كتاب : جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة
المؤلف : أحمد زكي صفوت

أما بعد يأهل الكوفة فلا أعز الله من أراد بكم العز ولا نصر من أراد بكم النصر اخرجوا عنا ولا تشهدوا معنا قتال عدونا الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملا ومن لم يكن شهد قتال عتاب ابن ورقاء
446 - خطبة عبد الله بن يحيي الإباضى
لما استولى عبد الله بن يحى الكندي على بلاد اليمن سنة 129 خطب الناس فحمد الله جل وعز وأثنى عليه وصلى على نبيه ووعظ وذكر وحذر ثم قال إنا ندعوكم إلي كتاب الله تعالي وسنة نبيه وإجابة من دعا إليهما الإسلام ديننا ومحمد نبينا والكعبة قبلتنا والقرآن إمامنا رضينا بالحلال حلالا لا نبغي به بديلا ولا نشتري به ثمنا قليلا وحرمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا ولا حول

ولا قوة إلا بالله وإلى الله المشتكى وعليه المعول من زنى فهو كافر ومن سرق فهو كافر ومن شرب الخمر فهو كافر ومن شك في أنه كافر فهو كافر ندعوكم إلى فرائض بينات وآيات محكمات وآثار مقتدى بها ونشهد أن الله صادق فيما وعد عدل فيما حكم وندعو إلى توحيد الرب واليقين بالوعيد والوعد وأداء الفرائض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولاية لأهل ولاية الله والعداوة لأعداء الله
أيها الناس إن من رحمة الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضل عن الهدى ويصبرون على الألم في جنب الله تعالى يقتلون على الحق في سالف الدهور شهداء فما نسيهم ربهم وما كان ربك نسيا أوصيكم بتقوى الله وحسن القيام على ما وكلكم الله بالقيام به فأبلوا لله بلاء حسنا في أمره وذكره أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

خطب أبي حمزة الشاري
447 - خطبته حين دخل المدينة
ولما دخل أبو حمزة المدينة سنة 130 رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال يأهل المدينة سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فأسأتم لعمر الله فيهم القول قلتم والله ما فيهم الذي يعلم أخذوا المال من غير حله فوضعوه في غير حقه وجاروا في الحكم فحكموا بغير ما أنزل الله واستأثروا بفيئنا فجعلوه دولة بين الأغنياء

منهم وجعلوا مقاسمنا وحقوقنا في مهور النساء وفروج الإماء فقلنا لكم تعالوا نحن وأنتم إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظلموكم وجاروا في الحكم فحكموا بغير ما أنزل الله نناشدهم الله أن يتنحوا عنا وعنكم ليختار المسلمون لأنفسهم فقلتم لا يفعلون فقلنا لكم تعالوا نحن وأنتم نقاتلهم فإن نظهر نحن وأنتم نأت بمن يقيم فينا وفيكم كتاب الله وسنة نبيه محمد فقلتم لا نقوى على ذلك فقلنا لكم فخلوا بيننا وبينهم فإن نظفر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم ونقسم فيئكم بينكم فأبيتم وقاتلتمونا دونهم فقاتلناكم وقتلناهم فأبعدكم الله وأسحقكم
448 - خطبة أخرى له
وروي انه لما دخل المدينة قام فخطب فقال في خطبته
يأهل المدينة مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك وقد أصابتكم عاهة بثماركم وكتبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم فكتب إليكم بوضعه عن قوم من ذوي اليسار منكم فزاد الغني غنى وزاد الفقير فقرا فقلتم جزاك الله خيرا فلا جزاكم الله خيرا ولا جزاه خيرا

449 - خطبته وقد بلغه أن أهل المدينة يعيبون صحابه
وبلغ أبا حمزة أن أهل المدينة يعيبون أصحابه لحداثة أسنانهم وخفة أحلامهم فصعد المنبر وعليه كساء غليظ وهو متنكب قوسا عربية فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه وآله ثم قال يأهل المدينة قد بلغتني مقالتكم لأصحابي ولولا معرفتي بضعف رأيكم وقلة عقولكم لأحسنت أدبكم ويحكم إن رسول الله أنزل عليه الكتاب وبين له فيه السنن وشرع له فيه الشرائع وبين له فيه ما يأتي وما يذر فلم يكن يتقدم إلا بأمر الله ولا يحجم إلا عن أمر الله حتى قبضه الله إليه وقد أدي الذي عليه وعلم المسلمين معالم دينهم ولم يدعهم من أمرهم في شبهة وولي أبا بكر صلاتهم فولاه المسلمون أمر دنياهم حين ولاه رسول الله أمر دينهم فعمل بالكتاب والسنة وقاتل أهل الردة وشمر في أمر الله حتى قبضه الله إليه والأمة عنه راضون رحمة الله عليه ومغفرته ثم ولي بعده عمر بن الخطاب فسار بسيرة صاحبه وعمل بالكتاب والسنة وجند الأجناد ومصر الأمصار وجبى الفيء وفرض الأعطية وشمر عن ساقه وحسر عن ذراعه وجلد في الخمر ثمانين وجمع الناس في شهر رمضان وغزا العدو في بلادهم وفتح المدائن والحصون حتى قبضه الله إليه والأمة عنه راضون رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته ثم ولي من بعده عثمان بن عفان فسار ست سنين بسيرة صاحبيه وكان دونهما ثم سار في الست الأواخر بما أحبط به الأوائل واضطرب حبل الدين بعدها فطلبها كل امرئ

لنفسه وأسر كل رجل منهم سريرة أبداها الله عنه حق مضوا على ذلك ثم ولي علي بن أبي طالب فلم يبلغ من الحق قصدا ولم يرفع له منارا ثم مضى لسبيله
ثم ولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول الله وابن لعينه وجلف من الأعراب وبقية من الأحزاب مؤلف طليق فسفك الدم الحرام واتخذ عباد الله خولا ومال الله دولا وبغى دينه عوجا ودغلا وأحل الفرج الحرام وعمل بما يشتهيه حتى مضى لسبيله فالعنوه لعنه الله ثم ولي بعده ابنه يزيد يزيد الخمور ويزيد الصقور ويزيد الفهود ويزيد الصيود ويزيد القرود

الفاسق في بطنه المأبون في فرجه فخالف القرآن واتبع الكهان ونادم القرد وعمل بما يشتهيه حتى مضى على ذلك لعنه الله وفعل به وفعل ثم ولي مروان بن الحكم طريد لعين رسول الله وآله وابن لعينه فاسق في بطنه وفرجه فالعنوه والعنوا أباءه
ثم تداولها بنو مروان بعده أهل بيت اللعنة طرداء رسول الله وآله وقوم من الطلقاء ليسوا من المهاجرين والأنصار ولا التابعين بإحسان فأكلوا مال الله أكلا ولعبوا بدين الله لعبا واتخذوا عباد الله عبيدا يورث ذلك الأكبر منهم الأصغر فيا لها أمة ما أضيعها وأضعفها والحمد لله رب العالمين ثم مضوا على ذلك من سيئ أعمالهم واستخفافهم بكتاب الله تعالى قد نبذوه وراء ظهورهم لعنهم الله فالعنوهم كما يستحقون وقد ولي منهم عمر بن عبد العزيز فبلغ ولم يكد وعجز عن الذي أظهره حتى مضى لسبيله ولم يذكره بخير ولا شر
ثم ولي يزيد بن عبد الملك غلام ضعيف سفيه غير مأمون على شيء من أمور المسلمين لم يبلغ أشده ولم يؤنس رشده وقد قال الله عز و جل ( فإن آنستم

منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ) فأمر أمة محمد في أحكامها وفروجها ودمائها أعظم عند الله من مال اليتيم وإن كان عند الله عظيما غلام مأبون في بطنه وفرجه يشرب الحرام ويأكل الحرام ويلبس الحرام يلبس بردتين قد حيكتا له وقومتا على أهلهما بألف دينار وأكثر وأقل قد أخذت من غير حلها وصرفت في غير وجهها بعد أن ضربت فيها الأبشار وحلقت فيها الأشعار وهتكت فيها الأستار واستحل ما لم يحل الله لعبد صالح ولا لنبي مرسل ثم يجلس حبابة عن يمينه وسلامة عن شماله تغنيانه بمزامير الشيطان ويشرب الخمر الصراح المحرمة نصا بعينها حتى إذا أخذت منه مأخذها وخالطت روحه ولحمه ودمه وغلبت سورتها على عقله مزق حلنيه ثم التفت إليهما فقال أتأذنان لي أن أطير نعم فطر إلى لعنة الله وحريق ناره وأليم عذابه طر إلى حيث لا يردك الله

ثم ذكر بني أمية وأعمالهم وسيرهم فقال أصابوا إمرة ضائعة وقوما طعاما جهالا لا يقومون لله بحق ولا يفرقون بين الضلالة والهدى ويرون أن بني أمية أرباب لهم فملكوا الأمر وتسلطوا فيه تسلط ربوبية بطشهم بطش الجبابرة يحكمون بالهوى ويقتلون على الغضب ويأخذون بالظنة ويعطلون الحدود بالشفاعات ويأمنون الخونة ويقصون ذوي الأمانة ويأخذون الفريضة من غير موضعها ويضعونها في غير أهلها وقد بين الله أهلها فجعلهم ثمانية أصناف فقال ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين

وفي سبيل الله وابن السبيل ) فأقبل صنف تاسع ليس منها فأخذ كلها تلكم الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله فالعنوهم لعنهم الله
وأما إخواننا من هذه الشيعة وليسوا بإخواننا في الدين لكني سمعت الله عز و جل قال في كتابه ( يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) فإنها فرقة تظاهرت بكتاب الله وأعلنت الفرية على الله لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن ولا عقل بالغ في الفقه ولا تفتيش عن حقيقة الصواب قد قلدوا أمورهم أهواءهم وجعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه وأطاعوه في جميع ما يقوله لهم غيا كان أو رشدا ضلالة أو هدى ينتظرون الدول في رجعة الموتى ويؤمنون بالبعث قبل الساعة ويدعون علم الغيب لمخلوق لا يعلم أحدهم ما في بيته بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه ينقمون المعاصي على أهلها ويعملون إذا ولوا بها يصرون على الفتنة ولا يعرفون المخرج منها جفاة في دينهم

قليلة عقولهم قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة وتنجيهم من عقاب الأعمال السيئة قاتلهم الله أنلا يؤفكون
فأي هؤلاء الفرق يأهل المدينة تتبعون أم بأي مذاهبهم تقتدون وقد بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم هم شباب أحداث وأعراب جفاة ويحكم يأهل المدينة وهل كان أصحاب رسول الله وآله المذكورون في الخير إلا شبابا أحداثا أما والله إني لعالم بتتابعكم فيما يضركم في معادكم ولولا اشتغالي بغيركم عنكم ما تركت الأخذ فوق أيديكم شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل أرجلهم أنضاء عبادة وأطلاح سهر باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا قد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مر أحدهم بآية من ذكر الجنة بكى شوقا إليها وإذا مر بآية من ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنيه قد أكلت الأرض ركبهم وأيديهم وأنوفهم وجباههم ووصلوا كلال الليل بكلال النهار مصفرة ألوانهم ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيام مستقلون لذلك في جنب الله موفون بعهد الله منجزون لوعد الله حتى إذا رأوا سهام العدو وقد فوقت ورماحهم وقد أشرعت وسيوفهم وقد انتضيت وبرفت الكتيبة ورعدت بصواعق الموت استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله ولم يستخفوا بوعيد الله لوعيد

الكتيبة ولقوا شبا الأسنة وشائك السهام وظبات السيوف بنحورهم ووجوهم وصدورهم فمضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه واختضبت محاسن وجهه بالدماء وعفر جبينه بالثرى وانحطت عليه طير السماء وتمرقته سباع الأرض فطوبى لهم وحسن مآب فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله وكم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا وساجدا وكم من وجه رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد ثم بكى وقال آه آه على فراق الإخوان رحمة الله على تلك الأبدان وأدخل أرواحهم الجنان
450 - خطبة أخرى
ورقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أوصيكم بتقوى الله وطاعته والعمل بكتابه وسنة نبيه وصلة الرحم وتعظيم ما صغرت الجبابرة من حق الله وتصغير ما عظمت من الباطل وإماتة ما أحيوا من الجور وإحياء ما أماتوا من الحقوق وأن يطاع الله ويعصى العباد في طاعته فالطاعة لله ولأهل طاعة الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ندعو إلى كتاب الله وسنة نبيه والقسم بالسوية والعدل في الرعية ووضع الأخماس في مواضعها التي أمر الله بها تعلمون يأهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا

ولا بطرا ولا عبثا ولا لهوا ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه ولا لثأر قديم نيل منا ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد أطفئت ومعالم العدل قد عطلت وكثر الادعاء في الدين وعمل بالهوى وعنف القائل بالحق وقتل القائم بالقسط ضاقت علينا الأرض بما رحبت وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن فأجبنا داعي الله ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض فأقبلنا من قبائل شتى النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم يتعاورون لحافا واحدا قليلون مستضعفون في الأرض فآوانا الله وأيدنا بنصره وأصبحنا والله جميعا بنعمته إخوانا وعلى الدين أعوانا ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم مروان وآل مروان فشتان لعمر الله ما بين الغي والرشد ثم أقبلوا يهرعون ويزفون قد ضرب الشيطان بجرانه وغلت بدمائهم مراجله وصدق عليهم إبليس ظنه وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب بكل مهند ذي رونق فدارت رحانا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون
وأنتم يأهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشف صدور قوم مؤمنين يأهل المدينة إن أولكم خير أول وآخركم شر آخر يأهل المدينة الناس منا ونحن منهم إلا مشركا عابد وثن أو كافرا من أهل الكتاب أو إماما جائرا أو شادا على عضده يأهل المدينة من زعم أن الله تعالى كلف نفسا فوق طاقتها أو سألها ما لم يؤتها فهو لله عدو ولنا حرب

خطبة له في سب أهل المدينة وتقريعهم
وخطب المدينة فحمد الله وأثني عليه ثم قال يأهل المدينة مالي رأيت رسم الدين فيكم باقيا وآثاره دارسة لا تقبلون عظته ولا تفقهون من أهله حجة قد بليت فيكم حدته وانطمست عنكم سنته ترون معروفه منكرا والمنكر من غيره معروفا إذا انكشفت لكم العبر وأوضحت لكم النذر عميت عنها أبصاركم وصمت عنها أسماعكم ساهين في غمرة لاهين في غفلة تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر وتنقبض عن الحق إذا ذكر مستوحشة من العلم مستأنسة بالجهل كلما وقعت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا تحملون قلوبا في صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة أو لم تلن لكتاب الله الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله يأهل المدينة ما تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم إن الله قد جعل لكل شئ سببا غالبا ينقاد له ويطيع أمره وجعل القلوب غالبة على الأبدان فإذا مالت القلوب ميلا كانت الأبدان لها تبعا وإن القلوب لا تلين أهلها إلا بصحتها ولا يصححها إلا المعرفة بالله وقوة النية ونفاذ البصيرة ولو استشعرت تقوى الله قلوبكم لاستعملت في طاعة الله أبدانكم يأهل المدينة داركم دار الهجرة ومثوى رسول الله لما نبت به داره وضاق به قراره وآذاه الأعداء وتجهمت له فنقله الله إليكم بل إلى قوم لعمري لم يكونوا أمثالكم متوازرين مع الحق على الباطل مختارين الآجل على العاجل يصبرون للصراء رجاء ثوابها فنصروا الله وجاهدوا في سبيله وآووا رسول الله ونصروه واتبعوا النور

الذي أنزل معه وآثروا الله على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة قال الله تعالى لأمثالهم ولمن اهتدي بهداهم ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) وأنتم أبناؤهم ومن بقي من خلفهم تتركون أن تقتدوا بهم أو تأخذوا بسنتهم عمي القلوب صم الآذان اتبعتم الهوى فأرداكم عن الهدى وأسهاكم فلا مواعظ القرآن تزجركم فتزدجرون ولا تعظكم فتعتبرون ولا توقظكم فتستيقظون لبئس الخلف أنتم من قوم مضوا قبلكم ما سرتم بسيرتهم ولا حفظتم وصيتهم ولا احتذيتم مثالهم لو شقت عنهم قبورهم فعرضت عليهم أعمالكم لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم
وجاء في رواية العقد الفريد يأهل المدينة أولكم خير أول وآخركم شر آخر إنكم أطعتم قراءكم وفقهاءكم فاختانوكم عن كتاب غير ذي عوج بتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين فأصبحتم عن الحق نائبين أمواتا غير أحياء وما تشعرون يأهل المدينة يا أبناء المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ما أصح أصلكم وأسقم فرعكم كان آباؤكم أهل اليقين وأهل المعرفة بالدين والبصائر النافذة والقلوب الواعية وأنتم أهل الضلالة والجهالة استعبدتكم الدنيا فأذلتكم والأماني فأضلتكم فتح الله لكم باب الدين فسددتموه وأغلق عنكم باب الدنيا ففتحتموه سراع إلى الفتنة بطاء عن السنة عمي عن البرهان صم عن العرفان عبيد الطمع حلفاء الجزع نعم ما ورثكم آباؤكم لو حفظتموه وبئس ما تورثون أبناءكم أن تمسكوا به نصر الله آباءكم على الحق وخذلكم على الباطل كان عدد آبائكم قليلا طيبا وعددكم كثير

خبيث اتبعتم الهوى فأرداكم واللهو فأسهاكم ومواعظ القرآن تزجركم فلا تزدجرون وتعبركم فلا تعتبرون
452 - خطبة أخرى
وخطب فقال أما بعد فإنك في ناشئ فتنة وقائد ضلالة قد طال جثومها واشتد عليك غمومها وتلونت مصايد عدو الله فيها وما نصب من الشرك لأهل الغفلة عما في عواقبها فلن يهد عمودها ولن ينزل أوتادها إلا الذي بيده ملك الأشياء وهو الله الرحمن الرحيم ألا وإن لله بقايا من عباده لم يتحيروا في ظلمها ولم يشايعوا أهلها على شبهها مصابيح النور في افواههم تزهو وألسنتهم بحجج الكتاب تنطق ركبوا منهج السبيل وقاموا على العلم الأعظم هم خصماء الشيطان الرجيم بهم يصلح الله البلاد ويدفع عن العباد فطوبي لهم وللمستصبحين بنورهم وأسأل الله أن يجعلنا منهم

403 - خطبته حين خرج من المدينة
وخطب حين خرج من المدينة لقتال جيش مروان فقال يأهل المدينة إنا خارجون لحرب مروان فإن نظهر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم ونقسم بينكم فيئكم وإن يكن ما تمنون لنا فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
454 - عمران بن حطان والحجاج
ولما ظفر الحجاج بعمران بن حطان الشاري قال اضربوا عنق ابن الفاجرة فقال عمران لبئس ما أدبك أهلك يا حجاج كيف أنت أن أجيبك بمثل ما لقيتني به أبعد الموت منزلة أصانعك عليها فأطرق الحجاج استحياء وقال خلوا عنه فخرج إلى أصحابه فقالوا والله ما أطلقك إلا الله فارجع إلى حربه معنا فقال هيهات غل يدا مطلقها وأسر رقبة معتقها

الخطب الوعظية والوصايا
455 - خطبة سحبان بن زفر الوائلى توفي سنة 54ه
خطب فقال إن الدنيا دار بلاغ والآخرة دار قرار أيها الناس فخذوا من دار ممركم لدار مقركم ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها حييتم ولغيرها خلقتم إن الرجل إذا هلك قال الناس ما ترك وقالت الملائكة ما قدم لله قدموا بعضا يكون لكم ولا تخلفوا كلا يكون عليكم

456 - خطبة معاوية
وخطب معاوية بدمشق فقال أيها الناس سافروا بأبصاركم في كر الجديدين ثم ارجعوها كليلة عن بلوغ الأمل فإن الماضي عظة للباقي ولا تجعلوا الغرور سبيل العجز عن الجد فتنقطع حجتكم في موقف الله سائلكم فيه ومحاسبكم فيما أسلفتم أيها الناس أمس شاهد فاحذروه واليوم مؤدب فاعرفوه وغدا رسول فأكرموه
457 - خطبة عبد الملك بن مروان
وخطب عبد الملك بن مروان فقال
أيها الناس اعملوا لله رغبة ورهبة فإنكم نبات نعمته وحصيد نقمته ولا تغرس لكم الآمال إلا ما تجتنيه الآجال وأقلوا الرغبة فيما يورث العطب فكل ما تزرعه العاجلة تقلعه الآجلة واحذروا الجديدين فهما يكران عليكم إن عقبى من بقى لحوق بمن مضي وعلى أثر من سلف يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى

458 - خطبة لعمر بن عبد العزيز
قال أبو العباس المبرد حدثت في بعض الأسانيد أن عمر بن عبد العزيز قال في خطبة له أيها الناس إنما الدنيا أمل مخترم وأجل منتقص وبلاغ إلى دار غيرها وسير إلى الموت ليس فيه تعريج فرحم الله امرأ فكر في أمره ونصح لنفسه وراقب ربه واستقال ذنبه ونور قلبه أيها الناس إن أباكم قد أخرج من الجنة بذنب واحد وإن ربكم وعد على التوبة فليكن أحدكم من ذنبه على وجل ومن ربه على أمل

كلام الحسن البصري
المتوفى سنة 110ه
459 - خطبة له
قال الحسن البصري رحمه الله يا بن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا يا بن آدم إذا رأيت الناس في الخير فنافسهم فيه وإذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم عليه الثواء ها هنا قليل والبقاء هناك طويل أمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أمتكم وقد أسرع بخياركم فماذا تنتظرون المعاينة فكأن قد هيهات هيهات ذهبت الدنيا بحاليها وبقيت الأعمال قلائد في أعناق بني آدم فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة أما إنه والله لا أمة بعد أمتكم ولا نبي بعد نبيكم ولا كتاب بعد كتابكم أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم وإنما ينتظر بأولكم أن يلحقه آخركم من رأي محمدا فقد رآه غاديا ورائحا لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة رفع له علم فشمر إليه فالوحاء الوحاء

والنجاء النجاء علام تعرجون أتيتم ورب الكعبة قد أسرع بخياركم وأنتم كل يوم ترذلون فماذا تنتظرون إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا عليه الصلاة و السلام على علم منه اختاره لنفسه وبعثه برسالته وأنزل عليه كتابه وكان صفوته من خلقه ورسوله إلى عباده ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض وآتاه منها قوتا وبلغة ثم قال ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) فرغب أقوام عن عيشه وسخطوا ما رضي له ربه فأبعدهم الله وأسحقهم
يا بن آدم طإ الأرض بقدمك فإنها عن قليل قبرك واعلم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك رحم الله رجلا نظر فتفكر وتفكر فاعتبر وأبصر فصبر فقد أبصر أقوام ولم يصبروا فذهب الجزع بقلوبهم ولم يدركوا ما طلبوا ولم يرجعوا إلى ما فارقوا
يا بن آدم اذكر قوله ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك خذوا صفا الدنيا وذروا كدرها فليس الصفو ما عاد كدرا ولا الكدر ما عاد صفوا دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم ظهر الجفاء وقلت العلماء وعفت السنة وشاعت البدعة لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم إلا قرة العين وجلاء الصدور ولقد رأيت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها وكانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم الله عليكم منها ما لي أسمع حسيسا ولا أرى

أنيسا ذهب الناس وبقي النسناس لو تكاشفتم ما تدافنتم تهاديتم الأطباق ولم تهادوا النصائح قال ابن الخطاب رحم الله امرأ أهدي إلينا مساوينا أعدوا الجواب فإنكم مسئولون المؤمن من لم يأخذ دينه عن رأيه ولكنه أخذه من قبل ربه إن هذا الحق قد جهد أهله وحال بينهم وبين شهواتهم وما يصبر عليه إلا من عرف فضله ورجا عاقبته فمن حمد الدنيا ذم الآخرة وليس يكره لقاء الله إلا مقيم على سخطه
يا بن آدم الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقه العمل
460 - خطبة أخرى
وكان إذا قرأ ( ألهاكم التكاثر ) قال عم ألهاكم عن دار الخلود وجنة لا تبيد هذا والله فضح القوم وهتك الستر وأبدى العوار تنفق مثل دينك في شهواتك سرفا وتمنع في حق الله درهما ستعلم يا لكع الناس ثلاثة مؤمن وكافر ومنافق فأما المؤمن فقد ألجمه الخوف وقومه ذكر العرض وأما الكافر فقد قمعه السيف وشرده الخوف فأدعن بالجزية وسمح بالضريبة وأما المنافق ففي الحجرات والطرقات يسرون غير ما يعلنون ويضمرون غير ما يظهرون فاعتبروا إنكارهم ربهم بأعمالهم الخبيثة ويلك قتلت وليه ثم تتمنى عليه جنته

461 - خطبة أخرى
وكان يقول رحم الله رجلا خلا بكتاب الله فعرض عليه نفسه فإن وافقه حمد ربه وسأله الزيادة من فضله وإن خالفه أعتب وأناب وراجع من قريب رحم الله رجلا وعظ أخاه وأهله فقال يأهلى صلاتكم صلاتكم زكاتكم زكاتكم جيرانكم جيرانكم إخوانكم إخوانكم مساكينكم مساكينكم لعل الله يرحمكم فإن الله تبارك وتعالى أثنى على عبد من عباده فقال ( وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ) يا بن آدم كيف تكون مسلما ولم يسلم منك جارك وكيف تكون مؤمنا ولم يأمنك الناس
462 - خطبة أخرى
وكان يقول لا يستحق أحد حقيقة الإيمان حتى لا يعيب الناس بعيب هو فيه ولا يأمر بإصلاح عيوبهم حتى يبدأ بإصلاح ذلك من نفسه فإنه إذا فعل ذلك لم يصلح عيبا إلا وجد في نفسه عيبا آخر ينبغي له أن يصلحه فإذا فعل ذلك شغل بخاصة نفسه عن عيب غيره وإنك ناظر إلى عملك بوزن خيره وشره فلا تحقرن شيئا من الخير وإن صغر فإنك إذا رأيته سرك مكانه ولا تحقرن شيئا من الشر وإن صغر فإنك إذا رأيته ساءك مكانه

463 - خطبة أخرى
وكان يقول رحم الله عبدا كسب طيبا وأنفق قصدا وقدم فضلا وجهوا هذه الفضول حيث وجهها الله وضعوها حيث أمر الله فإن من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلاغهم ويؤثرون بالفضل ألا إن هذا الموت قد أضر بالدنيا ففضحها فلا والله ما وجد ذو لب فيها فرحا فإياكم وهذه السبل المتفرقة التي جماعها الضلالة وميعادها النار أدركت من صدر هذه الأمة قوما كانوا إذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم يفترشون خدودهم تجري دموعهم على خدودهم يناجون مولاهم في فكاك رقابهم إذا عملوا الحسنة سرتهم وسألوا الله أن يتقبلها منهم وإذا عملوا سيئة ساءتهم وسألوا الله أن يغفرها لهم يا بن آدم إن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس ها هنا شىء يغنيك وإن كان يغنيك ما يكفيك فالقليل من الدنيا يكفيك يا بن آدم لا تعمل شيئا من الحق رياء ولا تتركه حياء
464 - خطبة أخرى
وكان يقول إن العلماء كانوا قد استغنوا بعلمهم عن أهل الدنيا وكانوا يقضون بعلمهم على أهل الدنيا ما لا يقضي أهل الدنيا بدنياهم فيها وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم لأهل العلم رغبة في علمهم فأصبح اليوم أهل العلم يبذلون علمهم لأهل الدنيا رغبة في دنياهم فرغب أهل الدنيا بدنياهم عنهم وزهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم وكان يقول لا أذهب إلى من يوارى

غني غناه ويبدي لى فقره ويغلق دوني بابه ويمنعني ما عنده وأدع من يفتح لي بابه ويبدي لي غناه ويدعوني إلى ما عنده
465 - خطبة أخرى
وكان يقول يا بن آدم لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر مؤمن مهتم وعلج اغتم وأعرابي لا فقه له ومنافق مكذب ودنياوي مترف نعق بهم ناعق فاتبعوه فراش نار وذبان طمع والذي نفس الحسن بيده ما أصبح في هذه القرية مؤمن إلا أصبح مهموما حزينا وليس لمؤمن راحة دون لقاء الله الناس ما داموا في عافية مستورون فإذا نزل بلاء صاروا إلى حقائقهم فصار المؤمن إلى إيمانه والمنافق إلى نفاقه أي قوم إن نعمة الله عليكم أفضل من أعمالكم فسارعوا إلى ربكم فإنه ليس لمؤمن راحة دون الجنة ولا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همه
466 - خطبة أخرى
وقال في يوم فطر وقد رأى الناس وهيئاتهم إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق أقوام ففازوا وتخلف آخرون فخابوا فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون أما والله أن لو كشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه ومسيء بإساءته عن ترجيل شعر أو تجديد ثوب

467 - مقام الحسن البصري عند عمر بن هبيرة
لما ولي عمر بن هبيرة الفزارى العراق وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي سنة ثلاث ومائة فقال لهم إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأحد عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره أعرف في تنفيذه الهلكة فأخاف إن أطعته غضب الله وإن عصيته لم آمن سطوته فما ترون فقال ابن سيرين والشعبي قولا فيه تقية وكان ابن هبيرة لا يستشفي دون أن يسمع قول الحسن فقال قل ما عندك يا أبا سعيد فقال يا بن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وأوشك أن يبعث إليك ملكا فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك يا بن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرا لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
وفي رواية أخرى قال أقول والله إنه يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله فظ غليظ لا يعصي الله ما أمره فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فلا يغني عنك ابن عبد الملك شيئا وإني لأرجو أن الله عز و جل سيعصمك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله فاتق الله أيها الأمير فإنك لا تأمن أن ينظر الله إليك وأنت على أقبح ما تكون عليه من طاعة يزيد نظرة يمقتك بها فيغلق عنك باب الرحمة واعلم أنى أخوفك ما خوفك الله سبحانه حين يقول ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) وإذا كنت مع الله عز و جل في طاعته كفاك بوائق يزيد وإن كنت مع يزيد على معصية الله وكلك الله إلى يزيد حين لا يغني عنك شيئا

فبكي عمر بن هبيرة بكاء شديدا ثم أجازهم وأضعف جائزة الحسن فقال الشعبي لابن سيرين سفسفنا له فسفسف لنا
468 - مقام الحسن عند النضر بن عمرو
وأحضر النضر بن عمرو وكان واليا على البصرة الحسن البصري يوما فقال يا أبا سعيد إن الله عز و جل خلق الدنيا وما فيها من رياشها وبهجتها وزينتها لعباده وقال عز و جل ( كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) وقال عز من قائل ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ) فقال الحسن أيها الرجل اتق الله في نفسك وإياك والأماني التي ترجحت فيها فتهلك إن أحدا لم يعط خيرا من خير الدنيا ولا من خير الآخرة بأمنيته وإنما هي داران من عمل في هذه أدرك تلك ونال في هذه ما قدر له منها ومن أهمل نفسه خسرهما جميعا إن الله سبحانه اختار محمدا لنفسه وبعثه برسالته ورحمته وجعله رسولا إلى كافة خلقه وأنزل عليه كتابا مهيمنا وحد له في الدنيا حدودا وجعل له فيها أجلا ثم قال عز و جل ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) وأمرنا أن نأخذ بأمره ونهتدي بهديه وأن نسلك طريقته ونعمل بسنته فما بلغنا إليه فبفضله ورحمته وما قصرنا عنه فعلينا أن نستعين ونستغفر فذلك باب مخرجنا فأما الأماني فلا خير فيها ولا في أحد من أهلها

فقال النضر والله يا أبا سعيد إنا على ما فينا لنحب ربنا فقال الحسن لقد قال ذلك قوم على عهد رسول الله فأنزل الله تعالى عليه ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) فجعل سبحانه اتباعه علما للمحبة وأكذب من خالف ذلك فاتق الله أيها الرجل في نفسك وايم الله لقد رأيت أقواما كانوا قبلك في مكانك يعلون المنابر وتهتز لهم المراكب ويجرون الذيول بطرا ورياء الناس يبنون المدر ويؤثرون الأثر ويتنافسون في الثياب أخرجوا من سلطانهم وسلبوا ما جمعوا من دنياهم وقدموا على ربهم ونزلوا على أعمالهم فالويل لهم يوم التغابن ويا ويحهم ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه )
469 - مقام آخر له عند النضر
ودخل عليه يوما آخر فقال أيها الأمير أيدك الله إن أخاك من نصحك في دينك وبصرك عيوبك وهداك إلى مراشدك وإن عدوك من غرك ومناك أيها الأمير اتق الله فإنك أصبحت مخالفا للقوم في الهدى والسيرة والعلانية والسريرة وأنت مع ذلك تتمنى الأماني وترجح في طلب العذر والناس أصلحك الله طالبان فطالب دنيا وطالب آخرة وايم الله لقد أدرك طالب الآخرة واستراح وتعب الآخر واخترم

