كتاب : معجز أحمد
المؤلف : أبو العلاء المعري

يقول: من كثرة نوائب الدهر لا ندري ما الذي نعاتب منها؛ لكثرة الرزايا فلا ندري أيها نطالب بالوتر فيه، ويجوز أن يريد في الدهر، ويجوز أن يريد فيه موتته أو في هذا الفعل.
مضى من فقدنا صبرنا عند فقده ... وقد كان يعطى الصبر والصبر عازب
يقول: مضى بالموت من فقدنا صبرنا بمصيبته، فقد كانت حياته لعظم صبره، يعطينا الصبر إذا بعد عنا الصبر. والمعنى أنه كان يشجعنا على الحرب ويعلمنا الثبات.
يزور الأعادي في سماء عجاجةٍ ... أسنته في جانبيها الكواكب
يقول: إنه كان يزور الأعداء في سماء العجاجة، وكانت أسنته في جانبي هذه السماء كواكب. شبه الغبار المتراكم بالسماء، وأسنة الممدوح التي تلمع من خلال ذلك الغبار، بالكواكب اللامعة من السماء ومثله للآخر:
نسجت حوافرها سماءً فوقها ... جعلت أسنتنا نجوم سمائها
فتسفر عنه والسيوف كأنما ... مضاربها مما انفللن ضرائب
فتسفر: فعل العجاجة، وعنه: أي عن المرثي. والواو في قوله: والسيوف للحال. والمضارب: جمع المضرب، وهو حد السيف. والضرائب: جمع الضريبة وهو الشيء المضروب بالسيف.
يقول: كانت تنجلي هذه العجاجة عن هذا المرثي، ومضارب السيوف كلها منكسرة؛ من كثرة ما قتل بها الأعداء، فكأنها لانفلالها مواضع الضرب.
طلعن شموساً والغمود مشارقٌ ... لهن وهامات الرجال مغارب
طلعن: فعل السيوف. وشموساً: نصب على التمييز. شبهها بالسيوف لما انتضيت من أغمادها.
يقول: مطالع هذه الشموس، الأغماد لظهورها منها، ومغاربها، هامات الرجال؛ لأنها تغيبت فيها فهن يطلعن من مطالعها، وهي الأغماد، ويغربن في مغاربها، وهي الهامات.
مصائب شتى جمعت في مصيبةٍ ... ولم يكفها حتى قضتها مصائب
يقول: ليست هذه مصيبةً واحدةً، بل هي مصائب متفرقة، جمعت في مصيبةٍ واحدة؛ لأنه كان يموت خلقاً كثيراً، فماتوا بموته، ولم يكفها ذلك حتى تبعتها مصائب أخر، وهي أقوال العداة: إنا شامتون بموته، فإن هذه مصيبة انضمت إليها.
رثى ابن أبينا غير ذي رحم له ... فباعدنا منه ونحن الأقارب
رثى: أي رحم، ورق. وغير: فاعله، ومفعوله: ابن أبينا.
يقول: رثى هذا الميت، الذي هو ابن أبينا، من هو غير ذي رحم لنا، بل هو بعيد عنه وعنا، وباعدنا هذا الراثي عن هذا المرثي، ونحن أقاربه وبنو عمه.
وعرض أنا شامتون بموته ... وإلا فزارت عارضيه القواضب
العارضان: جانبا اللحية: وهما العذاران.
يقول: عرض الراثي أنا شامتون بموته، إلا أنه كذب، وزارت السوف عارضيه.
أليس عجيباً أن بين بني أبٍ ... لنجلٍ يهوديٍّ تدب العقارب؟!
تدب العقارب: كناية عن النميمة.
يقول: أليس من العجائب أن تدب عقارب ولدٍ يهودي، بين بني أبٍ! ووصفه بأنه ابن يهودي لذلته وحقارته. وقيل: أراد بأن اليهود اشتهر عنهم مكاتمة عداوة المسلمين، والمشي بينهم بالسعايات.
ألا إنما كانت وفاة محمدٍ ... دليلاً على أن ليس لله غالب
يقول: كانت وفاة محمد، المرثي في عزته ومنعته ومجده، دليلاً على أن الله تعالى لا يغلبه أحد. ومثله لأبي تمام:
كفي فقتل محمدٍ لي شاهدٌ ... أن العزيز مع القضاء ذليل
وقال يمدح الحسين بن إسحاق التنوخي
هو البين حتى ما تأنى الحزانق ... ويا قلب حتى أنت ممن أفارق
هو: إضمار للبين، ولم يجر له ذكر، وذلك لتعظيم الأمر ومثله قوله تعالى " قل هو الله أحدٌ " وتأنى أي تثبت، وأصله: تتأنى. والحزانق: جمع الحزنقة وهي الجماعة.
يقول: هو البين المتناهي الذي كنا نحاذره، حتى أن الجماعات لا تقف وتثبت، وحتى أنت يا قلبي من وجد ممن أفارقه في أحبابي. يعني: أن البين بلغ حداً إذ ارتحل القلب فارتحل مع ما ارتحل.
وقفنا ومما زاد بتاً وقوفنا ... فريقي هوىً منا مشوقٌ وشائق
وقوفنا: فاعل زاد. وقوله: فريقي هوىً: نصب على الحال من النون والألف في قوله وقوفنا. يقال: شاقني الشيء، والمشوق: هو العاشق الذي شاقه غيره، والشائق: هو المعشوق؛ لأنه الحامل على الاشتياق فهو شائق، وأنا مشوق.
يقول: وقفت أنا والحبيب للتوديع ومن جملة ما عمنا أنا وقفنا في حالٍ ما كنا عليه، ونحن فرقتان: أحدهما محب مشوق والآخر محبوب يشوق صاحبه، بعد فراقه.

وقد صارت الأجفان قرحى من البكا ... وصار بهاراً في الخدود الشقائق
البهار: جمع بهارة، وهي شيء أصفر، من الرياحين. والشقائق: هي التي تدعى شقايق النعمان، وهي حمر. وروى: قرحاً منوناً على الاسم، وقرحى غير منونةٍ، صفة الأجفان، والمعنى واحد.
يقول: قد صارت الأجفان قريحة من البكاء غداة التوديع لخوف الفراق، وصار بهاراً أصفر في الخدود الشقائق، ومثله لابن المعتز قوله:
لم تشن شيئاً ولكنها ... بدلت التفاح بالياسمين
على ذا مضى الناس: اجتماعٌ وفرقةٌ ... وميتٌ ومولودٌ، وقالٍ ووامق
وروى: مضى الدهر أي على هذا. وذلك، إشارة إلى ما تقدم ثم فسره فقال: اجتماعٌ وفرقةٌ. يعني: أن الناس يجتمعون تارةً ويتفرقون أخرى، وواحدٌ يموت وآخر يولد وواحدٌ مبغض وآخر عاشق، وقيل: أن معناه أن بني آدم على اجتماع بعد فرقة، وميت بعد مولود، ومبغض بعد عاشق، ومثله للأعشى.
شبابٌ وشيبٌ، وافتقارٌ وثروةٌ ... فلله هذا الدهر كيف ترددا
تغير حالي والليالي بحالها ... وشبت وما شاب الزمان الغرانق
تغير: فعل ماض. وروى: تغير: وهو فعل مضارع، وأصله تتغير، لأن الحال مؤنث فحذف أحد التاءين. والأول أولى. والغرانق: هو الشاب الناعم، وجمعه: غرانيق.
يقول: إن الليالي قد أثرت في وغيرتني، وهي بحالها، وشبت أنا والزمان لا يتغير عن حاله وجدته.
سل البيد: أين الجن منا بجوزها؟ ... وعن ذي المهاري: أين منها النقانق؟
البيد: جمع البيداء، والهاء في بجوزها: أي بواسطها. والمهاري: جمع المهرية. وهي الإبل المنسوبة إلى مهرة بن حيدان، وهي قبيلة. والنقانق: جمع النقنق، وهو ذكر النعام.
يقول: سل المفاوز: هل الجن تقطع وسطها كما نقطعها نحن! وسلها: أيضاً عن حال إبلنا في سرعة سيرها، هل تقطها النعام كما تقطها إبلنا؟ لأن النعام موصوفة بسرعة السير.
وليلٍ دجوجي كأنا جلت لنا ... محياك فيه فاهتدينا السمالق
السمالق: جمع السملق، وهي الأرض البعيدة الأطراف، وفاعل جلت: السمالق، وجلت: أي أظهرت.
يقول: وكم ليلة مظلمة؟ كأنما أظهرت لنا المفاوز وجهك المضيء حتى اهتدينا بضوئه.
فما زال لولا نور وجهك جنحه ... ولا جابها الركبان لولا الأيانق
جنحه: جوانبه، وهو فاعل زال، والهاء في جابها: للسمالق أو للبيد. والأيانق: جمع الأينق: وهو جمع الناقة.
يقول: لولا نور وجهك ما زال ظلام الليل، ولولا النوق؛ لما قطع الركبان تلك السمالق؛ لبعدها وصعوبتها.
وهزٌّ أطار النوم حتى كأنني ... من السكر في الغرزين ثوبٌ شبارق
الهز: تحريك الإبل ركبانها في السير. وهو عطف على الأيانق، وقيل: عطف على قوله: وليل دجوجي فكأنه قال: ورب هزٍّ والأول أولى.
والمعنى لولا الأيانق ولولا هزها الذي طير النوم عني، لما قطعنا هذه المفاوز، حتى كأنني من السكر: أي من النعاس في الغرزين: وهما؛ ركابان للبعير من الخشب. وثوب شارق: أي مقطع مخرق. تعباً وضعفاً واسترخاءً.
شدوا بابن إسحاق الحسين فصافحت ... ذفاريها كيرانها والنمارق
شدوا: أي غنوا وأحدوا. والذفرى: العظم الناشز خلف الأذن. وقيل: الذفرى من القفا هو الموضع الذي يعرق من البعير. وتقديره شدوا بالممدوح، ابن إسحاق، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه.
يقول: حدى الحداة باسم الممدوح، بصوتٍ كالغناء فسمعت الإبل حدوهم فعرفت، ورفعت رءوسها، حتى أدركت ذفاريها الرحال والوسائل.
بمن تقشعر الأرض خوفاً إذا مشى ... عليها وترتج الجبال الشواهق
تقشعر: أي تضطرب، وكذا، ترتج الجبال: يعني حدوا بمن إذا مشى على الأرض اضطربت خوفاً، وإذا علا الجبال الشاهقة اضطربت هيبةً منه.
فتىً كالسحاب الجون يخشى ويرتجى ... يرجى الحيا منها ويخشى الصواعق
الجون: الأسود. الحيا: المطر.
يقول: إن هذا الرجل هو كالسحاب الأسود الذي فيه المطر، فهو ترجى منه الأمطار، ويخشى منه الصواعق. أي أنه مرجو مخوف.
ولكنها تمضي وهذا مخيمٌ ... وتكذب أحياناً وذا الدهر صادق
يقول: إن السحاب قد تغيب، وهذا مقيمٌ أبداً، وقد تكذب السحاب فلا تمطر وهذا صادق الدهر فلا يخيب راجيه.
تخلى عن الدنيا لينسى فما خلت ... مغاربها من ذكره والمشارق

يقول: اعتزل عن الدنيا استحقاراً لها، وتعفف فما ازداد إلا جلالة وعظماً فلم يخل من ذكره المشرق والمغرب.
غدا الهندوانيات بالهام والطلى ... فهن مداريها وهن المخانق
المدارى جمع: المدارى والمدارة وهي شيء يفرق به الشعر، وهو المشط وقد يكون من الذهب، والفضة والحديد والعاج والخشب.
يقول إذا السيوف الهندية بالهام والأعناق، فبعضها مدارى يعملها في الهام، وبعضها مخانق للزومها في الأعناق وقطعها إياها.
تشقق منهن الجيوب إذا غزا ... وتخضب منهن اللحى والمفارق
يقول: تشقق من هذه السيوف الجيوب، إذا غزا الممدوح أعداءه، وتخضب منها مفارق الرأس واللحى، إذا ضرب أعداءه بها.
يجنبها من حتفه عنه غافلٌ ... ويصلي بها من نفسه منه طالق
التأنيث: للسيوف، والتذكير: لمن.
يقول يجنب هذه السيوف من غفل هلاكه عنه، ويصلى بها من صارت نفسه طالقةً منه.
يحاجي به: ما ناطقٌ وهو ساكتٌ؟ ... يرى ساكتاً والسيف عن فيه ناطق
يحاجي: أي يغالط، والأحجية: المعماة.
معناه: يحاجي بهذا الرجل فيقال: ما ناطقٌ ساكتٌ؟ فجواب المجيب: هذا الرجل؛ لأنه يرى ساكتاً إذا أمسك عن الكلام. وفي الحرب، السيف ينطق عنه بقتل أعدائه، فيقوم فعل السيف مقام لفظه.
نكرتك حتى طال منك تعجبي ... ولا عجبٌ من حسن ما الله خالق
يقول: إنما نكرتك لما رأيت محاسناً خارجة عن المعتاد، حتى تعجبت منك، ثم عاودت نفسي فقلت: ولا عجب من صنع الله تعالى. ويجوز أن يريد: إني لما سمعت بوصفك نكرتك فلما عاينتك رأيت مصداق ما سمعت فزال التعجب عني.
كأنك في الإعطاء للمال مبغضٌ ... وفي كل حربٍ للمنية عاشق
يقول: كأنك مبغضٌ مالك؛ لكثرة تفريقه للناس، وكأنك عاشق للموت في كل حرب، لملازمتك دواعيها وأسبابها.
ألا قلما تبقى على ما بدا لها ... وحل بها منك القنا والسوابق
يبقى: فعل القنا، والسوابق. والهاء في بها ولها: ترجع إليها أيضاً. وتقديره ألا قل ما تبقى القنا والسوابق على ما بدا لها، وحل بها من جهتك، من مدافعة الطعن بالقنا، وإجراء الخيل السوابق.
وقيل: إن قوله: تبقى ترجع إلى الحرب يقول: ما تبقي الحرب على ما بدا لها منك؛ لأنك إذا حضرتها هزمت الأعداء فلا تبقى حرب. وقوله: وحل بها... إلى آخره: حال. أي في تلك الحال.
خف الله واستر ذا الجمال ببرقعٍ ... فإن لحت ذابت في الخدور العواتق
العواتق: جمع العاتق، وهي المرأة الحسناء.
يقول: اتق الله واستر جمالك ببرقع، فإنك إن ظهرت لذوات الخدور من النساء، الجواري الأبكار، ذبن وجداً بك، وشوقاً إليك. وروى حاضت في موضع ذابت أي إذا رأينك حضن؛ لأنه يقال: إن الشهوة إذا غلبت على النساء حضن. ويجوز أن يريد بذلك: أن الحسان من النساء بالإضافة إلى جمالك، بمنزلة من حاضت، في باب سقوط درجتها عن صواحبها.
سيحيي بك السمار ما لاح كوكبٌ ... ويحدو بك السفار ما ذر شارقٌ
حذف مفعول سيحيي وهو الليل لدلالة الكلام عليه، وكذلك يحدو بك السفار: وهي الإبل.
يقول: إن المحدثين بالليل يحيون الليالي بذكرك وحديثك، والمسافرون يحدون إبلهم بك ما طلع نجم وما طلعت الشمس، والأولى أنهم يسمرون ويحدون بشعري الإبل فيك.
فما ترزق الأقدار من أنت حارمٌ ... ولا تحرم الأقدار من أنت رازق
ولا تفتق الأيام ما أنت راتقٌ ... ولا ترتق الأيام ما أنت فاتق
يقول: إن الأقدار موافقةٌ لك، فترزق من ترزق، وتحرم من تحرمه أنت، ولا تنقض الأيام ما تبرمه أنت، ولا تبرم ما نقضته أنت.
لك الخير غيري رام من غيرك الغنى ... وغيري بغير اللاذقية لاحق
يقول: دام لك الخير، وهذا دعاء له، ثم عاد إلى ذكر نفسه وقال: غيري من الناس طلب الغنى من غيرك، والتحق بغير بلدتك، فأما أنا فلا أفضل سواك عليك.
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
يقول: إن اللاذقية هي الغرض الأبعد الذي لا غاية بعده، ومنيتي رؤيتك، والدنيا كلها منزلك، وإن كان مسكنك اللاذقية، وأنت جميع الخلق، بما فيك من فضائل الناس كلهم، وهذا كقوله أيضاً:
إلا رأيت العباد في رجل
وهجى الحسين بن إسحاق على لسان أبي الطيب، فكتب إليه يعاتبه فأجابه

أتنكر يا ابن إسحاق إخائي ... وتحسب ماء غيري من إنائي
يقول معاتباً له أتنكر؟!: أي تجحد مؤاخاتي لك، بعد ما عرفتها مني، وتحسب ماء غيري من إنائي، وهو مثل يعني: تحسب ما هجيت به من شعر غيري أنه من شعري فلا تميز بين شعري وشعر غيري؟!
أأنطق فيك هجراً بعد علمي ... بأنك خير من تحت السماء
الهجر: الكلام القبيح.
يقول: أقول فيك فحشاً، بعد ما علمت أنك خير من في الأرض وتحت السماء، وروى: أأنطق فيك هجواً.
وأكره من ذباب السيف طعماً ... وأمضي في الأمور من القضاء
وأكره: عطف على قوله: خير من تحت السماء.
يقول: أقول فيك فحشاً بعد علمي بأنك أكره من حد السيف طعماً وأمضى من القضاء في الأمور!!
وما أربت على العشرين سني ... فكيف مللت من طول البقاء؟!
يقول: ما زاد سني على عشرين سنة، فكيف مللت من طول حياتي حتى أهجوك فتقتلني؛ لأني إذا هجوتك لا آمن على نفسي من الهلاك.
وما استغرقت وصفك في مديحي ... فأنقص منه شيئاً بالهجاء
يقول: لم استوف مدحي فيك بعد، وما أدركت الغاية فكيف أنقص منه شيئاً بالهجاء؟
وهبني قلت: هذا الصبح ليلٌ ... أيعمى العالمون عن الضياء!
معناه: هب أني قلت: إن هذا النهار ليلٌ! أيعمى العالمونعن ضياء هذا النهار؟! وهذا مثلٌ ضربه في أنه هجاه، وذكره مغايرة ليتقبله الناس بمشاهدتهم فضله.
وقالوا: إنه كالنهار الذي لا يخفي ضوء الشمس فيه، ولقالوا: إني عابثٌ في ذلك.
تطيع الحاسدين وأنت مرءٌ ... جعلت فداءه وهم فدائي
أصله: أتطيع، فحذف ألف الاستفهام. وقوله: جعلت فداءه. أخرجه مخرج الدعاء. وهم: يحتمل أن يكون عطفاً على التاء من جعلت، الذي هو ضمير المرفوع، فيكون قد عطفه على ضمير المرفوع المتصل من غير توكيد بالمنفصل، وكان حقه أن يقول: جعلت أنا فداءه وهم فدائي. غير أن هاهنا حسن ذلك لوقوع فداءه بين المعطوف والمعطوف عليه، ويحتمل أن يكون: وهم فدائي جملة منفصلة عن الجملة الأولى، فيكون هم مبتدأ وفداء خبره فتكون الواو عطفت جملة على جملة، أو يكون للحال.
المعنى: أتطيع الحاسدين الذين كذبوا علي، وتسمع كلامهم في؟ وأنت الرجل! جعلت أنا فداءه والحساد فدائي. يعني: جعلت فداءه لأفضاله علي، فهم فدائي لفضلي عليهم.
ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: وأنت مرء يعني أنت رجل مستحق أن توصف بالرجولية فلا ينبغي أن تسمع كلام الحاسدين في، ثم ابتدأ بالدعاء له وعلى الحاسدين. ويجوز أن يكون بعضه متصلاً ببعض.
وهاجي نفسه من لم يميز ... كلامي من كلامهم الهراء
يعني: إنما الهاجي نفسه، من لم يميز كلامي من جزالته وحسن موقعه من كلام حسادي، الفاسد الساقط، الذي لا معنى له. لأن تركه الفرق بين كلامي، وكلامهم، ينبىء عن الجهل، والجهل ذم مذموم، فكأنه هجا نفسه.
وإن من العجائب أن تراني ... فتعدل بي أقل من الهباء
يقول: إن من العجائب أن تراني، وتعرف فضلي وعقلي، ثم تجعلني عديلاً إلى من هو أقل من الهباء. يعني: أنه لا وزن له ولا خطر.
وتنكر موتهم وأنا سهيلٌ ... طلعت بموت أولاد الزناء
يقول: أتنكر موت حسادي إذا رأوني؟! وأنا سهيل اليماني الذي بطلوعي تموت أولاد الزناء.
وذلك أن العرب تزعم أن ما نتج من أمهار الخيل، إذا ضرب الفحل أمه من دون إذن صاحبه فإنه يموت إذا طلع سهيل، فكذلك تموت الحساد بسببي.
وقال يمدحه أي الحسين بن إسحاق التنوخي:
ملام النوى في ظلمها غاية الظلم ... لعل بها مثل الذي بي من السقم
الهاء في ظلمها للنوى لأنها مؤنثة، ويجوز أن يكون للمرأة وإن لم يجر لها ذكر وفي بها: للنوى خاصة.
يقول: لومي البعد بتبعيد هذه المرأة عني، واختصاصه بها غاية الظلم له، فلعل به من السقم والعشق مثل ما بي فتعشق هذه المرأة الذي ذهب بها، كما أعشقها أنا. وبين ذلك بقوله:
فلو لم تغر لم تزو عني لقاءكم ... ولو لم تردكم لم تكن فيكم خصمي
يقول: لو لم، تغر النوى علي لم تقتض علي رؤيتكم، ولو لم تكن مريدةً لكم؛ لم تكن النوى خصماً لي بسببكم.
أمنعمةٌ بالعودة الظبية التي ... بغير وليٍّ كان نائلها الوسمي؟
الوسمي: أول المطر، والولي: الذي يليه.

