخالية والملوك الجبابرة ومنازل كسرى وقيصر وبني الأصفر فهم من المياه العذبة والجنان المخصبة في مثل حولاء السلى وحدقة البعير الغاسقة تأتيهم ثمارهم غضة قبل أن تتغير وإنا معشر أهل البصرة نزلنا ارضا سبخة هشاشة زعقة نشاشة طرف في فلاة وطرف في ملح أجاج جانب منها منابت القصب وجانب سبخة نشاشة لا يجف ترابها ولا ينبت مرعاها تأتينا منافعها في مثل مرئ النعامة يخرج الرجل الضعيف منا يستعذب الماء من فرسخين وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنق ولدها ترنيق العنز تخاف عليه العدو والسبع دارنا فعمة ووظيفتنا ضيقة وعددنا كثير وأشرافنا قليل وأهل البلاء فينا كثير ودرهمنا كبير وقفيزنا صغير وقد وسع الله علينا وزادنا

في أرضنا فوسع علينا يا أمير المؤمنين وزدنا وظيفة توظف علينا ونعيش بها فإلا ترفع خسيستنا وتنعش ركيستنا وتجبر فاقتنا وتزد في عيالنا عيالا وفي رجالنا رجالا وتصفر درهمنا وتكبر قفيزنا وتأمر لنا بحفر نهر نستعذب به الماء هلكنا
قال عمر هذا والله السيد هذا والله السيد قال الأحنف فما زلت أسمعها بعدها

الباب الثالث
الخطب والوصايا في العصر الأموي
الخطب
خطب بني هاشم وشيعتهم وما يتصل بها
1 - خطبة الحسن بن علي بعد وفاة أبيه
خطب الحسن بن علي رضي الله عنهما بعد وفاة أبيه فنعاه فقال لقد قتلتم الليلة رجلا في ليلة فيها نزل القرآن وفيها رفع عيسى بن مريم عليه السلام وفيها قتل يوشع بن نون فتى موسى عليهما السلام والله ما سبقه أحد كان

قبله ولا يدركه أحد يكون بعده والله إن كان رسول الله ليبعثه في السرية وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره والله ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه أراد أن يبتاع بها خادما لأهله ثم خنقته العبرة فبكي وبكى الناس معه ثم قال أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله وآله أنا ابن البشير أنا ابن النذير أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا والذين افترض الله مودتهم في كتابه إذ يقول ( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت )
فلما انتهي إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبيد الله بن العباس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا وقالوا ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة فبايعوه ثم نزل من المنبر

تعبئه الجيوش لقتال معاوية
سار معاوية بجيوشه قاصدا إلى العراق وبلغ الحسن خبره ومسيره نحوه فأمر بالتهيؤ للمسير ونادى المنادى الصلاة جامعة فأقبل الناس يثوبون ويجتمعون فخرج الحسن وصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال
2 - خطبة الحسن بن علي في الحث على الجهاد
أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين ( اصبروا إن الله مع الصابرين ) فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا علي المسير إليه فتحرك لذلك اخرجوا رحمكم الله إلي معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس له فسكتوا فما تكلم منهم أحد ولا أجابه بحرف فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال
3 - مقال عدي بن حاتم
أنا ابن حاتم سبحان الله ما أقبح هذا المقام لا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم أين خطباء مصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة فإذا جد الجد

فرواغون كالثعالب أما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها
ثم استقبل الحسن بوجهه فقال أصاب الله بك المراشد وجنبك المكاره ووفقك لما تحمد وروده وصدوره قد سمعنا مقالتك وانتهينا إلى أمرك وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت وهذا وجهي إلى معسكري فمن أحب أن يوافيني فليواف ثم مضى لوجهه إلى النخيلة
وقام ثلاثة آخرون من أصحاب الحسن فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم وكلموا الحسن بمثل كلام عدي بن حاتم فقال لهم صدقتم رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودة الصحيحة فجزاكم الله خيرا ثم نزل وخرج الناس فعسكروا ونشطوا للخروج وسار الحسن في عسكر عظيم وعدة حسنة
4 - خطبة الحسن وقد جنح إلى مصالحة معاوية
ثم نزل الحسن ساباط فلما أصبح نادي في الناس الصلاة جامعة فاجتمعوا فصعد المنبر فخطبهم فقال الحمد لله كلما حمده حامد وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد وأشهد أن محمدا رسول الله أرسله بالحق وأتمنه على الوحي وآله أما بعد فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلقه لخلقه وما أصبحت محتملا علي مسلم ضغينة ولا مريدا له بسوء ولا غائلة ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ألا وإني ناظر لكم خيرا من نظركم

لأنفسكم فلا تخالفوا أمري ولا تردوا على رأيي غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه محبته ورضاه إن شاء الله ثم نزل
فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا ما ترونه يريد بما قال قالوا نظنه يريد أن يصالح معاوية ويكل الأمر إليه كفر والله الرجل ثم شدوا على فسطاطه فانهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته وشد عليه بعضهم فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالسا متقلدا سيفها بغير رداء فدعا بفرسه فركبه وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته ومنعوا منه من أرده ولاموه وضعفوه لما تكلم
فلما مر في مظلم ساباط قام إليه رجل من بني أسد يقال له جراح بن سنان وبيده معول فأخذ بلجام فرسه وقال الله أكبر يا حسن أشرك أبوك ثم أشركت أنت وطعنه بالمعول فوقعت في فخده فشقته حتى بلغت أربيته وسقط الحسن إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده واعتنقه فخرا جميعا إلى الأرض
5 - خطبته يبرر مصالحته لمعاوية
لما رأى الحسن رضي الله عنه تفرق الأمر عنه بعث إلى معاوية يطلب الصلح فبعث معاوية إليه رسولين قدما عليه بالمدائن فأعطياه ما أراد وصالحاه على أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف في أشياء اشترطها ثم قام الحسن في أهل العراق فقال يأهل العراق إنه سخي بنفسي عنكم ثلاث قتلكم أبي وطعنكم إياي وانهابكم متاعي

6 - خطبته في الصلح بينه وبين معاوية
وقدم معاوية الكوفة لإنفاذ الصلح بينه وبين الحسن سنة 41ه وكان عمرو ابن العاص حين اجتمعوا بالكوفة قد كلم معاوية وأمره أن يأمر الحسن أن يقوم ويخطب الناس فكره ذلك معاوية وقال ما تريد إلى أن أخطب الناس فقال عمرو لكني أريد أن يبدوا عيه للناس فلم يزل عمرو بمعاوية حتى أطاعه فخرج معاوية فخطب الناس ثم نادى الحسن فقال قم يا حسن فكلم الناس فتشهد في بديهة أمر لم يرو فيه ثم قال أما بعد أيها الناس فإن الله قد هدى أولكم بأولنا وحقن دمائكم بآخرنا وكانت لي في رقابكم بيعة تحاربون من حاربت وكسالمون من سالمت وقد سالمت معاوية وبايعته فبايعوه وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دول وإن الله تعالى قال لنبيه ( وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) وأشار إلى معاوية فلما قالها قال معاوية اجلس فلم يزل ضرما على عمرو وقال هذا من رأيك ولحق الحسن بالمدينة
7 - خطبة له بعد الصلح
روى المدائنى قال سأل معاوية الحسن بن علي رضي الله عنه بعد الصلح أن يخطب الناس فامتنع فناشده أن يفعل فوضع له كرسي فجلس عليه ثم قال

الحمد لله الذي توحد في ملكه وتفرد في ربوبيته يؤتى الملك من يشاء وينزعه عمن يشاء والحمد لله أكرم بنا مؤمنكم وأخرج من الشرك أولكم وحقن دماء آخركم فبلاؤنا عندكم قديما وحديثا أحسن البلاء إن شكرتم أو كفرتم أيها الناس إن رب على كان أعلم بعلى حين قبضه إليه ولقد اختصه بفضل لم تعتدوا مثله ولم تجدوا مثل سابقته فهيهات هيهات طالما قلبتم له الأمور حتى أعلاه الله عليكم وهو صاحبكم وعدوكم في بدر وأخواتها جرعكم رنقا وسقاكم ثم علقا وأذل رقابكم وأشرقكم بريقكم فلستم بملومين على بغضه وايم الله لا ترى أمة محمد خفضا ما كانت سادتهم وقادتهم بنى أمية ولقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا لطاعتكم طواغيتكم وانضوائكم إلى شياطينكم فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر من سوء دعتكم وحيف حكمكم ثم قال يأهل الكوفة لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامى الله صائب علي أعداء الله نكال على فجار قريش لم يزل آخذا بحناجرها جاثما على أنفاسها ليس بالملومة فى أمر الله ولا بالسروقة لمال الله ولا بالفروقة فى حرب أعداء الله أعطى الكتاب خواتمه وعزائمه دعاه فأجابه وقاده فاتبعه لا تأخذه فى الله لومة لائم فصلوات الله عليه ورحمته ثم نزل
فقال معاوية أخطأ عجل أو كاد وأصاب متثبت أو كاد ماذا أردت من خطبة الحسن

8 - خطبة لمعاوية فى أهل الكوفة
وروى المدائنى قال خرج على معاوية قوم من الخوارج بعد دخوله الكوفة وصلح الحسن رضى الله عنه فأرسل معاوية إلى الحسن يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج فقال الحسن سبحان الله تركت قتالك وهو لى حلال لصلاح الأمة وألفتهم أفترانى أقاتل معك فخطب معاوية أهل الكوفة فقال يأهل الكوفة أترانى قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ولكنى قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم وقد آتانى الله ذلك وأنتم كارهون ألا إن كل مال أو دم أصيب فى هذه الفتنة فمطلول وكل شرط شرطته فتحت قدمى هاتين ولا يصلح الناس إلا ثلاث إخراج العطاء عند محله وإقفال الجنود لوقتها وغزو العدو فى داره فإنه إن لم تغزوهم غزوكم ثم نزل
9 - رد الحسن بن على على معاوية حين نال منه ومن أبيه
وخطب معاوية بالكوفة حين دخلها والحسن والحسين رضى الله عنهما جالسان تحت المنبر فذكر عليا عليه السلام فنال منه ثم نال من الحسن فقام الحسين ليرد عليه فأخذه الحسن بيده فأجلسه ثم قام فقال أيها الذاكر عليا أنا الحسن وأبى على وأنت معاوية وأبوك صخر وأمى فاطمة وأمك هند وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة

وجدتى خديجة وجدتك قتيلة فلعن الله أخملنا ذكرا وألأمنا حسبا وشرنا قديما وحديثا وأقدمنا كفرا ونفاقا
فقال طوائف من أهل المسجد آمين
10 - خطبة سليمان بن صرد في استنكار الصلح
وذكروا أنه لما تمت البيعة لمعاوية بالعراق وانصرف راجعا إلى الشأم أتى سليمان ابن صرد وكان غائبا عن الكوفة وكان سيد أهل العراق ورأسهم فدخل على الحسن فقال السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال وعليك السلام اجلس لله أبوك فجلس سليمان ثم قال أما بعد فإن تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق وكلهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم سوي شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز ثم لم تأخذ لنفسك بقية فى العهد ولا حظا من القضية فلو كنت إذ فعلت ما فعلت وأعطاك ما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق كنت كتبت عليك بذلك كتابا وأشهدت عليه شهودا من أهل المشرق والمغرب أن هذا الأمر لك من بعده كان الأمير علينا أيسر ولكنه أعطاك هذا فرضيت به من قوله ثم قال وزعم على رءوس الناس ما قد سمعت إني كنت شرطت لقوم شروطا ووعدتهم عدات ومنيتهم أمانى إرادة إطفاء نار الحرب ومداراة لهذه الفتنة إذ جمع الله لنا كلمتنا وألفتنا فإن كل ما هنالك تحت قدمي هاتين ووالله ما عنى بذلك إلا نقض ما بينك وبينه فأعد الحرب جذعة وأذن لى أشخص إلى الكوفة

فأخرج عامله منها وأظهر فيها خلعه وانبذ إليه على سواء إن الله لا يهدى كيد الخائنين
ثم سكت فتكلم كل من حضر مجلسه بمثل مقالته وكلهم يقول ابعث سليمان ابن صرد وابعثنا معه ثم الحقنا إذا علمت أنا قد أشخصنا عامله وأظهرنا خلعه
11 - خطبة الحسن يرد على مستنكري الصلح
فتكلم الحسن فحمد الله ثم قال أما بعد فإنكم شيعتنا وأهل مودتنا ومن نعرفه بالنصيحة والاستقامة لنا وقد فهمت ما ذكرتم ولو كنت بالحزم فى أمر الدنيا وللدنيا أعمل وأنصب ما كان معاوية بأبأس منى وأشد شكيمة ولكان رأيى غير ما رأيتم لكنى أشهد الله وإياكم أنى لم أرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم وإصلاح ذات بينكم فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله وسلموا لأمر الله والزموا بيوتكم وكفوا أيديكم حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر مع أن أبى كان يحدثني أن معاوية سيلي الأمر فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر إن الله لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه وأما قولك يا مذل المؤمنين فوالله لأن تذلوا وتعافوا أحب إلى من أن تعزوا وتقتلوا فإن رد الله علينا حقنا فى عافية قبلنا وسألنا الله العون على أمره وإن صرفه عنا رضينا وسألنا الله أن يبارك فى صرفه عنا فليكن كل رجل منكم حلسا من أحلاس بيته

ما دام معاوية حيا فإن يهلك ونحن وأنتم أحياء سألنا الله العزيمة على رشدنا والمعونة على أمرنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
12 - خطبة له فى عهد خلافته
ومن خطبه رضى الله عنه فى أيامه فى بعض مقاماته أنه قال نحن حزب الله المفلحون وعترة رسول الله الأقربون وأهل بيته الطاهرون الطيبون وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله والثانى كتاب الله فيه تفصيل كل شئ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والمعول عليه فى كل شئ لا يخطئنا تأويله بل نتيقن حقائقه فأطيعونا فإطاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولى الأمر مقرونة ( فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ) ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان إنه لكم عدو مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم ( لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنى برئ منكم إنى

أرى مالا ترون ) فتلقون للرماح أزرا وللسيوف جزرا وللعمد حظا وللسهام غرضا ثم ( لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا )
13 - خطبة أخرى له
ومن خطبه رضى الله عنه اعلموا أن الحلم زين والوقار مودة والصلة نعمة والإكثار صلف والعجلة سفه والسفه ضعف والقلق ورطة ومجالسة أهل الدناءة شين ومخالطة أهل الفسوق ريبة

مخاصمة ومهاجاة
بين الحسن بن على وبين عمرو بن العاص والوليد بن عقبة وعتبة بن أبى سفيان والمغيرة بن شعبة بحضرة معاوية
قال ابن أبى الحديد روى الزبير بن بكار فى كتاب المفاخرات قال اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص والوليد بن عقبة بن أبى معيط وعتبة بن أبى سفيان والمغيرة بن شعبة وقد كان بلغهم عن الحسن بن على عليه السلام قوارص وبلغه عنهم مثل ذلك فقالوا يا أمير المؤمنين إن الحسن قد أحيا أباه وذكره وقال فصدق وأمر فأطيع وخفقت له النعال وإن ذلك لرافعه إلى ما هو أعظم منه ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوءنا قال معاوية فما تريدون قالوا ابعث إليه فليحضر لنسبه ونسب أباه ونعيره ونوبخه ونخبره أن أباه قتل عثمان ونقرره بذلك ولا يستطيع أن يغير علينا شيئا من ذلك قال معاوية إنى لا أرى ذلك ولا أفعله قالوا عزمنا عليك يا أمير المؤمنين لتفعلن فقال ويحكم لا تفعلوا فوالله ما رأيته قط جالسا عندى إلا خفت مقامه وعيبه لى قالوا ابعث إليه على كل حال قال إن بعثت إليه لأنصفنه منكم فقال عمرو بن العاص أتخشى أن يأتى باطله على حقنا أو يربى قوله على قولنا قال معاوية أما إنى إن بعثت إليه لآمرنه أن يتكلم بلسانه كله
قالوا مره بذلك قال أما إذا عصيتمونى وبعثتم إليه وأبيتم إلا ذلك فلا تمرضوا له

فى القول واعلموا أنهم أهل بيت لا يعيبهم العائب ولا يلصق بهم العار ولكن اقذفوه بحجره تقولون له إن أباك قتل عثمان وكره خلافة الخلفاء من قبله فبعث إليه معاوية فجاءه رسوله فقال إن أمير المؤمنين يدعوك قال من عنده فسماهم فقال الحسن عليه السلام مالهم خر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم قال يا جارية ابغينى ثيابي اللهم إنى أعوذ بك من شرورهم وأدرأ بك فى نحورهم وأستعين بك عليهم فاكفينهم كيف شئت وأنى شئت بحول منك وقوة يا أرحم الراحمين ثم قام فلما دخل على معاوية أعظمه وأكرمه وأجلسه إلى جانبه وقد ارتاد القوم وخطروا خطران الفحول بغيا فى أنفسهم وعلوا ثم قال يا أبا محمد إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني فقال الحسن عليه السلام سبحان الله الدار دارك والإذن فيها إليك والله إن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا وما فى أنفسهم إنى لأستحيى لك من الفحش وإن كانوا غلبوك على رأيك إنى لأستحيي لك من الضعف فأيهما تقر وأيهما تنكر أما إني لو علمت بمكانهم جئت معى بمثلهم من بنى عبد المطلب ومالى أن أكون مستوحشا منك أو منهم إن ولي الله وهو يتولى الصالحين فقال معاوية يا هذا إنى كرهت أن أدعوك ولكن هؤلاء حملونى على ذلك مع كراهتى له وإن لك منهم النصف ومنى وإنما دعوناك لنقررك أن عثمان قتل مظلوما وأن أباك قتله فاستمع منهم ثم أجبهم ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم أن تتكلم بكل لسانك فتكلم عمرو بن العاص

14 - مقال عمرو بن العاص
فحمد الله وصلى على رسوله ثم ذكر عليا عليه السلام فلم يترك شيئا يعيبه به إلا قاله وقال إنه شتم أبا بكر وكره خلافته وامتنع من بيعته ثم بايعه مكرها وشرك في دم عمر وقتل عثمان ظلما وادعى من الخلافة ما ليس له ثم ذكر الفتنة يعيره بها وأضاف إليه مساوى وقال إنكم يا بنى عبد المطلب لم يكن الله ليعطيكم الملك على قتلكم الخلفاء واستحلالكم ما حرم الله من الدماء وحرصكم على الملك وإتيانكم ما لا يحل ثم إنك يا حسن تحدث نفسك أن الخلافة صائرة إليك وليس عندك عقل ذلك ولا لبه كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك وتركك أحمق قريش يسخر منك ويهزأ بك وذلك لسوء عمل أبيك وإنما دعوناك لنسبك وأباك فأما أبوك فقد تفرد الله به وكفانا أمره وأما أنت فإنك فى أيدينا نختار فيك الخصال ولو قتلناك ما كان علينا إثم من الله ولا عيب من الناس فهل تستطيع أن ترد علينا وتكذبنا فإن كنت ترى أنا كذبنا فى شئ فاردده علينا فيما قلنا وإلا فاعلم أنك وأباك ظالمان
15 - مقال الوليد بن عقبة بن أبى معيط
ثم تكلم الوليد بن عقبة بن أبى معيط فقال يا بنى هاشم إنكم كنتم أخوال عثمان فنعم الولد كان لكم فعرف حقكم وكنتم أصهاره فنعم الصهر كان لكم يكرمكم فكنتم أول من حسده فقتله أبوك ظلما لا عذر له ولا حجة فكيف ترون الله طلب بدمه وأنزلكم منزلتكم والله إن بنى أمية خير لبنى هاشم من بنى هاشم لبنى أمية وإن معاوية خير لك من نفسك

16 - مقال عتبة بن أبى سفيان
ثم تكلم عتبة بن أبى سفيان فقال يا حسن كان أبوك شر قريش لقريش لسفكه لدمائها وقطعه لأرحامها طويل السيف واللسان يقتل الحى ويعيب الميت وإنك ممن قتل عثمان ونحن قاتلوك به وأما رجاؤك الخلافة فلست فى زندها قادحا ولا فى ميزانها راجحا وإنكم يا بنى هاشم قتلتم عثمان وإن فى الحق أن نقتلك وأخاك به فأما أبوك فقد كفانا الله أمره وأقاد منه وأما أنت فوالله ما علينا لو قتلناك بعثمان إثم ولا عدوان
17 - مقال المغيرة بن شعبة
ثم تكلم المغيرة بن شعبة فشتم عليا وقال والله ما أعيبه فى قضية يخون ولا فى حكم يميل ولكنه قتل عثمان ثم سكتوا
18 - رد الحسن بن على عليهم
فتكلم الحسن بن على عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله وآله ثم قال أما بعد يا معاوية فما هؤلاء شتمونى ولكنك شتمتنى فحشا ألفته وسوء رأى عرفت به وخلقا سيئا ثبت عليه وبغيا علينا عداوة منك لمحمد وأهله ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا فلأقولن فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم أنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن الذى شتمتموه منذ اليوم صلى القبلتين كلتيهما وأنت يا معاوية

بهما كافر تراها ضلالة وتعبد اللات والعزى غواية وأنشدكم الله هل تعلمون أنه بايع البيعتين كلتيهما بيعة الفتح وبيعة الرضوان وأنت يا معاوية بإحداهما كافر وبالأخرى ناكث وأنشدكم الله هل تعلمون أنه أول الناس إيمانا وأنك يا معاوية وأباك من المؤلفة قلوبهم تسرون الكفر وتظهرون الإسلام وتستمالون بالأموال وأنشدكم الله ألستم أنه كان صاحب راية رسول الله وآله يوم بدر وأن راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه ثم لقيكم يوم أحد ويوم الأحزاب ومعه راية رسول الله وآله ومعك ومع أبيك راية الشرك وفي كل ذلك يفتح الله له ويفلج حجته وينصر دعوته ويصدق حديثه ورسول الله وآله في تلك المواطن كلها عنه راض وعليك وعلى أبيك ساخط وأنشدك الله يا معاوية أتذكر يوما جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده فرآكم رسول الله وآله فقال اللهم العن الراكب والقائد والسائق أتنسي يا معاوية الشعر الذى كتبته إلى أبيك لما هم أن يسلم تنهاه عن ذلك
( يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا ... بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا )
( خالى وعمى وعم الأم ثالثهم ... وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا )

( لا تركنن إلى أمر تكلفنا ... والراقصات به فى مكة الخرقا )
( فالموت أهون من قول العداة لقد ... حاد ابن حرب عن العزى إذا فرقا )
والله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت وأنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن عليا حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله وآله فأنزل فيه ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) وأن رسول الله وآله بعث أكابر أصحابه إلى بنى قريظة فنزلوا من حصنهم فهزموا فبعث عليا بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله وفعل في خيبر مثلها ثم قال يا معاوية أظنك لا تعلم أنى أعلم ما دعا به عليك رسول الله وآله لما أراد أن يكتب كتابا إلى بنى جذيمة فبعث إليك ونهمك إلى أن تموت وأنتم أيها الرهط

نشدتكم الله ألا تعلمون أن رسول الله وآله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردها أولها يوم لقي رسول الله وآله خارجا من مكة إلى الطائف يدعو ثقيفا إلى الدين فوقع به وسبه وسفهه وشتمه وكذبه وتوعده وهم أن يبطش به فلعنه الله ورسوله وصرف عنه والثانية يوم العير إذ عرض لها رسول الله وآله وهي جائية من الشام فطردها أبو سفيان وساحل بها فلم يظفر المسلمون بها ولعنه رسول الله وآله ودعا عليه فكانت وقعة بدر لأجلها والثالثة يوم أحد حيث وقف تحت الجبل ورسول الله وآله في أعلاه وهو ينادى أعل هبل مرارا فلعنه رسول الله وآله عشر مرات ولعنه المسلمون والرابعة يوم جاء بالأحزاب وغطفان واليهود فلعنه رسول الله وآله وابتهل والخامسة يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول الله وآله عن المسجد والهدى معكوفا أن يبلغ محله ذلك يوم الحديبية فلعن رسول الله وآله أبا سفيان ولعن القادة والأتباع وقال ملعونون كلهم وليس فيهم من يؤمن فقيل يا رسول الله أفما يرجى الإسلام لأحد منهم فكيف باللعنة فقال لا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع وأما القادة فلا يفلح منهم أحد والسادسة يوم الجمل الأحمر والسابعة يوم وقفوا لرسول الله وآله في العقبة ليستنفروا ناقته وكانوا اثني عشر رجلا منهم أبو سفيان فهذا لك يا معاوية
وأما أنت يا بن العاص فإن أمرك مشترك وضعتك أمك مجهولا من عهر

وسفاح فتحا كم فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزارها ألأمهم حسبا وأخبثهم منصبا ثم قام أبوك فقال أنا شانى محمد الأبتر فأنزل الله فيه ما أنزل وقاتلت رسول الله وآله في جميع المشاهد وهجوته وآذيته بمكة وكدته كيدك كله وكنت من أشد الناس له تكذيبا وعداوة ثم خرجت تريد النجاشى مع أصحاب السفينة لتأتى بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة فلما أخطأك ما رجوت ورجعك الله خائبا وأكذبك واشيا جعلت حسدك علي صاحبك عمارة بن الوليد فوشيت به إلي النجاشى حسدا لما ارتكب من حليلته ففضحك الله وفضح صاحبك فأنت عدو بني هاشم

في الجاهلية والإسلام ثم إنك تعلم وكل هؤلاء الرهط يعلمون أنك هجوت رسول الله وآله بسبعين بيتا من الشعر فقال رسول الله وآله اللهم إنى لا أقول الشعر ولا ينبغي لى اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة فعليك إذن من الله ما لا يحصى من اللعن وأما ما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعرت عليه الدنيا نارا ثم لحقت بفلسطين فلما أتاك قتله قلت أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها ثم حبست نفسك إلى معاوية وبعت دينك بدنياه فلسنا نلومك على بغض ولا نعاتبك على ود وبالله ما نصرت عثمان حيا ولا غضبت له مقتولا ويحك يا بن العاص ألست القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة إلى النجاشى
( تقول ابنتي أين هذا الرحيل ... وما السير مني بمستنكر )

( فقلت ذرينى فإنى امرؤ ... أريد النجاشى في جعفر )
( لأكويه عنده كية ... أقيم بها نخوة الأصعر )
( وشأنى أحمد من بينهم ... وأقولهم فيه بالمنكر )
( وأجرى إلى عتبة جاهدا ... ولو كان كالذهب الأحمر )
( ولا أنثنى عن بنى هاشم ... وما اسطعت فى الغيب والمحضر )
( فإن قبل العتب من له ... وإلا لويت له مشفرى )
فهذا جوابك هل سمعته
وأما أنت يا وليد فوالله ما ألومك على بغض على وقد جلدك ثمانين في الخمر وقتل أباك بين يدى رسول الله وآله صبرا وأنت الذى سماه الله الفاسق

وسمى عليا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له اسكت يا على فأنا أشجع منك جنانا وأطول منك لسانا فقال لك على اسكت يا وليد فأنا مؤمن وأنت فاسق فأنزل الله تعالى فى موافقة قوله ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضا ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) ويحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر فيك وفيه
( أنزل الله والكتاب عزيز ... فى على وفى الوليد قرانا )
( فتبوأ الوليد إذ ذاك فسقا ... وعلى مبوأ إيمانا )
( ليس من كان مؤمنا عمرك الله ... كمن كان فاسقا خوانا )
( سوف يدعى الوليد بعد قليل ... وعلى إلى الحساب عيانا )
( فعلى يجزى بذاك جنانا ... ووليد يجزى بذاك هوانا )
( رب جد لعقبة بن أبان ... لابس في بلادنا تبانا )

وما أنت وقريش إنما أنت علج من أهل صفورية وأقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد وأسن ممن تدعى إليه
وأما أنت يا عتبة فوالله ما أنت بحصيف فأجيبك ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك وما عندك خير يرجى ولا شر يتقى وما عقلك وعقل أمتك إلا سواء وما يضر عليا لو سببته علي رؤوس الأشهاد وأما وعيدك إياى بالقتل فهلا قتلت اللحيانى إذ وجدته على فراشك أما تستحي من قول نصر بن حجاج فيك
( يا للرجال وحادث الأزمان ... ولسبة تخزى أبا سفيان )
( نبئت عتبة خانه في عرسه ... جنس لئيم الأصل من لحيان )
وبعد هذا ما أربأ بنفسى عن ذكره لفحشه فكيف يخاف أحد سيفك ولم تقتل فاضحك وكيف ألومك على بغض علي وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر وشرك حمزة في قتل جدك عتبة وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد
وأما أنت يا مغيرة فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة استمسكى فإنى طائرة عنك فقالت النخلة وهل علمت بك واقعة على فأعلم بك طائرة عنى والله ما نشعر بعداوتك إيانا ولا اغتممنا إذ علمنا بها ولا يشق علينا كلامك وإن حد الله في الزنا لثابت عليك ولقد درأ عمر عنك حقا الله سائله عنه ولقد سألت رسول الله وآله هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها فقال لا بأس بذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا لعلمه بأنك زان وأما

فخركم علينا بالإمارة فإن الله تعالى يقول ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا )
ثم قام الحسن فنفض ثوبه فانصرف فتعلق عمرو بن العاص بثوبه وقال يا أمير المؤمنين قد شهدت قوله فى وقذفه أمى بالزنا وأنا مطالب له بحد القذف
فقال معاوية خل عنه لا جزاك الله خيرا فتركه فقال معاوية قد أنبأتكم أنه ممن لا تطاق عارضته ونهيتكم أن تسبوه فعصيتمونى والله ما قام حتى أظلم على البيت قوموا عنى فلقد فضحكم الله وأخزاكم بترككم الحزم وعدولكم عن رأى الناصح المشفق والله المستعان
19 - رثاء محمد بن الحنفية لأخيه الحسن
لما مات الحسن بن على رضي الله عنهما أدخله قبره الحسين ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم ثم وقف محمد على قبره وقد اغرورقت عيناه وقال رحمك الله يا أبا محمد فلئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك ولنعم الروح روح تضمنه بدنك ولنعم الجسد جسد تضمنه كفنك ولنعم الكفن كفن تضمنه لحدك وكيف لا تكون كذلك وأنت سليل الهدى وخامس أصحاب الكساء وخلف

أهل التقوى وجدك النبى المصطفى وأبوك علي المرتضى وأمك فاطمة الزهراء

وعمك جعفر الطيار في جنة المأوى وغذتك أكف الحق وربيت في حجر الإسلام ورضعت ثدى الإيمان فطبت حيا وميتا فلئن كانت الأنفس غير طيبة لفراقك إنها غير شاكة أن قد خير لك وإنك وأخاك لسيدا شباب أهل الجنة فعليك أبا محمد منا السلام

مقتل الحسين بن على رضى الله عنه
تأبيه عن بيعة يزيد وخروجه إلي مكة
لما ولى الخلافة يزيد بن معاوية في هلال رجب سنة 60 ه كتب إلى أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان أن يأخذ الحسين وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة فبعث الوليد إلى الحسين رضي الله عنه ونعى له معاوية ودعاه الى البيعة فقال الحسين إن مثلى لا يعطى بيعته سرا ولا أراك تجتزئ بها منى سرا دون أن تظهرها على رءوس الناس علانية فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا فقال له الوليد وكان يحب العافية فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس
فلما كان من الغد بعث الرجال إلى الحسين عند المساء فقال أصبحوا ثم ترون ونرى فكفوا عنه تلك الليلة ولم يلحوا عليه فخرج الحسين من تحت ليلته ليومين بقيا من رجب سنة 60ه ومعه بنوه وإخوته وبنو أخيه وجل أهل بيته إلا محمد بن الحنفية فإنه قال له

20 - نصيحة محمد بن الحنفية للحسين رضى الله عنهما
يا أخى أنت أحب الناس إلى وأعزهم على ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك تنح بتبعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقض الله بذلك دينك ولا عقلك ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك إنى أخاف أن تدخل مصرا من هذه الأمصار وتأتى جماعة من الناس فيختلفوا بينهم فمنهم طائفة معك وأخرى عليك فيقتتلوا فتكون لأول الأسنة فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما أضيعها دما وأذلها أهلا
قال له الحسين فإنى ذاهب يا أخى قال فانزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلام يصير أمر الناس وتعرف عند ذلك الرأى فإنك أصوب ما يكون رأيا وأحزمه عملا حتى تستقبل الأمور استقبالا ولا تكون الأمور عليك أبدا أشكل منها حين تستدبرها استدبارا
قال يا أخى قد نصحت فأشفقت فأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا وسار إلى مكة فأتاه أهل الكوفة ورسلهم إنا قد حبسنا أنفسنا عليك ولسنا نحضر الجمعة مع الوالى فأقدم علينا وكان النعمان بن بشير الأنصارى على الكوفة

بعثه مسلم بن عقيل إلى الكوفة
فبعث الحسين إلى ابن عمه مسلم بن عقيل فقال له سر إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلى فإن كان حقا خرجنا إليهم فخرج مسلم إلى الكوفة ونزل دار المختار بن أبى عبيد وأقبلت الشيعة تختلف إليه فقرأ عليهم كتاب الحسين فأخذوا يبكون

