كتاب : جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة
المؤلف : أحمد زكي صفوت

والأيام عوج رواجع والأنفس يغدى عليها ويراح والله يقول ( كل يوم هو في شأن ) ولسنا ندري ما يختلف به العصران وأنت يا أمير المؤمنين ميت كما مات من كان قبلك من أنبياء الله وخلفائه نسأل الله تعالى بك المتاع وقد رأينا من دعة يزيد ابن أمير المؤمنين وحسن مذهبه وقصد سيرته ويمن نقيبته مع ما قسم الله له من المحبة في المسلمين والشبه بأمير المؤمنين في عقله وسياسته وشيمته المرضية ما دعانا إلى الرضا به في أمورنا والقنوع به في الولاية علينا فليوله أمير المؤمنين أكرمه الله عهده وليجعله لنا ملجأ ومفزعا بعده نأوي إليه إن كان كون فإنه ليس أحد أحق بها منه فاعزم على ذلك عزم الله لك في رشدك ووفقك في أمورنا
224 - خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي
ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أصلح الله أمير المؤمنين إنا قد أصبحنا في زمان مختلفة أهواؤه قد احدودبت علينا سيساؤه واقطوطبت علينا أدواؤه وأناخت علينا أنباؤه ونحن نشير

عليك بالرشاد وندعوك إلى السداد وأنت يا أمير المؤمنين أحسننا نظرا وأثبتنا بصرا ويزيد ابن أمير المؤمنين قد عرفنا سيرته وبلونا علانيته ورضينا ولايته وزادنا بذلك انبساطا وبه اغتباطا مع ما منحه الله من الشبه بأمير المؤمنين والمحبة في المسلمين فاعزم على ذلك ولا تضق به ذرعا فالله تعالى يقيم به الأود ويردع به الألد ويؤمن به السبل ويجمع به الشمل ويعظم به الأجر ويحسن به الذخر ثم جلس
225 - خطبة ثور بن معن السلمي
فقام ثور بن معن السلمي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أصلح الله أمير المؤمنين إنا قد أصبحنا في زمان صاحبه مشاغب وظله ذاهب مكتوب علينا فيه الشقاء والسعادة وأنت يا أمير المؤمنين ميت نسأل الله بك المتاع ويزيد ابن أمير المؤمنين أقدمنا شرفا وأبذلنا عرفا وقد دعانا إلى الرضا به والقنوع بولايته والحرص عليه والاختيار له ما قد عرفنا من صدق لسانه ووفائه وحسن بلائه فاجعله لنا بعدك خلفا فإنه أوسعنا كنفا وأقدمنا سلفا وهو رتق لما فتق وزمام لما شعث ونكال لمن فارق ونافق وسلم لمن واظب وحافظ للحق أسأل الله لأمير المؤمنين أفضل البقاء والسعادة والخيرة فيما أراد والتوطن في البلاد وصلاح أمر جميع العباد ثم جلس

226 - خطبة عبد الله بن عصام الأشعرى
فقام عبد الله بن عصام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أصلح الله أمير المؤمنين وأمتع به إنا قد أصبحنا في دنيا منقضية وأهواء منجذمة نخاف حدها وننتظر جدها شديد منحدرها كثير وعرها شامخة مراقبها ثابتة مراتبها صعبة مراكبها فالموت يا أمير المؤمنين وراءك ووراء العباد لا يخلد في الدنيا أحد ولا يبقى لنا أمد وأنت يا أمير المؤمنين مسئول عن رعيتك ومأخوذ بولايتك وأنت أنظر الجماعة وأعلى عينا بحسن الرأي لأهل الطاعة وقد هديت ليزيد في أكمل الأمور وأفضلها رأيا وأجمعها رضا فاقطع بيزيد قالة الكلام ونخوة المبطل وشعث المنافق واكبت به الباذخ المعادي فإن ذلك ألم للشعث وأسهل للوعث فاعزم على ذلك ولا تترامى بك الظنون
227 - خطبة عبد الله بن مسعدة الفزاري
ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أصلح الله أمير المؤمنين وأمتع به إن الله قد آثرك بخلافته واختصك بكرامته وجعلك عصمة لأوليائه وذا نكاية لأعدائه فأصبحت بأنعمه جذلا

ولما حملك محتملا يكشف الله تعالى بك العمى ويهدي بك العدا ويزيد ابن أمير المؤمنين أحسن الناس برعيتك رأفة وأحقهم بالخلافة بعدك قد ساس الأمور وأحكمته الدهور ليس بالصغير الفهيه ولا بالكبير السفيه قد احتجن المكارم وارتجي لحمل العظائم وأشد الناس في العدو نكاية وأحسنهم صنعا في الولاية وأنت أغنى بأمرك وأحفظ لوصيتك وأحرز لنفسك أسأل الله لأمير المؤمنين العافية في غير جهد والنعمة في غير تغيير
228 - خطبة عمرو بن سعيد الأشدق
فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق قم يا أبا أمية فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن يزيد بن معاوية أمل تأملونه وأجل تأمنونه طويل الباع رحب الذراع إن استضفتم إلى حلمه وسعكم وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم وإن افتقرتم إلي ذات يده أغناكم جذع قارح سوبق فسبق وموجد فمجد وقورع ففاز سهمه فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه فقال له معاوية اجلس أبا أمية فلقد أوسعت وأحسنت
فقال معاوية أوكلكم قد أجمع على هذا رأيه فقالوا كلنا قد أجمع

رأيه على ما ذكرنا قال فأين الأحنف فأجابه قال ألا تتكلم فقام الأحنف
229 - خطبة الأحنف بن قيس
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أصلح الله أمير المؤمنين إن الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف ومعروف زمان مؤتنف ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف فإن توله عهدك فعن غير كبر مفن أو مرض مضن وقد حلبت الدهور وجربت الأمور فاعرف من تسند إليه عهدك ومن توليه الأمر من بعدك واعص رأي من يأمرك ولا يقدر لك ويشير عليك ولا ينظر لك وأنت أنظر للجماعة وأعلم باستقامة الطاعة مع أن أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا
230 - خطبة الضحاك بن قيس
فغضب الضحاك بن قيس فقام الثانية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال
أصلح الله أمير المؤمنين إن أهل النفاق من أهل العراق مروءتهم في أنفسهم الشقاق وألفتهم في دينهم الفراق يرون الحق على أهوائهم كأنما ينظرون

بأقفائهم اختالوا جهلا وبطرا لا يرقبون من الله راقبة ولا يخافون وبال عاقبة اتخذوا إبليس لهم ربا واتخذهم إبليس حزبا فمن يقاربوه لا يسروه ومن يفارقوه لا يضروه فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين في نحورهم وكلامهم في صدورهم ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه هيهات لا تورث الخلافة عن كلالة ولا يحجب غير الذكر العصبة فوطنوا أنفسكم يأهل العراق على المناصحة لإمامكم وكاتب نبيكم وصهره يسلم لكم العاجل وتربحوا من الآجل
231 - خطبة الأحنف بن قيس
ثم قام الأحنف بن قيس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أمير المؤمنين إنا قد فررنا عنك قريشا فوجدناك أكرمها زندا وأشدها عقدا وأوفاها عهدا وقد علمت أنك لم تفتح العراق عنوة ولم تظهر عليها قعصا ولكنك أعطيت الحسن بن علي من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك فإن تف فأنت أهل الوفاء وإن تغدر تعلم والله أن وراء الحسن خيولا جيادا وأذرعا شدادا وسيوفا حدادا إن تدن له شبرا من غدر تجد وراءه باعا من نصر وإنك تعلم أن أهل العراق ما أحبوك منذ أبغضوك ولا أبغضوا عليا وحسنا منذ أحبوهما وما نزل عليهم في ذلك خبر من السماء وإن السيوف التي شهروها عليك مع علي يوم صفين لعلى عواتقهم والقلوب التي أبغضوك بها لبين جوانحهم وايم الله إن الحسن لأحب إلى أهل العراق من علي

232 - خطبة عبد الرحمن بن عثمان الثقفي
ثم قام عبد الرحمن بن عثمان الثقفي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أصلح الله أمير المؤمنين إن رأي الناس مختلف وكثير منهم منحرف لا يدعون أحدا إلى رشاد ولا يجيبون داعيا إلى سداد مجانبون لرأي الخلفاء مخالفون لهم في السنة والقضاء وقد وقفت ليزيد في أحسن القضية وأرضاها لحمل الرعية فإذا خار الله لك فاعزم ثم اقطع قالة الكلام فإن يزيد أعظمنا حلما وعلما وأوسعنا كنفا وخيرنا سلفا قد أحكمته التجارب وقصدت به سبل المذاهب فلا يصرفنك عن بيعته صارف ولا يقفن بك دونها واقف ممن هو شاسع عاص ينوص للفتنة كل مناص لسانه ملتو وفي صدره داء دوي إن قال فشر قائل وإن سكت فداء غائل قد عرفنا من هم أولئك وما هم عليه لك من المجانبة للتوفيق والتكلف للتفريق فاجل ببيعته عنا الغمة واجمع به شمل الأمة ولا تحد عنه إذ هديت له ولا تنبش عنه إذ وفقت له فإن ذلك الرأي لنا ولك والحق علينا وعليك أسأل الله العون وحسن العاقبة لنا ولك بمنه
233 - خطبة معاوية
فقام معاوية فقال أيها الناس إن لإبليس من الناس إخوانا وخلانا بهم يستعد وإياهم يستعين وعلى ألسنتهم ينطق إن رجوا طمعا أو جفوا وإن استغني عنهم أرجفوا

ثم يلقحون الفتن بالفجور ويشققون لها حطب النفاق عيابون مرتابون إن لووا عروة أمر حنفوا وإن دعوا إلى غي أسرفوا وليسوا أولئك بمنتهين ولا بمقلعين ولا متعظين حتى تصيبهم صواعق خزي وبيل وتحل بهم قوارع أمر جليل تجتث أصولهم كاجتثاث أصول الفقع فأولى لأولك ثم أولى فإنا قد قدمنا وأنذرنا إن أغنى التقدم شيئا أو نفع النذر
234 - خطبة يزيد بن المقنع
ثم قام يزيد بن المقنع فقال أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد فمن أبى فهذا وأشار إلى سيفه فقال معاوية اجلس فإنك سيد الخطباء
235 - خطبة الأحنف
ثم تكلم الأحنف بن قيس فقال يا أمير المؤمنين أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره وسره وعلانيته ومدخله ومخرجه فإن كنت تعلمه لله رضا ولهذه الأمة فلا تشاور الناس فيه وإن كنت تعلم

منه غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت صائر إلى الآخرة فإنه ليس لك من الآخرة إلا ما طاب واعلم أنه لا حجة لك عند الله إن قدمت يزيد على الحسن والحسين وأنت تعلم من هما وإلى ما هما وإنما علينا أن نقول سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير
قال صاحب العقد فتفرق الناس ولم يذكروا إلا كلام الأحنف ثم بايع الناس ليزيد بن معاوية فقال رجل وقد دعي إلى البيعة اللهم إني أعوذ بك من شر معاوية فقال له معاوية تعوذ من شر نفسك فإنه أشد عليك وبايع فقال إني أبايع وأنا كاره للبيعة فقال له معاوية بايع أيها الرجل فإن الله يقول ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )
أما ابن قتيبة فيقول قالوا فاستخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة سنة خمسين فتلقاه الناس فلما استقر في منزله أرسل إلى عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وأمر حاجبه ألا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر فلما جلسوا تكلم معاوية فقال
236 - خطبة معاوية
الحمد لله الذي أمرنا بحمده ووعدنا عليه ثوابه نحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد فإني قد كبر سني ووهن عظمي وقرب أجلي وأوشكت أن أدعى فأجيب وقد رأيت أن أستخلف عليكم بعدي يزيد ورأيته لكم رضا وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها ولم يمنعني أن أحضر حسنا وحسينا إلا أنهما أولاد أبيهما على حسن رأيي فيهما وشديد محبتي لهما فردوا على أمير المؤمنين خيرا يرحمكم الله

237 - خطبة عبد الله بن عباس
فتكلم عبد الله بن عباس فقال الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وآل محمد أما بعد فإنك قد تكلمت فأنصتنا وقلت فسمعنا وإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه اختار محمد لرسالته واختاره لوحيه وشرفه على خلقه فأشرف الناس من تشرف به وأولاهم بالأمر أخصهم به وإنما علي الأمة التسليم لنبيها إذ اختاره الله لها فإنه إنما اختار محمدا بعلمه وهو العليم الخبير وأستغفر الله لي ولكم
238 - خطبة عبد الله بن جعفر
فقام عبد الله بن جعفر فقال الحمد لله أهل الحمد ومنتهاه نحمده علي إلهامنا حمده ونرغب إليه في تأدية حقه وأشهد أن لا إله إلا الله واحدا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد فإن هذه الخلافة إن أخذ فيها بالقرآن ف ( أولو الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله ) وإن أخذ فيها بسنة رسول الله فأولو رسول الله وإن أخذ بسنة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر من آل الرسول وايم الله لو ولوه بعد نبيهم لوضعوا الأمر موضعه لحقه وصدقه ولأطيع الله وعصي الشيطان وما اختلف في الأمة سيفان فاتق الله يا معاوية فإنك قد صرت راعيا ونحن رعية فانظر لرعيتك فإنك مسئول عنها غدا

وأما ما ذكرت من ابني عمي وتركك أن تحضرهما فوالله ما أصبت الحق ولا يجوز لك ذلك إلا بهما وإنك لتعلم أنهما معدن العلم والكرم فقل أودع وأستغفر الله لي ولكم
239 - خطبة عبد الله بن الزبير
فتكلم عبد الله بن الزبير فقال الحمد لله الذي عرفنا دينه وأكرمنا برسوله أحمده على ما أبلى وأولى وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد فإن هذه الخلافة لقريش خاصة تتناولها بمآثرها السنية وأفعالها المرضية مع شرف الآباء وكرم الأبناء فاتق الله يا معاوية وأنصف من نفسك فإن هذا عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عم رسول الله وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمة رسول الله وعلي خلف حسنا وحسينا وأنت تعلم من هما وما هما فاتق الله يا معاوية وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك
240 - خطبة عبد الله بن عمر المتوفى سنة 74ه
فتكلم عبد الله بن عمر فقال الحمد لله الذي أكرمنا بدينه وشرفنا بنبيه أما بعد فإن هذه الخلافة ليست بهرقلية ولا قيصرية ولا كسروية يتوارثها الأبناء عن الاباء ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي فوالله ما أدخلني مع الستة من أصحاب الشورى إلا على أن الخلافة ليست شرطا مشروطا وإنما هي في قريش خاصة لمن كان لها أهلا ممن ارتضاه المسلمون لأنفسهم من كان أتقى وأرضى فإن كنت تريد الفتيان من قريش فلعمري إن يزيد من فتيانها واعلم أنه لا يغنينى عنك من الله شيئا

241 - خطبة معاوية
فتكلم معاوية فقال قد قلت وقلتم وإنه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء فابني أحب إلي من أبنائهم مع أن ابني إن قاولتموه وجد مقالا وإنما كان هذا الأمر لبني عبد مناف لأنهم أهل رسول الله فلما مضي رسول الله ولي الناس أبا بكر وعمر من غير معدن الملك ولا الخلافة غير أنهما سارا بسيرة جميلة ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف فلا يزال فيهم إلي يوم القيامة وقد أخرجك الله يا بن الزبير وأنت يا بن عمر منها فأما ابنا عمي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد ولم يقطع عنهم شيئا من صلاتهم وأعطياتهم ثم انصرف راجعا إلى الشأم وسكت عن البيعة فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين
قال ابن قتيبة ثم لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله سنة 51 إلا يسيرا حتى بايع ليزيد بالشأم وكتب ببيعته إلى الآفاق وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه بذلك وأمره أن يجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة ثم يبايعوا ليزيد فلما قرأ كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريش وكتب إلى معاوية إن قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك فأرني رأيك فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله ويخبره أنه قد ولى المدينة سعيد بن العاص فخرج مروان مغاضبا في أهل بيته وأخواله من بني كنانة حتى أتى دمشق ودخل على معاوية فسلم عليه بالخلافة ثم قال

242 - خطبة مروان بن الحكم
إن الله عظيم خطره لا يقدر قادر قدره خلق من خلقه عبادا جعلهم لدعائم دينه أوتادا هم رقباؤه على البلاد وخلفاؤه على العباد أسفر بهم الظلم وألف بهم الدين وشدد بهم اليقين ومنح بهم الظفر ووضع بهم من استكبر فكان من قبلك من خلفائنا يعرفون ذلك في سالف زمامنا وكنا نكون لهم على الطاعة إخوانا وعلى من خالف عنها أعوانا يشد بنا العضد ويقام بنا الأود ونستشار في القضية ونستأمر في أمر الرعية وقد أصبحنا اليوم في أمور مستحيرة ذات وجوه مستديرة تفتح بأزمة الضلال وتحلس بأسوأ الرحال يؤكل جزورها وتمتق أحلابها فما لنا لا نستأمر في رضاعها ونحن فطامها وأولاد فطامها وأيم الله لولا عهود مؤكدة ومواثيق معقدة لأقمت أود وليها فأقم الأمر يا بن أبي سفيان واعدل عن تأميرك الصبيان واعلم أن لك في قومك نظراء وأن لهم على مناوأتك وزراء
فغضب معاوية من كلامه غضبا شديدا ثم كظم غيظه بحلمه وأخذ بيد مروان ثم قال

243 - خطبة معاوية
إن الله قد جعل لكل شيء أصلا وجعل لكل خير أهلا ثم جعلك في الكرم مني محتدا والعزيز مني والدا اخترت من قروم قادة ثم استللت سيد سادة فأنت ابن ينابيع الكرم فمرحبا بك وأهلا من ابن عم ذكرت خلفاء مفقودين شهداء صديقين كانوا كما نعت وكنت لهم كما ذكرت وقد أصبحنا في أمور مستحيرة ذات وجوه مستديرة وبك والله يا بن العم نرجو استقامة أودها وذلولة صعوبتها وسفور ظلمتها حتى يتطأطأ جسيمها ويركب بك عظيمها فأنت نظير أمير المؤمنين وعدته في كل شديدة وعضده والثاني بعد ولي عهده فقد وليتك قومك وأعظمت في الخراج سهمك وأنا مجيز وفدك ومحسن رفدك وعلي أمير المؤمنين غناك والنزول عند رضاك
244 - مروان وعبد الرحمن بن أبي بكر
وروي أن مروان لما ورد عليه كتاب معاوية قرأه على أهل المدينة وقال إن أمير المؤمنين قد كبر سنه ودق عظمه وقد خاف أن يأتيه أمر الله تعالى فيدع الناس كالغنم لا راعي لها وقد أحب أن يعلم علما ويقيم إماما فقالوا وفق الله أمير المؤمنين وسدده ليفعل فكتب بذلك إلى معاوية فكتب إليه أن سم يزيد

فقرأ الكتاب عليهم وسمي يزيد وخطبهم فحضهم على الطاعة وحذرهم الفتنة ودعاهم إلى بيعة يزيد وقال سنة أبي بكر الهادية المهدية فقام عبد الرحمن بن أبي بكر فقال كذبت والله يا مروان وكذب معاوية معك إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة وبايع لرجل من بني عدي رضي دينه وأمانته واختاره لأمة محمد لا يكون ذلك لا تحدثوا علينا سنة الروم كلما مات هرقل قام مكانه هرقل فقال مروان أيها الناس إن هذا المتكلم هو الذي أنزل الله فيه ( والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ) فقال له عبد الرحمن

يا بن الزرقاء أفينا تتأول القرآن وتكلم الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر وأنكروا بيعة يزيد وتفرق الناس فكتب مروان إلى معاوية بذلك
قال ابن قتيبة فقدم معاوية المدينة حاجا ثم أرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله ابن عباس فحضرا وابتدأ معاوية فقال
245 - خطبة معاوية
أما بعد فالحمد لله ولى النعم ومنزل النقم وأشهد أن لا إله إلا الله المتعالى عما يقول الملحدون علوا كبيرا وأن محمدا عبده المختص المبعوث إلى الجن والإنس كافة لينذرهم بقرآن ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) فأدى عن الله وصدع بأمره وصبر على الأذى في جنبه حتى أوضح دين الله وأعز أولياءه وقمع المشركين وظهر أمر الله وهم كارهون فمضي صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بذل له واختار منها الترك لما سخر له زهادة واختيارا لله وأنفة واقتدارا على الصبر وبغيا لما يدوم ويبقى وهذه صفة رسول الله ثم خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك وبين ذلك خوض طالما عالجناه مشاهدة

ومكافحة ومعاينة وسماعا وما أعلم منه فوق ما تعلمان وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه وقد علم الله ما أحاول به من أمر الرعية من سد الخلل ولم الصدع بولاية يزيد بما أيقظ العين وأحمد الفعل هذا معناى في يزيد وفيكما فضل القرابة وحظوة العلم وكمال المروءة وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما مع علمه بالسنة وقراءة القرآن والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب وقد علمتما أن الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة قدم على الصديق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة ذات السلاسل من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنة مذكورة فقادهم الرجل بأمره وجمع بهم صلاتهم وحفظ عليهم فيئهم وقال ولم يقل معه وفي رسول الله أسوة حسنة فمهلا بني عبد المطلب فإنا وأنتم شعبا نفع وجد وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما فما يقول القائل إلا بفضل قولكما فردا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما وأستغفر الله لي ولكما
فتيسر ابن عباس للكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين وقال على رسلك فأنا المراد ونصيبى في التهمة أوفر فأمسك ابن عباس فقام الحسين

246 - خطبة الحسين
فحمد الله وصلي علي الرسول ثم قال أما بعد يا معاوية فلن يؤدي القائل وأن أطنب في صفة الرسول من جميع جزءا قد فهمت ما ألبست به الخلف بعد رسول الله من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاغ البيعة وهيهات هيهات يا معاوية فضح الصبح فحمة الدجى وبهرت الشمس أنوار السرج ولقد فضلت حتى أفرطت واستأثرت حتى أجحفت ومنعت حتى بخلت وجرت حتى جاوزت ما بذلت لذي حق من أتم حقه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ونصيبه الأكمل وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمة محمد تريد أن توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوبا أو تنعت غائبا أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المتهارشة عند التحارش والحمام السبق لأترابهن والقينات ذوات المعازف وضروب الملاهي تجده ناصرا ودع عنك ما تحاول فما أغناك أن تلقي الله بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه فوالله ما برحت تقدم باطلا في جور وحنقا في ظلم حتى ملأت الأسقية وما بينك وبين الموت إلا غمضة فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ولات حين مناص ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ومنعتنا عن آبائنا تراثا ولقد لعمر الله أورثنا الرسول عليه الصلاة و السلام

ولادة وجئت لنا بما حججتم به القائم عند موت الرسول علية الصلاة والسلام فأذعن للحجة بذلك ورده الإيمان إلى النصف فركبتم الأعاليل وفعلتم الأفاعيل وقلتم كان ويكون حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله وتأميره له وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته وكرهوا تقديمه وعدوا عليه أفعاله فقال لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب أم كيف صاحبت بصاحب تابعا وحولك من لا يؤمن في صحبته ولا يعتمد في دينه وقرابته وتتخاطهم إلى مسرف مفتون تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه وتشقى بها في آخرتك إن هذا لهو الخسران المبين وأستغفر الله لي ولكم
فنظر معاوية إلى ابن عباس فقال ما هذا يا بن عباس ولما عندك أدهى وأمر فقال ابن عباس لعمر الله إنها لذرية رسول الله عليه الصلاة و السلام وأحد أصحاب الكساء ومن البيت المطهر فاله عما تريد فإن لك في الناس مقنعا حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين فقال معاوية أعود الحلم التحلم وخيرة التحلم عن الأهل انصرفا في حفظ الله
ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر وإلى عبد الله بن عمر وإلى عبد الله ابن الزبير فجلسوا

247 - خطبة معاوية
فحمد الله وأثني عليه معاوية ثم قال يا عبد الله بن عمر قد كنت تحدثنا أنك لا تحب أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة وأن لك الدنيا وما فيها وأني أحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم وأن تسفك دمائهم وإن أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم وقد وكد الناس بيعتهم في أعناقهم وأعطوا على ذلك عهودهم مواثيقهم ثم سكت
248 - خطبة عبد الله بن عمر
فتكلم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثني عليه ثم قال أما بعد يا معاوية لقد كان قبلك خلفاء وكان لهم بنون ليس ابنك بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك فلم يحابوا في هذا الأمر أحدا ولكن اختاروا لهذه الأمة حيث علموهم وأنت تحذرني أن أشق عصا المسلمين وأفرق ملأهم وأسفك دماءهم ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله ولكن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أمة محمد
فقال معاوية يرحمك الله ليس عندك خلاف ثم قال معاوية لعبد الرحمن ابن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر فقال له عبد الرحمن إنك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد والذي نفسي بيده لتجعلنها شورى أو لأعيدنها جذعة ثم قام ليخرج فتعلق معاوية بطرف ردائه ثم قال على رسلك

اللهم اكفنيه بما شئت لا تظهرن لأهل الشأم فإني أخشى عليك منهم ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر ثم قال له أنت ثعلب رواغ كلما خرجت من جحر انجحرت في آخر أنت ألبت هذين الرجلين وأخرجتهما إلي ما خرجا إليه فقال ابن الزبير أتريد أن تبايع ليزيد أرأيت إن بايعناه أيكما نطيع أنطيعك أم نطيعه إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها وبايع ليزيد فنحن نبايعه فكثر كلامه وكلام ابن الزبير حتى قال له معاوية في بعض كلامه والله ما أراك إلا قاتلا نفسك ولكأني بك قد تخبطت في الحبالة ثم أمرهم بالانصراف واحتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يخرج ثم خرج فأمر المنادي أن ينادي في الناس أن يجتمعوا لأمر جامع فاجتمع الناس في المسجد وقعد هؤلاء حول المنبر
249 - خطبة معاوية
فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر يزيد وفضله وقراءته للقرآن ثم قال يأهل المدينة لقد هممت ببيعة يزيد وما تركت قرية ولا مدرة إلا بعثت إليها ببيعته فبايع الناس جميعا وسلموا وأخرت المدينة بيعته وقلت بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله ووالله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له
فقام الحسين فقال والله لقد تركت من هو خير منه أبا وأما ونفسا فقال معاوية كأنك تريد نفسك فقال الحسين نعم أصلحك الله فقال معاوية إذن أخبرك أما قولك خير منه أما فلعمري أمك خير من أمه ولو لم يكن إلا أنها امرأة من قريش لكان نساء قريش أفضلهن فكيف وهي ابنة رسول الله

ثم فاطمة في دينها وسابقتها فأمك لعمر الله خير من أمه وأما أبوك فقد حاكم أباه إلى الله فقضى لأبيه على أبيك فقال الحسين حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل فقال معاوية وأما ما ذكرت من أنك خير من يزيد نفسا فيزيد والله خير لأمة محمد منك فقال الحسين هذا هو الإفك والزور يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خير مني فقال معاوية مهلا عن شتم ابن عمك فإنك لو ذكرت عنده بسوء لم يشتمك ثم التفت معاوية إلى الناس وقال أيها الناس قد علمتم أن رسول الله قبض ولم يستخلف أحدا فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر وكانت بيعته بيعة هدى فعمل بكتاب الله وسنة نبيه فلما حضرته الوفاة رأى أن يستخلف عمر فعمل عمر بكتاب الله وسنة نبيه فلما حضرته الوفاة رأي أن يجعلها شورى بين ستة نفر اختارهم من المسلمين فصنع أبو بكر ما لم يصنه رسول الله وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر كل ذلك يصنعونه نظرا للمسلمين فلذلك رأيت أن أبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ونظرا لهم بعين الإنصاف
وروي من طريق آخر أن معاوية لما خرج إلى المدينة ودنا منها استقبله أهلها فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر فأقبل على عبد الرحمن بن أبي بكر فسبه وقال لا مرحبا بك ولا أهلا فلما دخل الحسين عليه قال لا مرحبا بك ولا أهلا بدنة يترقرق دمها والله مهريقه فلما دخل ابن الزبير قال لا مرحبا بك ولا أهلا ضب تلعة مدخل رأسه تحت ذنبه فلما دخل عبد الله بن عمر قال لا مرحبا بك ولا أهلا وسبه فقال

إني لست بأهل لهذه المقالة قال بلى ولما هو شر منها فدخل معاوية المدينة وأقام بها وخرج هؤلاء الرهط معتمرين فلما كان وقت الحج خرج معاوية حاجا فأقبل بعضهم على بعض فقالوا لعله قد ندم فأقبلوا يستقبلونه فلما دخل ابن عمر قال مرحبا بصاحب رسول الله وابن الفاروق هاتوا لأبي عبد الرحمن دابة وقال لابن أبي بكر مرحبا بشيخ قريش وسيدها وابن الصديق هاتوا له دابة وقال لابن الزبير مرحبا يا بن حواري رسول الله وابن عمته هاتوا له دابه وقال للحسين مرحبا يابن رسول الله وسيد شباب المسلمين قربوا لأبي عبد الله دابة وجعلت ألطافه تدخل عليهم ظاهرة يراها الناس ويحسن إذنهم وشفاعتهم وحملهم على الدواب وخرج حتى أتى مكة فقضي حجه ولما أراد الشخوص أمر بأثقاله فقدمت وأمر بالمنبر فقرب من الكعبة ثم أرسل إليهم فاجتمعوا وقال بعضهم لبعض من يكلمه فأقبلوا على الحسين فأبى فقالوا لابن الزبير هات فأنت صاحبنا قال على أن تعطوني عهد الله أن لا أقول شيئا إلا تابعتموني عليه قالوا لك ذلك فأخذ عهودهم رجلا رجلا فدخلوا عليه فرحب بهم وقال قد علمتم نظري لكم وتعطفي عليكم وصلتي أرحامكم ويزيد أخوكم وابن عمكم وإنما أردت أن أقدمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرون وتنهون فسكتوا فقال أجيبوني فسكتوا فقال أجيبوني فسكتوا فقال لابن الزبير هات فأنت صاحبهم قال
250 - خطبة عبد الله بن الزبير
نخيرك بين إحدى ثلاث أيها أخذت فهي لك رغبة وفيها خيار إن شئت فاصنع فينا ما صنعه رسول الله قبضه الله ولم يستخلف أحدا فرأى

المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر فدع هذا الأمر حتى يختار الناس لأنفسهم وإن شئت فما صنع أبو بكر عهد إلى رجل من قاصية قريش وترك من ولده ومن رهطه الأدنين من كان لها أهلا وإن شئت فما صنع عمر جعلها شورى في ستة نفر من قريش يختارون رجلا منهم وترك ولده وأهل بيته وفيهم من لو وليها لكان لها أهلا
فقال معاوية هل غير هذا قال لا ثم قال للآخرين ما عندكم قالوا نحن على ما قال ابن الزبير فقال معاوية إني أتقدم إليكم وقد أعذر من أنذر إني قائم فقائل مقالة فإياكم أن تعترضوا على حتى أتمها فإن صدقت فعلي صدقي وإن كذبت فعلي كذبي وأقسم بالله لئن رد على رجل منكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمته حتى يضرب رأسه فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه ولا يبقى إلا عليها وأمر أن يقوم على رأس كل رجل منهم رجلان بسيفيهما فإن تكلم بكلمة يرد بها عليه قوله قتلاه وخرج وأخرجهم معه حتى رقي المنبر وحف به أهل الشأم واجتمع الناس فقام خطيبا فقال
251 - خطبة معاوية
قال بعد حمد الله والثناء عليه إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار قالوا إن حسينا وابن أبي بكر وابن عمر وابن الزبير لم يبايعوا ليزيد وهؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا نبرم أمرا دونهم ولا نقضي أمرا إلا عن مشورتهم وإني دعوتهم فوجدتهم سامعين مطيعين فبايعوا وسلموا وأطاعوا
فقال أهل الشأم وما يعظم من أمر هؤلاء ايذن لنا فنضرب أعناقهم لا نرضي حتى يبايعوا علانية فقال معاوية سبحان الله ما أسرع الناس إلى قريش بالشر

وأحلي دماءهم عندهم أنصتوا فلا أسمع هذه المقالة من أحد ودعا الناس إلى البيعة فبايعوا ثم قربت رواحله فركب ومضي فقال الناس للحسين وأصحابه قلتم لا نبايع فلما دعيتم وأرضيتم بايعتم قالوا لم نفعل قالوا بلي قد فعلتم وبايعتم أفلا أنكرتم قالوا خفنا القتل وكادكم بنا وكادنا بكم

تهنئة وتعزية
252 - خطبة عبد الله بن همام السلولى
لما توفي معاوية واستخلف يزيد ابنه سنة 60 اجتمع الناس على بابه ولم يقدروا على الجمع بين تهنئة وتعزية حتى أتى عبد الله بن همام السلولى فدخل عليه فقال يا أمير المؤمنين آجرك الله على الرزية وبارك لك في العطية وأعانك على الرعية فلقد رزئت عظيما وأعطيت جسيما فاشكر الله على ما أعطيت واصبر له على ما رزيت فقد فقدت خليفة الله ومنحت خلافة الله ففارقت جليلا ووهبت جزيلا إذ قضي معاوية نحبه فغفر الله ذنبه ووليت الرياسة فأعطيت السياسة فأوردك الله موارد السرور ووفقك لصالح الأمور وأنشد ( فاصبر يزيد فقد فارقت ذاثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا )
( لا رزء أصبح في الأقوام نعلمه ... كما رزئت ولا عقبي كعقباكا )
( أصبحت والي أمر الناس كلهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا )
( وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا )
وعبد الله بن همام هو أول من فتح الباب في الجمع بين تهنئة وتعزية فولجه الناس كما روي من غير وجه

253 - خطبة عطاء بن أبي صيفي الثقفي
وروي المسعودى أن يزيد بعد موت أبيه أذن للناس فدخلوا عليه لا يدرون أيهنئونه أو يعزونه فقام عطاء بن أبي صيفي فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته أصبحت وقد رزئت خليفة الله وأعطيت خلافة الله ومنحت هبة الله وقد قضي معاوية نحبه فغفر الله له ذنبه وأعطيت بعده الرياسة ووليت السياسة فاحتسب عند الله أعظم الرزية واحمده على أفضل العطية
254 - خطبة عبد الله بن مازن
ثم قام عبد الله بن مازن فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين رزئت خير الآباء وسميت خير الأسماء ومنحت أفضل الأشياء فهنأك الله بالعطية وأعانك على الرعية فقد أصبحت قريش مفجوعة ببعد ساستها مسرورة بما أحسن الله إليها من الخلافة بك والعقبي من بعده ثم أنشأ يقول ( الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها )
( عنك فيأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها )
ثم قام عبد الله بن همام فخطب خطبته السالفة

