كتاب : معجز أحمد
المؤلف : أبو العلاء المعري

الجزء الأول
العراقيات الأولى
قال أبو الطيب أحمد بن الحسين الكوفي الجعفي رحمه الله وهو أول شعر قاله في صباه
أبلى الهوى أسفاً يوم النوى بدني ... وفرق الهجر بين الجفن والوسن
يقال بلى الثوب يبلى بلى وبلاء. وأبلاه غيره إبلاء. والأسف: شدة الحزن. يقال: أسف يأسف أسفاً فهو آسف وأسيف، ومعنى إبلاء الهوى البدن: إذهاب لحمة وقوته، بما يورد عليه من شدائد. وخص يوم النوى، لأن برح الهوى إنما يشتد عند الفراق، والهوى عذب مع الوصال سم مع الفراق كما قال السرى الرفاء:
وأرى الصبابة أريةً ما لم يشب ... يوماً حلاوتها الفراق بصابه
وانتصب أسفاً على المصدر، ودل على فعله ما تقدمه من قوله: أبلى الهوى لأن إبلاء الهوى بدنه يدل على أسفه، فكأنه قال: أسفت أسفاً، ومثله كثير في التنزيل؛ كقوله تعالى: " صنع الله الذي أتقن كل شيء " ، ويوم النوى: ظرف للإبلاء، ومعموله. ويجوز أن يكون معموله المصدر الذي هو أسفاً.
والمعنى يقول: أدى الهوى بدني إلى الأسف، والهزال، يوم الفراق، وبعد الهجر من الحبيب؛ بين جفني والنوم. أي: لم أجد بعده نوماً ولا راحة.
روحٌ تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
يقول: روح تردد: أي تجيء وتذهب، في بدنٍ مثل الخلال في النحول والدقة والهزال، بحيث إذا طيرت الريح عنه الثوب لم يظهر ذلك البدن لدقته. أي: إنما يرى لما عليه من الثوب، فإذا ذهب الثوب فهو لا يرى. ومثل الخلال صفة للموصوف المحذوف، تقديره: في بدنٍ مثل الخلال.
وأقرأني أبو الفضل العروضي: في مثل الخيال؛ وقال: أقرأني أبو بكر الشعراني خادم المتنبي: في مثل الخيال وقال: ولم أسمع الخلال، وما دونه من البيت يدل على صحة هذا، وإن الوأواء الدمشقي سمع هذا البيت فأخذه وقال:
وما أبقى الهوى والشوق مني ... سوى روح تردد في خيال
خفيت على النوائب أن تراني ... كأن الروح مني في محال
كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
يقول: كفاني نحولاً كوني رجلاً، لو لم أتكلم لم يقع علي البصر، أي إنما يستدل علي بصوتي، كما قال أبو بكر الصنوبري:
ذبت حتى ما يستدل على أني حي ... ي إلا ببعض الكلام
وأصل هذا المعنى قول الأول:
ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر
والباء في بجسمي زائدة، تزاد مع الكفاية عنها؛ في الفاعل كثيراً كقوله تعالى: " وكفى بالله شهيداً " " وكفى بك على هؤلاء شهيداً " " وكفى بربك هادياً ونصيراً " وتزاد مع المفعول أيضاً كقول بعض الأنصار
وكفى بنا فضلاً على من غيرنا ... حب النبي محمدٍ إيانا
معناه كفانا فضلاً، فزاد الباء وقد قال أبو الطيب
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
فزاد في المفعول في قوله: بجسمي لما ذكرنا وانتصب نحولاً، على التميير، لأن المعنى كفى جسمي من النحول.
وقال يمدح محمد بن عبيد الله العلوي:
أهلاً بدارٍ سباك أغيدها ... أبعد ما بان عنك خردها
الأغيد: الناعم البدن، وجمعه غيدٌ وأراد هاهنا، جارية، وذكر اللفظ، لأنه عنى الشخص، والخرد جمع الخريدة وهي: البكر التي لم تمس. ويقال أيضاً: خرد بالتخفيف، وفي قوله: أبعد أوجهٌ ورواياتٌ، والذي عليه أكثر الناس الاستفهام، وفيه ضربان من الفساد: أحدهما في اللفظ والثاني في المعنى، والذي في اللفظ من الفساد هو: أن تمام الكلام يتعلق بالبيت الذي بعده، وذلك عيب عند الرواة يسمونه المضمن والمبتور، ومثله:
لا صلح بيني فاعلموه ولا ... بينكم ما حملت عاتقي
سيفي وما كنا بنجد وما ... قرقر قمر الواد بالشاهق
والضرب الثاني من الفساد؛ في المعنى، وهو أنه إذا قال: أبعد فراقهم تهتم وتحزن؟ كان محالاً من الكلام، والرواية الصحيحة: أبعد ما بان بضم الدال.
يقول: أبعد شيء فارقك جواري هذه الدار. وروى قوم، أبعد ما بان بفتح الدال، على أنه حال من الأغيد والعامل في الحال سباك أي: سباك أغيدها أبعد ما بان عنك، وخردها بدل من الأغيد وهذا من العجب، أي أن السابي يسبي وهو بعيد.

ومعناه أنه أسرك بحبه، وهو على البعد منك، وانتصب أهلاً بفعل مضمر تقديره: جعل الله تعالى أهلاً بتلك الدار؛ لتكون مأهولة؛ أي ذات أهلٍ؛ وإنما تكون مأهولة إذا سقيت الغيث فأنبتت الكلأ، فيعود إليها أهلها، وهو في الحقيقة دعاء لها بالسقيا.
ظلت بها تنطوي على كبدٍ ... نضيجةٍ فوق خلبها يدها
يريد ظللت، فحذف أحد اللامين تخفيفاً كقوله تعالى: " فظلتم تفكهون " .
يقول: ظللت، بتلك الدار تنثني على كبدك واضعاً يدك فوق خلبها، والمحزون يفعل ذلك كثيراً لما يجد في قلبه من حرارة الوجد يخاف على كبده أن ينشق، وهذا كما قال غيره:
عشية أثنى البرد ثم ألوثه ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدعا
وقال آخر:
لما رأوهم لم يحسوا مدركاً ... وضعوا أناملهم على الأكباد
والانطواء كالانثناء، والنضج لليد، ولكن جرى نعتاً للكبد في الإعراب لإضافة اليد إليها كقوله تعالى: " من هذه القرية الظلم أهلها " فإن الظلم للأهل، وجرى صفة للقرية.
والمعنى: التي ظلم أهلها، وهذا كما تقول مررت بامرأة كريمةٍ جاريتها، تصفها بكرم الجارية، وجعل اليد نضيجة لأنه أدام وضعها على الكبد فأنضجتها بما فيها من الحرارة، ولهذا جاز إضافتها إلى الكبد، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا طالت صحبته إياه كقولهم لفناء الدار: العذرة، وللمطمئن من الأرض: الغائط. وإذا جاز تسميته باسم ما يصحبه كانت الإضافة أهون ولطول وضع يده على الكبد أضافها إليه، كأنها للكبد لما لم تر إلا عليها، والخلب: غشاء للكبد رقيق لاصق بها، وارتفع يدها بنضيجة، وهو اسم فاعل يعمل عمل الفعل كما تقول: مررت بامرأةٍ كريمةٍ جاريتها، ويجوز أن تكون النضيجة من صفة الكبد، فيتم الكلام ثم ذكر وضع اليد على الكبد، والأول أولى.
يا حاديي عيرها وأحسبني ... أوجد ميتاً قبيل أفقدها
روى: عيرها وعيسها وهي أحسنها لأن العير: هي التي تحمل النساء، والعيس: هي الإبل البيض التي تعلو بياضها شقرة: والهاء في عيرها للمحبوبة وأحسبني: أي أظنني، والفقد: العدم، وقوله: أفقدها، الأصل فيه النصب؛ لأنه أراد: قبيل أن أفقدها، إلا أنه حذف أن ورد الكلام إلى أصله وهو الرفع؛ لأن العامل فيه غير مظهر.
يخاطب حاديي العير التي كانت محبوبته في جملة ركبهما، ويسألهما أن يقفا عليه بالإبل ليستمتع بالنظر إليها، لما ذكره في قوله: قفا، ثم قال: وأحسبني. أي وإن التمست من الحاديين وقوفهما بهذه المرأة علي لأتزود منها بالنظر، فإني أظن أني أوجد ميتاً قبل أن تغيب هذه المرأة، فلا يكون في النظر إليها طائل، وإنما صغر فقال: قبيل لينبه على أن موته إنما يحصل حال الفراق وقبله بوقت يسير، وهو الوقت الذي يتحقق الفراق فيه، وإن ما قبلهما هي حالة الوصال ولا يليق به الموت، وقوله يا حاديي أراد به السائق والقائد، والحادي: اسم السائق، لكنه سماهما باسم واحد للجمع بينهما تغليباً لأحدهما على الآخر، وفي ذلك إخبار عن عظم حال هذه المرأة الجليلة وأن لها قائداً يأخذ بزمام المطية، وسائقاً يسوقها، ويحتمل أن يكون حاديين على الحقيقة.
قفا قليلاً بها علي فلا ... أقل من نظرةٍ أزودها
قليلاً: منصوب؛ لأنه صفة لظرف محذوف. أراد: زماناً قليلاً، أو لأنه صفة لمصدر الفعل الذي هو قفا أراد: وقوفاً قليلاً. وقوله: فلا أقل ويروى بالنصب وهو الوجه؛ لأن لا يبنى الاسم بعده على الفتح إذا كان نكرة، وأقل نكرة، وقد روى بالرفع على معنى ليس وقوله: قفا يتعلق بقوله: يا حاديي عيرها والهاء في بها يحتمل أن تكون للإبل وأن تكون للمرأة.
يخاطب الحاديين فيقول: قفا بهذه المرأة علي لأتزود منها بالنظر إليها، وإن كان ذلك الوقوف قليلاً، ثم قال إن لم آخذ منها الاستمتاع وطول الملازمة واستدامة الملاقاة فلا أقل من نظرة أزودها: أي إني أجعلها زادي. ويروى: أزودها أي بجعل تلك النظرة زادي بعد مفارقتي إياها ومثله للآخر:
ألما على الدار التي لو وجدتها بها ... أهلها ما كان وحشاً مقيلها
وإن لم يكن إلا معرج ساعةٍ ... قليلٌ، فإني نافع لي قليلها
وقال الآخر:
قليلٌ منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له: قليل
ففي فؤاد المحب نار هوىً ... أحر نار الجحيم أبردها

المحب أراد به نفسه، والكناية في أبردها لنار الهوى، وكأن هذا البيت علة في سؤاله الحاديين الوقوف بالمحبوبة.
يقول: إن في فؤادي ناراً من هواي إياها، والجحيم في جنبها أبردها، يعني أن أبرد نار الهوى مثل أحر نار الجحيم؛ وقصد بذلك تعظيم الهوى، وقد ورد الخبر بأن نار جهنم تزيد على نار الدنيا بسبعين درجة، فإذا كان أبرد هذه النار تزيد على أحر تلك، فلا مبالغة فوقه.
شاب من الهجر فرق لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها
الفرق: موضع الفرق هاهنا، وفرق الرأس: وسطه، واللمة: ما ألم بالمنكب من الشعر، التي هي أفعل من كذا، وهو الأشد سواداً، وإنما أراد به الاسم أي مسودها، يعني اللمة.
يقول: شاب شعر رأسي من ألم الفراق! لا من الكبر في السن، حتى إن الشعر الأسود صار كالحرير الأبيض. وإنما خص موضع الفرق؛ لأن ذلك في قمدم الرأس، والعرب تزعم أن ابتداء الشيب إذا كان منه كان فيه دلالة الكرم، وإذا كان من جهة القفا كان فيه دلالة اللؤم، وهذا البيت مثل قول الآخر:
وما شاب رأسي من سنين تتابعت ... علي ولكن شيبتني الوقائع
والأصل فيه قوله تعالى: " يوماً يجعل الولدان شيباً " .
بانوا بخرعوبةٍ لها كفلٌ ... يكاد عند القيام يقعدها
الضمير في قوله: بانوا لأصحاب العير، أو الحداة، والخزعوبة: الجارية الناعمة الجسم، اللينة العصب، الطويلة.
يقول: بانوا بجارية خرعوبة عظيمة العجز، حتى إنها من كبر كفلها يقرب كفلها عند القيام من أن يقعدها ويلقيها. ومثله لأبي العتاهية قوله:
بدت بين حورٍ قصار الخطا ... تجاهد بالمشي أكفالها
ربحلةٌٍ أسمرٍ مقبلها ... سبحلةٌٍ أبيضٌٍ مجردها
الربحلة: الضخمة الحسنة الخلق، والسبحلة: الطويلة العظيمة. وقيل: السمينة اللحيمة. ومقبلها: أراد به شفتها، لأنها موضع القبلة في الغالب، ويستحسن فيها السمرة، وقيل: أراد وجهها وسوالفها، لأن ذلك مما يقصد بالقبلة كالشفة، ويكون وصف ذلك بالسمرة تنبيهاً على أنها عربية؛ لأنها الغالبة على العرب، وهي أحب ألوان النساء عندهم، والمجرد: قيل أراد به سائر بدنها، والمستحسن فيه البياض. وقيل: أراد به ما جرت العادة بتجريد في الغالب: كالوجه، والعنق واليد والرجل. فيكون قد وصف جملة البشرة بالبياض، والغرض وصف المرأة بأنواع الحسن، ليعذر في حبه لها وشغفه بها.
ويجوز في سبحلة وربحلة الجر عطفاً على خرعوبة والرفع على أنه خبر ابتداء محذوف فكأنه قال: هي ربحلةٌ وهي سبحلةٌ.
يا عاذل العاشقين دع فئةً ... أضلها الله كيف ترشدها؟!
الفئة: الجماعة، وأراد بها العشاق. وقوله: أضلها الله: أغراها بالضلال، ووجدها ضالة، والظاهر أنه متعدى ضل والمعنى: أنها همت بالضلال فأضلها الله، والإرشاد: ضده.
يقول: دعهم عن العذل على العشق، فإن التمادي فيه ليس منهم، حتى ينفع عذلك فيهم، إنما هو من الله تعالى، أضلهم بالعشق عن سبيل السلوة، فكيف ترشدهم إليها؟! أو أوجدهم ضالين عن سبيل الرشاد والسلو.
ليس يحيك الملام في همم ... أقربها منك عنك أبعدها
يحيك بضم الياء أفصح، وجاء: حاك يحيك، والهمم: العقول والعزائم.
يقول: ليس يؤثر الملام في همم، وهي همم العشاق. أقربها في ظنك أيها العاذل من العمل، أبعدها عنك في الحقيقة، وعلى هذا الهمم: هي العزائم ويجوز أن يراد بها العقول.
فيقول: إن العشاق لا عقول لهم، والعذل إنما ينفع لمن له عقل، فلا وجه إلى ملامهم، وروى: ليس يحيك الكلام.
وسئل المتنبي عن قوله: أقربها منك عنك أبعدها فقال: أقربها منك سمعاً وأبعدها عنك طاعةً.
بئس الليالي سهدت من طربي ... شوقاً إلى من يبيت يرقدها
سهدت بالدال، لأنه لا يستعمل إلا في العشق. والسهر عام. والطرب: الخفة في فرح أو حزن، وأرادها هنا ما يكون من الحزن، ويرقدها: أي يرقد فيها، والهاء ترجع إلى الليالي.
يذم الليالي التي سهر فيها حزناً على المحبوبة؛ لأنها ليالي المحنة، لمفارقتها من وجهين: أحدهما من حيث الشخص، والثاني أنها لم تقابله في المحبة فتسهر كسهره في تلك الليالي، ولا ساعدته على سبيل المجاملة، وقوله شوقاً: نصب لأنه مفعول له، ويحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال.

أحييتها والدموع تنجدني ... شئونها والظلام ينجدها
إحياء الليل: هو السهر، والشئون: مجاري الدموع، والإنجاد: الإمداد والإعانة، والهاء في أحييتها لليالي، وفي شئونها للدموع، وأضافها إليها لأنها مجاريها، والهاء في ينجدها قيل: ترجع إلى الليالي.
ومعناه: أحييت الليالي على حال تنجدني شئون الدموع فيها على ما كنت فيه من طول الليل الذي حصل بالغم والسهر؛ لأن من شأن الدموع أن تخفف على المحزون، وكأن الظلام يعين الليالي ويمدها ظلمةً أكثر من ظلمتها، ويزيدها طولاً إلى طولها، لانفراده به وعدم مشاهدته ما يتشاغل به عما هو فيه من الغم كما قال الشاعر:
بلى إن للعينين في الصبح راحةً ... لطرحهما طرفيهما على كل مطرح
وقيل: إن الهاء في ينجدها للدموع.
ومعناه: أن الدموع كانت تعينني لما فيها من الراحة، والظلام كان يعين الدموع، وكلما ازداد الليل ظلمةً ازداد الغم.
لا ناقتي تقبل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
أجهدها: من جهدت الناقة إذا أشققت عليها في الحمل والركوب والرهان: المراهنة في مسابقة الخيل. وأراد بالناقة: النعل وأشار إلى أنه أحيا هذه الليالي وهو سائرٌ راجل، وجعله نعله ناقته من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " المنتعل راكبٌ " ثم بين مخالفته حالها بحال الناقة من وجهين: أحدهما أنها لا تقبل الرديف ولا تسع غير رجله، الثاني أنها لا تجهد بالسوط يوم المراهنة؛ لأنه ليس لها فعل في السباق، ولا سرعة ولا إبطاء، ثم زاد في الدلالة على المخالفة فقال:
شراكها كورها ومشفرها ... زمامها والشسوع مقودها
الكور: الرحل، والمشفر: الشفة، والمقود: الحبل يقاد به الناقة، والزمام: السير المفتول.
شبه نعله بالناقة، وشراكها بالكور؛ لأنه يعلو ظهر الناقة، كالشراك يعلو النعل، وهو السير المعترض على القدم المشدود إلى جانبي النعلن والزمام: هو السير المشدود جانب منه إلى الشراك، وجانب إلى الشسع، والشسع: السير الذي يكون بين الأصبعين، فشبه كل آلة من النعل بشيءٍ من آلات الناقة.
أشد عصف الرياح يسبقه ... تحتي من خطوها تأيدها
عصف الرياح: شدة هبوبها. والهاء، في يسبقه: يرجع إلى العصف المضاف إلى الرياح، والتأيد: قوة الخطو، من الأيد وهو القوة.
يقول: قوة خطوها تحتي تسبق أشد عصف الرياح لأنها تبقى بعدها، وتفتر الرياح، وعنى بذلك قوة نفسه وسرعة مشيه.
وقيل: أراد بالتأيد: التثاقل والتثبت، كأنه جعل أهون سيره على النعل فوق أشد الهبوب للرياح مبالغة وكأنه قال: تثبت خطوها يسبق أشد الرياح فيصف قوته.
في مثل ظهر المجن متصلٍ ... بمثل بطن المجن قرددها
القردد: الأرض الصلبة. وقيل: ما انخفض من الأرض الناتئة.
يصف طريقه إلى الممدوح، وشبه ما ارتفع منه بظهر المجن، وما انخفض منه ببطن الترس، وبين أن بعض طريقه كان صعوداً وبعضه كان هبوطاً وذلك دلالة على فضل المشقة.
فيقول: تأيد خطوها، يسبق أشد هبوب الرياح، في طريقٍ مثل ظهر المجن ارتفاعاً، متصل بطريق مثل بطن المجن انخفاضاً، والأصل في هذا التشبيه قول الأعشى:
وبلدةٍ مثل ظهر الترس موحشةٍ ... للجن بالليل في حافاتها زجل
وقيل: إنه شبه ابتداء سفره إليه بظهر المجن، إشارة إلى أنه كان موحشاً، وانتهاءه ببطنه، لما أدى إلى لقاء الممدوح، إشارة إلى أنه كان مؤنساً؛ لأن ظهر المجن يلي العدو وبطنه يلي نفس من حمله، والأول أقوى. ويجوز في متصلٍ: الرفع على الابتداء أو خبره، والجر على أنه صفة لمثل، أو بدل له.
مرتمياتٌٍ بنا إلى ابن عبي ... د الله غيطانها وفدفدها
روى: في مرتمياتٍ: الرفع على أن يكون خبراً لغيطانها وفدفدها، وتكون هي مبتدأ، وروى بالكسر فتكون في موضع النصب، على أن تكون حالاً سادةً مسد خبر المبتدأ. والغيطان: جمع الغائط وهو المطمئن من الأرض، والفدفد: ما نشز منها.
يقول: رمت بنا هذه الغيطان والفدفد إلى ابن عبيد الله: الذي هو الممدوح، يذكر مشقته ليكون أقرب إلى الإكرام.
إلى فتىً يصدر الرماح وقد ... أنهلها في القلوب موردها

إلى: يتصل بقوله: مرتمياتٍ والإيراد: أراد به إورادها وهو الإتيان بالمواشي إلى الماء، والإصدار: صرفها عنه بعد الري. وقوله: أنهلها: من النهل، وهو في اللغة: الشربة الأولى، وروى موردها وهو مصدر ورد، ويجوز أن يكون مكان الورود وهو جسم المطعون، وهو رفع على أنه فاعل أنهلها.
يقول: رمت بنا هذه المفاوز إلى فتىً يسقى رماحه من دم قلب عدوه، ويصدرها عنه وقد رويت من الدم. والهاء في أنهلها للرماح، وخص القلوب لأنها أولى المقاتل.
له أيادٍ إلي سابقةٌ ... أعد منها ولا أعددها
وروى: سابقةٌ وسابغةٌ أي تامة. والأيادي: النعم.
يقول: إن له علينا نعماً سابقة، لا أقدر أن أحصيها من كثرتها، غير أني أعد من تلك النعم، وأوجد منها، يشير إلى أنه خلصه من يد عدو له، أو أنه جنى عليه بما يستحق القتل، فوهب له نفسه، ومثله:
لا تنتفنى بعدما رشتني ... فإنني بعض أياديكا
وروى أعد منها يعني: أعد بعض هذه النعم، وأما جميعها فلا أقدر أن أحصيها لكثرتها، لأن من للتبعيض.
يعطى فلا مطله يكدرها ... بها ولا منه ينكدها
الهاء في بها وفي يكدرها وفي ينكدها: للأيادي. وتقدير البيت: يعطى فلا مطله به لأن المطل يتعدى بالباء، وينكدها.
يقول: يعطى من دون مطلٍ بما يعطيه، ولا مدافعة ينكد بها، ولا يمن به إذا أعطى، فكأنه قال: له أياد لا يكدرها مطلٌ ولا ينكدها منٌّ فكأنه أخذه من قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " ومثله للحكمى:
فما في جوده منٌّ ... ولا في بذله خسرُ
خير قريشٍ أباً وأمجدها ... أكثرها نائلاً وأجودها
المجد: الشرف، والهاءات: للقبيلة، التي هي قريش؛ وأباً ونائلاً: منصوب للتمييز، وكان هذا الممدوح علوياً، وليس في قريش خير من بني هاشم خيرٌ من العلوية؛ فلهذا قال: خير قريش أباً، ففضله في نفسه، ثم في مجده، ثم في سخائه.
وقريش: اسم لمن ولده النضر بن كنانة، وقيل لمن ولده فهر بن مالك؛ والأصح هو الأول.
أطغنها بالقناة أضربها ... بالسيف، جحجاحها مسودها
الجحجاح: السيد الممتلىء كرماً، والمسود: هو الذي اتفق الناس على سيادته. فقيل: هو المخاطب بالسؤدد، وذلك عن أجداده، وهذا أبلغ في الجلالة، وإنما قيد الطعن بالقناة، والضرب بالسيف؛ إما تأكيداً كقولك: رأيت بعيني، وإما لأن الطعن قد يكون بغير القناة من اللسان وغيره، كذلك قد يكون بغير السيف، كالخشب ونحوه، وليس في ذلك مدح. فرفع الإشكال بالتقييد، والجحجاح والمسود يعني: السيد المسود.
أفرسها فارساً وأطولها ... باعاً ومغوارها وسيدها
فارساً: نصب على الحال.
يقول: إن هذا الممدوح أفرس قريش، في حال كونه راكباً للفرس، فدل به علىأنه إنما يركب الفرس في بعض الأحوال، إذ ركوبه في جميع الأحوال من عادات الرائضين، وقيل: إنه نصب على التمييز.
والمعنى أنه أفرس من سائر فرسان قريش، كقولك: هو أجود قريش جواداً، وقيل: إنه أراد به: أفرسها فروسيةً. أي فراسة، ويكون أيضاً نصب على التمييز، وقوله: أطولها باعاً. كناية عن مد يديه بالعطاء، أو يكون كناية عن نيله كل ما يريد بفضل قوته وقدرته، والمغوار: كثير الغارة
تاج لؤي بن غالبٍ وبه ... سما لها فرعها ومحتدها
لؤي بن غالب: اسم جد النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو قريش، وأراد به: القبيلة، والمحتد: الأصل الكريم، وأراد بالمحتد هاهنا: السلف، وبالفرع: الخلف منهم.
يقول: إنه تاجهم وغرتهم، وإن علوهم به، خلفاً وسلفاً، لانتسابهم إليه.
شمس ضحاها هلال ليلتها ... در تقاصيرها زبرجدها
الضحا: ارتفاع النهار، والتقاصير: جمع التقصار وهي القلادة القصيرة.

بين أن قريشاً يستضيئون بنوره، وجعلوه لأنفسهم كالشمس والهلال، في نهارهم وليلهم، وأضاف الشمس إلى الضحا؛ لأنه اسمٌ لأوائل النهار، وأضاف الهلال إلى الليلة لأنه يسمى هلالاً في أوائل الشهر؛ ليدل على حداثة سن الممدوح، وأن فيه رجاء الزيادة والنماء، وأنه منظور إليه، يرمقه الناس ويصدرون عن أمره ونهيه، ويحكم فيهم بحكمه، وذلك مختص بالهلال، إذ لا ينظر إلى البدر كما ينظر إلى الهلال، ولا يتعلق بالبدر ما يتعلق بالهلال من الأحكام، ثم بين أن قريشاً بمنزلة القلادة زينة، أراد أن الناس يتزينون بهم، إذ هم رؤساؤهم، وأن الممدوح أجل أولئك السادة قدراً، وأعظمهم خطراً لأن أجل ما في القلادة الدر والزبرجد، فكأن الناس يتزينون بهم، وهم يتزينون به.
يا ليت بي ضربةً أتيح لها ... كما أتيحت له، محمدها
أتيح: أي قدر.
وتقدير البيت: يا ليت بي ضربةٌ أتيح لها محمدها كما أتيحت له؛ كان الممدوح أصابته ضربةٌ في وجهه في غزو الكفار، فتمنى هو أن تلك الضربة كانت به دون الممدوح، تفديةً له بنفسه أو تسلية حيث يسعد بها الممدوح، لأنه كثر بسببها عليه الثناء، وكتب له من أجلها الثواب؛ ولفظ الإتاحة؛ تنبيهاً على أنها كانت اتفاقاً وفجاءةً، لا عن فضل قوة الضارب على الممدوح، فدل بذلك على شجاعة الممدوح؛ أو يكون إتاحة الضرب له من حيث أنه نوه بذكرها وبذكر من سبب إليها، والحديدة التي وقعت بها، فكأنه كسب له الفخر، وكسبت هي له السعادة والثناء وجزيل الثواب.
وقد كان يستقيم المعنى من دون أن يذكر محمدها ويكون تقدير البيت: في ضربة أتيح لها، كما أتيحت له. لأنه صرح بذكره للحاجة إليه، وإن لم يكن في ذلك إحالة المعنى.
أثر فيها وفي الحديد وما ... أثر في وجهه مهندها
المهند: السيف المنسوب إلى الهند، والهاء في فيها، وفي مهندها لضربة، وتأثيره في الضربة على معنيين: أحدهما أن يكون سلاحه قد عطل وأبطل تأثيره بشجاعته فلم تؤثر ضربته فيه تأثير مثلها، فلما كان كذلك صار كأنه لم يكن للضرب، ولا للحديد تأثيرٌ فيه، فيكون غرضه أن الضربة لم تعمل في الممدوح، أو عملت عملاً قليلاً يخالف قصد الضارب، إذ أراد أن تعمل عملاً عظيماً.
والثاني أن يكون قد جعل الممدوح مؤثراً في الضربة والحديد، من حيث أن الضربة وقعت على الوجه فزانته، وما شانته، لأنها دلالة الشجاعة؛ فلما كان كذلك فكأن الضربة والحديد لم يؤثرا فيه؛ لأن تأثيرهما في الشين والإيلام، وإذا كان على ما ذكرنا؛ فكأنه لا ألم فيه ولا شين، والأظهر أن يكون تأثيره في الضربة والحديد من أنه نوه بذكر تلك الضربة وشرفها وشرف الحديد وقلله، فكأنه قال: أثر في الضربة بالتشريف وفي السيف بالتفليل، وأثر السيف فيه تأثير مثله من الوجه الذي بيناه وعلى هذا يدل البيت الذي يليه وهو قوله:
فاغتبطت إذ رأت تزينها ... بمثله والجراح تحسدها
الجراح: جمع جراحة، والهاء في تزينها، وتحسدها للضربة، ورأت من رؤية العين وهي استعارة ها هنا.
يقول: إن الضربة فرحت بحصولها في جسمه وحلولها ببعض أجزائه، وسائر الجراح تحسد هذه الضربة لأجل ذلك، وفي هذا تنبيه على أنه كان هناك جراحة، فكأنه يقول: إذ رأت تزين نفسها لأن الهاء فيها للضربة، وقوله: بمثله. فيه زيادة مبالغة؛ لأن تزين الضربة إذا حصل بوقوعه بمثل الممدوح، فلأن يحصل إذا وقع به أولى، وروى بوجهه أي بوجه الممدوح وهو أظهر الروايتين.
وأيقن الناس أن زارعها ... بالمكر في قلبه سيحصدها
الهاء في قلبه للزارع. يقول: إن زارع هذه الضربة في وجهه بالمكر، سيحصدها: أي أن عاقبة أمره تئول إلى أن ينتقم منه ويقتله، وذكر المكر يدل على أن هذا الضرب حصل اغتيالاً ومكراً لا مبارزة ومقاومة! وقوله: في قلبه: يحتمل أن يكون ظرفاً للمكر، يعني أنها حصلت بالمكر الذي كان في قلبه، دون أن يظهر ذلك له، إذ لو ظهر لعجز عنه، ويحتمل أنه سيحصد هذه الضربة في قلبه، يريد أنه سيقتله؛ لأن القلب مقتل، ويجوز أن تكون الهاء في قلبه للمدوح، كأنه قال: أيقن الناس أن زارع هذه الضربة في قلب الممدوح سيحصدها، فشبهها بالبذر وشبه الجزاء بالحصاد.
أصبح حساده وأنفسم ... يحدرها خوفه ويصعدها
يحدر بالفتح أفصح. يقال: حدرت السفينة أحدرها حدراً فانحدرت. وأحدرت لغةٌ ضعيفة.

يقول: فزع الحساد منه فزعاً عظيماً بحيث لا قرار لهم من الخوف، حتى كأن ما بهم من الخوف يحدر أنفسهم مرةً ويصعدها أخرى، وهذا الفزع يجوز أن يكون من حيث أنهم خافوا أن يعظم محله بانتقامه منهم، أو خافوا نفس الانتقام.
تبكي على الأنصل الغمود إذا ... أنذرها أنه يجردها
لعلمها أنها تصير دماً ... وأنه في الرقاب يغمدها
الهاء في أنذرها، وفي يجردها، للأنصل. وفي علمها للغمود، وفي أنها للأنصل، وكذلك في يغمدها والضمير في أنه للمدوح وقوله: تصير دماً أي تختضب بالدماء.
يقول: تبكي الغمود على الأنصل إذا أعلمها الممدوح، وخوفها أنه يجردها ويخرجها من غمودها، وإنما تبكي الغمود لأنها تعلم أنها تصير دماً، وأنه يغمدها في رقاب أعدائه، فيجعل رقابهم أغماداً لها بعد إغماده إياها في أغمادها، ومثله لحسان قوله:
إذا ما غضبنا بأسيافنا ... جعلنا الجماجم أغمادها
أطلقها فالعدو من جزعٍ ... يذمها والصديق يحمدها
الهاء في أطلقها وفيما بعده للأنصل، وإطلاقه لها لقتلهم بها. إطلاق يده بالضرب بها في الأعداء.
يقول: يذم العدو هذه السيوف التي أطلقها الممدوح، لعلمهم أنه يقتلهم بها، والصديق يثني عليها لأنها تكسبه العز لما تجلبه من الظفر للمدوح، وبين أن العدو يذمها جزعاً؛ ليدل على أنها غير مذمومة في الحقيقة، وحقق ذلك بقوله: والصديق يحمدها.
تنقدح النار من مضاربها ... وصب ماء الرقاب يخمدها
قدحت النار فانقدحت، والمضارب: جمع مضرب، وهو حد السيف الذي يضرب به.
يقول: تقطع هذه السيوف ما تحتها مما تصيبه حتى تصل إلى الأرض وتهوي فيها، ولا يردها إلا حجرٌ يقدحها، ويتبعها الدم من الموضع الذي أصابته فيخمدها.
وقيل: إن انقداح النار: حين قدت اللحم وقطعت العظام فتقدح منها النار من شدة الوقع، ثم انصب عليها الدم فأخمدها.
إذا أضل الهمام مهجته ... يوماً فأطرافهن تنشدها
أي أنها تطلب الهمام: وهو الملك العظيم الهمة، والذي إذا هم بالأمر أمضاه، وقد روى: أطرفهن بفتح الفاء وينشدها بالياء وفتحها، وكذلك بالتاء وفتحها، من نشدت الضالة: أي طلبتها، وروى فأطرافهن بضم الفاء وتنشدها بالتاء وضمها، من أنشدت الضالة: إذا عرفتها.
والمعنى على الأول: أن الهمام إذا اشتد عليه القتال حت أضل مهجته فيه، وهو أن يصادفها مجروحة أو مقتولة، فإنه يطلبها عند أطراف سيوف هذا الممدوح؛ لأن من شأنها إصابة مهج الملوك. ويكون نصب أطرافهن على الظرف، تقديره: أطرافهن تنشدها، أو يكون المراد بإضلالها: أن يذهل عنها فزعاً، فيكون كأنه أضلها، فعند ذلك يطلبها من أطراف سيوفه لاعتيادها لأرواح الملوك، فهي التي تدل كل ملك على مهجته إذا قتلت، أو جرحت فلم يهتد لها، ولم يقدر على ارتجاعها فإن أطراف سيوفه هي التي تدل عليها. وتقول: هي عندنا. إذ هي موكلة بمهج الملوك وسالبةٌ لها، ويحتمل أن يكون المراد به أن أطراف سيوفه تنشد للهمام مهجته عند إضلاله إياها وإشرافه لها على الهلاك، وتنقذها من الضلال فتكون هي الناشدة لها، وقد روى بدل: الهمام الشجاع.
قد أجمعت هذه الخليقة لي ... أنك يا ابن النبي أوحدها
وأنك بالأمس كنت محتلماً ... شيخ معدٍّ وأنت أمردها
الإجماع: اتفاق الكلمة على الشيء، والخليقة: البرية. والأوحد: الذي لا ثاني له، والهاء فيه للخليقة، وأراد بأنك: أنك وأجراها مع المضمر كالمظهر من قوله:
كأن ثدييه حقان
ومحتلماً: نصب على الحال، وشيخ معدٍّ: نصب بخبر كان، وروى: وأنت بالأمس مكان وأنك.
يقول: قد اتفقت البرية كلهم يا ابن رسول الله على أنك أوحد هذه البرية؛ وإنما قال ذلك؛ لأنه علوي، ولا خلاف في شرفهم، واتفقتْ أيضاً أنك كنت بالأمس في حال احتلامك شيخ هذه القبيلة المنتسبة إلى معد بن عدنان ورئيسهم، وأنت حينئذ أمرد، فكيف بك اليوم وقد علا سنك، وقد جربت الأمور، فإذا كنت قد سدتهم في أول أوان البلوغ فالآن أنت بالسيادة أولى.
فكم وكم نعمةٍ مجللةٍ ... ربيتها كان منك مولدها

يجوز في نعمةٍ الفتح على الاستفهام، والجر على الخبر، وهو أجود؛ لأنها أدل على الكثرة، ومجللةٍ: بفتح اللام على معنى مبهمة ومعظمة، أو محكوم لها بالجلال، وبكسرها على معنى أنها تنسب إلى الجلال والتعظيم فهي مجللة.
يقول: وكم من نعمة عظيمة ابتدأت بها، ثم أتبعت مثلها، وجعل ابتداءها: ولادةً. وإدامتها: تربيةً.
وقد روى: ربيتها بضم التاء، والمعنى على هذا: أني شكرتها فاستوجب لها المزيد، فكنت كالمربي لها.
وكم وكم حاجةٍ سمحت بها ... أقرب مني إلي موعدها
الموعد: وقت الوعد، لإنجاز الحاجة.
يقول: كم حاجةٍ وبغيةٍ جاد الممدوح بها وقضاها لي، وكان موعدها في الإنجاز أقرب من نفسي إلى نفسي، يريد بذلك أنه يبتدىء بالعطاء من غير تقديم وعدٍ؛ لأن قربه على هذا الحد كناية عن فقد الوعد.
أو يريد طريقة الصوفية؛ كأنه فضل نفسه، أي أن وقت حضور موعده أقرب إلي من نفسي إلى نفسي، والأول أولى. وروى: أقرب شيء إلي موعدها وهو أظهر في المعنى والأول أبلغ وأفصح.
ومكرماتٍ مشت على قدم البر ... ر إلى منزلي ترددها
المكرمات: جمع مكرمة، وأراد بها الخلع، والهدايا، والمشي استعارة هاهنا. قد جعل للبر قدماً يمشي بها.
يقول: كم من مرة رددتها إلى منزلي ماشيةً على قدم برك وإحسانك. وقيل: دل بقوله: على قدم البر على أن الخاطئين كانوا له من جملة الهدايا، وفي خير العطايا، كأنهم كانوا غلماناً وجواري أهداهم إليه.
وروى: ترددها، وترددها فالأول خبر، والثاني مصدر، والمعنى واحد.
أقر جلدي بها علي فلا ... أقدر حتى الممات أجحدها
يقول: أقر جلدي بها علي لكثرتها وظهور أثرها على بشرتي ونضارة وجهي بها، وحسن حالي بسببها، فلست أقدر ما عشت أن أجحدها؛ لأني إذا جحدتها شهدت علي؛ وهو مأخوذ من قوله تعالى: " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " ومثله قول الشاعر:
إذا ما جحدنا جوده ظل شاهداً ... جوارحنا مهما أقمنا على الجحد
ويحتمل أنها كانت من جملة الملبوس؛ فلهذا خص الجلد بذكره ونزل أجحدها منزلة المصدر، وتقديره فلا أقدر على جحودها، ويجوز أن يكون الأصل أن أجحدها غير أنه حذف أن فوقع الفعل بعده كقوله فيما تقدم: قبيل أفقدها.
فعد بها لا عدمتها أبداً ... خير صلات الكريم أعودها
عد بها: أي أعدها لا عدمتها: دعاء، لإبقاء مكرماته، وهو حسنٌ مليح، وأعودها: أدومها عادة.
يقول: قد عودتني مكرماتك، فأعدها لا عدمتها مدى الدهر، فإن خير الجوائز ما تدام عادتها، وتعاد، وقوله: لا عدمتها أبداً: وإن كان دعاء للنعم بالبقاء، فهو يتضمن الدعاء للمدوح بدوام القدرة على الإحسان، وقوله: خير صلات الكريم أعودها. مثلٌ له.
وقيل له وهو في المكتب: ما أحسن هذه الوفرة؟! فقال ارتجالاً:
لا تحسن الشعرة حتى ترى ... منشورة الضفرين يوم القتال
أراد بالشعرة هاهنا: جملة الشعر الذي كان على رأسه، ولم يرد الشعرة الواحدة. وروى مكانها الوفرة، والضفرين: الضفيرتان. وهما من ضفرت السير أي فتلته.
يقول: لا تحسن هذه الوفرة حتى تنشر يوم القتال؛ لأن من عادة العرب أنهم يكشفون عند الحرب رءوسهم وينشرون شعورهم، وهو يظهر من نفسه حب الحرب؛ تنبيهاً على شجاعته.
على فتى معتقل صعدةً ... يعلها من كل وافي السبال
الاعتقال: أن يضع الفارس رمحه بين ركابه وساقه، ويمسكه بفخذه. والصعدة: القناة المستوية، وقيل: هي ما صغر من الرمح، ويعلها: يسقيها من العلل وهي الشربة الثانية، والهاء في يعلها للصعدة.
يقول: لا تحسن شعرتي هذه حتى تراها منشورة يوم القتال، على فتىً، وهو يعني به نفسه. وقد اعتقل رمحه، يسقيه من دم وافي السبال.
فكأنه يقول: إنما تحسن الوفرة على من لا سبال له، وهو أمرد؛ يقاوم الملتحي عند المقاتلة، لأن السبال لا يكون وافياً إلا إذا كان تام اللحية. ينبه بذلك على فضل قوته وشجاعته.
وقيل: إن وافي السبال كناية عن الشجاع. لأن أهل الحرب كانوا لا يحفون شواربهم حتى يكون أهيب لهم عند القتال.
وقيل: إنه تعريض بالمتعجب من الشعرة. وكان من أصحاب اللحية الضخمة.
يقول: لا تحسن الشعرة حتى تكون علي وقد اعتقلت رمحي أسقيه من دم كل علج طويل اللحية، وافي السبال مثلك أيها المتعجب من وفرتي.

