كتاب : الأصول في النحو
المؤلف : أبي بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي البغدادي

قولك : أزيدٌ في الدار أم عمروٌ وأنت تريد : أيهما في الدار لأن ( أَمْ ) عديلة الألف ولا تقع ( هَلْ ) موقع الألف مع ( أَمْ ) وقد تدخل ( أَمْ ) على ( هلْ )
قال الشاعر :
( أمْ هَلْ كَبيرٌ بكى ... . . . )
العاشر حتى : تقول ضربتُ القومَ حتىَّ زيداً وقد ذكرتها كيف تكون عاطفة فيما تقدم حين ذكرناها مع حروف الخفض وأفردنا لها باباً واعلم أن قوماً يُدخلون ليس في حروف العطف ويجعلونها كلا وهذا شاذ في كلامهم وقد حكى سيبويه أن قوماً يجعلونها ( كَما ) فيقولون : لَيس الطيبُ إلا المسكَ
واعلم : أن حروف العطف لا يدخل بعضها على بعض فإن وجدت ذلك في كلام فقد أُخرج أحدهما من حروف النسق وذلك مثل قولهم : لم يقم عمروٌ ولا زيدٌ الواو نَسقٌ ( ولا ) توكيد للنفي وكذلك قولك : والله لا فعلتُ ثم والله لا فعلتُ ثم نَسق والواو قَسمٌ وحروف العطف لا يفرق

بنيها وبين المعطوف بشيء مما يعترض بين العامل والمعمول فيه والأشياء التي يعترض بها : الأيمانُ والشكوكُ والشروطُ
وقد يجوز ذلك في ( ثم وأو ولا ) لأنها تنفصل وتقوم بأنفسها وقد يجوز الوقوف عليها فتقول : قامَ زيدٌ ثم والله عمروٌ وثم أظن عمروٌ و ( لا ) التي للعطف يصح أن تلي الماضي لأنه قد غلب عليه الدعاء وقد يجوز أن يكون مع الماضي بمنزلة ( لَم ) وذلك قولك : زيدٌ قامَ لا قعد فيلتبس بالدعاء فإن لم يلتبس جاز عندي وقد جاءت ( لا ) نافية مع الماضي في غير خبر كما جاءت ( لَم ) وذلك قوله تعالى : ( فلا صَدَّقَ ولا صَلَّى ) وتقول : لم يقمْ زيدٌ ولم يقعد ولا يجوز : ولا يقعدُ إلا أن ترفعه وكذلك : لن يقومَ زيدٌ ولا يقعدُ بواوٍ وغير واوٍ

باب العطف على الموضع
الأشياء التي يقال أن لها موضعاً غير لفظها على ضربين : أحدهما اسمٌ مفرد مبني والضرب الآخر اسم قد عمل فيه عامل أو جعل مع غيره بمنزلة اسم فيقال : إن الموضع للجميع فإن كان الإسم معرباً مفرداً فلا يجوز أن يكون له موضع لأنا إنما نعترف بالموضع إذا لم يظهر في اللفظ الإِعراب فإذا ظهر الإِعراب فلا مطلوب
الضرب الأول :
وهو الإسم المضمر والمبني وذلك نحو : هذا تقول : إن هذا أخوكَ فموضع ( هذَا ) نصب لأنك لو جعلت موضع هذا اسماً معرباً قلت : إن زيداً أخوكَ فمن أجل هذا جاز أن تقول : إن هذا وزيداً قائمان ولهذا جاز أن تقول : يا زيدُ العاقلَ فتنصب على الموضع وإنما جاز الرفع على اللفظ لأنه مبني يشبه المعرب لاطراده في الرفع وقد بينت هذا في باب النداء وليس في قولك ( هذا ) حركة تشبه الإِعراب فإذا قلت : يا زيد وعمروُ فحكم الثاني حكم الأول لأنه منادى فهو مضموم وقد قالوا على

ذلك : يا زيدُ والحارثُ كما دخلت الألف واللام و ( يا ) لا تدخل عليهما ومن قال : إن موضع الإسم الذي عملت فيه ( إنَّ ) رفعٌ فقد غلط من قبل أن المعرب لا موضع له ومن أجل أنه يلزمه أن يكون لهذا موضعان في قولك : إن هذا وزيداً أخواكَ لأن موضع زيدٍ عنده إذا قال : إن زيداً رفعٌ فيلزمه أن يكون موضُع ( هذا ) نصباً ورفعاً
الضرب الثاني :
ينقسم أربعة أقسام : جملة قد عمل بعضها في بعضٍ أو اسم عمل فيه حرف أو اسمٌ بني مع غيره بناء أو اسم موصول لا يتمُّ إلا بصلته
الأول جملة قد عمل بعضها في بعض : اعلم أن الجمل على ضربين ضربٍ لا موضع له وضرب له موضعٌ
فأما الجملة التي لا موضع لها فكل جملة ابتدأتها فلا موضع لها نحو قولك : مبتدئاً : زيدٌ في الدار وعمروٌ عندكَ فهذه لا موضع لها
الضرب الثاني : الجملة موقع اسم مفرد نحو قولك : زيدٌ أبوهُ قائمٌ فأبوه قائم جملة موضعها رفع لأنك لو جعلت موضعها اسماً مفرداً نحو : منطلق لصلح وكنت تقول : زيدٌ منطلقٌ فتقول على هذا هندٌ منطلقةٌ وأبوها قائمٌ فيكون موضع أبوها ( قائمٌ ) رفعاً لأنك لو وضعت موضع هذه الجملة ( قائمةً ) لكان رفعاً فإن قلت : هندٌ أبوها قائمٌ ومنطلقةٌ جاز والأحسن عندي أن تقدم ( منطلقةً ) لأن الأصل للمفرد والجملة فرع ولا ينبغي أن تقدم الفرع على الأصل إلا في ضرورة شعرهم وكذلك : مررت بامرأةٍ أبوها شريفٌ وكريمةٌ حقه أن يقول : بامرأةٍ كريمةٍ وأبوها شريفٌ لأن الأصل للمفرد وإنَّ وصفه مثله مفرداً وتقديم الجملة في الصفة عندي على المفرد أقبح منه في الخبر إذا قلت : هندٌ أبوها كريمٌ وشريفةٌ لأن أصل الصفة أن تكون مساوية للموصوف تابعة له في لفظها ومعرفتها ونكرتها وليس الخبر من

المبتدأ بهذه المنزلة فإذا قلت : زيدٌ أبوه قائمٌ وكريم لزيدٍ لم يحسنْ لأنه ملبس يصلح أن يكون لزيدٍ وللأبِ والأولى أن يكون معطوفاً على ( قائمٍ ) لما خبرتك فإن لم يلبس صلُحَ وكذلك حق حروف العطف أن تعطف على ما قرب منها أولى
القسم الثاني اسم عمل فيه حرف :
هذا القسم على ضربين :
ضرب يكون العامل فيه حرفاً زائداً للتوكيد سقوطه لا يخل بالكلام بل يكون الإِعراب على حقه والكلام مستعمل
والضرب الآخر أن يكون الحرف العامل غير زائد ومتى أسقط لم يتصل الكلام بعضه ببعض
فالضرب الأول : نحو قولك : لستَ بقائمٍ ولا قاعدٍ الباء زائدة لتأكيد النفي
ولو أسقطتها لم يخل بالكلام واتصل بعضه ببعضٍ فموضع ( بقائمٍ ) نصب لأن الكلام المستعمل قبل دخولها ( لستَ قائماً ) فهذا لك أن تعطف على موضعه فتقول لستَ بقائمٍ ولا قاعداً ومن ذلك : هل من رجلٍ عندك وما من أحد في الدار فهذا لك أن تعطف على الموضع لأن موضع ( من رجلٍ ) رفعٌ وكذلك : خَشَّنتُ بصدره وصدر زيدٍ ولو اسقطت الباء كان جيداً فقلت خَشنت صدره وصدرُ زيدٍ وكذلك : كفى

بالله إنما هو : كفى الله فعلى ذا تقول : كفى بزيدٍ وعمروٍ ومن ذلكَ : إن زيداً في الدار وعمراً ولو أسقطت ( إنّ ) لكان : زيدٌ في الدار وعمروٌ فإن مع ما عملت فيه في موضع رفعٍ وينبغي أن تعلم أنه ليس لك أن تعطف على الموضع الذي فيه حرف عامل إلا بعد تمام الكلام من قبل أن العطف نظير التثنية والجمع ألا ترى أن معنى قولك : قامَ الزيدانِ إنما هو : قامَ زيدٌ وزيدٌ فلما كان العاملان مشتركين في الإسم ثُنيا ولو اختلفا لم يصلح فيهما إلا الواو فكنت تقول : قامَ زيدٌ وعمروٌ فالواو نظير التثنية وإنما تدخل إذا لم تكن التثنية فلما لم يكن يجوز أن يجتمع في التثنية الرفع والنصب ولا الرفع والخفض ولا أن يعمل في المثنى عاملان كذلك لم يجز في المعطوف والمعطوف عليه
فإذا تم الكلام عطفت على العامل الأول وكنت مقدراً إعادته وإن كنت لا تقيده في اللفظ لأنك مستغنٍ عنه ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول : إن زيداً وعمروٌ منطلقان لما خبرتك به ولأن قولك ( منطلقانِ ) يصير خبراً لمرفوع ومنصوب وهذا مستحيل فإذا قلت : ( إن زيداً منطلق وعمروٌ ) صَلُح لأن الكلام قد تم ورفعت لأن الموضع للإبتداء وإن زائدةٌ فعطفت على موضع ( إنّ ) وأعملت الإبتداء وأضمرت الخبر وحذفته اجتراءً بأن الأول يدل عليه فإن أختلف الخبران لم يكن بدٌ من ذكره ولم يجز حذفهُ نحو قولك : إن زيداً ذاهبٌ وعمروٌ جالسٌ لأن ( ذاهباً ) لا يدل على ( جالس ) فإذا تم الكلام فلك العطف على اللفظ والموضع جميعاً وإذا لم يتم لم يجز إلا اللفظ فقط وكذلك لو قلت : ( هَلْ من رجلٍ وحمارٍ موجودان ) فإن قلت : وحمارٌ جاز كما تقول : إن عمراً وزيداً منطلقان وكذلك إذا قلت : خشنت بصدره وصدر زيدٍ عطفت على ( خشنت ) ولم يعرج على الباء وجاز لأن الكلام قد تم فكأنك قد أعدت : خشنت

ثانية فالفرق بين العطف على الموضع والعطف على اللفظ أن المعطوف على اللفظ كالشيء يعمل فيهما عامل واحد لأنهما كاسم واحد والمعطوف على المعنى يعمل فيها عاملان والتقدير تكرير العامل في الثاني إذا لم يظهر عمله في الأول وتصير كأنها جملة معطوفة على جملة وكل جملتين يحذف من أحدهما شيء ويقتصر بدلالة الجملة الأخرى على ما حذف فهي كالجملة الواحدة ونظير هذا قولهم : ضربتُ وضربني زيدٌ اكتفوا بذكر زيد عن أن يذكروا أولاً إلا أن هذا حذف منه المعمول فيه وكان الثاني دليلاً على الأول وذاك حذف العامل منه إلا أن حذف العامل إذا دل عليه الأول أحسن مع العطف لأن الواو تقوم مقام العامل في كل الكلام
الضرب الآخر : أن يكون الحرف العامل غير زائد وذلك نحو قولك : مررتُ بزيدٍ وذهبتُ إلى عمروٍ ومُرَّ بزيدٍ وذهب إلى عمرو فتقول : إن موضع ( بزيدٍ ) في : ( مررتُ بزيدٍ ) منصوب وموضع إلى عمرو في ذهبت إلى عمرو نصب وموضع بزيد في مر بزيدٍ رفع وإنما كان ذلك لأنك لو جعلت موضع : ( مررتُ ) ما يقارب معناه من الأفعال المتعدية لكان زيد منصوباً نحو : أتيتُ زيداً ولو أسقطت الباء في قولك : مررت بزيدٍ لم يجز لأن الأفعال التي هي غير متعدية في الأصل لا تتعدى إلا بحرف جر وقد بينت فيما تقدم صفة الأفعال المتعدية والأفعال التي لا تتعدى فتقول على هذا إذا عطفت على الموضع : مررتُ بزيدٍ وعمراً وذهبتُ إلى بكرٍ وخالداً ومُرَّ بزيدٍ وعمروٍ كأنك قلت : وأتى عمروٌ وأتيتُ عمراً ودل ( مررتُ ) على ( أتيتُ ) فاستغنيت بها وحذفت قال الشاعر :
( جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهم ... أو مِثْلَ أسرةِ مَنظورِ بن سيارِ )

كأنه قال : أو هاتِ مثل أسرة منظور لأنّ جئني بمثل بني بدرٍ يدل على : هاتِ أو أعطني وما أشبه هذا
القسم الثاني اسم بني مع غيره :
وذلك نحو : خمسةَ عشرَ وتسعةَ عشرَ فحكم هذا حكم المبني المفرد تقول : إن خمسةَ عشرَ درهماً ويكفيك خمسةَ دنانيرٍ وخمسةُ دنانير النصب على ( إنَّ ) والرفع على موضع ( إنَّ ) وقولك : لا رجل في الدار بمنزلةِ : خمسة عشر في البناء إلا أن ( رجل ) مبني يضارع المعرفة فجاز لك أن تقول : لا رجلَ وغلاماً لكَ فتعطف عليه لأن ( لا ) تعمل في النكرة عمل ( إنّ ) فبنيت مع ( لا ) على الفتح الذي عملته ( لا ) ومنعت التنوين ليدل منع التنوين على البناء لأنه اسم نكرة منصوبٌ متمكنُ ودل على ذلك قولهم : لا ماءَ ماءَ بارداً لك ألا تراهم بنوا ماء مع ماءٍ فعلمت بذلك أن هذا الفتح قد ضارعوا به المبني وأشبه خمسة عشر وكان هو الدليل على أن ( لا ) مبنية مع النكرة المفردة إذا قلت : لا ماءَ لك وقد بينت هذا في باب النفي فلهذا جاز أن تقول لا رجل وغلاماً لك على اللفظ ولا رجل وغلامٌ لك على موضع ( لا ) ويدل على بناء رجل في قولك : لا رجلَ أنه لا يجوز أن تقول : لا رجلَ وغلامُ لكَ فلو لم يعدلوا فتحة النصب إلى فتحة البناء لما جاز لأنّ الواو تدخل الثاني فيما دخل فيه الأول ولو وجدنا في كلامهم اسماً نكرة

متمكناً ينصب بغير تنوين لقلنا أنه منصوب غير مبني فكما تقول أن المنادى المفرد بني على الضم كالمعرب المرفوع تقول في هذا أنه معرب كالمبني المفتوح ولهذا لا يجوز أن ينعت الرجل على الموضع فيرفع لأن موضع ( رجلٍ ) نصبٌ لأن لو كان موضعه مضافاً ما كان إلا نصباً فلهذا قلنا أنه بني على التقدير الذي كان له وموضع ( لا ) مع رجلٍ رفعٌ موضعُ ابتداءٍ كما كانت إن مع ما عملت فيه إلا أن النحويين أجازوا : لا رجلَ ظريفٌ وقالوا : رفعناه على موضع : لا رجل وإنما جاز هذا مع ( لا ) ولم يجز مع ( أن ) لأن ( لا ) مع رجلٍ بمنزلة اسم واحد وليست ( إنَّ ) مع ما عملت فيه بمنزلة شيء واحد لو قلت : إن زيداً العاقلُ منطلقٌ لم يجز وقد ذكرت هذا في باب إنّ ويدلك أيضاً على أن ( لا ) مع ما عملت فيه بمنزلة اسم واحد أنه لا يجوز لك أن تفصل بين ( لا ) والإسم ومتى فعلت ذلك لم يكن إلا الرفع وذلك قولك : لا لك مالٌ ولا تقول : لا لكَ مالَ لأن ( لكَ ) قد منع البناء وقد حكي عن بعضهم : لا رجلَ وغلامَ لك فحذف التنوين من الثاني وشبهه بالعطف على النداء وهذا شاذٌ لا يعرج عليه وإنما حكمنا على ( لا ) أنها نصبت في قولك : لا رجلَ لقولهم : لا رجلَ وغلاماً لكَ وأنه يجوز أن تقول لا رجل وغلاماً منطلقان فلو لم تكن ( لا ) نصبت لم يجز أن تعطف على رجل منصوباً فهذا الفرق بين ( لا ) رجلَ وخمسة عشَر
وقد عرفتك من أين تشابها ومن أين افترقا وأما عطف المفرد على المفرد في النداء فلا يجوز أن تعطفه على الموضع لو قلت : يا زيدُ وعمراً لم يجز من قبل أن زيداً إنما بني لأنه منادى مخاطب باسمه
والصلة التي أوجبت البناء في زيدٍ هي التي أوجبت البناء في عمروٍ وهُما في ذلك سواءٌ ألا ترى أنهم يقولون : يا عبد الله وزيدٌ فيضمون الثاني والأول منصوب لهذه العلة ولولا ذلك لما جاز وليس مثل هذا في سائر ما يعطف عليه

القسم الرابع وهو ما عطف على شيء موصول لا يتم إلا بصلته :
وذلك قولك : ضربت الذي في الدارِ وزيداً عطفت على الذي مع صلتها ولو عطفت على الذي مفرداً لم يجز ولم يكن اسماً معلوماً وكذلك ( مَن ) إذا كانت بمعنى الذي تقول ضربتُ مَن في الدار وزيداً ومثل ذلك ( مَا ) إذا كانت بمعنى ( الذي ) تقول : أخرجتُ ما في الدار وزيداً فالذي ومَنْ وما مبهماتْ لا تتم في الإِخبار إلا بصلات وما يوصل فيكون كالشيء الواحد ( أن ) مع صلتها تكون كالمصدر نحو قولك : يعجبني أن تقوم فموضع أن تقوم رفع لأن المعنى : يعجبني قيامُك وكذلك إن قلت : كرهتُ أن تقومَ فموضع أن تقوم نصب وعجبت مِنْ أن تقومَ خَفضٌ فتقولُ على هذا : عجبتُ من أن يقومَ زيدٌ وقعودِكَ تريد : من قيامِ زيدٍ وقعودِك

باب العطف على عاملين
اعلم : أن العطف على عاملين لا يجوز من قبل أن حرف العطف إنما وضع لينوب عن العامل ويغني عن إعادته فإن قلت : قامَ زيدٌ وعمروٌ فالواو أغنت عن إعادة ( قام ) فقد صارت ترفع كما يرفع قامَ وكذلك إذا عطفت بها على منصوب نحو قولك : إن زيداً منطلقٌ وعمراً فالواو نصبت كما نصبت ( إنَّ ) وكذلك في الخفض إذا قلت : مررت بزيدٍ وعمروٍ فالواو جرت كما جرت الباء فلو عطفت على عاملين أحدهما يرفع والآخر ينصب لكنت قد أحلت لأنها كان تكون رافعةً ناصبة في حال قد أجمعوا على أنه لا يجوز أن تقول : مَرَّ زيدٌ بعمروٍ وبكرٌ خالدٍ فتعطف على الفعل والباء ولو جاز العطف على عاملين لجاز هذا واختلفوا إذا جعلوا المخفوض يلي الواو فأجاز الأخفش ومن ذهب مذهبه : مَرَّ زيدٌ بعمروٍ وخالدٌ بكرٍ واحتجوا بأشياء منها قول الشاعر :
( هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمورَ ... بِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا )
( فَلَيْسَ بآتِيكَ مَنْهِيُّهَا ... ولاَ قَاصِرٍ عَنْكَ مأمورُهَا )

وقال النابغة :
( فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ لَنَا أنْ نَرُدَّها ... صِحَاحاً ولا مستنكراً أن تُعقَّرا )
وما يحتجون به :
ما كلُ سوداءَ تمرةً ولا بيضاءَ شحمةً فعطف على كُلِ وما ومن ذلك :
( أَكُلَّ امرِيءٍ تَحْسَبِينَ امرأاً ... ونَارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نَارَا )

ومذهب سيبويه في جميع هذه أن لا يعطف على عاملين ويذكر أن في جميعها تأويلاً يرده إلى عمل واحد ونحن نذكر ما قاله سيبويه في باب ( ما ) تقول : ما أبو زينب ذاهباً ولا مقيمةٌ أُمها ترفع لأنك لو قلت : ما أبو زينبَ مقيمةً أمها لم يجز لأنها ليست من سببه ومثل ذلك قول : الأعور الشني هَوّنْ عليكَ فأنشد البيتين ورفَع ولا قاصر عنك مأمورها وقال : لأنه جعل المأمور من سبب الأمور ولم يجعله من سبب المذكر وهو المنهي ومعنى كلامه أنه لو كان موضع ليس ( ما ) لكان الخبر إذا تقدم في ( ما ) على الإسم لم يجز إلا الرفع لا يجوز أن تقول : ما زيدٌ منطلقاً ولا خارجاً معنٌ فإن جعلت في ( خارجٍ معن ) شيئاً من سبب زيدٍ جاز النصب وكان عطفاً على الخبر لأنه يصير خبراً لزيدٍ لأنه معلق بسبب له فكذلك لو قلت : فما يأتيكَ منهيها ولا قاصرٌ عنك مأمورها غير قولك منهيها ثم قال : وجَرهُ قومٌ فجعلوا المأمور للمنهي والمنهي هو الأمور لأنه من الأمور وهو بعضُها فأجراه وأنثه كما قال جرير
( إذا بَعْضُ السِّنينِ تَعرَّقتْنا ... كَفَى الأيتامَ فَقْدَ أَبى اليتيمِ )

فصار تأويل الخبر ليس : بآتيك الأمور ولا قاصرٌ بعضها فجعل : بعض الأمور أموراً وكذلك احتج لقول النابغة في الجر فقال : يجوز أن تجر وتحمله على الرد لأنه من الخيل يعني في قوله : أن تردَها لأن ( أن تردهَا ) في موضع ردَها كما قال ذو الرمة :
( مَشَيْنَ كَمَا اهتزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهْتْ ... أَعَاليها مَرَّ الرِّياحِ النَّواسِمِ )
كأنه قال : تسفهتها الرياح فهذا بناء الكلام على الخيل وذلك ردَّ إلى الأمور وقال : كأنه قال : ليس بآتيكَ منهيها وليست بمعروفة ردها حين كان من الخيلِ والخيلُ مؤنثةٌ فأنثَ وهذا مثل قوله : ( بَلى مَن أسلمَ وجهه لله وهوَ مُحسنٌ فَلُه أجرهُ عند رَبهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ) أجرى الأول على لفظ الواحد والآخر على المعنى هذا مثله في أنه تكلم به مذكراً ثم أنث كما جمع وهو في قوله : ليس بآتيتكَ منهيها كأنه قال : ليس بآتيتكَ الأمور وفي ليس بمعروف ردَها وكأنه قال : ليست بمعروفةٍ خيلنا صحاصاً قال : وإن شئت نصبت فقلت : ولا مستنكراً ولا قاصراً

قال أبو العباس : قال الأخفش : وليس هذان البيتان على ما زعم سيبويه يعني في الجر لأنه يجوز عند العطف وأن يكون الثاني من سبب الأول وأنكر ذلك سيبويه لأنه عطف على عاملين على السين والباء فزعم أبو الحسن : أنها غلط منهُ وأن العطف على عاملين جائز نحو قول الله عز و جل في قراءة بعض الناس ( وفي خلقِكم وما بث من دابةٍ آياتٍ ) فجر الآيات وهي في موضع نصب ومثل قوله ( لعَلى هدىً أو في ضلالٍ مبينٍ ) عطف على خبر ( إنّ ) وعلى ( الكل )
قال أبو العباس : وغلطَ أبو الحسن في الآيتين جميعاً ولكن قوله : ( واختلاف الليل والنهار وما أنزل اللّهُ من السماء من رزقٍ فأحيا به الأرضَ بعدَ موتهِا وتصريف الرياح آياتٍ لقومٍ يعقلون ) وابتدأ الكلام : ( إن في السمواتِ والأرضِ لآياتٍ للمؤمنين ) ( وفي خلقكم وما يبثُّ من دابةٍ آياتٍ لقوم يوقنون واختلاف الليلِ والنهارِ وما أنزلَ اللّهُ من السماء من رزقٍ فأحيا بهِ الأرضَ بعد موتِها وتصريفِ الرياحِ آياتٍ )
بعد هذه الآية وإن جرَّ آيات فقد عطف على عاملين وهي قراءة عطف على ( إن ) و ( في ) قال وهذا عندنا غير جائز لأن الذي تأوله سيبويه بعيدٌ وقال : لأن الرد غير الخيل والعقرُ راجع إلى الخيل فليس بمتصل بشيء من الخيل ولا داخل في المعنى
وقال : أما قوله : فليس بآتيكَ منهيها ولا قاصرٌ عنكَ مأمورها فهو أقرب قليلاً وليس

منه لأن المأمورَ بعضها والمنهي بعضها وقربه أنهما قد أحاطا بالأمور وقال : وليس يجوزُ الخفض عندنا إلا على العطف على عاملين فيمن أجازه
وأما قولُهم : ما كلُّ سوداءَ تمرةٌ ولا بيضاءَ شحمة فقال سيبويه : كأنكَ أظهرت كُلَّ مضمرٍ فقلت : ولا كُلَّ بيضاء فمذهب سيبويه أنَّ ( كُلَّ ) مضمرة هنا محذوفة وكذلك :
أُكَلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ أمرأاً ... ونَارٍ تَوقَّدُ بالليلِ نَارا )
يذهب إلى أنه حذف ( كُلُّ ) بعد أن لفظ بها ثانية وقال : استغنيت عن تثنيةِ ( كلِّ ) لذكرك إياه في أول الكلام ولقلة التباسه على المخاطب قال : وجاز كما جازَ في قوله : ما مثلُ عبد اللَّهِ يقول ذاكَ ولا أخيهِ وإن شئت قلت : ولا مثلَ أخيهِ فكما جاز في جمع الخبر كذلك يجوز في تفريقه وتفريقُه أن تقول : ما مثلُ عبد الله يقولُ ذاك ولا أخيه يكرهُ ذاكَ قال : ومثلُ ذلك : ما مثلُ أخيكَ ولا أبيكَ يقولانِ ذلكَ فلما جاز في هذا جاز في ذاك
وأبو العباس رحمه الله لا يجيزُ : ما مثلُ عبد الله يقولُ ذاكَ ولا أخيهِ يكرهُ ذاكَ والذي بدأ به سيبويه الرفعُ في قولكَ : ما كُلُّ سوداءَ تمرةٌ ولا بيضاءَ شحمةٌ والنصب في ( وناراً ) هو الوجه وهذه الحروف شواذْ فأما من ظنَّ أن من جَر آياتٍ في الآية فقد عطف على عاملين فغلطٌ منهُ وإنما نظير ذلك قولك : إنَّ في الدار علامةً للمسلمين والبيتِ عَلاّمةً للمؤمنينِ فإعادة علامة تأكيد وإنما حسنت الإِعادة للتأكيد لما طال الكلام كما تعاد ( إن ) إذا طال الكلام وقد ذكرنا هذا في باب إنَّ وأنَّ ولولا أنا ذكرنا التأكيد

وأحكامه فيما تقدم لذكرنا ها هنا منه طرفاً كما أنك لو قلت : إنَّ في الدار الخيرَ والسوق والمسجدَ والبلدَ الخير كان إعادته تأكيداً وحسُن لما طال الكلام فآياتٌ الأخيرةُ هي الأولى وإنما كانت تكون فيه حجة لو كان الثاني غير الأول حتى يصيرا خبرين وأما من رفع وليست ( آيات ) عنده مكررة للتأكيد فقد عطف أيضاً على عاملين نصب أو رفع لأنه إذا قال : ( إنَّ في السّمَوات والأرضِ لآيَاتٍ لْلُمؤمنِينَ وَفي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٍ لقَوْمٍ يُوقِنونَ وَاخْتِلاَفِ اللّيلِ والنَّهارِ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعدَ مَوْتِها وتَصْريفِ الرِّياحِ آيَاتٍ لقومٍ يَعْقِلُونَ ) فإذا رفع فقد عطف ( آياتٍ ) على الإبتداء وإختلافاً على ( في ) وذلك عاملان ولكنه إذا قصد التكرير رفع أو نصب فقد زال العطف على عاملين فالعطف على عاملين خطأ في القياس غير مسموعٍ من العرب ولو جاز العطف على عاملين لجاز على ثلاثة وأكثر من ذلك ولو كان الذي أجاز العطف على عاملين أي شاهد عليه بلفظ غير مكرر نحو : ( إنَّ في الدار زيداً والمسجدَ عمراً ) وعمرٌو غيرُ زيدٍ لكان ذلك له شاهداً على أنه إنْ حكى مثله حاكٍ ولم يوجد في كلام العرب شائعاً فلا ينبغي أن تقبله وتحمل كتاب الله عز و جل عليه

باب مسائل العطف
نقول : مررتُ بزيدٍ أنيسِكَ وصاحبِكَ فإن قلت : مررت بزيدٍ أخيك فصاحبِك والصاحب زيدٌ لم يجز وتقول : اختصم زيدٌ وعمروٌ ولا يجوز أن تقتصر في هذا الفعل وما أشبهه على اسم واحد لأنه لا يكون إلا من اثنين ولا يجوز أن يقع هنا من حروف العطف إلا الواو لا يجوز أن تقول : اختصم زيدق فعمروٌ لأنك إذا أدخلت الفاء وثم اقتصرت على الإسم الأول لأن الفاء توجب المهلة بين الأول والثاني وهذا الفعل إنما يقع من اثنين معاً وكذلك قولك جمعت زيداً وعمراً ولا يجوز أن تقول جمعت زيداً فعمراً وكذلك المال بين زيدٍ وعمروٍ ولا يجوز : بين زيدٍ فعمروٍ وتقول : زيدٌ راغبٌ فيك وعمروٌ تعطف ( عمراً ) على الإبتداء فإن عطفت على ( زيدٍ ) لم يكن بُد من أن تقول : زيدٌ وعمروٌ راغبانِ فيكَ فإن عطفت عمراً على الضمير الذي في ( راغبٍ ) قلت : ( زيدٌ راغبٌ هو وعمرو فيكَ ) فإن عطفت على ابتداء والمبتدأ لم يجز أن تقول : زيد راغبٌ وعمرو فيك لأن ( فيك ) معلقة براغب فلا يجوز أن تفصل بينهما وقد أجازوا تقديم حرف النسق في الشعر فتقول على ذاك : قامَ وزيدٌ عمروٌ وقامَ ثُمَّ زيدٌ وعمرو وتقول : زيدٌ وعمرو قاما ويجوز : زيد وعمرو قامَ فحذف ( قامَ ) من الأول اجتزاءً بالثاني وتقول : زيدٌ ثم عمرو قامَ وزيد فعمروٌ قامَ وقد أجازوا التثنية

فتقول : زيدٌ فعمرو قاما وزيد ثم عمرو قاما ولا يجيزون مع ( أو ولا ) إلا التوحيد لا غير نحو : زيدٍ لا عمروٍ قامَ وزيد أو عمرو قامَ لا يجوز أن تقول : زيدٌ لا عمروٌ قاما لأنك تخلط من قام بمن لم يقم وكذلك لو قلت قَاما لجعلت القيام لهما إنما هو لأحدهما ومن أجاز : لقيتُ وزيداً عمراً لم يجز ذلك في المخفوض لا تقول : مررت وزيدٍ بعمروٍ تريد : مررت بعمروٍ وزيد لأنه قد قدم المعطوف على العامل وإنما أجازوا للضرورة أن يقدم معمولٌ فيه على معمولٍ فيه والعامل قبلهما وذا ليس كذلك وقد حلت بينه وبين ما نسقته عليه بغيره وهو الباء
وأجاز قوم : قام ثم زيد عمروٌ ولا يجيزون : إن وزيداً عمراً قائمانِ لأن ( إنَّ ) أداة
ويجيزون : ( كيف وزيدٌ عمروٌ ) ويقولون : كلُّ شيءٍ لم يكن يرفع لم يجز أن يليه الواو نحو : ( هل وزيد عمرو قائمانِ ) محال وإنما صار العطف إذا لم يكن قبله ما يرفع أقبح لأنه يصير مبتدأً وفي موضع مبتدأ وليس أحد يجيز مبتدأً : وزيدٌ عمروٌ قائمانِ يريد : عمرو وزيد قائمان وإن بمنزلة الإبتداء فلذلك قبح أيضاً فيها وتقول : زيدٌ رغبَ فيكَ وعمروٌ وزيد فيكَ رغبَ وعمروٌ فإن أخرجت ( رغب ) على هذا لم يجز : أن تقول : زيدٌ فيكَ وعمروٌ رغبَ لأنك قد فصلت بين المبتدأ وخبره بالمعطوف وقدمت ما هو متصل بالفعل وفرقت بينهما بالمعطوف أيضاً وتقول : أنت غير قائمٍ ولا قاعدٍ تريد : وغير قاعد لما في ( غير ) من معنى النفي وتقول : أنت غير القائم ولا القاعد تريد : غير القاعد كما قال الله عز و جل : ( غير المعضوبِ عليهم ولا الضالينَ ) ولم يجىء هذا في المعرفة لا يستعملون ( لا ) مع المعرفة العلم في مذهب ( غير ) لا يجوز : أنت غيرُ زيدٍ ولا

عمروٍ تقول : زيدٌ قام أمس ولم يقعدْ ولا يجوز : زيد قامَ ويقعدُ وإنما جاز مع ( لم ) لأنها مع عملت فيه في معنى الماضي ولا يجوز أن تنسق على ( لن ولم ) بلا مع الأفعال لا تقول : لم يقم عبد الله لا يقعد وكذلك : لن يقوم عبد الله لا يقعدُ يا هذا لأن ( لا ) إنما تجيء في العطف لتنفي عن الثاني ما وجب للأول وتقول : ضربتُ عمراً وأخاهُ وزيدٌ ضربتُ عمراً ثم أخاه وزيدٌ ضربت عمراً أو أخاهُ وقوم لا يجيزون من هذه الحروف إلا الواو فقط ويقولون : لأن الواو بمعنى الإجتماع فلا يجيزون ذلك مع ثم وأو لأن مع ( ثم وأو ) عندهم فعلاً مضمراً فإن قلت : ( زيدٌ ضربت عمراً وضربتُ أخاهُ ) لم يجز : لأن الفعل الأول والجملة الأولى قد تمت ولا وصلةٌ لها بزيد وعطفت بفعل آخر هو المتصل لسببه وليس لأخيه في ( ضربتُ ) الأولى وصلةٌ فإن أردت بقولك : وضربتُ إعادة للفعل الأول على التأكيد جازَ ومن أجاز العطف على عاملين قال : زيدٌ في الدار والبيت أخوهُ وأمرتُ لعبد الله بدرهمٍ وأخيه بدينارٍ لأن ديناراً ليس إلى جانب ما عملت فيه الباء وحرف النسق مع الأخِ ولا يجوز أيضاً أمرتُ لعبد الله بدرهمٍ ودينارٍ أخيهِ لأن أخاهُ ليس إلى جانب ما عملت فيه اللام وحرف النسق مع دينارٍ وتقول : ضربتُ زيدٌ وعمراً ويجوز أن ترفع عمراً وهو مضروب فتقول : ضربتُ زيداً وعمرٌ تريد : وعمرو كذلك وإنما يجوز هذا إذا علم المحذوف ولم يلبس وتقول : هذان ضاربٌ زيداً وتاركهُ لأن الفعل لا يصلح هنا لو قلت : هذانِ يضربُ زيداً ويتركهُ لم يجز وإنما جاز هذا في ( فاعلٍ ) لأنه اسم فإذا قلت : هذانِ زيدٌ وعمروٌ لم يجز إلا بالواو لأن الواو تقوم مقام التثنية والجمع
واعلم : أنه لا يجوز عطف الظاهر على المكني المتصل المرفوع حتى تؤكده نحو : قمتُ أنا وزيدٌ وقامَ هُو وعمروٌ قال الله عز و جل : ( اذهبْ أنت

وربك فقاتلا ) فإن فصلت بين الضمير وبين المعطوف بشيءٍ حسنَ نحو : ما قمتُ ولا عمروٌ ويجوز أن تعطف بغير تأكيد ولا يجوز عطفُ الظاهر على المكنى المخفوض نحو : مررت به وعمروٍ إلا أن يضطر الشاعر وتقول : أقْبَل إن قيلَ لك الحقُّ والباطل إذا أمرت بالحقِّ : أردت : أقْبَل الحقَّ إن قيلَ لك هُو والباطلُ
قد ذكرنا جميع هذه الأسماء المرفوعة والمنصوبة والمجرورة وما يتبعها في إعرابها وكنت قلت في أول الكتاب أن الأسماء تنقسم قسمين : معربٍ ومبنيٍ فإن المعرب ينقسم قسمين : منصرفٍ وغير منصرفٍ وقد وجب أن يذكر من الأسماء ما ينصرفُ وما لا ينصرف ثم نتبعهُ المبنياتِ

ذكر ما ينصرف من الأسماء وما لا ينصرف
اعلم : أن معنى قولهم اسم منصرف أنه يراد بذلك إعرابه بالحركات الثلاث والتنوين والذي لا ينصرف لا يدخله جرٌ ولا تنوينٌ لأنه مضارعٌ عندهم للفعل والفعل لا جرَّ فيه ولا تنوين وجر ما لا ينصرف كنصبه كما أن نصب الفعل كجزمه والجر في الأسماء نظير الجزم في الفعل لأن الجر يخص الأسماء والجزم يخص الأفعال وإنما منع ما لا ينصرف الصرف لشبهه بالفعل كما أعرب من الأفعال ما أشبه الإسم فجميعُ ما لا ينصرف إذا أُدخلت عليه الألف واللام أو أُضيف جُرَّ في موضع الجَرِّ وإنما فُعل به ذلك لأنه دخل عليه ما لا يدخل على الأفعال وما يؤمن معه التنوين ألا ترى أن الألف واللام لا يدخلان على الفعل وكذلك الأفعال لا تضاف إلى شيءٍ وأن التنوين لا يجتمع مع الألف واللام والإِضافة وأصول الأسماء كلها الصرف وإنما في بعضها ترك الصرف وللشاعر إذا اضطر أن يصرف جميع ما لا ينصرف ونحن نذكر ما لا ينصرف منها ليعلم ما عداها منصرفٌ

الأسباب التي تمنع الصرف تسعة
متى كان في الإسم اثنان منها أو تكرر واحد في شيء منها منع الصرف وذلك وزن الفعل الذي يغلب على الفعل والصفة والتأنيث الذي يكون لغير فرق والألف والنون المضارعة لألفي التأنيث والتعريف والعدل والجمع والعجمة وبناء الإسم مع الإسم كالشيء الواحد
الأول : وزن الفعل :
فما جاء من الأسماء على أفعل أو يفعلُ أو تَفعل أو نَفعل أو فَعل ويفعلُ وانضم معه سبب من الأسباب التي ذكرنا لم ينصرف فأفعل نحو أحمرَ وأصفرَ وأخضرَ لا ينصرف لأنه على وزن أَذَهَبُ وأعلمُ وهي صفات فقد اجتمع فيها علتان وأحمدُ اسم رجل لا ينصرف لأنه على وزن أذْهبُ فهو معرفةٌ ففيه علتان فإنْ نكرته صرفته تقول : مررتُ بأحمدَ يا هذا وبأحمدٍ آخر وأعصرُ اسم رجلٍ لا ينصرف لأنه مثل أقَتل وكذلك إن سميته بتنضب وترتب وتألبَ فأما تولبُ إذا سميت به فمصروف لأنه مثل جعفر فإن سميت على هذا رجلاً بيضربَ قلت : هذا يضربُ قد جاءَ ومررت بيضربَ ورأيت يضرب وكذلك : تضربُ ونضربْ واضربُ وإن سميته بفَعَلَ قلت : هذا ضَربَ قَد جاءَ ورأيتُ ضربَ وإن سميته بضربَ صرفته لأنه مثل حَجرٍ وجَملٍ وليس بناؤه بناء يخص الأفعال ولا هي أولى به من الأسماء بل الأسماء والأفعال فيه مشتركة وهو

كثير فيهما جميعاً وإن سميتَ رجلاً بنرجس لم تصرفهُ لأنه على مثال نَصربُ وليس في الأسماء شيء على مثال فَعْلِلَ ولو كان فيها فَعْلِلٌ لصرفنا نرجسَ إذا سمينا به
أما نهشل اسم رجل فمصروفٌ لأنه على مثال ( جعَفْرَ ) وليس هو تفعلُ إنما هو فَعْلَلٌ ولكن لو سميت رجلاً بتذهبُ لتركت صرفه فقلت : هذا تذهبُ ورأيتُ تذهبَ ومررتُ بتذهبَ وجميع هذه إذا نكرتها صرفتها تقول : مرتُ بتغلبَ وتغلبٍ آخر لأنه قد زالت إحدى العلتين
وهي التعريف فإن سميت بقام عمروُ حكيت فقلت : هذا قامَ عمروٌ ورأيت قامَ عمرو وكذلك كل جملة يسمى بها نحو : تأبَّط شراً تقول هذا تأبَّط شراً وكذلك إذا سميته ( بقاما ) قلت : هذا قاما ورأيت قاما ومررت بقاما وهذا قاموا ورأيتُ قاموا ومررت بقاموا وإن سميت ( بقام ) وفي قام ضمير الفاعل حكيته فقلت : هذا قام قد جاء ومررتُ بقام يا هذا تدعه على لفظه لأنك لم تنقله من فعل إلى اسم إنما سميت بالفعل مع الفاعل جميعاً رجلاً فوجب أن تحكيه فأما إن سميت ( بقام ) ولا ضمير فيه فهو مصروفٌ لأنه مثل بابٍ ودارٍ وقد نقلته من الفعل إلى الإسم ولو كان فعلاً لكان معه فاعلٌ ظاهر أو مضمرٌ وكذلك لو سميت بقولك : زيدٌ أخوكَ لقلت هذا زيد أخوكَ قد جاءَ ورأيت أخوكَ ومررت بزيدٌ أخوكَ تحكي الكلام كما كان فإن سميت رجلاً ( بضربتُ ) ولا ضمير فيه قلت : هذا ضَربه فتقف عليه بهاءٍ لأن الأسماء المؤنثة من هذا الضرب إذا وقفت عليها أبدلت التاء هاءً تقول : هذا سلمةُ قد جاءَ فإذا وقفت قلت : سلمهْ وكذلك ( ضربتُ ) إذا سميت بها خرجت عن لفظ الأفعال ولزمها ما يلزم الأسماء وليست التاء في ( ضربت ) اسماً ولو كانت اسماً لحكى وقد ذكرنا فيما تقدم أن هذه التاء إنما تدخل في فعل المؤنث لتفرق بينه وبين فعل المذكر وإذا سميت ( بضربتُ ) وفيها ضمير الفاعلة حكيت فقلت : هذا ضربتُ قد جاءَ ورأيت ضربتُ ومررت بضربت لأن فيه ضميراً ولو

أظهرت لقلت ضَرَبَت هِي وكل اسم صار علماً لشيءٍ وهو على مثال الأفعال في أوله زياداتها لا تصرفه فإن سميت بأضرب أو أقبل قطعت الألف ولم تصرفه فقلت : هذا أضرب قد جاء وأذهب وأقبل قد جاء لأن ألف الوصل إنما حقها الدخول على الأفعال وعلى الأسماء الجارية على تلك الأفعال نحو : استضرب استضراباً وانطلق انطلاقاً فأما الأسماء التي ليست بمصادر جاريةٍ على أفعالها فألف الوصل غير داخلة عليها وإنما دخلت في أسماء قليلة نحو : ابنٍ وامرىءٍ واستٍ وليس هذا بابُها وإن سميت رجلاً ( بتضاربَ ) صرفته لأنه ليس على مثال الفعل فتقول : هذا تضاربُ قد جاءَ ومررت بتضاربٍ فإن صغرته وهو معرفة قلت : تُضَيرِبُ فلم تصرفه لأنه قد ساوى تصغير ( تَضرِب ) وأنت لو سميت رجلاً ( بتضربَ ) ثم صغرته وأنت تريد المعرفة لم تصرفه
وأفعل منك لا يصرف نحو : أفضل منك وأظرفَ منكَ لأنه على وزن الفعل وهو صفة فإن زال وزن الفعل انصرف ألا ترى أن العرب تقول : هو خيرٌ منك وشرٌ منكَ لما زال بناء ( أَفعلَ ) صرفوه فإن سميت بأفعلَ مفرداً أو معها ( منكَ ) لم تصرفها على حال وأما أجمعُ وأكتعُ فلا ينصرفان لأنهما على وزن الفعل وهما معرفتان لأنهما لا يوصف بهما إلا معرفة فإن ذكرتهما صرفتهما وإن سميت رجلاً ضربوا فيمن قال : أكلوني البراغيثُ قلت : هذا ضربونَ قد جاءَ من قبل أن هذه الواو ليست بضمير فلما صار اسماً صار مثل ( مسلمونَ ) والإسم لا يجمع بواو ولا نونٍ معها ومن قال مسلمين قالت : ضَربينَ وكذلك لو سميت ( بضَربا ) قلت : ضربانِ قد جاءَ فيمن قال : أكلوني البراغيثُ ومن قال : مسلمينَ وعشرينَ لم يقل في مسلمات ملسمينَ لأن ذاك لما صار اسماً لواحدٍ شبه بعشرينَ ويبرينَ
الثاني : الصفة التي تتصرف :
وذلك نحو : أفعلَ الذي لَهُ فَعْلاءُ نحو أحمرَ وحمراءَ وأصفرَ وصفراءَ وأعمى وعمياءَ وأحمرُ لا ينصرف لأنه على وزن الفعل وهو

صفةٌ وحمراءُ لا تتصرفُ لأن فيها ألف التأنيث وهي مع ذلك صفة ولو كان ألف التأنيث وحدها في غير صفةٍ لم تنصرف ونحن نذكر ذلك في باب التأنيث والصفة لا تكون معرفة إلا بالألف واللام وكل بناء دخلته الألف واللام فهو منصرفٌ ومتى صارت الصفة اسماً فقد زال عنها الصفة فأما قائمةٌ وقاعدةٌ وما أشبه ذلك إذا وصفت بها فهو منصرفٌ لأن هذه الهاء إنما دخلت فرقاً بين المذكر والمؤنث وهي غير لازمةٍ فهي مثل التاء في الفعل إذا قلت : ضربتُ وضربتَ وإنما يعتد بالتأنيث الذي لم يذكر للفرق وأجازوا مثنىً وثلاثَ ورباعَ غير مصروفٍ وذكر سيبويه أنه نكرةٌ وهو معدولٌ فقد اجتمع فيه علتان وإذا حقرت ثُناء وأحادَ صرفته لأنك تقول أحُيَدٌ وثُنيٌ فيصير مثل حُمَيرٍ فيخرج إلى مثال ما ينصرف
الثالث التأنيث :
والمؤنث على ضربين : ضرب بعلامةٍ وضرب بغير علامة فأما المؤنث الذي بالعلامة فالعلامةُ للتأنيث علامتان : الهاءُ والألفُ فالأسماء التي لا تنصرف مما فيها علامة فنحو : حَمْدَة اسم امرأة وطلحةَ اسم رجل لا ينصرفان لأنهما معرفتان وفيهما علامة التأنيث فإن نكرتهما صرفتهما تقول : مررت بحمدَة وحَمْدةٍ أخرى وبطلحةَ وطلحةٍ آخرَ وكل اسم معرفة فيه هاء التأنيث فهو غير مصروف فأما ألف التأنيث فتجيء على ضربين : ألف مفردة نحو بُشرى وخبلَى وسكرى وألف قبلها ألف زائدة نحو : صحراء وحمراءَ وخُنْفَساءَ وكل اسم فيه ألف التأنيث ممدودةً أو مقصورة فهو غير مصروف معرفة كان أو نكرة فإن قال قائل فما العلتان اللتان أوجبتا ترك صرف بُشرى وإنما فيه ألف للتأنيث فقط قيل : هذه التي تدخلها الألف