255 - خطبة غيلان بن مسلمة الثقفي
وروي الجاحظ أنه لما توفي عبد الملك وجلس ابنه الوليد دخل عليه الناس وهم لا يدرون أيهنئونه أم يعزونه فاقبل غيلان بن مسلمة الثقفي فسلم عليه ثم قال يا أمير المؤمنين أصبحت قد رزئت خير الآباء وسميت خير الأسماء وأعطيت أفضل الأشياء فعظم الله لك على الرزية الصبر وأعطاك في ذلك نوافل الأجر وأعانك على حسن الولاية والشكر ثم قضي عبد الملك بخير القضية وأنزله بأشرف المنازل المرضية وأعانك من بعده على الرعية

خطب ولاة الأمويين وقوادهم
خطب زياد بن أبيه المتوفي سنة
53
256 - خطبته بفارس وقد كتب إليه معاوية يتهدده
كان الإمام علي عليه السلام ولى زيادا فارس أو بعض اعمال فارس فضبطها ضبطا صالحا وجبي خراجها وحماها فلما قتل الإمام بقي زياد في عمله وخاف معاوية جانبه وعلم صعوبة ناحيته واشفق من ممالأته الحسن بن علي عليه السلام فكتب إليه يتهدده فغضب زياد غضبا شديدا وجمع الناس وصعد المنبر فحمد الله ثم قال العجب من ابن آكلة الأكباد وقاتلة أسد الله ومظهر الخلاف ومسر النفاق ورئيس الأحزاب ومن أنفق ماله في إطفاء نور الله كتب إلى يرعد ويبرق

عن سحابة جفل لا ماء فيها وعما قليل تصيرها الرياح قزعا والذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة أفمن إشفاق على تنذر وتعذر كلا ولكن ذهب إلى غير مذهب وقعقع لمن روي بين صواعق تهامة كيف أرهبه وبيني وبينه ابن بنت رسول الله وآله وابن ابن عمه في مائة ألف من المهاجرين والأنصار والله لو أذن لي فيه أو ندبني إليه لأرينه الكواكب نهارا ولأسعطنه ماء الخردل دونه الكلام اليوم والجمع غدا والمشورة بعد ذلك إن شاء الله ثم نزل
257 - خطبته وقد بعث معاوية إليه المغيرة بن شعبة يستقدمه
وكتب إلى معاوية يرد عليه ردا شديد اللهجة فغم ذلك معاوية وأحزنه وأوفد إليه المغيرة بن شعبة بكتاب يتلطف به فيه ويستدنيه منه ويستلحقه بنسب أبيه

أبي سفيان وجعل المغيرة يترفق به وينصح له أن يصل حبله بحبله ولا يقطع رحمه فتريث زياد يومين أو ثلاثة يروي في أمره ثم جمع الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال أيها الناس ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم وارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان وفكرت فيهم فوجدتهم كالأضاحي في كل عيد يذبحون ولقد أفنى هذان اليومان يوم الجمل وصفين ما ينيف على مائة ألف كلهم يزعم أنه طالب حق وتابع إمام وعلى بصيرة من أمره فإن كان الأمر هكذا فالقاتل والمقتول في الجنة كلا ليس كذلك ولكن أشكل الأمر والتبس على القوم وإني لخائف أن يرجع الأمر كما بدا فكيف لامرئ بسلامة دينه وقد نظرت في أمر الناس فوجدت أحمد العاقبتين العافية وسأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته ومغبته فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله ثم نزل
وكتب إلى معاوية يستوثق منه فأعطاه معاوية جميع ما سأله وكتب إليه بخط يده ما وثق به فدخل إليه الشام فقربه وأدناه وأقره على ولايته ثم استعمله على العراق

258 - خطبته وقد استلحقه معاوية
ولما أراد معاوية استلحاق زياد وقد قدم عليه الشأم جمع الناس وصعد المنبر وأصعد زيادا معه فأجلسه بين يديه على المرقاة التي تحت مرقاته وحمد الله وأثني عليه ثم قال أيها الناس إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد فمن كان عنده شهادة فليقم بها فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبي سفيان وأنهم سمعوا ما أقر به قبل موته فلما انقضي كلام معاوية ومناشدته قام زياد وأنصت الناس فحمد الله وأثني عليه ثم قال

أيها الناس هذا أمر لم أشهد أوله ولا علم لي بآخره وقد قال أمير المؤمنين ما بلغكم وشهدت الشهود بما سمعتم فالحمد لله الذي رفع منا ما وضع الناس وحفظ منا ما ضيعوا فأما عبيد فإنما هو والد مبرور أو ربيب مشكور ثم نزل
259 - خطبته حين ولي البصرة وهي البتراء
وقدم زياد البصرة غرة جمادى الأولى سنة 45ه واليا لمعاوية بن أبي سفيان وضم إليه خراسان وسجستان والفسق بالبصرة كثير فاش ظاهر فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها وقيل بل قال الحمد لله على إفضاله وإحسانه ونسأله المزيد من نعمه وإكرامه اللهم كما زدتنا نعما فألهمنا شكرا أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والغي الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير كأنكم لم تقرءوا كتاب الله ولم تسمعوا

ما أعد الله من الثواب الكبير لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم الضعيف يقهر ويؤخذ ماله هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار قربتم القرابة وباعدتم الدين تعتذرون بغير العذر وتغضون على المختلس كل امرئ منكم يذب عن سفيهه صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادا ما أنتم بالحلماء ولقد اتبعتم السفهاء فلم يزل بكم ما ترون من قيامكم دونه حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب حرام على الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا إلى رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله لين في غير ضعف

وشدة في غير عنف وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقي الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في واعلموا أن عندي أمثالها من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه فإياي ودلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه وقد أحدثتم أحداثا لم تكن وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قوما غرقناه ومن أحرق قوما أحرقناه ومن نقب

بيتا نقبنا عن قلبه ومن نبش قبرا دفناه حيا فيه فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم يدي ولساني ولا تظهر من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه وقد كانت بيني وبين أقوام إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا ومن كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعا ولم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل ذلك لم أناظره فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس
أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا واعلموا أني مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث لست محتجبا عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقا بليل ولا حابسا عطاء ولا رزقا عن إبانه ولا مجمرا لكم بعثا فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون لكم وكهفكم الذي إليه تأوون ومتى يصلحوا تصلحوا ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا له حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرا لكم أسأل الله أن يعين كلا على كل وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فأنفذوه على

أذلاله وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاى
فقام إليه عبد الله بن الأهتم فقال أشهد أيها الأمير لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب فقال له كذبت ذاك نبي الله داود صلوات الله عليه فقام الأحنف ابن قيس فقال إنما الثناء بعد البلاء والحمد بعد العطاء وإنا لن نثني حتى نبتلي فقال له زياد صدقت فقام أبو بلال مرداس ابن أدية وهو يهمس ويقول أنبأنا الله بغير ما قلت قال الله تعالي ( وإبراهيم الذي وفي ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) وأنت تزعم أنك تأخذ البريء بالسقيم والمطيع بالعاصي والمقبل بالمدبر فسمعها زياد فقال إنا لا نبلغ ما نريد فيك وفي أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضا
260 - خطبته بالكوفة وقد ضمت إليه
ولما مات المغيرة بن شعبة أمير الكوفة سنة 50ه ضم معاوية الكوفة إلى زياد فكان أول من جمع له الكوفة والبصرة فاستخلف على البصرة وشخص إلى الكوفة فأتاها فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن هذا الأمر أتاني وأنا بالبصرة فأردت أن أشخص إليكم في ألفين من شرطة

البصرة ثم ذكرت أنكم أهل حق وأن حقكم طالما دفع الباطل فأتيتكم في أهل بيتي فالحمد لله الذي رفع مني ما وضع الناس وحفظ مني ما ضيعوا حتى فرغ من الخطبة
261 - خطبة أخرى له بالكوفة
وروى الطبري أيضا قال فجمعت الكوفة والبصرة لزياد بن أبي سفيان فأقبل حتى دخل القصر بالكوفة ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإنا قد جربنا وجربنا وسسنا وساسنا السائسون فوجدنا هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح أوله بالطاعة اللينة المشبه سرها بعلانيتها وغيب أهلها بشاهدهم وقلوبهم بألسنتهم ووجدنا الناس لا يصلحهم إلا لين في غير ضعف وشدة في غير عنف وإني والله لا أقوم فيكم بأمر إلا أمضيته على أذلاله وليس من كذبة الشاهد عليها من الله والناس أكبر من كذبة إمام على المنبر ثم ذكر عثمان وأصحابه فقرظهم وذكر قتلته ولعنهم
262 - خطبته بالكوفة يتهدد الشيعة
وكان زياد قد ولى الكوفة عمرو بن الحريث ورجع إلى البصرة فبلغه أن حجر بن عدي يجتمع إليه شيعة علي ويظهرون لعن معاوية والبراءة منه وأنهم

حصبوا عمرو بن الحريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها فأتي القصر ثم خرج فصعد المنبر وعليه قباء سندس ومطرف خز أخضر قد فرق شعره وحجر جالس في المسجد حوله أصحابه أكثر ما كانوا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن غب البغي والغي وخيم إن هؤلاء جمعا فأشروا وأمنوني فاجترءوا علي وايم الله لئن لم تستقيموا لأداوينكم بدوائكم وقال ما أنا بشيء إن لم أمنع باحة الكوفة من حجر وأدعه نكالا لمن بعده ويل أمك يا حجر سقط العشاء بك على سرحان
263 - خطبة أخرى له
وخطب زياد فقال استوصوا بثلاثة منكم خيرا الشريف والعالم والشيخ فوالله لا يأتيني شيخ بشاب قد استخف به إلا أوجعته ولا يأتيني عالم بجاهل استخف به إلا نكلت به ولا يأتيني شريف بوضيع استخف به إلا انتقمت له منه
264 - خطبة أخرى
وخطب على المنبر فقال أيها الناس لا يمنعنكم سوء ما تعلمون منا أن تنتفعوا بأحسن ما تسمعون منا فإن الشاعر يقول

( اعمل بقولي وإن قصرت في عملي ... ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري )
265 - وصية زياد
وروى الجاحظ عن عمرو بن عبيد أنه قال كتب عبد الملك بن مروان وصية لزياد بيده وأمر الناس بحفظها وتدبر معانيها وهي إن الله عز و جل جعل لعباده عقولا عاقبهم بها على معصيته وأثابهم بها على طاعته فالناس بين محسن بنعمة الله عليه ومسيء بخذلان الله إياه ولله النعمة على المحسن والحجة على المسيء فما أولى من تمت عليه النعمة في نفسه ورأى العبرة في غيره بأن يضع الدنيا بحيث وضعها الله فيعطي ما عليه منها ولا يتكثر بما ليس له منها فإن الدنيا دار فناء ولا سبيل إلى بقائها ولا بد من لقاء الله فأحذركم الله الذي حذركم نفسه وأوصيكم بتعجيل ما أخرته العجزة قبل أن تصيروا إلى الدار التي صاروا إليها فلا تقدرون على توبة وليس لكم منها أوبة وأنا أستخلف الله عليكم وأستخلفه منكم
قال الجاحظ وقد روى هذا الكلام عن الحجاج وزياد أحق به منه
266 - ما كان يقوله لمن ولاه عملا
وكان زياد إذا ولى رجلا عملا قال له خذ عهدك وسر إلى عملك واعلم أنك مصروف رأس سنتك وأنك تصير إلي أربع خلال فاختر لنفسك إنا إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بك لضعفك وسلمتك من معرتنا أمانتك وإن وجدناك قويا خائنا استهنا بقوتك وأوجعنا ظهرك

وثقلنا غرمك وإن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين وإن وجدناك أمينا قويا في عملك زدنا في عملك ورفعنا ذكرك وكثرنا مالك وأوطأنا عقبك
267 - خطبة الضحاك بن قيس الفهري بالكوفة
قتل سنة 64ه
وخطب الضحاك بن قيس الفهري على منبر الكوفة وقد كان بلغه أن قوما من أهلها يشتمون عثمان ويبرءون منه فقال بلغني أن رجالا منكم ضلالا يشتمون أئمة الهدى ويعيبون أسلافنا الصالحين أما والذي ليس له ند ولا شريك لئن لم تنتهوا عما يبلغني عنكم لأضعن فيكم سيف زياد ثم لا تجدونني ضعيف السورة ولا كليل الشفرة أما إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم فكنت أول من غزاها في الإسلام وشرب من ماء الثعلبية

ومن شاطئ الفرات أعاقب من شئت وأعفو عمن شئت لقد ذعرت المخدرات في خدورهن وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلا بذكر اسمي فاتقوا الله يأهل العراق أنا الضحاك بن قيس أنا أبو أنيس أنا قاتل عمرو ابن عميس
فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد فقال صدق الأمير وأحسن القول ما أعرفنا والله بما ذكرت ولقد لقيناك بغربي تدمر فوجدناك شجاعا مجربا صبورا ثم جلس وقال أيفخر علينا بما صنع ببلادنا أول ما قدم وايم الله لأذكرنه أبغض مواطنه إليه فسكت الضحاك قليلا وكأنه خزي واستحيا ثم قال نعم كان ذلك اليوم بأخرة بكلام ثقيل ثم نزل
268 - خطبته عند موت معاوية
ولما مات معاوية سنة 60ه خرج الضحاك بن قيس الفهري وكان صاحب شرطته حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه تلوح فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن معاوية كان عمود العرب وحد العرب قطع الله عز و جل به الفتنة وملكه على العباد وفتح به البلاد ألا إنه قد مات فهذه أكفانه فنحن مدرجوه فيها ومدخلوه قبره ومخلون بينه وبين عمله ثم هو في البرزخ إلى يوم القيامة فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحصر عند الأولى

269 - خطبة النعمان بن بشير بالكوفة
قتل سنة 64ه
خطب النعمان بن بشير على منبر الكوفة فقال يأهل الكوفة إني والله ما وجدت مثلي ومثلكم إلا الضبع والثعلب أتيا الضب في جحره فقالا أبا الحسل قال أجبتكما قالا جئناك نختصم قال في بيته يؤتى الحكم قالت الضبع فتحت عيني قال فعل النساء فعلت قالت فلقطت تمرة قال حلوا اجتنيت قالت فاختطفها ثعالة قال لنفسه بغى الخير قالت فلطمته لطمة قال حقا قضيت قالت فلطمني أخرى قال كان حرا فانتصر قالت فاقض الآن بيننا قال حدث حديثين امرأة فإن لم تفهم فأربعة

270 - خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه بين يدي معاوية
قتل سنة 67ه
قدم عبيد الله بن زياد على معاوية بعد هلاك زياد فجعل يتصدى منه بخلوة ليسبر من رأيه ما كره أن يشرك في علمه فاستأذن عليه بعد انصداع الطلاب واشتغال الخاصة وافتراق العامة وهو يوم معاوية الذي كان يخلو فيه بنفسه ففطن معاوية لما أراد فبعث إلى ابنه يزيد وإلى مروان بن الحكم وإلى سعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحكم وعمرو بن العاص فلما أخذوا مجالسهم أذن له فسلم ووقف واجما يتصفح وجوه القوم ثم قال صريح العقوق مكاتمة الأدنين لا خير في اختصاص وإن وفر أحمد الله إليكم على الآلاء وأستعينه على اللأواء وأستهديه من عمى مجهد وأستعينه على عدو مرصد وأشهد أن لا إله إلا الله المنقذ بالأمين الصادق من شفا جرف هار ومن بد غار وصلوات الله على الزكى نبي الرحمة ونذير الأمة وقائد الهدى أما بعد يا أمير المؤمنين فقد عسف بنا ظن فرع وفذع صدع حتى طمع السحيق وبئس الرفيق ودب الوشاة بموت زياد فكلهم مستحقر

للعداوة وقد قلص الآزرة وشمر عن عطافه ليقول مضى زياد بما استلحق به ودل على الأناة من مستلحقه فليت أمير المؤمنين سلم في دعته وأسلم زيادا في ضيعته فكان ترب عامته وأحد رعيته فلا تشخص إليه عين ناظر ولا إصبع مشير ولا تندلق عليه ألسن كلمته حيا ونبشته ميتا فإن تكن يا أمير المؤمنين حابيت زيادا بأول رفات ودعوة أموات فقد حاباك زياد بجد هصور وعزم جسور حتى لانت شكائم الشرس وذلت صعبة الأشوس وبذل لك يا أمير المؤمنين يمينه ويساره تأخذ بهما المنيع وتقهر بهما البديع حتى مضى والله يغفر له فإن يكن أخذ بحق أنزله منازل الأقربين فإن لنا بعده ما كان له بدالة الرحم وقرابة الحميم فما لنا يا أمير المؤمنين نمشي الضراء ونشتف النضار ولك من خيرنا أكمله وعليك من حوبنا أثقله وقد شهد القوم وما ساءني قربهم ليقروا حقا ويردوا باطلا فإن للحق منارا واضحا وسبيلا قصدا فقل يا أمير

المؤمنين بأي أمريك شئت فما نأزر إلى غير جحرنا ولا نستكثر بغير حقنا وأستغفر الله لي ولكم
271 - رد معاوية على ابن زياد
فنظر معاوية في وجوه القوم كالمتعجب فتصفحهم بلحظه رجلا رجلا وهو مبتسم ثم اتجه تلقاءه وعقد حبوته وحسر عن يده وجعل يومئ بها ثم قال معاوية الحمد لله على ما نحن فيه فكل خير منه وأشهد أن لا إله إلا الله فكل شيء خاضع له وأن محمدا عبده ورسوله دل على نفسه بما بان عن عجز الخلق أن يأتوا بمثله فهو خاتم النبيين ومصدق المرسلين وحجة رب العالمين صلوات الله عليه وبركاته أما بعد فرب خير مستور وشر مذكور وما هو إلا السهم الأخيب لمن طار به والحظ المرغب لمن فاز به فيهما التفاضل وفيهما التغابن وقد صفقت يداي في أبيك صفقة ذي الخلة من رواضع الفصلان عامل اصطناعي له بالكفر لما أوليته فما رميت به إلا انتصل ولا انتضيته إلا غلق جفنه ولزت لسعته ولا قلت إلا عاند ولا قمت إلا قعد حتى اخترمه الموت وقد أوقع بختره ودل على حقده وقد كنت رأيت في أبيك رأيا حضره الخطل والتبس به الزلل فأخذ مني بحظ الغفلة وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء

فما برحت هنات أبيك تحطب في حبل القطيعة حتى انتكث المبرم وانحل عقد الوداد فيا لها توبة تؤتنف من حوبة أورثت ندما أسمع بها الهاتف وشاعت للشامت فليهنأ الواشم ما به احتقر وأراك تحمد من أبيك جدا وجسورا هما أوفيا به على شرف التقحم وغبط النعمة فدعهما فقد أذكرتنا منه ما زهدنا فيك من بعده وبهما مشيت الضراء واشتففت النضار فاذهب إليك فأنت نجل الدغل ونثر النفل والأجر شر
272 - مقال يزيد بن معاوية
فقال يزيد يا أمير المؤمنين إن للشاهد غير حكم الغائب وقد حضرك زياد وله مواطن معدودة بخير لا يفسدها التظني ولا تغيرها التهم وأهلوه أهلوك التحقوا بك وتوسطوا شأنك فسافرت به الركبان وسمعت به أهل البلدان حتى اعتقده الجاهل وشك فيه العالم فلا تتحجر يا أمير المؤمنين ما قد اتسع وكثرت فيه الشهادات وأعانك عليه قوم آخرون
فانحرف معاوية إلى من معه فقال هذا وقذ نفسه ببيعته وطعن في إمرته يعلم ذلك كما أعلمه يا للرجال من آل أبي سفيان لقد حكموا وبذهم يزيد وحده

ثم نظر إلى عبيد الله فقال يا بن أخي إني لأعرف بك من أبيك وكأني بك في غمرة لا يخطوها السابح فالزم ابن عمك فإن لما قال حقا فخرجوا ولزم عبيد الله يزيد يرد مجلسه ويطأ عقبه أياما حتى رمى به معاوية إلى البصرة واليا عليها
273 - وصية المهلب بن أبي صفرة لأبنائه عند موته
روى الطبري قال لما كان المهلب بن أبي صفرة بزاغول من مرو الروذ من خراسان أصابته الشوصة وقوم يقولون الشوكة فدعا حبيبا ومن حضره من ولده ودعا بسهام فحزمت وقال أترونكم كاسريها مجتمعة قالوا لا قال أفترونكم كاسريها متفرقة قالوا نعم قال فهكذا الجماعة فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإن صلة الرحم تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار وتورث الذلة والقلة تباذلوا وتواصلوا تحابوا وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا وتباروا تجتمع أموركم إن بني الأم يختلفون فكيف ببني العلات وعليكم بالطاعة والجماعة ولتكن فعالكم أفضل من قولكم فإني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه واتقوا الجواب وزلة اللسان فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته ويزل لسانه فيهلك اعرفوا لمن يغشاكم حقه فكفي بغدو

الرجل ورواحه إليكم تذكرة له وآثروا الجود على البخل وأحبوا العرب واصطنعوا العرب فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف الصنيعة عنده وعليكم في الحرب بالأناة والمكيدة فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قيل أتى الأمر من وجهه ثم ظفر فحمد وإن لم يظفر بعد الأناة قيل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وأدب الصالحين وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم وقد استخلفت عليكم يزيد وجعلت حبيبا على الجند حتى يقدم بهم على يزيد فلا تخالفوا يزيد فقال له المفضل لو لم تقدمه لقدمناه
وعهد إلى ولده يزيد فكان من جملة ما قال له يا بني استعقل الحاجب واستظرف الكاتب فإن حاجب الرجل وجهه وكاتبه لسانه وكان يقول لبنيه يا بني أحسن ثيابكم ما كان على غيركم ومن كلماته المأثورة قوله الحياة خير من الموت والثناء الحسن خير من الحياة ولو أعطيت ما لم يعطه لأحد لأحببت أن تكون لي أذن أسمع بها ما يقال في غدا إذا مت وقوله عجبت لمن يشتري العبيد بماله ولا يشتري الأحرار بإفضاله

خطب الحجاج بن يوسف الثقفي
المتوفى سنة 95ه
274 - خطبته بمكة بعد مقتل ابن الزبير سنة 73ه
لما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء فصعد المنبر فقال ألا إن ابن الزبير كان من أحبار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة ونازع فيها وخلع طاعة الله واستكن بحرم الله ولو كان شيء مانعا للعصاة لمنع آدم حرمة الجنة لأن الله تعالى خلقه بيده وأسجد له ملائكته وأباحه جنته فلما عصاه أخرجه منها بخطيئته وآدم على الله أكرم من ابن الزبير والجنة أعظم حرمة من الكعبة
275 - خطبته بعد قتل ابن الزبير
وصعد الحجاج بعد قتله ابن الزبير متلثما فحط اللثام عنه ثم قال
موج ليل التطم وانجلى بضوء صبحه يأهل الحجاز كيف رأيتموني ألم أكشف ظلمة الجور وطخية الباطل بنور الحق والله لقد وطئكم الحجاج وطأة مشفق وعطفة رحم ووصل قرابة فإياكم أن تزلوا عن سنن أقمناكم عليه

فأقطع عنكم ما وصلته لكم بالصارم البتار وأقيم من أودكم ما يقيم المثقف من أود القناة بالنار ثم نزل وهو يقول
( أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا )
276 - خطبته حين ولي العراق سنة 75ه
حدث عبد الملك بن عمير الليثي قال
بينا نحن في المسجد الجامع بالكوفة وأهل الكوفة يومئذ ذوو حال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ أتى آت فقال هذا الحجاج قد قدم أميرا على العراق فإذا به قد دخل المسجد معتما بعمامة قد غطي بها أكثر وجهه متقلدا سيفا متنكبا قوسا يؤم المنبر فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم فقال الناس بعضهم لبعض قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي ألا أحصبه لكم فقالوا أمهل حتى ننظر فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال
( أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفونى )

ثم قال يأهل الكوفة أما والله إني لأحمل الشر بحمله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله وإني لأري أبصارا طامحة وأعناقا متطاولة ورءوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقرق ثم قال
( هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم )
( ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم )
ثم قال ( قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراج من الدوي )
( مهاجر ليس بأعرابي )
ثم قال
( قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدت الحرب بكم فجدوا )
( والقوس فيها وتر عرد ... مثل ذراع البكر أو أشد )
( لا بد مما ليس منه بد )

إني والله يأهل العراق ومعدن الشقاق والنفاق ومساوي الأخلاق ما يقعقع لي بالشنان ولا يغمز جانبي كتغماز التين ولقد فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة وجريت إلى الغاية القصوى وإن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه نثر كنانته بين يديه فعجم عيدانها فوجدني أمرها عودا وأصلبها مكسرا فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتن واضطجعتم في مراقد الضلال وسننتم سنن الغي أما والله لألحونكم لحو العصا ولأقرعنكم قرع المروءة ولأعصبنكم عصب السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وإني والله لا أعد إلا وفيت ولا أهم إلا أمضيت ولا أخلق إلا فريت فإياي وهذه الشفعاء والزرافات والجماعات وقالا وقيلا وما تقول وفيم أنتم وذاك

أما والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلا في جسده وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا سفكت دمه وأنهبت ماله وهدمت منزله
277 - خطبته وقد سمع تكبيرا في السوق
فلما كان اليوم الثالث خرج من القصر فسمع تكبيرا في السوق فراعه ذلك فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال يأهل العراق يأهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق وبني اللكيعة وعبيد العصا وأولاد الإماء والفقع بالقرقر إني سمعت تكبيرا لا يراد الله به وإنما يراد به الشيطان ألا إنها عجاجة تحتها قصف وإنما مثلي ومثلكم ما قال عمرو بن براق الهمذاني
( وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم ... فهل أنا في ذايا لهمدان ظالم )

( متى تجمع القلب الذكي وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم )
أما والله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الدابر
278 - خطبته وقد قدم البصرة
وخطب لما قدم البصرة يتهدد أهل العراق ويتوعدهم فقال أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه ومن استطال أجله فعلي أن أعجله ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقله ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا وللسلطان سيفا فمن سقمت سريرته صحت عقوبته ومن وضعه ذنبه رفعه صلبه ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة ومن سبقته بادرة فمه سبق بدنه بسفك دمه إني أنذر ثم لا أنظر وأحذر ثم لا أعذر وأتوعد ثم لا أعفو إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم ومن استرخى لببه ساء أدبه إن الحزم والعزم سلباني سوطي وأبدلاني به سيفي فقائمه في يدي ونجاده في عنقي وذبابه قلادة لمن عصاني والله لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه

279 - خطبته بعد وقعة دير الجماجم
وخطب أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم فقال يأهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف ثم أفضي إلى المخاخ والأصماخ ثم ارتفع فعشش ثم باض وفرخ فحشاكم نفاقا وشقاقا وأشعركم خلافا اتخذتموه دليلا تتبعونه وقائدا تطيعونه ومؤامرا تستشيرونه فكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم وقعة أو يحجزكم إسلام أو ينفعكم بيان ألستم أصحابي بالأهواز

حيث رمتم المكر وسعيتم بالغدر واستجمعتم للكفر وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا وتنهزمون سراعا ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوص وليكم عنكم إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى اوطانها النوازع إلى أعطانها لا يسأل المرء عن أخيه ولا يلوي الشيخ على بنيه حتى عضكم السلاح وقصمتكم الرماح ثم يوم دير الجماجم وما يوم دير الجماجم بها كانت المعارك والملاحم بضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله يأهل العراق والكفرات بعد الفجرات والغدرات بعد الخترات والزوات بعد النزوات إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم وإن أمنتم أرجفتم وإن خفتم نافقتم لا تذكرون حسنة ولا تشكرون نعمة هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاو أو استنصركم ظالم أو استعضدكم خالع إلا تبعتموه وآويتموه ونصرتموه وزكيتموه يأهل العراق هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره يأهل العراق ألم تنهكم المواعظ ألم تزجركم الوقائع
ثم التفت إلى أهل الشأم وهم حول المنبر فقال يأهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها المدر ويباعد عنها الحجر ويكنها

من المطر ويحميها من الضباب ويحرسها من الذئاب يأهل الشام أنتم الجنة والرداء وأنتم العدة والحذاء
280 - خطبة أخرى له في أهل الكوفة وأهل الشأم
وخطب فقال يأهل الكوفة إن الفتنة تلقح بالنجوى وتنتج بالشكوى وتحصد بالسيف أما والله إن أبغضتموني لا تضروني وأن أحببتموني لا تنفعوني وما أنا بالمستوحش لعدواتكم ولا المستريح إلى مودتكم زعمتم أني ساحر وقد قال الله تعالى ( ولا يفلح الساحر ) وقد أفلحت وزعمتم أني أعلم الاسم الأكبر فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون
ثم التفت إلى أهل الشأم فقال لأزواجكم أطيب من المسك ولأبناؤكم آنس بالقلب من الولد وما أنتم إلا كما قال أخو بني ذبيان ( إذا حاولت في أسد فجورا ... فإني لست منك ولست مني )
( هم درعي التي استلأمت فيها ... إلى يوم النسار وهم مجني )
ثم قال بل أنتم يأهل الشأم كما قال الله سبحانه ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) ثم نزل
281 - خطبة له بالبصرة
وخطب بالبصرة فقال قال الله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) فهذه لله وفيها مثوبة وقال

( واسمعوا وأطيعوا ) وهذه لعبد الله وخليفة الله وحبيب الله عبد الملك بن مروان أما والله لو أمرت الناس أن يأخذوا في باب واحد فأخذوا في باب غيره لكانت دماؤهم لي حلالا من الله ولو قتل ربيعة ومصر لكان لي حلالا
عذيرى من أهل هذه الحميراء يرمي أحدهم بالحجر إلى السماء ويقول يكون إلى أن يقع هذا خير والله لأجعلنهم كالرسم الدائر وكالأمس الغابر عذيرى من عبد هذيل يقرأ القرآن كأنه رجز الأعراب أما والله لو أدركته لضربت عنقه يعني عبد الله بن مسعود عذيرى من سليمان بن داود يقول لربه ( رب أغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) كان والله فيما علمت عبدا حسودا بخيلا
282 - خطبة أخرى له بالبصرة
حمد الله وأثني عليه ثم قال إن الله كفانا مئونة الدنيا وأمرنا بطلب الآخرة فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا مالي أرى علماءكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون وشراركم لا يتوبون مالي أراكم تحرصون على ما كفيتم وتضيعون ما به أمرتم إن العلم يوشك أن يرفع ورفعه ذهاب العلماء ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس الذين لا يقرءون القرآن إلا هجرا ولا يأتون الصلاة إلا دبرا ألا وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر ألا وإن الآخرة أجل مستأخر يحكم فيها ملك قادر

ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر واعلموا أنكم ملاقوه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار ألا وإن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وأستغفر الله لي ولكم
283 - خطبته في أهل العراق يصارحهم بالكراهة
وخطب أهل العراق فقال يأهل العراق إني لم أجد دواء أدوي لدائكم من هذه المغازي والبعوث لولا طيب ليلة الإياب وفرحة القفل فإنها تعقب راحة وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم ولا الراحة بكم وما أراكم إلا كارهين لمقالتي وأنا والله لرؤيتكم أكره ولولا ما أريد من تنفيذ طاعة أمير المؤمنين فيكم ما حملت نفسي مقاساتكم والصبر على النظر إليكم والله أسأل حسن العون عليكم ثم نزل
284 - خطبة أخرى
وخطب أهل العراق فقال يأهل العراق بلغني انكم تروون عن نبيكم أنه قال من ملك على عشر رقاب من المسلمين جيء به يوم القيامة مغلولة يداه إلي عنقه حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور وايم الله إني لأحب إلى أن أحشر مع أبي بكر وعمر مغلولا من أن أحشر معكم مطلقا

285 - خطبته لما مات عبد الملك بن مروان
ولما مات عبد الملك بن مروان قام فحمد الله وأثني عليه ثم قال أيها الناس إن الله تبارك وتعالى نعي نبيكم إلى نفسه فقال ( إنك ميت وإنهم ميتون ) وقال ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) فمات رسول الله ومات الخلفاء الراشدون المهتدون المهديون منهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان الشهيد المظلوم ثم تبعهم معاوية ثم وليكم البازل الذكر الذي جربته الأمور وأحكمته التجارب مع الفقه وقراءة القرآن والمروءة الظاهرة واللين لأهل الحق والوطء لأهل الزيغ فكان رابعا من الولاة المهديين الراشدين فاختار الله له ما عنده وألحقه بهم وعهد إلى شبهه في العقل والمروءة والحزم والجلد والقيام بأمر الله وخلافته فاسمعوا له وأطيعوه
أيها الناس إياكم والزيغ فإن الزيغ لا يحيق إلا بأهله ورأيتم سيرتي فيكم وعرفت خلافكم وطيبتم على معرفتي بكم ولو علمت أن أحدا أقوى عليكم مني أو أعرف بكم ما وليتكم فإياي وإياكم من تكلم قتلناه ومن سكت مات بدائه غما ثم نزل
خطبته حين أراد الحج
وأراد الحجاج أن يحج فاستخلف محمدا ولده على أهل العراق ثم خطب فقال يأهل العراق يأهل الشقاق والنفاق إني أريد الحج وقد استخلفت عليكم ابني محمدا هذا وما كنتم له بأهل وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله

في الأنصار إن رسول الله أوصى أن يقبل من محسنهم وأن يتجاوز عن مسيئهم وإني أمرته ألا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم ألا وإنكم ستقولون بعدي مقالة ما يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي ألا وإنكم ستقولون بعدي لا أحسن الله له الصحابة ألا وإني معجل لكم الإجابة لا أحسن الله الخلافة عليكم ثم نزل
287 - خطبته لما أصيب بولده محمد وأخيه محمد في يوم واحد
قال صاحب العقد فلما كان غداة الجمعة مات محمد بن الحجاج فلما كان بالعشى أتاه بريد من اليمن بوفاة محمد أخيه ففرح أهل العراق وقالوا انقطع ظهر الحجاج وهيض جناحه فخرج فصعد المنبر ثم خطب الناس فقال أيها الناس محمدان في يوم واحد أما والله ما كنت أحب أنهما معي في الحياة الدنيا لما أرجو من ثواب الله لهما في الآخرة وايم الله ليوشكن الباقي مني ومنكم أن يفنى والجديد أن يبلي والحي مني ومنكم أن يموت وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها فتأكل من لحومنا وتشرب من دمائنا كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمارها وشربنا من مائها ثم نكون كما قال الله تعالى ( ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) ثم تمثل بهذين البيتين