هذه، وروى أنه قال: ربما أنشدت على فتىً في يد صعدة ويقال عل يعل ويعل بالكسر لغة قيس، والضم لغة تميم.
وقال أيضاً في صباه:
محبي قيامي ما لذلكم النصل ... برياً من الجرحى سليماً من القتل
تقديره: يا محبي قيامي. وهو نداء مضاف، خطاب للجماعة. ودل عليه قوله: ذلكم. والقيام بمعنى الإقامة والمقام، وقد روى أيضاً محبي مقامي. كأنه يخاطب أهله وعياله.
ويقول: يا من يحب إقامتي وتركي الأسفار والمطالب. كيف أفعل ما تحبون: من إقامتي معكم، ولم أجرح بنصلي أعدائي؟! وأورد ذلك مورد الإنكار على أهله حين أشاروا عليه بالقيام عندهم.
وقيل: إنهم استنصروه وسألوه الوقوف معهم فقال: يا من يحب مقاتلتي العدو معهم: ما لنصولكم متنحية عن هرج أعدائكم، غير منكسرة من كثرة القتل! فإن م حق المستنجد أن يتسم أولاً للحرب، ويبلى جهده، ثم يستنصر غيره: فأما أن ينتحي ويغري غيره على الحرب فليس من حقه! ويحتمل أن يكون القيام من قولهم: قام بالأمر إذا تولاه وسعى فيه.
والمعنى: يا من يحب قيامي بأموره وترك فراقه، ما لذلكم النصل لم أجرح به ولم أقتل؟ فكأنه يقول: لا أختار القيام بأمورك على حال أن ذلك النصل لم يؤثر في الأعداء جرحاً وقتلاً، يعني أن أعمال النصب أحب إلي من القيام عليك. ونصب برياً وسليماً على الحال من النصل.
أرى من فرندى قطعةً في فرنده ... وجودةُ ضرب الهمام في جودة الصقل
فرند السيف: جوهره. بالغ في وصف نفسه بالمضاء والشجاعة وفضل نفسه على السيف حيث جعل فرند السيف قطعة من فرنده وبعضاً منه! ثم قال: وجودة ضرب الهمام في جودة الصقل، وظاهر معناه: أن السيف إذا كان صقيلاً جيد الصقال كان ذلك سبباً لجودة ضرب الهمام؛ وهذا مما لا يستمر، لأن جودة الصقل قد توجد، ولا يكون متضمناً لجودة الضرب، وذلك إذا لم يكن للسيف جوهر كريم، غير أنه أثبت أولاً للسيف جوهراً كريماً ثم أخبر عن صقاله.
فكأنه يقول: كيف أترك النهوض وأقعد عن محاربة أعدائي؟! ولي جوهر في المضاء والشجاعة، وللحرب آلة موفورة، وهو السيف الذي فيه الجوهر الكريم والصقل الجيد.
وخضرة ثوب العيش في الخضرة التي ... أرتك احمرار الموت في مدرج النمل
أراد بالخضرة الأولى: الرفاهية: في العيش، فجعل للعيش ثوباً أخضر، كناية عن طيب العيش لأن الخضرة أشهى إلى النفوس، لميلها إليها دون سائر الألوان، وقال في بيت آخر:
والعيش أخضر والأطلال مشرقة
وأراد بالخضرة الثانية: لون السيف، وكأنه وضعها في موضع الزرقة للتجنيس. واحمرار الموت: كناية عن احمرار الدم على السيف عند الضرب، وقد كثر حتى وصف به الشدة، يقال: موت أحمر، ومدرج النمل: ممره، وأراد به ما يرى في متن السيف من جوهر كأنه ممر النمل.
يقول: أرى خصب العيش وطيبة النفس في السيف الكريم الجوهر، الجيد الصقل، وهو المعبر عنه بالخضرة التي أرتك شدة الموت في مدرج النمل، وقصد به المبالغة في تصويب رأيه فيما اختار من النهوض وقصد محاربة الأعداء وقتلهم وجرحهم.
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه ... فما أحدٌ فوقي ولا أحدٌ مثلي
أمط: أي أبعد.
وقد أكثر الناس في هذا البيت: من حيث أن ما ليست من أدوات التشبيه.
فقال ابن جنى: إن المتنبي كان يجيب إذا سئل عن هذا البيت بأن يقول: تفسيره أنه كان كثيراً ما يشبه فيقال: كأنه الأسد، وكأنه البحر، ونحو ذلك. فقال هو معرضاً عن هذا القول: أمط عنك تشبيهي بما وكأن، فجاء بحرف التشبيه وهو كأن وبلفظ ما التي كانت سؤالاً فأجيب عنها بكأن التي للتشبيه وأدخل ما للتشبيه لأن جوابها يتضمن التشبيه، فذكر السبب والمسبب جميعاً.
قال: وقد نقل أهل اللغة مثل هذا فقالوا: الهمزة والألف في حمراء هما علامتا التأنيث، وإنما العلامة في الحقيقة الهمزة.
وقال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني: إن المتنبي سئل فذكر: أن ما تأتي لتحقيق التشبيه كقول عبد الله الأسد: ما عبد الله إلا الأسد، وإلا كالأسد تنفي أن يشبه بغيره، فكأن قائلاً قال: ما هو إلا كذا، وآخر قال: كأنه كذا، فقال أمط عنك تشبيهي بما وكأنه. وما في التحقيق للنفي في هذا الموضع، ولكنها تضمنت نفي الأشباه سوى المستثنى منها فمن هذا الوجه نسب التشبيه إلى ما وكأن، إذا كان له هذا الأثر.

وذرني وإياه وطرفي وذابلي ... نكن واحداً نلق الورى وانظرن فعلي
الهاء في إياه: للنصل. والطرف: الفرس الكريم.
يخاطب من يشبهه بشيء فيقول: دعني مع فرسي وسيفي المذكور، ورمحي، حتى نصير مثل الشيء الواحد في التعاون، نلقي الخلق طراً، ثم انظر فعلي عند ذلك حتى تعلم ما يمكنك أن تشبهني أم لا؟ وأشهر الروايتين يلقى حملاً على الواحد وروى: نلقى اتباعاً لقوله: نكن حملاً على المعنى.
وقال وهو في المكتب يمدح إنساناً وأراد أن يستكشفه عن مذهبه:
كفي أراني، ويك، لومك ألوما ... همٌّ أقام على فؤادٍ أنجما
الخطاب للعاذلة، وويك: قريبة من ويحك، وأنجم: أقلع.
وقال ابن جبي: تقدير البيت: كفي ويك، أراني هم أقام على فؤادٍ أنجما، لومك ألوم.
ويكون أراني على هذا منقولاً من رأيت بمعنى: علمت، فيتعدى إلى المفعولين، وإذا عديته بالهمزة تعدى إلى ثلاثة مفاعيل، والفاعل ها هنا هم والمفعول الأول الياء في أراني والثاني لومك والثالث ألوما.
ويكون المعنى: إن الهم الموصوف أعلمني أن لومك إياي أولى بأن يلام، فعلى هذا يكون المصراع الأول متعلقاً بالثاني.
وقال غيره: إن أراني مضارع رأيت بمعنى علمت، فيكون المراد: أرى نفسي، لأن أفعال اشك واليقين يجوز فيها مثل ذلك، ويكون لومك مفعول كفى وألوم المفعول الثاني، من أراني، والمفعول الأول هو الياء.
والمعنى: كفي ويك لومك فإني أراني ألوم منك، أي أكثر لوماً منك، وأحق بأن يلومك على لومك إياي؛ وعلى هذا، المصراع يكون مستقلاً بنفسه، ثم ابتدأ في المصراع الثاني يشكو داءه، وقوله: على فؤادٍ أنجما. أي خارج خلف الأحباب منقلع من أصله كإقلاع السحاب فيكون همٌّ مرفوعاً، لأنه خبر ابتداء محذوف، وتقديره: حالي همٌّ هذه صفته، أو يكون مبتدأ وخبره محذوف تقديره: همٌّ هذه صفته شكواي وألوم على المعنى الأول في معنى الملوم، أي أحق بأن يكون ملوماً فيكون في أفعل مبالغة في المفعول مثل أشغل من ذوات الحنين مبالغة في المشغول، وعلى الثاني بمعنى اللائم أي أقدر على أن يكون لائماً فيكون أفعل المبالغة في الفاعل، وروى: أثجما بالثاء أي أقام وهذا أولى، لأنه يفيد أن الفوائد لم يقلع بالملام عن الهوى.
وخيال جسمٍ لم يخل له الهوى ... لحماً فينحله السقام ولا دما
خيال عطف على هم شبه جسمه بالخيال الذي لا حقيقة له لدقته، وأخبر أن الهوى لم يترك له لحماً ولا دماً يكون للسقام فيه تأثير، وينحله: أي يعطيه من النحلة، وقيل: هذا أولى؛ لأن النحول لا يكون في الدم.
وحقوق قلبٍ لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لظننت فيه جهنما
وحقوق عطف على خيال وهو الضعف والاضطراب، ورأيت خطاب للمحبوبة دون العاذلة؛ بدلالة قوله: يا جنتي وهو حشوٌ حسنٌ؛ والغرض: المطابقة بين الجنة وجنهم.
يقول: لي اضطراب قلبٍ لو رأيت لهيبه يا جنتي لظننت فيه ألهاب جهنم؛ شبهها بالجنة لحسنها ومافيها من الراحة عند وصلها.
وإذا سحابة صد حبٍ أبرقت ... تركت حلاوة كل حبٍّ علقما
الحب: المحبوب والعلقم: شجر ذو ثمر مرٍّ.
يقول: إذا ظهرت دلائل هج الحبيب، تركت حلاوة كل حب مرارةً، فجعل علامة الصدود سحابة، لأنها علامة الهجر، كما أن السحابة علامة المطر.
يا وجه داهية الذي لولاك ما ... أكل الضنا جسدي ورض الأعظما
الضنا: طول المرض، وقيل: داهية، ولهذا لم ينونها كما لا ينون الأسماء الأعلام عند التأنيث كفاطمة، وقيل: إنها كناية عنها وليس باسم لها، وإنما لم ينونها لأنه أقامها مقام اسمها من ترك التنوين كما تقول: رأيت فلانة فلا تنون.
يقول: يا وجه الحبيبة التي هي كالداهية: وهي الأمر العظيم، لولاك ما أكل المرض جسمي وما كسر عظمي، يدل به على أن هواها قد أمرضه مرضاً أثر في جسمه وعظامه!
إن كان أغناها السلو فإنني ... أمسيت من كبدي ومنها معدما
روى منها رداً إلى المحبوبة، ومنه رداً إلى السلو، وروى: معدما ومصرما.
يقول: إن كان أغنى هذه المرأة عني خلو قلبها عن محبتي، فإني أمسيت فقيراً منها ومن كبدي؛ لأنها قد صحبتها وفارقتني إليها فعدمتها، وعدمت الصبر الذي كان في قلبي وكبدي، ولأن الكبد تلفت في محبتها.
غصنٌ على نقوى فلاةٍ نابتٌ ... شمس النهار تقل ليلاً مظلماً

يجوز في غصنٌ أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، وتقديره: حبيبتي، غصن هذه صفته، وهكذا التقدير في شمس النهار، وأراد بالغصن: قدها، والنقوى: تثنية النقا: وهو الكثيب من الرمل، وعني بهما ردفيها، وبشمس النهار: وجهها، وتقل: تحمل، والليل المظلم: شعرها.
لم تجمع الأضداد في متشابهٍ ... إلا لتجعلني لغرمي مغنما
أراد بالأضداد ما تقدم في البيت المتقدم من دقة وسطها، وثقل ردفيها، وبياض وجهها، وسواد شعرها، في متشابه أي بدن متشابه، أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن، وليس بعضها أحسن من بعض، والغرم: ضد الغنم وأصله اللزوم.
يقول: إنها لم تجمع هذه الأضداد في بدن متشابه في الحسن، إلا لتجعلني لغرمي: أي لعشقي إياها غنيمة، فتجمع علي هذين الضدين أيضاً، وهما: المغرم والمغنم، وروى: لم تجمع الأضداد لأنها لم تجعل ذلك، فبنى على ما لم يسم فاعله.
كصفات أوحدنا أبي الفضل التي ... بهرت فأنطق واصفيه وأفحما
أي صفات هذه المرأة في اشتمالها على هذه الأضداد، كصفات هذا الممدوح المشتملة على أمرين ضدين: أحدهما: أنها أنطقت الواصفين بذكرها.
والثاني: أنها أفحمت الواصفين دون إدراك غاياتها، وروى المتنبي: أنطقهم بجزيل العطاء، وأفحمهم بالقصور عن المدح والثناء. فعلى هذا نصب واصفيه، بأنطق، وقيل: تقديره كصفات أبي الفضل التي بهرت واصفيه. فأنطق: هو وأفحم.
يعطيك مبتدئاً فإن أعجلته ... أعطاك معتذراً كمن قد أجرما
يقول: يعطيك مبتدئاً بالعطاء قبل السؤال، فإن استعجلته العطاء، أعطاك معتذراً، كمن قد أذنب.
ويرى التعظم أن يرى متواضعاً ... ويرى التواضع أن يرى متعظما
المعنى: أنه يرى بلوغ عظمته في التواضع للناس، ويرى التذلل في حال رؤية الناس إياها متعظماً.
نصر الفعال على المطال كأنما ... خال السؤال على النوال محرما
الفعال بفتح الفاء: الفعل الجميل.
يقول: ينصر الفعل الجميل على المطال ويجعل له الغلبة، حتى كأنه ظن السؤال محرماً، وروى: على المقال وهو: إما السؤال، وإما وعد الممدوح بالعطاء، فكأنه يقول: يقدم العطاء على السؤال وعلى الوعد.
يا أيها الملك المصفى جوهراً ... من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
يقول: يا أيها الملك المصفى، يا أسمى، وأراد ذات الله تعالى: الذي هو ذو الملكوت، وهذا ظاهره يوهم الكفر ويقال: إن هذا الممدوح كان نصرانياً فأظهر الإسلام وهو متهم بالتنصر، فأراد أن يستكشفه عن مذهبه فأورد عبارات النصارى على وجه الانتحال، وغرضه استكشاف حاله ووصف منهجه، فعلى هذا لا يلزم الكفر، ويجوز أن يحمل على أن المراد بالذات: الصنع، فكأنه قال: يأيها الملك المصفى جوهراً من صنع ذي الملكوت، وأراد بذلك تعظيمه وتفضيله. وقوله: أسمى من سما يجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ابتداء محذوف، فكأنه يقول أنت أعلى من علا، ويجوز أن يكون في الجر صفة لذات ذي الملكوت، أو الذات أو الملكوت، أي أنه أعلى من كل علاً في الأرض.
وروى عنه أنه قال: نعوذ بالله تعالى من الكفر، إنما قلت جوهراً وبينهما تضمين يزيل الظن.
نورٌ تظاهر فيك لاهوتيةً ... فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
تظاهر: أي تولى. ولاهوتيةً: نصب على المصدر كما يقال: إلهية وروى لاهوتيه ويكون رفعاً لأنه فاعل تظاهر، وهذا، إذا حمل على ظاهره فلا يسلم من الكفر، فيحمل حينئذٍ على أنه أراد به أن النور الذي تفرد به هذا الممدوح نور إلهي. كما يقال: أمر سماوي وإلهي فيكاد يعلم ما لم يعلم من أجل هذا النور، فكأنه يقول: إنك مؤيد بنور، لأجله تقرب من أن تعلم ما لا يعلمه أحدٌ من الأمور.
ويهم فيك إذا نطقت فصاحةً ... من كل عضو منك أن يتكلما
يقول: يهم كل عضو منك إذا تكلمت لفرط فصاحتك.
أنا مبصرٌ وأظن أني نائمٌ ... من كان يحلم بالإله فأحلما
يقول: أنا مبصرٌ بعيني وأظنني نائماً، من استعظام ما رأيت من هذا الرجل من العظائم والأمور العجائب!! ثم قال: من كان يحلم بالإله فأحلم أنا أيضاً! أي أنه لا يمكن أن يرى في المنام لأنه لا يشبهه شيء فشبه هذا الممدوح بما لا يجوز التشبيه به فقال: لا أدرك كنه وصفك، كما لا يدرك حقيقة ذات الباري تعالى. وهذا إفراط منكر قريب من الكفر.

وقيل: إن في الكلام حذفاً، كأنه قال: من كان يحلم بصنع الله تعالى فأحلم أنا، فكأنه يقول: من كان يحلم بصنع الله تعالى وينسب نفسه إلى النوم دون اليقظة عند عظمته حتىأقول: أنا إنما أرى ذلك في المنام.
كبر العيان علي حتى إنه ... صار اليقين من العيان توهما
يقول: تأكيداً للبيت الأول قبله: كبرت المعاينة علي بخروجه عن العادة حتى صار اليقين المعاين متوهماً.
يا من لجود يديه في أمواله ... نقمٌ تعود على اليتامى أنعما
يقول: يا من يصب على أمواله نقماً بتفريقها والاستهانة بها، وتعود تلك النقم على اليتامى نعماً وافرة.
حتى يقول الناس: ماذا عاقلاً! ... ويقول بيت المال: ماذا مسلماً
يقول: يا من هو في السخاء يصفه بقول الناس: إنه ليس بعاقل؛ حيث يفقر نفسه، ويقول بيت المال: إنه ليس بمسلم؛ لأنه لا يرد إليه شيئاً من المال ويبقيه، وحكم الإسلام يقتضي حفظ بيت المال.
وروى عنه: ماذا غافلاً يعني عن كسب المكارم في الدنيا والثواب في الآخرة، ونصب غافلاً ومسلماً لأنهما خبر ما.
إذكار مثلك ترك إذكاري له ... إذ لا تريد لما أريد مترجماً
يقول: إذكار مثلك ترك الإذكار، لأنك عارف بما في قلبي، غير محتاج إلى التنبيه لعلمك به، وهذا مثل قول أبي تمام:
وإذا الجود كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي
وقال في أيام الصبا في الحماسة:
إلى أي حينٍ أنت في زي محرم؟ ... وحتى متى في شقوة وإلى كم؟!
يخاطب نفسه ويلومها فيقول: إلى أي وقتٍ أنت في زي الإحرام؟، فكأنه يقول: إلى أي وقت تكون عارياً؟ قاعداً عن القتال؟ ومنازلة الرجال؟ وحتى متى تعيش في الشقاء؟ ولا تطلب العز والثناء؟ وروى في غفلة وروى في زي مجرم بالجيم. يعني: إلى متى تعيش ذليلاً كالمتهم المذنب. والمعنى جيد.
وإلا تمت تحت السيوف مكرماً ... تمت وتقاسي الذل غير مكرم
يقول: إن لم تمت تحت السيوف في الحرب مكرماً، تمت مقاسياً للمذلة ساقط الرتبة حتف أنفك، والأصل فيه قولهم: موتٌ في عزٍّ خيرٌ من حياةٍ في ذل ويجوز تقاس بحذف الياء للجزم عطفاً على جواب الشرط، وهو قوله تمت ويجوز بالياء فيكون في موضع نصب على الحال: إن تمت مقاسياً للذل.
فثب واثقاً بالله وثبة ماجدٍ ... يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم
الهيجا: بالمد والقصر: الحرب. وجنى النحل: العسل المجتنى من النحل، والماجد: الشريف.
يقول ثب إلى طلب المعالي واثقاً بالله تعالى، وثبة رجل ماجدٍ؛ يرى للموت في الحرب حلاوة كالعسل في الفم كما قال الآخر:
الموت أحلى عندنا من العسل

الشاميات
وقال في صباه يمدح سعيد بن عبد الله بن الحسين الكلابي:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا
في أحيا تقديران: أحدهما، أنه أفعل تفضيل من الحياة، وتقديره إني أكثر حياة مع أن أيسر ما قاسيت، ما قتل غيري ومع أن البين أيضاً جار على ضعفي وما عدل. والثاني، أنه فعل مضارع من الحياة ثم فيه تقديران: أحدهما، الخبر، والآخر الاستفهام. فأما الخبر فتقديره كأن يقول على وجه التعجب: إني أحيا، وأيسر ما لقيته في محبة هذه المرأة ما قتل غيري! وقد أضيف إليه فراق الحبيب الذي جار علي مع ضعفي، ومع ذلك فإني مقيم باقٍ! وهذا موضع التعجب! ولعله كان به ضعف، وأما الاستفهام فتقديره أأحيا؟! وأيسر شيء قاسيته في حبها هو الذي يقتل!
والوجد يقوى كما تقوى النوى أبداً ... والصبر ينحل في جسمي كما نحلا
يقول على وجه التعجب أيضاً: إني باقٍ! مع اجتماع هذه الأمور القاتلة، وهي: ازدياد الحزن بازدياد البعد، ونقصان الصبر، ونحوله، كما أن الجسم يضعف وينحل.
يصف ازداد البعد ونحول الجسم والصبر بعد البعد.
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
الهاء في لها: للمنايا، أو للمفارقة.
كأنه يقول: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت المنايا لأنفسها وللمفارقة طرقاً تصل إلى أرواحنا. وهو كقول أبي تمام الطائي:
لو حار مرتاد المنية لم يجد ... إلا الفراق على النفوس دليلا
بما بجفنيك من سحرٍ صل دنفاً ... يهوى الحياة، فأما إن صددت فلا
بما بجفنيك: قسم.

يقول: بحق ما بجفنيك من سحرٍ، صلى من تناهى في المرض؛ حزناً على البعد منك؛ فإنه إنما يهوى الحياة إن واصلت، وإن لم تصلى فلا يهوى الحياة. فلا هنا جواب إن كقوله تعالى: " وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلامٌ لك " وروى: بما بجفنيك من سقمٍ وقوله: يهوى الحياة في موضع نصب صفة لدنف.
إلا يشب فلقد شابت له كبدٌ ... شيباً إذا خضبته سلوةٌ نصلا
قوله إلا يشب: فاعل يشب ضمير الدنف الذي ذكره في البيت قبله.
يقول: إلا يشب الشعر فقد شابت الكبد، شيباً أعظم من شيب الرأس؛ من حيث أن شيب الشعر يقبل الخضاب، وشيب الكبد لا يقبله فكلما خضبته السلوة نصل الخضاب في الحال، وشيب الكبد لا يقبله، كناية عن ضعفها. ومثله لأبي تمام قوله:
شاب رأسي وما رأيت مشيب الرأ ... س إلا من فضل شيب الفؤاد
وزاد المتنبي عليه بذكر الخضاب، والنصول، قيل إنها تصفر وقيل إنها تبيض عندما تصيبها الآفة كما قال الحكمي:
يا دعد قد أصبحت مبيضةً كبدي ... فاصبغي بياضاً بعصفر العنب
إلا أن لفظة المشيب لا تطلق على كل البياض.
يحن شوقاً فلولا أن رائحةً ... تزوره في رياح الشرق ما عقلا
يقول: إن هذا المحب يحن شوقاً إلى محبوبته، فلولا أن رائحةً من رياح الشرق تأتيه لما عقل؛ كأن المحبوبة كانت في جانب الشرق. وروى: زياد الشوق والأول أكثر. وروى: يجن أي يظهر الجنون؛ وهذا أولى بالمطابقة.
ها فانظري أو فظني بي ترى حرقاً ... من لم يذق طرفاً منها فقد وألا
ها: تنبيه المخاطب لما بعده.
يقول: لمحبوبته: انظري إلي لتدري ما بي من الحزن، فإن لم تريني أهلاً للنظر فظني بي ترى حرقاً من لم يذق بعضاً منها فقد وأل: أي نجا من البلاء، من وأل يئل إذا نجا.
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا
عل: بمعنى لعل، يقول: لعل الأمير الذي هو الممدوح إذا رأى ذلي يتشفع لي، إلى المرأة التي تركتني في الهوى مثلاً مضروباً كسائر العشاق من العرب؛ ووجه تشفعه إليها أن يصل جناحه بما يصل به إلى المراد بها، ويحظى عندها لمكانه منها. وهذا مأخوذ من قول أبي نواس.
سأشكو إلى الفضل بن يحى بن خالد ... هناها لعل الفضل يجمع بيننا
أيقنت أن سعيداً طالبٌ بدمي ... لما بصرت به بالرمح معتقلا
يقول: لما رأيت الممدوح وهو سعيد معتقلا برمحه على هيئة المحاربين، تحققت أنه يطلب بدمي من هذه المرأة القاتلة لي، على سبيل القتل والقصاص منها، لأن قتل النساء نقص، ولكن من حيث أن عادته اغتنام الأموال في الحرب، لأن ذلك كسب الشجعان، وإن المال الذي يغتنمه يجعل له حظاً منه ليصل إلى مراده منها، وانتقل الرجاء الذي في البيت الأول إلى اليقين، من حيث أنه قد رآه تأهب للحرب، لأنه إذا حارب يظفر بالأعداء وينهب الأموال، وإذا نهبها فرقها، لأن خلاف ذلك من البخل.
وقد قيل: إن هذا البيت منقطع عما قبله كأنه يقول: لما رأيته كذلك أيقنت أنه ينتقم من أعدائي.
وأنني غير محص فضل والده ... ونائلٌ دون نيلي وصفه زحلا
قوله نائل: اسم فاعل، من نال الشيء يناله. ومفعوله: زحل ونيلي: مصدر مضاف إلى فاعله، وهو ضمير المتكلم، ومفعوله: وصفه.
يقول: إني لا أحصي فضل والده، فجمع بين مدحه ومدح والده. يقول: وإني نائل زحلاً قبل أن أنال وصف والده. وروى فضل نائله فيكون مدحاً له.
قيلٌ بمنبج مثواه ونائله ... في الأفق يسأل عمن غيره سألا
القيل: الملك من ملوك حمير. ومنبج: بلد بالشام.
يقول: إن الممدوح ملكٌ، مقامه بمنبج. وعطاؤه في أفق الدنيا؛ يستخبر عمن يطلب من غيره العطاء، حتى يدل عليه بالسؤال الأول، وهو الاستخبار، والثاني: الذي هو سأل السؤال الذي هو طلب العطاء وهو كقول أبي تمام:
فأضحت عطاياه نوازع شردا ... تسائل في الآفاق عن كل سائل
يلوح بدر الدجى في صحن غرته ... ويحمل الموت في الهيجاء إن حملا
روى: الهيجاء بالمد فتكون حينئذ في الهيجاء إن حملا. وروى: مقصوراً، فعلى هذا يكون في الهيجا إذا حملا.
يقول: إن الممدوح موصوف بخصلتين: إحداهما: الحسن وهو قوله:
يلوح بدر الدجى في صحن غربته

والثانية: الشجاعة وذلك قوله: ويحمل الموت في الهيجاء إن حملا يعني أن الموت ناصره ومعه.
ترابه في كلابٍ كحل أعينها ... وسيفه في جنابٍ يسبق العذلا
كلابٌ، وجناب: قبيلتان. وقيل: إن بينه وبينهما معاداة.
والمعنى على هذا: إن الممدوح يهجم بخيله على بني كلاب ويوقع بهم، فغبار خيله في عيونهم بمنزلة الكحل، وكذلك سيفه في جناب، يسبق عذل العاذل. يعني: إذا ظفر بعدوه قتله، ولا يبالي بلوم اللائم. وقد نظمه من مثل سائر وهو سبق السيف العذل وأول من قاله ضبة بن أد إذ ظفر بقاتل ابنه في الشهر الحرام فقتله! فلما ليم عليه قال هذا القول.
وقيل: إن بني كلاب كانوا أولياءه. فيكون المعنى: إنهم لحبهم له يتخذون تراب قدمه كحلاً لأعينهم، ويتبركون به.
لنوره في سماء المجد مخترقٌ ... لو صاعد الفكر فيه الدهر ما نزلا
مخترق: يجوز أن يكون مصدراً، ويجوز أن يكون اسماً لموضع الاختراق.
يقول: إن للمدوح فخر إلى السماء وذلك مثلٌ لعلو فخره، وإن له نوراً، منفذه في سماء فخره، بحيث لو صاعده الفكر وغالبه في الصعود في ذلك المنفذ، لم يكن له نزول أبداً، من حيث أنه ليس له نهاية، حتى يبلغها، ثم ينزل عنها، وقد روى: محترق بالحاء المهملة، والأولى الأول.
هو الهمام الذي بادت تميم به ... قدماً وساق إليها حينها الأجلا
وروى: هو الأمير، ولم يصرف تميم للتعريف، والتأنيث للقبيلة.
يقول: هو الأمير الذي هلكت به تميم منذ قديم الزمان، وساق به إليها هلاكها الأجل، أي لما عادوه أوقع بهم وأهلكهم.
لما رأته وخيل النصر مقبلةٌ ... والحرب غير عوانٍ أسلموا الحللا
الحرب العوان: التي تكررت بخلاف البكر. والحللا: جمع الحلة، وهم القوم الذين ينزلون في مكان واحد.
يقول: إن تميماً لما رأت هذا الممدوح، وخيل النصر مقبلةٌ، أسلموا جماعتهم وبلدتهم، ثم بين أن ذلك في أول الحرب، قبل أن تتكرر، ليدل ذلك على فضل خوفهم منه وأنهم انهزموا في أول الأمر.
وضاقت الأرض حتى كأن هاربهم ... إذا رأى غير شيءٍ ظنه رجلا
يقول: ضاقت الأرض عليهم لما هربوا منه، حتى أن هاربهم من شدة خوفه كان إذا رأى غير شيء لا يبالي به من صغره، ظنه رجلاً من أصحابه! وهذا المعنى، اشتقه من قول الله تعالى: " يحسبون كل صيحةٍ عليهم هم العدو " وهذا كقول جرير:
ما زلت تحسب كل شيءٍ بعدهم ... خيلاً تكر عليهم ورجالا
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت ... بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا
يقول: فبعد ذلك اليوم الذي قاتلتهم وهزمتهم، إلى هذا اليوم؛ لو ركضت تميم بخيولهم في لهوات الطفل وحنكه لما أثرت فيه تأثيراً يسعل الطفل منه؛ مع أنه يتأذى بأقل شيء، وذلك إشارة إلى قلتهم، وأنه لم يبق منهم بعد ذلك الحرب عناء، ولا قوم يمكنهم أن يضروا أدنى ضرر.
قال القارىء عليه قلت له: لم لا يسعل؟! قال: لحسن طاعته!
فقد تركت الألى لاقيتهم جزراً ... وقد قتلت الألى لم تلقهم وجلا
الألى: بمعنى الذين. وجزراً: أي مقطعين بالسيوف. وقوله: وجلا: مصدر واقع موقع الاسم. يعني: وجلين.
يقول: قد تركت الذين لقيتهم في الحرب قطعاً بالسيوف، وتركت الذين لم تلقهم وجلين خائفين منك.
كم مهمةٍ قذفٍ قلب الدليل به ... قلب المحب قضاني بعد ما مطلا
المهمة: الفلاة القذف: الواسع البعيد النواحي. والقضاء والمطل: نقيضان.
يقول: كم فلاةٍ بعيدة الأطراف، قلب الدليل فيها خافقٌ خوف الضلال، كخفقان قلب المحب؛ خوف الهجران؛ أدتني تلك الفلاة إلى أقصاها، بعد ما مطلتني مدة مديدة، وقضاؤها إياه: بلوغها به إلى أقصاها، ومطلها، مدة لبثه فيها.
عقدت بالنجم طرفي في مفاوزه ... وحر وجهي بحر الشمس إذ أفلا
الهاء في مفاوزه: للمهمه. وحر الوجه: الخد. والنجم، قيل: هو اسم للثريا خاصة؛ وقيل: اسم الجنس. وافل: فعل النجم.
يصف مواصلة سيره بالسرى ويقول: عقدت طرفي بالنجم ليلاً، وعقدت حر وجهي بحر الشمس، إذا غاب النجم؛ يمن بذلك عليه ليكون أعرف بحقه.
وروى عنه قال: عقدت بالنجم طرفي، خوف الضلال بالشمس لأني كنت مشرقاً.
أنكحت صم حصاها خف يعملة ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا

اليعملة: الناقة العمولة في سرعة المشي أي أسرعت وتغشمرت: تعسفت وأخذت قصداً وغير قصدٍ، والإنكاح هو: الجمع.
يقول: جمعت بين خف ناقتي وبين الحصا الصم التي كانت في الفلاة المذكورة، وعسفت بي السهل والجبل؛ حتى أوصلتني إليك.
لو كنت حشو قميصي فوق نمرقها ... سمعت للجن في غيطانها زجلا
النمرق: الوسادة التي يعتمد عليها الراكب. والزجل: الصوت. وحشو قميصي: أي وسطه.
يقول: لو كنت أيها الممدوح مكاني فوق رحل هذه الناقة، لسمعت صوت الجن في غيطان هذه المفاوز!
حتى وصلت بنفسٍ مات أكثرها ... وليتني عشت منها بالذي فضلا
يقول: كنت على الحال الموصوفة، حتى وصلت إليك بنفس مات أكثرها تعباً وخوفاً، ولم يبق منها إلا فضلٌ أخشى عليه، لأني وقيت ما مر بي ولا آمن أن يكون عاقبته الهلاك. وغرضه بهذه الأبيات الامتنان عليه بما ناله من ذلك.
أرجو نداك ولا أخشى المطال به ... يا من إذا وهب الدنيا فقد بخلا
قوله: أرجو: أي راجياً، في موضع نصب لأنه في موضع الحال.
يقول: جبت هذه المفاوز إليك ثقة بك، إنك لا تمطل بوعدك، وإنك تجزل العطاء؛ لأنك إذا وهبت الدنيا تستقلها فكأنك قد بخلت.
وقال أيضاً في صباه في الحماسة والفخر:
كم قتيلٍ كما قتلت شهيدٍ ... ببياض الطلى وورد الخدود
الطلى: الأعناق، واحدها طلية. وتقدير البيت: كم قتيلٍ شهيدٍ ببياض الطلى وورد الخدود؛ كما قتلت أنا؛ يعتذر في قتل الهوى إياه. ويقول: لست بأول قتيل الهوى فكم من قتيلٍ شهيد! قتل ببياض الأعناق وحمرة الخدود! وجعل القتل بسبب الهوى شهادة أخذه من الحديث من عشق وعف مات وهو شهيد.
وعيون المها ولا كعيونٍ ... فتكت بالمتيم المعمود
المها: بقر الوحش، واحدتها مهاة. والفتك: القتل غيلة. والمتيم: الذي استعبده الحب. والمعمود الذي أصيب عمود قلبه وهو وسطه بالحب. وجر عيوناً: عطفاً على ورد الخدود.
يقول: كم قتيلٍ ببياض الطلى، وورد الخدود. وعيون المها: وهي بقر الوحش من حسنها، وملاحتها ولا كعيون النساء التي أصابتني وقتلتني غيلة، بل هذه أحسن منها، فضل هذه العيون على عيون المها. وقيل: أراد بالمها: الحسان العيون من النساء. ثم فضل العيون التي قتلته على تلك العيون.
در در الصبا أيام تجري ... ر ذيولي بدار أثلة عودي
الدر في أصل اللغة: اللبن. ثم استعمل في كل خير.
كأنه يقول على وجه الدعاء: كثر خير الصبا. ثم نادى فقال: أأيام تجريري والهمزة الأولى حرف النداء، والرواية تجريري بدار أثلة موصلة الألف بالراء كقوله تعالى: عاداً الأولى، وروى بدار الأثلة عودي قيل: الأثلة. مكان بالكوفة، وقيل: بالشام. وقيل: إن أثلة بغير ألف ولام، وروى قتلة وهي اسم امرأة. وعودي: أمر من العود، وهو: خطاب للأيام.
يقول مخاطباً لأيامه التي مضت مستعيداً لها: يا أيام بطالتي حين كنت أسحب ذيلي بهذا المكان، عودي إلي وارجعي فإني مشتاق إليك.
عمرك الله هل رأيت بدوراً ... قبلها في براقعٍ وعقود
أصله: تعميرك الله، وهو مصدر من عمرك الله تعميراً، إلا أنه حذف ما كان زائداً، ورده إلى تركيب الكلمة. فقال: عمرك الله فكأنه قال: سألت الله تعميرك. أيها الصاحب، هل رأيت بدوراً مثل هؤلاء النساء اللواتي هن بدوراً في الحسن والبهاء في براقع وعقود؟! لأن البراقع والعقود من آلة النساء، ولم تعد في البدور.
رامياتٍ بأسهم ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
رامياتٍ: في موضع نصب صفة لبدور.
يقول لصاحبه: هل رأيت بدوراً ترمى بسهام؟! قدودها الهدب، وهي تشق القلوب قبل الجلود! بخلاف سائر السهام التي تصيب الجلود قبل القلوب. وعني بالسهام: العيون. وهو مأخوذ من قول كثير:
رمتني بسهم ريشه الهدب لم يصب ... ظواهر جلدي وهو في القلب جارح
يترشفن من فمي رشفاتٍ ... هن فيه أحلى من التوحيد

يقول: إن هذه النسوة يمصصن من فمي مصات لميلهن إلي. هن: يعني الرشفات. في فمي أحلى من حلاوة التوحيد في قلب الموحد، وهو المقر بوحدانية الله تعالى! وهذا أحد ما نسب المتنبي لأجله إلى الكفر؛ حيث جعل الترشف أحلى من التوحيد! وروى: هن فيه حلاوة التوحيد يعني: للترشف في الفم حلاوة التوحيد. وهذا أخف من الأول. وقيل: إنه المعشوق بعاشقه، أي قوله: أنت واحدى؛ عند إقباله على وصاله، من دون أن يعرف غيره، فلهذا أحلى ما يكون للعاشق إذا كان معشوقه لا يعرف سواه، ولا يقول إلا به، وإذا فعل ذلك فقد وحده، فكأنه يقول: هن في الفم أحلى من هذا التوحيد.
كل خمصانةٍ أرق من الخم ... ر بقلبٍ أقسى من الجلمود
الخمصانة: الدقيقة الخاصرة. والجلمود: الصخر الصلب. روى: أرق في موضع الجر صفة لخمصانة، وبالرفع صفة لكل.
يقول: كل واحدة من هذه المترشفات وهي: كل ضامرة البطن أرق بشرةً من الخمر، بقلبٍ أشد قساوة وصلابة من الصخر. شبه رقة بشرتها بالخمر، وقساوة قلبها بالحجر، وجعله أقسى منه: أي أقسى من الحجر الصلب.
ذات فرع كأنما ضرب العن ... بر فيه بماء وردٍ وعود
أي: كل خمصانة ذات فرع، كأنما خلط فيه العنبر بماء الورد والعود، طيباً ورائحة؛ وإنما كان ذلك خلقة، فلهذا قال: كأنما.
حالكٍ كالغداف جثل دجوجي ... ى أثيثٍ جعدٍ بلا تجعيد
الحالك: الشديد السواد. والغداف: الغراب الأسود. والجثل: الشعر الكثير. والدجوجى: الشديد السواد أيضاً. والأثيث: الكثيف الملتف.
والتجعيد: يجعل جعداً بتكلف.
يقول: هي ذات فرع أسود بهذه الصفة.
تحمل المسك عن غدائرها الري ... ح وتفتر عن شتيتٍ برود
الهاء في غدائرها للمرأة، وروى: من غدائره. أي: من غدائر الفرع والغدائر: هي الضفائر، واحدها غديرة، والريح: فاعلة تحمل والشتيت: صفة الأسنان، وهو المفلج، والبرود أيضاً.
يقول: إنها مع استغنائها عن الطيب، تستعمل الطيب الكثير، بحيث تحمل الريح عن غدائرها المسك. وتفتر: أي تضحك عن ثغر مفلج فيه ماء بارد، أو يبرد حرارة الكبد! وهو الريق المتحلب من بين الأسنان، وقيل: هو من البرد النازل من السماء، فوصف أسنانها بأنها مفلجة، وبأن ريقها بارد؛ لبياضه ونقائه وبرده إذا مص.
جمعت بين جسم أحمد والسقم ... وبين الجفون والتسهيد
أراد بأحمد: نفسه.
يقول: إن هذه المرأة جمعت بين جسمي، وبين السقم! وبين جفوني والتسهيد فبعدت عني الصحة والنوم.
هذه مهجتي لديك لحيني ... فانقصي من عذابها أو فزيدي
المهجة: النفس. والحين: الهلاك.
يقول: هذه نفسي عندك مسلمةً إليك للهلاك! فانقضى من عذابها، أو فزيدي في عذابها فحكمك نافذٌ فيها، وأخذه من قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " .
أهل ما بي من الضنى بطلٌ صي ... د بتصفيف طرةٍ وبجيد
الضنى: طول المرض والضعف وتصفيف الطرة: تسويتها من الصف وأهل: مرفوع لأنه خبر الابتداء، والابتداء: بطل. متأخر عن الخبر كأنه يقول: بطل صيد بتصفيف طرة أهل مابي.
ومعناه: إنني بطلٌ صيد؛ ومع ذلك أهلٌ لما بي، مستحق لطول المرض، وهذه الإشارات إلى شجاعة نفسه، وإنه مع ذلك قد صيد، بتصفيف طرة وبجيد. ويجوز أن يكون أهل مبتدأ، وبطلٌ خبره. ويجوز أن يكون أهل خبر مبتدأ محذوف كأنه قال: أنا أهل ما بي من الضنى؛ ثم بين العلة فقال: لأني بطل صيد بتصفيف طرةٍ وبجيد.
كل شيءٍ من الدماء حرامٌ ... شربه ما خلا دم العنقود
يقول: جميع الدماء حرام شربها، ما خلا دم العنقود: الذي هو الخمر. ثم أخذ في ذكر الخمر استسقاءً لها فقال:
فاسقنيها فدىً لعينيك نفسي ... من غزالٍ وطارفي وتليدي
يقول: اسقني هذه الخمرة فدىً لعينيك نفسي، وما اكتسبته من مالٍ، وما ورثته من آبائي وجعل المخاطب غزالاً بقوله: من غزال. فكأنه قال: من بين الغزلان ومن: هنا للتخصيص.
شيب رأسي وذلتي ونحولي ... ودموعي على هواك شهودي
يقول: أربعة أشياء شاهدات لي على هواك. وهي: الشيب؛ لحلوله قبل أوانه، ونزوله في غير زمانه. وذلي في هواك، ونحول جسمي، وانسكاب دموعي، والله تعالى أمر في القضاء بالشاهدين ولي أربعة شهود وهذا مثل قول القائل:

من ذا يكذب في شهودٍ أربعاً؟! ... وشهود كل قضيةٍ اثنان:
خفقان قلبي واضطراب مفاصلي ... ونحول جسمي واعتقال لساني
أي يومٍ سررتني بوصالٍ ... لم ترعني ثلاثةً بصدود
يقول: اذكر أيها الغزال أي يوم واصلتني فيه، فسررتني بوصلك ولم ترعني بصدود ثلاثة أيام!
ما مقامي بأرض نحلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
روى: نخلة. بالمعجمة، قيل: هي محله بالكوفة، وروى: بالحاء المهملة وهو الأصح. وهو: مكانٌ بالشام. وقيل: إنه على ثلاثة أميال من بعلبك.
يقول: ليس مقامي بين أهل هذا المكان وإيذائهم إياي واستخفافهم بي، إلا كمقام السيد المسيح بأرض اليهود؛ لكثرة عداوتهم له.
وروى: أنه لقب المتنبي بهذا البيت.
وقيل: بل بالبيت الذي يقول فيه:
أنا في أمةٍ، تداركها الله ... غريبٌ كصالح في ثمود
مفرشي صهوة الحصان ولكن ... قميصي مسرودةٌ من حديد
لأمةٌ فاضةٌ أضاةٌ دلاصٌ ... أحكمت نسجها يدا داود
الصهوة: مقعد الفارس من الفرس. والحصان: الفرس الكريم الذكر. يصف بهذا شدة حذره من القوم، وهم أهل نحلة.
يقول: مفرشي مقعد الفارس؛ لكوني عليه ليلاً ونهاراً، وقميصي ودرعي التي هي مسرودة من حديد؛ لمواظبتي على الحرب وشدة تحرزي من أعدائي.
ثم وصف درعه الحديد فقال: لأمةٌ: أي ملتئمة الصنعة، مجتمعة فاضةٌ: سابغة. أضاةٌ: أي صافية. وهي صفة الغدير شبهها به لصفائها وزرقتها كالماء الذي في الغدير. دلاصٌ: أي براقة. أحكمت نسجها: يدا داود: أي هي من عمل داوود عليه السلام، وهي أوثق ما تكون من الدروع؛ لأنها مسرودة غير مسمورة، وهذا غاية ما يمدح به الدرع.
أين فضلي إذا قنعت من الده ... ر بعيشٍ معجل التنكيد؟!
التنكيد: التقليل. يشكو سوء حاله مع فضله، وبعد محله.
فيقول: أين فضلي إذا رضيت من الدهر بعيش قليل الخير؟
ضاق صدري وطال في طلب الرز ... ق قيامي وقل عنه قعودي
ويروى: ضاق صدري.
يقول تأكيداً لما تقدم من البيت: ضاق صدري لما بي من ضيق الرزق، وطال قيامي في طلب رزقي، وقل قعودي عنه.
أبداً أقطع البلاد ونجمي ... في نحوسٍ وهمتي في سعود
يقول: أنا أجوب البلاد أبداً، ولا أفتر عن السعي، لكن نجمي في نحوس فلا يساعفني وهمتي في سعود.
ولعلي مؤملٌ بعض ما أب ... لغ باللطف من عزيزٍ حميد
ويروى: ولعلي مبلغ بعض ما آمل؛ وهذا ظاهر؛ لأن التسلي لم يدخل في الأمل، وإنما يدخل في الوصول إلى المأمول، وعلى الرواية الظاهرة لابد أن يكون مقلوباً، فيكون راجعاً إلى ما ذكرناه في الرواية الأولى، ويجوز أن يحمل على ظاهره ويريد أنا راجٍ بعض ما أبلغ من العيش الهني، والمكان السني، بلطف الله العزيز الحميد.
لسريٍّ لباسه خشن القط ... ن ومروي مرو لبس القرود
السري: السيد ذو المروءة وقيل: أراد به الممدوح، وإن كان ممن يلبس الخشن للزهد والتواضع.
فيقول: إنه سري، لباسه خشن القطن، وليس فيه ما يوجب الضعة؛ وإن المروي: لبس القرود والسفلة من الناس، ولم يدل على رفعتهم.
وقيل: أراد بالسري: نفسه وأن لباسه خشن القطن، لما به من الفاقة، ثم بين أنه لا يقنع بالمروي، لأنه لباس السفلة من الناس، وإن همته ترتفع عن الاقتصار على ذلك، بل يريد ما هو فوقه من الثياب الثمينة النفيسة.
عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنود
خفق البنود: اضطراب الرايات، وهي جمع: بند، وهو العلم. يحض نفسه أو صاحبه على طلب العز والعلا، وينهاه على النزول على الفاقة في الشقاء.
يقول: عش عزيزاً إن أمكنك، وإلا فمت كريماً، بين المطاعنة وخفق الرايات؛ فإن من مات بين هذه الأشياء مات عزيزاً، لبقاء الذكر الحسن بعد موته، وكل هذا للمنع من الذل، والحث على طلب العلو.
فرءوس الرماح أذهب للغي ... ظ وأشفى لغل صدر الحقود
بنى من أذهب: أفعل التفضيل وهو لا يأتي إلا من الأفعال الثلاثية المجردة عن الزيادة، فإن كان بناءه من ذهب فهو لازم فلابد من الباء للتعدية، وهو أن يقول: أذهب بالغيظ، ذلك رواية. فأما أذهب للغيظ فهو محمول على أنه حذف من أذهبت، ثم بنى بعد رده إلى ثلاثة أحرف أفعل، كقوله تعالى: " أي الحزبين أحصى " لأنه من أحصيت.

يقول: إن لم يكن يمكنك أن تعيش عزيزاً، فمت بين طعن القنا، فإنه من الأشياء التي تشفي الصدور من الحقد، أو تقتل؛ فتستريح مما كنت فيه من الغيظ والحقد.
وروى أنه قال: أنا لم أبن أذهب من فعل متعدٍّ وإنما قلت: أذهب بالغيظ.
لا كما قد حييت غير حميدٍ ... وإذا مت مت غير فقيد
يقول: عش عزيزاً، أو مت كريماً. لا كما كنت تحيا غير محمود، وإذا مت في هذه الحالة مت غير فقيد: أي غير مفقود، لا يعتد بك، ويكون موتك وحياتك واحدة ولا يعرفك أحد فيفقدك، كأنه كان قد استعمل الكسل قبل هذه الحالة.
فاطلب العز في لظى وذر الذل ... ل ولو كان في جنان الخلود
لظى: إذا جعلتها نكرة صرفتها لأنها ليس فيها إلا التأنيث، وإن جعلتها اسماً لجهنم، وهو المراد ها هنا لم تصرفها: للتعريف والتأنيث.
يقول: اطلب العز ولو كان في جهنم، واترك الذل ولا تقبله ولو كان في جنان الخلد. من قولهم: النار ولا العار.
يقتل العاجز الجبان وقد يع ... جز عن قطعٍ بخنق المولود
ويوقى الفتى المخش وقد ... خوض في ماء لبة الصنديد
الخنق: خرقة يوقى بها رأس الطفل إذا دهن. والمخش: هو الدخال في الأمور. وروى: المحش بالحاء وهو: الذي يوقد الحرب كأنه آلة ذلك. وخوض: يجوز أن يكون بمعنى خاض؛ مبالغة فيه كطوف، ويجوز أن يكون متعدياً، ومفعوله محذوف، وتقديره قد خوض الرمح، وماء اللبة: الدم. والصنديد: السيد الكريم.
يقول: يقتل العاجز الجبان مع عجزه عن قطع البخنق، ولا ينفعه الحذر والإحجام عن القتال، ويصان الرجل الشجاع الدخال في الحرب، في حالٍ قد خاض ودخل أو أدخل سنان رمحه في دم الشجاع ومثله للأهتم:
وما كل من يغشى القتال بميت ... وما كل من يرجو الإياب بسالم
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضا ... د وعوذ الجاني وغوث الطريد
يقول: إن شرفي بنفسي لا بقومي، بل هم شرفوا بي، فإذا فخرت فبنفسي لا بجدودي؛ لا لعدم فضلهم، ولكن لزيادة فضلي على فضلهم؛ وهذا كما قيل نفس عصامٍ سودت عصاما ومثله لعلي بن جبلة.
وما سودت عجلاً مآثر قومهم ... ولكن بهم سادت على غيرهم عجل
ثم بين أن لقومه فضلاً على سائر العرب؛ ومع ذلك فهو أفضل منهم، فقال: وبهم فخر كل من نطق الضاد: يعني أنه فخر كل العرب. لأن الضاد مختصة بلغة العرب، وقيل: المراد أن بهم فخر كل ذي فضل، والضاد هي التي في الفضل، وبين أن قومه وجوهٌ بهم عوذ الجاني: إنه يستعيذ بهم. وبهم غوث الطريد: أي بهم يستغيث المطرود.
إن أكن معجباً فعجب عجيبٍ ... لم يجد فوق نفسه من مزيد
المعجب: المتكبر. والعجب: الاسم منه، والعجيب: الذي لا نظير له.
يقول: إن تكبرت بما لي من الشرف، فليس إلا لأني عجيبٌ، لا نظير لي في زماني، ولا لأحد مزيداً علي. وقيل: المعجب الذي لم يجد فوقه أحد.
أنا ترب الندى ورب القوافي ... وسمام العدا وغيظ الحسود
يذكر فضائله، ومفاخره، فيقول: أنا قرين الندى والسخاء وقادر على الشعر، والقوافي، وسمٌّ قاتل لأعدائي وغيظ للحساد، لما لي من الرتبة العالية، والدرجة السامية، من الفضل والكمال.
أنا في أمةٍ تداركها الله ... غريبٌ كصالحٍ في ثمود
قوله: تداركها الله. كقولك: أصلحك الله. وقيل: تداركها الله بالعذاب، فالأولى دعاء لهم، والثانية دعاء عليهم.
يقول: أنا في أمة يصيبني منهم أذى، وطبعي مخالف لطبعهم، وهم لا يعلمون محلي، بل يعاودني فحالي بينهم، كحال صالح بين ثمود، وقد قيل: إنه لقب المتنبي بهذا البيت، حيث شبه نفسه بصالح.
وقال وقد مر في صباه برجلين قد قتلا جرذاً وأبرزاه يعجبان الناس من كبره فقال لهما:
لقد أصبح الجرذ المستغير ... أسير المنايا سريع العطب
الجرذ: فأر البيت الكبير. المستغير: طالب الغارة، أو طالب الغيرة وهي الميرة، وصريع وأسير: نصبا بخبر أصبح.
يقول: قد أصبح الجرذ الذي كان يغير في البيوت. أي ينقل الميرة حليف الهلاك، صريع الموت.
رماه الكناني والعامري ... وتلاه للوجه فعل العرب
تلاه: أي ألقياه على وجهه.
يقول: رماه الرجلان وتلاه على وجهه، كما تفعل العرب.
كلا الرجلين اتلى قتله ... فأيكما غل حر السلب

كلا الرجلين: أي كل واحد منهما. واتلى: افتعل من الولاية، أي ولى كل واحد منهما قتله، وحر السلب: خالصه. وغل: أي خان في الغنيمة.
يسخر منها، ويقول: قتلتما هذا الشجاع فأيكما خان في سلبه، ففاز به دون صاحبه، فإني لا أرى سلبه ظاهراً.
وأيكما كان من خلفه ... فإن به عضةً في الذنب
يقول: أيكما كان من خلفه؟ فإن به عضة في ذنبه، فمن كان خلفه فهو الذي عضه! يسخر منهما بذلك.
وقال أيضاً في صباه ارتجالاً وقد أهدى إليه عبيد الله بن خراسان هدية فيها سمك من سكر، ولوز في عسل:
قد شغل الناس كثرة الأمل ... وأنت بالمكرمات في شغل
يقول: إن الناس شغلهم كثرة الأمل. وشغل الممدوح أبداً المكرمات وإسداء الإحسان.
تمثلوا حاتماً ولو عقلوا ... لكنت في الجود غاية المثل
يقول: جعل الناس المثل في الجود لحاتم الطائي، ولو كانوا عقلاء لجعلوك غاية المثل في الجود؛ نك أسخى منه ومن سائر الناس.
أهلاً وسهلاً بما بعثت به ... إيهاً أبا قاسمٍ وبالرسل
تقديره: أهلاً وسهلاً بما بعثت به، وبالرسل إيها أبا قاسم وإيهاً بمعنى كف.
يقول: كف عن ذلك فقد عجزتني عن القيام بشكرك وأثقلت ظهري بمبارك، واستغنيت بما سلف من عطاياك، فلا حاجة إلى المبالغة.
هديةٌ ما رأيت مهديها ... إلا رأيت العباد في رجل
يقول: هديةٌ ما رأيت مهديها، إلا رأيت فضائل الناس فيه مجموعة. فكأنه جميع الناس في المعنى، وهو مأخوذ من قول الحكمي:
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واح
روى: العباد والأنام جميعاً.
أقل ما في أقلها سمكٌ ... يلعب في بركةٍ من العسل
أقل: مبتدأ وسمك: خبر. وما: بمعنى الذي، وروى: يلعب ويسبح.
يقول: أقل ما في أقل هذه الهدايا: سمك من اللوز والسكر، في حوضٍ من العسل؛ يشير إلى أن ذلك إذا كان أقل الأقل فكيف يكون ما هو أجل الأجل والأفضل؟!.
كيف أكافي على أجل يدٍ ... من لا يرى أنها يدٌ قبلي؟!
أكافي: أصله الهمز فخففه. وروي: أجازي. ولا همز فيه.
يقول: كيف أجازي على أجل نعمة له عندي، وهو يستصغر العظيم من أياديه، ولا يعتد بها، ولا يراها نعمة عندي، فلا يمكنني القيام بشكره.
وكتب إلى عبيد الله بن خراسان في الطيفورية وقد رد الجامة وكتب على جوانبها بالزعفران:
أقصر فلست بزائدي ودا ... بلغ المدى وتجاوز الحدا
أقصر: أي أمسك عن الإهداء، وفاعل بلغ المدى وتجاوز الحد: ضمير الود.
يقول: أقصر عن الإهداء فلست تزيدني وداً بزيادة الهدية، فإن ودك عندي قد بلغ المدى وتجاوز الحد، فلا مزيد عليه؛ والأصل فيه الحديث: " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها " .
أرسلتها مملوءةً كرماً ... فرددتها مملوءةً حمداً
الهاء في أرسلتها ورددتها للجامة، التي فيها الحلواء، ونصب كرماً وحمداً على التمييز.
يقول: بعثت بالجامة مملوءة كرماً فرددتها مملوءة حمداً؛ وذلك أنه كان كتب بهذه الأبيات في جوانب الجامة وفيها حمد الممدوح.
جاءتك تطفح وهي فارغةٌ ... مثنى به وتظنها فردا
الطفح: الارتفاع، والامتلاء.
يقول: جاءتك هذه الجامة فارغة من الحلاوة، وهي مع ذلك ممتلئة من حمدك، فأنت تظن الجامة فرداً وهي قد انضم إليها هذه الأبيات فهي مثنى بها: أي الأبيات، وروى: مثنى به: أي بالحمد.
تأبى خلائقك التي شرفت ... ألا تحن وتذكر العهدا
يقول: إن أخلاقك الشريفة تمتنع وتكره أن لا تشتاق إلى مثل صنيعك في إنفاذ الهدية وألا تذكر العهد بإنفاذ الهدية، فكأنه يستعيد مثل هذه الهدية التي بعث بها إليه.
وقيل: ألا تحن إلى أصدقائك.
لو كنت عصراً منبتاً زهراً ... كنت الربيع وكانت الوردا
التاء في كانت: ضمير الهدية. وقيل: ضمير الخلائق.
يقول: لو كنت زمناً من الأزمان لكنت أطيبها وهو الربيع، وكانت هديتك التي بعثت بها، وخلائقك الشريفة كالورد، في فضله على سائر الأزهار، كفضل الربيع على سائر الأعصار.
وقال أيضاً يمدح عبيد الله بن خراسان وابنيه
أظبية الوحش لولا ظبية الأنس ... لما غدوت بجدٍّ في الهوى تعس
الأنس والإنس: واحد، وهو جمع أنسي وإنسي والألف: حرف النداء، والتعس: العثور:

يقول مخاطباً للظبية الوحشية: لولا الظبية الأنسية لما غدوت إلى المنزل الذي كنت فيه، وارتحلت عنها، بجدٍّ عثورٍ في هواك.
وخاطب الوحشية لشبهها بالأنسية، أو لأن الموضع صار مألفاً للوحش، أو ليدل على أن الوحش يألفه بملازمة الفلوات.
ولا سقيت الثرى والمزن مخلفه ... دمعاً ينشفه من لوعةٍ نفسي
اللوعة: شدة الحزن. والمزن: السحاب الأبيض. والثرى: التراب. ومخلفة: من أخلف البرق، إذا لم يمطر.
يقول: لولا الظبية الأنسية لكنت لا أسقي ثرى ربعها دمعي، في حال تخلف السحاب فلا يسقيه، ثم بين حرارة نفسه بأنه لحرارته كان ينشف ما يبل الأرض من دموعه، وهو من قول الآخر:
لولا الدموع وفيضهن لأحرقت ... لأرض الوداع حرارة الأكباد
ولا وقفت بجسمٍ مسى ثالثةٍ ... ذي أرسمٍ درسٍ في الأرسم الدرس
تقديره: ولا وقفت مسى ثالثةٍ بجسم ذي أرسم درس.
يقول: لولا الظبية الأنسية، لكنت لا أقف في رسوم دار هذه المحبوبة الدارسة ثلاثة أيام ولياليها، حتى يصير آخر وقوفي وقت العشية من الليلة الثالثة، من أول وقوفي، بجسمٍ ذي أرسم دارسة: نحيلٌ شبيه بالأرسم الدارسة من منزل المحبوبة، ويكون المراد بمسى ثالثة تقديره أيام وقوفه عليها.
قال ابن جنى: ولا يجوز أن يريد به أنه وقف بعد ثلاثة أيام من غيبوبتها عن الدار، لأنها لا تصير دراسة بثلاثة أيام.
وقيل: إن ذلك أيضاً جائز، لأن ديار الأعراب لا تكاد تسلم من الدروس لأول ريح تهب فتسفي عليها التراب من جهة، وتطم آثارها، وإن وافقها مطرٌ كان دروسها أدعى.
صريع مقلتها سئال دمنتها ... قتيل تكسير ذاك الجفن واللعس
صريع وسئال وقتيل: منصوبة على الحال، من وقفت، والدمنة: ما اسود من آثار الدار كالأثافي ونحوها، واللعس: حمرةٌ في الشفة تضرب إلى سواد، فوق اللمى.
يقول: ظبية الإنس لما وقفت صريع مقلتها سائلاً آثار دارها متعللاً بذلك، قتيل تفتير أجفانها وقتيل اللعس الذي في شفتيها.
خريدةٌ لو رأتها الشمس ما طلعت ... ولو رآها قضيب البان لم يمس
الخريدة: الجارية الناعمة. وقيل: الحيية. ولم يمس: أي لم يتبختر.
يقول: هي جارية ناعمة حيية حسنة معتدلة القامة، لو رأتها الشمس ما طلعت؛ خجلاً من وجهها، وإنها وإن طلعت فكأنها لم تطلع؛ من حيث لا يبين نورها لنور هذه الظبية الأنسية، ولو رآها غصن البان لما تبختر؛ خجلاً من اعتدال قامتها.
ما ضاق قبلك خلخالٌ على رشإٍ ... ولا سمعت بديباجٍ على كنس
الرشأ: الغزال، والكنس: بيت الظبي، وروى على كنس، وهو صفة الظبي، أي ذي كنس.
يقول: مارئى خلخال على غزال، ولو رئى لكان لا يضيق عليه؛ لأن رجله دقيقة، ولا سمعت بديباج فوق كناس، وهذه الظبية الأنسية ضاق عليها الخلخال، وغشي بيتها الذي هو الهودج بالديباج وهذا من قول الشاعر:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... سوى أن عظم الساق منك دقيق
إن ترمني نكبات الدهر عن كثبٍ ... ترم امرأً غير رعديدٍ ولا نكس
النكبات: جمع نكبة وهي المحنة، وعن كثب: أي عن قرب. والرعديد: الجبان. والنكس: الساقط الخامل.
يقول: إن ترمني محن الزمان من قرب. فقد رمت امرأً غير جبان، ولا ضعيف ساقط، يوهنه رميها.
يفدي بنيك عبيد الله حاسدهم ... بجبهة العير يفدي حافر الفرس
يقول: يا عبيد الله، حاسد بنيك صار فداءً لهم، على وجه الدعاء. ثم قال: بجبهة العير يفدي حافر الفرس: أراد به أنهم كرام وحسادهم لئام، فهم فداء لهم، كما يفدي حافر الفرس، وهو أحسن خلقةً بجبهة العير. وهي: أي الجبهة أعلى الأعضاء.
وقيل: جعل أبناء الممدوح منه، بمنزلة الحافر من الفرس، وجعل الممدوح بمنزلة أعلى الفرس، وجعل حساد أبنائه بمنزلة جبهة الحمار، من سائر الحساد الذين هم كالحمر، فجعل أعلى الأشياء من الحساد فداء لأدنى الأشياء من الممدوح، لأن الابن بإضافة الأب إليه بهذه المنزلة، وهما كما يقال للشيء الخسيس: فداء للشيء النفيس وكبار هؤلاء القوم، فداء لصغار قومك، وأشباه ذلك.
أبا الغطارفة الحامين جارهم ... وتاركي الليث كلباً غير مفترس
أبا الغطارفة: منصوب لأنه منادى مضاف، أو لأنه بدل من عبيد الله أو يكون نصباً على المدح، والغطارفة: جمع غطريف، وهو السيد، والمفترس، والصائل.

يقول: يا أبا السادة الذين يحملون جارهم ويتركون الليث غير مفترس، مثل الكلب. والافتراس نعت الليث، ويجوز أن يريد: وتاركي الليث ككلب عاجز عن الصيد.
من كل أبيض وضاحٍ عمامته ... كأنما اشتملت نوراً على قبس
القبس: الشعلة من النار.
يقول: كل واحد من بنيه أبيض وضاح أي واضح الجبهة وتم الكلام هاهنا، ثم استأنف فقال: عمامته: أي عمامة كل واحد منهم، كأنها مشتملة على شعلة من النار، ونصب نوراً على التمييز.
دانٍ بعيدٍ محبٍ مبغض بهجٍ ... أغر حلوٍ ممرٍّ لينٍ شرس
دانٍ: أي قريب. أي هو دانٍ ممن يقصده لا يحتجب عنه، أو من أوليائه، أو من فعل الخير، أو أنه متواضع. بعيدٍ: ممن ينازعه الكرم، أو عن النقص، أو من حيث المحل، أو عن إتيان ما لا يحل. محب: أي يحب البذل، للأولياء وأهل الفضل، مبغض: أي للبخل، أو لأهل النقص واللؤم. بهجٍ: أي فرحٍ عند سؤال السائل إياه وأفضاله عليه أغر: أي لين الجانب لأوليائه، ومن يستعين به. شرس: أي سيىء الخلق مع من لا يطيعه.
ندٍ، أبيٍ، غرٍ، وافٍ، أخٍ، ثقةٍ، ... جعدٍ، سريٍ، نهٍ، ندبٍ، رضىً، ندس
ندٍ: أي سخى. أبيٍّ: أي ممتنع، من فعل الأمور الدنيئة، أو أبى الضيم. غرٍ: أي مولع باقتناء المكارم. يقال: غرى بكذا فهو غر. وافٍ: أي بالعهد. أخٍ: لمصافاته مع الأصدقاء يطلق عليه اسم الأخ ثقة: أي موثوق به وبإخائه ويروى أخي ثقةٍ فيكون على هذا مصدراً، أي صاحب ثقة جعد: أي ماضٍ في الأمور، خفيف النفس. ويقال: الجعد، إذا أطلق أريد به السخي، وإذا قيد فقيل: جعد اليدين، فهو البخيل. سرى: أي سيد رفيع المنزلة، من السرو وهو الارتفاع نهٍ: أي عاقل، من النهي. ندب: أي خفيف في الأمور، وقيل: سريع الاهتمام. رضىً: أي مرضى. ندس: أي بحاث عن الأمور عارفٌ بها.
لو كان فيض يديه ماء غاديةٍ ... عز القطا في الفيافي موضع اليبس
الغادية: السحابة التي تأتي في الغداة. وموضع اليبس: فاعل عز. والقطا: مفعوله. فيكون عز من قولهم: عزه يعزه إذا غلب.
يقول: لو كان ما يفيض من يديه ماء سحابة لعم الدنيا كلها؛ حتى لا يجد القطا موضعاً يابساً يلتقط منه الحب، أو ينام فيه وعز اليبس وغلبه، بامتناعه عليه، فهو يطلبه ولا يجده، وتحقيق المعنى: غلب القطا وجود موضع اليبس وهو من باب إضافة المنعوت إلى النعت.
أكارمٌ حسد الأرض السماء بهم ... وقصرت كل مصرٍ عن طرابلس
أنث قصرت وإن كان فعل كل لأنه أراد جماعة الأمصار.
يقول: هؤلاء السادة الذين تقدم ذكرهم وهو قوله: أبا الغطارفة. وقوله: أكارم. جمع أكرم. حسدت السماء الأرض لكونهم عليها وصارت كل بلدة قاصرة عن طرابلس لكونهم فيها دون غيرها. وروى: وقصرت كل مصر بفتح اللام فيكون في تقديره وجهان: أحدهما: أن السماء قصرت البلدان عن هذه البلد، لمكانهم فيه.
والثاني: أنها راجعة إلى قوله: أكارم وهو جمع، وكأنهم قصروا كل مصر عن بلدتهم.
أي الملوك وهم قصدي، أحاذره ... وأي قرنٍ وهم سيفي وهم ترسي؟
قصدي: أي مقصودي.
يقول أي ملك أحاذره وهم مقصودي، وأي منازع لي أخشاه وهم سيفي، أمضيه فيه، وترسي الذي أحرس نفسي بهم، وهو من قول البحتري
وإني امرء أخشى الأعادي ودونه ... جناب ابن عمرو والرماح الذوائد
وقال أيضاً في صباه لصديق يودعه: وهو عبد الرزاق بن أبي الفرج:
أحببت برك إذ أردت رحيلا ... فوجدت أكثر ما وجدت قليلاً
يقول: أحببت أن أبرك بمبرة عند ارتحالي عنك، فوجدت كل جليلٍ قدرت عليه قليلاً عن قدرك، قاصراً عن محلك، وظاهره أنه مدح على ما ذكرنا. وقيل: إنه هجاء، وأراد: أحببت برك بي وإحسانك إلي فوجدت كثيره قليلاً. والأولى أنه مدح.
وعلمت أنك في المكارم راغبٌ ... صبٌّ إليها بكرةً وأصيلا
يقول: قد علمت أنك راغب في اقتناء المكارم، مشتاق إليها. بكرة وأصيلاً: أي ليلاً وناراً، فلم أر الامتناع عن الإهداء صواباً.
فجعلت ما تهدي إلي هديةً ... مني إليك وظرفها التأميلا

يقول: فكرت فيما أهديه إليك، فلم أر شيئاً يقع عند قدرك، فجعلت هديتي إليك المدح الذي تعلمته منك، ومن صفاتك، فجعلته هديةً مني إليك، بعد ما كان هدية من ك إلي. ويمكن أن يكون المراد: بعثت إليك بعض ما أهديته إلي من الأموال فأهديته إليك. وقد أخذ هذا المعنى من قول ابن الرومي:
أي شيء أهد خى إليك وفي وج ... هك من كل ما تهوي القلوب ومعنى
منك يا جنة النعيم الهدايا ... أو أهدى إليك ما منك يجنى؟!
إلا أنه أخبر أنه أهدى، وابن الرومي قال: أو أهدى؟! ويحتمل أن يكون مراده: جعلت ما تريد إهداءه إلي عند ارتحالي عنك مني إليك، أي أسألك أن تمسك عنه، فتجعل إمساكك عنه بمنزلة إهدائي إليك. وقوله: وظرفها التأميلا: أي جعلت تأميلي إياك قبول هذه الهدية ظرفاً لهذه الهدية ظرفاً لهذه الهدية ومشتملاً عليه، فجعل الأمل كالظرف له. هذا ما ذكره ابن جنى.
وقال غيره: إنه لما أرد ارتحاله عنه واستقل كل هدية يبعثها إلى الممدوح جعل قبول الهدية، هدية منه إليه؛ لعلمه أن الممدوح ممن يسر بقبول المتنبي هديته، سرور من أهدي إليه الهدية، وقوله: وظرفها التأميلا: أراد به أن الأمل مشتمل على هذه الهدية ومحيط بها كإحاطة الظرف بالهدية.
برٌّ يخف على يديك قبوله ... ويكون محمله علي ثقيلا
معناه على تأويل الأول: أنه لا كلفة علي فيما أهديته إليك لأني لم أتكلف منه شيئاً، وإنما هو منك عاد إليك، ويكون تحمل شكرك على قبوله ثقيلاً علي: وعلى المعنى الآخر الذي ذكره ابن جنى: أنك إذا أمسكت عن إهداء ما عزمت عليه فلا نقص عليك؛ لأني على كل حالٍ لم أعطك شيئاً من عندي وإنما هو مالك تركته لك.
وقيل: إنما مدحي إليك برٌّ خفيف، على يديك قبوله لجلالتك، وقصوره عن محمله: علي ثقيلاً: لعظم شأن قبولك لمدحي وصغر شأنه بالنسبة إليك.
وقال أيضاً وقد حلف عليه صديقٌ ليشربن كأساً بيده فأخذه وقال:
وأخٌ لنا بعث الطلاق أليةً ... لأعللن بهذه الخرطوم
فجعلت ردى عرسه كفارةً ... عن شربها وشربت غير أثيم
الخرطوم: اسم الخمر.
يقول: لما حلف بالطلاق أن أشرب هذا الخمر شربت غير أثيم؛ وجعلت كفارة شربي لها، ردى عليه امرأته؛ كراهة أن يحنث في يمينه! وقال أيضاً في صباه ارتجالاً وقد أصابهم المطر والريح يهجو رجلاً يقال له سوار:
بقية قومٍ آذنوا ببوار ... وأنضاء أسفارٍ كشرب عقار
آذنوا: أي أعلموا. والأنضاء: جمع نضو. وهو البعير المهزول. وأضافها إلى الأسفار، ليعلم إنما أنحلها كثرة الأسفار. والشرب: جمع شارب. والعقار: الخمر.
يقول: نحن بقية قوم قد هلك أكثرهم وآذنوا بالهلاك، وبقينا نحن على شرف الهلاك ونحن أنضاء أسفار، كأنهم من تساقطهم جماعةٌ شربوا الخمر، فصاروا سكارى. ويجوز أن يكون الأنضاء صفة لدوابهم وإبلهم فيقول: ونحن على دوابٍّ قد أهزلها كثرة الأسفار، حتى صارت كذلك.
نزلنا على حكم الرياح بمسجدٍ ... علينا لها ثوبا حصىً وغبار
ثوبا: تثنية ثوب؛ لإضافته إلى الحصا والغبار.
ويروى: بمشهد: مكان بمسجد.
خليلي ما هذا مناخاً لمثلنا ... فشدا عليها وارحلا بنهار
الهاء في عليها: ترجع إلى أنضاء الأسفار؛ إذا جعلناها دواب.
فيقول مخاطباً لصاحبه: ليس هذا المسجد مناخاً لمثلنا، فشد على الدواب رحالها، وسروجها، وارحلا بنهار، قبل اجتنان الليل فيصعب الارتحال، ويحتمل أن يكون الكناية في عليها للرياح كأنه قال: شدا على الرياح أو على دواب كالرياح سرعة.
ولا تنكرا عصف الرياح فإنها ... قرى كل ضيفٍ بات عند سوار
يقول: لا تنكرا شدة هبوب الرياح في هذا المكان؛ لأنها طعام كل ضيفٍ بات عند هذا الرجل الذي اسمه سوار، فإن ذلك عادته لضيوفه فليس هذا بمستنكر منه. وقيل: سوار. أي سواري المسجد، أو سواري الأمطار. والأول أولى وأظهر.
وقال أيضاً في صباه يمدح أبا المنتصر: شجاع بن محمد بن الرضا الأزدي:
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرق ... وجوىً يزيد وعبرةٌ تترقرق
أرقٌ: مبتدأ، وخبره محذوف. وكذلك جوىً وعبرةٌ تقديره: بي أرق وعلى هنا بمعنى مع، وأراد به دوام الأرق: وهو السهاد.
يقول: بي أرق على أرقٍ. ومثلي جدير بالأرق، وبي جوىً: وهو الحزن. يزيد ولا ينقص. ولي دمعة تسيل أبدا.

جهد الصبابة أن تكون كما أرى ... عينٌ مسهدةٌ وقلبٌ يخفق
وروى: كما يرى.
يقول جهد الصبابة هو الذي أراه من عينٍ مسهدةٍ، وقلبٍ خافق خوف الهجر.
ما لاح برقٌ أو ترنم طائرٌ ... إلا انثنيت ولي فؤادٌ شيق
وروى: ما لاح نجمٌ. والترنم: شبيه الغناء، وانثنيت: أي انعطفت.
يقول: لم يلمع برق أو نجم ولم يترنم طائر، يدعو إلفه إلا انعطفت ورجعت إلى نفسي، وأنا مشتاق، مهيج القلب لذكر المحبوبة. وتشويقه لمعان البرق على معنيين: أحدهما أنه يذكره ثغرها المضيء، والثاني أنه يلمع من جانب المحبوبة وناحيتها، فشوقه لهذا الوجه.
جربت من نار الهوى ما تنطفي ... نار الغضا وتكل عما تحرق
أي تحرق هذه النار. وتنطفي: لغة ضعيفة. لقولهم: طفيت النار وأطفيتها، وما بمعنى الذي. والغضا: شجر يوصف بقوة التوقد.
يقول: جربت من نار الهوى ناراً تطفأ عندها نار الغضا مع شدتها وتكل أيضاً نار الغضا عما تحرقه نار الهوى. وقيل: إن ما للنفي وقدر فيه تقديران: أحدهما: أن يكون تقديره: جربت من نار الهوى كنار الغضا ما تنطفي وما تكل، ومعناه: ما تنطفىء نار الهوى وما تكل عن الإحراق، بمرة فتريحني.
وقوله: نار الغضا تشبيه يعني كنار الغضا في شدة توقدها.
والثاني: أن يكون تكل فعل الغضا والواو زائدة أو منقولة إلى نار الغضا، ومعناه: جربت من نار الهوى ناراً ما تنطفىء، ونار الغضا تكل عما تحرقه هذه النار.
وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق؟!
يقول: كنت أعذل أهل العشق، لجهلي به، حتى دفعت إلى العشق، فلما ذقته عجبت كيف يموت من لا يدخل العشق قلبه؟! فكأنه يقول: إن أقوى أسباب الموت العشق، وإن من بعد عنه فهو بمعزل عن الموت.
وعذرتهم وعرفت ذنبي أنني ... عيرتهم فلقيت فيه ما لقوا
الهاء في فيه للعشق. والضمير في لقوا لأهل العشق. وكذلك في عذرتهم وعيرتهم.
يقول: لما ذقته عذرت عنده العشاق وعرفت أني مذنب في عيبهم، فلما جربت عليهم في اللوم، لقيت من شدة العشق مثل ما لقوا. ومنه قول الآخر:
عذرت من عيرني في الهوى ... لأنه لم يدر ما شانه
لو ذاقه يوماً درى أنه ... أصعب حزن المرء أحزانه
أبنى أبينا نحن أهل منازلٍ ... أبداً غراب البين فينا ينعق
يحتمل أن يريد به: يا إخواننا وأهل نسبنا، ويحتمل أن يريد به: يا بني آدم. وغراب البين. قيل المراد به الموت. وينعق: أي يصيح. وهما مرويان.
يقول: يا بني أبينا. نحن أهل منازل يقضي علينا فيها بالموت والفراق، فإن كان اليوم وقع الفراق بيننا، فكذلك يقع في الدنيا بين أهلها؛ أورد ذلك مورد التسلية والوعظ للمخاطبين:
تبكي على الدنيا وما من معشرٍ ... جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
يقول: نبكي على هذه الدنيا وحياتها؛ لعلمنا بفنائها، وما من جمع إلا بددته الدنيا وفرقته؛ فالبكاء على هذا محال.
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى ... كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا؟
الأكاسرة: جمع كسرى، وهو ملك العجم. وهو تعريب خسرو، الذي بالفارسية. والجبابرة: جمع الجبار. وهو المتسلط على الناس العاتي.
يقول: أين ملوك العجم وعظماء الدنيا؟ الذين كنزوا الكنوز، فما بقيت كنوزهم ولا بقوا هم.
من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... حتى ثوى فحواه لحدٌ ضيق
يقول: من كل ملك ضاق المكان الواسع بجيشه، حتى مات فتوارى، مقيماً في القبر، وضمه في قبره لحدٌ ضيق.
خرسٌ إذا نودوا كأن لم يعلموا ... أن الكلام لهم حلالٌ مطلق
يقول: هؤلاء الملوك ماتوا، وصاروا، كالخرس لا يجيبون إذا نودوا، فكأنهم لم يعلموا: أن الكلام لهم حلال مطلق. لو قدروا عليه.
فالموت آتٍ والنفوس نفائسٌ ... والمستغر بما لديه الأحمق
النفائس: جمع النفيسة، وهي التي يبخل بها لجلالتها والمستغر المحمول على الغرة المخدوع. أو هو طالب الغرور وروى: المستعز بالعين والزاي وهو المتعزز أو طالب العز.
يقول: الموت لا محالة آت والنفوس جليلة خليقة بأن يبخل بها، إلا أن المخدوع والمتعزز بما لديه، مما لا بقاء له هو الأحمق.
والمرء يأمل والحياة شهيةٌ ... والشيب أوقر والشبيبة أنزق
شهية: بمعنى المفعولة، والنزق: الخفة والطيش.