21 - خطبة عابس بن أبى شبيب الشاكرى
فقام عابس بن أبى شبيب الشاكرى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإنى لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما فى أن فسهم وما أغرك منهم والله أحدثك عما أنا موطن نفسى عليه والله لأجيبنكم إذا دعوتم ولأقاتلن معكم عدوكم ولأضربن بسيفى دونكم حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلا ما عند الله
فقام حبيب بن مظاهر الفقعسى فقال رحمك الله قد قضيت ما فى نفسك بواجز من قولك ثم قال وأنا والله الذى لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه وقال غيرهما مثل قولهما
فبلغ ذلك النعمان بن بشير فخرج فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
22 - خطبة النعمان بن بشير
أما بعد فاتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فإن فيهما يهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال وكان حليما ناسكا يحب العافية قال إنى لا أقاتل من لم يقاتلنى ولا أثب على من لا يثب على ولا أشاتمكم ولا أتحرش بكم ولا آخذ بالقرفة ولا الظنة ولا التهمة ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لى ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم فوالله الذى لا إله غيره لأضربنكم بسيفى ما ثبت قائمه فى يدى ولو لم يكن لى منكم ناصر أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل
فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمى حليف بنى أمية فقال

إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم إن هذا الذى أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأى المستضعفين فقال أن أكون من المستضعفين فى طاعة الله أحب إلى من أن أكون من الأعزين فى معصية الله ثم نزل
وكتب عبد الله بن مسلم وغيره إلى يزيد أن يبعث إلى الكوفة رجلا قويا غير النعمان فبعث إلي عبيد الله بن زياد وكان على البصرة وضم إليه الكوفة فسار إليها فلما نزل القصر نودى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فخرج إليهم
23 - خطبة عبيد الله بن زياد
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن أمير المؤمنين أصلحه الله ولانى مصركم وثغركم وأمرنى بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وبالشدة على مريبكم وعاصيكم وأنا متبع فيكم أمره ومنفذ فيكم عهده فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر وسوطي وسيفى على من ترك أمرى وخالف عهدى فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ عنك لا الوعيد
ثم نزل فأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا وبلغ ذلك مسلم بن عقيل فخرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هانئ بن عروة المرادى لائذا به ونمى خبره إلى ابن زياد فبعث إلى هانئ فجاءه فأمره أن يأتيه بمسلم فقال لا والله لا أجيئك به أبدا أنا أجيئك بضيفى تقتله وطال بينهما اللجاج فى ذلك فضربه ابن زياد بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب ثم أمر بحبسه

24 - خطبة أخرى له
ولما ضرب عبيد الله هانئا وحبسه خشى أن يثب الناس به فخرج فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ولا تختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا إن أخاك من صدقك وقد أعذر من أنذر
وبلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب هانئ وحبسه فأمر أن ينادى فى أصحابه وكان قد بايعه من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا وأقبل نحو القصر فتحرز فيه ابن زياد وغلق الأبواب وبعث إلى الأشراف فجمعهم إليه ثم قال أشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة وأعلموهم فصول الجنود من الشأم إليهم
25 - خطبة كثير بن شهاب
فتكلم كثير بن شهاب أول الناس فقال أيها الناس الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ولا تعرضوا أنفسكم للقتل فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير عهدا لئن تممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء ويفرق مقاتلتكم فى مغازى أهل الشأم على غير طمع وأن يأخذ البرئ بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها

وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا فلما سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرقون وينصرفون عن ابن عقيل حتى أمسى وما معه إلا ثلاثون نفسا فخرج متوجها نحو أبواب كندة فبلغ الأبواب ومعه منهم عشرة ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان فمضى على وجهه فى أزقة الكوفة حتى انتهى إلى باب عجوز فسألها أن تؤويه فآوته فى دارها
26 - خطبة عبيد الله بن زياد
ولما انفضت جموع ابن عقيل خرج عبيد الله بن زياد إلى المسجد وأمر فنودى ألا برئت الذمة من رجل صلى العتمة إلا فى المسجد فلم يكن إلا ساعة حتى امتلأ من الناس فصلى بهم ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه فى داره ومن جاء به فله ديته اتقوا الله عباد الله والزموا طاعتكم وبيعتكم ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا
يا حصين بن نمير ثكلتك أمك إن صاح باب سكة من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل ولم تأتنى به وقد سلطتك على دور أهل الكوفة فابعث مراصدة على أفواه السكك وأصبح غدا واستبر الدور وجس خلالها حتى تأتينى بهذا الرجل ثم نزل
وأصبح ابن تلك العجوز التى آوت مسلما فدل على مكانه فبعث ابن زياد محمد بن الأشعث فى ستين أو سبعين رجلا فأتى به وأمر به فاصعد إلى أعلى القصر وضرب

عنقه فهوى رأسه إلى الأرض وأتبع جسده رأسه ثم أمر بهانئ بن عروة فأخرج إلى السوق فضربت عنقه
وكان مسلم حيث تحول إلي دار هانئ كتب إلى الحسين إنى قد بايعنى من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا فعجل الإقبال حين يأتيك كتابى فإن الناس كلهم معك ليس لهم فى آل معاوية رأى ولا هوى
فسار الحسين من مكة فى 8 من ذي الحجة سنة 60ه متوجها إلى الكوفة وهو لا يعلم بحال مسلم

خروج الحسين إلى الكوفة
27 - نصيحة ابن عباس له
ولما أجمع الحسين بن على رضى الله عنه المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس فقال يا بن عم إنك قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق فبين لى ما أنت صانع قال إنى قد أجمعت المسير فى أحد يومى هذين إن شاء الله تعالى فقال له ابن عباس فإنى أعيذك بالله من ذلك أخبرنى رحمك الله أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبى بلادهم فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك فقال له حسين وإنى أستخير الله وأنظر ما يكون
فخرج ابن عباس من عنده وأتاه ابن الزبير فحدثه ساعة ثم قال ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم ونحن أبناء المهاجرين وولاة هذا الأمر دونهم خبرنى ما تريد أن تصنع فقال الحسين والله لقد حدثت نفسى بإتيان الكوفة ولقد كتب إلى شيعتى بها وأشراف أهلها وأستخير الله فقال له ابن الزبير أما لو كان لى بها مثل شيعتك ما عدلت بها ثم إنه خشى أن يتهمه فقال أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم أردت هذا الأمر ها هنا ما خولف عليك إن شاء الله ثم قام فخرج من عنده فقال الحسين ها إن هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن

أخرج من الحجاز إلى العراق وقد علم أنه ليس له من الأمر معى شئ وأن الناس لم يعدلوه بى فود أنى خرجت منها لتخلو له
فلما كان من العشى أو من الغد أتى الحسين عبد الله بن العباس فقال يا بن عم إنى أتصبر ولا أصبر إنى أتخوف عليك فى هذه الوجه الهلاك والاستئصال إن أهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوهم ثم اقدم عليهم فإن أبيت إلا أن تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا وهى أرض عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس فى عزلة فتكتب إلى الناس وترسل وتبث دعاتك فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذى تحب فى عافية
فقال له الحسين يا بن عم إنى والله لأعلم أنك ناصح مشفق ولكنى قد أزمعت وأجمعت على المسير فقال له ابن عباس فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك فوالله إنى لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه ثم قال ابن عباس لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز والخروج منها وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك والله الذى لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع على وعليك الناس أطعتنى لفعلت ذلك ثم خرج ابن عباس من عنده فمر بعبد الله بن الزبير فقال قرت عينك يا بن الزبير ثم قال

( يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضى واصفرى )
( ونقرى ما شئت أن تنقرى ... )
هذا حسين يخرج إلى العراق وعليك بالحجاز
28 - نصيحة أبى بكر بن عبد الرحمن المخزومى له
ودخل أبو بكر عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على الحسين رضى الله عنه فقال يا بن عم إن الرحم يظائرنى عليك ولا أدرى كيف أنا في النصيحة لك فقال يا أبا بكر ما أنت ممن يستغش فقال أبو بكر كان أبوك أشد بأسا والناس له أرجى ومنه أسمع وعليه أجمع فسار إلى معاوية والناس مجتمعون عليه إلا أهل الشأم وهو أعز منه فخذلوه وتثاقلوا عنه حرصا على الدنيا وضنا بها فجرعوه الغيظ وخالفوه حتى صار إلى ما صار إليه من كرامة الله ورضوانه ثم صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا وقد شهدت ذلك كله ورأيته ثم

أنت تريد أن تسير إلى الذين عدوا على أبيك وأخيك تقاتل بهم أهل الشأم وأهل العراق ومن هو أعد منك وأقوى والناس منه أخوف وله أرجى فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطغوا الناس بالأموال وهم عبيد الدنيا فيقاتلك من قد وعدك أن ينصرك ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره فاذكر الله فى نفسك
فقال الحسين جزاك الله خيرا يا بن عم فقد أجهدك رأيك ومهما يقض الله يكن فقال وعند الله نحتسب أبا عبد الله
29 - خطبة عبيد الله بن زياد
ولما نمى إلى عبيد الله بن زياد خبر الكتاب الذى كتبه الحسين رضى الله عنه إلى أشراف البصرة يستنصرهم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فوالله ما تقرن بى الصعبة ولا يقعقع لى بالشنان وإنى لنكل لمن عادانى وسم لمن حاربنى انصف القارة من راماها
يأهل البصرة إن أمير المؤمنين ولانى الكوفة وأنا غاد إليها الغداة وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبى سفيان وإياكم والخلاف والإرجاف فو الذي لا إله غيره لئن بلغنى عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لى ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق
أنا ابن زياد أشبهته من بين من وطئ الحصى ولم ينتزعنى شبه خال ولا ابن عم

30 - خطبة للحسين رضى الله عنه
ولما بلغ عبيد الله بن زياد أمير الكوفة إقبال الحسين بعث الحصين بن نمير التميمى فأمره أن ينزل القادسية وأن يضع المسالح وقدم الحر بن يزيد التميمي بين يديه فى ألف فارس من القادسية فيستقبل حسينا وكان الحسين قد سبقه إلى ذى حسم ونزل به فسار إليه الحر حتى وقف هو وخيله مقابله فى حر الظهيرة وحضرت صلاة الظهر فخرج الحسين فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أيها الناس إنها معذرة إلى الله عز و جل وإليكم إنى لم آتكم حتى أتتنى كتبكم وقدمت على رسلكم أن اقدم علينا فإنه ليس لنا إمام لعل الله يجمعنا بك على الهدى فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فإن تعطونى ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمى كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذى أقبلت منه إليكم فسكتوا عنه ثم أقيمت الصلاة فقال الحسين للحر أتريد أن تصلى بأصحابك قال لا بل تصلى أنت ونصلى بصلاتك فصلى بهم الحسين
31 - خطبة أخرى له
فلما كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيئوا للرحيل ثم إنه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وصلى ثم سلم وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضي لله

ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير ما أتتنى كتبكم وقدمت به على رسلكم انصرفت عنكم
فقال له الحر إنا والله ما ندرى ما هذه الكتب التى تذكر فأخرج له الحسين خرجين مملوئين صحفا فنشرها بين أيديهم ثم سار الحسين فى أصحابه والحر يسايره
32 - خطبة أخري له
وقام الحسين رضى الله عنه بذى حسم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرت جدا فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن فى لقاء الله محقا فإنى لا أرى الموت إلا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما
33 - خطبة زهير بن القين البجلى
فقام زهير بن القين البجلى فقال لأصحابه تكلمون أم أتكلم قالوا لا بل تكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال

قد سمعنا هداك الله يا بن رسول الله مقالتك والله لو كانت الدنيا لنا باقية وكنا فيها مخلدين إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها فدعا له الحسين ثم قال له خيرا
34 - خطبة للحسين أيضا
وخطب الحسين أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة فحمد الله واثنى عليه ثم قال
أيها الناس إن رسول الله قال من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من غير وقد أتتني كتبكم وقدمت على رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني فإن تممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم وأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم فلكم في أسوة وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم والمغرور من اغتربكم فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

35 - خطبته ليلة قتله
وسير إليه ابن زياد عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة آلاف فعدل الحسين إلى كربلاء وكانت بينهما مقابلات غير مجدية فنهض عمر إليه عشية الخميس 9 من المحرم سنة 61ه فجمع الحسين أصحابه عند قرب المساء فقال أثنى على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ولم تجعلنا من المشركين
أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أولى ولا خيرا من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني جميعا خيرا ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا ألا وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم من ذمام هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فإن القوم إنما يطلبونني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري

36 - رد أهل بيته عليه
فقال له أهل بيته لم نفعل لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا فقال الحسين يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم اذهبوا قد أذنت لكم قالوا فما يقول الناس يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب معهم بسيف ولا ندري ما صنعوا لا والله لا نفعل ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك
37 - رد أصحابه
وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدى فقال أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولا أفارقك ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك
وقال سعد بن عبد الله الحنفي والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله فيك والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقي حمامي دونك فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا
وقال زهير بن القين والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك

وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد فقالوا والله لا نفارقك ولكن أنفسنا لك الفداء نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا فإذا نحن قتلنا كنا وفينا وقضينا ما علينا
38 - خطبته غداة يوم قتله
وخطب الحسين غداة اليوم الذي استشهد فيه فحمد الله وأثني عليه ثم قال يا عباد الله اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر فإن الدنيا لو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحق بالبقاء وأولى بالرضاء وأرضى بالقضاء غير أن الله تعالى خلق الدنيا للفناء فجديدها بال ونعيمها مضمحل وسرورها مكفهر والمنزل تلعة والدار قلعة فتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوا الله لعلكم تعلمون
39 - دعاؤه وقد صبحته الخيل
ولما صبحته الخيل رفع يديه فقال
اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو أنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك ففرجته وكشفته فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة

40 - خطبته وقد دنا منه القوم ولما دنا منه القوم دعا براحلته فركبها ثم نادى بأعلى صوته
أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلونى حتى أعظكم بما لحق لكم علي وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم على سبيل وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين
فلما سمع أخواته كلامه هذا صحن وبكين وبكى بناته فارتفعت أصواتهن فأرسل إليهن أخاه العباس بن على وعليا ابنه وقال لهما اسكتاهن فلعمري ليكثرن بكاؤهن
41 - خطبة أخرى
فلما سكتن حمد الله وأثنى عليه وذكر الله بما هو أهله وصلى على محمد وعلى ملائكته وأنبيائه ثم قال
أما بعد فانسبونى فانظروا من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلى وانتهاك حرمتى ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من عند الله أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبى أو ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمى أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أن رسول الله قال لى ولأخى

هذان سيدا شباب أهل الجنة فإن صدقتمونى بما أقول وهو الحق والله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ويضر به من اختلقه وإن كذبتمونى فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابر بن عبد الله الأنصارى أو أبا سعيد الخدرى أو سهل بن سعد الساعدى أو زيد بن أرقم أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لى ولأخى أفما فى هذا حاجز لكم عن سفك دمى
ثم قال فإن كنتم فى شك من هذا القول أفتشكون أثرا ما أنى ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبى غيرى منكم ولا من غيركم أنا ابن بنت نبيكم خاصة أخبرونى أتطلبوننى بقتيل منكم قتلته أو مال لكم استهلكته أو بقصاص من جراحة
فأخذوا لا يكلمونه فنادى يا شبث بن ربعى ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا لى أن قد أينعت الثمار واخضر الجناب وطمت الجمام وإنما تقدم على جند لك مجند فأقبل قالوا لم نفعل فقال سبحان الله بلى والله لقد فعلتم ثم قال أيها الناس إذ كرهتمونى فدعونى أنصرف عنكم إلى مأمنى من الأرض فقال له قيس بن الأشعث أو لا تنزل على حكم بنى عمك فإنهم لن يروك إلا ما تحب ولن يصل إليك منهم مكروه فقال له الحسين أنت أخو أخيك أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل لا والله لا أعطيهم بيدى إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد عباد الله إنى عذت بربى وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب فأقبلوا يزحفون نحوه

42 - خطبة زهير بن القين
فلما زحفوا قبله خرج إليهم زهير بن القين على فرس له ذنوب شاك فى السلاح فقال
يأهل الكوفة نذار لكم من عذاب الله نذار إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ونحن حتى الآن إخوة وعلى دين واحد وملة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف وأنتم للنصيحة منا أهل فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة وأنتم أمة إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد لينظر ما نحن وأنتم عاملون إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله ليسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدى وأصحابه وهانئ بن عروة وأشباهه

فسبوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما
فقال لهم عباد الله إن ولد فاطمة رضوان الله عليها أحق بالود والنصر من ابن سمية فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم فخلوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية فلعمرى إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين
فرماه شمر بن ذى الجوشن بسهم وقال اسكت أسكت الله نأمتك أبرمتنا بكثرة كلامك فقال له زهير يا بن البوال على عقبيه ما إياك أخاطب إنما أنت بهيمة والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين فأبشر بالخزى يوم القيامة والعذاب الأليم فقال له شمر إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة قال أفبالموت تخوفنى فوالله للموت معه أحب إلى من الخلد معكم
ثم أقبل على الناس رافعا صوته فقال عباد الله لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافى وأشباهه فوالله لا تنال شفاعة محمد قوما هراقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم
فناداه رجل فقال له إن أبا عبد الله يقول أقبل فلعمرى لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ فى الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ

43 - خطبة الحر بن يزيد
ولما زحف عمر بن سعد قال له الحر بن يزيد أصلحك الله مقاتل أنت هذا الرجل قال إى والله قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدى قال أفما لكم فى واحدة من الخصال التى عرض عليكم رضا قال عمر أما والله لو كان الأمر إلي لفعلت ولكن أميرك قد أبى ذلك
ثم ضرب الحر فرسه ولحق بالحسين عليه السلام وانحاز إليه واستقدم أمام أصحابه ثم قال أيها القوم ألا تقبلون من حسين خصلة من هذه الخصال التى عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله قالوا هذا الأمير عمر بن سعد فكلمه فكلمه بمثل ما كلمه به من قبل وبمثل ما كلم به أصحابه فقال عمر قد حرصت لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت
فقال يأهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه أمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه فى بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته وأصبح فى أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع ضرا وحلأتموه ونساءه وأصيبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجارى

الذي يشربه اليهودى والمجوسى والنصرانى وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه وها هم قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمدا فى ذريته لا أسقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه
ثم نشب القتال بين الفريقين واستمات أصحاب الحسين في القتال حتى فنوا وقتل الحسين رضوان الله عليه قتله سنان بن أنس وكان قتله بالطف يوم عاشوراء سنة 61ه وأمر ابن سعد أصحابه أن يوطئوا خيلهم الحسين فوطئوه بخيلهم ثم حمل النساء ورأسه إلى يزيد بن معاوية بدمشق

طلب التوابين بدم الحسين رضى الله عنه
وفى سنة خمس وستين تحركت الشيعة بالكوفة واتعدوا الاجتماع بالنخيلة للمسير إلى أهل الشام للطلب بدم الحسين بن على رضى الله عنهما وذلك أنهم بعد مقتله تلاقوا بالتلاوم والتندم ورأوا أنهم قد أخطئوا خطأ كبيرا بدعائهم إياه إلى النصرة وتركهم إجابته ومقتله إلى جانبهم لم ينصروه ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عنهم فى مقتله إلا بقتل من قتله أو القتل فيه وتابوا مما فرط منهم فى ذلك فسموا التوابين وفزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رءوس الشيعة إلى سليمان بن صرد الخزاعى وكانت له صحبة مع النبي والى المسيب بن نجبة الفزارى وإلى عبد الله بن سعد ابن نفيل الأزدى والى عبد الله بن وال التيمى وإلى رفاعة بن شداد البجلى ثم إن هؤلاء النفر اجتمعوا فى منزل سليمان بن صرد ومعهم أناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم فبدأ المسيب بن نجبة بالكلام فتكلم
44 - خطبة المسيب بن نجبة الفزارى
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال
أما بعد فإنا قد ابتلينا بطول العمر والتعرض لأنواع الفتن فنرغب إلى ربنا ألا يجعلنا ممن يقول له غدا ( أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ) فإن أمير المؤمنين قال العمر الذى أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة وليس فينا رجل إلا وقد بلغه وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا وتقريظ شيعتنا حتى

بلا الله أخيارنا فوجدنا كاذبين فى موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه وقدمت علينا رسله وأعذر إلينا يسألنا نصره عودا وبدءا وعلانية وسرا فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا لا نحن نصرناه بأيدينا ولا جادلنا عنه بألسنتنا ولا قويناه بأموالنا ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا فما عذرنا إلى ربنا وعند لقاء نبينا وقد قتل فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله لا والله لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه أو تقتلوا فى طلب ذلك فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن أيها القوم ولوا عليكم رجلا منكم فإنه لا بد لكم من أمير تفزعون إليه وراية تحفون بها أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم
فبدر القوم رفاعة بن شداد بعد المسيب الكلام
45 - خطبة رفاعة بن شداد
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبى ثم قال
أما بعد فإن الله قد هداك لأصوب القول ودعوت إلى أرشد الأمور بدأت بحمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه ودعوت إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم فمسموع منك مستجاب لك مقبول قولك قلت ولو أمركم رجلا منكم تفزعون إليه وتحفون برايته وذلك رأى قد رأينا مثل الذى رأيت فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيا وفينا متنصحا وفى جماعتنا محبا وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول الله وذا السابقة والقدم سليمان بن صرد المحمود فى بأسه ودينه والموثوق بحزمه أقول قولى هذا وأستغفر الله لي ولكم

ثم تكلم عبد الله بن وال وعبد الله بن سعد فحمدا ربهما وأثنيا عليه وتكلما بنحو من كلام رفاعة بن شداد فذكرا المسيب بن نجبة لفضله وذكرا سليمان ابن صرد بسابقته ورضاهما بتوليته فقال المسيب بن نجبة أصبتم ووفقتم وأنا أرى مثل الذى رأيتم فولوا أمركم سليمان بن صرد
46 - خطبة سليمان بن صرد
قال حميد بن مسلم والله إنى لشاهد بهذا اليوم يوم ولوا سليمان بن صرد وإنا يومئذ لأكثر من مائة رجل من فرسان الشيعة ووجوههم فى داره قال فتكلم سليمان فشدد وما زال يردد ذلك القول فى كل جمعة حتى حفظته بدأ فقال
أثنى على الله خيرا وأحمد آلاءه وبلاءه وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أما بعد فإنى والله لخائف ألا يكون أخرنا إلى هذا الدهر الذى نكدت فيه المعيشة وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أولى الفضل من هذه الشيعة لما هو خير إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا ونمنيهم النصر ونحثهم على القدوم فلما قدموا ونينا وعجزنا وأدهنا وتربصنا وانتظرنا ما يكون حتى قتل فينا ولدينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه إذ جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يعطاه اتخذه الفاسقون غرضا للنبل ودرية للرماح حتى أقصدوه وعدوا عليه فسلبوه ألا انهضوا فقد سخط ربكم ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله والله ما أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله أو تبيروا ألا لا تهابوا

الموت فوالله ما هابه امرؤ قط إلا ذل كونوا كالأولى من بنى إسرائيل إذ قال لهم نبيهم ( إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم ) فما فعل القوم جثوا على الركب والله ومدوا الأعناق ورضوا بالقضاء حتى حين علموا أنه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا الصبر على القتل فكيف بكم لو قد دعيتم إلى مثل ما دعى القوم إليه اشحذوا السيوف وركبوا الأسنة ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل حتى تدعوا وتستنفروا )
47 - خطبة خالد بن سعد بن نفيل
فقام خالد بن سعد بن نفيل فقال أما أنا فوالله لو أعلم أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضي عني ربي لقتلتها ولكن هذا أمر به قوم كانوا قبلنا ونهينا عنه فأشهد الله ومن حضر من المسلمين أن كل ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوي صدقة على المسلمين أقويهم به على قتال القاسطين
وقام أبو المعتمر حنش بن ربيعة الكناني فقال وأنا أشهدكم على مثل ذلك فقال سليمان بن صرد حسبكم من أراد من هذا شيئا فليأت بماله عبد الله بن وال التيمى تيم بكر بن وائل فإذا اجتمع عنده كل ما تريدون إخراجه من أموالكم جهزنا به ذوي الخلة والمسكنة من أشياعكم

48 - خطبة سعد بن حذيفة بن اليمان
وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان بالمدائن كتابا يستنهض فيه همم إخوانه هنالك ويدعوهم أن يجدوا ويستعدوا وضرب لهم غرة ربيع الآخر سنة 65 أجلا يلقونه فيه والنخيلة موطنا يوافونه إليه فبعث سعد إلى من كان بالمدائن من الشيعة فقرأ عليهم كتاب سليمان بن صرد ثم إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإنكم قد كنتم مجمعين مزمعين على نصر الحسين وقتال عدوه فلم يفجأكم أول من قتله والله مثيبكم على حسن النية وما أجمعتم عليه من النصر أحسن المثوبة وقد بعث إليكم إخوانكم يستنجدونكم ويستمدونكم ويدعونكم إلى الحق وإلى ما ترجون لكم به عند الله أفضل الأجر والحظ فماذا ترون وماذا تقولون فقال القوم بأجمعهم نجيبهم ونقاتل معهم ورأينا في ذلك مثل رأيهم
49 - خطبة عبد الله بن الحنظل الطائي
فقام عبد الله بن الحنظل الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإنا قد أجبنا إخواننا إلى ما دعونا إليه وقد رأينا مثل الذي قد رأوا فسرحني إليهم في الخيل
فقال له رويدا لا تعجل استعدوا للعدو وأعدوا له الحرب ثم نسير وتسيرون وكتب سعد إلى ابن صرد بإجابة دعوته وأنهم في انتظار أمره

50 - خطبة عبيد الله بن عبد الله المري
وحدث رجلا من مزينة قال ما رأيت من هذه الأمة أحدا كان أبلغ من عبيد الله بن عبد الله المري في منطق ولا عظة وكان من دعاة أهل المصر زمان سليمان ابن صرد وكان إذا اجتمعت إليه جماعة من الناس فوعظهم بدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ثم يقول أما بعد فإن الله اصطفي محمدا على خلقه بنبوته وخصه بالفضل كله وأعزكم باتباعه وأكرمكم بالإيمان به فحقن به دماءكم المسفوكة وآمن به سبلكم المخوفة ( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) فهل خلق ربكم في الأولين والآخرين أعظم حقا على هذه الأمة من نبيها وهل ذرية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقا علي هذه الأمة من ذرية رسولها لا والله ما كان ولا يكون لله أنتم ألم تروا ويبلغكم ما اجترم إلي ابن بنت نبيكم أما رأيتم إلى انتهاك القوم حرمته واستضعافهم وحدته وترميلهم إياه بالدم وتجرارهموه على الأرض لم يراقبوا فيه ربهم ولا قرابته من الرسول اتخذوه للنبل غرضا وغادروه للضباع جزرا فلله عينا من رأى مثله ولله حسين بن علي ماذا غادروا به ذا صدق وصبر وذا أمانة ونجدة وحزم ابن أول المسلمين إسلاما وابن بنت رسول رب العالمين قلت حماته وكثرت عداته حوله فقتله عدوه وخذله وليه فويل للقاتل وملامة للخاذل إن الله لم يجعل لقاتله حجة ولا لخاذله معذرة إلا أن يناصح لله في التوبة فيجاهد القاتلين وينابذ القاسطين فعسى الله عند ذلك أن يقبل التوبة ويقيل العثرة

إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل بيته وإلى جهاد المحلين والمارقين فإن قتلنا فما عند الله خير للأبرار وإن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهل بيت نبينا
قال وكان يعيد هذا الكلام علينا في كل يوم حتى حفظه عامتنا
وكان الشيعة بالكوفة منذ قتل الحسين رضي الله عنه سنة 61ه يجدون في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس في السر من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدمه حتى كثر تبعهم وكان الناس إلى اتباعهم بعد هلاك يزيد بن معاوية في 14 ربيع الأول سنة 64ه أسرع منهم قبل ذلك
وقدم المختار بن أبي عبيد الثقفي الكوفة في النصف من رمضان سنة 64 وقد اجتمعت رءوس الشيعة ووجوهها مع سليمان بن صرد فليس يعدلونه به فكان المختار إذا دعاهم إلى نفسه وإلى الطلب بدم الحسين قالت له الشيعة هذا سليمان ابن صرد شيخ الشيعة قد انقادوا له واجتمعوا عليه فأخذ يقول للشيعة إني قد جئتكم من قبل المهدي محمد بن علي ابن الحنفية مؤتمنا مأمونا منتجبا ووزيرا فما زال بهم حتى انشعبت إليه طائفة تعظمه وتجيبه وتنتظر أمره وعظم الشيعة مع سليمان بن صرد
وقدم عبد الله بن يزيد الأنصاري من قبل عبد الله بن الزبير أميرا علي الكوفة علي حربها وثغرها وقدم معه إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمى أميرا على خراجها وذلك بعد مقدم المختار بثمانية أيام وكان سليمان بن صرد وأصحابه يريدون أن يثبوا بالكوفة ونمى إلى عبد الله بن يزيد اعتزام الشيعة الخروج فخرج حتى صعد المنبر ثم قام فى الناس

51 - خطبة عبد الله بن يزيد الأنصاري
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أما بعد فقد بلغني أن طائفة من أهل هذا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا فسألت عن الذي دعاهم إلى ذلك ما هو فقيل لي زعموا أنهم يطلبون بدم الحسين بن علي فرحم الله هؤلاء القوم قد والله دللت على أماكنهم وأمرت بأخذهم وقيل ابدأهم قبل أن يبدءوك فأبيت ذلك فقلت إن قاتلوني قاتلتهم وإن تركوني لم أطلبهم وعلام يقاتلونني فوالله ما أنا قتلت حسينا ولا أنا ممن قاتله ولقد أصبت بمقتله رحمة الله عليه فإن هؤلاء القوم آمنون فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين ليسيروا إلى من قاتل الحسين فقد أقبل إليهم وانا لهم على قاتله ظهير هذا ابن زياد قاتل الحسين وقاتل خياركم وأماثلكم قد توجه إليكم عهد العاهد به على مسيرة ليلة من جسر منبج فقتاله والاستعداد له أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم فيقتل بعضكم بعضا ويسفك بعضكم دماء بعض فيلقاكم ذلك العدو غدا وقد رققتم وتلك والله أمنية عدوكم وإنه قد أقبل إليكم أعدى خلق الله لكم من ولي عليكم هو وأبوه سبع سنين لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين هو الذي قتلكم ومن قبله أتيتم والذي

قتل من تثأرون بدمه قد جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم واجعلوها به ولا تجعلوها بأنفسكم إني لم آلكم نصحا جمع الله لنا كلمتنا وأصلح لنا أئمتنا
52 - خطبة إبراهيم بن محمد بن طلحة
فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة أيها الناس لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هذا المداهن الموادع والله لئن خرج علينا خارج لنقتلنه ولئن استيقنا أن قوما يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده والمولود بوالده ولنأخذن الحميم بالحميم والعريف بما في عرافته حتى يدينوا للحق ويذلوا للطاعة
53 - رد المسيب بن نجبة
فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقه ثم قال يا بن الناكثين أنت تهددنا بسيفك وغشمك أنت والله أذل من ذلك إنا لا نلومك على بغضنا وقد قتلنا أباك وجدك والله إني لأرجو أن لا يخرجك الله من بين ظهراني أهل المصر حتى يثلثوا بك جدك وأباك وأما أنت أيها الأمير فقد

قلت قولا سديدا إني والله لأظن من يريد هذا الأمر مستنصحا لك وقابلا قولك
فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة إي والله ليقتلن وقد أدهن ثم أعلن
54 - رد عبد الله بن وال التيمي
فقام إليه عبد الله بن وال التيمي فقال ما اعتراضك يا أخا بني تيم بن مرة فيما بيننا وبين أميرنا فوالله ما أنت علينا بأمير ولا لك علينا سلطان إنما أنت أمير الجزية فأقبل على خراجك فلعمر الله لئن كنت مفسدا ما أفسد أمر هذه الأمة إلا والدك وجدك الناكثان فكانت بهما اليدان وكانت عليهما دائرة السوء
ثم أقبل المسيب بن نجبة وعبد الله بن وال على عبد الله بن يزيد فقالا أما رأيك أيها الأمير فوالله إنا لنرجو أن تكون به عند العامة محمودا وأن تكون عند الذي عنيت واعتريت مقبولا
ثم نزل عبد الله بن يزيد ودخل
فلما استهل هلال ربيع الآخر سنة 65 شخص سليمان بن صرد في وجوه أصحابه وقد كان وعد أصحابه عامة للخروج في تلك الليلة للمعسكر بالنخيلة وأقام بها ثلاثا يبعث ثقاته من أصحابه إلى من تخلف عنه يذكرهم الله وما أعطوه من أنفسهم فقام إليه المسيب ابن نجبة فقال رحمك الله إنه لا ينفعك الكاره ولا يقاتل معك إلا من أخرجته