فاحذر أيها الأمير أن تشقى بطلب الفاني وترك الباقي فتكون من النادمين واعلم أن حكيما قال
( أين الملوك التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها )
نعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الضلالة بعد الهدي لقد حدثت أيها الأمير عن بعض الصالحين أنه كان يقول كفي بالمرء خيانة أن يكون للخونة أمينا وعلى أعمالهم معينا
470 - مقال الحسن حين رأى دار الحجاج التي بناها بواسط
وروي أن الحجاج بني دارا بواسط وأحضر الحسن ليراها فلما دخلها قال الحمد لله إن الملوك ليرون لأنفسهم عزا وإنا لنرى فيهم كل يوم عبرا يعمد أحدهم إلى قصر فيشيده وإلى فرش فينجده وإلى ملابس ومراكب فيحسنها ثم يحف به ذباب طمع وفراش نار وأصحاب سوء فيقول انظروا ما صنعت فقد رأينا أيها المغرور فكان ماذا يا أفسق الفاسقين أما أهل السموات فقد مقتوك وأما أهل الأرض فقد لعنوك بنيت دار الفناء وخربت دار البقاء وغررت في دار الغرور لتذل في دار الحبور ثم خرج وهو يقول إن الله سبحانه أخذ عهده على العلماء ليبينه للناس ولا يكتمونه
وبلغ الحجاج ما قال فاشتد غضبه وجمع أهل الشأم فقال يأهل الشأم أيشتمني عبد من عبيد أهل البصرة وأنتم حضور فلا تنكرون ثم أمر بإحضاره فجاء وهو يحرك شفتيه بما لم يسمع حتى دخل على الحجاج فقال يا أبا سعيد أما كان لإمارتي عليك حق حين قلت ما قلت فقال يرحمك الله أيها الأمير إن من خوفك حتى

تبلغ أمنك أرفق بك وأحب فيك ممن أمنك حتى تبلغ الخوف وما أردت الذي سبق إلى وهمك والأمران بيدك العفو والعقوبة فافعل الأولي بك وعلى الله فتوكل وهو حسبنا ونعم الوكيل فاستحيا الحجاج منه واعتذر إليه وأكرمه وحياه
وفي رواية أخرى فلما دخل قال له الحجاج ها هنا فأجلسه قريبا منه وقال ما تقول في علي وعثمان قال أقول قول من هو خير مني عند من هو شر منك قال فرعون لموسى ( فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ) علم علي وعثمان عند الله قال أنت سيد العلماء يا أبا سعيد ودعا بغالية وعلف بها لحيته فلما خرج تبعه الحاجب فقال له ما الذي كنت قلت حين دخلت عليه قال قلت يا عدتي عند كربتي ويا صاحبي عند شدتي ويا ولى نعمتي ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ارزقني مودته واصرف عني أذاه ففعل ربي عز و جل
471 - صفة الإمام العادل
لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى الحسن أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل فكتب إليه الحسن رحمه الله اعلم يا أمير المؤمنين أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل وقصد كل جائر وصلاح كل فاسد وقوة كل ضعيف ونصفة كل مظلوم ومفزع كل ملهوف والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الرفيق الذي يرتاد

لها أطيب المرعى ويذودها عن مراتع الهلكة ويحميها من السباع ويكنفها من أذى الحر والقر والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغارا ويعلمهم كبارا يكتسب لهم في حياته ويدخر لهم بعد مماته والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها حملته كرها ووضعته كرها وربته طفلا تسهر بسهره وتسكن بسكونه ترضعه تارة وتفطمه أخرى وتفرح بعافيته وتغتم بشكايته والإمام العادل يا أمير المؤمنين وصي اليتامى وخازن المساكين يربي صغيرهم ويمون كبيرهم والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده يسمع كلام الله ويسمعهم وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله فبدد المال وشرد العيال فأفقر أهله وفرق ماله واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش فكيف إذا أتاها من يليها وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم واذكر يا أمير المؤمنين الموت وما بعده وقلة أشياعك عنده وأنصارك عليه فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر واعلم يا أمير المؤمنين أن لك منزلا غير منزلك الذي أنت فيه يطول فيه ثواؤك ويفارقك أحباؤك يسلمونك في قعره فريدا وحيدا فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه واذكر يا أمير المؤمنين إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فالآن يا أمير المؤمنين وأنت في مهل قبل حلول الأجل وانقطاع الأمل لا تحكم يا أمير المؤمنين في عباد

الله بحكم الجاهلين ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة فتبوء بأوزارك وأوزار مع أوزارك وتحمل أثقالك وأثقالا مع أثقالك ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك لا تنظر إلى قدرتك اليوم ولكن انظر إلى قدرتك غدا وأنت مأسور في حبائل الموت وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين وقد عنت الوجوه للحي القيوم إني يا أمير المؤمنين وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي فلم آلك شفقة ونصحا فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من العافية والصحة والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته
472 - موعظته لعمر بن عبد العزيز
وكتب إليه عمر بن عبد العزيز رحمهما الله اكتب إلي يا أبا سعيد بموعظة فأوجز فكتب إليه أما بعد يا أمير المؤمنين فكأن الذي كان لم يكن وكأن الذي هو كائن قد نزل واعلم يا أمير المؤمنين أن الصبر وإن أذاقك تعجيل مرارته فلنعم ما أعقبك من طيب حلاوته وحسن عاقبته وأن الهوى وإن أذاقك طعم حلاوته فلبئس ما أعقبك من مرارته وسوء عاقبته واعلم يا أمير المؤمنين أن الفائز من حرص على السلامة في دار الإقامة وفاز بالرحمة فأدخل الجنة

473 - موعظته لعمر بن عبد العزيز أيضا
وكتب إليه عمر بن عبد العزيز اكتب إلي يا أبا سعيد بذم الدنيا فكتب إليه أما بعد يا أمير المؤمنين فإن الدنيا دار ظعن وانتقال وليست بدار إقامة على حال وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها فإن الراغب فيها تارك والغني فيها فقير والسعيد من أهلها من لم يتعرض لها إنها إذا اختبرها اللبيب الحاذق وجدها تذل من أعزها وتفرق من جمعها فهي كالسم يأكله من لا يعرفه ويرغب فيه من يجهله وفيه والله حتفه فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جراحه يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا الصبر على لأوائها أيسر من احتمال بلائها واللبيب من حذرها ولم يغتر بزينتها فإنها غدارة ختالة خداعة قد تعرضت بآمالها وتزينت لخطابها فهي كالعروس العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة وهي والذي بعث محمدا بالحق لأزواجها قاتلة فاتق يا أمير المؤمنين صرعتها واحذر عثرتها فالرخاء فيها موصول بالشدة والبلاء والبقاء مؤد إلى الهلكة والفناء
واعلم يا أمير المؤمنين أن أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد وتاركها موفق والمتمسك بها هالك غرق والفطن اللبيب من خاف ما خوفه الله وحذر ما حذره وقدر من دار الفناء إلى دار البقاء فعند الموت يأتيه اليقين الدنيا والله يا أمير المؤمنين دار عقوبة لها يجمع من لا عقل له وبها يغتر من لا علم عنده والحازم اللبيب من كان فيها كالمداوي جراحه يصبر على مرارة الدواء لما يرجو من

العافية ويخاف من سوء عاقبة الدار والدنيا وايم الله يا أمير المؤمنين حلم والآخرة يقظة والمتوسط بينهما الموت والعباد في أضغاث أحلام وإني قائل لك يا أمير المؤمنين ما قال الحكيم
( فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا )
ولما وصل كتابه إلى عمر بكى وانتحب حتى رحمه من كان عنده وقال يرحم الله الحسن فإنه لا يزال يوقظنا من الرقدة وينبهنا من الغفلة ولله هو من مشفق ما أنصحه وواعظ ما أصدقه وأفصحه
474 - كلمات حكيمة للحسن البصري
وقال احذر من نقل إليك حديث غيرك فإنه سينقل إلى غيرك حديثك أيها الناس إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون الصبر صبران صبر عند المصيبة وصبر عن المعصية فمن قدر على ذلك فقد نال افضل الصبرين أفضل الجهاد جهاد الهوى لا تكن ممن يجمع علم العلماء وحكم الحكماء ويجري في الحق مجرى السفهاء من خاف الله أخاف الله سبحانه منه كل شيء ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء لولا ثلاثة ما طأطأ ابن آدم رأسه الموت والمرض والفقر وإنه بعد ذلك لوثاب احذروا العابد الجاهل والعالم الفاسق فإن فيهما فتنة لكل مفتون ترك الخطيئة أهون من معالجة التوبة لا تكن شاة الراعي أعقل منك تزجرها الصيحة وتطردها الإشارة المؤمن تلقاه الزمان بعد الزمان بأمر ووجه واحد ونصيحة واحدة وإنما يتبدل المنافق ليستأكل كل قوم المؤمن صدق قوله فعله وسره علانيته ومشهده مغيبه لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت الفكرة من عمله

والذكر من شأنه والمحاسبة من همته ولا يزال بشر ما استعمل التسويف واتبع الهوى وأكثر الغفلة ورجح في الأماني الحق مر لا يصبر عليه إلا من عرف حسن العاقبة ومن رجا الثواب خاف العقاب حادثوا هذه القلوب فإنها سريعة الدثور واقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة وإنكم إلا تزعوها تنزع بكم إلى شر غاية يا بن آدم نهارك ضيفك فأحسن إليه فإنك إن أحسنت إليه ارتحل يحمدك وإن أسأت إليه ارتحل يذمك وكذلك ليلك إنما أنت أيها الإنسان عدد فإذا مضى لك يوم فقد مضى بعضك وقيل له يا أبا سعيد من أشد الناس صراخا يوم القيامة فقال رجل رزق نعمة فاستعان بها على معصية الله وكان يقول لو قمت الليل حتى ينحني ظهرك وصمت النهار حتى يسقم جسمك لم ينفعك ذلك إلا بورع صادق وسمع رجلا يكثر الكلام فقال يا بن أخي أمسك عليك لسانك فقد قيل ما شيء أحق بسجن من لسان وكان يقول لو لم يكن من شؤم الشراب إلا أنه جاء إلي أحب خلق الله إلى الله فأفسده لكان ينبغي للعاقل أن يتركه يعني العقل ويقول ما أطال أحد الأمل إلا أساء العمل وما أساء العمل إلا ذل
وقال يا عجبا لقوم قد أمروا بالزاد وأوذنوا بالرحيل وأقام أولهم على آخرهم فليت شعري ما الذي ينتظرون وقال اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عليها ولا تعمرها وقال ليس العجب ممن عطب كيف عطب إنما العجب ممن نجا كيف نجا وقال من أخلاق المؤمن قوة في دين وحرص على العلم وقناعة في فقر ورحمة للمجهود وإعطاء في حق وبر في استقامة وفقه في يقين وكسب في حلال

475 - خطبة واصل بن عطاء المنزوعة الراء
الحمد لله القديم بلا غاية والباقي بلا نهاية الذي علا في دنوه ودنا في علوه فلا يحويه زمان ولا يحيط به مكان ولا يئوده حفظ ما خلق ولم يخلقه على مثال سبق بل أنشأه ابتداعا وعدله اصطناعا فأحسن كل شيء خلقه وتمم مشيئته وأوضح حكمته فدل على ألوهيته فسبحانه لا معقب لحكمه ولا دافع لقضائه تواضع كل شيء لعظمته وذل كل شيء لسلطانه ووسع كل شيء فضله لا يعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده إلها تقدست أسماؤه وعظمت آلاؤه وعلا عن صفات كل مخلوق وتنزه عن شبيه كل مصنوع فلا تبلغه الأوهام ولا تحيط به العقول ولا الأفهام يعصى فيحلم ويدعى فيسمع ويقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون وأشهد شهادة حق وقول صدق بإخلاص نية وصحة طويلة أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه وخالصته وصفيه ابتعثه إلى خلقه بالبينة والهدى ودين الحق فبلغ مألكته ونصح لأمته وجاهد في سبيل الله لا تأخذه في الحق لومة لائم ولا يصده عنه زعم زاعم ماضيا على سنته موفيا على قصده حتى أتاه اليقين فصلى الله على محمد وعلى آل محمد

أفضل وأزكى وأتم وأنمى وأجل وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه وخالصة ملائكته وأضعاف ذلك إنه حميد مجيد أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله والعمل بطاعته والمجانبة لمعصيته وأحضكم على ما يدينكم منه ويزلفكم لديه فإن تقوى الله أفضل زاد وأحسن عاقبة في معاد ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها وفواتن لذاتها وشهوات أمالها فإنها متاع قليل ومدة إلى حين وكل شيء منها يزول فكم عاينتم من أعاجيبها وكم نصبت لكم من حبائلها وأهلكت من جنح إليها واعتمد عليها أذاقتهم حلوا ومزجت لهم سما أين الملوك الذين بنوا المدائن وشيدوا المصانع وأوثقوا الأبواب وكاثفوا الحجاب وأعدوا الجياد وملكوا البلاد واستخدموا التلاد قبضتهم بمحملها وطحنتهم بكلكلها وعضتهم بأنيابها وعاضتهم من السعة ضيقا ومن العزة ذلا ومن الحياة فناء فسكنوا اللحود وأكلهم الدود وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ولا تجد إلا معالمهم ولا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم نبسا فتزودوا عافاكم الله فإن أفضل الزاد التقوى واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه ويعمل لحظه وسعادته وممن يستمع القول فيتبع أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب إن أحسن قصص المؤمنين وأبلغ مواعظ المتقين كتاب الله الزكية آياته الواضحة بيناته فإذا تلي عليكم فأنصتوا له واسمعوا لعلكم تفلحون أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي إن الله هو السميع العليم قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ثم قال

نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم والوحي المبين وأعادنا وإياكم من العذاب الأليم وأدخلنا وإياكم جنات النعيم
476 - وصية عبد الملك بن مروان لبني أمية
وقال عبد الملك بن مروان يا بني أمية ابذلوا نداكم وكفوا أذاكم واعفوا إذا قدرتم ولا تبخلوا إذا سئلتم فإن خير المال ما أفاد حمدا أو نفى ذما ولا يقولن أحدكم ابدأ بمن تعول فإنما الناس عيال الله قد تكفل الله بأرزاقهم فمن وسع أخلف الله عليه ومن ضيق ضيق الله عليه
477 - وصية عبد الملك بن شداد لابنه
لما حضرت عبد الله بن شداد الوفاة دعا ابنا له يقال له محمد فقال يا بني إني أرى داعى الموت لا يقلع وأرى من مضي لا يرجع ومن بقي فإليه ينزع وإني موصيك بوصية فاحفظها عليك بتقوى الله العظيم وليكن أولي الأمور بك شكر الله وحسن النية في السر والعلانية فإن الشكور يزداد والتقوى خير زاد وكن كما قال الحطيئة
( ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد )
( وتقوى الله خير الزاد ذخرا ... وعند الله للأتقى مزيد )
( وما لا بد أن يأتي قريب ... ولكن الذي يمضي بعيد )

ثم قال أي بني لا تزهدن في معروف فإن الدهر ذو صروف والأيام ذات نوائب على الشاهد والغائب فكم من راغب أصبح مطلوبا ما لديه واعلم أن الزمان ذو ألوان ومن يصحب الزمان ير الهوان وكن أي بني كما قال أبو الأسود الدؤلي
( وعد من الرحمن فضلا ونعمة ... عليك إذا ما جاء للعرف طالب )
( وإن امرأ لا يرتجى الخير عنده ... يكن هينا ثقلا على من يصاحب )
( فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالبا ... فإنك لا تدري متى أنت راغب )
( رأيت التوا هذا الزمان بأهله ... وبينهم فيه تكون النوائب )
ثم قال أي بني كن جوادا بالمال في موضع الحق بخيلا بالأسرار عن جميع الخلق فإن أحمد جود المرء الإنفاق في وجه البر وإن أحمد بخل الحر الضن بمكتوم السر وكن كما قال قيس بن الخطيم الأنصاري
( أجود بمكنون التلاد وإنني ... بسرك عمن سالني لضنين )
( إذا جاوز الإثنين سر فإنه ... بنث وتكثير الحديث قمين )
( وعندي له يوما إذا ما ائتمننى ... مكان بسوداء الفؤاد مكين ) ثم قال أي بني وإن غلبت يوما على المال فلا تدع الحيلة على حال فإن الكريم يحتال والدنى عيال وكن أحسن ما تكون في الظاهر حالا أقل

ما تكون في الباطن مالا فإن الكريم من كرمت طبيعته وظهرت عند الإنفاد نعمته وكن كما قال ابن خذاق العبدى
( وجدت أبي قد أورثه أبوه ... خلالا قد تعد من المعالي )
( فأكرم ما تكون على نفسي ... إذا ما قل في الأزمات مالي )
( فتحسن سيرتي وأصون عرضي ... ويجمل عند أهل الرأي حالي )
( وإن نلت الغني لم أغل فيه ... ولم أخصص بجفوتي الموالي )
ثم قال أي بني وإن سمعت كلمة من حاسد فكن كأنك لست بالشاهد فإنك إن أمضيتها حيالها رجع العيب على من قالها وكان يقال الأريب العاقل هو الفطن المتغافل وكن كما قال حاتم الطائي
( وما من شيمتي شتم ابن عمي ... وما أنا مخلف من يرتجينى )
( وكلمة حاسد في غير جرم ... سمعت فقلت مري فانقذيني )
( فعابوها على ولم تسؤني ... ولم يعرق لها يوما جبينى )
( وذو اللونين يلقاني طليقا ... وليس إذا تغيب يأتليني )
( سمعت بعيبه فصفحت عنه ... محافظة على حسبى ودينى )
ثم قال أي بني لا تؤاخ امرأ حتى تعاشره وتتفقد موارده ومصادره فإذا استطعت العشرة ورضيت الخبرة فواخه على إقالة العثرة والمواساة في العسرة وكن كما قال المقنع الكندي
( أبل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسم فعالهم وتفقد )

( فإذا ظفرت بذى اللبابة والتقى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد )
( وإذا رأيت ولا محالة زلة ... فعلى أخيك بفضل حلمك فاردد )
ثم قال أي بني إذا أحببت فلا تفرط وإذا أبغضت فلا تشطط فإنه قد كان يقال أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما وكن كما قال هدبة بن الخشرم العذري
( وكن معقلا للحلم واصفح عن الخنا ... فإنك راء ما حييت وسامع )
( وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت نازع )
( وأبغض إذا أبغضت بغضا مقاربا ... فإنك لا تدري متى أنت راجع )
وعليك بصحبة الأخيار وصدق الحديث وإياك وصحبة الأشرار فإنه عار وكن كما قال الشاعر
( اصحب الأخيار وارغب فيهم ... رب من صاحبته مثل الجرب )
( ودع الناس فلا تشتمهم ... وإذا شاتمت فاشتم ذا حسب )
( إن من شاتم وغدا كالذي ... يشتري الصفر بأعيان الذهب )
( واصدق الناس إذا حدثتهم ... ودع الناس فمن شاء كذب )

478 - وصية أسماء بن خارجة لابنته
زوج أسماء بن خارجة الفزاري بنته هندا من الحجاج بن يوسف فلما كانت ليلة أراد البناء بها قال لها أسماء يا بنية إن الأمهات يؤدبن البنات وإن أمك هلكت وأنت صغيرة فعليك بأطيب الطيب الماء وأحسن الحسن الكحل وإياك وكثرة المعاتبة فإنها قطيعة للود وإياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق وكوني لزوجك أمة يكن لك عبدا واعلمي أني القائل لأمك
( خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب )
( ولا تنقريني نقرة الدف مرة ... فإنك لا تدرين كيف المغيب )
( فإني وجدت الحب في الصدر والأذى ... إجتمعا لم يلبث الحب يذهب )
479 - رجل ينصح لهشام بن عبد الملك
وخرج الزهري يوما من عند هشام بن عبد الملك فقال ما رأيت كاليوم ولا سمعت كأربع كلمات تكلم بهن رجل عند هشام دخل عليه فقال يا أمير المؤمنين احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك قال وما هن قال لا تعد عدة لا تثق من نفسك بإنجازها ولا يغرنك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا واعلم أن للأعمال جزاء فاتق العواقب وأن للأمور بغتات فكن على حذر
قال عيسي بن دأب فحدثت بهذا الحديث المهدي وفي يده لقمة قد رفعها إلى فيه

فأمسكها وقال ويحك أعد علي فقلت يا أمير المؤمنين أسغ لقمتك فقال حديثك أعجب إلي
480 - وصية عبد الحميد بن يحى الكاتب للكتاب
كتب عبد الحميد بن يحى الكاتب رسالة إلى الكتاب يوصيهم فيها قال
أما بعد حفظكم الله يأهل صناعة الكتابة وحاطكم ووثقكم وأرشدكم فإن الله عز و جل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرمين أصنافا وإن كانوا في الحقيقة سواء وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معايشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءة والعلم والرواية بكم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصائحكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلادهم لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون وألسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم
وليس أحد أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم فهيما في موضع الحكم مقداما في موضع الإقدام محجاما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف كتوما للأسرار وفيا عند

الشدائد عالما بما يأتي من النوازل يضع الأمور مواضعها والطوارق أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمته فإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فبعد لكل أمر عدته وعتاده ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته قتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين وابدءوا بعلم كتاب الله عز و جل والفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنها مدلة للرقاب مفسدة للكتاب ونزهوا صناعتكم عن الدناءات واربئوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات وإياكم والكبر والصلف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة وتحابوا في الله عز و جل في صناعتكم وتواصوا عليها بالذي هو أليق بأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم
وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحدكم الكبر عن مكبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقدم معرفته وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحفظ منه على ولده وأخيه فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يضيفها إلا إلى صاحبه وإن عرضت مذمة فليحملها

هو من دونه وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء وهو لكم أفسد منه لها
فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه الرجل يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وصبره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه
فاستشعروا ذلكم وفقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء فنعمت الشيمة هذه لمن وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة فإذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز و جل وليؤثر طاعته وليكن على الضعيف رفيقا وللمظلوم منصفا فإن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أرفقهم بعياله ثم ليكن بالعدل حاكما وللأشراف مكرما وللفيء موفرا وللبلاد عامرا وللرعية متألفا وعن إيذائهم متخيفا وليكن في مجلسه متواضعا حليما وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقا وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال لصرفه عما يهواه من القبيح بألطف حيلة وأجمل وسيلة وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت رموحا لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوبا اتقاها من قبل يديها وإن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طريقها فإن استمرت غطفها يسيرا فيسلس له قيادها وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وخدمهم وداخلهم
والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره

من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولي بالرفق بصاحبه ومداراته وتقويم وده من سائس البهيمة التي لا تحير جوابا ولا تعرف صوابا ولا تفهم خطابا إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها ألا فأمعنوا رحمكم الله في النظر وأعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشفقة إن شاء الله تعالى
ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب ويفضحان أهلهما ولا سيما الكتاب وأرباب الآداب وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلوا علي مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة
واعلموا أن للتدبير آفة متلفة وهي الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ عمله ورؤيته فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإن ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للتشاغل عن إكثاره

وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز و جل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمله غير خاف
ولا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمي بالعجب وراء ظهره ورأى أن صاحبه أعقل منه وأحمد في طريقته وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا تكاثر على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيره وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته
وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من يلزم النصيحة يلزمه العمل وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز و جل فلذلك جعلته آخره وتممته به تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإن ذلك إليه وبيده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الصراع بين الأموية والعباسية
481 - خطبة قحطبة بن شبيب الطائي
لما دخل أبو مسلم الخراسانى زعيم الدعوة العباسية مدينة مرو سنة 130ه هرب منها نصر بن سيار أمير خراسان من قبل مروان بن محمد الأموي ثم سار إلى نباته ابن حنظلة عامل جرجان فوجه أبو مسلم قحطبة بن شبيب في جيش لقتاله وقدم قحطبة فنزل بإزاء نباتة وأهل الشأم في عدة لم ير الناس مثلها فلما رآهم أهل خراسان هابوهم حتى تكلموا بذلك وأظهروه وبلغ قحطبة فقام فيهم خطيبا فقال يأهل خراسان هذه البلاد كانت لآبائكم الأولين وكانوا ينصرون على عدوهم لعدلهم وحسن سيرتهم حتى بدلوا وظلموا فسخط الله عز و جل عليهم فانتزع سلطانهم وسلط عليهم أذل أمة كانت في الأرض عندهم فغلبوهم على بلادهم واستنكحوا نساءهم واسترقوا أولادهم فكانوا بذلك يحكمون بالعدل ويوفون بالعهد وينصرون

المظلوم ثم بدلوا وغيروا وجاروا في الحكم وأخافوا أهل البر والتقوى من عترة رسول الله فسلطكم عليهم لينتقم منهم بكم ليكونوا أشد عقوبة لأنكم طلبتموهم بالثأر وقد عهد إلى الإمام أنكم تلقونهم في مثل هذه العدة فينصركم الله عز و جل عليهم فتهزمونهم وتقتلونهم
وقد قرئ على قحطبة كتاب أبي مسلم من ألى مسلم إلي قحطبة بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فناهض عدوك فإن الله عز و جل ناصرك فإذا ظهرت عليهم فأثخن في القتل فالتقوا في مستهل ذي الحجة سنة 130ه في يوم الجمعة فقال قحطبة
482 - خطبة أخرى له
يأهل خراسان إن هذا يوم قد فضله الله تبارك وتعالى على سائر الأيام والعمل فيه مضاعف وهذا شهر عظيم فيه عيد من أعظم أعيادكم عند الله عز و جل وقد أخبرنا الإمام أنكم تنصرون في هذا اليوم من هذا الشهر على عدوكم فالقوه بجد واحتساب فإن الله مع الصابرين ثم ناهضهم فاقتتلوا وصبر بعضهم لبعض فانهزم أهل الشام وقتل منهم عشرة آلاف وقتل نباتة وبعث قحطبة برأسه ورأس ابنه حية إلى أبي مسلم

استدراك على الجزء الأول
سقطت هذه الخطبة سهوا في أثناء الطبع فأوردناها هنا
خطبة السيدة عائشة حين أنبئت بقتل عثمان
كانت السيدة عائشة خرجت إلى مكة للحج وعثمان محصور ثم خرجت من مكة تريد المدينة فلما كانت بسرف أنبئت بمقتل عثمان فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فسترت فيه واجتمع إليها الناس فقالت أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما بالأمس ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه وقد استعمل أمثالهم قبله ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام والله لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم والله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء
انتهي الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله الباب الرابع في خطب ووصايا
العصر العباسي الأول

الباب الرابع
الخطب والوصايا في العصر العباسي الأول
1 - خطبة أبي العباس السفاح وقد بويع بالخلافة توفي سنة 136ه
صعد أبو العباس السفاح المنبر حين بويع له بالخلافة فقام في أعلاه وصعد عمه داود بن علي فقام دونه وتكلم أبو العباس فقال
الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه تكرمة وشرفه وعظمه واختاره لنا وأيده بنا وجعلنا أهله وكهفه وحصنه والقوام به والذابين عنه والناصرين له وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها وخصنا برحم رسول الله

وقرابته وأنشأنا من آبائه وأنبتنا من شجرته واشتقنا من نبعته جعله من أنفسنا عزيزا عليه ما عنتنا حريصا علينا بالمؤمنين رءوفا رحيما ووضعنا من الإسلام وأهله بالموضع الرفيع وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتابا يتلى عليهم فقال عز من قائل فيما أنزل من محكم القران ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) وقال ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) وقال ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) وقال ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذى القربى واليتامى ) وقال ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى ) فأعلمهم جل ثناؤه فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودتنا وأجزل من الفىء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا وفضلا علينا والله ذو الفضل العظيم
وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والخلافة منا فشاهت وجوههم بم ولم أيها الناس وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم وبصرهم بعد جهالتهم وأنقذهم بعد هلكتهم وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل وأصلح بنا منهم ما كان فاسدا ورفع بنا الخسيسة وأتم بنا النقيصة وجمع الفرقة حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دينهم ودنياهم وإخوانا على سرر متقابلين في آخرتهم فتح الله ذلك منة ومنحة لمحمد فلما قبضه الله إليه قام بذلك الأمر من بعده أصحابه وأمرهم شورى بينهم فحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها

ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها وخرجوا خماصا منها ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها وتداولوها بينهم فجاروا فيها واستأثروا بها وظلموا أهلها فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا وتدارك بنا أمتنا وولي نصرنا والقيام بأمرنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض وختم بنا كما افتتح بنا وإني لأرجو ألا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله
يأهل الكوفة أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك ولم يثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم حتى أدركتم زماننا وأتاكم الله بدولتنا فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم فاستعدوا فأنا السفاح المبيح والثائر المبير
وكان موعوكا فاشتد به الوعك فجلس على المنبر وصعد داود بن علي فقام دونه على مراقي المنبر فقال
2 -

خطبة داود بن علي
الحمد لله شكرا شكرا شكرا الذي أهلك عدونا وأصار إلينا ميراثنا من نبينا محمد أيها الناس الان أقشعت حنادس الدنيا وانكشف

غطاؤها وأشرقت أرضها وسماؤها وطلعت الشمس من مطلعها وبزغ القمر من مبزغه وأخذ القوس باريها وعاد السهم إلى النزعة ورجع الحق إلى نصابه في أهل بيت نبيكم أهل الرأفة والرحمة بكم والعطف عليكم
أيها الناس إنا والله ما خرجنا في طلب هذا الأمر لنكثر لجينا ولا عقيانا ولا نحفر نهرا ولا نبني قصرا وإنما أخرجنا الأنفة من ابتزازهم حقنا والغضب لبني عمنا وما كرثنا من أموركم وبهظنا من شئونكم ولقد كانت أموركم ترمضنا ونحن على فرشنا ويشتد علينا سوء سيرة بني أمية فيكم وخرقهم بكم واستذلالهم لكم واستئثارهم بفيئكم وصدقاتكم ومغانمكم عليكم لكم ذمة الله تبارك وتعالى وذمة رسوله وذمة العباس رحمه الله أن نحكم فيكم بما أنزل الله ونعمل فيكم بكتاب الله ونسير في العامة منكم والخاصة بسيرة رسول الله تبا تبا لبني حرب بن أمية وبني مروان آثروا في مدتهم وعصرهم العاجلة على الآجلة والدار الفانية على الدار الباقية فركبوا الأثام وظلموا الأنام وانتهكوا المحارم وغشوا الجرائم وجاروا في سيرتهم في العباد وسنتهم في البلاد التي بها استلذوا تسربل الأوزار وتجلبب الآصار ومرحوا في أعنة المعاصي وركضوا في ميادين الغي جهلا باستدراج الله وأمنا لمكر الله فأتاهم بأس الله بياتا وهم نائمون فأصبحوا أحاديث ومزقوا كل ممزق فبعدا للقوم الظالمين وأدالنا الله من مروان وقد غره بالله الغرور أرسل لعدو الله في عنانه حتى عثر في فضل خطامه فظن عدو الله أن لن نقدر عليه فنادى حزبه وجمع مكايده ورمى بكتائبه فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وشماله من مكر الله وبأسه