يقول: إن المرء يؤمل الأمل الطويل، والحياة شهيةٌ، والشيب وقورٌ، والشباب نزقٌ، فيكون. أفعل بمعنى الفاعل، لا بمعنى المبالغة. وأراد صاحب الشيب وصاحب الشيبة؛ وقيل: أراد به أفعل للمبالغة.
فيقول: إن الشيب أوقر من الشبيبة، والشبيبة أنزق من الشيب؛ وذلك لأن الشيخ قد يستعمل الوقار في بعض الأحوال، غير أن الغالب منه النزق، فلهذا المعنى استعمل فيه لفظ أفعل.
ولقد بكيت على الشباب ولمتي ... مسودةٌ ولماء وجهي رونق
يقول: بكيت على فراق الشباب قبل نزول المشيب بي، وعند ما كان شعر رأسي أسود، ولماء وجهي رونق، وذلك لعلمي بزواله، وحذري من فراقه.
حذاراً عليه قبل يوم فراقه ... حتى لكدت بماء جفني أشرق
حذاراً عليه: أي على فراق الشباب. وروى: بدمع عيني أغرق. ونصب حذراً لأنه مفعول له.
يقول: بكيت على الشباب قبل زواله حذراً من فراقه، حتى كدت أشرق بماء جفني، أي أغص به. وأراد به الهلاك؛ ولهذا جعل بدله أغرق.
أما بنو أوس بن معن بن الرضا ... فأعز من تحدى إليه الأينق
يقول: هؤلاء الممدوحون هم أعز من تحدى إليهم الإبل، ويقصد إليهم؛ لطلب المال، والجاه، لسخائهم.
كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق
يقول: إن ديارهم ليست في نواحي المشرق، ولكنها في نواحي المغرب، فلما رأيت صورهم الحسان بمنزلة الشموس مع أن المعهود من الشمس أنها تطلع من جهة المشرق كبرت لتعجبي من ذلك؛ فإني رأيت الشمس في غير جهة المشرق!
وعجبت من أرض سحاب أكفهم ... من فوقها وصخورها لا تورق
يقول: عجبت من صخور هذه الأرض، التي هي مقرهم، كيف لا تورق؟ وفوقها تمطر سحائب أكفهم؛ يصفهم بالسخاء.
وتفوح من طيب الثناء روائحٌ ... لهم بكل مكانةٍ تستنشق
المكان: والمكانة واحد. والاستنشاق: طلب الرائحة بالشم.
يقول: إن هؤلاء القوم تفوح لهم من طيب ما يثني عليهم روائح طيبة! تصل إلى كل مكان، ويشمها كل إنسان، فيقصد الناس إليهم من كل جانب لطلب معروفهم وكرمهم.
مسكية النفحات إلا أنها ... وحشيةٌ بسواهم لا تعبق
النفحات: جمع نفحة. وهي أول هبوب الريح.
يقول: روائح ثنائهم مسكية النفحات، يفوح منها ما يفوح من المسك، إلا أنها نافرة من غيرهم ولا تعبق بسواهم؛ يصفهم باختصاص الثناء بهم وأنه لا يستحقه سواهم.
أمريد مثل محمدٍ في عصرنا ... لا تبلنا بطلاب ما لا يلحق
لا تبلنا: أي لا تجربنا. وروى: لا تبلنا: لا توقعنا في البلوى، لطلاب ما لا يلحق.
يقول: يا من يريد أن يكون مثل محمدٍ الممدوح لا تجربنا بطلب ما لا يلحق، ولا يوجد. يعني أنه لا نظير له، فطلب مثله أمر محال.
لم يخلق الرحمن مثل محمدٍ ... أحداً وظني أنه لا يخلق
يقول: لم يخلق الله تعالى مثله أحداً فيما مضى، ويقيني أنه لا يخلق في المستقبل؛ إذ الأمور الآتية معتبرة بالماضية. وهذا كذب ظاهر.
يا ذا الذي يهب الكثير وعنده ... أني عليه بأخذه أتصدق
وروى: يهب الجزيل. وأتصدق: أعطي الصدقة.
يقول: يا من هو يعطي العطاء الجزيل ويرى أني متصدق عليه بأخذي منه، وذلك لسروره بما يعطيه لي. ونظيره:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أمطر علي سحاب جودك ثرةً ... وانظر إلي برحمةٍ لا أغرق
يقول: أمطر على سحاب عطائك وسخائك غزيرة، ثم انظر إلي برحمتك، ولا تجاوز الحد على ما عهدت من حالك، لكي لا أغرق بنيلك.
وقيل: أراد بقوله: كي لا أغرق أي كي لا أعجز عن القيام بشكرك.
كذب ابن فاعلةٍ يقول بجهله: ... مات الكرام وأنت حيٌّ ترزق!
يقول: كذب ابن زانيةٍ، يقول بجهله: إن الكرام ماتوا، وأنت حي ترزق فيما بين الأحياء مع كونك سيد الكرام! وروى: ترزق أي أنت حي تجري على يديك أرزاق الناس، فكيف يصح قوله: إن الذين تجري على أيديهم أرزاق الناس قد ماتوا، وأنت حي ترزقهم! فنسب هذا القائل إلى الكذب، ونسب أمه إلى الزنا.
وقال أيضاً في صباه يمدح علي بن أحمد الخراساني
حشاشة نفسٍ ودعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشبع؟

يقول: إن الهوى ما أبقى من نفسه إلا بقية، وتلك البقية كانت قريبةً من الزوال، خوف الفراق، فلما فارقتني الأحبة، ودعتني تلك البقية وارتحلت بارتحالهم، فلم أدر أي الظاعنين أشيع: أحبتي أم بقية روحي؟ لأن أحدهما كصاحبه في الكرامة علي. وروى أي الظاعنين، بلفظ الجمع، فيكون قد جعل حشاشة النفس معدودة في جملة الأحبة؛ لأنها محبوبة كالأحبة.
أشاروا بتسليمٍ فجدنا بأنفسٍ ... تسيل من الآماق والسم أدمع
الآماق: واحدها، مأق، ومؤق. وهو طرف العين مما يلي الأنف، وهو مجرى الدمع في الغالب. والسم: الاسم أدمع. وأشاروا إلى الأحبة عند الوداع بتسليم. ونبه بقوله: أشاروا إلي أنهم لا يمكنهم إظهار السلام بالكلام؛ خشية الرقباء فجدنا نحن بأرواح، تسيل من أعيننا جواباً لهم، وأسفاً على فراقهم، وكانت التي تسيل أرواحاً في الحقيقة، وإن كان اسمها الدمع؛ لأنها كانت دماً، وخروج الدم فيه خروج الروح، وقد أوضح هذا المعنى في موضع آخر فقال:
ولم لم يكن ما انهل في الخد من دمي ... لما كان محمراً يسيل فأسقم
ويجوز أن يكون جعل الدمع، بمنزلة الروح؛ لأن نزول الدمع لا يكون إلا عند شدة الكرب، فلما اشتد عليه فراقهم كان الدمع الخارج عنده، مثل خروج الروح شدة!
حشاي على جمر ذكيٍّ من الهوى ... وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع
الجمر الذكي: الشديد التوقد.
يقول: إن قلبي يحترق بنارٍ شديدة من الهوى، وعيني من مشاهدة حسنها كأنها راتعة في روض الحسن، يعني: أن من نظر إلى مثل ما أنظر إليه من محاسن هذا الحبيب كان خليقاً أن يكون خليقاً.
ويجوز أن يكون أراد أن عند الوداع كان قلبي في احتراق؛ لما كاد يقع بيننا من الفراق، وعيني ترتع في روض من الحسن، في وجه الحبيب عند الوداع، وإنما لم يقل: ترتعان لأن فعل العينين واحد في الأغلب عند الرؤية. وروى: وعيني فعلي هذا لا يتوجه عليه السؤال.
ولو حملت صم الجبال الذب بنا ... غداة افترقنا أوشكت تتصدع
أوشكت بمعنى: قربت.
يقول: لو حملت الجبال الشديدة الفرقة التي بنا، غداة افترقنا، لقربت أن تشقق.
بما بين جنبي التي خاض طيفها ... إلى الدياجي والخليون هجع
الدياجي: جمع ديجوج، وهو الظلمة، وأصله دياجيج، فأبدلت الجيم ياء ثم أدغمت الياء في الياء، ثم خففت. وما: بمعنى الذي. وبين الجنبين: أراد به القلب، والنفس.
وتقديره: أفدى بما بين جنبي. أي بنفسي، وقلبي، المرأة التي خاض طيفها الظلام إلي، في حال كانت عيون الخليين عن العشق نائمة، فالواو في قوله والخليون واو الحال.
أتت زائراً ما خامر الطيب ثوبها ... وكالمسك من أرادنها يتضوع
أتت: أي المرأة: وزائراً أي طيفها فقدر المرأة في أتت. وفي الزائر الطيف.
ويجوز أن يكون أجرى زائراً مجرى حائض، وحامل. على جهة النسب.
ويجوز أن يريد بذلك أنها أتتني وأنا سائرٌ إليها لزيارتها، فعلى هذا يكون زائراً مفعول به. فكأنه قال: أتت هي زائراً لها.
وفي الأول، نصب على الحال. يقول: أتت هذه المرأة يعني طيفها زائراً لي، أو كنت زائراً لها. ما خالط الطيب ثوبها ومع ذلك فإن رائحة المسك تفوح من كمها وأطرافها وثيابها.
فشرد إعظامي لها ما أتى بها ... من النوم والتاع الفؤاد المفجع
إعظامي: في موضع الرفع لأنه فاعل شرد. وما مفعول به، يعني الذي. وتعجبي من مجيئها، الشيء الذي أتى بها وهو النوم، واحتراق الفؤاد المفجوع.
فيا ليلةً ما كان أطول بتها ... وسم الأفاعي عذب ما أتجرع!
قوله: يا ليلةً. تعجب وإعظام، وليس بنداءٍ في الحقيقة، وقوله: ما كان أطول! أي ما كان أطول! أي ما كان أطول حزنها! فحذف.
يقول: لما شرد إعظامي لها النوم، واحتراق الفؤاد، طال علي الليل وتكدر. فيصف ذلك ويقول: يا ليلةً ما أطولها، وما أطول حزنها! وسم الأفاعي الذي هو من الأشياء أقتلها، كان عذباً بالإضافة إلى ما قاسيت فيها.
تذلل لها واخضع على القرب والنوى ... فما عاشقٌ من لا يذل ويخضع
يقول: تذلل لها في حالة القرب والبعد؛ أما في القرب فلئلا تعرض عنك، وأما في البعد فلننظار القرب بعد البعد، فليس بعاشق من لا يذل للمعشوق، ولا يخضع، لأن التكبر والتعظم لا يليق بالعاشق مع المعشوق.

ولا ثوب مجدٍ غير ثوب ابن أحمدٍ ... على أحدٍ إلا بلؤمٍ مرقع
روى: غير. نصباً على الاستثناء المقدم، وروى: مرفوعاً خبر لقوله لا ثوب مجد.
يقول: كما أن الذي لا يخضع للحب خارج عن حكم العشق كذلك ثوب المجد إذا لم يكن على هذا الممدوح لا يكن إلا مرقعاً.
وإن الذي حابى جديلة طيىءٍ ... به الله يعطي من يشاء ويمنع
جديلة طيىء: بطن من طيىء وحابى: بمعنى جبى.
يقول: وإن الذي أعطى هذه القبيلة، به الله يعطي من يشاء ويمنع، ذلك مبالغة في وصفه بسعة القدرة، ونفاذ الأمر، فيعطي من يشاء ويحرم من يشاء، وقيل: إن حابى هذه القبيلة بالعطاء وغالبهم به وهو الممدوح، به الله يعطي من يشاء ويمنع، إشارة إلى أنه كثير العطاء من حيث أن الله تعالى جعل له هذه السعة والقوة ما لا يحتمل الغيرة منهم، وقيل تقديره: إن الذي أعطى الله هذه القبيلة من شرف نسب هذا الممدوح منهم، يعطيه الله تعالى من يشاء من عباده فكذلك صنع الله تعالى به إذ وضعه حيث شاء فليس لأحد أن يطلع.
بذي كرمٍ ما مر يومٌ وشمسه ... على رأس أوفى منه تطلع
يقول على التقدير الأول: الله تعالى يعطي من يشاء ويمنع بذي كرم صفته ما في البيت. وعلى الثاني: حبى الله هذه القبيلة بذي كرم ما مر يومٌن وشمس ذلك اليوم طلعت على رأس أحد أوفى ذمةً منه وهي نصب على التمييز.
فأرحام شعر يتصلن لدنه ... وأرحام مالٍ ماتني تتقطع
وروى: يتصلن بجوده. وروى: لدنه الهاء في نه: للمدوح، وفي به: للكرم المذكور في البيت الذي قبله ماتني: أي ما تفتر.
يقول: إنه يجمع الشعر في مدحه بتفريق ماله، فعلائق الشعر به متصله وهي المعبر عنها بالأرحام، وعلائق المال منه منقطعة، ولا تزال على الانقطاع لتفريقه إياها في اكتساب الثناء والذكر.
فتىً ألف جزءٍ رأيه في زمانه ... أقل جزىءٍ بعضه الرأي أجمع
تقدير البيت: فتىً رأيه في زمانه ألف جزء، بعضه أقل جزء من رأيه، هو رأي الناس أجمع! وقسم رأي هذا الممدوح ألف جزء وجعل بعض أقل الجزء من ألف، مقابلاً لآراء جميع الناس! وكأنه أخذه من قول أبي بكر بن النطاح.
له هممٌ لا منتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجل من الدهر
إلا أنه قلب الهمم إلى الرأي.
غمامٌ علينا ممطرٌ ليس يقشع ... ولا البرق فيه خلباً حين يلمع
يقشع ويقلع: مرويان، وهما بمعنىً واحد، أي ليس يزول. وخلباً: نصب لأنه خبر ليس، وهو: البرق الذي لا مطر معه.
يقول: هو غمام يمطر علينا مواهب، وأيادي، ولا يفتر عنها. ثم فضله على الغمام من وجهين: أحدهما. أن عطاءه لا ينقطع بحال، كما تنقطع أمطار الغمام في أحوال. والثاني. أن وعده بالعطاء غير كاذب كالبرق الخلب. أي: كالغمام الذي يكون برقه خلباً لا يأتي بمطر. يصفه بإدامة الجود والوفاء بالوعود.
إذا عرضت حاجٌ إليه فنفسه ... إلى نفسه فيها شفيعٌ مشفع
الشفيع المشفع؛ هو المقبول الشفاعة.
يقول: إذا عرضت الحاجات وظهرت الناس إليه، فلا يحتاجون إلى الوسائل إليه في قضائها، بل يكون شفيعاً إلى نفسه مقبول الشفاعة؛ لأن فيه من الكرم ما يغني عن الوسائل.
خبت نار حربٍ لم تهجها بنانه ... وأسمر عريانٌ من القشر أصلع
أسمر عريان: أراد به القلم؛ لما في لونه من السمرة.
يقول: طفئت نار حرب، لم يهجها بنان هذا الممدوح، وقلمه الأسمر العريان من القشر، وأصلع: أي أملس كالرجل الذي لا شعر على رأسه وأراد به: أن الحرب التي لم تصدر عنه لم تدم.
نحيف الشوى يعدو على أم رأسه ... ويحفى فيقوى عدوه حين يقطع
الشوى: أراد به رأس القلم، وأصله جلدة الرأس. ويحفى: أي يكل.
يقول: إنه نحيف دقيق الرأس يعدو على أم رأسه بخلاف سائر العادين، ويكل ويتعب من كثرة العدو، فإذ قطع رأسه يقوى على العدو.
يمج ظلاماً في نهارٍ لسانه ... ويفهم عمن قال ما ليس يسمع
يمج: أي يلفظ من فيه. وأراد بالظلام: المداد. وبالنهار: القرطاس وأراد بلسانه: جلفته. وهو فاعل يمج، وقوله: ويفهم عمن قال ما ليس يسمع يعني. أن القلم يفهم الناس بقراءة ما كتب ما ليس يسمعه هو.
ذباب حسامٍ منه أنجى ضريبةً ... وأعصى لمولاه وذا منه أطوع

ذباب السيف: حده. والهاء في منه الأول للقلم وفي الثاني للحسام، والضريبة: المكان الذي تصيبه الضربة. فضل قلمه على السيف.
يقول: حد السيف أنجى في ضريبته من حد قلمه، وحد السيف أعصى لصاحبه، وهذا أطوع.
وذلك أن الضارب إذا ضرب بسيفه ثم نبا سيفه عن التأثير، وإن شاء أمسكه قبل الضرب.
والقلم لا يخون صاحبه في حالٍ، فإذا كتب به: اقتل فلاناً لم يمكنه بعده ألا يقتله، وقد حمل إليه الكتاب ونفذ أمره فيه.
بكف جوادٍ لو حكتها سحابةٌ ... لما فاتها في الشرق والغرب موضع
يقول: هذا القلم الموصوف، بكف جوادٍ. أي الممدوح. لو حاكتها السحابة لشملت العالم مطراً شرقاً وغرباً.
فصيحٍ متى ينطق تجد كل لفظةٍ ... أصول البراعات التي تتفرع
فصيحٍ: جر لأنه بدل من جوادٍ.
يقول: هو الفصيح؛ فكل لفظة من قوله أصول البراعات. فجعل كل لفظة أصولاً.
وليس كبحر الماء يشتق قعره ... إلى حيث يفنى الماء حوتٌ وضفدع
يشتق: بمعنى يشق.
يقول: ليس هذا الممدوح في سخائه كبحرٍ يقدر الحوت والضفدع على شقه إلى حيث يفنى الماء، بل هو أعمق وأنفع.
أبحرٌ يضر المعتفين وطعمه ... زعاقٌ كبحر لا يضر وينفع
الزعاق: المر الملح.
يقول مفضلاً له على البحر: إن البحر هو الذي يضر قاصديه، والطالبين المعروف منه، وماؤه ملحٌ مر، وهذا الممدوح ينفع معتفيه ولا يضرهم، وعطاؤه هنيٌّ وخلقه حلو شهيٌّ.
وقوله: لا يضر وينفع ليس المراد به أنه لا يضر أحداً لأنه حينئذٍ لا يضر أعداءه وإنما المراد به أنه ينفع المعتفين والأولياء ولا يضرهم.
يتيه الدقيق الفكر في بعد غوره ... ويغرق في تياره وهو مصقع
تياره: أي موجه. ومسقع ومصقع: رويا جميعاً، وهو البليغ الفصيح.
يقول مؤكداً لتفضيله على البحر: إن الرجل الدقيق الفكر يتحير في غوره ولا يدرك كنه وصفه، ويغرق في فضله الفصيح البليغ. شبهه بالموج.
ألا أيها القيل المقيم بمنبجٍ ... وهمته فوق السماكين توضع
توضع: أي تسرع في السير.
يقول: أيها الملك المقيم بمنبج، وهمته فوق السماكين تسرع في السير، وتجاوزهما لسرعتها.
أليس عجيباً أن وصفك معجزٌ ... وأن ظنوني في معاليك تظلع؟!
وروى: معجزي. ومعاليك تظلع: أي تقصر وتعجز.
يقول: أليس بعجب أن وصفك يعجزني عن بلوغه؟! مع قدرته على الشعر. وأن ظنوني في معاليك تكل وتعجز؟! مع إصابتها في الأمور.
وأنك في ثوبٍ وصدرك فيكما ... على أنه من ساحة الأرض أوسع
يقول: العجب من كونك في ثوب، وكون صدرك فيكما: أي فيك وفي ثوبك. مع أن صدرك أوسع من ساحة الأرض جميعاً.
وقلبك في الدنيا ولو دخلت بنا ... وبالجن فيه ما درت كيف ترجع
التاء في دخلت: ضمير الدنيا. وبنا: كناية عن نفسه، وجميع الناس.
يقول: قلبك في الدنيا، وهو في سعته بحيث لو دخلت الدنيا بالإنس والجن فيه لتحيروا ولم يدروا كيف يرجعون؛ لسعة صدرك وصغر الإنس والجن عن قدره.
ألا كل سمحٍ غيرك اليوم باطلٌ ... وكل مديحٍ في سواك مضيع
غيرك: نصب لأنه استثناء مقدم. وروى: بالجر صفة لسمح.
يقول: كل جواد ما خلاك، بالإضافة إليك باطل. وكل مديح يقال في غيرك فهو مضيع؛ لأنه لا يعرف حقه ولا يوجد فيه من المعاني ما وجد فيك.
وقال أيضاً يفتخر في صباه على لسان بعض التنوخيين وقد سأله ذلك:
قضاعة تعلم أني الفتى ال ... ذي ادخرت لصروف الزمان
قضاعة: بطن من تنوخ، وهم من بني قحطان.
يقول: تعلم هذه القبيلة، أني فتاها الذي أعدته لصروف الزمان، وأنهم يلتجئون إلي عند الشدائد، فأكشفها، وهذا ادخارهم له.
ومجدي يدل بني خندفٍ ... على أن كل كريمٍ يماني
خندف: أم العرب.
يقول: يدل شرفي العرب كلهم، على أن كل كريمٍ من أهل اليمن، لا من ربيعة ومضر، وسائر العرب. ويمانٍ: منسوب إلى اليمن، يعني: يمني. يقال: رجل يمانٍ وامرأة يمانية بالتخفيف.
أنا ابن اللقاء، أنا ابن السخاء، ... أنا ابن الضراب، أنا ابن الطعان
أنا ابن الفيافي، أنا ابن القوافي، ... أنا ابن السروج، أنا ابن الرعان

العرب يقولون: فلان ابن كذا وأبو كذا إذا كان من أهله، وملازماً له. واللقاء: المحاربة. والرعان: جمع الرعن، وهو مقدمة الجيش. أخذ من رعن الخيل وهو أنفه.
يقول: أنا صاحب هذه الأشياء، فأنا ابن اللقاء في الحروب، وابن الضراب، والطعان، وابن السخاء، والجود، وابن الفيافي، أقطعها، والقوافي، أبدعها وأنسبها، وابن السروج، أركبها، وابن الرعان، أقودها إلى العدو أحاربهم بها.
طويل النجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السنان
النجاد: حمالة السيف. يريد به. أنه طويل القامة، والعرب تمتدح بطول القامة، والعماد: عماد البيت. وكذلك كناية عن السؤدد. والقناة: الرمح. وأراد بطولها حذقه بالطعن بها. وكذلك طول السنان كناية. كما قال غيره:
إذا قصرت أسيا فنا كان وصلها ... خطانا إلى القوم الذين نضارب
فأما طول القناة، فلا مدح فيه.
حديد الحفاظ حديد اللحاظ ... حديد الحسام حديد الجنان
اللحاظ: جمع اللحظ والحفاظ: المحافظة على الحزم. أو سرعة الغضب فيما يجب حفظه. والجنان: القلب. أي ذكي القلب. والحسام: السيف القاطع.
يصف نفسه بحدة هذه الأشياء منه بحيث لا يلحقه فيها خلل.
يسابق سيفي منايا العباد ... إليهم كأنهما في رهان
سيفي: فاعل يسابق. ومنايا العباد: أي موتهم.
يقول: إن سيفي يسابق منايا العباد، ويغالبها في سبوقها إليهم، كأنهما في رهان لمسابقتهما، فسيفي يطلب موتهم قبل وقت الموت، والموت يميتهم في وقته، فيتسابقان في ذلك.
يرى حده غامضات القلوب ... إذا كنت في هبوةٍ لا أراني
الهبوة: الغبرة.
يقول: إن سيفي يقطع كل موضع يقع عليه، حتى يخلص إلى القلب، فكأنه يرى غوامض القلوب، مع كونها محتجبة عن العيون، في وقت لا أرى نفسي من كثرة الغبار، ولم أغفل عن نفسي من شدة الحرب، وكثرة الغبرة، وقيل معناه: إذا كنت في هبوة الحرب، لا أدري نفسي، أي لا أبالي بها ولا أنظر إلى ما يحل بها. وقيل: معنى البيت، أن سيفي يعلم ما في القلوب من الغش والحسد، فلا يقع إلا على حاسد، أو عدوٍّ جاحد، في الحالة التي أغفل عن نفسي فأكون كمن لا معرفة له بها.
سأجعله حكماً في النفوس ... ولو ناب عنه لساني كفاني
يقول: سأجعل سيفي حكماً في نفوس الأعداء؛ ليسلبها ويأخذها، ولو ناب لساني عنه، كفاني، لأن حدته كحدة اليف.
وقال أيضاً في صباه في الحماسة والفخر:
قفا تريا ودقي فهاتا المخايل ... ولا تخشيا خلفاً لما أنا قائل
المخايل: جمع مخيلة: وهي البرق، ونحوه مما يستدل به على المطر، وهاتا: إشارة إلى المخايل.
وقفا: أمر من الوقوف، ويحتمل أن يراد به: إصراراً وعيشاً يقول لصاحبيه: قفا وعيشا، تريا من أمري وفعلي شأناً عظيماً، فهذه مخايله قد ظهرت، ولا تخشيا خلفاً لما أقوله، لأني صادق في جميع ما أقوله، ولست كالبرق الذي يصدق تارة ويكذب أخرى. ومثله للبحتري:
هذا أوائل برقٍ خلفه مطرٌ ... وأول الغيث قطرٌ ثم ينسكب
رماني خساس الناس من صائب استه ... وآخر قطنٌ من يديه الجنادل
وروى: خشاس اناس. يعني ضعيفهم، يقع على الواحد والجمع، وصائب: من صاب السهم الهدف، وأصابه، بمعنىً فهو صائب ومصيب.
يقول: رماني خساس الناس ورذالهم، دون كرامهم. ثم جعلهم ثلاثة أقسام، وذكر قسمين في هذا البيت والقسم الثالث في البيت الذي يليه. القسم الأول هو من يرميني من صائب استه: يعني أنه لا ضعيف لا يجاوز رميه إياي استه، أو يريد به: أن ما يريد أن يعيرني به لا يلحقني، لأن الإجماع واقع على فضلي، فما يقوله يدل به على نفسه دوني، وذكر استه: استهانةً واستخفافاً به. وقيل: أراد من داءٍ به، أن يصيب السلاح استه. أي يلي دبره عند الانهزام لفراره وجبنه. والقسم الثاني: أن الجندل من يده إذا رماني به كالقطن؛ في ضعف تأثيره في وقلة مبالاتي به، ومعناه: أن منهم من لا يجاوز رميه، ومنهم من يكون الجندل من يده كالقطن وإن جاوز.
ومن جاهلٍ بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل

والقسم الثالث من خساس الناس: من يرميني من الناس. من هو جاهل قد اجتمع فيه ثلاثة أضرب من الجهل: جهله بقدري، وجهله بأنه جاهل بقدري، وجهله بأني عالم بجهله وبقدري، فمن اجتمع فيه هذه الضروب من الجهل كيف يعرف قدري؟!.
ويجهل أني مالك الأرض معسرٌ ... وأني على ظهر السماكين راجل
مالك: نصب على الحال، وكذلك على ظهر السماكين: في موضع نصب، لأنه حال، وخبر أن الأولى معسر، وخبر الثانية راجل.
يقول: إن الجاهل الذي ذكرته يجهل أني في حال ملكي الأرض معسر، لأن همتي أعلى من ذلك، وهذا قليل في جنب ما أستحقه، وأني في حال كوني على ظهر السماكين، راجلٌ عند نفسي وعظم محلي. يصف أن همته عالية، لا يسعها ملك الأرض.
تحقر عند همتي كل مطلبٍ ... ويقصر في عيني المدى المتطاول
يقول: إن لي همة تحقر عندي كل مطلب، وتقصر الغاية القصوى في عيني مع تطاولها. يعني لا أرضى لنفسي كل مرتبة أبلغها، بل أطلب فوقها.
وما زلت طوداً لا تزول مناكبي ... إلى أن بدت للضيم في زلازل
الطود: الجبل العظيم، ومناكبه: جوانبه.
يقول: كنت كالجبل لا يزول؛ لعظم حالي، فالآن قد اضطررت إلى قبول الضيم فحركني الذل والضيم، كما تحرك الزلازل الجبل، ومعناه: لم يؤثر في الضيم إلا قدر ما تؤثر الزلزلة في الجبل.
فقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيسٍ كلهن قلاقل
القلاقل: جمع القلقل، وهي الناقة الخفيفة. والعيس: الإبل التي يعلو بياضها شقرة.
يقول: لما بدت في زلازل الضيم، حركت الذي حرك قلبي، الخفاف السراع من الإبل والعيس، كلهن سراع خفاف. وأراد به السفر.
إذا الليل وارانا أرتنا خفافها ... بقدح الحصى ما لا ترينا المشاعل
يصف شدة سير العيس فيقول: إذا الليل سترنا عند السرى، أرتنا أقدام هذه العيس، عند وقعها على الحصى، لشدة ضربها بالحصى، أو ضرب بعضها ببعض، ما لا ترينا المشاعل من الضوء! يعني أن ما ينقدح من النار عند سيرها، كانت تزيد على نار المشاعل وضوئها.
كأني من الوجناء في متن موجةٍ ... رمت بي بحاراً ما لهن سواحل
الوجناء: الناقة الغليظة العظيمة الوجنتين. وقيل: هي الغليظة البدن الصلبة. ورمت: فعل الموجة، شبه المفازة التي سار فيها، بالبحار، لسعتها، ولما فيها من السراب الجاري مجرى الماء.
يقول: كأني من هذه الناقة الوجناء في هذه الفلاة على متن موجة، رمت بي الموجة بحاراً ما لها سواحل؛ لبعد هذه المفازة وسعتها.
يخيل لي أن البلاد مسامعي ... وأني فيها ما تقول العواذل
يقول: يصور لي أن البلدان التي أجول فيها مسامعي وأذناي، وأنا في هذه مثل عذل العواذل في أذني، فكما لا يستقر اللوم في أذني، كذلك لا أستقر أنا في بلد من البلاد، وشبه نفسه بالعذل، والبلاد شبهها بالمسامع.
ومن يبغ ما أبغي من المجد والعلى ... تساوى المحايى عنده والمقاتل
المحايى والمحايا: واحدها المحيا وهو الحياة.
يقول: من طلب ما أطلب من الشرف والارتفاع، تساوت عنده مواضع الحياة والموت، ولا يبالي بالقتل؛ لأن من طلب التعظيم خاطر بالعظيم.
ألا ليست الحاجات إلا نفوسكم ... وليس لنا إلا السيوف وسائل
يقول مخاطباً لأعدائه من الملوك وغيرهم: إن ما أتحمله من الشدائد وما أقتحمه من المشاق، ليس إلا طلباً لهلاككم، فليست الحاجات إلا نفوسكم وأرواحكم، وليست لنا إلى سلب أرواحكم وسائل وأسباب، إلا السيوف.
فما وردت روح امرىءٍ روحه له ... ولا صدرت عن باخلٍ وهو باخل
يقول: إن هذه السيوف لا ترد روح امرىء إلا سلبتها، فلا تكون روحه له، ولا انصرفت عن رجل بخيل يبقى بخيلاً، يعني أنه إذا وردته أهلكته، فهو يجود بنفسه التي هي أعز الأشياء، والواو في قوله وهو باخل واو الحال.
غثاثة عيشي أن تغث كرامتي ... وليس بغثٍّ أن تغث المآكل
الغثاثة الهزال، من غث يغث ويغث.
يقول: إن نقصي في نقصان الكرامة لا في نقصان المأكولات، فلست أبالي بسوء المأكولات إذا كنت مبجلاً ذا كرامة، فكأنه يقول: إذا سمعت كرامتي فلا بأس بغثاثة المأكول.
وقال أيضاً في صباه في الحماسة والفخر:
ضيفٌ ألم برأسي غير محتشم ... والسيف أحسن فعلاً منه باللمم

غير: يجوز بالرفع على أن يكون صفة لضيف، وبالنصب على الحال من ضمير الضيف، ومحتشم: أي منقبض مستحي. واللمم: جمع اللمة من الشعر.
يصف الشيب ويقول: إنه ضيفٌ نزل برأسي، وإن لم يكن نزوله نزول الضيف في الاحتشام والاستحياء، لأنه لم يستأذنني كاستئذان الضيف، ثم يقول: إن السيف أحسن فعلاً بالرأس، من الشيب باللمم. وهو من قول البحتري.
وددت بياض السيف يوم لقينني ... مكان بياض الشيب حل بمفرقي
ابعد بعدت بياضاً لا بياض له ... لأنت أسود في عيني من الظلم
ابعد: أمر من بعد يبعد إذا هلك وذل. وبعدت: دعاء على الشيب. وبياضاً: نصب على التمييز. وقوله: لا بياض له: أي لا نور له، ولا بياض في الحقيقة، وإن كان من حيث الصورة بياضاً، ويجوز أن يكون أيضاً دعاء على الشيب، وكأنه أراد لا رزق خيراً، والأولى نوراً، وإنما قال: لا بياض له لأنه يورث ظلمة البصر، وتغير اللون، ويفرق بين الإنسان وبين الملاذ، وينذر بالزوال ويؤذن بالضعف والهزال، وقوله: لأنت أسود إن أراد أنه أنت أشد سواداً ففيه شذوذ، لأن الألوان لا يبنى منها أفعل التفضيل. بل يقال: أشد سواداً، فعلى هذا معناه أنت في عيني أشد سواداً من الظلمات، وإن لم يرد معنى المبالغة، فيكون تقديره لا أنت في عيني مع بياضك أسود من جملة الظلم السود. فكأنه يقول أنت في عيني كائن من الظلم، ومثله قول أبي تمام الطائي:
له منظر في العين أبيض ناصعٌ ... ولكنه في القلب أسود أسفع
بحب قاتلتي والشيب تعذيبي ... هواي طفلاً وشيبي بالغ الحلم
تعذيبي: مبتدأ وبحب قاتلتي خبر مقدم عليه وهواي مبتدأ وكذلك شيبي وطفلاً وبالغ نصب على الحال، وهي في موضع الخبر للابتداء، وقائم مقامه.
يقول: تعذيبي بشيبي حب قاتلتي والشيب. ثم بين وقت كل واحد منهما. فقال: هواي طفلاً وشيبي بالغ الحلم يعني: هويت وأنا طفلٌ، وشبت وأنا بالغ الحلم.
ولما بين أنه عشق طفلاً، وشاب وقت الحلم جعل الحب والشيب عذاباً، وغرضه بذلك حصولهما قبل وقتهما.
فما أمر برسمٍ لا أسائله ... ولا بذات خمارٍ لا تريق دمي
يقول: مررت بصيغة لا أمر. برسم: من رسوم ديار المحبوبة، إلا وأنا أسائله عنها، أو لا أمر برسم دارٍ إلا يذكرني رسم دارها فأسائله، ولا أمر بذات خمار من النساء إلا تذكرني محبوبتي، فيريق دمي بعيني. يعني إنها تبكيني فيجري من عيني الدم، فضلاً عن الدمع! أو يريد: إنها تقتلني وتريق دمي. على مجاز الشعراء. وقيل: إنه أراد بذلك أن قلبه يتقلب، ويتعلق بكل امرأة حتى لا يملك كفه ودفعه.
تنفست عن وفاءٍ غير منصدعٍ ... يوم الرحيل وشعبٍ غير ملتئم
وروى: تبسمت، والشعب: القلب.
يقول: إن هذه المرأة تنفست الصعداء أسفاً على فراقي، وكان تنفسها عن وفاءٍ غير مفترق وعن شعبٍ متفرق، غير ملتئم، يعني أنها كانت على الوفاء مع تفرق الشمل.
قبلتها ودموعي مزج أدمعها ... وقبلتني على خوفٍ فماً لفم
مزج: بمعنى المزاج. وفماً: نصب على الحال.
يقول قبلتها عند الوداع في حال عناقي لها، وكانت الدموع ممتزجة، وقبلتني هي أيضاً، خوفاً من الرقباء أو خوف الفراق، في حال تقبيله إياها في الفم، أي في حال التصاق الفم بالفم.
فذقت ماء حياةٍ من مقبلها ... لو صاب ترباً لأحيا سالف الأمم
أراد بماء الحياة: ريقها.
يقول: ذقت من مقبل هذه المرأة ماء الحياة، فحييت، وكنت قد مت قبل ذلك، ولا تعجب من حياتي به فإنه لو صاب سالف الأمم لأحياها فضلاً عن إحيائه إياي! ويجوز أن يكون صاب: من قولك صاب المطر إذا نزل، ويكون تقديره: لو صاب على ترب إلا أنه حذف على وأوصل الفعل إليه ومثله للمجنون.
لو أن رضاب ليلى صاب ميتاً ... لأحياه وعاش إلى القيامة
ترنو إلي بعين الظبي مجهشةً ... وتمسح الطل فوق الورد بالعنم
ترنو: أي تنظر نظراً شديداً، والمجهشة: المتهيئة للبكاء. والعنم: قيل: إنه دودة حمراء تكون في الرمل، تشبه بها البنان، وقيل: نبت. وقيل: نوع من الثمار مخروط أشبه الأشياء بالبنان اللينة المخضبة، وقيل: شجر لين الأغصان. وقيل: شيء يخرج من الشجر كالثمار. وشبه أربعة أشياء: عينها: بعين الظبي، ودمعها: بالطل، وخدها: بالورد، وأصابعها: بالعنم، ونظيره قول الشاعر:

قالت وقد راعها بيني أمرتحلٌ ... عنا؟ فقلت: غداً أولا فبعد غد
فأرست لؤلؤاً من نرجس وسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد
رويد حكمك فينا غير منصفةٍ ... بالناس كلهم أفديك من حكم
رويد: اسم بمعنى فعل الأمر. ونصب حكمك برويد، وغير منصوب على الحال، أو على النداء.
يقول: ارفقي وكفي عنا حكمك يا غير منصفة، يعني: يا ظالمة. أفديك من جميع الناس من حكم بين الحكام.
أبديت مثل الذي أبديت من جزعٍ ... ولم تجنى الذي أجننت من ألم
يقول: أظهرت من الجزع مثل ما أظهرت، ولكنك لم تضمري من حبي مثل ما أضمرت. ينسبها إلى النفاق في حبها له.
إذاً لبزك ثوب الحسن أصغره ... وصرت مثلي في ثوبين من سقم
بزك: أي سلبك. والهاء في أصغره: ترجع إلى الجزع، وإلى الذي في قوله: ولم تجنى الذي أجننت. وإلى قوله: من ألم.
يقول: لو كان بك ألمٌ مثل ما بي، يسلبك أصغره ثوب الحسن وصرت في ثوبين من السقم. فجعل للحسن والسقم ثوباً.
ووجه التثنية، وهي أنه قد يعبر عن الواحد بالتثنية وإن لم يرد به حقيقة التثنية، ويحتمل أن يريد بذلك أنه يورث بها ضعف ما به من السقم، فعبر عنه بالثوبين. ويجوز: أن يكون أراد بالتثنية أن أصغر ما به يورث لها سقمين: ظاهراً وباطناً، وقيل: إن غرضه بذلك أنك صرت مثلي في إزارٍ ورداءٍ من السقم؛ لأن لباس العرب إزار ورداء. بمعنى: أن الإزار والرداء تمام لباس البدن. فكذلك ما يحصل له من السقم بأصغر ما نال من الوجد تمام ألم البدن.
ليس التعلل بالآمال من أربي ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي
وروى: ولا القنوع بضنك العيش من شيمي. والقناعة أولى؛ لأن القنوع في السؤال الأكثر.
يقول: ليس التعلل بالأماني دون الوصول إلى البغية من حاجتي، وكذلك: ليس القناعة بالفقر وضنك العيش من عادتي، ولكني أطلب المعالي والمفاخر.
وما أظن بنات الدهر تتركني ... حتى تسد عليها طرقها هممي
بنات الدهر: حوادثه. وهممي فاعل تسد، وطرقها مفعوله.
يقول: لست أحسب أن حوادث الزمان تتركني حتى أبلغ ما أريد بلوغه، حتى تسد على تلك الحوادث طرقها هممي وتمنعها من الوصول إلي والوقوف بي.
لم الليالي التي أخنت على جدتي ... برقة الحال واعذرني ولا تلم
أخنت: أي أهلكت. على جدتي: أي على غناي. ورقة الحال: ضعف الحال.
يقول: يا من يلومني على ضعف حالي ورثاثة الهيئة، لم حوادث الليالي التي أهلكت غناي، واعذرني فلا لوم علي إذ لا ذنب لي.
وقيل: إن سائلاً تعرض لعطائه. فقال له: لم الليالي التي فعلت بي ذلك وأفقرتني، واقبل عذري في ردك ولا تلمني؛ لأن فقري واختلالي ليس من قبلي.
أرى أناساً ومحصولي على غنمٍ ... وذكر جودٍ ومحصولي على الكلم
محصولي: أي حصولي.
يقول: أرى أشباحاً في صور الناس، وهم في الحقيقة كالغنم؛ لبعدهم من المروءة، وأرى ذكر جودٍ فيما بين الناس الذين هم كالغنم، وحصولي من ذلك على كلمٍ. يعني: أن الذي حصل من جودهم الحكاية، دون حقيقة الجود.
ورب مالٍ فقيراً من مروءته ... لم يثر منها كما أثرى من العدم
يقول: وأرى صاحب مال، فقيراً من المروءة والإنسانية، لم يثر منه أي حظ من نفسه، ولم يستوف حظها من الإنسانية والمروءة، كما أثرى من العدم: أي الفقر. والهاء في منه: لرب المال، ورب فقير من المال، يستوفي حظ نفسه ويجود بقدر طاقته. وروى: ورب مال فقيرٍ من مروته. أي: ورب إنسان كثير المال. يقال: رجلٌ مالٌ، ومائل: إذا كان كثير المال، وفقير صفة له، والرواية الأولى أشهر من الثانية.
سيصحب النصل مني مثل مضربه ... وينجلي خبري عن صمة الصمم
يقول على سبيل الإيعاد: إن السيف يستصحب من نفسه مثلي حده مضاء، وينكشف خبري عن شجاع الشجعان، أو أسد الأسود.
لقد تصبرت حتى لات مصطبرٍ ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لات: بمعنى لا، ويجوز في مصطبرٌ: الجر. لأن من العرب من يجر بلات. ويجوز: أن يرفع. كما يرفع بلا.
يقول: قد صبرت حتى لم يبق موضع صبر، أو لم يبق اصطبار، فلم ينفعني ذلك، فالآن أدخل نفسي في العظائم، حتى لا يبقى موضع اقتحام، أو حتى لا يبقى لي اقتحام.
لأتركن وجوه الخيل ساهمةً ... والحرب أقوم من ساقٍ على قدم

ساهمة: أي متغيرة من غبار الحرب، لشدة التعب، وألم الجراحة والخوف، وغيرها.
يقول: لأتركن وجوه الخيل متغبرة في حالٍ يكون الحرب فيها أقوم من ساق على قدم، فعلى هذا يكون الحرب وأقوم مرفوعين. ويجوز: نصبهما عطفاً على وجوه الخيل ساهمة. أي ولأتركن الحرب أقوم من ساق على قدم.
والطعن يخرقها والزجر يقلقها ... حتى كأن بها ضرباً من اللمم
الهاء في يخرقها ويقلقها وبها: للخيل. واللمم: الجنون.
يقول: ولأتركن وجوه الخيل ساهمةً في الحال التي لم يخرق الطعن الخيل، ويزعجها الزجر، حتى كأن بها ضرباً من الجنون. ويروى: يخرقها بضم الياء أي: يورثها خرقاً وطيشاً. وروى: يحرقها بالحاء أي: يهلكها من الحرق والأول أولى.
قد كلمتها العوالي فهي كالحةٌ ... كأنما الصاب معصورٌ على اللجم
الصاب: شجر مر وهذا تأكيداً لما مضى.
يقول: أترك هذه الخيل وقد جرحتها الرماح حتى عبست وجوهها، من شدة وقوع الأسنة بها، فيكون من شدة عبوسها؛ كأنها قد عصر الصاب الذي هو شجر مر على لجمها.
بكل منصلتٍ ما زال منتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
يقول: ولأتركن وجوه الخيل ساهمة، بكل سيف مجرد، ما زلت أنتظره وينتظرني، حتى انتقمت له من الخدم الذين استولوا على الملك وسلبتهم الملك، وأعطيت دولة الخدم من يستحقه.
وقيل: أراد بهذا المنصلت: الرجل الماضي في الأمور، أي أفعل ذلك بكل رجل ماضٍ في الأمور ما زال ينتظرني، لمحاربة الأملاك، حتى أعطيته دولة الخدم الذين هم ملوكٌ اليوم، والأصح: أنه صفة للسيف.
شيخٍ يرى الصلوات الخمس نافلةً ... ويستحل دم الحجاج في الحرم
شيخ: بدل من كل.
يقول: بكل سيف يرى الصلوات الخمس نافلة، ويستحل دم الحجاج في مكة، لأنه لا يخشى ولا يعقل ولا يعرف الشرع، وإنما وصفه بكونه شيخاً، إما لبياضه وإما لكونه قديماًن وذلك مدحٌ للسيف. وقيل: أراد بالشيخ: الرجل الماضي الذي يطلب الملك. يعني أنه لا يبالي بالحرام والحلال، ولا يرد التحرز الذي يوجبه الدين، وذلك أصلح للحرب والقتال.
وكلما نطحت تحت العجاج به ... أسد الكتائب رامته ولم يرم
أسد الكتائب: اسم ما لم يسم فاعله. وهو نطحت. ورامته: أي زالت عنه. ولم يرم: أي لم يزل هو، وأصله رامت عنه فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل إليه، والهاء في به وفي رامته: للشيخ.
يقول: وكلما ضربت تحت الغبار في الحرب بذلك الشيخ، صرعت أسد الجيوش، وشجعان الحروب، زالت عن هذا الشيخ الأسد وانهزمت، ولم يزل هو عنها، بل ثبتت. وروى: وكلما بطحت بالباء أي صرعت. وروى: نقحت من المناقحة بالسيف. يقال: نقتحته بالسيف: إذا ضربته فيه في فجأة.
تنسي البلاد بروق الجو بارقتي ... وتكتفي بالدم الجاري عن الديم
فاعل تنسي: بارقتي، والبلاد، مفعوله الأول، وبروق الجو. المفعول الثاني. والبارقة: السحابة ذات البرق. وأراد ها هنا السيف. والديم: جمع الديمة وهي المطر، يدوم أياماً.
يقول: إن سيفي ينسي أهل البلاد بروق السماء، وتكتفي البلاد أي أهلها بالدم الجاري من سيفي عن الأمطار، يعني أن ما أسقيها من الدماء ينوب عن ماء السماء.
ردي حياض الردى يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم
وقد روى: حياض الردى حوباء: أي يا حوباء وهي النفس.
يقول: يا نفس ردي حياض الهلاك واغشي غمرات الحروب واتركي حياض غير الهلاك للشاء والنعم. وأراد ها هنا الجبناء الضعفاء، لأنهم بمنزلة البهائم! وروى: حياض خوف الردى: أي اتركي الخوف من الردى. وروى: الحياض الذين هم بمنزلة الشاء والنعم.
إن لم أذرك على الأرماح سائلةً ... فلا دعيت ابن أم المجد والكرم
يقول: إن لم أتركك يا نفس سائلة على الأرماح، مقتولة أو مجروحة، فلا نسبت إلى المجد والكرم. بالغ في وصف نفسه بالمجد والكرم.
أيملك الملك والأسياف ظامئةٌ ... والطير جائعةٌ لحمٌ على وضم
الوضم: الخشبة التي يقطع عليها اللحم. ولحمٌ: رفع لأنه فاعل يملك.
يقول: أيملك الملك هؤلاء الملوك، الذين هم لحم على وضم! مع أن الأسياف ظامئة إلى دمائهم والطير جائعة محتاجة إلى مثل هذه اللحوم.
من لو رآني ماءً مات من ظمإٍ ... ولو مثلت له في النوم لم ينم
مثلت: أي قمت وظهرت.