النية فلا تنتظرن أحدا واكمش في أمرك قال فإنك والله لنعما رأيت فقام سليمان بن صرد في الناس متوكئا على قوس له عربية فقال
55 - خطبة سليمان بن صرد
أيها الناس من كان إنما أخرجته إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه فرحمة الله عليه حيا وميتا ومن كان إنما يريد الدنيا وحرثها فوالله ما نأتي فيئا نستفيئه ولا غنيمة نغنمها ما خلا رضوان الله رب العالمين وما معنا من ذهب ولا فضة ولا خز ولا حرير وما هو إلا سيوفنا في عواتقنا ورماحنا في أكفنا وزاد قدر البلغة إلى لقاء عدونا فمن كان غير هذا ينوي فلا يصحبنا
56 - خطبة صخير بن حذيفة بن هلال
فقام صخير بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني فقال آتاك الله رشدك ولقاك حجتك والله الذي لا إله غيره ما لنا خير في صحبة من الدنيا همته ونيته أيها الناس إنما أخرجتنا التوبة من ذنبنا والطلب بدم ابن ابنة نبينا ليس معنا دينار ولا درهم إنما نقدم على حد السيوف وأطراف الرماح
فتنادى الناس من كل جانب إنا لا نطلب الدنيا وليس لها خرجنا
57 - ما أشار به عبد الله بن سعد
وكان الرأي بادئ الأمر أن يسيروا إلى عبيد الله بن زياد فقال له عبد الله بن سعد وعنده رءوس أصحابه جلوس حوله

إني قد رأيت رأيا إن يكن صوابا فالله وفق وإن يكن ليس بصواب فمن قبلي فإني ما آلوكم ونفسي نصحا خطأ كان أم صوابا إنما خرجنا نطلب بدم الحسين وقتلة الحسين كلهم بالكوفة منهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ورءوس الأرباع وأشراف القبائل فأنى نذهب ها هنا وندع الأقتال والأوتار
فقال سليمان بن صرد فماذا ترون فقالوا والله لقد جاء برأي وإن ما ذكر لكما ذكر والله ما نلقى من قتلة الحسين إن نحن مضينا نحو الشأم غير ابن زياد وما طلبتنا إلا ها هنا بالمصر
58 - رأي ابن صرد
فقال سليمان بن صرد لكن أنا ما أرى ذلك لكم إن الذي قتل صاحبكم وعبى الجنود إليه وقال لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأمضي فيه حكمي هذا الفاسق ابن الفاسق ابن مرجانة عبيد الله بن زياد فسيروا إلى عدوكم على اسم الله فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون شوكة منه ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم في عافية فتنظرون إلى كل من شرك في دم الحسين فتقاتلونه ولا تغشموا وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين وما عند الله خير للأبرار والصديقين إني لأحب أن تجعلوا حدكم وشوكتكم بأول المحلين القاسطين والله

لو قاتلتم غدا أهل مصركم ما عدم رجل أن يرى رجلا قد قتل أخاه وأباه وحميمه أو رجلا لم يكن يريد قتله فاستخيروا الله وسيروا فتهيأ الناس للشخوص
وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد وأصحابه فرأيا أن يأتياهم فخرجا إليهم في جماعة من أصحابهما فلما انتهيا إلى ابن صرد دخلا عليه
59 - خطبة عبد الله بن يزيد
فحمد الله عبد بن يزيد وأثنى عليه ثم قال إن المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يغشه وأنتم إخواننا وأهل بلدنا وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا فلا تفجعونا بأنفسكم ولا تستبدوا علينا برأيكم ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا أقيموا معنا حتى نتيسر ونتهيأ فإذا علمنا أن عدونا قد شارف بلدنا خرجنا إليهم بجماعتنا فقاتلناهم
وتكلم إبراهيم بن محمد بنحو من هذا الكلام
60 - خطبة سليمان بن صرد
فحمد الله وأثني عليه ثم قال لهما
إني قد علمت أنكما قد محضتما في النصيحة واجتهدتما في المشورة فنحن بالله وله وقد خرجنا لأمر ونحن نسأل الله العزيمة على الرشد والتسديد لأصوبه ولا ترانا إ لا شاخصين إن شاء الله ذلك
فقال عبد الله بن يزيد فاقيموا حتى نعبي معكم جيشا كثيفا فتلقوا عدوكم

بكثف وجمع وحد فقال له سليمان تنصرفون ونرى فيما بيننا وسيأتيكم إن شاء الله رأي
وانصرف عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد إلى الكوفة وأجمع القوم على الشخوص واستقبال ابن زياد
61 - خطبة أخرى له
ثم إن سليمان بن صرد قام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فإن الله قد علم ما تنوون وما خرجتم تطلبون وإن للدنيا تجارا وللآخرة تجارا فأما تاجر الآخرة فساع إليها متنصب بتطلابها لا يشتري بها ثمنا لا يرى إلا قائما وقاعدا وراكعا وساجدا لا يطلب ذهبا ولا فضة ولا دينا ولا لذة وأما تاجر الدنيا فمكب عليها راتع فيها لا يبتغي بها بدلا فعليكم يرحمكم الله في وجهكم هذا بطول الصلاة في جوف الليل وبذكر الله كثيرا على كل حال وتقربوا إلى الله جل ذكره بكل خير قد رتم عليه حتى تلقوا هذا العدو والمحل القاسط فتجاهدوه فإنكم لن تتوسلوا إلى ربكم بشيء هو أعظم عنده ثوابا من الجهاد والصلاة فإن الجهاد سنام العمل جعلنا الله وإياكم من العباد الصالحين المجاهدين الصابرين على اللأواء وإنا مدلجون الليلة من منزلنا هذا إن شاء الله فأدلجوا
فأدلج عشية الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة 65للهجرة وما زال يسير حتى انتهى إلى عين الوردة فنزل في غربيها

62 - خطبة أخرى
وأقبل أهل الشأم في عساكرهم حتى كانوا منها على مسيرة يوم وليلة قال عبد الله ابن غزية فقام فينا سليمان فحمد الله فأطال وأثنى عليه فأطنب ثم ذكر السماء والأرض والجبال والبحار وما فيهن من الآيات وذكر آلاء الله ونعمه وذكر الدنيا فزهد فيها وذكر الآخرة فرغب فيها فذكر من هذا ما لم أحصه ولم أقدر على حفظه ثم قال أما بعد فقد أتاكم الله بعدوكم الذي دأبتم في المسير إليه آناء الليل والنهار تريدون فيما تظهرون التوبة النصوح ولقاء الله معذرين فقد جاءوكم بل جئتموهم أنتم في دارهم وحيزهم فإذا لقيتموهم فاصدقوهم واصبروا إن الله مع الصابرين ولا يوليهم امرؤ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة لا تقتلوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيرا من أهل دعوتكم إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه أو يكون من قتلة إخواننا بالطف رحمة الله عليهم فإن هذه كانت سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في أهل هذه الدعوة
ودارت رحى الحرب بينهم وبين جيوش عبيد الله بن زياد واستشهد في المعركة سليمان بن صرد بعد أن قتل من القوم مقتلة عظيمة وقتل أيضا من رءوس أصحابه المسيب بن نجبة وعبد الله بن سعد بن نفيل وعبد الله بن وال فلما رأى من بقي

من التوابين أن لا طاقة لهم بمن بإزائهم من أهل الشأم انحازوا عنهم وارتحلوا وعليهم رفاعة بن شداد البجلي
وكان ذلك في ربيع الآخر سنة 65ه
63 - خطبة عبد الملك بن مروان
وأتى عبد الملك بن مروان ببشارة الفتح فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله قد أهلك من رءوس أهل العراق ملقح فتنة ورأس ضلالة سليمان بن صرد ألا وإن السيوف تركت رأس المسيب بن نجبة خذاريف ألا وقد قتل من رءوسهم رأسين عظيمين ضالين مضلين عبد الله بن سعد أخا الأزد وعبد الله بن وال أخا بكر بن وائل فلم يبق بعد هؤلاء أحد عنده دفاع ولا امتناع

طلب المختار بن أبي عبيد الثقفي بدم الحسين رضي الله عنه
64 - خطبته حين قدم الكوفة
وقدم المختار بن أبي عبيد الثقفي الكوفة في النصف من رمضان سنة 64ه فأتاه بعض الشيعة ليلا فساءلهم عن أمر الناس وعن حال الشيعة فقالوا له إن الشيعة قد اجتمعت لسليمان بن صرد الخزاعي وإنه لن يلبث إلا يسيرا حتى يخرج
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال

أما بعد فإن المهدي بن الوصي محمد بن علي بعثنى إليكم أمينا ووزيرا ومنتجبا وأميرا وأمرني بقتال الملحدين والطلب بدماء أهل بيته والدفع عن الضعفاء
واقبل يبعث إلى الشيعة فيقول لهم إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر ومعدن الفضل ووصي الوصي والإمام المهدي بأمر فيه الشفاء وكشف الغطاء وقتل الأعداء وتمام النعماء إن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو عشمة من العشم وحفش بال ليس بذي تجربة للأمور ولا له علم بالحروب إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم إني إنما أعمل على مثال قد مثل لي وأمر قد بين لي فيه عز وليكم وقتل عدوكم وشفاء صدوركم فاسمعوا مني قولي وأطيعوا أمري ثم أبشروا وتباشروا فإنى لكم بكل ما تأملون خير زعيم
فما زال بهذا القول ونحوه حتى استمال طائفة من الشيعة وعظمهم يومئذ مع سليمان بن صرد فلما خرج ابن صرد نحو الجزيرة خاف عبد الله بن يزيد الأنصارى أمير الكوفة من قبل ابن الزبير أن يثب المختار عليه فزجه في السجن
65 - ما كان يردده على زائريه في سجنه
وكان يردد على زائريه في سجنه هذا القول أما ورب البحار والنخيل والأشجار والمهامة والقفار والملائكة الأبرار

والمصطفين الأخيار لأقتلن كل جبار بكل لدن خطار ومهند بتار في جموع من الأنصار ليسوا بميل أغمار ولا بعزل أشرار حتى إذا أقمت عمود الدين ورأيت شعب صدع المسلمين وشفيت غليل صدور المؤمنين وأدركت بثأر النبيين لم يكبر على زوال الدنيا ولم أحفل بالموت إذا أتى
ثم خلى عبد الله بن يزيد سبيله بشفاعة عبد الله بن عمر فيه واختلفت إليه الشيعة بعد خروجه من السجن واجتمعت عليه واتفق رأيها علي الرضا به ولم يزل أصحابه يكثرون وأمره يقوى ويشتد حتى عزل ابن الزبير عبد الله بن يزيد عن الكوفة وولى عليها عبد الله بن مطيع العدوى
66 - خطبة عبد الله بن مطيع العدوى حين قدم الكوفة
وقدم عبد الله بن مطيع العدوى الكوفة لخمس بقين من رمضان سنة 65 فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال أما بعد فإن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بعثنى على مصركم وثغوركم وأمرني بجباية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلا برضا منكم ووصية عمر بن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته وبسيرة عثمان بن عفان التي سار بها في المسلمين فاتقوا الله واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم وإلا تفعلوا

فلوموا أنفسكم ولا تلوموني فوالله لأوقعن بالسقيم العاصي ولأقيمن دارأ الأصعر المرتاب
67 - رد السائب بن مالك الأشعرى عليه
فقام إليه السائب بن مالك الأشعري وهو من رءوس أصحاب المختار فقال أما أمر ابن الزبير إياك ألا تحمل فضل فيئنا عنا إلا برضانا فإنا نشهدك أنا لا نرضى أن تحمل فضل فيئنا عنا وأن لا يقسم إلا فينا وأن لا يسار فينا إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك رحمة الله عليه ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا فإنها إنما كانت أثرة وهوى ولا في سيرة عمر بن الخطاب في فيئنا وإن كانت أهون السيرتين علينا ضرا وقد كان لا يألو الناس خيرا
فقال يزيد بن أنس الأسدى صدق السائب بن مالك وبر رأينا مثل رأيه وقولنا مثل قوله فقال ابن مطيع نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها وهويتموها ثم نزل فقال يزيد بن أنس ذهبت بفضلها يا سائب لا يعدمك المسلمون

68 - خطبة عبد الرحمن بن شريح
وبعث المختار إلى أصحابه فأخذ يجمعهم في الدور حوله وأراد أن يثب بالكوفة في المحرم فجاء رجل منهم يقال له عبد الرحمن بن شريح فلقي جماعة من إخوانه واجتمعوا في منزل أحدهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن المختار يريد أن يخرج بنا وقد بايعناه ولا ندري أرسله إلينا ابن الحنفية أم لا فانهضوا بنا إلى ابن الحنفية فلنخبره بما قدم علينا به وبما دعانا إليه فإن رخص لنا في اتباعه اتبعناه وإن نهانا عنه اجتنبناه فوالله ما ينبغي أن يكون شيء من أمر الدنيا آثر عندنا من سلامة ديننا
فقالوا له أرشدك الله فقد أصبت ووفقت اخرج بنا إذا شئت فأجمع رأيهم على أن يخرجوا إليه فلما قدموا عليه بدأ عبد الرحمن بن شريح فتكلم
69 - خطبة أخرى له
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أما بعد فإنكم أهل بيت خصكم الله بالفضيلة وشرفكم بالنبوة وعظم حقكم علي هذه الأمة فلا يجهل حقكم على هذه الأمة فلا يجهل حقكم إلا مغبون الرأي مخسوس النصيب قد أصبتم بحسين رحمة الله عليه عظمت مصيبة ما قد خصكم بها فقد عم بها المسلمون وقد قدم علينا المختار بن أبي عبيد يزعم لنا أنه قد جاءنا من تلقائكم وقد دعانا إلى كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل البيت والدفع عن الضعفاء فبايعناه على ذلك ثم إنا رأينا أن نأتيك فنذكر لك ما دعانا إليه وندبنا له فإن أمرتنا باتباعه اتبعناه وإن نهيتنا عنه اجتنبناه

ثم تكلموا واحدا واحدا بنحو مما تكلم به صاحبهم وهو يسمع حتى إذا فرغوا
70 - خطبة محمد بن الحنفية
حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبى ثم قال أما بعد فأما ما ذكرتم مما خصصنا الله به من فضل فإن الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فلله الحمد وأما ما ذكرتم من مصيبتنا بحسين فإن ذلك كان في الذكر الحكيم وهي ملحمة كتبت عليه وكرامة أهداها الله له رفع بما كان منها درجات قوم عنده ووضع بها آخرين وكان أمر الله مفعولا وكان أمر الله قدرا مقدورا وأما ما ذكرتم من دعاء من دعاكم إلى الطلب بدمائنا فوالله لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم
فخرجوا من عنده وهم يقولون قد أذن لنا قد قال لوددت أن الله انتصر لنا من عدونا بمن شاء من خلقه ولو كره لقال لا تفعلوا
71 - خطبة المختار
وبلغ المختار مخرجهم فشق ذلك عليه وخشي أن يأتوه بأمر يخذل الشيعة عنه فكان يقول إن نفيرا منكم ارتابوا وتحيروا وخابوا فإن هم أصابوا أقبلوا وأنابوا وإن هم

كبوا وهابوا واعترضوا وانجابوا فقد ثبروا وحابوا وأقبل القوم فدخلوا على المختار فقال لهم ما وراءكم قد فتنتم وارتبتم فقالوا له قد أمرنا بنصرتك فقال الله أكبر أنا أبو إسحق اجمعوا إلى الشيعة فجمع له منهم من كان منه قريبا فقال يا معشر الشيعة إن نفرا منكم أحبوا أن يعلموا مصداق ما جئت به فرحلوا إلى إمام الهدى والنجيب المرتضي ابن خير من طشي ومشي حاشا النبي المجتبي فسألوه عما قدمت به عليكم فنبأهم أني وزيره وظهيره ورسوله وخليله وأمركم باتباعي وطاعتي فيما دعوتكم إليه من قتال المحلين والطلب بدماء أهل بين نبيكم المصطفين
72 - خطبة عبد الرحمن بن شريح
فقام عبد الرحمن بن شريح فحمد الله وأثني عليه ثم قال أما بعد يا معشر الشيعة فإنا قد كنا أحببنا أن نستثبت لأنفسنا خاصة ولجميع إخواننا عامة فقدمنا علي المهدى بن علي فسألناه عن حربنا هذه وعما دعانا إليه المختار فيها فأمرنا بمظاهرته وموازرته وإجابته إلى ما دعانا إليه فأقبلنا طيبة أنفسنا

منشرحة صدورنا قد أذهب الله منها الشك والغل والريب واستقامت لنا بصيرتنا في قتالنا عدونا فليبلغ ذلك شاهدكم غائبكم واستعدوا وتأهبوا ثم جلس
وقاموا رجلا فرجلا فتكلموا بنحو من كلامه فاستجمعت له الشيعة وحدبت عليه
73 - خطبة المختار في دار إبراهيم بن الأشتر
ومضى المختار في بضعة عشر رجلا من وجوه أصحابه إلى دار إبراهيم بن الأشتر يدعوه أن يناصره فاستأذن عليه فأذن له وألقى لأصحابه وسائد فجلسوا عليها وجلس المختار معه على فراشه فقال المختار الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله و أما بعد فإن هذا كتاب إليك من المهدي محمد بن أمير المؤمنين الوصي وهو خير أهل الأرض اليوم وابن خير أهل الأرض كلها قبل اليوم بعد أنبياء الله ورسله وهو يسألك أن تنصرنا وتوازرنا فإن فعلت اغتبطت وإن لم تفعل فهذا الكتاب حجة عليك وسيغني الله المهدي محمدا وأولياءه عنك فبايعه إبراهيم

وجعل المختار وأصحابه يديرون أمورهم حتى اجتمع رأيهم على أن يخرجوا ليلة الخميس لأربع عشرة من ربيع الأول سنة 66 فثاروا بالكوفة ونشب القتال بينهم وبين جند ابن مطيع
74 - خطبة يزيد بن أنس الأسدى
ولما حملت خيل ابن مطيع على أصحاب المختار خطبهم يزيد بن أنس الأسدي محرضا فقال يا معشر الشيعة قد كنتم تقتلون وتقطع أيديكم وأرجلكم وتسمل أعينكم وترفعون على جذوع النخل في حب أهل بيت نبيكم وأنتم مقيمون في بيوتكم وطاعة عدوكم فما ظنكم بهؤلاء القوم إن ظهروا عليكم اليوم إذن والله لا يدعون منكم عينا تطرف وليقتلنكم صبرا ولترون منهم في أولادكم وأزواجكم وأموالكم ما الموت خير منه والله لا ينجيكم منه إلا الصدق والصبر والطعن الصائب في أعينهم والضرب الدراك على هامهم فتيسروا للشدة وتهيئوا للحملة فإذا حركت رايتي مرتين فاحملوا
75 - خطبة عبد الله بن مطيع
وحمل أصحاب المختار على جند ابن مطيع فكشفوهم وهزموهم فخرج ابن مطيع فقام في الناس فحمد الله وأثني عليه ثم قال

أيها الناس إن من أعجب العجب عجزكم عن عصبة منكم قليل عددها خبيث دينها ضالة مضلة اخرجوا إليهم فامنعوا منهم حريمكم وقاتلوهم عن مصركم وامنعوا منهم فيئكم وإلا ليشاركنكم في فيئكم من لا حق له فيه والله لقد بلغني أن فيهم خمسمائة رجل من محرريكم عليهم أمير منهم وإنما ذهاب عزكم وسلطانكم وتغير دينكم حين يكثرون ثم نزل
76 - تحريض ابن الأشتر أصحابه
واستنفر ابن مطيع الناس لقتال المختار وصده وأقبل ابراهيم بن الأشتر في أصحابه فقال لهم قربوا خيولكم بعضها إلى بعض ثم امشوا إليهم مصلتين السيوف ولا يهولنكم أن يقال جاءكم شبث بن ربعي وآل عتيبة بن النهاس وآل الأشعث وآل يزيد بن الحارث وآل فلان فسمي بيوتات من بيوتات أهل الكوفة ثم قال إن هؤلاء لو قد وجدوا بهم حر السيوف قد انصفقوا عن ابن مطيع انصفاق المعزي عن الذئب ثم قال لأصحابه شدوا عليهم فدا لكم عمي وخالي
فما لبثهم أن هزمهم فركب بعضهم بعضا ومضي بأصحابه في آثارهم حتى دخلوا السوق والمسجد وحصروا ابن مطيع ثلاثا 77 خطبة ابن مطيع وهو محصور
فلما اشتد الحصار علي ابن مطيع وأصحابه أشار عليه شبث بن ربعي أن يخرج من القصر لا يشعر به أحد حتى ينزل منزلأ بالكوفة عند من يستنصحه ويثق به ولا يعلم بمكانه إلى أن يخرج فيلحق بصاحبه ابن الزبير

وفي مساء اليوم الثالث دعا ابن مطيع أصحابه فذكر الله بما هو أهله وصلى على نبيه وقال أما بعد فقد علمت الذين صنعوا هذا منكم من هم وقد علمت إنما هم أراذلكم وسفهاؤكم وطغامكم وأخساؤكم ما عدا الرجل أو الرجلين وأن أشرافكم وأهل الفضل منكم لم يزالوا سامعين مطيعين مناصحين وأنا مبلغ ذلك صاحبي ومعلمه طاعتكم وجهادكم عدوه حتى كان الله الغالب على أمره وقد كان من رأيكم وما أشرتم به على ما قد علمتم وقد رأيت أن أخرج الساعة
فقال له شبث جزاك الله من أمير خيرا فقد والله عففت عن أموالنا وأكرمت أشرافنا ونصحت لصاحبك وقضيت الذي عليك والله ما كنا لنفارقك أبدا إلا ونحن منك في إذن فقال جزاكم الله خيرا ثم خرج وخلي القصر وفتح أصحابه الباب فقالوا يا بن الأشتر آمنون نحن قال أنتم آمنون فخرجوا فبايعوا المختار
78 - خطبة المختار بعد هرب ابن مطيع
وجاء المختار حتى دخل القصر فبات به وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر وخرج المختار فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه فقال أحمد لله الذي وعد وليه النصر وعدوه الخسر وجعله فيه إلى آخر الدهر وعدا مفعولا وقضاء مقضيا وقد خاب من افترى أيها الناس إنه رفعت لنا راية ومدت لنا غاية فقيل لنا في الراية أن ارفعوها ولا تضعوها وفي الغاية أن اجروا إليها ولا تعدوها فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي فكم من ناعى وناعية لقتلي

في الواعية وبعدا لمن طغى وأدبر وعصى وكذب وتولى ألا فأدخلوا أيها الناس فبايعوا بيعة هدى فلا والذي جعل السماء سقفا مكفوفا والأرض فجاجا سبلا ما بايعتم بعد بيعة علي بن أبي طالب وآل علي أهدى منها
ثم نزل ودخل عليه أشراف الناس فبسط يده وابتدره الناس فبايعوه وجعل يقول تبايعونني على كتاب الله وسنة نبيه والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا والوفاء ببيعتنا لا نقيلكم ولا نستقيلكم فإذا قال الرجل نعم بايعه
ثم وثب المختار بمن كان بالكوفة من قتلة الحسين رضي الله عنه والمشايعين على قتله فقتل من قدر عليه منهم وهرب من الكوفة بعضهم فلم يقدر عليه وكان ممن قتلهم عمر بن سعد بن أبي وقاص وابنه وبعث برأسيهما إلى محمد بن الحنفية
79 - خطبة المختار وقد استنصره ابن الحنفية
ولما كتب محمد بن الحنفية رضي الله عنه إلى المختار يعلمه بما ناله هو ومن معه من ابن الزبير من سجنهم وتوعدهم بالقتل والتحريق بالنار إن لم يبايعوا له نادى المختار في الناس وقرأ عليهم الكتاب وقال

هذا كتاب مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم وقد تركوا محظورا عليهم كما يحظر علي الغنم ينتظرون القتل والتحريق بالنار في آناء الليل وتارات النهار ولست أبا إسحاق إن لم أنصرهم نصرا مؤزرا وإن لم أسرب إليهم الخيل في إثر الخيل كالسيل يتلوه السيل حتى يحل بابن الكاهلية الويل

80 - خطبته وقد شيع ابن الأشتر لقتال عبيد الله بن زياد
وخرج يشيع إبراهيم بن الأشتر حين شخص لقتال عبيد الله بن زياد فقال للناس

إن استقمتم فبنصر الله وإن حصتم حيصة فإني أجد في محكم الكتاب وفي اليقين والصواب أن الله مؤيدكم بملائكة غضاب تأتي في صور الحمام دوين السحاب
81 - خطبته وقد سار إليه مصعب بن الزبير
ولما بلغ المختار مسير مصعب بن الزبير إليه من البصرة قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
يأهل الكوفة يأهل الدين وأعوان الحق وأنصار الضعيف وشيعة الرسول وآل الرسول إن فراركم الذين بغوا عليكم أتوا أشباههم من الفاسقين فاستغووهم عليكم ليمصح الحق وينتعش الباطل ويقتل أولياء الله والله لو تهلكون ما عبد الله في الأرض إلا بالفري على الله واللعن لأهل بيت نبيه

انتدبوا مع أحمر بن شميط فإنكم لو قد لقيتموهم لقد قتلتموهم إن شاء الله قتل عاد وإرم
وتزاحف الجندان وانهزم أصحاب المختار وقتل في رمضان سنة 67

خطبة محمد بن الحنفية يرد على عبد الله بن الزبير وقد تنقص الإمام
خطب ابن الزبير فنال من الإمام علي كرم الله وجهه فبلغ ذلك ابنه محمد ابن الحنفية رضي الله عنه فأقبل حتى وضع له كرسي قدامه فعلاه وقال يا معشر قريش شاهت الوجوه أينتقص علي وأنتم حضور إن عليا كان سهما صادقا أحد مرامي الله على أعدائه يقتلهم لكفرهم ويهوعهم مآكلهم فثقل عليهم فرموه بصرفة الأباطيل وإنا معشر له على نهج من أمره بنو الحسبة من الأنصار فإن تكن لنا الأيام دولة ننثر عظامهم ونحسر

عن أجسادهم والأبدان يومئذ بالية ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون )
فعاد ابن الزبير إلى خطبته وقال عذرت بني الفواطم يتكلمون فما بال بني الحنفية فقال محمد يا بن أم رومان ومالي لا أتكلم أليست فاطمة بنت محمد حليلة أبي وأم إخوتي أو ليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدتي أو ليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدة أبي أما والله لولا خديجة بنت خويلد ما تركت في بني أسد عظما إلا هشمته وإن نالتني فيه المصائب صبرت
83 - عبد الله بن عباس ومعاوية
ودخل عبد الله بن عباس على معاوية وعنده وجوه قريش فلما سلم وجلس قال له معاوية إني أريد أن أسألك عن مسائل قال سل عما بدا لك قال ما تقول في أبي بكر قال رحم الله أبا بكر كان والله للقرآن تاليا وعن المنكر ناهيا وبذنبه عارفا ومن الله خائفا وعن الشبهات زاجرا وبالمعروف آمرا وبالليل قائما وبالنهار صائما فاق أصحابه ورعا وكفافا وسادهم زهدا وعفافا فغضب الله على من أبغضه وطعن عليه قال معاوية إيها يا بن عباس فما تقول في عمر بن الخطاب قال رحم الله أبا حفص عمر كان والله حليف الإسلام

ومأوي الأيتام ومنتهى الإحسان ومحل الإيمان وكهف الضعفاء ومعقل الحنفاء قام بحق الله عز و جل صابرا محتسبا حتى أوضح الدين وفتح البلاد وأمن العباد فأعقب الله على من ينقصه اللعنة إلي يوم الدين قال فما تقول في عثمان قال رحم الله أبا عمرو كان والله أكرم الجعدة وأفضل البررة هجادا بالأسحار كثير الدموع عند ذكر النار نهاضا عند كل مكرمة سباقا إلى كل منحة حييا أبيا وفيا صاحب جيش العسرة وختن رسول الله وآله فأعقب الله على من يلعنه لعنة اللاعنين إلى يوم الدين قال فما تقول في علي قال رضي الله عن أبي الحسن كان والله علم الهدى وكهف التقى ومحمل الحجا وبحر الندى وطود النهى وكهف العلا للورى داعيا إلى المحجة متمسكا بالعروة الوثقى خير من آمن واتقى وأفضل من تقمص وارتدى وأبر من انتعل وسعى وأفصح من تنفس وقرا وأكثر من شهد النجوى سوى الأنبياء والنبي المصطفي صاحب القبلتين فهل يوازيه أحد وأبو السبطين فهل يقارنه بشر وزوج خير النسوان فهل يفوقه قاطن بلد للأسود قتال وفي الحروب ختال لم تر عيني مثله ولن ترى فعلى من انتقصه

لعنة الله والعباد إلى يوم التناد قال إيها يا بن عباس لقد أكثرت في ابن عمك قال فما تقول في أبيك العباس قال رحم الله العباس أبا الفضل كان صنو نبي الله وقرة عين صفي الله سيد الأعمام له أخلاق آبائه الأجواد وأحلام أجداده الأمجاد تباعدت الأسباب في فضيلته صاحب البيت والسقاية والمشاعر والتلاوة ولم لا يكون كذلك وقد ساسه أكرم من دب فقال معاوية يا بن عباس أنا أعلم أنك كلماني أهل بيتك قال ولم لا أكون كذلك وقد قال رسول الله اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل
ثم قال ابن عباس بعد هذا الكلام يا معاوية إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص محمدا بصحابة آثروه على الأنفس والأموال وبذلوا النفوس دونه في كل حال ووصفهم الله في كتابه فقال ( رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه وظهرت آلاء الله واستقر دينه ووضحت أعلامه وأذل الله بهم الشرك وأزال روحه ومحا دعائمه وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية والأرواح الطاهرة العالية فقد كانوا في الحياة لله أولياء وكانوا بعد الموت أحياء أصحاء رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها فقطع عليه معاوية الكلام وقال إيها ابن عباس حديثا في غير هذا

عبد الله بن عباس ومعاوية أيضا
اجتمعت قريش الشام والحجاز عند معاوية وفيهم عبد الله بن عباس وكان جريئا على معاوية حقارا له فبلغه عنه بعض ما غمه فقال معاوية
84 - مقال معاوية
رحم الله أبا سفيان والعباس كانا صفيين دون الناس فحفظت الميت في الحي والحي في الميت استعملك علي يا بن عباس علي البصرة واستعمل عبيد الله أخاك على اليمن واستعمل أخاك علي المدينة فلما كان من الأمر ما كان هنأتكم ما في أيديكم ولم أكشفكم عما وعت غرائركم وقلت آخذ اليوم وأعطي غدا مثله وعلمت أن بدء اللؤم يضر بعاقبة الكرم ولو شئت لأخذت بحلاقيمكم وقيأتكم ما أكلتم لا يزال يبلغني عنكم ما تبرك له الإبل وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم خذلتم عثمان بالمدينة وقتلتم أنصاره يوم الجمل وحاربتموني بصفين ولعمري لبنو تيم وعدي أعظم ذنوبا منا إليكم إذ صرفوا عنكم هذا الأمر وسنوا فيكم هذه السنة فحتى متى أغضي الجفون على القذى وأسحب الذيول على الأذى وأقول لعل الله وعسى ما تقول يا بن عباس

85 - مقال ابن عباس
فتكلم ابن عباس فقال
رحم الله أبانا وأباك كانا صفيين متفاوضين لم يكن لأبي من مال إلا ما فضل لأبيك وكان أبوك كذلك لأبي ولكن من هنأ أباك بإخاء أبي أكثر ممن هنأ أبي بإخاء أبيك نصر أبي أباك في الجاهلية وحقن دمه في الإسلام وأما استعمال علي إيانا فلنفسه دون هواه وقد استعملت أنت رجالا لهواك لا لنفسك منهم ابن الحضرمى علي البصرة فقتل وبسر بن أرطاة على اليمن فخان وحبيب بن مرة على الحجاز فرد والضحاك بن قيس الفهرى على الكوفة فحصب ولو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا وليس الذي يبلغك عنا بأعظم من الذي يبلغنا عنك ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على مائة حسنة لمحقها ولو وضع أدني عذرنا إليكم على مائة سيئة لحسها وأما خذلنا عثمان فلو لزمنا نصره لنصرناه وأما قتلنا أنصاره يوم الجمل فعلى خروجهم مما دخلوا فيه وأما حربنا إياك بصفين فعلى تركك الحق وادعائك الباطل وإما إغراؤك إيانا بتيم وعدى فلو اردناها ما غلبونا عليها وسكت
عبد الله بن عباس ومعاوية أيضا
86 - مقال معاوية لابن عباس
أقبل معاوية يوما على ابن عباس فقال
لو وليتمونا ما أتيتم إلينا ما أتينا إليكم من الترحيب والتقريب وإعطائكم الجزيل وإكرامكم على القليل وصبري على ما صبرت عليه منكم إني لا أريد أمرا إلا أظمأتم