يقول: أتنمعم علي هذه المحبوبة التي كالظبية بالعودة الثانية إلى الوصال، التي كان إعطاؤها مرة واحدة لا ثاني لها؟ فكان وصلها كالوسمي الذي لا يتبعها الولي. فجعل الوسمي مثلاً للأول، والولي مثلاً للعودة.
ترشفت فاها سحرةً فكأنني ... ترشفت حر الوجد من بارد الظلم
إنما خص السحرة، لأنه وقت تغير الأفواه ونكهاتها، والظلم: ماء الأسنان، وبريقها.
يقول: مصصت فاها وقت السحر، فكأنني مصصت حر الوجد من أسنان بوارد. يعني: لما استعذبت ازددت عشقاً، فازداد بذلك وجدي، وحصل حر الوجد في قلبي، والبرودة في فمي، كما قال في موضع آخر وهو:
بفي برودٌ وهو في كبدي جمر!
فتاةٌ تساوي عقدها وكلامها ... ومبسمها الدري في الحسن والنظم
يقول: تشابهت منها ثلاثة أشياء وهي: عقدها المنتظم من الدر، وكلامها الشبيه: الدر، وثغرها الذي تبسمت عنه كالدر فهي مشابهته في حسنها ونظامها وهو أبلغ من قول البحتري:
فمن لؤلؤٍ تبديه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
لأنه زاد عليه ذكر العقد.
ونكهتها والمندلي وقرقفٌ ... معتقةٌ صهباء في الريح والطعم
المندلي: أراد به العود. والقرقف: الخمر. والصهباء: البيضاء المشربة حمرة، وهي صفة الخمر.
يقول: هذه الثلاثة أيضاً متشابهة وهي الرائحة: فمنها العود الذي يبخر به، ومنها الخمرة الصافية فهي متشابهة في الريح والطعم فللعود نكهتها، وللخمر طعمها، ورائحة فمها.
جفتني كأني لست أنطق قومها ... وأطعنهم والشهب في صورة الدهم
الشهب: الخيل البيض. والدهم: السود.
يقول جفتني هذه المرأة كأني لست أنطق قومها نظماً ونثراً، وكأني لست أطعنهم إذاً إلا على خيل دهم وشهب، وعذار قد اسودت فكأنها دهم، فكأنه يقول: لست ذليلاً في قومها مذموماً جباناً حتى تجفوني.
يحاذرني حتفي كأني حتفه ... وتنكزني الأفعى، فيقتلها سمي
النكرة: الغرزة بشيء مثل الإبرة. يقال: نكزته الأفعى: إذا غرزته ولم تعضه يقول: يخاف من موتي كأني موتٌ للموت! وتنكزني الأفعى فتموت! فكأني قتلتها بسمي، حتى كأني دونها، وكل ذلك إشارة إلى قوته وشجاعته.
طوال الردينيات يقصفها دمي ... وبيض السريجيات يقطعها لحمي
الردينيات: الرماح والسريجيات: السيوف. ويقصفها: يكسرها.
يقول: إن الرماح والسيوف لا تؤثر في أبداً، ولحمي ودمي يؤثران فيها، ويكسرانها ويقطعانها. وقيل: أراد: أني عزيزٌ في قومي. فمن أراد قتلي كثر الضرب والطعن عليه، في طلب ثأري، حتى تكسر الرماح والسيوف عليه.
برتني السرى برى الدى فرددنني ... أخف على المركوب من نفسي جرمي
السرى: مؤنثة، وقد جعلها جمعاً للسرية؛ فلذلك قال: رددنني، والأولى في أخف الرفع؛ لأنه وما بعده جملة من مبتدأ وخبر، فهو وإن وقع موقع الحال فلا يتغير الإعراب من حيث الصورة، ويجوز فيه النصب على بعض الوجوه.
يقول: أنحفتني السرى حتى قطعتني كقطع السكاكين فتركتني خفيفاً غاية الخفة، حتى كأني على المركوب أخف جرماً من نفسي؛ لأنه من أخف الأشياء.
وأبصر من زرقاء جوٍّ لأنني ... إذا نظرت عيناي شاءهما علمي
زرقاء جوٍّ: هي زرقاء اليمامة، وكانت موصوفة بحدة البصر وقد روى شأواهما علمي: وهي تثنية الشأو، وهو الغاية. أي غايتهما علمي والتثنية للعينين أي سابقهما وهو فاعل من شاء إذا سبق وروى سأواهما علمي يقول ردني السرى خفيفاً بصيراً أبصر من هذه المرأة؛ لأنها أبصرت بعينها، وأنا أبصر بالقلب والعلم. علمي يسبق نظر عيني فقبل إبصار العينين تبصر عيني كما هو عليه.
كأني دحوت الأرض من خبرتي بها ... كأني بني الإسكندر السد من عزمي
يقول: كأنني من خبرتي، ومعرفتي بالأرض، دحوت الأرض لكثرة تردادي بها، وكأن الإسكندر بنى سد يأجوج ومأجوج من عزمي؛ لقوته، ورفعته، ومضائه في الأمور.
لألقى ابن إسحاق الذي دق فهمه ... فأبدع حتى جل من دقة الفهم
أي كأن الإسكندر بنى السد من عزمي الذي صممته على قصد ابن إسحق وكأني دحوت الأرض من خبرتي بها لألقى ابن إسحاق الذي دق فهمه وعظم إبداعه حتى ارتفع أن يوصف بدقة الفهم. وهو المراد بقوله: حتى جل عن دقة الفهم. وقيل: برتني السرى بري المدى لألقى هذا الرجل.

نوأسمع من ألفاظه اللغة التي ... يلذ بها سمعي ولو ضمنت شتمي
يقول: لألقى ابن إسحاق، وأسمع من ألفاظه، وعباراته الشريفة، اللغة التي استلذها، وإن كانت متضمنة شتمي!.
يمين بني قحطان رأس قضاعةٍ ... وعرنينها بدر النجوم بنى فهم
العرنين: مقدم الأنف وأعلاه، وبنى فهم: بدل من النجوم.
يقول: إنه يمين بني قحطان كلهم، ورأس قضاعة: التي هي قبيلة من قحطان، وعرنين قضاعة أيضاً، وهو بدر بني فهم: الذين هم رهطه الأدنون فجعلهم نجوماً وجعله بدراً.
إذا بيت الأعداء كان استماعهم ... صرير العوالي قبل قعقعة اللجم
يقول: إذا جاء أعدؤه ليلاً سمعوا صرير الرماح في عظامهم قبل استماعهم إلى صلصلة اللجم، يعني: أنهم لا يشعرون حتى تصير الحال هذه. وقيل: إنه يبادر إلى أخذ الرمح، وإن لم يجد فسحة لإسراج فرسه وإلجامه ركب بغير سرج ولجام.
مذل الأعزاء المعز وإن يئن ... به يتمهم فالموتم الجابر اليتم
روى: وإن يئن وإن يحن ومعناه واحد. وتقديره: مذل الأعزاء معز الأولياء.
يقول: هو يذل أعاءه وإن كانوا أعزاء، ويعز أولياءه المستجيرين به وإن كانوا من أعدائه الذين أيتم أولادهم، فالذين يؤتمهم يجبر يتيمهم ويرضيهم، ويقوم لهم مقام الآباء في النفقة عليهم والإحسان إليهم.
وإن تمس داءً في القلوب قناته ... فممسكها منه الشفاء من العدم
وروى: فممسكها بكسر السين، وروى: بفتحها، فالأول يريد به الممدوح والثاني يده، لأنها الموضع الذي يمسكه به، ويجوز أن يريد به المصدر: أي إمساكها.
يقول: إن أمست قناته داءً في قلوبهم؛ لطعنه إياهم بها فالذي يمسك القناة عنهم هي يده، شفاؤهم من الفقر، إمساكه لها يشفي من الفقر.
مقلد طاغي الشفرتين محكمٌ ... على الهام إلا أنه جائر الحكم
يقول: إنه تقلد سيفاًن طغى جانباه، وقد جعل الحكم على رءوس الأعداء، غير أنه جائر الحكم من كثرة القتل.
تحرج عن حقن الدماء كأنه ... يرى قتل نفس ترك رأس على جسم
يقول: إن سيفه يتأثم عن حقن الدماء، فكأنه يرى القتل في الاحتساب والالتذاذ كترك الرءوس على الأماكن، وتحرجه عن حقن الدماء. إما لأن سيفه لا يقتل إلا الكفرة، الذين يكون الإثم في الكف عنهم، أو يريد بيان كونه جائر الحكم: لعدم التمييز منه، أو لأنه جماد لا يلزمه إثم في القتل، ثم نزه نفس الممدوح فقال:
وجدنا ابن إسحاق الحين كحده ... على كثرة القتلى برياً من الإثم
وروى: كجده بالجيم.
يقول: وجدنا هذا الرجل كحد السيف مضاء في براءته من الإثم كبراءة السيف من الإثم، مع كثرة القتلى منه، لأنه لا يقتل إلا المستحق.
مع الحزم حتى لو تعمد تركه ... لألحقه تضييعه الحزم بالحزم
يقول: إنه مع الحزم في جميع الأمور، حتى لو تعمد ترك الحزم لألحقه ذلك بالحزم! يعني: إذا أحزمه في بعض الأمور، كان ذلك الحزم: وهو الجود وتبذير المال، في طلب المجد؛ فكأن تركه الحزم حزماً منه لما فيه من اقتناء الحمد والمجد.
وفي الحرب حتى لو أراد تأخراً ... لأخره الطبع الكريم إلى القدم
يقول: إنه مع الحزم في اقتناء المعالي، لو أراد أن يتأخر عن الحرب لأخره طبعه إلى التقدم. يعني: إنه إذا نوى أن يتأخر عن المحاربة قدمه إليها طبعه الكريم.
له رحمةٌ تحيي العظام وغضبةٌ ... بها فضلةٌ للجرم عن صاحب الجرم
يقول: له رحمة واسعة بحيث تحيي العظام البالية، وله مع هذه الرحمة غضب متجاوز عن الحد، بحيث أنه يفضل غضبه على جرم المجرم فيهلكه ويفنيه، وقيل أراد أنه واسع الرحمة له مع ثورة الغضب فضلة تمسكه لغضبه فهو مالكٌ أمره.
ورقة وجهٍ لو ختمت بنظرةٍ ... على وجنتيه ما انمحى أثر الختم
يصفه بالحسن ويقول: له رقةٌ بوجهه حتى لو ختمت عليه بنظرة أو لو نظرت إليه لبقيت على وجهه حمرة؛ لفرط حيائه، ولأثر الختم فيه أثراً لا ينمحي أبداً.
أذاق الغواني حسنه ما أذقتني ... وعف فجازاهن عني على الصرم
يقول: حسنه أذاق الغواني من ألم العشقف ما أذاقتني الغواني منه، وصار عفيفاً فجاز الغواني عني بتنزهه عنهن على ما فعلن بي من الهجران.
فدىً من على الغبراء أولهم أنا ... لهذا الأبي الماجد الجائد القرم

يقول: يفدي هذا الشريف الجواد السيد، كل من على الأرض، أولهم أنا البادىء بالفداء له قبلهم. والغبراء: اسم الأرض.
لقد حال بين الجن والإنس سيفه ... فما الظن بعد الجن بالعرب والعجم
يقول: حجز سيفه بين الجن والإنس؛ فمنع الجن عن قصدهم الشر للإنس، فإذا كان تأثيره في الجن! فما الظن بالإنس؛ في دفع بعضهم عن بعض. وروى بين الجن والأمن سيفه. يعني أن سيفه أخاف الجن وأزال عنهم الأمن والسكون.
وأرهب حتى لو تأمل درعه ... جرت جزعاً من غير نارٍ ولا فحم
يقول: قد أخاف كل شيء حتى الجمادات! فلو أنه أحد النظر إلى درعه لذابت؛ خوفاً منه، من غير نار وفحم، وإن لم يكن لها تمييز وعقل.
وجاد فلولا جوده غير شاربٍ ... لقيل كريمٌ هيجته ابنة الكرم
يقول: لولا علمنا بأنه صاح مع كثرة جودٍ منه، لقلنا إنه لفرط جوده سكران، وإن الذي حمله على جوده هو سكره الذي حصل له من الخمر.
أطعناك طوع الدهر يا ابن ابن يوسفٍ ... بشهوتنا والحاسدو لك بالرغم
الحاسدو لك: أراد بهم الحاسدون لك، غير أنه حذف النون. وروى: الحاسدون على الرغم: وهو عطف على الضمير في أطعناك الذي هو النون والألف، وحسن العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد المنفصل لطول الكلام.
يقول: أطعناك طاعة الدهر لك، وأطعناك أبد الدهر، بشهوةٍ ومحبة، والذين حسدوك أطاعوك على رغم منهم وذل.
وثقنا بأن تعطى فلو لم تجد لنا ... لخلناك قد أعطيت من قوة الوهم
كان حقه أن ينصب الياء من تعطى بأن، غير أنه سكنه ضرورةً.
يقول: لقوة ظنوننا وثقنا بأنك تعطينا، حتى لو لم تعطنا لظننا أنك قد أعطيتنا من قوة الوهم ولما شاهدنا من دوام جودك وكثرة عطاياك.
دعيت بتقريظك في كل مجلسٍ ... وظن الذي يدعو ثنائي عليك اسمي
روى: دعيت، أي سميت بمدحي لك، يعني صار اسمي: مدحي لك فقيل: هذا الذي مدح الأمير، وعلى الأول: صار اسمك مدحي إياك. وقيل: هذا الذي قيل فيه كذا. وظن الذي يدعوني ويسميني أن اسمي: الثناء عليك، فيدعوني به، فيقول: يا من أثنى على الأمير ويا مادح الأمير.
وأطمعتني في نيل ما لا أناله ... بما نلت حتى صرت أطمع في النجم
روى: أعلق بالنجم.
يقول: أطمعتني في نيل ما لا أكاد أصل إليه، حتى صرت أطمع في نيل النجم الذي يعجز عن نيله كل حي.
إذا ما ضربت القرن ثم أجزتني ... فكل ذهباً لي مرةً منه بالكلم
يقول: أنت تضرب الطعنة الواسعة فإذا ضربت القرن ثم أردت أن تعطيني الجائزة فكل لي ملء الجراحة ذهباً، والهاء في منه راجعة إلى القرن.
أبت لك ذمي نخوةٌ يمنيةٌ ... ونفسٌ بها في مأزق أبداً ترمي
النخوة: الكبرياء.
يقول: ابت ذمي لك نخوتك اليمنية، وأراد به وجهين: أحدهما أن الممدوح كان يميناً والمتنبي أيضاً ينسب إلى كندة، وهم من اليمن. فيقول: كونك من اليمن تأبى نفسي أن تذمك مع ما كان بيننا من الرحم، أو يريد: أن نخوتك في نفسك وهمتك العالية يمنعاني عن ذمي لك وعن هجوك، وكذلك يأبى ذمي لك، نفسك التي ترمي بها في كل معركة. وقيل: إنما ذكر ذلك لأنه كان متهماً بهجو ذلك الممدوح، فأراد إزالة هذه التهمة عن نفسه بهذا القول.
فكم قائلٍ: لو كان ذا الشخص نفسه ... لكان قراه مكمن العسكر الدهم
القرى: الظهر. والدهم: الكثير.
يقول: كم من قائل يقول: لو كان نفس هذا الممدوح جسم! لكان ظهره مستقراً للعسكر الكثير. يصف سعة نفسه وعظمها، وأن بعضها يسع الكثير من العسكر.
وقائلةٍ والأرض أعني تعجباً ... علي امرؤٌ يمشي بوقري من الحلم
يقول: ورب قائلةٍ، وأعني بها الأرض على وجه التعجب: علي رجلٌ يمشي، عليه مثلي من الحلم!
عظمت فلما لم تكلم مهابةٌ ... تواضعت وهو العظم عظماً عن العظم
يقول: عظم قدرك، فمنعت هيبتك أن تكلم، فلما علمت أن الناس هابوك تواضعت فتعظمت بذلك التواضع عظماً عن العظم، وذلك التواضع هو عين العظم. يعني: التواضع رفع النفس عن التكبر.
ودخل على عليٍّ بن إبراهيم التنوخي فعرض عليه كأساً بيده، فيها شراب أسود فقال ارتجالاً:
إذا ما الكأس أرعشت اليدين ... صحوت فلم تحل بيني وبيني
لم تحل: أي لم تمنع، وهو فعل الكأس.