ونقمته ما أمات باطله ومحق ضلاله وجعل دائرة السوء به وأحيا شرفنا وعزنا ورد إلينا حقنا وإرثنا
أيها الناس إن أمير المؤمنين نصره الله نصرا عزيزا إنما عاد إلى المنبر بعد الصلاة أنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره وإنما قطعه عن استتمام الكلام بعد أن اسحنفر فيه شدة الوعك وادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن وخليفة الشيطان المتبع للسفلة الذين أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بإبدال الدين وانتهاك حريم المسلمين الشاب المتكهل المتمهل المقتدي بسلفه الأبرار الأخيار الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى ومناهج التقوى فعج الناس له بالدعاء ثم قال
يأهل الكوفة إنا والله ما زلنا مظلومين مقهورين على حقنا حتى أتاح الله لنا شيعتنا أهل خراسان فأحيا بهم حقنا وأفلج بهم حجتنا وأظهر بهم دولتنا وأراكم الله ما كنتم به تنتظرون وإليه تتشوفون فأظهر فيكم الخليفة من هاشم وبيض به وجوهكم وأدالكم على أهل الشأم ونقل إليكم السلطان وعز الإسلام ومن عليكم بإمام منحه العدالة وأعطاه حسن الإيالة فخذوا ما آتاكم الله بشكر والزموا طاعتنا ولا تخدعوا عن أنفسكم فإن الأمر أمركم فإن لكل أهل بيت مصرا وإنكم مصرنا ألا وإنه ما صعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين عبد الله بن محمد وأشار بيده إلى أبي العباس فأعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم صلى الله عليه والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا

3 -

خطبة داود بن علي وقد أرتج على السفاح
وروى أنه لما قام أبو العباس في أول خلافته على المنبر قام بوجه كورقة المصحف فاستحيا فلم يتكلم فنهض داود بن علي حتى صعد المنبر فقال المنصور فقلت في نفسي شيخنا وكبيرنا ويدعو إلى نفسه فلا يختلف عليه اثنان فانتضيت سيفي وغطيته بثوبى وقلت إن فعل ناجزته فلما رقى عتبا استقبل الناس بوجهه دون أبي العباس ثم قال أيها الناس إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله ولأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال وحسبكم بكتاب الله ممتثلا فيكم وابن عم رسول الله خليفة عليكم والله قسما برا لا أريد به إلا الله ما قام هذا المقام أحد بعد رسول الله أحق به من علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا فليظن ظانكم وليهمس هامسكم قال أبو جعفر ثم نزل وشمت سيفى
4 -
خطبة أخرى له
وروى السيد المرتضى في أماليه قال
أراد أبو العباس السفاح يوما أن يتكلم بأمر من الأمور بعد ما أفضت الخلافة إليه وكان فيه حياء مفرط فأرتج عليه فقال داود بن علي بعد أن حمد الله وأثنى عليه
أيها الناس إن أمير المؤمنين الذى قلده الله سياسة رعيته عقل من لسانه

عند ما يعهد من بيانه ولكل مرتق بهر حتى تنفسه العادات فأبشروا بنعمة الله في صلاح دينكم ورغد عيشكم
5 -

خطبة أخرى للسفاح بالكوفة
وخطب السفاح في الجمعة الثانية بالكوفة فقال
يأيها الذين امنوا أوفوا بالعقود والله لاأعدكم شيئا إلا وفيت بالوعد والوعيد ولأعملن اللين حتى لا تنفع إلا الشدة ولأغمدن السيف إلا فى إقامة حد أو بلوغ حق ولأعكينكم حتى أرى العطية ضياعا إن أهل بيت اللعنة والشجرة الملعونة في القران لكم أعداء لا يرجعون معكم من حالة إلا إلى ماهو أشد منها ولا يلى عليكم منهم وال إلا تمنيت من كان قبله وإن كان لا خير في جميعهم منعوكم الصلاة في أوقاتها وطالبوكم بأدائها في غير وقتها وأخذوا المقبل بالمدبر والجار بالجار وسلطوا شراركم على خياركم فقد محق الله جورهم وأزهق باطلهم بأهل بيت نبيكم فما نؤخر لكم عطاء ولا نضيع لأحد منكم حقا ولا نجمركم في بعث ولا نخاطر بكم في قتال ولا نبذلكم دون أنفسنا والله على ما نقول وكيل بالوفاء والاجتهاد وعليكم بالسمع والطاعة ثم نزل
6 -
خطبة السفاح بالشام حين قتل مروان
ولما قتل مروان بن محمد اخر خلفاء بنى أمية خطب السفاح فقال ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم

يصلونها وبئس القرار نكص بكم يأهل الشأم آل حرب وآل مروان يتسكعون بكم الظلم ويتهورون بكم مداحض الزلق يطئون بكم حرم الله وحرم رسوله ماذا يقول زعماؤكم غدا يقولون ( ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ) إذن يقول الله عز و جل ( لكل ضعف ولكن لا تعلمون ) أما أمير المؤمنين فقد أئتنف بكم التوبة واغتفر لكم الزلة وبسط لكم الإقالة وعاد بفضله على نقصكم وبحلمه على جهلكم فليفرخ روعكم ولتطمئن به داركم وليقطع مصارع أوائلكم ( فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا )
7 -

خطبة عيسى بن علي حين قتل مروان
وخطب عيسى بن علي عم السفاح لما قتل مروان فقال
الحمد لله الذى لا يفوته من طلب ولا يعجزه من هرب خدعت والله الأشقر نفسه إذ ظن أن الله ممهله ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون فحتى متى وإلى متى أما والله لقد كرهتهم العيدان التى افترعوها وأمسكت السماء درها والأرض ريعها وقحل الضرع وجفز الفنيق وأسمل

جلباب الدين وأبطلت الحدود وأهدرت الدماء وكان ربك بالمرصاد فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها وملكنا الله أمركم عباد الله لينظر كيف تعملون فالشكر الشكر فإنه من دواعي المزيد أعاذنا الله وإياكم من مضلات الأهواء وبغتات الفتن فإنما نحن به وله
8 -

خطبة داود بن علي بمكة
وخطب داود بن على الناس بمكة في أول موسم ملكه بنو العباس فقال
شكرا شكرا إنا والله ماخرجنا لنحفر فيكم نهرا ولا لنبنى فيكم قصرا أظن عدو الله أن لن نقدر عليه أن روخي له من خطامه حتى عثر في فضل زمامه فالآن حيث أخذ القوس باريها وعادت النبل إلى النزعة ورجع الملك في نصابه من أهل بيت النبوة والرحمة والله لقد كنا نتوجع لكم ونحن في فرشنا أمن الأسود والأحمر لكم ذمة الله لكم ذمة رسول الله لكم ذمة العباس لا ورب هذه البنية وأومأ بيده إلى الكعبة لا نهيج منكم أحدا

9 -

خطبته بالمدينة
قال أيها الناس حتام يهتف بكم صريخكم أما ان لراقدكم أن يهب من نومه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون أغركم الإمهال حتى حسبتموه الإهمال هيهات منكم وكيف بكم والسوط كفى والسيف مشهر
( حتى يبيد قبيلة فقبيلة ... ويعض كل مثقف بالهام )
( ويقمن ربات الخدور حواسرا ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام )
10 -
خطبة أخرى له
وخطب فقال أحرز لسان رأسه اتعظ امرؤ بغيره اعتبر عاقل قبل أن يعتبر به فأمسك الفضل من قوله وقدم الفضل من عمله ثم أخذ بقائم سيفه فقال إن بكم داء هذا دواؤه وأنا زعيم لكم بشفائه وما بعد الوعيد إلا الإيقاع

11 -

خطبته وقد بلغه أن قوما أظهروا شكاة بني العباس
وبلغه أن قوما أظهروا شكاة بني العباس فافترع المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أغدرا يأهل الختر والتبديل ألم يردعكم الفتح المبين عن الخوض في ذم أمير المؤمنين كلا والله حتى تحملوا أوزاركم وأوزار الذين كانوا من قبلكم كيف قامت شفاهكم بالشكوى لأمير المؤمنين بعد أن حانت آجالكم فأرجأها وانبعثت دماؤكم فحقنها الآن يا منابت الدمن مشيتم الضراء ودببتم الخمر أما ومحمد والعباس إن عدتم لمثل ما بدأتم لأحصدنكم بظبات السيوف ثم يغنى ربنا عنكم ونستبدل غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم
مهلا يا روايا الإرجاف وأبناء النفاق عن الخوض فيما كفيتم والتخطى إلى ما حذرتم قبل أن تتلف نفوس ويقل عدد ويذل عز وما أنتم وتلك ألم تجدوا ما وعد ربكم حقا من إيراث المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها بلى والحجر والحجر ولكنه حسد مضمر وحسك في الصدور فرغما للمعاطس وبعدا للقوم الظالمين

12 -

خطبته وقد أرتج عليه
وخطب داود بن على فحمد الله جل وعز وأثنى عليه وصلى علىالنبي فلما قال أما بعد امتنع عليه الكلام ثم قال
أما بعد فقد يجد المعسر ويعسر الموسر ويفل الحديد ويقطع الكليل وإنما الكلام بعد الإفحام كالأشراق بعد الإظلام وقد يعزب البيان ويعقم الصواب وإنما اللسان مضغة من الإنسان يفتر بفتوره إذا نكل ويثوب بانبساطه إذا ارتجل ألا وإننا لا ننطق بطرا ولا نسكت حصرا بل نسكت معتبرين وننطق مرشدين ونحن بعد أمراء القول فينا وشجت أعراقه وعلينا عطفت أغصانه ولنا تهدلت ثمرته فنتخير منه ما احلولى وعذب ونطرح منه ما املولح وخبث ومن بعد مقامنا هذا مقام وبعد أيامنا أيام يعرف فيها فضل البيان وفصل الخطاب والله أفضل مستعان ثم نزل

13 -

خطبة صالح بن علي
وخطب صالح بن على عم السفاح فقال
يا أعضاد النفاق وعبد الضلالة أغركم لين أساسي وطول إيناسي حتى ظن جاهلكم أن ذلك لفلول حد وفتور جد وخور قناة كذبت الظنون إنها العترة بعضها من بعض فإذ قد استوليتم العافية فعندي فطام وفكاك وسيف يقد الهام وإني أقول
( أغركم أنى بأكرم شيمة ... رفيق وأني بالفواحش أخرق )
( ومثلى إذا لم يجز أحسن سعيه ... تكلم نعماه بفيها فتنطق )
( لعمري لقد فاحشتني فغلبتني ... هنيئا مريئا أنت بالفحش أرفق )
14 -
خطبة سديف بن ميمون
وروى صاحب العقد قال
لما قدم الغمر بن يزيد بن عبد الملك على أبي العباس السفاح في ثمانين رجلا من

بنى أمية وضعت لهم الكراسي ووضعت لهم نمارق وأجلسوا عليها وأجلس الغمر مع نفسه في المصلى ثم أذن لشيعته فدخلوا ودخل فيهم سديف بن ميمون وكان متوشحا سيفا متنكبا قوسا وكان طويلا ادم فقام خطيبا
فحمد الله وأثني عليه ثم قال أيزعم الضلال بما حبطت أعمالهم أن غير ال محمد أولى بالخلافة فلم وبم أيها الناس لكم الفضل بالصحابة دون حق ذوى القرابة الشركاء في النسب الأكفاء في الحسب الخاصة في الحياة الوفاة عند الوفاة مع ضربهم على الدين جاهلكم وإطعامهم في الأولى جائعكم فكم قصم الله بهم من جبار باغ وفاسق ظالم لم يسمع بمثل العباس لم تخضع له أمة بواجب حق أبو رسول الله بعد أبيه وجلدة مابين عينيه أمينه ليلة العقبة ورسوله إلى أهل مكة وحاميه يوم حنين لا يرد له رأيا ولايخالف له قسما إنكم والله معاشر قريش ما اخترتم لأنفسكم من حيث ما اختاره الله لكم تيمى مرة وعدوى مرة وكنتم بين ظهرانى قوم قد اثروا العاجل على الاجل والفانى على الباقى وجعلوا الصدقات في الشهوات والفىء في اللذات والغناء والمغانم

في المحارم إذا ذكروا بالله لم يذكروا وإذا قدموا بالحق أدبروا فذلك زمانهم وبذلك كان يعمل شيطانهم
15 -

خطبة أبى مسلم الخراسانى
وروى ابن أبى الحديد قال وخطب أبو مسلم بالمدينة في السنة التي حج فيها في خلافة السفاح فقال
الحمد لله الذي حمد نفسه واختار الإسلام دينا لعباده ثم أوحى إلى محمد رسول الله وآله من ذلك ما أوحى واختاره من خلقه نفسه من أنفسهم وبيته من بيوتهم ثم أنزل عليه في كتابه الناطق الذي حفظه بعلمه وأشهد ملائكته على حقه قوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ثم جعل الحق بعد محمد وآله في أهل بيته فصبر من صبر منهم بعد وفاة رسول الله وآله على اللأواء والشدة وأغضى على الاستبداد والأثرة ثم إن قوما من أهل بيت الرسول وآله جاهدوا على ملة نبيه وسنته بعد عصر من الزمان من عمل بطاعة الشيطان وعداوة الرحمن بين ظهرانى قوم اثروا العاجل على الاجل والفاني على الباقى إن رتق جور فتقوه أو فتق حق رتقوه أهل خمور وماخور وطنابير ومزامير إن ذكروالم يذكروا أو قدموا إلى الحق أدبروا وجعلوا الصدقات في الشبهات والمغانم في المحارم والفئ في الغي هكذا كان زمانهم وبه كان يعمل سلطانهم وزعمو أن غير آل محمد أولى بالأمر منهم فلم وبم أيها الناس ألكم الفضل بالصحابة دون ذوى القرابة الشركاء

في النسب والورثة في السلب مع ضربهم على الدين جاهلكم وإطعامهم في الجدب جائعكم والله ما اخترتم من حيث اختار الله لنفسه ساعة قط وما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة وعدويا مرة وأمويا مرة وأسديا مرة وسفيانيا مرة ومروانيا مرة حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه ولا بيته يضربكم بسيفه فأعطيتموها عنوة وأنتم صاغرون ألا إن ال محمد أئمة الهدى ومنار سبيل التقى القاده الذادة السادة بنو عم رسول الله ومنزل جبريل بالتنزيل كم قصم الله

بهم من جبار طاغ وفاسق باغ شيد الله بهم الهدى وجلى بهم العمى لم يسمع بمثل العباس وكيف لا تخضع له الأمم لواجب حق الحرمة أبو رسول الله بعد أبيه وإحدى يديه وجلدة بين عينيه أمينه يوم العقبة وناصره بمكة ورسوله إلى أهلها وحاميه يوم حنين عند ملتقى الفئتين لا يخالف له رسما ولا يعصى له حكما الشافع يوم نيق العقاب إلى رسول الله وآله في الأحزاب ها إن في هذا أيها الناس لعبرة لأولى الأبصار
16 -

خالد بن صفوان وأخوال السفاح
روى الجاحظ قال
كان خالد بن صفوان الأهتمى من سمار أبى العباس السفاح وأهل المنزلة عنده ففخر عليه ناس من بلحارث وأكثروا في القول فقال أبو العباس لم لا تتكلم يا خالد فقال أخوال أمير المؤمنين وعصبته قال فأنتم أعمام أمير المؤمنين وعصبته قال خالد وما عسى أن أقول لقوم كانوا بين ناسج برد ودابغ جلد

وسائس قرد وراكب عرد دل عليهم هدهد وغرقتهم فأرة وملكتهم امرأة
وروى الحصرى في زهر الاداب قال
دخل خالد بن صفوان على أبى العباس السفاح وعنده أخواله من بنى الحارث ابن كعب فقال ما تقول في أخوالى فقال هم هامة الشرف وعرنين الكرم وغرس الجود إن فيهم خصالا ما اجتمعت في غيرهم من قومهم لأنهم أطوالهم لمما وأكرم شيما وأطيبهم طعما وأوفاهم ذمما وأبعدهم همما الجمرة في الحرب والرفد في الجدب والرأس في كل خطب وغيرهم بمنزلة العجب
فقال وصفت أبا صفوان فأحسنت فزاد أخواله في الفخر فغضب أبو العباس

لأعمامه فقال افخر يا خالد على أخوال أمير المؤمنين قال وأنت من أعمامه قال
كيف أفاخر قوما بين ناسج برد وسائس قرد ودابغ جلد وراكب عرد دل عليهم هدهد وغرقهم جرذ وملكتهم امرأة فأشرق وجه أبى العباس
17 -

خالد بن صفوان ورجل من بنى عبد الدار
وفاخر خالد بن صفوان رجلا من بنى عبد الدار الذين يسكنون اليمامة فقال له العبدرى من أنت قال أنا خالد بن صفوان بن الأهتم فقال له العبدرى أنت خالد كمن هو خالد في النار وأنت ابن صفوان وقال الله تعالى ( كمثل صفوان عليه تراب ) وأنت ابن الأهتم والصحيح خير من الأهتم فقال له خالد ابن صفوان يا أخا بنى عبد الدار أتتكلم وقد هشمتك هاشم وأمتك بنو أمية وخزمتك بنو مخزوم وجمحتك بنو جمح فأنت عبد دارهم تفتح إذا دخلوا وتغلق إذا خرجوا فقام العبدرى محموما

18 -

خالد بن صفوان يرثى صديقا له
وقال الجاحظ قيل لرجل أراه خالد بن صفوان مات صديق لك فقال رحمة الله عليه لقد كان يملأ العين جمالا والأذن بيانا ولقد كان يرجى فلا يخشى ويغشى فلا يغشى ويعطى فلا يعطى قليلا لدى الشر حضوره سليما للصديق ضميره
19 -
خالد بن صفوان يمدح رجلا
خالد رجلا فقالكان والله بديع المنطق دلق الجرأة جزل الألفاظ عربى اللسان ثابت العقدة رقيق الحواشى خفيف الشفتين بليل الريق رحب الشرف قليل الحركات خفى الإشارات حلو الشمائل حسن الطلاوة حييا جريئا قئولا صموتا يفل الحز ويصيب المفاصل لم يكن بالمعذر فى منطقه ولا بالزمن فى مروءته ولا بالخرق فى خليقته متبوعا غير تابع كأنه علم فى رأسه نار
20 -
كلمات بليغة لخالد بن صفوان
وقال خالد بن صفوان لبعض الولاة قدمت فأعطيت كلا بقسطه من وجهك

وكرامتك حتى كأنك من كل أحد وحتى كأنك لست من أحد
وقال شبيب بن شيية لخالد بن صفوان من أحب إخوانك إليك قال من سد خللى وغفر زللى وقبل عللى
وذكر شبيب عنده مرة فقال ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية قال الجاحظ وهذا كلام ليس يعرف قدره إلا الراسخون في هذه الصناعة
وقال خالد ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة وقال اتقوا مجانيق الضعفاء يريد الدعاء
وذكر المزاح بحضرة خالد بن صفوان فقال ينشق أحدكم أخاه مثل الخردل يفرغ عليه مثل المرجل ويرميه بمثل الجندل ثم يقول إنما كنت أمزح
21 -

عمارة بن حمزة والسفاح
وقال عمارة بن حمزة لأبى العباس السفاح وقد أمر له بجواز ونفيسة وكسوة وصلة وأدنية مجلسه
وصلك الله يا أمير المؤمنين وبرك فوالله لئن أردنا شكرك على كنه صلتك إن الشكر ليقصر عن نعمتك كما قصرنا عن منزلتك ثم إن الله تعالى جعل لك فضلا علينا بالتقصير منا ولم تحرمنا الزيادة منك لنقص شكرنا

خطب أبى جعفر المنصور
( توفي سنة 158ه )
22 -
خطبته بمكة
خطب أبو جعفر المنصور بمكة فقال
أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه فقد جعلني الله عليه قفلا إن شاء أن يفتحنى فتحنى لإعطائكم وقسم أرزاقكم فإن شاء أن يقفلنى عليها أقفلنى فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به إذ يقول اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا أن يوفقنى للرشاد والصواب وأن يلهمنى الرأفة بكم والإحسان إليكم أقول قولى هذا وأستغفر الله لي ولكم
23 -
خطبته بمكة بعد بناء بغداد
وحج بعد بناء بغداد فقام خطيبا بمكة فكان مما حفظ من كلامه ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادى الصالحون ) أمر مبرم وقول عدل وقضاء فصل والحمد لله الذى أفلج حجته وبعدا للقوم الظالمين

الذين اتخذوا الكعبة غرضا والفىء إرثا وجعلوا القران عضين لقد حاق بهم ماكانوا به يستهزئون فكم ترى من بئر معطلة وقصر مشيد أمهلهم الله حتى بدلوا السنة واضطهدوا العترة وعندوا واعتدوا واستكبروا وخاب كل جبار عنيد ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا )
24 -

خطبته بمدينة السلام
وخطب بمدينة السلام بغداد فقال
يا عباد الله لا تظالموا فإنها مظلمة يوم القيامة والله لولا يد خاطئة وظلم ظالم لمشيت بين أظهركم في أسواقكم ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر منى لأتيته حتى أدفعه إليه
25 -
خطبته وقد أخذ عبد الله بن حسن وأهل بيته
ولما أخذ عبد الله بن حسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي ثم قال

يأهل خراسان أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا وإن أهل بيتى هؤلاء من ولد على بن أبي طالب تركناهم والله الذي يلا إله إلا هو والخلافة فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير فقام فيها على ابن أبى طالب فتلطخ وحكم عليه الحكمين فافترقت عنه الأمة واختلفت عليه الكلمة ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه ثم قام من بعده الحسن بن على فوالله ما كان فيها برجل قد عرضت عليه الأموال فقبلها فدس إليه معاوية إني أجعلك ولى عهدى من بعدى فخدعه فانسلخ له مما كان فيه وسلمه إليه فأقبل علىالنساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدا فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه ثم قام من بعده الحسين بن على فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن أهل هذه المدرة السوداء وأشار إلى الكوفة فوالله ما هي بحرب فأحاربها ولا سلم فأسالمها فرق الله بينى وبينها فخذلوه وأسلموه حتى قتل ثم قام من بعده زيد بن علي فخدعه أهل الكوفة وغروه فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه وقد كان أتى محمد بن على فناشده في الخروج وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة وقال له إنا نجد في بعض علمنا أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب وناشده عمي داود بن علي وحذره غدر أهل الكوفة فلم يقبل وتم على خروجه فقتل وصلب بالكناسة ثم وثب علينا بنو أمية فأماتوا شرفنا وأذهبوا عزنا والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها وما كان ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم فنفونا من البلاد فصرنا مرة بالطائف ومرة بالشام ومرة بالشراة حتى ابتعثكم الله لنا شيعة

وأنصارا فأحيا شرفنا وعزنا بكم أهل خراسان ودمغ بحقكم أهل الباطل وأظهر حقنا وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا فقر الحق مقره وأظهر مناره وأعز أنصاره وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين فلما استقرت الأمور فينا على قرارها من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا وثبوا علينا ظلما وحسدا منهم لنا وبغيا لما فضلنا الله به عليهم وأكرمنا به من خلافته وميراث نبيه
( جهلا على وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن )
فإنى والله يأهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة بلغنى عنهم بعض السقم والتعرم وقد دسست لهم رجالا فقلت قم يا فلان قم يا فلان فخذ معك من المال كذا وحذوت لهم مثالا يعملون عليه فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة فدسوا إليهم تلك الأموال فوالله ما بقي منهم شيخ ولا شاب ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعة استحللت بها دماءهم وأموالهم وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي وطلبهم الفتنة والتماسهم الخروج على فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب )
26 -

خطبته حين خروج محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن
ولما خرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله شن المنصور عليه درعه وتقلد سيفه وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
( مالى أكفكف عن سعد وتشتمنى ... ولو شتمت بنى سعد لقد سكنوا )

( جهلا علينا وجبنا عن عدوهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن )
أما والله لقد عجزوا عما قمنا به فما عضدوا الكافى وما شكروا المنعم فإذا حاولوا أشرب رنقا على غصص وأبيت منهم على مضض كلا والله لا أصل ذا رحم حلول قطيعتها ولئن لم يرض بالعفو ليطلبن مالم يوجد عندى فليبق ذو نفس على نفسه قبل أن تمضى فلا يبكى عليه
27 -

خطبته وقد قتل أبا مسلم الخراسانى
وخطب بالمدائن عند قتل أبى مسلم الخراسانى فقال
أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية ولا تسروا غش الأئمة فإنه لم يسر أحد قط منكرة إلا ظهرت في آثار يده وفلتات لسانه وصفحات وجهه وأبداها الله لإمامه بإعزاز دينه وإعلاء حقه إنا لن نبخسكم حقوقكم ولن نبخس الدين حقه عليكم إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبى هذا الغمد وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه ثم نكث بنا فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه

28 -

خطبة أخرى
وخطب فقال
أيها الناس لا تنفروا أطراف النعمة بقلة الشكر فتحل بكم النقمة ولا تستروا غش الأئمة فإن أحدا لا يستر منكرا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه وطوالع نظره وإنا لا نجهل حقوقكم ما عرفتم حقنا ولا ننسى الإحسان إليكم ما ذكرتم فضلنا ومن نازعنا هذا القميص أوطأنا أم رأسه خبء هذا الغمد والسلام
29 -
قوله وقد قوطع في خطبته
وخطب يوم الجمعة فقال
الحمد لله أحمده واستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أيها الناس اتقوا الله فقام إليه رجل فقال أذكرك من ذكرتنا به يا أمير المؤمنين فقطع الخطبة ثم قال سمعا سمعا لمن فهم عن الله وذكر به وأعوذ بالله أن أكون جبارا عنيدا وأن تأخذنى العزة بالإثم لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين وأنت أيها القائل فوالله ما أردت بها وجه الله ولكنك حاولت أن يقال قام فقال فعوقب فصبر وأهون بها ويلك لو هممت فاهتبلها إذ غفرت وإياك وأياكم معشر الناس أختها فإن الحكمة علينا نزلت ومن عندنا فصلت فردوا الأمر إلى أهله توردوه موارده وتصدروه مصادره ثم عاد في خطبته فكأنه يقرؤها من كفه فقال وأشهد أن محمدا عبده ورسوله

30 -

المنصور يصف خلفاء بني أمية
واجتمع عند المنصور أيام خلافته جماعة من ولد أبيه منهم عيسى بن موسى والعباس بن محمد وغيرهما فتذاكروا خلفاء بنى أمية والسبب الذى به سلبوا عزهم فقال المنصور
كان عبد الملك جبارا لا يبالى ما صنع وكان الوليد لحانا مجنونا وكان سليمان همته بطنه وفرجه وكان عمر أعور بين عميان وكان هشام رجل القوم ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونه ويصونونه ويحفظونه ويحرسون ما وهب الله لهم منه مع تسنمهم معالى الأمور ورفضهم أدانيها حتى أفضى أمرهم إلى أحداث مترفين من أبنائهم فغمطوا النعمة ولم يشكروا العافية وأساءوا الرعاية فابتدأت النقمة منهم باستدراج الله إياهم امنين مكره مطرحين صيانة الخلافة مستخفين بحق الرياسة ضعيفين عن رسوم السياسة فسلبهم الله العزة وألبسهم الذلة وأزال عنهم النعمة
31 -
المنصور يصف عبد الرحمن الداخل
وقال المنصور يوما لأصحابه أخبرونى عن صقر قريش من هو قالوا أمير المؤمنين الذى راض الملك وسكن الزلازل وحسم الأدواء وأباد الأعداء قال ما صنعتم شيئا قالوا فمعاوية قال ولا هذا قالوا فعبد الملك بن مروان قال لا هذا قالوا فمن يا أمير المؤمنين قال عبد الرحمن بن معاوية الذى عبر

البحر وقطع القفر ودخل بلدا أعجميا مفردا فمصر الأمصار وجند الأجناد ودون الدواوين وأقام ملكا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة شكيمته إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان وذللا لهصعبه وعبد الملك ببيعة تقدم له عقدها وأمير المؤمنين بطلب غيره واجتماع شيعته وعبد الرحمن منفرد بنفسه مؤيد برأيه مستصحب لعزمه

وصايا المنصور لابنه المهدى
32 -
وصية له
قال المنصور لابنه المهدى يا بنى لا تبرم أمرا حتى تفكر فيه فإن فكرة العاقل مراته تريه حسناتهوسيئاته واعلم أن الخليفة لا يصلحه إى التقوى والسلطان لا يصلحه إى الطاعة والرعية لا يصلحها إى العدل وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه
33 -
وصية أخرى له
ووصاه فقال له إنىلم أدع شيئا إلا قد تقدمت إليك فيه وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها وكان له سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدا يصر مفتاحه في كم قميصه فقال للمهدى انظر هذا السفط فاحتفظ به فإن فيه علم ابائك ما كان وما هو كائن إلىيوم القيامة فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر فإن أصبت فيه ما تريد وإلا فالثانى والثالث حتى بلغ سبعة فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة فإنك واجد فيها ما تريد وما أظنك تفعل وانظر هذه المدينة فإياك أن تستبدل بها فإنها بيتك وعزك قد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزا ما دام

وصايا المنصور لابنه المهدى
32 -
وصية له
قال المنصور لابنه المهدي يا بني لا تبرم أمرا حتى تفكر فيه فإن فكرة العاقل مرآته تريه حسناته وسيئاته واعلم أن الخليفة لا يصلحه إلا التقوى والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة والرعية لا يصلحها إلا العدل وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه
33 -
وصية أخرى له
ووصاه فقال له إنىلم أدع شيئا إلا قد تقدمت إليك فيه وسأوصيك بخصال والله ما أظنك تفعل واحدة منها وكان له سفط فيه دفاتر علمه وعليه قفل لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدا يصر مفتاحه في كم قميصه فقال للمهدى انظر هذا السفط فاحتفظ به فإن فيه علم ابائك ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الأكبر فإن أصبت فيه ما تريد وإلا فالثانى والثالث حتى بلغ سبعة فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة فإنك واجد فيها ما تريد وما أظنك تفعل وانظر هذه المدينة فإياك أن تستبدل بها فإنها بيتك وعزك قد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كان عندك كفاية لأرزاق الجند والنفقات وعطاء الذرية ومصلحة الثغور فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزا ما دام

بيت مالك عامرا وما أظنك تفعل وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم وتقدمهم وتكثر الإحسان إليهم وتعظم أمرهم وتوطىء الناس أعقابهم وتوليهم المنابر فإن عزك عزهم وذكرهم لك وما أظنك تفعل وانظر مواليك فأحسن إليهم وقربهم واستكثر منهم فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك وما أظنك تفعل وأوصيك بأهل خراسان خيرا فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم في دولتك ودماءهم دونك ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم أن تحسن إليهم وتتجاوز عن مسيئهم وتكافئهم على ما كان منهم وتخلف من مات منهم في أهله وولده وما أظنك تفعل وإياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها وما أظنك تفعل وإياك أن تستعين برجل من بنى سليم وأظنك ستفعل وإياك أن تدخل النساء في مشورتك في أمرك وأظنك ستفعل
34 - وصية أخرى له
ووصى المهدى أيضا فقال اتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدى يجعل لك فيما كربك وحزنك مخرجا ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب احفظ يا بنى محمدا في أمته يحفظ الله عليك أمورك وإياك والدم الحرام فإنه حوب عند الله عظيم وعار في الدنيا لازم مقيم والزم الحلال فإن فيه ثوابك في الاجل وصلاحك في العاجل وأقم الحدود ولا تعتد فيها فتبور فإن الله لو علم أن شيئا أصلح لدينه وأزجر عن معاصيه من الحدود لأمربه في كتابه واعلم أنه من شدة غضب الله لسلطانه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فسادا مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم فقال

( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم ) فالسلطان يا بنى حبل الله المتين وعروته الوثقى ودين الله القيم فاحفظه وحطه وحصنه وذب عنه وأوقع بالملحدين فيه واقمع المارقين منه واقتل الخارجين عنه بالعقاب لهم والمثلات بهم ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القران واحكم بالعدل ولا تشطط فإن ذلك أقطع للشغب وأحسم للعدو وأنجع في الدواء وعف عن الفىء فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية واشحن الثغور واضبط الأطراف وأمن السبل وخص الواسطة ووسع المعاش وسكن العامة وأدخل المرافق عليهم واصرف المكاره عنهم وأعد الأموال واخزنها وإياك والتبذير فإن النوائب غير مأمونة والحوادث غير مضمونة وهى من شيم الزمان وأعد الرجال والكراع والجند ما استطعت وإياك وتأخير عمل اليوم إلى غد فتتدارك عليك الأمور وتضيع جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولا فأولا واجتهد وشمر فيها وأعدد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار ورجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل وباشر الأمور بنفسك ولا تضجر ولا تكسل ولا تفشل واستعمل حسن الظن بربك وأسىء الظن بعمالك وكتابك وخذ نفسك بالتيقظ وتفقد من يبيت علىبابك وسهل إذنك للناس وانظر في أمر النزاع إليك ووكل بهم عينا غير نائمة ونفسا غير لاهية ولا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولى الخلافة ولا دخل عينه غمض إلا وقلبه مستيقظ هذه وصيتى إليك والله خليفتى عليك