صدره ولا آتي معروفا إلا صغرتم خطره وأعطيكم العطية فيها قضاء حقوقكم فتأخذونها متكارهين عليها تقولون قد نقص الحق دون الأمل فأي أمل بعد ألف ألف أعطيها الرجل منكم ثم أكون أسر بإعطائها منه بأخذها والله لئن انخدعت لكم في مالي وذللت لكم في عرضي أرى انخداعي كرما وذلي حلما ولو وليتمونا رضينا منكم بالانتصاف ولا نسألكم أموالكم لعلمنا بحالكم وحالنا ويكون أبغضها إلينا أحبها إليكم أن نعفيكم
87 - مقال ابن عباس فقال ابن عباس
لو ولينا أحسنا المواساة وامتننا بالأثرة ثم لم نغشم الحي ولم نشتم الميت فلستم بأجود منا أكفا ولا أكرم أنفسا ولا أصون لأعراض المروءة ونحن والله أعطي للآخرة منكم للدنيا وأعطي في الحق منكم في الباطل وأعطي على التقوى منكم على الهوى والقسم بالسوية والعدل في الرعية يأتيان على المنى والأمل ما أرضاكم منا بالكفاف فلو رضيتم منا لم نرض بأنفسنا به لكم والكفاف رضا من لا حق له فلا تبخلونا حتى تسألونا ولا تلفظونا حتى تذوقونا

عبد الله بن عباس ومعاوية أيضا
88 - مقال معاوية لبني هاشم
اجتمع بنو هاشم عند معاوية فأقبل عليهم فقال يا بنى هاشم والله إن خيري لكم لممنوح وإن بابي لكم لمفتوح فلا يقطع خيري عنكم علة ولا يوصد بابي دونكم مسألة ولما نظرت في أمري وأمركم رأيت أمرا مختلفا إنكم لترون أنكم أحق بما في يدي مني وإذا أعطيتكم عطية فيها قضاء حقكم قلتم أعطانا دون حقنا وقصر بنا عن قدرنا فصرت كالمسلوب والمسلوب لا حمد له وهذا مع إنصاف قائلكم وإسعاف سائلكم
89 - مقال ابن عباس
فأقبل عليه ابن عباس فقال والله ما منحتنا شيئا حتى سألناه ولا فتحت لنا بابا حتى قرعناه ولئن قطعت عنا خيرك لله أوسع منك ولئن أغلقت دوننا بابك لنكفن أنفسنا عنك وأما هذا المال فليس لك منه إلا ما لرجل من المسلمين ولنا في كتاب الله حقان حق في الغنيمة وحق في الفيء فالغنيمة ما غلبنا عليه والفيء ما اجتبيناه ولولا حقنا في هذا المال لم يأتك منا زائرا يحمله خف ولا حافر أكفاك أم أزيدك قال كفاني فإنك لا تعز ولا تشج

عبد الله بن عباس ومعاوية أيضا
90 - مقال معاوية
وقال يوما معاوية وعنده ابن عباس إذا جاءت بنو هاشم بقديمها وحديثها وجاءت بنو أمية بأحلامها وسياستها وبنو أسد بن عبد العزى بوافدها ودياتها وبنو عبد الدار بحجابتها ولوائها وبنو مخزوم بأموالها وأفعالها وبنو تيم بصديقها وجوادها وبنو عدي بفاروقها ومتفكرها وبنو سهم بآرائها ودهائها وبنو جمح بشرفها وأنوفها وبنو عامر بن لؤى بفارسها وقريعها فمن ذا يجمل مضمارها ويجري إلى غايتها ما تقول يا بن عباس

91 - مقال ابن عباس
قال أقول ليس حى يفخرون بأمر إلا وإلى جنبهم من يشركهم إلا قريشا فإنهم يفخرون بالنبوة التي لا يشاركون فيها ولا يساوون بها ولا يدفعون عنها وأشهد أن الله لم يجعل محمدا من قريش إلا وقريش خير البرية ولم يجعله في بني عبد المطلب إلا وهم خير بني هاشم يريد أن يفخر عليكم إلا بما تفخرون به إن بنا فتح الأمر وبنا يختم ولك ملك معجل ولنا ملك مؤجل فإن يكن ملككم قبل ملكنا فليس بعد ملكنا ملك لأنا أهل العاقبة والعاقبة للمتقين
92 - عبد الله بن عباس ومعاوية أيضا
لما بلغ معاوية نعي الحسن بن علي رضي الله عنه أظهر الفرح والسرور حتى سجد وسجد من كان معه فبلغ ذلك عبد الله بن عباس وكان بالشام يومئذ فدخل على معاوية فلما جلس قال معاوية يا بن عباس هلك الحسن بن علي ولم يظهر حزنا فقال ابن عباس نعم هلك إنا لله وإنا إليه راجعون ترجيعا مكررا وقد بلغني الذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته أما والله ما سد جسده حفرتك ولا زاد نقصان أجله في عمرك ولقد مات وهو خير منك ولئن أصبنا به لقد أصبنا بمن كان خيرا منه جده رسول الله فجبر الله مصيبته وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة
فقال له معاوية كم كانت سنه قال مولده أشهر من أن تتعرف سنه قال أحسبه ترك أولادا صغارا قال كلنا كان صغيرا فكبر ولئن اختار الله لأبي محمد

ما عنده وقبضه إلى رحمته لقد أبقي الله أبا عبد الله يعني الحسين وفي مثله الخلف الصالح ثم شهق وبكي وبكى من حضر في المجلس وبكى معاوية
93 - عبد الله بن عباس وعتبة بن أبي سفيان
قال عتبة بن أبي سفيان لابن عباس ما منع أمير المؤمنين أن يبعثك مكان أبي موسى يوم الحكمين قال منعه والله من ذلك حاجز القدر وقصر المدة ومحنة الابتلاء أما والله لو بعثنى مكانه لاعترضت له في مدارج نفسه ناقضا لما أبرم ومبرما لما نقض أسف إذا طار وأطير إذا أسف ولكن مضى قدر وبقي أسف ومع يومنا غد والآخرة خير لأمير المؤمنين من الأولي

مخاصمة
بين عبد الله بن عباس وبين معاوية وأصحابه
قال ابن أبى الحديد روى المدائنى قال وفد عبد الله بن عباس على معاوية مرة فقال معاوية لابنه يزيد ولزياد بن سمية وعتبة بن أبى سفيان ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن أم الحكم إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه ولقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه فحركوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته ونقف على كنه معرفته ونعرف ما صرف عنا من شبا حده ووورى عنا من دهاء رأيه فربما وصف المرء بغير ما هو فيه وأعطى من النعت والاسم مالا يستحقه ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس فلما دخل واستقر به المجلس ابتدأه ابن أبي سفيان فقال يا بن عباس ما منع عليا أن يوجه بك حكما
94 - جواب ابن عباس
فقال أما والله لو فعل لقرن عمرا بصعبة من الإبل يوجع كتفه مراسها ولأذهلت عقله وأجرضته بريقه وقدحت في سويداء قلبه فلم يبرم أمرا

ولم ينفض ترابا إلا كنت منه بمرأى ومسمع فإن نكثه أرمت قواه وإن أرمه فصمت عراه بغرب مقول لا يفل حده وأصالة رأي كمتاح الأجل لا وزر منه أصدع به أديمه وأفل به شبا حده وأشحذ به عزائم المعتنز وأزيح به شبه الشاكين
95 - مقال عمرو بن العاص
فقال عمرو بن العاص هذا والله يا أمير المؤمنين نجوم أول الشر وأفول آخر الخير وفي حسمه قطع مادته فبادره بالحملة وانتهز منه الفرصة واردع بالتنكيل به غيره وشرد به من خلفه
96 - جواب ابن عباس
فقال ابن عباس يا بن النابغة ضل والله عقلك وسفه حلمك ونطق الشيطان على لسانك هلا توليت ذلك بنفسك يوم صفين حين دعيت نزال وتكافح الأبطال وكثرت الجراح وتقصفت الرماح وبرزت إلى أمير المؤمنين مصاولا فأنكفأ نحوك بالسيف حاملا فلما رأيت الكواثر من الموت أعددت حيلة السلامة

قبل لقائه والانكفاء عنه بعد إجابة دعائه فمنحته رجاء النجاة عورتك وكشفت له خوف بأسه سوءتك حذرا أن يصطلمك بسطوته أو يلتهمك بحملته ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته وحسنت له التعرض لمكافحته رجاء أن تكتفي مئونته وتعدم صورته فعلم غل صدرك وما انحنت عليه من النفاق أضلعك وعرف مقر سهمك في غرضك فاكفف غرب لسانك واقمع عوراء لفظك فإنك بين أسد خادر وبحر زاخر إن تبرزت للأسد افترسك وإن عمت في البحر قمسك
97 - مقال مروان بن الحكم
فقال مروان بن الحكم يا بن عباس إنك لتصرف بنابك وتورى نارك كأنك ترجو الغلبة وتؤمل العاقبة ولولا حلم أمير المؤمنين عنكم لتناولكم بأقصر أنامله فأوردكم منهلا بعيدا صدره ولعمري لئن سطا بكم ليأخذن بعض حقه منكم ولئن عفا عن جرائركم لقديما ما نسب إلى ذلك

98 - جواب ابن عباس
فقال ابن عباس وإنك لتقول ذلك يا عدو الله وطريد رسول الله والمباح دمه والداخل بين عثمان ورعيته بما حملهم على قطع أوداجه وركوب أثباجه أما والله لو طلب معاوية ثأره لأخذك به ولو نظر في أمر عثمان لوجدك أوله وآخره وأما قولك لي إنك لتصرف بنابك وتورى نارك فسل معاوية

وعمرا يخبراك ليلة الهرير كيف ثباتنا للمثلات واستخفافنا بالمعضلات وصدق جلادنا عند المصاولة وصبرنا على اللأواء والمطاولة ومصافحتنا بجباهنا السيوف المرهفة ومباشرتنا بنحورنا حد الأسنة هل خمنا عن كرائم تلك المواقف أم لم نبذل مهجنا للمتالف وليس لك إذ ذاك فيها مقام محمود ولا يوم مشهود ولا أثر معدود وإنهما شهدا ما لو شهدت لأقلقك فاربع على ظليعك ولا تتعرض لما ليس لك فإنك كالمغروز في صفد لا يهبط برجل ولا يرقأ بيد
99 - مقال زياد
فقال زياد يا بن عباس إني لأعلم ما منع حسنا وحسينا من الوفود معك على أمير المؤمنين إلا ما سولت لهما أنفسهما وغرهما به من هو عند البأساء يسلمهما وايم الله لو وليتهما لأدأبا في الرحلة إلى أمير المؤمنين أنفسهما ولقل بمكانهما لبثهما
100 - جواب ابن عباس
فقال ابن عباس إذن والله يقصر دونهما باعك ويضيق بهما ذراعك ولو رمت ذلك لوجدت من دونهما فئة صدقا صبرا على البلاء لا يخيمون عن اللقاء

فلعركوك بكلاكلهم ووطئوك بمناسمهم وأوجروك مشق رماحهم وشفار سيوفهم ووخز أسنتهم حتى تشهد بسوء ما أتيت وتتبين ضياع الحزم فيما جنيت فحذار حذار من سوء النية فإنها ترد الأمنية وتكون سببا لفساد هذين الحيين بعد صلاحهما وسعيا في اختلافهما بعد ائتلافهما حيث لا يضرهما إبساسك ولا يغني عنهما إيناسك
101 - مقال عبد الرحمن بن أم الحكم
قال عبد الرحمن بن أم الحكم لله در ابن ملجم فقد بلغ الأمل وأمن الوجل وأحد الشفرة وألان المهرة وأدرك الثأر ونفي العار وفاز بالمنزلة العليا ورقى الدرجة القصوى
102 - جواب ابن عباس
فقال ابن عباس أما والله لقد كرع كأس حتفه بيده وعجل الله إلى النار بروحه ولو أبدي لأمير المؤمنين صفحته لخالطه الفحل القطم والسيف الخذم ولألعقه صابا وسقاه سماما وألحقه بالوليد وعتبة وحنظلة فكلهم كان أشد منه شكيمة

وأمضي عزيمة ففرى بالسيف هامهم ورملهم بدمائهم وقري الذئاب أشلاءهم وفرق بينهم وبين أحبائهم أولئك حصب جهنم هم لها واردون فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ولا غرو إن ختل ولا وصمة إن قتل فإنا لكما قال دريد بن الصمة
( فإنا للحم السيف غير مكره ... ونلحمه طورا وليس بذي نكر )
( يغار علينا واترين فيشتفى ... بنا إن أصبنا أو نغير على وتر )
103 - مقال المغيرة بن شعبة فقال المغيرة بن شعبة
أما والله لقد أشرت على علي بالنصيحة فآثر رأيه ومضي على غلوائه فكانت العاقبة عليه لا له وإني لأحسب أن خلفه يقتدون بمنهجه
104 - جواب ابن عباس
فقال ابن عباس كان والله أمير المؤمنين عليه السلام أعلم بوجوه الرأي ومعاقد الحزم وتصريف الأمور من أن يقبل مشورتك فيما نهي الله عنه وعنف عليه قال سبحانه وتعالى

( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) ولقد وقفك على ذكر مبين وآية متلوة قوله تعالي ( وما كنت متخذ المضلين عضدا ) وهل كان يسوغ له أن يحكم في دماء المسلمين وفيء المؤمنين من ليس بمأمون عنده ولا موثوق به في نفسه هيهات هيهات هو أعلم بفرض الله وسنة رسوله أن يبطن خلاف ما يظهر إلا للتفية ولات حين تقية مع وضوح الحق وثبوت الجنان وكثرة الأنصار يمضي كالسيف المصلت في أمر الله مؤثرا لطاعة ربه والتقوى على آراء أهل الدنيا
105 - مقال يزيد بن معاوية
فقال يزيد بن معاوية يا بن عباس إنك لتنطق بلسان طلق ينبئ عن مكنون قلب حرق فاطو على ما أنت عليه كشحا فقد محا ضوء حقنا ظلمة باطلكم

106 - جواب ابن عباس
فقال ابن عباس مهلا يزيد فوالله ما صفت القلوب لكم منذ تكدرت بالعداوة عليكم ولا دنت بالمحبة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم ولا رضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمس من أفعالكم وإن تدل الأيام نستقض ما شذ عنا ونسترجع ما ابتز منا كيلا بكيل ووزنا بوزن وإن تكن الأخرى فكفي بالله وليا لنا ووكيلا على المعتدين علينا
107 - مقال معاوية
فقال معاوية إن في نفسي منكم لحزازات يا بني هاشم وإني لخليق أن أدرك فيكم الثأر وأنفي العار فإن دماءنا قبلكم وظلامتنا فيكم
108 - جواب ابن عباس
فقال ابن عباس والله إن رمت ذلك يا معاوية لتثيرن عليك أسدا مخدرة وأفاعي مطرقة لا يفثؤها كثرة السلاح ولا تعضها نكاية الجراح يضعون أسيافهم علي عواتقهم

يضربون قدما قدما من ناوأهم يهون عليهم نباح الكلاب وعواء الذئاب لا يفاتون بوتر ولا يسبقون إلى كريم ذكر وقد وطنوا علي الموت أنفسهم وسمت بهم إلى العلياء هممهم كما قالت الأزدية (
قوم إذا شهدوا الهياج فلا ... ضرب ينهنههم ولا زجر )
( وكأنهم آساد غينة قد ... غرثت وبل متونها القطر )
فلتكونن منهم بحيث أعددت ليلة الهرير للهرب فرسك وكان أكبر همك سلامة حشاشة نفسك ولولا طغام من أهل الشأم وقوك بأنفسهم وبذلوا دونك مهجهم حتى إذا ذاقوا وخز الشفار وأيقنوا بحلول الدمار رفعوا المصاحف مستجيرين بها وعائذين بعصمتها لكنت شلوا مطروحا بالعراء تسفي عليك رياحها ويعتورك ذئابها وما أقول هذا أريد صرفك عن عزيمتك ولا إزالتك عن معقود نيتك لكن الرحم التي تعطف عليك والأواصر التي توجب صرف النصيحة إليك
فقال معاوية لله درك يا بن عباس ما تكشف الأيام منك إلا عن سيف صقيل ورأي أصيل وبالله لو لم يلد هاشم غيرك لما نقص عددهم ولو لم يكن لأهلك سواك لكان الله قد كثرهم ثم نهض فقام ابن عباس وانصرف

عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص
قام عمرو بن العاص في موسم من مواسم العرب فأطري معاوية بن أبي سفيان وبني أمية وتناول بني هاشم وذكر مشاهده بصفين واجتمعت قريش فأقبل عبد الله ابن عباس على عمرو فقال
109 - مقال ابن عباس
يا عمرو إنك بعت دينك من معاوية وأعطيته ما بيدك ومناك ما بيد غيره فكان الذي أخذ منك أكثر من الذي أعطاك والذي أخذت منه دون الذي أعطيته وكل راض بما أخذ وأعطى فلما صارت مصر في يدك كدرها عليك بالعزل والتنغيص حتى لو كانت نفسك في يدك ألقيتها إليه وذكرت يومك مع أبي موسى

فلا أراك فخرت إلا بالغدر ولا مننت إلا بالفجور والغش وذكرت مشاهدك بصفين فوالله ما ثقلت علينا يومئذ وطأتك ولا نكتنا فيها حربك ولقد كشفت فيها عورتك وإن كنت فيها لطويل اللسان قصير السنان آخر الخيل إذا أقبلت وأولها إذا أدبرت لك يدان يد لا تبسطها إلى خير وأخرى لا تقبضها عن شر ولسان غرور ووجهان وجه موحش ووجه مؤنس ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحرى أن يطول حزنه على ما باع واشترى لك بيان وفيك خطل ولك رأى وفيك نكد ولك قدر وفيك حسد وأصغر عيب فيك أعظم عيب في غيرك
110 - رد ابن العاص
فأجابه عمرو بن العاص والله ما في قريش أثقل على مسألة ولا أمر جوابا منك ولو استطعت ألا أجيبك لفعلت غير أني لم أبع ديني من معاوية ولكن بعث الله نفسي ولم أنس نصيبي من الدنيا وأما ما أخذت من معاوية وأعطيته فإنه لا تعلم العوان الخمرة وأما ما أتي إلى معاوية في مصر فإن ذلك لم يغيرنى له وأما خفة وطأتى عليكم بصفين فلما استثقلتم حياتي واستبطأتم وفاتي وأما الجبن فقد علمت قريش أني أول من يبارز وآخر من ينازل وأما طول لساني فإني كما قال هشام بن الوليد لعثمان ابن عفان رضي الله عنه

( لساني طويل فاحترس من شذاته ... عليك وسيفي من لساني أطول )
وأما وجهاي ولساناي فإني ألقي كل ذي قدر بقدره وأرمي كل نابح بحجره فمن عرف قدره كفاني نفسه ومن جهل قدره كفيته نفسي ولعمري ما لأحد من قريش مثل قدرك ما خلا معاوية فما ينفعني ذلك عندك وأنشأ عمرو يقول ( بني هاشم مالي أراكم كأنكم ... بي اليوم جهال وليس بكم جهل )
( ألم تعلموا أني جسور على الوغى ... سريع إلى الداعي إذا كثر القتل )
( وأول من يدعو نزال طبيعة ... جبلت عليها والطباع هو الجبل )
( وإني فصلت الأمر بعد اشتباهه ... بدومة إذا أعيا على الحكم الفصل )
( وأني لا أعيا بأمر أريده ... وأني إذا عجت بكار كم فحل )
111 - عبد الله بن عباس وعمرو بن العاص أيضا
حج عمرو بن العاص فمر بعبد الله بن عباس فحسده مكانه وما رأى من هيبة الناس له وموقعه من قلوبهم فقال له يا بن عباس مالك إذا رأيتني وليتني القصرة وكان بين عينيك دبرة وإذا كنت في ملأ من الناس كنت

الهوهاة الهمزة فقال ابن عباس لأنك من اللئام الفجرة وقريش الكرام البررة لا ينطقون بباطل جهلوه ولا يكتمون حقا علموه وهم أعظم الناس أحلاما وأرفع الناس أعلاما دخلت في قريش ولست منها فأنت الساقط بين فراشين لا في بني هاشم رحلك ولا في بني عبد شمس راحلتك فأنت الأثيم الزنيم الضال المضل حملك معاوية على رقاب الناس فأنت تسطو بحلمه وتسمو بكرمه فقال عمرو أما والله إني لمسرور بك فهل ينفعني عندك قال ابن عباس حيث مال الحق ملنا وحيث سلك قصدنا
112 - عمرو بن العاص وابن عباس
قال عمرو بن العاص لعبد الله بن عباس إن هذا الأمر الذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء وقد بلغ الأمر منا ومنكم ما ترى وما أبقت لنا هذه الحرب حياء ولا صبرا ولسنا نقول ليت الحرب عادت ولكنا نقول ليتها لم تكن كانت فانظر فيما بقي بغير ما مضى فإنك رأس هذا الأمر بعد علي وإنما هو أمير مطاع ومأمور مطيع ومشاور مأمون وأنت هو
113 - مفاخرة عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس
تزوج عبد الله بن الزبير أم عمرو بنت منظور بن زبان الفزارية فلما دخل بها قال لها تلك الليلة أتدرين من معك في حجلتك قالت نعم عبد الله بن الزبير بن

العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى قال ليس غير هذا قالت فما الذي تريد قال معك من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد لا بل بمنزلة العينين من الرأس قالت أما والله لو أن بعض بني عبد مناف حضرك لقال لك خلاف قولك فغضب وقال الطعام والشراب علي حرام حتى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بني عبد مناف فلا يستطيعون لذلك إنكارا قالت إن أطعتني لم تفعل وأنت أعلم وشأنك فخرج إلى المسجد فرأى حلقة فيها قوم من قريش منهم عبد الله بن العباس وعبد الله ابن الحصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف فقال لهم ابن الزبير أحب أن تنطلقوا معي إلى منزلى فقام القوم بأجمعهم حتى وقفوا على باب بيته فقال ابن الزبير يا هذه اطرحي عليك سترك فلما أخذوا مجالسهم دعا بالمائدة فتغدى القوم فلما فرغوا قال لهم إنما جمعتكم لحديث ردته علي صاحبة الستر وزعمت أنه لو كان بعض بني عبد مناف حضرنى لما أقر لي بما قلت وقد حضرتم جميعا وأنت يا بن عباس ما تقول إني أخبرتها أن معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد لا بل بمنزلة العينين من الرأس فردت علي مقالتي
فقال ابن عباس أراك قصدت قصدي فإن شئت أن أقول قلت وإن شئت أن أكف كففت قال بل قل وما عسى أن تقول ألست تعلم أن أبي الزبير حواري رسول الله وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين

وأن عمتي خديجة سيدة نساء العالمين وأن صفية عمة رسول الله جدتي وأن عائشة أم المؤمنين خالتي فهل تستطيع لهذا إنكارا
قال ابن عباس لا ولقد ذكرت شرفا شريفا وفخرا فاخرا غير أنك تفاخر من بفخره فخرت وبفضله سموت قال وكيف ذلك قال لأنك لم تذكر فخرا إلا برسول الله وآله وأنا أولى بالفخر به منك قال ابن الزبير لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوة قال ابن عباس قد أنصف القارة من راماها نشدتكم الله أيها الحاضرون أعبد المطلب أشرف أم خويلد في قريش قالوا عبد المطلب قال أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد قالوا بل هاشم قال أفعبد مناف أشرف أم عبد العزى قالوا عبد مناف فقال ابن عباس ( تنافرني يا بن الزبير وقد قضي ... عليك رسول الله لا قول هازل )

( ولو غيرنا يا بن الزبير فخرته ... ولكنما ساميت شمس الأصائل )
قضى لنا رسول الله وآله بالفضل في قوله ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب أفنحن في فرقة الخير أم لا إن قلت نعم خصمت وإن قلت لا كفرت فضحك بعض القوم فقال ابن الزبير أما والله لولا تحرمك بطعامنا يا بن عباس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك قال ابن عباس ولم أبباطل فالباطل لا يغلب الحق أم بحق فالحق لا يخشى من الباطل
فقالت المرأة من وراء الستر إني والله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلا ما ترون فقال ابن عباس مه أيتها المرأة اقنعي ببعلك فما أعظم الخطر وما أكرم الخبر فأخذ القوم بيد ابن عباس وكان قد عمي فقالوا انهض أيها الرجل فقد أفحمته غير مرة فنهض وقال
( ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا لغفا وناما )
فقال ابن الزبير يا صاحب القطا أقبل علي فما كنت لتدعني حتى أقول وايم الله لقد عرف الأقوام أني سابق غير مسبوق وابن صواري وصديق متبجح في الشرف الأنيق خير من طليق وابن طليق فقال ابن عباس رسغت

بحرتك فلم تبق شيئا هذا الكلام مردود من امرئ حسود فإن كنت سابقا فإلى من سبقت وإن كنت فاخرا فبمن فخرت وإن كنت أدركت هذا الفخر بأسرتك دون أسرتنا فالفخر لك علينا وإن كنت إنما أدركته بأسرتنا فالفخر لنا عليك والكثكث في فمك ويديك وأما ما ذكرت من الطليق فوالله لقد ابتلي فصبر وأنعم عليه فشكر وإن كان والله لوفيا كريما غير ناقض بيعة بعد توكيدها ولا مسلم كتيبة بعد التأمر عليها فقال ابن الزبير أتعير الزبير بالجبن والله إنك لتعلم منه خلاف ذلك قال ابن عباس والله إني لا أعلم إلا أنه فر وما كر وحارب فما صبر وبايع فما تمم وقطع الرحم وأنكر الفضل ورام ما ليس له بأهل
( وأدرك منها بعض ما كان يرتجي ... وقصر عن جري الكرام وبلدا )
( وما كان إلا كالهجين أمامه ... عتاق فجاراه العتاق فأجهدا )
فقال ابن الزبير لم يبق يا بني هاشم غير المشاتمة والمضاربة فقال عبد الله بن الحصين

ابن الحرث أقمناه عنك يا بن الزبير وتأبى إلا منازعته والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ما كنت إلا كالسغب الظمآن يفتح فاه يستزيد من الريح فلا يشبع من سغب ولا يروى من عطش فقل إن شئت أو فدع وانصرف القوم

ابن عباس وابن الزبير في مجلس مروان بن الحكم
وكان يوضع إلي جانب سرير مروان بن الحكم وهو يومئذ أمير المدينة سرير آخر أصغر من سريره فيجلس عليه عبد الله بن عباس إذا دخل وتوضع الوسائد فيما سوى ذلك فأذن مروان يوما للناس وإذا سرير آخر قد أحدث تجاه سرير مروان فأقبل ابن عباس فجلس على سريره وجاء عبد الله بن الزبير فجلس علي السرير المحدث وسكت مروان والقوم فإذا يد ابن الزبير تتحرك فعلم أنه يريد أن ينطق ثم نطق فقال
114 - مقال ابن الزبير
إن ناسا يزعمون أن بيعة أبي بكر كانت غلطا وفلتة ومغالبة ألا إن شأن أبي بكر أعظم من أن يقال فيه هذا ويزعمون أنه لولا ما وقع لكان الأمر لهم وفيهم والله ما كان من أصحاب محمد أحد أثبت إيمانا ولا أعظم سابقة من أبي بكر فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله فأين هم حين عقد أبو بكر لعمر فلم يكن إلا ما قال ثم ألقى عمر حظهم في حظوظ وجدهم في جدود فقسمت تلك الحظوظ

فأخر الله سهمهم وأدحض جدهم وولي الأمر عليهم من كان أحق به منهم فخرجوا عليه خروج اللصوص على التاجر خارجا من القرية فأصابوا منه غرة فقتلوه ثم قتلهم الله به كل قتلة وصاروا مطرودين تحت بطون الكواكب
115 - مقال ابن عباس
فقال ابن عباس على رسلك أيها القائل في أبي بكر وعمر والخلافة أما والله ما نالا ولا نال أحد منهما شيئا إلا وصاحبنا خير ممن نالا وما أنكرنا تقدم من تقدم لعيب عبناه عليه ولو تقدم صاحبنا لكان أهلا وفوق الأهل ولولا أنك إنما تذكر حظ غيرك وشرف امرئ سواك لكلمتك ولكن ما أنت وما لا حظ لك فيه اقتصر علي حظك ودع تيما لتيم وعديا لعدي وأمية لأمية ولو كلمني تيمي أو عدوي أو أموي لكلمته وأخبرته خبر حاضر عن حاضر لا خبر غائب عن غائب ولكن ما أنت وما ليس عليك فإن يكن في أسد بن عبد العزى شيء فهو لك أما والله لنحن أقرب بك عهدا وأبيض بك يدا وأوفر عندك نعمة ممن أمسيت تظن أنك تصول به علينا وما أخلق ثوب صفية بعد والله المستعان على ما تصفون
116 - خطبة عبد الله بن عباس يرد على عبد الله بن الزبير وقد عاب بني هاشم
لما كاشف عبد الله بن الزبير بني هاشم وأظهر بغضهم وعابهم وهم بما هم به في أمرهم ولم يذكر رسول الله وآله في خطبه لا يوم الجمعة ولا غيرها

عاتبه على ذلك قوم من خاصته وتشاءموا بذلك منه وخافوا عاقبته فقال والله ما تركت ذلك علانية إلا وأنا أقوله سرا وأكثر منه لكني رأيت بني هاشم إذا سمعوا ذكره اشرأبوا واحمرت ألوانهم وطالت رقابهم والله ما كنت لآتي لهم سرورا وأنا أقدر عليه والله لقد هممت أن احظر لهم حظيرة ثم أضرمها عليهم نارا فإني لا أقتل منهم إلا آثما كفارا سحارا لا أنماهم الله ولا بارك عليهم بيت سوء لا أول لهم ولا آخر والله ما ترك نبي الله فيهم خيرا استفرغ نبي الله صدقهم فهم أكذب الناس فقام إليه محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال وفقك الله يا أمير المؤمنين أنا أول من أعانك في أمرهم فقام عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي فقال والله ما قلت صوابا ولا هممت برشد أرهط رسول الله وآله تعيب وإياهم تقتل والعرب حولك والله لو قتلت عدتهم أهل بيت من الترك مسلمين ما سوغه الله لك والله لو لم ينصرهم الناس منك لنصرهم الله بنصره فقال اجلس أبا صفوان فلست بناموس فبلغ الخبر عبد الله بن العباس فخرج مغضبا ومعه ابنه حتى أتى المسجد فقصد قصد المنبر
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله وآله ثم قال
أيها الناس إن ابن الزبير يزعم أن لا أول لرسول الله وآله ولا آخر فيا عجبا كل العجب لافترائه وتكذبه والله إن أول من أخذ الإيلاف

وحمى عيرات قريش لهاشم وإن أول من سقى بمكة عذبا وجعل باب الكعبة

ذهبا لعبد المطلب والله لقد نشأت ناشئتنا مع ناشئة قريش وإن كنا لقالتهم إذا قالوا وخطباءهم إذا خطبوا وما عد مجد كمجد أولنا ولا كان في قريش مجد لغيرنا لأنها في كفر ماحق ودين فاسق وضلة وضلالة في عشواء عمياء حتى اختار الله تعالى لها نورا وبعث لها سراجا فانتجبه طيبا من طيبين لا يسب بمسبة ولا يبغى عليه غائلة فكان أحدنا وولدنا وعمنا وابن عمنا ثم إن أسبق السابقين إليه منا وابن عمنا ثم تلاه في السبق أهلنا ولحمتنا واحدا بعد واحد ثم إن لخير الناس بعده أكرمهم أدبا وأشرفهم حسبا وأقربهم منه رحما
واعجبا كل العجب لابن الزبير يعيب بني هاشم وإنما شرف هو وأبوه وجده بمصاهرتهم أما والله إنه لمصلوب قريش ومتى كان العوام بن خويلد يطمع في صفية بنت عبد المطلب قيل للبغل من أبوك يا بغل فقال خالي الفرس ثم نزل
117 - خطبة ابن الزبير ينتقص ابن عباس
وخطب ابن الزبير بمكة على المنبر وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر فقال إن ها هنا رجلا قد أعمى الله قلبه كما أعمى بصره يزعم أن متعة النساء حلال من

الله ورسوله ويفتي في القملة والنملة وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس وترك المسلمين بها يرتضخون النوى وكيف ألومه في ذلك وقد قاتل أم المؤمنين وحواري رسول الله ومن وقاه بيده

118 - رد ابن عباس عليه
فقال ابن عباس لقائده سعيد بن جبير مولى بني أسد بن خزيمة وكان ابن عباس قد كف بصره استقبل بي وجه ابن الزبير وارفع من صدري فاستقبل به قائده وجه ابن الزبير وأقام قامته فحسر عن ذراعيه ثم قال يا بن الزبير ( قد أنصف القارة من راماها ... إنا إذا مافئة نلقاها )
( نرد أولاها على أخراها ... حتى تصير حرضا دعواها )
يا بن الزبير أما العمى فإن الله تعالى يقول ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) وأما فتياي في القملة والنملة فإن فيها حكمين لا تعلمهما أنت ولا أصحابك وأما حملى المال فإنه كان مالا جبيناه فأعطينا كل ذى حق حقه وبقيت بقية هي دون حقنا في كتاب الله فأخذناها بحقنا وأما المتعة فسل أمك أسماء إذا نزلت عن بردى عوسجة وأما قتالنا أم المؤمنين فبنا سميت أم المؤمنين لا بك ولا بأبيك فانطلق أبوك وخالك إلى حجاب مده الله عليها فهتكاه عنها ثم اتخذاها فتنة يقاتلان دونها وصانا حلائلهما في بيوتهما فما أنصفا الله ولا محمدا من أنفسهما أن أبرزا زوجة نبيه وصانا حلائلهما وأما قتالنا إياكم فإنا لقيناكم زحفا فإن كنا كفارا فقد كفرتم بفراركم منا وإن كنا مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم إيانا وايم الله لولا مكان صفية فيكم ومكان خديجة فينا لما تركت لبني أسد بن عبد العزى عظما إلا كسرته