يبنى الإسم لها وهي لازمة وليست كالهاء التي تدخل بعد التذكير فصارت للملازمة والبناء كأنه تأنيث آخر وتضارع هذه الألفُ الألفَ التي تجيء زائدةً للإِلحاق إذا سميت بما يكون فيه وذلك نحو : ألف ذِفْرَى وعَلْقَى فيمن قال : عَلْقاةٌ وحَبنَطى فإن سميت بشيءٍ منها لم تصرفه لأنها ألفٌ زائدةٌ كما إن ألف التأنيث زائدة وقد امتنع دخول الهاء عليها في المعرفة وأشبهت ألف التأنيث لذلك
وحق كل ألف تجيء زائدةً رابعةً فما زاد أن يحكم عليها بالتأنيث حتى تقوم الحجة بأنها ملحقة لأن بابها إذا جاءت زائدةً رابعةً فما زاد فللتأنيث لكثرة ذلك واتساعه والإِلحاق يحتاج إلى دليل لقلته والدليل الذي تعلم به الألف الملحقة أن تنون وتدخل عليها هاءٌ نحو من جعل عَلقىً ملحقةً فنون وألحق الهاء فقال : عَلقاةٌ ولهذا موضع يبين فيه وإنما شبهت ألفُ حبَنَطْىَ بألف التأنيث كما يثبت الألف والنون في عثمان بالألف والنون في غَضبْانَ لما تعرف عثمان وصار لا يدخله التأنيث فإن صغرت عَلْقَى اسم رجل صرفته وإن سميت رجلاً بمعزَى لم تصرفه وإن صغرته لم تصرفه أيضاً لأنه اسمٌ لمؤنثٍ فأما من ذكر معزى فهو يصرفه وتَترى فيها لغتان كعَلْقَى فأما أرَطْى ومعْزى فليس فيه إلا لغة واحدة الإِلحاق والتنوين فإن سميت بهما لم تصرفهما كما ذكرت لك وإن سميت بعِلبَاء صرفته لأنه ملحقٌ بسرداحُ تقول عُليبى كما تقول : سُرَيْديحٌ ولو كانت للتأنيث لقلت عُلَبياءٌ
وأما التأنيث بغير علامةٍ فنحو : زينب وسعادَ لا ينصرفان لأنهما اسمان لمؤنث وإن سميت امرأة باسمٍ على أربعة أحرف أصلية أو فيها زائدةٌ فما زاد لم يصرف لأن الحرف الرابع بمنزلة الهاء لأن الهاء لا تكون إلا رابعةً فصاعداً إلا في اسم منقوص نحو : ثُبَةٍ وكذلك إن سميت مذكراً باسم مؤنث لا علامة فيه ولم تصرفه نحو رجل سميته بعناق وسعادَ وقالوا : إنّ أسماءَ اسم رجلٍ إنما لم يصرف وهو جمع

اسم على أفعال وحق هذا الجمع الصرفُ لأنه من أسماء النساء فلما سمي به الرجلُ لم يصرف ولو قال قائل : إنما هو فعلاءُ أرادوا أسماء وأبدلوا الواوَ همزةً كما قال في وسادةٍ إسادةٍ لكان مذهباً فإن سميت مؤنثا باسم ثلاثي متحرك الأوسط فهو غير مصروف نحو : امرأة سميتَها بقدَمٍ فإن كان الثلاثي ساكن الأوسط نحو : هنْدٍ ودَعْدٍ وجُمْلِ فمن العرب من يصرف لخفة الإسمِ وأنه أقل ما تكون عليه الأسماء من العدد والحركة ومنهم من يلزم القياس فلا يصرف فإن سميت امرأة باسم مذكرٍ وإن كان ساكن الأوسط لم تصرفه نحو زيدٍ وعمروٍ لأن هذه من الأخف وهو المذكر إلى الأثقل وهو المؤنث فهذا مذهب أصحابنا وهو في هذا الموضع نظير رجلٍ سميته بسعادَ وزينبَ وجيَأَلَ فلم تصرفه لأنها أسماءٌ اختص بها المؤنث وهو على أربعةِ أحرف والرابع كحرف التأنيث وإن سموا رجلاً بقَدَمٍ وخَشلٍ صرفوه وحقروهُ فقالوا : قُدَيمٌ
الرابع : الألف والنون اللتان يضارعان ألفي التأنيث :
اعلم : أنهما لا يضارعان ألفي التأنيث إلا إذا كانتا زائدتين زيدا معاً كما زيدت ألفا التأنيث معاً وإذا كانتا لا يدخل عليهما حرف تأنيث كما لا يدخل على ألفي التأنيث تأنيثٌ وذلك نحو : سكرانَ وغضبانَ لأنك لا تقول : سكَرانة ولا غضبانةٌ إنما تقول : غَضْبَى وسَكَرى فلما امتنع دخول

حرف التأنيث عليهما ضارعا التأنيث وكذلك كل اسمٍ معرفةٍ في آخره ألفٌ ونونٌ زائدتان زيدا معاً فهو غير مصروفٍ وذلك نحو : عثمانَ اسم رجلٍ لا تصرفه لأنه معرفة وفي آخره ألفٌ ونونٌ وهما في موضع لا يدخل عليهما التأنيث لأن التسمية قد حظرت ذلك فهذا مثل حَبَنْطَى وذِفْرى إذا سميت بهما لما حظرت التسمية دخول الهاء اشبهت الألفُ ألفَ التأنيث فلم تصرف في المعرفة وصرف في النكرة وكذلك عثمان غير مصروف في المعرفة فإن نكرته صرفته لأنه في نكرته كعطشانَ الذي له عطشى وكذلك إذا سميته بِعُريانَ وسرحانَ وضُبعانَ لم تصرفه فإن نكرته صرفته وإن حقرت سرحان اسم رجلٍ صرفته فقلت : سُريحينٌ لأنه ملحقٌ بسرداحَ في نكرته ولكنك إن حقرت عثمانَ فقلت : عُثيمانُ لم تصرفه وتركت الألف والنون على حالهما كما فعلت بألفي التأنيث إذا قلت : حُمَيراءُ فعثمانُ مخالفٌ كسرحانَ كأنه إنما بني هذا البناء في حال معرفته وهذا يبين في التصغير وإن سميت بطحَان من الطحنِ وسمانَ من السمنِ وتبانَ من التبن صرفت جميع ذلك وإن سميت بدهقانَ من الدهقِ لم تصرفه وإن سميته من التدهقن صرفته
وكذلك شيطان إن كان من التشيطنِ صرفته وإن كان من شَيَّطَ لم تصرفه وقال سيبويه : سألتُ الخليل عن رُمّانَ فقال : لا أصرفه وأحمله على الأكثر إذا لم يكن له معنى يعرف يعني أنه إذا سمي لم يصرفه في المعرفة لأنه لا يدري من أي شيءٍ اشتقاقه فحمله على الأكثر والأكثر زيادة الألف والنون قال : وسألته عن سَعْدانَ ومَرْجانَ

فقال : لا أشكُّ في أن هذه النونَ زائدةٌ لأنه ليس في الكلام مثل : سِرداحَ ولا فَعْلالٍ إلا مضعفاً ولو جاء شيء على مثال جَنْجَانَ لكانت النون عندنا بمنزلة نون مُرّان إلا أن يجيء أمرٌ يبين أو يكثر في كلامهم فيدعوا صرفه قال أبو العباس : صُرف جَنْجانُ لأن المضاعف من نفس الحرف بمنزلة خَضْخَاضٍ ونحوه فأما عَوْغَاء فيختلف فيها فمنهم من يجعلها كخَضْخاضٍ فيصرف ومنهم من يجعلها بمنزلة عوراءُ فلا يصرف
الخامس : التعريف :
متى ما اجتمع مع التعريف التأنيث أو وزن الفعل أو العجمة أو العدل أو الألف والنون لم يصرف فالتأنيث نحو : طلحةَ وحَمْزة وزينبَ اجتمع في هذه الأسماء أنها مؤنثات وأنها معارفٌ والألف والنون مثل عثمان والعدل مثل عُمَر وسَحَر ووزن الفعل مثل أحَمَد ويشكَر والعجمة نحو : إبراهيم وإسماعيل ويعقوبَ فجميع هذه لا تصرف لإجتماع العلتين فيها فإن سميت بيعقوب وأنتَ تريد ذكر القبح صرفته لأنه مثل يربوعَ فأما الصفة والجمع فإنهما لا يجتمعان مع التعريف بالتسمية لأن الصفة إذا سمي بها زال عنها معنى الصفة والجمع لا يكون معرفة أبداً إلا بالألف واللام فإن سميت بالجمع الذي لا ينصرف رجلاً نحو : مساجد لم تصرفه وقلت : هذا مساجدُ قد جاءَ إنما لم يصرف لأنه معرفة وإنه مثالٌ لا يكون في الواحد فأشبه الأعجمي المعرفة فإن صغرته صرفته فقلت : مُسَيجِدٌ لأنه قد عاد

البناء إلى ما يكون في الواحد مثله وصار مثل مُييسِرٍ وقال سيبويه : سَراويلُ واحدٌ أعرب وهو أعجمي وأشبه من كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرةٍ فهو مصروفٌ في النكرة
وإن سميت به لم تصرفه وإن حقرته اسم رجلٍ لم تصرفه لأنه مؤنث مثل عَنَاق وعَنَاق إذا سميت به مذكراً لم تصرفه وأما شراحيلٌ فمصروفٌ في التحقير لأنه لا يكون إلا جمعاً وهو عربيٌّ وقال الأخفش : الجمعُ الذي لا ينصرفُ إذا سميتَ بِه إنْ نكّرتهُ بعد ذل لك لم تصرفه أيضاً
السادس : العدل :
ومعنى العَدْلِ أن يشتق من الإسم النكرة الشائع اسمٌ ويغير بناؤه إما لإِزالة معنى إلى معنى وإما لأن يسمى به فأما الذي عُدل لإِزالة معنى إلى معنى فمثنى وثلاث ورباع وآحادَ فهذا عُدِلَ لفظه ومعناه عُدِلَ عن معنى اثنين إلى معنى اثنين اثنين وعن لفظ اثنين إلى لفظ مثنى وكذلك أحاد عُدِلَ عن لفظ واحد إلى لفظ أحاد وعن معنى واحد إلى معنى واحد واحد وسيبويه يذكر أنه لم ينصرف لأنه معدول وأنه صفةٌ ولو قال قائلٌ : إنه لم ينصرف لأنه عُدل في اللفظ والمعنى جميعاً وجعل ذلك لكان قولاً : فأما ما عُدل في حال لتعريف فنحو : عُمَرَ وزُفرَ وقثم عُدلنَ عن عامرٍ وزافرٍ وقاَئَمَ أما قولهم : يا فسقُ فإنما أرادوا : يا فاسقُ وقد ذكر في باب النداء وسحرُ إذا أردت سحر ليلتك فهو معدول عن الألف واللام فهو لا يصرف تقول : لقيتُهُ سَحَر ياهذا فاجتمع فيه التعريف

والعدل عن الألف واللام فإن أردت سحراً من الأسحار صرفته وإن ذكرته بالألف واللام أيضاً صرفته فأما ما عُدِلَ للمؤنث فحقه عند أهل الحجاز البناء لأنه عُدل مما لا ينصرف فلم يكن بعد ترك الصرف إلا البناء
ويجيء على ( فَعالِ ) مكسور اللام نحو : حَذامِ وقَطامِ وكذلك في النداء نحو : يا فساقِ ويا غَدارِ ويا لكاعِ ويا خباثِ فهذا اسم الخبيث واللكعاء والفاسقة وفَعالِ في المؤنث نظيرُ فَعَلٍ في المذكر وقد جاء هذا البناء اسماً للمصدر فقالوا : فَجارِ يريدونَ : فَجْرةَ وبَدادِ يريدون : بدداً ولا مَساسِ يريدون : المسَّ ويجيء اسماً للفعل نحو : مَناعَها أي امنَعْهَا وحَذارِ اسم احذر ومما عُدل عن الأربعة : قَرْقَارِ يريدون : قَرقِرْ وعرعَارِ وهي لعبة ونظيرها من الثلاثة : خراجِ أي أخرجوا وهي لعبة أيضاً وجميع ما ذكر إذا سمي به امرأة فبنو تميم ترفعه وتنصبه وتجريه مجرى اسمٍ لا ينصرفُ فأما ما كان آخره راء فإن بني تميم وأهل الحجاز يتفقون على الحجازية وذلك : سَفارِ وهو اسم ماءٍ وحضارِ اسم كوكبٍ قال سيبويه : يجوزُ الرفع والنصب قال الأعشى :
( ومَرَّ دهرٌ عَلى وبَارِ ... فهَلكتْ جَهْرَةً وَبارُ )

وجمع هذا إذا سمي به المذكر لم ينصرف لأن هذا بناءٌ بني للتأنيث وحرك بالكسر لذلك لأن الكسرة من الياء والياءُ يؤنثُ بها وهو متصرف في النكرة ومنهم من يصرف رقاش وعَلابِ إذا سمي به كأنهُ سمي بصباح وإذا كان اسماً على فعال لا يدري ما أصله بالقياس صرفه لأنه لم يعلم له علةٌ توجبُ إخراجُه عن أصله وأصل الأسماء الصرف وكل ( فَعال ) جائزٌ متى كانت من ( فَعَل أو فعُلَ أو فعِلَ ولا يجوز من أفعْلتُ ) لأنه لم يسمع من بنات الأربعة إلا قَرْقَار وعَرْعَارِ وفَعالِ إذا كان أمراً نصب بعده وليس يطرد ( فَعالِ ) إلا في النداء وفي الأمر
السابع : الجمع الذي لا ينصرف :
وهو الذي ينتهي إليه الجموع ولا يجوز أن يجمع وإنما مُنع الصرف لأنه جمعُ جمعِ لا جمع بعده ألا ترى أن أكلبُاً جمع كَلْبٍ فإن جمع أَكلُباً قلت : أكالبُ فهذا قد جمع مرتين فكل ما كان من هذا النوع من الجموع التي تشبه التصغير وثالثهُ ألفٌ زائدةٌ كما أن ثالث التصغير ياءٌ زائدة وما بعده مكسور كما أن ما بعد ثالث التصغير مكسور فهو غير منصرف وذلك نحو : دراهم ودنانير فدراهم في الجمع نظير دُريهم في التصغير ودنانير نظير دُنينير فليس بين هذا الجمع وبين التصغير إلا ضمة الأول في التصغير وفتحةً في الجمع وإن ثالث التصغير ياءٌ وثالثُ هذا ألفٌ فهذا الجمع الذي لا ينصرف
فإن أدخلت الهاء على هذا الجمع انصرف وذلك نحو : صياقلةٍ لأن الهاء قد شبهته بالواحد فصار كمدائني لما نسبت إلى مدائن

انصرف وكان قبل التسمية لا ينصرف الإِعراب على الباء كما وقع على ياء النسب فإن كان هذا الجمع فيما لامهُ ياء
مثل جَوارٍ نونت في الجر والرفع لأن هذه الياء تحذف في الوقت في الجر والرفع فعوضت النون من ذلك وإذا وقعت موضع النصب بنيت الياء ولم تصرف وقلت : رأيت جواري يا هذا
وقال أبو العباس رحمه الله : قال أبو عثمان : كان يونس وعيسى وأبو زيد والكسائي ينظرون إلى جوار وبابه أجمع فكل ما كان نظيره من غير المعتل مصروفاً صرفوه وإلا لم يصرفوه وفتحوه في موضع الجر كما يفعلون بغير المعتل يسكنونه في الرفع خاصةً وهو قول أهل بغداد والصرف الذي نحن عليه في الجر والرفع هو قول الخليل وأبي عمرو بن العلاء وابن أبي اسحاق وجميع البصريين قال أبو بكر : فأما الياء في ( ثمانٍ ) فهي ( ياءُ نسبٍ ) وكان الأصل ثمني مثل يمني فحذفت إحدى اليائين وأبدلت منها الألف كما فُعَل ذلك بيمني حين قالوا : يَمانٍ يا هذا وقد جعل بعض الشعراء ثماني لا ينصرف
قال الشاعر :
( يَحْدو ثَماني مولعاً بلقاحِها ... )
وأما بخاتي فلا ينصرف لأن الياء لغير النسب وهي التي كانت في بُختية وكذلك كُرسي وكَراسي وقُمْري وقَماري

الثامن : العجمة :
الأسماء الأعجمية الأعلام غير مصروفة إذا كانت العرب إنما أعربتها في حال تعريفها نحو : إسحاق وإبراهيم ويعقوب لأن العرب لم تنطق بهذه إلا معارف ولم تنقلها من تنكير إلى تعريف فأما ما أعربته العرب من النكرات من كلام العجم وأدخلت عليه الألف واللام فقد أجروه مجرى ما أصل بنائه له وذلك نحو : ديباجٍ وإبريسم ونيروزَ وفِرْنِد وزنجبيلَ وشهريزَ وآجر فهذا كله قد أعربته العرب في نكرته وأدخلت عليه الألف واللام فقالوا : الديباج والشهريزُ والنيروزُ والفِرنِدُ فجميع هذا إذا سميت به مذكراً صرفته لأن حكمه حكم العربي فإن كان الإسم العلمُ ثلاثياً صرفوه لخفته نحو : نُوحٍ ولُوطٍ ينصرفانِ على كل حالٍ
التاسع : الإسمان اللذان يجعلان اسماً واحداً :
والأول منهما مفتوح والثاني بمنزلة ما لا ينصرف في المعرفة ويتصرف في النكرة وهو مشبه بما فيه الهاء لأن ما قبله مفتوحٌ كما أن ما قبل الياء مفتوح وهو مضموم إلى ما قبله كما ضمت الهاء إلى ما قبلها وذلك نحو : حضرموت وبعلبكَ ورامُ هُرمز ومارسَرْجِس ومنهم من يضيف ويصرف ومنهم من يضيف ولا يصرف ويجعل
كَرِبَ في ( معدي كرب ) مؤنثاً ومنهم من يقول : معد يكرَب يجعله اسماً واحداً إلا أنهم لا يفتحون الياء

ويتركونها ساكنةً يجعلونها بمنزلة الياء في دردبيس وكذلك إذا أضافوا يقولون : رأيت معدي كرب يلزمون الياء الإسكان استثقالاً للحركةِ فيها

مسائل من هذا الباب
قال أبو العباس : قال سيبويه تصرفُ رجلاً سميته قيل أوردَ اللتين تقديرهما فُعِل فقيل له : لم صرفتهما وفعِلَ لا ينصرف في المعرفة لأنه مثال لا تكون عليه الأسماء فقال : لما سكنت عيناهما ذهب ذلك البناءُ وصارا بمنزلة فُعْلٍ وفَعْلٍ قيل له : فكيف تزعم أنك إذا قلت لَقَضْوُ الرجلُ ثم أسكنت على قول من قال في عَضُدٍ عَضْدٌ قلت : لَقَضْو الرجل ولم ترد الياء وإن كانت الضمة قد ذهبت لأنك زعمت تنويها وأنك لم تبنها على ( فعلٍ ) ولكنك أسكنتها من ( فَعْلٍ ) فذلك البناء في نيتك وكذلك تقول في ( ضوءٍ ) كما ترى إذا خففت الهمزة ( ضَوٌ ) فأثبت واواً طرفاً وقبلها حركةٌ ومثل هذا لا يكون في الكلام فقلت : إنما جاز هذا لأن حركتها إنما هي حركة الهمز لأنها الأصل فهي في النية واشباه هذا كثير فَلمَ لَم تترك الصرف في قيل وَردَّ اللتين هُما فَعلَ لأن الإِسكان عارض والحركات في النية قال : فالجواب في ذلك أنه حين قال لَقَضْوَ الرجلُ فأسكن الضاد إنما سكنها من شيءٍ مستعمل يتكلم به فالإِسكان فيه عارضٌ لأن قولهم المستعمل إنما هو لَقَضُوَ ثم يسكنون وكذلك الهمزة المخففة إنما المستعمل إثباتها ثم تخفف استثقالاً فيقولون : ضَوٌ وقَضْو استخفافاً وأما قيلَ وَردَّ فلا يستعملُ الأصلُ منهما البتة لا يقال : قَولَ ثم يخففُ ولا رَدُدَ فهذا يجري مجرى ما لا أصل له إلا ما يستعمل ولذلك قالوا في تصغير سماءٍ سُمَيةٌ

لأن هذه الياء لا يستعمل إلا حذفها فلذلك دخلت الهاء وصارت بمنزلة ما أصله الثلاثة وقياس هذا القول أنك إذا سميت رجلاً : ( ضَرَبَ ) ثم أسكنت فقلت ضَرْب لم تصرفه لأن الأصل يستعمل وإن أسكنت فقلت ( ضَرْبُ ) التي هي فَعْلٌ ثم سميت بها مسكنة وجب أن تصرف لأن الأصل لم يقع في الإسم قط وأنه لم يُسمَ به إلا مسكناً والدليل على ذلك أنهم إذا سموا رجلاً جيأَلَ ثم خففوا الهمزة قالوا : جمل ولم يصرفوه وقال : سُئل التوزي وروي عن أبي عبيدة أنه يقال للفرس الذكرِ لُكَعُ والأنثى لُكَعةُ فهل ينصرف لُكَع على هذا القول فالجواب في ذلك : أن لُكَعاً هذه تنصرف في المعرفة لأنه ليس ذلك المعدول الذي يقالُ للمؤنث منه ( لكاعِ ) ولكنه بمنزلة : حُطَمٍ وإن كان حَطْمٌ صفةً لأنه اسم ذكره من باب صُرَدٍ ونَغْرٍ فلم يؤخذ من مثال عامرٍ فيعدلُ في حالة التعريف إلى عُمَر ونحوه وقال : الأسماء الأعجمية التي أعربتها العرب لا يجيءُ شيءٌ منها على هيئته وأنت إذا تفقدت ذلك وجدته في إبراهيم وإسحاق ويعقوبُ وكذلك فرعونُ وهامانُ و ما أشبهها لأنها في كلام العجم بغير هذه الألفاظ فمن ذلك أن إبراهيم بلغة اليهود منقوص الياء ذاهب الميم وأن سارة لما أعربها نقصت نقصاً كبيراً وكذلك إسحق والأسماء العربية ليس فيها تغييرٌ ويبين ذلك أن الإشتقاق فيها غير موجودٍ ولا يكون في العربية نعتٌ إلا باشتقاقٍ من لفظه أو من معناه ولو قال قائل : هل يجوز أن يصرف إسحاق كنت مشتركاً إن كان مصدر إسحاق السفرُ إسحاقاً تريد : أبَعَدَه إبعاداً فهو مصروفٌ لأنه لم يغير والسحيقُ : البعيدُ قال الله عز و جل : ( أو تهوي به

الريحُ في مكانٍ سحيقٍ ) وإن سميته إسحاق اسم النبي تصرفه لأنه قد غير عن جهته فوقع في كلام العرب غير معروف المذهب وكذلك يعقوب الذي لم يغير وإنما هو اسم طائر معروف قال الشاعر :
( عَالٍ يُقَصّرُ دونَهُ اليعقوبُ ... )
فإذا سمينا بهذا صرفناه وإن سميناه يعقوب اسم النبي لم تصرفه لأنه قد غير عن جهته فوقع غير معروف المذهب وإنما جاء في القرآن في مواضع من صرف عاد وثمود وسبأ فالقول فيها : أنها أسماء عربية وأن القوم عرب في أنفسهم فقولُه عز و جل : ( وعادا وثمودا وأصحاب الرس ) وإنما هم آباء القبائل كقولك : جاءتني تميم وعامر إنما هو قبيلة تميم وقبيلة عامر فحذف قبيلة كقولك : واسأل القرية فأما عاد فمنصرف اسم رجل على كل حال لأن كل عجمي لا علامة للتأنيث فيه على ثلاثة أحرف فهو مصروف وأما ثمودُ فهو فعول من الثَّمَدِ وهو الماء القليل فمن صرفه جعله أباً للحي والحي نفسه وأما سبأ فهو جد بني

قحطان والقول فيه كالقول في ثمود وعاد والأغلب فيه أنه الأب والأكثر في القراءة : ( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية ) و ( وجئتك من سباءٍ ببنأ يقين ) وتقول : هو اسم امرأة وهي أمهم وليس هذا بالبعيد قال النابغة الجعدي :
( مِنْ سبأَ الحاضرينَ مأَرب إذْ ... يبنونَ من دونِ سيلهِ العَرِما )
مأرب : موضع والعرمُ : هذا الذي يسمى السكر والسكر فهو من قولك : سميته سكراً
والسِّكْرُ : اسم الموضع وتقول : كل أفعل يكون وصفاً وكل أفعل يكون اسماً وكل أفعل أردت به الفعل نصب أبداً لأنَّ ( كل ) لا يليها اسم علم إلا أن تريد كل أجزائه فأما إذا وليها اسم مفرد يقوم مقام الجمع فلا يكون إلا نكرة وقد بنيتُ ذا فيما تقدم وتقول : أفعل إذا كان وصفاً فقصته كذا فتترك صرفه كما تترك صرف أفعل إذا كان معرفة وإنما صار معرفة لأنك إذا أردت هذا البناء فقط وهذا الوزن فصار مثل زيد الذي يدل على شيء بعينه ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول الأفعل وإذا كان كذا فقضيته كذا لأنه لا ثاني له

فإن قلت : هذا رجلُ أفعلٌ فلا تصرفه لأنه موضع حكاية حكيت بها رجلاً أحمر كقولك : كلُّ أفعلَ زيدٌ نصب أبداً إذا مثلت به الفعل خاصة وتقولُ : هذا رجل فعلان فتصرف لأنه قد يكون هذا البناء منصرفاً إذا لم يكن له فعلى فإن قلتُ فعلان إذا كان من قصته كذا فجئت به اسما لا يشركه غيره لم تصرف وتقول : كل فَعْلَى أو فِعْلَى كانت ألفها لغير التأنيث انصرفت وإن كانت الألف جاءت للتأنيث لم تنصرف لأن ما فيه ألف التأنيث لا ينصرف في معرفة ولا نكرة وقال الأخفش : لو سميت رجلاً بخمسة عشر لقلت : هذا خمسةَ عشرَ قد جاء وهذا خمسةَ عشر آخرَ ومررت بخمسة عشر مقبلاً وتقول : بلال اباذ : ومثل ذلك مائة دينار يعني إذا جعلت مائة مع دينار اسماً واحداً قال أبو بكر : وما استعملته العرب مضافاً وعرف ذلك في كلامها فلا يجوز عندي أن يجعل المضاف والمضاف إليه بمنزلة خمسة عشر من قبل أنهم قد فرقوا بين مائة دينار وخمسة عشر لأن خمسة عشر عددان فجعلا اسماً واحداً للمعنى وهما بمنزلة عشرة لإختلاط العدد بعضه ببعض ومائة دينار ليس كذلك لأن ديناراً هو مفسر المعدود والذي ذهب إليه الأخفش : أن مائة دينار إضافته غير إضافة حقيقية لأنه مميز وليس كإضافة صاحب دينار ولا إضافة عبد الله واعلم أن من أضاف معدي كرب وحضر موت يقول : هذا رامهرمز يا فتى فترفع ( رام ) ولا تصرف هرمز لأنه أعجمي معرفة
واعلم : أنه لا يصلح أن يجعل مثل : مدائن محاريب ولا مثل : مساجد محاريب ولا مثل : جلاجل سلاسل اسماً واحداً مثل حضرموت لأنه لم يجيء شيء من هذه الأمثلة اسمان يكون منهما اسماً واحداً فإن جاء فالقياس فيه أن يجعل كحضرموت وأن ينصرف في النكرة وقال الأخفش : إنما صرفته لأني قد حولته إلى باب ما ينصرف في النكرة وخرج من حد

البناء الذي لا ينصرف لأني إنما كنت لا أصرفه لأنه على مثال لا يجيء في الواحد مثله وأنت الآن لا يمنعك البناء
ألا ترى أنك حين أدخلت في الجمع الهاء صرفته في النكرة نحو : صياقلة وجحاجحة لما دخل في غير بابه قال : فإن قلت : ما بالي إذا سميت رجلاً بمساجد لم أصرفه في النكرة قلت على بناء منعه من الصرف ولم يزل لذلك البناء حيث سميت به وإذا سميته بمساجد محاريب وجعلته اسماً واحداً فقد صغته غير الذي كان وبنيته بناء آخر وكذلك لو سميت رجلاً بواحد حمراء وواحدة بشرى أو رجل بيضاء وأنت تريد أن تجعله اسماً واحداً مثل حضرموت انصرف في النكرة لأن الألف ليست للتأنيث في هذه الحال ألا ترى أنك لو رخّمته حذفت الإسم الآخر ولم تكن تحذف الهاء وينبغي في القياس إن بنيته أن تهمز فتقول واحدة حمران ورجل بيضان لأن الألف ليست للتأنيث عنده في هذه الحال ولو أسميت امرأة ببنت وأخت لوجب أن يجريهما مجرى من أجرى جملاً وهنداً لأن هذه التاء بدل من واو وأخت في التقدير كقفل وبنت كَعِدْلٍ ولو كانت التاء تاء التأنيث لكان ما قبلها مفتوحاً وكانت في الوقف هاء وقوم لا يجرونها في المعرفة فإن سميت رجلاً بهنة وقد كانت في هَنْتٍ ياء هذا قلت : هِنَه يا فتى فلم تصرف وصارت هاء في الوقف وتقول : ما في يدك إلا ثلاثة إذا أردت المعرفة والعدد فقط لأنه اسم لا ثاني له وهذا كما عرفتك في ( أفعل ) البناء الذي تريد به المعرفة فإذا أردت ثلاثة من الدراهم وغير ذلك تنكر وصرفته فأما إذا قلت : ثلاثة أكثر من اثنين وأقل من أربعة تريد هذا العدد فهو معرفة غير مصروف ولا يجوز : رُب ثلاثة أكثر

من اثنين ولو سميت امرأة بغلام زيدٍ لصرفت زيداً لأن الإسم إنما هو غلام زيدٍ جميعاً والمقصود هو الأول كما كان قبل التسمية وكذلك : ذات عرق لأن الإسم ( ذات ) دون عرق وكذلك أم بكر وعمرو تجر بكراً وعمراً وكذلك أم أناس وقوم لا يصرفون أم أناس لأنه ليس بابن لها معروف فصار اسماً وينشدون :
( وإلى ابن أُمِّ أُناسَ تَعمدُ ناقتي ... )
واعلم : أن أسماء البلدان والمواضع ما جاء منها لا ينصرف فإنما يراد به أنه اسم للبلدة والبقعة وما أشبه ذلك وما جاء منها مصروفاً فإنما يراد به البلد والمكان ووقع هذا في المواضع لأن تأنيثه ليس بحقيقي وإنما المؤنث في الحقيقة هو الذي له فرج من الحيوان فمن ذلك : واسط وهو اسم قصر ودابق وهو نهر وهجر ذكر ومنى ذكر والشام ذكر والعراق

ذكر وأما ما يذكر ويؤنث فنحو : مصر واضاخ وقباء وحراء وحجر وحنين وبدر ماء وحمص وجور وماه : لا ينصرف لأن المؤنث من الثلاثة الأحرف الخفيفة إن كان أعجمياً لم ينصرف لأن العجمة قد زادته ثقلاً وإنما صرفته ومن صرفه فلأنه معرفة مؤنث فقط لخفته في الوزن : فعادل في خفة أحد الثقلين فلما حدث ثقل ثالث قاوم الخفة وتقولُ : قرأت هوداً إذا أردت سورة هود فحذفت سورة وإن جعلته اسماً للسورة لم تصرف لأنك سميت مؤنثا بمذكر وإن سميت امرأة بأم صبيان لم تصرف ( صبيان ) لأنك لو سميت به وحده لم تصرفه لأن الألف والنون فيه زائدتان وقد صار معرفة وهو وإن كان لم تتقدم التسمية به فتحكمه حكم ذلك وإن سميت رجلاً بملح وربح صرفتهما كما تصرف رجلاً سميته بهند كأنك قد نقلته من الأثقل إلى الأخف وهو على ثلاثة أحرف وقد بيَّنا هذا فيما تقدم وكذلك إذا سميت رجلاً بخمس وست فاصرفه وإن سميت رجلاً بطالق وطامث فالقياس صرفه لأنك قد نقلته عن الصفة وهو في الأصل مذكر وصفت به مؤنثاً وحَمّارُ جمع حَمَّارةِ القيظ مصروف إذا أردت الجمع الذي بينه وبين واحدة الهاء
قال أبو العباس : سألت أبا عثمان عنه فصرفه فقلت : : لم صرفته هلاّ كان بمنزلة دوابٍ قال : لأن الأصل الباء الأولى في دواب الحركة والراء في ( حمارٍ ) ساكنة على أصلها تجري مجرى الواحد لأنه ليس بين الجمع والواحد إلا الهاء بمنزلة تمرةٍ وتمرٍ وأما إذا

أردت جمع التكسير فهو غير مصروف لأن التقدير حمار وكذلك في جبنة جبّان يا هذا وإن سميت رجلاً بأفضل وأعلم بغير منك لم تصرفه في المعرفة وصرفته في النكرة فإن سميته بأفعل منك كله لم تصرفه على حال لأنك تحتاج إلى أن تحكي ما كان عليه وإذا سميت بأجمع وأكتع لم تصرفه في المعرفة وصرفته في النكرة وهما قبل التسمية إذا كانا تأكيداً لا ينصرفان لأنهما يوصف بهما المعرفة
فأما أسماء الأحياء فمعد وقريش وثقيف وكل شيء لا يجوز لك أن تقول فيه من بني فلان وإذا قالوا : هذه ثقيف فإنما أرادوا جماعة ثقيفٍ
وقد يكون تميم اسماً للحي فإن جعلت قريش وأخواتها أسماء للقبائل جاز وتقولُ : هؤلاء ثقيف بن قسي فتجعله اسم الحي وابن صفة فما جعلته اسماً للقبيلة لم تصرفه وأما مجوس ويهود فلم تقع إلا اسماً للقبيلة ولو سميت رجلاً بمجوس لم تصرفه وأما قولهم : اليهود والمجوس فإنما أرادوا المجوسيين واليهوديين ولكنهم حذفوا يائي الإِضافة كما قالوا : زنجيٌ وزنجٌ ونصارى نكرة وهو جمع نصران ونصرانةٍ كندمان وندامى ولكن لم يستعمل نصران إلا بياء النسب
وقال أبو العباس : إذا سميت رجلاً بنساء صرفته في المعرفة والنكرة لأن نساء اسم للجماعة وليس لها تأنيث لفظ وإنما تأنيثها من جهة الجماعة فهي بمنزلة قولك كلاب إذا قلت : بني كلاب لأن تأنيث كلاب إنما هو تأنيث جماعة وإنما أنثت كل جماعة كانت لغير الآدميين لأنهم قد نقصوا عن الآدميين فالحيوان الذي لا يعقل والموات متفقان في جمع التكسير وإنما خص من يعقل بجمع السلامة لأن له أسماء أعلاما يعرف

بها وكان جمع السلامة يؤدي الإسم المعروف وبعده علامة الجمع فكان به أولى ولو أنك لا تخص الموات وما لا يعقل بالواو والنون وخصصت ما يعقل بالتكسير لكان السؤال واحدا وإنما قصدنا أن نفضله بمنزلة ليست لغيره وإنما قلت : هي الرجال لأن الرجال جماعة فكان هذا التأنيث تأنيث الجماعة وهو مشارك للموات في هذا الموضع إذا وافقه في جمع التكسير
والتأنيث تأنيثان : تأنيث حقيقي فهو لازم وتأنيث غير حقيقي فهو غير لازم فللتأنيث اللازم مثل امرأة وما أشبه ذلك والتأنيث الذي هو غير لازم مثل دار وذراع فإنما هذا تأنيث لفظ فلهذا كان تذكير أفعال المؤنث في غير الآداميين أحسن منه في الآداميين قال محمد بن يزيد : ناظرت ثعلباً في هذا بحضرة محمد بن عبد الله فلم يفهمه فقلت له : أخبرني عن قولنا : دار أليس هو مؤنث اللفظ قال : نعم قلت : فإذا قلنا : منزل هل زال معنى الدار أفلا ترى التأنيث إنما هو اللفظ فلما زال اللفظ زال ذلك المعنى وكذلك قولنا : ساعد وذراع ورمح وقناة أفتراه في نفسه مؤنثاً مذكراً في حال فقال له محمد بن عبد الله هذا بين جداً وليس كذلك ما كان تأنيثه لازماً ألا ترى أنا لو سمينا امرأة بجعفر أو بزيد لصغرنا زبيدة فلما كان مؤنث الحقيقة لم يغير عن تأنيثه تعليقنا عليه أسماء مذكرة في اللفظ وإنما قلت : قالت النساء بمنزلة جاءت الإِبل والكلاب وما أشبه ذلك وليس تأنيث النساء تأنيثاً حقيقياً وإنما هو اسم للجماعة تقولُ : قال النساء إذا أردت الجمع وقالت النساء إذا أردت معنى الجماعة لأن قولك النساء وما أشبهه إنما هو اسم حملته للجمع وكذلك قوله عز و جل : ( قالت الأعراب آمنا ) إنما أنث لأنه أراد الجماعة وتقول : في أسماء السور هذه هود إذا أردت سورة هود وإن جعلت هودا اسم السورة لم تصرفه لأنها بمنزلة امرأة سميتها

بعمر وكذا حكم نوح ونون وإذا جعلت اقتربت اسماً قطعت الألف نحو : اصبع وإن سميت بحاميم لم ينصرف لأنه أعجمي نحو : هابيل وإنما جعلته أعجمياً لأنه ليس من أسماء العرب وكذلك : طس وحسن وإن أردت الحكاية تركته وقفاً وقد قرأ بعضهم : ( يس والقرآن ) و ( ق والقرآن ) جعله أعجمياً ونصب ( باذكر ) وأما صاد فلا تجعله أعجمياً لأن هذا البناء والوزن في كلامهم فإن جعلت اسماً للسورة لم تصرفه ويجوز أن يكون ( يس ) و ( ص ) مبنيين على الفتح لإلتقاء الساكنين فإن جعلت ( طسم ) اسماً واحداً حركت الميم بالفتح فصار مثل دراب جرد وبعل بك وإن حكيت تركت السواكن على حالها قال سيبويه : فأما : ( كهيعص ) و ( ألم ) فلا تكونان إلا حكاية وإنما أفرد باباً للحكاية إن شاء الله
وقال سيبويه : أبو جاد وهَوَّار وحُطّيٌ كعمرو وهي أسماء عربية وأما كَلَمَنْ وسَعْفَص وقُريشيات فأنهن أعجمية لا ينصرفن ولكنهن يقعن مواقع عمرو فيما ذكرنا إلاّ أن قريشيات بمنزلة عرفات وأذرعات

باب ما يحكى من الكلم إذا سمي به وما لا يجوز أن يحكى
اعلم : أن ما يُحكى من الكلم إذا سمي به على ثلاث جهات : إحداها : أن تكون جملة والثاني أن يشبه الجملة وهو بعض لها وذلك البعض ليس باسم مفرد ولا مضاف ولا فيه ألف ولا مبني مع اسم ولا حرف معنى مفرد والثالث : أن يكون اسماً مثنى أو مجموعاً على حد التثنية
الأول : نحو : تأبّط شراً وبرق نحره وذَرَّى حياً تقول : هذا تأبّط شراً ورأيت تأبّط شراً ومررت بتأبّط شراً وهذه الأسماء المحكية لا تثنى ولا تجمع إلا أنْ تقول : كلهم تأبّط شراً أو كلاهما تأبّط شراً ولا تحقره ولا ترخمه فجميع هذه الجمل التي قد عمل بعضها في بعض وتمت كلاماً لا يجوز إلا حكايتها وكذلك كل ما أشبه ما ذكرت من مبتدأ وخبره وفعل وفاعل وإن أدخلت عليها إنَّ وأخواتها وكان وأخواتها فجميعه يحكى بلفظه قبل التسمية وإن سميت رجلاً بو زيد أو وزيداً أو وزيدٌ حكيت لأن الواو عاملة تقوم مقام ما عطفت عليه
الضرب الثاني : الذي يشبه الجملة :
وهو على خمسة أضرب : اسم موصول واسم موصوف وحرف مع اسم وحرف مع حرفٍ وفعل مع حرف فجميع هذا تدعه على حاله قبل التسمية من الصرف وغير الصرف لأنك لم تسم بالموصول دون الصلة ولا بشيء من هذه دون صاحبه

الأول الإسم الموصول : نحو رجل سميته : خبراً منك ومأخوذاً بك أو ضارب رجلاً فتقول رأيت خيراً منك وهذا خير منك ومررت بخير منك فإن سميت به امرأة لم تدع التنوين وحكيته كما كان قبل التسمية من قبل أنه ليس منتهى الإسم كما أن بعض الجملة ليس بمنتهى الإسم
الثاني الموصوف : إن سميت رجلاً : زيدُ العاقلُ قلت : هذا زيدُ العاقلُ ورأيت زيداً العاقلَ وكذلك لو سميت امرأة لكان على هذا اللفظ وإن سميت رجلاً ( بعاقلة ) لبيبةٍ قلت : هذا عاقلة لبيبة ورأيت عاقلةً لبيبةً فصرفته لأنك تحكيه ولو كان الإسم عاقلةً وحدها لم تصرف فحكاية الشيء أن تدعه على حكمه ما لم يكن معه عاقل فإن كان معه عاقل أعملت العامل ونقلته بحاله
الثالث الحرف مع الإسم : وذلك إذا سميت إنساناً كزيدٍ وبزيدٍ وإن زيداً حكيته وحيثما وأنت تحكيهما لأن ( حيثما ) اسم وحرف وأنت التاء للخطاب والألف والنون هما الإسم وكذلك أمَا التي في الإستفهام حكاية لأنها مع ( ما ) دخلت عليهما الف الإستفهام ومما يحكى : كذا وكأي و ( ذلك ) يحكى لأن الكاف للخطاب وهذا وهؤلاء يحكيان لأن ها دخلت على ذا وأولاء
وإن سميت ( زيد وعمرو ) رجلاً قلت في النداء : يا زيداً وعمراً فنصبت ونونت لطول الإسم
الرابع الحرف مع الحرف : وذلك نحو : إنما وكأنما وأما وإن لا في الجزاء ولعل لأن اللام عندهم زائدة وكأن لأنها كاف التشبيه دخلت على ( أن ) فجميع هذا وما أشبهه يحكى
لخامس الفعل مع الحرف : وذلك هلم : إذا سميت به حكيته وإن أخليته من الفاعل وإن مسيت بالذي رأيت لم تغيره عما كان عليه قبل أن

يكون اسماً ولو جاز أن تناديه بعد التسمية لجاز أن تناديه قبلها ولكن لو سميته : الرجل منطلق بهذه الجملة لناديتها لأن كل واحد منهما اسم تام وذلك غير تام وإنما يتم بصلته وهو يقوم مقام اسم مفرد ولو سميته الرجل والرجلان لم يجز فيه النداء
الضرب الثالث :
من القسمة الأولى وهو التسمية بالتثنية والجمع الذي على حد التثنية وذلك إذا سميت رجلاً بسلمانِ وزيدانِ حكيت التثنية فقلت : هو زيدان ومررت بزيدين ورأيت زيدين فتحكي التثنية ولفظها وإن أردت الواحد وقد أجازوا أن تقول : هذا زيدان وتجعله كفعلان وإن سميت بجميع على هذا الحد حكيت فقلت : هذا زيدونَ ورأيت زيدين ومررت بزيدين ومنهم من يجعله كقنسرين فيقول : هذا زيدون ومسلمون وقد ذكرت ذا فيما تقدم وإن بجمع مؤنث قلت : هذا مسلمات ورأيت مسلماتٍ ومررت بمسلماتٍ تحكي : تقول العرب : هذه عرفات مباركاً فيها فعرفات بمنزلة آبانين ومثل ذلك أذرعات قال امرؤ القيس :
( تَنَوَّرْتُها مِنْ أَذْرِعَاتٍ وأهلُها ... بِيَثْرِبَ أَدْنى دَارِهَا نَظَرٌ عالي )

ومن العرب من لا ينون أذرعات ويقول : هذه قريشياتُ كما ترى شبهوها بهاء التأنيث في المعرفة لأنها لا تلحق بنات الثلاثة بالأربعة ولا الأربعة بالخمسة
قال أبو العباس أنشدني أبو عثمان للأعشى :
( تَخَيَّرَهَا أخو عَانَاتِ شَهرا ... )
فلم يصرف ذلك قال أبو بكر قد ذكرت ما ينصرف وبقي ذكر المبني المضارع للمعرف ونحن نتبع ذلك الأسماء المبنيات إن شاء الله تعالى

باب ما لا يجوز أن يحكى
هذا الباب ينقسم ثلاثة أقسام : وهو كل اسم مبني أو مضاف ملازم للإِضافة وأفردته أو فعل فارغ أو حرف قصدت التسمية به فقط فجميع هذه إذا سميت بشيء منها أعربته إعراب الأسماء الأول وإن نقص عما كانت عليه الأسماء
الأول : إن سميت بكم أو بمن قلت : هذا كم قد جاء لأن في الأسماء مثل دم ويد وإن سميت بهو قلت : هذا هو فاعلم وإن سميت به مؤنثاً لم تصرفه لأنه ضمير مذكر وإنما ثقلت ( هو ) لأنه ليس في كلامهم اسم على حرفين أحدهما ياء أو واو أو ألف وسمع منهم إذا أعربوا شيئاً من هذا الضرب التثقيل فإن سميت بذو قلت ذوّاً لأنك تقول : هاتان ذواتا مال فلما علمت الأصل رددته إلى أصله كما تكلموا به ولو لم يقولوا : ذوا ثم سمينا بذو لَما قلت إلا ذو وكان الخليل يقول : ذو أصل الذال على كل قول الفتح وإن سميت ( بفو ) قلت : فم ولو لم يكن قبل فم لقلت فوه مؤنثان وأين ومتى وثم وهنا وحيث وإذا وعند وعن فيمن

قال من عن يمينه ومنذ في لغة من رفع تصرف الجميع تحمله على التذكير حتى يتبين غيره وإن سميت كلمة بتحت أو خلف أو فوق لم تصرفها لأنها مذكرات يدل على تذكيرها تحت وخليف ذاك ودوين ولو كان مؤنثاً دخلت الهاء كما دخلت في قديديمةٍ ووريئةٍ
الثاني : التسمية بالفعل الفارغ من الفاعل والمفعول : إن سميت رجلاً بضرب أو ضُرِبَ أو يضرِب أعربته وقد عرفتك ما ينصرف من ذلك وما لا ينصرف وحكم نعم وبئس حكم الفعل إذا سميت به تقولُ هذا نعم وبئس وإن سميته أزمة قلت أزمٍ ورأيت أزمى وبيغزو قلت : يغزٍ ورأيت يغزى وإن سميته بعِهْ قلت : وعٍ وإن سميت برَه : قلت إرْأً

باب التسمية بالحروف
وذلك نحو إن إذا سميت بها قلت : هذا إن وكذلك أن وكذلك ليت وإن سميت بأن المفتوحة لم تكسر وإن سميت بلو واو زدت واواً فقلت لو واو وكان بعض العرب يهمز فيقول : لؤ وإن سميت ( بلا ) زدت ألفاً ثم همزت فقلتَ : لاء لأن الألف ساكنة ولا يجتمع ساكنان وإذا سميت بحرف التهجي نحو : باء وتاءٍ وثاء وحاء مددت فقلت : هذه باء وتاء وإذا تهجيت قصرت ووقفت ولم تعرب وفي ( زاي ) لغتان : منهم من يجعلها ( ككي ) ومنهم من يقول : زاي فإن سميته بزي على لغة من يجعلها ككي قلت : زي فاعلم وإن سميت بها على لغة من يقول : زايٌ قلت : زاءٌ وكذا واوٌ وآءٌ وسنبين هذا في التصريف وجميع هذه الحروف إذا أردت بالواحد منها معنى حرف فهو مذكر أردت به معنى كلمةٍ فهو مؤنث وإن سميت بحرف متحرك أشبعت الحركة إن كانت فتحةً جعلتها ألفاً وضممت إليها ألفاً أخرى وإن كانت كسرة أشبعتها حتى تصير باء وتضم إليها أخرى وكذلك المضموم إذا وجدته كذلك وذلك أن تسمي رجلاً بالكاف

من قولك كزيدٍ تقول : هذا ( كا ) وإن سميته بالباء من بزيد : قلت : بيٌ فإن سميته بحرف ساكن فإن الحرف الساكن لا يجوز من غير كلمة فترده إلى ما أخذ منه
واعلم : أن كل اسم مفرد لا تجوز حكايته وكذلك كل مضاف وإن سميت رجلاً عم فأردت أن تحكي به في الإستفهام تركته على حاله وإن جعلته اسماً قلت : عن ما تمد ( ما ) لأنك جعلته اسماً كما تركت تنوين سبعة إذا سميت فقلت : سبعةُ
والمضاف بمنزلة الألف واللام لا يجعلان الإسم حكاية قال أبو بكر : قد ذكرنا ما لا ينصرف وقد مضى ذكر المبني المضارع للمعرب ونحن نتبع ذلك الأسماء المبنيات إن شاء الله

ذكر الأسماء المبنية التي تضارع المعرب
هذه الأسماء على ضربين : مفرد ومركب فنبدأ بذكر المفرد إذ كان هو الأصل لأن التركيب إنما هو ضم مفرد إلى مفرد ولنبين أولاً المعرب ما هو لنبين به المبني فنقول : إن الإسم المفرد المتمكن في الإِعراب على أربعة أضرب : اسم الجنس الذي تعليله من جنس آخر والواحد من الجنس وما اشتق من الجنس ولقب الواحد من الجنس
شرح الأول من المعرب :
الجنس : الإسم الدال على كل ما له ذلك الإسم ويتساوى الجميع في المعنى نحو : الرجل والإِنسان والمرأة والجمل والحمار والدينار والدرهم والضرب والأكل والنوم والحمرة والصفرة والحسن والقبح وجميع ما أردت به العموم لما يتفق في المعنى بأي لفظ كان فهو جنس وإذا قلت : ما هذا فقيل لك : إنسان فإنما يراد به الجنس فإذا قال : الإِنسان فالألف واللام لعهد الجنس وليست لتعريف الإِنسان بعينه وإنما هي فرق