( عزائي نبي الله من كل ميت ... وحسبي ثواب الله من كل هالك )
( إذا ما لقيت الله عني راضيا ... فإن سرور النفس فيما هنالك )
288 - خطبته وقد أرجف أهل العراق بموته
ومرض الحجاج ففرح أهل العراق وأرجفوا بموته فلما بلغه تحامل حتى صعد المنبر فقال إن طائفة من أهل العراق أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم فقالوا مات الحجاج ومات الحجاج فمه وهل يرجو الحجاج الخير إلا بعد الموت والله ما يسرني ألا أموت وأن لي الدنيا وما فيها وما رأيت الله رضي بالتخليد إلا لأهون خلقه عليه إبليس قال أنظرني إلي يوم يبعثون قال إنك من المنظرين ولقد دعا الله العبد الصالح فقال ( ربي اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ) فأعطاه ذلك إلا البقاء فما عسى أن يكون أيها الرجل وكلكم ذلك الرجل كأني والله بكل حي منكم ميتا وبكل رطب يابسا ونقل في ثياب أكفانه إلى ثلاثة أذرع طولا في ذراع عرضا وأكلت الأرض لحمه ومصت صديده وانصرف الحبيب من ولده يقسم الخبيث من ماله إن الذين يعقلون يعلمون ما أقول ثم نزل

خطبه الوعظية
289
- وخطب الحجاج يوما فقال أيها الناس قد أصبحتم في أجل منقوص وعمل محفوظ رب دائب مضيع وساع لغيره والموت في أعناقكم والنار بين أيديكم والجنة أمامكم خذوا من أنفسكم لأنفسكم ومن غناكم لفقركم ومما في أيديكم لما بين أيديكم فكأن ما قد مضي من الدنيا لم يكن وكأن الأموات لم يكونوا أحياء وكل ما ترونه فإنه ذاهب هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك هذه الشمس التي طلعت على التبابعة والأكاسرة وخزائنهم السائرة بين أيديهم وقصورهم المشيدة ثم طلعت على قبورهم أين الملوك الأولون أين الجبابرة المتكبرون المحاسب الله والصراط منصوب وجهنم تزفر وتتوقد وأهل الجنة ينعمون في روضة يحبرون جعلنا الله وإياكم من الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا
فكان الحسن البصري رحمه الله يقول ألا تعجبون من هذا الفاجر يرقى عتبات المنبر فيتكلم بكلام الأنبياء وينزل فيفتك فتك الجبارين يوافق الله في قوله ويخالفه في فعله

290 - وقال مالك بن دينار غدوت إلى الجمعة فجلست قريبا من المنبر فصعد الحجاج ثم قال امرؤ حاسب نفسه امرؤ راقب ربه امرؤ زور عمله امرؤ فكر فيما يقرؤه غدا في صحيفته ويراه في ميزانه امرؤ كان عند همه آمرا وعند هواه زاجرا امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطام جمله فإن قاده إلى حق تبعه وإن قاده إلى معصية الله كفه إننا والله ما خلقنا للفناء وإنما خلقنا للبقاء وإنما ننتقل من دار إلى دار
291
- وخطب يوما فقال أيها الناس اقدعوا هذه الأنفس فإنها أسأل شيء إذا أعطيت وأعصى شيء إذا سئلت فرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله وعطفها بزمامها عن مصية الله فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله

292 - وخطب فقال اللهم أرني الغي غيا فأجتنبه وأرني الهدى هدى فأتبعه ولا تكلني إلي نفسي فأضل ضلالا بعيدا والله ما أحب أن ما مضي من الدنيا لي بعمامتي هذه ولما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء
293
- ومن كلامه إن امرأ أتت عليه ساعة من عمره لم يذكر فيها ربه ويستغفر ربه من ذنبه ويفكر في معاده لجدير أن يطول حزنه ويتضاعف أسفه إن الله كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء فلا بقاء لما كتب عليه الفناء ولا فناء لما كتب عليه البقاء فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة وأقهروا طول الأمل بقصر الأجل

خطب قتيبة بن مسلم الباهلى قتل سنة 96ه
294 - خطبته يحث على الجهاد وقد تهيأ لغزو طخارستان
قدم قتيبة بن مسلم الباهلي خراسان واليا عليها من قبل الحجاج سنة 86 فلما تهيأ لغزو أخرون و شومان وهما من بلاد طخارستان خطب الناس وحثهم على الجهاد فقال إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه ويذب بكم عن الحرمات ويزيد بكم المال استفاضة والعدو وقما ووعد نبيه النصر بحديث صادق وكتاب ناطق فقال ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب وأعظم الذخر عنده فقال ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ) ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حي مرزوق فقال ( ولا تحسبن الذين

قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) فتنجزوا موعود ربكم ووطنوا أنفسكم على أقصي أثر وأمضي ألم وإياكم والهوينى
295 - خطبته وقد تهيأ لغزو بلاد السغد
ولما صالح قتيبة أهل خوارزم وسار إلى السعد سنة 93ه خطب الناس فقال إن الله قد فتح لكم هذه البلدة في وقت الغزو فيه ممكن وهذه السغد شاغرة برجلها قد نقضوا العهد الذي كان بيننا ومنعونا ما كنا صالحنا عليه طرخون وصنعوا به ما بلغكم وقال الله تعالى ( فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ) فسيروا على بركة الله فإني أرجو أن يكون خوارزم والسغد كالنضير وقريظة وقال الله تعالى ( وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها )

296 - خطبته وقد سارت إليه جيوش الشاش وفرغانة
وأتي قتيبة السغد فحصرها شهرا وخاف اهلها طول الحصار فكتبوا إلى ملك الشاش وفرغانة إنا نحن دونكم فيما بينكم وبين العرب فإن وصل إلينا كنتم أضعف وأذل فمهما كان عندكم من قوة فابذلوها فجمعوا جموعهم وولوا عليهم ابنا لخاقان وساروا وقد أجمعوا أن يبيتوا عسكر قتيبة ونمي ذلك إليه فانتخب أهل النجدة والبأس ووجوه الناس وخطبهم فقال إن عدوكم قد رأوا بلاء الله عندكم وتأييده إياكم في مزاحفتكم ومكاثرتكم كل ذلك يفلجكم الله عليهم فأجمعوا على أن يحتالوا غرتكم وبياتكم واختاروا دهاقينهم وملوكهم وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم وقد

فضلكم الله بدينه فأبلوا لله بلاء حسنا تستوجبون به الثواب مع الذب عن أحسابكم
297 - خطبه حين دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك
وقام بخراسان حين خلع سليمان بن عبد الملك ودعا الناس إلى خلعه فقال للناس إني قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر فضممت الأخ إلى أخيه والولد إلى أبيه وقسمت بينكم فيئكم وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدرة ولا مؤخرة وقد جربتم الولاة قبلي أتاكم أمية فكتب إلى أمير المؤمنين إن خراج خراسان لا يقوم بمطبخي ثم جاءكم أبو سعيد فدوم بكم ثلاث سنين لا تدرون أفي طاعة أنتم أم في معصية لم يجب فيئا ولم ينكأ عدوا ثم جاءكم بنوه بعده يزيد فحل تباري إليه النساء وإنما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنقة القيسى فلم يجبه أحد فغضب فقال

لا أعز الله من نصرتم والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها يأهل السافلة ولا أقول أهل العالية يا أوباش الصدقة جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب يا معشر بكر بن وائل يأهل النفخ والكذب والبخل بأي يوميكم تفخرون بيوم حربكم أم بيوم سلمكم فوالله لأنا أعز منكم يا أصحاب مسيلمة يا بني ذميم ولا أقول تميم بأهل الخور والقصف والغدر كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان يا أصحاب سجاح يا معشر عبد القيس القساة تبدلتم بأبر النخل أعنة الخيل يا معشر الأزد تبدلتم بقلوس السفن أعنة الخيل والحصن إن هذا لبدعة في الإسلام والأعراب وما الأعراب لعنة الله على الأعراب يا كناسة المصرين جمعتكم من منابت الشيح والقيصوم

ومنابت القلقل تركبون البقر والحمر في جزيرة ابن كاوان حتى إذا جمعتكم كما يجمع قزع الخريف قلتم كيت وكيت أما والله إني لابن أبيه وأخو أخيه أما والله لأعصبنكم عصب السلمة إن حول الصليان الزمزمة يأهل خراسان هل تدرون من وليكم وليكم يزيد بن ثروان كأني بأمير مزجاء وحكم قد جاءكم فغلبكم على فيئكم وأطلالكم إن ها هنا نارا ارموها أرم معكم ارموا غرضكم الأقصى قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات إن الشأم أب مكفور حتى متى ينبطح أهل الشأم بأفنيتكم وظلال دياركم يأهل خراسان انسبوني تجدوني عراقي الأم عراقي الأب عراقي المولد عراقي الهوى والرأي والدين وقد أصبحتم اليوم فيما ترون من الأمن والعافية قد فتح الله لكم البلاد وآمن سبلكم فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جوار فاحمدوا الله على النعمة وسلوه الشكر والمزيد ثم نزل
وورد كلام قتيبة في هذا الصدد في العقد الفريد والبيان والتبيين في ثلاث خطب هذا نصها

298 - قام بخراسان حين خلع سليمان بن عبد الملك فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال أتدرون من تبايعون إنما تبايعون يزيد بن ثروان يعني هبنقة القيسى كأني بأمير مزجاء وحكم قد أتاكم يحكم في أموالكم ودمائكم وفروجكم وأبشاركم ثم قال الأعراب وما الأعراب لعنة الله على الأعراب جمعتكم كما يجمع قزع الخريف من منابت الشيح والقيصوم ومنابت القلقل وجزيرة ابن كاوان تركبون البقر وتأكلون الهبيد فحملتكم على الخيل وألبستكم السلاح حتى منع الله بكم البلاد وأفاء بكم الفيء قالوا مرنا بأمرك قال غروا غيري
299
- وخطب مرة أخرى فقال يأهل العراق ألست أعلم الناس بكم أما هذا الحي من أهل العالية فنعم الصدقة وأما هذا الحي من بكر بن وائل فعلجة بظراء لا تجمع رجليها وأما هذا الحي عبد القيس فما ضرب العير بذنبه وأما هذا الحي من الازد فعلوج خلق الله وأنباطه وايم الله لو ملكت أمر الناس لنقشت أيديهم وأما هذا الحي من تميم فإنهم كانوا يسمون الغدر في الجاهلية كيسان

300 - وخطب مرة أخري فقال يأهل خراسان قد جربتم الولاة قبلي أتاكم أمية فكان كاسمه أمية الرأي وأمية الدين فكتب إلى خليفته إن خراج خراسان وسجستان لو كان في مطبخه لم يكفه ثم أتاكم بعده أبو سعيد فدوخ بكم البلاد لا تدرون أفي طاعة الله أنتم أم في معصيته ثم لم يجب فيئا ولم ينكأ عدوا ثم أتاكم بنوه بعده مثل أطباء الكلبة منهم ابن الرحمة حصان يضرب في عانة ولقد كان أبوه يخافه على أمهات أولاده ثم أصبحتم وقد فتح الله عليكم البلاد وأمن لكم السبل حتى إن الظعينة لتخرج من مرو إلى سمرقند في غير جوار

301 - كلمات حكيمة لقتيبة بن مسلم
وخرجت خارجة بخراسان فقيل لقتيبة بن مسلم لو وجهت إليهم وكيع بن أبي سود قال وكان وكيع رجلا عظيم الكبر في أنفه خنزوانة وفي رأسه نعرة وإنما أنفه في أسلوب ومن عظم كبره اشتد عجبه ومن أعجب برأيه لم يشاور كفيا ولم يؤامر نصيحا ومن تفرد بالنظر لم يكمل له الصواب ومن تبجح بالانفراد وفخر بالاستبداد كان من الصواب بعيدا ومن الخذلان قريبا والخطأ مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة وإن كانت الجماعة لا تخطئ والفرقة لا تصيب ومن تكبر على عدوه حقره وإذا حقره تهاون بأمره ومن تهاون بخصمه ووثق بفضل قونه قل احتراسه ومن قل احتراسه كثر عثاره وما رأيت عظيم الكبر صاحب حرب إلا كان منكوبا فلا والله حتى يكون عدوه عنده وخصمه فيما تغلب

عليه أسمع من فرس وأبصر من عقاب وأهدي من قطاة وأحذر من عقعق وأشد إقداما من الأسد وأوثب من الفهد وأحقد من جمل وأروغ من ثعلب وأغدر من ذئب وأسخى من لافظة وأشح من صبي وأجمع من ذرة وأحرس من كلب وأصبر من ضب فإن النفس تسمح من العناية على قدر الحاجة وتتحفظ على قدر الخوف وتطلب على قدر الطمع وتطمع على قدر السبب
ومن كلماته البليغة قوله حين قدم خراسان من كان في يديه شيء من مال عبد الله بن خازم فلينبذه وإن كان في فيه فليلفظه وإن كان في صدره فلينفثه فعجب الناس من حسن ما فصل وقسم

302 - خطبة طارق بن زياد في فتح الأندلس
لما دانت بلاد المغرب لموسى بن نصير وكان واليا عليها من قبل الوليد بن عبد الملك طمح بصره إلى فتح بلاد الأندلس فبعث مولاه طارق بن زياد على جيش جله من البربر سنة 92ه فعبر بهم البحر ونمي خبره إلى لذريق ملك القوط فأقبل لمحاربته بجيش جرار وخاف طارق أن يستحوذ الرعب على جنده لقلتهم فأحرق السفن التي أفلتهم حتى يقطع من قلوبهم كل أمل في العودة وقام فيهم فحمد الله وأثني عليه بما هو أهله ثم حثهم على الجهاد ورغبهم في الشهادة فقال أيها الناس أين المفر البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مآدب اللئام وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجرأة عليكم فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة

ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس أربأ فيها بنفسي واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فيما حظكم فيه أوفر من حظي
وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدر والمرجان والحلل المنسوجة بالعقيان المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عزبانا ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا ثقة منه بارتياحكم للطعان وإسماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة وليكون مغنمها خالصا لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين
واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله فاحملوا معي فإن هلكت بعده فقد كفيتم أمره ولن يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه وأحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا المهم من فتح هذه الجزيرة بقتله فإنهم بعده يخذلون

303 - نص آخر لخطبة طارق
وروي ابن قتيبة هذه الخطبة في الإمامة والسياسة بصورة أخري قال لما بلغ طارقا دنو لذريق قام في أصحابه فحمد الله ثم حض الناس على الجهاد ورغبهم في الشهادة وبسط لهم في آمالهم ثم قال أيها الناس أين المفر البحر من وراءكم والعدو أمامكم فليس ثم والله إلا الصدق والصبر فإنهما لا يغلبان وهما جندان منصوران ولا تضر معهما قلة ولا تنفع مع الخور والكسل والفشل والاختلاف والعجب كثرة أيها الناس ما فعلت من شيء فافعلوا مثله إن حملت فاحملوا وإن وقفت فقفوا ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال ألا وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أتهيبه حتى أخالطه وأقتل دونه فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وتولوا الدبر لعدوكم فتبددوا بين قتيل وأسير وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية ولا تعطوا بأيديكم وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة والراحة من المهنة والذلة وما قد حل لكم من ثواب الشهادة فإنكم إن تفلوا والله معكم ومعيذكم تبوءوا بالخسران المبين وسوء الحديث غدا بين من عرفكم من المسلمين وهأنذا حامل حتى أغشاه فاحملوا بحملتي
304 - خطبة عثمان بن حيان المرى بالمدينة
وولي الوليد بن عبد الملك عثمان بن حيان المرى المدينة سنة 94ه وقد خطب على المنبر فقال بعد حمد الله أيها الناس إنا وجدناكم أهل غش لأمير المؤمنين في قديم الدهر وحديثه

وقد ضوي إليكم من يزيد كم خبالا أهل العراق هم أهل الشقاق والنفاق هم والله عش النفاق وبيضته التي تفلقت عنه والله ما جربت عراقيا قط إلا وجدت أفضلهم عند نفسه الذي يقول في آل أبي طالب ما يقول وما هم لهم بشيعة وإنهم لأعداء ولغيرهم ولكن لما يريد الله من سفك دماءهم فإني والله لا أوتي بأحد آوي أحدا منهم أو أكراه منزلا أو أنزله إلا هدمت منزله وأنزلت به ما هو أهله
ثم إن البلدان لما مصرها عمر بن الخطاب وهو مجتهد على ما يصلح رعيته جعل يمر عليه من يريد الجهاد فيستشيره الشأم أحب إليك أم العراق فيقول الشأم أحب إلي
إني رأيت العراق داء عضالا وبها فرخ الشيطان والله لقد أعضلوا بي وإني لأراني سأفرقهم في البلدان ثم أقول لو فرقتهم لأفسدوا من دخلوا عليه بجدل وحجاج وكيف ولم وسرعة وجيف في الفتنة فإذا خبروا عند السيوف لم يخبر منهم طائل لم يصلحوا على عثمان فلقي منهم الأمرين وكانوا أول الناس فتق هذا الفتق العظيم ونقضوا عرا الإسلام عروة عروة وأنغلوا البلدان والله إني لأتقرب إلى الله بكل ما أفعل بهم لما أعرف من رأيهم ومذاهبهم ثم وليهم أمير المؤمنين معاوية فدامجهم فلم يصلحوا عليه ووليهم رجل الناس جلدا

فبسط عليهم السيف وأخافهم فاستقاموا له أحبوا أو كرهوا وذلك أنه خبرهم وعرفهم
أيها الناس إنا والله ما رأينا شعارا قط مثل الأمن ولا رأينا حلسا قط شرا من الخوف فالزموا الطاعة فإن عندي يأهل المدينة خبرة من الخلاف والله ما أنتم بأصحاب قتال فكونوا من أحلاس بيوتكم وعضوا على النواجذ فإني قد بعثت في مجالسكم من يسمع فيبلغني عنكم إنكم في فضول كلام غيره ألزم لكم فدعوا عيب الولاة فإن الأمر إنما ينقض شيئا شيئا حتى تكون الفتنة وإن الفتنة من البلاء والفتن تذهب بالدين وبالمال والولد
305 - وصية يزيد بن المهلب لابنه مخلد قتل سنة 102ه
ولما ولي يزيد بن المهلب خراسان في عهد سليمان بن عبد الملك فتح جرجان وطبرستان سنة 98 وقد أوصى ابنه مخلد حين استخلفه على جرجان فقال يا بني إني قد استخلفتك على هذه البلاد فانظر هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر
( إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم ... فرش واصطنع عند الذين بهم ترمي )
وانظر هذا الحي من ربيعة فإنهم شيعتك وأنصارك فاقض حقوقهم وانظر هذا

الحي من تميم فامطرهم ولا تزه لهم ولا تدنهم فيطمعوا ولا تقصهم فيقطعوا وانظر هذا الحي من قيس فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية ومناصفوهم المنابر في الإسلام ورضاهم منك البشر
يا بني إن لأبيك صنائع فلا تفسدها فإنه كفى بالمرء نقصا أن يهدم ما بنى أبوه وإياك والدماء فإنها لا بقية معها وإياك وشتم الأعراض فإن الحر لا يرضيه عن عرضه عوض وإياك وضرب الأبشار فإنه عار باق ووتر مطلوب واستعمل على النجدة والفضل دون الهوى ولا تعزل إلا عن عجز أو خيانة ولا يمنعك من اصطناع الرجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها وليكن صنيعك عند من يكافئك عنه احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم وإذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه وليكن رسولك فيما بيني وبينك من يفقه عني وعنك فإن كتاب الرجل موضع عقله ورسوله موضع سره وأستودعك الله فلا بد للمودع أن يسكت وللمشيع أن يرجع وما عف من المنطق وقل من الخطيئة أحب إلى أبيك وكذلك سلك هذا المسلك المحمود

306 - نصيحة عمر بن هبيرة لبعض نبيه
وقال عمر بن هبيرة يؤدب بعض بنيه لا تكونن أول مشير وإياك والهوى والرأي الفطير وتجنب ارتجال الكلام ولا تشر على مستبد ولا على وغد ولا على متلون ولا على لجوج وخف الله في موافقة هوى المستشير فإن التماس موافقته لؤم وسوء الاستماع منه خيانة
وقال من كثر كلامه كثر سقطه ومن ساء خلقه قل صديقه

خطب خالد بن عبد الله القسري
توفي سنة 126ه
307 - خطبته بمكة يدعو إلى الطاعة ولزوم الجماعة
خطب خالد بن عبد الله القسري بمكة فقال يأيها الناس إنكم بأعظم بلاد الله حرمة وهي التي اختار الله من البلدان فوضع بها بيته ثم كتب على عباده حجه من استطاع إليه سبيلا أيها الناس فعليكم بالطاعة ولزوم الجماعة وإياكم والشبهات فإني والله ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم إن الله جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها فسلموا وأطيعوا ولا تقولوا كيت وكيت إنه لا رأي فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاؤه واعلموا أنه بلغني أن قوما من أهل الخلاف يقدمون عليكم ويقيمون في بلادكم فإياكم أن تنزلوا أحدا ممن تعلمون أنه زائغ عن الجماعة فإني لا أجد أحدا منهم في منزل أحد منكم إلا هدمت منزله فانظروا من تنزلون في منازلكم وعليكم بالجماعة والطاعة فإن الفرقة هو البلاء العظيم
وسمع يوما يقول والله لو أعلم أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت

لم نقر بالطاعة لأخرجتها من الحرم إنه لا يسكن حرم الله وأمنه مخالف للجماعة زار عليهم
308 - خطبة أخرى يشيد فيها بفضل الوليد
ومن غلوه أنه خطب على منبر مكة فقال أيها الناس أيهما أعظم أخليفة الرجل على أهله أم رسوله إليهم والله لو لم تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقي ربه فسقاه ملحا أجاجا واستسقاه الخليفة فسقاه عذبا فراتا يعني بئرا حفرها الوليد بن عبد الملك بالثنيتين ثنية طوي وثنية الحجون فكان ينقل ماؤها فيوضع في حوض من أدم إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم
309 - خطبته بمكة في الحجاج
وصعد خالد المنبر في يوم جمعة وهو على مكة فذكر الحجاج فحمد طاعته وأثنى عليه خيرا فلما كان في الجمعة الثانية ورد عليه كتاب سليمان بن عبد الملك يأمره فيه بشتم الحجاج ونشر عيوبه وإظهار البراءة منه فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن إبليس كان ملكا من الملائكة وكان يظهر من طاعة الله ما كانت الملائكة ترى له به فضلا وكان الله قد علم من غشه وخبثه ما خفي على ملائكته

فلما أراد الله فضيحته أمره بالسجود لآدم فظهر لهم ما كان يخفيه عنهم فلعنوه وإن الحجاج كان يظهر من طاعة أمير المؤمنين ما كنا نرى له به فضلا وكان الله قد أطلع أمير المؤمنين من غشه وخبثه على ما خفي علينا فلما أراد الله فضيحته أجرى ذلك على يدي أمير المؤمنين فلعنه فالعنوه لعنه الله ثم نزل
310 - خطبة له في الحث على مكارم الأخلاق
وقام على المنبر بواسط فحمد الله و صلى على نبيه ثم قال أيها الناس نافسوا في المكارم وسارعوا إلى المغانم واشتروا الحمد بالجود ولا تكسبوا بالمطل ذما ولا تعتدوا بالمعروف ما لم تعجلوه ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها فالله أحسن لها جزاء وأجزل عليها عطاء واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعمة من الله عليكم فلا تملوا النعم فتحولوها نقما واعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجرا وأورث ذكرا ولو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسنا جميلا يسر الناظرين ولو رأيتم البخل رجلا رأيتموه مشوها قبيحا تنفر عنه القلوب وتغضي عنه الأبصار
أيها الناس إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه وأعظم الناس عفوا من عفا عن قدرة وأوصل الناس من وصل من قطعه ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته والأصول عن مغارسها تنمو وبأصولها تسمو أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم

311 - خطبة له يوم عيد
خطب فذكر الله وجلاله ثم قال كنت كذلك ما شئت أن تكون لا يعلم كيف أنت إلا أنت ثم ارتأيت أن تخلق الخلق فماذا جئت به من عجائب صنعك والكبير والصغير من خلقك والظاهر والباطن من ذرك من صنوف أفواجه وأفراده وأزواجه كيف أدمجت قوائم الذرة والبعوضة إلى ما هو أعظم من ذلك من الأشباح التي امتزجت بالأرواح
312 - قوله وقد سقطت جرادة على ثوبه
وكان خالد إذا تكلم يظن الناس أنه يصنع الكلام لعذوبة لفظه وبلاغة منطقه فبينا هو يخطب يوما إذ سقطت جرادة على ثوبه فقال سبحان من الجرادة من خلقه أدمج قوائمها وطوقها جناحها ووشى جلدها وسلطها على ما هو أعظم منها
313 - خطبة يوسف بن عمر الثقفي قتل سنة 127ه
قام خطيبا فقال
اتقوا الله عباد الله فكم من مؤمل أملا لا يبلغه وجامع مالا لا يأكله ومانع عما سوف يتركه ولعله من باطل جمعه ومن حق منعه أصابه حراما وأورثه

عدوا فاحتمل إصره وباء بوزره وورد على ربه آسفا لاهفا قد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين
314 - خطبة يوسف بن عمر
ولما قتل يوسف بن عمر زيد بن علي سنة 122ه أقبل حتى دخل الكوفة فصعد المنبر فقال يأهل المدرة الخبيثة إني والله ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنان ولا أخوف بالذئب هيهات حبيت بالساعد الأشد
أبشروا يأهل الكوفة بالصغار والهوان لا عطاء لكم عندنا ولا رزق ولقد هممت أن أخرب بلادكم ودوركم وأحرمكم أموالكم أما والله ما علوت منبري إلا أسمعتكم ما تكرهون عليه فإنكم أهل بغي وخلاف ما منكم إلا من حارب الله ورسوله إلا حكيم بن شريك المحاربى ولقد سألت أمير المؤمنين أن يأذن لي فيكم ولو أذن لقتلت مقاتلتكم وسبيت ذراريكم

خطب الفتن والأحداث
فتنة المدينة ووقعة الحرة
315 - خطبة عبد الله بن حنظلة الأنصاري
وقد علم بقدوم جيش الشأم إلى المدينة قتل سنة 63ه
لما كره أهل المدينة خلافة يزيد بن معاوية وبايعوا عبد الله بن حنظلة الأنصاري على خلعه ووثبوا على من كان بالمدينة من بني أمية وحصروهم وأخافوهم وجه إليهم يزيد جيشا من أهل الشأم بقيادة مسلم بن عقبة المرى ونمى إليهم خبر مقدمه عليهم فجمعهم عبد الله بن حنظلة فقال تبايعونني على الموت وإلا فلا حاجة في بيعتكم فبايعوه على الموت ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنما خرجتم غضبا لدينكم فأبلوا إلى الله بلاء حسنا ليوجب لكم به الجنة ومغفرته ويحل بكم رضوانه واستعدوا بأحسن عدتكم وتأهبوا بأكمل أهبتكم فقد أخبرت بأن القوم نزلوا بذي خشب ومعهم مروان بن الحكم والله إن شاء مهلكه بنقضه العهد والميثاق عند منبر رسول الله

فتصايح الناس وجعلوا ينالون منه ويسبونه فقال لهم إن الشتم ليس بشيء نصدقهم اللقاء والله ما صدق قوم قط إلا نصروا ثم رفع يديه إلى السماء وقال اللهم إنا بك واثقون وعليك متوكلون وإليك ألجئنا ظهورنا ثم نزل
316 - خطبة مسلم بن عقبة يؤنب أهل الشأم
وأقبل مسلم بجيشه إلى المدينة فحاصرها من جهة الحرة ودعا أهلها إلى الطاعة ومراجعة الحق وأجلهم ثلاثا فلم يذعنوا لقوله ونشبت الحرب بين الفريقين وحملت خيل ابن حنظلة على أهل الشأم فانكشفوا وقتل صاحب رايتهم فأخذ مسلم الراية ونادى
يأهل الشأم أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم وأن يعزوا به نصر إمامهم قبح الله قتالكم منذ اليوم ما أوجعه لقلبي وأغيظه لنفسي أما والله ما جزاؤكم عليه إلا أن تحرموا العطاء وأن تجمروا في أقاصي الثغور شدوا مع هذه الراية ترح الله وجوهكم إن لم تعتبوا
317 - خطبة مسلم يحرضهم
ثم إن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو ابن حنظلة ورجاله حتى دنوا منه وأخذ مسلم يسير في أهل الشأم ويحرضهم ويقول يأهل الشأم إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها و لا أنسابها ولا أكثرها

عددا ولا أوسعها بلدا ولم يخصصكم الله بالذي خصكم به من النصر على عدوكم وحسن المنزلة عند أئمتكم إلا بطاعتكم واستقامتكم وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيروا فغير الله بهم فتموا على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والفلج
318 - خطبة ابن حنظلة يحرض أصحابه
وقام عبد الله بن حنظلة في أصحابه حين رآهم قد أقبلوا يمشون تحت راياتهم فقال يا هؤلاء إن عدوكم قد أصابوا وجه القتال الذي كان ينبغي أن تقاتلوهم به وإني قد ظننت ألا تلبثوا إلا ساعة حتى يفصل الله بينكم وبينهم إما لكم وإما عليكم أما إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة والله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخط منه على هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم إن لكل امرئ منكم ميتة هو ميت بها والله ما من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها فوالله ما كلما أردتموها وجدتموها
ودارت الدائرة على أهل المدينة وقتل ابن حنظلة فيمن قتل ودخل مسلم المدينة وكانت وقعة الحرة في ذي الحجة سنة 63ه

اضطراب الأمر بعد موت يزيد
319 - خطبة عبيد الله بن زياد بن أبيه
قام عبيد الله بن زياد بن أبيه خطيبا بعد موت يزيد بن معاوية وهو يومئذ أمير العراق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يأهل البصرة انسبوني فوالله ما مهاجر أبى إلا إليكم وما مولدي إلا فيكم وما أنا إلا رجل منكم ولقد وليتكم وما أحصي ديوان مقاتلتكم إلا سبعين ألف مقاتل ولقد أحصي اليوم ديوان مقاتلتكم ثمانين ألفا وما أحصي ديوان عمالكم إلا تسعين ألفا ولقد أحصي اليوم مائة وأربعين ألفا وما تركت لكم ذا ظنة أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم هذا وإن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية قد توفي وقد اختلف أهل الشأم وأنتم اليوم أكثر الناس عددا وأعرضه فناء وأغناه عن الناس وأوسعه بلادا فاختاروا لأنفسكم رجلا ترتضونه لدينكم وجماعتكم يجاهد عدوكم وينصف مظلومكم من ظالمكم ويكف سفهاءكم ويجبي لكم فيئكم ويقسمه فيما بينكم فأنا أول راض من رضيتموه وتابع فإن اجتمع أهل الشأم على رجل ترتضونه دخلتم فيما دخل فيه المسلمون وإن كرهتم ذلك كنتم على جديلتكم

حتى تعطوا حاجتكم فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة وما يستغني الناس عنكم
فقامت خطباء أهل البصرة فقالوا قد سمعنا مقالتك أيها الأمير وإنا والله ما نعلم أحدا أقوى عليها منك فهلم فلنبايعك فقال لا حاجة لي في ذلك فاختاروا لأنفسكم فأبوا عليه وأبى عليهم حتى كرروا ذلك عليه ثلاث مرات فلما أبوا بسط يده فبايعوه
فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بالحيطان وباب الدار ويقولون ظن ابن مرجانة أنا نوليه أمرنا في الفرقة وأقام عبيد الله أميرا غير كثير حتى جعل سلطانه يضعف ويأمر بالأمر فلا يقضى ويري الرأي فيرد عليه ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه
320 - خطبة أخرى له
وبلغه أن سلمة بن ذؤيب يدعو الناس إلى ابن الزبير فأمر فنودي الصلاة جامعة فتجمع الناس فأنشأ عبيد الله يقص أول أمره وأمرهم وما قد كان دعاهم إلى من يرتضونه فيبايعه معهم وقال وإنكم أبيتم غيري وإنه بلغني أنكم مسحتم أكفكم بالحيطان وباب الدار وقلتم ما قلتم وإني آمر بالأمر فلا ينفذ ويرد علي رأيي وتحول القبائل بين أعواني وطلبتي ثم هذا سلمة بن ذؤيب يدعو إلى الخلاف عليكم إرادة أن يفرق جماعتكم ويضرب بعضكم جباه بعض بالسيف
فقال الأحنف بن قيس والناس جميعا نحن نأتيك بسلمة فأتوه فإذا جمعه قد كثف وإذا الفتق قد اتسع على الراتق وامتنع عليهم فقعدوا عن ابن زياد فلم يأتوه

وروي أنه قال في خطبته يأهل البصرة والله لقد لبسنا الخز وليمنة واللين من الثياب حتى لقد أجمنا ذلك وأجمته جلودنا فما بنا إلى أن نعقبا الحديد يأهل البصرة والله لو اجتمعتم علي ذنب عير لتكسروه ما كسرتموه
321 - خطبة عمرو بن حريث
ولما بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد وكان خليفته على الكوفة عمرو ابن حريث بعث وافدين من قبله إلى الكوفة عمرو بن مسمع وسعد بن القرحاء التميمي ليعلم أهل الكوفة ما صنع أهل البصرة ويسألانهم البيعة لابن زياد حتى يصطلح الناس فجمع الناس عمرو بن حريث فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم يدعوانكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم ويصلح به ذات بينكم فاسمعوا منهما واقبلوا عنهما فإنهما برشد ما أتياكم
322 - خطبة عمرو بن مسمع
فقام عمرو بن مسمع فحمد الله وأثنى عليه وذكر أهل البصرة واجتماع رأيهم على تأمير عبيد الله بن زياد حتى يري الناس رأيهم فيمن يولون عليهم وقال قد جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم فيكون أميرنا وأميركم واحدا فإنما الكوفة من البصرة والبصرة من الكوفة