يقول: إذا شرب غيري الكأس، وهي الخمر، فأرعشت يديه من السكر، صحوت أنا، فلم تحجز الخمر بيني وبين عقلي. فأجرى العقل مجرى النفس؛ لأن قيام النفس بالعقل. وقيل: أراد لم تحل بيني وبين جدي؛ لأن جدي لا يفارقني أبداً.
هجرت الخمر كالذهب المصفى ... فخمري ماء مزنٍ كاللجين
يقول: تركت الخمر التي تشبه الذهب المصفى في لونها، وعدلت إلى الماء الصافي، الذي يشبه لونه الفضة لصفائه.
أغار من الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحسين
روى: أغار من المدامة.
يقول: أحسد أقداح الخمر إذا جرت على شفته حيث تتشرف به فأتمنى ذلك الشرف لي دونها.
وقيل: إنما أغار عليها لكون الشراب كان أسواداً، فنزه شفته عنها والقصة تدل على ذلك.
كأن بياضها والراح فيها ... بياضٌ محدقٌ بسواد عين
شبه بياض الزجاجة ببياض العين، والشراب الأسود بسواد العين، وحقق التشبيه بإحداق البياض بسواد العين، كإحداق الزجاجة بسواد الشراب.
أتيناه نطالبه برفدٍ ... فطالب نفسه منه بدين
يقول: أتينا الممدوح نطلب منه العطاء، فطالب نفسه بدين لازم. يعني: إنه أوجب على نفسه العطاء؛ لجوده وسخائه.
وشربها فقال:
مرتك ابن إبراهيم صافية الخمر ... وهنئتها من شاربٍ مسكر السكر
مرتك أصلها: مرأتك، فحذف الهمزة ضرورة. والثاني أنه كان ينبغي أن يقول: أمرأتك؛ لأن هذه اللفظة على الانفراد لا تستعمل إلا بالألف، فإذا أتبعت هناك جاز استعمالها من غير الألف. فهو شاذ من وجهين.
يقول: جعل الله لك هذه الخمرة هنيئة مريئة لك، يا من يسكر السكر. يعني: لا يغلبه السكر بشرب الخمر بل يغلب هو السكر.
رأيت الحميا في الزجاج بكفه ... فشبهتها بالشمس في البدر في البحر
الحميا: اسم من أسماء الخمر.
يقول: رأيت الخمر في الزجاج على يده، فشبهت الخمر؛ لصفائها ورقتها وضيائها بالشمس، وشبهت بالزجاج بالبدر؛ لبياضه ونقائه، وشبهت كفه بالبحر؛ لكثرة سخائه وعطاياه.
إاذ ما ذكرنا جوده كان حاضراً ... نأى أو دنى يسعى على قدم الخضر
اسم كان: ضمير الجود.
يقول: إن جوده في سرعته ووصوله إلى الناس كأنه يسعى على قدم الخضر، لأنه يقال: إنه لا يذكر في موضع إلا وكان حاضراً في ذلك الموضع.
يقول: سواء كان الممدوح نائياً أو دانياً فإن جوده يصل إلينا في أسرع ما نريد.
وقال أيضاً يمدحه:
أحادٌ أم سداسٌ في أحاج؟ ... لييلتنا المنوطة بالتناد
أراد الاستفهام كأنه قال: أأحاد، فحذف الهمزة لدالالة قوله: أم سداسٌ. وهذا البناء للتكرار، فإذا قال: جاءني القوم أحاد، أراد به واحداً واحداً، وكذلك ما زاد عليه، ولا يراد به حقيقة العدد، وإنما خص السداس دون ما فوقها من سباع وغيره؛ لأن العرب لا تستعمل هذا المثال فيما فوق سداس، هذا قول بعضهم، وليس بواضح. فقد ذكر أبو حاتم: في كتاب الإبل هذا المثال فيما زاد على سداس إلى عشار. فالأولى أن يقال: إنما خص هذه لأنها ليالي الأسبوع، ومدار أيام الدنيا على هذا العدد.
يقول: إن هذه الليالي جاءت واحدة واحدة أم ستة ستة جمعت في واحدة. وقيل: إنه أراد ها هنا واحدة هذه الليلة أم ستة ليال مجموعة في واحدة؟ فكأنه يقول هذه الليلة واحدة أو ليالي الأسبوع كلها، وهي في طولها كأنها متصلة بيوم القيامة. وقوله: لييلتنا تصغير ليلة؛ وإنما صغرها مع وصفه لها بالطول؛ إشارة إلى أنها في نفسها قصيرة وإن كانت هي عنده طويلة؛ لطول سهره فيها. أو يقال: إنما صغرها على سبيل التعظيم كقول بعضهم:
دويهية تصفر منها الأنامل
وقيل: أراد بيوم التنادي: يوم الرحيل إلى الأعداء للمحاربة، وتنادى بعضهم بعضاً، ويدل على هذا قوله:
أفكر في معاقرة المنايا
فكأنه طالت عليه هذه الليلة لسهرة تفكراً في قتل الأعداء فإذا وصل إلى مراده قصرت عليه وزال عنه السهر.
كأن بنات نعشٍ في دجاها ... خرائد سافراتٌ في حداد
سافرات: يجوز فيها الرفع صفة لخرائد، ويجوز نصبها على الحال، فتكون مكسورة. والحداد: هي الثياب السود.

يقول: كأن هذه الكواكب في ظلمات هذه الليلة الطويلة نساء بيض الوجوه قد كشفن وجوههن، ولبسن ثياباً سوداً. فشبه الكواكب بوجوه الجواري السافرات، وشبه الليل في سواده بالثياب السود التي تلبسها الجواري.
أفكر في معاقرة المنايا ... وقود الخيل مشرفة الهوادي
معاقرة المنايا: أي ملازمتها. وقيل: معاقرتها: محاربتها، من العقر. والهوادي: جمع الهادية، وهي العنق. ومشرفة: نصب على الحال.
يقول: طال علي هذا الليل مما أفكر في ملازمة المنايا وممارستها في الحروب والإقدام على القتال، ولذلك أفكر في قودي الخيل إلى الحرب مشرفة الأعناق. وقيل: معناه لا أفكر في معاقرة المنايا.
زعيماً للقنا الخطي عزمي ... بسفك دم الحواضر والبوادي
زعيماً: نصب على الحال من أفكر، وذو الحال: عزمي، والعزم: هو الكفيل. والقنا: المكفول له. وسفك دماء الحواضر والبوادي: المكفول به. والمكفول عنه: هو أبو الطيب.
يقول: أفكر في حال كوني زعيماً للرماح بأن تسفك دماء الناس كلهم، أهل الحضر وأهل البدو. وعلى إضمار لا في قوله: أفكر معناه لا أفكر في معاقرة المنايا مع تكفل عزمي بسفك دم الأعداء.
إلى كم ذا التخلف والتواني؟ ... وكم هذا التمادي في التمادي؟
التمادي: هو الإفراط في الأمور، وهو من المد، أو أراد ها هنا الإفراط في تأخيرها.
يقول لنفسه: إلى كم هذا التخلف والتقصير في طلب العز، واقتناء المكارم، وإلى كم تستعمل التمادي في التقصير وتتمادى تمادياً بعد تمادٍ.
وشغل النفس عن طلب المعالي ... ببيع الشعر في سوق الكساد
الشغل: بالفتح المصدر، وبالضم، الاسم. وها هنا بالفتح.
يقول: معاتباً لنفسه إلى كم تشغل نفسك عن طلب المعالي؛ بأن تبيع الشعر في سوق الكساد وتقتصر عليه دون ما هو أجل منه، فأنت تجيد الشعر ولا تصيب الصلة التي تستحقها بشعرك.
وما ماضي الشباب بمستردٍ ... ولا يومٌ يمر بمستعاد
يقول حاثاً لنفسه على لزوم الكائن قبل فوته: إن الشباب إذا مضى، وهو الزمان الذي لا يمكن تحمل المشاق في طلب المعالي لا يمكن رده، فكذلك اليوم الذي يمر لا يمكن إعادته! سواءٌ كان من أيام الشباب أو غيرها. وروى بمستفاد بالفاء أيضاً.
متى لحظت بياض الشيب عيني ... فقد وجدته منها ف يالسواد
عيني: رفع لأنه فاعل لحظت والهاء في وجدته: لبياض الشيب، وفي منها: للعين.
يقول: إذا رأت عيني بياض شعري، فكأنما وجدت ذلك البياض في كراهته عليها كأنه في سوادها؛ لأن البياض في سواد العين يكون عمي، وهو من أثقل الأشياء، فكذلك الشيب.
متى ازددت من بعد التناهي ... فقد وقع انتقاصي في ازدياد
يقول: متى ازددت في السن، بعد تناهى الأشد وذلك أربعون سنة كانت تلك الزيادة نقصاناً، لأنه كلما ازداد السن بعد انتهاء الغاية، ازداد الجسم نقصاً، فتكون زيادتي حاصلة في نقصان سني.
أأرضى أن أعيش ولا أكافي ... على ما للأمير من الأيادي؟!
يقول: هل أرضى بملازمتي هذا التقصير والتخلف، ولا أجازي هذا الأمير على ما أسدى إلي من النعم بمدحي إياه؟!
جزى الله المسير إليه خيراً ... وإن ترك المطايا كالمزاد
المزاد: جمع المزادة. يصف المشقة التي مرت عليه وعلى إبله في المسير إلى هذا الممدوح، ودل بالدعاء للمسير: على أنه لم يذكره على سبيل الشكاية، وإنما ذكره على سبيل الشكر، حيث أوصله إليه فاكتسب بسببه فخراً ومالاً وذخراً، وشبه الإبل. وهزالها بالمزاد: وهي القرب البالية، وهذا التشبيه جيد. وقيل: إنه أراد أن المسير ترك المطايا خالية من القوت واللحم، لطول سفرنا كمزادنا الخالية من الزاد، فتكون الألف واللام في المزاد دالة على الإضافة.
فلم تلق ابن إبراهيم عنسى ... وفيها قوت يومٍ للقراد
عنسى: رفع لأنها فاعلة تلق.
يقول: إن ناقتي لم تلق ابن إبراهيم، إلا بعد أن صارت من الهزال بحال لم يبق فيها من اللحم قدر ما يقتاته القراد يوماً واحداً!
ألم يك بيننا بلدٌ بعيدٌ ... فصير طوله عرض النجاد؟!
يقول: كان بيني وبين هذا الممدوح بلد بعيدٌ، فصير هذا المسير طوله الطويل، كعرض النجاد في القصر، وقربه غاية القرب. وفيه التطبيق للمبالغة في الجودة.

وأبعد بعدنا بعد التداني ... وقرب قربنا قرب البعاد
بعدنا، وقربنا: مفعول بهما. وبعد التداني، وقرب البعاد: منصوبان على المصدر.
يقول: إن المسير أبعد بعدنا، فجعله كبعد التداني الذي كان بيننا، وكذلك قرب المسير قربنا، مثل قرب البعد الذي كان بيننا من قبل. يعني أبعد البعد وقرب القرب.
فلما جئته أعلى محلى ... وأجلسني على السبع الشداد
يقول: لما قصدته بعد هذا التعب، رفع منزلتي وأحسن جائزتي حتى إنه رفعني إلى السموات السبع وأجلسني فوقها.
تهلل قبل تسليمي عليه ... وألقى ماله قبل الوساد
يقول: لقيني بطلاقة وجهه، وتبسمه، قبل أن أسلم عليه، وألقى إلي ماله قبل إلقاء الوسادة التي يجلسني فوقها.
نلومك يا علي لغير ذنبٍ ... لأنك قد زريت على العباد
يقول: يا علي، نلومك ولا ذنب لك، غير أنك قصرت وعبت على الناس بأفعالك وخصالك، فليس ذلك بذنب، وإنما هو فضلٌ منك وكرم.
وأنك لا تجود على جوادٍ ... هباتك أن يلقب بالجواد
هباتك: رفع لأنها فاعلة تجود. وتقديره: لا تجود هباتك على جواد أن يلقب كذلك بالجواد.
يقول: إن هباتك أبت أن يقلب أحدٌ بالجواد غيرك؛ لأنها فاقت هبات غيرك، حتى أخرجت جود الناس عن كونه جواداً، وهذا مثل قول بعض الشعراء:
رد معروفك الكثير قليلاً ... وأرى جودك الجواد بخيلاً
كأن سخاءك الإسلام؛ تخشى ... متى ما حلت عاقبة ارتداد
يقول: إنك من شدة مواظبتك على السخاء صار سخاؤك كالإسلام، لا تحول عنه، كما لا تحول عن الإسلام؛ خوفاً من عاقبة الارتداد؛ لأن عاقبته مذمومة، يجب على كل أحد التجنب منه؛ لأنه يلزمه في الدنيا: القتل، وفي الآخرة: العذاب الدائم. ومثله لأبي تمام.
مضوا وكأن المكرمات لديهم ... لكثرة ما أوصوا بهن شرائع
كأن الهام في الهيجا عيونٌ ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
يقول: كأن هام أعدائك عيونٌ، وسيوفك مضروبة من النوم، فلا يكون مسكنهاإلا في الهامات، كسكون النوم في العين.
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد
روى صغت وصغت. وروى: يخطرن بالكسر أي الرماح وبالضم الهموم، يقال: خطر الرمح. ويخطر، وخطر الشيء بالقلب يخطر، كأنك قد ضربت أسنة رماحك من الهموم؛ لأن محلها القلوب، كما أن محل الهموم القلوب.
والمعنى: أن قلوب الأعداء لا تخلو من أسنة رماحك، كما لا تخلو من الأحزان والهموم.
ويوم جلبتها شعث النواصي ... معقدة السبائب للطراد
الكناية في جلبتها: للخيل ولم يجر لها ذكر، لدلالة الكلام عليه. ومعقدة السبائب: أي مضفورة الشعر للذنب.
يقول: في اليوم الذي حشرت الخيل وأتيت بها مشعثةً نواصيها معقدة أذنابها، لأنها كانت مهيأة للحرب.
وحام بها الهلاك على أناس ... لهم باللاذقية بغي عاد
الهاء في بها: للخيل، أي بسبب الخيل.
يقول: وطاف الهلاك بهذه الخيل على قوم كان لهم بغي عاد باللاذقية.
فكان الغرب بحراً من مياهٍ ... وكان الشرق بحراً من جياد
يقول: كان الأعداء بين البحرين، غريبها بحر الشام، وشرقيها بحر من جياد: وهو جيش الممدوح شبهه بالبحر لكثرته، ولبياض الحديد وبريقه فيهم وقيل: أراد بالبحر من المياه، دماء القتلى. فبين أنها لكثرتها كبحرالماء، والجانب الشرقي من عتاق الخيل.
وقد خفقت لك الرايات فيه ... فظل يموج بالبيض الحداد
الضمير في فيه: يرجع إلى البحر من جياد.
يقول: تحركت أعلامك في البحر من الجياد فكان يموج بالسيوف البيض المحددة شبه بياض السيوف بماء البحر.
لقوك بأكبد الإبل الأبايا ... فسقتهم وحد السيف حاد
الأبايا: جمع الأبية، وهي التي لا تنقاد، وتمنع أنفسها من الخطام.
يقول: إن أعداءك رأوك بأكباد غلاظ كأكباد الإبل الأبية، التي لا تنقاد لصعوبتها. فسقتهم مع غلظ أكبادهم ونحوتهم وحد سيفك حادٍ بهم وسائقهم.
وقد مزقت ثوب الغي عنهم ... وقد ألبستهم ثوب الرشاد
يقول: قاتلتهم حتى انقادوا، وكشفت عنهم ثوب الضلالة، وألبستهم ثوب الرشاد والحق، فصاروا راشدين بعد أن كانوا غاوين.
فما تركوا الإمارة لاختيارٍ ... ولا انتحلوا ودادك من وداد

يقول: ما تركوا الإمارة اختياراً، بل غصبتهم عليها، وما ادعوا ودك من اعتقاد قلوبهم، بل نفاقاً في حبك.
ولا استفلوا لزهدٍ في التعالي ... ولا انقادوا سروراً بانقياد
يقول: ما انخفضوا لك لزهدهم في العلو، ولا انقادوا لك سروراً بالانقياد، لكنهم انقادوا خوفاً
ولكن هب خوفك في حشاهم ... هبوب الريح في رجل الجراد
يقول: هب خوفك في قلوبهم فطيرها، كما تهب الريح في قطعة من الجراد فتبددها.
وماتوا قبل موتهم فلما ... مننت أعدتهم قبل المعاد
يقول: وإنهم ماتوا خوفاً منك، ولما صاروا كالموتى، فكأنهم ماتوا قبل الموتة، حتى إذا مننت عليهم أعدتهم قبل يوم القيامة بعفوك عنهم.
غمدت صوارماً لو لم يتوبوا ... محوتهم بها محو المداد
يقول: كانوا قد ماتوا فأعدتهم قبل المعاد! بأن غمدت سيوفك عن قتلهم بها ولو لم يرجعوا عن معصيتك لمحوتهم كما ينمحي المداد من الألواح.
وما الغضب الطريف وإن تقوى ... بمنتصفٍ من الكرم التلاد
يقول: إن غضبك المستحدث وإن كان قوياً فلا يؤثر في كرمك الأصلي القديم، فلا يمكنه أن يغلب كرمك المتين.
فلا تغررك ألسنةٌ موالٍ ... تقلبهن أفئدةٌ أعادي
الموالي: هم الأصدقاء، وقد راعى فيه المطابقة، وجمع التأنيث في تقلبهن للألسنة.
يقول: لا تغتر بإظهارهم لك المولاة بألسنتهم فإن ألسنتهم وأفئدتهم مضمرةٌ للعداوة، فتغلب ألسنتهم قلوبٌ مضمرة على العداوة، فلا تغتر بظاهر أحوالهم.
وكن كالموت لا يرثي لباكٍ ... بكى منه ويروي وهو صادي
فاعل بكى: ضمير باكٍ.
يقول: كن كالموت لا يرحم، ولا يرق لباكٍ، يبكي من يده وفعله، ويروي الموت وهو عطشان بعد الري، فيزداد عطشاً.
فإن الجرح ينفر بعد حينٍ ... إذا كان البناء على فساد
نفر الجرح: إذا تورم وظهر من أسفله فساد.
يقول حاثاً له على قتل الباقين منهم: أضمروا العداوة، ويتربصون بك الدوائر فلا تغتر بإظهارهم المودة، فإنهك كالجرح إذا كان اندماله على فساد، وغور فيه، فإنه يظهر غوره بعد حين، فكذلك حالهم معك.
وإن الماء يجري من جمادٍ ... وإن النار تخرج من زناد
أراد بالجماد: الحجر.
يقول: لا تأمن إظهار أحوالهم، فقد يجري الماء من الحجر الصلد، وكذلك النار التي تحرق كل شيء تخرج من الزناد الحديد.
وكيف يبيت مضطجعاً جبانٌ ... فرشت لجنبه شوك القتاد؟
يقول: كيف ينام عدوك وهو جبان، مضطجعاً على فراش من قتاد: يعني أن خوفك قد أثر تأثيراً به، حتى كأنه نائم على شوك القتاد، هيبةً منك، وقد يحصل من الجبان بعض أحوالٍ لا تحصل من الشجاع ضرورة خوفاً، ويجوز أن يكون توحيد الجبان لأنه أراد: أميرهم.
يرى في النوم رمحك في كلاه ... ويخشى أن يراه في السهاد
يقول: يرى هذا الجبان رمحك أصابت كلاه في نومه، فخاف أن يرى في اليقظة ما يراه في النوم، فلا يلذ له نوم أبداً، لذلك.
أشرت أبا الحسين بمدح قومٍ ... نزلت بهم فسرت بغير زاد
يقول: أشرت إلي أن أمدح قوماً نزلت بهم فما أكرموني وخرجت من عندهم بغير زاد، فهل ترى أن أمدح من هذا فعله؟!
وظنوني مدحتهم قديماً ... وأنت بما مدحتهم مرادي
كأنه قد كان قصدهم قبل قصده الممدوح، ومدحهم فلم يثيبوه شيئاً.
يقول: إنهم ظنوا أني مدحتهم، وما علموا أنك كنت أنت المقصود بذلك المدح.
وقيل: إنه مدحهم بعدما أمره به هذا الممدوح، فلم يعطوه، فقال للمدوح: أنت أمرتني بمدحهم فيجب عليك أن تخرج ثواب مدحي لهم، وكنت ضامناً وقد أخذ هذا المعنى من قول الحكمي:
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحه ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
وإني عنك بعد غدٍ لغادٍ ... وقلبي عن فنائك غير غاد
يقول: إني غادٍ عنك بعد غدٍ، وقلبي غير مرتحل عن فنائك. ومثله لأبي تمام:
مقيم الظن عندك والأماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد
محبك حيثما أتجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد
يقول: حيثما سرت ونزلت، فإني محبك، وحيثث كنت من البلاد فإني ضيفك، لأن عطاياك عظيمة وأياديك غير منقطعة ولا فانية. ومثله لأبي تمام قوله:
وما طوفت في الآفاق إلا ... ومن جدواك راحلتي وزادي