بين إنسان موضوع للجنس وبين إنسان هو من الجنس إذا قلت إنسان قال الله عز و جل : ( إن الإنسان لفي خُسرٍ إلا الذين آمنوا ) فدل بهذا أن الإِنسان يراد به الجنس ومعنى قول النحويين : الألف واللام لعهد الجنس أنك تشير بالألف واللام إلى ما في النفس من معرفة الجنس لأنه شيء لا يدرك بالعيان والحس وكذلك إذا قلت : فضةٌ والفضةُ وأرضٌ والأرضُ وأسماء الأجناس إنما قيلت ليفرق بين بعضها وبعض مثل الجماد والإِنسان وهذه الأسماء تكون أسماء لما له شخص ولغير شخص فالذي له شخص نحو : ما ذكرنا من الإِنسان والحمار والفضة وما لا شخص له مثل الحمرة والضرب والعلم والظن
شرح الثاني من المعرب :
وهو الواحد من الجنس نحو : رجل وفرس ودينار ودرهم وضربةٍ وأكلةٍ فتقول : إذا كان واحد من هذه معهوداً بينك وبين المخاطب الرجل والفرس والدينار والضرب أي الفرس الذي تعرف والضرب الذي تعلم والفرق بين قولك : رجل وبين فضة أن رجلاً يتضمن معنى جنس له صورة فمتى زالت تلك الصورة زال الإسم وفضة ليس يتضمن هذا الإسم صورة فأما درهم فهو مثل رجل في أنه يتضمن معنى الفضة بصورة من الصور
الثالث ما اشتق للوصف من جنس من الأجناس التي لا أشخاص لها :
نحو : ضارب مشتق من الضرب وحَسَنٌ مشتق من الحُسْنِ وقبيحٌ مشتق من القُبحِ وآكلٌ مشتق من الأكل وأسودٌ من السواد وهذه كلها صفات تجري على الموصوفين فإن كان الموصوف جنساً فهي أجناس وإن

كان واحد منكوراً من الجنس فهو واحد منكور نحو : القائمِ وقائمٍ والحَسِنُ وحَسَنٌ وإن كان معهوداً فهو معهودٌ وحكم الصفة حكم الموصوف في إعرابه
الرابع ما يلقب به شيء بعينه ليعرف من سائر أمته :
نحو : زيد وعمرو وبكر وخالد وما أشبه ذلك من الأسماء الأعلام التي تكون للآدميين وغيرهم
فجميع هذه الأسماء المتمكنة إلا الجنس يجوز أن تعرف النكرة منها بدخول الألف واللام عليها ويجوز أن تنكر المعرفة منها ألا ترى أنك تقولُ : الرجل إذا كان معهوداً ثم تقول : رجلٌ إذا لم يكن معهوداً والمعنى واحد وكذلك ضرب والضربُ وحَسُنَ والحسنُ وضاربٌ والضَاربَ وقبيحٌ والقبيحُ وتقول : زيدُ عمروٍ فإذا تنكرا بأن يتشاركا في الإسم قلت : الزيدان والعمران تدخل الألف واللام مع التثنية لأنه لا يكون نكرة إلا ما يثنى ويجمع والأسماء المبنية بخلاف هذه الصفة لا يجوز أن تنكر المعرفة منها ولا تعرف النكرة ألا ترى أنه لا يجوز أن يتنكر ( هذا ) فتقول : الهذان ولا يتنكر أنا ولا أنت ولا هو فهذا من المعارف المبنيات التي لا يجوز أن يتنكر ما كان منها فيه الألف واللام فلا يجوز أن يخرج منها الألف واللام نحو : الذي والآن وأما النكرة التي لا يجوز أن تعرف نحو قولك : كيف وكم فجميع ما امتنع أن يعرف بالألف واللام وامتنع من نزع الألف واللام منه لتنكير فهو مبني ولا يلزم من هذا القول البناء في اسم الله عز و جل إذ كانت الألف واللام لا تفارقانه فإن الألف واللام وإن كانا غير مفارقتين فالأصل فيهما أنهما دخلتا على إله قال سيبويه : أصل هذا الإسم أن يكون إلها وتقديره ( فعال ) والألف واللام

عوض من الهمزة التي في ( إله ) وهو على هذا علم قال أبو العباس : لأنك تذكر الآلهة الباطلة فتكون نكرات تعرف بالألف واللام وتجمع كما قال الله عز و جل ( أأتخذ من دونه آلهة ) وتعالى الله أن يعتور اسمه تعريف بعد تنكير أو إضافة بعد أن كان علماً وقال سيبويه في موضع آخر : ويقولون : لاه أبوك يريدون لله أبوك فيقدمون اللام ويؤخرون العين والإسم كامل وهو علم وحق الألف واللام إذا كانت في الإسم ألا ينادي إلا الله عز و جل فإنك تقول : يا لله وتقطع الألف فتفارق سائر ألفات الوصل والشاعر إذا اضطر فقال : ( يا التي ) لم تقطع الألف فهذا الإسم مفارق لجميع الأسماء عز الله وجل

أقسام الأسماء المبنيات المفردات ستة
اسم كنى به عن اسمٍ واسم أشير به إلى مسمى وفيه معنى فِعْلٍ واسم سمي به فعل واسم قام مقام الحرف وظرف لم يتمكن وأصوات تحكي

باب الكنايات وهي علامات المضمرين
الكنايات على ضربين : متصل بالفعل ومنفصل منه فالمتصل غير مفارق للفعل والفعل غير خال منه وعلامة المرفوع فيه خلاف علامة المنصوب والمخفوض فالتاء للفاعل المتكلم مذكراً كان أو مؤنثاً فعلتُ : وصنعت وعلامة المخاطب المذكر فعلتَ والمؤنث فعلتِ وعلامة المضمر النائب في النية تقول : فعل وصنع فاستغنى عن إظهاره والعلامة فيه بأن كل واحد من المتكلمين والمخاطبين له علامة فصار علامة الغائب أن لا علامة له هذا في الفعل الماضي فأما الفعل المضارع فليس يظهر في فعل الواحد ضمير البتة متكلماً كان أو مخاطباً إلا في فعل المؤنث المخاطب وذلك أنه استغنى بحروف المضارعة عن إظهار الضمير يقولُ المتكلمُ : أنا أفعل ذكراً كان أو أنثى فالمتكلم لا يحتاج إلى علامة لأنه لا يختلط بغيره وإنما أظهرت العلامة في ( فعلتُ ) للمتكلم لأنه لو أسقطها لالتبس بالغائب فصار فعل فلا يعلم لمن هو فإن خاطبت ذكراً قلت : أنت تفعل والغائب هو يفعل فإن خاطبت مؤنثاً قلت : تفعلين فظهرت العلامة وهي الياء وإن كانت غائبة قلت : هي تفعل فيصير لفظ الغائبة كلفظ المخاطب ويفصل بينهما الخطاب وما جرى في الكلام من ذكر ومؤنث وتقول للمؤنث في الغيبة فعلتْ وصنعتْ فالتاء علامة فقط وليست باسم يدلك على ذلك قولهم : فعلت هند فأما التاء التي هي اسم فيسكن لام الفعل لها نحو فَعلْتُ وصنَعْتُ وإنما أسكن لها لام الفعل لأن ضمير الفاعل والفعل

كالشيء الواحد فلو لم يسكنوا لقالوا : ضَرَبتُ فجمعوا بين أربعة متحركات وهم يستثقلون ذلك فإن ثنيت وجمعت الضمير الذي في الفعل قال الفاعل : فعلنا في التثنية والجمع والمذكر والمؤنث في هذا اللفظ سواء وتقولُ في الخطاب : فعلتما للمذكر والمؤنث ولجمع المذكرين فعلتم وللمؤنث فعلتن فإن ثنيت الغائب قلت : قاما فظهرت العلامة وهي الألف وفي الجمع قاموا وفي المضارع يقومان ويقومون تثبت النون في الفعل المعرب وتسقط من الفعل المبني وقد ذكرناه فيما تقدم وتقول في المؤنث : قامتا وقمن ويقومان ويقمن هذه علامات المضمر المتصل المرفوع فأما علامة المخفوض والمنصوب المتصل فهي واحدة فعلامة المتكلم ياء قبلها نون نحو : ضربني وجيء بالنون لتسلم الفتحة ولئلا يدخل الفعل جر وللمجرور علامته ياء بغير نون نحو : مررت بي وغلامي وهذه الياء تفتح وتسكن فمن فتح جعلها كالكاف أختها ومن أسكن فلاستثقال الحركة في الياء في أنها تكسر ما قبلها وكلهم إذا جاء بها بعد ألف فتحها نحو : عصايَ ورحايَ
وإذا تكلم منه ومن غيره قال : ضربنا زيد والمؤنث في ذا كالمذكر وكذلك هو في الجر تقول : ضربنا وغلامنا فإذا خاطبت فعلامة المخاطب المذكر كاف مفتوحة والمؤنث كاف مكسورة نحو : ضربتك وكذلك المجرور تقول : مررت بكَ يا رجل وبكِ يا امرأة وإذا ثنيت قلت في المذكر والمؤنث : ضربتكما وللجميع المذكرين : ضربتكم وكذلك تقول : مررت بكما في التذكير والتأنيث ومررت بكم في المذكرين ومررت بكن للمؤنث
الضرب الثاني وهو علامات المضمرين المتصلة :
أما علامة المرفوعين فللمتكلم أنا فالإسم الألف والنون وإنما تأتي بهذه الألف الأخيرة في الوقف فإن وصلت سقطت فقلت : أن فعلتُ ذاكَ وإن حدث عن نفسه وعن آخر قال : نحو وكذلك إن تحدث عن نفسه وعن

جماعة قال : نحن ولا يقع ( أنا ) في موضع التاء والموضع الذي يصلح فيه المتصل لا يصلح فيه المنفصل لا تقول فعل أنا وعلامة المخاطب إن كان واحداً أنت وإن خاطبت اثنين فعلامتها أنتما والجميع أنتم فالإسم هو الألف والنون في ( أنت ) والتاء علامة المخاطب والمضمر الغائب علامته ( هو ) وإن كان مؤنثاً فعلامته ( هي ) والإثنين والإثنتين هما والجميع هم وإن كان الجمع جمع مؤنث فعلامته هن وأما علامة المضمر المنصوب ( فأيا ) فإن كان غائباً قلت إياه وإن كان متكلماً قلت : إياي ويانا في التثنية والجمع وللمخاطب المذكر : إياكَ وللمؤنث إياكِ وإياكما إذا ثنيت المؤنث والمذكر وإياكم للمذكرين وإياكن في التأنيث وللغائب المذكر إياه وللمؤنث إياها وإياهما للمذكر والمؤنث وأياهم للمذكرين وإياهن للجميع المؤنث وقد قالوا : إن ( أيا ) مضاف إلى الهاء والكاف والقياس أن يكون ( أيا ) مثل الألف والنون التي في أنت فيكون ( أيا ) الإسم وما بعدها للخطاب ويقوي ذلك أن الأسماء المبهمة وسائر المكنيات لا تضاف و ( أيا ) مع ما يتصل بها كالشيء الواحد نحو : أنت فأما المجرور فليست له علامة منفصلة لأنه لا يفارق الجار ولا يتقدم عليه وجميع المواضع التي يقع فيها المنفصل لا يقع المتصل والموضع الذي يقع فيه لا يقع المنفصل لأن المنفصل كالظاهر تقول : إني وزيداً منطلقانِ ولا تقول : إن إياي وزيداً منطلقانِ وتقول : ما قام إلا أنت ولا تقول : إلاتَ وتقول : إن زيداً وإياك منطلقانِ ولا يقول : إن زيداً إلاك منطلقان ومما يدل على ( إن وأخواتها ) مشبهة بالفعل أن المكنى معها كالمكنى مع الفعل تقول : إنني كما تقول : ضربني وأما قولهم : عجبتُ من ضريبكَ وضريبه فالأصل من ضربي إياك وضربي إياه وأقل العرب من يقول : ضَريبهُ وإنما وقع هذا مع المصدر لأنه لم تستحكم علامات الإِضمار معه ألا ترى أنهم لا يقولون :

عجبت من ضربكني إذا بدأت بالمخاطب قبل المتكلم ولا من ضربهيك إذا بدأت بالبعيد قبل القريب وقالوا : عجبت من ضريبك وضربكه ولو كان هذا موضعاً يصلح فيه المتصل لجاز فيه جميع هذا ألا ترى أنك تقول : ضَريبكَ إذا جئت بالفعل ضربته وموضع ضربكه ضربته وكان الذين قالوا : ضريبه قالوا : ذلك إختصاراً لأن المصدر اسم فإذا أضفته إلى مضمر فحقه إن عديته لمعنى الفعل أن تعديه إلى ظاهر أو ما أشبه الظاهر من المضمر المتصل وكان حق المضمر المتصل أن لا يصلح أن يقع موقع المنفصل والأصل في هذا : عجبتُ من ضربي إياك كما تقول : من ضربي زيداً ومن ضربك إياه كما تقول من ضربك عمراً والكسائي يصل جميع المؤنث فيقول : أعطيتهنه والضارباناه لأنه لم يتفق حرفان ولا أعلم بين الواحد والجمع فرقاً ومن ذلك قولهم : كان إياه لأن ( كانَهُ ) قليلة ولا تقول : كانني وليسني ولا كانَكَ لأن موضعه موضع ابتداء وخبر فالمنفصل أحق به قال الشاعر :
( لَيْتَ هَذَا اللَّيْلَ شَهْرٌ ... لا نَرى فيهِ عَريبا )
( لَيس إيايَ وإيَاكَ ... ولا نخشَى رَقيبا )

وقد حكوا : ليسني وكأنني واعلم أنك إذا أكدت المرفوع المتصل والمنصوب والمخفوض المتصلين أكدته بما كان علامة المضمر المرفوع المنفصل وذلك قولك : قمت أنتَ وضربتُك أنت وإنما جاز ذلك لأن الخطاب جنس واحد وليس بأسماء معربة والأصل في كل مبني أن يكون المرفوع والمنصوب والمخفوض على صيغة واحدة وإنما فرق في هذا للبيان فإذا أمنوا اللبس رجع المبني إلى أصله ومع ذلك فلو أكد المرفوع والمنصوب المتصلان بالمنفصلين اللذين لهما لبقي المجرور بغير شيء يؤكده ولا يحسن أن يعطف الإسم الظاهر على المرفوع المتصل لا يحسن أن تقول : قمتُ وزيدٌ حتى تؤكد فتقول : أنا وزيدٌ ولا تقول : قام وزيدٌ حتى تقول : قام هو وزيدٌ وقال عز و جل : ( اذهب أنت وأخوك ) ربما جاء على قبحه غير مؤكد ويحتمل لضرورة الشاعر
وإنما قَبُحَ أن تقول : قمت وزيد لأن التاء قد صارت كأنها جزء من الفعل إذ كانت لا تقوم بنفسها وقد غير الفعل لها فإن عوضت من التأكيد شيئاً يفصل به بين المعطوف والمعطوف عليه نحو : ما قمتُ ولا عمرو وقعدتُ اليومَ وزيدْ : حسن فأما ضمير المنصوب فيجوز أن يعطف عليه الظاهر : تقول : ضربتُك وزيداً وضربت زيداً وإياكَ فيجوز يتقدم وتأخيره وأما المخفوض فلا يجوز أن يعطف عليه الظاهر لا يجوز أن تقول : مررت بكِ وزيدٍ لأن المجرور ليس له اسم منفصل يقتدم ويتأخر كما للمنصوب وكل اسم معطوف عليه فهو يجوز أن يؤخر ويقدم الآخر عليه فلما خالف المجرور سائر الأسماء لم يجزْ أن يعطف عليه وقد حكي أنه قد جاء في الشعر :
( فَاذْهَب فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَبِ ... )

وتقول : عجبت من ضربِ زيدٍ أنت إذا جعلت زيداً مفعولاً ومن ضربكه إذا جعلت الكاف مفعولاً وتقول فيما يجري من الأسماء مجرى الفعل : عليكهُ ورويدهُ وعليكني ولا تقول : عليك إيايَ ومنهم من لا يستعمل ( ني ) ولا ( نا ) استغناء بعليك ( بي ) و ( بنا ) وهو القياس ولو قلت : عليك إياه كان جائزاً لأنه ليس بفعل والشاعر إن اضطر جعل المنفصل موضع المتصل قال حميد الأرقط :
( إليك حَتىَّ بَلَغتْ إياكا ... )
يريد : حتى بلغتَكَ فإن ذكرتَ الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين فحق هذا الباب إذا جئت بالمتصل أن تبتدأ بالأقرب قبل الأبعد وأعني بالأقرب المتكلم قبل المخاطب والمخاطب قبل الغائب وتعرف القوي من غيره فإن الفعلين إذا اجتمعا إلى القوي فتقول : قمت وأنت ثم تقول : قمنا وقام وأنتَ ثم تقول : قمتما فتغلب المخاطب على الغائب وتقول : أعطانيه وأعطانيك ويجوز : أعطاكني فإن بدأ بالغائب قال : أعطاهوني وقال سيبويه : هو قبيح لا تكلم به العرب وقال أبو العباس : هذا كلام جيدّ ليس بقبيحٍ وقال الله عز و جل : ( أنلزُمُكموها وأنتم لها كارهون ) فتقول

على هذا أعطاه إياك وهو أحسن من أعطاهوكَ فإذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت : لمعطاهوه وليس بالكثير في كلامهم والأكثر المعطاه إياه والمنفصل بمنزلة الظاهر فأما المفعولان في ظننت وأخواتها فأصلها الإبتداء الخبر كما جاء في ( كان ) فالأحسن أن نقول ظننتك إياه كما تقول : كان إياهُ وكنت إياهُ
واعلم : أنه لا يجوز أن يجتمع ضمير الفاعل والمفعول إذا كان المفعول هو الفاعل في الأفعال المتعدية والمؤثرة لا يجوز أن تقول : ضربتني ولا أضربك إذا أمرت فإن أردت هذا قلت : ضربت نفسي واضرب نفسك وكذلك الغائب لا يجوز أن تقول : ضربه إذا أردت ضرب نفسه ويجوز في باب ظننت وحسبت أن يتعدى المضمر إلى المضمر ولا يجوز أن يتعدى المضمر إلى الظاهر تقول : ظننتي قائماً وخلتني منطلقاً لأنها أفعال غير مؤثرة ولا نافذة منك إلى غيرك فتقول على هذا : زيد ظنه منطلقاً فتعدى فعل المضمر في ظن إلى الهاء ولا يجوز زيداً ظن منطلقاً فتعدى فعل المضمر الذي في ظن إلى زيدٍ فتكون قد عديت في هذا الباب فعل المضمر إلى الظاهر وإنما حقه أن يتعدى فعل المضمر إلى المضمر وتكون أيضاً قد جعلت المفعول الذي هو فضلة في الكلام لا بد منه وإلا بطل الكلامُ فهذه جميع علامات المضمر المرفوع والمنصوب قد بينتها في المنفصل والمتصل وقد خبرتك أن المجرور لا علامة له منفصلة وإن علامته في الإتصال كعلامة المنصوب لا فرق بينها في الكاف والهاء تقول : رأيتك كما تقول : مررت بك وتقول : ضربته كما تقول : مررت به فهذا مطرد لا زيادة فيه فإذا جاءوا إلى الياء التي هي ضمير المتكلم زادوا في الفعل نونا قبل الياء لئلا يكسروا لام الفعل والفعل لا جرّ فيه فقالوا : ضربني فسلمت الفتحة بالنون ووقع الكسر على النون وكذلك : يضربني فإذا جاءوا بالإسم لم يحتاجوا إلى النون فقالوا : الضاربي في النصب واستحسنوا

الكسرة في الباء موضع لأنه يدخله الجر ولم يستحسنوا ذلك في لام الفعل لأنه موضع لا يدخله الجر وقالوا : إنني ولعلني ولكنني لأن هذه حروف مشبهة بالفعل
قال سيبويه : قلت له : يعني الخليل ما بال العرب قالت : إني وكأني ولعلي ولكني فزعم : أن هذه الحروف اجتمع فيها أنها كثيرة من كلامهم وأنهم يستثقلون في كلامهم التضعيف فلما كثر استعمالهم إياها مع تضعيف الحروف حذفوا النون التي تلي الياء قال : فإن قلت : ( لعلي ) ليس فيها تضعيف فإنه زعم : أن اللام قريبة من النون يعني في مخرجها من الفم وقد قال الشعراء في الضرورة : ليتي
وقال : سألته عن قولهم : عني وقطني ولدني : ما بالهم جعلوا علامة المجرور ها هنا كعلامة المنصوب فقال : إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإِضافة إلا كان متحركاً مكسوراً ولم يريدوا أن يحركوا الطاء التي في ( قط ) ولا النون التي في ( من ) فجاءوا بالنون ليسلم السكون وقدني بهذه المنزلة وهذه النون لا ينبغي أن نذكرها في غير ما سمع من العرب لا يجوز أن تقول : قدي كما قلت مني وقد جاء في الشعر ( قدي ) قال الشاعر :
( قدْنِيَ مِنْ نصر الخُبيْبَيْن قَدِي ... )

فقال : قدي لما اضطر شبهه بحسبي كما قال : ليتي حيث اضطر وقال سيبويه : لو أضفت إلى الياء الكاف تجر بها لقلت : ما أنت كِي لأنها متحركة قال الشاعر لما اضطر :
( وأمّ أو عالٍ كها أو أقربا ... )
وقال آخر لما اضطر :
( فلا تَرى بَعْلاً ولا حَلائِلاً ... كَهُ ولا كَهُنَّ إلاّ حَاظِلا )
فهذا قاله سيبويه قياساً وهو غير معروف في الكلام واستغنى عن ( كي ) بمثلي
ولام الإِضافة تفتح مع المضمر إلا مع الياء لأن الياء تكسر ما قبلها تقول : لَهُ ولَكَ ثم تقول : لِي فتكسر لأن هذه الياء لا يكون ما

قبلها حرف متحرك إلا مكسوراً وهي مفارقة لأخواتها في هذا ألا ترى أنك تقول : هذا غلامُه فتصرف فإذا أضفت غلاماً إلى نفسك قلت : هذا غلامي فذهب الإِعراب وإنما فعلوا ذلك لأن الضم قبلها لا يصلح فلما غير لها الرفع وهو أول غير لها النصب إذا كان ثانياً وألزمت حالاً واحداً فقلت : رأيت غلامي
واعلم أن الذي حكي من قولهم : لولاي ولولا شيء شذ عن القياس كان عند شيخنا يجري مجرى الغلط والكلام الفصيح ما جاء به القرآن : لولا أنت
كما قال عز و جل : ( لولا أنتم لكنّا مؤمنين ) والذين قالوا : لولاك ولولاي قالوا : لأنها أسماء مبنية يؤكد المرفوع منها المخفوض فكأنهم إنما يقتصرون العبارة عن المتكلم والمخاطب والغائب لا بأي لفظ كان لأنه غير ملبس ولكنهم لا يجعلون غائباً مكان مخاطب لا يقولون : لولاه مكان لولاك فأما قولهم : عساك فالكاف منصوبة لأنك تقول : عساني فعساك مثل رماك وعساني مثل رماني
واعلم : أن علامة الإِضمار قد ترد أشياء إلى أصولها فمن ذلك قولك : لعبد الله مال ثم تقول : لك وله إنما كسرت مع الظاهر في قولك
لزيدٍ مالٌ كيلا يلتبس بلام الإبتداء إذا قلت : لهذا أفضل منك ألا تراهم قالوا : يا لبَكر حين أمنوا الإلتباس فمن ذلك : أعطيكموه في قول من قال : أعطيتكم ذاك فأسكن ردوه بالإِضمار إلى أصله كما ردوا بالألف واللام حين قالوا : أعطيتكموه اليوم فكان الذين وقفوا بإسكان الميم كرهوا الوقف على الواو

فلما وصلوا زال ما كرهوا فردوا وزعم يونس أنه يقول : أعطيتُكُمْه بإسكان الميم كما قال في الظاهر أعطيتكم زيداً
واعلم : أنَّ أنت وأنا ونحن وأخواتهن يكن فصلاً ومعنى الفصل أنهن يدخلن زوائد على المبتدأ المعرفة وخبره وما كان بمنزلة الإبتداء والخبر ليؤذن بأن الخبر معرفة أو بمنزلة المعرفة ولا يكون الفصل إلا ما يصلح أن يكون كناية عن الإسم المذكور فأما ما الخبر فيه معرفة واضحة فنحو قولك : زيد هو العاقلُ وكان زيد هو العاقل وأما ما الخبر فيه يقرب من المعرفة إذا أردت المعرفة وكان على لفظه فنحو قولك حسبت زيداً هو خيراً منك وكان زيد هو خيراً منك وتقول : إن زيداً هو الظريف فيكون فصل وإن زيداً هو الظريف وتقول : إن كان زيدٌ لهو الظريفُ وإن كنا لنحن هي ( نا ) في كنا ولو قلت كان زيدٌ أنت خيرا منه لم يجز أن تجعل أنت فصلاً لأن أنت غير زيد فإن قلت : كنت أنت خيراً من زيدٍ جاز أن يكون فصلاً وأن يكون تأكيداً فجميع هذه لمسائل الإسم فيها معرفة والخبر معرفة أو قريب منها مما لا يجوز أن يدخل عليه الألف واللام ولو قلت : ما أظن أحداً هو خير منك لم يجز أن تجعل ( هو ) فصلاً لأن واحداً نكرة ولكن تقول : ما أظن أحداً هو خير منك فجعل : هو مبتدأ و ( خير منك ) خبره وهذا الباب يسميه الكوفيون العماد وقال الفراء : ادخلوا العمادَ ليفرقوا بين الفعل والنعت لأنك لو قلت : زيدٌ العاقل لأشبه النعت فإذا قلت : زيدٌ هو العاقل قطعت ( هو ) عن توهم النعتِ فهذا الذي يسميه البصريون فصلاً ويسميه الكوفيون عِماداً وهو ملغى من الإِعراب فلا يؤكد ولا ينسق عليه ولا يحال بينه وبين الألف واللام وما قاربهما ولا يقدم قبل الإسم المبتدأ ولا قبل ( كان ) ولا يجوز كان هو القائم زيدٌ ولا هو القائم كان زيدْ وقد حكي هذا عن الكسائي لأنه كان يجعل العماد بمنزلة الألف

واللام في كل موضع يجوز وضعه معهما فإذا قلت : كنت أنت القائم جاز أن يكون أنت فصلاً وجاز أن يكون تأكيداً ويجوز أن يبتدأ به فترفع القائم
ولك أن تثني الفعل وتجمعه وتؤنثه فتقول : كان الزيدان هما القائمينِ وكان الزيدونَ هم القائمين وكانت هندٌ هي القائمة والظن وإنّ وجميع ما يدخل على المبتدأ والخبر يجوز الفصل فيه تقول : ظننتُ زيداً هو العاقلَ وإن زيداً هو العاقلُ فإذا قلت كان زيدٌ قائمةً جاريته فأدخلت الألف واللام على ( قائمةٍ ) وجعلتها لزيدٍ قلت : كان زيدق القائمةُ جاريتهُ فإن كانت الألف واللام للجارية صار المعنى : كان زيد التي قامت جاريتهُ فقلت : كان زيدُ القائمة جاريتُه حينئذٍ وهذا لا يجوز عندي ولا عند الفراء من قبل أنه ينبغي أن يكون الألف واللام هي الفصل بعينه وأن يصلح أن يكون ضميراً للأول

الباب الثالث من المبنيات : وهو الإسم الذي يشار به إلى المسمى
وفيه من أجل ذلك معنى الفعل وهي : ذَا وذه وتثنى ذا وذه فتقول : ذانِ في الرفع وذينِ في النصب والجر وتثنية ( تا ) تان وتجمع ذا وذه وتا أُولى وأولاءِ والمذكر والمؤنث فيه وسواء فذا اسم تشير به إلى المخاطب إلى كل ما حضر كما يدخلون عليه هاء التنبيه فيقولون : هذا زيدٌ وهذي أمةُ الله فإذا وقفوا على الياء أبدلوا منها هاءً في الوقف فإذا وصلوا أسقطوا الهاء وردوا الياء ويبدلون من الياء فيقولون : هذهِ أمةُ الله فإذا وصلوا قالوا : هذي أمةُ اللِه فإذا وقفوا حذفوا الهاء وردوا الياء ومنهم من يقول : هذه أمةُ اللِه
وهؤلاءِ تُمد وتقصرُ وإذا مدوا بنوه على الكسر لإلتقاء الساكنين فإن أدخلوا كاف المخاطبة فأول كلامهم لما يشار إليه وآخره للمخاطب والكاف ها هنا حرف جيء به للخطاب وليس باسمٍ لأن إضافة المبهمة محال من قبل أنها معارفٌ فلا يجوز تنكيرها وكل مضافٍ فهو نكرةٌ قبل إضافته فإذا أُضيف إلى معرفة صار بالإِضافة معرفةٌ وهو قولك : ذاكَ وذلكَ واللام في ( ذلكَ ) زائدة والأصل ( ذَا ) والكاف للخطاب فقط ومحالٌ أن تكون هنا اسماً لما بينت لك فإنما زدت الكاف على ( ذَا ) وكانت ( ذَا ) لما يومي إليه بالقرب
فإذا قلت ذلك دلت على أن الذي يومي إليه بعيدٌ وكذلك جميع الأسماء المبهمة إذا أردت المتراخي زدت كافاً للمخاطبة لحاجتك أن تنبه بالكاف المخاطب ونظير هذا هنا وها هنا وهناكَ وهنالكَ إذا أشرت إلى مكان فإن سألت رجلاً عن رجلٍ قلت : كيف ذاكَ الرجلُ

فتحت الكاف
فإن سألت امرأة عن رجلٍ قلت : كيفَ ذاكِ الرجلُ فكسرت الكاف قال الله عز و جل : ( كذلكِ الله يخلقُ ما يشاءُ ) فإن سألت رجلاً عن امرأةٍ قلت : كيفَ تلكَ المرأةُ فإن سألت المرأة عن امرأةٍ قلت : كيف تلكِ المرأةُ تكسر الكاف فإن سالت رجلاً عن رجلينِ قلت : كيف ذانكَ الرجلانِ ومن قال في الرجلِ ذلكَ : قال في الإِثنينِ : ذانّكَ بتشديد النون أبدلوا من اللام نوناً وأدغمت إحدى النونين في الأخرى كما قال عز و جل : ( فَذانِكَ بُرهَانانِ ) فإن سألت عن جماعةٍ رجلاً قلت : كيف أولئك الرجالُ وأولاكَ الرجالُ فإن سألت رجلاً عن امرأتين قلت : كيفَ تانك المرأتانِ وإن سألت امرأة عن رجلين قلت : كيف ذانِك الرجلانِ يا امرأةُ وإن سألتها عن جماعةٍ قلت : كيف أولئكِ الرجالُ يا امرأةَ فإن سألت رجلينِ عن رجلينِ قلت : كيف ذانكما الرجلانِ يا رجلانِ وإن سألتهما عن جماعةٍ قلت : كيف أولئكما الرجالُ يا رجلانِ وإن سألتهما عن امرأةٍ قلت : كيف تيكما وتلكما المرأةُ يا رجلانِ وإن سألتهما عن امرأتين قلت : كيفَ تانكما المرأتان يا رجلانِ وإن سألت جماعةٍ عن واحدٍ قلت : كيف ذاكم الرجلُ يا رجالُ وإن سألتهم عن رجلين قلت : كيف ذانكم الرجلانِ يا رجالُ وإن سألتهم عن جماعة قلت : كيف أُولئكَ الرجالُ يا رجالُ وإن سألتهم عن امرأةٍ قلت : كيف تلكم المرأة يا رجال وإن سألتهم عن امرأتين قلت : كيف تانكم المرأتانِ يا رجالُ وإن سألت امرأتين فعلامة المرأتينِ والرجلين في الخطاب سواءٌ فإن سألت نساء عن رجلٍ قلت : كيف ذاكنَّ الرجلُ يا نساءُ وباللام : كيف ذلكن الرجلُ يا نساءُ قال الله عز و جل : ( فذلكنَّ الذي لُمتْنُنَّيِ فيهِ ) فإن سألتهن عن رجلين قلت : كيف تيكن وإن سألتهن عن جماعةٍ قلت : كيفَ أُولئكنَّ النساءُ مثل المذكرِ

واعلم : أنه يجوز لك أن تجعل مخاطب الجماعة على لفظ الجنس أو تخاطبُ واحداً عن الجماعة فيكون الكلام له والمعنى يرجع إليهم كما قال الله تعالى : ( ذلكَ أَدنى ألاّ تَعُولوا ) ولم يقل : ذلكمُ لأن المخاطب النبي والدليل على أن في هذا معنى فعلٍ قولهم : هذا زيدٌ منطلقاً لأن منطلقاً انتصب على الحالِ والحال لا بد من أن يكون العامل فيها فعلٌ أو معنى فعلٍ

باب الأسماء المبنية المفردة التي سمي بها الفعل
وذلك قولهم : صه ومه ورويدَ وإيه وما جاء على فَعالٍ نحو : حَذارِ ونزالِ وشتانَ فمعنى صه : اسكت ومعنى مه : أكفف فهذانِ حرفانِ مبنيانِ على السكون سمى الفعلَ بهما فأما رويدَ : فمعناه : المهلةُ وهو مبني على الفتح ولم يسكن آخره لأن قبله ساكناً فاختير له الفتح للياء قبله تقول : رويدَ زيداً فتعديهِ فأما قولك : رويدَك زيداً فإن الكاف زائدةٌ للمخاطبة وليست باسم وإنما هي بمنزلة قولك : التجاءَك يا فتى وأرأيتُك زيداً ما فعلَ ويدلك على أن الكاف ليست باسمٍ في التجاءَكَ دخول الألف واللام والألف واللام والإِضافة لا يجتمعان وكذلك الكاف في : أرأيتُكَ زيداً زائدةٌ للخطاب وتأكيده ألا ترى أن الفعل إنما عمل في زيد فإن قلت : إرودّ كان المصدر إرواداً وتصرف جميع المصادر فإن حذفت الزوائد على هذه الشريطة صرفت : رويدَ فقلت : رويداً يا فتى وإن نعت به قلت : ضعهُ وضعاً رويداً وتضيفه لأنه كسائر المصادر تقول : رويدَ زيدٍ كما قال الله عز و جل : ( فَضرب الرقاب ) ورويداً زيداً كما تقول ضرباً زيداً في الأمر فأما إيه وآه فمعنى إيه الأمر بأن : يزيدكُ من الحديث المعهودِ بينمكا فإذا نونت قلت : إيهٍ والتنوين للتنكير كأنك قلت : هات حديثاً وذاك كأنه قال : هات الحديثَ قال ذو الرمةِ :

( وقَفْنَا فَقُلْنَا إيهِ عَنْ أمِّ سَالِمٍ ... وَمَا بَالُ تَكْلِيمِ الدِّيَارِ البَلاقِعِ )
فإذا فتحت فهي زجرٌ ونهي كقولك : إيه يا رجلُ إني جئتُكَ فإذا لم ينون فالتصويت يريد الزجر عن شيءٍ معروفٍ وإذا نونت فإنما تريد الزجر عن شيءٍ منكورٍ قال حاتم :
( إيهاً فِدَىً لَكُمْ أُمّي وَمَا وَلَدَتْ ... حَامُوا على مَجْدِكُم واكْفُوا مَنِ اتَّكَلاَ )
ومن ينون إذا فتح فكثير والقليل من يفتح ولا ينون وجميع التنوين الذي يدخل في هذه الأصوات إنما يفرق بين التعريف والتنكير تقول : صه يا رجلُ هذا الأصل في جميع هذه المبنيات ومنها ما يستعمل بغير تنوين البتة فما دخله التنوين لأنه نكرةٌ قولهم : فدىً لكَ يريدون به الدعاء والدعاء حقه أن يكون على لفظ الأمر فمن العرب من يبني هذه اللفظة على الكسر وينونها لأنها نكرةٌ يريدُ بها معنى الدعاء
ومن هذا الباب قولهم : هاء يا فتى ويثنى فيقول هائِماً وهائم

للجميع كما قال : ( هاؤم اقرؤواْ كتابيه ) وللمؤنث هاءِ بلا ياءٍ مثل هاكَ والتثنية هاؤما مثل المذكرين وهاؤن تقوم الهمزة في جميع ذا مقام الكاف ولك أن تقول : هاءَ يا قوم كما قال عز و جل : ( ذلكَ خيرٌ لَّكُمْ ) وأصل الكلام ( ذلكم ) هذا في الخطاب يجوز لأن كل واحدٍ منهم يخاطب وقال : هاكَ وهاكما وهاكم والمؤنث هاكِ وأما ما كان على مثالِ فَعالِ مكسورِ الآخر فهو على أربعةِ أضربٍ والأصل واحدٌ
واعلم : أنه لا يبني شيءٌ من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنثٌ معرفة ومعدولٌ عن جهته وإنما يبنى على الكسر لأن الكسر مما يؤنث به تقول للمرأة : أنتِ فعلتِ وإنكِ فاعلة وكان أصل هذا إذا أردت به الأمر السكون فحركت لإلتقاء الساكنين فجعلت الحركة الكسر للتأنيث وذلك قولك : نَزالِ وتَراكِ ومعناه : أنزلْ واتركْ فهما معدولان عن المتاركة والمنازلة قال الشاعر :
( وَلِنعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنْتَ إذَا ... دُعِيتْ نَزالِ وَلُجَّ في الذُّعْرِ )

فقال : دُعيت لما ذكر ذلك في التأنيث
وقالوا : تراكَها وحَذارِ ونَظارِ فهذا ما سمي الفعل به باسم مؤنثٍ ويكون ( فَعالِ ) صفةً غالبةً تحل محل الإسم نحو قولهم : للضبعِ جَعارِ يا فتى وللمنية : حَلاقِ ويكون في التأنيث نحو يا فَساقِ
والثالث : أن تسمي امرأةً أو شيئاً مؤنثاً باسم مصوغ على هذا المثال نحو : حَذامِ ورَقاشِ
والرابع : ما عَدَلَ مِن المصدر نحو قوله :
( جَمَادِ لَهَا جَمَادِ ولا تَقولِي ... طَوَالَ الدَّهْرِ ما ذُكِرَتْ حَمَادٍ )
قال سيبويه : يريد : قولي لَها جمودُ ولا تقولي لَها حَمْداً ومن ذلك فَجارِ يريدون : الفَجْرَةَ ومَسارِ يريدون : المَسرةَ وبَداوِ يريدون : البَدوَ وقد جاء من بَنات الأربعة معدولاً مبني قَرْ قارِ وعَرْ عَارِ وهي لُغيةٌ وشتان : مبني على الفتح لأنه غير مؤنثٍ فهو اسم للفعل إلا أن الفعل هنا غير أمر وهو خبر ومعناه : البعدُ المفرط وذلك قولك : شتانَ زيدق وعمروٌ فمعناه : بَعُد ما بين زيدٍ وعَمروٍ جداً وهو مأخوذ من شَتَّ والتشتتُ التبعيد ما بين الشيئين أو الأشياء فتقدير : شتانَ زيدٌ وعمروٌ تباعدَ زيدٌ وعمروٌ ولأنه اسم لفعلٍ ما تم به كلام قال الشاعر :

( شَتَّانَ هَذَا والعِناقُ والنَّوم ... والمَشْربُ البَارِدُ في ظِلِّ الدَّوْمْ )
فجميع هذه الأسماء التي سمي بها الفعل إنما أُريد بها المبالغة ولولا ذلك لكانت الأفعال قد كَفَتْ عنها

باب الإسم الذي قام مقام الحرف
وذلك كَمْ ومَنْ وما وكيفَ ومتى وأينَ فأما ( كَمْ ) فبنيت لأنها وقعت موقع حرف الإستفهام وهو الألف وأصل الإستفهام بحروف المعاني لأنها آلة إذا دخلت في الكلام أعلمت أن الخبر استخبارٌ : و ( كَمْ ) اسم لعدد مبهم
فقالوا : كَم مالكَ فأوقعوا ( كَمْ ) موقف الألف لما في ذلك من الحكمة والإختصار إذ كان قد أغناهم عن أن يقولوا أعشرونَ مالَكَ أثلاثونَ مالكَ أخمسونَ والعدد بلا نهايةٍ فأتوا باسم ينتظم العدد كلَّهُ
وأما ( مَنْ ) فجعلون سؤالاً عن منْ يعقلُ نحو قولك : مَنْ هذا ومَن عمروٌ فاستغني بمن عن قولك : أزيدٌ هذا أعمروٌ هذا أبكرٌ هذا والأسماء لا تحصى فانتظم بِمَنْ جميع ذلك ووقعت أيضاً موقع حرف الجزاء وهو ( إنْ ) في قولك : مَنْ يأتني آتِه
وأما ( ما ) فيسأل بها عن الأجناس والنعوت تقول : ما هذا الشيء فيقال : إنسانٌ أو حمارٌ أو ذهَبٌ أو فِضَّةٌ ففيها من الإختصار مثل ما كان في ( مَنْ ) وتسأل بها عن الصفات فتقول : ما زيدٌ فيقال : الطويلُ والقصيرُ وما أشبه ذلك ولا يكون جوابها زيدٌ ولا عمروٌ فإن جعلت الصفة في موضع الموصوف على العموم جاز أن تقع على مَن يعقلُ
ومن كلام العرب : سبحانَ ما سبحَ الرعدُ بحمدهِ وسبحانَ ما سخركنَ لنا وقال الله عز و جل :

( والسماء وما بناها ) فقال قوم : معناه : ومنْ بَناها وقال آخرون : إنما والسماءَ وبنائها كما تقول : بلغني ما صنعتَ : أي صنيعُكَ لأن ( ما ) إذا وصلت بالفعل كانت بمعنى المصدرِ
وأما ( كيفَ ) فسؤال عن حال ينتظم جميع الأحوال يقالُ : كيف أنتَ فتقول : صالحٌ وصحيح وآكلٌ وشارب ونائمٌ وجالس وقاعدٌ والأحوال أكثر من أن يحاط بها فإذا قلت : ( كيفَ ) فقد أغنى عن ذكر ذلك كلهِ وهي مبنيةٌ على الفتح لأن قبل الياءِ فاءٌ فاستثقلوا الكسر مع الياء وأصل تحريك التقاء الساكنين الكسر فمتى حركوا بغير ذلك فإنما هو للإستثقالِ أو لإتباع اللفظِ اللفظَ
فأما ( متى ) فسؤالٌ عن زمانٍ وهو اسمٌ مبنيٌّ والقصة فيه كقصةِ ( مَنْ وكيف ) في أنه مغنٍ عن جميع أسماء الزمان أيوم الجمعةِ القتال أمْ يوم السبتِ أم يوم الأحدِ أم سنة كذا أم شهر كذا فمتى يغني عَنْ هذا كله وكذا ( أيانَ ) في معناها : كما قال الله عز و جل : ( أيانَ يومُ القيامةِ ) وقال : ( يسألونَك عن الساعةِ أيَان مُرساها ) وبنيت على الفتح لأن قبلها ألفاً فأتبعوا الفتحَ الفتحَ
وأما ( أينَ ) فسؤالٌ عن مكانٍ وهي كمَتى في السؤال عن الزمان إذا قلت : أينَ زيد قيل لك : في بغدادَ أو البصرة أو السوقِ فلا يمتنع مكانُ من أن يكون جواباً وإنما الجواب من جنس السؤال فإذا سئلت عن مكان لم يجز أن تخبر بزمان وإذا سئلت عن عددٍ لم يجز أن تخَبرَ بحالٍ وإذا سئلت عن معرفةٍ لم يجز أن تخبر بنكرةٍ وإذا سئلتَ عن نكرةٍ لم يجز أن تخبر بمعرفةٍ فهذه المبنيات المبهمات إنما تعرف بأخواتها وتعلم مواضعها من الإِعراب بذلك

باب الظرف الذي يتمكن وهو الخامس من المبنيات
وذلك نحو الآنَ ومُذْ ومنذُ فأما الآن فقال أبو العباس رحمه الله : إنما بني لأنه وقع معرفةً وهو مما وقعت معرفته قبل نكرته لأنك إذا قلت : الآنَ فإنما تعني به الوقت الذي أنت فيه من الزمان فليس له ما يشركه ليس هو آنٌ وآنٌ فتدخل عليه الألف واللام للمعرفة وإنما وقع معرفةً لِما أنت فيه من الوقت
وأما ( مُنذ ) فإذا استعملت اسماً أن يقع ما بعدها مرفوع أو جملة نحو : ما رأيته منذ يومان وإن المعنى : بيني وبينَ رؤيته يومانِ وقد فسرت ذلك فيما تقدم وهي مبنيةٌ على الضم وإنما حركت لذلك لأن قبلها ساكناً وبنيت على الضم لأنها غاية عند سيبويه واتبعوا الضَّم الضَّم وقد يستعمل حرفاً يجر وأما ( مذ ) فمحذوفةٌ من ( مُنْذُ ) والأغلب على ( مُذْ ) أن تستعمل اسماً ولو سميت إنساناً بمذ لقلت مُنيذُ إذا صغرته فرددت ما ذهب وصار ( مُذْ ) أغلب على الأسماءِ لأنها منقوصة ولَدن ومِنْ عَلُ
كما قال الشاعر :
( وهي تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشاً مِن علا ... )

وأما الأفعال فنحو : خذْ وكُلْ وع كلامي وشِ ثَوباً وأما الحروف فلا يلحقها ذلك وكانت مذ ومنذ أغلب على الحروف فكل واحدٍ منهما يصلحُ في مكانِ أُختِها وإنما ذكرنا منذُ ومذْ في الظروف لأنهما مستعملان في الزمان

الباب السادس من المبنيات المفردة وهو الصوت المحكى
وذلك نحو : غاق وهي حكاية صوت الغراب وماء وهو حكاية صوت الشاةِ وعاءٍ وحاءٍ زجرٌ ومن ذلك حروف الهجاء نحو ألفٍ باء تاء ثاء وجميع حروف المعجم إذا تهيجت مقصورة موقوفة وكذلك كاف ميم موقوفة في التهجي أما زاي فيقال : زاي وزي والعدد مثله إذا أردت العدد فقط وقال سيبويه تقول : واحد اثنانِ فتشم الواحد لأنه اسمٌ ليس كالصوتِ ومنهم من يقول : ثلاثة أربعة فيطرحُ حركة الهمزة على الهاء ويفتحها ولم يحولها تاءً لأنه جعلها ساكنة والساكن لا يغير في الإِدراج فإذا لم ترد التهجي بهذه الحروف ولم تردْ أن تعد بأسماء العدد فررت منها جرت مجرى الأسماء ومددت المقصور في الهجاء فقلت : هذه الباء أحسن من هذه الباءِ وتقول : هذه الميم أحسن من هذه الميمِ وكذلك إذا عطفت بعضها على بعضٍ أعربت لأنها قد خرجت من باب الحكاية وذلك نحو قولك : ميمٌ وباءٌ وثلاثةٌ وأربعةٌ إنما مددت المقصور من حروف الهجاء إذا جعلته اسماً وأعربته لأن الأسماء لا يكون منها شيءٌ على حرفين أحدهما حرف علةٍ
ذكر الضرب الثاني من المبنيات وهو الكلم المركب :
هذه الأسماء على ضربين : فضربٌ منها يبنى فيه الإسم مع غيره وكان الأصل أن يكون كل واحدٍ منهما منفرداً من صاحبه والضرب الثاني : أن يكون أصلُ الإسم الإِضافة فيحذف المضافُ إليه وهو في النية