فلما عاد ابن الزبير إلى أمه سألها عن بردى عوسجة فقالت ألم أنهك عن ابن عباس وعن بني هاشم فإنهم كعم الجواب إذا بدهوا فقال بلى وعصيتك فقالت يا بني احذر هذا الأعمى الذي ما أطاقته الإنس والجن واعلم أن عنده فضائح قريش ومخازيها بأسرها فإياك وإياه آخر الدهر
ورواية صاحب العقد أن ابن عباس قال لعكرمة أقم وجهي نحوه يا عكرمة ثم قال
( إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي فؤادي وعقلي منهما نور )
وأما قولك يا بن الزبير إني قاتلت أم المؤمنين فأنت أخرجتها وأبوك وخالك وبنا سميت أم المؤمنين فكنا لها خير بنين فتجاوز الله عنها وقاتلت أنت وأبوك عليا فإن كان على مؤمنا فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين وإن كان كافرا فقد بؤتم بسخط من الله بفراركم من الزحف وأما المتعة فإني سمعت علي بن أبي طالب يقول سمعت رسول الله رخص فيها فأفتيت بها ثم ثم سمعته ينهى عنها فنهيت عنها

وأول مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير
119 - عبد الله بن جعفر المتوفى سنة 80ه وعمرو بن العاص
قال ابن أبي الحديد روى المدائنى قال
بينا معاوية يوما جالسا وعنده عمرو بن العاص إذ قال الآذن قد جاء عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب فقال عمرو والله لأسوأنه اليوم فقال معاوية لا تفعل يا أبا عبد الله فإنك لا تنتصف منه ولعلك أن تظهر لنا من منقبته ما هو خفي عنا وما لا نحب أن نعلمه منه وغشيهم عبد الله بن جعفر فأدناه معاوية وقربه فمال عمرو إلى بعض جلساء معاوية فنال من علي عليه السلام جهارا غير ساتر له وثلبه ثلبا قبيحا فامتقع لون عبد الله واعتراه أفكل حتى أرعدت خصائله ثم نزل عن السرير كالفنيق فقال عمرو مه يا أبا جعفر فقال له عبد الله مه لا أم لك ثم قال
( أظن الحلم دل على قومي ... وقد يتجهل الرجل الحليم )

ثم حسر عن ذراعيه وقال يا معاوية حتام نتجرع غيظك وإلى كم الصبر على مكروه قولك وسيئ أدبك وذميم أخلاقك هبلتك الهبول أما يزجرك ذمام المجالسة عن القذع لجليسك إذا لم تكن لك حرمة من دينك تنهاك عما لا يجوز لك والله لو عطفتك أواصر الأرحام أو حاميت على سهمك من الإسلام ما أرعيت بني الإماء المتك والعبيد السك أعراض قومك وما يجهل موضع الصفوة إلا أهل الجفوة وإنك لتعرف وشائج قريش وصفوة غرائزها فلا يدعونك تصويب ما فرط من خطئك في سفك دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه فاقصد لمنهج الحق فقد طال عمهك عن سبيل الرشد وخبطك في ديجور ظلمة الغي فإن أبيت أن لا تتابعنا في قبح اختيارك لنفسك فأعفنا عن سوء القالة فينا إذا ضمنا وإياك الندي وشأنك وما تريد إذا خلوت والله حسيبك فوالله لولا ما جعل الله لنا في يديك لما أتيناك ثم قال إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما ستر مني من خلق

فقال معاوية يا أبا جعفر نغير الخطأ أقسمت عليك لتجلسن لعن الله من أخرج ضب صدرك من وجاره محمول لك ما قلت ولك عندنا ما أملت فلو لم يكن محتدك ومنصبك لكان خلقك وخلقك شافعين لك إلينا وأنت ابن ذي الجناحين وسيد بني هاشم فقال عبد الله كلا بل سيد بني هاشم حسن وحسين لا ينازعهما في ذلك أحد فقال أبا جعفر أقسمت عليك لما ذكرت حاجة لك إلا قضيتها كائنة ما كانت ولو ذهبت بجميع ما أملك فقال أما في هذا في المجلس فلا ثم انصرف فأتبعه معاوية يصره فقال والله لكأنه رسول الله وآله مشيه وخلقه وخلقه وإنه لمن مشكاته لوددت أنه أخي بنفيس ما أملك
ثم التفت إلى عمرو فقال أبا عبد الله ما تراه منعه من الكلام معك قال ما لا خفاء به عنك قال أظنك تقول إنه هاب جوابك لا والله ولكنه ازدراك واستحقرك ولم يرك للكلام أهلا أما رأيت إقباله علي دونك ذاهبا بنفسه عنك فقال عمرو فهل لك أن تسمع ما أعددته لجوابه قال معاوية أرغب إليك أبا عبد الله فلات حين جواب فيما يرى اليوم ونهض معاوية وتفرق الناس
130 - الحسن بن علي وعمرو بن العاص
ووفد الحسن بن على رضي الله عنه على معاوية فقال عمرو بن العاص لمعاوية يا أمير المؤمنين إن الحسن رجل افه فلو حملته على المنبر فتكلم وسمع الناس كلامه عابوه وسقط من عيونهم ففعل فصعد على المنبر وتكلم فأحسن ثم قال أيها الناس لو

طلبتم ابنا لنبيكم ما بين جابرس إلى جابلق لم تجدوه غيري وغير أخي ( وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) فساء ذلك عمرا وأراد أن يقطع كلامه فقال له أبا محمد هل تنعت الرطب فقال أجل تلقحه الشمال وتخرجه الجنوب وينضجه برد الليل بحر النهار قال أبا محمد هل تنعت الخراءة قال نعم تبعد الممشي في الأرض الصحصح حتى تتوارى من القوم ولا تستقبل القبلة ولا تستدبرها ولا تستنج بالروثة ولا العظم ولا تبل في الماء الراكد وأخذ في كلامه
121 - الحسن بن علي ومروان بن الحكم
بينما معاوية بن أبي سفيان جالس في أصحابه إذ قيل له الحسن بالباب فقال معاوية إن دخل أفسد علينا ما نحن فيه فقال له مروان بن الحكم ائذن له فإني أسأله ما ليس عنده فيه جواب قال معاوية لا تفعل فإنهم قوم قد ألهموا الكلام وأذن له فلما دخل وجلس قال له مروان أسرع الشيب إلى شاربك يا حسن ويقال إن ذلك من الخرق فقال الحسن ليس كما بلغك ولكنا معشر بني هاشم أفواهنا عذبة

شفاهها فنساؤنا يقبلن علينا بأنفاسهن وقبلهن وأنتم معشر بني أمية فيكم بخر شديد فنساؤكم يصرفن أفواههن وأنفاسهن عنكم إلى أصداغكم فإنما يشيب منكم موضع العذار من أجل ذلك قال مروان إن فيكم يا بني هاشم خصلة سوء قال وما هي قال الغلمة قال أجل نزعت الغلمة من نسائنا ووضعت في رجالنا ونزعت الغلمة من رجالكم ووضعت في نسائكم فما قام لأموية إلا هاشمي فغضب معاوية وقال قد كنت أخبرتكم فأبيتم حتى سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم وأفسد عليكم مجلسكم
122 - عقيل بن أبي طالب ومعاوية
وكان عقيل بن أبي طالب قد خرج الي معاوية مغاضبا لأخيه الإمام علي كرم الله وجهه فأكرمه معاوية وقربه إليه وقضى حوائجه وقضى عنه دينه ثم قال له في بعض الأيام والله إن عليا غير حافظ لك قطع قرابتك وما وصلك ولا اصطنعك قال له عقيل والله لقد اجزل العطية وأعظمها ووصل القرابة وحفظها وحسن ظنه بالله إذ ساء به ظنك وحفظ أمانته وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم وجرتم فاكفف لا أبا لك فإنه عما تقول بمعزل
وقال له معاوية يوما أبا يزيد أنا لك خير من أخيك علي قال صدقت إن

أخي آثر دينه على دنياه وأنت آثرت دنياك على دينك فأنت خير لي من أخي وأخي خير لنفسه منك
وقال له مرة أنت معنا يا أبا يزيد قال ويوم بدر قد كنت معكم
وقال له يوما إن عليا قد قطعك ووصلتك ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على على المنبر قال أفعل فأصعد فصعد ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه أيها الناس إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب فالعنوه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ثم نزل فقال له معاوية إنك لم تبين أبا يزيد من لعنت بيني وبينه قال والله لا زدت حرفا ولا نقصت آخر والكلام إلي نية المتكلم
ودخل عقيل على معاوية وقد كف بصره فأجلسه على سريره ثم قال له أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم قال وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم
وقال له يوما ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم قال لكنه في نسائكم أبين يا بني أمية
وقال معاوية يوما يا أهل الشأم هل سمعتم قول الله تبارك وتعالى في كتابه ( تبت يدا أبي لهب وتب ) قالوا نعم قال فإن أبا لهب عمه فقال عقيل فهل سمعتم قول الله عز و جل ( وامرأته حمالة الحطب ) قالوا نعم قال فإنها عمته ثم

قال يا معاوية إذا دخلت النار فاعدل ذات اليسار فإنك ستجد عمي أبا لهب مفترشا عمتك حمالة الحطب فانظر أيهما خير
وقال له معاوية يوما والله إن فيكم لخصلة ما تعجبني يا بني هاشم قال وما هي قال لين فيكم قال لين ماذا قال هو ذاك قال إيانا تعير يا معاوية أجل والله إن فينا للينا من غير ضعف وعزا من غير جبروت وأما أنتم يا بني أمية فإن لينكم غدر وعزكم كفر قال معاوية ما كل هذا أردنا يا أبا يزيد
وقال معاوية لعقيل لم جفوتنا يا أبا يزيد فأنشأ يقول
( إني امرؤ مني التكرم شيمة ... إذا صاحبي يوما على الهون أضمرا )
ثم قال وايم الله يا معاوية لئن كانت الدنيا مهدتك مهادها وأظلتك بحذافير أهلها ومدت عليك أطناب سلطانها ما ذاك بالذي يزيدك مني رغبة ولا تخشعا لرهبة قال معاوية لقد نعتها أبا يزيد نعتا هش لها قلبي وإني لأرجو أن يكون الله تبارك وتعالى ما رداني برداء ملكها وحباني بفضيلة عيشها إلا لكرامة ادخرها لي وقد كان داود خليفة وسليمان ملكا وإنما هو المثال يحتذى عليه والأمور أشباه وايم الله يا أبا يزيد لقد أصبحت علينا كريما وإلينا حبيبا وما أصبحت أضمر لك إساءة

123 - خطبة السيدة أم كلثوم بنت علي في أهل الكوفة بعد مقتل الحسين عليهم السلام
لما قتل الحسين بن علي عليهما السلام وأدخل النسوة من كربلاء إلى الكوفة جعلت نساؤها يلتدمن ويهتكن الجيوب عليه فرفع على بن الحسين عليهما السلام رأسه وقال بصوت ضئيل وقد نحل من المرض يا أهل الكوفة إنكم تبكون علينا فمن قتلنا غيركم وأومأت أم كلثوم بنت علي عليهما السلام إلى الناس أن اسكتوا فلما سكنت الأنفاس وهدأت الأجراس قالت ابدأ بحمد الله والصلاة والسلام على أبيه أما بعد يأهل الكوفة يأهل الختر والخذل لا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الرنة إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم ألا وهل فيكم إلا الصلف والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء وهل أنتم

إلا كمرعى على دمنة وكفضة على ملحوذه ألا ساء ما قدمت أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون أتبكون إي والله فابكوا وإنكم والله أحرياء بالبكاء فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا فلقد فزتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شبان أهل الجنة ومنار محجتكم ومدره حجتكم ومفرخ نازلتكم فتعسا ونكسا لقد خاب السعي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم وأي كريمة له أبرزتم وأي دم له سفكتم لقد جئتم بها شوهاء خرقاء شرها طلاع الأرض والسماء أفعجبتم أن قطرت السماء دما ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون فلا يستخفنكم المهل فإنه لا تحفزه المبادرة ولا يخاف عليه فوت الثار كلا إن ربك لنا ولهم لبالمرصاد ثم

ولت عنهم فظل الناس حيارى وقد ردوا أيديهم إلى أفواههم وقال شيخ كبير من بني جعفي وقد اخضلت لحيته من دموع عينيه
( كهولهم خير الكهول ونسلهم ... إذا عد نسل لا يبور ولا يخزى )
124 - خطبة السيدة زينب بنت علي عليهما السلام بين يدي يزيد
ولما وجه عبيد الله بن زياد آل الحسين عليه السلام إلى يزيد بدمشق ومثلوا بين يديه أمر برأس الحسين فأبرز في طست فجعل ينكت ثناياه بقضيب في يده وهو يقول من أبيات
( ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل )
( لأهلوا واستهلوا فرحا ... ثم قالوا يا يزيد لا تشل )
( فجزيناهم ببدر مثلها ... وأقمنا ميل بدر فاعتدل )
فقالت زينب بنت علي عليهما السلام صدق الله ورسوله يا يزيد ( ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ) أظننت يا يزيد أنه حين أخذ علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما يساق

الأسارى أن بنا هوانا على الله وبك عليه كرامة وأن هذا لعظيم خطرك فشمخت بأنفك ونظرت في عطفيك جذلان فرحا حين رأيت الدنيا مستوسقة لك والأمور متسقة عليك وقد أمهلت ونفست وهو قول الله تبارك وتعالى ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ) أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك نساءك وإماءك وسوقك بنات رسول الله قد هتكت ستورهن وأصحلت صوتهن مكتئبات تخدي بهن الأباعر ويحدو بهن الأعادي من بلد إلى بلد لا يراقبن ولا يؤوين يتشوفهن القريب والبعيد ليس معهن ولي من رجالهن وكيف يستبطأ في بغضتنا من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان أتقول ليت أشياخي ببدر شهدوا غير متأثم ولا مستعظم وأنت تنكت ثنايا أبي عبد الله بمخصرتك ولم لا تكون كذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإهراقك دماء ذرية رسول الله ونجوم

الأرض من آل عبد المطلب ولتردن على الله وشيكا موردهم ولتودن أنك عميت وبكمت وأنك لم تقل فاستهلوا وأهلوا فرحا اللهم خذ بحقنا وانتقم لنا ممن ظلمنا والله ما فريت إلا في جلدك ولا حززت إلا في لحمك وسترد على رسول الله برغمك وعترته ولحمته في حظيرة القدس يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث وهو قول الله تبارك وتعالى ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المؤمنين إذا كان الحكم لله والخصم محمد وجوارحك شاهدة عليك فبئس للظالمين بدلا أيكم شر مكانا وأضعف جندا مع أني والله يا عدو الله وابن عدوه أستصغر قدرك وأستعظم تقريعك غير أن العيون عبرى والصدور حرى وما يجزي ذلك أو يغني عنا وقد قتل الحسين عليه السلام وحزب الشيطان يقربنا إلى حزب السفهاء ليعطوهم أموال الله على انتهاك محارم الله فهذه الأيدي تنطف من دمائنا وهذه الأفواه تتحلب من لحومنا وتلك الجثث الزواكى يعتامها عسلان الفلوات فلئن اتخذتنا مغنما لتتخذن مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك تستصرخ يا بن مرجانة ويستصرخ بك وتتعاوى وأتباعك

عند الميزان وقد وجدت أفضل زاد زودك معاوية فتلك ذرية محمد فوالله ما اتقيت غير الله ولا شكواي إلا إلى الله فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا يرحض عنك عار ما أتبت إلينا أبدا والحمد لله الذي ختم بالسعادة والمغفرة لسادات شبان الجنان فأوجب لهم الجنة اسأل الله أن يرفع لهم الدرجات وأن يوجب لهم المزيد من فضله فإنه ولي قدير
125 - رثاء الحسين لأخية الحسن عليهما السلام
وقال الحسين بن علي عند قبر أخيه الحسن عليهما السلام رحمك الله أبا محمد إن كنت لتناصر الحق مظانه وتؤثر الله عند تداحض الباطل في مواطن التقية بحسن الروية وتستشف جليل معاظم الدنيا بعين لها حاقرة وتفيض عليها يدا طاهرة الأطراف نقية الأسرة وتردع بادرة غرب أعدائك بأيسر المئونة عليك ولا غرو وأنت ابن سلالة النبوة ورضيع لبان الحكمة فإلى روح وريحان وجنة نعيم أعظم الله لنا ولكم الأجر عليه ووهب لنا ولكم السلوة وحسن الأسى عنه

عبد الله بن هاشم بن عتبة وعمرو بن العاص في مجلس معاوية
روى المسعودى في مروج الذهب قال لما قتل علي كرم الله وجهه كان في نفس معاوية من يوم صفين على هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص المرقال وولده عبد الله بن هاشم إحن فلما استعمل معاوية زيادا على العراق كتب إليه أما بعد فانظر عبد الله بن هاشم بن عتبة فشد يده إلى عنقه ثم ابعث به إلى فحمله زياد من البصرة مقيدا مغلولا إلى دمشق وقد كان زياد طرقه بالليل في منزله بالبصرة فدخل إلى معاوية وعنده عمرو بن العاص فقال معاوية لعمرو بن العاص هل تعرف هذا قال لا قال هذا الذي يقول أبوه يوم صفين
( إني شريت النفس لما اعتلا ... وأكثر اللوم وما أقلا )
( أعور يبغي أهله محلا ... قد عالج الحياة حتى ملا )
( لا بد أن يفل أو يفلا ... يتلهم بذي الكعوب تلا )
( لا خير عندي في كريم ولى )

فقال عمرو متمثلا
( وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا )
( دونك يا أمير المؤمنين الضب الضب فاشخب أوداجه على أسباجه ولا ترده إلى أهل العراق فإنه لا يصبر على النفاق وهم أهل غدر وشقاق وحزب إبليس ليوم هيجانه وإن له هوى سيوديه ورأيا سيطغيه وبطانة ستقويه ( وجزاء سيئة سيئة مثلها )

فقال عبد الله يا عمرو إن أقتل فرجل أسلمه قومه وأدركه يومه أفلا كان هذا منك إذ تحيد عن القتال ونحن ندعوك إلى النزال وأنت تلوذ بشمال النطاف وعقائق الرصاف كالأمة السوداء والنعجة القوداء لا تدفع يد لامس
فقال عمرو أما والله لقد وقعت في لهاذم شدقم للأقران ذي لبد ولا أحسبك منفلتا من مخاليب أمير المؤمنين
فقال عبد الله أما والله يا بن العاص إنك لبطر في الرخاء جبان عند اللقاء غشوم إذا وليت هياب إذا لقيت تهدر كما يهدر العود المنكوس المقيد بين مجري الشول لا يستعجل في المدة ولا يرتجي في الشدة أفلا كان هذا منك إذ غمرك أقوام لم يعنفوا صغارا ولم يمزقوا كبارا لهم أيد شداد وألسنة حداد

يدعمون العوج ويذهبون الحرج يكثرون القليل ويشفون الغليل ويعزون الذليل
فقال عمرو أما والله لقد رأيت أباك يومئذ تخفق أحشاؤه وتبق أمعاؤه وتضطرب أصلاؤه كأنما انطبق عليه ضمد
فقال عبد الله يا عمرو إنا قد بلوناك ومقالتك فوجدنا لسانك كذوبا غادرا خلوت بأقوام لا يعرفونك وجند لا يسأمونك ولو رمت المنطق في غير أهل الشأم لجحظ إليه عقلك ولتلجلج لسانك ولاضطرب فخذاك اضطراب القعود الذي أثقله حمله
فقال معاوية إيها عنكما وأمر بإطلاق عبد الله فقال عمرو لمعاوية
( أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم )
( أليس أبوه يا معاوية الذي ... أعان عليا يوم حز الغلاصم )
( فلم ينثني حتى جرت من دمائنا ... بصفين أمثال البحور الخضارم )
( وهذا ابنه والمرء يشبه سنخه ... ويوشك أن تقرع به سن نادم )

فقال عبد الله يجيبه
( معاوي إن المرء عمرا أبت له ... ضغينة صدر غشها غير نائم )
( يرى لك قتلي يا بن هند وإنما ... يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم )
( على أنهم لا يقتلون أسيرهم ... إذا منعت منه عهود المسالم )
( وقد كان منا يوم صفين نعرة ... عليك جناها هاشم وابن هاشم )
( قضى ما انقضى منها وليس الذي مضى ... ولا ما جرى إلا كأضغاث حالم )
( فإن تعف عني تعف عن ذي قرابة ... وإن تر قتلي تستحل محارمي )
فقال معاوية
( أرى العفو عن عليا قريش وسيلة ... إلى الله في اليوم العصيب القماطر )
( ولست أرى قتل العداة ابن هاشم ... بإدراك ثأري في لؤى وعامر )
( بل العفو عنه بعد ما بان جرمه ... وزلت به إحدى الجدود العوائر )
( فكان أبوه يوم صفين جمرة ... علينا فأردته رماح نهابر )

127 - عبد الله بن هاشم في مجلس معاوية
وحضر عبد الله بن هاشم ذات يوم مجلس معاوية فقال معاوية من يخبرني عن الجود والنجدة والمروءة فقال عبد الله يا أمير المؤمنين أما الجود فابتذال المال والعطية قبل السؤال وأما النجدة فالجراءة على الإقدام والصبر عند ازورار الأقدام وأما المروءة فالصلاح في الدين والإصلاح للحال والمحاماة عن الجار
قيس بن سعد بن عبادة ومعاوية
ودخل قيس بن سعد بن عبادة بعد وفاة علي ووقوع الصلح في جماعة من الأنصار على معاوية فقال لهم معاوية
128 - مقال معاوية
يا معشر الأنصار بم تطلبون ما قبلي فوالله لقد كنتم قليلا معي كثيرا مع علي ولقد فللتم حدي يوم صفين حتى رأيت المنايا تلظي في أسنتكم وهجوتموني في أسلافي بأشد من وقع الأسنة حتى إذا أقام الله منا ما حاولتم ميله قلتم ارع فينا وصية رسول الله هيهات يأبي الحقير الغدرة

129 - رد قيس بن سعد
فقال قيس نطلب ما قبلك بالإسلام الكافي به الله لا بما نمت به إليك من الأحزاب وأما عداوتنا لك فلو شئت كففتها عنك وأما هجاؤنا إياك فقول يزول باطله ويثبت حقه وأما استقامة الأمر فعلى كره كان منا وأما فلنا حدك يوم صفين فإنا كنا مع رجل نرى طاعته لله طاعة وأما وصية رسول الله بنا فمن آمن به رعاها بعده وأما قولك يأبى الحقير الغدرة فليس دون الله يد تحجزك منا يا معاوية
فقال معاوية يموه ارفعوا حوائجكم
130 - معاوية وصعصعة بن صوحان وعبد الله بن الكواء
روى المسعودي في مروج الذهب قال حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدى وعبد الله بن الكواء اليشكري ورجالا من أصحاب علي مع رجال من قريش فدخل عليهم معاوية يوما فقال نشدتكم بالله إلا ما قلتم حقا وصدقا أي الخلفاء رأيتموني فقال ابن الكواء لولا أنك عزمت علينا ما قلنا لأنك جبار عنيد لا تراقب الله في قتل الأخيار ولكنا نقول إنك ما علمنا واسع الدنيا ضيق الآخرة قريب الثرى بعيد المرعى تجعل الظلمات نورا والنور ظلمات فقال معاوية إن الله أكرم هذا الأمر

بأهل الشام الذابين عن بيضته التاركين لمحارمه ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله والمحلين ما حرم الله والمحرمين ما أحل الله فقال عبد الله ابن الكواء يا بن أبي سفيان إن لكل كلام جوابا ونحن نخاف جبروتك فإن كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في الله لومة لائم وإلا فإنا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا علي فرجه قال والله لا يطاق لك لسان
ثم تكلم صعصعة فقال تكلمت يا بن أبي سفيان فأبلغت ولم تقصر عما أردت وليس الأمر علي ما ذكرت أني يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ودانهم كبرا واستولي بأسباب الباطل كذبا ومكرا أما والله مالك في يوم بدر مضرب ولا مرمي وما كنت فيه إلا كما قال القائل لا حلي ولا سيري ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممن أجلب علي رسول الله وإنما أنت طليق ابن طليق أطلقكما رسول الله فأني تصلح الخلافة لطليق فقال معاوية لولا أني أرجع إلي قول أبي طالب حيث يقول
( قابلت جهلهم حلما ومغفرة ... والعفو عن قدرة ضرب من الكرم ) لقتلتكم
131 - صعصعة بن صوحان ومعاوية
ودخل صعصعة بن صوحان علي معاوية فقال له
يا بن صوحان أنت ذو معرفة بالعرب وحالها فأخبرني عن أهل البصرة وإياك والحمل علي قوم لقوم قال البصرة واسطة العرب ومنتهى الشرف والسودد وهم أهل الخطط في أول الدهر وآخره وقد دارت بهم سروات العرب كدوران الرحى علي قطبها قال فأخبرني عن أهل الكوفة قال قبة الإسلام وذروة الكلام ومصان ذوي الأعلام إلا أن بها أجلافا تمنع ذوي الأمر الطاعة وتخرجهم عن الجماعة وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة قال فأخبرني عن أهل الحجاز قال أسرع الناس إلي قتنة وأضعفهم عنها وأقلهم غناء فيها غير أن لهم ثباتا بالدين وتمسكا بعروة اليقين يتبعون الأئمة الأبرار ويخلعون الفسقة الفجار فقال معاوية من البررة والفسقة فقال يا بن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع علي وأصحابه من الأئمة الأبرار وأنت وأصحابك من أولئك ثم أحب معاوية أن يمضي صعصعة في كلامه بعد أن بان فيه الغضب فقال أخبرني عن القبة الحمراء في ديار مضر قال

( قابلت جهلهم حلما ومغفرة ... والعفو عن قدرة ضرب من الكرم ) لقتلتكم
131 - صعصعة بن صوحان ومعاوية
ودخل صعصعة بن صوحان على معاوية فقال له يا بن صوحان أنت ذو معرفة بالعرب وبحالها فأخبرني عن أهل البصرة وإياك والحمل على قوم لقوم قال البصرة واسطة العرب ومنتهى الشرف والسودد وهم أهل الخطط في أول الدهر وآخره وقد دارت بهم سروات العرب كدوران الرحى على قطبها قال فأخبرني عن أهل الكوفة قال قبة الإسلام وذروة الكلام ومصان ذوي الأعلام إلا أن بها أجلافا تمنع ذوي الأمر الطاعة وتخرجهم عن الجماعة وتلك أخلاق ذوي الهيئة والقناعة قال فأخبرني عن أهل الحجاز قال أسرع الناس إلى قتنه وأضعفهم عنها وأقلهم غناء فيها غير أن لهم ثباتا في الدين وتمسكا بعروة اليقين يتبعون الأئمة الأبرار ويخلعون الفسقة الفجار فقال معاوية من البررة والفسقة فقال يا بن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع علي وأصحابه من الأئمة الأبرار وأنت وأصحابك من أولئك ثم أحب معاوية أن يمضي صعصعة في كلامه بعد أن بان فيه الغضب فقال أخبرني عن القبة الحمراء في ديار مضر قال

أسد مضر بسلاء بين غيلين إذا أرسلتما افترست وإذا تركتها احترست فقال معاوية هنالك يا بن صوحان العز الراسي فهل في قومك مثل هذا قال هذا لأهله دونك يا بن أبي سفيان ومن أحب قوما حشر معهم قال فأخبرني عن ديار ربيعة ولا يستخفنك الجهل وسابقة الحمية بالتعصب لقومك قال والله ما أنا عنهم براض ولكني أقول فيهم وعليهم هم والله أعلام الليل وأذناب في الدين والميل لن تغلب رايتها إذا رشحت خوارج الدين برازخ اليقين من نصروه فلج ومن خذلوه زلج قال فأخبرني عن مضر قال كنانة العرب ومعدن العز والحسب يقذف البحر بها آذيه والبر رديه ثم أمسك معاوية فقال له صعصعة سل يا معاوية وإلا أخبرتك بما تحيد عنه قال وما ذاك يا بن صوحان قال أهل الشأم قال فأخبرني عنهم قال أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم للخالق عصاة الجبار وخلفة الأشرار فعليهم الدمار ولهم سوء الدار فقال معاوية والله

يا بن صوحان إنك لحامل مديتك منذ أزمان إلا أن حلم ابن أبي سفيان يرد عنك فقال صعصعة بل أمر الله وقدرته إن أمر الله كان قدرا مقدورا
132 - صعصعة بن صوحان وعبد الله بن عباس
وروى المسعودى في مروج الذهب أيضا قال عن مصقلة بن هبيرة الشيبانى قال سمعت صعصعة بن صوحان وقد سأله ابن عباس ما السودد فيكم فقال إطعام الطعام ولين الكلام وبذل النوال وكف المرء نفسه عن السؤال والتودد للصغير والكبير وأن يكون الناس عندك شرعا قال فما المروءة قال أخوان اجتمعا فإن لقيا قهرا وإن كان حارسهما قليل وصاحبهما جليل محتاجان إلى صيانة مع نزاهة وديانة قال فهل تحفظ في ذلك شعرا قال نعم أما سمعت قول مرة بن ذهل بن شيبان حيث يقول
( إن السيادة والمروءة علقا ... حيث السماء من السماك الأعزل )
( وإذا تقابل مجريان لغاية ... عثر الهجين وأسلمته الأرجل )
( ويجي الصريح مع العتاق معودا ... قرب الجياد فلم يجئه الأفكل )

في أبيات فقال له ابن عباس لو أن رجلا ضرب آباط إبله مشرفا ومغريا لفائدة هذه الأبيات ما عنفته إنا منك يا بن صوحان لعلى علم وحلم واستنباط ما قد عفا من أخبار العرب فمن الحليم فيكم قال من ملك غضبه فلم يفعل وسعي إليه بحق أو باطل فلم يقبل ووجد قاتل أبيه وأخيه فصفح ولم يقتل ذلك الحليم يا بن عباس قال فهل تجد ذلك فيكم كثيرا قال ولا قليلا وإنما وضعت لك أقواما لا تجدهم إلا خاشعين راهبين لله مريدين ينيلون ولا ينالون فأما الآخرون فإنهم سبق جهلهم حلمهم ولا يبالي أحدهم إذا ظفر ببغيته حين الحفيظة من كان بعد أن يدرك زعمه ويقضي بغيته ولو وتره أبوه لقتل أباه أو أخوه لقتل أخاه أما سمعت إلى قول ريان بن عمر بن ريان وذلك أن عمرا أباه قتله مالك بن كومة فأقام ريان زمانا ثم غزا مالكا فأتاه في مائتي فارس صباحا وهو في أربعين بيتا فقتله وقتل أصحابه وقتل عمه فيمن قتل ويقال بل كان أخاه وذلك أنه كان جاورهم فقيل لريان في ذلك قتلت صاحبنا فقال
( فلو أمي ثقفت بحيث كانوا ... لبل ثيابها علق صبيب )
( ولو كانت أمية أخت عمرو ... بهذا الماء ظل لها نحيب )
( شهرت السيف في الأدنين مني ... ولم تعطف أواصرنا قلوب )
فقال ابن عباس فمن الفارس فيكم حد لي حدا أسمعه منك فإنك تضع الأشياء مواضعها يا بن صوحان قال الفارس من قصر أجله في نفسه وضغم علي أمله بضرسه وكانت الحرب أهون عليه من أمسه ذلك الفارس إذا وقدت الحروب

واشتدت بالأنفس الكروب وتداعوا للنزال وتزاحفوا للقتال وتخالسوا المهج واقتحموا بالسيوف اللجج قال أحسنت والله يا بن صوحان إنك لسليل أقوام كرام خطباء فصحاء ما ورثت هذا عن كلالة زدني قال نعم الفارس كثير الحذر مدير النظر يلتفت بقلبه ولا يدير خرزات صلبه قال أحسنت والله يا بن صوحان الوصف فهل في مثل هذه الصفة من شعر قال نعم لزهير بن جناب الكلبي يرثي ابنه عمرا حيث يقول
( فارس تكلأ الصحابة منه ... بحسام يمر مر الحريق )
( لا تراه لدى الوغى في مجال ... يغفل الصرب لا ولا في مضيق )
( من يراه يخله في الحرب يوما ... أنه أخرق مضل الطريق ) في أبيات فقال له ابن عباس فأين أخواك منك يا بن صوحان صفهما لأعرف ورثكم قال أما زيد فكما قال أخو غني