وقام ابن القرحاء فتكلم نحوا من كلام صاحبه فقام يزيد بن الحارث الشيباني فحصبهما أول الناس ثم حصبهما الناس بعد ثم قال أنحن نبايع لابن مرجانة لا ولا كرامة ورجع الوفد إلى البصرة فأعلم الناس الخبر فقالوا أهل الكوفة يخلعونه وأنتم تولونه وتبايعونه فوثب به الناس فاستجار بمسعود بن عمرو الأزدي فأجاره ومنعه ثم خرج إلى الشأم في خفارة رجال من الأزد وبكر بن وائل
323 - خطبة الأحنف بن قيس
واستخلف ابن زياد مسعود بن عمرو الأزدي على البصره فقالت بنو تميم وقيس لا نولي إلا رجلا ترضاه جماعتنا فقال مسعود قد استخلفني فلا أدع ذلك أبدا وبينما هو على المنبر يبايع من أتاه إذ رماه رجل من الخوارج فقتله فخرجت الأزد إلى الخوارج فقتلوا منهم وجرحوا وطردوهم عن البصرة وجاءهم الناس فقالوا لهم تعلمون أن بني تميم يزعمون أنهم قتلوا مسعود بن عمرو فبعثت الأزد تسأل عن ذلك فإذا أناس منهم يقولونه فاجتمعت الأزد عند ذلك وازدلفوا إلى بني تميم وخرجت مع بني تميم قيس وخرج مع الأزد بكر بن وائل فالتقى القوم واقتتلوا أشد القتال فقتل من الفريقين قتلى كثيرة فقالت لهم بنو تميم الله الله يا معشر الأزد في دمائنا ودمائكم بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإسلام فإن كانت لكم علينا بينة أنا قتلنا صاحبكم فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه بصاحبكم وإن لم تكن لكم بينة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا ولا نعلم لصاحبكم قاتلا وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم فاصطلحوا فأتاهم الأحنف ابن قيس فقال يا معشر الأزد أنتم جيرتنا في الدار وإخوتنا عند القتال وقد أتيناكم

في رحالكم لإطفاء حشيشتكم وسل سخيمتكم ولكم الحكم مرسلا فقولوا على احلامنا وأموالنا فإنه لا يتعاظمنا ذهاب شيء من أموالنا كان فيه صلاح بيننا فقالوا أتدون صاحبنا عشر ديات قال هي لكم فانصرف الناس واصطلحوا
وروى الجاحظ وابن عبد ربه هذه الخطبة بصورة أخرى وها هي ذي
قال بعد حمد الله والثناء عليه يا معشر الأزد وربيعة أنتم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الصهر وأشقاؤنا في النسب وجيراننا في الدار ويدنا على العدو والله لأزد البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشأم فإن استشرف شنآنكم وأبى حسد صدوركم ففي أموالنا وسعة أحلامنا لنا ولكم سعة

324 - خطبة روح بن زنباع الجذامي بالمدينة
لما نمى هلاك يزيد بن معاوية إلى الحصين بن نمير وهو على حرب ابن الزبير

بمكة انصرف بجيشه إلى الشأم فلما صاروا إلى المدينة جعل أهلها بهتفون بهم ويتوعدونهم ويذكرون قتلاهم بالحرة فلما أكثروا من ذلك وخافوا الفتنة وهيجها صعد روح بن زنباع الجذامي على منبر رسول الله وكان في ذلك الجيش فقال يأهل المدينة ما هذا الإيعاد الذي توعدوننا إنا والله ما دعوناكم إلى كلب لمبايعة رجل منهم ولا إلى رجل من بلقين ولا إلي رجل من لخم أو جذام أو غيرهم من العرب ولكن دعوناكم إلى هذا الحي من قريش يعني بني أمية ثم إلي طاعة يزيد بن معاوية وعلى طاعته قاتلناكم فإيانا توعدون أما والله إنا لأبناء الطعن والطاعون وفضلات الموت والمنون فما شئتم ومضي القوم إلى الشأم

325 - خطبته يؤيد مبايعة مروان بن الحكم بالخلافة
ولما اجتمع الرأي على البيعة لمروان بن الحكم قام روح بن زنباع فحمد الله وأثني عليه ثم قال
أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وصحبته من رسول الله وقدمه في الإسلام وهو كما تذكرون ولكن ابن عمر رجل ضعيف وليس بصاحب أمة محمد الضعيف وأما ما يذكر الناس من عبد الله ابن الزبير ويدعون إليه من أمره فهو والله كما يذكرون إنه لابن الزبير حواري رسول الله وابن أسماء بنت أبي بكر الصديق ذات النطاقين وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله ولكن ابن الزبير منافق قد خلع خليفتين يزيد وابنه معاوية بن يزيد وسفك الدماء وشق عصا المسلمين وليس صاحب أمر أمة محمد المنافق وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان ممن يشعب ذلك الصدع وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار والذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشبوا الصغير يعني بالكبير مروان بن الحكم وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية
فأجمع رأي الناس على البيعة لمروان ثم لخالد بن يزيد من بعده ثم لعمرو بن سعيد بن العاص من بعد خالد

326 - خطبة الغضبان بن القبعثري يحض على قتل الحجاج
لما هلك بشر بن مروان وولي الحجاج العراق بلغ ذلك أهل العراق فقام الغضبان بن القبعثري للشيباني بالمسجد الجامع بالكوفة خطيبا فحمد الله وأثني عليه ثم قال يأهل العراق ويأهل الكوفة إن عبد الملك قد ولي عليكم من لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم الظلوم الغشوم الحجاج ألا وإن لكم من عبد الملك منزلة بما كان منكم من خذلان مصعب وقتله فاعترضوا هذا الخبيث في الطريق فاقتلوه فإن ذلك لا يعد منكم خلعا فإنه متى يعل على متن منبركم وصدر سريركم وقاعة قصركم ثم قتلتموه عد خلعا فأطيعوني وتغدوا به قبل أن يتعشى بكم
فقال له أهل الكوفة جبنت يا غضبان بل ننتظر سيرته فإن رأينا منكرا غيرناه قال ستعلمون فلما قدم الحجاج الكوفة بلغته مقالته فأمر به فأقام في حبسه ثلاث سنين

327 - خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة
وقدم مطرف بن المغيرة بن شعبة المدائن فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال أيها الناس إن الأمير الحجاج أصلحه الله قد ولاني عليكم وأمرني بالحكم بالحق والعدل في السيرة فإن عملت بما أمرني به فأنا أسعد الناس وإن لم أفعل فنفسي أو بقت وحظ نفسي ضيعت ألا إني جالس لكم العصرين فارفعوا إلى حوائجكم وأشيروا على بما يصلحكم ويصلح بلادكم فإني لن آلوكم خيرا ما استطعت ثم نزل
328 - خطبة مطرف بن المغيرة بن شعبة
وفى سنة 77ه خرج المطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج وخلع عبد الملك بن مروان وكان الحجاج قد استعمله على المدائن وجمع إليه رءوس أصحابه فذكر الله بما هو أهله وصلى على رسوله ثم قال لهم أما بعد فإن الله كتب الجهاد على خلقه وأمر بالعدل والإحسان وقال فيما أنزل علينا ( وتعاونوا علي البر والتقوى ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب ) وإني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف فمن أحب منكم صحبتي وكان على مثل رأيي فليتابعني فإن له الأسوة وحسن الصحبة ومن أبي فليذهب حيث شاء فإني لست أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجور أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى قتال الظلمة فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوا

329 - خطبة سعيد بن المجالد
خرج الجزل بن سعيد في طلب الخوارج الشبيبية وأقبل حتى انتهى إلى النهروان فأدركوه فلزم عسكره وخندق عليه وجاء إليه سعيد بن المجالد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا فقام فيهم خطيبا فحمد الله وأثني عليه ثم قال يأهل الكوفة إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين وهم قد خربوا بلادكم وكسروا خراجكم وأنتم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ونزلوا بلدا سوى بلدكم اخرجوا على اسم الله إليهم فخرج واخرج الناس معه

فتنة ابن الأشعث
جهز الحجاج عشرين ألف رجل من أهل الكوفة وعشرين ألف رجل من أهل البصرة لمحاربة رتبيل ملك الترك وبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ابن قيس الكندي فخرج بهم حتى قدم سجستان سنة 80ه فجمع أهلها حين قدمها وخطبهم فقال
330 - خطبة ابن الأشعث بسجستان
صعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال أيها الناس إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس
331 - خطبته يعرض على الجند رأي الحجاج
فلما حاز من أرض رتبيل أرضا عظيمة وملأ يديه من الغنائم والأسلاب حبس الناس عن الوغول في أرضه وقال نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها ثم لم نزل

ننتقصهم في كل عام طائفة من أرضهم ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله وكتب إلى الحجاج بذلك فورد عليه كتاب الحجاج يضعف رأيه ويأمره بالوغول في أرضهم ويتهدده بالعزل إن لم يفعل فدعا ابن الأشعث الناس إليه
فحمد الله وأثني عليه ثم قال أيها الناس إني لكم ناصح ولصلاحكم محب ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر وقد كان من رأيي فيما بينكم وبين عدوكم رأي استشرت فيه ذوي أحلامكم وأولى التجربة للحرب منكم فرضوه لكم رأيا ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحا وقد كتبت إلى أميركم الحجاج فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو وهي البلاد التي هلك إخوانكم فيها بالأمس وإنما أنا رجل منكم أمضى إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم
فثار إليه الناس فقالوا لا بل نأبي علي عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع
332 - خطبة عامر بن واثلة الكناني
فقام عامر بن واثلة الكناني وكان أول متكلم يومئذ وكان شاعرا خطيبا فقال بعد أن حمد الله وأثني عليه أما بعد فإن الحجاج والله ما يري بكم إلا ما رأى القائل الأول إذ قال لأخيه احمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك وإن نجا فلك إن الحجاج والله ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادا كثيرة اللهوب وللصوب فإن ظفرتم فغنمتم

أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا عبد الرحمن فإني أشهدكم أني أول خالع
فنادى الناس من كل جانب فعلنا فعلنا قد خلعنا عدو الله
333 - خطبة عبد المؤمن بن شبث بن ربعي
وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانيا فقال عباد الله إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم وجمركم تجمير فرعون الجنود فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث ولن تعاينوا الأحبة فيما أرى أو يموت أكثركم بايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم فانفوه عن بلادكم فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه
334 - خطبة ابن الأشعث بالمربد
ولما كانت الحرب بينه وبين الحجاج بالمربد خطب الناس فقال أيها الناس إنه لم يبق من عدوكم إلا كما يبقى من ذنب الوزغة تضرب به يمينا وشمالا فما تلبث إلا أن تموت

335 - خطبته حين أراد عبد الملك أن يترضى أهل العراق
ولما نزل ابن الأشعث بدير الجماجم واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من أهل المصرين واجتمعوا جميعا على حرب الحجاج جمعهم عليه بغضهم وكراهيتهم له وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم من مواليهم واشتد القتال بين الفريقين بعث عبد الملك بن مروان ابنه عبد الله وأخاه محمدا وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم وأن يجري عليهم أعطياتهم كما تجري على أهل الشأم وأن ينزل ابن الأشعث أي بلد من العراق شاء يكون عليه واليا ما دام حيا وكان عبد الملك واليا فعرضا ذلك على أهل العراق فقالوا نرجع العشية فاجتمعوا عند ابن الأشعث فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه
فحمد الله ابن الأشعث وأثني عليه ثم قال أما بعد فقد أعطيتم أمرا انهازكم اليوم إياه فرصة ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدا حسرة وإنكم اليوم على النصف وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم أجرئاء ولا زلتم عندهم أعزاء إن أنتم قبلتم أبدا ما بقيتم
فوثب الناس من كل جانب فقالوا إن الله قد أهلكهم فأصبحوا في الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرفيع والمادة القريبة لا والله لا نقبل فأعادوا خلع عبد الملك ثانية وكان ما كان مما أسلفنا لك ذكره

336 - عامر الشعبي والحجاج
وكان عامر الشعبي ممن خرج مع ابن الأشعث فلما أتي الحجاج بأسرى الجماجم أتي فيهم بالشعبي موثقا وكان قد تقدم كتاب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف فمن أقر منهم بالكفر في خروجهم علينا فيخلي سبيله ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه قال الشعبي فلما جئت باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم كاتبه فقال إنا لله يا شعبي لما بين دفتيك من العلم وليس اليوم بيوم شفاعة قلت له فما المخرج قال بؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك وبالحرى أن تنجو ثم لقيني محمد بن الحجاج فقال لي مثل مقالة يزيد فلما دخلت علي الحجاج قال لي وأنت يا شعبي ممن ألب علينا مع ابن الأشعث اشهد على نفسك بالكفر قلت أصلح الله الأمير نبا بنا المنزل واجدب بنا الجناب واستحلسنا الخوف واكتحلنا السهر وضيق المسلك وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء قال صدقت والله ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم خلوا سبيل الشيخ
337 - أيوب بن القرية والحجاج
وكان الحجاج قد بعث أيوب بن القرية رسولا إلى ابن الأشعث حين خلع الطاعة بسجستان فلما دخل عليه قال له لتقومن خطيبا ولتخلعن عبد الملك

ولتسبن الحجاج أو لأضربن عنقك قال أيها الأمير إنما أنا رسول قال هو ما أقول لك فقام وخطب وخلع عبد الملك وشتم الحجاج وأقام هنالك فلما انصرف ابن الأشعث مهزوما كتب الحجاج إلى عماله بالري وأصبهان وما يليهما يأمرهم ألا يمر بهم أحد من قبل ابن الأشعث إلا بعثوا به أسيرا إليه وأخذ ابن القرية فيمن أخذ
فلما أدخل على الحجاج قال أخبرني عما أسألك قال سلني عما شئت قال أخبرني عن أهل العراق قال أعلم الناس بحق وباطل قال فأهل الحجاز قال أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم فيها قال فأهل الشأم قال أطوع الناس لخلفائهم قال فأهل مصر قال عبيد لمن غلب قال فأهل البحرين قال نبط استعربوا قال فأهل عمان قال عرب استنبطوا قال فأهل الموصل قال أشجع فرسان وأقتل للأقران قال فأهل اليمن قال أهل سمع وطاعة ولزوم للجماعة قال فأهل اليمامة قال أهل جفاء واختلاف أهواء وأصبر عند اللقاء قال فأهل فارس قال أهل بأس شديد وشر عتيد وريف كبير وقرى يسير قال أخبرني عن العرب قال سلني قال قريش قال أعظمها أحلاما وأكرمها مقاما قال فبنو عامر بن صعصعة قال أطولها رماحا وأكرمها صباحا قال فبنو سليم قال أعظمها مجالس وأكرمها محابس قال فثقيف قال أكرمها جدودا وأكثرها وفودا قال فبنو زبيد قال ألزمها للرايات وأدركها للترات قال فقضاعة قال أعظمها أخطارا وأكرمها نجارا وأبعدها آثارا قال فالأنصار قال أثبتها مقاما وأحسنها إسلاما وأكرمها أياما قال فتميم قال أظهرها جلدا وأثراها عددا

قال فبكر بن وائل قال أثبتها صفوفا وأحدها سيوفا قال فعبد القيس قال أسبقها إلى الغايات وأصبرها تحت الرايات قال فبنو أسد قال أهل عدد وجلد وعسر ونكد قال فلخم قال ملوك وفيهم نوك قال فجذام قال يوقدون الحرب ويسعرونها ويلقحونها ثم يمرونها قال فبنو الحارث قال رعاة للقديم وحماة عن الحريم قال فعك قال ليوث جاهدة في قلوب فاسدة قال فتغلب قال يصدقون إذا لقوا ضربا ويسعرون للأعداء حربا قال فغسان قال أكرم العرب أحسابا وأثبتها أنسابا قال فأي العرب في الجاهلية كانت أمنع من أن تضام قال قريش كانوا أهل رهوة لا يستطاع ارتقاؤها وهضبة لا يرام انتزاؤها في بلدة حمي الله ذمارها ومنع جارها قال فأخبرني عن مآثر العرب في الجاهلية قال كانت العرب تقول حمير أرباب الملك وكندة لباب الملوك ومذحج أهل الطعان وهمدان أحلاس الخيل والأزد آساد الناس قال فأخبرني عن الأرضين قال سلني قال الهند قال بحرها در وجبلها ياقوت وشجرها عود وورقها عطر وأهلها طغام كقطع الحمام قال فخراسان قال ماؤها جامد وعدوها جاحد قال فعمان قال حرها شديد وصيدها عتيد قال فالبحرين قال كناسة بين المصرين قال فاليمن قال أصل العرب وأهل البيوتات والحسب قال فمكة قال رجالها علماء جفاة ونساؤها كساة عراة قال فالمدينة قال رسخ العلم فيها وظهر منها قال فالبصرة قال شتاؤها جليد

وحرها شديد وماؤها ملح وحربها صلح قال فالكوفة قال ارتفعت عن حر البحر وسفلت عن برد الشأم فطاب ليلها وكثر خيرها قال فواسط قال جنة بين حماة وكنة قال وما حماتها وما كنتها قال البصرة والكوفة يحسدانها وما ضرها ودجلة والزاب يتجاريان بإفاضة الخير عليها قال فالشأم قال عروس بين نسوة جلوس قال ثكلتك أمك يا بن القرية لولا اتباعك لأهل العراق وقد كنت أنهاك عنهم أن تتبعهم فتأخذ من نفاقهم ثم دعا بالسيف وأومأ إلى السياف أن أمسك فقال ابن القرية ثلاث كلمات أصلح الله الأمير كأنهن ركب وقوف يكن مثلا بعدى قال هات قال لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة ولكل حليم هفوة قال الحجاج ليس هذا وقت المزاح يا غلام أوجب جرحه فضرب عنقه
وقيل إنه لما أراد قتله قال له العرب تزعم أن لكل شيء آفة قال صدقت العرب أصلح الله الأمير قال فما آفة الحلم قال الغضب قال فما آفة العقل قال العجب قال فما آفة العلم قال النسيان قال فما آفة السخاء قال المن عند البلاء قال فما آفة الكرام قال مجاورة اللئام قال فما آفة الشجاعة قال البغي قال فما آفة العبادة قال الفترة قال فما آفة الذهن قال حديث النفس قال فما آفة الحديث قال الكذب قال فما آفة المال قال سوء التدبير قال فما آفة الكامل من الرجال قال العدم قال فما آفة الحجاج بن يوسف قال أصلح الله الأمير لا آفة لمن كرم حسبه وطاب نسبه وزكا فرعه قال امتلأت شقاقا وأظهرت نفاقا اضربوا عنقه فلما رآه قتيلا ندم وكان قتله سنة 84ه

وفي رواية أخرى أنه لما دخل على الحجاج قال له يا بن القرية ما أعددت لهذا الموقف قال أصلح الله الأمير ثلاثة حروف كأنهن ركب وقوف دنيا وآخرة ومعروف قال اخرج مما قلت قال أفعل أما الدنيا فمال حاضر يأكل منه البر والفاجر وأما الآخرة فميزان عادل ومشهد ليس فيه باطل وأما المعروف فإن كان على اعترفت وإن كان لي اغترفت قال أما لي فاعترف بالسيف إذا وقع بك قال أصلح الله الأمير أقلني عثرتي وأسغني ريقي فإنه لا بد للجواد من كبوة وللسيف من نبوة وللحليم من هفوة قال كلا والله حتى أوردك جهنم ألست القائل برستقاباذ تغدوا الجدي قبل أن يتعشاكم قال فأرحني فإني أجد حرها قال قدمه يا حرسي فاضرب عنقه فلما نظر إليه يتشحط في دمه قال لو كنا تركنا ابن القرية حتى نسمع من كلامه ثم أمر به فأخرج فرمي به
338 - كلمة لابن القرية
وقال ابن القرية الناس ثلاثة عاقل وأحمق وفاجر فالعاقل الدين شريعته والحلم طبيعته والرأي الحسن سجيته إن سئل أجاب وإن نطق أصاب وإن سمع العلم وعى وإن حدث روي وأما الأحمق فإن تكلم عجل وإن حدث وهل وإن استنزل عن رأيه نزل فإن حمل على القبيح حمل وأما الفاجر فإن أئتمنته خانك وإن حدثته شانك وإن وثقت به لم يرعك وإن استكتم لم يكتم وإن علم لم يعلم وإن حدث لم يفهم وإن فقه لم يفقه

فتنة يزيد بن المهلب
339 - أيوب بن سليمان بن عبد الملك يسأل عمه الوليد أن يؤمن يزيد بن المهلب
لما فر يزيد بن المهلب من سجن الحجاج وعذابه سنة 90ه في خلافة الوليد ابن عبد الملك نزل على أخيه سليمان متعوذا به وكتب سليمان إلى الوليد يطلب له الأمان فكتب إليه يقسم أنه لا يؤمنه حتى يبعث به إليه فأرسل ابنه أيوب معه وكتب معه كتابا فلما دخل به على عمه قال يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك لا تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها

ولا تقطع منا رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعزنا بك
340 - خطبة يزيد بين يدي الوليد
وتكلم يزيد فحمد الله وأثني عليه وصلي علي نبيه ثم قال يا أمير المؤمنين إن بلاءكم عندنا أحسن البلاء فمن ينس ذلك فلسنا بناسيه ومن يكفر فلسنا كافريه وقد كان من بلائنا أهل البيت في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم في المواطن العظام في المشارق والمغارب ما إن المنة علينا فيها عظيمة
فأمنه الوليد وكف عنه
341 - خطبة مخلد بن يزيد بن المهلب بين يدي عمر بن عبد العزيز
ولما حبس عمر بن عبد العزيز يزيد بن المهلب أقبل ابنه مخلد من خراسان ودخل على الخليفة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال

إن الله يا أمير المؤمنين صنع لهذه الأمة بولايتك عليها فلا نكن أشقى الناس بولايتك علام تحبس هذا الشيخ أنا أتحمل ما عليه فصالحني على ما إياه تسأل فقال عمر لا إلا أن تحمل جميع ما نسأله إياه فقال يا أمير المؤمنين إن كانت لك بينة فخذ بها وإن لم تكن بينة فصدق مقالة يزيد وإلا فاستخلفه فإن لم يفعل فصالحه فقال له عمر ما أجد إلا أخذه بجميع المال

342 - خطبة يزيد بن المهلب يحرض أصحابه على القتال وقد سير يزيد بن عبد الملك العباس بن الوليد بن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك لقتاله
قام في أصحابه فحرضهم ورغبهم في القتال فكان فيما قال إن هؤلاء القوم لن يردهم عن غيهم إلا الطعن في عيونهم والضرب بالمشرفية على هامهم ثم قال إنه قد ذكر لي أن هذه الجرادة الصفراء يعني مسلمة بن عبد الملك وعاقر ناقة ثمود يعني العباس بن الوليد وكان العباس أزرق أحمر كانت أمة رومية والله لقد كان سليمان أراد أن ينفيه حتى كلمته فيه فأقره على نسبه فبلغني أنه ليس همهما إلا التماسي في الأرض والله لو جاءوا بأهل الأرض جميعا وليس إلا أنا ما برحت العرصة حتى تكون لي أولهم قالوا نخاف أن تعنينا

كما عنانا عبد الرحمن بن محمد قال إن عبد الرحمن فضح الذمار وفضح حسبه وهل كان يعدو أجله ثم نزل
343 - خطبة أخرى له
ورويت له خطبة أخرى في هذا الغرض وهاكها عن خالد بن صفوان قال خطبنا يزيد بن المهلب بواسط حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال أيها الناس إني أسمع قول الرعاع قد جاء العباس قد جاء مسلمة قد جاء أهل الشأم وما أهل الشأم إلا تسعة أسياف منها سبعة معي واثنان علي وما مسلمة إلا جرادة صفراء وأما العباس فنسطوس بن نسطوس أتاكم في برابرة وصقالبة وجرامقة وجراجمة وأقباط وأنباط وأخلاط من الناس إنما أقبل إليكم الفلاحون والأوباش كأشلاء اللحم والله ما لقوا قط حدا كحدكم ولا حديدا كحديدكم أعيروني سواعدكم ساعة من نهار تصفقون بها خراطيمهم فإنما هي غدوة أو روحة حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين

344 - خطبة أخرى له
وقال مقاتل سمعت يزيد بن المهلب يخطب بواسط فقال يأهل العراق يأهل السبق والسباق ومكارم الأخلاق إن أهل الشام في أفواههم لقمة دسمة قد رتبت لها الأشداق وقدموا لها على ساق وهم غير تاركيها لكم بالمراء والجدال فالبسوا لهم جلود النمور
345 - خطبة الحسن البصري يثبط الناس عن يزيد بن المهلب
وكان مروان بن المهلب وهو بالبصرة يحث الناس على حرب أهل الشأم ويسرحهم إلى يزيد وكان الحسن البصري يثبط الناس عنه وكان يقول في تلك الأيام أيها الناس الزموا رحالكم وكفوا أيديكم واتقوا الله مولاكم ولا يقتل بعضكم بعضا على دنيا زائلة وطمع فيها يسير ليس لأهلها بباق وليس الله عنهم فيما اكتسبوا براض إنه لم يكن فتنة إلا كان أكثر أهلها الخطباء والشعراء والسفهاء وأهل التيه والخيلاء وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي والمعروف التقي فمن كان منكم خفيا فليلزم الحق وليحبس نفسه عما يتنازع الناس فيه من الدنيا فكفاه والله بمعرفة الله إياه بالخير شرفا وكفى له به من الدنيا خلفا ومن كان منكم معروفا شريفا فترك ما يتنافس فيه نظراؤه من الدنيا إرادة الله بذلك فواها لهذا ما أسعده وأرشده وأعظم أجره وأهدى سبيله فهذا غدا يعني يوم القيامة القرير عينا الكريم عند الله مآبا

346 - خطبة مروان بن المهلب
فلما بلغ ذلك مروان بن المهلب قام خطيبا كما يقوم فأمر الناس بالجد والاحتشاد ثم قال لهم قد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي ولم يسمه يثبط الناس والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه أينكر علينا وعلى أهل مصرنا أن نطلب خيرنا وأن ننكر مظلمتنا أما والله ليكفن عن ذكرنا وعن جمعه إلينا سقاط الأبلة وعلوج فرات البصرة قوما ليسوا من أنفسنا ولا ممن جرت عليه النعمة من أحد منا أو لأنحين عليه مبردا خشنا
فلما بلغ ذلك الحسن قال والله ما أكره أن يكرمني الله بهوانه فقال ناس من أصحابه لو أرادك ثم شئت لمنعناك فقال لهم قد خالفتكم إذن إلى ما نهيتكم عنه آمركم ألا يقتل بعضكم بعضا مع غيري وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضا دوني فبلغ ذلك مروان بن المهلب فاشتد عليهم وأخافهم وطلبهم حتى تفرقوا ولم يدع الحسن كلامه ذلك وكف عنه مروان

خطب الأحنف بن قيس التميمي
347 - الأحنف ومعاوية
كان الأحنف بن قيس قد شهد مع الإمام علي كرم الله وجهه وقعة صفين فلما استقر الأمر لمعاوية دخل عليه يوما فقال له معاوية والله يا أحنف ما أذكر يوم صفين إلا كانت حزازة في قلبي إلى يوم القيامة
فقال له الأحنف يا أمير المؤمنين لم ترد الأمور على أعقابها أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا والسيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا ولئن مددت بشبر من غدر لنمدن باعا من ختر ولئن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو حلمك قال معاوية فإني أفعل
ثم قام وخرج وكانت أخت معاوية من وراء حجاب تسمع كلامه فقالت يا أمير المؤمنين من هذا الذي يتهدد ويتوعد قال هذا الذي إذا غضب غضب لغضبه مائة ألف من بني تميم لا يدرون فيم غضب

348 - الأحنف ومعاوية أيضا
جلس معاوية يوما وعنده وجوه الناس وفيهم الأحنف فدخل رجل من أهل الشأم فقام خطيبا فكان آخر كلامه أن لعن عليا رضي الله عنه فأطرق الناس وتكلم الأحنف فقال يا أمير المؤمنين إن هذا القائل ما قال آنفا لو علم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم فاتق الله ودع عليا فقد لقي الله وأفرد في حفرته وخلا بعمله وكان والله ما علمنا المبرز بشقه الطاهر في خلقه الميمون النقيبة العظيم المصيبة
قال معاوية يا أحنف لقد أغضيت العين على القذى وقلت بغير ما ترى وايم الله لتصعدن المنبر فلتلعننه طائعا أو كارها فقال الأحنف إن تعفني فهو خير وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري به شفتاي فقال معاوية قم فاصعد فقال معاوية قم فاصعد قال أما والله لأنصفنك في القول والفعل قال معاوية وما أنت قائل إن أنصفتني قال أصعد فأحمد الله وأثني عليه وأصلي على نبيه ثم أقول أيها الناس إن معاوية أمرني أن ألعن عليا ألا وإن عليا ومعاوية اختلفا واقتتلا وادعى كل واحد أنه مبغي عليه وعلى فئته فإذا دعوت فأمنوا رحمكم الله ثم أقول اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه والفئة الباغية على المبغي عليها اللهم العنهم لعنا كبيرا أمنوا رحمكم الله يا معاوية لا أزيد على هذا ولا أنقص منه حرفا ولو كان فيه هاب نفسي
فقال معاوية إذن نعفيك يا أبا بحر

349 - قوله في مدح الولد
ودخل الأحنف على معاوية ويزيد ببن يديه وهو ينظر إليه إعجابا به فقال يا أبا بحر ما تقول في الولد فعلم ما أراد فقال يا أمير المؤمنين هم عماد ظهورنا وثمر قلوبنا وقرة أعيننا بهم نصول على أعدائنا وهم الخلف منا لمن بعدنا فكن لهم أرضا ذليلة وسماء ظليلة إن سألوك فأعطهم وإن استعتبوك فأعتبهم لا تمنعهم رفدك فيملوا قربك ويكرهوا حياتك ويستبطئوا وفاتك
فقال لله درك يا أبا بحر هم كما وصفت
350 - شفاعته لدى مصعب بن الزبير
وأتى مصعب بن الزبير يكلمه في قوم حبسهم فقال أصلح الله الأمير إن كانوا حبسوا في باطل فالحق يخرجهم وإن كانوا حبسوا في حق فالعفو يسعهم فخلاهم
351 - نصيحته لقومه
وقال بخراسان يا بني تميم تحابوا تجتمع كلمتكم وتباذلوا تعتدل أموركم وابدءوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم ولا تغلوا يسلم لكم جهادكم

352 - خطبته في قوم كانوا عنده
وحدث رجل من بني تميم قال حضرت مجلس الأحنف بن قيس وعنده قوم مجتمعون في أمر لهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الكرم يمنع الحرم ما أقرب النقمة من أهل البغي لا خير في لذة تعقب ندما لن يهلك من قصد ولن يفتقر من زهد رب هزل قد عاد جدا من أمن الزمان خانه ومن تعظم عليه أهانه دعوا المزاح فإنه يؤرث الضغائن وخير القول ما صدقه الفعل احتملوا لمن أدل عليكم واقبلوا عذر من اعتذر إليكم أطع أخاك وإن عصاك وصله وإن جفاك أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك وإياكم ومشاورة النساء واعلم أن كفر النعمة لؤم وصحبة الجاهل شؤم ومن الكرم الوفاء بالذمم ما أقبح القطيعة بعد الصلة والجفاء بعد اللطف والعداوة بعد الود لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل واعلم أن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك فأنفق في حق ولا تكونن خازنا لغيرك وإذا كان الغدر في الناس موجودا فالثقة بكل أحد عجز اعرف الحق لمن عرفه لك واعلم أن قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل

353 - كلمات حكيمة للأحنف
قال في ثلاث خصال ما أقولهن إلا ليعتبر معتبر ما دخلت بين اثنين قط حتى يدخلاني بينهما ولا أتيت باب أحد من هؤلاء يعني الملوك ما لم أدع إليه وما حللت حبوتى إلى ما يقوم الناس إليه وقال ألا أدلكم على المحمدة بلا مرزئة الخلق السجيح والكف عن القبيح ألا أخبركم بأدوإ الداء الخلق الدني واللسان البذي وقال ما خان شريف ولا كذب عاقل ولا اغتاب مؤمن وقال ما ادخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء أفضل من اصطناع معروف عند ذوي الأحساب والآداب وقال كثرة الضحك تذهب الهيبة وكثرة المزاح تذهب المروءة ومن لزم شيئا عرف به وسمع رجلا يقول ما أبالي أمدحت أم ذممت فقال له لقد استرحت من حيث تعب الكرام وقال جنبوا مجلسنا ذكر الطعام والنساء فإني لأبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه وإن المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه وكان يقول إذا عجب الناس من حلمه إني لأجد ما تجدون ولكني صبور وكان يقول وجدت الحلم أنصر لي من الرجال وقال الكذوب لا حيلة له والحسود لا راحة له والبخيل لا مروءة له والملول لا وفاء له ولا يسود سيئ الأخلاق ومن المروءة إذا كان الرجل بخيلا أن يكتم ذلك ويتجمل وقال أربع من كن فيه كان كاملا ومن تعلق بخصلة منهن كان من صالحي قومه دين يرشده أو عقل يسدده أو حسب يصونه أو حياء يقناه وقال المؤمن بين أربع مؤمن يحسده ومنافق يبغضه وكافر يجاهده

وشيطان يفتنه وأربع ليس أقل منهن اليقين والعدل ودرهم حلال وأخ في الله وقال لأن أدعى من بعيد أحب إلي من أن أقصى من قريب وكان يقول إياك وصدر المجلس وإن صدرك صاحبه فإنه مجلس قلعة وقال من لم يصبر على كلمة سمع كلمات وقال رب غيظ تجرعته مخافة ما هو أشد منه وقال من كثر كلامه كثر سقطه ومن طال صمته كثرت سلامته وقال ثلاث لا أناة فيهن عندي قيل وما هن يا أبا بحر قال المبادرة بالعمل الصالح وإخراج ميتك وأن تنكح الكفء أيمك وكان يقول لأفعى تحكك في ناحية بيتي أحب إلي من أيم رددت عنها كفئا
354 - صفية بنت هشام المنقرية تؤبن الأحنف
وروي أنه لما حملت جنازة الأحنف ودلي في قبره أقبلت ابنة عمه صفية بنت هشام المنقرية على نجيب لها مختصرة فوقفت على قبره فقالت لله درك من مجن في جنن ومدرج في كفن إنا لله وإنا إليه راجعون