فالضرب الأول على ستة أقسم : اسمٌ مبني مع اسمٍ واسمٌ مبني مع فعلٍ واسم مبني مع حرفٍ واسم مع صوتٍ وحرف بنيَ مع فعلٍ وصوت مع صوتٍ فأما الإسم الذي بني مع الإسم فخمسةَ عشر وستَة عشَر
وكل كلمتين من هذا الضرب من العدد فهما مبنيان على الفتح
وكان الأصلُ خمسةٌ وعشرةٌ
فحذفت الواو وبني أحدهما مع الآخر اختصاراً وجعُلا كاسمٍ واحدٍ وكذلك حادي عشَرَ وثالث عشر إلى تاسعَ عشَر والعرب تدع خمسة عشر في الإِضافة والألف واللام على حالها ومنهم من يقول : خمسةَ عشَركَ وهي رديئة ومن ذلك : حيصَ بيص بنيا على الفتح وهي تقال عند اختلاط الأمر وذهب شغَرَ بغَرَ وأيادي سبأ ومعناه الإفتراق وقَالى قَلا بمنزلة خمسَةَ عشَر ولكنهم كرهوا الفتح في الياء والألف لا يمكن تحريكها
ومن ذلك : خَازِ بَازَ وهو ذباب عند بعضهم وعند بعضهم داءٌ ومنهم من يكسر فيقول خاز باز وبعضُ يقول : الخازَ بازَ كحضرموتَ ومنهم من يقول : خاز بازٍ فيضيفُ وينون ومن ذلك قولهم : بيتَ بيتَ وبينَ بينَ ومنهم من يبني هذا ومنهم من يضيف ويبني صباحَ مساءَ ويومَ يومٍ ومنهم من يضيف جميع هذا ومن ذلك لقيته كفةَ كفةَ وكفةً كفةً
واعلم : أنهم لا يجعلون شيئاً من هذه الأسماء بمنزلة اسم واحدٍ إلا إذا أرادا الحالَ والظرفَ والأصل والقياسُ الإِضافة فإذا سميت بشيءٍ من ذا أضفته فإذا قلت : أنت تأتينا في كل صباح ومساءٍ أضفت لا غير لأنه قد زال الظرف وصار اسماً خالصاً فمعنى قولهم : هُوَ جاري بيتَ بيتَ أي ملاصقاً ووقع بينَ بينَ أي وسطاً وأما قَالى قَلا فبمنزلة : حضرموتَ لأنه اسم بلدٍ وليسَ بظرفٍ ولا حالٍ
وأسماء الزمان إذا أضيفت إلى اسمٍ مبني جاز أن تعربَها وجاز أن تبنيَها وذاك نحو : ( يومئذ ) تقول : سيرَ عليهِ يومئْذٍ ويومئذِ والتنوين ها هنا مقتطع ليعلم أنه ليس يراد به الإِضافة والكسر في الذال من أجل سكون النون فتقرأ على هذا إن شئت : من

عذابٍ يومئذِ ومن عذابٍ يومئذٍ ومذهب أبي العباس رحمه الله في دخول التنوين هنا أنه عوض من حذف المضاف إليه
الثاني اسم بني مع فعل : وهو قولهم : حبذا هندٌ وحبذا زيدٌ بنيَ حَبَّ وهو فعلٌ مع ذا وهو اسم
ومن العرب من يقول في أحبَّ حَبَّ وقولهم : محبوب إنما جاء على حَبَّ ولو كان على أحبَّ لكان محبُ فإذا بنوا أحَبَّ مع ذا اجتمعوا على طرح الألف والدليل على أن حبذا بمنزلة اسم أنك لا تقول حبذهِ وأنه لا يجوز أن تقول حبذا وتقف حتى تقول : زيدٌ أو هندٌ فتأتي بخبرٍ فحبَذا مبتدأٌ وهند وزيد خبرٌ ومما يدل على أن حَبَّ مع ذَا بمنزلة اسم أنه لا يجوز لك أن تقول : حَبَّ في الدار ذَا زيدٌ فلا يجوز أن تفصل بينهما وبين ( ذَا ) كما تفصل في باب نِعْمَ
الثالث اسم بني مع حرف : وذلك قولك : لا رجل ولا غلامَ ويدلك على أن ( لا ) مع رجلٍ بمنزلة اسم واحدٍ أنه لا يجوز لك أن تفصل رجلاً من ( لا ) لا تقول : لا فيها رحلٌ لكَ يجوز القول : لا ماءَ ماءَ بارداً ولا رجلَ رجل صالحاً عندكَ فبني ( ماءٌ مع ماءٍ ورجلاً مع رجلٍ ) قال أبو بكر : وقد استقصيتُ ذكر ذَا في بابه ومن ذلك قولهم : يا زيداه ويا أيها الرجلُ فأي اسمٌ وهاءُ حرفٌ وهو غير مفارقٍ لأيٍّ في النداء وقد بينا ذَا في باب النداء
الرابع اسم بني مع صوت : وذلك نحو سيبويه وعمرويه تقول : هذا سيبويه يا هذا وهذا عمرويهِ يا فلانُ وهو مبنيٌ على الكسرِ وإن قلت : مررتُ بعمرويهِ وعمرويهٍ آخر نونت الثاني لأنه نكرةٌ
الخامس : الحرف الذي بني مع الفعل : وذلك : هَلمَّ مبنياً على الفتح وهو اسمٌ للفعل ومعناه : تعالَ ويدل على أنه حرفٌ بني مع فعلٍ قول من

قال من العرب : هلما للإثنينِ وهلموا للجماعة وصرفوه تصريف لَمَّ بكذا والمعنى يدلُّ على ذلكَ
السادس الصوت الذي بني مع الصوت : وذلك قولهم : حَيَّ هَلَ الثريدَ ومعناه : إيتوا الثريدَ وحكى سيبويه : عن أبي الخطاب أّن بعض العرب يقول : حَيَّهلَ الصلاةَ
الضرب الثاني : من القسمة الأولى وهو ما أصله الإِضافة إلى اسم فحذف المضاف إليه :
فهذه المضافات على قسمين : قسم حذف المضاف إليه البتة وضربٌ منع الإِضافة إلى الواحد وأُضيف إلى جملة فأما ما حذف المضاف إليه فيجيء على ضربين : منهما ما بني على الضمة وهي التي يسميها النحويون الغاياتِ فمصروفة عن وجهها قبلُ وغيرُ وحسبُ فجميع هذه كانَ أصلها الإِضافة تقول : جئت من قبل هذا ومن بعد هذا وكنت أول هذا أو فوقَ وغيرَ هذا وهذا حسبُك أي كافيكَ فلما حذف ما أُضيفت إليه بنيت وإنما بنيت على الحركة ولم تبنَ على السكون وفي بعضها ما قبل لامه متحرك لأنها أسماءٌ أصلها التمكن وتكون نكراتٍ معرباتٍ فلما بنيتْ تجنب إسكانها وزادوها فضيلة على ما لا أصل له في التمكن فهذه علة بنائها على الحركة وأما بناؤها على الضم خاصةً فلأنَّ أكثر أحوالِ هذه الظروف أن تكون منصوبةً وذلك الغالب عليها فأخرجت إلى الضم ولم تخرج إلى الكسر لأن الكسر أخو النصب وجعلوا ذلك علامة للغاية لأن الكسر حقه أن يكون لإلتقاء الساكنين فتجنبوه ها هنا لأنه موضع تحرك لغير التقاء الساكنين
الثاني : ما بني وليس بغاية من ذلك أمس مبنية على الكسر وكسرت

لإلتقاء الساكنين وإنما بني لأنه يقال لليوم الذي قبل يومك الذي أنت فيه وهو ملازم لكل يوم من أيام الجمعة ووقع في أول أحواله معرفة فمعرفته قبل نكرته فمتى نكرته أعربته وغدٌ ليس كذلك لأنه غير معلوم لأنه مستقبلٌ لا تعرفه فإذا أضفت أمسِ نكرته ثم أضفته فيصير معرفة بالإِضافة كما تقول : زيدكَ إذا جعلتَهُ من أمةٍ كُلها زيدٌ وعرفته بالإِضافة وزالت المعرفة الأولى
وقال أبو العباس رحمه الله في قول الشاعر :
( طَلبُوا صُلْحَنَا وَلاَتَ أَوَانٍ ... فَأَجَبْنَا أنْ لَيْسَ حِينَ بقاءِ )
كان ( أوان ) مما لا يستعمل إلا مضافاً فلما حذف ما يضاف إليه بنوه على الكسر لإلتقاء الساكنين كما فُعِلَ بأمسِ وأُدخل التنوين عوضاً لحذف ما يُضاف إليه ( أوانَ ) ألا ترى أنهم لا يكادون يقولون : أوان صدقٍ كما يقولون في الوقت والزمن
ولكن يدخلون الألف واللام فيقولون : كانَ ذلكَ في هذا الأوانِ فيكونان عوضاً
الضرب الثاني ما منع الإِضافة إلى الواحد وأُضيف إلى جملة :
وذلك : حيثُ وإذْ وإذا فأما ( حيثُ ) فإن من العرب من يبنيها على الضم ومنهم من يبنيها على الفتح ولم تجىء إلا مضافةً إلى جملةٍ نحو

قولك : أقومُ حيثُ يقوم زيدٌ وأصلي حيثُ يصلي فالحركة التي في الثاء لإلتقاء الساكنين فَمنْ فتح فَمِنْ أجل الياء التي قبلها وفتح استثقالاً للكسر ومن ضمَّ فلشبهها بالغايات إذ كانت لا تضاف إلى واحدٍ ومعناها الإِضافةُ وكان الأصل فيها أن تقول : قمتُ حيثُ زيدٌ كما تقولُ : قمتُ مكانَ زيدٍ وأما إذْ فمبنية على السكون
وتضاف إلى الجمل أيضاً نحو قولك : إذْ قامَ زيدٌ وهي تدل على ما مضى من الزمان ويستقبحون جئتُكَ إذْ زيدٌ قامَ إذا كان الفعلُ ماضياً لم يحسن أن نفرق بينه وبين إذْ لأن معناهما في المضي واحدٌ
وتقول : جئتُكَ إذْ زيدٌ قام وإذ زيدٌ يقوم فحقها أن تجيء مضافة إلى جملة فإذا لم تضف نونته قال أبو ذؤيب :
( نَهيتُك عِنْ طِلابِكَ أُمَّ عَمْروٍ ... بِعَاقِبةٍ وأَنْتَ إذٍ صَحِيح )
وأما ( إذا ) فقلما تأتي من الزمان وهي مضافة إلى الجملة تقول : أجيئُكَ إذا أحمَر البسرُ وإذا قدَم فلانٌ ويدلك على أنها اسم أنها تقع موقع قولك : آتيكَ يوم الجمعةِ وآتيكَ زمَن كَذا ووقتَ كذا وهي لما يستأنف من الزمان ولم تستعمل إلا مضافةً إلى جملة
فأما ( لَدُنْ ) فجاءت مضافةً ومن العرب من يحذف النون فيقول : لدُ كذا وقد جعل حذف النون بعضهم أن قال : لَدُن غدوةً فنصب غدوةً لأنه توهم أن هذه النون زائدةٌ تقوم مقام التنوين فنصب كما تقول : قائمٌ غدوةً ولم يعملوا ( لَدن ) إلا في غدوةً خاصةً قال أبو بكر : قد ذكرنا الأسماء المعربة والأسماء المبنية وقد كنا قلنا : أن الكلام اسم وفعلٌ وحرفٌ ونحن نتبع الأسماء والأفعال ونذكر إعرابها وبناءها إن شاء الله

باب إعراب الأفعال وبنائها
الأفعال تقسم قسمين : مبنيٌ ومعرب
فالمبني ينقسم قسمين : مبنيٌ على حركةٍ ومبنيٌ على سكونٍ فأما المبني على حركةٍ فالفعل الماضي بجميع أبنيته نحو : قام واستقام وضربَ واضطربَ ودحرجَ وتدحرجَ وأحمرَ واحمارَّ وما أشبه ذلك وإنما بني على الحركة لأنه ضارعَ الفعل المضارع في بعض المواضع نحو قولك : إنْ قامَ قمتُ فوقع في موضعٍ : إنْ تَقم ويقولون مررتَ برجلٍ ضَرَبَ كما تقول : مررتُ برجلٍ يضربُ فبنيَ على الحركة كما بني ( أولُ وعلُ ) في بابه على الحركة وجعل له فضيلة على ما ليس بمضارع المضارعِ عما حصل ( لأول وعل ) أو من قبل ومن بعد فضيلة على المبنيات وأما المبني على السكون فما أمرت به وليس فيه حرف من حروف المضارعة وحروف المضارعة الألف والتاءُ والنون والياءُ وذلك نحو قولك : قُم واقعدْ واضربْ فلما لم يكن مضارعاً للإسم ولا مضارعاً للمضارع ترك على سكونه لأن أصل الأفعال السكونُ والبناءُ وإنما أعربوا منها ما أشبه الأسماء وضارعها وبنوا منها على الحركة ما ضارع المضارع وما خلا من ذلك أسكنوهُ وهذه الألف في قولك : اقعد ألفُ وصلٍ إنما تنطق بها إذا ابتدأت لأنه لا يجوز أن تبتدىء بساكنٍ وما بعد حروف المضارعة ساكن فلما خلا الفعل منها واحتيج إلى النطق به أدخلت ألف الوصل وحق ألف الوصل أن تدخل على الأفعال المبنية فقط ولا تدخل على الأفعال المضارعة لأنها لا تدخل على الأسماء إلا

على ابنٍ وأخواته وهو قليل العدد وإنما بني فعلُ التعجب الذي يجيء على لفظ الأمر بنيَ على السكونِ نحو قولك : أكرمْ بزيدٍ وأسمعْ بهم وأبصرْ
وقد مضى ذكر ذا في باب التعجب
وأما الفعل المعرب فقد بينا أنه الذي يكون في أوله الحروف الزوائد التي تسمى حروف المضارعة وهذا الفعل إنما أُعرب لمضارعته الأسماءَ وشبهه بها والإِعراب في الأصل للأسماء وما أشبهها من الأفعال أُعرب كما أنه إنما أعرب من أسماء الفاعلين ما جرى على الأفعال المضارعة وأشباهها ألا ترى أنك إنما تُعمِلُ ( ضارباً ) إذا كان بمعنى يفعلُ فتقول : هذا ضاربٌ زيداً فإن كان بمعنى ( ضرب ) لم تعمله فمنعت هذا العمل كما منعت ذلك الإِعراب واعلم أنه إنما يدخله من الإِعراب الذي يكون في الأسماء : الرفعُ والنصب ولا جرَّ فيه وفيه الجزم وهو نظير الخفض في الأسماء لأن الجَرَّ يخص الأسماء والجزم يخص الأفعال ونحن نذكرها نوعاً نوعاً بعونِ الله
الأفعال المرفوعة :
الفعل يرتفع بموقعهِ موقَع الأسماءِ كانت تلك الأسماء مرفوعةً أو مخفوضةً أو منصوبةً فمتى كان الفعل لا يجوز أن يقع موقعه اسمٌ لم يجزْ رفعه وذلك نحو قولك : يقومُ زيدٌ ويقعدُ عمروٌ وكذلك عمروٌ يقولُ وبكرٌ ينظرُ ومررتُ برجلٍ يقومُ ورأيت رجلاً يقولُ ذاكَ ألا تَرى أنك إذا قلت : يقومُ زيدٌ جاز أن تجعل زيداً موضع ( يقومُ ) فتقول : زيدٌ يفعلُ كَذا وكذلك إذا قلت : عمروٌ ينطلق فإنما ارتفع ( ينطلقُ ) لأنه وقع موقع ( أخوكَ ) إذا قلت : زيدٌ أخوكَ فمتى وقع الفعل المضارع في موضع لا تقع فيه الأسماء فلا يجوزُ رفعه
وذلك نحو قولك : لم يقمْ زيدٌ لا يجوز أن ترفعه لأنه لا يجوز أن تقول : لم زيدٌ فافهَم هذا
واعلم : أن الفعل إنما أعُرب ما أُعرب منه لمشابهته الأسماء فأما الرفع

خاصةً فإنما هو لموقعه موقع الأسماء فالمعنى الذي رفعت به غير المعنى الذي أعربتَ بهِ
الأفعال المنصوبة :
وهي تنقسم على ثلاثة أقسام : فعلٌ ينصبُ بحرفٍ ظاهرٍ ولا يجوز إضمارهُ وفعلٌ ينتصبُ بحرفٍ يجوز أن يُضمَر وفعلٌ ينتصب بحرفٍ لا يجوزُ إظهارهُ والحروفُ التي تنصبُ : أنْ ولَن وكي وإذن
الأول : ما انتصب بحرف ظاهر لا يجوز إضماره وذلك ما انتصب بلن وكي تقول : لن يقومَ زيدٌ ولن يجلسَ فقولك : لن يفعلَ يعني : سَيفعلُ يقول القائل : سيقومُ عمروٌ فتقول : لَن يقومَ عمروٌ وكان الخليل يقول : أصلها لا أَنْ فألزمه سيبويه : أن يكون يقدم ما في صلة ( أن ) في قوله : زيداً لَنْ أضربَ وليس يمتنع أحد من نصب هذا وتقديمه فإن كان على تقديره فقد قدم ما في الصلة على الموصول
وأما ( كي ) فجواب لقولك : لِمه إذا قال القائل : لِمَ فعلت كذا فتقول : كي يكون كذا ولِمَ جئتني فتقول : كي تعطيَني فهو مقارب لمعنى اللام إذا قلت : فعلتُ ذلك لِكذا فأما قول من قال : كيمه في الإستفهام فإنه جعلها مثل لِمَه فقياس ذلك أن يُضمر ( أنْ ) بعد ( كي ) إذا قال : كي يفعل لأنه قد أدخلها على الأسماء
وكذا قول سيبويه : والذي عندي أنه إنما قيل : كيمه لَما تشبيهاً
وقد يشبهون الشيء بالشيءِ وإن كان بعيداً منه

وأما إذِنٍ فتعمل إذا كانت جواباً وكانت مبتدأة ولم يكن الفعل الذي بعدها معتمداً على ما قبلها وكان فعلاً مستقبلاً فإنما يعمل بجميع هذه الشرائط وذلك أن يقول القائل : أنا أكرمكَ فتقول : إذن أجيئَك إذن أحسنَ إليكَ إذن آتيَكَ
فإن اعتمدت بالفعل على شيءٍ قبل ( إذنْ ) نحو قولك : أنا إذنْ آتيكَ رفعت وألغيتَ كما تلغى ظننتُ وحسبتُ وليس بشيءٍ من أخواتها التي تعمل في الفعل يُلغى غيرها فهي في الحروف نظير أرى في الأفعال ومن ذلك إن تأتني إذن آتك لأن الفعل جواب : إنْ تأتني فإن تم الكلام دونها جاز أن تستأنف بها وتنصب ويكون جواباً وذلك نحو قول ابن عَنَمة :
( أرْدُدْ حِمَارَكَ لا تُنْزَع سَوِيَّتُهُ ... إذنْ يُردَّ وقَيْدُ العَيْرِ مَكْرُوبُ )
فهذا نصبٌ لأن ما قبله من الكلام قد استغنى وتمَّ ألا ترى أنَّ قوله : اردد حمارَك لا تُنزعْ سويَتُه كلام قد تمَّ ثم استأنف كأنه أجاب من قال : لا أفعلُ ذاكَ فقال :
( إذنْ يُردَّ وقَيْدُ العيرِ مكروبُ ... )
فإن كان الفعل الذي دخلت عليه ( إذنْ ) فعلاً حاضراً لم يجز أن تعمل فيه لأن أخواتها لا يدخلن إلا على المستقبل وذلك إذا حدثت بحديثٍ فقلت : إذنْ أظنه فاعلاً وإذن أخالكَ كاذباً وذلك لأنك تخبر عن الحال

التي أنت فيها في وقت كلامك فلا تعمل ( إذن ) لأنه موضع لا تعمل فيه أخواتها فإذا وقعت ( إذن ) بين الفاء والواو وبين الفعل المستقبل فإنك فيها بالخيار : إن شئتَ أعملتها كإعمالك أرى وحسبت إذا كانت واحدةٌ منها بين اسمين وإن شئت ألغيت فأما الإِعمال فقولك : فإذنْ آتيكَ فإذنْ أكرمَكَ قال سيبويه : وبلغنا أن هذا الحرف في بعض المصاحف : ( وإذن لا يلبثوا خلفك إلا قليلا ) وأما الإِلغاء فقولك : فإذن أجيئُكَ وقال عز و جل : ( وإذنْ لا يؤتون الناس نقيرا )
واعلم : أنه لا يجوز أن تفصل بين الفعل وبين ما ينصبه بسوى إذن وهي تُلغى وتقدم وتؤخر تقول : إذنْ والله أجيئكَ فتفصل والإِلغاء قد عرفتك إياهُ وتقول : أنا أفعلُ كذا إذنْ فتؤخرها وهي ملغاة أيضاً وإذا قلت : إذنْ عبدُ اللّه يقولُ ذلكَ فالرفع لا غير لأنه قد وليها المبتدأ فصارت بمنزلة ( هَلْ ) وزعم عيسى : أن ناساً يقولون : إذن أفعلُ في الجواب
الثاني ما انتصب بحرف يجوز إظهاره وإضماره :
وهذا يقع على ضربين : أحدهما أن تعطف بالفعل على الإسم والآخر أن تدخل لامَ الجر على الفعل فأما الضرب الأول من هذا وهو أن تعطف الفعل على المصدر فنحو قولك : يعجبني ضربُ زيدٍ وتغضبَ
تريد : وأنْ

تغضَب فهذا إظهار ( أنْ ) فيه أحسنُ
ويجوز إضمارها فأنْ مع الفعل بمنزلة المصدر فإذا نصبت فقد عطفت اسماً على أسمٍ ولولا أنك أضمرت ( أنْ ) ما جاز أن تعطف الفعل على الإسم لأن الأسماء لا تُعطف على الأفعالِ ولا تُعطفُ الأفعالُ على الأسماءِ لأن العطف نظير التثنية فكما لا يجتمع الفعل والإسم في التثنية كذلك لا يجتمعان في العطف فمما نصب من الأفعال المضارعة لما عطف على اسمٍ قول الشاعر :
( لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عيني ... أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ )
كأنه قال : للبسُ عباءةٍ وأنْ تقرَّ عيني
وأما الضرب الآخر فما دخلت عليه لامَ الجر وذلك نحو قولك : جئتُكَ لتعطيني ولتقومَ ولتذهبَ وتأويل هذا : جئتُك لأنْ تقومَ جئتُكَ لأنْ تعطيني ولأن تذهبَ وإنْ شئتَ أظهرتَ فقلت ( لأنَّ ) في جميعِ ذلك وإن شئت حذفت ( أنْ ) وأضمرتها ويدلك على أنه لا بدّ من إضمار ( أنْ ) هنا إذا لم تذكرها أن لام الجر لا تدخل على الأفعال وأن جميع الحروف العوامل في الأسماء لا تدخل على الأفعالِ وكذلك عوامل الأفعال لاتدخل على الأسماء وليس لك أن تفعل هذا مع غير اللام لو قلت : هذا لك بتقوم تريد بأن تقوم لم يجز وإنما شاع هذا مع اللام من بين حروف الجر فقط للمقاربة التي بين كي واللام في المعنى

الثالث وهو الفعل الذي ينتصب بحرف لا يجوز إظهاره :
وذلك الحرف ( أنْ ) والحروفُ التي تضمر معها ولا يجوز إظهارها أربعة أحرفٍ ( حتى ) إذا كانت بمعنى إلى أنْ والفاء إذا عطفت على معنى الفعل لا على لفظه والواو إذا كانت بمعنى الإجتماع فقط وأو إذا كانت بمعنى إلى ( أنْ )
شرح الأول من ذلك وهو حتى :
اعلم : أن ( حتىَ ) إذا وقعت الموقع الذي تخفض فيه الأسماء ووليها فعلٌ مضارع أضمر بعدها ( أنْ ) ونصب الفعلَ وهي تجيء على ضربين : بمعنى ( إلى ) وبمعنى ( كي ) فالضرب الأول قولك : أنا أسيرٌ حتى أدخلَها والمعنى : أسير إلى أن أدخلَها وسرت حتى أدخلهَا كأنه قال : سرت إلى دخولِها فالدخول غايةٌ للسير وليسَ بعلةٍ للسيرٍ وكذلك : أنا أقف حتى تطلعَ الشمسُ وسرتُ حتى تطلَع الشمسُ والضربُ الآخر أن يكون الدخول علة للسيرِ فتكون بمعنى ( كي ) كأنه قال : ( سرتُ كي أدخلَها ) فهذا الوجه يكون السير فيه كان والدخول لم يكن كما تقول : أسلمت حتى أدخلَ الجنةَ وكلمته كي يأمر لي بشيءٍ ( فَحتىَّ ) متى كانت من هذين القسمين اللذين أحدهما يكون غاية الفعل وهي متعلقة به وهي من الجملة التي قبلها فهي ناصبة وإن جاءت بمعنى العطف فقد تقع ما بعدها جملة وارتفاع الفعل بعدها على وجهين : على أن يكون الفعل الذي بعدها متصلاً بالفعل الذي قبلها أو يكون منقطعاً منه ولا بدّ في الجميع من أن يكون الفعلُ الثاني يؤديه الفعل الأول فأما الوجه الأول فنحو قولك : سرتُ حتى أدخلَها ذكرت أن الدخول اتصل بالسير بلا مهلة بينهما كمعنى الفاء إذاعطفت بها فقلت : سرت فأنا أدخلَها
وصلت الدخول بالسير كما قال الشاعر :
( تُرادى عَلَى دِمْنِ الحِيَاضِ فإنْ تَعَفْ ... فإنَّ المُنَدَّى رِحْلَةٌ فَرُكُوبُ )

وينشدُ تراد لم يجعل بين الرحلة والركوب مهلةُ ولم يرد أنَّ رحلته فيما مضى وركوبه الآن ولكنه وصل الثاني بالأول ومعنى قولي : إنَّكَ إذا رفعتَ ما بعد حتى فلا بدّ من أن يكون الفعلُ الذي قبلها هو الذي أدى الفعلَ الذي بعدها أن السير به كان الدخول إذا قلت : سرتُ حتى أدخلَها
ولو لمْ يسرْ لَم يدخلْها ولو قلت : سرتُ حتى يدخلُ زيدٌ فرفعت ( يدخلُ ) لمِ تَجر لأن سيرك لا يؤدي زيداً إلى الدخول فإن نصبت وجعلتَها غايةً جازَ فقلت : سرتُ حتى يدخلَ زيدٌ تريدُ إلى أن يدخل زيدٌ وكذلك : سرتُ حتى تطلعَ الشمسُ ولا يجوز أن ترفع ( تَطلعُ ) لأنَّ سيركَ ليس بسببٍ لطلوع الشمسِ وجاز النصب لأن طلوع الشمسِ قد يكون غايةً لسيرك
وأما الوجه الثاني من الرفع : فأن يكون الفعلُ الذي بعد ( حتىَّ ) حاضراً ولا يراد به اتصاله بما قبله ويجوز أن يكون ما قبله منقطعاً ومن ذلك قولك : لقد سرت حتى أدخلها وما أمنع حتى أني أدخلُها الآن أدخلُها كيفَ شئت ومثل قول الرجل : لقد رأى مني عاماً أول شيئاً حتى لا أستطيع أن أكلَمه العامَ بشيءٍ
ولقد مَرِض حتى لا يرجونه إنما يراد أنه الآن لا يرجونه وأن هذه حاله وقت كلامه ( فحتى ) ها هنا كحرفٍ من حروف الإبتداء والرفع

في الوجهين جميعاً كالرفع في الإسم لأن حتى ينبغي أن يكون الفعل الأول هو الذي أدى إلى الثاني لأنه لولا سيره لم يدخل ولولا ما رأى منه في العام الأول ما كان لا يستطيع أن يكلمه العام ولولا المرضُ ما كان لا يُرجى وهذا مسألة تبين لك فيما فرق ما بين النصب والرفع تقول : كان سيري حتَى أدخلُها فإذا نصبت كان المعنى : إلى أن أدخلَها فتكون ( حتى ) وما عملت فيه خبرَ كان فإن رفعت ما بعد ( حتى ) لم يجز أن تقول : كان سيري حتَّى أدخلَها لأنك قد تركت ( كانَ ) بغير خبرٍ لأن معنى ( حتى ) معنى الفاء فكأنك قلت : كان سيري فأدخلها فإن زدت في المسألة ما يكون خبراً ( لكانَ ) جاز فقلت : كان سيري سيراً متعباً حتى أدخلَها وعلى ذلك قرىء : ( حتى يقولُ الرسول ) وحتى يقولُ : مَنْ نصبَ جعلَهُ غايةً ومَن رفَع جعلَه حالاً
شرح الثاني : وهو الفاء :
اعلم : أن الفاء عاطفة في الفعل كما يعطف في الإسم كما بينت لك فيما تقدم فإذا قلت : زيدٌ يقومُ فيتحدث فقد عطفت فعلاً موجباً على فعلٍ موجبٍ وإذا قلت : ما يقومُ فيتحدث فقد عطفت فعلاً منفياً على منفيّ فمتى جئت بالفاء وخالف ما بعدها ما قبلها لم يجز أن تحمل عليه فحينئذٍ تحمل الأول على معناه وينصب الثاني بإضمار ( أنْ ) وذلك قولك : ما تأتني فتكرمني وما أزورك فتحدثني لَم ترد : ما أزورك وما تحدثني ولو أردت

ذلك لرفعت ولكنك لما خالفت في المعنى فصار : ما أزوركَ فكيف تحدثني وما أزوركَ إلاّ لم تحدثني حمل الثاني على مصدر الفعل الأول وأضمر ( أنْ ) كي يعطف اسماً على اسمٍ فصار المعنى ما يكون زيارةٌ مني فحديثٌ منكَ
وكذا كلما كان غير واجب نحو الأمر والنهي والإستفهام فالأمرُ نحو قولك : إئتني فأكرِمَكَ والنهي مثل : لا تأتني فأكرمَكَ والإستفهام مثل : أتأتني فأعطيَك لأنه إنما يستفهم عن الإِتيان ولم يستفهم عن الإِعطاء وإنما تضمر ( أنْ ) إذا خالف الأول الثاني فمتى أشركت الفاء الفعلَ الثاني بالأول فلا تضمر ( أنْ ) وكذلك إذا وقعت موقع الإبتداء أو مبنيٌّ على الإبتداء
شرح الثاني : وهو الواو :
الواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انتصب ما بعد الفاء وإنما تكون كذلك إذا لم ترد الإِشراك بين الفعلِ والفعلِ وأردت عطفَ الفعلِ على مصدر الفعلِ الذي قبلَها كما كان في الفاء وأضمرت ( أنْ ) وتكون الواو في جميع هذا بمعنى ( مَع ) فقط وذلك قولك : لا تأكلِ السمكَ وتشربَ اللبنَ أي لا تجمعْ بين أكلِ السمكِ وشربِ اللبنِ فإنْ نهاه عن كل واحدٍ منهما على حالٍ قال : ولاَ تشربِ اللبنَ على حالٍ وتقول : لا يسعني شيءٌ ويعجز عنكَ فتنصبُ ولا معنى للرفع في ( يعجزُ ) لأنه ليس يخبر أن الأشياء كلها لا تسعه وأن الأشياء كلها لا تعجز عنه إنما يعني لا يجتمع أن يسعني شيءٌ ويعجز عنك كما قال :
( لاتَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ )

أي لا يجتمع أن تنهي وتأتي ولو جزم كان المعنى فاسداً
ولو قلت بالفاء : لا يسعني شيءٌ فيعجزَ عنكَ كان جيداً لأن معناه : لا يسعني شيءٌ إلا لم يعجزْ عنكَ ولا يسعني شيءٌ عاجزاً عنكَ
فهذا تمثيلٌ كما تمثلُ : ما تأتيني فتحدثني إذا نصبت بما تأتيني إلاّ لم تحدثني وبما تأتيني محدثاً وتنصب مع الواو في كل موضع تنصب فيه مع الفاء وكذلك إذا قلت : زرني فأزوركَ تريدُ ليجتمعَ هذان قال الشاعر :
( أَلم أَكُ جَاَركُمْ ويَكُونَ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُم المَوَدَّةُ والإِخَاءُ )
أراد : ألم يجتمعْ هذانِ ولو أراد الإِفراد فيهما لم يكن إلا مجزوماً والآية تقرأ على وجهين ( ولما يعلمِ الله الذينَ جاهدوا منكم ويعلم الصابرينَ ) وإنما وقع النصب في باب الواو والفاء في غير الواجب لأنه لو كان الفعلُ المعطوف عليه واجباً لم يبنِ الخلاف فيصلحُ إضمارُ ( أنْ )
شرح الرابع وهو ( أو ) :
اعلم : أن الفعل ينتصب بعدها إذا كان المعنى معنى إلا أن تفعلَ تقول : لألزمنَّكَ أو تعطيني كأنه قال : ليكوننَّ اللزومُ والعطيةُ وفي مصحف أُبي ( تقاتلونهم أو يسلموا ) على معنى : إلا أن يُسلموا أو حتى يسلموا وقال امرؤ القيس :

( فَقُلْتُ لَهُ : لا تَبْكِ عَينُكَ إنَّما ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فَنُعْذَرَا )
أي : إلا أن نموت فنعذَرا فكلُ موضعٍ وقعتْ فيهِ أو يصلح فيه إلا أنْ وحتى فالفعل منصوب فإن جاء فعلٌ لا يصلحُ هذا فيهِ رفعت وذلك نحو قولك أتجلس أو تقومُ يا فَتى والمعنى : أيكونَ منكَ أحدُ هذينِ وهل تكلمنا أو تنبسطُ إلينا لا معنى للنصبِ هنا وقال الله عز و جل : ( هل يسمعونكم إذْ تدعونَ أو ينفعونكم أو يضُرُّونَ ) فهذا مرفوع لا يجوز فيه النصب لأن هذا موضع لا يصلحُ فيه ( إلاّ أنْ )
الأفعال المجزومة :
الحروف التي تجزم خمسةٌ : لَمْ ولَمّا ولا في النهي واللام في الأمر وإنْ التي للجزاء وهذه الحروفُ تنقسم قسمين : فأربعة منها لا يقع موقعَها غيرُها ولا تحذف من الكلام إذا أريدت وهي لَمْ وَلمَّا ولا في النهي ولامُ الأمر والقسم الآخر حرف الجزاء قد يحذف ويقعَ موقعه غيره من الأسماء وحذف حرف الجزاء على ضربين : ضربٌ يقومُ مقامه اسمٌ يجازى بهِ وضربٌ يحذفُ البتةَ ويكونُ في الكلامِ دليلٌ عليه والأسماء التي يجازى بها على ضربين : اسمٌ غيرُ ظرفٍ واسم ظرفُ وهو نحو : مَا ومَنْ وأي وأينَ ومَتى وحيثَما ومتهما وإذْ ما

شرح القسم الأول وهو الأحرف الأربعة :
لم ولمَّا ولا في النهي ولام الأمر أما لَمْ فتدخلُ على الأفعال المضارعة واللفظُ لفظُ المضارع والمعنى معنى الماضي تقولُ : لَمْ يقمْ زيدٌ أمسِ ولَم يقعدْ خالدٌ وأما ( لَمَّا ) لَمْ ضمتْ إليها ( مَا ) وبنيتْ معها فغيرت حالها كما غيرت لو ( ما ) ونحوها ألا تَرى أنكَ تقول : لمّا ولا يتبعها شيءٌ ولا تقول ذلك في ( لَمْ ) وجوابُ ( لمّا ) قد فَعلَ يقول القائل : لمَّا يفعلْ فيقول : قد فعَلَ ويقول أيضاً للأمر الذي قد وقع لوقوع غيره وتقول : لما جئتَ جئتُ فيصيرُ ظرفاً وأما ( لا في النهي ) فنحو قولِكَ : لا تقمْ ولا تقعدْ ولفظ الدعاء لفظُ النهي كما كان كلفظِ الأمر تقول : لا يقطع اللهُ يدكَ ولا يتعس اللهُ جدك ولا يبعدُ الله غيرَك ولا في النهي بمعنى واحدٍ لأنك إنَّما تأمره أن يكون ذلك الشيء الموجب منفياً ألا ترى أنَّكَ إذا قلت : قُمْ إنّما تأمره بأن يكون منه قيامُ فإذا نهيت فقلت : لا تَقم فقد أردت منه نفي ذلكَ فكما أنَّ الأمر يراد به الإِيجاب فكذلك النهي يراد به النفي وأما لام الأمر فنحو قولك : ليقم زيدٌ وليقعدْ عمروٌ ولتقم يا فلانُ تأمر بها المخاطب كما تأمرُ الغائب وقال عز و جل ( فبذلكَ فلتفرحوا ) ويجوز حذف هذه اللام في الشعر وتعمل مضمرة قال متمم بن نويرة :
( علَى مِثْلِ أَصْحَابِ البَعُوضَةِ فَاخْمِشِي ... لَكِ الوَيْلُ حُرَّ الوَجْهِ أو يَبْكِ مَنْ بَكَى )
أراد : ليبكِ ولا يجوزُ أن تضمر لَمْ وَلا في ضرورة شاعرٍ
ولو أضمرا لالتبس الأمر بالإِيجاب

شرح القسم الثاني وهو حرف الجزاء :
اعلَمْ : أنَّ لحرف الجزاء ثلاثة أحوال حالٍ يظهر فيها وحالٍ يقع موقعه اسم يقوم مقامه ولا يجو أن يظهر معه والثالث أن يحذف مع ما عمل فيه ويكون في الكلام دليل عليه
فأما الأول الذي هو حرف الجزاء : فإن الخفيفة ويقال لها : أم الجزاء وذلك قولك : إن تأتني آتِكَ وإنْ تقمْ أقم فقولك : إن تأتني شرط وآتِكَ جوابهُ ولا بُدَّ للشرطِ من جوابٍ وإلا لم يتم الكلام وهو نظيرُ المبتدأ الذي لا بُدَّ له من خبر ألا ترى أنَّك لو قلت : ( زيدٌ ) لم يكن كلاماً يقال فيه صدقٌ ولا كذبٌ فإذا قلت : منطلقٌ تَمَّ الكلام فكذلك إذا قلت : إنْ تأتني لم يكن كلاماً حتى تقولَ : آتِكَ وما أشبه وحَقُّ ( إن ) في الجزاء أن يليها المستقبل من الفعل لأنك إنما تشترط فيما يأتي أنْ يقعَ شيءٌ لوقوع غيره وإنْ وليها فعل ماضٍ أحالت معناه إلى الإستقبال وذلك قولك : إنْ قمتَ قمتُ إنما المعنى : إنْ تَقمْ أقم ( فإنْ ) تجعل الماضي مستقبلاً كما أنَّ ( لَمْ ) إذا وليها المستقبل جعلته ماضياً تقول : لم يقمْ زيدٌ أمسِ والمعنى : ما قام فعلى هذا يجوز أن تقول : إنْ لَم أَقمْ لَم أَقمْ فلا بد لشرط الجزاء من جواب والجواب يكون على ضربين : بالفعل ويكون بالفاء فالفعل ما خبرتُكَ به فأما الفاء فنحو قولك : إنْ تأتني فأنا أكرمُكَ وإنْ تأتِ زيداً فأخوه يحسن إليكَ وإنْ تتّقِ الله فأنتَ كريمٌ فحق الفاء إذا جاءت للجواب أن يُبتدأ بعدها اللام ولا يجوز أن

تعمل فيما بعدها شيءٌ مما قبلها وكذلك قولك : إنْ تأتني فلكَ درهمٌ وما أشبه هذا وقد أجازوا للشاعر إذا اضطر أن يحذف الفاء
وأما الثاني : فأن يقع موقع حرف الجزاء اسم والأسماء التي تقع موقعه على ضربين : اسمٌ غير ظرفٍ واسمٌ ظرفٌ
فالأسماء التي هي غير الظروف : مَنْ ومَا وأيّهم تقول : مَنْ تكرمْ أكرمْ وكان الأصل : إنْ تكرمْ زيداً وأشباهَ زيدٍ أكرم فوقعت ( مَنْ ) لما يعقل كما وقعت ( مَنْ ) في الإستفهام مبهمةً لما في ذلك من الحكمة وكذلك : ما تصنعُ أَصنعْ وأّيَّهم تضرب أَضربْ تنصب أيهم بتضرب لأن المعنى : إنْ تضربْ أياً ما منهم أَضربْ ولكن لا يجوز أن تقدم ( تضربْ ) على ( أي ) لأن هذه الأسماء إذا كانت جزاءً أو استفهاماً فلها صدور الكلام كما كان للحروف التي وقعت مواقعها فكذلك مَنْ وما إذا قلت : مَنْ تكرمْ أكرمْ وما تصنعْ أَصنعْ
وموضعها نصب وإذا أردت أن تبين مواضعها من الإِعراب فضع موضعها ( إن ) حتى يتبين لك وإذا قلت : مَنْ يقمْ أَقم إليه فموضع ( مَنْ ) رفعٌ لأنها غير معقولة وكذا ايهم يضرب زيداً أضربه وأيهم يأتني أحسن إليه وأما ( مَهما ) فقال الخليل : هي ( مَا ) أدخلت معها ( ما ) لغواً وأبدلوا الالفَ هاء
قال سيبويه : ويجوز أن تكون كإِذْ ضُمتْ إليها ( مَا ) وأما الظروف التي يجازى بها : فمتى وأينَ وأنَّى وأي حين وحيثُما وإذْ ما لا يجازى بحيثُ وإذْ حتى يُضم إليهما ( مَا ) تصير مع كل واحد منهما بمنزلة حرف واحد
فتقول إذا جازيت بهن : متى تأتني آتِكَ وأينْ تقمْ أَقمْ وأَنى تذهبْ أَذهبْ وأي حين تصلْ أَصلْ ( فأيُّ ) إلى أي شيء أضفتها كانت منه إن أضفتها إلى الزمان فهي زمانٌ
وإن أضفتها إلى المكان فهي مكانٌ وتقول : حيثُما تذهبْ أذهبْ وإذ ما تفعلُ أفعلْ قال الشاعر :

( إِذْ مَا تَرَيْنِي اليَوْمَ مُزْجى ظعينتي ... أُصَعِّدُ سيراً في البلادِ وأَفرَعُ )
( فإِنِّيَ مِنْ قَوْمٍ سِواكُم وإِنَّما ... رِجالي فَهْمٌ بالحِجَازِ وأشجعُ )
قال سيبويه : والمعنى : إما
وإذا لا يجازى بها إلا في الشعر ضرورةً وهي توصل بالفعل كما توصل ( حيثُ ) ويقع بعدها مبتدأٌ وكل الحروف والأسماء التي يجازى بها فلك أن تزيد عليها ( ما ) ملغاةً فإن زدتَ ( مَا ) على ( مَا ) لم يحسن حتى تقول : مهما فيتغيرُ فأمَّا ( حيثما وإذ ما ) لا يجازى بهما إلاّ و ( مَا ) لازمةٌ لهما
واعلم : أن الفعل في الجزاء ليس بعلةٍ لما قبله كما أنه في حروف الإستفهام ليس بعلة لِمَا قبله
واعلم : أن الفعل إذا كان مجزوماً في الجزاء وغيره فإنه يعمل عمله إذا كان مرفوعاً أو منصوباً تقول إنْ تأتني ماشياً أمشِ معكَ وإن جعلت ( تمشي ) موضع ( ماشياً ) جاز فقلت : إنْ تأتني تمشي أمشِ معكَ وإن تأتني تضحكُ أَذهبْ معكَ تريد ( ضاحكاً ) فإن جئتَ بفعلٍ يجوزُ أن يبدل من فعلٍ ولم ترد الحال جزمت فقلت : إنْ تأتني تمشِ أَمشِ معكَ وإنَّما جاز البدل لأن المشيَ ضرب من الإِتيان ولو لَمْ يكن ضرباً منه لم يجز لا يصلح أن تقول : إنْ تأتني تضحكُ أَمشي معكَ فتجزم ( تضحكُ ) وتجعله بدلاً وقد كنت عرفتك أنَّ جميع جواب الجزاء لا يكون إلا بالفعل أو بالفاء وحكى الخليل : أنَّ ( إذا ) تكون جواباً بمنزلة الفاء لأنها في معناها لأن الفاء تصحب الثاني

الأول وتتبعه إياه وإذا وقعت لشيءٍ يصحبه وذلك قوله عز و جل : ( وإنْ تُصبهم سيئةٌ بما قدمتْ أَيديهم إذا هُم يقنطون )
والمعنى : إنْ أصابتهُم سيئةٌ قَنطوا ونظيره : ( سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) بمنزلة : أم صمتم ولا يجوز : إنْ تأتني لأفعلنّ
ويجوز : إنْ أتيتني لأكرمنَّك وإنْ لَم تأتني لأغمنك لأنَّ المعنى : لئن أتيتني لأكرمنَّك فما حسن أن تدخل اللام على الشرط فيه حسنُ أن يكون الجواب لأَفعلنَّ وما لم يحسن في الشرط اللام لم يحسنْ في الجواب لأنَّ الجواب تابعٌ فحقه أن يكون على شكل المتبوع ولا يحسن أن تقول : لإِنْ تأتني لأَفعلنَّ فلما قبح دخول اللام في الشرط قَبح في الجواب ولو قلت ذاك أيضاً لكنت قد جزمت ( بإنْ ) الشرط وأتيت بجوابها غير مجزومٍ ويجوز أن تقول : ( آتيكَ إنْ تأتني ) فتستغني عن جواب الجزاء بما تقدم ولا يجوز : إن تأتني آتيكَ إلاّ في ضرورة شاعرٍ على إضمار الفاء وأما ما كان سوى ( إن ) منها فلا يحسن أن يحذف الجواب وسيبويه يجيز : إنْ أتيتني آتِكَ وإنْ لم تأتني أَجزكَ لأنه في موضع الفعل المجزومِ وينبغي أن تعلم أنَّ المواضع التي لا يصلح فيها ( إنْ ) لا يجوز أن يجازى فيها بشيءٍ من هذه الأسماء البتةَ لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو بها إذا دخل حرف الجر على الأسماء التي يجازى بها لم يغيرها عن الجزاء تقول : على أي دابةٍ أحمل أَركبه وبِمَنْ تؤخذْ أوْ خذ به وإنما قدم حرف الجرِّ للضرورة لأنه لا يكون متعلقاً بالمفعول
فإن قلت : بمَنْ تَمرُّ بهِ أمرُّ وعلى أيهم تنزل عليه انزلُ رفعت وصارت بمعنى الذي
وصارت الباء الداخلة في ( مَنْ ) لأمرَّ والباء في ( بهِ ) لتَمرَّ وقد يجوز أن تجزم بمَنْ تَمررْ

أَمررْ وأنت تريد ( بهِ ) وهو ضعيفٌ وتقول على ذلك : غلامَ مَنْ تضربْ أضربه قدمت الغلام للإِضافة كما قدمت الباء وهو منصوب بالفعل ولكن لا سبيل إلى تقديم الفعل على ( مَنْ ) في الجزاء والإستفهام
وأما الثالث : الذي يحذف فيه حرف الجزاء مع ما عمل فيه وفيما بقي من الكلام دليل عليه وذلك إذا كان الفعل جواباً للأمر والنهي أو الإستفهام أو التمني أو العرض تقول : آتني آتِكَ فالتأويل : ائتني فإِنَّك إنْ تأتني آتِكَ هذا أمرٌ ولا تفعلْ يكنْ خيراً لكَ وهذا نهيٌ والتأويل لا تفعلْ فإِنَّكَ إن لا تفعلْ يكن خيراً لكَ وإلا تأتني أُحدثك وأينَ تكون أزرك وألا ماءَ أشربهُ وليته عندنا يحدثْنَا فهذا تمنٍّ ألا تنزل تُصب خيراً وهذا عرضٌ ففي هذا كلِّه معنى ( إنْ تفعلْ ) فإن كان للإستفهام وجه من التقدير لم تجزم جوابهُ
ولا يجوز : لا تدنُ من الأسدِ فإنَّكَ إن تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلكَ فتجعل التباعد من الأسد سبباً لأكلكَ فإذا أدخلت الفاء ونصبت جاز فقلت : لا تدنُ منَ الأسد فيأكلَكَ لأنَّ المعنى لا يكونُ دنوٌ ولا أَكلٌ وتقول : مُرْهُ يحفْرها وقل له : يقل ذاك فتجزم ويجوز أن تقول : مُرْهُ يحفرُها فترفعُ على الإبتداءِ وقال سيبويه : وإن شئتَ على حذف ( أنْ ) كقوله :
( ألا أيُّهَا الزَّاجري احْضرُ الوَغى ... )

وعسينا نفعلُ كذا وهو قليل وقد جاءت أشياءٌ أنزلوها بمنزلة الأمرِ والنهي وذلك قولهم : حسبُكَ ينمُ الناسُ واتقى الله امرؤٌ وفعلَ خيراً يُثَبْ عليهِ