( فتى لا يبالي أن يكون بوجهه ... إذا نال خلات الكرام شحوب )
( إذا ما تراءاه الرجال تحفظوا ... فلم ينطقوا العوراء وهو قريب )
( حليف الندى يدعو الندي فيجيبه ... قريبا ويدعوه الندى فيجيب )
( يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه ... إذا لم يكن في المنقيات حلوب )
( كأن بيوت الحي ما لم يكن بها ... بسابس ما يلفى بهن غريب )
في أبيات كان والله يا بن عباس عظيم المروءة شريف الأخوة جليل الخطر بعيد الأثر كميش العروة أليف الندوة سليم جوانح الصدر قليل وساوس الدهر ذاكرا لله طرفي النهار وزلفا من الليل الجوع والشبع عنده سيان لا ينافس في الدنيا وأقل أصحابه من ينافس فيها يطيل السكوت ويحفظ الكلام وإن نطق نطق بعقام يهرب منه الدعار الأشرار ويألفه الأحرار الأخيار قال ابن عباس ما ظنك برجل من أهل الجنة رحم الله زيدا فأين كان عبد الله منه قال كان عبد الله سيدا شجاعا مؤلفا مطاعا خيره وساع وشره

دفاع قلبي النحيزة أحوذي الغريزة لا ينهنهه منهنه عما أراده ولا يركب من الأمر إلا عتاده سمام عدا وباذل قرى صعب المقادة جزل الرفادة أخو إخوان وفتى فتيان وهو كما قال البرجمي عامر بن سنان
( سمام عدا بالنيل يقتل من رمى ... وبالسيف والرمح الرد ينى يشعب )
( مهيب مفيد للنوال معود ... بفعل الندى والمكرمات مجرب ) في أبيات فقال له ابن عباس أنت يا بن صوحان باقر علم العرب
133 - صعصعة بن صوحان ورجل من بني فزارة
ووقف رجل من بني فزارة على صعصعة فأسمعه كلاما منه بسطت لسانك يا بن صوحان على الناس فتهيبوك أما لئن شئت لأكونن لك لصاقا فلا تنطق إلا جددت لسانك بأذرب من ظبة السيف بعضب قوي ولسان علي ثم لا يكون لك في ذلك حل ولا ترحال فقال صعصعة لو أجد

غرضا منك لرميت بل أرى شبحا ولا إخال مثالا إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا أما لو كنت كفئا لرميت حصائلك بأذرب من ذلق السنان ولرشقتك بنبال تردعك عن النضال ولخطمتك بخطام يخزم منك موضع الزمام فاتصل الكلام بابن عباس فاستضحك من الفزارى وقال أما لو كلف أخو فزارة نفسه نقل الصخور من جبل شمام إلى الهضاب لكان أهون عليه من منازعة أخي عبد القيس خاب أبوه ما أجهله يستجهل أخا عبد القيس وقواه المريرة ثم تمثل
( صبت عليه ولم تنصب من أمم ... إن الشقاء على الأشقين مصبوب )
134 - رجل من آل صوحان يجبه عبد الملك بن مروان وهو يخطب
وخطب عبد الملك بن مروان فلما بلغ الغلظة قام إليه رجل من آل صوحان فقال مهلا مهلا يا بني مروان تأمرون ولا تأتمرون وتنهون ولا تنهون وتعظون

ولا تتعظون أفنقتدي بسيرتكم في أنفسكم أم نطيع أمركم بألسنتكم فإن قلتم اقتدوا بسيرتنا فأنى وكيف وما الحجة وما المصير من الله أنقتدي بسيرة الظلمة الفسقة الجورة الخونة الذين اتخذوا مال الله دولا وعبيده خولا وإن قلتم اسمعوا نصيحتنا وأطيعوا أمرنا فكيف ينصح لغيره من يغش نفسه أم كيف تجب الطاعة لمن لم تثبت عند الله عدالته وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها واقبلوا العظة ممن سمعتموها فعلام وليناكم أمرنا وحكمناكم في دمائنا وأموالنا أما علمتم أن فينا من هو أنطق منكم باللغات وأفصح بالعظات فتخلوا عنها وأطلقوا عقالها وخلوا سبيلها ينتدب إليها آل رسول الله الذين شردتموهم في البلاد ومزقتموهم في كل واد بل تثبت في أيديكم لانقضاء المدة وبلوغ المهلة وعظم المحنة إن لكل قائم قدرا لا يعدوه ويوما لا يخطوه وكتابا بعده يتلوه ( لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) ثم التمس الرجل فلم يوجد
135 - وصف عقيل بن أبي طالب لآل صوحان
قال معاوية لعقيل بن أبي طالب ميز لي أصحاب علي وابدأ بآل صوحان فإنهم مخاريق الكلام قال

أما صعصعة فعظيم الشان عضب اللسان قائد فرسان قاتل أقران يرتق ما فتق ويفتق ما رتق قليل النظير وأما زيد وعبد الله فإنهما نهران جاريان يصب فيهما الخلجان ويغاث بهما البلدان رجلا جد لا لعب معه وأما بنو صوحان فكما قال الشاعر
( إذا نزل العدو فإن عندي ... أسودا تخلس الأسد النفوسا )
136 - وصية محمد الباقر لعمر بن عبد العزيز
دخل أبو جعفر محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين عليهم السلام على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال يا أبا جعفر أوصني قال أوصيك أن تتخذ صغير المسلمين ولدا وأوسطهم أخا وكبيرهم أبا فارحم ولدك وصل أخاك وبر أباك وإذا صنعت معروفا فربه

خطب الزبيريين وما يتصل بها
خطب عبد الله بن الزبير قتل سنة 73ه
عبد الله بن الزبير ومعاوية
دخل الحسين بن علي رضي الله عنه يوما على معاوية ومعه مولى له يقال له ذكوان وعند معاوية جماعة من قريش فيهم ابن الزبير فرحب معاوية بالحسين وأجلسه على سريره وقال ترى هذا القاعد يعني ابن الزبير فإنه ليدركه الحسد لبني عبد مناف فقال ابن الزبير لمعاوية قد عرفنا فضل الحسين وقرابته من رسول الله لكن إن شئت أعلمتك فضل الزبير على أبيك أبي سفيان فعلت فتكلم ذكوان مولى الحسين بن علي فقال

137 - مقال ذكوان
يا بن الزبير إن مولاي ما يمنعه من الكلام إلا أن يكون طلق اللسان رابط الجنان فإن نطق نطق بعلم وإن صمت صمت بحلم غير أنه كف الكلام وسبق إلى السنام فأقرت بفضله الكرام وأنا الذي أقول
( فيم الكلام لسابق في غاية ... والناس بين مقصر ومبلد )
( إن الذي يجري ليدرك شأوه ... ينمي لغير مسود ومسدد )
( بل كيف يدرك نور بدر ساطع ... خير الأنام وفرع آل محمد )
فقال معاوية صدق قولك يا ذكوان أكثر الله في موالي الكرام مثلك فقال ابن الزبير إن أبا عبد الله سكت وتكلم مولاه ولو تكلم لأجبناه أو لكففنا عن جوابه إجلالا له ولا جواب لهذا العبد قال ذكوان هذا العبد خير منك قال رسول الله مولى القوم منهم فأنا مولى رسول الله وأنت ابن العوام بن خويلد فنحن أكرم ولاء وأحسن فعلا قال ابن الزبير إني لست أجيب هذا فهات ما عندك
138 - مقال معاوية
فقال معاوية قاتلك الله يا بن الزبير ما أعياك وأبغاك أتفخر بين يدي أمير المؤمنين وأبي عبد الله إنك أنت المتعدي لطورك الذي لا تعرف قدرك فقس شبرك بفترك

ثم تعرف كيف تقع بين عرانين بني عبد مناف أما والله لئن دفعت في بحور بني هاشم وبني عبد شمس لتقطعنك بأمواجها ثم لتوهين بك في أجاجها فما بقاؤك في البحور إذا غمرتك وفي الأمواج إذا بهرتك هنالك تعرف نفسك وتندم على ما كان من جرأتك وتمسي ما أصبحت إليه من أمان وقد حيل بين العير والنزوان فأطرق ابن الزبير مليا ثم رفع رأسه فالتفت إلى من حوله ثم قال
139 - مقال ابن الزبير
أسألكم بالله أتعلمون أن أبي حواري رسول الله وأن أباه أبا سفيان حارب رسول الله وأن أمي أسماء بنت أبي بكر الصديق

وأمه هند آكلة الأكباد وجدي الصديق وجده المشدوخ ببدر ورأس الكفر وعمتي خديجة ذات الخطر والحسب وعمته أم جميل حمالة الحطب وجدتي صفية وجدته حمامة وزوج عمتي خير ولد آدم محمد وزوج عمته شر ولد آدم أبو لهب سيصلى نارا ذات لهب وخالتي عائشة أم المؤمنين وخالته أشقي الأشقين وأنا عبد الله وهو معاوية

140 - مقال معاوية
فقال له معاوية
ويحك يا بن الزبير كيف تصف نفسك بما وصفتها والله مالك في القديم من رياسة ولا في الحديث من سياسة ولقد قدناك وسدناك قديما وحديثا لا تستطيع لذلك إنكارا ولا عنه فرارا وإن هؤلاء الحضور ليعلمون أن قريشا قد اجتمعت يوم الفجار على رياسة حرب بن أمية وأن أباك وأسرتك تحت رايته راضون بإمارته غير منكرين لفضله ولا طامعين في عزله إن أمر أطاعوا وإن قال أنصتوا فأنزل فينا القيادة وعز الولاية حتى بعث الله عز و جل محمدا

فانتخبه من خير خلقه من أسرتي لا أسرتك وبني أبي لا بني أبيك فجحدته قريش أشد الجحود وأنكرته أشد الإنكار وجاهدته أشد الجهاد إلا من عصم الله من قريش فما ساد قريشا وقادهم إلا أبو سفيان بن حرب فكانت الفئتان تلتقيان ورئيس الهدى منا ورئيس الضلالة منا فمهديكم تحت راية مهدينا وضالكم تحت راية ضالنا فنحن الأرباب وأنتم الأذناب حتى خلص الله أبا سفيان بن حرب بفضله من عظيم شركه وعصمه بالإسلام من عبادة الأصنام فكان في الجاهلية عظيما شأنه وفي الإسلام معروفا مكانه ولقد أعطي يوم الفتح ما لم يعط أحد من آبائك وإن منادي رسول الله نادى من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وكانت داره حرما لا دارك ولا دار أبيك وأما هند فكانت امرأة من قريش في الجاهلية عظيمة الخطر وفي الإسلام كريمة الخبر وأما جدك الصديق فبتصديق عبد مناف سمي صديقا لا بتصديق عبد العزى وأما ما ذكرت من جدي المشدوخ ببدر فلعمري لقد دعا إلي البراز هو وأخوه وابنه فلو برزت إليه أنت وأبوك ما بارزوكم ولا رأوكم لهم أكفاء كما قد طلب ذلك غيركم فلم يقبلوهم حتى برز إليهم أكفاؤهم من بني أبيهم فقضي الله مناياهم بأيديهم فنحن قتلنا ونحن قتلنا وما أنت وذاك وأما عمتك أم المؤمنين فبنا شرفت وسميت أم المؤمنين وخالتك عائشة مثل ذلك وأما صفية فهي أدنتك من الظل ولولا هي لكنت ضاحيا وأما ما ذكرت من ابن عمك وخال أبيك سيد الشهداء فكذلك كانوا رحمهم الله وفخرهم وإرثهم لي دونك ولا فخر لك فيهم ولا إرث بينك وبينهم

وأما قولك أنا عبد الله وهو معاوية فقد علمت قريش أينا أجود في الإزم وأحزم في القدم وأمنع للحرم لا والله ما أراك منتهيا حتى تروم من بني عبد مناف ما رام أبوك فقد طالعهم الذحول وقدم إليهم الخيول وخدعتم أم المؤمنين ولم تراقبوا رسول الله إذ مددتم على نسائكم السجوف وأبرزتم زوجته للحتوف ومقارعة السيوف فلما التقى الجمعان نكص أبوك هاربا فلم ينجه ذلك أن طحنه أبو الحسين بكلكله طحن الحصيد بأيدي العبيد وأما أنت فأفلت بعد أن خمشتك براثينه ونالتك مخاليبه وايم الله ليقومنك بنو عبد مناف بثقافها أو لتصبحن منها صباح أبيك بوادي السباع وما كان أبوك المدهن حده ولكنه كما قال الشاعر
( تناول سرحان فريسة ضيغم ... فقضقضه بالكف منه وحطما )
141 - عبد الله بن الزبير ومعاوية أيضا
دخل عبد الله بن الزبيرعلى معاوية فقال
يا أمير المؤمنين لا تدعن مروان يرمي جماهير قريش بمشاقصه ويضرب صفاتهم بمعوله أما والله لولا مكانك لكان أخف على رقابنا من فراشة وأقل

في أنفسنا من خشاشة وأيم الله لئن ملك أعنة خيل تنقاد له لتركبن منه طبقا تخافه فقال معاوية إن يطلب مروان هذا الأمر فقد طمع فيه من هو دونه وإن يتركه يتركه لمن فوقه وما أراكم بمنتهين حتى يبعث الله عليكم من لا يعطف عليكم بقرابة ولا يذكركم عند ملمة يسومكم خسفا ويسوقكم عسفا فقال ابن الزبير إذن والله يطلق عقال الحرب بكتائب تمور كرجل الجراد حافاتها الأسل لها دوي كدوي الريح تتبع غطريفا من قريش لم تكن أمه راعية ثلة فقال معاوية أنا ابن هند أطلقت عقال الحرب فأكلت ذروة السنام وشربت عنفوان المكرع وليس للآكل بعدي إلا الفلذة ولا للشارب إلا الرنق فسكت ابن الزبير
142 - عبد الله بن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص
قدم عبد الله بن الزبير على معاوية وافدا فرحب به وأدناه حتى أجلسه على سريره ثم قال حاجتك أبا خبيب فسأله أشياء ثم قال له سل غير ما سألت قال
نعم المهاجرون والأنصار ترد عليهم فيئهم وتحفظ وصية نبي الله فيهم تقبل

من محسنهم وتتجاوز عن مسيئهم فقال معاوية هيهات هيهات لا والله ما تأمن النعجة الذئب وقد أكل أليتها فقال ابن الزبير مهلا يا معاوية فإن الشاة لتدر للحالب وإن المدية في يده وإن الرجل الأريب ليصانع ولده الذي خرج من صلبه وما تدور الرحاء إلا بقطبها ولا تصلح القوس إلا بعجبها فقال يا أبا خبيب لقد أجررت الطروقة قبل هباب الفحل هيهات وهي لا تصطك لحيائها اصطكاك القروم السوامى فقال ابن الزبير العطن بعد العل والعل بعد النهل ولا بد للرحاء من الثفال ثم نهض ابن الزبير فلما كان العشاء أخذت قريش مجالسها وخرج معاوية على بني أمية فوجد عمرو بن العاص فيهم فقال ويحكم يا بني أمية أفيكم من يكفيني ابن الزبير فقال عمرو أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين قال ما أظنك تفعل قال بلى والله لأربدن وجهه ولأخرسن لسانه ولأردنه ألين من خميلة فقال دونك فاعرض له إذا دخل فدخل ابن الزبير وكان قد بلغه كلام معاوية وعمرو فجلس نصب عيني عمرو فتحدثوا ساعة ثم قال عمرو
( وإني لنار ما يطاق اصطلاؤها ... لدي كلام معضل متفاقم )
فأطرق ابن الزبير ساعة ينكت في الأرض ثم رفع رأسه وقال

( وإني لبحر ما يسامى عبابه ... متي يلق بحري حر نارك تخمد
فقال عمرو والله يا بن الزبير إنك ما علمت لمتجلبب جلابيب الفتنة متأزر بوصائل التيه تتعاطى الذرى الشاهقة والمعالي الباسقة وما أنت من قريش في لباب جوهرها ولا مؤنق حسبها فقال ابن الزبير أما ما ذكرت من تعاطي الذرى فإنه طال بي إليها وسما مالا يطول بك مثله أنف حمي وقلب ذكي وصارم مشرفي في تليد فارع وطريف مانع إذ قعد بك انتفاخ سحرك ووجيب قلبك وأما ما ذكرت مع أني لست من قريش في لباب جوهرها ومؤنق حسبها فقد حضرتنى وإياك الأكفاء العالمون بي وبك فاجعلهم بيني وبينك فقال القوم قد أنصفك يا عمرو قال قد فعلت فقال ابن الزبير أما إذا أمكنني الله منك فلأربدن وجهك ولأخرسن لسانك ولترجعن في هذه الليلة وكأن الذي بين منكبيك مشدود إلى عروق أخدعيك ثم قال أقسمت عليكم يا معاشر قريش أنا أفضل في دين الإسلام أم عمرو فقالوا اللهم أنت قال فأبي أفضل أم أبوه قالوا أبوك حواري رسول الله وآله وابن عمته قال فأمي أفضل أم أمه قالوا أمك أسماء بنت أبي بكر الصديق وذات النطاقين قال فعمتي أفضل أم عمته قالوا عمتك سلمى بنة العوام صاحبة رسول الله وآله أفضل من عمته قال فخالتي أفضل أم خالته قالوا خالتك عائشة أم المؤمنين قال فجدتي أفضل أم جدته قالوا جدتك صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله وآله قال فجدي أفضل أم جده قالوا جدك أبو بكر الخليفة بعد رسول الله وآله فقال
( قضت الغطارف من قريش بيننا ... فاصبر لفضل خصامها وقضائها )

( وإذا جريت فلا تجار مبرزا ... بذ الجياد على احتفال جرائها )
أما والله يا بن العاص لو أن الذي أمرك بهذا واجهني بمثله لقصرت إليه من سامي بصره ولتركته يتلجلج لسانه وتضطرم النار في جوفه ولقد استعان منك بغير واف ولجأ إلى غير كاف ثم قام فخرج
143 - خطبة ابن الزبير لما قتل الحسين عليه السلام
لما قتل الحسين عليه السلام قام عبد الله بن الزبير في أهل مكة وعظم مقتله وعاب على أهل الكوفة خاصة ولام أهل العراق عامة فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد إن أهل العراق غدر فجر إلا قليلا وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق وإنهم دعوا حسينا لينصروه ويولوه عليهم فلما قدم عليهم ثاروا إليه فقالوا له إما أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية سلما فيمضي فيك حكمه وإما أن تحارب فرأى والله أنه هو وأصحابه قليل في كثير وإن كان الله عز و جل لم يطلع على الغيب أحدا أنه مقتول ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة فرحم الله حسينا وأخزى قاتل حسين لعمري لقد كان من خلافهم إياه وعصيانهم ما كان في مثله واعظ وناه عنهم ولكنه ما حم نازل وإذا أراد الله أمرا لن يدفع
أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهدا لا ولا نراهم لذلك أهلا أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه كثيرا في النهار

صيامه أحق بما هم فيه منهم وأولى به في الدين والفضل أما والله ما كان يبدل بالقرآن الغناء ولا بالبكاء من خشية الله الحداء ولا بالصيام شرب الحرام ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في تطلاب الصيد يعرض بيزيد فسوف يلقون غيا
فثار إليه أصحابه فقالوا له أيها الرجل أظهر بيعتك فإنه لم يبق أحد إذ هلك حسين ينازعك هذا الأمر وقد كان يبايع الناس سرا ويظهر أنه عائذ بالبيت
144 - مناظرة ابن الزبير للخوارج
اجتمعت الخوارج حين ثار عبد الله بن الزبير بمكة سنة 64وسار إليه مسلم ابن عقبة المري في جيش من أهل الشأم بعد أن غزا المدينة وكان منه في وقعة الحرة ما كان فقال لهم نافع بن الأزرق اخرجوا بنا نأت البيت ونلق هذا الرجل فإن يكن على رأينا جاهدنا معه العدو وإن يكن على غير رأينا دافعنا عن البيت ما استطعنا ونظرنا بعد ذلك في أمورنا فخرجوا حتى قدموا على عبد الله بن الزبير فسر بمقدمهم ونبأهم أنه على رأيهم وأعطاهم الرضا من غير توقف ولا تفتيش فقاتلوا معه حتى مات يزيد بن معاوية وانصرف أهل الشأم عن مكة
ثم إن القوم لقي بعضهم بعضا فقالوا إن هذا الذي صنعتم أمس بغير رأي ولا صواب من الأمر تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس على رأيكم إنما كان أمس يقاتلكم هو وأبوه ينادي يا لثارات عثمان ندخل إليه فننظر ما عنده فإن قدم أبا بكر

وعمر وبرئ من عثمان وعلي وكفر أباه وطلحة بايعناه وإن تكن الأخرى ظهر لنا ما عنده فتشاغلنا بما يجدي علينا
فدخلوا على ابن الزبير وهو مبتذل وأصحابه متفرقون عنه فقالوا إنا جئناك لتخبرنا رأيك فإن كنت على الصواب بايعناك وإن كنت على غيره دعوناك إلي الحق ما تقول في الشيخين قال خيرا قالوا فما تقول في عثمان الذي أحمى الحمى وآوى الطريد وأظهر لأهل مصر شيئا وكتب بخلافه وأوطأ آل أبي معيط رقاب الناس وآثرهم بفئ المسلمين وفي الذي بعده الذي حكم في دين الله الرجال وأقام على ذلك غير تائب ولا نادم وفي أبيك وصاحبه وقد بايعا عليا وهو إمام عادل مرضي لم يظهر منه كفر ثم نكثا بعرض من أعراض الدنيا وأخرجا عائشة تقاتل وقد أمرها الله وصواحبها أن يقرن في بيوتهن وكان لك في ذلك ما يدعوك إلى التوبة فإن أنت قلت كما نقول فلك الزلفى عند الله والنصر على أيدينا ونسأل الله لك التوفيق وإن أبيت إلا نصر رأيك الأول وتصويب أبيك وصاحبه والتحقيق بعثمان والتولي في السنين الست التي أحلت دمه ونقضت أحكامه وأفسدت إمامته خذلك الله

وانتصر منك بأيدينا فقال ابن الزبير إن الله أمر وله العزة والقدرة في مخاطبة أكفر الكافرين وأعتى العتاة بأرأف من هذا القول فقال لموسى وأخيه ولأخيه صلى الله عليهما إلى ( اذهبا إلي فرعون إنه طغي فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) وقال رسول الله لا تؤذوا الأحياء بسب الموتى فنهى عن سب أبي جهل من أجل عكرمة ابنه وأبو جهل عدو الله وعدو الرسول والمقيم على الشرك والجاد في المحاربة والمتبغض إلى رسول الله قبل الهجرة والمحارب له بعدها وكفى بالشرك ذنبا وقد كان يغنيكم عن هذا القول الذي سميتم فيه طلحة وأبي أن تقولوا أتبرأ من الظالمين فإن كانا منهم دخلا في غمار المسلمين وإن لم يكونا منهم لم تحفظوني بسب أبي وصاحبه وأنتم تعلمون أن الله عز و جل قال للمؤمن في أبويه ( وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ) وقال جل ثناؤه ( وقولوا للناس حسنا ) وهذا الذي دعوتم إليه أمر له ما بعده وليس يقنعكم إلا التوقيف والتصريح ولعمري إن ذلك لأحرى بقطع الحجج وأوضح لمنهاج الحق وأولى أن يعرف كل صاحبه من عدوه فروحوا إلي من عشيتكم هذه اكشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله تعالى
فلما كان العشي راحوا إليه فخرج إليهم وقد لبس سلاحه فلما رأي ذلك نجدة قال هذا خروج منابذ لكم فجلس على رفيع من الأرض فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم ذكر أبا بكر وعمر أحسن ذكر ثم ذكر عثمان في السنين الأوائل من خلافته ثم وصلهن بالسنين التي أنكروا سيرته فيها فجعلها كالماضية وخبر أنه

آوى الحكم بن أبي العاص بإذن رسول الله وذكر الحمى وما كان فيه من الصلاح وأن القوم استعتبوه من أمور وكان له أن يفعلها أولا مصيبا ثم أعتبهم بعد ذلك محسنا وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه منه بعد أن ضمن لهم العتبى ثم كتب لهم ذلك الكتاب بقتلهم فدفعوا الكتاب إليه حلف بالله أنه لم يكتبه ولم يأمر به وقد أمر الله عز و جل بقبول اليمين ممن ليس له مثل سابقته مع ما اجتمع له من صهر رسول الله ومكانه من الإمامة وأن بيعة الرضوان تحت الشجرة إنما كانت بسببه وعثمان الرجل الذي لزمته يمين لو حلف عليها لحلف على حق فافتداها بمائة ألف ولم يحلف وقد قال رسول الله من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرض فعثمان أمير المؤمنين كصاحبيه وأنا ولي وليه وعدو عدوه وأبي وصاحبه صاحبا رسول الله ورسول الله يقول عن الله عز و جل يوم أحد لما قطعت إصبع طلحة سبقته إلى الجنة وقال أوجب طلحة وكان الصديق إذا ذكر يوم أحد قال ذاك يوم كله أو جله لطلحة والزبير حواري رسول الله وصفوته وقد ذكر أنهما في الجنة فقال جل وعز ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) وما أخبرنا بعد أنه سخط عليهم فإن يكن ما سعوا فيه حقا فأهل ذلك هم وإن يكن زلة ففي عفو الله تمحيصها وفيما وفقهم له من السابقة مع نبيهم ومهما ذكرتموها فقد بدأتم بأمكم عائشة رضي الله عنها فإن أبي آب

أن تكون له أما نبذ اسم الإيمان عنه وقد قال الله جل ذكره وقوله الحق ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه
145 - أبو صخر الهذلي وعبد الله بن الزبير
وروى أبو الفرج الأصفهاني قال لما ظهر ابن الزبير بالحجاز وغلب عليها بعد موت يزيد بن معاوية وتشاغل بنو أمية بالحرب بينهم في مرج راهط وغيره دخل عليه أبو صخر الهذلي في هذيل وقد جاءوه ليقبضوا عطاءهم وكان عارفا بهواه في بني أمية فمنعه عطاءه فقال علام تمنعني حقا لي وأنا امرؤ مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا ولا أخرجت من طاعة يدا قال عليك بني أمية فاطلب عندهم عطاءك قال إدن أجدهم سباطا أكفهم سمحة أنفسهم بذلاء لأموالهم وهابين لمجتديهم كريمة أعراقهم شريفة أصولهم زاكية فروعهم قريبا من رسول الله نسبهم وسببهم ليسوا إذا نسبوا بأذناب ولا وشائظ ولا أتباع ولا هم في قريش كفقعة القاع لهم السودد في الجاهلية والملك في الإسلام لا كمن لا يعد في عيرها ولا نفيرها ولا حكم آباؤه في نقيرها ولا قطميرها ليس

من أحلافها المطيبين ولا من سادتها المطعمين ولا من جودائها الوهابين ولا من هاشمها المنتخبين ولا عبد شمسها المسودين وكيف نقاتل الرءوس بالأذناب وأين النصل من الجفن والسنان من الزج والذنابي من القدامى وكيف يفضل الشحيح على الجواد والسوقة على الملك والجامع بخلا على المطعم فضلا
فغضب ابن الزبير حتى ارتعدت فرائصه وعرق جبينه واهتز من قرنه إلى قدمه وامتقع لونه ثم قال له يا بن البوالة على عقبيها ويا جلف يا جاهل أما والله لولا الحرمات الثلاث حرمة الإسلام وحرمة الحرم وحرمة الشهر الحرام لأخذت الذي فيه عيناك ثم أمر به إلى سجن عارم فحبس به مدة ثم استوهبته هذيل ومن له من قريش خئولة في هذيل فأطلقه بعد سنة واقسم ألا يعطيه عطاء مع المسلمين أبدا
فلما ولي عبد الملك أمر له بما فاته من العطاء ومثله صلة من ماله وكساه وحمله
146 - خطبته وقد قدم عليه وفد العراق
قدم وفد من العراق على عبد الله بن الزبير فأتوه في المسجد الحرام في يوم جمعة فسلموا عليه فسألهم عن مصعب أخيه وعن سيرته فيهم فقالوا أحسن الناس سيرة

وأقضاه بحق وأعدله في حكم فصلى عبد الله بالناس الجمعة ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
( قد جربونى ثم جربونى ... من غلوتين ومن المئين )
( حتى إذا شابوا وشيبونى ... خلوا عناني ثم سيبونى )
أيها الناس إني قد سألت هذا الوفد من أهل العراق عن عاملهم مصعب بن الزبير فأحسنوا الثناء عليه وذكروا عنه ما أحب ألا إن مصعبا أطبى القلوب حتى ما تعدل به والأهواء حتى ما تحول عنه واستمال الألسن بثنائها والقلوب بنصحها والنفوس بمحبتها فهو المحبوب في خاصته المحمود في عامته بما أطلق الله به لسانه من الخير وبسط يده من البذل ثم نزل
147 - خطبته لما بلغه قتل مصعب
لما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير سنة 71ه وانتهى خبر مقتله إلي عبد الله بن الزبير أضرب عن ذكره أياما حتى تحدث به إماء مكة في الطريق ثم صعد المنبر فجلس عليه مليا لا يتكلم والكآبة على وجهه وجبينه يرشح عرقا فقال رجل من قريش لرجل إلى جانبه ماله لا يتكلم أتراه يهاب المنطق فوالله إنه للبيب الخطباء قال لعله يريد أن يذكر مقتل مصعب سيد العرب فيشتد ذلك عليه وغير ملوم ثم تكلم فقال
الحمد لله الذي له الخلق والأمر وملك الدنيا والآخرة يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء أما بعد فإنه لم يعز الله

من كان الباطل معه وإن كان معه الأنام طرا ولم يذل من كان الحق معه وإن كان مفردا ضعيفا ألا وإنه قد أتانا خبر من العراق بلد الغدر والشقاق فساءنا وسرنا أتانا أن مصعبا قتل رحمة الله عليه ومغفرته فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة ولوعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوى من بعد ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر وكريم العزاء وأما الذي سرنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له وأنه عز و جل جاعل لنا وله في ذلك الخيرة إن شاء الله تعالى
أسلمه الطغام الصم الآذان أهل العراق إسلام النعم المخطمة وباعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه فإن يقتل فقد قتل أبوه وعمه وأخوه وكانوا الخيار الصالحين إنا والله لا نموت حتف آنافنا ولكن قعصا بالرماح

وموتا تحت ظلال السيوف وليس كما يموت بنو مروان والله ما قتل منهم رجل في زحف في جاهلية ولا إسلام قط ألا وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه فإن تقبل الدنيا علي لم آخذها أخذ الأشر البطر وإن تدبر عني لم أبك عليها بكاء الخرق المهين أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ثم نزل
148 - خطبة أخرى له
وقال الجاحظ لما جاءه قتل أخيه مصعب قام خطيبا بعد خطبته الأولى فقال إن مصعبا قدم أيره وأخر خيره وتشاغل بنكاح فلانة وفلانة وترك حلبة أهل الشأم حتى غشيته في داره ولئن هلك مصعب إن في آل الزبير خلفا منه
149 - خطبته وقد بلغه قتل عمرو الأشدق
وروي الجاحظ أيضا أنه لما بلغه قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد الأشدق قام خطيبا فقال

إن أبا ذبان قتل لطيم الشيطان كذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون
150 - عبد الله بن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر
دخل ابن الزبير على أمه أسماء بنت أبي بكر في اليوم الذي قتل فيه وقد رأى من الناس ما رأى من خذلانهم فقال
يا أمه خذلني الناس حتى ولدي وأهلي فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك فقالت أنت والله يا بني أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين وكم خلودك في الدنيا القتل أحسن والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بسوط في ذل قال إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي قالت يا بني إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها
فدنا منها وقبل رأسها وقال هذا والله رأيي والذي قمت به داعيا إلى يومي هذا

ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه ولكنني أحببت أن أعلم رأيك فزدتني بصيرة مع بصيرتي فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ولا عملا بفاحشة ولم يجر في حكم الله ولم يغدر في أمان ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي اللهم إني لا أقول هذا تزكية مني لنفسي أنت أعلم بي ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني فقالت أمه إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني وإن تقدمتك ففي نفسي حرج حتى أنظر إلام يصير أمرك قال يا أمه جزاك الله خيرا فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد فقالت لا أدعه أبدا فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت اللهم أرحم طول ذلك القيام في الليل الطويل وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة وبره بأبيه وبي اللهم قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين ثم ودعها وخرج
151 - خطبته يوم قتله
وخرج من عندها فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إن الموت قد تغشاكم سحابه وأحدق بكم ربابه واجتمع بعد تفرق وارجحن بعد تمشق ورجس نحوكم رعده وهو مفرغ عليكم ودقه

وقائد إليكم البلايا تتبعها المنايا فاجعلوا السيوف لها غرضا واستعينوا عليها بالصبر وتمثل بأبيات ثم اقتحم يقاتل وهو يقول
( قد جد أصحابك ضرب الأعناق ... وقامت الحرب لها على ساق )
152 - خطبة أخرى وروي الطبري قال لما كان يوم الثلاثاء صبيحة سبع عشرة من جمادى الأولى سنة 73ه وقد أخذ الحجاج على ابن الزبير بالأبواب صلى بأصحابه الفجر ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا آل الزبير لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنا أهل بيت من العرب اصطلمنا في الله لم تصبنا زباء بتة أما بعد يا آل الزبير فلا يرعكم وقع السيوف فإني لم أحضر موطنا قط إلا أرتثثت فيه من القتل وما أجد من دواء جراحها أشد مما أجد من ألم وقعها صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل غضوا أبصاركم عن البارقة وليشغل كل امرئ قرنه ولا يلهينكم السؤال عني ولا تقولن أين عبد الله بن الزبير ألا من كان سائلا عني فإني في الرعيل الأول
( أبى لابن سلمى أنه غير خالد ... ملاقي المنايا أي صرف تميما )