نسأل الله الذي فجعنا بموتك وابتلانا بفقدك أن يوسع لك في قبرك وأن يغفر لك يوم حشرك وأن يجعل سبيل الخير سبيلك ودليل الرشاد دليلك ثم أقبلت بوجهها على الناس فقالت معشر الناس إن أولياء الله في بلاده شهود على عباده وإنا قائلون حقا ومثنون صدقا وهو أهل لحسن الثناء وطيب الدعاء أما والذي كنت من أجله في عدة ومن المضمار إلى غاية ومن الحياة إلى نهاية الذي رفع عملك عند انقضاء أجلك لقد عشت حميدا مودودا ولقد مت فقيدا سعيدا وإن كنت لعظيم السلم فاضل الحلم صحيح الأديم منيع الحريم واري الزناد رفيع العماد وإن كنت في المحافل لشريفا وعلى الأرامل لعطوفا وفي العشيرة مسودا وإلى الخلفاء موفدا ولقد كانوا لقولك مستمعين ولرأيك متبعين ثم انصرفت

خطب الوفود وما ألقي بحضرة الخلفاء والأمراء والرؤساء
الوافدون على معاوية
355 - وفود الأحنف بن قيس والنمر بن قطبة على معاوية
دخل الأحنف بن قيس على معاوية وافدا لأهل البصرة ودخل معه النمر بن قطبة وعلى النمر عباءة قطوانية وعلى الأحنف مدرعة صوف وشملة فلما مثلا بين يدي معاوية اقتحمتهما عينه فقال النمر يا أمير المؤمنين إن العباءة لا تكلمك وإنما يكلمك من فيها فأومأ إليه فجلس ثم أقبل على الأحنف فقال ثم مه فقال يا أمير المؤمنين أهل البصرة عدد يسير وعظم كسير مع تتابع من المحول واتصال من الذحول فالمكثر فيها قد أطرق والمقل قد أملق وبلغ منه المخنق فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعش الفقير ويجبر الكسير ويسهل العسير ويصفح عن الذحول ويداوي المحول ويأمر بالعطاء ليكشف البلاء ويزيل اللأواء وإن السيد من يعم ولا يخص ومن يدعو الجفلى ولا يدعو النقري إن أحسن إليه شكر

وإن أسيء إليه غفر ثم يكون من وراء ذلك لرعيته عمادا يدفع عنهم الملمات ويكشف عنهم المعضلات فقال له معاوية ها هنا يا أبا بحر ثم تلا ( ولتعرفنهم في لحن القول )
356 - وفد أهل العراق على معاوية وفيهم الأحنف
ولما قدم وفد أهل العراق على معاوية وفيهم الأحنف خرج الآذن فقال إن أمير المؤمنين يعزم عليكم ألا يتكلم أحد إلا لنفسه فلما وصلوا إليه قال الأحنف لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته أن دافة دفت ونازلة نزلت ونائبة نابت ونابتة نبتت وكلهم بهم حاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبره فقال حسبك يا أبا بحر فقد كفيت الغائب والشاهد

وفد أهل العراق على معاوية ومعهم زياد وفيهم الأحنف
وفد أهل العراق على معاوية ومعهم زياد بن أبيه وفيهم الأحنف بن قيس فقال زياد
357 - خطبة زياد
يا أمير المؤمنين أشخصت إليك أقواما الرغبة وأقعد عنك آخرين العذر فقد جعل الله تعالى في سعة فضلك ما يجبر به المتخلف ويكافأ به الشاخص

358 - خطبة معاوية
فقال معاوية مرحبا بكم يا معشر العرب أما والله لئن فرقت بينكم الدعوة لقد جمعتكم الرحم إن الله اختاركم من الناس ليختارنا منكم ثم حفظ عليكم نسبكم بأن تخير لكم بلادا يجتاز عليها المنازل حتى صفاكم من الأمم كما تصفى الفضة البيضاء من خبثها فصونوا أخلاقكم ولا تدنسوا أنسابكم وأعراضكم فإن الحسن منكم أحسن لقربكم منه والقبيح منكم أقبح لبعدكم عنه
359 - خطبة الأحنف بن قيس
فقال الأحنف والله يا أمير المؤمنين ما نعدم منكم قائلا جزيلا ورأيا أصيلا ووعدا جميلا وإن أخاك زيادا لمتبع آثارك فينا فنستمتع الله بالأمير والمأمور فإنكم كما قال زهير فإنه ألقي على المداحين فصول القول
( وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل )
( وهل ينبت الخطى إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل )
360 - وفد العراق على معاوية وفيهم دغفل النسابة
قدم وفد العراق على معاوية وفيهم دغفل فقال له معاوية يا دغفل أخبرني عن ابني نزار ربيعة ومضر أيهما كان أعز جاهلية وعالمية فقال يا أمير المؤمنين مضر بن نزار كان أعز جاهلية وعالمية قال معاوية وأي مضر كان أعز قال

بنو النضر بن كنانة كانوا أكثر العرب أمجادا وأرفعهم عمادا وأعظمهم رمادا قال فأي بني كنانة كان بعدهم أعز قال بنو مالك بن كنانة كانوا يعلمون من ساماهم ويكفون من ناواهم ويصدقون من عاداهم قال فمن بعدهم قال بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة كانوا أعز بنيه وأمنعهم وأجودهم وأنفعهم قال ثم من بعدهم قال بنو بكر بن عبد مناة وكان بأسهم مرهوبا وعدوهم منكوبا وثأرهم مطلوبا قال فأخبرني عن مالك بن عبد مناة بن كنانة وعن مرة وعامر ابني عبد مناة قال كانو أشرافا كراما وليس للقوم أكفاء ولا نظراء قال فأخبرني عن بني أسد قال كانوا يطعمون السديف ويكرمون الضيوف ويضربون في الزحوف قال فأخبرني عن هذيل قال كانوا قليلا أكياس أهل منعة وبأس ينتصفون من الناس قال فأخبرني عن بني ضبة قال كانوا جمرة من جمرات العرب الأربع لا يصطلي بنارهم ولا يفاتون بثارهم قال فأخبرني عن مزينة قال كانوا في الجاهلية أهل منعة وفي الإسلام أهل دعة قال فأخبرني عن تميم قال كانوا أعز العرب قديما وأكثرها عظيما وأمنعها حريما قال فأخبرني عن قيس قال كانوا لا يفرحون إذا أديلوا ولا يجزعون إذا ابتلوا ولا يبخلون إذا سئلوا قال فأخبرني عن أشرافهم في الجاهلية قال غطفان بن سعد وعامر بن صعصعة وسليم بن منصور فأما غطفان فكانوا كراما سادة وللخمبس

قادة وعن البيض ذادة وأما بنو عامر فكثير سادتهم مخشية سطوتهم ظاهرة نجدتهم وأما بنو سليم فكانوا يدركون الثار ويمنعون الجار ويعظمون النار قال فأخبرني عن قومك بكر بن وائل واصدقني قال كانوا أهل عز قاهر وشرف ظاهر ومجد فاخر قال فأخبرني عن إخوتهم تغلب قال كانوا أسودا ترهب وسماما لا تقرب وأبطالا لا تكذب قال فأخبرني كم أديلوا عليكم في قتلكم كليبا قال أربعين سنة لا ننتصف منهم في موطن نلقاهم فيه حتى كان يوم التحاليق يوم الحرث بن عباد بعد قتلة ابنه بجير وكان أرسله في الصلح بين القوم فقتله مهلهل وقال بؤ بشسع نعل كليب فقال الغلام إن رضيت بهذا بنو بكر رضيت فبلغ الحرث فقال نعم القتيل قتيلا إن أصلح الله به بين بكر وتغلب وباء بكليب فقيل له إنما قال مهلهل ما قال الكلمة فتشمر الحرث للحرب وأمرنا بحلق رءوسنا أجمعين وهو يوم التحاليق وله خبر طويل وقال
( قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيال )
( لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بحرها اليوم صالي )
( قربا مربط النعامة منى ... إن بيع الكرام بالشسع غالى )
فأدلنا عليهم يومئذ فلم نزل منهم ممتنعين إلى يومنا هذا قال فمن ذهب يذكر ذلك اليوم قال الحرث بن عباد أسر مهلهلا في ذلك اليوم وقال له دلني على مهلهل بن ربيعة قال مالي إن دللتك عليه قال أطلقك قال على الوفاء قال نعم قال له أنا مهلهل قال ويحك دلني على كفء كريم قال امرؤ القيس

وأشار بيده إليه عن قرب فأطلقه الحرث وانطلق إلى امرئ القيس فقتله وبكر كلها صبرت وأبلت فحسن بلاؤها إلا ما كان من ابني لجيم حذيفة وعجل ويشكر ابن بكر فإن سعد بن مالك بن ضبيعة جد طرفة بن العبد هجاهم في ذلك اليوم فقال
( إن لجيما عجزت كلها ... أن يرفدوني فارسا واحدا )
( ويشكر العام على خترهاة ... لم يسمع الناس لهم حامدا )
وقال فيهم أيضا
( يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا )
( إنا وإخوتنا غدا ... كثمود حجر يوم طاحوا )
( بالمشرفية لا نفر ... ولا نباح ولن تباحوا )
( من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح )
فقال معاوية أنت والله يا دغفل أعلم الناس قاطبة بأخبار العرب

361 - دغفل وجماعة من الأنصار
ووقف جماعة من الأنصار على دغفل بعد ما كف فسلموا عليه فقال من القوم قالوا سادة اليمن فقال أمن أهل مجدها القديم وشرفها العميم كندة قالوا لا قال فأنتم الطوال قصبا الممحصون نسبا بنو عبد المدان قالوا لا قال فأنتم أقودها للزحوف وأخرقها للصفوف وأضربها بالسيوف رهط عمرو بن معد يكرب قالوا لا قال فأنتم أحضرها قراء وأطيبها فناء وأشدها لقاء رهط حاتم بن عبد الله قالوا لا قال فأنتم الغارسون للنخل والمطعمون في المحل والقائلون بالعدل الأنصار قالوا نعم
362 - وفد أهل العراق على معاوية وفيهم صعصعة بن صوحان
قال عبد الملك بن مروان يوما لجلسائه خبروني عن حي من أحياء العرب فيهم أشد الناس وأسخى الناس وأخطب الناس وأطوع الناس في قومه وأحلم الناس وأحضرهم جوابا
قالوا يا أمير المؤمنين ما نعرف هذه القبيلة ولكن ينبغي لها أن تكون في قريش قال لا قالوا ففي حمير وملوكها قال لا قالوا ففي مضر قال لا قال مصقلة ابن رقية العبدى فهي إذن في ربيعة ونحن هم قال نعم قال جلساؤه ما نعرف هذا في عبد القيس إلا أن تخبرنا به يا أمير المؤمنين قال نعم
أما أشد الناس فحكيم بن جبل كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه

فقطعت ساقه فضمها إليه حتى مر به الذي قطعها فرماه بها فجدله عن دابته ثم جثا إليه فقتله واتكأ عليه فمر به الناس فقالوا له يا حكيم من قطع ساقك قال وسادي هذا وأنشأ يقول
( يا ساق لا تراعي ... إن معي ذراعي ... أحمي بها كراعي )
وأما أسخى الناس فعبد الله بن سوار استعمله معاوية على السند فسار إليها في أربعة آلاف من الجند وكانت توقد معه نار حيثما سار فيطعم الناس فبينما هو ذات يوم إذ أبصر نارا فقال ما هذه قالوا أصلح الله الأمير اعتل بعض أصحابنا فاشتهي خبيصا فعملنا له فأمر خبازه ألا يطعم الناس إلا الخبيص حتى صاحوا وقالوا أصلح الله الأمير ردنا إلى الخبز واللحم فسمي مطعم الخبيص
وأما أطوع الناس في قومه فالجارود بن بشر بن العلاء فإنه لما قبض رسول الله وارتدت العرب خطب قومه فقال أيها الناس إن كان محمد قد مات فإن الله حي لا يموت فاستمسكوا بدينكم فمن ذهب له في هذه الردة دينار أو درهم أو بعير أو شاة فله على مثلاه فما خالفه منهم رجل
وأما أحضر الناس جوابا فصعصعة بن صوحان دخل على معاوية في وفد أهل العراق فقال معاوية مرحبا بكم يأهل العراق قدمتم أرض الله المقدسة منها المنشر وإليها المحشر قدمتم على خير أمير يبر كبيركم ويرحم صغيركم ولو أن الناس كلهم ولد أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء فأشار الناس إلى صعصعة فقام
فحمد الله وأثني عليه وصلى على النبي ثم قال

أما قولك يا معاوية إنا قدمنا الأرض المقدسة فلعمري ما الأرض تقدس الناس ولا يقدس الناس إلا أعمالهم وأما قولك منها المنشر وإليها المحشر فلعمري ما ينفع قربها ولا يضر بعدها مؤمنا وأما قولك لو أن الناس كلهم ولد أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء فقد ولدهم خير من أبي سفيان آدم صلوات الله عليه فمنهم الحليم والسفيه والجاهل والعالم
وأما أحلم الناس فإن ولد عبد القيس قدموا على النبي بصدقاتهم وفيهم الأشج ففرقها رسول الله وهو أول عطاء فرقه في أصحابه ثم قال يا أشج ادن مني فدنا منه فقال إن فيك خلتين يحبهما الله الأناة والحلم وكفى برسول الله شاهدا ويقال إن الأشج لم يغضب قط
363 - وفود العرب ومعاوية
عن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان قال عقمت النساء أن يلدن مثل عمي شهدته يوما وقد قدمت عليه وفود العرب فقضي حوائجهم وأحسن جوائزهم فلما دخلوا عليه ليشكروه سبقهم إلى الشكر فقال لهم
جزاكم الله يا معشر العرب عن قريش أفضل الجزاء بتقدمكم إياهم في الحرب وتقديمكم لهم في السلم وحقنكم دماءهم بسفكها منكم أما والله لا يؤثر عليكم غيركم منهم حازم كريم ولا يرغب عنكم منهم إلا عاجز لئيم شجرة قامت على ساق فتفرع أعلاها واجتمع أصلها عضد الله من عضدها فيالها كلمة لو اجتمعت وأيد لو ائتلفت ولكن كيف بإصلاح ما يريد الله إفساده

364 - وفود عبد العزيز بن زرارة على معاوية
وفد عبد العزيز بن زرارة على معاوية وهو سيد أهل الكوفة فلما أذن له وقف بين يديه وقال يا أمير المؤمنين لم أزل أهز ذوائب الرحال إليك إذ لم أجد معولا إلا عليك أمتطي الليل بعد النهار وأسم المجاهل بالآثار يقودني إليك أمل وتسوقني بلوى والمجتهد يعذر وإذ بلغتك فقطني فقال معاوية احطط عن راحلتك رحلها
وروي الجاحظ هذا القول بصورة أخري فقال ولما وصل عبد العزيز بن زرارة إلى معاوية قال يا أمير المؤمنين لم أزل أستدل بالمعروف عليك وأمتطي النهار إليك فإذا ألوي بي الليل فقبض البصر وعفي الأثر أقام بدني وسافر أملي والنفس تلوم والاجتهاد يعذر وإذ بلغتك فقطني
وخرج عبد العزيز بن زرارة مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة فهلك هناك فكتب يزيد إلى أبيه معاوية بذلك فقال معاوية لزرارة أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب قال زرارة يا أمير المؤمنين هو ابني أو ابنك قال بل ابنك قال للموت ما تلد الوالدة

365 - وفود زيد بن منية على معاوية
قدم زيد بن منية على معاوية من البصرة وهو أخو يعلى بن منية صاحب جمل عائشة ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة وكان عتبة بن أبي سفيان قد تزوج ابنة يعلي بن منية فلما دخل على معاوية شكا إليه دينا لزمه فقال يا كعب أعطه ثلاثين ألفا فلما ولي قال وليوم الجمل ثلاثين ألفا أخري ثم قال له الحق بصهرك يعني عتبة وكان يومئذ عامل مصر فقدم عليه مصر فقال إني سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف ألبس أردية الليل مرة وأخوض في لجج السراب أخرى موقرا من حسن الظن بك وهاربا من دهر فطم ودين لزم بعد غني جدعنا به أنوف الحاسدين فلم أجد إلا إليك مهربا وعليك معولا فقال عتبة مرحبا بك وأهلا إن الدهر أعاركم غني وخلطكم بنا ثم استرد ما أمكنه أخذه وقد أبقي لكم منا مالا ضيقة معه وأنا واضع يدي ويدك بيد الله فأعطاه ستين ألفا كما أعطاه معاوية

366 - وفود ضرار بن حمزة الصدائي على معاوية
دخل ضرار بن حمزة الصدائي وكان من خواص على كرم الله وجهه على معاوية وافدا فقال له يا ضرار صف لي عليا قال أعفني يا أمير المؤمنين قال لتصفنه قال أما إذ لا بد من وصفه فكان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلا ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته وكان والله غزير العبرة طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه يعجبه من اللباس ما قصر ومن الطعام ما خشن كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه وينبئنا إذا استنبأناه ونحن مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه لهيبته ولا نبتدئه لعظمته يعظم أهل الدين ويحب المساكين لا يطمع القوي في باطله ولا ييئس الضعيف من عدله وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرضى الليل سدوله وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين ويقول يا دنيا غرى غيري ألي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا لا رجعة فيها فعمرك قصير وخطرك حقير آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق فبكي معاوية وقال رحم الله أبا الحسن فلقد كان كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار قال حزن من ذبح واحدها في حجرها

الوافدات على معاوية
367 - وفود سودة بنت عمارة على معاوية
وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان فاستأذنت عليه فأذن لها فلما دخلت عليه سلمت فقال لها كيف أنت يا بنة الأشتر قالت بخير يا أمير المؤمنين قال لها أنت القائلة لأخيك يوم صفين
( شمر كفعل أبيك يا بن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران )
( وانصر عليا والحسين ورهطه ... واقصد لهند وابنها يهوان )
( إن الإمام أخو النبي محمد ... علم الهدي ومنارة الإيمان )
( فقد الجيوش وسر أمام لوائه ... قدما بأبيض صارم وسنان )
قالت أي والله ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب قال لها فما حملك على ذلك قالت حب علي عليه السلام واتباع الحق قال فوالله ما أري عليك من أثر علي شيئا قالت أنشدك الله يا أمير المؤمنين وإعادة ما مضي وتذكار ما قد نسي قال هيهات ما مثل مقام أخيك ينسى وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك قالت صدقت والله يا أمير المؤمنين ما كان أخي خفي المقام ذليل المكان ولكن كما قالت الخنساء
( وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار )

قال صدقت لقد كان كذلك فقالت مات الرأس وبتر الذنب وبالله أسأل أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيت منه قال قد فعلت فقولي حاجتك قالت يا أمير المؤمنين إنك أصبحت للناس سيدا ولأمورهم متقلدا والله سائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك ويبسط سلطانك فيحصدنا حصاد السنبل ويدوسنا دياس البقر ويسومنا الخسيسة ويسلبنا الجليلة هذا ابن أرطاة قدم بلادي وقتل رجالي وأخذ مالي ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة فإما عزلته عنا فشكرناك وإما لا فعرفناك فقال معاوية إياي تهددين بقومك والله لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه فأطرقت تبكي ثم أنشأت تقول
( صلي الإله على روح تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا )
( قد حالف الحق لا يبغي به ثمنا ... فصار بالحق والإيمان مقرونا )
قال ومن ذلك قالت علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى قال وما صنع بك حتى صار عندك كذلك قالت أتيته يوما في رجل ولاه صدقاتنا فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين فوجدته قائما يصلي فانفتل من الصلاة ثم قال برأفة

وتعطف ألك حاجة فأخبرته خبر الرجل فبكى ثم رفع يديه إلى السماء فقال اللهم إنك أنت الشاهد علي وعليهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا ترك حقك ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيها
بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يأتي من يقبضه منك والسلام
فأخذته منه والله ما خزمه بخزام ولا ختمه بختام فقرأته فقال معاوية اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها فقالت ألي خاصة أم لقومي عامة قال وما أنت وغيرك قالت هي والله إذن الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلا شاملا وإلا يسعني ما يسع قومي قال هيهات لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئا ما تفطمون وغركم قوله
( فلو كنت بوابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام ) وقوله
( ناديت همدان والأبواب مغلقة ... ومثل همدان سني فتحه الباب )
( كالهندواني لم تفلل مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجاب )
اكتبوا لها ولقومها

368 - وفود أم سنان بنت خيثمة على معاوية
حبس مروان بن الحكم وهو والى المدينة في خلافة معاوية غلاما من بني ليث في جناية جناها فأتته جدة الغلام وهي أم سنان بنت خيثمة المذحجية فكلمته في الغلام فأغلظ لها مروان فخرجت إلى معاوية فدخلت عليه فانتسبت فعرفها فقال لها مرحبا بك يا بنة خيثمة ما أقدمك أرضنا وقد عهدتك تشتميننا وتحضين علينا عدونا قالت إن لبني عبد مناف أخلاقا طاهرة وأعلاما ظاهرة وأحلاما وافرة لا يجهلون بعد علم ولا يسفهون بعد حلم ولا ينتقمون بعد عفو وإن أولي الناس باتباع ما سن آباؤه لأنت قال صدقت نحن كذلك فكيف قولك
( عزب الرقاد فمقلتي لا ترقد ... والليل يصدر بالهموم ويورد )
( يا آل مذحج لا مقام فشمروا ... إن العدو لآل أحمد يقصد )
( هذا علي كالهلال تحفه ... وسط السماء من الكواكب أسعد )
( خير الخلائق وابن عم محمد ... إن يهدكم بالنور منه تهتدوا )
( ما زال مذ شهد الحروب مظفرا ... والنصر فوق لوائه ما يفقد )
قالت قد كان ذلك يا أمير المؤمنين وأرجو أن تكون لنا خلفا بعده فقال رجل من جلسائه كيف يا أمير المؤمنين وهي القائلة
( إما هلكت أبا الحسين فلم تزل ... بالحق تعرف هاديا مهديا )
( فاذهب عليك صلاة ربك ما دعت ... فوق الغصون حمامة قمريا )

( قد كنت بعد محمد خلفا كما ... أوصي إليك بنا فكنت وفيا )
( واليوم لا خلف يؤمل بعده ... هيهات نأمل بعده إنسيا )
قالت يا أمير المؤمنين لسان نطق وقول صدق ولئن تحقق فيك ما ظنناه لحظك الأوفر والله ما أورثك الشنآن في قلوب المسلمين إلا هؤلاء فأدحض مقالتهم وأبعد منزلتهم فإنك إن فعلت ذلك تزدد من الله قربا ومن المؤمنين حبا قال وإنك لتقولين ذلك قالت يا سبحان الله والله ما مثلك من مدح بباطل ولا اعتذر إليه بكذب وإنك لتعلم ذلك من رأينا وضمير قلوبنا كان والله علي أحب إلينا منك وأنت أحب إلينا من غيرك قال ممن قالت من مروان ابن الحكم وسعيد بن العاص قال وبم استحققت ذلك عندك قالت بسعة حلمك وكريم عفوك قال وإنهما يطمعان في ذلك قالت هما والله لك من الرأي علي مثل ما كنت عليه لعثمان بن عفان رحمه الله تعالي قال والله لقد قاربت فما حاجتك قالت يا أمير المؤمنين إن مروان تبنك بالمدينة تبنك من لا يريد منهما البراح لا يحكم بعدل ولا يقضي بسنة يتتبع عثرات المسلمين ويكشف عورات المؤمنين حبس ابن إبنى فأتيته فقال كيت وكيت فألقمته أخشن من الحجر وألعقته أمر من الصبر ثم رجعت إلي نفسي باللائمة وقلت لم لا أصرف ذلك إلي من هو أولي بالعفو منه فأتيتك يا أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظرا وعليه معديا قال صدقت لا أسألك عن ذنبه ولا عن القيام بحجته اكتبوا لها بإطلاقه قالت يا أمير المؤمنين وأني لي بالرجعة وقد نفذ زادي وكلت راحلتي فأمر لها براحلة موطأة وخمسة آلاف درهم
369 - وفود بكارة الهلالية علي معاوية
استأذنت بكارة الهلالية علي معاوية بن أبي سفيان فأذن لها وهو يومئذ بالمدينة فدخلت عليه وكانت امرأة قد أسنت وعشي بصرها وضعفت قوتها ترعش بين خادمين لها فسلمت وجلست فرد عليها معاوية السلام وقال كيف أنت يا خالة فقالت بخير يا أمير المؤمنين قال غيرك الدهر قالت كذلك هو ذو غير من عاش كبر ومن مات قبر قال عمرو بن العاص هي والله القائلة
( يا زيد دونك فاحتقر من دارنا ... سيفا حساما في التراب دفينا )
( قد كنت أذخره ليوم كريهة ... فاليوم أبرزه الزمان مصونا )
قال مروان وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين
( أتري ابن هند للخلافة مالكا ... هيهات ذاك وإن أراد بعيد )
( منتك نفسك بالخلاء ضلالة ... أغراك عمرو للشقا وسعيد )
قال سعيد بن العاص هي والله القائلة
( قد كنت أطمع أن أموت ولا أري ... فوق المنابر من أمية خاطبا )
( فالله أخر مدتى فتطاولت ... حتى رأيت من الزمان عجائبا )
( في كل يوم للزمان خطيبهم ... بين الجميع لآل أحمد عائبا )
ثم سكت القوم فقالت بكارة نبحتنى كلابك يا أمير المؤمنين واعتورتني فقصر محجني وكثر عجبي وعشي بصري وأنا والله قائلة ما قالوا لا أدفع ذلك بتكذيب وما خفي عليك مني أكثر فامض لشأنك فلا خير في العيش بعد

369 - وفود بكارة الهلالية على معاوية
استأذنت بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان فأذن لها وهو يومئذ بالمدينة فدخلت عليه وكانت امرأة قد أسنت وعشي بصرها وضعفت قوتها ترعش بين خادمين لها فسلمت وجلست فرد عليها معاوية السلام وقال كيف أنت يا خالة فقالت بخير يا أمير المؤمنين قال غيرك الدهر قالت كذلك هو ذو غير من عاش كبر ومن مات قبر قال عمرو بن العاص هي والله القائلة يا أمير المؤمنين
( يا زيد دونك فاحتقر من دارنا ... سيفا حساما في التراب دفينا )
( قد كنت أذخره ليوم كريهة ... فاليوم أبرزه الزمان مصونا )
قال مروان وهي والله القائلة يا أمير المؤمنين
( أترى ابن هند للخلافة مالكا ... هيهات ذاك وإن أراد بعيد )
( منتك نفسك في الخلاء بالخلاء ضلالة ... أغراك عمرو للشقا وسعيد )
قال سعيد بن العاص هي والله القائلة
( قد كنت أطمع أن أموت ولا أري ... فوق المنابر من أمية خاطبا )
( فالله أخر مدتى فتطاولت ... حتى رأيت من الزمان عجائبا )
( في كل يوم للزمان خطيبهم ... بين الجميع لآل أحمد عائبا )
ثم سكت القوم فقالت بكارة نبحتنى كلابك يا أمير المؤمنين واعتورتني فقصر محجنى وكثر عجبى وعشى بصري وأنا والله قائلة ما قالوا لا أدفع ذلك بتكذيب وما خفي عليك مني أكثر فامض لشأنك فلا خير في العيش بعد

أمير المؤمنين فضحك معاوية وقال ليس يمنعنا ذلك من برك اذكري حاجتك قالت أما الآن فلا
وقيل إنه قد قضي حوائجها وردها إلى بلدها
370 - وفود أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية
دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية وهي عجوز كبير فلما رآها معاوية قال مرحبا بك وأهلا يا عمة فكيف كنت بعدنا فقالت يا بن أخي لقد كفرت يد النعمة وأسأت لابن عمك الصحبة وتسميت بغير اسمك وأخذت غير حقك من غير بلاء كان منك ولا من آبائك ولا سابقة في الإسلام ولقد كفرتم بما جاء به محمد فأتعس الله منكم الجدود وأضرع منكم الخدود ورد الحق إلى أهله ولو كره المشركون وكانت كلمتنا هي العليا ونبينا هو المنصور فوليتم علينا من بعده وتحتجون بقرابتكم من رسول الله أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر فكنا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا بمنزلة هرون من موسى فغايتنا الجنة وغايتكم النار
فقال لها عمرو بن العاص كفي أيتها العجوز الضالة وأقصري من قولك وغضي

من طرفك قالت ومن أنت لا أم لك قال عمرو بن العاص قالت يا بن اللخناء النابغة تتكلم وأمك كانت أشهر امرأة تغنى بمكة وآخذهن لأجرة اربع على ظلعك واعن بشأن نفسك فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ولا كريم منصبها ولقد ادعاك خمسة نفر من قريش كلهم يزعم أنه أبوك فسئلت أمك عنهم فقالت كلهم أتاني فانظروا أشبههم به فألحقوه به فغلب عليك شبه العاص ابن وائل فلحقت به ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر فأتم بهم فإنك بهم أشبه
فقال مروان كفى أيتها العجوز وأقصري لما جئت له ساخ بصرك مع ذهاب عقلك فلا تجوز شهادتك فقالت وأنت أيضا يا بن الزرقاء تتكلم فوالله لأنت إلى سفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم وإنك لشبهه في زرقة عينيك وحمرة شعرك مع قصر قامته وظاهر دمامته ولقد رأيت الحكم ماد القامة ظاهر الإمة سبط الشعر وما بينكما قرابة إلا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرب فاسأل أمك تخبرك بشأن أبيك إن صدقت ثم التفتت إلى معاوية فقالت والله ما جرأ على هؤلاء غيرك وإن أمك للقائلة يوم أحد في قتل حمزة رحمة الله عليه
( نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر )
( ما كان عن عتبة لي من صبر ... أبي وعمي وأخي وصهري )

( شفيت وحشي غليل صدري ... شفيت نفسي وقضيت نذري )
( فشكر وحشي علي دهري ... حتى ترم أعظمي في قبري )
فأجبتها
( يا بنت جبار عظيم الكفر ... خزيت في بدر وغير بدر )
( صبحك الله قبيل الفجر ... بالهاشميين الطوال الزهر )
( بكل قطاع حسام يفري ... حمزة ليثي وعلي صقري )
فقال معاوية لمروان وعمرو ويلكما أنتماء ضتماني لها وأسمعتماني ما أكره ثم قال لها يا عمة اقصدي قصد حاجتك ودعي عنك أساطير النساء قالت تأمر لي بألفي دينار وألفي دينار وألفي دينار قال ما تصنعين يا عمة بألفي دينار قالت أشتري بها عينا خرخارة في أرض خوارة تكون لولد الحارث بن عبد المطلب قال نعم الموضع وضعتها فما تصنعين بألفي دينار قالت أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم قال نعم الموضع وضعتها فما تصنعين بألفي دينار قالت أستعين بها على عسر المدينة وزيارة بيت الله الحرام قال نعم الموضع وضعتها هي لك نعم وكرامة ثم قال أما والله لو كان علي ما أمر لك بها قالت صدقت إن عليا أدى الأمانة وعمل بأمر الله وأخذ به وأنت ضيعت أمانتك وخنت الله في ماله فأعطيت مال الله من لا يستحقه وقد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبينها فلم تأخذ بها ودعانا أي علي إلى أخذ حقنا الذي فرض

الله لنا فشغل بحربك عن وضع الأمور مواضعها وما سألتك من مالك شيئا فتمن به إنما سألتك من حقنا ولا نرى أخذ شيء غير حقنا أتذكر عليا فض الله فاك وأجهد بلاءك ثم علا بكاؤها وجعلت تندب عليا فأمر لها بستة آلاف دينار وقال لها يا عمة أنفقي هذه فيما تحبين فإذا احتجت فاكتبي إلى ابن أخيك يحسن صفدك ومعونتك إن شاء الله
371 - أم البراء بنت صفوان ومعاوية
استأذنت أم البراء بنت صفوان على معاوية فأذن لها فدخلت عليه وعليها ثلاثة دروع برود تسحبها ذراعا قد لاثت على رأسها كورا كالمنسف فسلمت وجلست فقال لها معاوية كيف أنت يا بنة صفوان قالت بخير يا أمير المؤمنين قال كيف حالك قالت ضعفت بعد جلد وكسلت بعد نشاط قال شتان بينك اليوم وحين تقولين
( يا زيد دونك صارما ذا رونق ... عضب المهزة ليس بالخوار )
( أسرج جوادك مسرعا ومشمرا ... للحرب غير معرد لفرار )
( أجب الإمام وذب تحت لوائه ... والق العدو بصارم بتار )
( يا ليتني أصبحت لست قعيدة ... فأذب عنه عساكر الفجار )
قالت قد كان ذلك ومثلك من عفا والله تعالى يقول ( عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه ) قال هيهات أما والله لو عاد لعدت ولكنه

اخترم منك قالت أجل والله إني لعلى بينة من ربي وهدى من أمري قال كيف كان قولك حين قتل قالت أنسيته قال بعض جلسائه هو والله حين تقول
( يا للرجال لعظم هول مصيبة ... فدحت فليس مصابها بالحائل )
( الشمس كاسفة لفقد إمامنا ... خير الخلائق والإمام العادل )
( يا خير من ركب المطى ومن مشى ... فوق التراب لمحتف أو ناعل )
( حاشا النبي لقد هددت قواءنا ... فالحق أصبح خاضعا للباطل )
فقال معاوية قاتلك الله فما تركت مقالا لقائل اذكري حاجتك قالت أما الآن فلا وقامت فعثرت فقالت تعس شانئ علي فقال زعمت أن لا قالت هو كما علمت فلما كان من الغد بعث إليها بجائزة وقال إذا ضيعت الحلم فمن يحفظه
372 - دارمية الحجونية ومعاوية
وحج معاوية سنيه من سنينه فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت تنزل بالحجون يقال لها دارمية الحجونية وكانت سوداء كثيرة اللحم فأخبر بسلامتها فبعث إليها فجيء بها فقال ما حالك يا بنة حام فقالت لست لحام إن عبتني إنما أنا امرأة من بني كنانة ثمت من بني أبيك قال صدقت أتدرين لم بعثت إليك قالت لا يعلم الغيب إلا الله قال بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتني وواليته وعاديتني قالت أوتعفينى يا أمير المؤمنين قال لا أعفيك

قالت أما إذا أبيت فإني أحببت عليا على عدله في الرعية وقسمه بالسوية وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر وطلبتك ما ليس لك بحق وواليت عليا على ما عقد له رسول الله من الولاء وعلى حبه المساكين وإعظامه لأهل الدين وعاديتك على سفكك الدماء وشقك العصا وجورك في القضاء وحكمك بالهوى
قال فلذلك انتفخ بطنك وعظم ثدياك وربت عجيزتك قالت يا هذا بهند والله كان يضرب المثل في ذلك لأبي قال معاوية يا هذه أربعي فإنا لم نقل إلا خيرا إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها وإذا عظمت عجيزتها رزن مجلسها فرجعت وسكنت فقال لها يا هذه هل رأيت عليا قالت إى والله لقد رأيته قال فكيف رأيته قالت رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك ولم تشغله النعمة التي شغلتك قال فهل سمعت كلامه قالت نعم والله فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الطست من الصدأ قال صدقت فهل لك من حاجة قالت أو تفعل إذا سألتك قال نعم قالت تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها قال تصنعين بها ماذا قالت أغذو بألبانها الصغار وأستحيي بها الكبار وأكتسب بها المكارم وأصلح بها بين العشائر قال فإن أعطيتك ذلك فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب قالت ماء ولا كصداء

ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك سبحان الله أو دونه فأنشأ معاوية يقول
( إذا لم أعد بالحلم مني عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم )
( خذيها هنيئا واذكري فعل ماجد ... جزاك على حرب العداوة بالسلم )
ثم قال أما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا قالت لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين
373 - شداد بن أوس ومعاوية
وأمر معاوية شداد بن أوس الطائي أن يتنقص عليا فقام فقال الحمد لله الذي افترض طاعته على عباده وجعل رضاه عند أهل التقوى آثر من رضا خلقه على ذلك مضى أولهم وعليه يمضي آخرهم أيها الناس إن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وإن السامع المطيع لله لا حجة عليه وإن السامع العاصي لله لا حجة له وإن الله إذا أراد بالعباد صلاحا عمل عليهم صلحاؤهم وقضى بينهم فقهاؤهم وملك المال سمحاؤهم وإذا أراد بهم شرا عمل عليهم سفهاؤهم وقضى فيهم جهلاؤهم

وملك المال بخلاؤهم وإن من صلاح الولاة أن يصلح قرناؤها ونصح لك يا معاوية من أسخطك بالحق وغشك من أرضاك بالباطل
قال اجلس رحمك الله قد أمرنا لك بمال قال إن كان من مالك الذي تعهدت جمعه مخافة تبعته فأصبته حلالا وأنفقته إفضالا فنعم وإن كان مما شاركك فيه المسلمون فاحتجنته دونهم فأصبته افتراقا وأنفقته إسرافا فإن الله يقول في كتابه ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين )
وروي أن معاوية قال له يا شداد أنا أفضل أم علي وأينا أحب إليك فقال علي أقدم هجرة وأكثر مع رسول الله إلى الخير سابقة وأشجع منك قلبا وأسلم منك نفسا وأما الحب فقد مضى علي فأنت اليوم عند الناس أرجى منه
374 - معاوية ورجل من أهل سبأ
وقال لمعاوية لرجل من أهل سبأ ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة فقال بل قومك أجهل قالوا حين دعاهم رسول الله إلى الحق وأراهم البينات ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) ألا قالوا ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له )

375 - حديث معاوية مع عبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان
سأل معاوية بعد الاستقامة عبد الله بن عبد الحجر بن عبد المدان فقال له كيف علمك بقومك قال كعلمي بنفسي قال ما تقول في مراد قال مدركو الأوتار وحماة الذمار ومحرزوا الخطار قال فما تقول في النخع قال مانعو السرب ومسعرو الحرب وكاشفو الكرب قال وما تقول في بني الحرث ابن كعب قال فراجو اللكاك وفرسان العراك ولزاز الضحاك تراك تراك قال فما تقول في سعد العشيرة قال مانعو الضيم وبانو الريم وشافو الغيم قال ما تقول في جعفي قال فرسان الصباح ومعلمو الرماح ومبارزو الرياح قال ما تقول في بني زبيد قال كماة أنجاد سادات أمجاد وقر عند الذياد صبر عند الطراد قال ما تقول في جنب قال كفاة يمنعون عن الحريم ويفرجون عن الكظيم قال فما تقول في صداء قال سمام الأعداء

ومساعير الهيجاء قال فما تقول في رهاء قال ينهنهون عادية الفوارس ويردون الموت ورد الخوامس قال أنت أعلم بقومك
376 - حديث الخيار بن أوفى النهدي مع معاوية
دخل الخيار بن أوفى النهدي على معاوية فقال له يا خيار كيف تجدك وما صنع بك الدهر فقال يا أمير المؤمنين صدع الدهر قناتي وأثكلني لداتي وأوهى عمادى وشيب سوادى وأسرع في تلادي ولقد عشت زمنا أصبي الكعاب وأسر الأصحاب وأجيد الضراب فبان ذلك عني ودنا الموت مني وأنشأ يقول
( غبرت زمانا يرهب القرن جانبي ... كأني شتيم باسل القلب خادر )
( يخاف عدوي صولتى ويهابني ... ويكرمني قرني وجاري المجاور )
( وتصبي الكعاب لمتي وشمائلي ... كأني غصن ناعم النبت ناضر )
( فبان شبابي واعترتني رثية ... كأني قناة أطرتها المآطر )
( أدب إذا رمت القيام كأنني ... لدي المشي قرم قيده متقاصر )
( وقصر الفتى شيب وموت كلاهما ... له سائق يسعى بذاك وناظر )
( وكيف يلذ العش من ليس زائلا ... رهين أمور ليس فيها مصادر )

فقال معاوية أحسنت القول واعلم أن لها مصادر فنسأل الله أن يجعلنا من الصادرين بخير فقد أوردنا أنفسنا موارد نرغب إلى الله أن يصدرنا عنها وهو راض
377 - حديث عرابة بن أوس بن حارثة مع معاوية
قال معاوية لعرابة بن أوس بن حارثة الأنصاري بأي شيء سدت قومك يا عرابة قال أخبرك يا معاوية بأني كنت لهم كما كان حاتم لقومه قال وكيف كان فأنشدته
( وأصبحت في أمر العشيرة كلها ... كذي الحلم يرضي ما يقول ويعرف )
( وذاك لأني لا أعادي سراتهم ... ولا عن أخي ضرائهم أتنكف )
( وإني لأعطي سائلي ولربما ... أكلف ما لا أستطيع فأكلف )
( وإني لمذموم إذا قيل حاتم ... نبا نبوة إن الكريم يعنف )
ووالله إني لأعفو عن سفيههم وأحلم عن جاهلهم وأسعي في حوائجهم وأعطي سائلهم فمن فعل فعلي فهو مثلي ومن فعل أحسن من فعلي فهو أفضل مني ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه فقال معاوية لقد صدق الشماخ حيث يقول فيك
( رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين )
( إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين )

378 - سعيد بن عثمان بن عفان ومعاوية
دخل سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه على معاوية وابنه يزيد إلى جانبه فقال له ائتمنك أبي واصطنعك حتى بلغك باصطناعه إياك المدى الذي لا يجارى والغاية التي لا تسامى فما جازيت أبي بآلائه حتى قدمت هذا علي وجعلت له الأمر دوني وأومأ إلى يزيد والله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمه ولأنا خير منه فقال معاوية أما ما ذكرت يا بن أخي من تواتر آلائكم علي وتظاهر نعمائكم لدي فقد كان ذلك ووجب علي المكافأة والمجازاة وكان شكري إياه أن طلبت بدمه حتى كابدت أهوال البلاء وغشيت عساكر المنايا إلى أن شفيت حزازات الصدور وتجلت تلك الأمور ولست لنفسي باللائم في التشمير ولا الزاري عليها في التقصير وذكرت أن أباك خير من أبي هذا وأشار بيده إلي يزيد فصدقت لعمر الله لعثمان خير من معاوية أكرم كريما وأفضل قديما وأقرب إلى محمد رحما وذكرت أن أمك خير من أمه فلعمري إن امرأة من قريش خير من امرأة من بني كلب وذكرت أنك خير من يزيد فوالله يا بن أخي ما يسرني أن الغوطة عليها رجال مثل يزيد
فقال له يزيد مه يا أمير المؤمنين ابن أخيك استعمل الدالة عليك واستعتبك لنفسه واستزاد منك فزده وأجمل له في ردك واحمل على نفسك ووله خراسان بشفاعتي وأعنه بمال يظهر به موروثه فولاه معاوية خراسان وأجازه بمائة ألف درهم فكان ذلك أعجب ما ظهر من حلم يزيد

379 - مصقلة بن هبيرة ومعاوية
مرض معاوية مرضا شديدا فأرجف به مصقلة بن هبيرة وساعده قوم على ذلك ثم تماثل وهم في إرجافهم فحمل زياد مصقلة إلى معاوية وكتب إليه أنه يجمع مراقا من مراق العراق فيرجفون بأمير المؤمنين وقد حملته إليه ليرى رأيه فيه فقدم مصقلة وجلس معاوية للناس فلما دخل عليه قال ادن مني فدنا منه فأخذ بيده فجذبه فسقط مصقلة فقال معاوية ( أبقى الحوادث من خليلك ... مثل جندلة المراجم )
( صلبا إذا خار الرجال ... أبل ممتنع الشكائم )
( قد رامني الأعداء قبلك ... فامتنعت من المظالم )
فقال مصقلة يا أمير المؤمنين قد أبقى الله منك ما هو أعظم من ذلك بطشا وحلما راجحا وكلأ ومرعى لأوليائك وسما ناقعا لأعدائك كانت الجاهلية فكان أبوك سيد المشركين وأصبح الناس مسلمين وأنت أمير المؤمنين وقام فوصله معاوية وأذن له في الانصراف إلى الكوفة فقيل له كيف تركت معاوية فقال زعمتم أنه كبر وضعف والله لقد غمزني غمزة كاد يحطمني وجذبني جذبة كاد يكسر عضوا مني
380 - روح بن زنباع ومعاوية
وولى معاوية روح بن زنباع فعتب عليه في جناية فكتب إليه بالقدوم فلما قدم أمر بضربه بالسياط فلما أقيم ليضرب قال نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تهدم مني ركنا أنت بنيته أو أن تضع مني خسيسة أنت رفعتها أو تشمت بي عدوا أنت

وقمته وأسألك بالله إلا أتي حلمك وعفوك دون إفساد صنائعك فقال معاوية إذا الله سنى أمرا عقد أمر تيسرا خلوا سبيله
381 - مخاصمة أبي الأسود الدؤلي وامرأته بين يدي زياد بن أبيه
جرى بين أبي الأسود الدؤلي وبين امرأته كلام في ابن كان لها منه وأراد أخذه منها فسار إلى زياد وهو والي البصرة
فقالت المرأة أصلح الله الأمير هذا ابني كان بطني وعاءه وحجري فناءه وثديي سقاءه أكلؤه إذا نام وأحفظه إذا قام فلم أزل بذلك سبعة أعوام حتى إذا استوفى فصاله وكملت خصاله واستوكعت أوصاله وأملت نفعه ورجوت دفعه أراد أن يأخذه مني كرها فآدني أيها الأمير فقد رام قهري وأراد قسري
فقال أبو الأسود أصلحك الله هذا ابني حملته قبل أن تحمله ووضعته قبل أن تضعه وأنا أقوم عليه في أدبه وأنظر في أوده وأمنحه علمي وألهمه حلمي حتى يكمل عقله ويستحكم فتله
فقالت المرأة صدق أصلحك الله حمله خفا وحملته ثقلا ووضعه شهوة ووضعته كرها
فقال له زياد اردد على المرأة ولدها فهي أحق به منك ودعني من سجعك أو قال إنها امرأة عاقلة يا أبا الأسود فادفع ابنها إليها فأخلق أن تحسن أدبه

382 - صورة أخرى
وروى أحمد بن أبي طاهر طيفور هذا الخبر بصورة أطول وهاكها قال أبو محمد القشيري كان أبو الأسود الدؤلي من أكبر الناس عند معاوية بن أبي سفيان وأقربهم مجلسا وكان لا ينطق إلا بعقل ولا يتكلم إلا بعد فهم فبينا هو ذات يوم جالس وعنده وجوه قريش وأشراف العرب إذ أقبلت امرأة أبي الأسود الدؤلي حتى حاذت معاوية وقالت السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته إن الله جعلك خليفة في البلاد ورقيبا على العباد يستسقي بك المطر ويستنبت بك الشجر وتؤلف بك الأهواء ويأمن بك الخائف ويردع بك الجانف فأنت الخليفة المصطفى والإمام المرتضى فاسأل الله لك النعمة في غير تغبير والعافية من غير تعذير قد ألجأني إليك يا أمير المؤمنين أمر ضاق علي فيه المنهج وتفاقم علي منه المخرج لأمر كرهت عاره لما خشيت إظهاره فلينصفني أمير المؤمنين من الخصم فإني أعوذ بعقوته من العار الوبيل والأمر الجليل الذي يشتد على الحرائر ذوات البعول الأجائر فقال لها معاوية ومن بعلك هذا الذي تصفين من أمره المنكر ومن فعله المشهر فقالت هو أبو الأسود الدؤلي فالتفت إليه فقال يا أبا الأسود ما تقول هذه المرأة فقال أبو الأسود هي تقول من الحق بعضا ولن يستطيع أحد عليها نقصا أما ما ذكرت من طلاقها فهو حق وأنا مخبر أمير المؤمنين عنه بالصدق والله يا أمير المؤمنين ما طلقتها عن ريبة

ظهرت ولا لأي هفوة حضرت ولكني كرهت شمائلها فقطعت عني حبائلها فقال معاوية وأي شمائلها يا أبا الأسود كرهت قال يا أمير المؤمنين إنك مهيجها علي بجواب عتيد ولسان شديد فقال معاوية لا بد لك من محاورتها فاردد عليها قولها عند مراجعتها فقال أبو الأسود يا أمير المؤمنين إنها كثيرة الصخب دائمة الذرب مهينة للأهل مؤذية للبعل مسيئة إلى الجار مظهرة للعار إن رأت خيرا كتمته وإن رأت شرا أذاعته فقالت والله لولا مكان أمير المؤمنين وحضور من حضره من المسلمين لرددت عليك بوادر كلامك بنوافذ أقرع بها كل سهامك وإن كان لا يجمل بالمرأة الحرة أن تشتم بعلا ولا أن تظهر لأحد جهلا فقال معاوية عزمت عليك لما أجبته فقالت يا أمير المؤمنين ما علمته إلا سئولا جهولا ملحا بخيلا إن قال فشر قائل وإن سكت فذو دغائل ليث حين يأمن وثعلب حين يخاف شحيح حين يضاف إن ذكر الجود القمع لما يعرف من قصر رشاته ولؤم آبائه ضيفه جائع وجاره ضائع لا يحفظ جارا ولا يحمي ذمارا ولا يدرك ثارا أكرم الناس عليه من أهانه وأهونهم عليه من أكرمه فقال معاوية سبحان الله لما تأتي به هذه المرأة من السجع فقال

أبو الأسود أصلح الله أمير المؤمنين إنها مطلقة ومن أكثر كلاما من مطلقة فقال لها معاوية إذا كان رواحا فتعالى أفصل بينك وبينه بالقضاء
فلما كان الرواح جاءت ومعها ابنها قد احتضنته فلما رآها أبو الأسود قام إليها لينتزع ابنه منها فقال له معاوية يا أبا الأسود لا تعجل المرأة أن تنطق بحجتها قال يا أمير المؤمنين أنا أحق بحمل ابني منها فقال له معاوية يا أبا الأسود دعها تقل فقال يا أمير المؤمنين حملته قبل أن تحمله ووضعته قبل أن تضعه فقالت صدق والله يا أمير المؤمنين حمله خفا وحملته ثقلا ووضعه شهوة ووضعته كرها إن بطني لوعاؤه وإن ثديي لسقاؤه وإن حجري لفناؤه فقال معاوية سبحان الله لما تأتين به فقال أبو الأسود إنها تقول الأبيات من الشعر فتجيدها فقال معاوية إنها قد غلبتك في الكلام فتكلف لها أبياتا لعلك تغلبها فأنشأ أبو الأسود يقول
( مرحبا بالتي تجور علينا ... ثم سهلا بالحامل المحمول )
( أغلقت بابها علي وقالت ... إن خير النساء ذات البعول )
( شغلت نفسها علي فراغا ... هل سمعتم بالفارغ المشغول )
فأجابته وهي تقول
( ليس من قال بالصواب وبالحق ... كمن جار عن منار السبيل )
( كان ثديي سقاءه حين يضحي ... ثم حجري فناؤه بالأصيل )
( لست أبغي بواحدي يابن حرب ... بدلا ما علمته والخليل )
فأجابها معاوية
( ليس من غداه حينا صغيرا ... وسقاه من ثديه بخذول )

( هي أولى به وأقرب رحما ... من أبيه بالوحي والتنزيل )
( أمه ما حنت عليه وقامت ... هي أولى بحمل هذا الضئيل )
فقضي لها معاوية عليه واحتملت ابنها وانصرفت
383 - وفد أهل البصرة إلى عبد الله بن الزبير
لما قدم الأحنف في وجوه أهل البصرة إلى عبد الله بن الزبير تكلم أبو حاضر الأسيدي وكان خطيبا جميلا فقال له عبد الله بن الزبير اسكت فوالله لوددت أن لي بكل عشرة من أهل العراق رجلا من أهل الشأم صرف الدينار بالدرهم قال يا أمير المؤمنين إن لنا ولك مثلا أفتأذن في ذكره قال نعم قال مثلنا ومثلك ومثل أهل الشأم قول الأعشى حيث يقول
( علقتها عرضا وعلقت رجلا ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل )
أحبك أهل العراق وأحببت أهل الشأم وأحب أهل الشأم عبد الملك ابن مروان
384 - كلام خطيب الأزد بين يدي عبد الملك بن مروان
بعث الحجاج خطباء من الأحماس إلى عبد الملك بن مروان فتكلموا فلما انتهى الكلام إلى خطيب الأزد قام فقال قد علمت العرب أنا حي فعال ولسنا بحي مقال وأنا نجزي بفعلنا عند أحسن

قولهم إن السيوف لتعرف أكفنا وإن الموت ليستعذب أرواحنا وقد علمت الحرب الزبون أنا نقرع جماحها ونحلب صراها ثم جلس
385 - سؤال عبد الملك للعجاج وما أجاب به
ودخل العجاج على عبد الملك بن مروان فقال يا عجاج بلغني أنك لا تقدر على الهجاء فقال يا أمير المؤمنين من قدر على تشييد الأبنية أمكنه إخراب الأخبية قال فما يمنعك من ذلك قال إن لنا عزا يمنعنا من أن نظلم وإن لنا حلما يمنعنا من أن نظلم فعلام الهجاء فقال لكلماتك أشعر من شعرك فأني لك عز يمنعك من أن تظلم قال الأدب البارع والفهم الناصع قال فما الحلم الذي يمنعك من أن تظلم قال الأدب المستظرف والطبع التالد قال يا عجاج لقد أصبحت حكيما قال وما يمنعني وأنا بحي أمير المؤمنين
386 - وفود الحجاج بإبراهيم بن محمد بن طلحة على عبد الملك بن مروان
لما ولي الحجاج بن يوسف الحرمين بعد قتله ابن الزبير استخص إبراهيم بن محمد ابن طلحة فقربه وعظم منزلته فلم تزل تلك حاله عنده حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان فخرج معه معادلا لا يقصر له في بر وإعظام حتى حضر به عبد الملك فلما

دخل عليه لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا أن قال له قدمت عليك أمير المؤمنين برجل الحجاز لم أدع له بها نظيرا في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قدر الأبوة وما بلوت منه في الطاعة والنصيحة وحسن المؤازرة وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة وقد أحضرته بابك ليسهل عليه إذنك وتعرف له ما عرفتك فقال أذكرتنا رحما قريبة وحقا واجبا يا غلام ائذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة فلما دخل عليه أدناه عبد الملك حتى أجلسه على فراشه ثم قال له يا بن طلحة إن أبا محمد الحجاج ذكرنا ما لم نزل نعرفك به من الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قدر الأبوة وما بلاه منك في الطاعة والنصيحة وحسن المؤازرة فلا تدعن حاجة في خاصة نفسك وعامتك إلا ذكرتها فقال يا أمير المؤمنين إن أول الحوائج وأحق ما قدم بين يدي الأمور ما كان لله فيه رضا ولحق نبيه أداء ولك فيه ولجماعة المسلمين نصيحة وعندي نصيحة لا أجد بدا من ذكرها ولا أقدر على ذلك إلا وأنا خال فأخلني يا أمير المؤمنين ترد عليك نصيحتي قال أدون أبي محمد قال نعم دون أبي محمد قال عبد الملك للحجاج قم فلما خطرف الستر أقبل على إبراهيم فقال يا بن طلحة قل نصيحتك قال بالله يا أمير المؤمنين لقد عهدت إلى الحجاج في تغطرسه وتعجرفه وبعده من الحق وقربه من الباطل فوليته الحرمين وهما ما هما وبهما من بهما من المهاجرين والأنصار والموالي الأخيار يسومهم الخسف ويحكم فيهم بغير السنة بعد الذي كان من سفك دمائهم وما انتهك من حرمهم ويطؤهم بطغام أهل الشام ورعاع لا روية لهم في إقامة حق ولا في إزاحة باطل ثم تظن أن ذلك ينجيك من عذاب الله فكيف بك إذا جاثاك محمد غدا للخصومة بين يدي الله تعالى أما والله إنك لن تنجو هناك إلا بحجة تضمن لك

النجاة فاربع على نفسك أودع وكان عبد الملك متكئا فاستوى جالسا وقال كذبت ومنت فيما جئت به ولقد ظن بك الحجاج ظنا لم نجده فيك وقد يظن الخير بغير أهله قم فأنت المائن الحاسد قال فقمت والله ما أبصر شيئا فلما خطرف الستر لحقني لاحق فقال للحاجب امنع هذا من الخروج وأذن للحجاج فدخل فلبث مليا ولا أشك أنهما في امري ثم خرج الإذن لي فدخلت فلما كشف لي الستر إذا أنا بالحجاج خارج فاعتنقني وقبل ما بين عيني وقال أما إذا جزى الله المتواخين خيرا بفضل تواصلهما فجزاك الله عني أفضل الجزاء فوالله لئن سلمت لك لأرفعن ناظريك ولأعلين كعبك ولأتبعن الرجال غبار قدميك قال فقلت في نفسي إنه ليسخر بي فلما وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أدناني مجلسي الأول ثم قال يا بن طلحة هل أعلمت الحجاج بما جري أو شاركك أحد في نصيحتك فقلت لا والله ولا أعلم أحدا أظهر يدا عندي من الحجاج ولو كنت محابيا أحدا بديني لكان هو ولكني آثرت الله ورسوله والمسلمين قال قد علمت أنك لم ترد الدنيا ولو أردتها لكانت لك في الحجاج ولكن أردت الله والدار الآخرة وقد عزلته عن الحرمين لما كرهت من ولايته عليهما وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استقلالا لهما ووليته العراقين وما هنالك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله وإنما قلت له ذلك ليؤدي ما يلزمه من ذمامك فإنك غير ذام لصحبته مع يدك عنده فخرجت مع الحجاج وأكرمني أضعاف إكرامه

387 - قدوم الحجاج مع أشراف المصرين على عبد الملك
لما فرغ الحجاج من دير الجماجم وقدم على عبد الملك ومعه أشراف أهل المصرين البصرة والكوفة أدخلهم عليه فبينما هم عنده إذ تذاكروا البلدان فقال محمد بن ابن عمير بن عطارد أصلح الله الأمير إن الكوفة أرض ارتفعت عن البصرة وحرها وغمقها وسفلت عن الشأم ووبائها وجاورها الفرات فعذب ماؤها وطاب ثمرها فقال خالد بن صفوان الأهتمي أصلح الله الأمير نحن أوسع منهم برية وأسرع منهم في السرية وأكثر منهم قندا وعاجا وساجا وناسا ماؤنا صفو وخيرنا عفو لا يخرج من عندنا إلا قائد وسائق وناعق فقال الحجاج أصلح الله أمير المؤمنين إني بالبلدين خبير وقد وطئتهما جميعا فقال له قل فأنت عندنا مصدق فقال أما البصرة فعجوز شمطاء دفراء بخراء أوتيت من كل حلي وزينة وأما الكوفة فشابة حسناء جميلة لا حلي لها ولا زينة فقال عبد الملك فضلت الكوفة على البصرة
وروى الجاحظ قال قال خالد بن صفوان وسئل عن الكوفة والبصرة نحن منابتنا قصب وأنهارنا عجب وسماؤنا رطب وأرضنا ذهب

وقال الأحنف نحن أبعد منكم سرية وأعظم منكم تجرية وأكثر منكم ذرية وأغذى منكم برية
وقال أبو بكر الهذلي نحن أكثر منكم ساجا وعاجا وديباجا وخراجا ونهرا عجاجا
388 - وفود مالك بن بشير على الحجاج بقتل الأزارقة
لما هزم المهلب بن أبي صفرة قطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة بعث إلي مالك بن بشير فقال له إني موفدك إلى الحجاج فسر فإنما هو رجل مثلك وبعث إليه بجائزة فردها وقال إنما الجائزة بعد الاستحقاق وتوجه فلما دخل على الحجاج قال له ما اسمك قال مالك بن بشير قال ملك وبشارة كيف تركت المهلب قال أدرك ما أمل وأمن من خاف قال كيف هو لجنده قال والد رءوف قال فكيف رضاهم عنه قال وسعهم بالفضل وأقنعهم بالعدل قال فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوكم قال نلقاهم بجدنا فنطمع فيهم ويلقوننا بجدهم فيطمعون فينا قال كذلك الجد إذا لقي الجد قال فما حال قطري قال كادنا ببعض ما كدناه قال فما منعكم من اتباعه قال رأينا المقام من ورائه خيرا من اتباعه قال فأخبرني عن ولد المهلب قال أعباء القتال بالليل حماة السرح بالنهار قال أيهم أفضل قال ذلك إلى أبيهم قال لتقولن قال هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها قال أقسمت عليك هل روأت في هذا الكلام قال ما أطلع الله على غيبه أحدا فقال الحجاج لجلسائه هذا والله الكلام المطبوع لا الكلام المصنوع

389 - وفود كعب الأشقرى على الحجاج
أوفد المهلب بن أبي صفرة كعب بن معدان الأشقري ومعه مرة بن تليد الأزدي إلى الحجاج بعد هزيمة الأزارقة وقتل أميرهم عبد ربه الصغير فلما دخلا عليه بدر كعب فأنشده قصيدته التي مطلعها
( يا حفص إني عداني عنكم السفر ... وقد سرت فأذى عيني السهر )
فقال له الحجاج أشاعر أم خطيب قال كلاهما ثم أقبل عليه فقال له أخبرني عن بني المهلب قال المغيرة فارسهم وسيدهم نار ذاكية وصعدة عالية وكفى بيزيد فارسا شجاعا ليث غاب وبحر جم عباب وجوادهم وسخيهم قبيصة ليث المغار وحامى الذمار ولا يستحيى الشجاع أن يفر من مدرك فكيف لا يفر من الموت الحاضر والأسد الخادر وعبد الملك سم ناقع وسيف قاطع وحبيب الموت الزعاف إنما هو طود شامخ وفخر باذخ وأبو عينية البطل الهمام والسيف الحسام وكفاك بالمفضل نجدة ليث هدار وبحر موار ومحمد ليث غاب وحسام ضراب قال فكيف كانوا فيكم قال كانوا حماة السرح نهارا فإذا أليلوا ففرسان البيات قال فأيهم كان أنجد قال كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها قال فكيف كان لكم المهلب وكنتم له قال كان لنا منه شفقة الوالد وله منا بر الولد قال فكيف جماعة الناس قال على أحسن حال أدركوا ما رجوا وأمنوا مما خافوا وأرضاهم العدل وأغناهم النفل قال فكيف كنتم أنتم وعدوكم قال كنا إذا أخذنا عفونا وإذا أخذوا يئسنا منهم

وإذا اجتهدوا واجتهدنا طمعنا فيهم فقال الحجاج إن العاقبة للمتقين قال كيف أفلتكم قطري قال كدناه ببعض ما كادنا به فصرنا منه إلى الذي نحب قال فهلا اتبعتموه قال كان الحد عندنا آثر من الفل قال أكنت أعددت لي هذا الجواب قال لا يعلم الغيب إلا الله فقال هكذا تكون والله الرجال المهلب كان أعلم بك حيث وجهك وأمر له بعشرة آلاف درهم وحمله على فرس وأوفده على عبد الملك بن مروان فأمر له بعشرة آلاف أخرى
390 - سليك بن سلكة والحجاج
دخل على الحجاج سليك بن سلكة فقال أصلح الله الأمير أعرني سمعك واغضض عني بصرك واكفف عني حزبك فإن سمعت خطأ أو زللا فدونك والعقوبة فقال قل فقال عصى عاص من عرض العشيرة فحلق على اسمي وهدمت داري وحرمت عطائي قال هيهات أما سمعت قول الشاعر
( جانيك من يجني عليك وربما ... تعدي الصحاح مبارك الجرب )
( ولرب مأخوذ بذنب عشيرة ... ونجا المقارف صاحب الذنب )

قال أصلح الله الأمير سمعت الله قال غير هذا قال وما ذاك قال قال ( يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون )
قال الحجاج علي بيزيد بن أبي مسلم فأتي به فمثل بين يديه فقال فكك لهذا عن اسمه واصكك له بعطائه وابن له منزله ومر مناديا ينادي في الناس صدق الله وكذب الشاعر
391 - جامع المحاربي والحجاج
شكا الحجاج سوء طاعة أهل العراق وتنقم مذهبهم وتسخط طريقتهم فقال له جامع المحاربي وكان شيخا صالحا خطيبا لسفا أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك فدع ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك وليكن إيقاعك بعد وعيدك ووعيدك بعد وعدك قال الحجاج إني والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف فقال أيها الأمير إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار فقال الحجاج الخيار يومئذ لله قال أجل ولكن لا تدري لمن يجعله الله فغضب الحجاج وقال يا هناه إنك من محارب فقال جامع
( وللحرب سمينا وكان محاربا ... إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا )

فقال الحجاج والله لهممت أن أخلع لسانك فأضرب به وجهك فقال جامع إن صدقناك أغضبناك وإن غششناك أغضبنا الله فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله قال أجل وسكن وشغل الحجاج ببعض الأمر فانسل جامع فمر بين صفوف خيل الشأم حتى جاوز إلى خيل أهل العراق وكان الحجاج لا يخلطهم فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق وتميم العراق وأزد العراق وقيس العراق فلما رأوه أشرأبوا إليه وبلغهم خروجه فقالوا له ما عندك دافع الله لنا عن نفسك فقال ويحكم عموه بالخلع كما يعمكم بالعداوة ودعوا التعادي ما عاداكم فإذا ظفرتم به تراجعتم وتعاقبتم أيها التميمي هو أعدى لك من الأزدي وأيها القيسي هو أعدى لك من التغلبي وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم وهرب جامع من فوره ذلك إلى الشأم فاستجار بزفر بن الحارث
392 - ليلى الأخيلية والحجاج
عن مولى لعنبسه بن سعيد بن العاصى قال كنت أدخل مع عنبسة بن سعيد بن العاصى إذا دخل على الحجاج فدخل يوما فدخلت إليهما وليس عند الحجاج أحد إلا عنبسة فأقعدني فجيء بالحجاج بطبق فيه رطب فأخذ الخادم منه شيئا فجاءني به ثم جيء بطبق آخر حتى كثرت الأطباق وجعل لا يأتون بشيء إلا جاءني منه بشيء حتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهما ثم جاء الحاجب فقال امرأة بالباب فقال له الحجاج أدخلها فدخلت فلما رآها الحجاج طأطأ رأسه حتى ظننت أن ذقنه قد أصاب الأرض فجاءت حتى قعدت

بين يديه فنظرت فإذا امرأة قد أسنت حسنة الخلق ومعها جاريتان لها وإذا هي ليلى الأخيلية فسألها الحجاج عن نسبها فانتسبت له فقال لها يا ليلى ما أتى بك فقالت إخلاف النجوم وقلة الغيوم وكلب البرد وشدة الجهد وكنت لنا بعد الله الرفد فقال لها صفي لنا الفجاج فقالت الفجاج مغبرة والأرض مقشعرة والمبرك معتل وذو العيال مختل والهالك للقل والناس مسنتون رحمة الله يرجون أصابتنا سنون مجحفة مبلطة لم تدع لنا هبعا ولا ربعا ولا عافطة ولا نافطة أذهبت الأموال ومزقت الرجال وأهلكت العيال ثم قالت إني قلت في الأمير قولا قال هاتي فأنشأت تقول
( أحجاج لا يفلل سلاحك إنها ... المنايا بكف الله حيث تراها )
( أحجاج لا تعطى العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة مناها )
( إذا هبط الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها )
( شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها )
( سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال حيث مال حشاها )

( إذا سمع الحجاج رز كتيبة ... أعد لها قبل النزول قراها )
( أعد لها مسمومة فارسية ... بأيدي رجال يحلبون صراها )
( فما ولد الأبكار والعون مثله ... ببحر ولا أرض يجف ثراها )
قال فلما قالت هذا البيت قال الحجاج قاتلها الله والله ما أصاب صفتي شاعر مذ دخلت العراق غيرها ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال والله إني لأعد للأمر عسى أن لا يكون أبدا ثم التفت إليها فقال حسبك قالت إني قد قلت أكثر من هذا قال حسبك ويحك حسبك ثم قال يا غلام اذهب إلى فلان فقل له اقطع لسانها فذهب بها فقال له يقول لك الأمير اقطه لسانها فأمر بإحضار الحجام فالتفتت إليه فقالت ثكلتك أمك أما سمعت ما قال إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة فبعث إليه يستثبته فاستشاط الحجاج غضبا وهم بقطع لسانه وقال ارددها فلما دخلت عليه قالت كاد وأمانة الله يقطع مقولي ثم أنشأت تقول
( حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلا الخليفة والمستغفر الصمد )
( حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نور في الدجي يقد )
ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال اتدرون من هذه قالوا لا والله أيها الأمير إلا نا لم نر قط أفصح لسانا ولا أحسن محاورة ولا أملح أوجها ولا أرصن شعرا منها فقال هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها ثم التفت إليها فقال أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة قالت نعم أيها الأمير هو الذي يقول ( وهل تبكين ليلى إذا مت مرت قبلها ... وقام على قبرى النساء النوائح )

( كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها ... وجاد لها دمع من العين سافح )
( وأغبط من ليلى بما لا أناله ... بلى كل ما قرت به العين طائح )
( ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح )
( لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح )
فقال زيدينا من شعره يا ليلى قالت هو الذي يقول ( حمامة بطن الواد بين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها )
( أبيني لنا لا زال ريشك ناعما ... ولا زلت في خضراء غض نضيرها )
( وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها )
( وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها )
( وأشرف بالقور اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها )
( يقول رجال لا يضيرك نأيها ... بلى كل ما شف النفوس يضيرها )
( بلى قد يضير العين أن تكثر البكا ... ويمنع منها نومها وسرورها )
( وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها )
فقال الحجاج يا ليلي ما الذي رابه من سفورك فقالت أيها الأمير كان يلم بي كثيرا فأرسل إلي يوما إني آتيك وفطن الحي فأرصدوا له فلما أتاني سفرت عن وجهي فعلم أن ذلك لشر فلم يزد على التسليم والرجوع فقال لله درك