باب إعراب الفعل المعتل اللام
اعلم : أن إعراب الفعل المعتل الذي لامهُ ياءٌ أو واوٌ أو ألفٌ مخالفٌ للفعل الصحيح والفرق بينهما أن الفعل الذي آخره واوٌ أو ياءٌ نحو : يغزو أو يرمي تقول فيهما : هذا يغزو ويرمي فيستوي هو والفعل الصحيح في الرفع في الوقت كما تقول : هو يقتلُ ويضرب فإن وصلت خالف يقتل ويضرب فقلت : هو يغزوْ عمراً ويرمي بكراً فتسكن الياء والواو ولا يجوز ضمها إلا في ضرورةٍ شَاعرٍ فإن نصبت كان كالصحيح فقلت : لنْ يغزوَ ولَنْ يرميَ وإنما امتنع من ضم الياء والواو لأنها تثقل فيهما فإن دخل الجزم اختلفا في الوقف والوصل فقلت : لم يغزُ ولَم يرمِ فحذفت الياء والواو وكذلك في الوصل تقول : لم يغزُ عمراً ولم يرمِ بكراً وإنما حذفت الياء والواو في الجزم إذا لم تصادف الجازم حركة يحذفها فحذفت الياء والواو لأن الحركة منهما وليكون للجزم دليل . والأمر كالجزم
تقول : ارمِ خالداً واغزُ بكراً فتحذف في الوقف والوصل إلا أنكَ تضم الزايَ من ( يغزو ) وتكسر الميم من ( يرمِي ) إذا وصلتَ
فيدلان على ما ذهبَ للجزمِ والوقفِ وإنما تساوي الوقف في الأمر للجزم لأنهما استويا في اللفظ الصحيح فلما كان ذلك في الصحيح على لفظٍ واحدٍ جعلوا المعتل مثل الصحيح فقالوا : ارمِ واغزُ كما قالوا لم يرمِ ولَم يغزُ وقالوا : اضربا واضربوا كما قالوا : لم يضربا ولم يضربوا

مسائل من سائر أبواب إعراب الفعل
تقول : انتظرْ حتى إن يقسمْ شيءٌ تأخذْ تجزم ( تأخذْ ) لأنه جوابُ لقولك : إنْ يقسمْ وانتظرْ حتى إن قسَم شيءٌ تأخذْ تنصبُ ( تأخذ ) إن شئت على حتَّى تأخذَ إن قسمَ وإنْ شئتَ جزمت ( تأخذ ) فجعلته جواباً لقولك : إنْ قسَم هذا قول الأخفش وقبيح أن تفصل بين حتى وبينَ المنصوب قال : ومما يدلُّكَ على أنه يكون جواباً ولا يحمل على ( حتى ) أنك تقول : حتى إنْ قسَم شيءٌ أخذتُه يعني أنه معلقٌ بالجواب فلا يرجعُ إلى ( حتى ) ألا ترى أنك لا تقول : حتى أخذت إنْ قُسِمَ شيءٌ وتقول : اجلسْ حتى إنْ يقلْ شيئاً فتسمعه تجبْنَا جزمٌ كله ولا يجوز أن تنصب ( تُجبنا ) على حتى لأن قولك : إن تفعلُ مجزومٌ في اللفظ فلا بد من أن يكون جوابه مجزوماً في اللفظ وتقو ل : أَقم حتّى تأكلْ معَنا وأَقم حتى أيانا يخرجْ تخرجْ معَهُ فأيُّ مبتدأٌ لأنها للمجازاة وحتى معلقةٌ وكذلك اجلسْ حتى إنْ يخرجْ تخرجْ معَهُ وانتظر حتى مَن يذهبْ تذهبْ معهُ ( فَمن ) في موضعِ رفعٍ واجلس حتى ( أَياً ) يأخذْ تأخذْ معهُ ( أياً ) منصوبة ( بتأخذ ) وتقولُ : أقم حتى أي القومِ تعط يعطْكَ تعمل في ( أي ) ما بعدها ولا تعمل فيها ما قبلها وتقول : اجلس حتى غلامَ مَنْ تَلقّ تُكرَّمْ تنصب الغلام ( بتعلق ) واجلس حتى غلامُ مَنْ تلقه تكرمْ ترفع الغلام على الإبتداء ولو أن ( حَتَّى ) تكون معلقة في شيءٍ ما جاز دخولُها هَا هُنا لأن حرف الجزاء إذا دخل عليه عاملٌ أزالهُ عن حرف الجزاء ألا ترى أنك تقول : مَنْ يزرنا نزرْهُ فيكون مرفوعاً بالإبتداء وتكون للجزاء وذلك لأنَّ حال الإبتداء كحالِ ( إنْ ) التي للجزاء والشرط نظيرُ المبتدأِ والجوابُ نظيرُ الخبر
قال الأخفش : ومما يقوي ( مَنْ ) إذا كانت مبتدأة على الجزاء أنْ ( إنْ ) التي للجزاء تقع موقعها ولو أدخلت إنَّ المشددة على ( مَنْ ) لقلت : إنَّ مَنْ

يزرونا نزورهُ لأنَّ المجازاة لا تقع ها هنا فإن قلت : فَلِمَ لا تعملُ إنَّ في ( مَنْ ) وتدعها للمجازاة كما أعملت إنَّ الإبتداء فلأن ( إنْ ) التي للمجازة لا تقع ها هنا لأن إنَّ المشددة توجب بها والمجازاة أمرٌ مبهمٌ يعني أنه لا تقع ( إنْ ) التي للمجازاة بعد ( أنَّ ) الناصبة والمجازاة ليسَ بشيءٍ مخصوص إنما هو للعامة وإن الناصبة للإِيجاب وكذلك : ليت مَنْ يزورنا نزورُه ولعلَ وكانَ وليسَ لأنك إذا قلت مَنْ يزورُنا نزوره ولعلَ وكانَ وليسَ لأنك إذا قلت مَنْ يزورُنا نزورثه وما تعطي تأخذْ فأنتَ تبهمُ ولا توضحُ وهكذا يجيءُ الجزاءُ بمَنْ وأخواته فإن أوضحت منه شيئاً بصلةٍ ذهبَ عنه هذا العملُ وجرى مجرى ( الذي ) وتقول : سكتَ حتى أردنا أن نقومَ تقول : افعلوا كذا وكَذا فترده على جواب ( إذا ) ولو رددته على حتى جاز على قبحه وحقُّ ( حَتى ) أن لا تفصل بينها وبين ما تعمل فيه وتقول : لا واللهِ حتى إذا أمرتُك بأَمرٍ تطيعني ترفع جواب ( إذا ) وإن شئتَ نصبت على ( حتى ) على قبحٍ عندي إلا أن الفصل بالظرف أحسن من الفصل بغيره
وتقول : لا والله حتى إنْ أَقلْ لكَ لا تشتمْ أَحداً لا تشتمه
ولا تشتمهُ جوابُ ( إنْ أَقلْ لك ) فلا يكون فيه النصبُ لأنه لا يرجع إلى : حتى لا والله وإذا قلت لكَ اركبْ تركب يا هذا تنصبُ ( تركبُ ) على أو وفصلت بالظرف والفصل بالظرف أحسنُ من الفصل بغيره أردت : ولا واللَّه أو تركب إذا قلت لكَ اركبْ ومَنْ رفع ما بعد ( أوْ ) في هذا المعنى رفع هذه المسألة وتقول : تسكت حتى إذا قلنا ارتحلوا لا يذهب الليلُ تخالفْنا فلا تَذهبْ ( تذهبُ ) معطوفٌ على ( تخالفنا ) وحتى إن نقل إيتِ فلاناً تصبْ منهُ خيراً لا تأتهِ فتصب خيراً جزمٌ على جواب إيتِ ولا تأته جواب ( إنْ نقلْ )
وتقول : لئن جئتني لأكرمنّكَ الأولى توكيدٌ والثانية لليمين ولا يجوز بغير النون ولئن جئتني لإِليكَ أقصدْ ولإِيّاك أَكرمْ ولا تنون أكرمْ لأن اللام لم تقع عليه ولو وقعت عليه فقلتَ أكرمنّكَ وكذلكَ : لئن جئتني لأكفلن بكَ وفي كتابِ اللِه عز و جل : ( ولئن مُتم أو قُتلتم لإلى اللِه تحشرون ) لما وقعت اللام

على كلام مع الفعل لم تدخله النون وكذلك : ( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرةٌ من الله ورحمةٌ خيُر مِمَا يجمعونَ ) وكذلك لئن جئتني لأهلٌ وكذلك : ولئن وصلتك للصلاة أنفعُ لك
قالَ الأخفش : المعنى : والله للصلة أنفعُ وإنْ وصلتكَ كما أن قولك : لئن جئتني لأكرمنكَ إنما هي : والله لأكرمنك إنْ جئتني قال : واللام التي في ( لئن جئتني ) زائدة وقوله عز و جل ( ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبةٌ مِن عندِ الله ) على معنى اليمين كأنه قال والله أعلَم واللِه لمثوبةٌ مِن عندِ اللِه خيرٌ لَهم ولو آمنوا وقال لا تقول : إنَّ زيداً لقامَ وتقولُ : إنَّ زيداً إليكَ كفيلٌ وإن زيداً لهُ ولك منزلٌ لأنَّ اللام لا تقع على فعلٍ فإذا كان قبلَها كلامٌ ضمتهُ معها جاز دخول اللام وتقول : سرت حتى أدخلُ أو أكادُ ترفعهما جميعاً لأنك تقول : حتى أكادُ والكيدودة كائنةٌ وكذلكَ سرت حتى أدخلَها أو أقرب منها لأنه قد كان القرب أو الدخول وكذلك : سرتُ حتى أكاد أو أدخلُ وأشكلَ عليَّ كُلُّ شيءٍ حتى أظن أني ذاهبُ العقلِ فجميع هذا مرفوع لأنه فِعلٌ وهو فيه قال الجعدي :
( ونُنْكِرُ يَوْمَ الرَّوْعِ أَلْوانَ خَيْلِنَا ... مِنَ الطَّعنِ حَتى تحسبَ الجونَ أشقرا )
قال : يجوز في ( تحسب ) الرفع والنصب والرفع على الحال والنصب على الغاية وكأنكَ أردت إلى أن تحسب وحكى الأخفش إن النحويين ينصبون إذا قالوا : سرتُ أكادَ أو أدخل يا هذا ينصبون الدخول ويقولون :

الفعلُ لم يجبْ . والكيدودة قد وجَبَتْ
قال : وهذا عندي يجوز فيه الرفع يعني الدخول لأنه في حال فعل إذا قلت : حتى أكاد يعني إذا كنت في حال مقاربة و ( حتى ) لا تعملُ في هذا المعنى إنما تعمل في كل فعل لم يقع بعد والكيدودةُ قد وقعتْ وأنت فيها وتقول : الذي يأتيني فَلهُ درهمْ والذي في الدارِ فلَهُ درهمْ فدخولُ الفاء لمعنى المجازاة ولا يجوزُ : ظننتَ الذي في الدار فيأتيك
تريد : ظننتُ الذي في الدار يأتيك والأخفش يجيزه على أن تكون الفاء زائدة وقال : قول الله عز و جل : ( قُل إنَّ الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ) ولكن زدت ( إن ) توكيداً وقالَ : لو قلت : إن هذا لا يجوز أن يكون في معنى المجازاة كان صالحاً لأنك إذا قلت : إن الذي يأتينا فلهُ درهمْ فمعناه : الذي يأتينا فله درهمْ ولا يحسن ليتَ الذي يأتينا فلَهُ درهمْ ولا لعل الذي يأتينا فنكرمُه لأنَّ هذا لا يحوز أن يكون في معنى المجازاة ولا يحسنُ ( كأنَّ الذي يأتينا فلَهُ درهمْ ) لأن معنى الجزاء إنما يكون على ما يأتي لا على ما كان فإن قدرت فيه زيادة الفاء جاز على مذهب الأخفشِ
فصل يذكر فيه قَلَّ وأقلّ
اعلم : أنَّ قَلَّ : فعلُ ماضٍ وأقلَّ : اسمْ إلاّ أن أقلّ رجلِ قد أَجروه مجرى قَلَّ رجلْ فلا تدخل عليه العوامل وقد وضعته العرب موضع ( ما ) لأنه أقرب شيءٍ إلى المنفى القليل كما أن أبعد شيءٌ منه الكثير وجعلت ( أقلَّ ) مبتدأةً صدراً إذا جُعلتْ تنوبُ عن النفي كما أن النفيَ صدرٌ فلا يبنونَ أقلَّ على شيءٍ فتقول : أقلّ رجلٍ يقول ذاك ولا تقولُ : لَيتَ أقلَّ رجلٍ يقول ذاك ولا لعل ولا إنَّ إلا أن تضمر في ( إنَّ ) وترفع أقلُّ بالإبتداء قال الأخفش : هو أيضاً قبيحٌ لأن أقلَّ رجلٍ يجري مجرى :

قَلَّ رجلٍ وربُّ رجلٍ لو قلت : كان أقلُّ رجلٍ يقولُ ذاكَ فرفعت ( أقلّ ) على ( كانَ ) لم يجز ولكن تضمر في ( كانَ ) وترفع أقلَّ على الإبتداء وأقلُّ رجلٍ وقلَّ رجلٌ قد أجروه مجرى النفي فقالوا : أقلُّ رجلٍ يقولُ ذاكَ إلا زيدٌ وقال سيبويه : لأنه صار في معنى : ما أحَدٌ فيهما إلا زيد وقال : وتقولُ : قلَّ رجلٌ يقولُ ذاك إلا زيدٌ فليس زيدٌ بدلاً من الرجل في ( قَلَّ ) ولكن : قَلَّ رجلٌ في موضعِ أقلّ رجلٍ ومعناه كمعناه وأقل رجل مبتدأ مبني عليه والمستثنى بدل منه لأنك تدخله في شيءٍ يخرج من سواه
قال : وكذلك : أقلُّ مَنْ وقَلُّ مَنْ إذا جعلت ( مَنْ ) بمنزلة رجلٍ
حدثنا بذلك يونس عِنِ العرب يجعلونه نكرةً كما قال :
( رُبَّما تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنَ الأمرِ لهُ فَرْجَةٌ كَحَلِّ العِقَالِ ... )
يريد أنَّ ( رُبَّ ) دخلت على ( مَا ) وهي لا تدخلُ إلا على نكرةٍ فتنكيرُ ( مَا ) كتنكير ( مَنْ ) قالَ : وتقولُ : قَلَّ ما سرتُ حتى أدخلُها مِنْ قبل أنَّ قَلَّما نفي لقوله كَثُرَ مَا كما أنَّ ما سرتُ نفي لقوله : سرتُ ألا ترى أنه قبيحُ أن تقول : قلما سرتُ فأدخلها كما يقبح في ما سرت إذا أردت معنى فإذا أنا أدخل إنما قبحُه لأنه إذا لَمْ يكن سيرٌ لم يكن دخولٌ فكذلك قلّما لَمّا أُريدَ بها النفي كان حكمُها حكمُ قالَ وتقولُ : قلَّما سرت فأدخلها فاتنصب بالغاءها هنا كما تنصبُ فيما قال
وتقول : قلّما سرت إذا عنيت سيراً واحداً

أو عنيت غير سيرٍ كأنك قد تنفي كثيرَ من السير الواحدِ كما تنفيه من غير سيرٍ يريدُ بقولِه : من غير سيرٍ أي سيراً بعد سيرٍ قالَ الأخفش : الدليلُ على أن أقلَّ رجلٍ يجري مجرى رُبَّ وما أشبهها أنَّك تقول : أقلَّ امرأةٍ تقولُ ذاك فتجعلُ اللفظَ على امرأة وأقلَّ امرأتين يقولان ذاكَ فينفي أقلَّ كأنه ليس له خبر ولا تحمله إلا على الآخر يعني : لا تحمل الفعلَ إلا على الذي أضفت إليه أقلَّ فهذا يدل على أنه لا يشبه الأسماء يعني إذا كان الخبر يجيء على الثاني وكذلك : أقلُّ رجالِ يقولون ذاك ولا يحسن كذلك لو قلت : أقَلُّ رجلينِ صالحانِ لم يُحسنْ ولا يحسنُ من خبره إلا الفعل والظرف أقلُّ رجلين صالحين في الدار وأقلُّ امرأةٍ ذاتُ جمةٍ في الدار وأقلُّ رجلٍ ذي جمةٍ في الدار كان جيداً ولو ألغيت الخبر كان مذهبه كمذهب ( رُبَّ ) فإنْ قلت : فمالي إذا قُلت : قلَّ رجلٌ يقولُ ذاك وقَلّ رجلٌ قائلٌ ذاكَ وهو صفة لا يجوز حذفه فلأنك إنما قللتَ الموصوفين ولم تقللِ الرجال مفردين في الوصف ألا ترى أنك لا تقول : قَلِّ رجلٌ قائلٌ ذاك إلا وأنت تريد القائلين ولست تريد أن تقلل الرجال كلهم

فصل من مسائل الدعاء والأمر والنهي
اعلم : أن أصل الدعاء أن يكون على لفظ الأمر وإنما استعظم أن يقال أمرٌ والأمر لمن دونَك والدعاء لمن فوقك وإذا قلت : اللهم اغفر لي فهو كلفظك إذا أمرت فقلت : يا زيدُ أكرم عمراً وكذلك إذا عرضت فقلت : انزل فهو على لفظ اضربْ وقد يجيء الأمر والنهي والدعاء على لفظ الخبر إذا لم يلبس تقول : أطالَ الله بقاءهُ فاللفظُ لفظ الخبر والمعنى دعاءٌ ولم يلبسْ لأنك لا تعلم أنّ الله قد أطالَ بقاءهُ لا محالة فمتى أُلبسَ شيءٌ مِنْ ذَا بالخبر لم يجز حتى يبينَ فتقول على ذا : لا يغفر الله لَهُ ولا يرحمهُ فإن قلت : لا يغفرُ الله لَهُ ويقطعُ يدهُ لم يجز أن تجزم ( يقطعُ ) لأنهُ لا يشاكل الأول لأنَّ الأول دعاءٌ عليه وإذا جزمتَ ( يقطعُ ) فقد أردت : ولا يقطعُ الله فهذا دعاء له فلا يتفق المعنى
وإذا لم يتفق لم يجز النسق

وكذلك إذا قلت : ليغفر الله لزيدٍ ويقطعُ يَدهُ لم يجز جزم ( يقطعُ ) لإختلاف المعنى ولكن يجوز في جميع ذا الرفع فيكون لفظه لفظ الخبر والمعنى الدعاءُ وإذا أسقطت اللام ولا رفعت الفعلَ المضارع فقلت : يغفرُ الله لكَ وغفَر الله لكَ وقال الله عز و جل : ( اليومَ يغفرُ الله لكم ) وقال : ( فلا يؤمنوا ) وقال الله تبارك وتعالى : ( ليضلوا عن سبيلك ) باللام
وقال : قومْ يجوزُ الدعاءُ بلَنْ مثل قوله : ( فَلَن أكونَ ظهيراً للمجرمينَ )
وقال الشاعر :
( لن تَزالوا كذلكم ثُمَ لا زلتَ لهم ... خالداً خُلُود الجبال )
والدعاء ( بلَنْ ) غير معروف إنما الأصلُ ما ذكرنا أن يجيء على لفظ الأمر والنهي ولكنه قد تجيء أخبار يقصدُ بها الدعاءُ إذا دلت الحالُ على ذلكَ الا ترى أنك إذا قلت : ( اللهم افعلْ بنَا ) لَم يحسنْ أن تأتي إلا بلفظ الأمر وقد حكى قوم : اللهم قطعت يده وفقئت عينهُ قال الشاعر :
( لا هم ربَّ الناس إن كذبت ليلى ... . . . )
وإن قدمتَ الأسماءَ فقلتَ : زيدٌ قطعتْ يده كانَ قبيحاً لأنه يشبهُ الخبرِ وهو جائزٌ إذا لم يشكل وإذا قلت : زيدٌ ليقطع الله يده كانَ أمثلَ لأنهُ غيرُ

ملبسٍ وهو على ذلك اتساعٌ في الكلام لأن المبتدأ ينبغي أن يكون خبره يجوزُ فيه الصدق والكذب والأمر والنهي ليسا بخبرين والدعاء كالأمر وإنما قالوا : زيدٌ قم إليه وعمروٌ اضربْهُ اتساعاً كما قالوا : زيدٌ هَلْ ضربَتهُ فسدّ الإستفهام مسد الخبرِ وليس بخبر على الحقيقة وقال : إذا اجزت افعلْ ولا تفعل أمروا ولم ينهُوا وذلك في المصادر والأسماء والأدوات فتقول : ضرباً ضرباً والله تريد : اضربْ ضربا واتقِ الله
وهلمَّ وهاؤم إنما لم يجز في النهي لأنه لا يجوز أن يضمر شيئان لا والفعل ولو جاءوا ( بلا ) وحدها لم يجز أيضاً أن يحال بين ( لا ) والفعلِ لأنها عاملةٌ وتقولُ : ليضرب زيدٌ وليضرب عمروٌ وتقولُ : زيداً اضربْ تنصبُ زيداً ( باضربْ ) وقال قوم : تنصبُ زيداً بفعل مضمرٌ ودليلهم على ذلك أنك تدخلُ فيه الفاء فتقول : زيداً فاضربْ وقالوا : إنَّ الأمر والنهي لا يتقدمها منصوبهما لأن لهما الإستصدارَ والذين يجيزونَ التقديم يحتجون بقول العربِ بزيد امرر ويقولون : إن الباءَ متعلقة بامرر ولأنه لا يكون الفعل فارغاً وقد تقدمه مفعوله ويضمرون إذا شغلوا نحو قولهم : زيداً اضربْه ولهذا موضع يذكر فيه إن شاء الله
وتقول : ضرباً زيداً تريد : اضربْ زيداً
وقوم يجيزون ضرب زيد وأنت تريدُ : ضرباً زيداً ثم تضيف وهذا عندي قبيحٌ لأن ضرباً قامَ مقامَ اضربْ واضربْ لا يضاف والألفُ في الأمر تذهب إذا اتصلت بكلام نحو قولك : اضربْ اضربْ واذهبْ اذهبْ ويقولون : ادخلْ ادخلْ واذهبْ ادخلْ ويختارون الضم إذا كانت بعد مضمومٍ والكسر جائزٌ تقول : اذهبْ ادخلْ
وقد حكوا : ادخلِ الدارِ للواحدِ على الإِتباع وهو رديءٌ لأنه ملبسٌ وقالوا : يجوز الإِتباع في المفتوح مثل قولك : اصنع الخير
وقالوا : لا نجيزهُ ولم نسمعْهُ لأنّا قد سمعناهُ إذا حرك نحو قول الشاعر :
( يَحسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَما ... )

وقوله :
( أَجِّرهِ الرُّمْحَ ولا تُهالَهْ ... )
لما كان قبله فتحٌ اتبع
فأما قول القائل : ما لَمْ يعلَما فقد قيلَ فيه أنهُ يريدُ النونَ الخفيفة وأما قولُه لا تُهالِه فإنه حركَ اللام لإلتقاء الساكنين لأنه قد علم أنه لا بد من حذفٍ أو تحريكٍ وكان الباب هُنا الحذف وأن تقولَ لا تهل ولكن فعلَ ذلك من أجل القافية لأن الالف لازمةٌ لحرف الروي فرده إلى أصله فالتقى ساكنان الألف واللام التي أسكنت للجزم فحرك اللام بالفتح لفتحة ما قبلها ولما منه الفتح وهي الألف وأدخل الهاءَ لبيان الحركة وتقولُ : زرني ولأزركَ فتدخل اللام لأن الأمر لكَ فإذا كان المأمور مخاطباً

ففعلهُ مبنيٌ غير مجزومٍ وقد بينا هذا فيما تقدم وقوم من النحويين يزعمون أنَّ هذا مجزومٌ وأن أصلِ الأمرِ أن يكونَ باللامِ في المخاطب إلا أنه كثر فأسقطوا التاءَ واللامَ يعنونَ أن أصلَ اضربْ لتضربْ فأسقطوا اللامَ والتاء قال محمد بن يزيد وهذا خطأٌ فاحش وذلك لأن الإِعراب لا يدخل من الأفعال إلا فيما كان مضارعاً للأسماء وقولُكَ : اضربْ وقم ليسَ فيه شيءٌ من حروف المضارعة ولو كانت فيه لم يكن جزمهُ إلا بحرفٍ يدخل عليه
ويروى عن رسولِ الله أنه قرأ : ( فبذلك فلتفرحوا ) فإذا لم يكن الأمرُ للحاضرِ فلا بد من إدخال اللامِ تقول : ليقمْ زيدٌ وتقول : زرْ زيداً وليزرْكَ إذا كان الأمرُ لهما جميعاً لأن زيداً غائبٌ فلا يكون الأمر له إلا بإدخال اللام وكذلكَ إذا قلتَ : ضُرِبَ زيدٌ فأردتَ الأمرَ من هذا قلتَ : ليُضرَبْ زيداً لأنَّ المأمور ليس بمواجه والنحويون يجيزونَ إضمارَ هذه اللام للشاعر إذا اضطر وينشدون لمتمم بن نويرة :
( على مِثْلِ أصْحَابِ البَعُوضَةِ فاخْمِشِي ... لكِ الوَيْلَ حُرَّ الوَجْهِ أو يَبْكِ مَنْ بَكَى )

أراد : ليبكِ وقولُ الآخر :
( مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسُكَ كُلَّ نَفْسٍ ... إذا مَا خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبَالا )
قال أبو العباس : ولا أرى ذا على ما قالوا : لأنَّ عوامل الأفعالِ لا تضمرُ وأضعفها الجازمة لأن الجزم في الأفعال نظيرُ الخفض في الأسماء ولكن بيت متمم يُحملُ على المعنى لأنه إذا قال : فاخمشي فهو في موضع فلتَخْمشي فعطَف الثاني على المعنى
وأما هذا البيت الأخيرُ فليس بمعروف على أنه في كتاب سيبويه على ما ذكرت لكَ وتقول : ليقمْ زيدٌ ويقعدْ خالدُ وينطلقْ عبدُ اللِه لأنك عطفت على اللام
ولو قلت : قُمْ ويقعدْ زيدٌ لم يجزْ الجزم في الكلام
ولكنْ لو اضطر إليه الشاعر فحمله على موضع الأول لأنه مما كان حقهُ اللام جازَ وتقول : لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عبد الله لأنك عطفت نهياً على نهيٍ فإن شئتَ قلتَ : لا يقمْ زيدٌ ويقعْد عبد اللِه وهو بإعادتِكَ ( لا ) أوضحَ لأنك إذا قلت : لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عبد اللِه تبين أنكَ قد نهيتَ كل واحدٍ منهما على حياله فإذا قلت : لا يقمْ زيدٌ ويقعدْ عبدُ اللِه بغير ( لا ) ففيه أوجهٍ : قَد يجوزُ أن يقع عند السامع أنك أردتَ لا يجتمع هذان فإن قَعد عبدُ اللِه ولم يقمْ زيدٌ لم يكن المأمور مخالفاً وكذلك إن لَم يقمْ زيدٌ وقعدَ عبدُ الله
ووجه الإجتماع إذا قصدته أن تقول : لا يقمْ زيدٌ ويقصدْ عبدُ الله أي لا يجتمع قيام عبد الله

وأنْ يقعدْ زيدٌ ( فلا ) المؤكدة تدخل في النفي لمعنى تقول : ما جاءني زيدٌ ولا عمرٌو إذا أردت أنه لم يأتِكَ واحد منهما على الإنفرادِ ولا مع صاحبه لأنك لو قلت : لم يأتني زيدٌ وعمروٌ وقد أتاك أحدُهما لم تكن كاذباً ( فلا ) في قولك : لا يقمْ زيدٌ ولا يقعدْ عمروٌ يجوزُ أن تكون التي للنهي وتكون المؤكدة التي تقعُ لما ذكرت لكَ في كل نفيٍ
واعلم : أن الطلب من النهي بمنزلته من الأمر يجري على لفظه وتقول ائتني أكرمْكَ وأينَ بيتُك أزرك وهل تأتيني أعطك وأحسن إليكَ لأنَّ المعنى : فإنَّكَ إنْ تفعلْ أفعلْ فأما قول الله عز و جل : ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارةٍ تنجيكم من عذابٍ أليمٍ ) ثم قَال : ( تؤمنونَ بالله ) فإن أبا العباس رحمه الله يقول : ليسَ هذا الجواب ولكنه شرح ما دعوا إليه
والجواب : ( يغفرْ لكم ذنوبكم ويدخلكم ) فإن قال قائلٌ : فَهلا كان الشرح ( أن تؤمنوا ) لأنه بدلٌ من تجارةٍ
فالجواب في ذلك : أن الفعل يكون دليلاً على مصدره فإذا ذكرت ما يدل على الشيء فهو كذكرِكَ إياهُ ألا ترى أنهم يقولون : منْ كذبَ كانَ شَراً لَهُ يريدون : كانَ الكذبُ
وقال الله عز و جل : ( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم ) لأن المعنى البخل خير لهم فدل عليه بقوله ( يبخلون ) وقال الشاعر :
( أَلا أيُّهذا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى ... )
المعنى : عن أن أحضر الوَغَى فأنْ والفعل كقولك : عن حضور الوغى فلما ذكر ( أَحضرُ ) دل على الحضور وقد نصبُه قومٌ على إضمار ( أنْ ) وقدموا الرفع
فأما الرفع فلأن الفعلَ لا يضمرُ عامله فإذا حذف رفع

الفعل وكان دالاً على مصدره بمنزلة الآية
وهي : ( هل أدلكم على تجارةٍ تنجيكم مِنْ عَذاب أليم ) ثم قال : ( تؤمنون بالله ) وذلك لو قالَ قائلٌ : ما يصنع زيدٌ فقلت : يأكلُ أو يصلي لأغناك عن أن تقول : الأكلُ والصلاةُ
ألا ترى أنَّ الفعل إنَّما مفعوله اللازم له إنما هو مصدرهُ لأن قولك : قد قامَ زيدٌ بمنزلة قولك : قد كان منه قيامٌ
فأما الذين نصبوا فلمْ يأبوا الرفعَ ولكنهم أجازوا معه النصب لأن المعنى ( بأنْ ) وقَد أبانَ ذلك بقوله فيما بعده
( وأنْ أَشهد ) فجعله بمنزلة الأسماء التي تجيءُ بعضها محذوفاً للدليل عليه وفي كتاب الله عز و جل : ( يسألُه مَنْ في السمواتِ والأرضِ ) قال : والقولُ عندنا أنَّ ( مَنْ ) مشتملةٌ على الجميعِ لأنها تقعُ للجميعِ على لفظها للواحد
وقد ذهب هؤلاء إلى أن المعنى : ومَنْ في الأرضِ وليسَ القولُ عندي كما قالوا
وقالوا في بيت حسان بن ثابت :
( فَمَنْ يَهْجُو رَسُول الله مِنْكُمْ ... ويَمْدَحهُ ويَنْصُره سَوَاءُ )
إنما المعنى : ومن يمدحهُ وينصرهُ وليس الأمر عند أهلِ النظر كذلك ولكنه جعل ( مَنْ ) نكرةً وجعل الفعلَ وصفاً لها ثم أقام في الثانية الوصف مقامَ الموصوف فكأنه قال : وواحدٌ يمدحهُ وينصرهُ لأن الوصف يقعُ موضع

الموصوفِ إذا كان دالاً عليه
وعلى هذا قول الله عز و جل : ( وإنْ مِنْ أهلِ الكتَاب إلاَّ ليَؤُمنن بهِ ) وقال الشاعر :
( كأنَّك مِنْ جَمالِ بني أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ )
يريدُ : كأنَكَ جَملٌ ولذلك قال : يقعقعُ خلفَ رجليهِ . وقالَ في أشدِ مِن ذا :
( مَا لَك عِنْدِي غَيْرُ سَهْم وحَجَرْ ... وغَيْر كَبْدَاءَ شَدِيدَةِ الوَتَرْ )
( جَادَت بِكفِّيْ كانَ مِنْ أرمى البَشَرْ ... )

قال أبو بكر : وهذا كله قولُ أبي العباس ومذهبهُ

فصل من مسائل الجواب بالفاء
يَقول : هَلْ يقوم زيدٌ فتكرمُهُ يجوزُ الرفع والنصب النصب على الجواب والرفعُ على العطف وقال الله عز و جل : ( منَ ذا الذي يقرضُ الله قرضاً حسناً فيضاعفُهُ ) يقرأ بالرفع والنصب وتقول : ما أنَتَ الذي تقومُ فتقومَ إليهِ الرفع والنصب فالرفعُ على النسق والنصبُ على الجواب وتقول : مَنْ ذا الذي يقومَ فيقومُ إليهِ زيدٌ الرفع والنصب وقوم يجيزون توسط الفاء في الجزاء فيقولون : هَلْ تضربْ فيأتيكَ زيدٌ وهو عندي في الجزاء كما قالوا : لأنَّ ما بعد الفاء إذا نُصِبَ فهو مع ما قبله من جملةٍ واحدةٍ والجزاء وجوابه جملتان تنفصلُ كلُّ واحدة منهما عن صاحبتها
فلا يجوز أن يختلطا فإن قالَ قائلٌ : ينبغي أن يكون غيرَ جائز علىمذهبكم من قبل أن التقدير عندكم : هَلْ يقع ضَربٌ زيداً فإتيانك فلو أجزت ( زيداً ) في هذه المسألة لم يجزْ لأنه في صلة ( ضَربٌ ) فلا يجوز أن تفصل بين الصلة والموصول بشيءٍ فالجواب في ذلك أنك إذا قلت : هل تضربُ فيأتيكَ زيداً فإنما العطفُ على مصدرٍ يدلُ عليه ( يضربُ ) فأغنى عنه وعلى ذلك فينبغي أن لا يجري على التقديم والتأخير في مثل هذا إلا أن يسمع نحوه من العرب لأنه قد خولفَ به الكلام للمعنى الحادث وإذا أزيلَ الكلام عن جهته لمعنىً فحقه أن لا يزال بضده ولا يتصرف فيه التصرف الذي له في الأصل إلا أن يقول العرب شيئاً فتقوله والفراء يقول : إنما نصبوا الجواب بالفاء لأن المعنى كان جواباً بالجواب
فلما لم يؤتِ بالجزاء فينسقَ على غير شكله فنصب مثل قولكَ : هل تقومَ فأقومَ ومَا قمتُ فأقوم إنما التأويلُ لو قمت لقمتُ وشبههُ بقولهم : لو تركت والأسدَ لأكلك
وتقول : لا يسعني شيء ويضيقَ عنكَ لم

يحسن التكريرُ فنصبتَ وقال بعضهم : إنما نصب الجواب بالفاء وإنْ لا تلي إلا المستقبلَ فشبه ( بأنْ ) والفاء في الجزاء تلي كل شيءٍ فبطلتْ والذي يجيزون توسط الجواب يقولون : ما زيدٌ فنأتيَهُ بمذنبٍ يجيزونَ النصب ولا يجيزون الرفع ولا يجوز أن تقول : ما زيدٌ نأتيهِ إلا أن تريد الإستفهامَ
وأعلم : أنه لا يجوز أن تلي الفاء ( ما ) ولا شيءٌ مما يكون جواباً وفي كتاب سيبويه في هذا الباب مسألةٌ مشكلةٌ وأنا ذاكرٌ لفظَهُ وما يجب فيها من السؤال والجواب عنه
قال سبيويه : لا تدنُ من الأسدِ يأكُلكَ قبيحٌ إن جزمت وليس وجه كلام الناس لأنك لا تريد أن تجعل تباعدهُ مِنَ الأسد سبباً لأكله فإن رفعت فالكلام حسنٌ فإن أدخلت الفاء فحسنٌ وذلك قولك : لا تدنُ منهُ فيأكلُكَ وليس كل موضعٍ تدخل فيه الفاءُ يحسنُ فيه الجزاء ألا ترى أنه يقول : ما أتيتنا فتحدثنا والجزاء ها هنا محال وإنما قَبُحَ الجزم في هذا لأنه لا يجىء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء فمما يسأل عنه في هذا أن يقال : لِمَ حَسُنَ مع الفاءِ النصبُ وقبح في الجزم ولمْ يفصل بينهما سيبويه بشيءٍ قَبحه فالجواب في ذلك أن الفرق بين المنصوب والمجرور أنك إذا جزمت إنما تقدر مع حرف الجزاء الفعل الذي ظهر وإن كان أمراً قدرت فِعلاً موجباً وإن كان نهياً قدرت فِعلاً منفياً ألا ترى أنك إذا قلت : قُم أعطكَ فالتأويلُ : إنْ تَقم أعطِكَ وإذا قلتَ لا تقمْ أعطكَ
فالتأويل : إلاّ تقمْ أعطكَ فالإِيجابُ نظيرُ الأمرِ والنفي نظيرُ النهي لأنَّ النهيَ نفيٌ فهذا الجزاء على أنه لم ينقل فيه فِعلٌ إلى اسمٍ ولا يستدلُ فيه بفعل على اسم ثم عطف عليه وإن قال : ما تأتيني فتحدثني فما بعد الفاء في تقدير اسم قد عطف على اسم دل عليه ( تأتيني ) لأن الأفعال تدل على مصادرها وكذلك إذا قال : لا تفعلْ فأضربكَ فالتأويل على ما قال سيبويه : أن المنصوب معطوفٌ على اسم كأنه إذا قال : ليس تأتيني

فتحدثَني قال : ليسَ إتيانٌ فحديثٌ وإذا قال : لا تفعلْ فتضربْ قد قال : لا يكنْ فِعلٌ فتضربَ وهذا تمثيلٌ وقد فَسرهُ وقواهُ ودل على أن الثاني المنصوب من الجملة الأولى : وإن كانت الأولى مسألة
قال : اعلم : أن ما ينتصب على باب الفاء ينتصب على غير معنى واحدٍ وكل ذلك على إضمار ( أنْ ) إلا أن المعاني مختلفة كما أن قولك : ( يعلمُ اللَّهُ ) يرتفع كما يرتفعُ : يذهبُ زيدٌ وعَلِمَ اللَّهُ يُفتحُ كما يُفتح : ذَهَب زيدٌ وفيها معنى اليمينِ قال : فالنصب هنا كأنك قلت : لم يكنْ إتيانٌ فإن تحدثَ والمعنى غير ذلك كما أن معنى : عَلِمَ اللَّهُ لأفعلن غير معنى : رَزقَ اللَّهُ فإن ( تحدث ) في اللفظ فمرفوعة بيكن لأن المعنى لم يكن إتيانٌ فيكون حديثٌ فقوله مرفوعةٌ يدل على أن الفاءَ عاطفةٌ عطفت اسماً على اسمٍ والكلامُ جملةٌ واحدةٌ ومن شأن العرب إذا أزالوا الكلام عن أصله إلى شيءٍ آخر غيروا لفظه وحذفوا منه شيئاً وألزموه موضعاً واحداً إذا لم يأتوا بحرف يدلُّ على ذلك المعنى ولم يصرفوه وجعلوه كالمثل ليكون ذلك دليلاً لهم على أنهم خالفوا به أصل الكلام فقد دل ما قال سيبويه : على أن النفي والنهي إنما وقعا على المصدرين اللذين دل عليهما الفعلان ويقوى أن الفاء للعطف إذا نصبت ما بعدها الواو إن قصتها في النصب وهما للعطف فإن قال قائلٌ : فَلِمَ جاءوا بالفعلِ بعدَ الفاء وهم يريدون الأسمَ قيل : لأن الظاهر الذي عُطِفَ عليهِ فعلٌ
فكانَ الأحسن أن يعطفَ فعلٌ على فعل ويغير اللفظُ فيكون ذلكَ التغيير دليلاً على المصدرين ألا تراهم في النفي كما قالوا : لا أبالكَ فأضافوا إلى المعرفِة أقحموا اللام ليشبه النكرة والمعطوف بالفاء والواو وغيرهما على ما قبله يجوز أن يكون ما قبله سبباً لَهُ ويجوز أن لا يكون سبباً لهُ إذا كان لفظهُ كلفظهِ نحو قولك : يقومُ زيدٌ فيضربُ ويقومُ ويضربُ وزيدٌ يقوم فيقعد عمروٌ

فيجوز أن يكون القيامُ سبباً للضرب ويجوز أن لا يكونَ إلا أن الفاء معناه اتباعُ الثاني الأولَ بلا مهلةٍ فإذا أرادوا أن يجعلوا الفعل سبباً للثاني جاءوا به في الجزاء وفيما ضارعَ الجزاء وجميع هذه المواضع يصلح فيها المعنى الذي فيها من الإتباع ألا ترى أن الشاعر إذا اضطر فعطف على الفعل الواجب الذي على غير شرطٍ بالفاءِ وكان الأول سبباً للثاني نصب كما قال :
( سَأَتْرُكُ مَنْزِلي لِبَني تَمِيمٍ ... وألْحَقَ بالحِجَازِ فأَسْتَرِيَحا )
جعل لحاقَهُ بالحجاز سبباً لأستراحته فتقديرهُ لما نصب كأنه قال : يكونُ لحاقٌ فاستراحةٌ وقد جاء مثله في الشعر أبياتٌ لقوم فصحاءَ إلاّ أنهُ قبيحٌ أن تنصب وتعطف على الواجبِ الذي على غير شِعْرٍ وأَلحق بالحجاز فإذا لحقتَ استرحتَ وإنْ أَلحقْ أسترح ومع ذلك فإن الإِيحاب على غير الشرط أصلُ الكلامِ وإزالةُ اللفظ عن جهتهِ في الفروعِ أحسنُ منها في الأَصولِ لأنها أَدَلُّ على المعاني ألا ترى أنهم جازوا بحرف الإستفهامِ والإستفهام وإنما جازوا بالأخبارِ لأفعالِ المستفهمِ عنها فقالَ أَينَ بيتُكَ يُرادُ به أعلمني
والعطفُ بالفاء مضارعٌ للجزاءِ لأنَّ الأولَ سببٌ للثاني وهو مخالف له من قبل عقدَهُ عَقدَ جملةٍ واحدةٍ ألا ترى أنهم مثلوا
ما تأتينا فتحدثَنا في بعض وجوهها بما يأتينا محدثنا فإن قلت : لا تعصِ فتدخل النار فالنهي هُو النفي كما عرفتُكَ فصارَ بمنزلةِ قولك : ما تعصي فتدخلُ النارَ فقد نفيتَ العصيانَ الذي يتبعُه دخولُ النارِ

وكذلك قد نهيتَ عنه
فالنهي قد اشتمل على الجميع إلا أن فيه من المعنى في النصب ما ذكرنا فإن قلت : قُمْ فاعطيكَ فالمعنى ليكن منكَ قيامٌ يوجبُ عَطيتي وكذلك اقعدْ فتستريحُ أي : ليكن منكَ قعودٌ تتبعهُ راحةٌ فيقرب معناه من الجزاء إذا قلتَ : قم أعطكَ أي إن تقم أعطك وإذا دخلت الفاء في جواب الجزاء فهي غيرُ عاطفةٍ إلاّ أنَّ معناها الذاتي يخصها تفارقهُ إنها تتبع ما بعدها ما قبلها في كُلِّ موضعٍ وقالَ الشاعرُ في جواب الأمر :
( يَا نَاقُ سِيرِي عَنقاً فَسِيحَا ... إلى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَريحَا )
فقد جعل سير ناقته سبباً لراحتِه فكأنه قال : ليكن منك سيرٌ يوجبُ راحتَنا وهذا مضارعٌ لقولهِ : إنْ تسيري نستريحْ ولذلكَ سمى النحويون ما عُطفَ بالفاء ونُصِبَ جواباً لشبهه بجواب الجزاءِ وكذلك إذا قالَ : أدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ فهو مضارعٌ لقولهِ : ادنُ مِنَ الأسد فيأكلُكَ لأن معنى ذاكَ إنْ تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ ومعنى هذا : ليكن مِنك دنوٌ مِنَ الأسدِ يوجبُ أكَلكَ أو يتبعهُ أَكَلُكَ إلاّ أنّ هذا مما لا يؤمر بهِ لأنَّ مِنْ شأنِ الناس النهيُ عَن مثلِ ذلكَ لا الأمرُ به فإنْ أردتَ ذاك جازَ فإذا قلت : لا تدن مِنَ الأسد يأكلْكَ لَم يجزْ لأن المعنى : أنكَ تدنُ مِنَ الأسدِ يأكلُكَ لم يكنْ إلاّ على المجازِ وإن السامعَ يعلمُ ما تعني لأنَّ المعنى : إلاّ تدنِ مِن الأسدِ يأكلْكَ وهذا محالٌ لأن البعدَ لا يوجبُ الأكلَ فإذا قلتَ : لا تدنِ من الأسدِ فيأكلُكَ جاز لأنَّ النهي مشتملٌ في المعنى على الجميع كأنه قال : لا يكنْ منكَ دنوٌ مِنَ الأسدِ

يوجبُ أكَلكَ أو يتبعه أكلُكَ وكذلك قوله : ما تدنو من الأسدِ فيأكلُكَ هو مثل لا تدنِ لا فرقَ بينهما
وفي الجزاء قد جعل نفي الدنِّو موجباً للأكلِ
واعلَمْ : أنَّ كل نفيٍ معنى تحقيق للإِيجاب بالفاء نحو : ما زال ولَم يزْل لا تقول : ما زالَ زيدٌ قائماً فأعطيكَ وإنما صار النفي في معنى الإِيجاب من أجلِ أنَّ قولهم زالَ بغير ذكر ما في معنى النفي لأنك تريدُ عدم الخَبرِ فكأنَكَ لو قلت : زالَ زيدٌ قائماً لكان المعنى زالَ قيامُه فهو ضد كان زيدٌ قائماً وكانَ وأَخواتُها إنما الفائدة في أخبارها والإِيجابُ والنفي يقع على الأخبار فلما كان زالَ بمعنى : ما كانَ ثم أدخلتْ ( ما ) صار إيجاباً لأنَّ نفيَ النفي إيجابٌ فلذلك لم يجزْ أن يجابَ بالفاءِ وقوم يجيزونَ أنت غيرُ قائمٍ فَتأتيكَ قال أبو بكر : وهذا عندي لا يجوز لأنَّا إنما نَعطف المنصوب على مصدر يدلُّ عليه الفعلُ فيكون حرف النفي منفصلاً وغير اسمٍ مضافٍ وليست بحرفٍ فتقول : ما قامَ زيدٌ فيحسَنْ إلاّ حُمِدَ وما قامَ فيأكل إلا طعامَهُ قال الشاعر :
( ومَا قَام مِنَّا قَائمٌ في نَدِيِّنَا ... فَيَنْطِقَ إلا بالَّتِي هِىَ أَعْرَفُ )
تقول : ألا سيفٌ فأكونَ أَوَلَ مقاتلٍ وليتَ لي مالاً فأعينَك
وقوله : ( يا ليتنا نُردُ ولا نكذب ) كانَ حمزةُ ينصبُ لأنه اعتبر قراءة ابن مسعود

الذي كانَ يقرأُ بالفاء وينصبُ
والفراءُ يختار في الواو والفاء الرفع لأن المعنى : يا ليتنا نرد ولسنا نكذبُ استأنفَ ومن مسائلهم لعلِّي سأَحجُّ فأزورَكَ ولعلكَ تشتمنا فأقومَ إليكَ ويقولون ( لعل ) تُجاب إذا كانت استفهاماً أو شكاً وأصحابنا لا يعرفون الإستفهامَ بلعلَ وتقول : إنَّما هي ضربةٌ مِنَ الأسدِ فتحطم ظهرهُ كأنه قال : إنَّما هي ضربةٌ فحطمهُ فأضمر ( أنْ ) ليعطفَ مصدراً على مصدر وقالوا : الأمرُ مَنْ ينصبُ الجوابُ فيه والنهي يُجابُ بالفاءِ لأنهُ بمنزلةِ النفي ويجوزُ النسق
وقالوا : العَربُ تذهبُ بالأمر إلى الإستهزاء والنهي فتنصب الجواب فيقولون : استأذنْ فيؤذنَ لكَ أي لا تستأذنْ وتحركْ فأصبنَكَ قالوا : والعربُ تحذفُ الفعلَ الأول مع الإستفهام للجواب ومعرفة الكلام فيقولون : متى فأَسيرُ معكَ وأجازوا : متى فآتيكَ تخرجْ ولَم فأسيرَ تسرْ وقالوا : كأنَّ ينصب الجواب معها وليس بالوجه وذاك إذا كانت في غير معنى التشبيه نحو قولك
كأنَّكَ والٍ علينَا فتشتمنَا والمعنى لست والياً علينا فتشتمنا وتقول أريد أن آتيك فأستشيرك لأنك تريد إتيانه ومشورته جميعاً
فلذلك عطفت على ( أن ) فإن قلت أريد أن آتيك فيمنعني الشغل رفعت لأنك لا تريد منع الشغلِ فإنْ أردت ذلك نصبت وقالوا : ( لولا ) إذا وليتْ فعلاً فهي بمنزلةِ هَلاّ ولَوما تكون استفهاماً وتجاب بالفاء وإذا وليت الأسماء لم ينسق عليها بلا ولَم تجب بالفاء وكانت خبراً نحو قوله : ( ولولا أنتم لكنا مؤمنين ) و ( لولا أخرتني إلى أَجلٍ قَريبٍ فأصدقَ ) وقالوا : الإختيارُ في الواجبِ منها الرفعُ وقد نصبَ منها الجوابُ قال الشاعر :
( ولَو نُبِشَ المَقَابِرُ عَن كُلَيْبٍ ... فَيَعْلَمَ بالذَّنائبِ أَيُّ زِيرِ )