يقول: أيملك الملك من هو في ضعفه لو رآني ماءً وهو ظمآن لم يمكنه أن يردني ومات عطشاً! ولو رآني في النوم لزال نومه، ولا يجسر أن ينام؛ خوفاً مني، ولا يستقر لعظم هيبتي في قلبه.
ميعاد كل رقق الشفرتين غداً ... ومن عصى من ملوك العرب والعجم
ومن عصى: في موضع جر، عطفاً على كل.
يقول: ميعاد كل سيفٍ رقيق الشفرتين غداًن وميعاد كل من عصاني من ملوك العرب والعجم؛ أقتلهم به. وقيل: فيه إضمار تقديره هذا المذكور الذي هو لحم على وضم، ميعاد كل سيوفي ملوك العرب والعجم.
فإن أجابوا فما قصدي بها لهم ... وإن تولوا فما أرضي لها بهم
يقول: أقصدهم بسيوفي، فإن انقادوا إلي فما قصدي بهذه السيوف إليهم، وإن تولوا عني، فما أرضى لهذه السيوف بهم بل أقتل سواهم.
وقال أيضاً في صباه وقد عذله أبو سعيد المخيمري في تركه لقاء الملوك
أبا سعيدٍ ... جنب العتابا
فرب راءٍ ... خطأً صوابا
راء: فاعل، وهو العامل في خطأ، وفي صواب، لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل منه.
يقول: يا أبا سعيد بعد عني عتابك فأنت مخطىء فيه، فرب إنسانٍ يرى الخطأ صواباً، وروى فرب رائي خطإٍ صواباً على الإضافة وحذف التنوين، طلباً للخفة، والغرض إثباته لأن الإضافة غير حقيقية، ثم بين وجه الخطأ في عذل أبي سعيد فقال:
فإنهم قد ... أكثروا الحجابا
واستوقفوا ... لردنا البوابا
استوقفوا: أي طلبوا من البواب الوقوف.
يقول: إنما أترك قصدهم لأنهم أكثروا الحجاب ليمنعونا عنهم، وأقعدوا لردنا عنهم البواب على أبواب دورهم.
وإن حد ... الصارم القرضابا
والذابلات ... السمر والعرابا
ترفع فيما ... بيننا الحجابا
القرضاب: هو القاطع، وهو صفة لحد السيف. والذابلات السمر: هي الرماح. والعراب: الخيل العربية.
يقول: لا أقصدهم إلا محارباً بالصارم القاطع، والرماح الذبل، والخيل العراب؛ فإن هذه الأشياء التي ذكرتها ترفع الحجاب فيما بيننا وبينهم.
وقال في صباه ارتجالاً يصف ألم الشوق والفراق على لسان إنسان سأله ذلك:
شوقي إليك نفى لذيذ هجوعي ... فارقتني وأقام بين ضلوعي
يقول مخاطباً لحبيبه: شوقي إليك نفى نومي، ففارقتني أنت، وأقام ذلك الشوق بعدك بين ضلوعي.
أوما وجدتم في الصراة ملوحةً ... مما أرقرق في الفرات دموعي؟!
الصراة: نهر ببغداد، مشتق من الفرات.
يقول لحبيبة، وهو واحد؛ يخاطب الجماعة تعظيماً له: أوما وجدتم في هذا النهر ملوحةً؟ من كثرة ما صببت من دمعي في الفرات، الذي مادة هذا النهر منه؛ لأن الدمع مالح المذاق.
ما زلت أحذر من وداعك جاهداً ... حتى اغتدى أسفي على التوديع
يقول: مازلت أحذر من توديعك خوف الفراق، حتى وقع الفراق من دون الوداع، فصرت أأسف على ترك التوديع؛ إذ كان فيه بعض السلوة. أو يكون الفراق وقع مع الوداع. فيقول: أنا آسف على ما حصل لي من المسرة في لقائك عند الوداع، فأشتاقه وأتمنى عوده.
رحل العزاء برحلتي فكأنما ... أتبعته الأنفاس للتشييع
العزاء: الصبر.
يقول: رحل العزاء عند ارتحالي عنك، فكأنني أتبعته أنفاسي لتشيعه، أو للتشييع لك، ويحتمل أن يريد: أن الصبر فارقني لفراقي لك، وضعفت عن النفس، وانقطعت الأنفاس، فكأنما تبعتك مشيعةً ومثله لأبي تمام.
إن لم أودعهم فقد أتبعتهم ... بمشيعين: تنفسي ودموعي
وقال أيضاً في صباه ارتجالاً يفتخر:
أي محلٍّ أرتقي ... أي عظيمٍ أتقي؟
وكل ما خلق الله ... وما لم يخلق
محتقرٌ في همتي ... كشعرةٍ في مفرقي
يقول: أي محل أرتقي إليه؟ فلا مزيد فوق ما أنا عليه فأصبر إليه. وأي عظيم أخشى منه وأحذره؟ وكل شيء خلقه الله تعالى وما لم يخلق بعد، هو محتقر عند همتي، كشعرة في مفرق رأسي. وروى: كشعرتي في مفرق على الإضافة، ومفرق على النكرة أي مفرق من المفارق.
وقال أيضاً في صباه، مجيباً لإنسان قال له: سلمت عليك فلم ترد علي السلام:
أنا عاتبٌ لتعتبك ... متعجبٌ لتعجبك
إذ كنت حين لقيتني ... متوجعاً لتغيبك
فشغلت عن رد السلام ... فكان شغلي عنك بك

يقول لصاحبه وقد عاتبه على تركه رد السلام: أنا متغضب لأجل غضبك، ومتعجب بسبب ما تعجبت! من تركي للجواب لك؛ لأني كنت حين رأيتني متوجعاً لغيبتك، التي كانت قبل رؤيتي إياك، فلما رأيتني كنت مدهوشاً، فشغلتني دهشتي وفكري فيك، عن رد السلام عليك، فكان شغلي عن رد السلام بك.
وقال أيضاً في صباه في الحماسة:
إذا لم تجد ما يبتر الفقر قاعداً ... فقم واطلب الشيء الذي يبتر العمرا
يقول لنفسه، أو لرفيقه: إذا لم تجد الشيء الذي يقطع الفقر وأنت قاعد! وهو: إما القناعة، وإما المال. فقم واطلب الشيء الذي يقطع العمر، وهو السيف الذي يوصلك إلى مبتغاك فتنال ما تريد أو تقتل.
وقال أيضاً في صباه يستبطىء عطاء ممدوحه:
انصر بجودك ألفاظاً تركت بها ... في الشرق والغرب من عاداك مكبوتاً
فقد نظرتك حتى حان مرتحلٌ ... وذا الوداع فكن أهلاً لما شيتا
روى: أبياتاً بدل ألفاظاً. ومكبوتاً: أي مردوداً بغيظه. ونظرتك: أي انتظرتك. ومرتحل: أي ارتحالي، أو وقت ارتحالي. وانصر: من قولك نصر المطر الأرض إذ جاد عليها.
يقول: اسق بجودك ما قلت لك من الأشعار، التي قد مدحتك بها، فإني قد تركت بسببها من عاداك، مردوداً بغيظه في الشرق والغرب؛ لأن ما قلته يروى أبداً فيغيظ أعداءك، أو لأن أعداءك طلبوا مني مدحهم، فاخترتك عليهم ومدحتك دونهم فغظتهم بذلك، فأجزني على ذلك، فقد طال انتظاري لعطائك حتى حان الارتحال، وهذا الوداع قد حضر فكن أهلاً لما شئت إن أعطيتني شكرتك وإن أحرمتني شكوتك وهجوتك.
وقال أيضاً في صباح يمدح بعض أمراء حمص ولم ينشدها أحداً:
حاشى الرقيب فخانته ضمائره ... وغيض الدمع فانهلت بوادره
حاشى: أي أظهر سره. وروى خاشا: أي توقا وتجنب وفاعله مضمر تقديره خاشا المحب الرقيب، وكذلك غيض المحب الدمع، والضمير: في ضمائره، وخانته يعود إلى الفاعل المضمر، وهو: المحب. وفي بوادره: إلى الدمع.
يقول: إن المحب باعد الرقيب وتوقاه كأنما سره فخانته ضمائره؛ حيث لم يمكنه ستره لغلبة الجزع. وغيض هذا المحب أيضاً دمعه وحبسه، فلم يمكنه ذلك، فانسكبت بوادره وسوابقه من شدة الجزع وفرط الهوى، فظهر للرقيب ما كان يكاتمه وانهتك له ستره.
وكاتم الحب يوم البين منهتكٌ ... وصاحب الدمع لا تخفى سرائره
وروى: وكاتم الوجد. وصاحب الوجد. أيضاً.
هذا البيت تفسير للبيت الأول. يقول: كاتم الحب، يوم الفراق مفتضح، وصاحب الوجد، تظهر سرائره بدموعه.
لولا ظباء عديٍّ ما شقيت بهم ... ولا بربربهم لولا جآذره
الربرب: القطيع من بقر الوحش. والجآذر: جمع جؤذر، وهو ولد البقرة الوحشية. والمراد بالربرب والظباء: النساء. وبالجآذر: الصبايا والفتيات.
يقول: لولا نساء هذه القبيلة وجواريهم، ما شقيت بهم، ولا ابتليت بهواهم، فكأنه يقول: إني أحب رجال عديٍّ لحبي نساءهم وجواريهم، أو رأى من حيث الأدب أن ينسب شقاءه إلى قوم محبوبته، وإن كان مقصوده المحبوبة. وقال ابن فورجة: يقال شقي فلان بقوم: إذا أبغضوه؛ فكأنه يقول: لولا نساء عديٍّ وجواريهم، ما شقيت برجال هذه القبيلة؛ يعني أنهم إنما أبغضوني لذلك فلولاهن ما أبغضوني.
من كل أحور في أنيابه شنبٌ ... خمرٌ يخامرها مسكٌ تخامره
الأحور: الصافي بياض العين وسوادها، مع سعة العين. والشنب: برد ماء الأسنان، وعذوبته. وقيل: صفاء الأسنان. وقيل: حدتها. والمخامر: المخالط. وخمر: بدل من شنب، فكأنه يقول في أنيابه خمر. ويجوز أن يكون خمر وما بعدها، صفة لشنب. لأن النكرة توصف بالجملة، والهاء في مخامرها: للخمرة لأنها تأنث في الأغلب، وفي تخامره: للمسك. والتاء: للخمر.
يقول: كل واحد من الظباء، حسن العينين، في أسنانه بياض وصفاء، وماء بارد، خالطته خمر، وخالط تلك الخمرة مسك، يصف بذلك عذوبة فم الحبيب وشبهه بالخمر لما فيها من اللذة، ووصف طيب رائحته فشبهه بالمسك.
نعجٌ محاجره دعجٌ نواظره ... حمرٌ غفائره سودٌ غدائره

النعج: البيض. والمحاجر: جمع محجر وهو ما حول العين. وقيل: ما يبدو من النقاب. والدعج: جمع أدعج ودعجاء: وهو الشديد السواد. والنواظر: الحدق. والغفائر: جمع غفارة، وهو ما يغفر الرأس من مقنعة، أو وقاية: يوقي بها الرأس من الدهن. والهاء في كل ذلك، ترجع إلى لفظ الأحور أو لفظ كل.
يقول: من كل أحور بيض محاجره، سود نواظره، حمر مقانعه سود ضفائره.
أعارني سقم جفنيه وحملني ... من الهوى ثقل ما تحوي مآزره
أعارني: ك واحد من الظباء. سقم عينيه: وهو الفتور الذي في العين. وجعله عاريةً في بدني، أي أسقمني بعينه السقيمة، وحملني ثقل ما اشتملت عليه مآزره وهو جمع المئزر ويعني به: الأرداف والكفل.
يا من تحكم في نفسي فعذبني ... ومن فؤادي على قتلي يضافره
المضافرة: المعاونة. ويروى: بالضاد، والظاء.
يقول: يا من تحكم في نفسي فعذبني في هواه، ويا من يعاونه قلبي على قتلي، فإن قلبي يميل إليك، ويحتمل كل ما وصل إليه منك. والهاء في يضافره: تعود إلى من وهو مذكر في اللفظ.
بعودة الدولة الغراء ثانيةً ... سلوت عنك ونام الليل ساهره
الهاء: تعود إلى الليل. وكان هذا الممدوح قد عزل عن ولايته بلده، ثم أعيد إليها، وقيل: كان قد أسر وفدي فعاد إلى بلده.
يقول لمحبوبته: قد سلوت عنك أيها المنادي، بعودة دولة هذا الأمير ثانية، وقد نمت في ليلى بعد ما كنت ساهراً، لحزني لغيبته.
من بعد ما كان ليلي لا صباح له ... كأن أول يوم الحشر آخره
يقول: نمت في ليلي، من بعد ما كان ليلي علي طويلاً، بحيث لا صباح له، فكأن آخره أول يوم القيامة من الطول. يعني أنه بلا آخر، فكأنه متصل بيوم القيامة ومثله قول خالد الكاتب:
رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر
غاب الأمير فغاب الخير عن بلدٍ ... كادت لفقد اسمه تبكي منابره
يقول: لما عزل هذا الأمير أو أسر فغاب الخير عن بلد، كادت منابره تبكي لافتقادها اسمه عليها أيام الجمعة. والهاء: في اسمه للأمير، وفي منابره: للبلد.
قد اشتكت وحشة الأحياء اربعه ... وخبرت عن أسى الموتى مقابره
الأربع: جمع القلة للربع وهو المنزل. والكثير الرباع، والربوع. والهاء: في أربعه ومقابره: للبلد.
يقول: شكت منازل البلد وحشة الأحياء بغيبة الأمير عن هذا البلد، وأخبرت المقابر عن حزن موتاها، لأنها كانت معمورة بالخيرات عند كونه فيها، أو لكونها كانت عليها من طلاوة هذا الممدوح، مثل ما يكون على من في قلبه مسره.
حتى إذا عقدت فيه القباب له ... أهل لله باديه وحاضره
يقول: ما زالت الأربع والمقابر كذلك، حتى ضربت له الخيام وعقدت له عند دخوله البلد القباب، فكبر لذلك أهل البدو وأهل الحضر؛ استبشاراً به، لأن من عادة المستبشر أن يكبر ويهلل، والهاء: في باديه وحاضره: للبلد. ويجوز أن يريد به: نفس البدو والحضر، ويكون ذلك مبالغة في الاستبشار، لأنهما إذا استبشرا مع كونهما جمادين، فما ظنك بأهلها مع صحة الاستبشار منهم.
وجددت فرحاً لا الغم يطرده ... ولا الصبابة في قلبٍ تجاوره
وجددت: يجوز أن يكون فعل العودة أو الدولة أو القباب المعقودة، أو فعل الأربع والجماعة المذكورة، والهاء في يطرده: للفرح، وفي تجاوره: للقلب. ويجوز أن يكون راجعاً إلى الفرح.
يقول: جددت هذه الأمور فرحاً لا يطرده غم؛ من قوته وتمكنه من القلب، ولا يجاوره شوق وصبابة، أي لا يصير جاراً له، وذلك لأن العشق لا يكاد يخلو توابعه من الغم، والفرح إذا كان غالباً لم يكن هناك عشق.
إذا خلت منك حمصٌ لا خلت أبداً ... فلا سقاها من الوسمي باكره
الهاء في سقاها: لحمص. وفي باكره: للوسمي. وقوله: لا خلت أبداً: دعاء للبلد أو لأهلها، وهو في الحقيقة دعاء للممدوح بالدوام والثبات فيها، وهو حشو مليح.
يقول: إذا خلت منك هذه البلدة لا خلاها الله منك فلا سقاها باكر الوسمي: وهو أوله أو ما يأتيه بكرة، وذلك دعاء على البلد عند خلوها منه.
دخلتها وشعاع الشمس متقدٌ ... ونور وجهك بين الخيل باهره
الهاء في باهره: ترجع إلى شعاع الشمس، أي غالبه.

يقول: دخلت حمصاً والشمس طالعة وشعاعها متقد وكأن نور وجهك بين العساكر غالباً لشعاع الشمس، والغرض به تفضيله على الشمس في الحسن والبهاء.
في فيلقٍ من حديدٍ لو قذفت به ... صرف الزمان لما دارت دوائره
الفيلق: العسكر؛ لأنه يفلق كل شيء أتى عليه يقول: دخلتها بجيشٍ من حديد؛ لكثرة ما عليهم من الحديد، لو رميت به صرف الدهر مع أنه لا يطيقه أحدٌ لما دارت دوائر صرف الزمان، ولا نفذت أحكامه.
تمضي المواكب والأبصار شاخصةٌ ... منها إلى الملك الميمون طائره
المواكب: جمع المواكب، وهو الجماعة من الناس، والمراد ها هنا الجيش. والهاء في منها: للكواكب وفي طائره. للملك.
يقول: تسير الجماعات والأبصار شاخصة من بينها إلى الملك الميمون طائره دون غيره ممن معه من الجيش، وذلك لما له من الفضل والبهاء.
قد حرن في بشرٍ في تاجه قمرٌ ... في درعه أسدٌ تدمى أظافره
حزن: فعل الأبصار، والبشر: اسم يقع على الواحد وما فوقه من الناس، وأراد هاهنا الممدوح، والأظافر: جمع، وأصلها الأظافير فحذف الياء، وهو جمع أظفور بمعنى الظفر، أو جمع أظفار، فهي إذاً جمع الجمع لأن أظفاراً: جمع ظفر.
يقول: تحيرت الأبصار في بشرٍ في تاجه قمرٌ، وهو وجهه، وفي درعه أسد، أي أنه شجاع، كأنه أسد، تدمى أظافيره بدماء الصيد. شبه وجهه بالقمر، ونفسه بالأسد، ومثله قول مسلم.
كأن في سرجه بدراً وضرغاماً
حلوٍ حلائقه شوسٍ حقائقه ... تحصي الحصى قبل أن تحصي مآثره
الشوس: جمع أشوس. وشوساً، وهو الذي تصغر عينيه للنظر، ويضم أجفانه، وذلك فعل المبغض والعدو، والحقائق: جمع الحقيقة وهي ما يحق على الإنسان حفظه والذب عنه. والمآثر: جمع المأثرة، وهي ما يؤثر من فضل الإنسان.
يقول: تحيرت الأبصار في بشرٍ خلائقه عذبة، وحقائقه محفوظة مرعية، ومآثره غير متناهية كثرة، بحيث يمكن إحصاء الحصا كلها، ولا يمكن إحصاء مآثره وعد محاسنه ومكارم أخلاقه وأفعاله.
تضيق عن جيشه الدنيا ولو رحبت ... كصدره لم تبن فيها عساكره
يقول: إن الدنيا مع سعتها تضيق عن جيش الممدوح لكثرته، ولو اتسعت الدنيا اتساع صدره، فكانت عساكره مع كثرتها لا تظهر فيها لسعة صدره، وهو كقول أبي تمام:
ورحب صدرٍ لو ان الأرض واسعةٌ ... كوسعه لم يضق عن أهله بلد
إذا تغلغل فكر المرء في طرفٍ ... من مجده غرقت فيه خواطره
التغلغل: الدخول في المضيق. والهاء في مجده: للممدوح، وفي فيه: لطرف وفي خواطره: للمرء.
يقول: إذا دخل فكر المرء في طرف من مجده، غرقت جوامع خواطره فيه، لعظمه ووفور مجده وشرفه، فإذا كان طرف منه بهذه الصفة، فكيف يتصور إحاطة الفكر بجميع مجده وشرفه؟!
تحمى السيوف على أعدائه معه ... كأنهن بنوه أو عشائره
تحمى: من الحمية والغضب.
يقول: إن السيوف إذا كانت في يده وأيدي أوليائه، لفضل مضائه، كأنه تحمى وتغضب على أعدائه معه، حتى كأن السيوف بنوه أو أقاربه؛ لأنها تغضب لغضبه، ومثله لأبي تمام:
كأنها وهي في الأوداج والغةٌ ... وفي الكلى تجد الغيظ الذي تجد
إلا أن بيت المتنبي أبلغ؛ لذكره المناسبة والقرابة.
إذا انتضاها لحربٍ لم تدع جسداً ... إلا وباطنه للعين ظاهره
الهاء في باطنه وظاهره: للجسد.
يقول: إن الممدوح إذا انتضى تلك السيوف من أغمادها عند الحرب، لم يترك من أعدائه جسداً إلا جعله إرباً إرباً، حتى تبدوا بواطن أجسادهم، أو يشق بطنه فتظهر منه الآلات الباطنة، أو يريق دمه الذي في باطن الجسد، فيظهر عند ما يسيل، فيصير في هذه الحالات باطن الجسد للعين ظاهراً.
فقد تيقن أن الحق في يده ... وقد وثقن بأن الله ناصره
يقول: إن السيوف تيقن أن الحق في يده، لما ازدادت قوة يده، وأيدي أوليائه، وقد وثقن بأن الله ينصره على أعدائه؛ فلهذا صرن مثل بنيه وعشائره في الحمية. ومثل قول النابغة:
جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب
تركن هام بني عوفٍ وثعلبةٍ ... على رءوسٍ بلا ناسٍ مغافره
الهاء في مغافره: للهام.

يقول: إن هذه السيوف تركن هام هؤلاء القوم لما قطعن رءوسهم، عليها المغافر على رءوس بلا أجساد، وكانت الرءوس ملقاة على الأرض وعلى هاماتها المغافر، وعبر عن الأشخاص بالناس.
فخاض بالسيف بحر الموت خلفهم ... وكان منه إلى الكعبين زاخره
زخر البحر: إذا ارتفع موجه.
يقول: خاض هذا الممدوح بسيفه خلف هؤلاء القوم، بحر الموت: يعني موضع القتال. واستحقر ذلك وإن كان عظيماً، حتى صار زاخر ذلك البحر ومتلاطمه من هذا الممدوح إلى الكعبين، يصف بذلك قلة مبالاته بالأمور العظام.
حتى انتهى الفرس الجاري وما وقعت ... في الأرض من جيف القتلى حوافره
روى: انتهى، وانثنى.
يقول: من قتل منهم صار بحيث أن الفرس الجاري لم يضع وقت جريه حوافره إلا على جيف القتلى، ولا تقع حوافره على الأرض من كثرة القتلى.
كم من دمٍ رويت منه أسنته ... ومهجةٍ ولغت فيها بواتره
أصل الولغ: شرب السباع الماء بألسنتها، ثم كثر فصار اسماً للشرب مطلقاً.
يقول: كم من دمٍ رويت منه أسنة الممدوح، وكم من نفس دخلت فيها سيوفه القواطع، وشربت منها حتى رويت، يعني أنه سفك دماء أعدائه فلم يبق له عدواً إلا قتله.
وحائنٍ لعبت سمر الرماح به ... فالعيش هاجره والنسر زائره
الحائن: الهالك. والهاءات: راجعة إليه.
يقول: كم من هالك لعبت به الرماح السمر فأهلكته، حتى هجره العيش، فزاره النسر لأكل لحمه.
من قال: لست بخير الناس كلهم ... فجهله بك عند الناس عاذره
عاذره: أي قابل عذره.
يقول: من لم يقل: خير الناس أنت، فهو جاهل، والجاهل إذا قال محالاً لجهله، فإن جهله يعذره عند الناس أجمعين.
أوشك أنك فردٌ في زمانهم ... بلا نظيرٍ ففي روحي أخاطره
أخاطره: أراهنه.
يقول: من شك أنك فردٌ: لا نظير لك، فإني أراهنه وأشارطه بروحي وروحه، فحذف للدلالة، وإنما راهنه بروحه لفرط يقينه، أنه لا نظير له، فعلم أنه يفوز بالظفر، ويظفر بالخطر؛ لأن الروح أعز الأشياء
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره
اعوذ، وألوذ: متقاربان في المعنى.
يقول: يا من ألتجىء إليه في آمالي، ويا من أعتصم به مما أخشاه وأحذره من المكاره.
ومن توهمت أن البحر راحته ... جوداً وأن عطاياه جواهره
الهاء في جواهره: للبحر.
يقول: يا من خلت أن راحته هي البحر وأن عطاياه هي جواهر البحر التي تخرج منه؛ لأن الجواهر لا تكون إلا من البحر.
ارحم شباب فتىً أودت بجدته ... يد البلى وذوي في السجن ناضره
الهاءات: كلها للفتى.
يقول: ارحم شباب فتىً أهلكت البلى جدته، فأخلقته، وذبل في السجن ما كان ناضراً منه
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره
لا يهيضون: أي لا يكسرون ما تجبره أنت، ولا تجبر الناس ما تكسره أنت، يعني: أنهم لا يقدرون على رد أمرك ومثله قول الآخر:
لا يجبر الناس عظم ما كسروا ... ولا يهيضون عظم ما جبروا
وقال أيضاً يمدح شجاع بن محمد بن عبد العزيز بن الرضا المضاء الطائي المنبجي:
عزيزٌ أسى من داؤه الحدق النجل ... عياءٌ به مات المحبون من قبل
الأسى: جمع أسوة، وهي الصبر. والأسا: مصدر أسوت الجرح أسواً وأسياً.
يقول: عزيز: أي قليل الوجود صبر من داؤه، أو مداواة من داؤه الحدق الواسعة، وهو داء عياء. ثم قال: به أي بهذا الداء. مات المحبون من قبل. ويجوز أن يكون المراد بالأسى الحزن، وعزيز: أي شديد صعب، يخشى عليه. وعزيزٌ: مرفوع بالابتداء وأسى خبره، وجاز البتدا بالنكرة لأنه في تقدير فعل، كأنه يقول: عزيز أسى، وداء عياء خبر ابتداء محذوف كأنه قال: وهو داء عياء.
فمن شاء فلينظر إلي فمنظري ... نذيرٌ إلى من ظن أن الهوى سهل
المنظر: موقع النظر عليه.
يقول: من أراد أن يجرب هذا الداء فلينظر إلي، ليبصر نحول جسمي فإن منظري، أو حالي نذير ومخوف لمن ظن أن العشق هين، وأن الحب يمكن الخروج منه، والمقصد تعظيم أمر الهوى وقلة المداوة منه.
وما هي إلا لحظةٌ بعد لحظةٍ ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل

هي: ضمير قبل الذكر، والمراد به الخصلة، أو اللحظة المذكورة من بعد، وروى: وما هو، وأراد الهوى المذكور في البيت الذي قبله. والهاء في قلبه: ترجع إلى من في قوله من داؤه.
يقول: لا يتولد الهوى إلا من نظرةٍ إثر نظرة، فإذا حلت تلك اللحظات المتكررة في القب، رحل العقل وزال بعد نزولها، فلا ينتفع بعد ذلك بالعقل.
جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي ... فأصبح لي عن كل شغلٍ بها شغل
يقول: جرى حب هذه المرأة في جميع بدني، واستولى علي بجملتي وجرى مجرى الدم، أي أنه امتزج بجميع بدني كالدم الجاري فيه، فأصبح لي شغل بها، يشغلني عن كل شغلٍ هو سواه، وقيل معناه: أن هواها ذللني حتى عنها من شدة تأثيره في روحي وعقلي وبدني.
هذا وروى: فأصبح عن غير شغلي بها شغل.
ومن جسدي لم يترك السقم شعرةً ... فما فوقها إلا وفيها له فعل
فما فوقها: يجوز أن يكون في العظم وفي الشعر، والهاء في فيها: للشعرة وروى: فيه وأراد به: الجسم. وفي له للسقم.
يقول: لم يترك السقم من جسدي شعرة وما فوقها، في الصغر أو العظم، إلا وفيها للسقم تأثير وفعل، وتأثيره في الشعرة؛ لأن تحت كل شعرة منفذ إلى البدن، فيريد أن الحب وصل إلى كل مكان من جسده، وفعل السقم في الشعر: الشيب. وقيل: أراد بالشعرة: أقل شيء من جسده.
إذا عذلوا فيها أجبت بأنةٍ ... حبيبتا قلبي فؤادي هيا جمل
روى: بأنةٍ، ورنة: وهما واحد. وحبيتا: الألف فيه بدل من الياء، وأصله: حبيبتي على إضافة إلى الياء، إلا أنه أبدلها ألفاً، تخفيفاً. كقوله تعالى: " يا حسرتي على ما فرطت " والحبيبة تصغير الحبيبة. وأراد به: التخصيص لا التحقير. وقوله: قلبي أي: يا قلبي. وهو بدل من حبيبتا، وفؤادي بدل: من قلبي. وذلك نداء بعد نداء، وجميعها منصوب بالنداء المضاف. وهيا: حرف النداء. وجمل: اسم المرأة. وهو مبني على الضم بالنداء المفرد.
يقول: إذ لاموني في حبها، كان مكان جوابي لهم بأنةٍ حكايتها: يا حبيبتي يا قلبي، يا فؤادي، يا جمل، وفيه تنبيه على أن الحبيب ينزل منزلة القلب، فلهذا، بين جواب العذال: أنها والقلب واحد. وقيل: تقديره يا حبيبتا قلبي أدركيني، فإني أشتكي قلبي ولا أبالي بملامة من يلومني فيها، ولا ألتفت إليه.
كأن رقيباً منك سد مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها عذل
الهاء في يدخلها: للمسامع، وهو جمع مسمع وهي الأذن.
يقول: كأنك قد وكلت بي رقيباً منك يراقبني، من أن ألتفت إلى اللوام، فكأنه سد أذني عن دخول العذل فيها، فلا أسمع ما يقولون من هجرانك، والتسلي عنك، ومثله قول الآخر:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري ... وآخر يرعى ناظري ولساني
ويجوز أن يريد: كأن الرقيب الذي يحفظك عني سد أذني عن سمع العذل فيك، حسداً منه على جريان ذكرك في سمعي؛ ذلك أني كنت بعد اللذة في سماع ذكره، كما قال أبو الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذةً ... حباً لذكرك فليلمني اللوم
كأن سهاد العين يعشق مقلتي ... فبينهما في كل هجرٍ لنا وصل
يقول: كان السهر بالليل يعشق عيني، فبين الأرق والعين وصلٌ عند كل هجر لنا، يعني: أن الأرق لا يجد الوصال إلا عند هجران الحبيب.
أحب التي في البدر منها مشابهٌ ... وأشكو إلى من لا يصاب له شكل
فضل المحبوبة على البدر، فقال: أحب التي في البدر منها مشابهٌ: وهو جمع شبه، على غير القياس. فجعل منها شبهٌ في البدر، ولم يشبهها البدر بكليته ثم فضل الممدوح على المحبوبة. فقال: وأشكو إلى من لا يصاب له شكل: أي مثل فجعل في البدر منها شبهها، وجعل الممدوح بلا شبه.
إلى واحد الدنيا إلى ابن محمدٍ ... شجاع الذي لله ثم له الفضل
حذف التنوين من شجاعٍ: طلباً للتخفيف بسكونه، وسكون اللام من الذي.
يقول: أشكو إلى من هو واحد أهل الدنيا الذي لله تعالى الفض ثم له.
إلى الثمر الحلو الذي طيىءٌ له ... فروعٌ وقحطان بن هودٍ لها أصل

طيىء: قبيلة. وقحطان بن هود: أصل بعض العرب والهاء، في له: للثمر. وفي لها: لطيىء، والتأنيث لأجل القبيلة، ويجوز أن يكون التأنيث راجعاً إلى الفروع، وروى: له. والتذكير يرجع إلى اللفظ. لأن طيئاً لا تأنيث في لفظه، شبهه بالثمر الحلو، لأن في الثمار حامضاً ومراً، ثم جعل أباه غصناً من شجر طيب فروعه طيىء، وأصله قحطان بن هود.
إلى سيدٍ لو بشر الله أمةً ... بغير نبيٍّ بشرتنا به الرسل
يقول: وأشكو إلى سيد لو بشر الله أمةً بمن هو غير نبي، لبشرتنا رسل الله تعالى بهذا الممدوح، قبل وجوده، كما بشر الرسل عن الله تعالى بنبينا صلى الله عليه وسلم. إلا أن العادة لم تجر بالبشارة، بغير الأنبياء عليهم السلام.
إلى القابض الأرواح والضيغم الذي ... تحدث عن وقفاته الخيل والرجل
وروى القانص الأرواح: وهو الصائد، وروى: عن وقفاته ووقعاته.
يقول: إلى الذي يقبض الأرواح في الحروب، وإلى الأسد الذي يتحدث عن وقعاته في الحروب الخيل. أي: أصحابها، والرجل: جميع الراجل.
إلى رب مالٍ كلما شت شمله ... تجمع في تشتيته للعلي شمل
شت: أي تفرق، وتجمع: أي اجتمع.
يقول: أشكو إلى صاحب مالٍ كلما تفرق شمل المال يبذله، تجمع عنده للمعالي شمل، فيكون تفريقه له سبباً لاجتماع المعالي عنده، ومثله لأبي تمام:
وليس بيانٌ للعلي خلق امرىء ... وإن جل إلا وهو للمال هادم
همامٌ إذا ما فارق الغمد سيفه ... وعاينته لم تدر أيهما النصل
يقول: هو كبير الهمة، يشبه السيف في مضائه وشدته، وبشاشة وجهه كصقالة السيف، فإذا فارق السيف غمده تشك فيهما حتى لا تعرف أيهما السيف وهو كقول أبي تمام:
يمددن بالبيض القواضب أيدياً ... فهن سواء والسيوف القواطع
رأيت ابن أم الموت لو أن بأسه ... فشابين أهل الأرض لانقطع النسل
أراد بابن أم الموت: أخاه، يعني: أخا الموت.
يقول: رأيت الممدوح أخا الموت، فلو أن بأسه وشدة قوته شاع بين أهل الأرض لانقطع النسل: أي نسل الخلق، لأنه يفنيهم ببأسه، ولأنهم يخافونه ولا يدنو ذكرٌ من أنثى فينقطع النسل.
على سابحٍ موج المنايا بنحره ... غداةً كأن النبل في صدره وبل
على فرسٍ سابحٍ موج المنايا بنحره: أي نحر الفرس في الغداة التي ترى فيها النبل متواتراً إلى صدره كأنه وبل: أي مطر. يعني: أن السهام لا تؤثر في صدر هذا الفرس، كما لا يؤثر فيه قطر الماء، وقيل: إن الهاء في صدره للممدوحن يعني: أن فرسه يلتقي موج الموت بنحره، وأن الممدوح يوم الحرية يلتقي السهام بنحره، فلا يبالي كأنها عنده قطر المطر.
وكم عين قرنٍ حدقت لنزاله ... فلم تغض إلا والسنان لها كحل
حدقت: أي أحدقت النظر إليه، والنزال: المنازلة، وهي المحاربة نازلاً.
يقول: وكم عين مقارنٍ له: محارب، أحدت النظر إليه للمنازلة، فلم تغض إلا وصار سنان الرمح كحلاً لها. يعني: أنه جعل السنان لها موضع الكحل.
إذا قيل: رفقاً! قال: للحلم موضعٌ ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل
رفقاً: نصب بفعل مضمر، أي ارفق رفقاً، أو استعمل رفقاً.
يقول: إذا قيل له في الحرب: ارفق! قال: للحلم موضع، وليس هذا موضعه. وحلم المرء في غير موضعه جهل. ومنه قول الآخر:
يناشدني حاميم والرمح شاجرٌ ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
ولولا تولى نفسه حمل حلمه ... عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل
حمل حلمه: مفتوح لأنه مصدر، والحمل في آخره بكسر الحاء لأنه اسم.
يقول: لولا الممدوح تولى حمل حلمه عن الأرض لانهدت الأرض من ثقل حلمه، وأثقلها الحمل، فجعل الحلم أعظم من الأرض؛ وهو مبالغة عظيمة.
تباعدت الآمال عن كل مقصدٍ ... وضاق بها، إلا إلى بابه السبل
الهاء في بها: للآمال، وفي بابه: للمدوح.
يقول: لم يبق في الدنيا جوادٌ يقصد بالأمل سوى هذا الممدوح، فبعدت الآمال عن كل مقصد، وضاق بالأمل السبل من جميع الجوانب، إلا بابه، فهو المقصود إليه في الحوائج والآمال.
ونادى الندى بالنائمين عن السرى ... فأسمعهم: هبوا فقد هلك البخل
الندى: رفع لأنه فاعل نادى، والسرى: سير الليل.
يقول: نادى العطاء بالذين ناموا عن السرى، لعدم الأسخياء الكرام، وغلبة البخلاء اللئام، ونبههم.