( فلست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما )
احملوا على بركة الله ثم قاتل حتى أثخن بالجراحات وقتل
153 - خطبة مصعب بن الزبير
بعث عبد الله بن الزبير أخاه مصعبا واليا على البصرة سنة 67ه فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
بسم الله الرحمن الرحيم ( طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ) وأشار بيده نحو الشام ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) وأشار بيده نحو الحجاز ( ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ) وأشار بيده نحو العراق

خطب الأمويين
خطباء البيت الأموي
خطب معاوية توفي سنة 60ه
154 - خطبته بالمدينة عام الجماعة
قدم معاوية المدينة عام الجماعة سنة 41ه فتلقاه رجال قريش فقالوا الحمد لله الذي أعز نصرك وأعلى كعبك فما رد عليهم شيئا حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة وأردتها على عمل عمر فنفرت من ذلك نفارا شديدا وأردتها علي سنيات عثمان فأبت علي فسلكت بها طريقا لي ولكم فيه منفعة مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية والله لا أحمل السيف على من لا سيف له وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك له دبر أذني

وتحت قدمي وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه فإن أتاكم مني خير فاقبلوه فإن السيل إذا جاد يثرى وإذ قل أغنى وإياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة ثم نزل
155 - خطبة أخرى له بالمدينة
وخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي ثم قال أما بعد أيها الناس إنا قدمنا عليكم وإنما قدمنا على صديق مستبشر أو على عدو مستتر وناس بين ذلك ينظرون وينتظرون فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولست واسعا كل الناس فإن كانت محمدة فلا بد من مذمة فلوما هونا إذا ذكر غفر وإياكم والتي إن أخفيت أوبقت وإن ذكرت أوثقت ثم نزل
156 - خطبة له بالمدينة
وصعد منبر المدينة فحمد الله واثنى عليه ثم قال يأهل المدينة إني لست أحب أن تكونوا خلقا كخلق العراق يعيبون الشيء وهم فيه كل امرئ منهم شيعة نفسه فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شر لكم وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت ولو قد أتى فالرتق خير من الفتق وفي كل بلاغ ولا مقام على الرزية

157 - خطبته حين ولى المغيرة بن شعبة الكوفة
ولما ولى معاوية المغيرة بن شعبة الكوفة في جمادى سنة 4ه دعاه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وقد قال المتلمس
( لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما )
وقد يجزي الحكيم بغير التعليم وقد أردت إيصاءك بأشياء كثيرة فأنا تاركها اعتمادا على بصرك بما يرضيني ويسعد سلطاني وتصلح به رعيتي ولست تاركا إيصاءك بخصلة لا تتحم عن شتم علي وذمه والترحم على عثمان والاستغفار له والعيب على أصحاب علي والإقصاء لهم وترك الاستماع منهم وبإطراء شيعة عثمان رضوان الله عليه والإدناء لهم والاستماع منهم
فقال المغيرة قد جربت وجربت وعملت قبلك لغيرك فلم يذمم بي دفع ولا رفع ولا وضع فستبلو فتحمد أو تذم قال بل نحمد إن شاء الله

158 - خطبة له في يوم صائف
وخطب الجمعة في يوم صائف شديد الحر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال إن الله عز و جل خلقكم فلم ينسكم ووعظكم فلم يهملكم فقال ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) قوموا إلى صلاتكم
159 - آخر خطبة له
صعد المنبر محمد الله وأثنى عليه ثم قبض على لحيته وقال أيها الناس إني من زرع قد استحصد وقد طالت عليكم إمرتي حتى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيتم فراقي وإنه لا يأتيكم بعدي إلا من هو شر مني كما لم يأتكم قبلي إلا من كان خيرا مني وإنه من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي ثم نزل فما صعد المنبر حتى مات
160 - خطبته وقد حضرته الوفاة
ولما حضرت معاوية الوفاة قال لمولى له من بالباب قال نفر من قريش يتباشرون بموتك قال ويحك ولم قال لا أدري قال فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم وأذن للناس فدخلوا فحمد الله وأثنى عليه وأوجز ثم قال

أيها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود وزمن شديد يعد فيه المحسن مسيئا ويزداد فيه الظالم عتوا لا ننتفع بما علمناه ولا نسأل عما جهلناه ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا فالناس على أربعة أصناف منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلال حده ونضيض وفره ومنهم المصلت لسيفه المجلب بخيله ورجله المعلن بشره قد أشرط نفسه وأوبق دينه لحطام ينتهره أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه ولبئس المتجر أن تراهما لنفسك ثمنا ومما لك عند الله عوضا ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشمر من ثوبه وزخرف نفسه للأمانة واتخذ ستر الله ذريعة للمعصية ومنهم من قد أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه وانقطاع سببه فقصرت به الحال عن أمله قتحلى باسم القناعة وتزين بلباس الزهاد وليس من ذلك في مراح ولا مغدى وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع وأراق دموعهم خوف المحشر فهم بين شريد نافر وخائف منقمع وساكت مكعوم وداع مخلص وموجع ثكلان قد أخملتهم التقية وشملتهم الذلة فهم بحر أجاج أفواههم ضامزة وقلوبهم قرحة قد وعظوا حتى ملوا وقهروا حتى ذلوا وقتلوا

حتى قلوا فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقراضة الجلمين واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم فارفضوها ذميمة فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم
161 - وصيته لابنه يزيد
لما حضرت معاوية الوفاة ويزيد غائب دعا معاوية مسلم بن عقبة المرى والضحاك بن قيس الفهري فقال أبلغا عني يزيد وقولا له يا بني إني قد كفيتك الشد والترحال ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء وأخضعت لك رقاب العرب وجمعت لك ما لم يجمعه أحد فانظر أهل الحجاز فإنهم أصلك وعترتك فمن أتاك منهم فأكرمه ومن قعد عنك فتعهده وانظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل فإن عزل عامل أهون عليك من سل مائة ألف سيف ثم لا تدري علام أنت عليه منهم ثم انظر أهل الشأم فاجعلهم الشعار دون الدثار فإن رابك من عدوك ريب فارمهم بهم فإن

أظفرك الله بهم فاردد أهل الشأم إلى بلادهم ولا يقيموا في غير بلادهم فيتأدبوا بغير أدبهم
وإني لست أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر إلا أربعة نفر من قريش الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذه الورع وإذا لم يبق أحد غيره بايعك وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه فإن خرج وظفرت به فاصفح عنه فإن له رحما ماسة وحقا عظيما وقرابة من محمد صلوات الله عليه وسلامه وأما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثلهم ليست له همة إلا في النساء واللهو وأما ابن الزبير فإنه خب ضب فإن ظفرت به فقطعه إربا إربا أو قال وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإن أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير فإن هو وثب عليك فظفرت به فقطعه إربا إربا واحقن دماء قومك ما استطعت

خطب يزيد بن معاوية توفي سنة 64ه
162 - خطبته بعد موت معاوية
الحمد لله الذي ما شاء صنع من شاء أعطى ومن شاء منع ومن شاء خفض ومن شاء رفع إن أمير المؤمنين كان حبلا من حبال الله مده ما شاء أن يمده ثم قطعه حين أراد أن يقطعه وكان دون من قبله وخيرا ممن يأتي بعده ولا أزكيه عند ربه وقد صار إليه فإن يعف فبرحمته وإن يعاقبه فبذنبه وقد وليت بعده الأمر ولست أعتذر من جهل ولا أشتغل بطلب علم وعلى رسلكم إذا كره الله شيئا غيره وإذا أحب شيئا يسره
163 - خطبة أخرى له
الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله اصطفاه لوحيه واختاره لرسالته بكتاب فصله وفضله وأعزه وأكرمه ونصره وحفظه ضرب فيه الأمثال وحلل فيه الحلال وحرم فيه الحرام وشرع فيه الدين إعذارا وإنذارا لئلا يكون

للناس على الله حجة بعد الرسل ويكون بلاغا لقوم عابدين أوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم الذي ابتدأ الأمور بعلمه وإليه يصير معادها وانقطاع مدتها وتصرم دارها ثم إني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وراقت بالقليل وأينعت بالفاني وتحببت بالعاجل لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجيعتها أكالة غوالة غرارة لا تبقي على حال ولا يبقى لها حال لن تعدو الدنيا إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها أن تكون كما قال الله عز و جل ( واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فاصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ) نسأل الله ربنا وإلهنا وخالقنا ومولانا أن يجعلنا وإياكم من فزع يومئذ آمنين إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله يقول الله ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم )
164 - خطبة معاوية بن يزيد توفي سنة 64
أمر معاوية بن يزيد بن معاوية بعد ولايته فنودي بالشأم الصلاة جامعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني قد نظرت في أمركم فضعفت عنه فابتغيت لكم رجلا مثل عمر ابن الخطاب رحمة الله عليه حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده فابتغيت لكم ستة في الشورى

مثل ستة عمر فلم أجدها فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم فما كنت لأتزودها ميتا وما استمتعت بها حيا
ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس وتغيب حتى مات
165 - وصية مروان بن الحكم لابنه عبد العزيز
ولما انصرف مروان بن الحكم من مصر إلى الشام استعمل عبد العزيز ابنه على مصر وقال له حين ودعه أرسل حكيما ولا توصه أي بني انظر إلى عمالك فإن كان لهم عندك حق غدوة فلا تؤخره إلى عشية وإن كان لهم عشية فلا تؤخره إلى غدوة وأعطهم حقوقهم عند محلها تستوجب بذلك الطاعة منهم وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في الحق واستشر جلساءك وأهل العلم فإن لم يستبن لك فاكتب إلي يأتك رأيي فيه إن شاء الله تعالى وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة فإن أول من جعل السجن كان حليما ذا أناة ثم انظر إلي أهل الحسب والدين والمروءة فليكونوا أصحابك وجلساءك ثم اعرف منازلهم منك على غيرهم على غير استرسال ولا انقباض أقول هذا واستخلف الله عليك

خطب عبد الملك بن مروان توفي سنة 86ه
166 - خطبته بمكة
خطب بمكة فقال في خطبته أيها الناس إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف يريد عثمان بن عفان ولا بالخليفة المداهن يريد معاوية بن أبي سفيان ولا بالخليفة المأفون يريد يزيد بن معاوية فمن قال برأسه كذا قلنا له بسيفنا كذا ثم نزل
167 - خطبة له موجزة
وخطب على المنبر فقال أيها الناس إن الله حد حدودا وفرض فروضا فما زلتم تزدادون في الذنب ونزداد في العقوبة حتى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف

خطبته حين قتل عمر الأشدق بن سعيد بن العاص
ارموا بأبصاركم نحو أهل المعصية واجعلوا سلفكم لمن غبر منكم عظة ولا تكونوا أغفالا من حسن الاعتبار فتنزل بكم جائمة السطوات وتجوس خلالكم بوادر النقمات وتطأ رقابكم بثقلها العقوبة فتجعلكم همدا رفاتا وتشتمل عليكم بطون الأرض أمواتا فإياي من قول قائل ورشقة جاهل فإنما بيني وبينكم أن أسمع النغوة فأصمم تصميم الحسام المطرور وأصول صيال الحنق الموتور وإنما هي المصافحة والمكافحة بظبات السيوف وأسنة الرماح والمعاودة لكم بسوء الصباح فتاب تائب وهدل خائب والتوب مقبول والإحسان مبذول

لمن عرف رشده وأبصر حظه فانظروا لأنفسكم وأقبلوا على حظوظكم وليكن أهل الطاعة يدا على أهل الجهل من سفهائكم واستديموا النعمة التي ابتدأتكم برغيد عيشها ونفيس زينتها فإنكم من ذلك بين فضيلتين عاجل الخفض والدعة وآجل الجزاء والمثوبة عصمكم الله من الشيطان وفتنته ونزغه وأمدكم بحسن معونته وحفظه انهضوا رحمكم الله إلى قبض أعطياتكم غير مقطوعة عنكم ولا مكدرة عليكم
169 - خطبته لما دخل الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير
لما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير سنة 71ه دخل الكوفة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال أيها الناس إن الحرب صعبة مرة وإن السلم أمن ومسرة وقد زبنتنا الحرب وزبناها فعرفناها وألفناها فنحن بنوها وهي أمنا أيها الناس فاستقيموا على سبل الهدى ودعوا الأهواء المردية وتجنبوا فراق جماعات المسلمين ولا تكلفونا أعمال المهاجرين الأولين وأنتم لا تعملون أعمالهم ولا أظنكم تزدادون بعد الموعظة إلا شرا ولن نزداد بعد الإعذار إليكم والحجة عليكم إلا عقوبة فمن شاء منكم أن يعود بعد لمثلها فليعد فإنما مثلي ومثلكم كما قال قيس بن رفاعة الأنصاري
( من يصل نارى يبلا ذنب ولا ترة ... يصل بنار كريم غير غدار )
( أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كي لا ألام على نهي وإنذار )

( فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلقون خزيا ظاهر العار )
( لترجعن أحاديثا ملعنة ... لهو المقيم ولهو المدلج السارى )
( من كان في نفسه حوجاء يطلبها ... عندي فإني له رهن بإصحار )
( أقيم عوجته إن كان ذا عوج ... كما يقوم قدح النبعة الباري )
( وصاحب الوتر ليس الدهر مدركه ... عندي وإني لدراك بأوتار )
170 - خطبته عام حجه
وحج عبد الملك في بعض أعوامه فأمر الناس بالعطاء فخرجت بدرة مكتوب عليها من الصدقة فأبى أهل المدينة قبولها وقالوا إنما كان عطاؤنا من الفيء فقال عبد الملك وهو على المنبر يا معشر قريش مثلنا ومثلكم أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين فنزلا في ظل شجرة تحت صفاة فلما دنا الرواح خرجت إليهما من تحت الصفاة حية تحمل دينارا فألقته إليهما فقالا إن هذا لمن كنز فأقاما عليها ثلاثة أيام كل يوم تخرج إليهما دينارا فقال أحدهما لصاحبه إلى متى ننتظر هذه الحية ألا نقتلها ونحفر هذا الكنز فنأخذه فنهاه أخوه وقال ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال فأبى عليه

وأخذ فأسا معه ورصد الحية حتى خرجت فضربها ضربة جرحت رأسها ولم تقتلها فثارت الحية فقتلته ورجعت إلى جحرها فقام أخوه فدفنه وأقام حتى إذا كان من الغد خرجت الحية معصوبا رأسها ليس معها شيء فقال لها يا هذه إني والله ما رضيت ما أصابك ولقد نهيت أخي عن ذلك فهل لك أن نجعل الله بيننا أن لا تضريني ولا أضرك وترجعين إلى ما كنت عليه قالت الحية لا قال ولم ذلك قالت إني لأعلم أن نفسك لا تطيب لي أبدا وأنت ترى قبر أخيك ونفسي لا تطيب لك أبدا وأنا أذكر هذه الشجة وأنشدهم شعر النابغة
( فقالت أرى قبرا تراه مقابلي ... وضربة فأس فوق رأسي فاغره فيا معشر قريش وليكم عمر بن الخطاب فكان فظا غليظا مضيقا عليكم فسمعتم له وأطعتم ثم وليكم عثمان فكان سهلا فعدوتم عليه فقتلتموه وبعثنا عليكم مسلما يوم الحرة فقتلناكم فنحن نعلم يا معشر قريش أنكم لا تحبوننا أبدا وأنتم تذكرون يوم الحرة ونحن لا نحبكم أبدا ونحن نذكر قتل عثمان
171 - خطبته وقد علم بخروج ابن الأشعث
ولما ورد إليه كتاب الحجاج ينبئه بخروج ابن الأشعث خرج إلى الناس فقام فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال

إن أهل العراق طال عليهم عمري فاستعجلوا قدري اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشأم حتى يبلغوا رضاك فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك ثم نزل
172 - وصيته لبعض أمرائه
وأوصى عبد الملك أميرا سيره إلى أرض الروم فقال أنت تاجر الله لعباده فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحا أتجر وإلا تحفظ برأس المال ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة وكن من احتيالك على عدوك أشد حذرا من احتيال عدوك عليك
173 - وصيته للشعبي
وروى المسعودي في مروج الذهب قال ولما أفضى الأمر إلى عبد الملك بن مروان تاقت نفسه إلى محادثة الرجال والأشراف في أخبار الناس فلم يجد من يصلح لمنادمته غير الشعبي فلما حمل إليه ونادمه قال له يا شعبي لا تساعدني على ما قبح ولا ترد على الخطأ في مجلسي ولا تكلفني جواب التشميت والتهنئة ولا جواب السؤال والتعزية ودع عنك كيف أصبح الأمير وكيف أمسى وكلمني بقدر ما استطعمك واجعل بدل المدح لي صواب الاستماع مني واعلم أن صواب الاستماع أكثر من صواب القول وإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه شيء وأرني فهمك من طرفك وسمعك ولا تجهد نفسك في نظر

صوابي ولا تستدع بذلك الزيادة في كلامي فإن أسوأ الناس حالا من استكد الملوك بالباطل وإن أسوأ الناس حالا منهم من استخف بحقهم واعلم يا شعبي أن أقل من هذا يذهب بسالف الإحسان ويسقط حق الحرمة فإن الصمت في موضعه ربما كان أبلغ من النطق في موضعه وعند إصابته وفرصته
174 - وصيته لأخيه عبد العزيز بن مروان
وأوصى عبد الملك بن مروان أخاه عبد العزيز حين ولاه مصر فقال ابسط بشرك وألن كنفك وآثر الرفق في الأمور فإنه أبلغ بك وانظر حاجبك فليكن من خير أهلك فإنه وجهك ولسانك ولا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتكون أنت الذي تأذن له أو ترده وإذا خرجت إلي مجلسك فابدأ بالسلام يأنسوا بك وتثبت في قلوبهم محبتك وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشاورة فإنها تفتح مغاليق الأمور وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنه أقدر منك على ردها بعد إمضائها
175 - وصيته لولده عند وفاته
نظر عبد الملك إلى ابنه الوليد وهو يبكي عليه عند رأسه فقال يا هذا أحنين الحمامة إذا أنا مت فشمر واتزر والبس جلد نمر وضع سيفك علي عاتقك فمن أبدى ذات نفسه لك فاضرب عنقه ومن سكت مات بدائه

ثم أقبل عبد الملك يذم الدنيا فقال إن طويلك لقصير وإن كثيرك لقليل وإن كنا منك لفي غرور ثم أقبل على جميع ولده فقال أوصيكم بتقوى الله فإنها عصمة باقية وجنة واقية فالتقوى خير زاد وأفضل في المعاد وهي أحصن كهف وليعطف الكبير منكم على الصغير وليعرف الصغير حق الكبير مع سلامة الصدور والأخذ بجميل الأمور وإياكم والبغي والتحاسد فيهما هلك الملوك الماضون وذوو العز المكين يا بني أخوكم مسلمة نابكم الذي تفرون عنه ومجنكم الذي تستجنون به اصدروا عن رأيه وأكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم هذا الأمر كونوا أولادا أبرارا وفي الحروب أحرارا وللمعروف منارا وعليكم السلام
176 - خطبة للوليد بن عبد الملك بعد دفن أبيه توفي سنة 96ه
لما رجع الوليد من دفن عبد الملك لم يدخل منزله حتى دخل المسجد ونادى في الناس الصلاة جامعة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنه لا مؤخر لما قدم الله ولا مقدم لما أخر الله وقد كان من قضاء الله وسابق علمه وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه من الموت موت ولي هذه الأمة ونحن نرجو أن يصير إلى منازل الأبرار للذي كان عليه من الشدة على المريب واللين على أهل الفضل والدين مع ما أقام من منار الإسلام وأعلامه وحج هذا البيت وغزو هذه الثغور وشن الغارات على أعداء الله فلم يكن فيها عاجزا ولا وانيا ولا مفرطا فعليكم أيها الناس بالطاعة ولزوم الجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الجماعة أبعد واعلموا أنه من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه ثم نزل

177 - خطبة لسليمان بن عبد الملك توفي سنة 99ه
الحمد لله ألا إن الدنيا دار غرور ومنزل باطل تضحك باكيا وتبكي ضاحكا وتخيف آمنا وتؤمن خائفا وتفقر مثريا وتثري مقترا ميالة غرارة لعابة بأهلها عباد الله فاتخذوا كتاب الله إماما وارتضوا به حكما واجعلوه لكم قائدا فإنه ناسخ لما كان قبله ولم ينسخه كتاب بعده واعلموا عباد الله أن هذا القرآن يجلو كيد الشيطان كما يجلو ضوء الصبح إذا تنفس ظلام الليل إذا عسعس

خطب عمر بن عبد العزيز توفي سنة 101ه
178 - أولى خطبه
قال العتبى أول خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوله أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم وأصلحوا آخرتكم تصلح دنياكم وإن امرأ ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرق في الموت
179 - خطبة له بالمدينة
وفي سنة 87ه ولى الوليد عمر بن عبد العزيز المدينة فلما قدمها صلى الظهر ودعا عشرة من فقهائها فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعوانا على الحق ما أريد أن أقطع أمرا إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم فإن رأيتم أحدا يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأحرج الله على من بلغه ذلك إلا بلغني
فخرجوا يجزونه خيرا

180 - خطبة أخرى
وروى المسعودي في مروج الذهب أنه لما أفضى إليه الأمر كان أول خطبة خطب الناس بها أن قال أيها الناس إنما نحن من أصول قد مضت فروعها فما بقاء فرع بعد أصله وإنما الناس في هذه الدنيا أغراض تنتضل فيهم المنايا وهم فيها نصب المصائب مع كل جرعة شرق وفي كل أكلة غصص لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله
وأورد القالي في الأمالي هذه الخطبة بصورة أطول وهي ما الجزع مما لا بد منه وما الطمع فيما لا يرجى وما الحيلة فيما سيزول وإنما الشئ من أصله فقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها فما بقاء فرع بعد أصله إنما الناس في الدنيا أغراض تنتضل فيهم المنايا وهم فيها نهب للمصائب مع كل جرعة شرق وفي كل أكلة غصص لا ينالون نعمة إلا بفراق أخرى ولا يعمر معمر يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله وأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم فأين المهرب مما هو كائن وإنما نتقلب في قدرة الطالب فما أصغر المصيبة اليوم مع عظيم الفائدة غدا وأكبر خيبة الخائب فيه والسلام

181 - خطبة أخرى
وروى أنه لما دفن سليمان بن عبد الملك وخرج من قبره سمع للأرض رجة فقال ما هذه فقيل هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها فقال مالي ولها نحوها عني قربوا إلي بغلتي فقربت إليه فركبها وجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة فقال تنح عني مالي ولك إنما إنما رجل من المسلمين فسار وسار معه الناس حتى دخل المسجد فصعد المنبر واجتمع إليه الناس فقال أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم
فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فل أمرك باليمن والبركة فلما رأى الأصوات قد هدأت ورضي به الناس جميعا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وقال أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله عز و جل خلف واعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم فإنه هادم اللذات وإن من لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم عليه السلام أبا حيا لمعرق في الموت وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز و جل ولا في نبيها ولا في كتابها وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم وإني والله لا أعطي أحدا باطلا ولا أمنع أحدا حقا إني لست

بخازن ولكني أضع حيث أمرت أيها الناس إنه قد كان قبلي ولاة تجترون مودتهم بأن تدفعوا بذلك ظلمهم عنكم ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق من أطاع الله وجبت طاعته ومن عصى الله فلا طاعة له أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
182 - خطبة أخرى
وروى أنه لما ولي الخلافة صعد المنبر وكان أول خطبة خطبها حمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فلا يقربنا يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها ويعيننا على الخير ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه ولا يغتابن عندنا الرعية ولا يعترض فيما لا يعنيه
فانقشع عنه الشعراء والخطباء وثبت الفقهاء والزهاد وقالوا ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف قوله فعله
183 - خطبة أخرى
وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس إنه ليس بعد نبيكم نبي وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة

وما حرم الله على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة ألا إني لست بقاض ولكني منفذ لله ولست بمبتدع ولكني متبع ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله عز و جل ألا إني لست بخيركم وإنما أنا رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملا يأيها الناس إن أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
184 - خطبة أخرى
وخطب فقال أيها الناس إنكم ميتون ثم إنكم مبعوثون ثم إنكم محاسبون فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم يأيها الناس إنه من يقدر له رزق برأس جبل أو بحضيض أرض يأته فأجملوا في الطلب
185 - خطبة أخرى
وخطب فقال إن الدنيا ليست بدار قرار دار كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها منها الظعن فكم عامر موثق عما قليل يخرب وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما يحضركم من النقلة وتزودوا فإن خير الزاد التقوى إنما الدنيا كفئ ظلال قلص فذهب بينا ابن آدم في الدنيا منافس وبها قرير عين

إذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه آثاره ودياره ودنياه وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر إنها تسر قليلا وتجر حزنا طويلا
186 - خطبة له يوم عيد
وخطب يوم عيد فحمد الله وأثنى عليه ثم تلا ثلاث آيات من كتاب الله عز و جل ثم قال يأيها الناس إني وجدت هذا القلب لا يعبر عنه إلا اللسان ولعمري وإن لعمري مني لحقا لوددت أنه ليس من الناس عبد ابتلي بسعة إلا نظر قطيعا من ماله يجعله في الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل بدأت أنا بنفسي وأهل بيتي ثم كان الناس بعد
ثم كان آخر كلمة تكلم بها حين نزل لولا سنة أحييتها أو بدعة أمتها لم أبال أن لا أبقى في الدنيا إلا فواقا
187 - خطبة له
وخطب فقال أما بعد أيها الناس فلا يطولن عليكم الأمد ولا يبعدن عنكم يوم القيامة فإن من زافت به منيته فقد قامت قيامته لا يستعتب من سيئ ولا يزيد في حسن

ألا لا سلامة لامرئ في خلاف السنة ولا طاعة لمخلوق في معصية الله ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصيا ألا وإن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله فقد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره ثم قال إنه لحبيب إلى أن أوفر أموالكم وأعراضكم إلا بحقها ولا قوة إلا بالله
188 - خطبة أخرى
وصعد ذات يوم المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنما يراد الطبيب للوجع الشديد ألا فلا وجع أشد من الجهل ولا داء أخبث من الذنوب ولا خوف أخوف من الموت ثم نزل
189 - خطبة أخرى
وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا والله ما كان لهم أن يعطوناها وما كان لنا أن نقبلها وإن ذلك قد صار إلي ليس علي فيه دون الله محاسب ألا وإني قد رددتها وبدأت بنفسي وأهل بيتي اقرأ يا مزاحم وكان مولاه
وقد جئ قبل ذلك بسفط فيه تلك الكتب فقرأ مزاحم كتابا منها ثم ناوله

عمر وهو قاعد على المنبر وفي يده جلم فجعل يقصه واستأنف مزاحم كتابا آخر فقرأه ثم دفعه إلى عمر فقصه فما زال حتى نودي بصلاة الظهر
190 - خطبة له
وكان يخطب فيقول أيها الناس من ألم بذنب فليستغفر الله عز و جل وليتب فإن عاد فليستغفر وليتب فإن عاد فليستغفر وليتب فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال وإن الهلاك كل الهلاك الإصرار عليها
191 - خطبة له
وخطب الناس بعد أن جمعهم فقال إني لم أجمعكم لأمر أحدثته ولكني نظرت في أمر معادكم وما أنتم إليه صائرون فوجدت المصدق به أحق والمكذب به هالكا ثم نزل
192 - خطبة له
وخطب فقال أيها الناس لا تستصغروا الذنوب والتمسوا تمحيص ما سلف منها بالتوبة منها إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين وقال عز و جل ( والذين

إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون
193 - خطبة له
وخطب فقال إن لكل سفر زادا لا محالة فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه وعقابه فرغبوا ورهبوا ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد إمسائه ولا يمسي بعد إصباحه وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا فكم رأينا ورأيتم من كان بالدنيا مغترا فأصبح في حبائل خطوبها ومناياها أسيرا وإنما تقرعين من وثق بالنجاة من عذاب الله وإنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة فأما من لا يبرأ من كلم إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يفرح أعوذ بالله أن آمركم بما أنهي عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عورتي وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغني والفقير والموازين منصوبة والجوارح ناطقة فلقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت ولو عنيت به الجبال لذابت أو الأرض لانفطرت أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة وأنكم صائرون إلى إحداهما

وروي أنه قال من وصل أخاه بنصيحة له في دينه ونظر له في صلاح دنياه فقد أحسن صلته وأدى واجب حقه فاتقوا الله فإنها نصيحة لكم في دينكم فاقبلوها وموعظة منجية في العواقب فالزموها الرزق مقسوم فلن يعدو المؤمن ما قسم له فأجملوا في الطلب فإن في القنوع سعة وبلغة وكفافا إن أجل الدنيا في أعناقكم وجهنم أمامكم وما ترون ذاهب وما مضى فكأن لم يكن وكل أموات عن قريب وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق وبعد فراغه وقد ذاق الموت والقوم حوله يقولون قد فرغ رحمه الله وعاينتم تعجيل إخراجه وقسمة تراثه ووجهه مفقود وذكره منسي وبابه مهجور كأن لم يخالط إخوان الحفاظ ولم يعمر الديار فاتقوا هول يوم لا يحقر فيه مثقال ذرة في الموازين
195 - خطبة له
وقال من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه والرضا قليل ومعول المؤمن الصبر وما أنعم الله على عبد نعمة ثم انتزعها منه فأعاضه مما انتزع منه الصبر إلا كان ما أعاضه خيرا مما انتزع منه ثم قرأ هذه الآية ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )

196 - خطبة له
وحدث شبيب بن شيبة عن أبي عبد الملك قال كنت من حرس الخلفاء قبل عمر فكنا نقوم لهم ونبدؤهم بالسلام فخرج علينا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في يوم عيد وعليه قميص كتان وعمامة على قلنسوة لاطئة فمثلنا بين يديه وسلمنا عليه فقال مه أنتم جماعة وأنا واحد السلام علي والرد عليكم وسلم فرددنا وقربت له دابته فأعرض عنها ومشي ومشينا حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن بهم وأكون أنا أولهم ثم قال مالي وللدنيا أم مالي ولها وتكلم فأرق حتى بكى الناس جميعا يمينا وشمالا ثم قطع كلامه ونزل فدنا منه رجاء بن حيوة فقال له يا أمير المؤمنين كلمت الناس بما أرق قلوبهم وأبكاهم ثم قطعته أحوج ما كانوا إليه فقال يا رجاء إني أكره المباهاة
197 - آخر خطبة له
وخطب بخناصره خطبة لم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله تعالى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا ولم تتركوا سدى وإن لكم معادا يحكم الله فيه بينكم فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم الجنة التي عرضها السموات والأرض واعلموا أن الأمان غدا لمن خاف ربه وباع قليلا بكثير

وفانيا بباق ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفها من بعدكم الباقون كذلك حتى تردوا إلى خير الوارثين ثم أنتم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه وبلغ أجله ثم تغيبونه في صدع من الأرض ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وواجه الحساب مرتهنا بعمله غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي فأستغفر الله لي ولكم وما تبلغنا عن أحد منكم حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها ولا أحد منكم إلا وددت أن يده مع يدي ولحمتى الذين يلوننى حتى يستوي عيشنا وعيشكم وايم الله إني لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان مني ناطقا ذلولا عالما بأسبابه لكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة دل فيها على طاعته ونهي فيها عن معصيته ثم بكى فتلقى دموع عينيه بطرف ردائه ثم نزل فلم ير على تلك الأعواد حتى قبضه الله
198 - خطبة أخري
وروي أن آخر خطبة خطبها رحمه الله حمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس الحقوا ببلادكم فإني أنساكم عندي وأذكركم ببلادكم ألا وإني قد استعملت عليكم رجالا لا أقول هم خياركم ولكنهم خير ممن هم شر منهم ألا فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي ألا وإني نعت نفسي وأهل بيتي هذا

المال فإن ضننت به عليكم إني إذن لضنين والله لولا أن أنعش سنة أو أسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقا
199 - كلامه في مرضه الذي مات فيه
ودخل عليه مسلمة بن عبد الملك في المرضة التي مات فيها فقال له يا أمير المؤمنين إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال وتركتهم عالة ولا بد من شيء يصلحهم فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتك مئونتهم إن شاء الله فقال عمر أجلسوني فأجلسوه فقال الحمد لله أبالله تخوفني يا مسلمة أما ما ذكرت من أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة فإني لم أمنعهم حقا هو لهم ولم أعطهم حقا هو لغيرهم وأما ما سألت من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي فإن وصيتي بهم إلى الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين وإنما بنو عمر أحد رجلين رجل اتقى الله فجعل الله له من أمره يسرا ورزقه من حيث لا يحتسب ورجل غير وفجر فلا يكون عمر أول من أعانه على ارتكابه ادعوا لي بني فدعوهم وهم يومئذ اثنا عشر غلاما فجعل يصعد بصره فيهم ويصوبه حتى اغرورقت عيناه بالدمع ثم قال بنفسي فتية تركتهم ولا مال لهم يا بني إني قد تركتكم من الله بخير إنكم لا تمرون على مسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله يا بني ميلت رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن يدخل أبوكم النار فكان

أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخول أبيكم يوما واحدا في النار قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم قالوا فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر
200 - مناظرة عمر بن عبد العزيز للخوارج
خرج سنة مائة بالجزيرة شوذب الخارجي واسمه بسطام من بني يشكر فكتب إليه عمر بن عبد العزيز بلغني أنك خرجت غضبا لله ولرسوله ولست أولى بذلك مني فهلم إلي أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس وإن كان في يدك نظرنا في أمرك فكتب بسطام إلى عمر قد أنصفت وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك وأرسل إلى عمر مولى لبني شيبان حبشيا اسمه عاصم ورجلا من بني يشكر فقدما على عمر بخناصرة فأخبر بمكانهما فقال فتشوهما لا يكن معهما حديد وأدخلوهما فلما دخلا قالا السلام عليك ثم جلسا فقال لهما عمر أخبراني ما الذي أخرجكم مخرجكم هذا وما نقمتم علينا فقال عاصم ما نقمنا سيرتك إنك لتتحرى العدل والإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضا من الناس ومشورة أم ابتززتم أمرهم فقال عمر ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم عليها وعهد إلي رجل كان قبلي فقمت ولم ينكره علي أحد ولم يكرهه غيركم وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس فاتركوني ذلك الرجل فإن خالفت الحق ورغبت عنه فلا طاعة لي عليكم فقالا بيننا وبينك أمر إن أنت أعطيتناه فنحن منك وأنت منا وإن منعتناه فلست منا ولسنا منك فقال عمر وما هو قالا رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسميتها مظالم وسلكت غير سبيلهم فإن زعمت أنك على هدى وهم على ضلال فالعنهم وتبرأ منهم فهذا الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق فتكلم عمر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال

إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لطلب دنيا ومتاعها ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم سبيلها إن الله عز و جل لم يبعث رسوله لعانا وقال إبراهيم ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) وقال الله عز و جل ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) وقد سميت أعمالهم ظلما وكفى بذلك ذما ونقصا وليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بد منها فإن قلتم إنها فريضة فأخبرني متى لعنت فرعون قال ما أذكر متى لعنته قال أفيسعك أن لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم ولا يسعني أن لا ألعن أهل بيتي وهم مصلون صائمون قال أما هم كفار بظلمهم قال لا لأن رسول الله دعا الناس إلى الإيمان فكان من أقر به وبشرائعه قبل منه فإن أحدث حدثا أقيم عليه الحد فقال الخارجي إن رسول الله دعا الناس إلى توحيد الله والإقرار بما نزل من عنده قال عمر فليس أحد منهم يقول لا أعمل بسنة رسول الله ولكن القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم أنه محرم عليهم ولكن غلب عليهم الشقاء قال عاصم فأبرأ ممن خالف عملك ورد أحكامهم قال عمر أخبراني عن أبي بكر وعمر أليسا من أسلافكما وممن تتوليان وتشهدان لهما بالنجاة قالا اللهم نعم قال فهل علمتما أن أبا بكر حين قبض رسول الله فارتدت العرب قاتلهم فسفك الدماء وأخذ الأموال وسبي الذراري قالا نعم قال فهل علمتم أن عمر قام بعد أبي بكر فرد تلك السبايا إلى عشائرها بفدية قالا نعم قال فهل برئ عمر من أبي بكر أو تبرءون أنتم من أحد منهما قالا لا قال فأخبراني عن أهل النهروان أليسوا من صالحي أسلافكم وممن تشهدون لهم بالنجاة قالا بلي قال فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا كفوا أيديهم فلم يسفكوا دما ولم يخيفوا آمنا ولم يأخذوا مالا قالا نعم قال فهل علمتم أن أهل البصرة حين خرجوا مع مسعر بن فديك استعرضوا الناس يقتلونهم ولقوا عبد الله بن خباب

ابن الأرت صاحب رسول الله فقتلوه وقتلوا جاريته ثم صبحوا حيا من أحياء العرب فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء والأطفال حتى جعلوا يلقون الصبيان في قدور الإقط وهي تفور قالا قد كان ذلك قال فهل برئ أهل البصرة من أهل الكوفة وأهل الكوفة من أهل البصرة قالا لا قال فهل تبرءون أنتم من إحدى الطائفتين قالا لا قال أرأيتم الدين واحدا أم اثنين قالا بل واحدا قال فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني قال لا قال فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر وتولى أحدهما صاحبه وتوليتم أهل البصرة وأهل الكوفة وتولى بعضهم بعضا وقد اختلفوا في أعظم الأشياء في الدماء والفروج والأموال ولا يسعني فيما زعمتم إلا لعن أهل بيتي والتبرؤ منهم ويحكم إنكم قوم جهال أردتم أمرا فأخطأتموه فأنتم تردون على الناس ما قبل منهم رسول الله ويأمن عندكم من خاف عنده ويخاف عندكم من أمن عنده قالا ما نحن كذلك قال عمر بل سوف تقرون بذلك الآن هل تعلمون أن رسول الله بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى خلع الأوثان وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمن فعل ذلك حقن دمه وأحرز ماله ووجبت حرمته وكانت له أسوة المسلمين قالا نعم قال أفلستم أنتم تلقون من يخلع الأوثان ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فتستحلون دمه وماله وتلقون من ترك ذلك وأباه من اليهود والنصارى وسائر الأديان فيأمن عندكم وتحرمون دمه فقال اليشكرى أرأيت رجلا ولي قوما وأموالهم فعدل فيها ثم صيرها بعده إلى رجل غير مأمون أتراه أدى الحق الذي يلزمه لله عز و جل أو تراه قد سلم قال عمر لا قال أفتسلم هذا الأمر إلى يزيد من بعدك وأنت تعرف أنه لا يقوم فيه بالحق قال إنما ولاه غيري

والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي قال أفترى ذلك من صنع من ولاه حقا فبكى عمر وقال أنظرانى ثلاثا فخرجا من عنده ثم عادا إليه فقال عاصم أشهد أنك على حق فقال عمر لليشكري ما تقول أنت قال ما أحسن ما وصفت ولكن لا أفتات على المسلمين بأمر أعرض عليهم ما قلت وأعلم حجتهم فأما عاصم فأقام عند عمر فأمر له عمر بالعطاء فتوفي بعد خمسة عشر يوما فكان عمر يقول أهلكني أمر يزيد وخصمت فيه فأستغفر الله فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم من الأموال وأن يخلع يزيد من ولاية العهد فوضعوا على عمر من سقاه سما فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثا حتى مرض ومات
201 - تأبينه ابنه عبد الملك
ولما دفن عمر بن عبد العزيز ابنه عبد الملك وسوى عليه قبره بالأرض وجعلوا على قبره خشبتين من زيتون إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه استوى عمر قائما وأحاط به الناس فقال رحمك الله يا بني فقد كنت برا بأبيك والله ما زلت مذ وهبك الله لي بك مسرورا ولا والله ما كنت قط أشد سرورا بك ولا أرجي لحظي من الله فيك منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله إليه فغفر الله لك ذنبك وجازاك بأحسن عملك وتجاوز عن سيئاتك ورحم الله كل شافع يشفع لك بخير من شاهد أو غائب رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره والحمد لله رب العالمين

202 - خطبة يزيد بن الوليد حين قتل الوليد بن يزيد
حمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا حرصا على الدنيا ولا رغبة في الملك وما بي إطراء نفسي وإني لظلوم لها إن لم يرحمني الله ولكن خرجت غضبا لله ودينه داعيا إلى الله وإلى سنة نبيه لما هدمت معالم الهدى وأطفئ نور أهل التقوى وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة والراكب لكل بدعة الكافر بيوم الحساب وإنه لابن عمي في النسب وكفيئي في الحسب فلما رأيت ذلك استخرت الله في أمره وسألته ألا يكلني إلى نفسي ودعوت إلى ذلك من أجابني من أهل ولايتي حتى أراح الله منه العباد وطهر منه البلاد بحوله وقوته لا بحولي وقوتي
أيها الناس إن لكم علي ألا أضع حجرا على حجر ولا لبنة على لبنة ولا أكري نهرا ولا أكنز مالا ولا أعطيه زوجا ولا ولدا ولا أنقله من بلد إلى

بلد حتى أسد فقر ذلك البلد وخصاصة أهله فإن فضل فضل نقلته إلى البلد الذي يليه ولا أجمركم في بعوثكم فأفتنكم وأفتن أهليكم ولا أغلق بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم ولا أحمل على أهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم وأقطع به نسلهم ولكم علي إدرار العطاء في كل سنة والرزق في كل شهر حتى يستوي بكم الحال فيكون أفضلكم كأدناكم فإن أنا وفيت لكم فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكاتفة وإن لم أف لكم فعليكم أن تخلعوني إلا أن تستتبيبونى فإن أنا تبت قبلتم مني وإن عرفتم أحدا يقوم مقامي ممن يعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل الذي أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه فأنا أول من بايعه ودخل في طاعته
أيها الناس إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولا وفاء له بنقض عهد إنما الطاعة طاعة الله فأطيعوه بطاعة الله ما أطاع فإذا عصى الله ودعا إلى المعصية فهو أهل أن يعصى ويقتل أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
203 - وصية يزيد بن معاوية لسلم بن زياد حين ولاه
لما ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد بن أبيه على خراسان قال له إن أباك كفى أخاه يعني معاوية عظيما وقد استكفيتك صغيرا فلا تتكلن على عذر مني لك فقد اتكلت على كفاية منك وإياك مني قبل أن أقول إياي منك فإن الظن إذا أخلف منك أخلف مني فيك وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك وكن لنفسك تكن لك واذكر في يومك أحاديث غدك تسعد إن شاء الله تعالى

خطب عتبة بن أبي سفيان توفي سنة 44ه
204 - خطبة له في تهدد أهل مصر
بلغ عتبة بن أبي سفيان عن أهل مصر شيء فأغضبه فقام فيهم فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه
يأهل مصر إياكم أن تكونوا للسيف حصيدا فإن لله فيكم ذبيحا لعثمان أرجو أن يوليني نسكه إن الله جمعكم بأمير المؤمنين بعد الفرقة فأعطى كل ذي حق حقه وكان والله أذكركم إذا ذكر بخطة وأصفحكم بعد المقدرة عن حقه نعمة من الله فيكم ونعمة منه عليكم وقد بلغنا عنكم نجم قول أظهره تقدم عفو منا فلا تصيروا إلى وحشة الباطل بعد أنس الحق بإحياء الفتنة وإماتة السنن فأطأكم لله وطأة لا رمق معها حتى تنكروا مني ما كنتم تعرفون وتستخشنوا ما كنتم تستلينون وأنا أشهد عليكم الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور

205 - خطبة له في تقريعهم وتهددهم
وخطب أيضا وقد بلغه عن أهل مصر أمور فقال يا حاملي ألأم أنوف ركبت بين أعين إنما قلمت أظفاري عنكم ليلين مسي إياكم وسألتكم صلاحكم لكم إذ كان فسادكم راجعا عليكم فأما إذا أبيتم إلا الطعن على الأمراء والعتب على السلف والخلفاء فوالله لأقطعن بطون السياط على ظهوركم فإن حسمت مستشري دائكم وإلا فالسيف من ورائكم فكم من عظة لنا قد صمت عنها آذانكم وزجرة منا قد مجتها قلوبكم ولست أبخل عليكم بالعقوبة إذا جدتم علينا بالمعصية ولا مؤيسا لكم من المراجعة إلى الحسنى إن صرتم إلى التي هي أبر وأتقى
206 - خطبة له فيهم وقد أرجفوا بموت معاوية
واحتبست كتب معاوية حتى أرجف أهل مصر بموته ثم ورد كتابه بسلامته فصعد عتبة المنبر والكتاب في يده فقال يأهل مصر قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظبات السيوف حتى صرنا شجى في لهواتكم ما تسيغنا حلوقكم وأقذاء في أعينكم ما تطرف عليها جفونكم أفحين اشتدت عري الحق عليكم عقدا واسترخت عقد الباطل منكم حلا أرجفتم بالخليفة وأردتم توهين السلطان وخضتم الحق إلى الباطل وأقدم عهدكم به

حديث فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السار عنه والعهد القريب منه واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم فأصلحوا لنا ما ظهر نكلكم إلى الله فيما بطن وأظهروا خيرا وأن أسررتم شرا فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون وعلى الله نتوكل وبه نستعين
207 - خطبته فيهم وقد منعوا الخراج وخطبهم وكانوا قد منعوا الخراج فقال
يأهل مصر قد كنتم تعتذرون لبعض المنع منكم ببعض الجور عليكم فقد وليكم من يقول ويفعل ويفعل ويقول فإن رددتم ترادكم بيده وإن استصعبتم ترادكم بسيفه ثم رجا في الآخرة ما أمل في الأولى إن البيعة متتابعة فلنا عليكم السمع والطاعة ولكم علينا العدل فأينا غدر فلا ذمة له عند صاحبه والله ما انطلقت بها ألسنتنا حتى عقدت عليها قلوبنا ولا طلبناها منكم حتى بذلناها لكم ناجزا بناجز ومن حذر كمن بشر فنادوه سمعا وطاعة فناداهم عدلا عدلا
208 - خطبته فيهم إذ طعنوا علي الولاة
وقدم كتاب معاوية إلى عتبة بمصر أن قبلك قوما يطعنون على الولاة ويعيبون السلف فخطبهم فقال يأهل مصر خف على ألسنتكم مدح الحق ولا تفعلونه وذم الباطل وأنتم

تأتونه كالحمار يحمل أسفارا أثقله حملها ولم ينفعه علمها وايم الله لا أداوي أدوائكم بالسيف ما صلحتم على السوط ولا أبلغ السوط ما كفتني الدرة ولا أبطئ عن الأولى ما لم تسرعوا إلى الأخرى فالزموا ما أمركم الله به تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا وإياكم وقال ويقول قبل أن يقال فعل ويفعل وكونوا خير قوس سهما بهذا اليوم الذي ما قبله عقاب ولا بعده عتاب
209 - خطبته بمكة
وحج عتبة سنة إحدي وأربعين والناس قريب عهدهم بالفتنة فصلى بمكة الجمعة ثم قال أيها الناس إنا قد ولينا هذا المقام الذي يضاعف فيه للمحسن الأجر وعلى المسيء فيه الوزر ونحن على طريق ما قصدنا له فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا فإنها تنقطع من دوننا ورب متمن حتفه في أمنيته فاقبلونا ما قبلنا العافية فيكم وقبلناها منكم وإياكم ولوا فإن لوا قد أتعبت من كان قبلكم ولن تريح من بعدكم وأنا أسأل الله أن يعين كلا على كل
فصاح به أعرابي أيها الخليفة فقال لست به ولم تبعد فقال يا أخاه فقال سمعت فقل فقال تالله لأن تحسنوا وقد أسأنا خير من أن تسيئوا وقد أحسنا فإن كان الإحسان لكم دوننا فما أحقكم باستتمامه وإن كان منا فما أولاكم بمكافأتنا رجل من بني عامر بن صعصعة يلقاكم بالعمومة ويقرب إليكم بالخئولة وقد كثر عياله ووطئه زمانه وبه فقر وفيه أجر وعنده شكر فقال عتبة أستغفر الله

منكم وأستعينه عليكم وقد أمرنا لك بغناك فليت إسراعنا إليك يقوم بإبطائنا عنك
210 - خطبته في علته التي مات فيها
ولما اشتكى شكاته التي مات فيها تحامل إلى المنبر فقال يأهل مصر لا غنى عن الرب ولا مهرب من ذنب إنه قد تقدمت مني إليكم عقوبات كنت أرجو يومئذ الأجر فيها وأنا أخاف اليوم الوزر منها فليتني لا أكون اخترت دنياي على معادي فأصلحتم بفسادي وأنا أستغفر الله منكم وأتوب إليه فيكم فقد خفت ما كنت أرجو نفعا عليه ورجوت ما كنت أخاف اغتيالا به وقد شقي من هلك بين رحمة الله وعفوه والسلام عليكم سلام من لا ترونه عائدا إليكم فلم يعد
211 - وصيته لمؤدب ولده
وقال لعبد الصمد مؤدب ولده ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بني إصلاح نفسك فإن أعينهم معقودة بعينك فالحسن عندهم ما استحسنت والقبيح عندهم ما استقبحت وعلمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه ثم روهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم وتهددهم بي وأدبهم دوني وكن لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء قبل معرفة الداء وجنبهم محادثة النساء وروهم سير الحكماء واستزدني

بزيادتك إياهم أزدك وإياك أن تتكل على عذر مني لك فقد اتكلت على كفاية منك وزد في تأديبهم أزدك في بري إن شاء الله تعالى
212 - وصية سعيد بن العاص لبنيه
لما ولد لسعيد بن العاص ابنه عمرو وترعرع تفرس فيه النجابة وكان يفضله على ولده فجمع بنيه وكانوا يومئذ أكثر من خمسة عشر رجلا ولم يدع عمرا معهم وقال يا بني قد عرفتم خبرة الوالد بولده وإن أخاكم عمرا لذو همة واعدة يسمو جده ويبعد صيته وتشتد شكيمته وإني آمركم أن نزل بي من الموت ما لا محيص عنه أن تظاهروه وتوازروه وتعزروه فإنكم إن فعلتم ذلك يتألف بكم الكرام ويخسأ عنكم اللئام ويلبسكم عز لا تنهجه الأيام
فقالوا جميعا إنك تؤثره علينا وتحابيه دوننا فقال سأريكم ما ستره

البغي عنكم وصرفهم ثم أمهلهم حتى ظن أن قد ذهلوا عما كان وراهق عمرو البلوغ واستدعاهم دون عمرو فلما حضروا قال يا بني ألم تروا إلى أخيكم عمرو فإنه لا يزال يلحف في مسألتي مالي فأحش عيله لصغره وأحسبه بالشيء دون الشيء من مالي إلى أن استثبت أن أمه باغيته على ذلك فزجرتها فلم تكفف وهذا مخرجه الآن من عندي جاء يسألني الصمصامة كأن لا ولد لي غيره وقد عزمت على أن أقسم مالي فيكم دونه لتعلم أمه من يكيد فقالوا كلهم يا أبانا هذا عملك بإيثارك له علينا واختصاصك إياه دوننا فقال يا بني والله ما آثرته دونكم بشيء من مالي قط ولا كان ما قلته لكم إلا اختلافا تساهلت فيه لما أملته من صلاح أمركم ثم قال لهم ادخلوا المخدع فدخلوا المخدع ثم أرسل إلى عمرو فأحضره فلما حضر قال

يا بني إني عليك حدب مشفق لصغر سنك ونفاسة إخوتك على مكانك مني وإني لا آمن بغتة الأجل ولي كنز ادخرته لك دون إخوتك وهأنا مطلعك عليه فاكتم أمره
فقال يا أبت طال عمرك وعلا أمرك إني لأرجو أن يحسن الله عنك الدفاع ويطيل بك الإمتاع فأما ما ذكرته من شأن الكنز فما يعجبني أن أقطع دون إخوتى أمرا وأزرع في صدورهم غمرا
فقال انصرف يا بني فداك أبوك فوالله ما لي من كنز ولكني أردت أن أبلو رأيك في إخوتك وبني أبيك فانطلق عمرو وخرج إخوته من المخدع فاعتذروا إلي أبيهم وأعطوه موثقهم على اتباع مشورته

خطب عمرو بن سعيد الأشدق
قتل سنة 69ه
213 - خطبة له بالمدينة
قدم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق المدينة أميرا فخرج إلى منبر رسول الله فقعد عليه وغمض عينيه وعليه جبة خز قرمز ومطرف خزقرمز وعمامة خزقرمز فجعل أهل المدينة ينظرون إلى ثيابه إعجابا بها ففتح عينيه فإذا الناس ينظرون إليه فقال ما بالكم ياأهل المدينة ترفعون إلي أبصاركم كأنكم تريدون أن تضربونا بسيوفكم أغركم أنكم فعلتم ما فعلتم فعفونا عنكم أما إنه لو أثبتم بالأولى ما كانت الثانية أغركم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم ثائرنا منا رفيقا قد فني غضبه وبقي حلمه اغتنموا أنفسكم فقد والله ملكناكم بالشباب المقتبل البعيد الأمل الطويل

الأجل حين فرغ من الصغر ودخل في الكبر حليم حديد لين شديد رقيق كثيف رفيق عنيف حين اشتد عظمه واعتدل جسمه ورمى الدهر ببصره واستقبله بأشره فهو إن عض نهس وإن سطا فرس لا يقلقل له الحصى ولا تقرع له العصا ولا يمشي السمهى فما بقي بعد ذلك إلا ثلاث سنين وثمانية أشهر حتى قصمه الله
214 - خطبة له بمكة
واستعمل سعيد بن العاص وهو وال على المدينة ابنه عمرو بن سعيد واليا على مكة فلما قدم لم يلقه قرشي ولا أموي إلا أن يكون الحارث بن نوفل فلما لقيه قال له يا حار ما الذي منع قومك أن يلقوني كما لقيتني قال ما منعهم من ذلك إلا ما استقبلتني به والله ما كنيتني ولا أتممت اسمي وإنما أنهاك عن التشذر على أكفائك فإن ذلك لا يرفعك عليهم ولا يضعهم لك قال والله ما أسأت الموعظة ولا أتهمك على النصيحة وإن الذي رأيت مني لخلق فلما دخل مكة قام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد معشر أهل مكة فإنا سكناها غبطة وخرجنا عنها رغبة ولذلك كنا إذا رفعت لنا اللهوة بعد اللهوة أخذنا أسناها ونزلنا أعلاها ثم شرج أمر

بين أمرين فقتلنا وقتلنا فوالله ما نزعنا ولا نزع عنا حتى شرب الدم دما وأكل اللحم لحما وقرع العظم عظما فولي رسول الله برسالة الله إياه واختياره له ثم ولي أبو بكر لسابقته وفضله ثم ولي عمر ثم أجيلت قداح نزعن من شعاب جولة سعة ففاز بحظيها أصلها وأعتقها فكنا بعض قداحها ثم شرج أمر بين أمرين فقتلنا وقتلنا فوالله ما نزعنا ولا نزع عنا حتى شرب الدم دما وأكل اللحم لحما وقرع العظم عظما وعاد الحرام حلالا وأسكت كل ذي حس عن ضرب مهند عركا عركا وعسفا عسفا وخزا ونهسا حتى طابوا عن حقنا نفسا والله ما أعطوه عن هوادة ولا رضوا فيه بالقضاء أصبحوا يقولون حقنا غلبنا عليه فجزيناه هذا بهذا وهذا في هذا يأهل مكة أنفسكم أنفسكم وسفهاءكم سفهاءكم فإن معي سوطا نكالا وسيفا وبالا وكل منصوب على أهله ثم نزل
215 - ملاحاة الوليد بن عقبة معه في مجلس معاوية
تلاحى الوليد بن عقبة وعمرو بن سعيد بن العاص في مجلس معاوية فتكلم الوليد فقال له عمرو كذبت أو كذبت فقال له الوليد اسكت يا طليق اللسان منزوع الحياء ويا ألأم أهل بيته فلعمري لقد بلغ بك البخل الغاية الشائنة المذلة لأهلها فساءت خلائقك لبخلك فمنعت الحقوق ولزمت العقوق فأنت غير مشيد البنيان ولا رفيع المكان فقال له عمرو والله إن قريشا لتعلم أني غير حلو المذاقة ولا لذيذ

الملاكة وإني لكالشجا في الحلق ولقد علمت أني ساكن الليل داهية النهار لا أتبع الأفياء ولا أنتمي إلى غير أبي ولا يجهل حسبي حام لحقائق الذمار غير هيوب عند الوعيد ولا خائف رعديد فلم تعير بالبخل وقد جبلت عليه فلعمري لقد أورثتك الضرورة لؤما والبخل فحشا فقطعت رحمك وجرت في قضيتك وأضعت حق من وليت أمره فلست ترجي للعظائم ولا تعرف بالمكارم ولا تستعف عن المحارم لم تقدر علي التوقير ولم يحكم منك التدبير فأفحم الوليد فقال معاوية وساءه ذلك كفا لا أبا لكما لا يرتفع بكما القول إلى ما لا نريد ثم أنشأ عمرو يقول
( وليد إذا ما كنت في القوم جالسا ... فكن ساكنا منك الوقار على بال )
( ولا يبدرن الدهر من فيك منطق ... بلا نظر قد كان منك وإغفال )
216 - خطبته حين غلب على دمشق
ولما غلب على دمشق صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة ونارا يدخل الجنة من أطاعه والنار من عصاه وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله وأنه ليس إلي من ذلك شيء غير أن لكم علي حسن المؤاساة والعطية

217 - خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان
روي أن عبد الله بن يزيد بن معاوية جاء إلى أخيه خالد بن يزيد في أيام عبد الملك فقال لقد هممت اليوم يا أخي أن أفتك بالوليد بن عبد الملك فقال له خالد بئس والله ما هممت به في ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين فما ذاك قال إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرنى فقال له خالد أنا أكفيك فدخل على عبد الملك والوليد عنده فقال يا أمير المؤمنين إن الوليد ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين مرت به خيل ابن عمه عبد الله بن يزيد فعبث بها وأصغره وكان عبد الملك مطرقا فرفع رأسه وقال
( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) فقال خالد ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) فقال عبد الملك أفي عبد الله تكلمني والله لقد دخل أمس علي فما أقام لسانه لحنا فقال خالد أفعلى الوليد تعول يا أمير المؤمنين قال عبد الملك إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان فقال خالد وإن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالد فالتفت الوليد إلى خالد وقال له اسكت ويحك يا خالد فوالله ما تعد في العير ولا في النفير فقال خالد اسمع يا أمير المؤمنين ثم التفت إلى الوليد فقال له ويحك فمن صاحب العير والنفير غير جدي أبي سفيان صاحب العير وجدي عتبة صاحب النفير ولكن لو قلت غنيمات وحبيلات والطائف ورحم الله عثمان لقلنا صدقت

218 - خالد بن عبد الله بن أسيد وعبد الملك بن مروان
جلس يوما عبد الملك بن مروان وعند رأسه خالد بن عبد الله بن أسيد وعند رجليه أمية بن عبد الله بن أسيد وأدخلت عليه الأموال التي جاءت من قبل الحجاج حتى وضعت بين يديه فقال هذا والله التوفير وهذه الأمانة لا ما فعل هذا وأشار إلى خالد استعملته على العراق فاستعمل كل ملط فاسق فأدوا إليه العشرة واحدا وأدى إلي من العشرة واحدا واستعملت هذا على خراسان وأشار إلى أمية فأهدى إلي برذونين حطمين فإن استعملتكم ضيعتم وإن عزلتكم قلتم استخف بنا وقطع أرحامنا
فقال خالد بن عبد الله استعملتني على العراق وأهله رجلان سامع مطيع مناصح وعدو مبغض مكاشح فأما السامع المطيع المناصح فإنا جزيناه ليزداد ودا إلى وده وأما المبغض المكاشح فإنا داريناه ضغنه وسللنا حقده وكثرنا لك المودة في صدور رعيتك وإن هذا جبى الأموال وزرع لك البغضاء في قلوب الرجال فيوشك أن تنبت البغضاء فلا أموال ولا رجال
فلما خرج ابن الأشعث قال عبد الملك هذا والله ما قال خالد

نصيحة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان
ورأى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان رجلا يشتم رجلا وآخر يسمع منه فقال للمستمع نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن الكلام به فإن السامع شريك القائل وإنما نظر إلى شر ما في وعائه فأفرغه في وعائك ولو ردت كلمة جاهل في فيه لسعد رادها كما شقى قائلها
220 - تأديب معاوية لجلسائه
أذن معاوية للأحنف بن قيس وقد وافى معاوية محمد بن الأشعث فقدمه عليه فوجد من ذلك محمد بن الأشعث وأذن له فدخل فجلس بين معاوية والأحنف فقال معاوية إنا والله ما أذنا له قبلك إلا ليجلس إلينا دونك وما رأيت أحدا يرفع نفسه فوق قدرها إلا من ذلة يجدها وقد فعلت فعل من أحس من نفسه ذلا وضعة وإنا كما نملك أموركم نملك تأديبكم فأريدوا منا ما نريده منكم فإنه أبقى لكم وإلا قصرناكم كرها فكان أشد عليكم وأعنف بكم
221 - كلام معاوية وقد سقطت ثنيتاه
ولما سقطت ثنيتا معاوية لف وجهه بعمامة ثم خرج إلى الناس فقال لئن ابتليت لقد ابتلي الصالحون قبلي وإني لأرجو أن أكون منهم ولئن

عوقبت لقد عوقب الخاطئون قبلي وما آمن أن أكون منهم ولئن سقط عضوان مني لما بقي أكثر ولو أتى على نفسي لما كان لي عليه خيار تبارك وتعالى فرحم الله عبدا دعا بالعافية فوالله لئن كان عتب علي بعض خاصتكم لقد كنت حدبا على عامتكم
222 - تقريع عبد الملك بن مروان لأحد عماله
وروى الجاحظ قال قال أبو الحسن كان عبد الملك بن مروان شديد اليقظة كثير التعاهد لولاته فبلغه أن عاملا من عماله قبل هدية فأمر بإشخاصه إليه فلما دخل عليه قال أقبلت هدية منذ وليتك قال يا أمير المؤمنين بلادك عامرة وخراجك موفور ورعيتك على أفضل حال قال أجب فيما سألتك عنه أقبلت هدية منذ وليتك قال نعم قال لئن كنت قبلت ولم تعوض إنك للئيم ولئن أنلت مهديك لا من مالك أو استكفيته ما لم يكن يستكفاه إنك لجائر خائن ولئن كان مذهبك أن تعوض المهدي إليك من مالك وقبلت ما أتهمك به عند من استكفاك وبسط لسان عائبك وأطمع فيك أهل عملك إنك لجاهل وما فيمن أتى أمرا لم يخل فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مصطنع نحياه عن عمله

طلب معاوية البيعة ليزيد
لما كانت سنة ثلاث وخمسين أظهر معاوية عهدا مفتعلا فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين ويشاور ويعطي الأقارب ويداني الأباعد حتى استوثق له من أكثر الناس
فقال لعبد الله بن الزبير ما ترى في بيعة يزيد قال يا أمير المؤمنين إني أناديك ولا أناجيك إن أخاك من صدقك فانظر قبل أن تتقدم وتفكر قبل أن تندم فإن النظر قبل التقدم والتفكر قبل التندم فضحك معاوية وقال ثعلب رواغ تعلمت السجاعة عند الكبر في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما يكفيك
ثم التفت إلى الأحنف بن قيس فقال ما ترى في بيعة يزيد قال نخافكم إن صدقناكم ونخاف الله إن كذبنا
فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه فوفد عليه من كل مصر قوم وكان فيمن وفد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم فخلا به معاوية وقال له ما ترى في بيعة يزيد فقال يا أمير المؤمنين ما أصبح اليوم على الأرض أحد هو أحب إلي رشدا من نفسك سوى نفسي وإن يزيد أصبح غنيا في المال وسطا في الحسب وإن الله سائل كل راع عن رعيته فاتق الله

وانظر من تولي أمر أمة محمد فأخذ معاوية بهر حتى تنفس الصعداء وذلك في يوم شات ثم قال يا محمد إنك امرؤ ناصح قلت برأيك ولم يكن عليك إلا ذاك قال معاوية إنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم فابني أحب إلي من أبنائهم اخرج عني
ثم دعا الضحاك بن قيس الفهرى فقال له إذا جلست على المنبر وفرغت من بعض موعظتي وكلامي فاستأذني للقيام فإذا أذنت لك فاحمد الله تعالى واذكر يزيد وقل فيه الذي يحق له من حسن الثناء عليه ثم ادعني إلى توليته من بعدي فإني قد رأيت وأجمعت على توليته فأسأل الله في ذلك وفي غيره الخيرة وحسن القضاء ثم دعا عبد الرحمن بن عثمان الثقفي وعبد الله بن مسعدة الفزاري وثور بن معن السلمي وعبد الله بن عصام الأشعرى فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك وأن يصدقوا قوله ويدعوه إلى يزيد
وجلس معاوية في أصحابه وأذن للوفود فدخلوا عليه فخطبهم فلما فرغ من بعض موعظته وهؤلاء النفر في المجلس قد قعدوا للكلام قام الضحاك بن قيس فاستأذن فأذن له
223 - خطبة الضحاك بن قيس الفهري
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أصلح الله أمير المؤمنين وأمتع به إنا قد بلونا الجماعة والألفة فوجدناها أحقن للدماء وآمن للسبل وخيرا في العاقبة والآجلة ولا خير لنا أن نترك سدى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6