إلا أن بيت المتنبي أجود منه؛ لأنه دل على هذا المعنى في المصراع الأول بمعنىً آخر، وأنه لم يقتصر على الراحلة والزاد، لأن لفظ الضيف يتضمن سائر وجوه النعم والتعظيم، لأن من حكم الضيف أن يكون معظماً مكرماًن فبين أنه كذلك حيثما سار من البلاد.
وقال أيضاً يمدحه. أي يمدح علياً بن إبراهيم التنوخي:
ملث القطر! أعطشها ربوعا ... وإلا فاسقها السم النقيعا
الملث: الدائم القطر، والكناية في أعطشها: للربوع، وقدمها للدلالة، ونصب ربوعا على التمييز، كأنه قال: من ربوع.. والنقيع: المنقوع.
يخاطب المطر فيقول: يا دائم القطر، أعطش هذه الربوع من ربوع، ولا تسقها ، وإن كنت لابد ساقيها، فاسقها السم النقيع! فإني شاكٍ منها؛ وقد بين العلة في ذلك في قوله.
أسائلها عن المتديريها ... فلا تدري ولا تذري دموعا
قوله: المتديريها: أي المقيمين بها والمتخيرين لها داراً، وكان الأصل المتدوريها، لأن الدار: أصلها دور، فهو من الواوي يقول أسائل هذه الربوع عن المقيمين فيها، فلا تدري سؤالي ولا تجيبني عنه ولا تبكي الدموع مساعدة عن بكاء الذين كانوا فيها، حزناً على خلوها منهم.
لحاها الله إلا ما ماضييها ... زمان اللهو والخود الشموعا
لحاها: أي لعنها، وأصله قشرها الله، والخود: الجارية الناعمة السهلة الخلق. والشموع: هي اللعوب المزاحة اللينة الكلام. وقيل: هي الصافية البياض.
يقول: لعن الله هذه الربوع إلا ماضيها، وهو استثناء منقطع، لكن شيئين منهما قد مضيا، فإني لا أدعو عليهما: أحدهما زمان اللهو، والثاني الخود الشموع وهي المحبوبة.
منعمةٌ، ممنعةٌ، رداحٌ ... يكلف لفظها الطير الوقوعا
الرداح: السمينة الكبيرة العجز. والوقوع: جلوس الطير.
يقول: إنها منعمة ممنوعة الوصول إليها، سمينة حسنة الصوت والمنطق، فلو سمع الطير لفظها في الهواء لسقط على الأرض، فكأن لفظها كلف الطير الوقوع على الأرض.
ترفع ثوبها الأرداف عنها ... فيبقى من وشاحيها شسوعاً
رفع الأرداف: لأنها فاعلةٌ لترفع ومفعوله الثوب. والوشاح: شيء تقلد به العروس كتقليد السيف، ويكون طرفاه مرسلين من جانبي البدن، والشسوع: مبالغة في الشاسع وشسوعا: نصب على الحال.
يقول: إن أردافها ترفع الثوب عن جسمها؛ لعظم أردافها، فيصير الثوب بعيداً عن وشاحيها وجسمها. وقد دل بذلك على دقة الخصر، لأنه لو لم يدق لم يبعد الثوب عنه، وروى: شسوعاً بالضم: وهو مصدر واقع موقع شاسع. كقولهم: صوم وعدل، وصفة الشيئين أولى؛ لأنه صفة صريحة وحقيقة، وهذا محمول عليها.
إذا ماست رأيت لها ارتجاجاً ... له، لولا سواعدها نزوعا
ماست: أي تبخترت. والارتجاج: الاضطراب. والهاء في لها: للأرداف، وفي له: للثوب. والنزوع: بمعنى النازع، وهو فاعل، من نزعت الشيء إذا جذبته عنه.
يقول: إذا تبخترت هذه المرأة في مشيها رأيت لأردافها من ثقلها اضطراباً، لولا سواعد هذه المرأة، لكان ذلك الارتجاج نازعاً لثوبها عنها، فلكون سواعدها في الكم، وإمساكها لثوبها، لم ينفصل الثوب عن البدن!!
تألم درزه والدرز لينٌ ... كما تتألم العضب الصنيعا
تألم: أصله تتألم، فحذف إحدى التاءين، وهو فعل المرأة. ولينٌ: أصله لينٌ، فخفف. والعضب: السيف القاطع. والصنيع: الذي جرد. وقيل: الذي فيه جودة الصنع.
يقول: تتألم هذه المرأة لنعومتها من درز هذا الثوب مع كون درزه ليناً، كما أنت تتألم أيها المخاطب من ضرب السيف. يعني: أن هذا القدر من الخشونة يؤثر فيها ويقع موقع ضربها بالسيف.
ذراعاها عدوا دملجيها ... يظن ضجيعها الزند الضجيعا
يقول: ذراعاها، أي ذراعا هذه المرأة لامتلائهما، كأنهما عدوا دملجيها، لأنهما يكادان أن يكسراهما؛ لامتلائهما، أو أنه لا يمكنهما أن يدورا على ذراعيها، فيكون ذراعاها قد أمسكاهما. والدملجان: قد غاصا بذراعيها، فيعادي كلٌّ منهما صاحبه. من هذا الوجه. وقيل: أراد أن دملجيها لا ينحطان عن عضديها، إلى ذراعيها، لامتلاء ذراعيها بهما ومنعهما من أن يخرجا من ذراعيها، فهما والذراعان لا يلتقيان أبداً، كالعدوين.
يقول: يظن مضاجعها أن زندها شخص واحد، قد ضاجعه لعظمه وامتلائه.

وقيل: أراد أنها لدقة خصرها يظن المضاجع أنها زند: وهو الزند الذي يوري منه النار، والزند ينحف الخصر لكثرة القدح ووصول الحجر إليه من الجانبين، فكأنه شبهها في رقة خصرها بالزند.
كأن نقابها غيمٌ رقيقٌ ... يضيء بمنعه البدر الطلوعا
يقول: إن نقابها يشرق لإضاءة وجهها من تحته كما يشرق الغيم الرقيق من فوق القمر: الذي هو البدر. شبه نقابها بغيم رقيق، ووجها بالبدر ثم قال يضيء الغيم بسبب منعه البدر من الطلوع، ولو قال بدله الشمس لكان أبلغ.
أقول لها: اكشفي ضري. وقولي ... بأكثر من تدللها خضوعا
قوله: وقولي بأكثر، يعني بخضوع أكثر من تدللها، خضوعاً، فتكون الباء متعلقة بمحذوف، وتكون هذه الجملة خبراً لقولي، وخضوعاً نصب على الحال، تفسيرٌ للخضوع المقدر.
يقول: أقول لها في حال تضرعي وتواضعي لها: اكشفي ضري، وخضوعي في قولي هذا أكثر من تدللها علي على كثرته؛ وذلك أن الدلال يكون مع الخضوع، فكأنه يقول: إنها تتمنع وتتدلل وأنا أخضع لها وأتذلل حتى يزيد خضوعي على مالها من التدلل والتمنع، وإن كان تدللها غير متناهٍ كثيراً فخضوعي أكثر منه.
أخفت الله في إحياء نفس ... متى عصي الإله بأن أطيعا؟
يقول لها: أخفت لله تعالى في إحياء نفس على الوصال، فتكوني قد أحييته بعد الإماتة، أو يريد: إنك قد هممتي بإماتتي فكأنك خفت الله تعالى في تبقيتي على هذه الحال. وليس ذلك مما يخاف الله تعالى، بل إحياء نفس مما يتقرب به إلى الله تعالى، فكيف يعصي الإله بطاعته تعالى.
غدا بك كل خلو مستهاماً ... وأصبح كل مستور خليعا
وروى: كل خلق. والمستهام: من بلغ النهاية في الهوى. والخليع: هو المتظاهر بالهوى.
يقول: أصبح كل خلي من الهم والهاً بك متحيراً في هواك، وأصبح كل عفيف في حبك، خالعاً عذاره، ومثله:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه ميٌّ سافراً كان يبرق
أحبك أو يقولوا جر نملٌ ... ثبيراً وابن إبراهيم ريعا
أو ها هنا بمعنى: أن أو إلى أن أو إلا أن.
يقول لها: إني أحبك إلى أن يقولوا: جر نملٌ ثبيراً وهو الجبل. وهذا لا يكون أبدا، أو إلى أن يقال: إن ابن إبراهيم، خوف وأفزع. وهذا أيضاً غير جائز، فلا يزول حبك أبداً عني، لأن هذين أبداً لا يكونان.
بعيد الصيت منبث السرايا ... يشيب ذكره الطفل الرضيعا
يقول: إنه رفيع الشأن، متفرق العساكر في البلدان؛ لكون البلاد كلها من ممالكه، أو للإغارة على أعدائه، ويشيب ذكر شجاعته الطفل الرضيع؛ لخوفه منه، وخص الطفل؛ لبعده عن الشيب، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: " يوماً يجعل الولدان شيباً " .
يغض الطرف عن مكرٍ ودهى ... كأن به وليس به خشوعا
الدهى: هو الدهاء. وخشوعاً: نصب لأنه اسم كأن. تقديره: كأن به خشوعاً، وليس أنه يغض طرفه عن مكرٍ ودهاءٍ، حتى كأنه لا يبصر شيئاً وهو مبصر، ولكن يتغافل بمكره، وهو يظن أنه خاشع البصر، وليس به خشوع لكنه يفعل مثل ذلك لدهائه.
إذا استعطيته مافي يديه ... فقدك، سألت عن سرٍّ مذيعا
فقدك: أي فحسبك، والمذيع: من عادته إفشاء السر، لأنه لا يكتمه. شبهه بمذيع السر، إذا سألوه المال. يعني: أن المذيع كما لا يكون له سر، كذلك هذا لا يثبت في يده غني.
قبولك منه منٌّ عليه ... وإلا يبتدىء يره فظيعا
منه: نصب لأنه مفعول قبولك، ومنٌّ عليه، خبر الابتداء وقبولك مبتدأ، وفظيع: أي أمر شديد منكر.
يقول: إذا قبلت بره وعطاءه فكأنك قد مننت عليه بقبولك ذلك، وإن لم يبتدىء بالنوال قبل السؤال، رأى ذلك قبيحاً منكراً. يعني: يسابقك إلى العطاء قبل الاستغناء.
لهون المال أفرشه أديماً ... وللتفريق يكره أن يضيعا
يقول: لهون المال عليه فرش تحته النطع من الأديم وصبه فوقه، لا لكرامته عليه، لأن النطع إنما يبسط لمن يضرب عنقه، ولو أراد إعزازه لجعله في الكيس، وإنما يكره أن يضيع المال، مخافة ألا يبلغ وقت تفريقه إياه، فيكره أن يضيع لأجل صرفه في مصارفه.
إذا ضرب الأمير رقاب قومٍ ... فما لكرامةٍ مد النطوعا
يقول: إن فرشه النطوع تحت المال، كما أنه إذا أراد أن يضرب رقاب قوم يلقى من تحتهم النطوع إهانةً لهم، لا إكراماً.

فليس بواهبٍ إلا كثيراً ... وليس بقاتلٍ إلا قريعا
القريع: السيد الشريف.
يقول: إن الممدوح لا يهب إلا كثيراً، وإذا قتل، لا يقتل إلا سيداً شجاعاً كريماً مقارعاً.
وليس مؤدباً إلا بنصلٍ ... كفى الصمصامة التعب القطيعا
كفى: يتعدى إلى مفعولين: أحدهما التعب، والثاني القطيع، وهو السوط. تقديره: كفى الصمصامة القطيع التعب.
يقول: إنه لا يؤدب إلا بسيف فيقيمه في التأديب مقام السوط، فيكفي السوط التعب والعناء.
عليٌّ ليس يمنع من مجيءٍ ... مبارزه ويمنعه الرجوعا
يقول: إنه لا يمنع مقاتله من المجيء إلى قتاله ونزاله، ولكنه إذا أراد أن ينصرف، منعه من الانصراف بقتله، فينتفي الرجوع.
عليٌّ قاتل البطل المفدى ... ومبدله من الزرد النجيعا
المفدى: الذي يفديه كل واحد من الناس، لشجاعته. والزرد: الدرع. والنجيع: الدم الطري. وقيل: دم الجوف.
يقول: إنه يقتل البطل الذي يفديه الناس لشجاعته، ويسلبه درعه ويلبسه بدل الدرع الدم الطري، الذي يخرج منه بالضرب والطعن.
إذا اعوج القنا في حامليه ... وجاز إلى ضلوعهم الضلوعا
في حامليه: يجوز أن يريد به، المطعونين. ومعناه: إذا صارت الرماح معوجة في المطعونين، ونفذ ذلك الرمح من ضلع إلى ضلع آخر، أي يخرج من جانب إلى جانب آخر، من هذا المطعون إلى مطعون آخر، وجواب هذا الكلام، بعد البيت الذي يليه. ويجوز أن يريد بحامليه: أعداء الحاملين للرمح. وإنما خص الرمح؛ لأن طعن الرمح أدل على الفروسية والشجاعة، لأنه يقابل مثل سلاحك.
ونالت ثأرها الأكباد منه ... فأولته اندقاقاً أو صدوعا
الهاء: في منه ترجع إلى لفظ القنا وكذلك أولته. وفي ثأرها للأكباد.
يقول: إذا اعوج القنا، وانصدع واندق في الأكباد، فكأن الأكباد نالت ثأرها من الرماح بهذا الاندقاق فأعطت الأكباد القنا اندقاقاً أو صدوعاً.
فحد في ملتقى الخيلين عنه ... وإن كنت الغضنفرة الشجيعا
إن استجرأت ترمقه بعيداً ... فأنت اسطعت شيئاً ما استطيعا
وروى: الخبعثنة فحد: أمر حاد يحيد، إذا تأخر عن المحاربة: والهاء في عنه: للممدوح، والغضنفرة: من صفات الأسد.
يقول: إذا اشتدت الحروب، واعوج القنا، ونالت الأكباد ثأرها من الرماح، فحد عنه، يا من يريد مبارزته عند التقاء الجيشين، وإن كنت أسداً شديداً شجاعاً، فإنه يقتلك لا محالة فتهلك.
وإن ماريتني فاركب حصاناً ... ومثله تخر له صريعا
أي: إن خاصمتني، أو شككت في قولي روى: حصاناً وجواداً وصريعاً نصب على الحال.
يقول: إن خاصمتني أو شككت في إخباري من حال هذا الممدوح، فاركب فرساً جواداً ومثله في قلبك نصب عينيك، وإن كان غائباً عنك فإنك تسقط من هيبته هالكا.
غمامٌ ربما مطر انتقاماً ... فأقحط ودقه البلد المريعا
البلد المريع، والممرع: هو الخصيب والمخصب وزناً ومعنى.
يقول: إنه غمام يمطر خيراً ونعمة إلا أنه ربما يمطر انتقاماً فيقحط قطره البلد الخصيب.
رآني بعد ما قطع المطايا ... تيممه وقطعت القطوعا
رأى: فعل الممدوح، وتيممه: فاعل قطع. والمطايا: مفعوله. وقطعت: فعل المطايا. والقطوع: مفعوله. وهو جمع القطع، وهو الطنفسة على ظهر البعير.
يقول: رآني الممدوح، بعد ما قطع المطايا، وأتبعها سيري إلى الممدوح وقصدي إياه، وقطعت المطايا الطنافس التي عليها؛ لطول ملازمتي لها؛ وكل ذلك لطول الطريق وبعد المسافة ومقاساة الشدائد. يذكر ذلك توصلاً إلى فضل عطاياه.
فصير سيله بلدي غديراً ... وصير خيره سنتي ربيعا
يقول: لما رآني أعطاني إعطاءً واسعاً، حتى جعل سيله بلدي غديرا: وهو مقر الماء. وصير خيره سنتي كلها ربيعاً؛ لأنه أفضل فصول السنة.
وجاودني بأن يعطي وأحوى ... فأغرق نيله أخذي سريعا
جاود: فاعل من الجود.
يقول: جاد علي بالعطاء وجدت عليه بالاحتواء والأخذ فجعل أخذه منه جوداً، لأنه كان يعد أخذه نعمة من جملة النعم عليه، فأغرق نيله وإعطاؤه أخذي بسرعة: أي لم يبلغ أخذي عطاؤه، فكأنه غرق أخذي.
أمنسي السكون وحضرموتاً ... ووالدتي وكندة والسبيعا

يقول: يا من أنساني هذه الأماكن لجوده، وإن كانت منشأي ومألفي، ويا من أنساني والدتي فلا أشتاقها؛ لأن عطاءك شغلني عن جميع ذلك.
قد استقصيت في سلب الأعادي ... فرد لهم من السلب الهجوعا
السلب: يجوز أن يكون الشيء المسلوب، ويجوز أن يريد به: المصدر، فيجوز فيه فتح اللام وإسكانها.
يقول: قد سلبت أعداءك كل شيء حتى النوم، فرد عليهم من جملة هذا السلب النوم. يعني: أنهم من خوفهم منك أن تسلبهم نفوسهم، لا ينامون، فأمنهم ليناموا.
إذا ما لم تسر جيشاً إليهم ... أسرت إلى قلوبهم الهلوعا
تسر: مضارع أسار يسير إسارة، وسار وهو يسير سيراً والهلوع: أسوأ الجزع.
يقول: إذ لم تسير جيشك إليهم، وتركت قتالهم فقد سيرت إلى قلوبهم الجزع والخوف، فكأنك قد سيرت إليهم الجيش؛ لأن خوفهم منك يقوم على حقهم مقام الجيش.
رضوا بك كالرضا بالشيب قسراً ... وقد وخط النواصي والفروعا
وخط: إذا ظهر واختلط البياض بالسواد، وأراد بالنواصي: شعرها. والفروع: الذوائب.
يقول: إنهم رضوا بك كارهين كرضاهم بالشيب إذا خالط شعر النواصي وسائر الفروع، فكما أن الشيب غير محبوب إلى كل أحد، فكذلك حالهم في رضاهم بك.
فلا عزلٌ وأنت بلا سلاحٍ ... لحاظك ما تكون به منيعا
العزل: هو فقد السلاح. من قولهم: رجل أعزل. وما؛ بمعنى الذي. كأنه قال: لحاظك الشيء الذي يكون به منيعاً. والهاء في به عائد إلى ما، والمنيع: الممنوع الجانب.
يقول: ليس فقدك السلاح بعزل؛ لأن لحاظك إذا نظرت إلى عدوك تغني عن السلاح، فصرت بالملاحظة منيعاً ذا سلاح.
لو استبدلت ذهنك من حسام ... قددت به المغافر والدروعا
الهاء في به: للذهن.
يقول: لو جعلت ذهنك بدلاً من سيفك، لقطعت به المغافر والدروع. يصفه بحدة الذهن وجودة الخاطر.
لو استفرغت جهدك في قتالٍ ... أتيت به على الدنيا جميعا
يقول: لو بذلت جهدك وقدرتك في القتال، لأتيت على جميع أهل الدنيا ولأفنيتهم، حتى لا تبقى الدنيا ولا أهلها.
سموت بهمةٍ تسمو فتسمو ... فما تلفي بمرتبةٍ قنوعا
التاء في تسمو الأول: للخطاب، والثاني: للهمة. أي تسمو أنت وتسمو همتك بسموك. ويجوز أن يكون: الأول للهمة، والثاني: للخطاب. أي تسمو همتك فتسمو أنت بسمو همتك. ويجوز أن يكونا للهمة أي تسمو همتك إلى درجة فما ترضى بها، فتسمو إلى ما فوقها. فما تلفى أنت أو همتك بمرتبة قنوعا، أي لا يرضى بمرتبة نالها بل يطلب فوقها.
وهبك سمحت حتى لا جوادٌ ... فكيف علوت حتى لا رفيعا؟!
الألف في رفيعا: ألف الإطلاق؛ لأن النكرة المنفية بلا تنصب بلا تنوين.
يقول: أحسب أنك بجودك علوت أقرانك حتى لا نظير لك فيه، فكيف قدرت على السمو والارتفاع حتى لا يبقى رفيع غيرك؟! وقال البخاري: يجوز أن يكون بلا من التنوين، لأن لا إذا تكررت يجوز فيها هذا الوجه نحو قولك: لا حول ولا قوة.
وقال أيضاً يمدحه أي علياً بن إبراهيم التنوخي، ويصف بحيرة طبرية:
أحق عافٍ بدمعك الهمم ... أحدث شيء عهداً بها القدم
العافي: الدارس. والهمم: مبتدأ. وأحق: خبره.
يقول: إن أحق دارس بالبكاء عليه، همم الناس الدارسة، فهي أولى بالبكاء لدروسها، من الأطلال الدارسة. وقوله: أحدث شيء عهداً بها القدم: أي أنها قد تقادمت، فأحدث شيء بها القدم: أي صار أقربها عهداً قديماً. وقيل: أراد بالعافي: الطالب. والمعنى: أن الهمم أحق طالب بأن يبكى عليه. فكأنه يقول: أعرض عن البكاء على الأطلال، وابك على الهمم. وهو مأخوذ من قول أبي نواس:
صفة الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنه الكرم
وإنما الناس بالملوك وما ... تفلح عربٌ ملوكها عجم
يقول: إنما عز الناس، وهممهم بالملوك، فما تفلح العرب إذا كانت ملوكها عجم؛ لأنهم لا همم لهم، وهم إذا رضوا بذلك فقد دنوا، فلا يرجى لهم فلاح.
لا أدبٌ عندهم ولا حسبٌ ... ولا عهودٌ لهم ولا ذمم
بكل أرضٍ وطئتها أممٌ ... ترعى بعبدٍ كأنها غنم
الذمم: جمع الذمة، وهي الحرمة. يعني: أن العجم ليس لهم حرمة.