35 -

خطبة النفس الزكية حين خرج على المنصور
لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب الملقب بالنفس الزكية على المنصور قام على منبر المدينة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أيها الناس إنه قد كان من أمر هذا الطاغية أبى جعفر من بنائه القبة الخضراء التي بناها معاندة لله في ملكه وتصغيره الكعبة الحرام وإنما أخذ الله فرعون حين قال أنا ربكم الأعلى وإن أحق الناس بالقيام في هذا الدين أبناء المهاجرين الأولين والأنصار المواسين اللهم إنهم قد أحلوا حرامك وحرموا حلالك وعملوا بغير كتابك وغيروا عهد نبيك وامنوا من أخفت وأخافوا من آمنت فأحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق على الأرض منهم أحدا

36 -

وصية عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على لابنه محمد أو إبراهيم
ووصى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ابنه محمدا النفس الزكية أو إبراهيم فقال
أي بني إني مؤد حق الله في تأديبك فأد إلى حق الله في الاستماع منى أي بني كف الأذى وارفض البذا واستعن على الكلام بطول الفكر في المواطن التي تدعوك فيها نفسك إلى الكلام فإن للقول ساعات يضر فيها الخطأ ولا ينفع فيها الصواب واحذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحا كما تحذر مشورة العاقل إذا كان غاشا لأنه يرديك بمشورته واعلم يابني أن رأيك إذا احتجت إليه وجدته نائما ووجدت هواك يقظان فإياك أن تستبد برأيك فإنه حينئذ هواك ولا تفعل فعلا إلا وأنت على يقين أن عاقبته لا ترديك وأن نتيجته لا تجني عليك
37 -
قول عبد الله بن الحسن وقد قتل ابنه محمد
ولما قتل المنصور ابنه محمدا وكان عبد الله في السجن بعث برأسه إليه مع الربيع حاجبه فوضع بين يديه فقال
رحمك الله أبا القاسم فقد كنت من ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) ثم تمثل

( فتى كان يحميه عن الذل سيفه ... ويكفيه سوءات الأمور اجتنابها )
ثم التفت إلى الربيع فقال له قل لصاحبك قد مضى من بؤسنا مدة ومن نعيمك مثلها والموعد الله تعالى قال الربيع فما رأيت المنصور قط أكثر انكسارا منه حين أبلغته الرسالة
38 -

امرأة محمد بن عبد الله والمنصور
ولما قتل المنصور محمد بن عبد الله اعترضته امرأة معها صبيان فقالت
يا أمير المؤمنين أنا امرأة محمد بن عبد الله وهذان ابناه أيتمهما سيفك وأضرعهما خونك فناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تصعر لهما خدك فينأى عنهما رفدك أو لتعطفك عليهما شوابك النسب وأواصر الرحم
فالتفت إلى الربيع فقال اردد عليهما ضياع أبيهما ثم قال كذا والله أحب أن تكون نساء بنى هاشم
39 -
جعفر الصادق والمنصور
وكان أهل المدينة لما ظهر محمد بن عبد الله أجمعوا على حرب المنصور ونصر محمد فلما ظفر المنصور أحضر جعفرا الصادق بن محمد الباقر فقال له قد رأيت إطباق أهل المدينة على حربى وقد رأيت أن أبعث إليهم من يعور ويجمر نخلهم فقال له جعفر يا أمير المؤمنين إن سليمان أعطى فشكر وإن أيوب ابتلى فصبر

وإن يوسف قدر فغفر فاقتد بأيهم شئت وقد جعلك الله من نسل الذين يعفون ويصفحون فقال أبو جعفر إن أحدا لا يعلمنا الحلم ولا يعرفنا العلم وإنما قلت هممت ولم ترنى فعلت وإنك لتعلم أن قدرتي عليهم تمنعني من الاساءة إليهم
وروى صاحب العقد قال
لما حج المنصور مر بالمدينة فقال للربيع الحاجب علي بجعفر بن محمد قتلنى الله إن لم أقتله فمطل به ثم ألح عليه فحضر فلما كشف الستر بينه وبينه ومثل بين يديه همس جعفر بشفتيه ثم تقرب وسلم فقال لا سلم الله عليك يا عدو الله تعمل على الغوائل في ملكى قتلني الله إن لم أقتلك قال يا أمير المؤمنين إن سليمان صلى الله على محمدوعليه أعطى فشكر وإن أيوب ابتلى فصبر وإن يوسف ظلم فغفر وأنت على إرث منهم وأحق من تأسى بهم فنكس أبو جعفر رأسه مليا وجعفر واقف ثم رفع رأسه وقال إلى أبا عبد الله فأنت القريب القرابة وذو الرحم الواشجة السليم الناحية القليل الغائلة ثم صافحه بيمينه وعانقه بشماله وأجلسه معه على فراشه وانحرف له عن بعضه وأقبل عليه بوجهه يحادثه ويسائله ثم قال يا ربيع عجل لأبى عبد الله كسوته وجائزته وإذنه

40 -

صفح المنصور عن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب
ولما داهن سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب في شأن إبراهيم بن عبد الله وصار إلى المنصور أمر الربيع بخلع سواده والوقوف به على رءوس اليمانية في المقصورة يوم الجمعة ثم قال قل لهم
يقول لكم أمير المؤمنين قد عرفتم ما كان من إحسانى إليه وحسن بلائى وقديم نعمتى عليه والذى حاول من الفتنة ورام من البغى وأراد من شق العصا ومعاونة الأعداء وإراقة الدماء وإنه قد استحق بهذا من فعله أليم العقاب وعظيم العذاب وقد رأى أمير المؤمنين إتمام بلائه الجميل لديه ورب نعمائه السابقة عنده لما يتعرفه أمير المؤمنين من حسن عائدة الله عليه وما يؤمله من الخير العاجل والاجل عند العفو عمن ظلم والصفح عمن أساء وقد وهب أمير المؤمنين مسيئهم لمحسنهم وغادرهم لوفيهم
41 -
استعطاف أهل الشام أبا جعفر المنصور
ولما انهزم عبد الله بن على من الشأم قدم على المنصور وفد منهم فقام عدة منهم فتكلموا ثم قام الحارث بن عبد الرحمن الغفارى فقال يا أمير المؤمنين

إنا لسنا وفد مباهاة وإنما نحن وفد توبة وإنا ابتلينا بفتنة استخفت كريمنا واستفزت حليمنا ونحن بما قدمنا معترفون ومما سلف منا معتذرون فإن تعاقبنا فبما أجرمنا وإن تعف عنا فبفضلك علينا فاصفح عنا إذ ملكت وامنن إذ قدرت وأحسن إذ ظفرت فطالما أحسنت إلى من أساء منا فقال المنصور قد فعلت ثم قال للحرسى هذا خطيبهم وأمر برد ضياعه عليه بالغوطة
42 -

استعطاف أهل الشام أبا جعفر المنصور أيضا
وقال عثمان بن خزيم للمنصور حين عفا عن أهل الشأم في إجلابهم مع عبد الله بن علي عمه يا أمير المؤمنين لقد أعطيت فشكرت وابتليت فصبرت وقدرت فعفوت
وقال اخر يا أمير المؤمنين الانتقام عدل والتجاوز فضل والمتفضل قد جاوز حد المنصف فنحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين
وقال اخر من انتقم فقد شفى غيظ نفسه وأخذ أقصى حقه وإذا انتقمت فقد انتقصت وإذا عفوت تطولت ومن أخذ حقه وشفى غيظه لم يجب شكره ولم يذكر في العالمين فضله وكظم الغيظ حلم والحلم صبر والتشفى طرف من العجز ومن رضى ألا يكون بين حاله وبين حال الظالم إلا ستر رقيق

وحجاب ضعيف لم يجزم في تفضيل الحلم وفى الاستيثاق من ترك دواعي الظلم ولم تر أهل النهى والمنسوبين إلى الحجا والتقى مدحوا الحكام بشدة العقاب وقد ذكروهم بحسن الصفح وبكثرة الاغتفار وشدة التغافل وبعد فالمعاقب مستعد لعداوة أولياء المذنب والعافى مستدع لشكرهم امن من مكافأتهم أيام قدرتهم ولأن يثنى عليك باتساع الصدر خير من يثني عليك بضيق الصدر على أن إقالتك عثرة عباد الله موجب لإقالتك عثرتك من رب عباد الله وعفوك عنهم موصول بعفو الله عنك وعقابك لهم موصول بعقاب الله لك قال الله عز و جل ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين )
43 -

أبو جعفر المنصور والربيع
وقال سعيد بن مسلم بن قتيبة دعا المنصور بالربيع فقال سلني ما تريد فقد سكت حتى نطقت وخففت حتى ثقلت وقللت حتى أكثرت فقال والله يا أمير المؤمنين ما أرهب بخلك ولا أستقصر عمرك ولا أستصغر فضلك ولا أغتنم مالك وإن يومى بفضلك على أحسن من أمسى وغدك في تأميلى أحسن من يومي ولو جاز أن يشكرك مثلي بغير الخدمة والمناصحة لما سبقني لذلك أحد قال صدقت علمي بهذا منك أحلك هذا المحل فسلني ما شئت قال أسألك أن تقرب عبدك الفضل وتؤثره وتحبه قال يا ربيع إن الحب ليس بمال يوهب

ولا رتبة تبذل وإنما تؤكده الأسباب قال فاجعل لى طريقا إليه بالتفضل عليه قال صدقت وقد وصلته بألف درهم ولم أصل بها أحدا غير عمومتى لتعلم ماله عندى فيكون منه ما يستدعى به محبتى قال فكيف سألت له المحبة يا ربيع قال لأنها مفتاح كل خير ومغلاق كل شر تستر بها عندك عيوبه وتصير حسنات ذنوبه قال صدقت
44 -

مقام عمرو بن عبيد بين يدى المنصور
دخل عمرو بن عبيد على المنصور بعد ما بايع للمهدى فقال له يا أبا عثمان هذا ابن أمير المؤمنين وولى عهد المسلمين فقال له عمرو يا أمير المؤمنين أراك قد وطدت له الأمور وهي تصير إليه وأنت عنه مسئول فاستعبر المنصور وقال له عظني يا عمرو قال يا أمير المؤمنين إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منها ببعضها وإن هذا الذي في يديك لو بقى في يد غيرك لم يصل إليك فاحذر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده فوجم أبو جعفر من قوله فقال له الربيع يا عمرو غممت أمير المؤمنين فقال عمرو إن هذا صحبك عشرين سنة لم ير لك عليه أن ينصحك يوما واحدا وما عمل وراء بابك بشيء من كتاب الله ولا سنة نبيه قال أبو جعفر فما أصنع قد قلت لك خاتمى في يدك فتعال وأصحابك فاكفنى قال عمرو ادعنا بعدلك تسخ أنفسنا بعونك ببابك ألف مظلمة اردد منها شيئا نعلم أنك صادق

45 -

مقام رجل من الزهاد بين يدى المنصور
بينما المنصور يطوف ليلا إذ سمع قائلا يقول اللهم إنى أشكو إليك ظهور البغى والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد وأرسل إلى الرجل يدعوه فصلى الرجل ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة فقال المنصور ما الذي سمعتك تذكر من ظهور البغى والفساد في الأرض وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع فوالله لقد حشوت مسامعى ما أرمضنى قال يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا احتجزت منك واقتصرت على نفسى ففيها لى شاغل فقال أنت امن على نفسك فقل فقال يا أمير المؤمنين إن الذى دخله الطمع حتى حال بينه ما بين ظهر من البغى والفساد لأنت قال ويحك وكيف يدخلنى الطمع والصفراء بوالبيضاء في فبضتى والحلو والحامض عندى قال وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك إن الله تبارك وتعالى استرعاك المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والاجر وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها عنهم وبعثت عمالك في جباية الأموال وجمعها وقويتهم بالرجال والسلاح والكراع وأمرت بألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع العارى ولا الضعيف الفقير ولا أحد إلا وله في هذا المال حق فلما راك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك واثرتهم على رعيتك وأمرت ألا يحجبوا عنك تجبى الأموال وتجمعها ولا تقسمها قالوا هذا

قد خان الله فما بالنا لانخونه وقد سجن لنا نفسه فأتمروا بألا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا قصبوه عندك ونفوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا وصار هؤلاء القوم شر كاءك في سلطانك وأنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه وبين دخول مدينتك فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك وأوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاءك ذلك الرجل فبلغ بطانتك خبره سألوا صاحب المظالم ألا يرفع مظلمته إليك فإن المتظلم منه له بهم حرمة فأجابهم خوفا منهم فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه فإذا أجهد وأحرج وظهرت صرخ بين يديك فضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره وأنت تنظر فلا تنكر فما بقاء الإسلام على هذا وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكها بسمعه فبكى يوما بكاء شديدا فحثه جلساؤه على الصبر فقال أما إنى لست أبكى للبلية النازلة بى ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرخ ولا أسمع صوته ثم قال أما إذا ذهب سمعى فإن بصرى لم يذهب نادوا في الناس ألا يلبس ثوبا أحمر متظلم ثم كان يركب الفيل طرفى نهاره وينظر هل يرى مظلوما فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله غلبت رأفته بالمشركين شح نفسه وأنت مؤمن بالله ثم من أهل بيت نبيه لا تغلب رأفتك بالمسلمين على شح نفسك فإن كنت إنما تجمع المال لولدك فقد أراك الله عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه

وما له على الأرض مال وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ولست بالذى تعطى بل الله يعطى من يشاء ما شاء وإن قلت إنما أجمع المال لتشديد السلطان فقد أراك الله عبرا في بنى أمية ما أغنى عنهم ما جمعوامن الذهب والفضة وأعدوا من الرجال والسلاح والكراع حتى أراد الله بهم ما أراد وإن قلت إنما أجمع لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنا فيها فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل قال المنصور لا قال فكيف تصنع بالملك الذى خولك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن بالخلود في العذاب الأليم قد رأى ما قد عقد عليه قلبك وعملته جوارحك ونظر إليه بصرك واجترحته يداك ومشت إليه رجلاك هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب فبكى المنصور وقال يا ليتني لم أخلق ويحك فكيف أحتال لنفسي قال يا أمير المؤمنين إن للناس أعلاما يفزعون إليهم في دينهم ويرضون بهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك وشاورهم في أمرك يسددوك قال قد بعثت إليهم فهربوا مني قال خافوا أن تحملهم على طريقتك ولكن افتح بابك وسهل حجابك وانصر المظلوم واقمع الظالم وخذ الفىء والصدقات مما خل وطاب واقسمه بالحق والعدل على أهله وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة وجاء المؤذنون فسلموا عليه فصلى وعاد إلى مجلسه وطلب الرجل فلم يوجد

46 -

مقام الأوزاعي بين يدي المنصور
قال الأوزاعى دخلت على المنصور فقال لي ما الذى بطأ بك عنى قلت يا أمير المؤمنين وما الذى تريد منى فقال الاقتباس منك قلت انظر ما تقول فإن مكحولا حدثنى عن عطية بن بشير أن رسول الله قال من بلغه عن الله نصيحة في دينه فهى رحمة من الله سيقت إليه فإن قبلها من الله بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد إثما وليزداد عليه غضبا وإن بلغه شيء من الحق فرضى فله الرضا وإن سخط فله السخط ومن كرهه فقد كره الله لأن الله هو الحق المبين فلا تجهلن قال وكيف أجهل قال تسمع ولا تعمل بما تسمع قال الأوزاعى فسل على الربيع السيف وقال تقول لأمير المؤمنين هذا فانتهره المنصور وقال أمسك ثم كلمه الأوزاعى وكان في كلامه أن قال
إنك قد أصبحت من هذه الخلافة بالذى أصبحت به والله سائلك عن صغيرها وكبيرها وفتيلها ونقيرها ولقد حدثنى عروة بن رويم أن رسول الله قال ما من راع يبيت غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة فحقيق على الوالى أن يكون لرعيته ناظرا ولما استطاع من عوراتهم ساترا وبالقسط

فيما بينهم قائما لا يتخوف محسنهم منه رهقا ولا مسيئهم عدوانا فقد كانت بيد رسول الله جريدة يستاك بها ويردع عنه المنافقين فأتاه جبريل فقال يا محمد ما هذه الجريدة بيدك اقذفها لا تملأ قلوبهم رعبا فكيف من سفك دماءهم وشقق أبشارهم وأنهب أموالهم يا أمير المؤمنين إن المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيا لم يتعمده فهبط جبريل فقال يا محمد إن الله لم يبعثك جبارا تكسر قرون أمتك واعلم أن كل ما فى يدك لا يعدل شربة من شراب الجنة ولا ثمره من ثمارها قال رسول الله لقاب قوس أحدكم من الجنة أو قذة خير له من الدنيا بأسرها إن الدنيا تنقطع ويزول نعيمها ولو بقى الملك لمن قبلك لم يصل إليك يا أمير المؤمنين ولو أن ثوبا من ثياب أهل النار علق بين السماء والأرض لآذاهم فكيف من يتقمصه ولو أن ذنوبا من صديد أهل النار صب على ماء الأرض لآجنه فكيف بمن يتجرعه ولو أن حلقة من سلاسل جهنم وضعت على جبل لذاب فكيف من سلك فيها ويرد فضلها على عاتقه وقد قال عمر بن الخطاب لا يقوم أمر الناس إلا حصيف العقدة بعيد الغرة لا يطلع الناس منه على عورة ولا يحنق في الحق على جرة ولا تأخذه في الله لومة لائم
واعلم أن السلطان أربعة أمير يظلف نفسه وعماله فذلك له أجر المجاهد في سبيل الله وصلاته سبعون ألف صلاة ويد الله بالرحمة على رأسه ترفرف وأمير رتع ورتع عماله فذاك يحمل أثقاله وأثقالا مع أثقاله وأمير يظلف نفسه

ويرتع عماله فذاك الذى باع اخرته بدنيا غيره وأمير يرتع ويظلف عماله فذاك شر الأكياس
واعلم يا أمير المؤمنين أنك قد ابتليت بأمر عظيم عرض على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنه وأشفقن منه وقد جاء عن جدك في تفسير قول الله عز و جل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها أن الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك وقال فما ظنكم بالكلام وما عملته الأيدى فأعيذك بالله أن يخيل إليك أن قرابتك برسول الله تنفع مع المخالفة لأمره فقد قال رسول الله يا صفية عمة محمد ويا فاطمة بنت محمد استوهبا أنفسكما من الله إنى لا أغني عنكما من الله شيئا وكان جدك الأكبر سأل رسول الله إمارة فقال أي عم نفس تحييها خير لك من إمارة لا تحصيها نظرا لعمه وشفقة عليه أن يلي فيجور عن سنته جناح بعوضة فلا يستطيع له نفعا ولا عنه دفعا هذه نصيحتى إن قبلتها فلنفسك عملت وإن رددتها فنفسك نحست والله الموفق للخير والمعين عليه قال بلى نقبلها ونشكر عليها وبالله نستعين
47 -

نصيحة يزيد بن عمر بن هبيرة للمنصور
ودخل يزيد بن عمر بن هبيرة على أمير المؤمنين المنصور فقال يا أمير المؤمنين توسع توسعا قرشيا ولا تضق ضيقا حجازيا
ويروى أنه دخل يوما فقال له المنصور حدثنا فقال يا أمير المؤمنين

إن سلطانكم حديث وإمارتكم جديدة فأذيقوا الناس حلاوة عدلها وجنبوهم مرارة جورها فوالله يا أمير المؤمنين لقد محضت لك النصيحة ثم نهض فنهض معه سبعمائة من قيس فأتأره المنصور بصره ثم قال لا يعز ملك يكون فيه مثل هذا 48

معن بن زائدة والمنصور
ودخل معن بن زائدة الشيباني على أبى جعفر المنصور وقد أسن فقارب في خطوه فقال له المنصور لقد كبرت سنك يا معن قال في طاعتك يا أمير المؤمنين قال وإنك لجلد قال على أعدائك يا أمير المؤمنين قال وإن فيك لبقية قال هي لك يا أمير المؤمنين قال فأي الدولتين أحب إليك هذه أم دولة بني أمية قال ذلك إليك يا أمير المؤمنين إن زاد برك على برهم كانت دولتك أحب إلي
49 -
معن بن زائدة وأحد زواره
ودخل رجل على معن بن زائدة فقال ما هذه الغيبة فقال أيها الأمير ما غاب عن العين من يذكره القلب وما زال شوقي إلى الأمير شديدا وهو دون

ما يجب له وذكرى له كثيرا وهو دون قدره ولكن جفوة الحجاب وقلة بشر الغلمان منعانى من الإكثار فأمر بتسهيل حجابه وأجزل صلته
50 -

المنصور وأحد الأعراب
ودخل أعرابى علىالمنصور فتكلم فأعجب بكلامه فقال له سل حاجتك فقال يبقيك الله ويزيد في سلطانك فقال سل حاجتك فليس في كل وقت تؤمر بذاك قال ولم يا أمير المؤمنين فوالله ما أستقصر عمرك ولا أخاف بخلك ولاأغتنم مالك وإن سؤالك لشرف وإن عطاءك لزين وما بامرىء بذل وجهه إليك نقص ولا شين فأحسن جائزته وأكرمه
51 -
أعرابية تعزى المنصور وتهنئه
وروى القلقشندى قال تعرضت أعرابية للمنصور في طريق مكة بعد وفاة أبي العباس السفاح فقالت
يا أمير المؤمنين احتسب الصبر وقدم الشكر فقد أجزل الله لك الثواب في الحالين وأعظم عليك المنة في الحادثين سلبك خليفة الله وأفادك خلافة الله فسلم فيما سلبك واشكر فيما منحك وتجاوز الله عن أمير المؤمنين وخار لك فيما ملكك من أمر الدنيا والدين

وروى الجاحظ قال عزت امرأة المنصور عن أبي العباس مقدمه من مكة قالت أعظم الله أجرك فلا مصيبة أجل من مصيبتك ولا عوض أعظم من خلافتك
52 -

خطبة محمد بن سليمان يوم الجمعة وكان لا يغيرها
الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون من يعتصم بالله ورسوله فقد اعتصم بالعروة الوثقى وسعد في الأولى والاخرة ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا بعيدا وخسر خسرانا مبينا أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويتجنب سخطه فإنما نحن له وبه أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعة الله وأرضى لكم ما عند الله فإن تقوى الله أفضل ما تحاث الناس عليه وتداعوا إليه وتواصوا به فاتقوا الله ما استطعتم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
53 -
وصية مسلم بن قتيبة
وقال مسلم بن قتيبة لا تطلبن حاجتك إلى واحد من ثلاثة لا تطلبها إلى الكذاب فإنه يقربها وهى بعيدة ويبعدها وهى قريبة ولا تطلبها إلى الأحمق

فإنه يريد أن ينفعك وهو يضرك ولا تطلبها إلى رجل له عند قوم مأكلة فإنه يجعل حاجتك وقاء لحاجته
54 - خطبة المهدى توفى سنة 169ه
الحمد لله الذى ارتضى الحمد لنفسه ورضى به من خلقه أحمده على الائه وأمجده لبلائه وأستعينه وأومن به وأتوكل راض بقضائه وصابر لبلائه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده المصطفى ونبيه المجتبى ورسوله إلى خلقه وأمينه على وحيه أرسله بعد انقطاع الرجاء وطموس العلم واقتراب من الساعة إلى أمة جاهلية مختلفة أمية أهل عداوة وتضاغن وفرقة وتباين قد استهوتهم شياطينهم وغلب عليهم قرناؤهم فاستشعروا الردى وسلكوا العمى يبشر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها ويندر من عصاه بالنار وأليم عقابها ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة وإن الله لسميع عليم )
أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن الاقتصار عليها سلامة والترك لها ندامة وأحثكم على إجلال عظمته وتوقير كبريائه وقدرته والانتهاء إلى ما يقرب من رحمته وينجى من سخطه وينال به ما لديه من كريم الثواب وجزيل الماب فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب وأليم العذاب ووعيد الحساب يوم توقفون بين يدى الجبار وتعرضون فيه على النار ( يوم لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء

منهم يومئذ شأن يغنيه يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون يوم لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) فإن الدنيا دار غرور وبلاء وشرور واضمحلال وزوال وتقلب وانتقال قد أفنت من كان قبلكم وهى عائدة عليكم وعلى من بعدكم من ركن إليها صرعته ومن وثق بها خانته ومن أملها كذبته ومن رجاها خذلته عزها ذل وغناها فقر والسعيد من تركها والشقى فيها من اثرها والمغبون فيها من باع حظه من دار اخرته بها فالله الله عباد الله والتوبة مقبولة والرحمة مبسوطة وبادروا بالأعمال الزكية في هذه الأيام الخالية قبل أن يؤخذ بالكظم وتندموا فلا تنالون الندم في يوم حسرة وتأسف وكآبة وتلهف يوم ليس كالأيام وموقف ضنك المقام إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله يقول الله تبارك وتعالى ( وإذا قرىء القران فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ) إلى اخر السورة أوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به وأنهاكم عما نهاكم عنه وأرضى لكم طاعة الله وأستغفر الله لى ولكم

مشاورة المهدى لأهل بيته في حرب خراسان
روى ابن عبد ربه قال
هذا ما تراجع فيه المهدى ووزراؤه وما دار بينهم من تدبير الرأى في حرب خراسان أيام تحاملت عليهم العمال وأعنفت فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا بيعتهم ونقضوا موثقهم وطردوا العمال والتووا بما عليهم من الخراج وحمل المهدى ما يحب من مصلحتهم ويكره من عنتهم على أن أقال عثرتهم واغتفر زلتهم واحتمل دالتهم تطولا بالفضل واتساعا بالعفو وأخذا بالحجة ورفقا بالسياسة ولذلك لم يزل مذ حمله الله أعباء الخلافة وقلده أمور الرعية رفيقا بمدار سلطانه بصيرا بأهل زمانه باسطا للمعدلة في رعيته تسكن إلى كنفه وتأنس بعفوه وتثق بحلمه فإذا وقعت الأقضية اللازمة والحقوق الواجبة فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة أثرة للحق وقياما بالعدل وأخذا بالحزم فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه والثقة بعفوه أن كسروا الخراج وطردوا العمال وسألوا ما ليس لهم من الحق ثم خلطوا احتجاجا باعتذار وخصومة بإقرار وتنصلا باعتلال فلما انتهى ذلك إلى المهدى خرج إلى مجلس خلائه وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه فأعلمهم الحال واستنصحهم للرعية ثم أمر الموالى بالابتداء وقال للعباس بن محمد أى عم تعقب قولنا وكن حكما بيننا وأرسل إلى ولديه

موسى وهرون فأحضرهما الأمر وشاركهما في الرأى وأمر محمد بن الليث بحفظ مراجعتهم وإثبات مقالتهم في كتاب
55 -

مقال سلام صاحب المظالم
فقال سلام صاحب المظالم
أيها المهدى إن في كل أمر غاية ولكل قوم صناعة استفرغت رأيهم واستغرقت أشغالهم واستنفدت أعمارهم وذهبوا بها وذهبت بهم وعرفوا بها وعرفت بهم ولهذه الأمور التي جعلتنا فيها غاية وطلبت معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب وساسة الأمور وقادة الجنود وفرسان الهزاهز وإخوان التجارب وأبطال الوقائع الذين رشحتهم سجالها وفيأتهم ظلالها وعضتهم شدائدها وقرمتهم نواجذها فلو عجمت ما قبلهم وكشفت ما عندهم لوجدت نظائر تؤيد أمرك وتجارب توافق نظرك وأحاديث تقوى قلبك فأما نحن معاشر عمالك وأصحاب دواوينك فحسن بنا وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك واستودعتنا من أمانتك وشغلتنا به من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك وإظهار حقك
فأجابه المهدى إن في كل قوم حكمة ولكل زمان سياسة وفي كل حال تدبير يبطل الآخر الأول ونحن أعلم بزماننا وتدبير سلطاننا
قال نعم أيها المهدي أنت متسع الرأي وثيق العقدة قوي المنة بليغ الفطنة معصوم النية محضور الروية مؤيد البديهة موفق العزيمة معان بالظفر مهدي إلى الخير إن هممت ففي عزمك مواقع الظن وإن اجتمعت صدع فعلك

ملتبس الشك فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك وقل ينطق الله بالحق لسانك فإن جنودك جمة وخزائنك عامرة ونفسك سخية وأمرك نافذ
فأجابه المهدي المشاورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة لا يهلك عليهما رأي ولا يتفبل معهما حزم فأشيروا برأيكم وقولوا بما يحضركم فإنى من ورائكم وتوفيق الله من وراء ذلك
56 -

مقال الربيع بن يونس
وقال الربيع
أيها المهدى إن تصاريف وجوه الرأي كثيرة وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة ولكن خراسان أرض بعيدة المسافة متراخية الشقة متفارقة السبل فإذا ارتأيت من محكم التدبير ومبرم التقدير ولباب الصواب رأيا قد أحكمه نظرك وقلبه تدبيرك فليس وراءه مذهب طاعن ولا دونه معلق لخصومة عائب ثم خبت البرد به وانطوت الرسل عليه كان بالحرى أن لا يصل إليهم محكمه إلا وقد حدث منهم ماينقضه فما أيسر أن ترجع إليك الرسل وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم وشوارد آثارهم ومصادر أمورهم فتحدث رأيا غيره وتبتدع تدبيرا سواه وقد انفرجت الحلق وتحللت العقد واسترخى الحقاب وامتد الزمان ثم لعلم موقع الاخرة كمصدر الأولى ولكن الرأي أيها المهدى وفقك الله أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفكر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم والحيل في أمرهم إلى الطلب لرجل ذى دين فاضل وعقل كامل وورع

واسع
ليس موصوفا بهوى في سواك ولا متهما في أثرة عليك ولا ظنينا على دخلة مكروهة
ولا منسوبا إلى بدعة محذورة
فيقدح في ملكك ويريض الأمور لغيرك ثم تستند إليه أمورهم
وتفوض إليه حربهم وتأمره في عهدك ووصيتك إياه
بلزوم أمرك ما لزمه الحزم وخلاف نهيك إذا خالفه الرأى عند استحالة الأمور واشتداد الأحوال التي ينقض أمر الغائب عنها ويثبت رأي الشاهد لها فإنه إذا فعل ذلك فواثب أمرهم من قريب وسقط عنه ما يأتي من بعيد تمت الحيلة وقويت المكيدة ونفذ العمل وأحد النظر إن شاء الله
57 -

مقال الفضل بن العباس
قال الفضل بن العباس
أيها المهدي إن ولي الأمور وسائس الحروب ربما نحى جنوده وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه ولا ضغطة حال اضطرته فيقعد عند الحاجة إليها وبعد التفرقة لها عديما منها فاقدا لها لا يثق بقوة ولا يصول بعدة ولا يفزع إلى ثقة فالرأي لك أيها المهدي وفقك الله أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال وجنودك من مكابدة الأسفار ومقارعة الأخطار وتغرير القتال ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون والعطاء لما يسألون فيفسد عليك أدبهم وتجرىء من رعيتك غيرهم ولكن اغزهم بالحيلة وقاتلهم بالمكيدة وصارعهم باللين وخاتلهم بالرفق وأبرق لهم بالقول وأرعد نحوهم بالفعل وابعث البعوث

وجند الجنود وكتب الكتائب واعقد الألوية وانصب الرايات وأظهر أنك موجه إليهم الجيوش مع أحنق قوادك عليهم وأسوئهم أثرا فيهم ثم ادسس الرسل وابثث الكتب وضع بعضهم على طمع من وعدك وبعضا على خوف من وعيدك وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم واغرس أشجار التنافس بينهم حتى تملأ القلوب من الوحشة وتنطوي الصدور على البغضة ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة فإن مرام الظفر بالغيلة والقتال بالحيلة والمناصبة بالكتب والمكايدة بالرسل والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب القوى الموقع من النفوس المعقود بالحجج الموصول بالحيل المبنى على اللين الذى يستميل القلوب ويسترق العقول والاراء ويستميل الأهواء ويستدعى المواتاة أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة أحكم عملا وألطف منظرا وأحسن سياسة من الذى لا ينال ذلك إلا بالقتال والإتلاف للأموال والتغرير والخطار وليعلم المهدى أنه إن وجه لقتالهم رجلا لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة وتقدم على أسفار ضيقة وأموال متفرقة وقود غششة إن ائتمنهم استنفدوا ماله وإن استنصحهم كانوا عليه لا له
قال المهدي هذا رأى قد أسفر نوره وأبرق ضوءه وتمثل صوابه للعيون ويجسد حقه في القلوب ولكن فوق كل ذي علم عليم ثم نظر إلى ابنه على فقال ما تقول