فهل رأيت منه شيئا تكرهينه فقالت لا والله الذي أسأله أن يصلحك إنه قال مرة قولا ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشأت أقول
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل )
( لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل )
فلا والله الذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئا حتى فرق الموت بيني وبينه قال ثم مه قالت ثم لم يلبث أن خرج في غزاة له فأوصى ابن عم له إذا أتيت الحاضر من بني عبادة فناد بأعلى صوتك ( عفا الله عنها هل أبيتن ليلة ... من الدهر لا يسري إلي خيالها )
وأنا أقول ( وعنه عفا ربي وأحسن حاله ... فعزت علينا حاجة لا ينالها )
قال ثم مه قالت ثم لم يلبث أن مات فأتانا نعيه فقال أنشدينا بعض مراثيك فيه فأنشدت
( لتبك العذارى من خفاجة نسوة ... بماء شئون العبرة المتحدر )
قال لها فأنشدينا فأنشدته
( كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصى بالكراكر )
فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي وكان من جلساء الحجاج

من الذي تقول هذه هذا فيه فوالله إني لأظنها كاذبة فنظرت إليه ثم قالت أيها الأمير إن هذا القائل لو رأى توبة لسره أن لا تكون في داره عذراء إلا وهي حامل منه فقال الحجاج هذا وأبيك الجواب وقد كنت عنه غنيا ثم قال لها سلي يا ليلى تعطى قالت أعط فمثلك أعطى فأحسن قال لك عشرون قالت زد فمثلك زاد فأجمل قال لك أربعون قالت زد فمثلك زاد فأكمل قال لك ثمانون قالت زد فمثلك زاد فتمم قال لك مائة واعلمي أنها غنم قالت معاذ الله أيها الأمير أنت أجود جودا وأمجد مجدا وأورى زندا من أن تجعلها غنما قال فما هي ويحك يا ليلى قالت مائة من الإبل برعاتها فأمر لها بها ثم قال ألك حاجة بعدها قالت تدفع إلي النابغة الجعدي قال قد فعلت وقد كانت تهجوه ويهجوها فبلغ النابغة ذلك فخرج هاربا عائذا بعبد الملك فاتبعته إلى الشأم فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان فاتبعته على البريد بكتاب الحجاج إلى قتيبة فماتت بقومس ويقال بحلوان
393 - الغضبان بن القبعثري والحجاج
ورد علي الحجاج كتاب من عبد الملك يأمره أن يبعث إليه بثلاثين جارية عشرا من النجائب وعشرا من قعد النكاح وعشرا من ذوات الأحلام فلما نظر إلى الكتاب لم يدر ما وصفه من الجواري فعرضه على أصحابه فلم يعرفوه فقال له بعضهم أصلح الله الأمير ينبغي أن يعرف هذا من كان في أوليته بدويا فله معرفة أهل البدو ثم غزا فله معرفة أهل الغزو ثم شرب الشراب فله بذاء أهل الشراب قال وأين هذا قيل في حبسك قال ومن هو قيل الغضبان الشيباني فأحضر

فلما مثل بين يديه قال أنت القائل لأهل الكوفة يتغدون بي قبل أن أتعشى بهم قال أصلح الله الأمير ما نفعت من قالها ولا ضرت من قيلت فيه قال إن أمير المؤمنين كتب إلي كتابا لم أدر ما فيه فهل عندك شيء منه قال يقرأ علي فقرئ عليه فقال هذا بين قال وما هو قال أما النجيبة من النساء فالتي عظمت هامتها وطال عنقها وبعد ما بين منكبيها وثدييها واتسعت راحتها ونخنت ركبتها فهذه إذا جاءت بالولد جاءت به كالليث وأما قعد النكاح فهن ذوات الأعجاز منكسرات الثدي كثيرات اللحم يقرب بعضهن من بعض فأولئك يشنين القرم ويروين الظمآن وأما ذوات الأحلام فبنات خمس وثلاثين إلى الأربعين
قال الحجاج أخبرني بشر النساء قال أصلح الله الأمير شرهن الصغيرة النقبة الحديدة الركبة السريعة الوثبة الواسطة في نساء الحي التي إذا غضبت غضب لها مائة وإذا سمعت كلمة قالت لا والله لا أنتهي حتى أقرها قرارها التي في بطنها جارية ويتبعها جارية وفي حجرها جارية قال الحجاج على هذه لعنة الله ثم قال ويحك فأخبرني بخير النساء قال خيرهن القريبة القامة من السماء الكثيرة الأخذ من الأرض الودود الولود التي في بطنها غلام وفي حجرها غلام ويتبعها غلام قال ويحك فأخبرني بشر الرجال قال شرهم السنوط الربوط المحمود في حرم الحي الذي إذا سقط لإحداهن دلو في بئر انحط عليه حتى يخرجه

فهن زينه الخير ويقلن عافى الله فلانا قال على هذا لعنة الله فأخبرني بخير الرجال قال خيرهم الذي يقول فيه الشماخ التغلبي
( فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتولج )
( فتى يملأ الشيزى ويروي سنانه ... ويضرب في رأس الكمى المدجج )
فقال له حسبك كم حبسنا عطاءك قال ثلاث سنين فأمر له بها وخلى سبيله
394 - ابن القرية يعدد مساوئ المزاح
وقال الحجاج بن يوسف لابن القرية ما زالت الحكماء تكره المزاح وتنهى عنه فقال المزاح من أدنى منزلته إلى أقصاها عشرة أبواب المزاح أوله فرح وآخره ترح المزاح نقائض السفهاء كالشعر نقائض الشعراء والمزاح يوغر صدر الصديق وينفر الرفيق والمزاح يبدي السرائر لأنه يظهر المعاير والمزاح يسقط المروءة ويبدي الخنا لم يجر المزاح خيرا وكثيرا ما جر شرا الغالب بالمزاح واتر والمغلوب به ثائر والمزاح يجلب الشتم صغيره والحرب كبيره وليس بعد الحرب إلا عفو بعد قدرة فقال الحجاج حسبك الموت خير من عفو معه قدرة

395 - يزيد بن أبي مسلم وسليمان بن عبد الملك
لما ولي سليمان بن عبد الملك أتى بيزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج في جامعة وكان رجلا دميما تقتحمه العين فلما رآه سليمان قال لعن الله امرأ أجرك رسنك وولى مثلك فقال يا أمير المؤمنين إنك رأيتني والأمر عني مدبر ولو رأيتني والأمر علي مقبل لاستعظمت من أمري ما استصغرت ولاستجللت ما استحقرت فقال له سليمان أين ترى الحجاج أيهوي في النار أم قد استقر في قعرها فقال يا أمير المؤمنين لا تقل هذا إن الحجاج قمع لكم الأعداء ووطأ لكم المنابر وزرع لكم الهيبة في قلوب الناس وبعد فإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك وشمال أخيك الوليد فضعه من النار حيث شئت فصاح سليمان اخرج إلى لعنة الله ثم التفت إلى جلسائه فقال قبحه الله ما كان أحسن ترتيبه لنفسه ولصاحبه ولقد أحسن المكافأة أطلقوا سبيله

396 - وفود العراق على سليمان بن عبد الملك
وقدمت وفود العراق على سليمان بن عبد الملك بعدما استخلف فأمرهم بشتم الحجاج فقاموا يشتمونه فقال بعضهم إن عدو الله الحجاج كان عبدا زبابا قنور بن قنور لا نسب له في العرب قال سليمان أي شتم هذا إن عدو الله

الحجاج كتب إلي إنما أنت نقطة من مداد فإن رأيت في ما رأى أبوك وأخوك كنت لك كما كنت لهما وإلا فأنا الحجاج وأنت النقطة فإن شئت محوتك وإن شئت أثبتك فالعنوه لعنه الله فأقبل الناس يلعنونه فقام ابن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري فقال يا أمير المؤمنين إنا نخبرك عن عدو الله بعلم قال هات قال كان عدو الله يتزين تزين المومسة ويصعد المنبر فيتكلم بكلام الأخيار فإذا نزل عمل عمل الفراعنة وأكذب في حديثه من الدجال فقال سليمان لرجاء بن حيوة هذا وأبيك الشتم لا ما تأتي به السفلة
397 - كلام أبي حازم لسليمان بن عبد الملك
حج سليمان بن عبد الملك فلما قدم المدينة للزيارة بعث إلى أبي حازم الأعرج وعنده ابن شهاب فلما دخل قال تكلم يا أبا حازم قال فيم أتكلم يا أمير المؤمنين قال في المخرج من هذا الأمر قال يسير إن أنت فعلته قال وما ذاك قال لا تأخذ الأشياء إلا من حلها ولا تضعها إلا في أهلها قال ومن يقوى على ذلك قال من قلده الله من أمر الرعية ما قلدك قال أعطنى أبا حازم قال اعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا بموت من كان قبلك وهو خارج من يديك بمثل ما صار إليك قال يا أبا حازم أشر علي قال إنما أنت سوق فما نفق عندك حمل إليك من خير أو شر فاختر أيهما شئت قال مالك لا تأتينا قال وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين إن أدنيتنى فتنتنى وإن اقصيتنى أخزيتنى وليس عندك ما أرجوك له ولا عندي

ما أخافك عليه قال فارفع إلينا حاجتك قال قد رفعتها إلى من هو أقدر منك عليها فما أعطاني منها قبلت وما منعنى منها رضيت
398 - أبو حازم وسليمان بن عبد الملك أيضا
ودخل عليه أبو حازم الأعرج فقال يا أبا حازم ما لنا نكره الموت فقال لأنكم عمرتم دنياكم وأخربتم آخرتكم فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب قال فأخبرني كيف القدوم على الله قال أما المحسن فكالغائب يأتى أهله مسرورا وأما المسيء فكالعبد الابق يأتى مولاه محزونا قال فأي الأعمال أفضل قال أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال فأى القول أعدل قال كلمة حق عند من تخاف وترجو قال فأى الناس أعقل قال من عمل بطاعة الله قال فأى الناس أجهل قال من باع آخرته بدنيا غيره قال عظني وأوجز قال يا أمير المؤمنين نزه ربك وعظمه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك فبكى سليمان بكاء شديدا فقال له بعض جلسائه أسرفت ويحك على أمير المؤمنين فقال له أبو حازم اسكت فإن الله عز و جل أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه ثم خرج فلما صار إلى منزله بعث إليه سليمان بمال فرده وقال للرسول قل له والله يا أمير المؤمنين ما أرضاه لك فكيف أرضاه لنفسي

399 - وفد أهل الحجاز عند عمر بن عبد العزيز
لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قدم عليه وفود أهل كل بلد فتقدم إليه وفد أهل الحجاز فاشرأب منهم غلام للكلام فقال عمر مهلا يا غلام ليتكلم من هو أسن منك فقال الغلام مهلا يا أمير المؤمنين إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه فإذا منح الله العبد لسانا لافظا وقلبا حافظا فقد استجاد له الحلية ولو كان التقدم بالسن لكان في هذه الأمة من هو أحق بمجلسك منك فقال عمر صدقت تكلم فهذا السحر الحلال فقال يا أمير المؤمنين نحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة قدمنا إليك من بلدنا نحمد الله الذي من بك علينا لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة لأنا قد أمنا في أيامك ما خفنا وأدركنا ما طلبنا فقال عظنا يا غلام وأوجز قال نعم يا أمير المؤمنين إن أناسا غرهم حلم الله عنهم وطول أملهم وحسن ثناء الناس عليهم فلا يغرنك حلم الله عنك وطول أملك وحسن ثناء الناس عليك فنزل قدمك فنظر عمر في سن الغلام فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة فأنشأ عمر يقول
( تعلم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علم كمن هو جاهل )
( وإن كبير القوم لا علم عنده ... صغير إذا التفت عليه المحافل )

400 - خالد بن صفوان يعزي عمر بن عبد العزيز ويهنئه
وعزى خالد بن صفوان عمر بن عبد العزيز وهنأه بالخلافة فقال الحمد لله الذي من على الخلق بك والحمد لله الذي جعل موتكم رحمة وخلافتكم عصمة ومصائبكم أسوة وجعلكم قدوة
401 - خطبة عبد الله بن الأهتم
دخل عبد الله بن الأهتم على عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى مع العامة فلم يفجأ عمر إلا وهو ماثل بين يديه يتكلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الله خلق الخلق غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم والناس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون والعرب بشر تلك المنازل أهل الوتر وأهل المدر تحتاز دونهم طيبات الدنيا ورفاغة عيشتها ميتهم في النار وحبهم أعمى مع ما لا يحصى من المرغوب عنه والمزهود فيه فلما أراد الله أن ينشر فيهم رحمته بعث إليهم رسولا منهم ( عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) فلم يمنعهم ذلك أن جرحوه في جسمه ولقبوه في اسمه ومعه كتاب من الله لا يرحل إلا بأمره ولا ينزل إلا بإذنه واضطروه إلى بطن غار فلما أمر بالعزيمة أسفر لأمر الله لونه فأفلج الله حجته وأعلى كلمته وأظهر دعوته ففارق الدنيا نقيا تقيا ثم قام بعده أبو بكر رضي الله تعالى عنه فسلك سنته وأخذ سبيله وارتدت العرب فلم يقبل منهم بعد رسول الله إلا الذي كان قابلا منهم

فانتضى السيوف من أغمادها وأوقد النيران من شعلها ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل فلم يبرح يفصل أوصالهم ويسقى الأرض دماءهم حتى أدخلهم في الذي خرجوا منه وقررهم بالذي نفروا منه وقد كان أصاب من مال الله بكرا يرتوي عليه وحبشية ترضع ولدا له فرأى ذلك غصة عند موته في حلقه فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده وبرئ إليهم منه وفارق الدنيا نقيا تقيا على منهاج صاحبه رضي الله تعالى عنه ثم قام من بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى فمصر الأمصار وخلط الشدة باللين فحسر عن ذراعيه وشمر عن ساقيه وأعد للأمور أقرانها وللحرب آلتها فلما أصابه قن المغيرة بن شعبة أمر ابن عباس يسأل الناس هل يثبتون قاتله فلما قيل له قن المغيرة استهل بحمد الله أن لا يكون أصابه ذو حق في الفيء فيستحل دمه بما استحل من حقه وقد كان أصاب من مال الله بضعا وثمانين ألفا فكسر بها رباعه وكره بها كفالة أهله وولده فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده وفارق الدنيا نقيا تقيا على منهاج صاحبه رضي الله تعالى عنهما ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظلع ثم إنك يا عمر ابن الدنيا ولدتك ملوكها وألقمتك ثديها فلما وليتها ألقيتها حيث ألقاها الله فالحمد لله الذي جلا بك حوبتها وكشف بك كربتها امض ولا تلتفت فإنه لا يذل على الحق شيء ولا يعز على الباطل شيء أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات ولما أن قال ثم إنا والله ما اجتمعنا بعدهما إلا على ظلع سكت الناس كلهم إلا هشاما فإنه قال كذبت

402 - مقام محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر بن عبد العزيز
قام محمد بن كعب القرظي بين يدي عمر بن عبد العزيز فقال إنما الدنيا سوق من الأسواق فمنها خرج الناس بما ينفعهم وبما يضرهم وكم من قوم قد غرهم مثل الذي أصبحنا فيه حتى أتاهم الموت فاستوعبهم فخرجوا من الدنيا مرملين لم يأخذوا لما أحبوا من الآخرة عدة ولا لما كرهوا جنة واقتسم ما جمعوا من لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم فانظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت فقدمه بين يديك حتى تخرج إليه وانظر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمت فابتغ به البدل حيث يجوز البدل ولا تذهبن إلى سلعة قد بارت على غيرك ترجو جوازها عندك يا أمير المؤمنين افتح الأبواب وسهل الحجاب وانصر المظلوم ورد الظالم
403 - وفد أهل الحجاز على هشام بن عبد الملك
وفد أهل الحجاز من قريش على هشام بن عبد الملك بن مروان وفيهم محمد ابن أبي الجهم بن حذيفة العدوي وكان أعظمهم قدرا وأكبرهم سنا وأفضلهم رأيا وحلما فقام متوكئا على عصا فقال أصلح الله أمير المؤمنين إن خطباء قريش قد قالت فيك فأطنبت وأثنت عليك فأحسنت ووالله ما بلغ قائلهم قدرك ولا أحصى مثنيهم فضلك أفتأذن لي في الكلام قال تكلم قال أفأوجز أم أطنب قال بل أوجز قال تولاك الله أمير المؤمنين

بالحسنى وزينك بالتقوى وجمع لك خير الآخرة والأولى إن لي حوائج أفأذكرها قال هاتها قال كبرت سني وضعفت قواي واشتدت حاجتي فإن رأى أمير المؤمنين أن يجبر كسري وينفي فقري قال يا بن أبي الجهم وما الذي يجبر كسرك وينفى فقرك قال ألف دينار وألف دينار وألف دينار فأطرق هاشم طويلا ثم قال هيهات يا بن أبي الجهم بيت المال لا يحتمل ما سألت فقال أما إن الأمر لواحد ولكن الله آثرك لمجلسك فإن تعطنا فحقنا أديت وإن تمنعنا نسأل الذي بيده ما حويت إن الله جعل العطاء محبة والمنع مبغضة ولأن أحبك أحب إلي من أن أبغضك قال فألف دينار لماذا قال أقضي بها دينا قد حم قضاؤه وفدحنى حمله وأرهقنى أهله قال نعم المسلك أسلكتها دينا قضيت وأمانة أديت وألف دينار لماذا قال أزوج بها من أدرك من ولدي فأشد بهم عضدي ويكثر بهم عددي قال ولا بأس أغضضت طرفا وحصنت فرجا وأمرت نسلا وألف دينار لماذا قال أشتري بها أرضا يعيش بها ولدي وأستعين بفضلها على نوائب دهري وتكون ذخرا لمن بعدي قال ولا بأس أردت ذخرا ورجوت أجرا ووصلت رحما قد أمرنا لك بما سألت قال فالمحمود الله على ذلك وجزاك الله يا أمير المؤمنين والرحم خيرا وخرج فقال هشام تالله ما رأيت رجلا ألطف في سؤال ولا أرفق في مقال من هذا هكذا فليكن القرشي وإنا لنعرف الحق إذا نزل ونكره الإسراف والبخل وما نعطي تبذيرا ولا نمنع تقتيرا وما نحن إلا خزان الله في بلاده وأمناؤه على عباده فإن أذن أعطينا وإذا منع أبينا ولو كان كل قائل يصدق وكل سائل يستحق ما جبهنا قائلا ولا رددنا سائلا فنسأل الذي بيده ما استحفظنا أن يجريه على أيدينا فإنه يبسط الرزق لمن يشاء

ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا فقالوا يا أمير المؤمنين لقد تكلمت فأبلغت وما بلغ في كلامه ما قصصت فقال إنه مبتدي وليس المبتدى كالمقتدى
404 - مقام خالد بن صفوان بين يدي هشام
قال خالد بن صفوان وفدت على هشام فوجدته قد بدأ يشرب الدهن وذلك في عام باكر وسميه وتتابع وليه وأخذت الأرض زخرفها فهي كالزرابي المبثوثة والقباطي المنشورة وثراها كالكافور لو وضعت به بضعة لم تترب وقد ضربت له سراداقات حبر بعث بها إليه يوسف بن عمر من اليمن تتلألأ كالعقيان فأرسل إلي فدخلت عليه ولم أزل واقفا ثم نظر إلي كالمستنطق لي فقلت يا أمير المؤمنين أتم الله عليك نعمه ودفع عنك نقمه وجعل ما قلدك من هذا الأمر رشدا وعاقبة ما يئول إليه حمدا وأخلصه لك بالتقى وكثره لك بالنما ولا كدر عليك منه ما صفا ولا خالط سروره بالردى فلقد أصبحت للمؤمنين ثقة ومستراحا إليك يقصدون في مظالمهم ويفزعون في أمورهم هذا مقام زين الله به ذكري وأطاب به شرى نشري إذا أراني وجه أمير المؤمنين ولا أرى لمقامي هذا شيئا هو افضل من أن أنبه أمير المؤمنين لفضل نعمة الله عليه ليحمد الله على ما أعطاه

ولا شيء أحضر من حديث سلف لملك من ملوك العجم وإن أذن لي فيه حدثته به قال هات قلت كان رجل من ملوك الأعاجم جمع له فتاء السن وصحة الطباع وسعة الملك وكثرة المال وذلك بالخورنق فأشرف يوما فنظر ما حوله فقال لمن حضره هل علمتم أحدا أوتي مثل الذي أوتيت فقال رجل من بقايا حملة الحجة إن أذنت لي تكلمت فقال قل فقال أرأيت ما جمع لك أشيء هو لك لم يزل ولا يزول أم هو شيء كان لمن قبلك زال عنه وصار إليك وكذلك يزول عنك قال لا بل شيء كان لمن قبلي فزال عنه وصار إلي وكذلك يزول عني قال فسررت بشيء تذهب لذته وتبقى تبعته تكون فيه قليلا وترتهن به طويلا فبكى وقال أين المهرب قال إلى أحد أمرين إما أن تقيم في ملكك فتعمل فيه بطاعة ربك وإما أن تلقي عليك أمساحا ثم تلحق بجبل تعبد فيه ربك حتى يأتي عليك أجلك قال فمالي إذا أنا فعلت ذلك قال حياة لا تموت وشباب لا يهرم وصحة لا تسقم وملك جديد لا يبلى قال فإن كان السحر فاقرع علي بابي فإني مختار أحد الرأيين فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيرا لا يعصى وإن اخترت فلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفيقا لا يخالف فقرع عليه عند السحر بابه فإذا هو قد وضع تاجه وخلع أطماره ولبس أمساحه وتهيأ للسياحة فلزما والله الجبل حتى أتاهما أجلهما وأنشده قول عدي بن زيد ( وتفكر رب الخورنق إذا أصبح يوما وللهدي تفكير ... )
( سره حاله وكثرة ما يملك والبحر معرضا والسدير ... )
( فارعوى قلبه فقال وما غبطة حي إلي الممات يصير ... )
فبكى هشام وقام ودخل فقال لي حاجبه لقد كسبت نفسك شرا دعاك أمير المؤمنين

لتحدثه وتلهيه وقد عرفت علته فما زدت على أن نعيت إليه نفسه فأقمت أياما أتوقع الشر ثم أتاني حاجبه فقال قد أمر لك بجائزة وأذن لك في الانصراف
405 - خالد بن صفوان يصف جريرا والفرزدق والأخطل
قال هشام بن عبد الملك لشيبة بن عقال وعنده جرير والفرزدق والأخطل وهو يومئذ أمير ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزقوا أعراضهم وهتكوا أستارهم وأغروا بين عشائرهم في غير خير ولا بر ولا نفع أيهم أشعر فقال شيبة أما جرير فيغرف من بحر وأما الفرزدق فينحت من صخر وأما الأخطل فيجيد المدح والفخر فقال هشام ما فسرت لنا شيئا نحصله فقال ما عندي غير ما قلت فقال لخالد بن صفوان صفهم لنا يا بن الأهتم فقال أما أعظمهم فخرا وأبعدهم ذكرا وأحسنهم عذرا وأسيرهم مثلا وأقلهم غزلا وأحلاهم عللا الطامي إذا زخر والحامي إذا زأر والسامي إذا خطر الذي إن هدر قال وإن خطر صال الفصيح اللسان الطويل العنان فالفرزدق وأما أحسنهم نعتا وأمدحهم بيتا وأقلهم فوتا الذي إن هجا وضع وإن مدح رفع فالأخطل وأما أغزرهم بحرا وأرقهم شعرا وأهتكهم لعدوه سترا الأغر الأبلق الذي إن طلب لم يسبق وإن طلب لم يلحق فجرير وكلهم ذكي الفؤاد رفيع العماد واري الزناد
فقال له مسلمة بن عبد الملك ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين ولا رأينا في الآخرين وأشهد أنك أحسنهم وصفا وألينهم عطفا وأعفهم مقالا وأكرمهم فعالا
فقال خالد أتم الله عليكم نعمه وأجزل لديكم قسمه وآنس بكم الغربه

وفرج بكم الكربة وأنت والله ما علمت أيها الأمير كريم الغراس عالم بالناس جواد في المحل بسام في البذل حليم عند الطيش في ذروة قريش ولباب عبد شمس ويومك خير من أمس
فضحك هشام وقال ما رأيت كتخلصك يا بن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم حتى أرضيتهم جميعا وسلمت منهم
406 - خالد بن صفوان وبلال بن أبي بردة
قال أبو المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي كان بلال بن أبي بردة جلدا حين ابتلي أحضره يوسف بن عمر في قيوده لبعض الأمر وهم بالحيرة فقام خالد بن صفوان فقال ليوسف أيها الأمير إن عدو الله بلالا ضربني وحبسني ولم أفارق جماعة ولا خلعت يدا من طاعة ثم التفت إلى بلال فقال الحمد لله الذي أزال سلطانك وهد أركانك وأزال جمالك وغير حالك فوالله لقد كنت شديد الحجاب مستخفا بالشريف مظهرا للعصبية
فقال بلال يا خالد إنما استطلت علي بثلاث هن معك على الأمير مقبل عليك وهو عنى معرض وأنت مطلق وأنا مأسور وأنت في طينتك وأنا غريب فأفحمه
وكان سبب ضرب بلال خالدا في ولايته أن بلالا مر بخالد في موكب عظيم فقال خالد سحابة صيف عن قليل تقشع فسمعه بلال فقال والله لاتقشع أو يصيبك منها شؤبوب برد وأمر بضربه وحبسه

خطبة الكميت بن زيد بين يدي هشام يستعطفه
روي صاحب العقد قال كان الكميت بن زيد الأسدى يمدح بني هاشم ويعرض ببني أمية فطلبه هشام فهرب منه عشرين سنة لا يستقر به القرار من خوف هشام وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام حاجة في كل يوم يقضيها له ولا يرده فيها فلما خرج مسلمة يوما إلى بعض صيوده أتى الناس يسلمون عليه وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتي فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد
( قف بالديار وقوف زائر ... وتأن إنك غير صاغر )
حتى انتهى إلى قوله
( يا مسلم بن أبي الوليد لميت إن شئت ناشر )
( علقت حبالي من حبالى ... ذمة الجار المجاور )
( فالآن صرت إلى أمية والأمور إلى المصاير )
( والآن كنت به المصيب كمهتد بالأمس حائر )
فقال مسلمة سبحان الله من هذا الهندكي الجلحاب الذي أقبل من أخريات الناس فبدأ بالسلام ثم أما بعد ثم الشعر قيل له هذا الكميت بن زيد فأعجب به لفصاحته وبلاغته فسأله مسلمة عن خبره وما كان فيه طول غيبته فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه فضمن له مسلمة أمانه وتوجه به حتى أدخله على هشام وهشام لا يعرفه فقال الكميت السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته

الحمد لله قال هشام نعم الحمد لله ما هذا قال الكميت مبتدئ الحمد ومبتدعه الذي خص بالحمد نفسه وأمر به ملائكته جعله فاتحة كتابه ومنتهى شكره وكلام أهل جنته أحمده حمد من علم يقينا وأبصر مستبينا وأشهد له بما شهد به لنفسه قائما بالقسط وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده العربي ورسوله الأمي أرسله والناس في هفوات حيرة ومدلهمات ظلمة عند استمرار أبهة الضلال فبلغ عن الله ما أمر به ونصح لأمته وجاهد في سبيله وعبد ربه حتى أتاه اليقين
ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة وحرت في سكرة ادلأم بي خطرها وأهاب بي داعيها وأجابني غاويها فاقطوطيت إلى الضلالة وتسكعت في الظلمة والجهالة جائرا عن الحق قائلا بغير صدق فهذا مقام العائذ ومنطق التائب ومبصر الهدى بعد طول العمى يا أمير المؤمنين كم من عاثر أفلتم عثرته ومجترم عفوتم عن جرمه
فقال له هشام وأيقن أنه الكميت ويحك من سن لك الغواية وأهاب بك في العماية قال الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزما وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحابا متفرقا فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم فاستحكم هدر رعده وتلألؤ برقه فنزل الأرض فرويت واخضلت

واخضرت وأسقيت فروي ظمآنها وامتلأ عطشانها فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين أضاء الله بك الظلمة الداجية بعد العموس فيها وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم فهم يبكون لما يعلمون من حزمك وبصيرتك وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب إذا احمرت الحدق وعضت المغافير بالهام عز بأسك واستربط جأشك مسعار هتان وكاف بصير بالأعداء مغري الخيل بالنكراء مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب برأي أريب وحلم مصيب فأطال الله لأمير المؤمنين البقاء وتمم عليه النعماء ودفع به الأعداء فرضي عنه هشام وأمر له بجائزة
وروي صاحب الأغاني خطبة الكميت فقال

حمد الله وأثني عليه وصلى على نبيه ثم قال أما بعد فإني كنت أتدهدي في غمرة وأعوم في بحر غواية أخني على خطلها واستفزني وهلها فتحيرت في الضلالة وتسكعت في الجهالة مهرعا عن الحق جائرا عن القصد أقول الباطل ضلالا وأفوه بالبهتان وبالا وهذا مقام العائذ مبصر الهدى ورافض العماية فاغسل عني يا أمير المؤمنين الحوبة بالتوبة واصفح عن الزلة واعف عن الجرمة ثم قال
( كم قال قائلكم لعالك ... عند عثرته لعاثر )
( وغفرتم لذوي الذنوب ... من الأكابر والأصاغر )

( أبني أمية إنكم ... أهل الوسائل والأوامر )
( ثقتي لكل ملمة ... وعشيرتي دون العشائر )
( أنتم معادن للخلافة ... كابرا من بعد كابر )
( بالتسعة المتتابعين ... خلائفا وبخير عاشر )
( وإلى القيامة لا تزال ... لشافع منكم وواتر )
ثم قطع الإنشاد وعاد إلى خطبته فقال إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته ومناط المنتجعين بحبله من لا تحل حبوته لإساءة المذنبين فضلا عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين فقال له ويلك يا كميت من زين لك الغواية ودلاك في العماية قال الذي أخرج أبانا من الجنة وأنساه العهد فلم يجد له عزما فرضي عنه وأمر له بجائزة
408 - مخاصمة عدي بن أرطاة لامرأته عند شريح القاضي
دخل عدي بن أرطاة على شريح القاضي يخاصم امرأة له فقال السلام عليكم قال وعليكم قال استمع مني قال قل أسمع قال إني رجل من أهل الشأم قال من مكان سحيق قال وإني قدمت إلى بلدكم هذا قال خير مقدم قال وإني تزوجت امرأة قال بالرفاء والبنين قال وإنها ولدت غلاما قال ليهنك الفارس قال وقد كنت شرطت لها صداقها قال الشرط أملك قال

وقد أردت الخروج بها إلى بلدي قال الرجل أحق بأهله قال فاقض بيننا قال قد فعلت قال فعلي من حكمت قال علي ابن أمك قال بشهادة من قال بشهادة ابن أخت خالتك
409 - كلمة لعمرو بن عتبة بن أبي سفيان
وقد تشاح بنو هاشم وبنو أمية في ميراث بينهم
عن سفيان بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان قال وقع ميراث بين بني هاشم وبين بني أمية تشاحوا فيه وتضايقوا فلما تفرقوا أقبل علينا أبونا عمرو فقال
يا بني إن لقريش درجا نزل عنها أقدام الرجال وأفعالا تخشع لها رقاب الأموال وغايات تقصر عنها الجياد المسومة وألسنا تكل عنها الشفار المشحوذة ولو اختلفت الدنيا ما تزينت إلا بهم ولو كانت لهم ضاقت بسعة أخلاقهم ثم إنه ليخيل إلى أن منهم ناسا تخلقوا بأخلاق العوام فصار لهم رفق في اللؤم وخرق في الحرص ولو أمكنهم لقاسموا الطير في أرزاقها إن خافوا مكروها تعجلوا له الفقر وإن عجلت لهم نعمة أخروا عليها الشكر أولئك أنضاء الفكر وعجزة حملة الشكر

410 - خطبة دينار
وكان سماك بن عبيد العبسى في حصار نهاوند سنة 21ه أسر رجلا من أهلها يسمى دينار فأتى حذيفة بن اليمان فصالحه على الخراج فنسبت إليه ماه
وكان يواصل سماكا ويهدي له ويوافي الكوفة كلما كان عمله إلى عامل الكوفة فقدم الكوفة في إمارة معاوية فقام في الناس بالكوفة فقال يا معشر أهل الكوفة أنتم أول ما مررتم بنا كنتم خير الناس فعمرتم بذلك زمان عمر وعثمان ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع بخل وخب وغدر وضيق ولم يكن فيكم واحدة منهن فرمقتكم فإذا ذلك في مولديكم فعلمت من أين أتيتم فإذا الخب من قبل النبط والبخل من قبل فارس والغدر من قبل خراسان والضيق من قبل الأهواز
411 - رجل يمدح خالد بن عبد الله القسري
وقال رجل لخالد بن عبد الله القسري والله إنك لتبذل ما جل وتجبر ما انفل وتكثر ما قل ففضلك بديع ورأيك جميع تحفظ ما شذ وتؤلف ما ند

خطب الخوارج وما يتصل بها
412 - خطبة حيان بن ظبيان السلمي
روي ابن جرير الطبري في تاريخه قال كان حيان بن ظبيان السلمي يرى رأي الخوارج وكان ممن ارتث يوم النهروان فعفا عنه علي عليه السلام في الأربعمائة الذين كان عفا عنهم من المرتثين يوم النهر فكان في أهله وعشيرته فلبث شهرا أو نحوه ثم إنه خرج إلى الري في رجال كانوا يرون ذلك الرأي فلم يزالوا مقيمين بالري حتى بلغهم قتل علي كرم الله وجهه فدعا أصحابه أولئك وكانوا بضعة عشر رجلا فأتوه فحمد الله وأثني عليه ثم قال أيها الإخوان من المسلمين إنه قد بلغني أن أخاكم ابن ملجم أخا مراد قعد لقتل علي بن أبي طالب عند أغباش الصبح مقابل السدة التي في المسجد مسجد الجماعة فلم يبرح راكدا ينتظر خروجه حتى خرج عليه حين أقام المقيم الصلاة صلاة الصبح فشد عليه فضرب رأسه بالسيف فلم يبق إلا ليلتين حتى مات
فقال سالم بن ربيعة العبسى لا يقطع الله يمينا علت قذاله بالسيف فأخذ القوم يحمدون الله على قتله عليه السلام وBه ولا رضي عنهم ولا رحمهم ثم إن حيان بن ظبيان قال لأصحابه