بقوله: هبوا فقد هلك البخل، لوجود هذا الرجل، الذي أصاب بالجود مقتل البخل. ويجوز أن يكون وصل عطاؤه إلى الناس، ومن دون أن يسافروا لأجله، فكأنه ناداهم ونبههم لوصوله إليهم في أوطانهم.
وحالت عطايا كفه دون وعده ... فليس له إنجاز وعدٍ ولا مطل
يقول: إن عطاياه اعترضت دون وعده وسبقته، فلا يحتاج إلى إنجاز وعد، ولا مطل ولا مدافعة؛ لأن هذه الأشياء لا تكون إلا بعد الوعد.
فأقرب من تحديدها رد فائتٍ ... وأيسر من إحصائها القطر والرمل
الهاء في تحديدها، وإحصائها: للعطايا، وكان الوجه أن يقول: وأيسر من إحصائها إحصاء القطر، إلا أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
يقول: رد فائتٍ أقرب من تحديد عطاياه، وتحديد منحه. وعد قطر المطر، وحبوب الرمل: أهون من إحصاء نعمه؛ فكما لا تقدر الناس على هذين، كذلك تحديد عطاياه، وتعديد مننه غير مقدور عليه، بل ذلك دخل في المقدور.
وما تنقم الأيام ممن وجوهها ... لأخمصه في كل نائبةٍ نعل
تنقم: تعيب، وما: للسؤال. ومن في قوله: ممن هو الممدوح: والهاء في وجوهها: للأيام. وفي أخمصه: للممدوح والأخمص؛ باطن القدم.
يقول: وما تنكر الأيام، وتعيب من رجل، وجوه الأياه نعلٌ لأخمصه في كل نائبة ومحنة، يعني أن الأيام تابعة له ومطيعة، وهو يعلوها حتى يطأ وجوهها، فتكون بمنزلة النعل لأخمصه. أي باطن قدمه.
وما عزه فيها مرادٌ أراده ... وإن عز إلا أن يكون له مثل
عزه: أي غلبه.
يقول: لم يتعذر عليه مراد طلبه، وإن كان ذلك صعباً شديداً، إلا أن يريد أن يأتي بمثل له، فإنه يتعذر عليه وجوده لأنه لا مثل له.
كفى ثعلاً فخراً بأنك منهم ... ودهرٌ لأن أمسيت من أهله أهل
الرواية الصحيحة نصب دهراً عطفاً على ثعل وقوله: بأنك منهم رفع: لأنه فاعل كفى وأهل رفع: بخبر ابتداء محذوف. كأنه قال: هو أهلٌ لأن أمسيت من أهله، فارتفع أهلٌ وصفاً لدهر، وارتفع دهرٌ بفعل مضمر، تقديره: ليفخر دهرٌ أهلٌ، لأن أمسيت من أهله.
يقول: كونك منهم، كفاهم فخر كونك أهلاً له وهذا وما قبله إفراط في المدح.
وويلٌ لنفسٍ حاولت منك غرةً ... وطوبى لعينٍ ساعةً منك لا تخلو
طوبى له: أي خير له، وقيل: أصله من الياء. وهو من طيب.
يقول: ويلٌ لمن طلب منك غفلة؛ فإنه إذا طلب ذلك قتلته، وهو لا يظفر بك، وطوبى لعين منك لا تخلو ساعة، فإنها تكون في الراحة وترتع في روض محاسنك.
فما بفقيرٍ شام برقك فاقةً ... ولا في بلادٍ أنت صيبها محل
يقول: ليس لفقير أبصر برقك ونظر جودك فاقة، وليس في بلادٍ أنت قطرها قحطٌ ولا جدب.
وقال أيضاً يمدحه:
اليوم عهدكم فأين الموعد؟ ... هيهات! ليس ليوم عهدكم غد
وروى: اليوم وعدكم وكذلك في الثاني؛ لأنهما متقاربان في المعنى.
يقول: اليوم لقاؤكم، وهو آخر اليوم الذي اجتمعنا فيه، فعرفوني أين الموعد للقاء الثاني؟ ثم قال: هيهات: أي ما أبعد ما أطلب! ليس ليوم وعدكم غدٌ أبلغ إليه. وقيل معناه: اليوم ميعادكم الذي وعدتموني فأنجزوا لي وعدي، وهو وعد الملاقاة والوصل ثم قال: هيهات! ليس ليوم وعدكم غدٌ. أي أموت وقت فراقكم، فلا أعيش إلى غد ذلك اليوم. ومثله قول الشاعر:
قالت أسير غداً فقلت لها ... هدد ببينك من يعيش غداه
والأصل في البيت قول أبي تمام.
قالوا الرحيل غداً لا شك قلت لهم ... الآن أيقنت أن اسم الحمام غد
الموت أقرب مخلباً من بينكم ... والعيش أبعد منكم لا تبعدوا
روى مخلباً: وهو للسبع كالظفر للإنسان، ويروى مخلباً؛ وهو مصدر خلب يخلب: إذا أخدع، خلابةً ومخلباً، أو يكون مصدراً من خلب: إذا اختطف. وروى لا تبعدوا: من البعد في المسافة. ولا تبعدوا: من الهلاك.
يقول: الموت أقرب إلي من فراقكم، لأني أموت قبل أن تبينوا عني، خوفاً من فراقكم، ومهما فارقتموني كان العيش أبعد منكم، لأنه يعدم البتة، فهو أبعد منكم، لأنه لا يرجى عوده، وإذا بعدتم كنتم موجودين. ثم قال: لا تبعدوا. يعني لأن ببعدكم تبعد الحياة مني، وقيل: إنه دعاء للأحباب بألا يهلكوا، بل يبقوا سالمين، وبأن يقربوا منه. وهو تفسير البيت الأول.
إن التي سفكت دمي بجفونها ... لم تدر أن دمي الذي تتقلد

تتقلد: من قولك تقلد فلانٌ دم فلانٍ إذا باء بإثمه.
يقول: المرأة التي سفكت دمي بجفونها الحسنة، لم تعلم أن الذي تتقلده وتبوء به هو دمي. يعني: أنها قتلتني بجفونها الملاح، وأنها لم تعلم أني قتيلها بتلك الجفون.
قالت وقد رأت اصفراري: من به؟ ... وتنهدت فأجبتها: المتنهد
من به: أي فعل به، أو من المطالب به. وتنهدت: أي تنفست. وقيل: تنهدت المرأة؛ إذا رفعت صدرها وثديها.
يقول: إن هذه المرأة لما رأت ما بي من الاصفرار قالت مستفهمة: من فعل به ذلك؟ من المطالب به؟ وتنفست عند ذلك ترحماً لي، لما شاهدت من حالي فأجبتها: المتنهد. أي قلت: الذي فعل بي ذلك هو المتنفس. وإنما لم يقل: المتنهدة؛ لأنه رده على معنى الإنسان أو الشخص، ومعناه أن الذي حصل بي منك دون غيرك، أي أنت فعلت ذلك.
فمضت وقد صبغ الحياء بياضها ... لوني كما صبغ اللجين العسجد
اللجين: الفضة، والعسجد: الذهب. هذا البيت يفسر على وجوه: أحدها: أنها مضت عني لما قلت لها في البيت الذي قبله، وقد صبغ الحياء والخجل بياضها، يعني أنها لما استحيت مما قلت لها احمر لونها ومضت، ثم عدل عن ذلك إلى وصف نفسه فقال: لوني كما صبغ الفضة الذهب. أي اصفر وجهي. وقال بعضهم: معناه أن الحياء صبغ لونها أحمر، ثم لحقها الخوف في الوقت من الرقباء أن يروها، فاصفر لونها لذلك الفزع بعد الخجل، فيكون تقديره: صبغ الحياء بياضها لوناً كلوني؛ لأن الحياء إذا كان مع الخوف يصفر الوجه. وقيل: أيضاً لأن الحياء يجلب اللونين معاً؛ لأن المستحي يحمر أولاً ثم إذا فكر فيما حصل منه الحياء، يصفر لونه، فيصير كصاحب الخوف، فكأنه ذكر الحالة الثانية فبين أنها خجلت واستمر بها الخجل والحياء حتى اصفر لونها، فصار كلوني الذي هو كلون الذهب الممتزج بالفضة.
فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى ... متأوداً غصنٌ به يتأود
قرن الشمس: أول ما يبدو منها، وهو يضرب إلى الصفرة، وذلك يدل على استحالة لونهاأصفر، وأراد به الصبغ الذي حصل في وجه المرأة الذي هو كالقمر، وأراد: أن وجهها بمنزلة قرن الشمس، وقمر الدجى. وقصد تشبيهه بهما جميعاً، وقوله: متأوداً: أي متمايلاً يتأود به غصن: وهو قد المرأة والهاء في به: ترجع إلى قرن الشمس. فمعناه: رأيت متمأوداً يتأود به غصن.
عدويةٌ بدويةٌ من دونها ... سلب النفوس ونار حربٍ توقد
وهواجلٌ وصواهلٌ ومناصلٌ ... وذوابلٌ وتوعدٌ وتهدد
العدوية: منسوبة إلى بني عدي. والبدوية: منسوبةٌ إلى البدو. والسلب: الاختطاف.
والهواجل: جمع الهوجل، وهو الأرض المطمئنة، والصواهل: جمع الصاهل من صهيل الفرس، وهو صوته. والمناصل: جمع المنصل، وهو السيف، والذوابل، جمع الذابل وهو الرمح.
يقول: إن هذه المرأة من أبناء الكرام ومن دون الوصول إليها هذه الأشياء.
أبلت مودتها الليالي بعدنا ... ومشى عليها الدهر وهو مقيد
يقول: أخلقت الليالي وتطاولها مودتها بعدي وبعدها، ومشى على ذلك الدهر فأفسدها بمشيه عليها وهو مقيد، وذلك لأنه إذا كان مقيداً كان أثقل وطئاً لاعتماده على الرجلين، وقصر خطوه، فيحطم الشيء إذا مشى عليه. وهي مبالغة مليحة وصنعة في الشعر حسنة.
أبرحت يا مرض الجفون بممرضٍ ... مرض الطبيب له وعيد العود
أبرحت: أي جاوزت الحد. يخاطب مرض الجفون، أو يكون المرض بمعنى المريض، فكأنه يقول: يا مرض الجفون الذي في عينيها، أو يا مريض الجفون، تجاوزت الحد، بممرض يعني: به نفسه، حتى مرض الطبيب له، ومرض عواده، فعادهم الناس، وإنما مرضوا رحمةً له واغتماماً لشدة حاله ورقةً عليه لما رأوا مابه من الهزال.
يقول: أمرض الأطباء حزنهم لقصورهم عن شفائه لعظم دائه.
فله بنو عبد العزيز بن الرضا ... ولكل ركبٍ عيسهم والفدفد
الهاء في فله: للممرض، وعنى به نفسه.
يقول: بنو عبد العزيز بن الرضا: الذين هم الممدوحين يكفوني لأني ألجأ إليهم في أحوالي وأجعلهم سبباً لإدراك آمالي، وكذلك أيضاً ركب هؤلاء، فمنهم عيسهم؛ لأن عطايا الأرض التي هي من ملكهم، يريد أنهم ملوك الدنيا، وأنه لا مقصود من الناس غيرهم.

وقيل إن معناه: إن هؤلاء لي ولغيري، ممن لا يقصدهم، ليس إلا العيس التي يركبونها والمفاوز التي يقطعونها، إذ لا يحصلون بقصدهم غيره إلا على الطلب، وأنا قد ظفرت بالمطلوب بقصدي إياهم.
من في الأنام من الكرام ولا تقل ... من فيك شأمٌ سوى شجاعٍ يقصد؟
من: للاستفهام، والمراد: الإنكار، وقوله: شأم: أي يا شأم، ومعناه: من في الأنام من الكرام سوى شجاع، ولا تقل من فيك يا شأم. يعني: أنه المقصود في الدنيا للخلق، فهو واحد الناس في الناس، لا واحد الشأم وبعض من الدنيا.
أعطى فقلت: لجوده ما يقتنى ... وسطاً فقلت: لسيفه ما يولد
يقتنى: أي يدخر. وسطاً: من السطوة، وهي القهر، والغلبة، والحملة في الحرب وما بمعنى: الذي. يقول: بالغ الممدوح في الإعطاء حتى قلت: إن ما يقتنيه الناس من الأموال لجوده ليفرقها، وبالغ في سطواته حتى قلت: إن لسيفه كل ما يولد.
وتحيرت فيه الصفات لأنها ... ألفت طرائقه عليها تبعد
يقول: صارت صفات الواصفين متحيرة فيه لأنها يعني الصفات وجدت طرائق هذا الممدوح بعيدة عليها، ثم وصف بعض طرائقه فقال:
في كل معتركٍ كلىً مفريةٌ ... يذممن منه ما الأسنة تحمد
الكلى: جمع الكلية. والمفرية: المقطوعة. ويذممن: فعل الكلى وتحمد: فعل الأسنة.
يقول: إن من طرائق الممدوح أنه شجاع، وله في كل موضع حرب كلى مقطوعة للقتلى، تذم الكلى المفرية من فعله، ما تحمد أسنة الرماح. وذلك الشيء هو الكلى.
نقمٌ على نقم الزمان تصبها ... نعمٌ على النعم التي لا تجحد
نقم الزمان: نوائبه.
يقول: هذا الممدوح نقمة مصبوبة على نقم الزمان، وهي في الحقيقة نعم على النعم التي أنعم بها على الناس. يعني: إن الممدوح يدفع نوائب الزمان، فهو نعمة عليها وتلك نعمة على الناس، لأنهم يأمنون بها نوائب الدهر وهي نعمة متتابعة، مترادفة ولا يمكن أحد أن يجحدها لكثرتها وشهرتها.
في شأنه ولسانه وبنانه ... وجنانه عجبٌ لمن يتفقد
يقول: في كل واحد من هذه الأربعة من الممدوح عجب لمن تأمله! ففي شأنه: أعجب عظماً، وكبر همة، وفي لسانه: فصاحة، وفي بنانه: كتابة وسخاء، وضرباً وطعناً، وفي جنانه: قوة ونجدة وذكاء وشجاعة، وعلماً وفطنة وغير ذلك.
أسدٌ، دم الأسد الهزبر خضابه ... موتٌ، فريص الموت منه يرعد
الهزبر: من صفات الأسد، ويريد به المبالغة في الشدة. والفريص: بالفاء جمع فريصة، وهي لحمة تحت الكتف.
يقول: هو أسد عادته قتل الأسود، فدم الأسد القوي خضابه الذي يتخضب به عند قتله إياه، وهو أيضاً موت، لإفنائه الأعداء، وترعد منه: أي الموت يفزع منه.
ما منبجٌ مذ غبت إلا مقلةٌ ... سهدت ووجهك نومها والإثمد
الإثمد: ما يجعل في العين مما ينفع.
يقول: ما هذه البلدة بفراقك إلا كمقلة سهرت شوقاً إليك فغاب عنها نومها وكحلها، فلما عدت إليها نامت فرحاً بقدومك؛ فعاد إليها نومها وكحلها ووجدت روحاً وسكوناً.
فالليل حين قدمت فيها أبيضٌ ... والصبح منذ رحلت عنها أسود
يقول: إن الليل بقدومك هذه البلدة صار ضياء، كما كان ضوء النهار ظلاماً عند غيبتك عنها، وهذا المعنى مأخوذ من قول أبي تمام:
وكانت وليس الصبح فيها بأبيضٍ ... فأمست وليس الليل فيها بأسود
ما زلت تدنو وهي تعلو عزةً ... حتى توارى في ثراها الفرقد
كل تاء تأنيث في البيت، وفيما قبله، وفيما بعده: كناية عن منبج، لأجل البقعة، والبلدة.
يقول: ما زلت تقرب منها وهي ترتفع تشرفاً بك، واعتزازاً بمكانك، حتى علت السماء فتوارى الفرقد في ترابها وبقعتها.
أرضٌ لها شرفٌ سواها مثلها ... لو كان مثلك في سواها يوجد
يريد أن علوها لمكان الممدوح فيها.
فقال: إن هذه الأرض بلدة شريفة. سواها من الأرضين مثلها، لو كان مثلك موجوداً فيها.
أبدى العداة بك السرور كأنهم ... فرحوا وعندهم المقيم المقعد
بك: أي بسببك.
يقول: إنهم أظهروا السرور بك، وبقدومك، وفي قلوبهم من كراهة ذلك من الخوف والغم ما أقامهم وأقعدهم، فأضمروا العداوة في الباطن، وإن كانوا على توددٍ في الظاهر وعندهم من الغم المقيم المقعد.
قطعتهم حسداً أراهم ما بهم ... فتقطعوا حسداً لمن لا يحسد

قطعتهم: مبالغة في القطع.
يقول: جعلت العداة قطعاً؛ غيظاً وحسداً عليك، حتى أراهم حسدهم ما بهم من التقطع والذلة والنقص والمرض وتغير اللون، فتقطعوا حسداً لما فيك من الفضل، وأنت لا تحسد أحداً لأنك قد جمعت الفضائل الكلية، والحسد من دأب الناقصين، فأنت تحسد ولا تحسد أحداً.
حتى انثنوا ولو ان حر قلوبهم ... في قلب هاجرةٍ لذاب الجلمد
انثنوا: أي رجعوا. والجلمد: الحجر الصلب.
يقول: تقطعوا حسداً حتى رجعوا، وفي قلوبهم من الحر حسداً وكمداً؛ ما لو كان ذلك الحر في قلب هاجرة النهار، لذاب بحرارتها الحجر الصلب، وجعل للهاجرة قلباً لما ذكر قلوبهم لازدواج الكلام.
نظر العلوج فلم يروا من حولهم ... لما رأوك وقيل: هذا السيد
العلج: أصله حمار الوحش، وجمعه علوج. والمراد به: الكفار من أهل الروم.
يقول: لما رأوك الحساد دهشوا، وأظلمت الدنيا عليهم فزعاً منك، واستصغروا من حولهم من العساكر، استعظاماً لك من هيبتك، حتى أنهم لم يروا من حولهم من الخيل والحشم لاشتغالهم برؤيتك، ولأنك فقتهم حسناً وقيل لهم: هذا السيد.
بقيت جموعهم كأنك كلها ... وبقيت بينهم كأنك مفرد
يقول: لقيت جموع أولئك كأنك بوحدتك جملتهم، لموازنتك إياهم، وبقيت أنت بينهم مفرداً، لا نظير لك. وهذا تأكيد للمصراع الأول.
لهفان يستوبي بك الغضب الورى ... لو لم ينهنهك الحجا والسؤدد
لهفان: نصب على الحال من الغضب، وقيل بقيت لهفان، ويستوبى: من الوباء، وأصله الهمز فأبدله ضرورة، ومعناه: يفنى ويهلك، والغضب: فاعل يستوبى، والورى مفعوله ويجوز: أن يكون يستوبى: أي يوبى الغضب الذي بك. والباء في بك زائدة والورى: فاعله، والغضب مفعوله.
يقول: غضبك يكاد يهلك الناس، لو لم يكفك العقل والسؤدد، فبقيت لهفان بين الغضب المهلك، وبين العقل والسؤدد.
كن حيث شئت تسر إليك ركابنا ... فالأرض واحدةٌ وأنت الأوحد
أي كن في أي مكان شئت، فليس لنا، ولا لركابنا مسرى إلا إليك؛ لأن الأرض واحدة، وأنت مالكها. وإنك أنت أوحد، لا نظير لك ولا شبيه.
وصن الحسام ولا تذله فإنه ... يشكو يمينك والجماجم تشهد
لا تذله: أي لا تذله، فخفف.
يقول: صن سيفك واغمده ولا تذله فتفنيه من كثرة استعماله فإنه يفنى الحسام وتشكو يمينك، من كثرة ضرب الجماجم: وهي عظام الرءوس تشهد له بذلك، ومن حق السيف عليك أن تصونه ولا تهينه وهذا نظير قوله:
شم ما االتضيت فقد تركت ذبابة ... قطعاً وقد ترك العباد جذاذا
يبس النجيع عليه فهو مجردٌ ... من غمده فكأنما هو مغمد
النجيع: دم الجوف. وقيل: الدم الطري.
يقول: قد جف الدم على حسامك وهو مجرد عن غمده، لكنه من الدم اليابس عليه كأنه مغمد.
ريان لو قذف الذي أسقيته ... لجرى من المهجات بحرٌ مزبد
ريان: ضد عطشاً، وهو نصب على الحال. والمهجة: دم القلب.
يقول: هذا السيف ريان من الدماء؛ لكثرة ما أسقيته من دماء القتلى، فلو رمى ما أسقيته من الدماء لجرى منها بحرٌ، يعلوه الزبد لغزارته.
ما شاركته منيةٌ في مهجةٍ ... إلا وشفرته على يدها يد
التذكير الذي في البيت: للحسام، والتأنيث: للمنية. وشفرة السيف: حده.
يقول: ما شاركت المنية هذا السيف في نفس من الأنفس، إلا وحده على يد المنية يدٌ فتكون يده فوق يدها.ومثله لأبي تمام قوله:
مطلٌ على الآجال حتى كأنه ... لصرف المنايا في النفوس مشارك
غير أن المتنبي فضل السيف على المنية، وأبو تمام سوى بينهما.
وقيل: إنما شاركته المنية فزعاً منه؛ لأن السيف يدٌ على يدها، يمنعها ويعوقها.
إن الرزايا والعطايا والقنا ... حلفاء طيٍّ غوروا أو أنجدوا
حلفاء: جمع حليف، وهو الجار المحالف على الولاية، وطيٍّ: أراد طيئاً فخفف.
يقول: إن المصيبات، والعطيات، والرماح حلفاء طيىء، غير مفارقة عنهم، أينما حلوا نجداً أو غوراً، سهلاً أو جبلاً.
صح: يال جلهمة. تذرك، وإنما ... أشفار عينك ذابلٌ ومهند
جلهمة: قبيلة المدوح. والأشفار: يريد بها الأهداب هاهنا.
يقول: ناد أيها الممدوح وقل: يال جلهمة، تدرك، وقد أحاطوا بك برماحهم وسيوفهم، حتى كأن أشفار عينك سيف ورمح، لكثرة سيوفهم ورماحهم.

وفيه معنى آخر: وهو أنك إذا صحت بهم جاءوك واجتمعوا عندك، وهابوك، حتى كأن أشفار عينك إذا نظرت إليهم، ذابلٌ ومهند؛ لهيبتك في قلوبهم ولطاعتهم لك.
من كل أكبر من جبال تهامةٍ ... قلباً ومن جود الغوادي أجود
الجود: المطر الشديد، والغوادي: جمع غادية، وهي السحابة التي تنشأ غداة.
يقول: إن كل رجل منهم أكبر من جبال تهامة وأسخى من السحاب التي تأتي غدوة. وهذا يمكن أن يكون متعلقاً بقوله: أشفار عينك ذابلٌ ومهند من كل رجلٍ أكبر من جبال تهامة. ويمكن أن يكون للقسمة والتبعيض، كما يقال: رأيت من الناس ذاهبٌ. أي من هو ذاهب.
يلقاك مرتدياً بأحمر من دمٍ ... ذهبت بخضرته الطلى والأكبد
أحمر: صفة لمحذوف، يعني: بسيف أحمر من دم.
يقول: الذي هو أكبر من جبال تهامة قلباً، يراك متقلداً بسيف أحمر، مما عليه من دماء الأعداء، صبغت خضرته وصقاله دماء الأعناق والأكباد، وسترها فيأتيك به.
حتى يشار إليك ذا مولاهم ... وهم الموالي والخليقة أعبد
يقول: حتى يطاعون لك منقادون لأمرك، ويشار إليك فيقال: ذا مولاهم أي سيدهم وهم مع ذلك سادات الناس كلهم، فأنت سيدهم، والخلق عبيدهم، فأنت سيد السادات.
أنى يكون أبا البرية آدمٌ ... وأبوك والثقلان أنت محمد
تقديره: كيف يكون آدم أبو البرية، وأبوك محمد، وأنت الثقلان.
يريد: إذا كنت أنت الثقلين، وأبوك محمد، فأبو البرية إذاً أبوك! لا آدم! والثقلان: الجن والإنس. ومثله قول الآخر:
وليس على الله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحد
يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم ... أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟
أيحيط، استفهام: والمراد به الجحد. ويفنى وينفد بمعنى، فلذلك وضع أحدهما موضع الآخر.
يقول: يفنى كلام الشعراء في مدحكم فلا يحيط بفضلكم؛ لأن للكلام نهاية وليس لفضلكم نهاية، فكيف يحيط المتناهي بما لا يتناهى؟!.
وقال في أبي دلف وكان قد حبسه الوالي لشيء بلغه عنه، وأبو دلفٍ هذا سجانٌ حبس المتنبي عنده مدة سنتين وقد أهدى إليه هدية وهو في السجن:
أهون بطول الثواء والتلف ... والسجن والقيد يا أبا دلف
أهون: أي ما أهون طول الثواء، وهذا إن بناه من الإهانة فهو من الشاذ. كقولهم: ما أعطاه للمال. لأن ما زاد على الثلاثة لا يبنى منه فعل التعجب، إلا بلفظ ثلاثي، فكأنه يقول: ما أشد الإهانة بطول الثواء والتلف.
وإن كان من هان يهون فهو صحيح يدل عليه ما بعده من الأبيات، وكان قد حبس في السجن، وكان يتعهده رجلٌ يعرف بابن كنداج كنية أبي دلف، يأتيه بالطعام وغيره، فشغل عنه يوماً، فكتب إليه بهذه الأبيات يقول مخاطباً لأبي دلف: ماأيسر طول الثواء والهلاك علي، والسجن والقيد كل ذلك هين علي وهذا يدل على أنه كان محبوساً.
غير اختيارٍ قبلت برك بي ... والجوع يرضي الأسود بالجيف
يقول: قبلت برك بي عن غير اختيار بل بالاضطرار الواقع، كما أن الأسد إذا جاع، ولم يظفر بفريسةٍ، يأكل الجيف اضطراراً! كذلك حالي، في قبول برك.
كن أيها السجن كيف شئت فقد ... وظنت للموت نفس معترف
التوطين: جعل النفس وطناً.
يقول للسجن: كن كيف شئت علي، فإني قد وطنت نفسي للموت، توطين المعترف بالشيء، الراضي به، المقر بالموت، الذي سكن إليه. وقيل: المعترف الصابر. يعني: وطنت للموت نفسي نفس رجل صابرٍ على الشدائد.
لو كان سكناي فيك منقصةٌ ... لم تكن الدر ساكن الصدف
يقول: لو كان كوني في السجن توجب منقصة وذلاًّ لكان كون الدر مع جودته وعلو قدره في الصدف الذي هو أخس حيوان البحر يوجب له النقص. فكما لا تؤثر خسة الصدف في قدر الدر، كذلك حالي في السجن. وهذا تسلية لنفسه.
وكان قوم ي صباه قد وشوا به إلى السلطان وكذبوا عليه وقالوا: قد انقاد له خلقٌ من العرب، وقد عزم على أخذ بلدك، حتى أوحشوه منه فاعتقله وضيق عليه، فكتب إليه يمدحه:
أيا خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود
أيا: يحتمل أن يكون حرف نداء، والمنادى محذوف، وتقديره: أيا قوم. ويحتمل أن يكون افتتاح الكلام. مثل أما وألا وخدد: أي شقق. وقد: أي قطع، وأصله القطع طولاً. والقدود: جمع القد، وهو القامة.
قال يدعو على ورد الخدود والقدود الحسنة، وفيه وجهان:

أحدهما: أن يكون على عادة العرب، في أنهم إذا استحسنوا شيئاً وتعجبوا منه دعوا عليه! نحو قولهم: قاتل الله فلاناً ما أفصحه!.
والثاني: أن يحمل على حقيقة الدعاء عليها. فيقول: شقق الله ورد الخدود وقطع قدود الحسان قدوداً، فإني قد لقيت منها بلاءً وجهداً، وقاسيت منها مشقة، ويدل عليه قوله فهن أسلن دما مقلتي ومثله لجميل:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح
فهن أسلن دماً مقلتي ... وعذبن قلبي بطول الصدود
يقول: هن أسلن من مقلتي دماً؛ من بكائي عليهن، وعذبن قلبي بطول إعراضهن عني. وروى مهجتي أي قتلنني وسفكن دمي.
وكم للهوى من فتىً مدنفٍ ... وكم للنوى من قتيلٍ شهيد
المدنف: الذي طال مرضه. يعتذر من قوله فهن أسلن دماً.
فيقول: ما أنا بأول عاشقٍ قتل شهيداً، فكم للهوى من فتىً قد دنف وصار إلى شرف الموت، وكم للنوى من قتيلٍ شهيدٍ مثلي، قد قتله الحب، كما قتلني شهيداًز
فواحسرتا ما أمر الفراق ... وأعلق نيرانه بالكبود
يقول: واحسرتا على نفسي من مفارقة الأحباب، فما أمر الفراق وأشد مرارته! وما أشد علق نيران الفراق بالكبود! وجمع الكبود ذهاباً إلى العموم، فكأنه قال: ما أعلق نيرانه بكبود العشاق. وروى: وأحرق نيرانه بالكبود.
وأغرى الصبابة بالعاشقين ... وأقتلها للمحب العميد!
قوله وأغرى: تعجب من غرى بالشيء إذا ولع به. والصبابة: رقة الهوى. والعميد: المصاب عمود قلبه.
يقول: ما أولع الصبابة والشوق بالعشاق، وما أقتلها للمحب المصاب قلبه! يتعجب من ولع الهوى وقتله للعشاق.
وألهج نفسي لغير الخنا ... بحب ذوات اللمى والنهود
ألهج: أي أعرض، وأولع. واللمى: حمرة الشفة تضرب إلى السواد. والنهود: نتوء الثدي.
يقول: ما أولع نفسي بحب النساء، لمى الشفاة، نواهد الثدي، الموصوفات بالحسن والجمال، لا الخنا: الذي هو داعية الزنا، لكن لأجل النظر فقط.
فكانت وكن فداء الأمير ... ولا زال من نعمةٍ في مزيد
أي كانت نفسي المذكورة، وذات اللمى والنهود فداء الأمير الممدوح. على وجه الدعاء، ثم ذكر دعاءً آخر فقال: ولا زال الأمير من الله تعالى في زيادة تامة من النعمة.
لقد حال بالسيف دون الوعيد ... وحالت عطاياه دون الوعود
الوعود: جمع الوعد، وهو مصدر وعد. فيكون بمعنى: الوعد.
يقول: حال الأمير بسيفه دون الوعيد، فيقتل قبل أن يوعد، وحالت عطاياه دون الوعد؛ فيعطي قبل أن تعد. فالأول: يدل على فضل قوته، والثاني: على فضل سخائه وجوده.
فأنجم أمواله في النحوس ... وأنجم سؤاله في السعود
أنجم أمواله منحوسةٌ لتفريقه إياها، وأنجم سؤاله مسعودة لاستغنائهم بما يبذله لهم من الأموال ويفرقه بينهم.
ولو لم أخف غير أعدائه ... عليه لبشرته باللود
يقول: لو كان الخوف على الممدوح من أعدائه وحدهم، لكنت في أمنٍ دونهم، فبشرته بدوام الحياة غير إنما أخاف عليه من غير أعدائه، وهو الله تعالى، ذو القضاء المبرم في جميع الناس. والغرض هو الاستخفاف بأعدائه. وروى: عين أعدائه يعني: أن يصيبوه بعيونهم السيئة.
رمى حلباً بنواصي الخيول ... وسمر يرقن دماً في الصعيد
الصعيد: التراب الخالص. وقيل: هو ظاهر الأرض.
يقول: رمى حلباً بوجوه خيله، لما حاربها برماح له، تريق دماء أعدائه في الصعيد: أي التراب.
وبيضٍ مسافرةٍ ما يقم ... ن لا في الرقاب ولا في الغمود
يقول: رماها بسيوفٍ مسافرةٍ، غير مستقرة في رقاب الأعداء ولا في غمودها؛ لأنها تتقدم من رقاب إلى رقاب، ومن قتيل إلى قتيل، فليس لها قرار؛ لكثرة ما تستعمل في الضرب فكأنها مسافرة غير مقيمة في غمد أو عنق.
يقدن الفناء غداة اللقاء ... إلى كل جيشٍ كثير العديد
يقدن: فعل السيوف التي لا تقيم في غمد، أو عنق. يقول: يقدن أي يسقن الفناء غداة اللقاء للحرب، إلى كل جيش كثير العدد؛ فهذا فعلهن وسفرهن.
فولى بأشياعه الخرشني ... كشاءٍ أحس بزأر الأسود
الخرشني: هو والي حلب، وخرشنة. هو الحصن في بلاد الروم.
يقول: ولي الخرشني الذي حاربه الأمير بأصحابه وأشياعه، كانهزام الشاة عند ما تحس بصوت الأسد.

يرون من الذعر صوت الرياح ... صهيل الجياد وخفق البنود
يقول: انهزموا عنه، وخافوه، حتى ظنوا صوت الرياح أنه صهيل خيوله وخفق أعلامه، وأنهم إذا رأوا شيئاً ظنوه رجلاً ومثله قول جرير:
ما زلت تحسب كل شيءٍ بعدهم ... خيلاً تكر عليهم ورجالا
والأصل في ذلك قوله تعالى: " يحسبون كل صيحةٍ عليهم هم العدو " .
فمن كالأمير ابن بنت الأمي ... ر أم من كآبائه والجدود؟
من: استفهام. ومعناه النفي.
يقول: ليس أحد مثل الأمير وليس أحد كأبيه وأجداده، وهو أيضاً كريم من جهة الأمهات.
سعوا للمعالي وهم صبيةٌ ... وسادوا وجادوا وهم في المهود
يقول: إن الممدوح وأباءه وأجداده قد سعوا في طلب المعالي في حال صباهم، وسادوا غيرهم، وجادوا بأموالهم، وهم أطفال في المهود، والغرض المبالغة في سؤددهم وكرمهم. وروى: وشادوا أي بنوا المجد ورفعوه.
أمالك رقىً ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
الواو في قوله: ومن شأنه، واو الحال. ويجوز: أن يكون واو العطف، ومن في موضع النصب، وتقديره إذاً يكون: يا مالك رقىً ويا من شأنه هبات الفضة وإعتاق العبيد.
دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء والموت مني كحبل الوريد
حبل الوريد: عرق في العنق، يتصل بالقلب.
يقول: دعوتك لما انقطع الرجاء من الحياة، وقرب الموت مني، كقرب حبل الوريد.
دعوتك لما براني البلى ... وأوهن رجلي ثقل الحديد
براني: أي أنحلني، وقطعني، والبلى: مصدر بلى الشيء. وروى: لثقل الحديد.
يقول: دعوتك عند الشدة، وعظم أثر القيد برجلي!
وقد كان مشيهماً في النعال ... فقد صار مشيهماً في القيود
يقول: قد كان مشى رجلي قبل ذلك في النعال، وصار الآن مشيهما في القيود! فلا عهد لي بالقيود قبل هذه الحالة!
وكنت من الناس في محفلٍ ... فها أنا في محفلٍ من قرود
لصوصٌ أطاعوا أبا مرةٍ ... بترك الركوع وترك السجود
كأني قرنت بهم في الجح ... يم أرى كل يومٍ وجوه اليهود
يقول: كنت إلى الآن في محفل من كرام الناس، وأنا الآن في محفل من القرود! وأراد بهم الأوباش وأصحاب الأهواء ثم بين فقال: هم لصوص وأطاعوا إبليس بترك الصلاة. وأبو مرة: كنية إبليس.
تعجل في وجوب الحدود ... وحدي قبل وجوب السجود!
وروى تعجل: فيكون متعدياً، أصله تتعجل أيها الأمير، فعلى هذا وجوب يكون منصوباً، والأولى تعجل بفتح اللام على الفعل الماضي اللازم ويجوز رفع وجوب الصلاة علي وحدي. قال ابن جنى: إنه لم يكن صغيراً لكن صغر نفسه عند الأمير ألا ترى أن من كان صبياً لا يظن به اجتماع الناس إليه للشقاق والخلاف والظاهر بخلاف ذلك، وما بعده يدل على أنه كان صغيراً، ومثله لابن الرومي:
أم لذنبٍ ينوب عني فلم يأن ... اكتساب الذنوب للأطفال
وقيل عدوت على العالمين ... بين ولادي وبين القعود
عدوت: أي ظلمت يقول: قيل عدوت على العالمين بما نويت، وأنا بين أولادي وقعودي ومن كان طفلاً مثلي. فكيف يصح منه ما نسب إليه؟!
فما لك تقبل زور الكلام ... وقدر الشهادة قدر الشهود؟!
يقول: مالك تقبل على الكذب وهذه الشهادة كشاهديها في الحقارة، فكما لا قدر للشهود لحقارتهم فكذلك شهادتهم.
فلا تسمعن من الكاشحين ... ولا تعبأن بمحك اليهود
بمحك اليهود: أي العداوة وشدة الحاجة. وروى: بمحل اليهود: وهو السعاية.
يقول: لا تسمع من الكاذبين كذبهم علي، ولا تبال بعداوة اليهود وسعايتهم بي، فإن شهادة اليهود على المسلمين غير مقبولة؛ لما بينهم من العداوة، والظاهر أنهم كانوا يهوداً. وقال ابن جنى: إنهم لم يكونوا يهوداً ولكن كني عنهم باليهود لذلتهم وحقارتهم وقلتهم، وظاهر البيت يدل على خلاف ذلك.
وكن فارقاً بين دعوى: أردت ... ودعوى: فعلت بشأوٍ بعيد
يقول: إن القوم إنما شهدوا علي، بأني أردت أن أهجوك وأخرج عليك، ولم يشهدوا أني فعلت ذلك، ولا نستحق الحبس والحد على العزم والنية ما لم يفعل، فكن فارقاً بين الواقع والمستقبل بمفرق بعيد، فإن بين الأمرين بوناً بعيداً.
وفي جود كفيك ما جدت لي ... بنفسي ولو كنت أشقى ثمود

يقول: لو كان ما زعموا! فإن في جود كفيك لي رجاءٌ أن تعفو عني، وتجود بنفسي وتترك قتلها، على عظم ذنبي، ولو كنت في ذنبٍ عظيم. أشقى ثمود: الذي عقر ناقة صالح عليه السلام. واسمه قدار بن سالف.
وقال إجابة لمعاذ الصيدواني وهو يعذله على تهوره:
أيا عبد الإله معاذ إني ... خفيٌّ عنك في الهيجا مقامي
هو: أبو عبد الله معاذ الصيدواني، وضم معاذ على نكرة الندا كأنه يقول: أيا عبد الله. يا معاذ. وكان معاذ هذا يلومه على تعرضه للحروب في الأسفار. فقال له: إنه خفي عنك مقامي في الحروب واستقلالي بها، وارتقائي إلى معالي الأمور.
ذكرت جسيم ما طلبي وأنا ... نخاطر فيه بالمهج الجسام
يقول: ذكرت عظيم ما أطلبه من الأمور، وأنا نخاطر في جسيم ما تطلبه، بالمهج والأرواح العظام، ولم تعرف أنا لا نبال باللوم والملام.
أمثلي تأخذ النكبات منه ... ويجزع من ملاقاة الحمام؟
يقول: أمثلي تتناول النكبات منه، وتؤثر فيه! وهل أجزع من ملاقاة الموت؟ حتى تعذلني على بذل نفسي.
ولو برز الزمان إلي شخصاً ... لخضب شعر مفرقه حسامي
يقول: لا أبالي بنكبات الزمان، فإنه لو برز إلي وكان شخصاً لضربته بسيفي، وخضبت شعر وسط رأسه بدمه. والمفرق: وسط الرأس.
وما بلغت مشيتها الليالي ... ولا سارت وفي يدها زمامي
اليد والزمام: استعارة.
يقول: ما بلغت أني أطيعها، ولا يمكنها أن تؤثر في.
إذا امتلأت عيون الخيل مني ... فويلٌ في التيقظ والمنام
يقول: إذا رأتني الخيل. يعني: أهلها. وأراد هاهنا محبها أي الفرسان ملء أعينها، فويلٌ لهم في حالتي التيقظ والمنام؛ لأنهم إذا رأوا خيالي في المنام، يذهب نومهم خوفاً مني، وإذا تعرضت لهم في اليقظة أقتلهم وأصله من قول الشاعر:
على عدوك يابن عم محمدٍ ... رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا هدى ... سلت عليه سيوفك الأحلام
وقال لرجل بلغه عن قوم كلاماً فيه:
أنا عين المسود الجحجاح ... هيجتني كلابكم بالنباح
يقال: هذا عين الشيء. أي نفسه، وخالصه. والمسود: هو المتفق على سيادته. والجحجاح: السيد. وروى: هيجتني: أي حركتني، وأغضبتني. وهجنتني: نسبتني إلى الهجنة والعار.
يقول: أنا عين المدعو سيداً، غير أن كلابكم: أي خساسكم من الشعراء وغيرهم نسبتني إلى الهجنة أو حركتني وأغضبتني بالنباح، أي بأشعارهم أو بكذبهم علي وتعيرهم لي فكأنه جعلهم كلاباً.
أيكون الهجان غير هجانٍ ... أم يكون الصراح غير صراح
الهجان: الكريم، الخالص. والهجين: ضده. والصراح: الخالص.
يقول: أنا هجانٌ كريم، والهجان هجانٌ أبداً، وإن دعي هجيناً، والخالص خالصٌ، وإن نسب إلى ضده، ويحتمل أن يكون غير الكريم في معنى الهجين، فيكون صفةً للطاعنين فيه. ومعناه: أن من يكون غير كريم فلا يكون كريماً وإن دعي كريماً. يعني: أعداءه، ومن يكون خالصاً فلا يكون غير خالص. وأراد به نفسه.
جهلوني وإن عمرت قليلاً ... نسبتني لهم رءوس الرماح
يقول: جهلوا قدري ونسبي، ولو عشت قليلاً عرفت إليهم نفسي حتى تنسبني إليهم رءوس الرماح فيعرفونني بطعني لهم بها.
وقال أيضاً ارتجالاً وقد سئل الشرب ففضل معاطاة الحراب على معاطاة الشراب:
ألذ من المدام الخندريس ... وأحلى من معاطاة الكئوس
المدام: الخمر. سمي به لأنها أديم في الدن. والخندريس: هي الخمر العتيقة من أعوام.
معاطاة الصفائح والعوالي ... وإقحامي خميساً في خميس
الصفائح: جمع الصفيحة، وهي السيف العريض. والعوالي: رءوس الرماح. والخميس: العسكر.
يقول: ألذ من شرب الخمر العتيقة ومناولة الكئوس، مناولة السيوف والرماح، وسقى الدماء من الجراح، وإدخال جيش في جيش، كل ذلك ألذ وأحلى عندي من شرب الخمر العتيقة.
فموتي في الوغى عيشي لأني ... رأيت العيش في أرب النفوس
لما فضل الحرب على الشرب بين علة التفضيل.
فقال: موتي في الحرب عيش في الحقيقة لبقاء الذكر الجميل؛ لأني رأيت العيش وكماله في حاجات النفوس، وحاجتي حصول عيش الأبد، وذلك في الموت لبقاء الذكر الجميل بعدي.