ذهب بِه مذهب ( ليتَ ) والكلام الرفع في قولهِ عز و جل : ( ودوُّا لَو تُدْهِنُ فيُدهنونَ )
واعلم أن الأسماء التي سمى بها الأمر وسائر الألفاظ التي أقيمت مقام فعلِ الأمر وليست بفعل لا يجوز أن تجاب بالفاء نحو قولك : تراكَها ونَزالِ ودونَك زيداً وعليك زيداً لا يجابُ لأنه لا ينهى به
وكذلك إليك لا يجابُ بالفاءِ لأنه لم يظهر فعلٌ ومَه وصه كذلك
قالوا : الدعاءُ أيضاً لا يجابُ نحو قولك : ليغفرُ اللَّهُ وغفرَ اللَّهُ لَك والكسائي يجيزُ الجواب في ذلك كله وأما الفراء فقال في الدعاء : إنَّما يكون مع الشروط : غَفر الله لكَ إنْ اسلمتَ وإنْ قلتَ : غَفَر اللَّهُ لكَ فيدخلُك الجنةَ جازَ وهو عندي في الدعاء جائزٌ إذا كان في لفظ الأمر لا فرق بينهما ولا يكونُ للفاء جواب ثانٍ ولا لشيءٍ جَوابانِ وأما قولهُ عزَ وجلَ : ( ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ يدعونَ ربَّهم بالغَدَاةِ والعشي يريدونَ وجهُه ما عليكَ مِنْ حسابهم مِن شيءِ ومَا مِن حسابِكَ عليهم من شيءٍ فتطردَهم فتكونَ من الظالمين )
إنما هُوَ : ولا تطردِ الذين يدعونَ ربهم فتكون من الظالمينَ ما عليك من حسابهم من شيءٍ فتطردَهم فتكونَ جَوابُ ( لا ) وقولهُ : فتطردهم جَوابُ ( مَا ) وتقول : ما قاَم أَحدٌ إلا زيدٌ فتحسنَ إليهِ إنْ كانتِ الهاءُ لأحدٍ فجائز لأن التقدير ما قام أَحدٌ فيحسنَ إليه وإنْ كانت الفاءُ لزيدٍ فَخطأٌ لأن الموجبَ لا يكون له جوابٌ والإستثناء إذا جاء بعد النفي فالمستثنى موجبٌ
وكذلك إنْ قلت : ما قامَ إلاّ زيدٌ فتحسنَ إليه محالٌ لأن التحقيق لا جوابَ لَهُ

فصل من مسائل المجازاة
إذا شغلت حروف المجازاة بحرف سواها لم تجزم نحو : إنْ وكان وإذا عَمِلَ في حرف المجازاة الشيءُ الذي عمل فيه الحرف لم يغيره نحو قولك مَنْ تَضربْ يَضربْ
وأياً تَضربْ يَضربْ فَمَن وأي قد عملت في الفعل وعمل الفعلُ فِيهما
واعلم أنه لا يجوز الجواب بالواو ولو قلت : مَنْ يخرجُ الدلو لَهُ درهمانِ رفعت ( يخرجُ ) وصار استفهاما وإن جزمت لم يجز إلا بالفاء وتقول : مَنْ كانَ يأتينا وأيٌّ كانَ يأتينا نأتيهِ أذَهبتَ المجازاة لأنكَ قد شغلت ( أياً ومَنْ ) عن ( يأتينا )
وحكى الأخفش : ( كنتُ ومَنْ يأتني آته ) يجعلون الواو زائدة في ( بابِ كانَ ) خاصةً وإن توصل ( بما ) فتقولَ : أمَّا تقمْ أقمْ تدغم النون في الميم وتوصل ( بلا ) تقول : ألا تقمْ أقمْ إلا أن ( ما ) زائدة للتوكيد فقط و ( لا ) دخلت للنفي والكوفيون يقولونَ : إذا وليت أنَّ الأسماءَ فُتحت يقولون أما زيدٌ قائماً تقمْ وإنْ شرطٌ للفعلِ وقالَ الكسائي : إنْ شرطٌ والجزاء الفعل الثاني وهذا الذي ذكره الفراء مخالف لمعنى الكلام وما يجب من ترتيبه وللإستعمال وذلكَ أنَّ كُل شيءٍ يكون سبباً لشيءٍ أو علةً لهُ فينبغي أن تقدم فيه العلةُ على المعلولِ فإذا قلت : إن تأتني أعطكَ درهماً فالإِتيانُ سببٌ للعطيةِ بهِ يستوجبها فينبغي أن يتقدم وكذلك إذا قلت : إنْ تعصِ اللَّهَ تدخلْ النَّارَ فالعصيان سبب لدخول النار فينبغي أن يتقدم فأما قولهم : أَجيئكَ إنْ جئتَني وإنك إنْ تأتني فالذي عندنَا أن هذا الجواب محذوف كفى عنه الفعل المقدم وإنَّما يستعملُ هذا على جهتين : إما أنْ يضطر إليه الشاعر فيقدم الجزاء للضرورة وحقه التأخير وإما أن تذكر الجزاء بغير شرط ولا نية فيه فتقول : أَجيئكَ فيعدُكَ بذلَكَ على كل حال ثم يبدو له ألا يجيئك بسبب فتقول : إنْ جئتني ويستغنى عن الجواب بما قدم فيشبه الإستثناء وتقول : اضربْ إنْ تضربْ زيداً تنصبُ زيداً بأي الفعلين شئت ما لم يلبسْ فإذا قدمت فقلتَ : اضربْ زيداً إنْ تضربْ فإنما

تنصب زيداً بالأول ولا تنصب بالثاني لأن الذي ينتصبُ بما بعد الشروط لا يتقدم وكذلك يقول الفراءُ ولا يجوزُ عنده إذا قلت : أَقوم كي تضربَ زيداً أنْ تقول : أقومَ زيداً كي تضرب والكسائي يجيزهُ وينشد :
( وشِفَاءُ غَيِّكَ خابراً أنْ تسألي ... )
وقال الفراء : ( خَابراً ) حال من النفي : قمتُ كي تقومَ وأقومُ كَيْ تقومَ فهذا خلاف الجزاء لأن الأول وإن كان سبباً للثاني فقد يكون واقعاً ماضياً والجزاء ليس كذلك وهم يخلطونَ بالجزاء كل فعل يكونُ سبباً لفعلٍ والبصريونَ يقتصرون باسم الجزاء على ما كانَ لهُ شرطٌ وكان جوابه مجزوماً وكان لِما يستقبلُ
وتقول : إنْ لم تقمْ قمتُ فلم في الأصل تقلب المستقبل إلى الماضي لأنها تنفي ما مضى فإذا أدخلت عليها إنْ أحالت الماضي إلى المستقبل وأما ( لا ) فتدع الكلام بحا إلا ما تحدثه مِنَ النفي تقول : إنْ لا تقمْ أقَمْ وإنْ لا تقمْ وتحسنُ آتكَ وقوم يجيزون : إنْ لا تقمْ وأَحسنت آتكَ ويقولون : إذا أردتُ الإِتيانَ بالنسقِ جاز فيه الماضي فإذا قلت : إنْ لَم تقمْ وتحسنُ آتكَ جاز معه الماضي إذا كان الأول بتأويلِ الماضي تقولُ : إنْ لم تقمْ ورغبتَ فينا نأتكَ وتقول : إنْ تقمْ فأقومُ فترفعُ إذا أدخلت الفاءَ لأن ما بعد الفاءِ استئنافٌ يقع فيه كل الكلام فالجوابُ حقهُ أنْ يكونَ على قدر الأول إنْ كان ماضياً فالجوابُ ماضٍ وإنْ كانَ مستقبلاً فكذلك
وتقول : إنْ تقمْ وتحسنُ آتكَ تريد : إنْ تجمعُ مع قيامِكَ إحساناً آتك وكذلك : إنْ تقمْ تحسنُ آتكَ تريد : إنْ تقمْ محسناً ولم ترد :

إنْ تقمْ وإن تحسنْ آتكَ وهذا النصب يسميهِ الكوفيونَ الصرف لأنَّهم صرفوه علىالنسقِ إلى معنى غيره وكذلك في الجواب تقول : إنْ تقمْ آتِكَ وأحسنَ إليك وإنْ تقم أنك فأحسنَ إليكَ وإذا قلتَ : أَقومُ إن تقمْ فنسقت بفعل عليها فإن كان من شكل الأول رفعته وإن كان من شكل الثاني ففيه ثلاثة أوجه : الجزم على النسقِ على ( إنْ ) والنصب على الصرف والرفع على الإستئناف فأمَّا ما شاكلَ الأول فقولك : تُحمدُ إنْ تأمرْ بالمعروفِ وتؤجر لأنَه من شكل تُحمدُ فهذا الرفع فيه لا غير وأما ما يكون للثاني فقولُك تُحمد إنْ تأمر بالمعروفِ وتنهَ عن المنكرِ فيكون فيه ثلاثة أوجهِ : فإنْ نَسقت بفعلٍ يصلح للأول ففيه أربعة أوجهٍ : الرفع من جهتين : نسقاً على الأول وعلى الإستئنافِ والجزمُ والنصبُ على الصرفِ وقال قوم : يردُ بعد الجزاءِ فَعلَ على يفعلُ ويفعلُ على فَعَلَ نحو قولك : آتيكَ إنْ تأتني وأحسنتَ وإنْ أحسنتَ وتأتني والوجهُ الإتفاقُ وإذا جئتَ بفعلينِ لا نسق معهما فلك أنْ تجعل الثاني حالاً أو بدلاً والكوفيون يقولون موضع بدل مترجماً أو تكريراً فإن كررتَ جزمتَ وإنْ كانَ حالاً رفعتَهُ وهو موضعُ نصبٍ إذا ردَّ إلى اسم الفاعلِ نصب فأما الحال فقولك : إنْ تأتني تطلب ما عندي أحسنُ إليكَ تريد : طالباً والتكرير مثل قولك : إنْ تأتني تأتني تريدُ الخيرَ أعطكَ والبدل مثل قوله : ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ) ثم فسر فقال : ( يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ ) وكذلك إنْ تَبْرر أباكَ تصل رحمك

تفعلْ ذاكَ للَّهِ تؤجرْ إذا ترجمت عن ا لأفعال بفعلٍ ولا يجوز البدل في الفعل إلا أن يكون الثاني من معنى الأول نحو قولك : إن تأتني تمشي أَمشِ معكَ لأن المشي ضرب من الإِتيان ولو قلت : إنْ تأتني تضحكُ معي آتكَ فجزمتَ تضحكْ لَمْ يجز قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله عز و جل : ( ولئن أَرسلنا ريحاً فرأوهُ مُصْفراً لظلوا ) فقال المعنى : ليَظلُّنَّ وكذلك ( وَلَئِن أتيْتَ الَّذِينَ أُتوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) وإنما يقعُ ما بعدها من الماضي في معنى المستقبل
لأنها مجازاة نظير ذلك : ( ولئن زالتا إن أمسكهما ) أي : لا يمسكهما وقال محمد بن يزيد رحمه الله : وأما قوله : والله لا فعلتُ ذاك أبداً فإنه لو أراد الماضي لقال : ما فعلتُ فإنما قلبت لأنها لِمَا يقعُ ألا ترى أنها نفي سيفعل تقول : زيدٌ لا يأكلُ فيكون في معنى ما يستقبل فإنْ قلت : ما يأكلُ نفيتَ ما في الحال
والحروف تغلب الأفعال ألا ترى أنكَ تدخلُ ( لَم ) على المستقبل فيصير في معنى الماضي تقول : لم يقمْ زيدٌ : فكذلك حروف الجزاء تقلب الماضي إلى المستقبل تقول : إنْ أَتيتني أَتيتك قال أبو العباس رحمه الله : مما يسأل عنه في هذا الباب قولك : إنْ كنتَ زرتني أَمسِ أكرمتُكَ اليومَ فقد صار ما بعد ( إنْ ) يقع في معنى الماضي فيقال للسائل عن هذا
ليس هذا من قبل ( إن ) ولكن لقوة كانَ
وأنها أصل الأفعال وعبارتها جازَ أن تقلب ( إنْ ) فتقول : إنْ كنتَ أعطيتني فسوفَ أكافيكَ فلا يكون ذلك إلا ماضياً كقول الله عز و جل : ( إنْ كنت قلتهُ فَقَدْ علمته ) والدليل على أنه كما قلت وإن هذا لقوة ( كانَ ) أنه ليس شيءٌ من الأفعال يقع بعد ( إنْ ) غير ( كانَ ) إلا ومعناه الإستقبال لا تقول : إن جئتني أمسِ أكرمتُكَ اليومَ قال أبو بكر :

وهذا الذي قاله أبو العباس رحمه الله لست أقوله ولا يجوز أن تكون ( إن ) تخلو من الفعلِ المستقبل لأن الجزاء لا يكون إلا بالمستقبل وهذا الذي قال عندي نقض لأصول الكلام
فالتأويل عندي لقوله : إنْ كنتَ زرتني أمسِ أكرمتُك اليومَ إنْ تكن كنتَ ممن زارني أمسِ أكرمتُكَ اليوم وإن كنت زرتني أمس زرتُكَ اليومَ فدلتْ ( كنت ) على ( تكن ) وكذلك قوله عز و جل : ( إنْ كُنْت قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ) أي إنْ أكنْ كنت ( أو ) إنْ أقل كنت قلته أو أقر بهذا الكلامِ وقد حكي عن المازني ما يقاربُ هذا ورأيت في كتاب أبي العباس بخطهِ موقعاً عند الجواب في هذه المسألة ينظرُ فيه وأحسبه ترك هذا القولَ وقال : قال سيبويه في قوله عز و جل : ( قل إنَّ الموتَ الذي تفّرونَ منهُ فإنَّه مُلاَقِيكُم ) : إنما دخلت الفاء لذكره تفرون ونحن نعلمُ أنَّ الموتَ ليس يلاقيكم من أجل أنهم فروا كقولكَ : الذي يأتينا فلَهُ درهمانِ فإنما وجب لَهُ الدرهمانِ من أجل الإِتيان ولكن القول فيه والله أَعلم : إنما هو مخاطبة لِمَنْ يهرب من الموت ولَم يتمنَّه قال الله عز و جل : ( فتمنَّوا الموتَ إنْ كنتم صادقين )
فالمعنى : أي أنتم إنْ فررتم منهُ فإنه ملاقيكم ودخلت الفاء لإعتلالهم من الموت عن أنفسهم بالفرار نحو قول زهير :
( ومَنْ هَابَ أَسْبَابَ المَنِيَّةَ يَلْقَها ... وإنْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ )

ومن يهبها أيضاً يلقَها ولكنه قالَ هذا لِمَنْ يهابُ لينجو ومثل ذلك : إنْ شتمتني لم اشتمكَ وهو يعلم أنه إنْ لم يشتمني لم اشتمُه ولكنهُ قيل هذا لأنه كان في التقدير أنه إنْ شتَم شُتِمَ كما كان في تقدير الفارِّ من الموت : أن فراره ينجيه
وقال : قال سيبويه : إنَّ حروف الجزاء إذا لم تجزم جاز أن يتقدمها أخبارها نحو : أنت ظالمٌ إن فعلت ثم أجرى حروفَ الجزاء كلها مجرىً واحداً وهذه حكاية قول سيبويه وقد تقول : إنْ أتيتني آتيكَ أي : آتيك إنْ أَتيتني قال زهير :
( وإنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ... يَقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ )
ولا يحسن : إنْ تأتني آتيكَ مِنْ قبل أنَّ ( إنْ ) هي العاملة
وقد جاء في الشعر قال :
( يَا أَقْرَعُ بنُ حَابِسٍ يا أَقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ )

أي : أنَّكَ تصرعُ إنْ يصرعْ أخوكَ
ومثلَ ذلكَ قوله :
( هَذَا سُرَاقَةُ لِلقُرآنِ يَدْرُسُهُ ... والمَرْء عِنْدَ الرُّشا إن يَلْقَها ذِيبُ )
أي : المرء ذيب إنْ يلقَ الرُّشا فجاز هذا في الشعر
وشبهوه فالجزاء إذا كان جوابه منجزماً لأنَّ المعنى واحدٌ قال : ثم قال في الباب الذي بعده
فإذا قلتَ : آتي مَن أتاني فأنتَ بالخيار إنْ شئت كانت بمنزلتِها في ( إنْ ) وقد يجوز في الشعر : آتي مَنْ يأتيني قال الشاعر :
( فَقُلتَ تَحَمَّلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إنَّها ... مُطَبَّعَةٌ مَنْ يأتِها لا يَضِيرُهَا )
كأنه قال : لا يضيرها من يأتها ولو أريد أنه حذف الفاء جازَ وأنشد في بابِ بعده :

( وَمَا ذَاكَ أَنْ كَانَ ابنَ عمِّي ولا أَخِي ... وَلكِنْ مَتَى مَا أَملكُ الضُّرَّ أَنْفَعُ )
كأنه قال : ولكن أنفع متى ما أَملكِ الضرَّ قال أبو العباس رحمه الله : أما قوله : آتيك إنْ أتيتني فغير منكرٍ ولا مرفوع استغنى عن الجواب بما تقدم
ولم تجزم ( إنْ ) شيئاً فيحتاج إلى جواب مجزوم أو شيءٍ في مكانه
وأما قولُهم : وإن أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ تقول على القلب فهو محال وذلك كان الجواب حقه أن يكون بعد ( إنْ ) وفعلها الأول وإنما يعني بالشيء موضعه إذا كان في غير موضعه نحو : ضَربَ غلامُهُ زيدٌ لأن حد الكلام أن يكون بعد زيدٍ وهذا قد وقع في موضعه من الجزاء فلو جاز أن يعني به التقديم لجاز أن تقول : ضربُ غلامُهُ زيداً تريد : ضربَ زيداً غلامُه وأما ما ذكره من ( مَنْ ومَتى ) وسائر الحروف فإنه يستحيل في الأسماء منها والظروف
من وجوه في التقديم والتأخير لأنكَ إذا قلت : آتي مَنْ أتاني وجب أن تكون ( مَنْ ) منصوبة بقولكَ : أَتى ونحوهُ وحروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها فليس يجوز هذا إلا أن تريد بها معنى الذي
و ( متى ) إذا قلت : آتيك متى أتيتني فمتى للجزاء وهي ظرف ( لأَتيتني ) لأنَّ حروف الجزاء لا يعمل فيها ما قبلها ولكن الفعل الذي قبل متى قد أغنى عن الجواب كما قلت في الجواب : أَنتَ ظالمٌ إنْ فَعَلتَ
فأنتَ ظالمٌ منقطع مِنْ ( إنْ ) وقَد سَدَّ مسدَّ جواب ( متى ) و ( إنْ ) لم تكن منها في شيءٍ لأنَّ ( مَتى ) منصوبة ( بيأتيني ) لأنَّ حروف الجزاء من الظروف والأسماء إنما يعملُ فيها ما بعدها وهو الجزاء الذي يعملُ فيه الجزم
والباب كله على هذا لا يجوز غيره ولو وضع الكلام في موضعه لكانَ تقديره : متى أتيتني فآتيكَ أي : فأنا

آتيكَ وإنما قوله ( مَنْ ) يأتها فمحالٌ أَنْ يرتفع ( مَنْ ) بقولكَ : لا يضيرها ومَنْ مبتدأٌ كما لا تقول : زيدٌ يقومُ فترفعه ( بيقوم ) وكل ما كان مثله فهذا قياسه وهذه الأبيات التي أُنشدت كلها لا تصلح إلا على إرادة الفاء في الجواب
كقوله : ( الله يشكرها ) لا يجوز إلا ذلك
وتقولُ : إن الله أمكنني من فلانٍ فعلتُ : فتلى ( إنْ ) الإسم إلا أنكَ تضمر فعلاً يليها يفسرهُ ( أمكنني ) كما تفعل بألف الإستفهام
وزعم سيبويه أنه جاز فيها ما امتنع في غيرها لأنها أصل الجزاء
قال : والدليل على ذلك أنها حرفه الذي لا يزولُ عنه لأنها لا تكون أبداً إلا للجزاء ومَنْ تكون استفهاماً وتكون في معنى الذي وكذلكَ ما وأيُّ وأينَ ومتىَ تكون استفهاماً وجميعُ الحروف تنقل غيرها
قال أبو العباس رحمه الله : فيقال له : ( إنْ ) قد تكون في معنى ( مَا ) نحو : ( إن الكافرونَ إلا في غرورٍ ) وتكون مخففة من الثقيلة وتكون زائدةً نحو قوله :

( وما إنْ طبنَا جُبنٌ ... )
ثم قال : والدليل على ما قال سيبويه : أنَّ هذا السؤال لا يلزمُ أنَّ ( مَنْ ) تكونُ لِما يعقل في الجزاء والإستفهام ومعنى الذي فهي حيث تصرفتْ واحدة و ( ما ) واقعة على كل شيء غير الناس وعلى صفات الناس وغيرهم حيث وقعت فهي واحدة وكذلك هذه الحروف و ( إنْ ) للجزاء لا تخرجُ عنه وتلك الحروف التي هي ( إنْ ) للنفي ومخففة من الثقيلة وزائدة ليسَ على معنى ( إنْ ) الجزاءُ ولا منها في شيءٍ وإنْ وقع اللفظان سواء فإنهما حرفانِ بمنزلةِ الإسم والفعل إذا وقعا في لفظ وليس أحدهما مشتقاً من الآخر : نحو قولِكَ : هذا ذهبٌ وأنت تعني التِّبْر وذهب من الذهاب ونحو قولِكَ : زيدٌ على الجبَلِ وعلا الجبلَ فهذا فعلٌ والأول حرفٌ قال : وسألت أبا عثمان عن ( ما ) و ( مَنْ ) في الإستفهام والجزاء أمعرفة هما أم نكرةٌ فقال : يجوز أن يكونا معرفة وأن يكونا نكرة فقلت : فأيُّ : ما تقول فيها قال : أنا أقول : إنَّها مضافة معرفة ومفردة نكرة والدليل على ذلك أنك تقول : أيةُ صاحبتُكَ ولو كانت معرفةً لم تتصرفْ
قال : وكان الأخفش يقول : هي معرفة ولكن أَنونُ لأن التنوينَ وقع وسط الإسم فهو بمنزلة امرأةٍ سميتَها خيراً منكَ وكانَ غيرهُ لا يصرفها ويقول : أيّةَ صاحبتُك لأنّها معرفةٌ
وشرح أبو العباس ذلك فقالَ : إن مَنْ وما وأيُّ مفردة نكراتٍ وذلك أنَّ أيا منونةٌ في التأنيث إذا قلت : أيّةٌ جاريتُكَ وقول الأخفش : التنوينُ وقعَ وسطاً غَلَط وذاك لأنَّ ( أَيَّ ) في الجزاء والإستفهام لا صلة لها ( ومَنْ وما ) إذا كانتا خبراً فإنهما يعرفانِ بصلتهما
فقد حذفَ ما كان يعرفهما فهما بمنزلة ( أي ) مفردةً ومن الدليل على أنهن نكراتٌ أنك

تسأل بمنْ سؤالاً شائعاً ولو كنتَ تعرف ما تسأل عنه لم يكنْ للسؤال عنه وجه فالتقدير فيها على ما ذكرنا إذا قلت : ما زيدٌ وأيُّ زيدٍ وما عندك وأيُّ رجلٍ وأي شيءٍ فإذا قلت : أَيهم وأيُّ القومِ زيدٌ فقد اختصصتَه من قوم فأضفته إليهم والتقدير : أهذا زيدٌ منَ القومِ أم هذا للإختصاصِ
فلذلك كانت بالإِضافة معرفةً وفي الإِفراد نكرةً
وقال سيبويه : سألتُ الخليلَ عن ( كيفَ ) : لِمَ لَمْ يجازوا بها فقالَ : هي فيه مستكرهةٌ وأصلها من الجزاء ذلك لأنَّ معناها على أي حالٍ تكن أكن
وقال محمد بن يزيد : والقول عندي في ذلك : إنَّ علة الجزاءِ موجودةٌ في معناها فما صَحَّ فيهِ معنى الجزاء جوزيَ بهِ وما امتنعَ فلا جزاءَ فيهِ وإنما امتنعت ( كيفَ ) من المجازاة لأن حروف الجزاء التي يستفهم بها كانت استفهاماً قبل أن تكون جزاءً والدليلُ على تقديم الإستفهام وتمكنه أنَّ الإستفهام يدخل على الجزاء كدخوله على سائر الأخبارِ فتقول : أَإِنْ تأتني آتِكَ ونحوه ولا يدخلُ الجزاء على الإستفهام ثم رأيتَ أنه ما كان من حروف الإستفهام متمكناً يقعُ على المعرفة والنكرة جوزيَ به : لأنَّ حروفَ الجزاء الخالصة تقع على المعرفة والنكرة تقول إنْ تأتني زيدٌ آتِه وإن يأتني رجلٌ أَعطهِ فكذلك من وما وأيَ وأينَ ومتَى وأنّى
وذلك إذا قلت في الإستفهام : من عندك جاز أن تقول : زيدٌ أو رجل أم امرأةٌ وكذلك كلما ذكرنا من هذه الحروف
وأما كيف فحقٌّ جوابها النكرة وذلك قولك كيف زيدٌ فيقالُ صالحٌ أو فاسدٌ ولا يقالُ الصالح ولا أخوكَ لأنَّها حالٌ والحالُ نكرةٌ وكذلك كم لم يجازوا بها لأنَّ جوابها لا يكون نكرةً إذا قام كمْ مالُكَ فالجواب : مائةٌ أو ألفٌ أو نحو ذلك والكوفيون يدخلون ( كيف وكيفما ) في حروف الجزاء ولو جازت العرب بها

لأتبعناها وتقول : إنْ تأمر أن آتيك تريد إنَّك إنْ تأمرْ بأنْ آتيكَ وإنْ أسقطت ( إنْ ) قلت : إنْ تأمر آتيكَ آتكَ ولا يجوز عندي إن تأمر لا أقم لا أقم إلا على بعدٍ وقومٌ يجيزونهُ وتقول : إنْ تقمْ إنَّ زيداً قائمٌ تضمرُ الفاء تريدُ : فإنَّ زيداً قائمٌ وإنْ تقمْ لا تضرب زيداً
يريد : فلا تضربْ زيداً : وإنْ تقمْ أطرفْ بكَ أي فأطرِفْ بكَ وتقول : إنْ تَقمْ يعلم الله أزَركَ تعترضُ باليمينِ ويكون بمنزلة ما لم يذكر أعني قولك : يعلمُ اللَّهُ وإنْ جَعلتَ الجواب للقسم أَتيتَ باللام فقلت : إنْ تقمْ يعلمُ الله : لأزورنَّكَ وتضمر الفاءَ وكذلكَ : إنْ تقم يعلم الله لآتينك تريد : فيعلمُ الله لأزورنك ويعلم اللَّهُ لآتينكَ

باب الأفعال المبنية
الأفعال التي تبنى على ضربين : فعلٌ أصله البناء فهو على بنائه لا يزول عنه وفعلٌ أصله الإِعراب فأدخلَ عليه حرف للتأكيد فبنيَ معَهُ
فأما الضرب الأول فقد تقدم ذكره وهو الفعل الماضي وفعل الأمر وأما الضربُ الثاني فهو الفعلُ الذي أصله الإِعراب فإذا دخلت عليه النون الثقيلة والخفيفة بني معها
ذكر النون الثقيلة
هذه النونُ تلحقُ الفعلْ غيرَ الماضي إذا كانَ واجباً للتأكيدِ فيبنى معها وهي تجيءُ على ضربين : فموضعٌ لا بد منها فيه وموضعٌ يصلحُ أنْ تخلو منه فأمَّا الموضع الذي لا تخلو منه فإذا كانت مع القسم وذلك قولُكَ : والله لأفْعَلنَّ وأقسم لأفعلنَّ وأشهد لأفعلنَّ وأقسمت عليك بالله لتفعلنَّ فهذه النون ملازمةٌ للامِ وهي تفتح لام الفعل الذي كان معرباً وتبنى معهُ وهي إذا كانت مشددةً مفتوحةً قال سيبويه : سألتُ الخليلَ عن قوله : لتفعلنَّ مبتدأة لا يمينٌ قبلها فقال : جاءت على نية اليمين
وإذا حكيت عن غيرك

قلتَ : أقسم لتفعلنَّ واستحلفتهُ لتفعلنَّ
وزعم : أنَّ النونَ أُلحقت ( في لتفعلنَّ ) لئلا يشبه أنه ليفعل
فإذا أقسمتَ على ماضٍ دخلت اللامُ وحدها بغير نون نحو قولكَ : والله لقد قامَ ولقامَ وحكى سيبويه والله أنْ لو فعلتَ لفعلت وتقول : والله لا فعلتَ ذاكَ أبداً تريد : لا أَفعلُ وقال الله عز و جل ( ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا ) على معنى : ( ليظلّن ) وتقول : لئن فعلت ما فَعلَ تريد : ما هو فاعلٌ وتقول : : والله أفعلُ تريد لا أفعلُ وإن شئت أظهرت ( لا ) وإنما جاز حذف ( لا ) لأنهُ موضع لا يلبس ألا ترى أنك لو أردت الإِيحاب ولم ترد النفي قلت : لأفعلن فلما لم تأت باللام والنون علم أنك تريد النفي وأما الموضع الذي تقع فيه النون وتخلو منه فالأمر والنهي وما جرت مجراهما من الأفعال غير الواجبة وذلك قولك : أفعلنَّ ذاكَ ولا تفعلنَّ وهَل تقولنَّ وأتقولنَّ لأن معنى الإستفهام معنى أخبرني
وكذلك جميع حروف الإستفهام وزعم يونس أنك تقول : هلا تفعلنَّ وألا تقولَنَّ لأنك تعرض ومعناه أفعلُ ومثل ذلك : لولا تقولنَّ لأنه عَرض
ومن مواضعها حروف الجزاء إذا أوقعت بينها وبين الفعل ( مَا ) للتوكيد تقول : إمّا تأتني آتكَ وأيُّهم ما يقولنَّ ذاكَ نجزهِ وقد تدخل بغير ( ما ) في الجزاء في الشعر
وقد أدخلت في المجزوم تشبيهاً به للجزم ولا يجوز إلا في ضرورة قال الشاعر :
( يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَما ... شَيْخَاً على كُرْسِيَّه مُعمَّمَا )
والخفيفة والثقيلة سواء ويقولون : أَقسمتُ لمَّا لم تفعلن لأن ذا طلبٌ

وزعم يونس : أنَّهم يقولونَ رُبَّما تقولنَّ ذاك وكثر ماتقولنَّ ذاك لأنه فِعْل غير واجبٍ ولا يقعُ بعد هذه الحروف إلا و ( ما ) له لازمة وإن شئت لم تدخل النون فهو أجودُ فهذه النون تفتح ما قبلها مرفوعاً كان أو مجزوماً
فإذا أدخلت النون الشديدة على ( يفعلانِ ) حذفت النون التي هي علامة الرفع لإجتماع النونات ولأن حقه البناء فينبغي أن تطرح الذي هو علامة الرفع وكذلك النون في ( يفعلون ) تقول : ليفعلنَ ذاكَ وقد حذفت النون فيما هو أشد من هذا لإجتماع النونات قرأ بعض القراء : ( أتحاجونِّي ) و ( فَبِمَ تُبشرونِّ ) وسقطت الواو لإلتقاء الساكنين فصار ليفعلنّ فإن أدخلتها على ( تَضربينَ ) حذفت أيضاً النون لإجتماع النونات لأنها تكون علماً للرفع وحذفت الياء لإلتقاء الساكنين فقلت : هل تضربينَ وتقول : اضربنَ زيداً وأكرمن عمراً وكان الأصل اضربي وأكرمي وتقول لجماعة المذكرينَ : اضربُنَّ زيداً كانَ الأصلُ : اضربوا وأكرموا فسقطتِ الواو لإلتقاء الساكنين وتقول في التثنية : اضربانِ يا رجلانِ بكسر النونِ تشبيهاً بالنون التي تقعُ بعدَ الألف وهي فيما سوى هذا مفتوحة ومتى دخلت النون بعد حرف إضمارٍ تحرك إذا لقيته لام المعرفة حرك لها تقول : ارضونَّ زيداً واخشونَّ عمراً وارضينَّ يا امرأةُ لأنك تقول : اخشُو فتضم وتقول : ارضي الرجلَ فتكسر فلذلك ضممتَ وكسرتَ مع النونِ فإنْ أدخلت النون على : تضربنَ الذي هو لجماعةِ المؤنث قلت : هَل تضربنانِ يا نسوةُ واضربنانِ لم تسقطْ هذه النون لأنها اسمٌ للجماعة وفصلت بين النونات بالألف لئلا تجتمعَ النوناتُ

واعلم : أن ما يحذف من اللامات في الجزم والأمر إذا أدخلت النون لم يحذفن تقول : ارمين زيداً وكان اللفظ : ارمِ زيداً لأن الياء والواو تحذفان في المواضع التي أصلها الإِعراب فإذا أدخلت النون عادت لأنها تبنى مع ما قبلها ولا سبيل للجزم

ذكر النون الخفيفة
كل شيء تدخله النون الثقيلة تدخله الخفيفة إلا أن النون الخفيفة في الفعل نظير التونين في الإسم فلا يجوز الوقف عليها كما لا يجوز الوقف على التنوين تقول اضربْن زيداً إذا وصلت فإذا وقفت قلت اضربا كما تقول : ضربتُ زيداً في الوقف وقد فرقوا بين التنوين والنون الخفيفة بشيءٍ آخر بأن الخفيفة لا تحرك لإلتقاء الساكنين والتنوين يحرك لإلتقاء الساكنين فمتى لقي النون الخفيفة ساكن سقطت لأنهم فضلوا ما يدخل الإسم على ما يدخل الفعل وتقول : إذا أمرتَ امرأةً : اضربن يا هذه فإذا وقفت قلت : اضربي ولَم يجز أن تقول : اضربنْ في الوقف لأنها بمنزلة التنوين وأَنتَ تحذفُ التنوين إذا انكسر ما قبلهُ فحذفت التنوين ها هنا فلما حذفتها عادت الياء لأن سقوطها كان لإلتقاء الساكنين وتقول للجماعة : اضربُنْ يا قومُ فإذا وقفت قلت : اضربوا : أعدت الواو لأنها إنما سقطت لإلتقاء الساكنين ولم يجز أن تقول : اضربنْ في الوقف كما لم يجز أن تقول : زيدْ في الوقف فقد يقفون وهم ينوونَ النونَ كما ينوون التنونَ في الرفع والجزم في الوقف
وتقول في الوقف : اخشى وللرجال اخشوا وحكى سيبويه : أن يونس يقول : اخْشَي واخْشَوُوا وقال الخليل : لا أرى ذلك إلا على قول مَنْ قال : هذا عمروُ ومررتُ بعمري قول العرب على قول الخليل وإذا أدخلت النون بعد حرف إضمار تحرك إذا لقيتْهُ لام المعرفة حرك من النون

وتقول : هَلْ تضربِنْ يا امرأةُ وكان الأصل : تضربينَ فسقطت النون التي كانت علامةٌ للرفع كما تسقط الضمة في : هَل تضربنْ وتثبت النون الخفيفة أو الثقيلة إنْ شئتَ وتسقط الياء لإلتقاء الساكنين فيصير : هل تضربِنْ في الوصل وكان في الأصل تضربينَ وإذا وقفت قلت : هل تضربين
فأعدت النون التي كانت للرفع لأنك لا تقفُ على النون الخفيفة ولا يجوز أن تسقطها لأنك لم تأت بما تسقط من أجله وكذلك هل تضربونَ وهل تضربانِ فأما الثقيلة فلا تتغير في الوقف وإذا كان بعد الخفيفة ألف ولام ذهبت لإلتقاء الساكنين . تقول : اضربا الرجل
وإذا أردت فِعلَ الإثنين في الخفيفة كان بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة في فعلِ الإثنين في الوصل والوقف لأنك لو أتيت بها لاحتجت إلى تحريكها لأنها بعد ألفٍ وهي لا تحرك وذلك قولك : اضربا وأنت تنوي النونَ وإذا أردت الخفيفة في فعلِ جمعِ النساء قلت في الوقف والوصل : اضربِنْ زيداً فيكون بمنزلته إذا لم ترد الخفيفة ولو أتيت بها للزمكَ أن تقول : اضربنانِ زيداً فتاتي بالألف لتفصلَ بين النونين وتكسر النون لالتقاء الساكنين فتحركها وهي لا تحركُ قال سيبويه وأما يونس وناسٌ من النحويين فيقولون : اضربانْ زيداً واضربنانْ زيداً
ويقولون في الوقف : اضربا واضربْنَا فيمدونَ
فإذا وقع بعدها ألف ولامْ أو ألفُ وصلٍ جعلوها همزة مخففة وهذا لم تفعلْهُ العرب والقياس أن يقولوا في : اضربنْ اضربِ الرجلَ فيحذفون لإلتقاءِ الساكنين

مسائل من باب النون
تقول في المضاعف من الفعل : رُدّن يا هذا وردّانِ ورُدُّن وكان قبل النون ردّوا فسقطت الواو لإلتقاء الساكنين وتقول في المؤنث رُدّن وكان قبل النون : ردي فسقطت الياء لإلتقاء الساكنين وتثنية المؤنث كتثنية

المذكر
تقول : رُدّانِ يا امرأتانِ وتقول لجماعة النساء : ارددنانِ وكان قبل النون : اردَدنَ
فجئت بالألف لتفصل بين النونات
وتقولُ : قولنْ وقولانِ وقولّنَّ والمؤنث قولِنَّ : وقولانِ يا امرأتانِ وقُلنانِ يا نسوةُ وقس على هذا جميع ما اعتلتْ عينه وكذلك ما عتلتْ لامه اقضين زيداً واقضيانِ واقضين تسقط الواو لسكون النون الأولى اقضينَ يا امرأةُ تسقط ياءين التي هي لام الفعل وياء التأنيث أما لام الفعل فتسقط كما تسقط في ( تقضينَ ) لإلتقاء الساكنين لأنها ساكنة وياء التأنيث ساكنة
وتسقط ياء التأنيث من أجل سكون النون الأولى فإن جمعت قلت : اقضينانِ والكوفيونَ يحكون إذا أمرت رجلاً : اقضِنَّ يا هذا بكسر الضاد وإسقاط الياء كأنهم أسقطوا الياءَ لسكونها وسكون النون هكذا اعتلوا
وعندي أنا : الذي فَعلَ هذا إنما أدخلَ النون على ( اقضِ ) ولم يجد ياءً فترك الكلام على ما كان عليه وهذا شاذٌ وتقول : مِنْ دعوتُ : ادعون زيداً أو ادعوان وادعنْ للجماعة سقطت الواوان في ( ادَعن ) الواو التي هي لام الفعل سقطتْ لدخول واو الجمع وسقطت واو الجمع لدخول النون الأولى وهي ساكنة
وتقول للواحدة : ادعَنْ سقطتْ واواٌ وياءٌ فالواو لام الفعل سقطت لدخول الياء التي هي للمؤنث حين قلت : ادعي
وسقطت الياء للنون فصار ادعن وتقول : للإثنين : ادعوان مثل المذكرين وللجماعة ادعونانِ لأنكَ تقول : قبل النون : ادعون زيداً مثل اقضينْ زيداً تأتي بالألف إذا أردت النون الشديدة فتفصلُ بين النوناتِ لئلا تجتمع كما تقول : اقضنانِ زيداً وتقول : من خَشيتَ : اخشَينَ زيداً يا هذا واخشينانِ زيدً يا هذان واخشُون زيداً يا نسوةُ . تحرك الواو بالضم
وحكمُ هذا الباب أَنَّ كل واوٍ وياءٍ تحركت فيه إذا لقيتها لامُ المعرفة تحركت هنا وإنْ كانت تسقط هناك لإلتقاء الساكنين سقطت هنا فلهذا قلت : اخشُون زيداً ضممتَ الواو كما تَضمُّها إذا قلت : اخشُوا الرجلَ وتقول للمرأة : اخشين زيداً كما تقول : اخشى الرجلَ وتثنية المؤنث كتثنية المذكر وتقول لجماعة النساء : اخشين زيداً والكوفيون يحكون : اخشَن يا رجلُ بإسقاط الياء من ( اخشين ) وهذا

نظيرُ ( اقضِن ) وحكوا : لا يخفن عليكَ : يريدون لا يخفين عليكَ وقال الفراء : هذه لغة طيءٍ لأنهم يسكنون الياء في النصب ولا ينصبونَ
والنونُ لا تشبه ذلك
وتقول : لا تضربني ولا تضربننا ومنهم من يخفضُ لكثرة النونات فيقول : لا تضربني ولا تضربنَا والكوفيون يحكون : اضربن يا رجلُ ينوون الجزم قد ذكرنا جميع أصناف الأسماء المعربة والمبنية والأفعال المبنية وبقيَ ذكر الحروف مفردةً

باب الحروف التي جاءت للمعاني
قد ذكرنا أول الكتاب ما يعرفُ به الحرف والفرق بينه وبين الإسم والفعل وإنما هي أدوات قليلة تدخل في الأسماء والأفعال وتحفظ لقلتها وسنذكرها بجميع أنواعها وكلها مبني وحقها البناء على السكون وما بنيَ منها على حركة فإنما حرك لسكون ما قبله أو لأنه حرف واحد فلا يمكن أن يبتدأ به إلا متحركاً وهي تنقسم أربعة أقسامٍ : ساكنٍ يقال لهُ موقوفٌ ومضمومٌ ومكسور ومفتوح الأولِ
الموقوف : ويبدأ بما كان منه على حرفين وذلكَ أَمْ وأَوْ وهَلْ وتكون بمعنى : ( قَدْ ) ولَم نفيُ فَعَلٍ ولَنْ نفيُ سيفعلُ فإنْ للجزاء ووجوب الثاني لوجوب الأول وتكون لغواً في ( ما إنْ يفعلُ ) وتكون ( كما ) في معنى ( ليسَ ) قال الشاعر :
( وَرجِّ الفتى لِلخَيْرِ ما إنْ رأَيتَهُ ... )

ومن ذلك ( أنْ ) المفتوحة يكون وما بعدها بمنزلة المصدر وتكون بمنزلة ( أَي ) وتكون مخففة من الثقيلة وتكون لغواً نحو قولك : لمَّا أَنْ جَاءَ
وأما واللِه أَنْ فَعَلْتَ فأما كونها بمنزلة المصدر فقولك : أَنْ تأتيني خيرٌ لَك واللام تحذف من أَنْ كقوله : أَنْ تقتلَ أحدهما وأنْ كانَ ذَا مالٍ ويجوز أن تضيف إلى ( أَنْ ) الأسماء تقول : إنهُ أَهلٌ أَن يفعلَ ومخافة أَن يفعلَ وإنْ شئت قلت : إنَّهُ أهلٌ أنْ يفعلَ ومخافةُ أنْ يفعلَ وإنَّهُ خليقٌ لأَنْ يفعلَ وإنَّهُ خليقٌ أنْ يفعلَ وعسيتَ أَنْ تفعلَ وقاربتَ أَنْ تفعلَ ودنوتَ أَنْ تفعلَ ولا تقول : عسيتَ الفعل ولا للفعلِ وتقول : عسى أَنْ يفعلَ وعسى أَن يفعلا وعسى أَن يفعلوا وتكون عسى للواحد والإثنين وللجميع والمذكر والمؤنث ومن العرب من يقول : عَسى وعَسيا وعسوا وعسيتُ وعسيتِ وعسينَ فمن قال ذاك كانت ( أَنْ ) فيهن منصوبةً ومن العرب من يقول : عسى يفعلُ فشبهها بكادَ يفعلُ فيفعلُ في موضعِ الإسمِ المنصوب في قوله : عسَى الغويرُ أَبؤساً
فأما ( كادَ ) فلا يذكرونَ فيها ( أَنْ ) وكذلك كربَ يفعلُ ومعناهما واحدٌ وجعلَ وأَخذَ فالفعلُ هنا بمنزلة الفعلِ في ( كانَ ) إذا قلت : كانَ يقولُ
وهو في موضع اسم منصوب بمنزلته ثَم وقد جاء في الشعر : كادَ أن يفعلَ ويجوزُ في الشعر : لعلِّي أَن أفعلَ بمنزلة عسيتُ أَنْ أفعلَ وتقول : يوشكُ أَنْ تجيءَ فيكون موضعُ ( أَن ) رفعاً ويجوز أن يكون نصباً وقد يجوز : ( يُوشكُ ) تجيء بمنزلة ( عسَى ) قال أمية بن أبي الصلتِ :

( يُوشكُ مَنْ فُرَّ مِنْ منيتهِ ... في بعضِ غراتهِ يُوافقُها )
قال سيبويه : وسألتهُ . يعني الخليل عن معنى : أريدُ لأَنْ تفعلَ فقال : المعنى إرادتي لهذا كما قال تعالى : ( وأمرتُ لأَن أكونَ أولَ المسلمين )
وأما ( إنْ ) التي بمعنى ( أيْ ) فنحو قوله ( وانطلقَ الملأُ منهم أَنْ امشوا ) ومثله : ( ما قلتُ لهم إلا ما أمرتني بهِ أنِ اعبدوا الله ) فأما كتبت إليه أنْ افعل وأمرتهُ أَنْ قُمْ فتكون على وجهينِ : على التي تنصب الأفعالَ وعلى ( أَي ) ووصلك لها بالأمرِ كوصلِكَ للذي يفعلُ إذا خاطبتَ والدليل على أّنَّها يجوز أن تكون الناصبة قولُكَ : أَوعز إليهِ بأَنْ افعلْ وقولُهم : أرسل إليه أنْ ما أَنتَ وذَا فهي على أي والتي بمعنى أَنْ لا تجيء إلا بعد استغناء الكلام لأنها تفسيرٌ وأما مخففةٌ من الثقيلة فنحو قوله : ( وآخر دَعواهم أنِ الحمدُ لله رب العالمين ) يريدُ ( أَنهُ ) ويجوز الإِضمار بعد أَنْ هذه وقولُكَ و ( كأنَّ ) هي أنَّ دخلت عليها الكاف كما دخلت على ما خففت منه وقال سيبويه :

لو أنَّهم جعلوا أنْ المخففة بمنزلة إنَّما كان قوياً وفي هذا البابِ شيءٌ مشكلٌ أنا أبينهُ
اعلم : أن الأفعال على ضروب ثلاثة : فضرب منها يقين وهو عَلِمتُ وضَرب هو لتوقعِ الشيءِ نحو : رجوتُ وخفتُ وضربٍ هو بينهما يحمل على ذا وعلى ذَا نحو : ظننتُ وحسبتُ
واعلم : أن ( أنّ ) إنما هي لما تتيقنه ويستقر عندك وأَنْ الخفيفة إنما هي لما لَم يقعْ نحو قولك : أُريد أَنْ تذهبَ فإذا كانت أن الخفيفة بعد ( علمتُ ) فهي مخففةٌ من الثقيلة وإذا خففت أتى بلا والسين وسوف عوضاً مما حذف
وجعلوا حذفها دليلاً على الإِضمار وقد ذكروا فيما تقدم و ( أَنْ ) التي تنصب بها الأفعال تقع بعد رجوت وخفتُ . تقول : خفتُ أَنْ لا تفعلَ
فأما بعد حسبت وظننت فإنها تكون على ضربين : إنْ كان حسبانكَ قد استقر كانت مخففة من الثقيلة وإن حملته على الشك كانت خفيفة كقوله ( وحسبوا أنْ لا تكونَ فتنةٌ ) . تقرأ بالرفع والنصب
فمن رفع فكأنه أرادَ وحسبوا أَنْ لا تكون لما استقر تقديرهم فصار عندهم بمنزلة اليقين وهذا مذهب مشايخنا
وقد حكي عن المازني نحوٍ منه ثم يتسعون فيحملون ( رجوتُ ) على علمتُ إذا استقر عندهم الرجاء وهذا أبعدها
وحكي عن أبي العباس ولستُ أحفظهُ من قوله : إنه إن سُئلَ عن أَنْ الخفيفة المفتوحة ومواضعها فقال : أنْ الخفيفة المفتوحة أصلها أَنَّ المفتوحة الثقيلة في جميع أحوالها وأنها مفتوحة كما انفتحت أَنَّ المعمول فيها كأنما خففت أنَّ فصارت أنْ مخففة فلها في الكلام موضعان : أحدهما تقع فيه على