إنه والله ما يبقي على الدهر باق وما يلبث الليالي والأيام والسنون والشهور على ابن آدم حتى تذيقه الموت فيفارق الإخوان الصالحين ويدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا العجزة ولم تزل ضارة لمن كانت له هما وشجنا فانصرفوا بنا رحمكم الله إلى مصرنا فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى جهاد الأحزاب فإنه لا عذر لنا في القعود وولاتنا ظلمة وسنة الهدى متروكة وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم ويشفى الله بذلك صدور قوم مؤمنين وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا ولنا بأسلافنا أسوة
فقالوا له كلنا قائل ما ذكرت وحامد رأيك الذي رأيت فرد بنا المصر فإنا معك راضون بهداك وأمرك فخرج وخرجوا معه مقبلين إلى الكوفة حتى نزلها فلم يزل بها حتى قدم معاوية وبعث المغيرة بن شعبة واليا على الكوفة

ائتمار الخوارج
ثم إن الخوارج في أيام المغيرة فزعوا إلى ثلاثة نفر منهم المستورد بن علقة التيمي وحيان بن ظبيان السلمي ومعاذ بن جوين بن حصين الطائي فاجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان فتشاوروا فيمن يولون عليهم فقال لهم المستورد
413 - مقال المستورد بن علقة
يأيها المسلمون والمؤمنون أراكم الله ما تحبون وعزل عنكم ما تكرهون ولوا عليكم من أحببتم فوالذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ما أبالي من كان الوالي علي منكم وما شرف الدنيا نريد وما إلى البقاء فيها من سبيل وما نريد إلا الخلود في دار الخلود
414 - مقال حيان بن ظبيان
فقال حيان بن ظبيان أما أنا فلا حاجة لي فيها وأنا بك وبكل امرئ من إخواني راض فانظروا من شئتم منكم فسموه فأنا أول من يبايعه

415 - مقال معاذ بن جوين
فقال لهم معاذ بن جوين إذا قلتما أنتما هذا وأنتما سيدا المسلمين وذوا أنسابهم في صلاحكما ودينكما وقدركما فمن يرأس المسلمين وليس كلكم يصلح لهذا الأمر وإنما ينبغى أن بلى على المسلمين إذا كانوا سواء في الفضل أبصرهم بالحرب وأفقههم في الدين وأشدهم اضطلاعا بما حمل وأنتما بحمد الله ممن يرتضى لهذا الأمر فليتوله أحدكما
قالا فتوله أنت فقد رضيناك فأنت والحمد لله الكامل في دينك ورأيك فقال لهما أنتما أسن مني فليتوله أحدكما فقال حينئذ جماعة من حضر قد رضينا بكم أيها الثلاثة فولوا أيكم أحببتم وكانت خاتمة ذلك النقاش أن بايعوا المستورد واتعدوا أن يتجهزوا ويتيسروا ويستعدوا ثم يخرجوا هلال شعبان سنة 43ه
416 - خطبة المغيرة بن شعبة أمير الكوفة يحذر أهلها من إيواء الخوارج ونصرتهم
ونمي إلى المغيرة بن شعبة أن الخوارج خارجة عليه فقام في الناس فحمد الله وأثني عليه ثم قال أما بعد فقد علمتم أيها الناس أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية وأكف عنكم الأذى وإني والله لقد خشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم فأما الحلماء الأتقياء فلا وايم الله لقد خشيت أن لا أجد بدا من أن يعصب الحليم التقي بذنب

السفيه الجاهل فكفوا أيها الناس سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم وقد ذكر لي أن رجالا منكم يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والخلاف وايم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب في هذا المصر إلا أبدتهم وجعلتهم نكالا لمن بعدهم فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم فقد قمت هذا المقام إرادة الحجة والإعذار
ثم نزل وبعث إلى رؤساء الناس فدعاهم ثم قال لهم إنه قد كان من الأمر ما قد علمتم وقد قلت ما قد سمعتم فليكفني كل امرئ من الرؤساء قومه وإلا فوالذي لا إله غيره لأتحولن عما كنتم تعرفون إلى ما تنكرون وعما تحبون إلى ما تكرهون فلا يلم لائم إلا نفسه وقد أعذر من أنذر
فخرجت الرؤساء إلى عشائرهم فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم على من يرون أنه يريد أن يهيج فتنة أو يفارق جماعة وجاء صعصعة بن صوحان فقام في عبد القيس فقال
417 - خطبة صعصعة بن صوحان
يا معشر عباد الله إن الله وله الحمد كثيرا لما قسم الفضل بين المسلمين خصكم منه بأحسن القسم فأجبتم إلى دين الله الذي اختاره الله لنفسه وارتضاه لملائكته ورسله ثم أقمتم عليه حتى قبض الله رسوله ثم اختلف الناس بعده فثبتت طائفة وارتدت طائفة وأدهنت طائفة وتربصت طائفة فلزمتم دين الله إيمانا به وبرسوله وقاتلتم المرتدين حتى قام الدين وأهلك الله الظالمين فلم يزل الله يزيدكم بذلك خيرا في كل شيء وعلى كل حال حتى اختلفت الأمة بينها فقالت طائفة نريد طلحة والزبير وعائشة وقالت طائفة نريد أهل المغرب وقالت

طائفة نريد عبد الله بن وهب الراسبي راسب الأزد وقلتم أنتم لا نريد إلا أهل البيت الذين ابتدأنا الله من قبلهم بالكرامة تسديدا من الله لكم وتوفيقا فلم تزالوا على الحق لازمين له آخذين به حتى أهلك الله بكم وبمن كان على مثل هداكم ورأيكم الناكثين يوم الجمل والمارقين يوم النهر وسكت عن ذكر أهل الشأم لأن السلطان كان حينئذ سلطانهم ولا قوم أعدي لله ولكم ولأهل بيت نبيكم ولجماعة المسلمين من هذه المارقة الخاطئة الذين فارقوا إمامنا واستحلوا دماءنا وشهدوا علينا بالكفر فإياكم أن تؤووهم في دوركم أو تكتموا عليهم فإنه ليس ينبغي لحي من أحياء العرب أن يكون أعدي لهذه المارقة منكم وقد والله ذكر لي أن بعضهم في جانب من الحي وأنا باحث عن ذلك وسائل فإن كان حكي لي ذلك حقا تقربت إلى الله تعالى بدمائهم فإن دمائهم حلال ثم قال يا معشر عبد القيس إن ولاتنا هؤلاء هم أعرف شيء بكم وبرأيكم فلا تجعلوا لهم عليكم سبيلا فإنهم أسرع شيء إليكم وإلى أمثالكم
وأقبل أصحاب المستورد يأتونه فليس منهم رجل إلا يخبره بما قام به المغيرة بن شعبة في الناس وبما جاءهم رؤساؤهم وقاموا فيهم وقالوا له اخرج بنا فوالله ما نأمن أن نؤخذ في عشائرنا فخرج بهم من الكوفة ووجه المغيرة لقتالهم معقل بن قيس الرياحى فلما علم المستورد بمسير معقل إليه جمع أصحابه

418 - خطبة المستورد
فحمد الله وأثني عليه ثم قال أما بعد فإن هذا الخرف معقل بن قيس قد وجه إليكم وهو من السبئية الممترين الكاذبين وهو لله ولكم عدو فأشيروا علي برأيكم فقال له بعضهم والله ما خرجنا نريد إلا الله وجهاد من عادى الله وقد جاءونا فأين نذهب عنهم بل نقيم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين وقالت طائفة أخرى بل نعتزل ونتنحى ندعو الناس ونحتج عليهم بالدعاء
فقال يا معشر المسلمين إني والله ما خرجت ألتمس الدنيا ولا ذكرها ولا فخرها ولا البقاء وما أحب أنها لي بحذافيرها وأضعاف ما يتنافس فيه منها بقبال نعلى وما خرجت إلا التماس الشهادة وأن يهدينى الله إلى الكرامة بهوان بعض أهل الضلالة وإنى قد نظرت فيما استشرتكم فيه فرأيت أن لا أقيم لهم حتى يقدموا علي وهم حامون متوافرون ولكن رأيت أن أسير حتى أمعن فإنهم إذا بلغهم ذلك خرجوا في طلبنا فتقطعوا وتبددوا فعلى تلك الحال ينبغى لنا قتالهم فاخرجوا بنا على اسم الله عز و جل

فخرجوا فمضوا على شاطئ دجلة فعبروه ومضوا في أرض جوخى حتى بلغوا المذار فأقاموا فيها وأقبل معقل بن قيس فأقام بالمدائن ثلاثا ثم جمع أصحابه فقال
419 - خطبة معقل بن قيس
إن هؤلاء المارقة الضلال إنما خرجوا فذهبوا على وجوههم إرادة أن تتعجلوا في آثارهم فتتقطعوا وتتبددوا ولا تلحقوا بهم إلا وقد تعبتم ونصبتم وإنه ليس شيء يدخل عليكم من ذلك إلا وقد يدخل عليهم مثله فخرج في آثارهم حتى لحقهم بالمذار مقيمين ودارت بينهما رحى الحرب بشدة ودعا المستورد معقلا للمبارزة فتبارزا وطعنه المستورد حتى خرج سنان الرمح من ظهره وضربه معقل بالسيف حتى خالط سيفه أم الدماغ فوقع ميتا وقتل معقل وشد أصحابه على الخوارج فما لبثوهم أن قتلوهم 420
كلمات حكيمة للمستورد إلى
كان المستورد يقول إذا أفضيت بسري إلي صديقي فأفشاه لم ألمه لأنى كنت أولى بحفظه ويقول لا تفش إلى أحد سرا وإن كان مخلصا إلا على جهة المشاورة ويقول كن أحرص على حفظ سر صاحبك منك على حقن دمك ويقول أول ما يدل عليه عائب الناس معرفته بالعيوب ولا يعيب إلا معيب ويقول المال غير باق عليك فاشتر من الحمد ما يبقى عليك ويقول بذل المال في حقه استدعاء للمزيد من الجواد وكان يكثر أن يقول لو ملكت الأرض بحذافيرها ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت

حذف

ائتمار الخوارج ثانية
421 - خطبة حيان بن ظبيان
فلما كانت سنة 58ه جمع حيان بن ظبيان السلمي أصحابه إليه ثم إنه حمد الله وأثني عليه ثم قال لهم أما بعد فإن الله عز و جل كتب علينا الجهاد فمنا من قضي نحبه ومنا من ينتظر وأولئك الأبرار الفائزون بفضلهم ومن يكن منا من ينتظر فهو من سلفنا القاضين نحبهم السابقين بإحسان فمن كان منكم يريد الله وثوابه فليسلك سبيل أصحابه وإخوانه يؤته الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله مع المحسنين
422 - خطبة معاذ بن جوين
قال معاذ بن جوين الطائى يأهل الإسلام إنا والله لو علمنا أنا إذا تركنا جهاد الظلمة وإنكار الجور كان لنا به عند الله عذر لكان تركه أيسر علينا وأخف من ركوبه ولكنا قد علمنا واستيقنا أنه لا عذر لنا وقد جعل لنا القلوب والأسماع حتى ننكر الظلم ونغير الجور ونجاهد الظالمين ثم قال ابسط يدك نبايعك فبايعه وبايعه القوم فضربوا على يد حيان فبايعوه وذلك في إمارة عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفى

ثم أن القوم اجتمعوا بعد ذلك بأيام إلى منزل معاذ بن جوين فقال لهم حيان عباد الله أشيروا برأيكم أين تأمرونني أن أخرج فقال معاذ إني أري أن تسير بنا إلى حلوان حتى ننزلها فإنها كورة بين السهل والجبل وبين المصر والثغر يعني بالثغر الري فمن كان يرى رأينا من أهل المصر والثغر والجبل والسواد لحق بنا
423 - رد حيان بن ظبيان
فقال له حيان عدوك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك لعمري لا يتركونكم حتى يجتمعوا إليكم لكن قد رأيت أن أخرج معكم في جانب الكوفة والسبخة أو زرارة والحيرة ثم نقاتلهم حتى نلحق بربنا فإني والله لقد علمت أنكم لا تقدرون وأنتم دون المائة رجل أن تهزموا عدوكم ولا ان يشتد نكايتكم فيهم ولكن متى علم الله أنكم قد أجهدتم أنفسكم في جهاد عدوه وعدوكم كان لكم به العذر وخرجتم من الإثم قالوا رأينا ورأيك
434 - مقال عتريس بن عرقوب فقال لهم عتريس بن عرقوب ولكن لا أرى رأي جماعتكم فانظروا في رأي لكم إني لا إخالكم تجهلون معرفتي بالحرب وتجربتي للأمور فقالوا له أجل أنت كما ذكرت فما رأيك قال ما أرى أن تخرجوا على الناس بالمصر إنكم قليل في كثير والله ما تزيدون على أن تحرزوهم أنفسكم وتقروا أعينهم بقتلكم وليس هكذا تكون المكايدة إذا آثرتم أن تخرجوا على قومكم فكيدوا عدوكم

ما يضرهم قالوا فما الرأي قال تسيرون إلى الكورة التي أشار بنزولها معاذ ابن جوين يعني حلوان أو تسيرون بنا إلى عين التمر فنقيم بها فإذا سمع بنا إخواننا أتونا من كل جانب وأوب
425 - رد حيان
فقال له حيان إنك والله لو سرت بنا أنت وجميع أصحابك نحو أحد هذين الوجهين ما اطمأننتم به حتى يلحق بكم خيول أهل المصر فأنى تشفون أنفسكم فوالله ما عدتكم بالكثيرة التي ينبغي أن تطمعوا معها بالنصر في الدنيا على الظالمين المعتدين فاخرجوا بجانب من مصركم هذا فقاتلوا عن أمر الله من خالف طاعة الله ولا تربصوا ولا تنتظروا فإنكم إنما تبادرون بذلك إلى الجنة وتخرجون أنفسكم بذلك من الفتنة قالوا أما إذا كان لا بد لنا فإنا لن نخالفك فاخرج حيث أحببت
426 - خطبة حيان
ثم إن أصحاب حيان بن ظبيان اجتمعوا إليه فقال لهم يا قوم إن الله قد جمعكم لخير وعلى خير والله الذي لا إله غيره ما سررت بشيء قط في الدنيا بعد ما أسلمت سروري لمخرجي هذا على الظلمة الآثمة فوالله ما أحب أن الدنيا بحذافيرها لي وأن الله حرمني في مخرجي هذا الشهادة وإني قد رأيت أن نخرج حتى ننزل جانب دار جرير فإذا خرج إليكم الأحزاب ناجزتموهم
فقال عتريس بن عرقوب أما أن نقاتلهم في جوف المصر فإنه يقاتلنا الرجال

وتصعد النساء والصبيان والإماء فيرموننا بالحجارة فقال لهم رجل منهم انزلوا بنا إذن من وراء المصر الجسر وهو موضع زرارة وإنما بنيت زرارة بعد ذلك إلا أبياتا يسيرة كانت منها قبل ذلك فقال لهم معاذ بن جوين لا بل سيروا بنا فلننزل بانقيا فما أسرع ما يأتيكم عدوكم فإذا كان ذلك استقبلنا القوم بوجوهنا وجعلنا البيوت في ظهورها فقاتلناهم من وجه واحد فخرجوا فبعث إليهم جيش فقتلوا جميعا
427 - خطبة مسلم بن عبيس حين خرج لقتال الأزارقة
لما ملك نافع بن الأزرق زعيم الأزارقة بلاد الأهواز وفشا عماله في السواد ارتاع لذلك أهل البصرة فاجتمعوا إلى الأحنف بن قيس فشكوا ذلك إليه وقالوا ليس بيننا وبين العدو إلا ليلتان وسيرتهم ما ترى فقال الأحنف إن فعلهم في مصركم إن ظفروا به كفعلهم في سوادكم فجدوا في جهاد عدوكم فاجتمع إليه عشرة آلاف فأتى عبد الله بن الحرث بن نوفل أمير البصرة فسأله أن يؤمر عليهم فاختار لهم مسلم بن عبيس وكان دينا شجاعا فأمره عليهم وشيعه

فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس فقال إني ما خرجت لامتيار ذهب ولا فضة وإنى لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا سيوفهم ورماحهم فمن كان شأنه الجهاد فلينهض ومن أحب الحياة فليرجع
فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل في المعركة ابن عبيس وابن الأزرق سنة 65ه

خطب المهلب أبي صفرة
428 - خطبته في حث جنده على قتال الأزارقة
وكان المهلب بن أبي صفرة وهو علي قتال الأزارقة يأمر أصحابه بالتحرز ويخوفهم البيات وإن بعد منهم العدو ويقول احذروا أن تكادوا كما تكيدون ولا تقولوا هزمنا وغلبنا فإن القوم خائفون وجلون والضرورة تفتح باب الحيلة ثم قام فيهم خطيبا فقال يأيها الناس إنكم قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم وسفكوا دماءكم فقاتلوهم على ما قاتل عليه أولهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فقد لقيهم قبلكم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس والعجل المفرط عثمان بن عبيد الله والمعصى المخالف

حارثة بن بدر فقتلوا جميعا وقتلوا فألفوهم بجد وحد فإنما هم مهنتكم وعبيدكم وعار عليكم ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم ويطئوا حريمكم
429 - خطبة أخرى له في جنده
وخطب أصحابه وقد مال الخوارج بأجمعهم على العسكر وانهزم الناس بسولاف فقال والله ما بكم من قلة وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن والضعف والطمع والطبع فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله فسيروا إلى عدوكم على بركة الله
430 - نص آخر
وروي الطبري خطبة المهلب في أصحابه يوم هزموا فقال ثم إن الخوارج شدت على الناس بأجمعها شدة منكرة فأجفل الناس وانصابوا منهزمين لا تلوي أم على ولد حتى بلغ البصرة هزيمة الناس وخافوا السباء وأسرع المهلب حتى سبقهم إلى مكان يفاع في جانب عن سنن المنهزمين ثم إنه نادى الناس إلي إلي عباد الله فثاب إليه جماعة من قومه فاجتمع إليه منهم نحو من ثلاثة آلاف فلما نظر إلى من قد اجتمع رضي جماعتهم فحمد الله وأثني عليه ثم قال

أما بعد فإن الله ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون ولعمري ما بكم الآن من قلة إني لجماعتكم لراض وإنكم لأنتم أهل الصبر وفرسان أهل المصر وما أحب أن أحدا ممن انهزم معكم فإنهم لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا عزمت على كل امرئ منكم لما أخذ عشرة أحجار ثم امشوا بنا نحو عسكرهم فإنهم الآن آمنون وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم فوالله إني لأرجو ألا ترجع إليهم خيلهم حتى تستبيحوا عسكرهم وتقتلوا أميرهم
431 - خطبته في جنده وقد استخلف عليهم ابنه المغيرة
ولما كتب إليه مصعب بن الزبير أن أقدم علي واستخلف ابنك المغيرة جمع الناس فقال لهم إني قد استخلفت عليكم المغيرة وهو أبو صغيركم رقة ورحمة وابن كبيركم طاعة وبرا وتبجيلا وأخو مثله مواساة ومناصحة فلتحسن له طاعتكم وليلن له جانبكم فوالله ما أردت صوابا قط إلا سبقتنى إليه ثم مضي إلى مصعب

432 - خطبة الزبير بن علي في الأزارقة
وكان نافع بن الأزرق قبل قتله استخلف عبيد الله بن بشير بن الماحوز السليطي وقتل ابن الماحوز يوم سلمى وسلبرى فاجتمعت الخوارج بأرجان فبايعوا الزبير بن علي السليطي فرأى فيهم انكسارا شديدا وضعفا بينا فقال لهم اجتمعوا
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد ثم أقبل عليهم فقال إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر وهو على الكافرين عقوبة وخزي وإن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف وقد أصبتم منهم مسلم ابن عبيس وربيعا الأجذم والحجاج بن باب وحارثة بن بدر وأشجبتم المهلب وقتلتم أخاه المعارك والله يقول لإخوانكم من المؤمنين ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) فيوم سلي كان لكم بلاء وتمحيصا ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالا فلا تغلبن على الشكر في حينه والصبر في وقته وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض والعاقبة للمتقين

433 - خطبة عتاب بن ورقاء الرياحى وقد طال عليه الحصار
وانحط الزبير بن علي على اصفهان فحصر بها عتاب بن ورقاء الرياحي سبعة أشهر وعتاب يحاربه في بعضهن فلما طال به الحصار وأصابه الجهد الشديد دعا أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس ما تنتظرون وقد أصابكم من الجهد ما قد ترون فوالله إن بقي مع هذا الحصار إلا أن يموت أحدكم على فراشه فيجئ أخوه فيدفنه إن استطاع وبالحرى أن يضعف عن ذلك ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه ولا يصلي عليه فاتقوا الله فوالله ما أنتم بالقليل الذين تهون شوكتهم على عدوهم وإن فيكم لفرسان أهل المصر وإنكم لصلحاء من أنتم منه ولقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم وبكم حياة وقوة قبل أن لا يستطيع رجل منكم أن يمشي إلي عدوه من الجهد وقبل أن لا يستطيع رجل أن منكم يمتنع من امرأة لو جاءته فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق فوالله إني لأرجو إن صدقتموهم أن يظفركم الله بهم وأن يظهركم عليهم
فلما أصبح الغد صلى بهم الصبح ثم خرج إلى الخوارج وهم غارون فلم يشعروا بهم حتى غشوهم فقاتلوهم بجد لم ير الخوارج منهم مثله فعقروا منهم خلقا وقتلوا رئيسهم الزبير بن علي وانهزمت الخوارج
ثم أدار الخوارج أمرهم بينهم فولوا عليهم قطري بن الفجاءة المازنى وبايعوه

434 - نصيحة عرهم العدوي لخالد بن عبد الله
ولما بعث خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد أخاه عبد العزيز لقتال الأزارقة قام إليه عرهم أخو بني العدوية فقال
أصلح الله الأمير إن هذا الحي من تميم تئط بقريش منهم رحم داسة ماسة وإن الأزارقة ذؤبان العرب وسباعها وليس صاحبهم إلا المباكر المناكر المحرب المجرب الذي أرضعته الحرب بلبانها وجرسته وضرسته وذلك أخو الأزد المهلب بن أبي صفرة والله إن غثك أحب إلينا من سمينه ولكني أخاف عدوات الدهر وغدره وليس المجرب كمن لا يعلم ولا الناصح المشفق كالغاش المتهم قال له خالد اسكت ما أنت وذا وقد هزمت الأزارقة عبد العزيز وأحدوا امرأته وفر عنها

435 - خطبة قطري بن الفجاءة
وصعد قطري بن الفجاءة منبر الأزارقة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وراقت بالقليل وتحببت بالعاجلة وحليت بالآمال وتزينت بالغرور لا تدوم حبرتها ولا تؤمن فجعتها غرارة ضرارة خوانة غدارة وحائلة زائلة ونافدة بائدة أكالة غوالة بدالة نقالة لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى ( كماء أنزلناه من

السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ) مع أن أمرا لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا ولم تطله غيثة رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمر عليه منها جانب وأوبى وإن آتت أمرا من غضارتها ورفاهتها نعما أرهقته من نوائبها تعبا ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح منها على قوادم خوف غرارة غرور ما فيها فانية فان ما عليها لا خير في شيء من زادها إلا التقوى من أقل منها استكثر مما يؤمنه ومن استكثر منه استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه ويبكي عينيه كم واثق بها قد فجعته وذي طمأنينة إليها قد صرعته وذي اختيال فيها قد خدعته وكم من

ذي أبهة فيها قد صيرته حقيرا وذي نخوة قد ردته ذليلا وكم من ذي تاج قد كبته لليدين والفم سلطانها دول وعيشها رنق وعذبها أجاج وحلوها صبر وغذاؤها سمام وأسبابها رمام وقطاعها سلع حبها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم ومنيعها بعرض اهتضام مليكها مسلوب وعزيزها مغلوب وسليمها منكوب وجامعها مخروب مع أن وراء ذلك سكرات الموت وهول المطلع والوقوف بين يدي الحكم العدل ( ليجزي الذين أصابوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى )
ألستم في مساكن من كان أطول منكم أعمارا وأوضح منكم آثارا وأعد عديدا وأكثف جنودا وأعتد عتادا وأطول عمادا تعبدوا للدنيا أي تعبد وآثروها أي إيثار وظعنوا عنها بالكره والصغار فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية أو أغنت عنهم فيما قد اهلكتهم بخطب بل قد أرهقتهم بالفوادح وضعضعتهم بالنوائب وعقرتهم بالمصائب وقد رأيتم تنكرها

لمن دان لها وأخلد إليها حين ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر المسند هل زودتهم إلا السغب وأحلتهم إلا الضنك أو نورت لهم إلا الظلمة أو أعقبتهم إلا الندامة أفهذه تؤثرون أم على هذه تحرصون أم إليها تطمئنون يقول الله جل ذكره ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ) فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها
فاعلموا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بد فإنما هي كما وصفها الله باللعب واللهو وقد قال الله تعالى ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين ) واتعظوا فيها بالذين قالوا ( من أشد منا قوة ) حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا وجعل لهم من الصريح أكنان ومن التراب أكفان ومن الرفات جيران فهم حيرة لا يجيبون داعيا ولا يمنعون ضيما ولا يبالون مندبة إن أخصبوا لم يفرحوا وإن قحطوا لم يقنطوا جمع وهم آحاد وجيرة وهم أبعاد متناءون لا يزورون ولا يزارون حلماء قد ذهبت أضغانهم وجهلاء

قد ماتت أحقادهم لا يخشى فجعهم ولا يرجى دفعهم وكما قال الله تعالى ( فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين ) استبدلوا بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا وبالأهل غربة وبالنور ظلمة ففارقوها كما دخلوها حفاة عراة فرادى غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة وإلى خلود الأبد يقول الله تعالى ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) فاحذروا ما حذركم الله وانتفعوا بمواعظه واعتصموا بحبله عصمنا الله وإياكم بطاعته ورزقنا وإياكم أداء حقه
436 - خطبة عبد ربه الصغير
ولما دبت عقارب الخلاف بين الأزارقة ولعبت بهم يد الشقاق خلعوا قطري ابن الفجاءة وولوا عبد ربه الصغير فانفصل إلى عبد ربه أكثر من الشطر ونشبت الحرب بينه وبين المهلب فأجلت الوقعة عنه قتيلا وقد جمع أصحابه في الليلة التي قتل فيها في صبيحتها فقال يا معشر المهاجرين إن قطريا وعبيدة هربا طلب البقاء ولا سبيل إليه فالقوا عدوكم فإن غلبوكم على الحياة فلا يغلبنكم على الموت فتلقوا الرماح بنحوركم والسيوف بوجوهكم وهبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة

437 - خطبة صالح بن مسرح
وروى الطبري في تاريخه قال كان صالح بن مسرح يرى رأي الصفرية وكان رجلا ناسكا مخبتا مصفر الوجه صاحب عبادة وكان بدارا وأرض الموصل والجزيرة له أصحاب يقرئهم القرآن ويفقههم ويقص عليهم وكان قصصه الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون اللهم إنا لا نعدل بك ولا نحفد إلا إليك ولا نعبد إلا إياك لك الخلق والأمر ومنك النفع والضر وإليك المصير ونشهد أن محمدا عبدك الذي اصطفيته ورسولك الذي اخترته وارتضيته لتبليغ رسالاتك ونصيحة عبادك ونشهد أنه قد بلغ الرسالة ونصح للأمة ودعا إلى الحق وقام بالقسط ونصر الدين وجاهد المشركين حتى توفاه الله
أوصيكم بتقوى الله والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة وكثرة ذكر الموت وفراق الفاسقين وحب المؤمنين فإن الزهادة في الدنيا ترغب العبد فيما عند الله

وتفرغ بدنه لطاعة الله وإن كثرة ذكر الموت تخيف العبد من ربه حتى يجأر إليه ويستكين له وإن فراق الفاسقين حق على المؤمنين قال الله في كتابه ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ) وإن حب المؤمنين للسبب الذي ينال به كرامة الله ورحمته وجنته جعلنا الله وإياكم من الصادقين الصابرين ألا أن من نعمة الله علي المؤمنين أن بعث فيهم رسولا من أنفسهم فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم وفقههم في دينهم وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما حتى قبضه الله صلوات الله عليه ثم ولي الأمر من بعده التقي الصديق على الرضا من المسلمين فاقتدى بهديه واستن بسنته حتى لحق بالله رحمه الله واستخلف عمر فولاه الله أمر هذه الرعية فعمل بكتاب الله وأحيا سنة رسول الله ولم يحنق في الحق على جرته ولم يخف في الله لومة لائم حتى لحق به رحمة الله عليه وولي من بعده عثمان فاستأثر بالفيء وعطل الحدود وجار في الحكم واستذل المؤمن وعزر المحرم فسار إليه المسلمون فقتلوه فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين وولي أمر الناس من بعده علي ابن أبي طالب فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال وشك في أهل الضلال وركن وأدهن فنحن من علي وأشياعه براء فتيسروا رحمكم الله لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة وأئمة الضلال الظلمة وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء واللحاق بإخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة ولا تجزعوا من القتل في الله فإن القتل أيسر من الموت والموت نازل بكم غير ما ترجم الظنون فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم

وإن اشتد لذلك كرهكم وجزعكم ألا فبيعوا الله أنفسكم طائعين وأموالكم تدخلوا الجنة آمنين وتعانقوا الحور العين جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين الذين يهدون بالحق وبه يعدلون
438 - خطبة أخرى له
وروى الطبري أيضا قال بينا أصحاب صالح يختلفون إليه إذ قال لهم ذات يوم ما أدري ما تنتظرون وحتى متى أنتم مقيمون هذا الجور قد فشا وهذا العدل قد عفا ولا تزداد هذه الولاة على الناس إلا غلوا وعتوا وتباعدا عن الحق وجرأة على الرب فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي تريدون فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون
439 - خطبة أخرى
وقال لأصحابه ليلة خرج اتقوا الله عباد الله ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلا أن يكونوا قوما يريدونكم وينصبون لكم فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه وعثي في الأرض فسفكت الدماء بغير حلها وأخذت الأموال بغير حقها فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها فإن كل ما أنتم عاملون

أنتم عنه مسئولون وإن عظمكم رجاله وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق فابدءوا بها فشدوا عليها فاحملوا أرجلكم وتقووا بها على عدوكم
440 - خطبة زائدة بن قدامة
وخلف على رياسة الخوارج الصفرية بعد مقتل صالح بن مسرح أحد أصحابه وهو شبيب بن يزيد الشيباني فكتب الحجاج لقتاله الكتائب وكان أميرها في بعض الوقعات زائدة بن قدامة وجاء شبيب حتى وقف مقابل القوم فخرج زائدة يسير بين الميمنة والميسرة يحرض الناس ويقول عباد الله إنكم الطيبون الكثيرون وقد نزل بكم الخبيثون القليلون فاصبروا جعلت لكم الفداء إنهما حملتان أو ثلاث ثم هو النصر ليس دونه شيء ألا ترونهم والله لا يكونون مائتي رجل إنما هم أكلة رأس وهم السراق المراق إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم ويأخذوا فيئكم فلا يكونوا على أخذه أقوي منكم على منعه وهم قليل وأنتم كثير وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة غضوا الأبصار واستقبلوهم بالأسنة ولا تحملوا عليهم حتى آمركم فما برح يقاتلهم مقبلا غير مدبر حتى قتل
441 - خطبة الحجاج بن يوسف
ولما هزم شبيب الجيش الذي كان الحجاج وجهه إليه مع عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث أقبل نحو المدائن وبلغ ذلك الحجاج فقام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال

أيها الناس والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على اللأواء والغيظ منكم فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم يعني جند الشأم
فقام إليه الناس من كل جانب فقالوا نحن نقاتلهم ونعتب الأمير فليندبنا الأمير إليهم فإنا حيث سره
422 - خطبة أخرى للحجاج
وبعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء ليأتيه وكان مع المهلب ووجهه في جيش لقتال شبيب وخطب الناس حين وجهه فقال يأهل الكوفة اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلا قد وليناه من أعمالنا ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة ألا وإن للناكل الهارب الهوان والجفوة والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن كفعلكم في المواطن التي كانت لأولينكم كنفا خشنا ولأعركنكم بكلكل ثقيل ثم نزل
443 - خطبة شبيب بن يزيد الشيبانى
وعرض شبيب أصحابه بالمدائن فكانوا ألف رجل فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معشر المسلمين إن الله قد كان ينصركم عليهم وأنتم مائة ومائتان وأكثر من ذلك قليلا وأنقص منه قليلا وأنتم اليوم مئون ومئون ألا إني مصلي الظهر ثم سائر بكم إن شاء الله

444 - خطبة عتاب بن ورقاء
ولما تواقف الفريقان للقتال جعل عتاب يسير فيما بين الميمنة إلى الميسرة يمر بأهل راية راية فيحثهم على تقوي الله ويأمرهم بالصبر ويقص عليهم قصصا كثيرا منه قوله يأهل الإسلام إن أعظم الناس نصيبا في الجنة الشهداء وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين ألا ترون أنه يقول ( واصبروا إن الله مع الصابرين ) فمن حمد الله فعله فما أعظم درجته وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه لا يرون إلا أن ذلك لهم قربة عند الله فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار
فلم يجبه أحد فقال أين القصاص يقصون على الناس ويحرضونهم فلم يتكلم أحد فقال أين من يروي شعر عنترة فيحرك الناس فلم يجبه أحد ولا رد عليه كلمة فقال إنا لله والله لكأنى بكم وقد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفى في استه الريح وحمل عليه شبيب فتفرق عنه كثير من أصحابه وخذلوه وثبت في عصابة قليلة صبرت معه وقاتل حتى قتل
445 - خطبة الحجاج
ولما رأى الحجاج عجز أهل الكوفة عن قتال شبيب في مواطن كثيرة في كلها يقتل أمراءهم ويفل جنودهم كتب إلى عبد الملك يستمده فبعث إليه سفيان بن الأبرد الكلبي في أربعة آلاف وحبيب بن عبد الرحمن الحكمى من مذحج في ألفين ودخلا فيمن معهما من أهل الشأم الكوفة فشدوا للحجاج ظهره فاستغنى بهما عن أهل الكوفة فقام على منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6