58 -

مقال على بن المهدى
قال علي بن المهدى
أيها المهدى إن أهل خراسان لم يخلعوا عن طاعتك ولم ينصبوا من دونك أحدا يقدح في تغيير ملكك ويريض الأمور لفساد دولتك ولو فعلوا لكان الخطب أيسر والشأن أصغر والحال أدل لأن الله مع حقه الذى لا يخذله وعند موعده الذي لا يخلفه ولكنهم قوم من رعيتك وطائفة من شيعتك الذين جعلك الله عليهم واليا وجعل العدل بينك وبينهم حاكما طلبوا حقا وسألوا إنصافا فإن أجبت إلى دعوتهم ونفست عنهم قبل أن يتلاحم منهم حال ويحدث من عندهم فتق أطعت أمر الرب وأطفأت نائرة الحرب ووفرت خزائن المال وطرحت تغرير القتال وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجية حلمك وإسجاح خليقتك ومعدلة نظرك فأمنت أن تنسب إلى ضعف وأن يكون ذلك فيما بقى دربة وإن منعتهم ما طلبوا ولم تجبهم إلى ما سألوا اعتدلت بك وبهم الحال وساويتهم في ميدان الخطاب فما أرب المهدى أن يعمد إلى طائفة من رعيته مقرين بمملكته مذعنين بطاعته لا يخرجون أنفسهم عن قدرته ولا يبرئونها من عبوديته فيملكهم أنفسهم ويخلع نفسه عنهم ويقف على الحيل معهم ثم يجازيهم السوء في حد المقارعة ومضمار المخاطرة أيريد المهدى وفقه الله الأموال فلعمرى لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر منها مما يطلب منهم وأضعاف ما يدعى قبلهم ولو نالها فحملت إليه ووضعت بخرائطها بين يديه

ثم تجافى لهم عنها وطال عليهم بها لكان إليه مما ينسب وبه يعرف من الجود الذى طبعه الله عليه وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه فإن قال المهدي هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا وتحامل ولاتنا فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود وأنطقوا لسان الإرجاف وفتحوا باب المعصية وكسروا قيد الفتنة فقد ينبغى لهم أن أجعلهم نكالا لغيرهم عظة لسواهم فيعلم المهدى أنه لو أتى بهم مغلولين في الحديد مقرنين في الأصفاد ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه ولأقالة عثرتهم صفحة واستبقاهم لما هم فيه من حربه أو لمن بإزائهم من عدوه لما كان بدعا من رأيه ولا مستنكرا من نظره لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوا وأشدها وقعا وأصدقها صولة وأنه لايتعاظمه عفو ولايتكاءده صفح وإن عظم الذنب وجل الخطب فالرأى للمهدى وفقه الله تعالى أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم برا بهم وتوسعا لهم فإنهم إخوان دولته وأركان دعوته وأساس حقه الذين بعزتهم يصول وبحجتهم يقول وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه وتعرضوا له من معاصيه وانطووا فيه عن إجابته ومثله في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم أو نقل من حاله لهم أو تغير من نعمته بهم كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين أصاب أحدها خبل عارض ولهو حادث فنهض إلى أخيه بالأذى وتحامل عليه بالمكروه فلم يزدد أخوه إلا رقة له ولطفا به واحتيالا لمداواة مرضه ومراجعة حاله عطفا عليه وبرا به ومرحمة له

فقال المهدى أما على فقد نوى سمت الليان وفض القلوب في أهل خراسان ولكل نبإ مستقر فقال ما ترى يا أبا محمد يعنى موسى ابنه الهادى
59 -

مقال موسى بن المهدى
فقال موسى
أيها المهدى لا تسكن إلى حلاوة ما يجرى من القول على ألسنتهم وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم الحال من القوم ينادى بمضمرة شر وخفية حقد قد جعلوا المعاذير عليها سترا واتخذوا العلل من دونهاحجابا رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير والأمور بالتطويل فيكسروا حيل المهدى فيهم ويفنوا جنوده عنهم حتى يتلاحم أمرهم وتتلاحق مادتهم وتستفحل حربهم وتستمر الأمور بهم والمهدى من قولهم في حال غرة ولباس أمنة قد فتر لها وأنس بها وسكن إليها ولولا ما اجتمعت به قلوبهم وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال والإضمار للقراع عن داعية ضلال أو شيطان فساد لرهبوا عواقب أخبار الولاة وغب بكون الأمور فليشدد المهدى وفقه الله أزره لهم ويكتب كتائبه نحوهم وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم وليوقن أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة إلى فسادهم وقوة على معصيتهم وداعية إلى عودتهم وسببا لفساد من بحضرته من الجنود ومن ببابه من الوفود الذين إن أقرهم وتلك العادة وأجراهم على ذلك الأرب لم يبرح في فتق حادث وخلاف حاضر لا يصلح عليه دين ولا تستقيم به دنيا وإن طلب نغييره بعد استحكام العادة واستمرار الدربة لم يصل

إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة والمئونة الشديدة والرأى للمهدى وفقه الله أن لا يقيل عثرتهم ولا يقبل معذرتهم حتى تطأهم الجيوش وتأخذهم السيوف ويستحر بهم القتل ويحدق بهم الموت ويحيط بهم البلاء ويطبق عليهم الذل فإن فعل المهدى بهم ذلك كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم وهزيمة لكل بادرة شر منهم واحتمال المهدى في مئونة غزوتهم هذه تضع عنه غزوات كثيرة ونفقات عظيمة
فقال المهدى قد قال القوم فاحكم يا أبا الفضل
60 -

مقال العباس بن محمد
فقال العباس بن محمد
أيها المهدى أما الموالى فأخذوا بفروع الرأى وسلكوا جنبات الصواب وتعدوا أمورا قصر بنظرهم عنها أنه لم تأت تجاربهم عليها وأما الفضل فأشار بالأموال ألا تنفق والجنود ألا تفرق وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا ولا يبذل لهم ما سألوا وجاء بأمر بين ذلك استصغارا لأمرهم واستهانة بحربهم وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها
وأما على فأشار باللين وإفراط الرفق وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره وسفه حقه اللين بحتا والخير محضا لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب عن لينه ولا بشر يخبسهم إلى خيره فقد ملكهم الخلع لعذرهم ووسع لهم الفرجة لثنى أعناقهم فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير حوف اضطرهم ولا شدة فنزوة في رءوسهم يستدعون بها البلاء إلى أنفسهم ويستصرخون بها رأى المهدى فيهم وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللين المحض والخير الصراح فذلك ما عليه الظن بهم والرأى فيهم وما قد يشبه أن يكون من مثلهم لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها

من النعيم المقيم والملك الكبير مالا يخطر على قلب بشر ولا تدركه الفكر ولا تعلمه نفس ثم دعا الناس إليها ورغبهم فيها فلولا أنه خلق نارا جعلها لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة لما أجابوا ولا قبلوا
وأما موسى فأشار بأن يعصبوا بشدة لا لين فيها وأن يرموا بشر لا خير معه وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته وخالف جماعته الخوف مفردا والشر مجردا وليس معهما طمع ولا لين يثنيهم اشتدت الأمور بهم وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين إما أن تدخلهم الحمية من الشدة والأنفة من الذلة والامتعاض من القهر فيدعوهم ذلك إلى التمادى في الخلاف والاستبسال في القتال والاستسلام للموت وإما أن ينقادوا بالكره ويذعنوا بالقهر على بغضة لازمة وعداوة باقية تورث النفاق وتعقب الشقاق فإذا أمكنتهم فرصة أو ثابت لهم قدرة أو قويت لهم حال عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشد مما كان
وقال في قول أبي الفضل أيها المهدي أكفى دليل وأوضح برهان وأبين خبر بأن قد أجمع رأيه وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم وتوجيه البعوث نحوهم مع إعطائهم ما سألوا من الحق وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل
قال المهدى ذلك رأي
61 -

مقال هرون بن المهدي
قال هرون
خلطت الشدة أيها المهدي باللين فصارت الشدة أمر فطام لما تكره وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب ولكن أرى غير ذلك
قال المهدي لقد قلت قولا بديعا وخالفت فيه أهل بيتك جميعا والمرء

مؤتمن بما قال وظنين بما ادعى حتى يأتى ببينة عادلة وحجة ظاهرة فاخرج عماقلت قال هرون أيها المهدى إن الحرب خدعة والأعاجم قوم مكرة وربما اعتدلت الحال بهم واتفقت الأهواء منهم فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون وربما افترقت الحالان وخالف القلب اللسان فانطوى القلب على محجوبة تبطن واستسر بمدخولة لا تعلن والطبيب الرفيق بطبه البصير بأمره العالم بمقدم يده وموضع ميسمه لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء فالرأى للمهدى وفقه الله أن يفر باطن أمرهم فر المسنة ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء بمتابعة الكتب ومظاهرة الرسل وموالاة العيون حتى تهتك حجب عيونهم وتكشف أغطية أمورهم فإن انفرجت الحال وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال اشتملت الأهواء عليه وانقاد الرجال إليه وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه وإثم يستحلونه عصبهم بشدة لا لين فيها ورماهم بعقوبة لاعفو معها وإن انفرجت العيون واهتصرت الستور ورفعت الحجب والحال فيهم مريعة والأمور بهم معتدلة في أرزاق يطلبونها وأعمال ينكرونها وظلامات يدعونها وحقوق يسألونها بماتة سابقتهم ودالة مناصحتهم فالرأى للمهدي وفقه الله أن يتسع لهم بما طلبوا ويتجافى لهم عما كرهوا ويشعب من أمرهم ما صدعوا ويرتق من فتقهم ما قطعوا ويولي عليهم من أحبوا ويداوى بذلك مرض قلوبهم وفساد أمورهم فإنما المهدى وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق والوالد الشفيق والراعى المجرب الذى يحتال لمرابض غنمه وضوال رعيته حتى يبرىء المريضة من داء علتها ويرد الصحيحة إلى أنس جماعتها ثم إن خراسان بخاصة

الذين لهم دالة محمولة وماتة مقبولة ووسيلة معروفة وحقوق واجبة لأنهم أيدي دولته وسيوف دعوته وأنصار حقه وأعوان عدله فليس من شأن المهدى الاضطغان عليهم ولا المؤاخذة لهم ولا التوعر بهم ولا المكافأة بإساءتهم لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ أحزم في الرأى وأصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها بكثيرها وتجتمع أطرافها إلى جمهورها
قال المهدى ما زال هرون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القدح من الماء وانسل انسلال السيف فيما ادعى فدعوا ما سبق موسى فيه أنه هو الرأى وثنى بعده هرون ولكن من لأعنة الخيل وسياسة الحرب وقيادة الناس إن أمعن بهم اللجاج وأفرطت بهم الدالة
62 -

مقال صالح بن على
قال صالح
لسنا نبلغ أيها المهدى بدوام البحث وطول الفكر أدنى فراسة رأيك وبعض لحظات نظرك وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم ذو دين فاضل ورأى كامل وتدبير قوى تقلده حربك وتستودعه جندك ممن يحتمل الأمانة العظيمة ويضطلع بالأعباء الثقيلة وأنت بحمد الله ميمون النقيبة مبارك العزيمة مخبور التجارب محمود العواقب معصوم العزم فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد توليه أمرك وتسند إليه ثغرك إلا أراك الله ما تحب وجمع لك منه ما تريد

قال المهدى إنى لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه وحسن معونته عليه ولكن أحب الموافقة على الرأى والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم
63 -

مقال محمد بن الليث
قال محمد بن الليث أهل
خراسان أيها المهدى قوم ذوو عزة ومنعة وشياطين خدعة زروع الحمية فيهم نابتة وملابس الأنفة عليهم ظاهرة فالروية عنهم عازبة والعجلة فيهم حاضرة تسبق سيولهم مطرهم وسيوفهم عذلهم لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم وبين رؤساء لا يلجمون إلا بشدة ولا يفطمون إلا بالمر وإن ولى المهدى عليهم وضيعا لم تنقد له العظماء وإن ولى أمرهم شريفا تحامل على الضعفاء وإن أخر المهدى أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه أو بنى عمه أو بنى أبيه ناصحا يتفق عليه أمرهم وثقة تجتمع له أملاؤهم بلا أنفة تلزمهم ولا حمية تدخلهم ولا مصيبة تنفرهم تنفست الأيام بهم وتراخت الحال بأمرهم فدخل بذلك من الفساد الكبير والضياع العظيم مالا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد ولا يستصلحه وإن جهد إلا بعد دهر طويل وشر كبير وليس المهدى وفقه الله فاطما عاداتهم ولا قارعا صفاتهم بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما ولا عدل في ذلك بهما أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك ويد ممثلة لعينك وصخرة لا تزعزع وبهمة لا تثنى وبازل لا يفزعه صوت الجلجل نقى العرض نزيه النفس جليل الخطر اتضعت الدنيا عن قدره وسما نحو الاخرة

بهمته وجعل الغرض الأقصى لعينه نصبا والغرض الأدنى لقدمه موطئا فليس يقبل عملا ولايتعدى أملا وهو رأس مواليك وأنصح بنى أبيك رجل قد غذى بلطيف كرامتك ونبت في ظل دولتك ونشأ على قوائم أدبك فإن قلدته أمرهم وحملته ثقلهم وأسندت إليه ثغرهم كان قفلا فتحه أمرك وبابا أغلقه نهيك فجعل العدل عليه وعليهم أميرا والإنصاف بينه وبينهم حاكما وإذا أحكم المنصفة وملك المعدلة فأعطاهم مالهم وأخذ منهم ما عليهم غرس لك في الذى بين صدورهم وأسكن لك في السويداء داخل قلوبهم طاعة راسخة العروق باسقة الفروع متماثلة في حواشي عوامهم متمكنة من قلوب خواصهم فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه ولا يلزمهم حق إلا أدوه وهذا أحدهما والآخر عود من غيضتك ونبعة من أرومتك فتى السن كهل الحلم راجح العقل محمود الصرامة مأمون الخلاف يجرد فيهم سيفه ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون وعلى حسب ما يستوجبون وهو فلان أيها المهدى فسلطه أعزك الله عليهم ووجهه بالجيوش إليهم ولا تمنعك ضراعة سنة وحداثة مولده فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير من الشك والجهل مع الكهولة وإنما أحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه واختصكم به من مكارم الأخلاق ومحامد الفعال ومحاسن الأمور وصواب التدبير وصرامة الأنفس كفراخ عتاق الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب فالحلم والعلم والعزم والحزم والجود والتودة والرفق ثابت في صدوركم مزروع في قلوبكم مستحكم لكم متكامل عندكم بطبائع لازمة وغرائز ثابتة

مقال معاوية بن عبد الله
قال معاوية بن عبد الله
أفتاء أهل بيتك أيها المهدى في الحلم على ما ذكر وأهل خراسان في حال عز على ما وصف ولكن إن ولي المهدى عليهم رجلا ليس بقديم الذكر في الجنود ولا بنبيه الصوت في الحروب ولا بطويل التجربة للأمور ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء دخل ذلك أمران عظيمان وخطران مهولان أحدهما أن الأعداء يغتمزونها منه ويحتقرونها فيه ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه قبل ما حين الاختبار لأمره والتكشف لحاله والعلم بطباعة والأمر الآخر أن الجنود التي يقود والجيوش التي يسوس إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصوت والهيبة انكسرت شجاعتهم وماتت نجدتهم واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم وربما وقع البوار قبل الاختبار وبباب المهدى وفقه الله رجل مهيب نبيه حنيك صيت له نسب زاك وصوت عال قد قاد الجيوش وساس الحروب وتألف أهل خراسان واجتمعوا عليه بالمقة ووثقوا به كل الثقة فلو ولاه المهدى أمرهم لكفاه الله شرهم
قال المهدى جانبت قصد الرمية وأبيت إلا عصبية إذ رأى الحدث من أهل بيتنا كرأى عشرة حلماء من غيرنا ولكن أين تركتم ولي العهد
قالوا لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده ونسيج وحده ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله ولكن وجدنا الله عز و جل حجب عن

خلقه وستر دون عباده علم ما تختلف به الأيام ومعرفة ما تجرى عليه المقادير من حوادث الأمور وريب المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك فكرهنا شسوعه عن محلة الملك ودار السلطان ومقر الإمامة والولاية وموضع المدائن والخزائن ومستقر الجنود ومعدن الجود ومجمع الأموال التي جعلها الله قطبا لمدار الملك ومصيدة لقلوب الناس ومثابة لإخوان الطمع وثوار الفتن ودواعى البدع وفرسان الضلال وأبناء الموت وقلنا إن وجه المهدي ولي عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله لم يستطع المهدي أن يعقبهم بغيره إلا أن ينهض إليهم بنفسه وهذا خطر عظيم وهول شديد إن تنفست الأيام بمقامه واستدارت الحال بإمامه حتى يقع عوض لا يستغنى عنه أو يحدث أمر لا بد منه صار ما بعده مما هو أعظم هولا وأجل خطرا له تبعا وبه متصلا
65 -

مقال المهدي
قال المهدي
الخطب أيسر مما تذهبون إليه وعلى غير ما تصفون الأمر عليه نحن أهل البيت نجرى من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العلم ومحتوم من الأمر قد أنبأت به الكتب وتنبأت عليه الرسل وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا وتكامل بحذافيره عندنا فبه ندبر وعلى الله نتوكل إنه لا بد لولي عهدي وولي عهد عقبي بعدي أن يقود إلى خراسان البعوث ويتوجه نحوها بالجنود أما الأول فإنه يقدم إليهم رسله ويعمل فيهم حيله ثم يخرج نشيطا إليهم حنقا

عليهم يريد أن لا يدع أحدا من إخوان الفتن ودواعى البدع وفرسان الضلال إلا توطأه بحر القتل وألبسه قناع القهر وقلده طوق الذل ولا أحدا من الذين عملوا في قص جناح الفتنة وإخماد نار البدعة ونصرة ولاة الحق إلا أجرى عليهم ديم فضله وجداول نهله فإذا خرج مزمعا به مجمعا عليه لم يسر إلا قليلا حتى يأتيه أن قد عملت حيله وكدحت كتبه ونفذت مكايده فهدأت نافرة القلوب ووقعت طائرة الأهواء واجتمع عليه المختلفون بالرضا فيميل نظرا لهم وبرا بهم وتعطفا عليهم إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم ومنع حجاجهم بيت الله الحرام وسلب تجارهم رزق الله الحلال وأما الاخر فإنه يوجه إليهم ثم تعتقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون وبذل ما يسألون فإذا سمحت الفرق بقراباتها له وجنح أهل النواحى بأعناقهم نحوه فأصغت إليه الأفئدة واجتمعت له الكلمة وقدمت عليه الوفود قصد لأول ناحية بخعت بطاعتها وألقت بأزمتها فألبسها جناح نعمته وأنزلها ظل كرامته وخصها بعظيم حبائه ثم عم الجماعة بالمعدلة وتعطف عليهم بالرحمة فلا تبقى فيهم ناحية دانية ولا فرقة قاصية إلا دخلت عليها بركته ووصلت إليها منفعته فأغنى فقيرها وجبر كسيرها ورفع وضيعها وزاد رفيعها ما خلا ناحيتين ناحية يغلب عليها الشقاء وتستميلهم الأهواء فتستخف بدعوته وتبطئ عن إجابته وتتثاقل عن حقه فتكون أخر من يبعث وأبطأ من يوجه فيصطلى عليها موجدة ويبتغى لها علة لا يلبث يجد بحق يلزمهم وأمر يجب عليهم فتستلحمهم الجيوش وتأكلهم السيوف ويستحر بهم القتل ويحيط بهم الأمر ويفنيهم التتبع حتى يخرب البلاد ويوتم الأولاد وناحية لا يبسط لهم أمانا ولا يقبل لهم عهدا ولا يجعل لهم ذمة لأنهم أول من فتح باب الفرقة

وتدرع جلباب الفتنة وربض في شق العصا ولكنه يقتل أعلامهم ويأسر قوادهم ويطلب هرابهم في لجج البحار وقلل الجبال وحميل الأودية وبطون الأرض تقتيلا وتغليلا وتنكيلا حتى يدع الدنيا خرابا والنساء أيامي وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا ولا نصحح منه غير ما قلنا تفسيرا وأما موسى ولي عهدي فهذا أوان توجهه إلى خراسان وحلوله بجرجان وما قضى الله له من الشخوص إليها والمقام فيها خير للمسلمين مغبة وله بإذن الله عاقبة من المقام بحيث يغمر في لجج بحورنا ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا فيتصاغر عظيم فضله ويتذاءب مشرق نوره ويتقلل كثير ما هو كائن منه فمن يصحبه من الوزراء ويختار له من الناس
66 -

مقال محمد بن الليث
قال محمد بن الليث
أيها المهدي إن ولي عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علما قد تئنت نحوه أعناقها ومدت سمته أبصارها وقد كان لقرب داره منك ومحل جواره لك عطل الحال غفل الأمر واسع العذر فأما إذا انفرد بنفسه وخلا بنظره وصار إلى تدبيره فإن من شأن العامة أن تتفقد مخارج رأيه وتستنصت لمواقع اثاره وتسأل عن حوادث أحواله في بره ومرحمته وإقساطه ومعدلته وتدبيره وسياسته ووزرائه وأصحابه ثم يكون ما سبق إليهم أغلب الأشياء عليهم وأملك الأمور بهم وألزمها لقلوبهم وأشدها استمالة لرأيهم وعطفا لأهوائهم فلا يفتأ المهدى وفقه الله ناظرا له فيما يقوى عمد مملكته ويسدد أركان ولايته

ويستجمع رضا أمته بأمر هو أزين لحاله وأظهر لجماله وأفضل مغبة لأمره وأجل موقعا في قلوب رعيته وأحمد حالا في نفوس أهل ملته ولا أدفع مع ذلك باستجماع الأهواء له وأبلغ في استعطاف القلوب عليه من مرحمة تظهر من فعله ومعدله تنتشر عن أثره ومحبة للخير وأهله وأن يختار المهدى وفقه الله من خيار أهل كل بلدة وفقهاء أهل كل مصر أقواما تسكن العامة إليهم إذا ذكروا وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان وفتح باب المعروف كما قد كان فتح له وسهل عليه
قال المهدي صدقت ونصحت ثم بعث في ابنه موسى فقال
67 -

مقال المهدي
أي بني إنك قد أصبحت لسمت وجوه العامة نصبا ولمثنى أعطاف الرعية غاية فحسنتك شاملة وإساءتك نائية وأمرك ظاهر فعليك بتقوى الله وطاعته فاحتمل سخط الناس فيهما ولا تطلب رضاهم بخلافهما فإن الله عز و جل كافيك من أسخطه عليك إيثارك رضاه وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان فترة من رسله وبقايا من صفوة خلقه وخبايا لنصرة حقه يجدد حبل الإسلام بدعواهم ويشيد أركان الدين بنصرتهم ويتخذ لأولياء دينه أنصارا وعلى إقامة عدله أعوانا يسدون الخلل ويقيمون الميل ويدفعون عن الأرض الفساد وإن أهل خراسان أصبحوا أيدى دولتنا وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره بطاعتهم ونستصرف نزول العظائم بمناصحتهم وندافع ريب الزمان بعزائمهم ونراحم ركن الدهر ببصائرهم وهم عماد الأرض إذا أرجف كنفها وخوف الأعداء إذا برزت صفحتها وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها قد مضت لهم وقائع صادقات ومواطن صالحات أخمدت نيران

الفتن وقسمت دواعى البدع وأذلت رقاب الجبارين ولم ينفكوا كذلك ماجروا مع ريح دولتنا وأقاموا في ظل دعوتنا واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعز الله بها ذلتهم ورفع بها ضعتهم وجعلهم بها أربابا في أقطار الأرض وملوكا على رقاب العالمين بعد لباس الذل وقناع الخوف وإطباق البلاء ومخالفة الأسى وجهد البأس والضر فظاهر عليهم لباس كرامتك وأنزلهم في حدائق نعمتك ثم اعرف لهم حق طاعتهم ووسيلة دالتهم وماتة سابقتهم وحرمة مناصحتهم بالإحسان إليهم والتوسعة عليهم والإثابة لمحسنهم والإقالة لمسيئهم
أي بني ثم عليك العامة فاستدع رضاها بالعدل عليها واستجلب مودتها بالإنصاف لها وتحسن بذلك لربك وتوثق به في عين رعيتك واجعل عمال العذر وولاة الحجج مقدمة بين يدى عملك ونصفة منك لرعيتك وذلك أن تأمر قاضي كل بلد وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلا توليه أمرهم وتجعل العدل حاكما بينه وبينهم فإن أحسن حمدت وإن أساء عذرت هؤلاء عمال العذر وولاة الحجج فلا يسقطن عليك ما في ذلك إذا انتشر في الآفاق وسبق إلى الأسماع من انعقاد ألسنة المرجفين وكبت قلوب الحاسدين وإطفاء نيران الحروب وسلامة عواقب الأمور ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلا وبعرا حبلك متعلقا رجلان أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب وأعلام بيوتات الشرف له أدب فاضل وحلم راجح ودين صحيح والاخر له دين غير مغموز وموضع غير مدخول بصير بتقليب الكلام وتصريف الرأى وأنحاء العرب ووضع الكتب عالم بحالات الحروب وتصاريف الخطوب يضع ادابا نافعة وآثارا باقية من محاسنك وتحسين أمرك وتحلية ذكرك فتستشيره في حربك وتدخله في أمرك فرجل أصبته كذلك فهو يأوي إلي محلتي ويرعى في خضرة جناني ولا تدع أن تختار لك من فقهاء البلدان وخيار الأمصار أقواما يكونون جيرانك وسمارك وأهل

مشاورتك فيما تورد وأصحاب مناظرتك فيما تصدر فسر على بركة الله أصحبك الله من عونه وتوفيقه دليلا يهدى إلى الصواب قلبك وهاديا ينطق بالخير لسانك
وكتب في شهر ربيع الاخر سنة سبعين ومائة ببغداد
68 -

ابن عتبة يعزى المهدى ويهنئه
لما توفى المنصور دخل ابن عتبة مع الخطباء على المهدى فسلم فقال
اجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين قبله وبارك الله لأمير المؤمنين فيما خلفه له أمير المؤمنين بعده فما مصيبة أعظم من فقد أمير المؤمنين ولا عقبى أفضل من وراثه مقام أمير المؤمنين فاقبل يا أمير المؤمنين من الله أفضل العطية واحتسب عند الله أفضل الرزية
69 -
يعقوب بن داود يستعطف المهدى
لما سخط المهدى على وزيره يعقوب بن داود أحضره فقال يا يعقوب قال لبيك يا أمير المؤمنين تلبية مكروب لموجدتك شرق بغصتك قال

ألم أرفع قدرك وأنت خامل وأسير ذكرك وأنت هامل وألبسك من نعم الله تعالى ونعمى ما لم أجد عندك طاقة لحمله ولا قياما بشكره فكيف رأيت الله تعالى أظهر عليك ورد كيدك إليك
قال يا أمير المؤمنين إن كنت قلت هذا بتيقن وعلم فإني معترف وإن كان بسعاية الباغين ونمائم المعاندين فأنت أعلم بأكثرها وأنا عائذ بكرمك وعميم شرفك
فقال لولا الحنث في دمك لألبستك قميصا لاتشد عليه أزرارا ثم أمر به إلى السجن فتولى وهو يقول الوفاء يا أمير المؤمنين كرم والمودة رحم وما على العفو ندم وأنت بالعفو جدير وبالمحاسن خليق فأقام في السجن إلى أن أخرجه الرشيد
70 -

رجل من أهل خراسان يخطب بحضرة المهدي
وقدم على المهدى رجل من أهل خراسان فقال أطال الله بقاء أمير المؤمنين إنا قوم نأينا عن العرب وشغلتنا الحروب عن الخطب وأمير المؤمنين يعلم طاعتنا وما فيه مصلحتنا فيكتفي منا باليسير عن الكثير ويقتصر على ما في الضمير دون التفسير فقال المهدي أنت أخطب من سمعته

71 -

مقام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي
دخل صالح بن عبد الجليل على المهدى فسأله أن يأذن له في الكلام فقال تكلم فقال
إنه لما سهل علينا ما توعر على غيرنا من الوصول إليك قمنا مقام الأداء عنهم وعن رسول الله بإظهار ما فى أعناقنا من فريضة الأمر والنهى عن انقطاع عذر الكتمان ولا سيما حين اتسمت بميسم التواضع ووعدت الله وحملة كتابه إيثار الحق على ما سواه فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص ليتم مؤدينا على موعود الأداء عنهم وقابلنا على موعود القبول أو يزيدنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية ويحلينا حلية الكذابين فقد كان أصحاب رسول الله يقولون من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل وأشد منه عذابا من أقبل إليه العلم وأدبر عنه ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به فقد رغب عن هدية الله وقصر بها فاقبل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل لا قبول سمعة ورياء فإنه لا يعدمك منا إعلام لما تجهل أو مواطأة على ما تعلم أو تذكير لك من غفلة فقد وطن الله عز و جل نبيه عليه الصلاة و السلام على نزولها تعزية عما فات وتحصينا من التمادى ودلالة على المخرج فقال ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) فأطلع الله على قلبك بما ينور الله به القلوب من إيثار الحق ومنابذة الأهواء فإنك إن لم تفعل ذلك ير أثرك وأثر الله عليك فيه ولا حول ولاقوة إلا بالله

72 -

عظة شبيب بن شيبة للمهدى
وقال شبيب بن شيبة للمهدى يا أمير المؤمنين إن الله إذ قسم الأقسام في الدنيا جعل لك أسناها وأعلاها فلا ترض لنفسك من الاخرة إلا مثل مارضى لك به من الدنيا فأوصيك بتقوى الله فعليكم نزلت ومنكم أخذت وإليكم ترد
73 -
خطبته في تعزية المهدى بابنته
لما ماتت البانوقة بنت المهدى جزع عليها جزعا لم يسمع بمثله فجلس للناس يعزونه وأمر ألا يحجب عنه أحد فأكثر الناس في التعازى واجتهدوا في البلاغة وفي الناس من ينتقد هذا عليهم من أهل العلم والأدب فأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزيه أوجز ولا أبلغ من تعزية شبيب بن شيبة فإنه قال
أعطاك الله يا أمير المؤمنين على ما رزئت أجرا وأعقبك صبرا ولا أجهد الله بلاءك بنقمة ولا نزع منك نعمة ثواب الله خير لك منها ورحمة الله خير لها منك وأحق ماصبر عليه مالا سبيل إلى رده
74 -
خطبة اخرى له في مدح الخليفة
قيل لبعض الخلفاء إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعد له فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأة لرجوت أن يفتضح فأمر رسولا فأخذ بيده إلى المسجد فلم يفارقه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي حق الصلاة عليه ثم قال

ألا إن لأمير المؤمنين أشباها أربعة الأسد الخادر والبحر الزاخر والقمر الباهر والربيع الناضر فأما الأسد الخادر فأشبه منه صولته ومضاءه وأما البحر الزاخر فأشبه منه جوده وعطاءه وأما القمر الباهر فأشبه منه نوره وضياءه وأما الربيع الناضر فأشبه منه حسنه وبهاءه ثم نزل وأنشأ يقول
( وموقف مثل حد السيف قمت به ... أحمى الذمار وترمينى به الحدق )
( فما زلقت وما ألقيت كاذبة ... إذا الرجال على أمثاله زلقوا )
75 -

كلمات لشبيب بن شيبة
وقال شبيب اطلب الأدب فإنه دليل على المروءة وزيادة في العقل وصاحب في الغربة وصلة في المجلس
وقال للمهدى يوما أراك الله في بنيك ما أرى أباك فيك وأرى الله بنيك فيك ما أراك في أبيك
وخرج من دار الخلافة يوما فقال له قائل كيف رأيت الناس قال رأيت الداحل راجيا والخارج راضيا
76 -
خطبة يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب يوم ولى الرشيد الخلافة
روى الطبرى قال لما كانت الليلة التي توفى فيها موسى الهادى أخرج هرثمة ابن أعين هرون الرشيد ليلا فأقعده للخلافة فدعا هرون يحيى بن خالد بن برمك