الأسماء والأخبار . والآخر : تقع فيه على الأفعال المضارعة للأسماء
فأما كون وقوعها على الأسماء والأخبار : فإن ذلك لها إذا دخلت محل ( أَنَّ ) الثقيلة أعني في التأكيد للإبتداء والخبر فإذا كانت بهذه المنزلة لم يقع عليها إلا فعل واجب وكانت مؤكدة لما تدخل عليه وأما كون وقوعها على الأفعال المضارعة فلأنَّ العامل فيها غير واجب ولا واقع وإنما يترجى كونه ووقوعه فإذا وجدت العامل فيها واجباً على ( أن ) ففتحتها وأوقعتها على المضمر وجعلته اسماً لها
وأما قولهم : أما أَن جزاكَ الله خيراً أو أما أنْ يغفر اللُه لكَ
قال سيبويه : إنما جاز لأنه دعاءٌ وقال : سمعناهم يحذفونَ إنَّ المكسورة في هذا الموضع ولا يجوز حذفها في غيره
يقولون : أما إنْ جزاكَ الله خيراً وهذا على إضمار الهاء في المحذوفة وقال : يجوزُ ما علمتُ إلا أنْ تأتيهُ إذا أردت معنى الإِشارة لا أنكَ علمتَ ذلك وتيقنتهُ
والمبتدأ وخبره بعد ( أَن ) يحسنُ بلا تعويض تقول : قَد علمتُ أَن عمرو ذاهبٌ وأَنت تريدُ ( أَنهُ ) ويجوز : كتبتُ إليه أن لا تقلْ ذاكَ وأَن ترفعَ ( تقولُ ) وأنْ تنصب
فالجزم على النهي والنصبُ على ( لئلا ) والرفعُ على ( لأنَكَ لا تقول ) أو بأنَّكَ لا تقول وقد تكون أَنْ بمنزلة لام القسم في قول الله : ( أنْ لَو فعلَ ) وتوكيداً في قوله : لَما أَن فَعَلَ
ومن الحروف ( مَا ) وهي تكونُ نفيُ هو يفعلُ إذا كان في الحال وتكونُ كلَيْسَ في لغة أهل الحجاز
وتكون توكيداً لغواً تغيرُ الحرفَ عن عمله نحو : إنما وكأَنما ولعلما جعلتهنَّ بمنزلة حروف الإبتداء ومن ذلك حيثما

صارت بمجيء ( ما ) بمنزلة إنْ التي للجزاء وما في ( لمَّا ) مغيرة عن حال لم كما غيرت ( لو ما ) ألا ترى أنك تقول : ( لمَّا ) ولا تتبعها شيئاً ومنها ( لا ) وهي نفي لقوله يَفْعل ولم يقع الفعلُ وتكون ( كما ) في التوكيد واللغو في قوله ( لِئلا يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ ) وهو لأن يعلم ولا تكون توكيداً إلا في الموضع الذي لا يلتبس فيه الإِيجاب بالنفي من أجل المعنى
وقد تغير الشيء عن حاله كما تفعلُ ( مَا ) وذلك قولك : ( لولا ) غيرت معنى لَو وستبين إذا ذكرنا معنى ( لو ) وكذلك هَلا صيرتْ ( لا ) هل في معنى آخر وتكون ضداً لنَعَمْ وَبَلى ومنها ( لوْ ) وهو كان التي للجزاء لأَنَّ إنْ توقع الثاني مِنْ أجل وقوع الأول ولم تمنع الثاني من أجل إمتناع الأول تقول : إنْ جئتني أكرمتَك فالإِكرامُ إنما يكون متى إذا كان منك مجيءٌ وتقول : لو جئتني لأكرمتُكَ والمعنى : أنه امتنع إكرامي من أجل امتناع مجيئك
وقال سيبويه : ( لو ) لما كان سيقع لوقوع غيره وهو يرجع إلى هذا المعنى لأنه لم يقع الأول لَمْ يقع الثاني فتقدير إنْ قبل ( لَو ) تقول : إنْ أتيتني أَتيتكَ
يريد فيما يستقبل فإذا لم تفعلْ وطالبتكَ بالإِتيان قلت : لو أتيتني أَتيتُكَ
ومنها ( لَولا ) وهي مركبة مِنْ معنى إنْ ولَو وتبتدأ بعدها الأسماء وذلك أنها تمنع الثاني لوجود الأول تقول : لَولا زيدٌ لهَلكنا تريدُ : لولا زيدٌ في هذا المكان لهلكنا وإنما امتنع الهلاك لوجود زيدٍ في المكان وقال عز و جل : ( لولا أنتم لكنا مؤمنينَ ) وقد يستعملونها بمعنى هَلا يولونها الفعل ومنها ( كي ) وهي جواب لقوله : كيمه كما تقول : لِمه
ومنها ( بَلْ ) وهي لترك شيءٍ من الكلام وأخذٍ في غيره
ومنها ( قَدْ ) وهي جوابٌ لقوله : لمَّا يفعلْ
وزعم الخليل : أَنَّ هذا لقومٍ

ينتظرونَ الخبرَ . وقد تكونُ ( قَدْ ) بمنزلة رُبَّما
ومنها ( يَا ) وهي تنبيهٌ وقد ذكرناها في بابِ النداء ومنها ( مِنْ ) وهي لإبتداء الغايةِ وتكون للتبعيض وتدخل توكيداً بمنزلة ( مَا ) إلا أنها تجرُّ وذلك قوله : ما أتاني من رجلٍ وويحَهُ من رجلٍ أكدتهما بمنْ
وقد ذكرناها فيما تقدمَ
ومنها ( مَذْ ) وهي في قول مَن جَرَّ بَها حرفٌ فهي لإبتداء غاية الأيام والأحيان وحقُّ ( مذ ) أن لا تدخل على ما تدخلُ عليهِ ( مِن ) وكذلك ( مِنْ ) لا تدخلُ على ما تدخل عليه ( مذ ) ومنها ( عن )
وهي لِمَا عدا الشيء وقد استعملت اسماً . وقد ذكرتها في الظروف
وذكرها سيبويه في الحروف وفي الأسماء
فقال : ( عن ) اسم إذا قلتَ : مِنْ عَن يمينِ كذا
وأما ( مَع ) فهي اسمٌ ويدلك على أَنها اسمٌ أنها متحركة ولو كانت حرفاً لَمَا جاز أَن تحرك العينُ لأنَّ الحروفَ لا تحرك إذا كان قبلها متحركٌ

باب أم وأو والفصل بينهما
اعلم : أنَّ ( أَمْ ) لا تكون إلا استفهاماً وهي على وجهين : على معنى أيهما وأيهم وعلى أن تكون منقطعة من الأول
فإذا كان الكلام بهما بمنزلة أيهما وأيَّهم فهو نحو قولك : أزَيدٌ عندكَ أمْ عمروٌ وأزيداً لقيت أم بشراً . تقديم الإسم أحسن . لأَنكَ عنه تسألُ ويجوزُ تقديم الفعل
وإذا قلت : أضَربتَ زيداً أمْ قتلتَهُ كان البدء بالفعلِ أحَسنُ لأنك عنهُ تسأل وتقول : ما أبالي أزَيداً لقيتُ أمْ عمراً وسواءٌ عليَّ أزَيداً كلمتُ أمْ عمراً وما أدَري أزيدٌ ثُمَّ عمروٌ أدخلت حرف الاستفهام للتسوية وعلى ذا ما أدري أقامَ أمْ قعدَ على التسوية
وأما المنقطعة فنحو قولك : أعَمروٌ عندكَ أمْ عندكَ زيدٌ وأنَّها لإِبلٌ أَمْ شاءٌ ويجوز حذف ألف الإستفهام في الضرورة
فأما ( أو ) فقد ذكرناها مع حروف العطف كما ذكرنا أمْ
وقد تختلطُ مسائلهما لإشتراك بينهما بعض المعاني
واعلم : أنَّ ( أَوْ ) إنما تثبت أحد الشيئين أو الأشياء وأنَّ أَمْ مرتبتها أنْ تأتي بعد أو
ويقول القائل : لقيَ زيدٌ عمراً أوْ خالداً
فيثبت عندك أنه قد لقيَ أحدهما إلا أنكَ لا تدري أيَّهما هو فتقول : حَسبَ أعَمراً لقيَ زيدٌ أَمْ خالداً
وكذلك إذا قال لك القائل : قد وهبَ لكَ أبوك غلاماً أوْ جاريةً
فقد ثبت عندك أن أحدهما قد وهب لك إلا أنك لا تدري أَغلامٌ أم جاريةٌ فإذا سألتَ أباكَ عنْ ذلك قلتَ : أَغلاماً وهبتَ لي أمْ جاريةً وتقو ل : أَيَّهم تضربُ أو تقتلُ ومن يأتيكَ أو يحدثُكَ لأن ( أَمْ ) قد استقر على أَي ومَنْ وكأنَّكَ قلتَ : زيداً أمْ عمراً تضربُ أوَ تقتلُ ثم أَتيت بأَي موضع زيدٍ وعمروٍ

فقلت أيهما تضربُ أوْ تقتلُ
وعلى هذا يجري ( مَا ومَتى وكيفَ واينَ ) لأن جميع هذه الأسماء إذا كانت استفهاماً فقد قامت مقام الألف وأمْ جميعاً
واعلم : أن جواب أوْ نَعَمْ أو لا وجواب ( أَم ) الشيء بعينه إن سأل سائلٌ عن اسم أجبت بالإسم وإن سأل عن الفعل أجبتَ بالفعل إذا قال : أَزيدٌ في الدارِ أَوْ عمروٌ فالجوابُ نَعَمْ أو لا لأن المعنى : أأَحدهُما في الدار وجوابُ أَأَحدهما في الدار : نَعَمْ أو لا وكذلك إذا قال : أَتقعدُ أو تقومُ فالجوابُ : نَعمْ أو لا فإن قال أزيدٌ أم عمرو في الدار فالجواب : أن تقولَ : زيدٌ إذا كانَ هو الذي في الدار
وكذلك إذا قال : أَتقومُ أمَ تقعدُ قلت : أَقعدُ ( فأَوْ ) تثبتُ أَحدَ الشيئين أَو الأشياء مبهماً وأم تقتضي وتطلب إيضاح ذلك المبهم و ( أَوْ ) تقوم مقامَ ( أَمْ ) مع هل وذلك لأنكَ لم تذكر الالف وأو لاتعادلُ الألفَ وذلك قولُهم : هَلْ عندكَ شعيرٌ أو برٌ أو تَمرٌ وهل تأتينا أو تحدثنا لا يجوز أن تدخلَ ( أَمْ ) في ( هَلْ ) إلا على كلامين وكذلك سائر حروف الإستفهام وتقول : ما أدري هَل تأتينا أو تحدثنا يكون في التسوية كما هو في الإستفهام وإذا قلت : أَزيدٌ أفضل أَمْ عمروٌ لا يجوز إلا ( بأَمْ ) لأنك تسأل عن أيهما أفضلُ ولو قلت : ( أَو ) لم يصلح لأن المعنى يصير أحدهما أفضل فليسَ هذا بكلام ولكنك لو قلت : أَزيدٌ أو عمروٌ أَفضلُ أم خالدٌ جاز لأنَّ المعنى أحد ذَينِ أفضلٌ أمْ خالدٌ وجواب هذه المسألة أن تقول خالدٌ إنْ كان هو الأفضل أو أحدهما إنْ كان هو الأفضلُ ويوضح هذه المسألة أن يقول القائل : الحسنُ أو الحسينُ أَشرفُ أمْ ابن الحنفيةِ فالجواب في هذه المسألة أن تقول : أحدهما بهذا اللفظ ولا يجوز أن تقول : الحسنُ دونَ الحسينِ أو الحسينُ دونَ الحسنِ لأنه إنما سألك أأَحدهما أَشرفُ أَمْ ابن الحنفيةِ وكذَاكَ الدرُّ أو الياقوتُ أَفضلُ أمْ الزجاج فالجواب أحدهما فإن كان قال : الزُّجاجُ أو الخزفُ أفضلْ أم الياقوت قلت : الياقوتُ
وتقول : ما أدري أقامَ أو أَقعدَ إذا لم يطل القيام ولم يبن من سرعته وكان بمنزلة ما لم يكن كما تقول : تكلمتُ ولَم أَتكلمَ فيجوز أن يكونَ ثُمَّ كلامٌ ولكنه لقلّته جعلهُ بمنزلة مَنْ لم يتكلمْ ويجوز أن يكون لَم يبلغْ

به المرادُ فصار بمنزلة مَنْ لم يتكلم وهذا في الحكم بمنزلة قولك : صليتَ ولَمْ تصلِّ فإذا قال : ما أَدري أقام أو قعدَ وهو يريد ذا المعنى فهو قد عَلمَ منه قيامه ولكنه لم يعتد به وليس ( لأمْ ) هنا معنى لأنهُ إذا قال : ما أَدري أَقامَ أمْ قعدَ فقد استوى جهلهُ في القيام والقعود وها هنا قيام قد علم إلا أنه جعل بمنزلة ما يشك فيه لما خبرتك فعلى هذا تقول : ما أدري أَقامَ أو قعدَ إذا كان لم يبن قيامهُ حتى قعدَ فهذا الباب كله إنما جعل بأَوْ
وكذلك أَأَذنَ أو أقامَ إذا كان ساعة إذنٍ أقامَ وما أدري أَبكى أو سكتَ لأنهُ لم يعد بكاؤهُ بكاءً ولا سكوته سكوتاً فإن كان لا يدري أَأَذنَ أم أَقامَ قال : ما أدري أَأذنَ أم أقامَ كما تقول : ما أدري أَزيدٌ في الدار أو عمروٌ إذا كنت تستيقنْ أن أحدهما في الدار ولا تدري أيهما هو

باب ما جاء من ذلك على ثلاثة أحرف
فمن ذلك ( عَلَى ) ذكر محمد بن يزيد : أنها تكون حرفاً واسماً وفعلاً وإنّ جميع ذلك مأخوذٌ من الإستعلاء وقد ذكرتها فيما تقدم
وقال سيبويه : ( عَلى ) معناها استعلاءُ الشيءِ ويكون أَن تطوى مستعلياً كقولك : أمررت يدي عليه ومررتُ على فلانٍ كالمثل
وكذلك علينا أميرٌ وعليه دينٌ لأنهُ شيءٌ اعتلاهُ . ويكونُ مررتُ عليه : مررت على مكانه
ويجيءُ كالمثل وهو اسم لا يكونُ إلا ظرفاً قال : ويدل على أنه اسمٌ قول بعضهم : غَدَتْ مِنْ عَليهِ ومن ذلكَ ( إلى ) وهي منتهىً لإبتداءِ الغايةِ ومنها ( سَوفَ ) وهي

تنفيسٌ فيما لم يكن بعد
ألا تراه يقول : سوفتَهُ وهذا لفظُ سيبويه ومنها ( إنَّ ) وهي توكيد لقوله زيدٌ منطلقٌ وإذا خففت فهي كذلك غير أنَّ لامَ التوكيد تلزمها إذا خفضت عوضاً لما ذهب منها لئلا تلتبس بأن التي للنفي ومنها ( ليت ) وهي تَمنٍّ ومنها بَلى وهي توجبُ بها بعد النفي ومنها نعم وهي عدةٌ وتصديقٌ قال سيبويه : ولَيس بَلى ونَعَمْ اسمين وإذا استفهمتَ فأجبتَ بنَعمْ قال أبو بكر : والدليلُ على أنَّ ( نعَم ) حرفٌ : أنها نقيضةُ ( لاَ ) ومنها ( إذن ) وهي جوابٌ وجزاءٌ . ومنها إلا وهي تنبيهٌ

باب ما جاء منها على أربعة حروف
من ذلك حتى : هي كإلى وقد بَيَّن أَمرها في بابها ولها نحو ليس ( لإِلى ) يقول : الرجلُ إنما أَنا إليكَ أي أنتَ غايتي ولا تكون ( حتىَ ) ها هُنا وهي أَعم في الكلام من حتى
تقول : قمتُ إليه فتجعلَهُ منتهىً لهُ مِنْ مكانِكَ ولا تقولُ : حتاهُ ومنها ( لكنْ ) خفيفةٌ وثقيلةٌ توجبُ بها بعد النفي وقد ذكرناها فيما تقدمَ لَعَلَّ قال سيبويه : لعلَّ وعسى طَمعٌ وإشفاق

باب ما جاء منها على حرف واحد
كل هذه التي جاءت على حرف واحد متحركات إلا لام المعرفة فإنها ساكنة فإذا أرادوا أن يبدأوا أيضاً أتوا بألف الوصل قبلها وأما لام الأمر فهي مكسورة ويجوز أن تسكن ولا تسكن إلا أن يكون قبلها شيءٌ نحو قولك : فليقمْ زيدٌ فالحرف على ثلاثة أضربٍ : مبنيٌ على السكون وعلى الفتح وعلى الكسر فأما المبني على الفتح فواو العطف وليس فيه دليل أن أحد المعطوفين قبل الآخر والفاء كالواو غير أنها تجعل ذلك بعضه في أثر بعض
وكاف الجر للتشبيه ولام الإِضافة مع المضمر وفي الإستغاثة وواو القسم وتاء القسم بمنزلتها والسين في ( سيفعلُ ) وزعم الخليل أنها جواب لَن
وألف الإستفهام ولام اليمين في لأفعلنَّ ولام الإبتداء في قولك : لزيدٌ منطلقٌ وأما المبني على الكسر فباء الجر
وهي للإِلزاق والإختلاط ولام الإِضافة مع الظاهر ومعناها المُلْك واستحقاقُ الشيءِ
فجميع هذه جاءت قبل الحرف الذي جيء بها لها فأَما ما جاء بَعْدُ
فالكاف التي تكون للخطاب فقط في قولك : ذاكَ والتاء في أنَتَ

باب الحرف المبني مع حرف
من الحروف ما يبنى مع غيره ويصير كالحرف الواحد ويغير المعنى
فمن ذلك لولا غيرت ( لاَ ) معنى لَو
وكذلك لما غيرت ( مَا ) معنى لَمْ و ( مهما ) زعموا : أنها ( ما ) ضُمت إليها ( مَا ) وأبدلوا الألف الأولى هاء ولما فعلوا ذلك صار فيها معنى المبالغة والتأكيد فكأنَّ القائل إذا قال : مهما تفعلْ أَفعلْ فقد قال لا أصغر عن كبير من فعلكَ ولا أكبر عن صغيرٍ أو ما أشبه هذا المعنى
ومن ذلك ( إنَّما ) إذا رفعت ما بعدها يصير فيها معنى التقليل : تقول ( إنَّما أنَا بشرٌ ) إذا أردت التواضع وقال أَصحابنا : إنَّ اللام في ( لعل ) زائدة لأنهم يقولون عَلَّ والذي عندي أنهما لغتان وأن الذي يقول لَعلَّ لا يقولُ عَلَّ إلا مستعيراً لغةَ غيره لأَني لَم أَرَ زائداً لغير معنىً
فإنْ قيل : إنها زيدت توكيداً فهو قولٌ
ومن ذلكَ كأَنَّ بنيتَ الكافَ للتشبيه مع إنَّ

وجعلت صدراً ولولا بناؤها معها لم يجز أن تبتدىء بها إلا وأنتَ تريد التأخير ومنها : هلاّ بنيت ( لا ) مع ( هَلْ ) فصار فيها معنى التحضيض وما لم أذكره فهذا مجراه فيما بنى له حرفٌ مع حرفٍ قال أبو بكر : قد أَتينا على ذكر الإسم والفعل والحرف وإعرابها وبنائها ونحنُ نتبعُ ذلك ما يعرض في الكلام من التقديم والتأخير والإِضمار والإِظهار إن شاء الله

باب التقديم والتأخير
الأشياء التي لا يجوز تقديمها ثلاثة عشر سنذكرها وأما ما يجوز تقديمه فكل ما عمل فيه فعلٌ متصرفٌ أو كان خبراً لمبتدأ سوى ما استثنيناه فالثلاثةُ عشر التي لا يجوز تقديمها : الصلة على الموصول والمضمر على الظاهر في اللفظ والمعنى إلا ما جاء على شريطة التفسير والصفة وما اتصل بها على الموصوف وجميع توابع الإسم حكمها كحكم الصفة والمضافُ إليه وما اتصل به على المضاف وما عمل فيه حرف أو اتصل به حرفٌ زائدٌ لا يقدم على الحرف وما شبه من هذه الحروف بالفعل فنصب ورفع فلا يقدم مرفوعه على منصوبه والفاعل لا يقدم على الفعل والأفعال التي لا تتصرف لا يقدم عليها ما بعدها والصفات المشبهة بأسماءِ الفاعلين والصفات التي لا تشبه أسماء الفاعلين لا يقدم عليها ما عملت فيه والحروف التي لها صدور الكلام لا يقدم ما بعدها على ما قبلها وما عمل فيه معنى الفعل فلا

يقدم المنصوب عليه ولا يقدم التمييز وما عمل فيه معنى الفعل وما بعد إلا وحروف الإستثناء لا تعمل فيما قبلها ولا يقدم مرفوعه على منصوبه ولا يفرق بين الفعل العامل والمعمول فيه بشيءٍ لم يعمل فيه الفعل
شرح الأول من ذلك : وهو الصلة :
لا يجوز أن تقدم على الموصول لأنها كبعضه وذلك نحو صلة ( الذي ) وأَنْ فالذي توصل بأربعة أشياءٍ بالفعل والفاعل والمبتدأ والخبر وجوابه والظرف ولا بدّ من أن تكون في صلتها ما يرجع إليها والألفُ واللام إذا كانت بمنزلة ( الذي ) فصلتها كصلة ( الذي ) إلا أنكَ تنقل الفعلَ إلى اسم الفاعلِ في ( الذي ) فتقول في ( الذي قامَ ) : القائمُ وتقول في ( الذي ضَربَ زيداً ) : الضاربُ زيداً فتصير الألف واللام اسماً يحتاج إلى صلة وأنْ تكون في صلته ما يرجع إلى الألف واللام فلو قلتَ : ( الذي ضَربَ زيداً عمروٌ ) فأردت أن تقدم زيداً على ( الذي ) لم يجزْ ولا يصلح أن تقدم شيئاً في الصلة ظرفاً كان أو غيره على ( الذي ) البتة فأما قوله ( وكانوا فيه من الزاهدين ) فلا يجوز أن تجعلَ ( فيه ) في الصلة
وقد كان بعضُ مشايخ البصريين يقول : إنَّ الألف واللام ها هنا ليستا في معنى ( الذي ) وأنَّهما دخلتا كما تدخلُ على الأسماء للتعريف وأَجاز أن يقدم عليها إذا كانت بهذا المعنى ومتى كانت بهذا المعنى لم يجزْ أن يعمل ما دخلت عليه في شيءٍ فيحتاج فيه إلى عامل فيها قال أبو بكر وأنا أظن أنهُ مذهبُ أَبي العباسِ يعني أنَّ

الألفَ واللامَ للتعريفِ والذي عندي فيه أنَّ التأويل ( وكانوا فيه زاهدين من الزاهدين ) فحذف ( زاهدينَ ) وبينَهُ بقولِه : ( مِنَ الزاهدينَ ) وهو قول الكسائي ولكنه لم يفسر هذا التفسيرَ وكان هو والفراءُ لا يجيزانِه إلا في صفتين في ( مِن وفي ) فيقولان : ( أَنتَ فينا مِنَ الراغبينَ وما أَنت فينا من الزاهدينَ ) وأما ( أَنْ ) فنحو قولكَ : ( أَن تقيمَ الصلاةَ خيرٌ لكَ ) لا يجوز أن تقول : ( الصلاةُ أنْ تقيمَ خيرٌ لكَ ) ولا تقدمُ ( تقيمُ ) على ( أَنْ ) وكذلك لو قلت : ( أنْ تقيمَ الصلاةَ الساعةَ خيرٌ لكَ ) لم يجزْ تقديمُ ( الساعةَ ) على ( أَنْ ) وكذلك إذا قلت : ( أَأَنْ تلد ناقتكم ذكراً أَحبُّ إليكم أَمْ أُنثى ) لم يجز أن تقول : أَذكراً أَأنْ تلدُ ناقتكُم أَحبُّ إليكم أم أُنثى لأن ( ذكراً ) العاملُ فيهِ ( تلدُ ) وتلدُ في صلة ( أَنْ ) وكذلك المصادر التي في معنى ( أَن نفعلَ ) لا يجوز أن يتقدم ما في صلتها عليها لو قلت : أَولادةُ ناقتكم ذكراً أَحبُّ إليكم أم ولادتُها أُنثى ما جاز أَن تقدم ( ذكراً ) على ( ولادةٍ ) وكل ما كان في صلة شيءٍ من اسمٍ أو فعلٍ مما لا يتمُّ إلا به فلا يجوز أن نفصلَ بينَهُ وبين صلته بشيءٍ غريب منه لو قلت : ( زيدٌ

نفسهُ راغبٌ فيكم ) لم يجزْ أن تؤخر ( نفسَهُ ) فتجعلهُ بين ( راغبٍ ) و ( فيكم ) فتقول : زيدٌ راغبٌ نفسهُ فيكم فإن جعلتَ ( نفسَهُ ) تأكيداً لما في ( راغبٍ ) جاز
شرح الثاني : توابع الأسماء :
وهي الصفة والبدل والعطفُ لا يجوز أن تقدم الصفة على الموصوف ولا أن تُعملَ الصفة فيما قبل الموصوف ولا تقدم شيئاً بصيغة المجهول مما يتصل بالصفة على الموصوف وكذلك البدل إذا قلت : مررتُ برجلٍ ضاربٍ ( زيداً ) لم يجز أن تقدم ( زيداً ) على ( رجل ) وكذلك إذا قلت : ( هذا رجلٌ يضربُ زيداً ) لم يجز أن تقول ( هذا زيداً رجلٌ يضربُ ) لأن الصفة مع الإسم بمنزلة الشيء الواحد وكذلك كل ما اتصل بها فإذا قلت : ( عبد الله رجلٌ يأكلُ طعامَكَ ) لم يجز أن تقدم ( طعامَك ) قبل ( عبد الله ) ولا قبل ( رجل )
والكوفيون يجيزون إلغاء ( رجلٍ ) فيجعلونه بمنزلة ما ليس في الكلام فيقولون : ( طعامَكَ عبد اللِه رجلٌ يأكلُ ) لا يعتدون برجلٍ وتقديره عندهم ( طعامكَ عبد الله يأكلُ وإلغاء هذا غيرُ معروف وللإِلغاء حقوق سنذكرها إن شاءَ الله ولكن هذه المسألة تجوز على غير ما قدروا وهو أنْ تجعل ( رجلاً ) بدلاً من ( عبد الله ) ترفعهُ بالإبتداء وتجعلُ ( يأكلُ ) خبراً فحينئذٍ يصلحُ تقديم ( طعامَك ) وأما البدلُ فلا يتقدم على البدلِ منه وكذلك ما اتصل به لا يتقدم على الإسم المبدلِ منه
وأما العطفُ فهو كذلك

لا يجوز أن يتقدم ما بعد حرف العطف عليه وكذلك ما اتصل به والذين أجازوا من ذلك شيئاً أجازوه في الشعر ولو جعلنا ما جاء في ضرورات الشعر أصولاً لزال الكلام عن جهته فقدموا حرف النسق مع المنسوق به على ما نُسقَ به عليه وقالوا : إذا لم يكن شيءٌ يرفعُ لم يجزْ تقديم الواو والبيتُ الذي أنشدوه :
( عليكِ ورحمةُ اللِه السلامُ ... )
فإنما جاز عندهم لأن الرافع في مذهبهم ( عليكَ ) وقد تقدم ولا يجيزونَ للشاعر إذا اضطر أن يقول : ( إنَّ وزيداً عمراً قائمانٍ ) لأن ( إنّ ) أداةٌ وكل شيءٍ لم يكن يرفع لم يجز أن تليه الواو عندهم على كل حالٍ فهذا شاذٌ لا يقاسُ عليه وليس شيءٌ منصوب مما بعد حرف النسق يجوز تقديمه إلا شيءٌ أجازهُ الكوفيونَ فقط وذلك قولهم : زيداً قمتُ فَضَربتُ وزيداً أَقبلَ عبد اللِه فشتمَ . وقالوا : الإِقبالُ والقيام هُنا لغوٌ
شرح الثالث : وهو المضاف إليه :
لا يجوز أن تقدم على المضاف ولا ما اتصل به ولا يجوز أن تقدم عليه نفسه ما اتصل به فتفصل به بين المضاف والمضاف إليه إذا قلت : ( هذا يومُ تضربُ زيداً ) لَمْ يجزْ أن تقول : ( هذا زيداً يومُ تضربُ ) ولا هذا يومُ زيداً ( تضربُ ) وكذلك : هذا يومُ ضربِكَ زيداً لا يجوز أن تقدم ( زيداً ) على ( يومٍ ) ولا على ( ضربِكَ ) وأما قولُ الشاعر :

( للِه دَرُّ اليومَ مَنْ لاَمَهَا ... )
وقوله :
( كَما خُطَّ الكِتَابُ بِكَفِّ يوماً ... يهوديٍ يُقارِبُ أو يُزِيلُ )
فزعموا : أن هذا لما اضطر فصل بالظرف لأنَّ الظروف تقع مواقعَ لا تكون فيها غيرها وأجازوا : ( أَنا طعامَكَ غيرُ آكلٍ ) وكان شيخنا يقول : حملته على ( لا ) إذ كانت ( لا ) تقعُ موقعَ ( غير )
قال أبو بكر :

والحق في ذا عندي أنْ يكون طعامُكَ منصوباً بغيرِ ( آكلٍ ) هذا ولكن تقدر ناصباً يفسره ( هذا ) كأنك قلت : أنا لا آكلُ طعامَك واستغنيت ( بغيرِ آكلٍ ) ومثل هذا في العربية كثيرٌ مما يضمرُ إذا أتى بما يدل عليه
شرح الرابع : الفاعل :
لا يجوزُ أن يقدم على الفعل إذا قلت : ( قامَ زيدٌ ) لا يجوز أن تقدم الفاعل فتقول : زيدٌ قامَ فترفع ( زيداً ) بقامَ ويكون ( قامَ ) فارغاً ولو جاز هذا لجاز أن تقول : ( الزيدانِ قامَ والزيدونَ قامَ ) تريد : ( قام الزيدانِ وقامَ الزيدونَ ) وما قام مقام الفاعل مما لم يُسمَ فاعلهُ
فحكمه حكم الفاعل إذا قلت : ( ضُرِبَ زيدٌ ) لم يجز أن تقدم ( زيداً ) فتقول : ( زيدٌ ضُرِبَ ) وترفع زيداً ( بضُرِبَ ) ولو جاز ذلك لجاز : ( الزيدانِ ضُرِبَ والزيدونَ ضُرِبَ ) فأما تقديم المفعول على الفاعل وعلى الفعل إذا كان الفعل متصرفاً فجائزٌ وأعنيِ بمتصرفٍ أن يقال : منه فَعَلَ يفعَلُ فهو فاعلٌ كضَرَبَ يضربُ وهو ضاربٌ وذلك اسم الفاعل الذي يعملُ عملَ الفعل حكمهُ حكمُ الفعلِ
الخامس : الأفعال التي لا تتصرف :
لا يجوز أن يقدم عليها شيءٌ مما عملتْ فيه وهي نحو : نِعْمَ وبِئْسَ وفِعلُ التعجب ( وليسَ ) تجري عندي ذلك المجرى لأنها غير متصرفةٍ ومَه وصَه وعليكَ وما أشبهَ هذا أبعد في التقديم والتأخير

السادس : ما أعمل من الصفات تشبيهاً بأسماء الفاعلين وعمل عمل الفعل :
وذلك نحو ( حَسَنٌ وشديدٌ وكريمٌ ) إذا قلتَ : هو كريمٌ حَسبَ الأبِ
وهو حَسَنُ وجهاً لم يجز أن تقول : هُوَ وجهًا حَسَنٌ ولا هُوَ حَسَب الأبِ كريمٌ وما كان من الصفات لا يشبه أسماء الفاعلين فهو أَبعدُ لهُ من العمل والتقديم وكل ما كان فيه معنى فعل وليسَ بفعلٍ ولا اسم فاعلٍ فلا يجوزُ أن يتقدم ما عَمِلَ فيهِ عليهِ
السابع : التمييز :
اعلم : أن الأسماء التي تنتصب انتصاب التمييز لا يجوز أن تقدم على ما عمل فيها وذلك قولك : ( عشرونَ درهماً ) لا يجوزُ : ( درهماً عشرونَ ) وكذلك له عندي رطلٌ زيتاً لا يجوز : ( زيتاً رطلٌ ) وكذلك إذا قلت : ( هو خيرٌ عبداً ) لا يجوز : ( هُو عبداً خَيرٌ ) فإن كان العامل في التمييز فعلاً فالناس على ترك إجازة تقديمه سوى المازني ومن قال بقوله وذلكَ قولكَ : ( تفقأتُ سمناً ) فالمازني يجيز : ( سمناً تفقأتُ ) وقياس بابه أن لا يجوز لأنه فاعل في الحقيقة وهو مخالف للمفعولات ألا ترى أنهُ إذا قال : ( تفقأتُ شحماً ) فالشحمُ هو المفقىء كما أنه إذا قال : ( هو خيرٌ عبداً ) فالعبدُ هو خيرٌ ولا يجوز تعريفهُ فبابه أولى به وإن كان العاملُ فيه فعلاً وفي الجملة أن المفسر إنَّما ( ينبغي أن ) يكون بعد المفسر واختلف النحويون في : بطرتِ القريةُ

معيشتَها وسفَه زيدٌ رأَيه فقال بعضهم : نصبُه كنصبِ التفسير والمعنى : ( سَفِهَ رأَي زيد ) ثم حول السفهُ إلى زيدٍ فخرج الرأي مفسراً فكأنَ حكمه أن يكون : ( سفَه زيدٌ رأياً ) فترك على إضافته ونُصبَ كنصبِ النكرة قالوا : وكما لا يجوز تقديم ما نصب على التفسير لا يجوز تقديم هذا وأجاز بعض التقديم وهو عندي القياس لأن المفسر لا يكون إلا نكرةً وإنما يجري هذا والله أعلم على : جَهِلَ زيدٌ رأيهُ وضيّعَ زيدٌ رأيهُ
وما أشبه هذا وكذلك : بطرتْ معيشَتها
كأنه : كرهت معيشتها وأحسبُ البطر أنه كراهيةُ الشيءِ من غير أنْ يستحقَ أن يكره وكان شيخنا رحمه الله لا يجيز : ( وجعَ عبد اللِه رأسَهُ ) في تقديمٍ ولا تأخيرٍ لأن ( وجعَ ) لا يكون متعدية وهي جائزةٌ في قول الكسائي والفراء
الثامن : العوامل في الأسماء والحروف التي تدخل على الأفعال :
الأول من ذلك : ما يدخلُ على الأسماء ويعمل فيها فمن ذلك : حروف الجر لا يجوز أن يقدم عليها ما عملت فيه ولا يجوز أن يفرق بينها وبين ما تعملُ فيه ولا يجوز أن يفصل بين الجار والمجرور حشوٍ إلا ما جاء في ضرورة الشعر لا يجوز أن تقول : ( زيدٌ في اليوم الدارِ ) تريدُ : ( في الدار اليومَ ) ولا ما أشبه ذلك وقد أجاز قومٌ : ( لستَ زيداً بضاربٍ ) لأن الباء تسقط والقياس يوجب أن تضمر فعلاً ينصب ( زيداً ) تفسرهُ

( بضاربٍ ) ومن ذلك ( إنَّ وأخواتها ) لا يجوز أن يقدم عليهنَ ما عَملنَّ فيه ولا يجوز أن تفرقَ بينهن وبين ما عَملنَّ فيه بفعلٍ ولا تقدمُ أخبارهن على أسمائِهن إلا أن تكون الأخبارُ ظروفاً فإن كان الخبرُ ظرفاً قلت : إنَّ في الدار زيداً وإنَّ خلفكَ عمراً والظروف يتسع فيهن خاصة ولكن لا يجوز أن تقدم الظرف على ( إنَّ ) ومن الحروف التي لا يقدم عليها ما يليها : ( إلا ) وجميع ما يستثنى به لأنَّ ما بعد حرف الإستثناء نظيرُ ما بعد ( لا ) إذا كانت عاطفةً وقد فسرنا هذا فيما تقدم
وأما الحروف التي تدخلُ على الأفعال فلا تتقدم فيها الأسماء وهي على ضربين : حروفٌ عواملُ وحروفٌ غيرَ عواملَ فالحروفُ العوامل في الأفعالِ الناصبةِ نحو : ( جئتكَ كي زيدٌ يقولَ ذاكَ ) لا يجوز : ( ولا خفتُ أن زيدٌ يقول ذاكَ ) ومنها الحروف الجوازم وهي : لَمْ ولمَّا ولا التي تجزمُ في النهي واللام التي تجزم في الأمر لا يجوزُ أن تقولَ : ( لَمْ زيد يأتِكَ ) لأن الجزمَ نظير الجر ولا يجوز لك أن تفصل بينها وبين الفعلِ بحشو كما لا يجوز لك أن تفصل بين الجار والمجرور بحشوٍ إلا في ضرورة شعرٍ ولا يجوز ذلك في التي تعمل في الأفعال فتنصب كراهية أن تشبه بما يعمل في الأسماء لأن الإسم ليس كالفعل كذلك ( ما يشبههُ ) ألا

ترى كثرة ما يعمل في الإسم وقلة ما يعملُ في الفعلِ وحروف الجزاء يقبحُ أن يقدم الإسمُ معها على الأفعال شبهوها بالجوازم التي لا تخلو من الجزم إلا أنَّ حروف الجزاءِ ( فقط ) جاز ذلك فيها في الشعر لأن حروف الجزاء يدخلها ( فَعَلَ ويفعلُ ) ويكون فيها الإستفهام ويجوز في الكلام أن تلي ( إن ) الإسم إذا لم يجزم نحو قوله :
( عَاودْ هراةَ وإنْ معمورُها خرِبا ... )
وإن جزمت فلا يجوز إلا في الشعر لأنها تشبهُ ( بلَم ) وإنما جازَ هذا في ( إنْ ) لأنها أم الجزاء لا تفارقه كما جاز إضمار الفعل فيها حين قالوا : ( إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌ ) وهي على كل حالٍ : إنْ لَم يلها فِعلٌ في اللفظ فهو مقدر في الضمير
وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيها ضعيفٌ ومما جاء في الشعر مجزوماً في غير ( إنْ ) قول عَديٍ بن زيدٍ :
( فَمَتَى وَاغِلٌ يَنُبْهُم يُحيُّوهُ ... وتُعْطَفْ عليهِ كَأْسُ السَّاقي )

وقال الحسامُ :
( صَعْدَةٌ نَابِتَةٌ في حَائِرٍ ... أيْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلْهَا تَمِلْ )
وإذا قالوا في الشعر : ( إنْ زيدٌ يأتكَ يكن كَذا ) إنما ارتفع على فعل هذا تفسيره وهذا يبين في باب ما يضمر من الفعل ويظهر إن شاء الله
الضرب الثاني منه الحروف التي لا تعمل فمنها :
( قَدْ ) وهي جواب لقوله : ( أَفعلُ ) كما كانت ( ما فعلَ ) جواباً لِهَلْ ( فَعَلَ ) إذا أخبرت أنه لم يقع ولما يفعلْ وقد فَعلَ إنما هُما لقومٍ ينتظرون شيئاً فمن ثم أشبهت ( قَد ) لما في أنها لا يفصل بينها وبين الفعلِ ومن هذه الحروف ( سوفَ يفعلُ ) لا يجوز أن تفصل بين ( سوفَ ) وبين ( يفعلُ ) لأنها بمنزلة ( السين ) في ( سيفعلُ ) وهي إثبات لقوله : ( لَنْ يفعلَ ) ومما شبُهَ بهذه

الحروف ( رُبَّمَا وقَلما وأشباهما ) جعلوا ( رُبَّ ) مع ( مَا ) بمنزلة كلمة واحدة ليذكر بعدها الفعلُ ومثل ذلك ( هَلاَّ ولولا وألا ألزموهن لا ) وجعلوا كل واحدة مع ( لا ) بمنزلة حرف واحد وأخلصوهن للفعلِ حيثُ دخل فيهنَ معنى التحضيض وقد يجوز في الشعر تقديمُ الإسم قال الشاعر :
( صَدَدْتِ فأَطْوَلْتِ الصُّدُودَ وقَلَّما ... وِصَالٌ على طُولِ الصُّدودِ يَدُومُ )
وهذا لفظُ سيبويه
التاسع : الحروف التي تكون صدور الكلام :
هذه الحروف عاملة كانت أو غير عاملةٍ فلا يجوز أن يقدم ما بعدها على ما قبلها وذلك نحو ألف الإستفهام و ( ما ) التي للنفي ولامُ الإبتداء لا يجوز أن تقول : ( طعامَكَ أَزيد آكلٌ ) ولا ( طعامَكَ لزيدٌ آكلٌ ) وإنَّما أَجزنا : إنَّ زيداً طعامَك لآكلٌ لأن تقدير اللام أنْ يكون قبل ( إنَّ ) وقد بينا هذا فيما تقدم هذه اللام التي تكسر ( إنَّ ) هي لام الإبتداء وإنما فُرقَ بينهما لأن معناهما في التأكيد واحدٌ فلما أُزيلت عن المبتدأِ وقعت على خبره وهي

لا يجوز أن تقع إلا على اسم ( إنَّ ) أو يكونُ بعدها خبره فالإسم نحو قولك : ( إنَّ خلفَك لزيداً ) والخبرُ نحو : ( إنَّ زيداً لآكلٌ طعامَكَ ) فإن قلت : ( إنَّ زيداً آكلٌ لطعامَكَ ) لم يجز لأنها لم تقع على الإسم ولا الخبر
ومن ذلك ( ما ) النافية تقول : ( ما زيدٌ آكلاً طعامَك ) ولا يجوزُ أن تقدم ( طعامَكَ ) فتقول : ( طعامَكَ ما زيدٌ آكلاً ) ولا يجوز عندي تقديمهُ وإن رفعت الخبر وأما الكوفيون فيجيزون : ( طعامَكَ ما زيدُ آكلاً ) يشبهونها ( بلَم ) و ( لنْ ) وأَباهُ البصريون وحجة البصريين أنهم لا يوقعون المفعول إلا حيثُ يصلحُ لناصبه أن يقعه فلما لم يجزْ أن يتقدم الفعلُ على ما لم يجز أن يتقدم ما عَمِلَ فيه الفعل والفرق بين ( مَا ) وبين ( لَمْ ولَنْ ) : أنَّ ( لَنْ ولَمْ لا يليهما إلا الفعلُ فصارتا مع الفعلِ بمنزلة حروف الفعل )
وأجازَ البصريون : ( ما طعامَكَ آكلٌ إلاّ زيدٌ ) وأحالها الكوفيونَ إلا أحمد بن يحيى
ومن ذلك ( لا ) التي تعمل في النكرة النصب وتُبنى معها لا تكون إلا صدراً ولا يجوز أن تقدم ما بعدها على ما قبلها وهي مشبهة ( بإنَّ ) وإنما يقع بعدها المبتدأُ والخبرُ فكما لا يجوز أن تقدم ما بعد ( إنَّ ) عليها كذلك

هي والتقديم فيما أَبعدُ لأن ( إنَّ ) أشبهُ بالفعل منها فأما ( لا ) إذا كانت تلي الأسماء والأفعال وتصرفت في ذلك ولم تُشبه ( بليسَ ) فلك التقديم والتأخير تقول : ( أَنتَ زيداً لا ضاربٌ ولا مكرمٌ ) وما أشبه ذلك ومن ذلك ( إنْ ) التي للجزاء لا تكون إلا صدراً ولا بُدَّ من شرط وجوابٍ فالجزاء مشبه بالمبتدأ والخبر إذ كان لا يستغنى أحدهما عن الآخر ولا يتم الكلام إلا بالجميع فلا يجوز أن تقدم ما بعدها على ما قبلها لا يجوز أن تقول : ( زيداً إنْ تضربْ أَضربْ ) بأي الفعلين نصبته فهو غير جائزٍ لأنه إذا لم يجز أن يتقدم العاملُ لم يجز أن يتقدم المعمولُ عليه وأجاز الكسائي أن تنصبهُ بالفعل الأول ولم يجزها أحدٌ من النحويين وأجاز هو والفراءُ أن يكون منصوباً بالفعل الثاني
قال الفراء : إنما أَجزتُ أن يكونَ منصوباً بالفعل الثاني وإنْ كان مجزوماً لأنهُ يصلحُ فيه الرفعُ وأن يكون مقدماً فإذا قلت : ( إنْ زيداً تضربْ آتِكَ ) فليس بينهم خلاف ( وتضربْ جَزمٌ ) إلا أنهم يختلفون في نصب ( زيدٍ ) فأَهل البصرة يضمرونَ فعلاً ينصبُ وبعضهم ينصبه بالذي بعدهُ وهو قولُ الكوفيينَ وأجازوا : ( إنْ تأتني زيداً أضربْ ) إلا أنَّ البصريينَ يقولونَ بجزمِ الفعلِ بعد ( زيدٍ ) وأبى الكوفيونَ جزمَهُ وكان الكسائي يجيزُ الجزِمَ إذا فرق بين الفعلين بصفةٍ نحو قولك : ( إنْ تأتني إليك أَقصدْ )

فإذا فرق بينهما بشيءٍ من سبب الفعل الأول فكلهم يجزم الفعل الثاني
العاشر : أن يفرق بين العامل والمعمول فيه بما ليس للعامل فيه سبب وهو غريب منه :
وقد بينا أنَّ العوامل على ضربين : فعل وحرف وقد شرحنا أمر الحرف فأما الفعل الذي لا يجوز أن يفرق بينُه وبينَ ما عَمِلَ فيه فنحو قولك : ( كانت زيداً الحمى تأخذ ) هذا لا يجوز لأنك فرقتَ بين ( كانَ ) واسمها بما هو غريبٌ منها لأن ( زيداً ) ليس بخبرٍ لها ولا اسم ولا يجوز : ( زيدٌ فيكَ وعمروٌ رغبَ ) إذا أرددت : ( زيدٌ فيكَ رَغِبَ وعمروٌ ) لأنك فرقتَ بين ( فيكَ ) ورغب بما ليس منهُ
وإذا قلت : ( زيدٌ راغبٌ نفسه فيكَ ) فجعلتَ ( نفسَهُ ) تأكيداً ( لزيدٍ ) لم يجزْ لأنك فرقت بينَ ( راغبٍ وفيكَ ) بما هو غريب منه فإنْ جعلتَ ( نفسَهُ ) تأكيداً لما في ( راغبٍ ) جازَ وكذلك الموصولاتُ لا يجوز أن يفرقَ بين بعض صلاتها وبعضٍ بشيءٍ غريب منها تقول : ( ضربي زيداً قائماً ) تريد : إذا كان قائماً ( فقائماً ) حالٌ لزيدٍ وقد سدت مسدَّ الخبر لأن ( ضربي ) مبتدأ فإن

قدمت ( قائماً ) على زيدٍ لم يجزْ لأن ( زيداً ) في صلة ( ضربي ) و ( قائماً ) بمنزلة الخبر فكما لا يجوزُ : ( ضَرْبي حَسَنٌ زيداً ) تريد : ( ضربي زيداً حَسَن ) كذاك لا يجوز هذا وكذلك جميع الصلات
الحادي عشر : تقديم المضمر على الظاهر في اللفظ والمعنى :
أما تقديم المضمر على الظاهر الذي يجوز في اللفظ فهو أن يكون مقدماً في اللفظ مؤخراً في معناهُ ومرتبته وذلك نحو قولك : ( ضَربَ غلامَه زيدٌ ) كان الأصل : ضَرَبَ زيدٌ غلامَهُ فقدمتَ ونيتُكَ التأخير ومرتبةُ المفعول أن يكون بعد الفاعل فإذا قلت : ( ضَربَ زيداً غلامُه ) كان الأصل : ( ضَرَبَ غلامُ زيدِ زيداً ) فلما قدمتَ ( زيداً ) المفعول فقلت : ضَربَ زيداً قلت : غلامهُ وكان الأصل : ( غلامُ زيدٍ ) فاستغنيت عن إظهارهِ لتقدمِه قال الله عز و جل : ( وإذْ ابتلى إبراهيم ربهُ بكلماتٍ ) وهذه المسألة في جميع أحوالها لم تقدم فيها مضمراً على مظهرٍ
إنما جئتَ بالمضمر بعدَ المظهرِ إذا استغنيتَ عن إعادته فلو قدمتَ فقلت : ( ضَرِبَ غلامَهُ زيداً ) تريدُ : ضربَ زيداً غلامهُ لم يجزْ لأنك قدمتَ المضمرَ على الظاهر في اللفظ والمرتبةِ لأن حق الفاعل أن يكون قبل المفعول فإذا كان في موضعه وعلى معناه فليس لك أن تنوي به غير موضعه إنما تنوي بما كان في غير موضعهِ موضعَه فافهم هذا فإنَّ هذا الباب عليه يدور
فإذا قلت :