ويجوز أن يريد أن الحرب في سبيل الله حياة لي لكوني من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله فكنت حياً بما أنا فيه من الثواب.
قال ابن جنى: قلت له كيف ذلك؟ فقال الآية: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون " .
ولو سقيتها بيدي نديمٍ ... أسر به لكان أبا ضبيس
نصب أبا ضبيس؛ لأنه خبر كان، واسمه: ضمير النديم وهو صديقه الذي دعاه إلى الشرب. وقيل: إنه كان صاحب المجلس والدعوة.
يقول: لو سقيت الخمر بيدي نديم لي فيه سرور وأنس لكان ذلك النديم أبا ضبيس يعني لكنت لا أشرب إلا من يده.
وقال له بعض الكلابيين: أشرب هذا الكأس سروراً بك فأجابه ارتجالاً:
إذا ما شربت الخمر صرفاً مهنئاً ... شربنا الذي من مثله شرب الكرم
يقول: إذا شربت الخمر صرفاً أي غير ممزوج مهنأً بشربه. شربت أنا الماء الذي شرب الكرم من مثله.
وقيل: إن الكرم إذا غرس صب في مغرسه الدم فيقوى بذلك.
يقول: إذا شربت أنت الخمر شربت أنا الدم الذي شرب الكرم منه، ويدل عليه ما بعده وهو:
ألا حبذا قومٌ نداما هم القنا ... يسقونها رياً وساقيهم العزم
يقول حبذا قوم، نداماهم الرماح، يسقون رماحهم دماء أعدائهم ريا: أي قدر ما تروى به ويكون ساقيهم العزم.
طربه لصليل السيوف لا لقرع الكئوس.
وقال أيضاً ارتجالاً:
لأحبتي أن يملئوا ... بالصافيات الأكوبا
وعليهم أن يبذلوا ... وعلي ألا أشربا
حتى تكون الباترا ... ت المسمعات فأطربا
الأكواب: جمع الكوب، وهو الإبريق بلا عروة.
يقول: لأحبائي أن يملئوا كئوسهم خمراً، ويعرضوها علي، ولكن علي ألا أشربها حتى تصير السيوف القاطعات المغنيات في العظام، فإذا سمعت هذا الغناء فأشرب وأطرب عند ذلك! ويجوز في الباترات: الرفع، على أن تجعل يكون فعلاً حقيقياً، وإن جعلته ناقصاً يجب رفع الباترات، ونصب المسمعات خبراً لها.
وقال أيضاً يصف مجلساً لابن عبد الوهاب وقد جلس ابنه ليلاً إلى جانب المصباح:
أما ترى ما أراه أيها الملك ... كأننا في سماءٍ مالها حبك
أي ما أراه أيها الملك كائناً في مجلسك، في سماءٍ ليس لها طرائق، ولما شبه مجلسه بالسماء بين بعد ذلك وجه التشبيه فقال:
الفرقد ابنك والمصباح صاحبه ... وأنت بدر الدجى والمجلس الفلك
الهاء: في صاحبه للفرقد. وهما فرقدان.
يقول: ابنك أحد الفرقدين، والمصباح الفرقد الثاني، وأنت بدر الدجى؛ لما لك من الفضل، والمجلس هو الفلك الذي يجوز هذه الأشياء. شبه ابنه بأحد الفرقدين والمصباح بالثاني، والأب بالبدر، والمجلس بالفلك فجمع فيه أربع تشبيهات. ومثله للمخزومي:
كأن سعيداً وأبناءه ... نجومٌ وبدرٌ إذا ما اتسق
يفتخر بشعر على أبي بكر الطائي وكان قد نام ساعة إنشاده قال: ونام أبو بكر الطائي وأبو الطيب ينشده فأنبهه:
إن القوافي لم تنمك وإنما ... محقتك حتى صرت ما لا يوجد
أي أنها لم تنمك بل أهلكتك حتى صرت غير موجود! والغرض أنه لو كان من المميزين لم ينم من شعره.
فكأن أذنك فوك حين سمعتها ... وكأنها مما سكرت المرقد
المرقد: الدواء المنوم، وقوله مما سكرت في معنى المصدر، كأنه قال: من سكرك.
يقول: كأن أذنك حين سمعت القوافي، فوك. وكأن ما أنشدته لك من الشعر، هو الدواء المرقد، فشربته وسكرت، لأن نومك من القوافي، لا من الخمرة وروى لما سكرت.
وقال يتغزل أيضاً:
كتمت حبك حتى منك تكرمةً ... ثم استوى فيك إسراري وإعلاني
يقول: كتمت حبك حتى كتمته منك تكرمة لك، إذ في إظهاره فضيحة المحبوب، أو تكرمة لنفسه من الاستكانة للنساء، ثم أطلق كتمانه، فظهر بما دل عليه من الأمارات، كالبكاء والنحول وغير ذلك، فاستوى فيه إسراري وإعلاني؛ لأن السر في الظهور كالعلانية. ويجوز أن يكون المراد به أنهما استويا في الكتمان، والمقصد أنه لم يظهر قط، بل بقي كما كان من الإسرار.
كأنه زاد حتى فاض عن جسدي ... فصار سقمي به في جسم كتماني
الهاء في كأنه: ضمير الكتمان، ودل عليه قوله: كتمت. ويجوز أن يكون راجعاً إلى الحب، أي زاد حبي حتى أسقم كتماني؛ فضعف عن حمل الكتمان. والكناية في به: ترجع إلى الحب.

يقول على المعنى الأول: كأن الكتمان زاد في جسدي، حتى فاض عنه وظهر، فصار سقمي بسبب الحب الذي كان في جسمي كتمان. يعني: أن جسمي كان سقيماً، فلما ظهر الحب زال عني السقم إلى جسم الكتمان، فصار الكتمان سقيماً؛ لأن إفشاء السر سقم الكتمان.
وعلى الثاني: أن الكتمان زاد حتى فضل عن جسدي، فصار سقمي بسبب الحب، منكتماً في جسم كتمان.
كأنه يقول: كان الكتمان في جسمي، فصار الآن جسمي في الكتمان، فلكون جسمي في جسم الكتمان صار سقمي فيه، وكان الكتمان ظرفاً لي، بعد ما كنت ظرفاً له.
وقال يمدح محمد بن زريق الطرسوسي:
هذي برزت لنا فهجت رسيساً ... ثم انصرفت وما شفيت نسيساً!
يجوز أن يريد يا هذي فحذف حرف النداء للضرورة، ويجوز أن يكون إشارة إلى المرة الواحدة من برزت، فتكون هذه موضوعة موضع المصدر، كأنه يقول: هذه البرزة برزت لنا. والرسيس حنين الحمى وهيجانها، والنسيس: العطش. وقيل: هو الاختلاج. وقيل: هو بقية المرض. وقيل: بقية النفس.
يقول للمحبوبة: يا هذه: برزت لنا هذه البرزة الحسنة فهيجت لنا الهوى وحرارة القلوب ثم انصرفت عنا ولم تشف بقية نفوسنا التي أبقيت لنا، وبقية مرضنا الذي هيجت لنا ببروزك وما شفيت اختلاج عيوننا ولا سكنت لنا عطشاً.
وجعلت حظي منك حظي في الكرى ... وتركتني للفرقدين جليسا
هذا تفسيره على وجوه: أحدها: جعلت حظي من رؤيتك وصلك في النوم، فكما لا حظ لي منك، لا حظ لي من النوم.
والثاني: جعلت حظي منك في النوم. يعني: لا أراك إلا في النوم.
والثالث: جعلت حظي منك بلا حقيقة ولا حاصل لي، كحظي من الأحلام التي أراها في النوم! ثم قال: وتركتني جليس الفرقدين، ولا أنام من طول الفكر.
قطعت ذياك الخمار بسكرةٍ ... وأدرت من خمر الفراق كئوسا
ذياك: تصغير ذاك. يقول: كنا في خمار مع قربك، بما كنا نقاسي من بخلك بالوصل، فالآن أزلت ذلك الخمار بسكرة الفراق، فكنا نستعظم ذلك الخمار، فصار ما كنا نستعظمه صغيراً في جنب سكرة الفراق! وصغر الخمار بقوله: ذياك لأنه صغير في مقابلة السكر، ولهذا قال: وأدرت من خمر الفراق كئوساً. فحدث عنها هذه السكرة. أو صغره ليبين أن مدة قربها قصرت بالإضافة إلى مدة الفراق، أو يكون أراد به التعظيم كقول لبيد:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهة تصفر منها الأنامل
إن كنت ظاعنةً فإن مدامعي ... تكفي مزادكم وتروي العيسا
المزاد: الوعاء الذي يجعل فيه الزاد، وأراد به ها هنا سقاء الماء، لأنه من الزاد.
يقول: إن كنت مرتحلة فلا تأخذي الماء فإن دموعي تكفي مزادكم وتروي إبلكم من كثرة ما أصب من دموعي. وقيل: إنه من كفأت الإناء: إذا قلبته. أي أن مدامعي تقلب مزادكم وتريق الماء، لأن دموعي تقوم مقام المزاد فلا تحتاجون إليه.
حاشى لمثلك أن تكون بخيلةً ... ولمثل وجهك أن يكون عبوسا
ولمثل وصلك أن يكون ممنعاً ... ولمثل نيلك أن يكون خسيسا
كان الوجه أن يقول: حاشى لمثلك أن يكون بخيلاً؛ لأن لفظ مثل مذكر، إلا أنه حمل على المعنى.
يقول: معاذ الله أن تكوني بخيلة بالتقبيل عند الوداع، ولمثل وجهك أن يكون عابساً في تلك الحال، كأنه أراد بهذه العبارات اللطيفة، أن يقول: ودعيني وقبليني ولا تبعسي وجهك، وحاشاك أن تكوني مانعةً من الوصل، وأن يكون نيلك خسيساً حقيراً. وكني عن إكثار النيل وبذل الوصل من غير منع بأحسن عبارة.
خودٌ جنت بيني وبين عواذلي ... حرباً وغادرت الفؤاد وطيسا
الخود: الناعمة. والوطيس: معركة الحرب. وقيل: هو تنور من حديد.
يقول: هي ناعمة وقد أوقعت حرباً بيني وبين عواذلي في حبها؛ لأنهن يلمنني وأعصيهن، فحدثت مقاتلة فؤادي معركة الحرب بيني وبين عواذلي. وقيل: أراد أنها لما أوقعت بيننا القتال وتركت فؤادي موقداً بالنار بما فيه من حرارة التوقد والوجد والعشق فصار كالتنور.
بيضاء يمنعها تكلم دلها ... تيهاً ويمنعها الحياء تميساً
روى يمنعها التكلم فيكون التكلم منصوباً بيمنع. وروى تكلم فيكون فعل مضارع، والأصل: تتكلم. فحذف إحدى التاءين تخفيفاً. ومعناه: أن تتكلم، غير أنه حذف أن في اللفظ، وهو منوى في العنى. فنصب، وكذلك في تميس فلهذا نصب.

يقول: إنها بيضاء ناعمة يمنعها دلها أن تتكلم من تيهها وتكبرها.
لما وجدت دواء دائي عندها ... هانت علي صفات جالينوسا
يقول: لما وجدت لدائي الذي هو الهوى الدواء عند المحبوبة وهو الوصل هانت عندي صفات جالينوس في طبه. ومثله للأخوص:
وكنت إذا سقمت بأرض سعدى ... شفائي من سقامي أن أراها
أبقى زريقٌ للثغور محمداً ... أبقى نفيسٌ للنفيس نفيساً
يقول: أبقى أبو زريق ابنه محمداً للثغور، أبقى نفيسٌ: وهو الثغر. نفيساً: وهو محمد.
إن حل فارقت الخزائن ماله ... أو سار فارقت الجسوم الروسا
روى الروسا: بالألف واللام غير مهموزة، وروى رءوساً من غير ألف ولام، فيكون مهموزاً، وهو الأصل، والأولى التخفيف.
يقول: إن حل هذا الممدوح بموضعٍ أو بمقر غرةً فارقت خزائنه: أي ماله. لتفريقه إياه على السؤال وغيرهم. وإذا سار فارقت جسوم أعدائه رءوسها؛ لقتله إياهم، فلا يسير إلا للمقاتلة. فوصفه بالسخاء والشجاعة.
ملكٌ إذا عاديت نفسك عاده ... ورضيت أوحش ما كرهت أنيسا
يقول: هو ملك، إذا عاديت أيها الإنسان نفسك، تعاده! وكذلك إذا رضيت أن يكون أنيسك أوحش ما تكرهه، يعني: إن لم يقتلك ويقتصر على الحبس، كنت راضياً بذلك؛ والسجن أوحش ما كرهه الإنسان. وقيل: أراد به الموت؛ لأنه أوحش ما كرهه الإنسان.
الخائض الغمرات غير مدافعٍ ... والشمري المجعن الدعيسا
الخائض وما بعده: نصب على المدح. كأنه قال: أعني أو أذكر أو أمدح. والشمري: المشمر. وقيل: هو في هذا الموضع فارس شمر وهو فارس معروف. والدعيس: الطعان الذي يطعن في موضعٍ مرتين.
يقول: هو ملك يخوض الشدائد، ولا يدافع عنها، وهو الطعان الحاذق بالطعن والفارس المشمر الخفيف في الحرب.
كشفت جمهرة العباد فلم أجد ... إلا مسوداً جنبه مرءوسا
جمهرة العباد: جماعتهم. وقيل: أكثرهم. والمسود: الذي ساده غيره.
والمرءوس: الذي رأسه غيره. وقوله: جنبه. نصب على الظرف. يعني: في جنبه. وبالإضافة إليه.
يقول: فتشت جماعات العباد، فلم أجد بينهم بالإضافة إلى الممدوح إلا مسوداً أو مرءوساً، فكل رئيس في جنبه مرءوس، وكل سيد مسود؛ لأنه سيد السادات، ورئيس الرءوساء.
بشرٌ تصور غايةً في آيةٍ ... تنفي الظنون وتفسد التقييسا
يقول: إنه إنسان، بلغ الغاية من المكرمات، حتى صار فيها آيةً معجزة، بحيث تنفي تلك الآية والدلالة الظنون، فلا تحيط به الظنون وتفسد قياس من يقاس إليه من الناس، فلا يمكن قياس أحد إليه.
وقيل: إن الظنون من الظنة: وهي التهمة. والمعنى: أنه لما صار آية في المكرمات، تنكر الناس فيه، أنه بشر! لما رأوه بهذه الصفة، فنفى هذه التهمة عنهم، وهي أن يتهم بما لا يليق به، كما نسب إلى السيد المسيح، فهو ينفي ذلك عن نفسه ويفسده قياس الناس في ذلك.
وبه يضن على البرية لا بها ... وعليه منها لا عليها يوسى
التذكير: للمدوح. والتأنيث: للبرية. ويوسي: من آسيت على الشيء. أي حزنت عليه. وتقديره: وبه يضن بالبرية عليه، وعليه يوسي من البرية، ولا يوسي عليها منه.
يقول يضن: أي يبخل به على الخلق، ولا يبخل بالخلق عليه، أي يجعل الناس فداء له، ولا يجعل فداء لهم. ويقال: إنه خير من البرية كلهم، وهم دونه، والشيء يبخل به ولا يبذل بما دونه، أو يوحش البرية في رضاه، ولا يوحش هو لرضى البرية.
أو يقال: يتهم البرية به فلا يوثق بالبرية، ولا يتهم هو من البرية. وقوله: وعليه منها أي عليه يوسى أي يحزن، ومنها أي من البرية إذا هلك أو أصابه مكروه، لا عليها يحزن إذا هلكت. والمعنى: أنه يبخل به على البرية، ولا يبخل بهم عليه؛ لأنهم لا يسدون مسده. ويجوز أن يريد يحزن عليه لكونه من البرية، ولأنه أشرف منها، فإذا عد منها فقد يخرجه، فيحزن عليه لذلك، ولا يحزن على البرية لكونه منها، وإنه يرفعها ويشرفها، فكونه منها يضعه ويرفعها فيحزن عليه ولا يحزن عليها بسببه.
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركةٍ لأعيا عيسى

يقول: لو استعمل ذو القرنين رأى هذا الممدوح، وكان له مثل الظلمات، لكانت بنور رأيه شموساً. وأضاءت له؛ لأن رأيه أضوأ من الشمس. وعازر: هو الذي أحياه الله تعالى على يد المسيح أو أصاب رأسه سيفه ومات، لأعيا عيسى أن يحييه ويشق عليه إحياءه بعد موته.
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى
أي: لو كان لج البحر الذي انشق لموسى عليه السلام، مثل يمين هذا الممدوح، ما انشق حتى جاز فيه موسى بمن معه.
أو كان للنيران ضوء جبينه ... عبدت فكان العالمون مجوسا
يقول: لو كان للنار نور جبين هذا الممدوح، لعبدها أهل الدنيا كلهم! وصاروا بأجمعهم مجوساً! والغرض وصفه بالحسن والبهاء.
لما سمعت به سمعت بواحدٍِ ... ورأيته فرأيت منه خميسا
يقول: لما سمعت بذكره، سمعت بواحدٍ من الناس، فلما رأيته رأيت عسكراً عظيماً، وإن كان في نفسه واحد، لقيامه مقام الجماعة.
ولحظت أنمله فسلن مواهباً ... ولمست منصله فسال نفوسا
يقول: لما رأيت أنامله وجدتها تسيل منها المواهب، ولما لمست سيفه وجدته يسيل منه الدماء!
يا من نلوذ من الزمان بظله ... أبداً ونطرد باسمه إبليسا
المعنى: يا من نلجأ إلى ظله إذا جار علينا الزمان، وإذا تعرض لنا إبليس طردناه باسمه؛ لأن اسمه محمد، وبه يطرد إبليس. قيل: إنه أراد أنه في هيئة بمثابة أن يطرد به إبليس، مع كثرة ضرره بالناس، وقيل: أراد بإبليس، كل من تتأذى به الأنفس فهو إبليس.
صدق المخبر عنك دونك وصفه ... من بالعراق يراك في طرسوسا
يقول: صدق المخبر الذي أخبرني عنك. ثم وصفه بقوله: دونك، أي وصف ذلك المخبر دون ما أنت عليه وأنت فوق ما وصفه. ثم قال: من بالعراق يراك في طرسوسا التي أنت فيها فكأنهم في فضلك وشهرتك رأوك وشاهدوك، وأراد بذلك بعد صيته وذكره، لا يستقر بل تسير به الركبان، أو يكون كناية عن وصول عطاياه إلى البلدان. وقول الحكمي أبلغ وأحسن من هذا؛ وهو:
ملكٌ تصور في القلوب مثاله ... فكأنه لم يخل منه مكان
لأنه عم جميع الأماكن، والمتنبي اقتصر على العراق وطرسوس.
بلدٌ أقمت به وذكرك سائرٌ ... يشنا المقيل ويكره التعريسا
أصله: يشنأ بالهمز، فخفف، وأبدل منه الألف. والمقيل: من القيلولة، أو مكانها. والتعريس: يكون في وجه الصبح.
يقول: إن طرسوس بلدٌ أقمت به وذكرك سائرٌ ليلاً ونهاراً، لا مقيل له بالنهار، ولا تعريس له بالليل.
فإذا طلبت فريسةً فارقته ... وإذا خدرت تخذته عريسا
خدر الأسد: إذا غاب في الأجمة. والعريس والعريسة: مأوى الأسد.
يقول: إذا غزوت فارقت هذا البلد، كما يفارق الليث عريسه، وإذا عدت إلى البلد اتحذته مأواك؛ لما شبهه بالأسد جعل مأواه عريسا.
إني نثرت عليك دراً فانتقد ... كثر المدلس فاحذر التدليسا
يقول: إني نثرت عليك من شعري دراً، فانتقده وميزه من شعر غيري، واحذر من المدلس: الخائن. أن يدلس عليك بشعرس يقيمه مقام شعري، أو يحط هذا الشعر عندك من منزلته، فقد كثر المدلسون المتشاعرون.
حجبتها عن أهل أنطاكيةٍ ... وجلوتها لك فاجتليت عروسا
التأنيث في حجتها: للقصيدة، وإن لم يصرح بها فقد صرح بمفهومها، أو يكون راجعاً إلى قوله: عروساً؛ لأنه شبه القصيدة بالعروس.
يقول: منعتها عن أهل أنطاكية، وحملتها إليك مجلوة، حتى اجتليتها عروساً. يعني: إني مدحتك دونهم، لأنك خيرهم، وكلامي خير الكلام، فلا يليق إلا بك.
خير الطيور على القصور وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا
يقول: أنا خير الشعراء، فلا أمدح إلا خير الناس. وغيري من الشعراء يقصد غيرك، فأنا كالطائر الذي سكن القصور، وأولئك كالطيور التي تأوي الخراب، والنواويس. شبه الممدوح بالقصر، وملك أنطاكية بالخرابات والنواويس.
لو جادت الدنيا فدتك بأهلها ... أو جاهدت كتبت عليك حبيا
يقول: لو كانت الدنيا ممن يجود؛ لفدتك بأهلها. أو كانت ممن تجاهد، لكتبت أنها موقوفة عليك، حبيساً في سبيل الله تعالى؛ لتنصر الدين وتذل المشركين. وروى: كتبت عليك حبيسا، أي لو أمكنها أن تخلدك لخلدتك أبداً، ولكتبت ذلك عليك.
وقال يمدح محمد بن زريق أيضاً:

محمد بن زريق ما نرى أحداً ... إذا فقدناك يعطي قبل أن يعدا
يقول: يا محمد بن زريق. ما نرى أحداً سواك يعطى قبل الوعد، دون المطل المكدر للعطايا. يعني أنه ليس أحد سواه.
وقد قصدتك والترحال مقتربٌ ... والدار شاسعةٌ والزاد قد نفدا
قصد بقوله: والترحال مقترب، استعجال العطاء وبقوله والدار شاسعة: الاستكثار منه؛ لأن القليل لا يكفيه، لبعد داره، وبقوله: والزاد قد نفد، أي أنه لا مادة للزاد إلا من جهة أخرى، والغرض منه الاستكثار، أو يكون قصد أن يبين أن الضرورة قد دعته إلى هذا السؤال ولولاها لكان لا يسأل.
فخل كفك تهمي واثن وابلها ... إذا اكتفيت وإلا أغرق البلدا
تهمى: في موضع الحال، وليس بجواب. يقول: خل يدك تصب وتهمي واصرف وابلها: أي مطرها الجود عني إذا اكتفيت وإن لم تصرفه أغرق الوابل البلد. وروى: إن اكتفيت يخاطب الممدوح يقول: هاتها واثن وابلها إن اكتفيت بها دون الوابل، ولما تعرض في البيت الأول للاستكثار، بين هاهنا أن القليل من عطاياه كثير وأن غرضه يحصل بالقليل من عطاياه.
وقال يمدح عبيد الله بن يحيى البحتري:
بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا ... وجدت بي وبدمعي في مغانيكا
المغاني: جمع المغنى، وهو المنزل، من قولهم: غني بالمكان.
يقول: قد بكيت يا منزل الأحباب حتى كدت أحملك على البكاء رقة لي، وجدت بي وبدمعي في منازلك، أي هلكت وجدت بروحي، كما أفنيت دمعي بعد مفارقة الراحلين عنك.
فعم صباحاً لقد هيجت لي شجناً ... واردد تحيتنا إنا محيوكا
صباحاً: نصب على الظرف، أي في صباح، وعم من قولهم: وعم يعم بمعنى نعم ينعم أي أنعم صباحاً.
يقول: أيها الربع أنعم صباحاً، على وجه الدعاء، كرامة لمن نزل به، فقد هيجت أحزاني، واردد علينا سلامنا، فإنا مسلمون عليك بقولنا: أنعم صباحاً.
بأي حكم زمانٍ صرت متخذاً ... رئم الفلا بدلاً من رئم أهليكا
يقول: بأي حكم زمانٍ استبدلت ظباء الفلا بدلاً من الجواري التي كن فيك، مثل ظباءٍ خالصة البياض وهذا على عادتهم في نسب الحوادث إلى الزمان. ومثله للبرقعي:
تبدل الربع من أسماء غزلانا ... وأقفرت من سليمى أرض حلوانا
أيام فيك شموسٌ ما انبعثن لنا ... إلا ابتعثن دماً باللحظ مسفوكا
أيام: نصب على الظرف، أو على إضمار فعل. كأنه يقول: أذكر أياماً.
يقول: أذكر تلك الأيام التي كانت فيك شموس من الحبايب، لم يظهرن لنا إلا أخرجن بلحظهن ونظرهن، أو بعيونهن، دماءً من العشاق. وقوله: مسفوكاً أي مصبوباً.
والعيش أخضر والأطلال مشرقة ... كأن نور عبيد الله يعلوكا
يقول: أذكر أياماً، هذا حالها، وهو أن العيش كان ناعماً لذيذاً، والأطلال مضيئة بالشموس، فكأن نور عبيد الله يعلوكا.
نجا امرؤٌ يا ابن يحيى كنت بغيته ... وخاب ركب ركابٍ لم يؤموكا
روى: جاز مكان خاب أي هلك، والركب: جمع الراكب، والركاب: الإبل. وروى: الرحال وهي الإبل واحدها راحلة.
يقول: آمن الفقر من كنت طلبته ومأموله، وخسر راكبوا إبل وهلكوا إذا لم يقصدوك. يعني: لو قصدوك لأغنيتهم عن طول الأسفار وكفيتهم مؤن المشقات.
أحييت للشعراء الشعر فامتدحوا ... جميع من مدحوه بالذي فيكا
يقول: أحييت شعر الشعراء بما أظهرت من المكارم والخصال، وبما أعطيتهم من الأموال، حتى هديتهم إلى الشعر، فمدحوا ممدوحهم بما فيك من المحاسن والخصال البديعة، فلما رأوا فيك هذه المعالي تعلموا المدح وقول الشعر.
وعلموا الناس منك المجد واقتدروا ... على دقيق المعاني من معانيكا
يقول بياناً لما قبله: إنهم لما مدحوا الناس بأوصافك تنبه الممدوحون لمثل صنائعك، فكأن الشعراء هم الذين علموهم منك المجد واقتدر الشعراء على دقيق المعاني من معانيك التي تخصصت بها دون غيرك. ومثله للآخر:
ما رأينا من فضل جود ابن يحيى ... صير الناس كلهم شعراء
علم المفحمينأن ينطقوا الأش ... عار فيه والباخلين السخاء
فكن كما أنت يا من لا شبيه له ... أو كيف شئت فما خلقٌ يدانيكا
يقول: كن كما أنت يا من لا نظير له، أو كن كيف شئت من النقصان عما أنت عليه، فما خلق يدانيك، بحال من الأحوال، ولا يشبهك بخصلة من الخصال، فكل فعالك حميدة.

شكر العفاة لما أوليت أوجدني ... إلى نداك طريق العرف مسلوكا
أوجدني: أي هداني، وأرشدني. والمفعول الأول: الياء، والثاني طريق العرف.
يقول: شكر السؤال لما أعطيتهم من النوال أوجدلى سبيلاً مسلوكاً إلى معروفك فقصدتك. وروى: إلى يديك يعني أوجدلى شكرهم شكرهم، شكرهم، طريق المعروف مسلوكاً إلى يديك فسلكته.
وعظم قدرك في الآفاق أوهمني ... أني بقلة ما أثنيت أهجوكا
يقول: علو محلك في العالم أوهمني أني بهذا القدر من المدح والثناء أهجوك! يعني: أنك تستحق فوق ما مدحتك به وأثنيت عليك، فكأني هجوتك.
كفى بأنك من قحطان في شرفٍ ... وإن فخرت فكلٌّ من مواليكا
يقول: كفى قحطان شرفاً أنك منهم. فتكون الرواية على هذا: كفى بأنك في قحطان من شرفٍ، ويحتمل كفاك شرفاً بكونك من قحطان، مع شرفٍ لك طارف أضفته إليه. والرواية على هذا: كفى بأنك من قحطان في شرف وإن فخرت، وجدت كل قحطان أوكل الناس من مواليك وخدمك؛ لأن إحسانك يعمهم ومنك يشملهم، فكلهم مواليك.
ولو نقصت كما قد زدت من كرمٍ ... على الورى لرأوني مثل شانيكا
يقول: لو تناهيت في النقصان، تناهيك في الرجحان، لفنيت وعدمت. فرآني الناس مثل عدوك، لأنه لم يبق من أعدائك أحد، فكنت مثلهم في الفناء، وقد أحسن في إضافة النقص إلى نفسه والزيادة إلى الممدوح. وقيل: لو نقصت من المدح، كما زدت على الناس من الكرم، لرأوني في ذلك مثل عدوك، الذي يحسن ذكرك. يعني وإن لم أبلغ الغاية في محاسنك لم أقصر عما دق عليه، كيلا أكون مثل شانيك.
لبى نداك لقد نادى فأسمعني ... يفديك من رجلٍ صحبي وأفديكا
لبى: من قولهم لبيك بمعنى: لزومٌ لك بعد لزوم، وإنما ثنوه على التوكيد، ونصبوه على المصدر، وأضافوه إلى كاف المواجهة، وأضافه هاهنا إلى النداء.
يقول: أجابةً لنداك بعد إجابة، فقد نادى إلى نداك، فأسمعني صوته، يفديك أصحابي ونفسي من رجل بين الرجال. يعني أن سخاءه دعاه إلى معروفه فأجابه وروى: لبى نداك والأول أولى.
ما زلت تتبع ما تولى يداً بيدٍ ... حتى ظننت حياتي من أياديكا
يقول: مازلت تنعم يداً بيدٍ أي: نعمة يد بيد، حتى ظننت حياتي من جملة نعمك علي، لكثرة ما أنعمت فلم أميز ما هو: أعطاء دهر، أم غيره؟!
فإن تقل ها فعاداتٌ عرفت بها ... أو لا فإنك لا يسخوا بلا فوكا
يقول: إن قلت خذ كان ذلك من عادتك التي عرفت بها، وإن أردت أن تقول لا فلم تجد فوك يسخو بها أبداً فلا يمكنك أن تقول ذلك.
وقال أيضاً يمدحه:
أريقك أم ماء الغمامة أم خمر ... بفي برودٌ وهو في كبدي جمر؟!
يقول: أهذا ريقك! أم ماء المطر؟ لعذوبته وصفائه، أم الخمرة؛ لمافيها من اللذة والتفريح، فقد جمع ريقك الحرارة والبرودة، فهو في فمي بارد وفي كبدي حار؛ من حيث ألتذ به عند لهوي، لكنه يهيج العشق في قلبي وكبدي فهو كالخمر، فمن حيث برودته شبهه بماء الغمام ومن حيث الحرارة شبهه بالجمر وأني بلفظ الاستفهام مبالغة في التشبيه.
أذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنةٌ؟ ... وذيا الذي قبلته البرق أم ثغر؟!
يقول: أهذا قدك أم الغضن؟! وهذا كفلك أم الدعص؟ وهما حالان ثم بينةٌ من الرجل أم أنت فتنة كلفت بها كما جمعت هذه الأشياء المختلفة، وهذا الذي قبلته برقٌ لامع أم سنٌّ؟! وشبه الثغر بالبرق، من حيث: أن الشفة كالسحاب، فإذا ابتسمت يبدو البرق من السحاب. وروى: بل أنت فتنة، والتصغير في ذيا: إشارة إلى صغر أسنانها، وإما لأنه محبوب عندهم. كقولهم: يا بني. وهذا في التقسيم كقول الآخر:
أقطع الدجى أم شعرك الفاحم الجعد ... أبدر الدجى أم لاح من وجهك السعد؟!
رأت وجه من أهوى بليل عواذلي ... فقلن نرى شمساً وما طلع الفجر
يقول: رأت العواذل وجهها بليل، فبهتن وقلن: نرى شمساً طالعة قبل طلوع الفجر! فأقررن بحسنها، وكففن عن عذلي وعذرنني في حبها، بعدما كن يعذلنني، ولأن الحسن للمحبوبة شغل العواذل، عن العذل، وكأنه مشتق من قوله تعالى: " فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن " يعني: أنهن إذا رأين يوسف عليه السلام بهتن حتى تركن عذل امرأة العزيز. والواو في قوله: وما طلع واو الحال.
رأين التي للسحر في لحظاتها ... سيوفٌ ظباها من دمي أبداً حمر

يقول: هؤلاء العواذل، رأين المرأة التي في لحظاتها للسحر سيوف، ظباها حمرٌ أبداً من دمي لأنها تقتلني بها.
تناهى سكون الحسن في حركاتها ... فليس لرائي وجهها لم يمت عذر
يقول: سكون الحسن تناهي في حركاتها يعني: أنها إذا تحركت سكن الحسن في حركاتها، فتكون حركاتها مسكناً للحسن، فلا يفارق الحسن حركاتها، فمن رآها في حسنها وجمالها ولم يمت، فليس له عذر في حكم العشق!
إليك ابن يحى ابن الوليد تجاوزت ... بي البيد عنسٌ لحمها والدم الشعر
العنس: الناقة الصلبة القوية.
يقول: تجاوزت بي إليك في المفاوز ناقةٌ قويةٌ، لحمها ودمها الشعر الذي مدحتك به فكنت أحييها بإنشادي لها مدحكم، صيانةً لها من الهزال، لما علمت أنها إذا وصلت إليك وصلت إلى مرادها.
نضحت بذكراكم حرارة قلبها ... فسارت وطول الأرض في عينها شبر
النضح: الرش.
يقول: رششت على الناقة فبردت بمدحكم والشعر فيكم حرارة قلبها، فنشطت وأسرعت في السير واستقصرت تلك المفاوز البعيدة، حتى كأن طول الأرض في عينها شبر؛ لاشتياقها إليك.
إلى ليث حربٍ يلحم الليث سيفه ... وبحر ندىً في موجه يغرق البحر
يقال: ألحمت فلاناً عرض فلانٍ، إذا جعلته يتناوله. وأراد هاهنا: تمكين السيف من لحم الليث.
يقول: سارت هذه الناقة إلى ليث حربٍ، يلحم سيفه الأسد، أي يمكن سيفه من لحم الأسد، وإلى بحر سخاء، يغرق البحر في موجه، ففضله بذلك على البحر.
وإن كان يبقى جوده من تليده ... شبيهاً بما يبقي من العاشق الهجر
يقول: إنه بحرٌ إن كان يبقي جوده من ماله شيء، يبقي مقدار ما يبقي من العاشق الهجر، لأنه لا يبقى منه إلا القليل، فكذلك هذا الممدوح لا يبقى من ماله إلا ذلاك القدر.
فتىً كل يوم يحتوي نفس ماله ... رماح المعالي لا الردينية السمر
الردينية: الرماح المنسوبة إلى ردينة، وهي امرأة كانت تعمل الرماح، وزوجها: السمهر، وكان هو كذلك يعمل الرماح وإليه تنسب السمهرية.
يقول: يسلب أمواله كل يوم رماح المعالي، لا الرماح الحقيقية: التي هي الردينية السمر. يعني: أنه فرقها على سؤاله وعفاته.
تباعد ما بين السحاب وبينه ... فنائلها قطرٌ ونائله غمر
التأنيث: للسحاب لأنه أراد به الجماعة.
يقول: بعيدٌ ما بين السحاب وبينه؛ لأن نائل السحاب قطرٌ، ونائله غمر كثير.
ولو تنزل الدنيا على حكم كفه ... لأصبحت الدنيا وأكثرها نزر
يقول: لو كان أمر الدنيا إليه، لوهبها، وصار أكثرها في جنب هباته قليلاً؛ لأن كفه لا نهاية لها، فكل كثير عندها قليل.
أراه صغيراً قدرها عظم قدره ... فما لعظيمٍ قدره عنده قدر
يعني: عظم قدره أراه صغيراً قدر الدنيا، فليس لشيءٍ عظيم القدر قدرٌ عنده لعظم قدره وعلو همته.
متى ما يشر نحو السماء بوجهه ... تخر له الشعرى وينكسف البدر
تخر: جزم لأنه جزاء الشرط، وهو: متى ما يشر وفتحه لاجتماع الساكنين، وينكسف نصب عطفاً عليه.
يقول: إن الممدوح متى نظر إلى السماء وأشار بوجهه إليها خرت له الشعرى وانكسف البدر: إما لهيبته، وإما خجلاً من نوره، وخص الشعرى لأن قوماً عبدوها، فبين أنها مع ذلك تسجد له، وخص البدر لكثرة ضوئه ولأنه كان معبوداً للقوم.
ترى القمر الأرضي والملك الذي ... له الملك بعد الله والمجد والذكر
ترى: يجوز أن يكون فعل الشعرى، وأراد: ترى أيها المخاطب القمر الأرضي، وهو الملك الذي له المجد والذكر بعد الله عز وجل.
كثير سهاد العين من غير علةٍ ... يؤرقه فيما يشرفه الفكر
يقول: هو كثير السهاد، ثم قال: من غير علة، لصنعته في الشعر. ولما بين في قوله: يؤرقه الفكر فيما يكسبه الشرف، فلهذا يسهد كثيراً.
له مننٌ تفنى الثناء كأنما ... به أقسمت ألا يؤدى لها شكر
الكناية في به: للمدوح.
يقول: له نعم تفنى الثناء للعجز عن الإحاطة بها، كأنما أقسمت المنن بهذا للمدوح ألا يؤدي لها الشكر.
أبا أحمدٍ ما الفخر إلا لأهله ... وما لامرىءٍ لم يمس من بحتر فخر
يقول: يا أبا أحمد، أنت أهل الفخر، فما الفخر إلا لأهله، وما لرجلٍ من غير قبيلتك فخر، وأنت منهم، فكأن الفخر جميعه لك.