وكان محبوسا وقد كان عزم موسى على قتله وقتل هرون الرشيد في تلك الليلة فحضر يحيى وتقلد الوزارة ووجه إلى يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب فأحضره وأمره بإنشاء الكتب فلما كان غداة تلك الليلة وحضر القواد قام يوسف ابن القاسم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ثم قال
إن الله بمنة ولطفه من عليكم معاشر أهل بيت نبيه بيت الخلافة ومعدن الرسالة وإياكم أهل الطاعة من أنصار الدولة وأعوان الدعوة من نعمه التي لا تحصى بالعدد ولا تنقضى مدى الأبد وأياديه التامة أن جمع ألفتكم وأعلى أمركم وشد عضدكم وأوهن عدوكم وأظهر كلمة الحق وكنتم أولى بها وأهلها فأعزكم الله وكان الله قويا عزيزا فكنتم أنصار دين الله المرتضى والذابين بسيفه المنتضى عن أهل بيت نبيه اوبكم استنقذهم من أيدى الظلمة أئمة الجور والناقضين عهد الله والسافكين الدم الحرام والآكلين الفىء والمستأثرين به فاذكروا ما أعطاكم الله من هذه النعمة واحذروا أن تغيروا فيغير بكم وإن الله جل وعز استأثر بخليفته موسى الهادى الإمام فقبضه إليه وولى بعده رشيدا مرضيا أمير المؤمنين بكم رءوفا رحيما من محسنكم قبولا وعلى مسيئكم بالعفو عطوفا وهو أمتعه الله بالنعمة وحفظ له ما استرعاه إياه من أمر الأمة وتولاه بما تولى به أولياءه وأهل طاعته يعدكم من نفسه الرأفة بكم والرحمة لكم وقسم أعطياتكم فيكم عند استحقاقكم ويبذل لكم من الجائزة مما أفاء الله على الخلفاء مما في بيوت المال ما ينوب عن رزق كذا وكذا شهرا غير مقاض لكم بذلك فيما تستقبلون من أعطياتكم وحاملا باقى ذلك للدفع عن حريمكم وما لعله أن يحدث في النواحى والأقطار من

العصاة المارقين إلى بيوت الأموال حتى تعود الأموال إلى جمامها وكثرتها والحال التي كانت عليها فاحمدوا الله وجددوا شكرا يوجب لكم المزيد من إحسانه إليكم بما جدد لكم من رأى أمير المؤمنين وتفضل به عليكم أيده الله بطاعته وارغبوا إلى الله له في البقاء ولكم به في إدامة النعماء لعلكم ترحمون وأعطوا صفقة أيمانكم وقوموا إلى بيعتكم حاطكم الله وحاط عليكم وأصلح بكم وعلى أيديكم وتولاكم ولاية عباده الصالحين
77 - خطبة هرون الرشيد توفى سنة 193ه
الحمد لله نحمده على نعمه ونستعينه على طاعته ونستنصره على أعدائه ونؤمن به حقا ونتوكل عليه مفوضين إليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه على فترة من الرسل ودروس من العلم وإدبار من الدنيا وإقبال من الاخرة بشيرا بالنعيم المقيم ونذيرا بين يدى عذاب أليم فبلغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله فأدى عن الله وعده ووعيده حتى أتاه اليقين فعلى النبى من الله صلاة ورحمة وسلام
أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن في التقوى تكفير السيئات وتضعيف الحسنات وفوزا بالجنة ونجاة من النار وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار وتعلن فيه الأسرار يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاق ويوم التناد يوم لا يستعتب من سيئة ولا يزداد من حسنة يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع يعلم خائنة الأعين

وما تخفى الصدور واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون
عباد الله إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى حصنوا إيمانكم بالأمانة ودينكم بالورع وصلاتكم بالزكاة فقد جاء في الخبر أن النبي قال لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ولا صلاة لمن لا زكاة له إنكم سفر مجتازون وأنتم عن قريب تنقلون من دار فناء إلى دار بقاء فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة وإلى الرحمة بالتقوى وإلى الهدى بالأمانة فإن الله تعالى ذكره أوجب رحمته للمتقين ومغفرته للتائبين وهداه للمنيبين قال الله عز و جل وقوله الحق ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة وقال ( وإني لغفار لمن تاب وامن وعمل صالحا ثم اهتدى ) وإياكم والأمانى فقد غرت وأردت وأوبقت كثيرا حتى أكذبتهم مناياهم فتناوشوا التوبة من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون فأخبركم ربكم عن المثلاث فيهم وصرف الآيات وضرب الأمثال فرغب بالوعد وقدم إليكم الوعيد وقد رأيتم وقائعهم بالقرون الخوالى جيلا فجيلا وعهدتم الاباء والأبناء والأحبة والعشائر باحتطاف الموت إياهم من بيوتكم ومن بين أطهركم لا تدفعون عنهم ولا تحولون دونهم فزالت عنهم الدنيا وانقطعت بهم الأسباب فأسلمتهم إلى أعمالهم عند المواقف والحساب والعقاب ( ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى ) إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله يقول الله عز و جل ( وإذا قرئ القران فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم ( قل هو الله أحد

الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) آمركم بما أمركم الله به وأنهاكم عما نهاكم عنه وأستغفر الله لى ولكم
78 -

وصية الرشيد لمؤدب ولده الأمين
ووصى الرشيد مؤدب ولده الأمين فقال
يأحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا فى أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بنى هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلى الفراغ ويألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة
79 - خطبة لجعفر بن يحيى البرمكى قتل سنة 187ه
وهاجت العصبية بالشأم بين أهلها في عهد الرشيد سنة 180ه وتفاقم أمرها فاغتم لذلك الرشيد وعقد لجعفر بن يحيى على الشأم وقال له إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا فقال له جعفر بل أقيك بنفسى فشخص في جلة القواد والكراع والسلاح فأتاهم فأصلح بينهم وقتل زواقيلهم والمتلصصة منهم ولم يدع بها رمحا ولا فرسا فعادوا إلى الأمن والطمأنينة وأطفأ تلك النائرة

فلما قدم على الرشيد دخل عليه فقبل يديه ورجليه ثم مثل بين يديه فقال
الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي أنس وحشتي وأجاب دعوتي ورحم تضرعي وأنسأ في أجلي حتى أراني وجه سيدي وأكرمني بقربه وامتن على بتقبيل يده وردني إلى خدمته فوالله إن كنت لأذكر غيبتي عنه ومخرجى والمقادير التي أزعجتنى فأعلم أنها كانت بمعاص لحقتنى وخطايا أحاطت بى ولو طال مقامي عنك يا أمير المؤمنين جعلني الله فذاك لخفت أن يذهب عقلي إشفاقا على قربك وأسفا على فراقك وأن يعجل بى عن إذنك الاشتياق إلى رؤيتك والحمد لله الذى عصمنى في حال الغيبة وأمتعنى بالعافية وعرفنى الإجابة ومسكني بالطاعة وحال بيني وبين استعمال المعصية فلم أشخص إلا عن رأيك ولم أقدم إلا عن إذنك وأمرك ولم يختر منى أجل دونك والله يا أمير المؤمنين فلا أعظم من اليمين بالله لقد عاينت ما لو تعرض لى الدنيا كلها لاخترت عليها قربك ولما رأيتها عوضا من المقام معك ثم قال له بعقب هذا الكلام في هذا المقام
إن الله يا أمير المؤمنين لم يزل يبليك في خلافتك بقدر ما يعلم من نيتك ويريك في رعيتك غاية أمنيتك فيصلح لك جماعتهم ويجمع ألفتهم ويلم شعثهم حفظا لك فيهم ورحمة لهم وإنما هذا للتمسك بطاعتك والاعتصام بحبل مرضاتك والله المحمود على ذلك وهو مستحقه وفارقت يا أمير المؤمنين أهل كور الشأم وهم منقادون لأمرك نادمون على ما فرط من معصيتهم لك متمسكون بحبلك نازلون على حكمك طالبون لعفوك واثقون بحلمك مؤملون فضلك امنون بادرتك حالهم في ائتلافهم كحالهم كانت في اختلافهم وحالهم في ألفتهم كحالهم

كانت في امتناعهم وعفو أمير المؤمنين عنهم وتغمده لهم سابق لمعذرتهم وصلة أمير المؤمنين لهم وعطفه عليهم متقدم عنده لمسألتهم وايم الله يا أمير المؤمنين لئن كنت قد شخصت عنهم وقد أحمد الله شرارهم وأطفأ نارهم ونفى مراقهم وأصلح دهماءهم وأولانى الجميل فيهم ورزقني الانتصار منهم فما ذلك كله إلا ببركتك ويمنك وريحك ودوام دولتك السعيدة الميمونة الدائمة وتخوفهم منك ورجائهم لك والله يا أمير المؤمنين ما تقدمت إليهم إلا بوصيتك وما عاملتهم إلا بأمرك ولا سرت فيهم إلا على حد ما مثلته لي ورسمته ووقفتني عليه ووالله ما انقادوا إلا لدعوتك وتوحد الله بالصنع لك وتخوفهم من سطوتك وما كان الذي كان مني وإن كنت قد بذلت جهدى وبلغت مجهودى قاضيا بعض حقك على بل ما ازدادت نعمتك على عظما إلا ازددت عن شكرك عجزا وضعفا وما خلق الله أحدا من رعيتك أبعد من أن يطمع نفسه في قضاء حقك مني وما ذلك إلا أن أكون باذلا مهجتىفي طاعتك وكل ما يقرب إلى موافقتك ولكني أعرف من أياديك عندي ما لا أعرف مثلها عند غيرى فكيف بشكرى وقد أصبحت واحد أهل دهري فيما صنعته في وبي أم كيف بشكري وإنما أقوي على شكرك بإكرامك إياي وكيف بشكري ولو جعل الله شكري في إحصاء ما أو ليتنى لم يأت على ذلك عدي وكيف بشكري وأنت كهفى دون كل كهف لي وكيف بشكري وأنت لا ترضي لي ما أرضاه لى وكيف بشكري وأنت تجدد من نعمتك عندي ما يستغرق كل ما سلف عندك لي أم كيف بشكري وأنت تنسيني ما تقدم من إحسانك إلى بما تجدده لي أم كيف بشكري وأنت

تقدمنى بطولك على جميع أكفائى أم كيف بشكري وأنت ولي أم كيف بشكرى وأنت المكرم لى وأنا أسأل الله الذى رزقنى ذلك منك من غير استحقاق له إذ كان الشكر مقصرا عن بلوغ تأدية بعضه بل دون شقص من عشر عشيرة أن يتولى مكافأتك عني بما هو أوسع له وأقدر عليه وأن يقضي عني حقك وجليل منتك فإن ذلك بيده وهو القادر عليه
80 -

استعطاف أم جعفر بن يحيى للرشيد روى صاحب العقد قال
كانت أم جعفر بن يحيى وهي فاطمة بنت محمد بن الحسين بن قحطبة أرضعت الرشيد مع جعفر لأنه كان ربى في حجرها وغذى برسلها لأن أمه ماتت عن مهده فكان الرشيد يشاورها مظهرا لإكرامها والتبرك برأيها وكان الى وهو في كفالتها أن لا يحجبها ولا استشفعته لأحد إلا شفعها والت عليه أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونا لها ولا شفعت لأحد مقترف ذنبا فكم أسير فكت ومبهم عنده فتحت ومستغلق منه فرجت واحتجب الرشيد بعد قدومه فطلبت الإذن عليه من دار الباقونة ومتت بوسائلها إليه فلم يأذن لها ولا أمر بشيء فيها فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها محتفية في مشيها حتى صارت بباب قصر الرشيد فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب

فقال ظئر أمير المؤمنين بالباب في حالة تقلب شمانة الحاسد إلى شفقة أم الواحد فقال الرشيد ويحك يا عبد الملك أو ساعية قال نعم يا أمير المؤمنين حافية قال أدخلها يا عبد الملك فرب كبد غذتها وكربة فرجتها وعورة سترتها فدخلت فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية قام محتفيا حتى تلقاها بين عمد المجلس وأكب على تقبيل رأسها ومواضع ثدييها ثم أجلسها معه فقالت يا أمير المؤمنين أيعدو علينا الزمان ويجفونا خوفا لك الأعوان ويحردك بنا البهتان وقد ربيتك في حجرى وأخذت برضاعك الأمان من عدوي ودهري فقال لها وما ذلك يا أم الرشيد قالت ظئرك يحيى وأبوك بعد أبيك ولا أصفه بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحته وإشفاقه عليه وتعرضه للحتف في شأن موسى أخيه قال لها يا أم الرشيد أمر سبق وقضاء حم وغضب من الله نفذ قالت يا أمير المؤمنين يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب قال صدقت فهذا مما لم يمحه الله فقالت الغيب محجوب عن النبيين فكيف عنك يا أمير المؤمنين فأطرق الرشيد مليا ثم قال

( وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع ) فقالت بغير روية ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين وقد قال الأول
( وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... دخرا يكون كصالح الأعمال )
هذا بعد قول الله عز و جل ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) فأطرق هرون مليا ثم قال يا أم الرشيد أقول
( إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل ) فقالت يا أمير المؤمنين وأقول
( ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني يمينك ... فانظر أي كف تبدل )
قال هرون رضيت قالت فهبه لي يا أمير المؤمنين فقد قال رسول الله من ترك شيئا لله لم يوجده الله لفقده فأكب هرون مليا ثم رفع رأسه يقول لله الأمر من قبل ومن بعد قالت يا أمير المؤمنين ( ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ) واذكر يا أمير المؤمنين أليتك ما استشفعت إلا شفعتني قال واذكري يا أم الرشيد أليتك أن لا شفعت لمقترف ذنبا فلما رأته صرح بمنعها ولاذ عن مطلبها أخرجت حقا من زمردة خضراء فوضعته بين يديه فقال الرشيد ما هذا ففتحت عنه قفلا من ذهب فأخرجت منه خفضته وذوائبه وثناياه قد غمست جميع ذلك في المسك فقالت يا أمير المؤمنين أستشفع إليك وأستعين بالله عليك

وبما صار معي من كريم جسدك وطيب جوارحك ليحيى عبدك فأخذ هرون ذلك فلثمه ثم استعبر وبكى بكاء شديدا وبكى أهل المجلس ومر البشير إلى يحيى وهو لا يظن إلا أن البكاء رحمة له ورجوع عنه فلما أفاق رمى جميع ذلك في الحق وقال لها لحسن ما حفظت الوديعة قالت وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين فسكت وأقفل الحق ودفعه إليها وقال ( إن الله يأمركم أن تودوا الأمانات إلى أهلها ) قالت والله يقول ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) ويقول ( وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ) ثم قال وما ذلك يا أم الرشيد قالت أو ما أقسمت لي به ألا تحجبني ولا تمتهنني قال أحب يا أم الرشيد أن نشتريه محكمة فيه قالت أنصفت يا أمير المؤمنين وقد فعلت غير مستقيلة لك ولا راجعة عنك قال بكم قالت برضاك عمن لم يسخطك قال يا أم الرشيد أما لي عليك من الحق مثل الذي لهم قالت بلي يا أمير المؤمنين أنت أعز على وهم أحب إلى قال فتحكمي في تمنية بغيرهم قالت بلي قد وهبتكه وجعلتك في حل منه وقامت عنه وبقى مبهوتا ما يحير لفظه
81 -

خطبة يزيد بن مزيد الشيباني
لما رضي الرشيد عن يزيد بن مزيد أذن له بالدخول عليه فلما مثل بين يديه قال يا أمير المؤمنين الحمد لله الذى سهل لي سبيل الكرامة بلقائك ورد علي

النعمة بوجه الرضا منك وكشف عنى ضبابة الكرب بإفضالك وجزاك الله يا أمير المؤمنين في حال سخطك جزاء المحسنين المراقبين وفي حال رضاك جزاء المنعمين الممتنين المتطولين فقد جعلك الله وله الحمد تثبت تحرجا عند الغضب وتمتن تطولا بالنعم وتستبقى المعروف عند الصنائع تفضلا بالعفو
82 - خطبة عبد الملك بن صالح توفى سنة 196ه
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ( أفلا يتدبرون القران أم على قلوب أقفالها ) يأهل الشأم إن الله وصف إخوانكم في الدين وأشباهكم في الأجسام فحذرهم نبيه محمدا فقال ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ) فقاتلكم الله أني تصرفون جثث ماثلة وقلوب طائرة تشبون الفتن وتولون الدبر إلا عن حرم الله فإنه دريئتكم وحرم رسوله فإنه مغزاكم أما وحرمة النبوة والخلافة لتنفرن خفافا وثقالا أو لأوسعنكم إرغاما ونكالا )

83 -

عبد الملك بن صالح يعزي الرشيد ويهنئه
ودخل عبد الملك بن صالح دار الرشيد فقال له الحاجب إن أمير المؤمنين قد أصيب الليلة بابن له وولد له اخر فلما دخل عليه قال سرك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك ولا سياءك فيما سرك وجعل هذه بهذه مثوبة على الصبر وجزاء على الشكر
84 -
غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح
ونصب له ابنه عبد الرحمن وكاتبه قمامة فسعيا به إلى الرشيد وقالا له إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها فأخذه وحبسه عند الفضل بن الربيع وذكروا أنه أدخل على الرشيد حين سخط عليه فقال له الرشيد أكفرا بالنعمة وجحودا لجليل المنة والتكرمة فقال يا أمير المؤمنين لقد بؤت إذن بالندم وتعرضت لاستحلال النقم وما ذاك إلا بغى حاسد نافسنى فيك مودة القرابة وتقديم الولاية إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله في أمته وأمينه على عترته لك عليها فرض الطاعة وأداء النصيحة ولها عليك العدل في حكمها والتثبت في حادثها والغفران لذنوبها فقال له الرشيد أتضع لي من لسانك وترفع لى من جنانك هذا ماكاتبك قمامة يخبر بغلك وفساد نيتك فاسمع كلامه فقال عبد الملك أعطاك ما ليس في عقده ولعله لا يقدر أن يعضهنى ولا يبهتنى بما لم يعرفه منى وأحضر قمامة فقال له الرشيد تكلم غير هائب ولا خائف قال أقول إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك

فقال عبد الملك أهو كذاك يا قمامة قال قمامة نعم لقد أردت ختل أمير المؤمنين فقال عبد الملك وكيف لا يكذب علي من خلفي وهو يبهتني في وجهي فقال له الرشيد وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرنى بعتوك وفساد نيتك ولو أردت أن أحتج عليك بحجة لم أجد أعدل من هذين لك فبم تدفعهما عنك فقال عبد الملك هو مأمور أو عاق مجبور فإن كان مأمورا فمعذور وإن كان عاقا ففاجر كفور أخبر الله عز و جل بعدواته وحذر منه بقوله ( إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ) فنهض الرشيد وهو يقول أما أمرك فقد وضح ولكني لا أعجل حتى أعلم الذى يرضى الله فيك فإنه الحكم بينى وبينك فقال عبد الملك رضيت بالله حكما وبأمير المؤمنين حاكما فإنى أعلم أنه يؤثر كتاب الله على هواه وأمر الله على رضاه
فلما كان بعد ذلك جلس مجلسا اخر فسلم لما دخل فلم يرد عليه فقال عبد الملك ليس هذا يوما أحتج فيه ولا أجاذب منازعا وخصما قال ولم قال لأن أوله جرى على غير السنة فأنا أخاف اخره قال وما ذاك قال لم ترد على السلام أنصف نصفة العوام قال السلام عليكم اقتداء بالسنة وإيثارا للعدل واستعمالا للتحية ثم التفت نحو سليمان بن أبى جعفر فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك
( أريد حياته ويريد قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد )
ثم قال أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع وعارضها قد لمع

وكأنى بالوعيد قد أورى نارا تسطع فأقلع عن براجم بلا معاصم ورءوس بلا غاصم فمهلا مهلا فبى والله سهل لكم الوعر وصفا لكم الكدر وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها فنذار لكم نذار قبل حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل فقال عبد الملك اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك وفي رعيته التي استرعاك ولا تجعل الكفر مكان الشكر ولا العقاب موضع الثواب فقد تخلت النصيحة ومحضت لك الطاعة وشددت أواخى ملكك بأثقل من ركنى يلملم وتركت عدوك مشتغلا فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن بللته بظن أفصح الكتاب لى بعضهه أو ببغى باغ ينهس اللحم ويالغ الدم فقد والله سهلت لك الوعور وذللت الأمور وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور فكم من ليل تمام فيك كابدته ومقام ضيق لك قمته كنت فيه كما قال أخو بني جعفر بن كلاب
( ومقام ضيق فرجته ... ببنانى ولساني وجدل )
( لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي وزحل )
فقال له الرشيد أما والله لولا الإبقاء على بنى هاشم لضربت عنقك

ولم يزل عبد الملك محبوسا حتى توفى الرشيد فأطلقه محمد الأمين وعقد له على الشام
85 -

قوله بعد خروجه من السجن
ولما خرج من السجن وذكر الرشيد وفعله به قال
والله إن الملك لشيء مانويته ولا تمنيته ولا نصبت له ولا أردته ولو أردته لكان إلي أسرع من الماء إلى الحدور ومن النار إلى يبس العرفج وإني لمأخوذ بما لم أجن ومسئول عما لا أعرف ولكنه حين رآني للملك قمينا وللخلافة خطيرا ورأى لي يدا تنالها إذا مدت وتبلغها إذا بسطت ونفسا تكمل لخصالها وتستحقها بفعالها وإن كنت لم أختر تلك الخصال ولم أصطنع تلك الفعال ولم أترشح لها في السر ولا أشرت إليها في الجهر وراها تحن إلى حنين الوالدة الوالهة وتميل إلى ميل الهلوك وخاف أن ترغب إلى خير مرغب وتنزع إلى أخصب منزع عاقبني عقاب من سهر في طلبها وجهد في التماسها فإن كان إنما حبسنى على أني أصلح لها وتصلح لى وأليق بها وتليق بي فليس ذلك بذنب جنيته فأتوب منه ولا تطاولت له فأحط نفسي عنه وإن زعم أنه لاصرف لعقابه ولا نجاة من عذابه إلا بأن أخرج له من جد العلم والحلم والحزم فكما لا يستطيع المضياع أن يكون مصلحا كذلك لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلا

وسواء عليه أعاقبني على علمي وحلمي أم عاقبنى على نسبي وسني وسواء عليه عاقبني على جمالي أم عاقبني على محبة الناس لى ولو أردتها لأعجلته عن التفكير وشغلته عن التدبير ولما كان فيها من الخطب إلا اليسير
86 -

وصية عبد الملك بن صالح لابنه
أوصى عبد الملك بن صالح ابنا له فقال
أى بنى احلم فإن من حلم ساد ومن تفهم ازداد والق أهل الخير فإن لقاءهم عمارة للقلوب ولا تجمح بك مطية اللجاج وفيك من أعتبك والصاحب المناسب لك والصبر على المكروه يعصم القلب المزاح يورث الضغائن وحسن التدبير مع الكفاف خير من الكثير مع الإسراف والاقتصاد يثمر القليل والإسراف يبير الكثير ونعم الحظ القناعة وشر ماصحب المرء الحسد وما كل عورة تصاب وربما أبصر العمي رشده وأخطأ البصير قصده واليأس خير من الطلب إلى الناس والعفة مع الحرفة خير من الغنى مع الفجور ارفق في الطلب وأجمل في المكسب فإنه رب طلب قد جر إلى حرب ليس كل طالب بمنجح ولا كل ملح بمحتاج والمغبون من غبن نصيبه من الله عاتب من رجوت عتباه وفاكه من أمنت بلواه لاتكن مضحاكا من غير عجب ولا مشاء إلى غير أرب ومن نأى عن الحق أضاق مذهبه ومن اقتصر على حاله كان أنعم لباله لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك فإنه إنما سعى في مضرته ونفعك وعود نفسك السماح وتخير لها من كل خلق أحسنه فإن الخير عادة والشر لجاجة والصدود اية المقت والتعلل اية البخل ومن الفقه كتمان السر ولقاح المعرفة

دراسة العلم وطول التجارب زيادة في العقل والقناعة راحة الأبدان والشرف التقوى والبلاغة معرفة رتق الكلام وفتقه بالعقل تستخرج الحكمة وبالحلم يستخرج غور العقل ومن شمر في الأمور ركب البحور شر القول ما نقض بعضه بعضا ومن سعى بالنميمة حذره البعيد ومقته القريب من أطال النظر بإرادة تامة أدرك الغاية ومن توانى في نفسه ضاع من أسرف في الأمور انتشرت عليه ومن اقتصد اجتمعت له واللجاجة تورث الضياع للأمور غب الأدب أحمد من ابتدائه مبادرة الفهم تورث النسيان سوء الاستماع يعقب العي لا تحدث من لا يقبل بوجهه عليك ولا تنصت لمن لا ينمى بحديثه إليك البلادة للرجل هجنة قل مالك إلا استأثر وقل عاجز إلا تأخر الإحجام عن الأمور يورث العجز والإقدام عليها يورث اجتلاب الحظ سوء الطعمة يفسد العرض ويخلق الوجه ويمحق الدين الهيبة قرين الحرمان والجسارة قرين الظفر وفيك من أنصفك وأخوك من عاتبك وشريكك من وفى لك وصفيك من اثرك أعدى الأعداء العقوق اتباع الشهوة يورث الندامة وفوت الفرصة يورث الحسرة جميع أركان الأدب التأنى للرفق أكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لا تجد بما تبذل من دينك ونفسك عوضا لا تساعد النساء فيمللنك واستبق من نفسك بقية فإنهن أن يرين أنك ذو اقتدار خير من أن يطلعن منك على انكسار لا تملك المرأة الشفاعة لغيرها فتميل من شفعت لها عليك معها أى بنى إنى قد احترت لك الوصية ومحضتك النصيحة وأديت الحق إلى الله في تأديبك فلا تغفلن الأخذ بأحسنها والعمل بها والله موفقك

87 -

وصية أخرى له
عن يزيد بن عقال قال
وصى عبد الملك بن صالح ابنه وهو أمير سرية ونحن ببلاد الروم فقال له
أنت تاجر الله لعباده فكن كالمضارب الكيس الذى إن وجد ربحا تجر وإلا احتفظ برأس المال ولا تطلب الغنيمة حتى تحوز السلامة وكن من اجتيالك على عدوك أشد خوفا من احتيال عدوك عليك
88 -
كلمات حكيمة لابن السماك
وقال محمد بن صبح المعروف بابن السماك
خير الإخوان أقلهم مصانعة في النصيحة وخير الأعمال أحلاها عاقبة وخير الثناء ما كان على أفواه الأخيار وأشرف السلطان مالم يخالطه البطر وأغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيرا وخير الإخوان من لم يخاصم وخير الأخلاق أعونها على الورع وإنما يختبر ذل الرجال عند الفاقة والحاجة
89 -
ابن السماك والرشيد
وذكر محمد بن هرون عن أبيه قال حضرت الرشيد وقال له الفضل بن الربيع يا أمير المؤمنين قد أحضرت ابن السماك كما أمرتنى قال أدخله فدخل فقال له

عظنى قال يا أمير المؤمنين اتق الله وحده لا شريك له واعلم أنك واقف غدا بين يدى الله ربك ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما جنة أو نار فبكى هرون حتى اخضلت لحيته فأقبل الفضل على ابن السماك فقال سبحان الله وهل يتخالج أحدا شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله لقيامه بحق الله وعدله في عباده وفضله فلم يحفل بذلك ابن السماك من قوله ولم يلتفت إليه وأقبل على أمير المؤمنين فقال يا أمير المؤمنين إن هذا يعنى الفضل بن الربيع ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم فاتق الله وانظر لنفسك فبكى هرون حتى أشفقنا عليه وأفحم الفضل بن الربيع فلم ينطق بحرف حتى خرجنا
قال ودخل ابن السماك على الرشيد يوما فبينا هو عنده إذ استسقى ماء فأتى بقلة من ماء فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها قال له ابن السماك على رسلك يا أمير المؤمنين بقرابتك من رسول الله لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشريها قال بنصف ملكي قال اشرب هنأك الله فلما شربها قال له أسألك بقرابتك من رسول الله لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها قال بجميع ملكى قال ابن السماك إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير ألا ينافس فيه فبكى هرون فأشار الفضل بن الربيع إلى ابن السماك بالانصراف فانصرف

الفتنة بين الأمين والمأمون وفد الأمين إلى المأمون
لما عزم محمد الأمين على خلع أخيه عبد الله المأمون من ولاية العهد كتب إليه كتابا يستقدمه ويحبب أن يكون بقربه وكان المأمون على خراسان ودفع الكتاب إلى العباس بن موسى وإلى عيسى بن جعفر وإلى محمد بن عيسى بن نهيك وإلى صالح صاحب المصلى وأمرهم أن يتوجهوا به إلى المأمون وألا يدعوا وجها من اللين والرفق إلا بلغوه وسهلوا الأمر عليه وذلك سنة 194ه فتوجهوا بكتابه فلما وصلوا إلى المأمون أذن لهم فدفعوا إليه الكتاب ثم تكلم العباس بن موسى
90 -
خطبة العباس بن موسى
حمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الأمير إن أخاك قد تحمل من الخلافة ثقلا عظيما ومن النظر في أمور الناس عبئا جليلا وقد صدقت نيته في الخير فأعوزه الوزراء والأعوان والكفاة علىالعدل وقليل ما يأنس بأهل بيته وأنت أخوه

وشقيقه وقد فزع إليك في أموره وأملك للموازرة والمكانفة ولسنا نستبطئك في بره اتهاما لنصرك له ولا نحضك على طاعة تخوفا لخلافك عليه وفي قدومك عليه أنس عظيم وصلاح لدولته وسلطانه فأجب أيها الأمير دعوة أخيك وآثر طاعته وأعنه على ما استعانك عليه في أمره فإن في ذلك قضاء الحق وصلة الرحم وصلاح الدولة وعز الخلافة عزم الله للأمير على الرشد في أموره وجعل له الخيرة والصلاح في عواقب رأيه
91 -

خطبة عيسى بن جعفر
وتكلم عيسى بن جعفر بن أبي جعفر فقال
إن الإكثار على الأمير الله الله في القول خرق والاقتصار في تعريفه ما يجب من حق أمير المؤمنين تقصير وقد غاب الأمير أكرمه الله عن أمير المؤمنين ولم يستغن عن قربه من شهد غيره من أهل بيته ولا يجد عنده غنى ولا يجد منه خلفا ولا عوضا والأمير أولى من بر أخاه وأطاع إمامه فليعمل الأمير فيما كتب به إليه أمير المؤمنين بما هو أرضى وأقرب من موافقة أمير المؤمنين ومحبته فإن القدوم عليه فضل وحظ عظيم والإبطاء عنه وكف في الدين وضرر ومكروه على المسلمين
92 -
خطبة محمد بن عيسى بن نهيك
وتكلم محمد بن عيسى بن نهيك فقال
أيها الأمير إنا لا نزيدك بالإكثار والتطويل فيما أنت عليه من المعرفة بحق أمير المؤمنين ولا نشحذ نيتك بالأساطير والخطب فيما يلزمك من النظر والعناية

بأمور المسلمين وقد أعوز أمير المؤمنين الكفاة والنصحاء بحضرته وتناولك فزعا إليك في المعونة والتقوية له على أمره فإن تجب أمير المؤمنين فما دعاك إليه فنعمة عظيمة يتلافى بها رعيتك وأهل بيتك وإن تقعد يغن الله أمير المؤمنين عنك ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البر بك والاعتماد على طاعتك ونصيحتك
93 -

خطبة صالح صاحب
المصلى
وتكلم صالح صاحب المصلى فقال
أيها الأمير إن الخلافة ثقيلة والأعوان قليل ومن يكيد هذه الدولة وينطوى على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل الخلاف والمعصية كثير وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه إذ أنت ولى عهده والمشارك في سلطانه وولايته وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أموره وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة وأنس وسكون لأهل الملة والذمة وفق الله الأمير في أموره وقضى له بالذى هو أحب إليه وانفع له
94 -
خطبة
المأمون
فحمد الله المأمون وأثنى عليه ثم قال
قد عرفتمونى من حق أمير المؤمنين أكرمه الله مالا أنكره ودعوتمونى من الموازرة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم والمسارعة إلى ماسره ووافقه حريص وفي الروية تبيان الرأى وفي إعمال الرأى نصح الاعتزام والأمر الذى دعانى إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تتبطا ومدافعة ولا أتقدم عليه