يقول: وجدت في كل بلدٍ دخلتها أمماً أي جماعات، يلي عليهم عبد! فهم لا يأنفون عن الانقياد له، كأنهم غنم! وأراد بالعبد: العجم؛ لأنهم موالي العرب، وعبيدهم، وهم ينزلون من العرب منزلة العبيد، وفيه تعيير للعرب حيث رضوا بأن يلي عليهم العجم وانقادوا لهم.
يستخشن الخز حين يلمسه ... وكان يبري بظفره القلم
ويروى: حين يلبسه ويلمسه يصف بهذا العبد الذي صار والياً. ويقول: صار بحيث يستخشن الخز الذي هو في غاية اللين، حين يلمسه، بعد أن كان عبداً قد غلظت يداه من الكد، حتى لو أراد أن يبري بظفره القلم لبراه؛ لطول ظفره.
إني وإن لمت حاسدي فما ... أنكر أني عقوبةٌ لهم
يقول: إن كنت ألوم حسادي على حسدهم إياي، وعداوتهم لي، فإني أعلم أنهم معذورون على حسدهم لي، لأني عقوبة لهم، لما لي من الفضل والعلو، فأقتلهم غيظاً وحسداً. وقريب منه قول الآخر:
ولا خلوت الدهر من حاسدٍ ... وإنما الفاضل من يحسد
وكيف لا يحسد امرؤٌ علمٌ ... له على كل هامةٍ قدم؟!
العلم: الجبل.
يقول: كيف لا يحسد رجل مشهور بالفضل والكمال، عالي المحل، وله على كل هامة قدم، فهو أفضل من كل أحد.
يهابه أبسأ الرجال به ... وتتقي حد سيفه البهم
أبسأ الرجال: آنسهم. يقال: أبسأت به وأبهأت به إبساءً وإبهاء: إذا أنست به.
يقول: يخاف هذا الرجل آنس الرجال به، وأقربهم إليه. وتتقي: أي تحذر، من حد سيفه الشجعان.
تقديره: كيف لا يحسد امرؤ وهذه صفته؟!
كفاني الذم أنني رجلٌ ... أكرم مالٍ ملكته الكرم
فاعل كفاني: أنني، وما يتصل به. والمفعول الأول: الياء التي هي ضمير المتكلم. والمفعول الثاني: الذم.
يقول: منعني من أن أذم نفسي، فأكرم ما أملك وأدخره لنفسي، إنما هو الكرم فلا سبيل لأحد أن يذمني مع هذا الكرم.
يجني الغنى للئام لو عقلوا ... ما ليس يجني عليهم العدم
يقول: يجلب الغنى على اللئيم، ما لا يجلب عليه الفقر؛ لأن اللئيم إذا صار غنياً يبخل فيذم، وإذا كان فقيراً لم يذمه أحد.
هم لأموالهم وليس لهم ... والعار يبقى والجرح يلتئم
يقول: إن اللئام خدم أموالهم، وعبيدهم، حتى أوقعوا أنفسهم في الهلاك بسببها، وليست الأموال لهم، لأنهم لا ينتفعون بها، ولا يكتسبون بها حمداً ولا أجراً. ثم قال: والعار يبقى والجرح يلتئم: يعني أن غناءهم عارٌ عليهم، يبقى بعدهم. والجرح يلتئم: أي أن الجرح أهون من العار؛ لأن الجرح يندمل ويذهب أثره والعار يبقى على وجه الدهر.
من طلب المجد فليكن كعلي ... ىٍ يهب الألف وهو يبتسم
ويطعن الخيل كل نافذةٍ ... ليس لها من وحائها ألم
أي: كل طعنةٍ نافذةٍ، فحذفها والكناية في لها، وحائها: للطعنة والوحاء: السرعة، يمد ويقصر.
يقول: من طلب الشرف فليكن مثل هذا الممدوح، الذي يهب الألف لسائله وهو ضاحك، ويطعن أعداءه كل طعنة نافذةٍ من إحدى الجانبين إلى الجانب الآخر، ليس بهذه الطعنة ألم؛ لسرعتها وخفة يده بها. وقيل: أراد أنه يموت في الحال، فلا يحس بالألم بعد الموت.
ويعرف الأمر قبل موقعه ... فما له بعد فعله ندم
الهاء في فعله: للمدوح، أو للأمر. وروى: بعد فعلةٍ. وهي المرة الواحدة من الفعل.
يقول: إنه يعلم عواقب الأمور قبل فعلها ووقوعها، فإذا فعل أمراً لم يندم على فعله؛ لأنه لم يفعله إلا وهو عالم بعاقبته.
يمدحه بجودة الرأي وحدة الفطنة وشدة الذكاء.
والأمر والنهي والسلاهب وال ... بيض له والعبيد والحشم
السلاهب: جمع السلهب وهي الفرس الطويل. وقيل: هو الرمح الطويل. والحشم: حاشية الرجل، الذين يغضبون له، ويغضب لهم.
يقول: إن الممدوح له هذه الأشياء: من الأمر والنهي والخيل والسيف والعبيد والحواشي. وروى بدل الحشم: الخدم.
والسطوات التي سمعت بها ... تكاد منها الجبال تنقصم
يقول: للمدوح الحملات المشهورة، التي سمعت بها أيها المخاطب، كما سمع بها كل أحد، وهي التي تقرب الجبال من أن تتصدع وتتقطع، من شدتها وسطواتها.
يرعيك سمعاً فيه استماعٌ إلى الدا ... عي وفيه عن الخنا صمم

يرعيك سمعاً أي يصغي إليك. يقال: أرعني سمعك أي استمع مني واجعل سمعك راعياً، أو مراعياً لقولي. وقيل معناه: اجعل سمعك مرعىً لكلامي ومكاناً له والداعي: أراد به الداعي حقيقة.
يقول: إنه يصغي إلى المستغيث سمعاً وعادته الإصغاء إلى كل من يدعوه، ولكنه عن الفحش والقبيح أصم: أي يعرض عنه، ولا يصغى إليه، فكأنه أصم لا يسمع ذلك.
يريك من خلقه غرائبه ... في مجده كيف يخلق النسم؟!
يريك: تعدى إلى ثلاثة مفاعيل، أحدها. الكاف، والثاني غرائبه، والثالث كيف، وهو في موضع النصب، وهو في معنى يعلمك. والنسم: جمع نسمة، وهي النفس.
يقول: يريك هذا الممدوح إذا نظرت إليه وهو يخلق غرائب كرمه، ويبتدع محاسن شيمه، التي لم يسبق إليها، كيف يخلق الله الخلق على غير احتذاء ولا مثال. يعني: أنه يصطنع من أهلكه البؤس، حتى صار كالمعدوم فيحسن إليه وينعم عليه، حتى يحسن حاله؛ فكأنه أوجده بعد عدمه، فإذا رأيت ذلك، استدللت به على قدرة الله تعالى، على إيجاد الشيء بعد أن لم يكن.
ملت إلى من يكاد بينكما ... إن كنتما السائلين ينقسم
يخاطب صاحبه ويقول: عدلت إلى زيارة من لو جئتما يا صاحبي تسألانه نفسه يقسمها بينكما، فيكون نصفه مع أحدكما، ونصفه مع الآخر؛ ليبلغ كل واحد إلى أمله. وأصله قول أبي تمام:
لو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
من بعد ما صيغ من مواهبه ... لمن أحب الشنوف والخدم
الشنف: ما يجعل في أعلى الأذن، والقرط: ما يجعل في أسفله. والخدم: جمع خدمة: وهي الخلخال.
يقول: لم أقصده إلا بعد أن سبقت إلي مواهبه، وأغناني بها، وصيغ لي منها لمن أحبه من امرأتي وجاريتي ومحبوبتي ومن يتصل إلى الشنوف والخلاخيل، وفي هذا إشارة إلى أنه قد أغناه بمواهبه قبل وصوله إليه؛ لأن الإنسان لا يصوغ أنواع الحلي إلا بعد الغنى والكفاف.
ما بذلت ما به يجود يدٌ ... ولا تهدي لما يقول فم
تقديره: ما بذلت يد ما به بجود، ولا يهتدي فمٌ لما يقول.
ما الأولى نافية، والثانية، والثالثة، بمعنى: الذي.
يقول منبهاً على فضله وعطاياه، وفصاحته: لم يبذل إنسيٌّ الذي يجود به هذا الممدوح، ولم يهتد فم أحد للقول الذي يقول هو، لما يختص به من زيادة الجود والفصاحة.
بنو العفرني محطة الأس ... د ولكن رماحها الأجم
العفرني: اسم من أسماء الأسد، والأنثى: عفرناة. ومحطة: جد الممدوح. وبنو: رفع بالابتداء، والعفرني: جر بالإضافة. ومحطة: بدل من العفرني، وهو في موضع الجر. والأسد: جر لأنه نعت لمحطة، وجميع ذلك كاسم واحد مبتدأ، والأسد خبر الابتداء، كما تقول: بنو أبي عبد الله حمزة الظريف، منطلقون.
يقول: إن محطة جدهم، هو الأسد، وبنوه الأسود، إذ أولاد الأسود تكون أسوداً، ثم فصل بينهم وبين الأسد الحقيقي، الذي هو من البهائم، وبين أن رماحهم قائمة لهم مقام الأجم للأسود.
قوم بلوغ الغلام عندهم ... طعن نحور الكماة لا الحلم
يقول: هم قوم لا يعدون فيهم بالغاً، إلا إذا طعن من نحور الشجعان، فأما مجرد الاحتلام، في ملابسة الحروب فلا يعدونه بلوغاً. ومثله لبعض العرب:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ... ولكن فتى الفتيان كل فتى بدا
كأنما يولد الندى معهم ... لا صغرٌ عاذرٌ ولا هرم
يقول: إنهم عرفوا بالجود، فكأنهم ولدوا على تركة أحدهم منه، سواء كان طفلاً، أو شيخاً، فلا يعذرهم صغرهم ولا كبرهم.
إذا تولوا عداوةً كشفوا ... وإن تولوا صنيعةً كتموا
يقول: إنهم عادوا أظهروا العداوة لقوتهم وجرأتهم، وإن أعطو أحداً، أخفوا ذلك؛ ليكون أدل على الكرم وأبعد من الامتنان.
تظن من فقدك اعتدادهم ... أنهم أنعموا وما علموا
يقول: تظن أيها المخاطب من قلة اعتدادهم بالنعم وامتنانهم بها، أنهم أنعموا غافلين، وما علموا بما أنعموا، ومثله لابن الرومي:
أيها السيد الذي لا تنفك ... ك أياديه عندنا موصولة
فهي معروفة لدينا وإن كا ... نت لديه مجحودة مجهولة
إن برقوا فالحتوف حاضرةٌ ... أو نطقوا فالصواب والحكم
برقوا: أي أوعدوا، أو برق: إذا لمع.

يقول: إن أوعدوا أعداءهم فهلاكهم حاضر مقرون به، وإن نطقوا فجميع كلامهم صواب وحكم وقيل: أراد بقوله: برقوا، أنهم إن لمعوا في الدروع والبيض عند الحرب، قتلوا أعداءهم فيكون كقوله:
ويحمل الموت في الهيجاء إن حلو
أو حلفوا بالغموس واجتهدوا ... فقولهم: خاب سائلي القسم
اليمين الغموس: التي تغمس صاحبها في الإثم. وفي الحديث اليمين الغموس تدع الديار بلاقع ومثله للطائي:
وبلاقعاً حتى كأن قطينها ... حلفوا يميناً بالهلاك غموسا
يعني: كأن سكان الأطلال حلفوا يميناً غموساً، فعوقبوا، بكون ديارهم بلاقع.
وقولهم مبتدأ، وخاب سائلي في موضع النصب لأنهم مفعول وقع عليهم قولهم والقسم خبر الابتداء.
يقول: إنهم إذ حلفوا واجتهدوا في اليمين، فأعظم يمينهم أن يقول: خاب سائلي إن فعلت كذا. ومثله قول الآخر:
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
أو ركبوا الخيل غير مسرجةٍ ... فإن أفخاذهم لها حزم
يقول: إذا ركبوا الخيل غير مسرجةٍن شدوا أفخاذهم عليها فتجري أفخاذهم مجرى الحزم؛ لثباتهم في الفروسية واعتيادهم ركوب الخيل.
أو شهدوا الحرب لاقحاً أخذوا ... من مهج الدارعين ما احتكموا
اللاقح: الشديد.
يقول: إذا حضروا الحرب في حال شدتها، أخذوا من نفوس المعلمين ما احتكموا، أو أرادوا.
تشرق أعراضهم وأوجههم ... كأنها في نفوسهم شيم
الأعراض: الأجسام وما يذكر به الرجل من مدح أو ذم.
يقول: أجسامهم ووجوههم مضيئة كشيم نفوسهم، فكأنها أخلاق أنفسهم في الإضاءة والخلوص من الشوائب. ومنه قول الآخر:
أضاءت لهم أجسامهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
لولاك لم أترك البحيرة وال ... غور دفىءٌ وماؤها شبم
البحيرة: تصغير البحر في الأصل، وإنما أنث لأنه أراد به: بحيرة الشام وطبرية، والهاء فيه لازمة له؛ لأنه اسم هذا الموضع وصار علماً كحمزة وطلحة. والغور موضع بالشام. وقيل معناه: لولاك لم أترك البحيرة ولم أترك ماءها البارد، وكذلك لم أفارق الغور؛ مع أنه مكان طيب دفىء، وإنما فارقت هذه المواضع؛ مع أنها طيبة لأجلك. وقيل: الغور موطن الممدوح فيقول: لولا قصدك لم أترك البحيرة، وهي طيبة، وماؤها عذب، ولم أقصد الغور، مع أنه دفىء خالٍ من الطيب، لكن فضلك وكرمك وحبي لك، حملني على ذلك.
والموج مثل الفحول مزبدةٌ ... تهدر فيها وما بها قطم
الموج: قد يكون واحداًن اسم للجنس، وقد يكون جمع موجة، ولهذا شبهه بالفحول، والمزبدة: التي حصل لها زبد، وهو الفقاعة التي تكون فيه، إذا ضربته الريح، وتهدر: أي تصوت، والهاء في ما بها: للموج. أنثها لتأنيث الجماعة، والقطم: شهوة الضراب. شبه موج البحيرة في اضطرابه، بالفحول إذا هاجت.
يقول: إن موجها مثل الفحول، مزبدة مصوتة، فكأنها فحول هائجة للضراب، غير أنها ليس لها شهوة الضراب.
والطير فوق الحباب تحسبها ... فرسان بلق تخونها اللجم
حباب: الماء طرائقه. وفرسان بلق: أراد به الخيل البلق، شبه بياضها ببياض الماء، وسوادها بالسواد الي يحصل من ظلمة اضطراب الموج، وشبه تصرف الموجة على غير مراد الطائر، بالخيل عند انقطاع لجمها.
يقول: إن الطير فوق حباب هذا الموج، في أنه يمضي بها يميناً وشمالاً على غير فقد منها، كأنها فرسان خيل بلق، قد خانتها اللجم بالانقطاع. شبه الزبد بالخيل البلق؛ لأنه أبيض يابس يضرب إلى الخضرة.
كأنها والرياح تضربها ... جيشا وغىً: هازمٌ ومنهزم
الهاء في كأنها: للبحيرة، أو للموج الذي هو جمع موجة، أو للطير. شبه أحد هذه الأشياء، إذا ضربتها الريح بجيشين: أحدهما هازم، والآخر منهزم.
كأنها في نهارها قمرٌ ... حف به من جنانها ظلم
شبه البحيرة وصفاء سمائها، بالقمر. وشبه الجنان، بشدة خضرتها. والمناسبة للسواد بظلم الليل. وقوله: في نهارها قمر: تشبيه بديع، وهو أن يجتمع الليل والقمر في النهار، والغرض وصف مائها بالصفاء، وبساتينها بالخضرة.
ناعمة الجسم لا عظام لها ... لها بناتٌ وما لها رحم

يقول: هذه البحيرة ناعمة الجسم؛ لأنها ماء، ولا شيء ألين من الماء. وقوله: لها بنات. أراد به: السمك الذي فيها، وليس لها رحم، وقيل: أراد به السفن. والأول أليق.
يبقر عنهن بطنها أبداً ... وما تشكى ولا يسيل دم
يبقر: أي يشق، وعنهن: أي عن البنات. وتشكى: أصله تتشكى فحذف إحدى التاءين.
يقول: يشق بطن هذه البحيرة عن بناتها التي هي السمك، أي يصطاد منها السمك، ولا تشتكي من ذلك ولا تتألم ولا يسيل منها دم، وإن حملناها على السفن، فمعناه أي يشق بطنها عن هذه السفن، وعلى الأول قول ابن الرومي:
بنات دجلة في فنائكم ... مأسورة في كل معترك
تغنت الطير في جوانبها ... وجادت الروض حولها الديم
جادت: مطرت عليها مطر الجود.
يقول: الطير تتغنى في جوانب هذه البحيرة، والرياض التي حولها مهتزة، والديم فاعل جادت مفعولها الروض.
فهي كماويةٍ مطوقةٍ ... جرد عنها غشاؤها الأدم
الماوية: المرآة. وغشاؤها: رفع لأنه اسم ما لم يسم فاعله. والأدم: بدل من الغشاء. شبه هذه البحيرة بالمرآة، ورياضها حولها بالطوق الذي يكون حول المرآة، وقيل شبهها في استدارتها بالمرآة، ورياضها حولها بالطوق الذي يكون حول المرآة، وقيل شبهها في استدارتها بالمرآة المطوقة. وقوله: جرد عنها غشاؤها الأدم. قيل: حشو لإتمام البيت، لا فائدة فيه. وقيل: أراد توكيد صفائها، فكأنه قال: كأنها مرآة مطوقة ساعة ما تجرد من غشائها. كما يقال: هذا ثوب حل من الورقة. وقوله الأدم: قيل مع هذا، إنه لا فائدة له. والأولى: أنه بدل.
يشينها جريها على بلدٍ ... يشينه الأدعياء والقزم
الكناية في يشينها: للبحيرة. وفي يشينه: للبلد. والقزم: سقاط الناس، ورذلهم.
يقول: ليس لهذه البحيرة عيب، غير أنها تجري في بلدٍ أهله سقاط.
فقد اشتمل البيت على مدح البحيرة ومدح البلد الذي تجري عليه، وذم أهله.
أبا الحسين استمع فمدحكم ... في الفعل قبل الكلام منتظم
يقول: إن أفعالكم تمدحكم وتثني عليكم، فمدحكم منتظم في أفعالكم، قبل مدح المادحين إياكم بالكلام والشعر. أي شيمكم تمدحكم.
وقد توالى العهاد منه لكم ... وجادت المطرة التي تسم
العهاد: مطر. جمع عهدة، والوسمى: هي المطرة في أول السنة. والهاء في منه: قيل للممدوح. وقيل للممدوح الذي جرى في البيت الذي قبله.
يقول: على الأول مخاطباً لقبيلة الممدوح، قد توالى من هذا الممدوح لكم الإحسان، وكساكم الثناء، فأحسن إليكم، وحسن حالكم به كما تحسن الأرض حين يسمها المطر بالنبات. وعلى الثاني يقول: قد توالى مدحكم كتوالي العهاد بعضها في إثر بعض، وجادت بمدحكم المطرة التي تسم الأرض بالنبات. شبه. مدحه لهم بالأمطار المتواترة.
أعيذكم من صروف دهركم ... فإنه في الكرام متهم
يقول: أعيذكم بالله من صروف الدهر، فإنكم كرام، وهو متهم بالإساءة إلى الكرام، ولا يؤمن على قصده إياكم بالمكاره.
وقال يمدح المغيث بن علي بن بشر العجلي:
دمعٌ جرى فقضى في الربع ما وجبا ... لأهله وشفى أنى؟ ولا كربا
أنى: بمعنى كيف؟ أو من أين؟ وكرب: أي قارب.
يقول: دمعي جرى في ربع المحبوبة، فقضى لأهله ما وجب لهم من الحق، وشفاني من وجدي، ثم رجع عما أعطى فقال: أنى ولا كربا؟ أي كيف أنه قضى الواجب وشفى الوجد، وهو لم يفعل ذلك؟! لأنه قارب أن يفعل ما هو شفائي وقضاء بحقهم ومثله قول الآخر:
قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم
عجنا فأذهب ما أبقى الفراق لنا ... من العقول وما رد الذي ذهبا
يقول: عطفنا على هذا الربع، وقد كان الفراق قد أبقى بعض عقولنا، طمعاً في أن يرده علينا فأذهب الربع هذه البقية، وما رد الذي أذهبه الفراق!
سقيته عبراتٍ ظنها مطراً ... سوائلاً من جفونٍ ظنها سحبا
فاعل ظنها في الموضعين: ضمير الربع. والهاء في الأولى: للعبرات. وفي الثانية: للجفون.
يقول: سقيت هذا الربع دموعاً سائلاتٍ من جفوني، حتى ظن الربع أن هذه العبرات مطراً، وأن جفوني سحبٌ ماطرة: وهي جمع سحاب.
دار الملم بها طيفٌ تهددني ... ليلاً فما صدقت عيني ولا كذبا
الإلمام: زيارة الطيف. والألف واللام في الملم بمعنى: التي.