هم الناس إلا أنهم من مكارم ... يغنى بهم حضرٌ ويحدو بهم سفر
يقول: هم من الناس لأنهم مخلوقون مثلهم، ثم بين أنهم لبعد صيتهم يغنى بذكرهم الحاضرون، ويحدو به المسافرون.
بمن أضرب الأمثال أم من أقيسه ... إليك وأهل الدهر دونك والدهر؟!
يقول: لا نظير لك، فمن يضرب المثل في شأنك؟ أم من نقيسه إليك؟ وأهل الدهر والدهر دونك! وقال يمدح أخاه أبا عبادة عبيد الله بن يحيى البحتري:
ما الشوق مقتنعاً مني بذا الكمد ... حتى أكون بلا قلبٍ ولا كبد
الكمد: الحزن.
يقول: إن الشوق لا يقنع مني بهذا الحزن الشديد، حتى يجعلني بلا قلبٍ ولا كبدٍ، فأموت.
ولا الديار التي كان الحبيب بها ... تشكو إلي ولا أشكو إلى أحد
هذا البيت يفسر على وجوه: أحدها: أن يكون عطفاً على قوله: ما الشوق ومعناه: أن الشوق كما لا يرضى مني بما أقاسي من الحزن، كذلك الدار التي كان الحبيب بها، لا ترضى مني بهذا الكمد. وتمم الكلام عند قوله: كان الحبيب بها. ثم ابتدأ وقال: تشكو إلي: أي هذه الديار تشكو إلي وحشة الفراق لجهلها، وأنا لا أشكو إلى أحد لجلادتي ولكتماني الأسرار، ولأني عاقل.
والثاني: أن الديار ما شكت لأنها قد درست فضعفت عن الشكوى، لانمحاء آثارها، كما ضعفت أنا عن الشكوى، لسقوط القوة، وإن الديار ما شكت إلي لأنها ليست بناطقه فتعرب عن شكايتها.
والثالث: أن دمعي حال دون تأملي آثار البلى في الديار؛ فلهذا لم تشك إلى أحد، ولو تأملتها تشكو إلي وحشتها، وسوء إثارة الزمان عليها، ثم لا أشكو إلى أحد. أي كانت الديار خالية، ليس فيها من أشكو إليه.
ما زال كل هزيم الودق ينحلها ... والسقم ينحلني حتى حكت جسدي
الهزيم: مطر الجود الذي له صوت. من الهزيمة وهو الصوت. وقيل هو: من الهزيمة. كأنه المطر الذي يلي بعضه بعضاً. والودق: المطر الشديد.
يقول ما زال كل مطر جود شديد القطر يصيب الديار، فيعفوا رسومها، فذلك نحولها، وما زال السقم ينحلني بإذهاب لحمي حتى حكت الديار جسدي. وهذا البيت يؤكد المعنى الثاني، الذي ذكرناه في البيت.
وكلما فاض دمعي غاض مصطبري ... كأن ما سال من جفني من جلدي
يقول: كلما سال دمعي نقص اصطباري، وظهر جزعي، كأن الذي سال من الدمع من عيني سائل من جلدي. ومنه قول الآخر:
فليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنه نفسٌ تذوب فتقطر
فأين من زفراتي من كلفت به ... وأين منك ابن يحيى صولة الأسد
هذا له معنيان: أحدهما: أين من زفراتي وهي الأنفاس زفرات من كلفت به؟ أي أن زفراته لا تبلغ زفراتي! وقوله: أين منك؟ أي: من صولتك. يا ابن يحيى، صولة الأسد؟ أي: أن صولته دون صولتك.
والثاني: أين من كلفت به من زفراتي؟ أي: أنه غافلٌ عنها، خالٍ منها. وأين منك صولة الأسد؟ أي: لا يبلغ صولتك، ولا يؤثر فيك شيئاً.
لما وزنت بك الدنيا فملت بها ... وبالورى قل عندي كثرة العدد
يقول: لما وزنت الدنيا وأهلها بك، فملت بهم، أي كنت أرجح منهم، فقل عندي كثرة العدد؛ لأن الاعتبار في الوزن بالفضل والمعنى لا بالعدد والذوات. ومثله للبحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... إلى الفضل حتى عد ألفٌ بواحد
ما دار في خلد الأيام لي فرحٌ ... أبا عبادة! حتى درت في خلدي
خلد الأيام: استعارة لطيفة، ولما ذكر الخلد: وهو القلب. قال: ما دار في قلب الأيام لي سرور حتى درت في قلبي. يعني: ما سررت منذ سمعت ذكرك في زماني هذا، حتى قصدتك فسررت برؤيتك.
ملكٌ إذا امتلأت مالاً خزائنه ... أذاقها طعم ثكل الأم للولد
يقول: هو ملكٌ إذا امتلأت خزائنه من المال، أذاقها بتفريق مالها، طعم ثكل الأم لولدها.
ماضي الجنان يريه الحزم قبل غدٍ ... بقلبه ما ترى عيناه بعد غدٍ
الجنان: القلب. ومضاؤه: ذكاؤه، وحدته، وشجاعته. والحزم: رفع على أنه فاعل يريه، وينصب على أنه مفعوله الثاني، والفاعل الجنان.
يقول: إنه يرى بقلبه الأشياء قبل ما تراه العين بعد غدٍ.
ماذا البهاء ولا ذا النور من بشرٍ ... ولا السماح الذي فيه سماح يد
يقول: ليس هذا البهاء والنور اللذين فيه، من بشر، بل هو من ملك، ولا السخاء الذي فيه سخاء يد أحدٍ. بل هو سخاء أيدٍ كثيرة.

وقيل معناه: ولا السخاء الذي فيه سخاء يدٍ وإنما هو سحابٍ، أو سخاء بحر.
أي الأكف تبارى الغيث ما اتفقا ... حتى إذا افترقا عادت ولم يعد
يقول: أي كفٍّ من بين الأكف تعارض الغيث وتكاثره، ما داما متفقتين في الحال. الكف في الإعطاء والغيث في إحياء إدامة الإنداء، حتى إذا افترقا، عادت الكف إلى الإعطاء، ولم يعد الغيث إلى الإنداء، وليس هكذا كفٌّ إلا كف هذا الممدوح.
قد كنت أحسب أن المجد من مضر ... حتى تبحتر فهو اليوم من أدد
مضر: ابن نزار بن معد بن عدنان. وأدد: ابن طايحة بن إلياس بن يعرب ابن قحطان. وبحتر: الذي هو الممدوح من قحطان.
يقول: كنت أظن قبل هذا، أن الشرف كله من مضر، حتى رأيته ببحتر، فنسب نفسه إليها لكون الممدوح منها، فهو الآن من أدد الذي هو من قحطان. قيل: تبحتر أي: أقام ببحتر فلما أقام فيها علمت أنه من أدد.
قومٌ إذا مطرت موتاً سيوفهم ... حسبتها سحباً جادت على بلد
فاعل مطرت: سيوفهم، ومفعوله: موتاً والهاء في حسبتها: للسيوف، وفي جادت: للسحب.
يقول: هم قوم إذا قاتلوا، مطرت سيوفهم موتاً؛ لكثرة ما يقتلون بها، فيظن سيوفهم سحاباً مطرت مطراً جوداً على بلدٍ.
لم أجر غاية فكري منك في صفةٍ ... إلا وجدت مداها غاية الأبد
يقول: ما أجريت غاية فكري في صفةٍ منك، إلا وجدت غاية تلك الصفة غاية الأبد، وليس للأبد نهاية.
وقال يمدح محمد مساور بن محمد الرومي:
جللاً كما بي فليك التبريح ... أغذاء ذا الرشإ الأغن الشيح
الجلل: الأمر العظيم هاهنا، وهو أيضاً الأمر الهين ونصب بخبر فليك. والتبريح: اسمه وهو الشدة. والرشأ: ولد الظبية، والأغن: الذي يخرج صوته من الخيشوم. والشيح: نبت معروف، وهو من نبات نجد، وهو ينعم المواشي إذا رعته وقوله: فليك أصله فليكن فحذف النون لسكونها وسكون التاء الأولى من التربيح، تشبهاً للنون بحروف اللين؛ لما فيه من الغنة.
يقول: ليكون التبريح والشدة عظيماً كما بي، فتم الكلام هاهنا، ثم استأنف في المصرع الثاني متعجباً من المشبه به فقال: أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح؟! أي فرط شبهه بالظبي شككت فيه: أنه ظبي في الحقيقة أم لا؟ وقد طعن في ذلك.
وقيل: إن أحد المصراعين ينافي الآخر ولا مطعن فيه لأن المصراعين بمنزلة البيتين، فكما يجوز أن يكون أحد البيتين منقطعاً عن الآخر، فكذلك المصراعان، وقد ورد مثال ذلك في الأشعار.
وقد قيل في وجه اتصال المصراعين وجهان: أحدهما: أنه بين في المصراع الأول حالة في شدة التبريح وبالغ فيه، ثم بين في المصراع الثاني: أن من فعل به تبريح الهوى هو الرشأ الأغن المنعم الذي ربى بالشيح.
والثاني: أن معناه: إن كان في الدنيا تبريحاً، فليكن عظيماً مثل ما بي. ثم قال: أتظنون أن من فعل بي هو الرشأ الذي غذاؤه الشيح؟ ما هو إلا الرشأ الذي غذاؤه قلوب العاشقين وأبدانهم، فيا له من رشأ أغن! وقد كان ما قاله المتنبي على زعم بعضهم:
جللا كما بي فليك التبريح ... أولا فتبريح الهوى ترويح
لله من رشأ أغن مهفهفٍ ... أغذاء ذا الرشأ الأغن الشيح
ومعناه على هذا: ليكن التبريح عظيماً كما بي، وإلا فإنه ترويحٌ إذا لم يكن مثل تبريحي، ثم قال: لله من رشأ، ومعناه عجباً من الرشأ الذي في صوته غنة! مهفهفٍ: أي دقيق الخصر. غداؤه الشيح: الذي ينعم به أمثاله. فكأنه قال: كل ما حصل بي من التبريح، فمن الرشأ الذي صفته هذه.
لعبت بمشيته الشمول وجردت ... صنماً من الأصنام لولا الروح
يقول: لعبت الخمر بمشية هذا الرشأ، حتى صار مثل شارب الخمر. وجردت: أي عرته عن ثيابه. وصنماً: نصب لوقوع جردت عليه، فكأنه يقول: جردت الشمول صنماً من الأصنام، لولا أن فيه الروح، لكان صنماً. وقيل: جردته في الحسن صنماً، فنصب على الحال. وإنما لم يقل: وثناً لأنه غير مصور بخلاف الصنم.
ما باله لاحظته فتضرجت ... وجناته وفؤادي المجروح؟!
تضرجت: أي احمرت.
يقول: ما بال هذا الرشأ لاحظته فاحمرت وجناته؟! وقلبي هو المجروم النظر إليه! فكان ينبغي أن يحمر قلبي.
ورمى، وما رمتا يداه فصابني ... سهمٌ يعذب والسهام تريح
رمت يداه: على لغة من يقول: أكلوني البراغيث. وما للنفي وسهم: رفع بصابني.

يقول: رمى هذا الرشأ سهماً وهو النظر ولم ترم يداه فصابني، سهمٌ يعذب طول الأبد، بخلاف السهام المريحة القاتلة.
قرب المزار ولا مزار وإنما ... يغدو الجنان فنلتقي ويروح
المزار الأول: موضع الزيارة. والثاني: المصدر، ويحتمل أن يكونا مصدرين.
يقول: قرب المزار بيننا بالفكر والقلب، ولا زيارة في الحقيقة، وإنما يغدو القلب ويروح، إلى القلب فنلتقي نحن بالتقائهما، فالتقاؤنا بالأرواح لا بالأشباح.
وفشت سرائرنا إليك وشفنا ... تعريضنا فبدا لك التصريح
يقول: كنا قد عرضنا بحبك فشفنا أي أضعفنا تعريضنا به فضعفت أسرارنا لذلك التصريح، فأظهر هزالنا ونحولنا ما بنا، فصار التعريض تصريحاً.
وقيل: أراد لما شفنا التعريض وجهر بنا، فلم نطق كتمان الحب، أسررنا إلى التصريح فانهتك الستر.
لما تقطعت الحمول تقطعت ... نفسي أسىً وكأنهن طلوح
الحمول: بالفتح الإبل، وبالضم الأحمال. وأراد ها هنا الهوادج بما فيها.
يقول: لما تقطعت الحمول عن عيني تقطعت نفسي حزناً. ثم شبه الحمول بالطلوح وهي جمع الطلح شجر عظيم، لأنهم يشبهون الإبل، وأحمالها بالنخيل، وسائر الأشجار الرفيعة. ويجوز تشبهها بالطلح لنحولها ودقتها.
وجلا الوداع من الحبيب محاسناً ... حسن العزاء وقد جلبن قبيح
الضمير في جلبن: للمحاسن.
يقول: أظهر الوداع من الحبيب محاسن، وكان الحسن الصبر، وقد أظهرن قبيحاً؛ لظهور هذه المحاسن، أو لما تعقبه من الفراق. ومثله قول الشاعر:
والصبر يحسن في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يحمد
قيدٌ مسلمةٌ وطرفٌ شاخصٌ ... وحشاً يذوب ومدمعٌ مسفوح
وقد روى أيضاً فيدٌ مسالمةٌ أي مصالحة؛ من حيث أنه أشار بها للوداع. والشاخص: هو الذاهب المتحير. والمسفوح: المصبوب وأراد به المدمع الحال فيه، لأن محله غير مسفوح، ويجوز أن يكون أراد ومدمع مسفوح منه: يصف حال الوداع فيقول: كان لكل واحدٍ منا، يد مسلمة للتوديع خوف الرقباء، وطرف طافحٌ متحير، وحشاً ذائب؛ أسفاً على الفراق، ودمع مسفوح.
يجد الحمام ولو كوجدي لانبرى ... شجر الأراك مع الحمام ينوح
انبرى: أي انبعث وأخذ.
يقول: لو حزن الحمام مثل حزني لناح شجر الأراك الذي عليه، مع الحمام عند نوحها.
وأمق لو خدت الشمال براكبٍ ... في عرضه لأناخ وهي طليح
الأمق: الطويل. وأراد به هاهنا: المفازة الواسعة. والطليح: الناقة المعيبة. وخدت: أي حدت وجرت، وأناخ: فعل الراكب.
يقول: رب مهمةٍ طويل لو جرت في عرضه الريح الشمال براكب عليها، لأناخ الراكب، وهي: يعني الشمال معيبة فإذا كان المركوب ريحاً هذا حالها في العرض، فما ظنك بسائر المركوبات بالطول؟ لأن عرض كل شيء دون طوله. وروى: في عرضه. أي جانبه.
نازعته قلص الركاب وركبها ... خوف الهلاك حداهم التسبيح
الهاء في نازعته: للأمق، ومعناه: جاذبته؛ لأنه أراد أن يهلك الركاب، وأردت أن أنجو بها، وحداهم: ممدود إلا أنه قصر للضرورة.
يقول: نازعت هذا الأمق أبكار الإبل، في حالة كان حداء الراكبين فيها من خوف الهلاك والضلال التسبيح لله تعالى، وخوف الهلاك: نصب لأنه مفعولٌ له.
لولا الأمير مساور بن محمدٍ ... ما جشمت خطراً ورد نصيح
التاء في جشمت: لقلص الركاب.
يقول: لولا الممدوح ما جشمت قلص الركاب الأبكار، أمراً مهولاً، وما رد الناصح الذي ينهى عن ركوب، مثل هذه المهلكة.
ومتى ونت وأبو المظفر أمها ... فأتاح لي ولها الحمام متيح
يقول: متى فترت هذه القلص، ومقصودها الممدوح، فأتاح لي: أي قدر لي ولها، الحمام: أي الموت متيح: وهو الله تعالى.
شمنا وما حجب السماء بروقه ... وحرىً يجود وما مرته الريح
يقول: هو السحاب شمنا بروقه في حال ما لم يحجب السماء، بخلاف سائر السحب، إذ المعهود من البرق أن يحجب السماء بالغيم، وهو حقيق بأن يجود من غير أن تمر به الرياح، أي تحلبه كما تحلب السحاب وتقديره؛ شمنا بروقه وما حجب السماء.
مرجو منفعةٍ مخوف أذيةٍ ... مغبوق كأس محامدٍ مصبوح
يقول: هو مرجو محامدٍ يسيرها إلى أوليائه، ومخوف أذيه يحلها بأعدائه، وقد صبح كأس المحامد وغبق، فهو محمود أبداً.

حنقٌ على بدر اللجين وما أتت ... بإساءةٍ وعن المسيء صفوح
يقول: إنه حنقٌ على بدر الفضة؛ لكثرة تفريقه إياها من غير ذنب وإساءة منها، وهو مع ذلك يعفو عن المسيء المذنب.
لو فرق الكرم المفرق ماله ... في الناس لم يك في الزمان شحيح
فاعل فرق ضمير الممدوح، والكرم مفعوله، والمفرق: صفة الكرم. وماله: نصب بالمفرق، الذي هو الفاعل من فرق. وروى: لو فرق الكرم المفرق ماله على ما لم يسم فاعله فيرفع ما بعده إلا ماله فإنه منصوب.
يقول: لو أنه فرق كرمه، الذي يفرق ماله على الناس لم يكن في الزمان بخيل. يعني: أنه يعم الناس بره حتى لا يبخل أحدٌ بشيء من المال.
ألغت مسامعه الملام وغادرت ... سمةً على أنف اللئام تلوح
ألغت: أي ألقت وقد روى ذلك أيضاً. وقيل معناه: جعلت الملام لغواً أي باطلاً. فمعناه: أبطلت.
يقول: إن مسامعه أبطلت ملام اللائمين له، على إعطائه وغادرت الملام سمة لائحة على أنوف اللئام. وروى على أنف اللئام. يعني أنه لوى به أنوفهم.
هذا الذي خلت القرون وذكره ... وحديثه في كتبها مشروح
التأنيث في كتبها: للقرون.
يقول: هذا الممدوح هو الذي ذكره في كتب القرون الماضية، مشروح منزلٌ منزلة الأنبياء؛ من تقدم البشارة بهم، وكان الوجه أن يقول: وذكره وحديثه مشروحان، ولكن لما كان معناهما واحد، اقتصر على واحد.
ألبابنا بجماله مبهورةٌ ... وسحابنا بنواله مفضوح
مبهورة: أي مغلوبةٌ مدهوشة.
يقول: عقولنا بجماله مغلوبة مدهوشة، والحاب بعطائه مفضوح لقصور نيله من نيله.
يغشى الطعان فلا يرد قناته ... مكسورةً ومن الكماة صحيح
الواو في قوله: ومن الكماة للحال.
يقول: إنه يرد للمطاعنة فلا يرد رمحه مكسوراً إلا بد ألا يبقى من الشجعان صحيح.
وعلى التراب من الدماء مجاسدٌ ... وعلى السماء من العجاج مسوح
المجاسد: جمع مجسدة، وهو الثوب الذي يلي الجسد، وهو أيضاً الثوب المصبوغ بالجساد: وهو الزعفران. يقول يغشى الطعان وتراب الأرض قد غشي بثيابٍ من الدماء، وعلى الجو من الغبار مسوح سود.
فشبه التراب المختلط بالدم: بالثياب المصبوغة بالزعفران. وشبه الغبار الكثيف: بالمسوح السود.
يخطو القتيل إلى القتيل أمامه ... رب الجواد وخلفه المبطوح
يقول رب الجواد: وهو الممدوح، يخطو من قتيل إلى قتيل آخر أمامه وخلفه مبطوح، حين طعنه فتخطاه.
فمقيل حب محبه فرحٌ به ... ومقيل غيظ عدوه مقروح
يقول: قلب محبه وهو مقيل الحب، فرد به غيظ عدوه، أي قلب عدوه بالغيظ الذي فيه مجروح.
يخفي العداوة وهي غير خفيةٍ ... نظر العدو بما أسر تبوح
يخفي: فعل العدو.
يقول: يخفي عدوه العداوة عنه؛ لخوفه منه، وهي لا تخفى عليه لذكائه، وفطنته. وقوله: نظر العدو بما أسر تبوح يحتمل أن يريد به: نظر الدو إليه نظراً شزراً، يظهر ما أسره في قلبه من العداوة. فيكون المصدر مضافاً إلى فاعله.
ويحتمل أن يريد: أنه إن نظر إلى العدو يبوح بسره؛ لأنه إذا نظر إليه يعرف ما في قلبه، ويكون المصدر مضافاً إلى المفعول.
يا ابن الذي ما ضم بردٌ كابنه ... شرفاً ولا كالجد ضم ضريح
يقول: يا ابن الذي لم يضم البرد شرفاً وحياءً، والابن: هو الممدوح، ولا ضم القبر كجده ميتاً.
نفديك من سيل إذا سئل الندى ... هولٍ إذا اختلطا دمٌ ومسيح
المسيح: العرق.
يقول نفديك: من رجلٍ يشبه السيل إذا سئل السخاء، وهو هول؛ إذا اختلطا دمٌ وعرقٌ في القتال. وفي قوله: اختلطا دم ومسيح: أورد الاثنين قبل الذكر، أورده مورد قولهم: أكلوني البراغيث.
لو كنت بحراً لم يكن لك ساحلٌ ... أو كنت غيثاً ضاق عنك اللوح
يقول: لو كنت بحراً كنت بلا شطٍّ ونهاية، أو كنت غيثاً ضاق عنك الهواء لكثرته. والأوجه أن يقول: لم يك له وضاق عنه ولكنه أسنده إلى كنت.
وخشيت منك على البلاد وأهلها ... ما كان أنذر قوم نوح نوح
عجزٌ بحرٍّ فاقةٌ ووراءه ... رزق الإله وبابك المفتوح
البيت الأول: معناه ظاهر.
يقول بعده: عجزٌ بالحر الذي به فقر مع أن قدامه رزق الله تعالى، وبابك المفتوح بالسخاء.
إن القريض شجٍ بعطفي عائذٌ ... من أن يكون سواءك الممدوح

وذكي رائحة الرياض كلامها ... تبغي الثناء على الحيا فتفوح
شجي يشجى فهو شج: إذا اغتص به. وعطف الشيء: جانبه.
يقول: إن الشعر يلتجىء إلي عائذٌ بعطفي وجانبي؛ مخافة أن أمدح به غيرك من الناس، لرغبته في محاسنك وزهدة فيمن سواك، لأنهم لا يستحقونه.
الذكي: الرائحة الشديدة.
يقول: إن شعري كره أن أمدح به غيرك لأنه قد رأى الرياض تشكر المطر. ففوحها طيب كلامها وثنائها على المطر فتشكر على قدر إمكانها، فأرادني أن أمدحك به فأؤدي شكرك.
جهد المقل فكيف بابن كريمةٍ ... توليه خيراً واللسان فصيح
يقول: إذا شكرت الرياض للمطر، بالريح الذكي، وذلك جهد المقل، فكيف ظنك بابن حرة توليه براً جزيلاً وإحساناً جميلاً، وله لسان فصيح، فاعذره إذا ترك الثناء عليك.
وقال أيضاً يمدحه:
أمساورٌ أم قرن شمسٍ هذا؟ ... أم ليث غابٍ يقدم الأستاذا؟
يقدم: أي يتقدم. والأستاذ: قيل هو الممدوح الذي هو مساور، أو قرن الشمس أيضاً اشتبه بقرن الشمس حتى إنه يحتاج إلى الاستفهام أنه هو، أم قرن الشمس؟ وقرن الشمس أول ما يبدو منها، ويكون ليث غاب على هذا: هيبته التي تسبق إلى قلوب الناس دون نفس مساور، لأن الشيء لا يتقدم نفسه فكأنه قال: إن هيبته التي تسبق ليث غاب، تقدم مساوراً وقيل: إن الأستاذ غير مساور، الذي هو الممدوح. وقيل: هو كافورٌ الإخشيدي وكان مساور في حجابه أو قواده. فيكون على هذا شبه الأستاذ بالشمس، وشبه مساوراً بقرنها، ثم جعله أيضاً ليث غاب يتقدم الأستاذ في سيره، أو في موكبه. وقيل: إن الأستاذ ليس هو رجلاً بعينه، وإنما المقصود: أن مساوراً في شجاعته يسبق أستاذه، ودون أستاذه يعجز عنه.
شم ما انتضيت فقد تركت ذبابه ... قطعاً وقد ترك العباد جذاذا
يقول: أغمد ما انتضيته يعني: السيف. فقد تركت حده قطعاً من كثرة ما ضربت به، وقد ترك السيف عباد الله قطعاً.
هبك بن يزدادٍ حطمت وصحبه ... أترى الورى أضحوا بني يزداذا
هب: أي اجعل.
يقول: هب أنك كسرت ابن يزداد وأصحابه، أترى أن الناس كلهم بنو يزداد، فتقتلهم وتحطمهم، كما قتلت خصمك! كأنه قد كان جاوز عن قتل أعدائه إلى قتل غيرهم.
غادرت أوجههم بحيث لقيتهم ... أقفاءهم وكبودهم أفلاذا
يقول: غادرت أي تركت وجوههم عندما لقيتهم أقفاءهم: أي طمست آثارها حتى لم تبين وجوهم من أقفائهم. وقيل: أراد أنك هزمتهم فقامت أقفاؤهم: أي طمست آثارها حتى لم تبين وجوههم من أقفاءهم: أي طمست آثارها حتى لم تبين وجوههم من أقفائهم. وقيل: أراد أنك هزمتهم فقامت أقفاؤهم في استقبالهم مقام وجوههم، وتركت أكبادهم متقطعة.
في موقفٍ وقف الحمام عليهم ... في ضنكه واستحوذ استحوذا
يقول: فعلت ذلك بهم، في موقفٍ وقف الموت عليهم في مضيق ذلك الموقف، أي في موقف صعب، وغلبت عليهم غلبة عظيمة.
جمدت نفوسهم فلما جئتها ... أجريتها وسقيتها الفولاذا
التأنيث: للنفوس. وجمدت نفوسهم: يجوز أن يريد جمدت دماؤهم فلما جئتها أجريتها وأذبتها، ثم أسقيتها الفولاذا لأنه كان ظامئاً إليها.
لما رأوك رأوا أباك محمداً ... في جوشن وأخا أبيك معاذا
يقول: لما رآك ابن يزداد وأصحابه، رأوا برؤيتك أباك وعمك، لأنك أشبهتهما فعلاً ونجدة، فكأنهما كانا في جوشن واحد، وقيل رأوهما في جوشنك، وذلك جامعٌ لمدحه ومدح أبيه وعمه، لأنه نسبهما إلى الشجاعة.
أعجلت ألسنهم بضرب رقابهم ... عن قولهم لا فارسٌ إلا ذا
يقول: لما رأوك أرادوا أن يقولوا: ليس في العالم فارسٌ إلا هذا، فأعجلتهم عن قول ذلك بضرب رقابهم قبلها.
غرٌّ طلعت عليه طلعة عارضٍ ... مطر المنايا وابلاً ورذاذا
مطر المنايا: يجوز أن يكون منصوباً بتقدير فعل، فكأنه يقول: وأمطرت عليهم مطر المنايا. والوجه عندي غير ذلك وهو: أن يكون مطر المنايا فعلاً ماضياً وفاعله ضمير عارض: تقديره طلعت عليهم طلعة عارض أمطر ذلك العارض عليهم المنايا.
يقول: إن ابن يزداد كأنه لم يجرب الأمور؛ فطلعت عليهم طلعة سحاب ماطر، غير أن مطره كان الموت. ووابلاً: أي عظيماً، ورذاذا: أي صغيراً، شبه الدم السائل من ضربة السيف بالوابل، ومن الطعن فيهم بالرذاذ.

فغدا أسيراً قد بللت ثيابه ... بدمٍ وبل ببوله الأفخاذا
يقول: غدا ابن يزداد، أسيراً جريحاً، قد بللت ثيابه من دمه، وبل هو أفخاذه ببوله، خوفاً منك وفزعاً.
سدت عليه المشرفية طرقه ... فانصاع لا حلباً ولا بغداذا
المشرفية: السيوف المنسوبة إلى اليمن وتعمل فيها. وانصاع: أي انصرف وانثنى. يقال: صعته فانصاع.
يقول: سدت عليه السيوف طرقه؛ لأنك أسرته فبقي حائراً لم يصل إلى حلب ولا إلى بغداد.
طلب الإمارة في الثغور ونشؤه ... ما بين كرخايا إلى كلواذا
هاتان قريتان من رستاق بغداد.
يقول: إنه طلب إمارة الثغور، ونشؤه بين هذين الموضعين، والسواد لا تصلح للإمارة.
فكأنه حسب الأسنة حلوةً ... أو ظنها البرني والأزاذا
البرني والأزاذ: نوعاً من التمر.
يقول: حسب من جهله أن الأسنة حلوة، أو ظنها هذين النوعين من التمر، ولم يعلم أن طعمها بالخلاف.
لم يلق قبلك من إذا اختلف القنا ... جعل الطعان من الطعان ملاذا
يقول: إن ابن يزداد لم يلق قبلك رجلاً إذا ترددت الرماح واختلفت، جعل المطاعنة ملاذاً من المطاعنة، ومعناه: أنه يتحصن بالمطاعنة من أذى خصمه. فكأنه هرب من الطعان إلى الطعان، في حال ما يلتجىء غيره إلى العساكر والحصون.
من لا توافقه الحياة وطيبها ... حتى يوافق عزمه الإنفاذا
يقول: لم يلق ابن يزداد قبلك أحداً لا توافقه الحياة وطيبها، أي لا تطيب له الحياة، حتى يمضي عزمه فيما يقصده.
متعوداً لبس الدروع يخالها ... في البرد خزاً والهواجر لاذا
اللاذ: ثوبٌ رقيق كالكتان، أو أرق منه.
يقول: لم يلق ابن يزداد قبلك متعوداً لبس الدروع في الصيف والشتاء حتى يخالها التذاذاً بها واعتياداً للبسها أنها في البرد: خز. وفي الصيف: كتان، أو ثوب رقيق.
أعجب بأخذكه وأعجب منكما ... ألا تكون لمثله أخاذا!
يقول: ما أعجب أخذك له، وأسرك إياه! وأعجب منك ومنه ألا تكون أخاذاً لمثله مع فضل قوتك! وقال يرثي محمد بن إسحاق التنوخي
إني لأعلم واللبيب خبير ... أن الحياة وإن حرصت غرور
ورأيت كلاً ما يعلل نفسه ... بتعلة وإلى الفناء يصير
يقول: إني أعلم أن الحياة غرور، وإن حرصت عليها، وملت إليها، وإنما أعلم ذلك لأني عاقل، والعاقل يعلم ذلك لا محالة.
أمجاور الديماس رهن قرارةٍ ... فيها الضياء بوجهه والنور
الديماس: حفرة القبر، وقيل: هو اسم لحبس الحجاج، كان لا يدخله أحدٌ ويخرج منه! وقوله: رهن قرارةٍ: منصوب على الحال، أو على البدل من مجاور الديماس، والقرارة: أراد بها أرض القبر، والهاء في فيها ترجع إلى القرارة.
يقول: يا ساكن القبر قد أنار الأرض نور وجهك.
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن الكواكب في التراب تغور
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الرجال يسير
يقول: ما كنت أظن أن النجوم تغور في الثرى، أي تغيب، حتى رأيت تواريك في القبر، وما كنت أرجو قبل رؤيتك على النعش، أن الجبل يسير على أيدي الرجال.
خرجوا به ولكل باكٍ خلفه ... صعقات موسى يوم دك الطور
يقول: خرجوا به إلى القبر، والباكين كل له غشيانٌ كغشيان موسى عليه السلام، يوم دك الطور، أي أزيل وسوى به الأرض، وهو من قوله تعالى " وخر موسى صعقاً " .
والشمس في كبد السماء مريضةٌ ... والأرض واجفةٌ تكاد تمور
مرض الشمس: عبارة عن قلة ضوئها، وعن كسوفها، وكأن الشمس في تلك الحالة مرتجة في وسط السماء، والأرض مضطربة. تكاد الأرض تمور أي تزلزل وتدور، وإنما قال في وسط السماء؛ لأن الشمس في تلك الحالة تكون أضوأ ما تكون.
وحفيف أجنحة الملائك حوله ... وعيون أهل اللاذقية صور
صور: جمع أصور، وصور: أي مائلة.
يقول: حضرت الملائكة جنازته، فكأن حوله أصوات أجنحتهم عند سيرهم مع الجنازة، وعيون أهل هذه البلدة مائلة نحو جنازته تحسراً عليه وعلى مفارقته.
حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه ... في قلب كل موحدٍ محفور

يقول: حتى أتو به قبراً، كأن ضريحه حفر في قلب كل موحدٍ، يعني أن موته صعب على الموحدين؛ فكأنهم حفروا قبره في قلوبهم؛ لعظم تأثيره فيهم. وقيل: أراد أنه ليس يغيب ذكره عن قلوب الموحدين فكأنه دون فيها، ويجوز أن يريد بتشبيه قبره بقلوب الموحدين: إشارة إلى حصول النور فيه لما دفنه فيه كالنور الذي يكون في قلب المؤمن الموحد.
بمزودٍ كفن البلى من ملكه ... مغفٍ وإثمد عينه الكافور
مزود: صفة لمحذوف، أي برجل مزود.
يقول: أتوا القبر برجل مزود عن جميع ما يملكه، كفناً يبلى وهو مغف: أي مغض عينيه. وإثمد عينيه: أي كحلهما. الكافور: أي إنه لم يحمل من ماله لنفسه إلا الكحل والكفن والحنوط.
فيه السماحة والفصاحة والتقى ... والبأس أجمع والحجا والخير
أي في الجدث. أو في المرثى، والخير هنا: الكرم. والحجا: العقل فكأنه يقول: إن هذه المعاني دفنت بدفنه.
كفل الثناء له برد حياته ... لما انطوى فكأنه منشور
انطوى: كناية عن موته. والمنشور: عن حياته.
يقول: كفل له الثناء أو الذكر برد حياته، فكأنه حي بعد الدفن والموت، يعني: أن ذكره الجميل باق بعده، فكأنه لم يمت؛ لقيام ذكره له مقام الحياة ومثله لآخر:
ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
فكأنما عيسى بن مريم ذكره ... وكأن عازر شخصه المقبور
يقول: إن ذكره الباقي بعده، أحياه فكأن ذكره، المسيح عليه السلام، وكأن شخصه المقبور، عازر. وهو: الذي أحياه الله تعالى على يد السيد المسيح.
واستزاده بنو عم الميت فقال ارتجالاً:
غاضت أنامله وهن بحور ... وخبت مكايده وهن سعير
يقول: كانت أنامله في الجود كالبحور، فغار ماؤها، وكانت مكايده في الحرب سعيراً، فخبت وطفئت.
يبكى عليه وما استقر قراره ... في اللحد حتى صافحته الحور
قراره: يرفع وينصب؛ الرفع باستقر، والنصب على الظرفية.
يقول: يبكى عليه، ومن الواجب ألا يبكى عليه؛ لأنه لم يستقر قراره حتى أتاه من الكرامة والثواب، وصافحته الحور، ويجوز أن يكون على الاستفهام والتوبيخ، أي نبكي وهو لم يستقر قراره حتى صافحته الحور.
صبراً بني إسحاق عنه تكرماً ... إن العظيم على العظيم صبور
نصب صبراً: على المصدر أي اصبروا صبراً، وتكرماً: نصب لأنه مفعول له.
يقول: اصبروا وترفقوا عن الجزع عن هذا الميت؛ لأن قدركم عظيم، والمفجوع به عظيم، والمصيبة بمثله عظيمة، والعظيم يصبر على العظيم، فاصبروا على عظماء.
فلكل مفجوعٍ سواكم مشبهٌ ... ولكل مفقود سواه نظير
يقول: لكل مصاب نظير غيركم فإنه لا نظير لكم، ولكل مفقود غير هذا الميت نظير، فإنه لا نظير له. أي ليس في الأحياء مثلكم ولا في الأموات مثله! وقيل: إن هذا أمر عام فلكم أمثال وله نظير؛ لأن المفجوعين والمفقودين كثير.
أيام قائم سيفه في كفه ال ... يمنى وباع الموت عنه قصير
أيام: نصب بقوله لكل مفقود سواه نظير أيام.
يقول: لكل مفقود نظير أيام. وقيل: تقديره اذكر، أو اذكروا أيام.
يقول: كانقائم سيفه أيام حياته في يمناه إشارة إلى شجاعته، وكان باع الموت مع طوله واقتداره، قصير عنه!
ولطالما انهملت بماءٍ أحمرٍ ... في شفرتيه جماجمٌ ونحور
فاعل انهملت: جماجم ونحور.
يقول: لطالما انهملت جماجمٌ ونحورٌ، بماءٍ أحمر، وهو الدم. في شفرتيه: أي شفرتي سيفه.
فأعيذ إخوته برب محمدٍ ... أن يحزنوا ومحمدٌ مسرور
يقول: أعيذ إخوة الميت، برب محمد، وهو الميت، أن يحزنوا عليه، وهو مسرورٌ: أي بما أتاه الله من الثواب والكرامة، وأسباب المسرة. ويجوز أن يكون محمد الأول النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني الميت.
أو يرغبوا بقصورهم عن حفرةٍ ... حياه فيها منكرٌ ونكير
يقول: وأعيذهم أن يرغبوا في قصور الدنيا عن دار الآخرة، وأن ينسوا ما يلزمهم من الأعمال الصالحة، فكنى عن الآخرة بحفرة هذا الميت، الذي حياه فيها منكر ونكير، فكأنه يحثهم على الاستعداد للموت. وقيل: أراد أعيذهم أن يتركوا زيارة قبر هذا الميت، الذي حياه فيه منكر ونكير، ويلزموا قصورهم المنيفة.
نفرٌ إذا غابت غمود سيوفهم ... عنها فآجال العداة حضور

يقول: هم نفرٌ، إذا سلوا سيوفهم، ففارقت غمودها حضرت آجال العباد، وقتلوا من شاءوا.
وإذا لقوا جيشاً تيقن أنه ... من بطن طيرٍ تنوفةٍ محشور
الضمير في لقوا: يعود إلى النفر، والتنوفة: الفاختة. وتيقن فعل الجيش. والهاء في أنه للجيش، ووحد محشور لهذا المعنى.
يقول: إنهم إذا لقوا جيشاً في الحرب تيقن ذلك الجيش أنهم مقتولون فتأكلهم طيور الفاختة، فيحشرهم الله تعالى يوم القيامة من بطونها.
لم تثن في طلبٍ أعنة خيلهم ... إلا وعمر طريدها مبتور
يقول: إنهم لا يثنون أعنة خيلهم في طلب عدوهم، إلا أدركوه، وجعلوا عمره مبتوراً: أي مقطوعاً.
يممت شاسع دارهم عن نيةٍ ... إن المحب على البعاد يزور
عن نيةٍ: أي بعدٍ.
يقول: إني قصدت دارهم البعيدة، على بعد المسافة؛ لحبي لهم، وقد تبين ذلك. ويجوز أن يريد بقوله عن نيةٍ: أي عن قصدٍ مني إليهم، ونيةٍ مني على زيارتهم؛ لحبي إياهم، ولم يكن ذلك اتفاقاً، أو على سبيل الاجتياز بهم. ثم قال: إن المحب على البعاد يزور وهذا كقول القائل وهو:
من عالج الشوق لم يستبعد الدار
وقريب منه قول الآخر:
وما كنت زوراً ولكن ذا الهوى ... إذا لم يزر لابد أن سيزور
ومثله قولهم:
إن المحب إذا لم يستزر زارا
وقنعت باللقيا وأول نظرةٍ ... إن القليل من الحبيب كثير
يقول: رضيت برؤيتهم، بل بأول نظرةٍ ولم أطل المقام للنظر؛ لأن القليل من المحب كثير فأنا محب لهم.
إن من قوله: غاضت أنامله إلى قوله: ولطالما انهملت بماء أحمر زيادة قالها ارتجالاً، بعد أن قال القصيدة فألحقت في هذا الموضع.
وسأله بنو عم الميت أن ينفي الشماتة عنهم فقال ارتجالاًك
ألآل إبراهيم بعد محمدٍ ... إلا حنينٌ دائمٌ وزفير
الهمزة: للاستفهام، ومعناه الجحد.
يقول: ما لآل إبراهيم وهم بنو عم الميت بعد موت هذا الرجل إلا الحنين الدائم، وهو الشوق إليه، وكذلك الزفير الدائم والبكاء أسفاً عليه، وإنما قال ذلك: لأن بعضهم قالوا: إنهم شمتوا به، فنفى عنهم ذلك.
ما شك خابر أمرهم من بعده ... أن العزاء عليهم محظور
يقول: ما شك من اختبر أمرهم وتأمله، من بعد المتوفى أن الصبر عليهم ممنوع حرام؛ لما هم فيه من الغم والجزع والقلق والهلع.
تدمي خدودهم الدموع وتنقضي ... ساعات ليلهم وهن دهور
فاعل تدمي: الدموع، ومفعوله: خدودهم، والواو في قوله وهن واو الحال.
يقول: إنهم من كثرة ما جرت دموعهم على خدودهم قرحت خدودهم حتى صارت تدمى، وإنهم من كثرة سهرهم بالليل، صارت ساعات الليل عندهم بمنزلة الدهور. وقيل: أراد، إنهم يبكون الدم مكان الدمع.
أبناء عمٍّ كل ذنبٍ لامرىءٍ ... إلا السعاية بينهم مغفور
يقول: هم أبناء عمٍّ واحد، فكل ذنب لديهم مغفور، إلا السعاية بينهم، فإن من حقهم ألا يغفروها، وأن يعاقبوا من سعى بينهم بالعداوة.
طار الوشاة على صفاء ودادهم ... وكذا الذباب على الطعام يطير
يقول: إن الوشاة تعرضوا ليفسدوا ما بينهم من صفاء الود، كما أن الذباب يطير على الطعام لإفساده، ولم تؤثر وشايتهم في ودادهم، إلا قدر ما أثر الذباب في إفساد الطعام، إذا طار عليه. وهذا إشارة إلى قلة الوشاة وحقارتهم، وقيل أراد بقوله: طار الوشاة، أي ذهبوا وهلكوا.
ولقد منحت أبا الحسين مودةً ... جودي بها لعدوه تبذير
أبو الحسين: أخ الميت. وقيل: هو المرثي.
يقول: إني منحته مودة عظيمة، ولو وجدت بها لعدوه لكان تبذيراً وكنت مبذراً مسرفاً؛ وذلك لنقصان عدوه فلا يستحق مودتي، أو لكثرة حقوقه وعظم مننه لدي، لو أحببت غيره كحبه، لكنت واضعاً للمودة في غير موضعها.
ملك تكون كيف شاء كأنما ... يجري بفضل قضائه المقدور
يقول: إنه ملك تكون على مشيئته، اختيارٌ كيف شاء، حتى كأن المقادير تجري على مراده، فلم يجر عليه شيئاً يكرهه.
وقال أيضاً في نفي الشماتة عنهم:
لأي صروف الدهر فيه نعاتب؟ ... وأي رزاياه بوترٍ نطالب؟
اللام في لأي: يجوز أن تجعل زائدة؛ لتقديم المفعول كقوله تعالى: " للرؤيا تعبرون " وإن كان لا يقال: عبرت للرؤيا، ويجوز أن تجعل: لام الغرض. فكأنه قال: لأي أفعال الدهر في هذا نعاتب الدهر.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8