اعتسافا وعجلة وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوه شديد شوكته وإن أهملت أمره لم امن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية وإن أقمت عليه لم امن فوت ما أحب من معونة أمير المؤمنين وموازرته وإيثار طاعته فانصرفوا حتى أنظر في أمري ويصح الرأى فيما أعتزم عليه من مسيرى إن شاء الله
ثم بعث معهم بكتاب إلىالأمين يسأله أن يعفيه من الشخوص إليه وأن يقره على عمله إذ يرى أن ذلك أعظم غناء على المسلمين
95 -

وصية السيدة زبيدة لعلي بن عيسى بن ماهان
ونمى الشر بين الأخوين واستطار شرره وبعث الأمين جيشا كثيفا بقيادة علي بن عيسى بن ماهان لحرب المأمون وأعد المأمون للقائه جيشا بقيادة طاهر بن الحسين فلما أراد على الشخوص إلى خراسان ركب إلى باب السيدة زبيدة والدة الأمين فودعها فقالت له
يا علي إن أمير المؤمنين وإن كان ولدى إليه تناهت شفقتى وعليه تكامل حذرى فإنى على عبد الله منعطفه مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى وإنما ابني ملك نافس أخاه في سلطانه وغاراه على ما في يده والكريم يؤكل لحمه ويميته غيره فاعرف لعبد الله حق والده وأخوته ولا تجبهه بالكلام فإنك لست نظيره ولا تقتسره اقتسار العبيد ولا ترهنه بقيد ولا غل ولا تمنع منه جارية ولا خادما ولا تعنف عليه في السير ولا تساوره في المسير ولا تركب قبله

ولا تستقل على دابتك حتى تأخذ بركابه وإن شتمك فاحتمل منه وإن سفه عليك فلا تراده
ثم دفعت إليه قيدا من فضة وقالت إن صار في يدك فقيده بهذا القيد فقال لها سأقبل أمرك وأعمل في ذلك بطاعتك
96 -

وصية الأمين لابن ماهان
وخرج علي بن عيسى بن ماهان من بغداد في 7 من شعبان سنة 195ه وخرج معه الأمين يشيعه وأقبل يوصيه فقال
امنع جندك من العبث بالرعية والغارة على أهل القرى وقطع الشجر وانتهاك النساء وول الرى يحيى بن علي واضمم إليه جندا كثيفا ومره ليدفع إلى جنده أرزاقهم مما يجىء من خراجها وول كل كورة ترحل عنها رجلا من أصحابك ومن خرج إليك من جند أهل خراسان ووجوهها فأظهر إكرامه وأحسن جائزته ولا تعاقب أخا بأخيه وضع عن أهل خراسان ربع الخراج ولا تأمن أحدا رماك بسهم أو طعن في أصحابك برمح ولا تأذن لعبد الله في المقام أكثر من ثلاثة أيام من اليوم الذى تظهر فيه عليه فإذا أشخصته فليكن مع أوثق أصحابك عندك فإن غره الشيطان فناصبك فاحرص على أن تأسره أسرا وإن هرب منك إلى بعض كور خراسان فتول إليه المسير بنفسك أفهمت كل ما أوصيك به قال نعم أصاح الله أمير المؤمنين قال سر على بركة الله وعونه

97 -

استهانة ابن ماهان بأمر طاهر بن الحسين
وخرج ابن ماهان فلما جاز حلوان لقيته القوافل من خراسان فكان يسألها عن الأخبار فيقال له إن طاهرا مقيم بالرى يعرض أصحابه ويرم الته فيضحك ثم يقول
وما طاهر فوالله ما هو إلا شوكة من أغصاني أو شرارة من ناري وما مثل طاهر يتولى على الجيوش ويلقى الحروب ثم التفت إلى أصحابه فقال والله ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان فإن السخال لا تقوى على نطاح الكباش والثعالب لا صبر لها على لقاء الأسد فإن يقم طاهر بموضعه يكن أول معرض لظبات السيوف وأسنة الرماح
وسار حتى صار في أول بلاد الرى وأتاه صاحب مقدمته وقال لو كنت أبقى الله الأمير أذ كيت العيون وبعثت الطلائع وارتدت موضعا تعسكر فيه وتتخذ خندقا لأصحابك يأمنون به كان ذلك أبلغ في الرأى وآنس للجند
قال لا ليس مثل طاهر يستعد له بالمكايد والتحفظ إن حال طاهر تئول إلى أحد أمرين إما أن يتحصن بالرى فيبهته أهلها فيكفونا مئونته أويخليها ويدبر راجعا لو قربت خيولنا وعساكرنا منه
وأتاه يحيى بن على فقال اجمع متفرق العسكر واحذر على جندك البيات ولا تسرح الخيل إلا ومعها كثف من القوم فإن العساكر لا تساس بالتواني

والحروب لا تدبر بالاغترار والثقة أن تحترز ولا تقل المحارب لى طاهر فالشرارة الخفية ربما صارت ضراما والثلمة من السيل ربما اغتر بها وتهون فصارت بحرا عظيما وقد قربت عساكرنا من طاهر فلو كان رأيه الهرب لم يتأخر إلى يومه هذا
قال اسكت فإن طاهرا ليس في هذا الموضع الذى ترى وإنما يتحفظ الرجال إذا لقيت أقرانها وتستعد إذا كان المناوى لها أكفاءها ونظراءها
98 -

حزم طاهر وقوة عزمه
وعسكر طاهر على خمسة فراسخ من الري وأتاه محمد بن العلاء فقال أيها الأمير إن جندك قد هابوا هذا الجيش وامتلأت قلوبهم خوفا ورعبا منه فلو أقمت بمكانك ودافعت القتال إلى أن يشامهم أصحابك ويأنسوا بهم ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم فقال
لا إني لا أوتي من قلة تجربة وحزم إن أصحابى قليل والقوم عظيم سوادهم كثير عددهم فإن دافعت القتال وأخرت المناجزة لم امن أن يطلعوا على قلتنا وعورتنا وأن يستميلوا من معى برغبة أو رهبة فينفر عنى أكثر أصحابي ويخذلنى أهل الحفاظ والصبر ولكن ألف الرجال بالرجال وألحم الخيل بالخيل وأعتمد على الطاعة والوفاء وأصبر صبر محتسب للخير حريص على الفوز بفضل الشهادة فإن

يرزق الله الظفر والفلج فذلك الذي نريد ونرجو وإن تكن الأخرى فلست أول من قاتل فقتل وما عند الله أجزل وأفضل
99 -

طاهر يشد عزيمة جنده
وكتب طاهر بن الحسين كتائبه وكردس كراديسه وسوى صفوفه وجعل يمر بقائد قائد وجماعة جماعة فيقول
يا أولياء الله وأهل الوفاء والشكر إنكم لستم كهؤلاء الذين ترون من أهل النكث والغدر إن هؤلاء ضيعوا ما حفظتم وصغروا ما عظمتم ونكثوا الأيمان التي رعيتم وإنما يطلبون الباطل ويقاتلون على الغدر والجهل أصحاب سلب ونهب فلو قد غضضتم الأبصار وأثبتم الأقدام قد أنجز الله وعده وفتح عليكم أبواب عزه ونصره فجالدوا طواغيت الفتنة ويعاسيب النار عن دينكم ودافعوا بحقكم باطلهم فإنما هى ساعة واحدة حتى يحكم الله بينكم وهو خير الحاكمين
ونشب القتال بين الفريقين ودارت الدائرة على جيش ابن ماهان وقتل
ووجه الأمين بعد ذلك لحرب طاهر جيشا بقيادة عبد الرحمن بن جبلة فهزم وقتل أيضا

100 -

وصف الفضل بن الربيع غفلة الأمين وندب أسد بن يزيد بن مزيد لقتال طاهر
وبعث الفضل بن الربيع بعد مقتل عبد الرحمن بن جبلة إلى أسد بن يزيد بن مزيد قال فأتيته فلما دخلت عليه وجدته قاعدا في صحن داره وفي يده رقعة قد قرأها واحمرت عيناه واشتد غضبه وهو يقول
ينام نوم الظربان وينتبه انتباه الذئب همته بطنه ولذته فرجه لايفكر في زوال نعمته ولا يروى في إمضاء رأي ولا مكيدة قد ألهاه كأسه وشغله قدحه فهو يجرى في لهوه والأيام تسرع في هلاكه قد شمر عبد الله له عن ساقه وفوق له أصيب أسهمه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد قد عبى له المنايا على متون الخيل وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف
ثم استرجع وتمثل بأبيات للبعيث ثم التفت إلى فقال
يا أبا الحارث إنا وإياك لنجرى إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا وإنما نحن شعب من أصل إن قوى قوينا وإن ضعف ضعفنا إن هذا قد ألقى بيده إلقاء الأمة الو كفاء يشاور النساء ويعتمد على الرؤيا وقد أمكن أهل اللهو والخسارة من سمعه فهم يعدونه الظفر ويمنونه عقب الأيام

والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل وقد خشيت والله أن تهلك بهلاكه ونعطب بعطبه
وأنت فارس العرب وابن فارسها وقد فزع إليك في لقاء هذا الرجل طاهر وأطمعه فيما قبلك أمران أما أحدهما فصدق طاعتك وفضل نصيحتك والثاني يمن نقيبتك وشدة بأسك وقد أمرنى بإزاحة علتك وبسط يدك فيما أحببت غير أن الاقتصاد رأس النصيحة ومفتاح اليمن والبركة فأنجز حوائجك وعجل المبادرة إلى عدوك فإني أرجو أن يوليك الله شرف الفتح ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة
فأجاب بالسمع والطاعة غير أنه طلب مطالب لم ترق في عين الأمين فغضب عليه وأمر بسجنه
101 -

وصية الأمين لأحمد بن مزيد
ثم ندب عمة أحمد بن مزيد فلما أراد الشخوص دخل على الأمين فقال أوصنى أكرم الله أمير المؤمنين فقال
أوصيك بخصال عدة إياك والبغى فإنه عقال النصر ولا تقدم رجلا إلا باستخارة ولا تشهر سيفا إلا بعد إعذار ومهما قدرت عليه باللين فلا تتعده إلى الخرق والشره وأحسن صحابة من معك من الجند وطالعني بأخبارك في كل يوم ولاتخاطر بنفسك في طلب الزلفة عندى ولا تستقها فيما تخوف رجوعه علي وكن لعبد الله أخا مصافيا وقرينا برا وأحسن مجامعته وصحبته ومعاشرته ولا تخذله إن استنصرك ولا تبطىء عنه إذا استصرخك ولتكن أيديكما واحدة وكلمتكما متفقة

وتوجه أحمد بن مزيد في عشرين ألفا من الأعراب وعبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفا من الأبناء حتى نزلا خانقين قريبا من حلوان ولم يزل طاهر يحتال في وقوع الاختلاف والشغب بينهم حتى اختلفوا وانتقض أمرهم وقاتل بعضهم بعضا فأخلوا خانقين ورجعوا عنها دون أن يلقوا طاهرا
102 -

مقال عبد الملك بن صالح للأمين
وكان عبد الملك بن صالح يشكر للأمين تخلية سبيله ويوجب بذلك على نفسه طاعته ونصيحته فلما قوى طاهر واستعلى أمره وهزم من هزم من قواد الأمين وجيوشه دخل عبد الملك على الأمين فقال
يا أمير المؤمنين إنى أرى الناس قد طمعوا فيك وأهل العسكرين قد اعتمدوا ذلك وقد بذلت سماحتك فإن تممت على أمرك أفسدتهم وأبطرتهم وإن كففت أمرك عن العطاء والبذل أسخطتهم وأغضبتهم وليس تملك الجنود بالإمساك ولا يبقى ثبوت الأموال على الإنفاق والسرف ومع هذا فإن جندك قد رعبتهم الهزائم ونهكتهم وأضعفتهم الحرب والوقائع وامتلأت قلوبهم هبية لعدوهم ونكولا عن لقائهم ومناهضتهم فإن سيرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم وأهل الشأم قوم قد ضرستهم الحروب وأدبتهم الشدائد وجلهم منقاد إلى مسارع إلى طاعتى فإن وجهنى أمير المؤمنين اتخذت له منهم جندا يعظم نكايتهم في عدوه ويؤيد الله بهم أولياءه وأهل طاعته
فقال الأمين فإني موليك أمرهم ومقويك بما سألت من مال وعدة فعجل

الشخوص إلى ما هنالك فاعمل عملا يظهر أثره ويحمد بركته برأيك ونظرك فيه إن شاء الله فولاه الشام والجزيرة
103 -

الشغب في جيش عبد الملك بن صالح
وسار عبد الملك بن صالح فلما قدم الرقة كتب إلى رؤساء أجناد الشأم ووجوه الجزيرة فلم يبق أحد ممن يرجى ويذكر بأسه وغناؤه إلا وعده وبسط له في أمله وأمنيته فقدموا عليه رئيسا بعد رئيس وجماعة بعد جماعة فكان لا يدخل عليه أحد إلا أجازه وخلع عليه وحمله فأتاه أهل الشأم الزواقيل والأعراب من كل فج واجتمعوا عنده حتى كثروا بيد أنه شبت نار الفتنة بين جند أهل خراسان وبين الزواقيل وأفضى الأمر إلى تلاحمهم واقتتالهم ثم قام رجل من أهل حمص فقال
يأهل حمص الهرب أهون من العطب والموت أهون من الذل إنكم بعدتم عن بلادكم وخرجتم من أقاليمكم ترجون الكثرة بعد القلة والعزة بعد الذلة ألا وفي الشر وقعتم وإلى حومة الموت أنختم إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم النفير النفير قبل أن ينقطع السبيل وينزل الأمر الجليل ويفوت المطلب ويعسر المذهب ويبعد العمل ويقترب الأجل
وقام رجل من كلب فقال
يا معشر كلب إنها الراية السوداء والله ماولت ولاعدلت ولا ذل

نصرها ولا ضعف وليها وإنكم لتعرفون مواقع سيوف أهل خراسان في رقابكم واثار أسنتهم في صدوركم اعتزلوا الشر قبل أن يعظم وتخطوه قبل أن يضطرم شأمكم داركم داركم الموت الفلسطينى خير من العيش الجزرى ألا وإنى راجع فمن أراد الانصراف فلينصرف معى
ثم سار وسار معه عامة أهل الشأم وأقبلت الزواقيل حتى أضرموا ما كان جمع من الأعلاف بالنار وكان ذلك في سنة 196ه
104 -

خطبة الحسين بن على بن عيسى بن ماهان يدعو إلى خلع الأمين
ومات عبد الملك بن صالح بالرقة وكان معه الحسين بن على بن عيسى بن ماهان فأقفل الجند من الجزيرة إلىبغداد فتلقاه أهلها بالتكرمة والتعظيم وضربوا له القباب واستقبله القواد والرؤساء والأشراف ثم اجتمع إليه الناس فقام فيهم فقال
يا معشر الأبناء إن خلافة الله لا تجاوز بالبطر ونعمة لا تستصحب بالتجبر والتكبر وإن محمدا يريد أن يوتغ أديانكم وينكث بيعتكم ويفرق جمعكم وينقل عزكم إلى غيركم وهو صاحب الزواقيل بالأمس وبالله إن طالت به مدة وراجعه من أمره قوة ليرجعن وبال ذلك عليكم وليعرفن ضرره ومكروهه في دولتكم ودعوتكم فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم فوالله لا ينصره منكم ناصر إلا خذل ولا يمنعه مانع إلا قتل وما عند الله لأحد هوادة ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده والحنث بأيمانه
وخلع الحسين بن على محمدا الأمين وحبسه وأخذ البيعة لعبد الله المأمون

105 -

خطبة محمد بن أبي خالد في فض الناس عن اتباع الحسين بن على بن عيسى
فلما أصبح الناس من الغد طلبوا من الحسين بن علي الأرزاق وماج الناس بعضهم في بعض وقام محمد بن أبي خالد فقال
أيها الناس والله ما أدري بأي سبب يتأمر الحسين بن علي علينا ويتولى هذا الأمر دوننا ما هو بأكبرنا سنا ولا أكرمنا حسبا ولا أعظمنا منزلة وإن فينا من لا يرضى بالدنية ولا يقاد بالمخادعة وإني أولكم نقض عهده وأظهر التغيير عليه والإنكار لفعله فمن كان رأيه رأيي فليعتزل معى
106 -
إطلاق الأمين من سجنه ورده إلى مجلس الخلافة
وقام أسد الحربى فقال يا معشر الحربية هذا يوم له ما بعده إنكم قد نمتم وطال نومكم وتأخرتم فقدم عليكم غيركم وقد ذهب أقوام بذكر خلع محمد وأسره فاذهبوا بذكر فكه وإطلاقه
فأقبل شيخ كبير من أبناء الكفاية على فرس فصاح بالناس اسكتوا فسكتوا فقال
أيها الناس هل تعتدون على محمد بقطع منه لأرزاقكم قالوا لا قال فهل قصر بأحد منكم أو من رؤسائكم وكبرائكم قالوا ما علمنا قال فهل عزل أحدا من قوادكم قالوا معاذ الله أن يكون فعل ذلك قال فما بالكم خذلتموه وأعنتم عدوه على اضطهاده وأسره أما والله ما قتل قوم خليفتهم قط إلا سلط الله عليهم السيف القاتل والحتف الجارف انهضوا إلى خليفتكم وادفعوا عنه وقاتلوا من أراد خلعه والفتك به

فنهضوا معه وقاتلوا الحسين بن على وأصحابه قتالا شديدا وأكثروا في أصحابه الجراح وأسروا الحسين ودخل أسد الحربي على محمد فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة وأتى الأمين بالحسين بن على فلامه على خلافه وقال له ألم أقدم أباك على الناس وأوله أعنة الخيل وأملأ يده من الأموال وأشرف أقداركم في أهل خراسان وأرفع منازلكم على غيركم من القواد قال بلى قال فما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي وتؤلب الناس علي وتندبهم إلى قتالي قال الثقة بعفو أمير المؤمنين وحسن الظن بصفحه وتفضله قال فإن أمير المؤمنين قد فعل ذلك بك وولاك الطلب بثأرك ومن قتل من أهل بيتك ثم دعا له بخلعة فجعلها عليه وحمله على مراكب وأمره بالمسير إلى حلوان وخرج الحسين فهرب في نفر من خدمه ومواليه فنادى محمد في الناس فركبوا في طلبه فأدركوه وقتلوه
107 -

خطبة داود بن عيسى يدعو إلى خلع الأمين
وقام داود بن عيسى وإلى مكة والمدينة وكان خطيبا فصيحا جهير الصوت يدعو إلى خلع الأمين ومبايعة المأمون فقال

الحمد لله مالك الملك يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالدين وختم به النبيين وجعله رحمة للعالمين صلى الله عليه في الأولين والاخرين
أما بعد يأهل مكة فأنتم الأصل والفرع والعشيرة والأسرة والشركاء في النعمة إلى بلدكم يفد وفد الله وإلى قبلتكم يأتم المسلمون وقد علمتم ما اخذ عليكم الرشيد هرون رحمه الله عليه وصلاته حين بايع لابنيه محمد وعبد الله بين أظهركم من العهد والميثاق لتنصرن المظلوم منهما على الظالم والمبغى عليه على الباغى والمغدور به على الغادر ألا وقد علمتم وعلمنا أن محمد بن هرون قد بدأ بالظلم والبغى والغدر وخالف الشروط التي أعطاها من نفسه في بطن البيت الحرام وقد حل لنا ولكم خلعه من الخلافة وتصييرها إلى المظلوم المبغى عليه المغدور به ألا وإنى أشهدكم أنى قد خلعت محمد بن هرون من الخلافة كما خلعت قلنسوتى هذه من رأسى وخلع قلنسوته عن رأسه فرمى بها إلى بعض الخدم تحته وكانت من برود حبرة مسلسلة حمراء وأتى بقلنسوة سوداء هاشمية فلبسها ثم قال قد بايعت لعبد الله المأمون أمير المؤمنين بالخلافة ألا فقوموا إلى البيعة لخليفتكم فصعد جماعة من الوجوه إليه إلى المنبر رجل فرجل فبايعه لعبد الله المأمون بالخلافة وخلع محمدا

108 -

خطبة الأمين وقد تولى الأمر عنه
ولما رأى الأمين الأمر قد تولى عنه وأنصاره يتسللون فيخرجون إلى طاهر أمر بإحضار كل من كان معه في المدينة من القواد والجند فأشرف عليهم وقال
الحمد لله الذي يرفع ويضع ويعطي ويمنع ويقبض ويبسط وإليه المصير أحمده على نوائب الزمان وخذلان الأعوان وتشتت الرجال وذهاب الأموال وحلول النوائب وتوفد المصائب حمدا يدخر لى به أجزل الجزاء ويرفدنى أحسن العزاء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما شهد لنفسه وشهدت له ملائكته وأن محمدا عبده الأمين ورسوله إلى المسلمين آمين رب العالمين
أما بعد يا معشر الأبناء وأهل السبق إلى الهدى فقد علمتم غفلتى كانت أيام الفضل بن الربيع وزير على ومشير فمادت به الأيام بما لزمنى به من الندامة في الخاصة والعامة إلى أن نبهتمونى فانتبهت واستعنتمونى في جميع ما كرهتم من نفسي وفيكم فبذلت لكم ماحواه ملكى ونالته مقدرتى مما جمعته وورثته عن آبائى فقودت من لم يجز واستكفيت من لم يكف واجتهدت علم الله في طلب رضاكم بكل ما قدرت عليه واجتهدتم علم الله في مساءتى في كل يوم ماقدرتم عليه من ذلك توجيهي إليكم على بن عيسى شيخكم وكبيركم وأهل الرأفة بكم والتحنن عليكم فكان منكم ما يطول ذكره فغفرت الذنب وأحسنت واحتملت وعزيت نفسى عند معرفتى بشذوذ الظفر وحرصى على مقامكم مسلحة بحلوان مع ابن كبير صاحب دعوتكم ومن على يدي أبيه كان فخركم وبه تمت طاعتكم

عبد الله بن حميد بن قحطبة فصرتم من التألب عليه إلى مالا طاقة له به ولا صبر عليه يقودكم رجل منكم وأنتم عشرون ألفا إلى عامين وعلى سيدكم متوثبين مع سعيد الفرد سامعين له مطيعين ثم وثبتم مع الحسين على فخلعتموني وشتمتموني وانتهبتموني وحبستموني وقيدتموني وأشياء منعتموني من ذكرها حقد قلوبكم وتلكى طاعتكم أكبر وأكثر فالحمد لله حمد من أسلم لأمره ورضى بقدره والسلام
وكانت عاقبة أمره أن قتل سنة 198ه وحمل رأسه إلى المأمون بخراسان
109 -

استعطاف الفضل بن الربيع للمأمون
وقال المأمون للفضل بن الربيع لما ظفر به يا فضل أكان من حقى عليك وحق آبائى ونعمهم عند أبيك وعندك أن تثلبني وتسبني وتحرض على دمي أتحب أن أفعل بك ما فعلته بى
فقال يا أمير المؤمنين إن عذرى يحقدك إذا كان واضحا جميلا فكيف إذا حفته العيوب وقبحته الذنوب فلا يضيق عني من عفوك ما وسع غيري منك فأنت كما قال الشاعر فيك
( صفوح عن الأجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما )
( وليس ببالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما )

110 -

خطبة طاهر بن الحسين ببغداد بعد مقتل الأمين
ودخل طاهر بن الحسين بغداد يوم الجمعة بعد قتل الأمين فصلى بالناس وخطبهم خطبة بليغة وقد حضره من بنى هاشم والقواد وغيرهم جماعة كثيرة قال
الحمد لله مالك الملك يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير لا يصلح عمل المفسدين ولا يهدى كيد الخائنين إن ظهور غلبتنا لم يكن من أيدينا ولا كيدنا بل اختار الله للخلافة إذ جعلها عمادا لدينه وقواما لعباده وضبط الأطراف وسد الثغور وإعداد العدة وجمع الفىء وإنقاذ الحكم ونشر العدل وإحياء السنة بعد إذبال البطالات والتلذذ بمريق الشهوات والمخلد إلى الدنيا مستحسن لداعى غرورها محتلب درة نعمها ألف لزهرة روضتها كلف برونق بهجتها وقد رأيتم من وفاء موعود الله عز و جل لمن بغى عليه وما أحل به من بأسه ونقمته لما نكب عن عهده وارتكب معصيته وخالف أمره وغيره ناهية وعظته مؤدبة فتمسكوا بدقائق عصم الطاعة واسلكوا مناحى سبيل الجماعة واحذروا مصارع أهل الخلاف والمعصية الذين قدحوا زناد الفتنة وصدعوا شعب الألفة فأعقبهم الله خسار الدنيا والاخرة

خطب المأمون توفى سنة 218ه
111 -

خطبته وقد ورد عليه نعى الرشيد
خطب الناس بمرو حين ورد عيه نعى الرشيد فقال
إن ثمرة الصبر الأجر وثمرة الجزع الوزر والتسليم لأمر الله عز و جل فائدة جليلة وتجارة مربحة فالموت حوض مورود وكأس مشروب وقد أتى على خليفتكم ما أتى على نبيكم فإنا لله وإنا إليه راجعون فما كان إلا عبدا دعي فأجاب وأمر فأطاع وقد سد أمير المؤمنين ثلمه وقام مقامه وفي أعناقكم من العهد ما قد عرفتم فأحسنوا العزاء على إمامكم الماضى واغتبطوا بالنعماء والوفاء في خليفتكم الباقي بأهل الدنيا الموت نازل والأجل طالب وأمس واعظ واليوم مغتنم وغد منتظر
112 -
خطبته وقد سلم الناس عليه بالخلافه
ولما بلغه بخراسان قتل أخيه وأقبل الناس للتسليم عليه بالخلافة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال
أيها الناس إنى جعلت لله على نفسي إن استرعاني أموركم أن أطيعه فيكم ولا أسفك دما عمدا لا تحله حدوده وتسفكه فرائضه ولا اخذ لأحد مالا ولا أثاثا ولا نحلة تحرم على ولا أحكم بهواى في غضبى ولا رضاي إلا ما كان

في الله وله جعلت كله لله عهدا مؤكدا وميثاقا مشددا إنى أفي رغبة في زيادته إياى في نعمتى ورهبة من مسألته أياى عن حقه وخلقه فإن غيرت أو بدلت كنت للغير مستأهلا وللنكال معرضا وأعوذ بالله من سخطه وأرغب إليه في المعونة على طاعته وأن يحول بيني وبين معصيته
113 -

خطبته يوم الجمعه
الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه ومستوجبه علىخلقه أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أوصيكم عباد الله بتقوى الله وحده والعمل لما عنده والتنجز لوعده والخوف لوعيده فإنه لا يسلم إلا من اتقاه ورجاه وعمل له وأرضاه فاتقوا الله عباد الله وبادروا اجالكم بأعمالكم وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم وترحلوا فقد جد بكم واستعدوا للموت فقد أظلكم وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة الواحدة لجديرة بقصر المدة وإن غائبا يحدوه الجديدان الليل والنهار لحرى بسرعة الأوبة وإن قادما يحل بالفوز أو بالشقوة لمستحق لأفضل العدة فاتقى عبد ربه ونصح نفسه وقدم توبته وغلب شهوته فإن أجله مستور عنه وأمله خادع له والشيطان موكل به يزين له المعصية ليركبها ويمنيه التوبة ليسوفها حتى تهجم عليه منيته أغفل ما يكون عنها فيالها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة أو تؤديه أيامه إلى شقوة نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة

ولا تقصر به عن طاعته غفلة ولا تحل به بعد الموت فزعة إنه سميع الدعاء وبيده الخير وإنه فعال لمايريد
114 -

خطبته يوم الأضحى
قال بعد التكبير والتحميد إن يومكم هذا يوم أبان الله فضله وأوجب تشريفه وعظم حرمته ووفق له من خلقه صفوته وابتلى فيه خليله وفدى فيه من الذبح نبيه وجعله خاتم الأيام المعلومات من العشر ومتقدم الأيام المعدودات من النفر يوم حرام من أيام عظام في شهر حرام يوم الحج الأكبر يوم دعا الله إلى مشهده ونزل القرآن بتعظيمه قال الله جل وعز ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ) فتقربوا إلى الله في هذا اليوم بذبائحكم وعظموا شعائر الله واجعلوها من طيب أموالكم وبصحة التقوى من قلوبكم فإنه يقول ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) ثم التكبير والتحميد والصلاة على النبي والوصية

بالتقوى ثم قال بعد ذكر الجنة والنار عظم قدر الدارين وارتفع جزاء العملين وطالت مدة الفريقين الله الله فوالله إنه الجد لا اللعب وإنه الحق لا الكذب وما هو إلا الموت والبعث والميزان والحساب والقصاص والصراط ثم العقاب والثواب فمن نجا يومئذ فقد فاز ومن هوى يومئذ فقد خاب الخير كله في الجنة والشر كله في النار
115 -

خطبته يوم الفطر
قال بعد التكبير والتحميد إن يومكم هذا يوم عيد وسنة وابتهال ورغبة يوم ختم الله به صيام شهر رمضان وافتتح به حج بيته الحرام فجعله خاتمة الشهر وأول أيام شهور الحج وجعله معقبا لمفروض صومكم ومتنفل قيامكم أحل فيه الطعام لكم وحرم فيه الصيام عليكم فاطلبوا إلى الله حوائجكم واستغفروه لتفريطكم فإنه يقال لا كبير مع استغفار ولا صغير مع إصرار ثم التكبير والتحميد وذكر النبي والوصية بالتقوى ثم قال فاتقوا الله عباد الله وبادروا الأمر الذى اعتدل فيه يقينكم ولم يحتضر الشك فيه أحدا منكم وهو الموت المكتوب عليكم فإنه لا تستقال بعده عثرة ولا تحظر قبله توبة واعلموا أنه لا شيء قبله إلا دونه ولا شيء بعده إلا فوقه ولا يعين على جزعه وعلزه وكربه ولايعين على القبر وظلمته وضيقه ووحشته وهول مطلعه ومسألة ملائكته إلا العمل الصالح الذى أمر الله به فمن زلت عند الموت قدمه فقد ظهرت ندامته وفاتته استقالته ودعا من الرجعة إلى مالا يجاب إليه وبذل من الفدية مالا يقبل منه فالله الله عباد الله وكونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها إذ منعها الذين طلبوها

فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم إلا هذا المهل المبسوط لكم واحذروا ما حذركم الله واتقوا اليوم الذى يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به وما يمل في صحيفته الحافظة لما عليه وله فقد حكى الله لكم ما قال المفرطون عندها إذ طال إعراضهم عنها قال ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولاكبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وقال ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) ولست أنهاكم عن الدنيا بأعظم مما نهتكم الدنيا عن نفسها فإن كل ما بها ينهى عنها وكل ما فيها يدعو إلى غيرها وأعظم مما رأته أعينكم من عجائبها ذم كتاب الله لها ونهى الله عنها فإنه يقول ( فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) وقال ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو الأيه ) فانتفعوا بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها واعلموا أن قومامن عباد الله أدركتهم عصمة الله فحذروا مصارعها وجانبوا خدائعها وآثروا طاعة الله فيها فأدركوا الجنة بما تركوا منها
116 -

خطبة ابن طباطبا العلوى
وخطب محمد بن إبراهيم بن إسمعيل بن إبراهيم طباطبا بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب حين انتهب قائد جيوشه أبو السرايا السرى ابن منصور قصر العباس بن موسى بن عيسى فقال

أما بعد فإنه لايزال يبلغنى أن القائل منكم يقول إن بنى العباس فيء لنا ونخوض في دمائهم ونرتع في أموالهم ويقبل قولنا فيهم وتصدق دعوانا عليهم حكم بلا علم وعزم بلا روية عجبا لمن يطلق بذلك لسانه ويحدث به نفسه أبكتاب الله تعالى حكم أم لسنة نبيه اتبع أفى ميلي معه طمع أم بسط يدى له بالجود أمل هيهات فازذو الحق بما نوى وأخطأ ذو الباطل بما تمني حق كل ذى حق في يده وكل مدع على حجته ويل لمن اغتصب حقا وادعى باطلا أفلح من رضى بحكم الله وخاف من أرغم الحق أنفه العدل أولى بالأثرة وإن رغم الجاهلون حق لمن أمر بالمعروف أن يجتنب المنكر ومن سلك سبيل العدل أن يصبرعلىمرارة الحق كل نفس تسمو إلى همتها ونعم الصاحب القناعة
أيها الناس إن أكرم العبادة الورع وأفضل الزاد التقوى واعملوا في دنياكم وتزودوا لاخرتكم اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وإياكم والعصبية وحمية الجاهلية فإنهما يمحقان الدين ويورثان النفاق ولا تعاونوا على الإثم والعدوان يصلح لكم دينكم وتحسن المقالة فيكم الحق أبلج والسبيل منهج والباطل لجلج والناس مختلفون ولكل في الحق سعة من حاربنا حاربناه