( في بيتهِ يؤتى الحكمُ ) جازَ لأن التقدير ( يؤتى الحكمُ في بيتهِ ) فالذي قامَ مقامَ الفاعلِ ظاهرٌ وهو ( الحكمُ ) ولم تقدم ضميراً على ظاهرٍ مرتبتُه أنْ يكون قبل الظاهر فإن قلت : ( في بيتِ الحكمِ يؤتى الحكمُ ) جاز أن تقول : ( يؤتى ) وتضمر استغناءً عن إظهاره إذ كان قد ذكره كما تقول : إذا ذكر إنسانٌ زيداً قامَ وفعلَ وكذلك إذا ذكر اثنين قلت : ( قاماَ وفَعلا ) فتضمر اسم من لم تذكر استغناءً بأنَّ ذاكراً قد ذكره فإنْ لم تقدره هذا التقدير لم يجز فإن قدمت فقلت : ( يؤتيانِ في بيتِ الحكمينِ ) تريد : ( في بيتِ الحكمينِ يؤتيانِ ) لم يجز ومن هذا : زيداً أبوهُ ضَربَ أو يضربُ أو ضاربٌ فحقهُ أن تقول : ( زيداً أبو زيدٍ ضَرَبَ ) واختلفوا في قولهم : ( ما أَرادَ أَخَذ زيدٌ ) فأجازهُ البصريون
ورفعوا زيداً ( بأَخذَ ) وفي ( أَرادَ ) ذكرٌ من زيدٍ وأبى ذلك الكوفيون ففرقوا بينهُ وبين ( غلامَهُ ضَربَ زيدٌ ) بأن الهاءَ من نفس الإسم بمنزلة التنوين فصار بمنزلة : غلاماً ضَربَ زيدٌ ويقولُ قومٌ من النحويين : إذا كان المخفوض ليس في نية نصب فلا يقدم مكنيهُ تقول ( في داره ضربتُ زيداً ) ولا يجوز عندهم : ( في داره قيامُ زيدٍ ) وهذا الذي لم يجيزوهُ هو كما قالوا مِنْ قبل أَني إذا قلت قيامُ زيدٍ فقيام مبتدأ ويجوز أن يسقط ( زيدٌ ) فيتم الإسم فهو بمنزلة ما ليس في الكلام لأنَّهُ من حشو الإسم وليسَ بالإسم وإنما أجزت : ( قيامَ زيدٍ في دارهِ ) استغناءً بذكرِ ( زيدٍ ) ولو قلت : قيام زيدٍ في دارٍ تمَّ الكلام ولم يُضطرْ فيه إلى إضمار فإذا جاءَ الضمير والكلام غير مضطر إليه كان بمنزلة ما لم يذكر فإذا كان الضمير مؤخراً بهذه الصفة فهو في التقديم أَبعدُ
واختلفوا في قولهم : ( لبستُ مِنَ الثياب أَلينَها ) فمنهم من يجيزها كما يجيز درهَمهُ أَعطيتُ زيداً ومن أَباهُ قال :

الفعلُ واقعٌ على ( أَلينَ ) دون الثيابِ وأَجازوا جميعاً : ( أَخذَ ما أرَادَ زيدٌ ) ( وأحبَّ ما أَعجبَهُ زيدٌ ) ( وخَرجَ راكباً زيدٌ ) لم يختلفوا إذا قدموا الفعلَ وأهل البصرة أجازوا ( راكباً خَرجَ زيدٌ ) ولم يجزها الفراءُ والكسائي وقالا : فيها ذكر من الإسم فلا يقدم على الظاهرِ ولو كان لا يقدمُ ضمير البتةَ على ظاهرٍ لوجبَ ما قالا ولكن المضمر يقدمُ على الظاهر إذا كان في غير موضعه بالصفة التي ذكرت لك وأجمعوا على قولهم : ( أَحرز زيداً أَجلُه ) وفي القرآن : ( لا ينفعُ نفساً إيمانَها ) لأنه ليس في ذا تقديمُ مضمرٍ على ظاهرٍ وأجمعوا على : ( أَحرزَ زيداً أَجلُه ) وعلى : ( زيداً أحرزَ أَجلهُ ) فإن قالوا : ( زيداً أَجلهُ أَحرزَ ) فأكثر النحويين المتقدمين وغيرهم يحيلُها إلاّ هِشاماً وهي تجوز لأن المعنى : ( أَجلُ زيدٍ أحرزَ زيداً ) فلما قلت : ( زيداً أَجلُ زيدٍ أحرزَ ) لم تحتج إلى إظهار زيدٍ مع الأجلِ واختلفوا في ( ثوبِ أَخويكَ يلبسانِ ) وهي عندي جائزةٌ لأن المعنى : ( ثوبُ أَخويكَ يلبسُ أَخواكَ ) فاستغنى عن إعادة الأخوين بذكرهما فأُضمرا
وأجاز الفراء : دارُ قومِكَ يهدمُ هُم ( ويهدمونَ هُم ) وتقول : ( حينَ يقومُ زيدٌ يغضبُ ) لأنكَ تريد : ( حينَ يقومُ زيدٌ يغضبُ زيدٌ ) فلو أظهرتهُ لجاز واستغنى عن إضماره بذكرِ زيدٍ ولو أظهرتهُ لظن أنه زيدٌ آخرُ وهو على إلباسه يجوزُ ولَيس هذا مثل : ( زيداً ضَربَ ) إذا أردتَ : ( ضَربَ نفسهُ )

لأن هذا إنما امتنع لأنه فاعل مفعولٍ وقد جعلت المفعولَ لا بدّ منهُ وحقُّ الفاعل أن يكون غير المفعول إلا في الظن وأخواته فإذا أردت هذا المعنى قلت : ( ضَربَ زيداً نفسُهُ ) ( وضَربَ زيدٌ نفسَهُ ) وقالوا : فإن لم تجيء بالنفس فلا بدّ من إظهار المكنى ليقوم مقامَ ما هو منفصلٌ من الفعل لأن الضميرَ المنفصل بمنزلة الأجنبي فتقول : ( ضَربَ زيداً هُوَ ) ( وضَربَ زيدٌ إيَّاهُ ) واحتجوا بقوله عز و جل : ( وما يَعلمُ جنودَ ربِّكَ إلا هُو ) كأنه في التقدير : ( وما يَعلمُ جنودَ ربِكَ إلاّ ربُّكَ ) ولو جاز أن تقولَ : ضربتني وضربتُكَ فأوقعتَ فعلَكَ على نفسِكَ ومَنْ تخاطِبهُ للزمكَ أن تقول : ( ضَربهُ ) للغائَبِ فتوقع فِعْلَ الغائب على نفسه بالكناية فلا يعلم لَمْن الهاء فإذا قلت : ( ضَربَ نفسَهُ ) بأنَّ لكَ ذلكَ وما الذي يجوز فيه تعدى فعلِ الفاعل إلى نفسهِ فقولك : ( ظننتي قائماً وخلتني جالساً ) فإنَّ هذا وما أشبههُ يتعدى فيه فعلُ المضمر إلى المضمر ولا يتعدى فَعلُ المضمر إلى الظاهر لأنَّهُ يصيرُ في المفعولُ الذي هو فضلةٌ لا بدَّ منهُ وإلا بطلَ الكلام
وهذه مسألةٌ شرحها أبو العباس وذكر قول أصحابه ثم قولهُ قالَ : قال سيبويه : ( أزيداً ضربَهُ أبوهُ ) لأن ما كانَ من سببهِ موقعٌ به الفِعلَ كما يوقعه ما ليس من سببه ولا أقول : ( أزيداً ضربَ ) فيكون الضمير في ( ضربَ ) هو الفاعلُ وزيدٌ مفعولٌ فيكون هو الضاربُ نفسَهُ وأضع الضمير في موضع أبيه حيث كان فاعلاً قيلَ لهُ : لِمَ لا يجوزُ هذا وما الفصلُ بينَهُ

وبينَ أبيه وقد رأينا ما كانَ من سببه يحلُّ محلَهُ في أَبوابٍ فالجوابُ في ذلك : أنَ المفعولَ منفصلٌ مستغنٍ عنهُ بمنزلةِ ما ليس في الكلامِ وإنما ينبغي أن يصححَ الكلامُ بغير مفعولٍ ثم يؤتي بالمفعول فضلةً وأنت إذا قلت : ( أزيداً ضَربَ ) فَلو حذفتَ المفعول بطلَ الكلامُ فصار المفعولُ لا يستغنى عنه وإنما الذي لا بدّ منه مع الفعلِ الفاعلُ
وكذلك لا تقول : ( أَزيداً ظنهُ منطلقاً ) لأن الفاعلَ إذا مَثُلَ بطلَ فصرتَ إنْ قدمتهُ لتضعهُ في موضعه صار ( ظَنَّ زيداً منطلقاً ) فأضمرتَ قبلَ الذكرِ ولكن لو قلت : ( ظنهُ زيدٌ قائماً ) وإياهُ ظُن زيدٌ أَخاً كان أجودُ كلامٍ لأنَّ فِعلَ زيدٍ يتعدى إليه في باب ( ظننتُ وعلمتُ وأَخواتهما ) و لا يتعدى إليه في ( ضَربَ ) ونحوه ألا ترى أنكَ تقول : غلامُ هندٍ ضَربَها فترد الضمير إليها لأنها مستغنٍ عنها لأنكِ لو قلت ( غلامُ هندٍ ضَربَ ) لم تحتج إلى المفعول فلما كانت في ذكرك رددتَ إليها وحلتْ محلَ الأجنبي ولو قلتَ : ( غلامُ هندٍ ضربتَ ) تجعل ضمير هندٍ الفاعل لكان غلطاً عند بعضهم لأن هنداً من تمام الغلام والغلامُ مفعولٌ فقد جعلت المفعول الذي هو فضلة لا بدّ منه ليرجع الضمير الذي هو الفاعلُ إليه فإن قلت : فما بالي أقول : ( غلامُ هندٍ ضاربتهُ هي ) فيجوز واجعل هِيَ إنْ شئت إظهارَ الفاعل وهو ( لهند ) وإنْ شئت ابتداءً وخبراً فالجواب فيه أنه إنما جازَ هنا لأن الغلام مبتدأٌ و ( ضاربتهُ ) على هذا التقدير مبتدأٌ والفاعلُ يسدُّ مسدَّ الخبرِ فهو منفصلٌ بمنزلةِ الأجنبي ألا ترى أنَّكَ لو وضعتَ مكانَ ( هي ) جاريتَكَ أو غيرها استقامَ والفاعلُ المتصلُ لا يحلُ محلَّهُ غيرهُ فإن قلت أَفتجيزُ : ( غلامُ هندٍ ضاربتُه هي ) تجعلُ ( هي ) إن شئتَ ابتداءً مؤخراً وإن شئتَ جعلت ( ضاربتُه ) ابتداءً و ( هي ) فاعلٌ يسدُّ مسدَ

الخبر فكل هذا جيد لأن ( هي ) منفصلٌ بمنزلة الأجنبي ولو قلت : ( غلامَ هندٍ ضربتْ أمُّها ) كان جيداً لأن الأم منفصلة وإنَّما أضفتها إلى هند لما تقدم من ذكرها فهندٌ ها هنا وغيرها سواءٌ ألا ترى أني لو قلتُ : غلامُ هندٍ ضربتْ أمُّ هندٍ كانَ بتلك المنزلةِ إلا أن الإِضمار أحسن لما تقدم الذكر والضمير المتصل لا يقع موقعه المنفصل المذكور إلا على معناه وتقديره وإنما هذا كقولك : ( زيداً ضَربَ أَبُوه ) لأنَّ الأب ظاهرٌ ولو حذفت ما أضفت إليه صَلُحَ فقلت : أبٌ وغلامٌ ونحوهما والأول بمنزلة : ( زيداً ضَربَ ) الذي لا يحل محله ظاهرٌ فلذلك استحالَ
قال أبو العباس : وأنا أرى أنه يجوز : ( غُلامَ هندٍ ضَرَبتْ ) وباب جوازه أنَّك اضمرتَ ( هنداً ) لذكركَ إياها وكان التقدير غُلامَ هندٍ ( ضَربَتْ هِندٌ ) فلم تحتج إلى إظهارها لتقدم ذكرها وكان الوجه ( غلامَها ضَربَتْ هندٌ ) ويجوز الإِظهار على قولك : ( ضَربَ أبَا زيدٍ زيدٌ ) ولو قلت : ( أَباهُ ) كان أحسن فإنما أَضمرتَها في موضع ذكرها الظاهر ولكن لا يجوز بوجهٍ من الوجوه : ( زيداً ضَربَ ) إذا جعلت ضمير زيدٍ ناصباً لظاهره لعلتين : إحداهما : أنَّ فعلَهُ لا يتعدى إليه في هذا الباب لا تقول : ( زيدٌ ضربَهُ ) إذا رددتَ الضمير إلى ( زيدٍ ) ولا تقول : ضربتني إذا كنتَ الفاعلَ والمفعولَ وقد بينَ هذا والعلة الأخرى : ما تقدم ذكره من أن المفعول الذي فضلةٌ يصيرُ لازماً لأنَّ الفاعل الذي لا بدّ منه معلق به ولهذا لم يجز : زيداً ظَنَّ منطلقاً إذا أضمرتَ ( زيداً ) في ( ظَنَّ ) وإن كان فعله في هذا الباب يتعدى إليه نحو : ( ظننتي أَخاكَ ) ولكن لم يتعد المضمر إلى الظاهر لما ذكرتُ لكَ وأما ( غُلامَ هندٍ ضَرَبَتْ ) فجاز لأن هنداً غيرُ الغلامِ وإن كانت بالإِضافة قد صارت من تمامه ألا ترى أنك تقول : ( غلامُ هندٍ ضَربهَا ) ولا تقول : ( زيدٌ ضربهُ )

فهذا بَينٌ جداً واختلفوا في : ( ضربني وضربت زيداً ) فرواهُ سيبويه وذكر : أنهم أضمروا الفاعلَ قبلَ ذكره على شريطة التفسير وزعم الفراء : أنه لا يجيزُ نصبَ ( زيدٍ ) وأجاز الكسائي على أن ( ضربَ ) لا شيء فيها وحذفَ ( زيداً ) وقال بعضُ علمائنا ( رحمه الله ) : والذي قال الفراء : لولا السماعُ لكانَ قياساً
وأما ( عبد اللِه زيدٌ ضاربٌ أباهُ ) فالبصريونَ يجيزون : ( أَباهُ عبد اللِه زيدٌ ضاربٌ ) وغيرهم لا يجيزها وهو عندي : قبيحٌ لبعدِ العاملِ من الذي عَمِلَ فيه
وطعامَكَ زيدٌ يأكلُ أبوه لا يجيزها الفراء ولا يجيزُ : ( آكلٌ ) أيضاً ويجيزها الكسائي إذا قال : ( طعامَكَ زيدٌ آكلٌ أبوهُ ) لأن زيداً ارتفع عنده ( بآكلٍ ) فأجاز تقديم الطعام ولما كان يرتفع بما عاد عليه من الذكر لم يجزه وقال الفراء : هو في الدائم غيرُ جائزٍ لأنه لا يخلو من أن أقدرَهُ تقديرَ الأفعال فيكون بمنزلة الماضي والمستقبل إذا قَدَرهُ تقديرَ الأسماءِ فلا يجوزُ أنْ أُقدم مفعول الأسماء ولكني أجيزهُ في الصفات ويعني بالصفات ( الظروف ) وهذه المسألةُ لم يقدم فيها مضمرٌ على ظاهرٍ

والمضمرُ في موضعه إلا أن ( أَبوهُ ) فاعلٌ ( يأكلُ ) وطعامكَ مفعولٌ وقد بعد ما بينهما وفرقت بين الفاعل والمفعول بهِ ( بزيدٍ ) وليسَ لهُ في الفعل نصيبٌ ولكن يجوز أن تقولهُ من حيث قلت : ( طعامَكَ زيدٌ يأكلُ ) فالفاعلُ مضمرٌ فقامَ ( أَبوهُ ) مقامَ ذلك المضمرِ
الثاني عشر : التقديم إذا ألبس على السامع أنه مقدم :
وذلك نحو قولكَ : ( ضربَ عيسى موسى ) إذا كان ( عيسى ) الفاعل لم يجز أن يقدم ( موسى ) عليه لأنه ملبس لا يبين فيه إعرابٌ وكذلك : ( ضرَبَ العَصا الرحى ) لا يجوز التقديم والتأخير فإن قلت : ( كسر الرحى العصا ) وكانت الرحى هي الفاعل وقد عُلِمَ أنَّ العَصا لا تكسرُ الرحى جاز التقديم والتأخير ومن ذلك قولك : ( ضربتُ زيداً قائماً ) إذا كان السامع لا يعلم من القائم الفاعلُ أمْ المفعولُ لم يجز أن تكون الحال مِن صاحبها إلا في وضع الصفة ولم يجز أن تقدم على صاحبها فإن كنت أنتَ القائم قلت : ( ضربتُ قائماً زيداً ) وإن كان زيدٌ القائمَ قلت : ضربتُ زيداً قائماً فإن لم يُلبس جاز التقديمُ والتأخير وكذلك إذا قلت : ( لقيتُ مصعداً زيداً منحدراً ) لا يجوز أن يكون المصعدُ إلا أنتَ والمنحدرُ إلا ( زيدٌ ) لأنك إن

قدمت وأخرتَ التبسَ ولو قلت : ( ضربَ هَذا هَذا ) تريدُ تقديماً وتأخيراً لم يجز فإذا قلت : ( ضربَ هَذا هذهِ ) جازَ التقديمُ والتأخيرُ فقلت : ( ضربتَ هَذه هَذا ) لأنه غيرُ ملبسٍ ولو قلتَ : ( ضَرَب الذي في الدار الذي في البيت ) لم يجز التقديمُ والتأخيرُ لإِلباسه ومن ذلك إذا قلت : ( أعطيتُ زيداً عمراً ) لم يجز أن تقدم ( عمراً ) على ( زيدٍ ) وعمروٌ هو المأخوذ لأنه ملبس إذا كان كل واحدٍ منهما يجوز أن يكون الآخذَ فإذا قلت : ( أعطيتُ زيداً درهماً ) جازَ التقديم والتأخير فقلت : ( أعطيتُ درهماً زيداً ) لأنه غير ملبسٍ والدرهم لا يكون إلا مأخوذاً
الثالث عشر : إذا كان العامل معنى الفعل ولم يكن فعلاً :
لا يجوز أن يقدم ما عمل فيه عليه إلا أن يكون ظرفاً وذلك قولك : ( فيها زيد قائماً ) لا يجوز أن تقدم ( قائماً ) على فيها لأنه ليس هنا فعلٌ وإنما أعملتَ ( فيها ) في الحال لما تدل عليه من الإستقرار وكذلك إذا قلت : ( هذا زيدٌ منطلقاً ) لا يجوز أن تقدم ( منطلقاً ) على ( هذا ) لأن العامل هنا دلَّ على ما دل عليه ( هذا ) وهو التنبيه وليس بفعلٍ ظاهر ومن ذلك : ( هُو عبد الله حقاً ) لا يجوز أن تقدم ( حقاً ) على ( هُوَ ) لأن العامل هو المعنى وإنما نصبت ( حقاً ) لأنك لما قلت : هُو عبد الله دَلَّكَ على ( أحقَ

دَلكَ ) فقلت ( حقاً ) فأما الظرف الذي يقدم إذا كان العامل فيه معنى فنحو قولك : ( أكلُّ يومٍ لَكَ ثوبٌ ) العامل في ( كُلِّ ) معنى ( لَكَ ) وهو الملك
ذكر ما يعرض من الإِضمار والإِظهار
اعلم أنَّ الكلام يجيءَ على ثلاثة أضربٍ : ظاهرٌ لا يحسنُ إضمارهُ ومضمرٌ مستعملٌ إظهارهُ ومضمرٌ متروكٌ إظهاره
الأول : الذي لا يحسنُ إضمارهُ : ما ليس عليه دليل من لفظٍ ولا حال مشاهدةٍ لو قلت : زيداً وأنت تريدُ : كَلِمْ زيداً فأضمرت ولم يتقدم ما يدل على ( كَلِمْ ) ولم يكن إنسان مستعداً للكلام لم يجز وكذلك غيره من جميع الأفعال
الثاني : المضمرُ المستعملُ إظهارهُ : هذا الباب إنما يجوز إذا علمت أنَّ الرجل مستغنٍ عن لفظكَ بما تضمره فمن ذلك ما يجري في الأمر والنهي وهو أن يكون الرجل في حال ضربٍ فتقول : زيداً ورأسَهُ وما أشبه ذلك تريد : اضربْ رأسَهُ وتقول في النهي : الأسدَ الأسدَ نهيتهُ أنْ يقربَ الأسد وهذا الإِضمار أجمع في الأمر والنهي وإنما يجوز مع المخاطب ولا يجوز مع الغائب ولا يجوز إضمار حرف الجر ومن ذلك أن ترى رجلاً يسدد سهماً فتقول : ( القرطاس واللِه ) أي يصيبُ القرطاسَ أو رأيتهُ في حال رجلٍ قد أوقعَ فِعْلاً أو أخبرت عنهُ بفعلٍ فقلتَ : ( القرطاسَ واللِه ) أي : أصاب القرطاسُ وجاز أن تَضمر الفعلَ للغائبِ لأنه غير مأمورٍ ولا منهيٍّ وإنما الكلامُ

خبرٌ فلا لُبّسَ فيه كما يقع في الأمر وقالوا : ( الناسُ مجزيونَ بأعمالهم ) إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌ يراد إن كانَ خيراً
ومن العرب من يقول : ( إنْ خيراً فخيراً ) كأنه قال : ( إنْ كان ما فَعلَ خيراً جُزي خيراً ) والرفع في الآخر أكثر لأن ما بعد الفاء حقه الإستئناف ويجوز : ( إن خيرٌ فخيرٌ ) على أن تضمر ( كانَ ) التي لها خبر وتضمر خبرها وإن شئت أضمرت ( كانَ ) التي بمعنى ( وقَع ) ومثل ذلك قد مررتُ برجلٍ إنْ طويلاً وإنْ قصيراً ولا يجوز في هذا إلا النصب وزعم يونس : أنَّ من العرب من يقول : ( إنْ لا صالحٌ فطالحٌ ) على إنْ : لا أكن مررتُ بصالحٍ فطالحٍ وقال سيبويه : هذا ضعيفٌ قبيحٌ قال : ولا يجوزُ أن تقول عبد الله المقتولُ وأنت تريد ( كن عبد اللِه ) لأنه ليس فعلاً يصلُ من الشيء إلى الشيء ومن ذلك : أو فرقاً خيراً مِنْ حُبٍّ ) ولو رفع جاز كأنه قال : ( أو امرىءٍ فرقٌ ) وألا طعامَ ولو تمراً أي : ( ولو كانَ الطعامُ تمراً ) ويجوز : ( ولو تمرٌ ) أي : ولو كان تمرٌ ومن هذا الباب : ( خيرَ مقدمٍ )

أي قدمتَ وإن شئتَ قلتَ : ( خيرُ مقدمٍ ) فجميع ما يرفع إنما تضمرُ في نفسك ما تظهرُ وجميع ما ينصبُ إنما تضمر في نفسكَ غير ما تظهرُ فافْهم هذا فإنَّ عليه يجري هذا البابُ ألا ترى أنكَ إذا قلت : خيرَ مقدمٍ فالمعنى : قدمتَ فقدمتَ فعْلٌ وخيرَ مقدم اسمٌ والإسمُ غيرُ الفعلِ فانتصبَ بالفعل فإذا رفعتَ فكأنَّك قلت : قدومُكَ خيرُ مقدم فإنما تضمر قدومك خيرُ مقدمٍ فقدومكَ ( هو خيرُ مقدمٍ ) وخبرُ المبتدأ هو المبتدأُ وإذا قلت : ( خير مقدمٍ ) فالذي أضمرت ( قدمت ) وهو فعلُ وفاعلٌ والفعل والفاعل غير المفعول فافهم هذا فإن عليه يجري هذا الباب ومن هذا الباب قولهم : ( ضربت وضربني زيدٌ ) تريد : ( ضربتُ زيداً وضربني ) إلا أن هذا الباب أضمرت ما عَمِلَ فيه الفعلُ وذلك أضمرت الفعل نفسهُ وكذلك كلُّ فعلين يعطفُ أحدهما على الآخر فيكون الفاعل فيهما هو المفعول فلك أن تضمره مع الفعل وتعمل المجاور له فتقول على هذا متى ظننتُ أو قلتُ : زيدٌ منطلقٌ لأنَّ ما بعد القولَ محكيٌ وتقول : ( متى قلتَ أو ظننتَ زيداً منطلقاً ) فإذا قلت : ( ضربني وضربتُ زيداً ) ثنيت فقلت : ( ضرباني وضربتُ الزيدينِ ) فأضمرت قبل الذكر لأنَّ الفعلَ لا بد لهُ من فاعل ولولا أنَّ هذا مسموعٌ من العرب لم يجز وإنما حَسُنَ هذا لأنكَ إذا قلت : ( ضربتُ وضربني زيدٌ ) وضربني وضربتُ زيداً فالتأويل : تضاربنا فكل واحدٍ فاعلٌ مفعولٌ في المعنى فسومح في اللفظ لذلك
ومن ذلك : ( ما منهم يقومُ ) فحذفَ المبتدأُ كأنهُ قال : ( أحدٌ منهم يقومُ ) ومن ذلك قوله عز و جل : ( فَصبرٌ جميلٌ )
أي : ( أَمرى صبرٌ جميلٌ )
الثالث : المضمرُ المتروك إظهارهُ : المستولي على هذا الباب الأمر وما جرى مجراه وقد يجوز فيه غيره فمن ذلك ما جرى على الأمر والتحذير نحو قولهم : ( إياكَ ) إذا حذرته والمعنى : ( باعدْ إياكَ ) ولكن لا يجوز إظهاره

وإياك والأسدَ وإياك الشرَّ كأنه قال : إيايَ لأتقينَّ وإياكَ فأتَقينَّ فصارت ( إياكَ ) بدلاً من اللفظ بالفعلِ ومن ذلك : ( رأسَهُ والحائطَ وشأنك والحجَّ وامرأً ونفسَهُ ) فجميع هذا المعطوفِ إنما يكون بمنزلة ( إياكَ ) لا يظهر فيه الفعلُ ما دام معطوفاً فإن أفردتَ جازَ الإِظهار والواو ها هنا بمعنى ( مَع ) ومما جُعلَ بدلاً من الفعل : ( الحذرَ الحذرَ والنجاءَ النجاءَ وضرباً ضرباً ) انتصب على ( الزم ) ولكنهم حذفوا لأنه صار بمعنى ( افعلِ ) ودخولُ ( إلزم ) على ( افعلْ ) محالٌ وتقول : ( إياكَ أنت نفسُكَ أنْ تفعلَ ) ونفسك إنْ وصفتَ المضمر الفاعل رفعت وإنْ أضفتَ إياكَ نصبتَ وذلك لأنَّ ( إياكَ ) بدلٌ من فِعْلٍ وذلك الفعلُ لا بُدَّ لَهُ من ضمير الفاعل المأمور وإنْ وصفت ( إياكَ ) نصبتَ وتقول : ( إياكَ أنتَ وزيدٌ وزيداً ) بحسب ما تقدر ولا يجوز : ( إياكَ زيداً ) بغير واوٍ وكذلك : ( إياكَ أن تفعلَ ) إن أردتَ : ( إياك والفعلَ ) وإنْ أردت : إياكَ أعِظُ مخافةَ أَنْ تفعلَ جازَ وزعموا أن ابن أبي اسحق أجازَ :

( إيَّاكَ إيَّاكَ المِرَاءَ فإنَّهُ ... إلى الشَّرِّ دعاءٌ ولِلَخيْرِ زِاجِرٌ )
كأنهُ قال : ( إياكَ ) ثم أضمر بعد ( إياك ) فعلاً آخر فقال : اتقِ المراءَ
وقال الخليل : لو أنَّ رجلاً قالَ : إياكَ نفسَكَ لم أُعنفْهُ يريدُ أن ( الكافَ ) اسمٌ وموضعها خفضٌ قال سيبويه : وحدثني منْ لا أتهم عن الخليلِ أنهُ سمعَ أعرابياً يقول : ( إذا بلغَ الستينَ فإيَّاهُ وإياّ الشوابِ ) ومن ذلك : ( ما شأنُكَ وزيداً ) كأنَهُ قال : ( وما شأنكَ وملابسَةَ زيداً ) وإنما فعلوا ذلك فراراً من العطف على المضمر المخفوض وحكوا ما أنتَ وزيداً وما شأنُ عبد الله وزيداً كأنه قال ما كان : فأما : ويلَهُ وأَخاهُ فانتصب بالفعل الذي نصبَ ويلَهُ كأنَّكَ قلت ألزمهُ اللُه ويلَهُ
وإن قلت : ويلٌ لَهُ وأَخاهُ نصبت لأنَّ فيه ذلك المعنى ومن ذلك سقياً ورعياً وخيبةً ودفراً

وجدعاً وعَقْراً وبؤساً وأفُةً وتفةً لهُ وبُعداً وسحقاً وتعْساً وتَبّاً وبَهْراً وجميع هذا بدل من الفعلِ كأنه قال : سقاكَ الله ورعاكَ وأما ذكرهم ( لَكَ ) بعد ( سقياً ) فليبينوا المعنى بالدعاء وليس بمبني على الأول ومنه : ( تُرباً ) وجَنْدَلاً أي : ألزمكَ الله وقالوا : فاهاً لفيك يريدون : الداهية ومنه هنيئاً مَرِياً ومنها ويْلَكَ وويْحَكَ وويْسكَ وويُبَكَ وعَوْلكَ لا يتكلمُ به مفرداً ولا يكون إلا بعد ( ويلكَ ) ومن ذلك سبحان الله ومعاذَ الله وريحانهُ وعمْرِكَ الله إلا فعلتَ وقعدك الله إلا فعلت بمنزلة : نشدتُكَ اللَه وزعمَ الخليلُ : أنهُ تمثيلٌ لا يتكلمُ به ومنه قولهم : كَرَماً وصَلَفَاً وفيه معنى التعجب كأنه قال : ( أَلزمكَ الله ) وصار بدلاً من أكرمْ به وأصْلِفْ بهِ ومنه : لبيكَ وسعديكَ وحنانيكَ وهذا مثنى وجميعُ ذا الباب إنما يعرف بالسماع ولا يقاسُ وفيما ذكرنا ما يدلُّكَ على الشيءِ المحذوف إذا سمعته ومن ذلك قولهم . ( مررتُ به فإذا لَهُ صوتٌ صوتَ حمارٍ ) لأنَّ معنى : ( لَهُ صوتٌ ) هو يصوتُ فصار لهُ صوتٌ بدلاً منهُ ومن هذا : ( أَزيداً ضربتَهُ ) تريد : أضَرَبْتَ زيداً ضربتَهُ فاستغنى ( بضربتَهُ ) وأُضمر فِعْلٌ يلي حرف الإستفهام وكذلك يحسنُ في كل موضعٍ هو بالفعل أولى كالأمر والنهي والجزاء تقول : ( زيداً اضربهُ ) وعمراً لا يقطع الله يدهُ وبكراً لا تضربْهُ

وإنْ زيداً ترهُ تضربهُ وكذلك إذا عطفت جملةً على جملةٍ فكانت الجملة الأولى فيها الإسم مبنيٌ على الفعل كان الأحسنُ في الجملة الثانية أن تشاكلَ الأولى وذلك نحو : ( ضربتُ زيداً وعمراً كلمتهُ ) والتقدير : ضربتُ زيداً وكلمتُ عمراً فأضمرت فعلاً يفسرهُ ( كلمتهُ ) وكذلك إنْ اتصلَ الفعل بشيءٍ من سبب الأول تقول : ( لقيتُ زيداً وعمراً ضربتُ أَبَاهُ ) كأنك قلت ( لقيتُ زيداً وأهنتُ عمراً وضربتُ أبَاهُ ) فتضمر ما يليق بما ظهر فإن كان في الكلام الأول المعطوف عليه جملتان متداخلتان كنت بالخيار وذلك نحو قولك : ( زيدٌ ضربتُه وعمروٌ كلمتهُ ) إن عطفت على الجملة الأولى التي هي الإبتداءُ والخبرُ رفعتَ وإنْ عطفت على الثانية التي هي فِعْلٌ وفاعلٌ وذلك قولك : ضربتُه نصبتَ ومن ذلك قولهم : أمَّا سميناً فسمينٌ وأما عالِماً فعالمٌ ومنه قولهم : ( لكَ الشاءُ شاةً بدرهمٍ ) ومنه قولهم : ( هذا ولا زعَماتِكَ ) أي لا أتوهم زَعماتِكَ وكِليهما وتمراً
ومن العرب من يقول : ( كِلاهما وتمراً كأنه قال ( كِلاهما لي ثابتانِ وزدني تمراً ) ومن ذلك : ( انتهوا خيراً لكم ووراءكَ أوسع لك وحسبك خيراً لك ) لأنَّك تخرجهُ منْ أمرٍ وتدخله في آخر ولا يجوزُ ينتهي خيراً لي لأنَّكَ إذا نهيتَهُ فأنتَ ترجيه إلى أمرٍ وإذا أخبرتَ فلستَ تريد شيئاً من ذلك ومن ذلك : ( أخذتُه فصاعداً وبدرهمٍ فزائداً )
أخبرت بأدنى الثمن فجعلتَهُ أولاً ثم قررت

شيئاً بعد شيءٍ لأثمانٍ شتى ولا يجوز دخولُ الواو هنا ويجوز دخول ( ثُمَّ ) وممَّا انتصب على الفعل المتروك إظهارهُ المنادى في قولِكَ : ( يا عبد الله ) وقد ذكرت ذلك في بابِ النداءِ
قال سيبويه : ومما يدلُّكَ على أنهُ انتصبَ على الفعل قولُكَ : ( يا إياَّكَ ) إنما قلت : يا إياكَ أَعني ولكنهم حذفوا وذكر أَمَّا أنت منطلقاً انطلقتُ معكَ فقال : إنها ( إن ) ضمت إليها ( مَا ) وجعلت عوضاً من اللفظ بالفعل تريد : إن كنتَ منطلقاً قال : ومثل ذلك : ( إمّا لا ) كأنَّهُ قال : ( افعلْ هذا إنْ كنتَ لا تفعلُ غيرهُ ) وإنما هي ( لا ) أميلت في هذا الموضع لأنَّها جعلت مع ما قبلها كالشيء الواحد فصارت كأنها ألفٌ رابعةٌ فأميلتْ لِذاكَ ومن ذلك : مرحباً وأهلاً زعم الخليل أنه بدلٌ من : رحبتْ بلادَكَ ومنهم من يرفع فيجعل ما يضمر هو ما يظهر
واعلم أن جميع ما يحذف فإنهم لا يحذفون شيئاً إلا وفيما أبَقوا دليلٌ على ما ألقوا

الإتساع
اعلم : أن الإتساع ضربٌ من الحذف إلا أن الفرقَ بين هذا الباب والباب الذي قبلهُ أن هذا تقيمه مقام المحذوف وتعربهُ بإعرابه وذلك الباب تحذف العاملَ فيه وتدعُ ما عَمِلَ فيه على حالهِ في الإِعراب وهذا البابُ العاملُ فيه بحاله وإنما تقيم فيه المضاف إليه مقام المضاف أو تجعل الظرف يقوم مقامَ الاسم فأمَّا الاتساع في إقامة المضاف إليه مقام المضاف فنحو قولِه : ( سَلِ القريةَ ) تريد : أهل القرية وقول العرب : بنو فلانٍ يطؤهم الطريقُ : يريدون : أهل الطريقِ وقولهُ : ( ولكنَّ البرَّ مَنْ آمن بالله ) إنما هو برٌ مَنْ آمنَ بالله
وأما اتساعهم في الظروف فنحو قولهم : ( صيدَ عليه يومانِ ) وإنما المعنى : صيدَ عليه الوحش في يومين
( وولدَ لَهُ الولدَ ستونَ عاماً ) والتأويل : ( ولدَ لَهُ في ستين عاماً ) ومن ذلك قولهُ عز و جل : ( بل مكر الليل والنهار ) وقولهم : ( نَهاركَ صائمٌ وليلُكَ قائمٌ ) وإنما المعنى : ( أنَّكَ صائمٌ في النهار وقائمٌ في الليل ) وكذلك :
( يا ساَرِقَ اللَّيلِة أهلَ الدَّارْ ... )
وإنما سرق في الليلة وهذا الإتساع أكثر في كلامهم من أن يحاط به وتقول : ( سرتُ فرسخينِ يومينِ ) إن شئت نصبتَ انتصابَ الظروف وإن

شئت جعلت نصبهما بأنهما مفعولان على السعة وعلى ذلك قولك : ( سِيرَ بزيدٍ فرسخانِ يومينِ ) إذا جعلت الفرسخينَ يقومان مقامَ الفاعل ولك أن تقول : سِيرَ بزيدٍ فرسخينِ يومانِ فتقوم اليومين مقامَ الفاعل

اعلم : أن الإِلغاء إنما هو أن تأتي الكلمة لا موضع لها من الإِعراب إنْ كانت مما تعرب وإنها متى أسقطت من الكلام لم يختل لكلام وإنما يأتي ما يلغى من الكلام تأكيداً أو تبييناً والجملُ التي تأتي مؤكدةً ملغاة أيضاً وقد عَمِلَ بعضُها في بعضٍ فلا موضعَ لها من الإِعراب والتي تلغى تنقسم أربعة أقسام : اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ وجملةٌ
الأول : الإسمُ : وذلك نحو : ( هو ) إذا كان الكلام فصلاً فإنه لا موضع له من الإِعراب لو كان له موضع لوجبَ أن يكون له خبرٌ إن كان مبتدأً أو يكون له مبتدأٌ إنْ كان هو خبراً وقيل في قوله : ( ولبِاسُ التقوى ذلك خير ) ( ذلك ) زائدةٌ

الثاني : الفِعْلُ : ولا يجوز عندنا أن يُلغى فعلٌ ينفذ منك إلى غيركَ ولكن الملغى نحو : ( كانَ ) في قولك : ( ما كانَ أحسنَ زيداً ) الكلامُ ما أحسنَ زيداً و ( كانَ ) إنما جِيءَ بها لتبيّن أنَّ ذلك كان فيما مضى
الثالث : الحرفُ : وذلك نحو : ما في قوله عز و جل : ( فبما نقضهم ميثاقهم ) لو كان ( لِمَا ) موضع من الإِعراب ما عملت الباء في ( نقضِهم ) وإنما جِيءَ بها زائدةً للتأكيد ومن ذلك ( إنْ ) الخفيفة تدخل مع ( ما ) للنفي في نحو قوله : وما إنْ طُبنا جُبنْ وكذلك ( إنْ ) في قولك : ( لَما إنْ جَاء قمتُ إليه ) المعنى : ( لَما جاءَ قمتَ ) وكذلك ( مَا ) إذا كانت كافةً فلا موضع لها من الإِعراب في نحو قولك : ( إنَّما زيدٌ منطلقٌ ) كفت ( مَا ) ( إنْ ) عن الإِعراب كما منعت إنْ ( مَا ) مِنَ الإِعراب وكذلك ( رُبَّما ) تقول : ( رُبَّما يقومُ زيدٌ ) لولا ( ما ) لما جاز أن يلي ( رُبَّ ) فِعلٌ ومن ذلك ( بعدَ ما ) قال الشاعر :
( أَعلاقَةً أُمَّ الوُلَيِّدِ بَعْدَمَا ... أَفنانُ رأسِكَ كالشِّهَابِ المُخْلِس )

فجميع هذه لا موضع لها من الإِعراب وقد جاءت حروفٌ خافضةٌ وذكروا أنها زوائد إلا أنها تدخل لمعانٍ فمن ذلك : ( ليس زيدٌ بقائمٍ ) أصل الكلام : ( ليسَ زيدٌ قائماً ) ودخلت الباء لتؤكد النفي وخُص النفي بها دون الإِيجاب ومن ذلك : ( مَا مِنْ رجلٍ في الدارِ ) دخلت ( مِنْ ) لتبين أن الجنس كلُه منفي وأنه لم يرد القائلُ أن ينفي رجلاً واحداً
قال أبو بكر : وحقُّ الملغى عندي أنْ لا يكونَ عاملاً ولا معمولاً فيه حتى يلغى من الجميع وأنْ يكون دخوله كخروجه لا يحدث معنى غير التأكيد وهذه الحروف التي خُفضَ بها قد دخلت لمعانٍ غير التأكيد من الحروف الملغاة ( لا ) شبهوها ( بمَا ) فمن ذلك قولك : ( ما قامَ زيدٌ ولا عمروٌ ) والواو العاطفةُ ولا لَغْوٌ و ( لا ) إنما دخلت تأكيداً للنفي وليزولَ بها اللبسُ إذا كانَ منفياً لأنَّهُ قد يجوزُ أنْ تقول : ما قامَ زيدٌ وعمروٌ ما قاما معاً وقالوا في قوله : ( لا أقسمُ بيومِ القيامة ) إنّ ( لا ) زائدةٌ ( ولئلاِ يعلَم أهلُ الكتابِ ) إنما هو : لأَنْ يعلَم وجملةُ الأمر أنها لا تزادُ إلا في موضع غير مُلبسٍ كما لا تزاد ( مَا ) وأما

قولك : ( حسبُكَ بِه ) كلامٌ صحيحٌ كما تقول : كفايتُك بهِ وفيه معنى الأمر أو التعجب وقولهم : ( كفى بالله ) قال سيبويه : إنما هو ( كفى الله ) والباء زائدة والقياس يوجب أنْ يكون التأويل : ( كفى كفايتي بالله ) فحذفَ المصدر لدلالة الفعل عليه وهذا في العربية موجود
الرابع : الجملةُ : وذلك نحو قولك : ( زيدٌ ظننتُ منطلقٌ ) بنيتَ ( منطلقاً ) على ( زيد ) ولم تعمل ( ظننتُ ) وألغيته وصار المعنى زيدٌ منطلقٌ في ظني فإنْ قدمت ( ظننتُ ) قَبُحَ الإِلغاءَ ومن هذا الباب الإعتراضات وذلك نحو قولك : زيدٌ أشهدٌ بالله منطلقٌ وإنَّ زيداً فافهمْ ما أقولُ رجلُ صدْقٍ وإنَّ عمراً والله ظالمٌ وإنَّ زيداً هو المسكينُ مرجومٌ وعلى ذلك يتأول قوله عز و جل : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا أولئك لهم جنات عدن ) فأُولئكَ هو الخبر وإنَّا لا نضيعُ أَجرَ مَنْ أَحسنَ عملاً ( اعتراض ) ومنه قول الشاعر :
( إنِّي لأَمنَحُكَ الصُّدُودَ وإنَّني ... قسماً إلَيكَ معَ الصُّدودِ لأَميَلُ )

قوله ( قسماً ) اعتراضُ
وجملةٌ هذا الذي يجيء معترضاً إنما يكون توكيداً للشيء أو لدفعه لأنَّهُ بمنزلة الصفة في الفائدة يوضحُ عن الشيء ويؤكدهُ
واعلم أنهُ لا يجوز أن يعترض بين واو العطف وبين المعطوف بشيءٍ لا يجوز أن تقول : ( قامَ زيدٌ فأفْهَم عرموٌ ولا قام زيدٌ ووالله عمروٌ )
وقد أجاز قوم الإعتراض في ( ثُمَّ وأوْ ولا ) لأنَّ أوْ ولا وثُمَّ ( يقمنَ بأنفسهنَّ ) فيقولون : ( قامَ زيدٌ ثم والله محمدٌ )
ومما يلغيه الكوفيون ولا يعرفه البصريون : ( زيداً قمتُ فضربتُ ) يلغون القيام كأنهم قالوا : ( زيداً ضربتُ ) وهذا رديءٌ في الإِلغاء لأن ما يلغى ليس حقه أن يكون بعد فاءٍ تعلقُ ما بعدها به
قال أبو بكر : قد انتهينا إلى الموضع الذي يتساوى فيه كتابُ الأصول وكتاب الجُمل بعد ذكر ( الذي ) والألف واللام ثُمَّ لا فرق بينهما إلا أنَّ بعد التصريف زيادة المسائل فيه والجملُ ليسَ فيه ذلك
ذكر الذي والألف واللام :
الإِخبار بالذي والألف واللام التي في معناهُ : ضربٌ من المبتدأ والخبر وموضع ( الذي ) من الكلام أن يكون مع صلته صفةً لشيءٍ وإنما اضطر إلى الصفة ( بالذي ) للمعرفة لأن وصف النكرة على ضربين : مفردٌ وجملةٌ فالمفرد نحو قولك : مررتُ برجلٍ عاقلٍ وقائمٍ وما أشبه ذلك والجملة التي توصفُ بها النكرة تنقسم قسمين : مبتدأٌ وخبرٌ نحو قولهم : مررتُ برجلٍ ( أبوهُ منطلقٌ ) وفِعْلٌ وفاعلٌ نحو قولك
مررتُ برجلٍ قامَ أبوهُ فلما كانت النكرات قد توصف بالحديث والكلام التام احتيج في المعرفة إلى مثل ذلك فلم يجز أن توصف المعرفة بما توصفُ به النكرة لأن

صفة النكرةِ نكرةٌ مثلها وصفةُ المعرفةِ معرفةٌ مثلها فجاز وصف النكرة بالجمل لأن كُلَّ جملةٍ فهي نكرةٌ ولولا أنها نكرة ما كان للمخاطب فيها فائدة لأن ما يعرف لا يستفاد فلما كان الأمر كذلك وأريد مثلهُ في المعرفة جاءوا باسمٍ مبهمٍ معرفةٍ لا يصح معناه إلا بصلتهِ وهو ( الذي ) فوصلوهُ بالجمل التي أرادوا أن يضعوا المعرفة بها لتكونَ صفةُ المعرفةِ معرفةَ كما أن صفةَ النكرةِ نكرةٌ ( فالذي ) عند البصريين أصلُه ( لذي ) مثل ( عمى ) ولزمته الألف واللام فلا يفارقانه ويثنى فيقال ( اللذانِ ) في الرفع ( واللذينِ ) في الخفض والنصبِ ويجمع فيقال : ( الذينَ ) في الرفع وغيره ومنهم من يقول : ( اللذونَ ) في الرفع ( واللذينَ ) في الخفض والنصب والمؤنث ( التي واللتان واللاتي واللواتي ) وقد حكى في ( الذي ) ( الذي ) بإثبات الياء ( والذِ ) بكسر الذال بغير ياء والذْ باسكان الذال ( والذيّ ) بتشديد الياء وفي التثنية ( اللذان ) بتشديد النون ( واللّذا ) بحذف النون وفي الجمع ( الذينَ والذونَ واللاؤنَ وفي النصب والخفض اللائينَ واللاءِ بلا نونٍ واللاي ) بإثبات الياء في كل حالٍ والأولى وللمؤنث التي واللاءِ بالكسر ولا ياءَ والتي والتِ بالكسر بغير ياءٍ والتْ بإسكان التاء واللتانِ واللتا بغير نونٍ واللتانَّ بتشديد النون وجمعُ ( التي ) اللاتي واللاتِ بغير ياءٍ واللواتي واللواتِ بالكسر بغير ياء واللواء واللاءِ بهمزةٍ مكسورةٍ واللااتِ مثل اللغات مسدودٌ مكسور التاءِ وطيء تقول : ( هذا ذو قالَ ذاكَ ) يريدون : الذي قالَ ذلكَ

و ( مررت بذو قال ذاك ) في كل وجهٍ في الجمع وحكى : أنه يجوز ذواتِ قلت ذاكَ ورأيتُ ذو قالَ ذاكَ وللأنثى : ذاتَ قالتْ ذاكَ قُلتِ ذاكَ ( فذوُ ) يكون في كل حالٍ رفعاً ويكون موحداً في التثنية والجمع من المذكر والمؤنث قالوا : ويجوز في المؤنث أن تقول : ( هذه ذاتُ قالتْ ذاكَ ) في الرفع والنصب والخفض فأما التثنية في ( ذو وذاتِ ) فلا يجوز فيه إلا الإِعراب في كل الوجوه وحكى : أنه قد سمع في ( ذاتِ ) و ( ذواتِ ) الرفع في كل حالٍ
وقال غير البصريين : إن أصل ( الذي ) هَذا وهَذا عندهم أصلهُ ذال واحدةٌ وما قالوه : بعيد جداً لأنه لا يجوز أن يكون اسمٌ على حرفٍ في كلام العرب إلا المضمر المتصل ولو كان أيضاً الأصلُ حرفاً واحداً ما جاز أن يصغر والتصغير لا يدخلُ إلا على اسمٍ ثلاثي وقد صغرت العربُ ( ذَا ) والموجودُ والمسموعُ مع ردنا له إلى الأصول من ( الذي ) ثلاثة أحرفٍ لامٌ وذالٌ وياءٌ وليس لنا أن ندفع الموجود إلا بالدليل الواضح والحجة البينة على أني لا لا أدفع أنَّ ( ذَا ) يجوز أن يستعمل في موضع ( الذي ) فيشار به إلى الغائب ويوضح بالصلة لأنه نقل من الإِشارة إلى الحاضر إلى الإِشارة إلى الغائب فاحتاج إلى ما يوضحه لما ذكرنا
وقال سيبويه : إن ( ذَا ) تجري بمنزلة ( الذي ) وحدها وتجري مع ( مَا ) بمنزلة اسم واحد فأما إجراؤهم ( ذَا ) بمنزلة ( الذي ) فهو قولهم : ماذا رأيت فيقول : متاعٌ حَسَنٌ وقال لبيد :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6