يقول: هذا الربع. دار المرأة التي ألم بها طيف خيالها، ألم بها ليلاً، ويهددني الطيف بالهجران، على ما جرت به عادة المرأة تعذب بالدلال، وتهدد بالهجران، فما صدقت عيني في الرؤيا؛ لأنها أرتني ما لا حقيقة له! ولا كذب الطيف بالتهدد؛ فإنه قال: لأهجرنك. فأصبحت والهجران واقع!
ناءيته فدنا، أدنيته فنأى ... جمشته فنبا قبلته فأبى
روى: نأيته، وأنأيتة. أي أبعدته، وروى: ناءيته: أي نأيت عنه فحذف الجر عنه والتجميش: المغازلة، فنبا: أي ارتفع وجفا.
يقول: كلما أردت من الطيف أمراً قابلني بضدة، فلما بعدت عنه، قرب مني، ولما قربته بعد، ولما غازلته ومازحته، قابلني بالجفاء، ولما قبلته، قابلني بالإباء؛ لأن خلقها لما كان لا يستمر على حال واحدة، كذلك الخيال يجري على هذا المثال. وهو كقول الشاعر:
صدت وعلمت الصدود خيالها
والأصل فيه قول الآخر:
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها ... وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
هام الفؤاد بأعرابيةٍ سكنت ... بيتاً من القلب لم تمدد له طنبا
الطنب: الحبل الذي يشد به الخيمة. قوله: هام أي تحير وأصابه الجنون من العشق.
يقول: هام قلبي بأعرابية سكنت من القلب بيتاً ليس له أطناب وأوتاد، بخلاف بيوت أهل البادية. وقيل: إن معناه أنها ملكت فؤادي بلا مشقة، فكانت كمن سكن بيتاً لم يتعب في شد أطنابه.
مظلومة القد في تشبيهه غصناً ... مظلومة الريق في تشبيهه ضربا
الضرب: العسل الثخين، وقيل: هو الشهد.
يقول: من شبه قدها بالغصن، فقد ظلمها؛ لأن قدها أحسن وأقوم، ومن شبه ريقها بالعسل، فقد ظلمها؛ لأنه أطيب وأحلى منه. وإنما قال ذلك: لأنه وضع التشبيه في غير موضعه.
بيضاء تطمع فيما تحت حلتها ... وعز ذلك مطلوباً إذا طلبا
ما تحت حلتها: يعني جسمها. وقوله: بيضاء إشارة إلى أنها مخدرة منعمة، لا تبرز للشمس، ولا تكد في العمل، وإشارة إلى نقائها من الدنس والريب، بل هي عفيفة ترد يد طالبها عنها.
يقول: هي تطمعك في نفسها بلين كلامها، فإذا طلبتها وجدتها أعز مطلوب. ومثله قول الآخر:
يحسبن من لين الحديث زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام
كأنها الشمس، يعيى كف قابضه ... شعاعها ويراه الطرف مقتربا
يقول: كأنها من قربها وبعد منالها الشمس، فإنك ترى شعاعها قريباً منك، فإن أردت أن تقبض عليه، لم يمكنك! فكذلك هذه المرأة. ومثله قول أبو عينية:
فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءها ... قريب ولكن في تناولها بعد
ومثله للآخر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... سوى ذكرها كالقابض الماء باليد
مرت بنا بين تربيها فقلت لها: ... من أين جانس هذا الشادن العربا؟
الشادن: الغزال إذا كبر.
يقول: مرت بنا هذه الجارية بين جاريتين متساويتين في السن حياءً من أن تمر بنا وحدها، فاستخفت بهما، فعرفتها لفضل حسنها فقلت لها: أنت غزال فكيف شابه الغزال العرب؟! أو كيف اجتمع الغزال مع العرب؟؛ لأنها غزال والتربان من العرب
فاستضحكت ثم قالت: كالمغيث يرى ... ليث الشرى وهو من عجلٍ إذا انتسبا
فاستضحكت: أي ضحكت. والشرى: موضع ينسب إليه الأسود.
يقول: لما قلت لها، من أين جانس هذا الشادن العرب؟! ضحكت من قولي. وقالت: هذا ليس ببعيد؛ كما أن المغيث يرى كأنه ليث الشرى وهو مع ذلك من بني عجلٍ، فكذلك أنا.
جاءت بأشجع من يسمى وأسمح من ... أعطى وأبلغ من أملي ومن كتبا
التأنيث في جاءت: يرجع إلى عجل؛ لأنه قبيلة. والأولى أنه فعل الأعرابية.
يقول: جاءت هذه المرأة أو هذه القبيلة بأشجع من يدعى ويسمى من الناس وأسخاهم وأبلغهم في الإملاء والكتابة. يصفه بالشجاعة، والسخاء، والبلاغة، يداً ولساناً.
لو حل خاطره في مقعدٍ لمشى ... أو جاهلٍ لصحا أو أخرس خطبا
يقول: إن خاطره لو حل في زمن أزال عنه زمانته حتى يمشي، ولو حل في جاهل لصحا من جهله، ولو حل في أخرس لصار خطيباً بليغاً.
إذا بدا حجبت عينيك هيبته ... وليس يحجبه سترٌ إذا احتجبا
يقول: إنه إذا ظهر للناس من الحجاب، حجبت عينيك هيبته فلا تقدر أن تنظر إليه لجلالته، فكأنه محتجب، وهو كما قال الفرزدق:

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... يخضع الرقاب نواكس الأبصار
وقوله: ليس يحجبه سترٌ إذا احتجبا. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا احتجب يطلع على ما غاب من أحوال الناس فلا يخفى عنه شيء فكأنه غير محتجب.
والثاني: أنه إذا احتجب لا يمكنه ذلك، لأن نور وجهه ينم عليه ويخرق الحجاب إليه. وهي كقوله:
أصبحت تأمر بالحجاب لخلوةٍ ... هيهات لست على الحجاب بقادر
والثالث: أراد أنه ليس بشديد الاحتجاب، فمن أراد الدخول عليه لا يصعب عليه رؤيته، وإن كان محتجباً؛ لتواضعه.
بياض وجهٍ يريك الشمس حالكةً ... ودر لفظٍ يريك الدر مخشلبا
المخشلب الرديء من الدر، وقيل هو الخرز الأبيض الذي يشبه اللؤلؤ. ليس بعربي؛ لكنه. استعمله على ما جرت به عادة العامة في الاستعمال واسمه في اللغة الخضض.
يقول: لو قست الشمس إلى بياض وجهه، لرأيتها سوداء حالكة! ولو قست لفظه بالدر كان بالنسبة إليه كالرديء الذي لا قيمة له! ووصفه بغاية الحسن والفصاحة.
وسيف عزمٍ ترد السيف هبته ... رطب الغزار من التامور مختضبا
هبة السيف: حركته. وغرار السيف: ما بين حده إلى وسطه. والتامور: دم القلب.
قيل في معناه وجهان: أحدهما يقول: إن له سيف عزم متى تحرك كان أمضى من السيف، الذي هو رطب الغرار من دم القلب. والثاني: أراد أنه متى تحرك عزمه خضب سيفه من دم قلب عدوه، فكأن سيفه لا يقتل إلا عند إمضاء عزمه فيهم.
عمر العدو إذا لاقاه في رهجٍ ... أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا
قوله: إذا وهب قال ابن جنى: يعني أنه إذا أراد أن يهب؛ لأنه إذا وهب الشيء فليس يملكه كقوله جل وعلا: " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله " . أي أردت قراءته.
يقول: إن عمر عدوه إذا لاقاه في الحرب، أقل من عمر ما يحويه من الال، إذا أراد هبته، فيكون عمره أقصر بقاءً من المال في يده. وقيل أراد بقوله: إذا وهب إزالة الهبة؛ لأن عمر ما يحويه لا ينقطع إلا بالهبة دون الإرادة.
توقه؛ فإذا ما شئت تبلوه ... فكن معاديه أو كن له نشبا
نصب تبلوه بإضمار أن وتقديره: أن تبلوه. فحذف أن وأبقى عملها.
يقول لصاحبه: احذر هذا الرجل؛ فإن لم تثق بقولي وأردت اختباره فكن عدوه، أو ماله، لترى ما يفعل بك من الإبادة والإفناء؛ لأن عادته إهلاك أعدائه وتفريق ماله.
تحلو مذاقته حتى إذا غضبا ... حالت فلو قطرت في الماء ما شربا
المذاقة: الذوق، ويجوز أن يكون طعم الشيء المذوق. وحالت: التأنيث للمذاقة وجعل المذاقة مما يقطر اتساعا، أي لو كانت مما يقطر فقطرت في الماء لم يشرب.
يقول: هو في حال الرضى، حلو الأخلاق، فإذا تغيرت لغضبٍ عادت حلاوته مرارة، بحيث لو كانت مما يقطر فقطرت في الماء لم يشربه أحد لمرارته.
وقد عيب هذا البيت من جهة التصريع لأنه لا يستعمل إلا في أول القصيدة لا في حشوها إلا عند الخروج من قصةٍ إلى قصة أخرى. وأجيب بأن هذا هو الأكثر وقد جاء مثل ذلك كما قال الآخر في أثناء التشبيب:
ألا نادٍ في آثارهن الغوانيا ... سقين سهااً ما لهن وماليا؟
وتغبط الأرض منها حيث حل به ... وتحسد الخيل منها أيها ركبا
أيها: منصوب بتحسد لا بركب لأنه صلة، والصلة لا تعمل إلا في الموصول.
يقول: إذا حل في مكان من الأرض غبطها سائر المواضع لكونه فيها؛ لما نالها من الشرف والفخر، فتتمنى سائر البقاع حصول هذا الشرف بحلوله فيها، وكذلك إذا ركب فرساً حسدته جميع الخيل لما يحصل لمركوبه من الشرف، فتتمنى أن يتحول هذا الفخر إليها بركوبه إياها. ومثله لأبي تمام:
مضى طاهر الأثواب لم تبق بقعةٌ ... غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
ولا يرد بفيه كف سائله ... عن نفسه ويرد الجحفل اللجبا
الجحفل: الجيش العظيم. واللجب: الشديد الصوت.
يقول: إذا جاءه السائل لا يرده بقوله ولا ينهره، وهو مع ذلك يرد الجيش العظيم بكلمة تهديد تخرج من فيه. وإنما قال: لا يرد بفية إشارة إلى أنه لا يرده خائباً بقوله: لا ولكن يرده بالعطاء. ومنه قول الآخر:
لنا جانبٌ منه دميثٌ إذا ... رامه الأعداء ممتنعٌ صعب
وكلما لقي الدينار صاحبه ... في ملكه افترقا من قبل يصطحبا

أراد: من قبل أن يصطحبا. فحذف أن وأعملها والهاء في صاحبه للدينار.
يقول: كلما لقي الدينار في ملكه ديناراً آخر مثلة وهو المراد بقوله صاحبه افترق الدينار من قبل إتمام صاحبه للصحبه بينهما: بأن يهب أحدهما لواحدٍ والآخر لآخر.
وقد عيب البيت من جهة المناقضة لأنه قال: لقي الدينار صاحبه فأثبت بينهما المصاحبة، ثم نفاها. بقوله: قبل أن يصطحبها. والجواب: أنه أراد بالاصطحاب: أي يفترقان قبل استدامة الصحبة بينهما. فلا مناقضة فيه. ومثله قول الآخر:
لا يألف الدرهم المضروب خرقتنا ... لكن يمر عليها وهو منطلق
مالٌ كأن غراب البين يرقبه ... فكلما قيل: هذا مجتدٍ، نعبا
نعب الغراب: إذا صاح ومد عنقه، فإن قدها قيل: نعق.
يقول: له مال كأن غراب البين ينتظره! فإذا رأى طالب المعروف نعب في ماله، فيفرق شمله، كما يفرق شمل الأحباب عند صياحه. وقيل: أراد أن الغراب لا يفتر من الصياح، فكذلك هو في العطاء.
بحرٌ عجائبه لم تبق في سمرٍ ... ولا عجائب بحرٍ بعدها عجبا
الهاء في بعدها: راجعة إلى العجائب الأولى.
يقول: هو بحر ذو عجائب، تزيد على عجائب البحر، وسائر العجائب التي تحكى في الأسمار، فلم تبق عجائبه في حديث الأسمار ولا عجائب البحار بعدها عجباً.
يعني: العجائب التي تذكر في الأسمار وعجائب البحار بالإضافة إليه كلاشيء.
لا يقنع لبن عليٍّ نيل منزلةٍ ... يشكو محاولها التقصير والتعبا
لا يقنع: أي لا يرضى، وابن عليٍّ مفعوله، والفاعل: نيل منزلة، والهاء في محاولها: للمنزلة.
يقول: إنه إذا وصل إلى منزلة صعبة يقصر عنها من يطلبها، فإنه لا يرضى بها وطلب منزلة أعلى منها، وإن كانت بحيث يشكو طالبها قصوره عنها وتعبه فيها.
هز اللواء بنو عجلٍ به فغدا ... رأساً لهم وغدا كلٌّ له ذنبا
هز: أي حرك.
يقول: إن بني عجل حركوا لواءهم بسببه ومكانه، فجعلوه أميراً لهم، فرفعوا لواءهم فوقه، فأصبح هو سيدهم، وصاروا أذناباً له وأتباعاً. وقيل: إنه أراد أنه صار الناس أذناب بني عجل بقوته، فهم سادة الناس وهو سيدهم.
التاركين من الأشياء أهونها ... والراكبين من الأشياء ما صعبا
نصب التاركين، والراكبين: على المدح كأنه قال: أمدح التاركين.
المعنى: أنهم يتركون من الأمور ما هو سهل، ويفعلون ما هو أصعب على غيرهم؛ لفضل قوتهم وشجاعتهم. وهذا من قول الآخر:
ولا يرعون أكناف الهوينى ... إذا حلوا ولا روض الهدون
مبرقعي خيلهم بالبيض متخذي ... هام الكماة على أرماحهم عذبا
هذا أيضاً نصب على الحال، وحذف النون للإضافة. والعذبا: جمع عذبة، وهي الخرقة التي تشد على رأس الرمح.
يقول: إنهم قد برقعوا خيلهم بالسيوف؛ أي حفظوها بسيوفهم من الأعداء، فكأنهم غطوها بالسيوف، وجعلوها مكان البراقع. وقيل: أراد أنهم جعلوا برقعها سيوف الضرب بوجوهها فيقع موقع البراقع منها، وكذلك جعلوا رءوس أعدائهم الشجعان، على رماحهم، بدل الخرق التي تشد عليها. وقيل: أراد شعر الهام. ومثله قول مسلم:
تكسو السيوف نفوس الناكثين به ... وتجعل الهام تيجان القنا الذبل
إن المنية لو لاقتهم وقفت ... خرقاء تتهم الإقدام والهربا
خرقاء: أي متحيرة فزعة ولاقتهم: أي حاربتهم.
يقول: إن الموت لو لقيهم في الحرب لبقي متحيراً لا يدري القوم فلا يأمن في نفسه أحد الأمرين ومثله لأبي تمام:
شوسٌ إذا خفقت عقاب لوائهم ... ظلت قلوب الموت منهم تخفق
مراتبٌ صعدت والفكر يتبعها ... فجاز وهو على آثارها الشهبا
الشهب: الكواكب المضيئة. قوله: فجاز أي الممدوح. قيل أراد جاز هذا الممدوح على آثار هذه المراتب ولم يبلغها، وقيل الفكر على آثارها ولم يبلغها.
يقول: إن الممدوح له مراتب تصعد، والفكر من الناس يتبعها، ولم يلحقها بعد.
وقيل: أراد أن لهم مراتب تبعها الفكر ليبلغ إلى محلها، فجاز الفكر الشهب، وهو بعد في آثار تلك المراتب ولم يصل إليها!
محامدٌ نزفت شعري ليملأها ... فآل ما امتلأت منه ولا نضبا
نزفت: أي أنزفت. ونضب: أي فني من قولهم: نضب الماء. إذا جف. وقوله: ليملأها أي ليملأ شعري تلك المحامد.