ومن سالمنا سالمناه والناس جميعا آمنون إلا رجلا نصب لنا نفسه وأعان علينا بماله ولو شئت أن أقول ورجل قال فينا يتناول من أعراضنا لقلت وكفى حسب كل امرئ ما يصنعه وسيكفى الظالمون
117 -

استعطاف إبراهيم بن المهدي المأمون
لما ظفر المأمون بعمه إبراهيم بن المهدى أمر بإدخاله عليه فجىء بإبراهيم يحجل في قيوده فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته فقال له المأمون لا سلم الله عليك ولا حفظك ولا رعاك ولا كلأك يا إبراهيم فقال له إبراهيم على رسلك يا أمير المؤمنين ولى الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ومن مد له الاغترار في الأمل هجمت به الأناة على التلف وقد أصبح ذنبى فوق كل ذنب كما أن عفوك فوق كل عفو فإن تعاقب فبحقك وإن تعف فبفضلك ثم قال
( ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه )
( فخذ بحقك أو لا ... فاصفح بفضلك عنه )
( إن لم أكن في فعالى ... من الكرام فكنه )
فأطرق المأمون مليا ثم رفع رأسه فقال أني شاورت أبا إسحق والعباس

في قتلك فأشارا على به قال فما قلت لهما يا أمير المؤمنين قال قلت لهما بدأنا له بإحسان ونحن نستأمره فيه فإن غير فالله يغير ما به قال أما أن يكونا قد نصحاك في عظم قدر الملك وما جرت عليه عادة السياسة فقد فعلا ولكن أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله ثم استعبر باكيا فقال له المأمون ما يبكيك قال جذلا إذ كان ذنبى إلى من هذه صفته في الأنعام ثم قال يا أمير المؤمنين إنه وإن كان جرمى يبلغ سفك دمى فحلم أمير المؤمنين وتفضله يبلغاننى عفوه ولى بعدهما شفاعة الإقرار بالذنب وحرمة الأب بعد الأب قال المأمون القدرة تذهب الحفيظة والندم توبة وعفو الله بينهما وهو أكبر ما يحاول يا إبراهيم لقد حببت إلى العفو حتى خفت أن لا أوجر عليه أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذة لتقربوا إلينا بالجنايات لا تثريب عليك يغفر الله لك ولو لم يكن في حق نسبك ما يبلغ الصفح عن زلتك لبلغك ما أملت حسن توصلك ولطيف تنصلك ثم أمر برد ماله وضياعه فقال
( رددت مالي ولم تبخل على به ... وقبل ردك مالي قد حقنت دمى )
( فأبت منك وما كافأتها بيد ... هما الحياتان من وفر ومن عدم )
( وقام علمك بى فاحتج عندك لى ... مقام شاهد عدل غير متهم )
( فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسل النعل من قدمي )
( ما كان ذاك سوى عارية رجعت ... إليك لو لم تهبها كنت لم تلم )

118 -

إبراهيم بن المهدى وبختيشوع الطبيب
تنازع إبراهيم بن المهدى هو وبختيشوع الطبيب بين يدى أحمد بن داود القاضى في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد فرزى عليه ابن المهدى وأغلظ له بين يدى أحمد بن داود فأحفظه ذلك فقال يا إبراهيم إذا نازعت أحدا في مجلس الحكم فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتا ولا أشرت بيد وليكن قصدك أمما وطريقك نهجا وريحك ساكنة وكلامك معتدلا ووف مجالس الحكومة حقوقها من التوقير والتعظيم والاستكانة والتوجه إلى الواجب فإن ذلك أشبه بك وأشكل لمذهبك في محتدك وعظيم خطرك ولا تعجل فرب عجلة تهب ريثا والله يعصمك من الزلل وخطل القول والعمل ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل إن ربك حكيم عليم
قال إبراهيم أصلحك الله أمرت بسداد وحضضت على رشاد ولست بعائد إلى ما يثلم مروءتى عندك ويسقطنى من عينك ويخرجنى من مقدار الواجب إلى الاعتذار فهأنا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه باخع بجرمه فإن الغضب لا يزال يستفزنى بمواده فيردنى مثلك بحلمه وتلك عادة الله عندنا منك وحسبنا الله ونعم الوكيل وقد وهبت حقى من هذا العقار لبختيشوع فليت ذلك اليوم يعول بأرش الجناية ولم يتلف مال أفاد موعظة وبالله التوفيق

119 -

استعطاف إسحاق بن العباس المأمون
وقال المأمون لإسحاق بن العباس لا تحسبنى أغفلت إجلابك مع ابن المهدى وتأييدك لرأيه وإيقادك لناره قال يا أمير المؤمنين ولرحمى أمس من أرحامهم وقد قال لهم كما قال يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين وأنت يا أمير المؤمنين أحق وارث لهذه المنة وممتثل لخلال العفو والفضل
قال هيهات تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام وجرمك جرم في إسلامك وفي دار خلافتك قال يا أمير المؤمنين فوالله للمسلم أحق بإقالة العثرة وغفران الزلة من الكافر هذا كتاب الله بيني وبينك يقول الله تعالى ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) فهى للناس يا أمير المؤمنين سنة دخل فيها المسلم والكافر والشريف والمشروف قال صدقت اجلس وريت بك زنادي ولا برحت أرى من أهلك أمثالك
120 -
أحد وجوه بغداد يمدح المامون حين دخلها
لما دخل المأمون بغداد تلقاه وجوه أهلها فقال له رجل منهم يا أمير المؤمنين بارك الله لك في مقدمك وزاد في نعمتك وشكرك عن رعيتك تقدمت من قبلك وأتعبت من بعدك وآيست أن يعاين مثلك أما فيما مضى فلا نعرفه

وأما فيما بقى فلا نرجوه فنحن جميعا ندعو لك ونثنى عليك خصب لنا جنابك وعذب ثوابك وحسنت نظرتك وكرمت مقدرتك جبرت الفقير وفككت الأسير فإنك يا أمير المؤمنين كما قال الأول
( ما زلت في البذل والنوال وإطلاق ... لعان بجرمه غلق )
( حتى تمنى البراء أنهم ... عندك أسرى في القيد والحلق )
121 -

أحد أهل الكوفة يمدح المأمون
وقدم وفد من الكوفة إلى بغداد فوقفوا للمأمون فأعرض عنهم فقال شيخ منهم يا أمير المؤمنين يدك أحق يد بتقبيل لعلوها في المكارم وبعدها من الماثم وأنت يوسفى العفو في قلة التثريب من أرادك بسوء جعله الله حصيد سيفك وطريد خوفك وذليل دولتك فقال يا عمرو نعم الخطيب خطيبهم اقض حوائجهم
122 -
محمد بن عبد الملك بن صالح بين يدي المأمون
ودخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبض ضياعهم فقال
يا أمير المؤمنين محمد بن عبد الملك بين يديك ربيب دولتك وسليل نعمتك وغصن من أغصان دوحتك أتأذن في الكلام قال نعم قال أستمنح الله حياطة ديننا ودنيانا ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا وفي أثرك من آثارنا ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا هذا مقام العائذ بفضلك الهارب إلى كنفك وظلك الفقير إلى رحمتك وعدلك ثم تكلم في حاجته فقضاها

123 -

الحسن بن سهل يمدح المأمون
وقال الحسن بن سهل يوما للمأمون
الحمد لله يا أمير المؤمنين على جزيل ما آتاك وسنى ما أعطاك إذ قسم لك الخلافة ووهب لك معها الحجة ومكنك بالسلطان وحلاه لك بالعدل وأيدك بالظفر وشفعه لك بالعفو وأوجب لك السعادة وقرنها بالسيادة فمن فسح له في مثل عطية الله لك أم من ألبسه الله تعالى من زينة المواهب ما ألبسك أم من ترادفت نعمة الله تعالى عليه ترادفها عليك أم هل حاولها أحد وارتبطها بمثل محاولتك أم أى حاجة بقيت لرعيتك لم يجدوها عندك أم أى قيم للإسلام انتهى إلى عنايتك ودرجتك تعالى الله تعالى ما أعظم ما خص القرن الذى أنت ناصره وسبحان الله أى نعمة طبقت الأرض بك إن أدى شكرها إلى بارئها والمنعم على العباد بها إن الله تعالى خلق السماء في فلكها ضياء يستنير بها جميع الخلائق فكل جوهر زها حسنه ونوره فهل لبسته زينته إلا بما اتصل به من نورك وكذلك كل ولى من أوليائك سعد بأفعاله في دولتك وحسنت صنائعه عند رعيتك فإنما نالها بما أيدته من رأيك وتدبيرك وأسعدته من حسنك وتقويمك
124 -
يحيى بن أكثم يمدح المأمون
وقال المأمون ليحيى بن أكثم صف لي حالي عند الناس فقال
يا أمير المؤمنين قد انقادت لك الأمور بأزمتها وملكتك الأمة فضول

أعنتها بالرغبة إليك والمحبة لك والرفق منك والعياذ بك بعدلك فيهم ومنك عليهم حتى لقد أنيستهم سلفك وآيستهم من خلفك فالحمد لله الذي جمعنا بك بعد التقاطع ورفعنا في دولتك بعد التواضع
فقال يا يحيى أتحبيرا أم ارتجالا قال قلت وهل يمتنع فيك وصف أو يتعذر على مادحك قول أو يفحم فيك شاعر أو يتلجلج فيك خطيب
125 -

أحد بني هاشم والمأمون
أذنب رجل من بني هاشم ذنبا فعنفه المأمون فقال
يا أمير المؤمنين من كانت له مثل دالتي ولبس ثوب حرمتي ومت بمثل قرابتي غفر له فوق زلتى فأعجب المأمون كلامه وصفح عنه
126 -
رجل يتظلم إلى المأمون
وتظلم رجل إلى المأمون من عامل له فقال
يا أمير المؤمنين ما ترك لى فضة إلا فضها ولا ذهبا إلا ذهب به ولا غلة إلا غلها ولا ضيعة إلا أضاعها ولا علقا إلا علقه ولا عرضا إلا عرض له ولا ماشية إلا امتشها ولا جليلا إلا أجلاه ولا دقيقا إلا دقه فعجب من فصاحته وقضى حاجته

127 -

عمرو بن سعيد والمأمون
وقال عمرو بن سعيد بن سلم كانت على نوبة أنوبها في حرس المأمون فكنت في نوبتي ليلة فخرج متفقدا من حضر فعرفته ولم يعرفنى فقال من أنت قلت عمرو عمرك الله ابن سعيد أسعدك الله ابن سلم سلمك الله فقال أنت تكلؤن منذ الليلة قلت الله يكلؤك قبلي وهو خير حافظا وهو أرحم الراحمين فقال المأمون
( إن أخاك الصدق من يسعى معك ... ومن يضر نفسه لينفعك )
( ومن إذا صرف الزمان صدعك ... بدد شمل نفسه ليجمعك )
128 -
الحسن بن رجاء والمأمون
دخل المأمون بعض الدواوين فرأى غلاما جميلا على أذنه قلم فقال من أنت يا غلام فقال
أنا يا أمير المؤمنين الناشىء في دولتك المتقلب في نعمتك المؤمل لخدمتك خادمك وابن خادمك الحسن بن رجاء فقال أحسنت يا غلام وبالإحسان في البديهة تفاضلت العقول وأمر برفع مرتبته
129 -
سعيد بن مسلم والمأمون
وقال سعيد بن مسلم بن قتيبة للمأمون
لولم أشكر الله تعالى إلا على حسن ما أبلانى من أمير المؤمنين من قصده إلى بحديثه وإشارته إلى بطرفه لقد كان في ذلك أعظم الرفعة وأرفع ما توجبه الحرمه

فقال يفعل أمير المؤمنين ذلك لأن أمير المؤمنين يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدثت وحسن الفهم إذا حدثت مالم يجده عند أحد ممن مضى ولا يظن أنه يجد عنه أحد ممن بقى فإنك لتستقصي حديثي وتقف عند مقاطع كلامى وتخبر بما كنت أغفلته منه
130 -

أبو زهمان يعظ سعيد بن مسلم
وقال سعيد بن مسلم كنت واليا بأرمينية فغبر أبو زهمان العلاني على بابي أياما فلما وصل إلى مثل بين يدى قائما بين السماطين وقال
والله إنى لأعرف أقواما لو علموا أن سف التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لازما فيهم إيثارا للتنزه عن عيش رقيق الحواشى أما والله إنى لبعيد الوثبة بطىء العطفة إنه والله ما يثنينى عليك إلا مثل ما يصرفنى عنك ولأن أكون مقلا مقربا أحب إلى من أن أكون مكثرا مبعدا والله ما نسأل عملا لا نضبطه ولا مالا إلا نحن أكثر منه وهذا الأمر الذى صار إليك في يديك كان في يد غيرك فأمسوا والله حديثا إن خيرا فخير وإن شرا فشر فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر ولين الجانب فإن حب عباد الله موصول بحب الله وبغضهم موصول ببغض الله لأنهم شهداء الله على خلقه ورقباؤه على من اعوج عن سبيله
131 -
وصية طاهر بن الحسين
لابنه عبد الله لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما سنة 206ه
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له

وخشيته ومراقبته ومزايلة سخطه وحفظ رعيتك والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسئول عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله وينجيك يوم القيامة من عذابه وأليم عقابه فإن الله قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل عليهم والقيام بحقه وحدوده فيهم والذب عنهم والدفع عن حريمهم وبيضتهم والحقن لدمائهم والأمن لسبيلهم وإدخال الراحة عليهم في معايشهم ومؤاخذك بما فرض عليك من ذلك وموقفك عليه ومسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت ففرغ لذلك فكرك وعقلك وبصرك ورؤيتك ولا يذهلك عنه ذاهل ولا يشغلك عنه شاغل فإنه رأس أمرك وملاك شأنك وأول مايوفقك الله به لرشدك وليكن أول ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعالك المواظبة على ما افترض الله عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها على سننها في إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله فيها وترتل في قراءتك وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك ولتصدق فيها لربك نيتك واحضض عليها جماعة من معك وتحت يدك وادأب عليها فإنها كما قال الله تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر ثم أتبع ذلك الأخذ بسنن رسول الله والمثابرة على خلائقه واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله وتقواه ولزوم ما أنزل الله في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الاثار عن النبي ثم قم فيه بما يحق لله عليك

ولا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد وآثر الفقه وأهله والدين وحملته وكتاب الله والعاملين به فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين الله والطلب له والحث عليه والمعرفة بما يتقرب به إلى الله فإنه الدليل على الخير كله والقائد له والآمر به والناهى عن المعاصى والموبقات كلها وبها مع توفيق الله تزداد العباد معرفة بالله عز و جل وإجلالا له ودركا للدرجات العلا في المعاد مع مافى ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثقة بعدلك وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها فليس شيء أبين نفعا ولا أحضر أمنا ولا أجمع فضلا من القصد والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد فآثره في دنياك كلها ولا تقصر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد فلا غاية للاستكثار من البر والسعى له إذا كان يطلب به وجه الله ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويحصن من الذنوب وإنك لن تحوط نفسك ومن يليك ولا تستصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح خاصتك وعامتك وأحسن الظن بالله عز و جل تستقم لك رعيتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك ولا تتهمن أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم مأثم واجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يعينك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم ولا يجدن عدو الله الشيطان في أمرك مفخرا فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك واعلم أنك

تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكفى به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر فيما يقيمها ويصلحها بل لتكن المباشرة لأمور الأولياء والحياطة للرعية والنظر في حوائجهم وحمل مثوناتهم اثر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة وأخلص نيتك في جميع هذا وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسئول عما صنع ومجزى بما أحسن ومأخذو بما أساء فإن الله جعل الدين حرزا وعزا ورفع من اتبعه وعززه فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقة الهدى وأقم حدود الله في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه ولا تعطل ذلك ولا تهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فإن في تفريطك في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك واعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة وجانب الشبه والبدعات يسلم لك دينك وتقم لك مروءتك وإذا عاهدت عهدا فف به وإذا وعدت الخير فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها وأغمض عن عيب كل ذى عيب من رعيتك واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وأبغض أهله وأقص أهل النميمة فإن أول فساد أمرك في عاجل الأمور وآجلها تقريب الكذوب والجرأة على الكذب لأن الكذب رأس المآثم والزور والنميمة خاتمتها لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستقيم لمطيعها أمر وأحب أهل الصدق والصلاح وأعز الأشراف بالحق وواصل الضعفاء وصل الرحم وابتغ بذلك وجه الله وعزة أمره والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة واجتنب سوء الأهواء والجور واصرف عنهما رأيك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك وأنعم بالعدل في سياستهم وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهى بك إلى سبيل الهدى واملك نفسك عند الغضب وآثر

الوقار والحلم وإياك والحدة والطيش والغروز فيما أنت بسبيله وإياك أن تقول إنى مسلط أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع بك إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله وحده لا شريك له وأخلص لله النية فيه واليقين به واعلم أن الملك لله يعطيه من يشاء وينزعه ممن يشاء ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا بنعم الله وإحسانه واستطالوا بما آتاهم الله من فضله ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى والمعدلة واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والحفظ لدهمائهم والإغاثة لملهوفهم واعلم أن الأموال إذا كثرت وذخرت في الخزائن لا تثمر وإذا كانت في إصلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف المئونة عنهم نمت وربت وصلحت به العامة وتزينت به الولاة وطاب به الزمان واعتقد فيه العز والمنعة فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم وأوف رعيتك من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعايشهم فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة عليك واستوجبت المزيد من الله وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك وعملك أقدر وكان الجمع لما شملهم من عدلك وإحسانك أساس لطاعتهم وأطيب نفسا لكل ما أردت فاجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب ولتعظم حسبتك فيه فإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه واعرف للشاكرين شكرهم وأثبهم عليه وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الاخرة فتتهاون بما يحق عليك فإن التهاون يوجب التفريط والتفريط يورث البوار وليكن عملك لله وفيه تبارك وتعالى وارج الثواب فإن الله قد أسبغ عليك نعمته في الدنيا وأظهر لديك فضله فاعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيرا وإحسانا فإن الله يثيب بقدر شكر الشاكرين

وسيرة المحسنين وقضى الحق فيما حمل من النعم وألبس من العافية والكرامة ولا تحقرن ذنبا ولا تمالئن حاسدا ولا ترحمن فاجرا ولا تصلن كفورا ولا تداهنن عدوا ولا تصدقن نماما ولا تأمنن غدارا ولا توالين فاسقا ولاتتبعن غاويا ولا تحمدن مرائيا ولاتحقرن إنسانا ولا تردن سائلا فقيرا ولا تجيبن باطلا ولا تلاحظن مضحكا ولا تخلفن وعدا ولا تزهون فخرا ولا تظهرن غضبا ولا تأتين بذخا ولا تمشين مرحا ولا تركبن سفها ولا تفرطن في طلب الاخرة ولا ترفع للنمام عينا ولا تغمضن عن الظالم رهبة منه أو مخافة ولا تطلبن ثواب الآخرة بالدنيا وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأى والحكمة ولا تدخلن في مشورتك أهل الدقة والبخل ولا تسمعن لهم قولا فإن ضررهم أكثر من منفعتهم وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح واعلم أنك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطية وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلا فإن رعيتك إنما تعتقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عنهم ويدوم صفاء أوليائك لك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم فاجتنب الشح واعلم أنه أول ما عصى به الإنسان ربه وأن العاصى بمنزلة خزى وهو قول الله عز و جل ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) فسهل طريق الجود بالحق واجعل للمسلمين كلهم من نيتك حظا ونصيبا وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد فأعدده لنفسك خلقا وارض به عملا ومذهبا وتفقد أمور الجند في دواوينهم ومكاتبهم وأدرر عليهم أرزاقهم ووسع عليهم في معايشهم ليذهب بذلك الله فاقتهم ويقوم لك أمرهم ويزيد به قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا وحسب ذى سلطان

من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله وحيطته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته فزايل مكروه أحد البابين باستشعار تكملة الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله نجاحا وصلاحا وفلاحا واعلم أن القضاء من الله بالمكان الذى ليس به شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذى يعتدل عليه الأحوال في الأرض وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح الرعية وتأمن السبل وينتصف المظلوم ويأخذ الناس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدى حق الطاعة ويرزق الله العافية والسلامة ويقوم الدين وتجري السنن والشرائع وعلى مجاريها يتنجز الحق والعدل في القضاء واشتد فى أمر الله وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود وأقلل العجلة وابعد من الضجر والقلق واقنع بالقسم ولتسكن ريحك ويقر جدك وانتفع بتجربتك وانتبه في صمتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشبهة وأبلغ في الحجة ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا محاماة ولا لوم لائم وتثبت وتأن وراقب وانظر وتدبر وتفكر واعتبر وتواضع لربك وارأف بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك ولا تسرعن إلى سفك دم فإن الدماء من الله بمكان عظيم انتهاكا له بغير حقها وانظر هذا الخراج الذى قد استقامت عليه الرعية وجعله الله للاسلام عزا ورفعة ولأهله سعة ومنعة ولعدوه وعدوهم كبتا وغيظا ولأهل الكفر من معاديهم ذلا وصغارا فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم فيه ولا ترفعن منه شيئا عن شريف لشرفه ولا عن غنى لغناه ولا عن كاتب لك ولا أحد من خاصتك ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له ولا تكلفن أمرا فيه شطط واحمل الناس كلهم على مر الحق فإن ذلك أجمع لألفتهم

وألزم لرضا العامة واعلم أنك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا وإنما سمى أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم تأخذ منها ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفقه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعمل والعلم بالسياسة والعفاف ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك ولا يشغلنك عنه شاغل ولا يصرفنك عنه صارف فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك واحترزت النصحة من رعيتك وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك فكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتباط جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السياسة مرضى العدل في ذلك عند عدوك وكنت في أمورك كلها ذا عدل وقوة وآلة وعدة فنافس في هذا ولا تقدم عليه شيئا تحمد مغبة أمرك إن شاء الله واجعل في كل كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأمره كله وإن أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح والصنع فأمضه وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم ثم خذ فيه عدته فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أمره قد واتاه على ما يهوى فقواه ذلك وأعجبه وإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله بالقوة وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإن لغد أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذى أخرت واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه فإذا أخرت عمله

اجتمع عليك أمر يومين فشغلك ذلك حتى تعرض عنه فإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت نفسك وبدنك وأحكمت أمور سلطانك وانظر أحرار الناس وذوي الشرف منهم ثم استيقن صفاء طويتهم وتهذيب مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم وتعاهد أهل البيوتات ممن دخلت عليهم الحاجة فاحتمل مئونتهم وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسا وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فاسأل عنه أحفى مسألة ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم وتعاهد ذوي البأساء ويتاماهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة وأجر للأضراء من بيت المال وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم وانصب لمرضى المسلمين دورا تؤويهم وقواما يرفقون بهم وأطباء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم مالم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزيادة وفضل الرفق منهم وربما برم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به مؤنة ومشقة وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالذى يستقبل مايقربه إلى الله ويلتمس رحمته به وأكثر الإذن للناس عليك وأبرز لهم وجهك وسكن لهم أحراسك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والمنطق واعطف عليهم بجودك وفضلك وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتمس الصنيعة والأجر غير مكدر ولا منان

فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى من قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية والأمم البائدة ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته وإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله واعرف ما تجمع عمالك من الأموال وما ينفقون منها ولا تجمع حراما ولا تنفق إسرافا وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها وإيثار مكارم الأمور ومعاليها وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم يمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سر وإعلامك ما فيه من النقص فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك لك وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتا يدخل عليك فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمر كورك ورعيتك ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرر النظر إليه والتدبير له فما كان موافقا للحزم والحق فأمضه واستخر الله فيه وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبيت فيه والمسألة عنه ولا تمنن علىرعيتك ولا على غيرهم بمعروف تأتيه إليهم ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير المؤمنين ولا تضعن المعروف إلا على ذلك وتفهم كتابي إليك وأكثر النظر فيه والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك واستخره فإن الله مع الصلاح وأهله وليكن أعظم سيرتك وأفضل رعيتك ما كان لله رضا ولدينه نظاما ولأهله عزا وتمكينا وللذمة والملة عدلا وصلاحا وأنا أسأل الله أن يصلح عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك وأن ينزل عليك فضله ورحمته بتمام فضله عليك وكرامته لك حتى يجعلك أفضل أمثالك نصيبا وأوفرهم حظا وأسناهم ذكرا وأمرا وأن يهلك عدوك ومن ناوأك وبغى عليك ويرزقك من

رعيتك العافية ويحجز الشيطان عنك ووساوسه حتى يستعلى أمرك بالعز والقوة والتوفيق إنه قريب مجيب وكروا أن طاهرا لما عهد إلى ابنه عبد الله هذا العهد تنازعه الناس وكتبوه وتدارسوه وشاع أمره حتى بلغ المأمون فدعا به وقرئ عليه فقال ما بقى أبو الطيب يعنى طاهرا شيئا من أمر الدين والدنيا والتدبير والرأى والسياسة وإصلاح الملك والرعية وحفظ البيضة وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به وتقدم وأمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحى الأعمال
132 -

خطبة عبد الله بن طاهر
خطب عبد الله بن طاهر الناس وقد تيسر لقتال الخوارج فقال
إنكم فئة الله المجاهدون عن حقه الذابون عن دينه الذائدون عن محارمة الداعون إلى ما أمر به من الاعتصام بحبله والطاعة لولاة أمره الذين جعلهم رعاة الدين ونظام المسلمين فاستنجزوا موعود الله ونصره بمجاهدة عدوه وأهل معصيته الذين أشرو وتمردوا وشقوا العصا وفارقوا الجماعة ومرقوا من الدين وسعوا في الأرض فسادا فإنه يقول تبارك وتعالى ( إن تنصروا الله ينصركم

حذف

ويثبت أقدامكم ) فليكن الصبر معقلكم الذي إليه تلجئون وعدتكم التي بها تستظهرون فإنه الوزر المنيع الذى دلكم الله عليه والجنة الحصينة التي أمركم الله بلباسها غضوا أبصاركم واخفتوا أصواتكم في مصافكم وامضوا قدما على بصائركم فارغين إلى ذكر الله والاستعانة به كما أمركم الله فإنه يقول ( إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) أيدكم الله بعز الصبر ووليكم بالحياطة والنصر
133 - العباس بن المأمون والمعتصم المتوفى سنة 227ه
قال العباس بن المأمون لما أفضت الخلافة إلى المعتصم دخلت فقال هذا مجلس كنت أكره الناس لجلوسى فيه فقلت يا أمير المؤمنين أنت تعفو عما تيقنته فكيف تعاقب على ما توهمته فقال لو أردت عقابك لتركت عتابك
134 -

استعطاف تميم بن جميل للمعتصم
كان تميم بن جميل السدوسى قد خرج بشاطىء الفرات واجتمع إليه كثير من الأعراب فعظم أمره وبعد ذكره فكتب المعتصم إلى مالك بن طوق في النهوض إليه فبدد جمعه فظفر به فحمله موثقا إلى المعتصم قال أحمد بن أبى داود ما رأينا رجلا عاين الموت فما هاله ولا أذهله عما كان يجب عليه أن يفعله إلا تميم بن جميل فإنه أوفى به الرسول باب أميرالمؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة ودخل عليه فلما مثل بين يديه دعا بالنطع والسيف فأحضرا فجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئا وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصونه وكان جسما

وسيما ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره فقال يا تميم إن كان لك عذر فأت به أو حجة فأدل بها فقال أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإنى أقول
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين جبر بك صدع الدين ولم بك شعث المسلمين وأوضح بك سبل الحق وأخمد بك شهاب الباطل يا أمير المؤمنين إن الذنوب تخرس الألسنة الفصيحة وتعي الأفئدة الصحيحة ولقد عظمت الجريرة وانقطعت الحجة وكبر الذنب وساء الظن ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك وأرجو أن يكون أقربهما مني وأسرعهما إلي أولاهما بامتنانك وأشبههما بخلافتك ثم أنشأ يقول
( أرى الموت بين السيف والنطع كامنا ... يلاحظنى من حيثما أتلفت )
( وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي أمرئ مما قضى الله يفلت )
( ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت )
( يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يسل على السيف فيه وأسكت )
( وما جزعي من أن أموت وإنني ... لأعلم أن الموت شيء موقت ) ( ولكن خلفي صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت )
( كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا )
( فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذود الردى عنهم وإن مت موتوا )
( فكم قائل لا يبعد الله روحه ... وآخر جذلان يسر ويشمت )

حذف 146 وسيما ورأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره فقال يا تميم إن كان لك عذر فأت به أو حجة فأدل بها فقال أما إذ قد أذن لى أمير المؤمنين فإنى أقول
الحمد لله الذى أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين جبر بك صدع الدين ولم بك شعث المسلمين وأوضح بك سبل الحق وأخمد بك شهاب الباطل يا أمير المؤمنين إن الذنوب تخرس الألسنة الفصيحة وتعيى الأفئدة الصحيحة ولقد عظمت الجريرة وانقطعت الحجة وكبر الذنب وساء الظن ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك وأرجو أن يكون أقربهما منى وأسرعهما إلى أولاهما بامتنانك وأشبههما بخلافتك ثم أنشأ يقول
( أرى الموت بين السيف والنطع كامنا ... يلاحظنى من حيثما أتلفت )
( وأكبر ظنى أنك اليوم قاتلى ... وأى امرىء مما قضى الله يفلت )
( ومن ذا الذى يدلى بعذر وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت )
( يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يسل على السيف فيه وأسكت )
( وما جزعى من أن أموت وإننى ... لأعلم أن الموت شيء موقت )
( ولكن خلفى صبية قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت )
( كأنى أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا )
( فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة ... أذود الردى عنهم وإن مت موتوا )
( فكم قائل لا يبعد الله روحه ... واخر خذلان يسر ويشمت )

فتبسم المعتصم وقال كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل أذهب فقد غفرت لك الصبوة ووهبتك للصبية ثم أمر بفك قيوده وخلع عليه وعقد له بشاطئ الفرات
135 -

بين يدى سليمان بن وهب وزير المهتدى بالله
ولما ولى المهتدى بالله بن الواثق بن المعتصم سليمان بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوى حرمته فقال أعز الله الوزير أنا خادمك المؤمل لدولتك السعيد بأيامك المنطوي القلب على ودك المنشور اللسان بمحك المرتهن بشكر نعمتك
136 - أحمد بن أبى داود والواثق المتوفى سنة 233ه
دخل أحمد بن أبى داود علىالواثق فقال ما زال اليوم قوم في ثلبك ونقصك فقال يا أمير المؤمنين لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذى تولى كبره منهم له عذاب عظيم والله ولى جزائه وعقاب أمير المؤمنين من ورائه

وما ذل يا أمير المؤمنين من أنت ناصره وما صاق من كنت جارا له فما قلت لهم يا أمير المؤمنين قال قلت يا أبا عبد الله
( وسعى إلى بعيب عزة معشر ... جعل الإله حدودهن نعالها )
137 -

ابن أبى داود والواثق أيضا
وقال الواثق يوما لابن أبى داود تضجرا بكثرة حوائجه قد أخليت بيوت الأموال بطلباتك للأمذين بك والمتوسلين إليك فقال
يا أمير المؤمنين نتائج شكرها متصلة بك وذخائرها موصولة لك ومالى من ذلك إلا عشق اتصال الألسن بخلود المدح فقال والله لا منعناك ما يزيد في عشقك ويقوي في همتك فينا ولنا وأمر فأخرج له خمسة وثلاثين ألف درهم
138 -
ابن أبى داود وابن الزيات
وكان بين القاضي أحمد بن أبي داود وبين الوزير محمد بن عبد الملك الزيات منافسة وشحناء حتى منع الوزير شخصا كان يصحب القاضي ويختص بقضاء حوائجه من الترداد إليه فبلغ ذلك القاضى فجاء إلى الوزير فقال له
والله ما أجيئك متكثرا بك من قلة ولا متعززا بك من ذلة ولكن أمير المؤمنين رتبك مرتبة أوجبت لقاءك فإن لقيناك فله وإن تأخرنا عنك فلك

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6