المعنى: لهذا الممدوح، أو لقومه محامدٌ ومفاخر، قد استفرغت شعري في وصفها ليملأها شعري، فآل عن أجزاء ما امتلأت المحامد منه، ولا فني شعري أيضاً فأنا أبداً أمدحهم، فلا شعري ينفد، ولا هو يبلغ كنه وصفهم.
مكارمٌ لك فت العالمين بها ... من يستطيع لأمرٍ فائتٍ طلبا
فت: أي سبقت.
يقول: لك مكارم سبقت جميع الخلق بها فلم يدركوا فيها شأوك، ولا يقدر أحد على رده ولا طلبه.
لما أقمت بأنطاكية اختلفت ... إلي بالخبر الركبان في حلبا
أنطاكية على مسيرة يومين من حلب.
يقول: لما أقمت بأنطاكية تزودت الركبان بالخبر من عندك، وأنا بحلب، فذكروا وصولهم إلى النعم الجزيلة والأيادي الجميلة.
فسرت نحوك لا ألوي على أحدٍ ... أحث راحلتي: الفقر والأدبا
نصب الفقر والأدب؛ لأنهما بدل من راحلتي.
يقول: لما عرفت الحال سرت نحوك غير ملتف إلى أحد من الناس دونك، وحثثت نحوك راحلتين: وهما الفقر والأدب، لتزيل عني الفقر وتشرفني بالإكرام لأجل الأدب.
أذاقني زمني بلوى شرقت بها ... لو ذاقها لبكى ما عاش وانتحبا
الانتحاب، والنحيب: تردد البكاء في الصدر، والهاء في بها وذاقها: للبلوى. وبكى، وعاش، وانتحب: فعل الزمن.
يقول شاكياً من زمانه: إنه أذاقني من بلاه ومحنه ما نشب في حلقي فشرقني، ولو ذاق الزمان ما أذاقني، لبكى وانتحب ما عاش!
وإن عمرت جعلت الحرب والدةً ... والسهمري أخاً والمشرفي أبا
يقول: إن طال عمري جعلت الحرب والدتي؛ فأعتني بأمرها كما يعتني الرجل بأمر والدته، والرمح أخاً والسيف أبا: يعني لازمت الحرب، والرمح والسيف، كما يقال: فلان ابن بجدة هذا الأمر، وفلان أخو فلوات، وأراد: في إدراك ثأري من الزمان وأهله.
بكل أشعث يلقى الموت مبتسما ... حتى كأن له في قتله أربا
الأرب: الحاجة. وبكل رجل أشعث: أي أغبر معاودٍ للحرب، يلقى الموت وهو ضاحك، حتى يظن أن له حاجةً في أن يقتل. والمراد بالموت: علاماته. ومثله لأبي تمام:
يستعذبون مناياهم كأنهم ... لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا
قحٍّ يكاد صهيل الجرد يقذفه ... عن سرجه مرحاً بالعز أو طربا
القح: الخالص من كل شيء، والجرد: جمع أجرد، وجرداء: وهو القصير الشعر، وقيل: هو الذي يتجرد من الخيل ويسبقها.
يقول: بكل أشعث خالص في نسبه عربي يكاد يرميه صهيل الخيل عن سرجه مرحاً وشوقاً إلى الحرب، سروراً بالموت.
الموت أعذرلى، والصبر أجمل بي ... والبر أوسع، والدنيا لمن غلبا
يقول: إن الموت يعذرني إذا قتلت شوقاً إليه، والصبر أجمل بالحر من احتمال الضيم، والبر أوسع بمن يريد العز إن لم يكن في هذا الموضع يطلبه في موضع آخر، والدنيا لمن غلب. وجميع البيت مثل ضربه.
وقال أيضاً يمدحه ويذم الزمان:
فؤادٌ ما تسليه المدام ... وعمرٌ مثل ما يهب اللئام
فؤاد: خبر ابتداء محذوف، وتقديره: فؤادي فؤادٌ، وهذا فؤادٌ، وكذلاك في قوله: وعمرٌ. وما الأولى للنفي، والثانية: بمعنى الذي. واللئام: جمع لئيم، وهو من يجمع ثلاثة أحوال: البخل، ومهانة النفس، والدناءة في الأصل.
يصف بعد همته وعلو قدره وعزة مطلبه فيقول: إن فؤادي لا يغلبه شرب الخمر، ولا يسليه السكر عما يطلبه من الشرف والعلو، ولي عمرٌ منكدٌ منغص مثل هبة اللئيم التي تكون منغصة حقيرة؛ فلقصر عمر أخاف ألا أدرك مطلوبي وقيل غرضه في ذلك شكاية حاله، وضيق صدره، وقصر عمره، وتنغيص حياته، وإنه صار إلى حدٍّ لا يسليه الشراب. هذا مثل قصار الهمم، وإن كانوا طوال العمر.
ودهرٌ ناسه ناسٌ صغارٌ ... وإن كانت لهم جثثٌ ضخام
الجثث: جمع الجثة، وهي شخص الإنسان ما دام حياً جالساً أو نائماً، فإذا كان قائماً فهو قامة.
يذم أهل الدهر فيقول: إن الدهر دهرٌ، أو هذا دهرٌ، أهله صغار، ليس لهم همة مع عظم أجسامهم، التي هي مثل: جسم البغال وأحلام العصافير وهذا مثل.
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن معدن الذهب الرغام
الرغام والرغام: التراب.

يقول: لست من هؤلاء الناس، وإن كنت أعيش فيما بينهم، بل جوهري يخالف جوهرهم وطباعي تنافي طباعهم، كما أن الذهب يتولد من التراب، ومع ذلك جوهره يخالف جوهر التراب. شبه نفسه بالذهب وسائر الناس بالتراب. ومثله قوله: فإن المسك بعض دم الغزال ومثله: فإن في الخمر معنىً ليس في العنب ومثله: فإنك ماء الورد إن ذهب الورد
أرانب غير أنهم ملوكٌ ... مفتحةٌ عيونهم نيام
يقول: هؤلاء أرانب في الحقيقة، غير أنهم ملوك! فجعلهم أرانب، واستعار لهم اسم الملوك وهو عكس ما يقال: هم ملوكٌ في صورة الأرانب، وقد فتحوا عيونهم وهم مع ذلك كأنهم نيام لجهلهم. ومثل هذا قول الشاعر:
وخبرني البواب أنك نائم ... وأنك إذا استيقظت أيضاً فقائم
وإنما شبههم بالأرانب؛ لأنها إذا نامت لا تطبق أجفانها فشبههم بها لهذه العلة، وما لها من الضعف والخسة ودناءة الأصل والقدر، وقوله: غير أنهم ملوك أي رفع زمنهم قدرهم ودانت لهم الدنيا، والمراد به ذم الزمان وأهله.
بأجسامٍ يحر القتل فيها ... وما أقرانها إلا الطعام
يحر: من الحرارة، أي يسرع ويشتد؛ لخسة شجاعتهم.
يقول: إن هذا الدهر، أهله لشرههم بالطعام لا يموت أكثرهم إلا عن التخمة، فكأن الذين يقاتلونهم بالفراغ من الطعام لأنهم لا يموتون أكثرهم إلا بأكلها، فهي أقرانهم دون الرجال. وهذا مثل.
وخيلٍ ما يخر لها طعينٌ ... كأن قنا فوارسها ثمام
الثمام: نبتٌ ضعيف ورقه مثل خوص النخل.
يقول: إنهم لضعفهم إذا طعنوا فارساً، لا يسقط عن ظهر فرسه، فكأن رماحهم من شجر الثمام. شبهها به لضعفه وكون ورقة على شكل أسنة الرماح، فهو إشارة إلى ضعفهم وقلة شجاعتهم. وهذا مثل.
خليلك أنت لا من قلت خلى ... وإن كثر التجمل والكلام
الخليل والخل: هو الصديق. وسمي بذلك لمداخلة صديقه في جميع أموره وأحواله، ولأن حب كل واحد منهما يدخل في خلل صاحب قلبه، والتجمل: إظهار الجميل من القول وغيره.
يقول: ليس لك صديق في الحقيقة إلا نفسك، فأنت صديق نفسك، لا من تسميه خليلاً، وإن كثرت مجاملته، وأظهر لك الود بالكلام. ومثله للآخر.
كل النداء إذا ناديت يخذلني ... إلا ندائي إذا ناديت يا مالي
وهذا مثل.
ولو حيز الحفاظ بغير عقلٍ ... تجنب عنق صيقله الحسام
حيز: جمع. والحفاظ: مراعاة الحقوق والذمم. والحسام: رفع لأنه فاعل تجنب.
يقول: هؤلاء لا عقول لهم؛ فلذلك ليس لهم حفاظ بالعقل، فلو أمكن تحصيل الحفاظ من دون العقل، لتجنب السيف عنق الصيقل، الذي أرهف حده، وأظهر رونقه، وأبرز حسنه فكأنه إذا ضرب به لا يؤثر؛ لمحامات حرمته، ومراعات حقه.
وشبه الشيء منجذبٌ إليه ... وأشبهنا بدنيانا الطغام
الطغام والطغامة: الذي ليس له معرفة.
المعنى: أن الدنيا تميل إلى الأراذل؛ لخساسة قدرها كما يميل الشبه إلى شبهه، فكما أنها رذلة خسيسة، فهي أيضاً تنجذب إلى الخساس والأراذل؛ للتجانس بينهما. وهذا أيضاً مثل.
ولو لم يعل إلا ذو محلٍّ ... تعالى الجيش وانحط القتام
القتام: الغبار.
يقول: لو لم يعل ولم يرتفع، إلا من له محل وقدر، لكان يجب ألا يعلو الغبار مع أنه من جنس التراب على الجيش؛ لفضلهم ومالهم من التمييز والعقل ومثله:
قالت: علا الناس إلا أنت! قلت لها: ... كذاك يسفل عند الوزن من رجحا
وهذا مثل.
ولو لم يرع إلا مستحقٌّ ... لرتبته أسامهم المسام
الرعى هنا: السياسة. والأسامة: رعى المال، يقال أسام ماله فهو مسيم والمال مسام.
يقول: لو لم يقم برعاية الناس إلا من هو مستحق له، لوجب أن تكون الرعية هي الراعي، والأمير هو المرعي؛ لأن في الرعية من هو أشرف من هؤلاء الرعاة وهذا مثل.
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياءٌ في بواطنه ظلام
خبر واختبر: بمعنى جرب. والهاء في بواطنه للضياء.
يقول: من جرب النساء وعرفهن، وعرف ظاهرهن فإنه وإن كان ضياءً فباطنه ظلام وضلال.
إذا كان الشباب السكر، والشي ... ب هماً، فالحياة هي الحمام

يقول: إذا كان الإنسان شاباً فهو كالسكران، لكونه جاهلاً غافلاً. وفي حال المشيب في الحزن والهم والأسقام! فالحياة هي الموت في الحقيقة، إذ ليس له فيها راحة، فلا فرق بين حياته وموته، كأنه تنبيه وحث على ترك الغفلة، والنهوض لمعالي الأمور، في حال الشباب وهذا مثل أيضاً.
وما كلٌّ بمعذورٍ ببخلٍ ... وما كلٌّ على بخلٍ يلام
يعني: أن الكريم لا يعذر على بخله؛ لكرمه ولاتصال الآمال به. وإن بخل المعسر لا يلام، لأن فضله ومنزلته إنما هو بالمال. وهذا أيضاً مثل ضربه.
ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام
المقام: الإقامة.
يقول: لم أر من هو مثلي في الفضل، يقيم بين قوم لا يشاكلونه، لأنهم سفلة أخساء فمقامي فيما بينهم عجيب.
بأرضٍ ما اشتهيت رأيت فيها ... فليس يفوتها إلا الكرام
يقول: مقامي بأرضٍ مخصبة، فيها كل ما اشتهيت من أنواع النعم، وليس يفوت إلا الكرام تلك الأرض فإني لا أراهم فيها وإن كنت أشتهي ذلك.
فهلا كان نقص الأهل فيها ... وكان لأهلها منها التمام!
يقول: هلا كان هذا النقص الذي في أهل هذه الأرض في نفس الأرض، وكان التمام الذي فيها لأهلها، فيكون منها كرماً وفضلا.
بها الجبلان من فخرٍ وصخرٍ ... أنافا: ذا المغيث، وذا اللكام
يقول: هذه الأرض، فيها جبلان عاليان: أحدهما من فخر، وهو المغيث.
والثاني من صخر، وهو اللكام جعل الممدوح كالجبل قدراً.
وليست من مواطنه ولكن ... يمر بها كما مر الغمام
يقول: هذه الأرض ليست من مواطن المغيث؛ لخستها ودناءتها، مع شرفه وكرمه، ولكنه يمر بها ليحميها وينعم على أهلها، كما يمر الغمام بالأرض الجدبة فيحييها بالنبات. وقد استدرك ها هنا ما قال في قوله: فليس يفوتها إلا الكرام.
ثم قال: وبها الجبلان. فقال: وإن كان هذا الكريم فيها فليس هو من أهلها لأن أهلها لئام، وإنما يجتاز فيها كاجتياز السحاب.
سقى الله ابن منجبةٍ سقاني ... بدرٍّ ما لراضعه فطام
أنجبت المرأة: إذا ولدت نجيباً، فهي منجبة وابن منجبة هو الممدوح. والنجيب: الكريم السليم من العيوب.
يقول: سقى الله ابن منجبةٍ وهو الذي سقاني بدرٍّ وخير كثير، ما لراضعه فطام: أي لأن نعمته دائمة لا تنقطع، بل تتصل وتدوم.
ومن إحدى فوائده العطايا ... ومن إحدى عطاياه الدوام
روى: من وهي للممدوح وهو بدل من قوله: ابن منجبة. فتكون في موضع نصب. وروى: من فتكون للتبعيض.
يقول: له فائدة من فوائد العلا والجاه، فإذا أعطي عطية جعلها دائمة، والدوام بعض عطاياه المشكورة.
فقد خفي الزمان به علينا ... كسلك الدر يخفيه النظام
روى: به فيكون للممدوح. وروى: بها فيكون راجعاً إلى العطايا. وله معنيان: أحدهما: أن الزمان والشدائد صارت مغمورة مستورة بهذا الرجل وبعطاياه، لاشتمال هذا الرجل وعطاياه على الزمان وشدائده، فلا يظهر للزمان تأثير بالإضافة إليه وإلى عطاياه، كما أن الدر إذا نظم في السلك فإنه يخفي السلك ويستره لاشتماله عليه ولنفاسته.
والمعنى الثاني: أن قبح الزمان وخسة أهله صارت خافية بحسن كرمه وعطاياه.
يعني: أن كرمه صار جابراً لمعايب الدهر ومعايره. وهذا مثل.
تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام
المروءة: مصدر مرؤ، كالإنسانية. والغرام: قيل هو العذاب وأصله من المشقة.
يقول: إن المروءة لذيذة له مع أنها تؤذي صاحبها؛ لما فيها من تفريق المال وتحمل المشاق، فهو يلتذ بها لعشقه لها، كما أن العاشق يتلذذ بالغرام، وما يجد من ألم الشوق وحرق الهوى. وهذا أيضاً مثل.
تعلقها هوى قيسٍ لليلى ... وواصلها فليس به سقام
يقول: عشق هذا الممدوح المروءة، كما عشق قيس بن الملوح، الملقب بالمجنون لليلى العامرية، ولكنه واصل المروءة المعشوقة، فليس لها سقام العشق. مثل ما كان لقيس في عشق ليلى؛ لأن السقام إنما يكون من الهجر وعدم الوصال، فهو لما واصلها لم يجد السقام. وهذا أيضاً مثل.
يروع ركانةً ويذوب ظرفا ... فما يدري: أشيخٌ أم غلام!

ركانةً وظرفاً: نصب على التمييز. وقوله: أشيخ مبتدأ وخبره محذوف. وتقديره: أشيخ هو أم غلام؟ والجملة في موضع نصب بقوله: فما تدري، والركانة: الوقار والثبات.
يقول: إذا نظرت إليه راعك وقاراً وهيبة، وإذا راعيته راعك بظرفٍ وحسن خلق، فله ركانة الشيوخ وظرافة الأحداث.
وتملكه المسائل في نداه ... فأما في الجدال فما يرام
المسألة تستعمل في سؤال العطاء، وسؤال العلم، فلما أراد هاهنا سؤال العطاء، بين ما يزيل الشبهة فقال: تملكه مسائل السائلين، وإذا سألوه المال فلا يمكنه ردهم، فأما إذا سألوه مسائل العلم والجدال، فلا يرومه أحد. يمدحه بالسخاء والعلم.
وقبض نواله شرفٌ وعزٌّ ... وقبض نوال بعض القوم ذام
ويروى: وفيض نواله. وهو الأولى. والذام: العيب. يقول: أخذ نواله شرف لنا وعز، لكرمه وفضله وأخذ عطايا بعض القوم وهم سقاط: عيبٌ. ومثله:
عطاؤك زينٌ لامرىءٍ إن حبوته ... بخيرٍ وما كل العطاء يزين
أقامت في الرقاب له أيادٍ ... هي الأطواق والناس الحمام
الحمام: في أصل اللغة، عبارة عن كل طائر ذي طوق.
يقول: نعمه لازمة للناس، مثل الأطواق للحمام. فنعمه كالأطواق، والناس كالحمام وأخذ هذا بعض المتأخرين فقال.
ترك الناس حماما هتفاً ... بنداه تحت أطواق المنن
إذا عد الكرام فتلك عجلٌ ... كما الأنواء حين تعد عام
الأنواء: جمع نوء وهو سقوط نجم من منازل القمر في المغرب وطلوع رقيبه من المشرق يقابله وذلك في كل ثلاثة عشر يوماً، وبانقضائها تنقضي السنة.
يقول: إذا عد الكرام فهم بنو عجلٍ دون غيرهم، فكأن الكرام اسم لهم خاص، كما أن الأنواء تكون عاماً، فلا عام إلا ذو أنواءٍ وما الأنواء إلا نفس العام، فكما أن الأنواء لا تنفصل عن العام، كذلك الكرم لا يزايلهم.
تقى جبهاتهم ما في ذراهم ... إذا بشفارها حمى اللطام
تقى: أي تحفظ، وتمنع. وذراهم: ناحيتهم. والشفار: جمع الشفرة، وهي حد السيف والهاء في فيها: ضمير السيوف وإن لم يجر لها ذكر، وقيل: هو ضمير عجل. واللطام: كناية عن الضراب. وحمى: أي اشتد.
يقول: إن جباههم تصون وتدفع عن أموالهم وحريمهم، والحرم: المستجيرون في شدة المحاربة، وهو حين اشتداد حد السيوف للضراب.
ولو يممتهم في الحشر تجدو ... لأعطوك الذي صلوا وصاموا
يقول: لو قصدتهم يوم القفيامة مجتدياً معروفهم، لأعطوك صلاتهم وصيامهم: أي ثوابها مع شدة الحاجة إلى الطاعة في ذلك اليوم واختاروا لأنفسهم النار؛ كراهة رد المستميح، إذ ليس هناك أموال. وهذا مأخوذ من قول الآخر.
ولو بذلت أمواله جود كفه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته
ولو لم يجد في العمر قسماً لزائر ... لجاد له بالشطر من حسناته
فإن حلموا فإن الخيل فيهم ... خفافٌ والرماح بها عرام
العرام: الجهل والطيش.
يقول: إن كانوا حلموا حلم ذو رزانة وسكون، فخيلهم تخف ولا تحلم، وتسرع في العدو، وفي رماحه خفة ونزق، أي هم جهال في الحروب. ومثله للفرزدق:
أحلامنا تزن الجبال رزانةً ... ويزيد جاهلنا على الجهال
وعندهم الجفان مكللاتٌ ... وشذر الطعن والضرب التؤام
المكللات: التي أديرت عليها اللحم مثل الإكليل. وشزر الطعن: إذا كان عن يمين وشمال، وأراد بالتوام هنا: متابعة الضرب، مكان الواحد اثنان.
يقول: إنهم يقرون الضيف بالجفان المكللات باللحوم، ويطعنون أعداءهم شزراً في الحروب، ويضربونهم ضرباً متتابعاً، وهذا من قول حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما
نصرعهم بأعيننا حياءً ... وتنبوا عن وجوههم السهام
يقول: إذا سألناهم استحيوا من نظرنا إليهم، فكأنا صرعناهم فنأخذ منهم ما نسأله، وهم في الحروب لا يؤثر السلاح في وجوههم. يصفهم بالحياء عند المسألة والوقاحة عند الحرب. وحياءٌ: نصب على التمييز. وقول ليلى الأخيلية أبلغ من هذا وهو:
فتىً كان أحيا من فتاةٍ حييةٍ ... وأشجع من ليثٍ بخفان خادر
قبيلٌ يحملون من المعالي ... كما حملت من الجسد العظام

يقول: هم جماعة يتعاونون على القيام بالمعالي، ويحملونها كما تعاونت العظام على حمل الجسد، فقوام المعالي ونظامها بهم، كما أن قوام الجسد وثباته بعظامه وهذا مثل.
قبيلٌ أنت أنت، وأنت منهم ... وجدك بشرٌ الملك الهمام
تقديره: قبيل أنت منهم، وأنت منهم، وأنت أنت.
يقول: إن بني عجل قبيلة أنت منهم، وأنت أنت: أي أنت المشهور، ولك المحل العظيم. وهذا تفخيم لشأنه، وجدك المسمى: بشرٌ، منهم، وهو الملك الهمام. أي كفاهم شرف كونك وجدك منهم.
لمن مالٌ تمزقه العطايا ... ويشرك في رغائبه الأنام؟
الرغيبة: وهي المال النفيس. والرغائب: جمع الذي يرغب فيه.
يقول: ليس مال تفرقة العطايا ويشرك جميع الخلق في رغائبه غير مالك، وهذا مفهوم من الكلام؛ لأن من يدل عليه: فعلى هذا يكون البيت مستقلاً بنفسه، ويجوز أن يكون معنى البيت الذي يليه متصلاً به، فيكون فيه معنى التضمين.
ولا ندعوك صاحبه فترضى ... لأن بصحبةٍ يجب الذمام
يقول: أنت لا ترضى بأن تدعى صاحب المال الذي وصفته، لأن الصحبة مما توجب مراعاة حقه، وذلك يمنع من تفريقه. والمعنى الثاني: لمن المال الذي تفرقه العطايا، ويشرك فيه الناس، لا يدعوك صاحبه فترضى أنت به؛ لأنك إذا أقررت بأنك صاحبه فيلزمك حفظه.
تحايده كأنك سامريٌّ ... تصافحه يدٌ فيها جذام
تحايده: أي تتجنبه وتميل عنه إلى جانب آخر. والهاء ضمير المال. وفي تصافحه: يجوز أن تكون للمال، ويجوز أن يكون للسامري. والسامري يجوز أن يكون اسم السامري المذكور في القرآن، ويجوز أن يكون منسوباً إليه. وكل اسم في آخره ياء مشددة، إذا نسب إليه حذفت الياء منه، وألحقت به ياء النسبة، كما لو نسبت إلى كرسي، قلت: رجل كرسي. والجذام: الأكلة التي تقع في اليد.
يقول: إنك تتجنب من مالك، فكأنك السامري، الذي اتخذ العجل والال بمنزلة اليد الجذماء، والسامري لا تمسه يد فكيف الجذماء! لأن الله تعالى قال في حقه " لا مساس " والأولى أن المراد به المنتسبون إليه بالشام. وهم قوم من ولده يستقذرون الناس ولا يخالطونهم تعززاً منهم، ويغسلون ثيابهم إذا أصابهم الناس فيقول: إنك تتجنب أن تمس مالك فكأنك منتسب إلى هؤلاء القوم لأن السامري إذا كان يتجنب أن تمسه اليد السليمة، كان من اليد الجذماء أشد اجتناباً. والغرض: أنه يفرق ماله.
إذا ما العالمون عروك قالوا ... أفدنا أيها الحبر الإمام
عروك: أي قصدوك، وأتوك. والحبر: العالم.
يقول: العلماء إذا سألوك عن العلم واستفادوا منك قالوا: أفدنا أيها الإمام في العلم.
إذا ما المعلمون رأوك قالوا ... بهذا يعلم الجيش اللهام
المعلم: من جعل لنفسه علامة ليعرف بها، وتلك علامة الشجعان. واللهام: هو الجيش العظيم.
يقول: إن الشجعان إذا رأوك قالوا: بهذا يعلم الجيش. أي أنه ليس فيهم أشهر منه فكأنه قال: هو علامة الجيش وزعيم الجيش وفارسه المشهور.
لقد حسنت بك الأوقات حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام
وروى: في فم الزمن. يعني أن أوقات الزمان حسنت لكونك فيها، كما يحسن وجه الإنسان بالابتسام في الفم.
وأعطيت الذي لم يعط خلقٌ ... عليك صلاة ربك والسلام
يقول: إنك أعطيت ما لم يعط أحد من المخلوقين، فعليك صلاة الله تعالى، وهي الرحمة منه، وعليك سلامه، أي تحيته.

الجزء الثاني
وقال يمدح أبا الفرج أحمد بن الحسين القاضي المالكي:
لجنيةٍ أم غادةٍ رفع السجف! ... لوحشيةٍ؟ لا، ما لوحشيةٍ شنف
الشنف: ما يعلق في أعلى الأذن. والقرط ما يعلق على شحمة الأذن. والسجف: الستر، وهو جانب البيت. وقوله: لجنية أراد ألجنيةٍ؟ إلا أنه حذف ألف الاستفهام، لدلالة أم عليها يجوز أن تكون أم منقطعة، وتكون بمعنى بل وفي الكلام حذف تقديره: لجنية رفع السجف أم لغادة رفع السجف؟ فحذف من الجملة الأولى لدلالة الثانية.

ومعنى البيت على الخبر كأنه يقول مخبراً: لجنية رفع السجف ثم أضرب وقال: بل لغادة رفع السجف. بل قال: لا يرفع هذا الستر لجنية ولا لغادة بل رفع لوحشية، ثم رد على نفسه ذلك فقال: ما رفع لوحشية إذ ليس للوحشية شنف، فكأنه نفى أن يكون تشبيهه للمحبوبة بسائر ما شبه به النساء. ومعناها على الاستفهام، أنه نظر إلى محبوبته وقد رفع عنها ستر قبتها، فحيره حسنها، فلم يدر أجنيةٌ هي؟! أم غادة ناعمة؟ فقال: هذا الستر المرفوع لجنية أو غادة أو وحشية ثم استدرك فقال لو كانت وحشية لم يكن لها شنف.
نفورٌ، عرتها نفرةٌ فتجاذبت ... سوالفها والحلى والخصر والردف
نفور: أي تنفر عن الريبة. عرتها: أي أصابتها، وغشيتها. والسالف: مقدمة صحفة العنق، وجمعها سوالف.
يقول: هذه الجارية نفور فلئن رمقن طرفاً إليها، نفرت منا، فتجاذبت هذه الأشياء، لأن سوالفها كانت ناعمة، وحليها كان ثقيلاً والخصر كان دقيقاً، والردف كان ثقيلاً وما أشبه ذلك.
وخيل منها مرطها، فكأنما ... تثنى لنا خوطٌ ولاحظنا خشف
خيل: من التخيل، وهو الاضطراب، والفساد فكأنه قال: وأفسد، وفاعله المرط: وهو كناية عن الذي تلبسه نساء العرب مكان الإزار.
يقول: لما نظرنا إليها نفرت منا فتعثرت في مرطها فاضطرب عليها ثوبها. ثم شبهها في تلك الحالة بالغصن الرطب، وبالخشف فقال: كأنما تمايل لنا مرط بانٍ؛ لاعتدالها وحسنها وكأنما لاحظنا خشفاً لحسن عينيها وروى: ولاح لنا خشف.
زيارة شيبٍ وهي نقص زيادتي ... وقوة عشق وهي من قوتي ضعف
تقديره: أمري زيادة شيب، وأمري قوة عشق. فيكون خبر ابتداء محذوف. ويجوز أن يكون تقديره: شكواي زيادة عشق. ويجوز نصبه على إضمار فعل محذوف. أي أشكو زيادة شيب، ويمكن أن يكون المضمر هي تقديره: هي زيادة شيب.
يقول: شيبني الهوى فكلما زاد شيبي زاد جسمي نقصاً، وكلما قوي عشقي، ضعفت قوتي، فالزيادة نقصان، والقوة ضعف.
هراقت دمي من بي من الوجد ما بها ... من الوجد بي والشوق لي ولها حلف
الحف، والحليف: الصاحب المحالف الملازم.
يقول: سفكت دمي الجارية التي تحبني، مثلما أحبها، وبها من الوجد ما بي، والشوق لي ولها ملازم ومصاحب. والباء الأولى متعلقة بها، والثانية بالوجد.
ومن كلما جردتها من ثيابها ... كساها ثياباً غيرها الشعر الوحف
الشعر الوحف: هو الكثير الملتف الشديد السواد.
يقول: هراقت دمي من كلما عريتها من ثيابها، ألبسها الشعر الكثير ثياباً غير الثياب التي عريتها منها. ومثل هذا قول بكر بن النطاح.
بيضاء تسحب من قيام شعرها ... وتغيب فيه وهو جثل أسحم
وقابلني رمانتا غصن بانةٍ ... يميل به بدرٌ ويمسكه حقف
الحقف: الكثيب من الرمل المعرج. شبه ثدييها برمانتين وقدها بغصن البانة. وجعل الرمانتين على غصبن بانة، ليكون أعجب وأحسن؛ لأن البان لا يحمل الرمان. وشبه وجهها: بالبدر. وردفها: بالكثيب، وهذا من تمام قوله: هراقت دمي.
أكيداً لنا يا بين؟ واصلت وصلنا ... فلا دارنا تدنو ولا عيشنا يصفو
أكيداً؟ نصب على المصدر أي أتكيد كيداً.
يقول: يا بين، واصلت، وفرقت بيننا، فارتفع الوصل فكأنك كدتنا فتركتنا لا تدنو دارنا، ولا يصفو عيشنا، والكيد: اتصال الضرر بالغير من حيث لا يعلم.
أردد ويلي لو قضى الويل حاجةً ... وأكثر لهفي لو شفى غلةً لهف
روى: ويلي ولهفي على الإضافة إلى ياء المتكلم. وروى: ويلا ولهفا بالألف. وهي: إما بدل من الياء، وإما على الندبة.
ويل: دعاء للشر. واللهف: شدة الحزن. يقول: أردد هاتين الكلمتين على لساني، ومعناهما في قلبي، فلو نفع ذلك لنفعني، وقضى حاجتي، وشفى غلتي، فيكون على هذا جواب لو محذوفاً، ويجوز أن يجعل أردد فأكثر، فجواب لو تقديره: لو قضى الويل حاجةً، لكنت أردد الويل، ولو شفى اللهف غلة كنت أكثر ذكره.
ضنىً في الهوى كالسم في الشهد كامنٌ ... لذذت به جهلاً وفي اللذة الحتف
الشهد: العسل في الشمع. والضنى: الهزال والألم. والحتف: الهلاك.
يقول: الألم كامن في الهوى، كالسم إذا كمن في العسل، فيلتذ العاشق بالهوى، كالعسل الممزوج بالسم، يجد الإنسان حلاوته وفيه هلاكه.

فأفنى، وما أفنته، نفسي كأنما ... أبو الفرج القاضي له دونها كهف
يجوز في قوله: وما أفنته نفسي. تقديران.
أحدهما: أن ينصب نفسي بالفعل الأول. تقديره. فأفنى الضنى نفسي وما أفنته، فيكون الضنى فاعله، ونفسي مفعوله.
والثاني: أن ترفع نفسي بالفعل الثاني ما أفنته وتكون التاء مخبرة لتأنيث الفعل، ليست بضمير، وتحذف المفعول من الفعل الأول وهو المختار عند البصريين، لأن إعمال الثاني أولى لقربه من الاسم.
يقول: إن الضنى أفنى نفسي وأهلكها ولم تفنه نفسي، حتى كأن هذا الممدوح كهف الضنى دون النفس، فيمنع نفسي من أن تصل إليه. والمراد: أنه كهف له، وملجأ لنفسي وكيف يقدر الهوى على إفناء نفسي؟!
قليل الكرى لو كانت البيض والقنا ... كآرائه ما أغنت البيض والزغف
البيض: الأولى السيوف، والبيض الثانية: جمع بيضة، وهي الترك. والزغف: الدروع اللينة. وقيل: هي الطويلة.
يقول: إنه قليل النوم، صلب الرأي، فلو كانت البيض والرماح مثل رأيه في المضاء لم ينفع معها المغافر والدروع. والعرب تمتدح بقلة النوم.
يقوم مقام الجيش تقطيب وجهه ... ويستغرق الألفاظ من لفظه حرف
التقطيب: تعبيس الوجه.
يقول: إنه شجاع، فصيح، فعبوس وجهه في الحرب يقوم مقام العسكر في هزم الأعداء. وحرف من لفظه، يستفاد منه ما يستفاد من اللفظ الكثير من غيره. فكأن حرفه يستغرق جميع الألفاظ!
وإن فقد الإعطاء حنت يمينه ... إليه حنين الإلف فارقه الإلف
يقول: إنه لا يفتر عن العطاء، وإذا لم يعط في حال، حنت يمينه، واشتاقت إلى الإعطاء، كما يشتاق الصديق إلى صديقه بعد فراقه.
أديبٌ رست للعلم في أرض صدره ... جبالٌ جبال الأرض في جنبها قف
فاعل رست: جبالٌ. والقف المرتفع من الأرض.
يقول: هو أديب رست في صدره جبال العلم، التي هي إذا قيست جبال الأرض إليها صغرت في جنبها، كالقف إلى جنب الجبال. شبه العلوم التي في صدره بالجبال ثم فضلها على جبال الأرض.
جوادٌ سمت في الخير والشر كفه ... سمواً أود الدهر أن اسمه كف
متعدٍّ من ود: معنا. حمل الدهر على أن يود ويتمنى، وفاعله ضمير السمو، ومفعوله الدهر، والهاء في اسمه: للدهر، وفي كفه: للممدوح.
يقول: كفه قد علت في فعل الخير والشر، والنفع والضر، سمواً يتمنى الدهر أن يكون اسمه كفاً ليشاركه في الاسم، وإن فارقه في المعنى.
وأضحى وبين الناس في كل سيدٍ ... من الناس، إلا في سيادته خلف
أي بين الناس في سيادة كل سيد خلاف، إلا في سيادته، فإن الناس اتفقوا على أنه سيد.
يفدونه حتى كأن دماءهم ... لجاري هواه في عروقهم تقفو
يقول: يفديه الناس بأنفسهم، لتمكن حبه في قلوبهم، فكأن هواه جرى في عروقهم قبل جريان الدم فيها، وكأن دماءهم تتبع ما جرى في عروقهم من المحبة قبل جريان الدماء فيها. واللام في قوله: لجاري هواه يجوز أن تكون معناه: من أجل جاري هواه في عروقهم كأنه دماء تقفو، ومفعول تقفو محذوف على هذا، وهو في وهذا لجاري، ويجوز أن يكون متعلقاً بقوله: لجاري وهواه فيكون المفعول مقدماً على الفعل. والفعل معداً إليه باللام لتقدمه على الفعل، كقوله تعالى: " إن كنتم للرؤيا تعبرون " فتقديره: تقفو الدماء جاري هواه في العروق.
وقوفين في وقفين: شكرٍ ونائلٍ ... فنائله وقفٌ، وشكرهم وقف
وقوفين قيل: نصب بإضمار فعل. أي أذكر وقوفين. وقيل: على الحال من يفدونه وقيل من قوله تقفوا وقيل من قوله: بين الناس إلا في سيادته خلف في هذا الحال. وتقديره: رأيتك راكبين، أي أنا راكب، وأنت راكب.
يقول: إن الممدوح والناس واقفين وقفاً فالممدوح واقفٌ نائله على الناس. والناس واقفون شكرهم عليه. فجعل الممدوح مقابل الناس. فنائله وقفٌ على الناس كلها، وشكرهم وقف عليه وحده.
ولما فقدنا مثله دام كشفنا ... عليه، فدام الفقد وانكشف الكشف
قال ابن جنى: عليه بمعنى: عنه والهاء فيه: تعود إلى مثله. ومعناه: إنا لما لم نجد مثله طلبناه لعلنا نجده فدام كشفنا مدةً عن مثله، ثم لما لم نجد مثله دام الفقد بعد ذلك، وانقطع الكشف، على ألا ننظر له. ويجوز أن يكون بمعنى: له. والهاء للمدوح. فكأنه يقول: دام كشفنا لمثله وباقي الكلام على وجهه.

وما حارت الأوهام في عظم شأنه ... بأكثر مما حار في حسنه الطرف
يصفه بعظم شأنه وحسن وجهه.
يقول: ما تحيرت العقول في عظم حاله أكثر مما تحير البصر في حسن وجهه، فهما متساويان.
ولا نال من حساده الغيظ والأذى ... بأعظم مما نال من وفره العرف
الوفر: المال الكثير. والعرف: المعروف.
يقول: لم ينقص الغيظ والأذى من أبدان حساده، أكثر مما نقص الجود من ماله.
تفكره علم، ومنطقه حكمٌ ... وباطنه دين، وظاهره ظرف
الحكم: الحكمة. ومعناه ظاهر.
اعلم أن العروض الطويل إذا لم يكن مصرعاً لا يجيء إلا من مفاعلن مقبوضة فأما مفاعيلن على ما جاء في هذا، فإنما يؤتى به في المصرع فقط. والتصريع: هو إعادة القافية.
عذره من وجهين: أحدهما: أن هذا وإن كان هو الأكثر، فقد جاء في مثل هذا عن العرب، ألا ترى أن الكامل لا يكون عروضه مفعولن إلا في المصرع، وقد جاء عن العرب مفعولن في الكامل من ذلك قول ربيع بن زياد.
ومجنبات ما يذقن عدوفا ... يقذفن بالمهرات والأمهار
والثاني: أن مفاعيلن، أصل العروض الطويل، فيكون قد رجع هاهنا إلى الأصل لضرورة الشعر، لأنه إذا جاز الخروج عن أصل الكلمة للضرورة، فالرجوع إلى الأصل أولى.
وروى: ومنطقة حجا، وروى: تقى.. وهذا لا اعتراض عليه.
أمات رياح اللوم وهي عواصفٌ ... ومغنى العلا يودي ورسم الندى يعفو
المغنى: المنزل. ويودي: أي يهلك، ويدرس. والواوات للحال.
يقول: رياح اللؤم في حال عصوفها وشدتها، كاد منزل العلا يهلك بتلك الريح، ورسم الجود يعفو ويدرس بها، والمراد بها، والمراد أنه: أعاد المعالي والجود بعد ذهاب دولتها.
فلم نر قبل ابن الحسين أصابعاً ... إذا ما هطلن استحيت الديم الوطف
الديم: جمع ديمة، وهي مطر يدوم أياماً من غير ريح، ولا رعد، وأقله نصف يوم وأكثره خمسة أيام. والوطف جمع الوطفاء: وهي السحابة المتدلية الأطراف، الدانية من الأرض. وقوله: قبل ابن الحسين أراد قبل أصابع ابن الحسين، فحذف المضاف ويجوز أن يكون أخبر بالجملة عن البعض.
المعنى: أصابع هذا الرجل إذا ما هطلن بالعطايا، زادت على هطل السحاب الوطف، حتى نستحي من أصابعه.
ولا ساعياً في قلة المجد مدركاً ... بأفعاله ما ليس يدركه الوصف
يقول: ما رأينا ساعياً غاية المجد، فأدرك بفعله ما لا يدركه الوصف، إلا هذا الممدوح: فإنه أدرك من المجد ما لا يوصف.
ولم نر شيئاً يحمل العبء حمله ... ويستصغر الدنيا ويحمله طرف
العبء: الحمل الثقيل. والطرف: الفرس الكريم.
يقول: ما رأينا شخصاً يحمل المغارم، ومؤن العفاة والحلم والوقار مثل ما يحمله الممدوح. وهو مع ذلك يستصغر الدنيا لعظم همته، ومع ذلك يحمله طرف.
ولا جلس البحر المحيط لقاصدٍ ... ومن تحته فرشٌ ومن فوقه سقف
فرش: روى بالفتح وبالضم، فالفتح: مصدرٌ في معنى المفروش. والضم: جمع فراش. والبحر المحيط: هو البحر الأعظم الذي يحيط بجميع الأرض.
يقول: هو بحر؛ لكثرة جوده وما رأينا بحراً قط جالساً لقاصد، وتحته فرش وفوقه سقف.
فواعجباً مني أحاول نعته ... وقد فنيت فيه القراطيس والصحف
القرطاس: شيء يستعملونه بدل الكاغد. كان من قشورٍ بيض. والصحف: جمع صحيفة وهي الكتب.
يقول: أتعجب من نفسي حيث أطلب استيفاء وصفة في الشعر، والقراطيس، مع أن وصفه يستغرق جميع القراطيس والصحف!
ومن كثرة الأخبار عن مكرماته ... يمر له صنفٌ، ويأتي له صنف
روى: الأخبار بفتح الهمزة وكسرها، الفتح هو الجمع، والكسر مصدر أخبر.
يقول: من كثرة ذكر الممدوح في الآفاق يأتيه صنف من الناس، ويصدر عنه صنف آخر.
وتفتر منه عن خصالٍ كأنها ... ثنايا حبيبٍ لا يمل لها الرشف
تفتر فاعله ضمير الأخبار أي تنكشف من هذا الممدوح، عن خصال حميدة حلوة لا يمل ذكرها، فكأن تلك الخصال ثنايا الحبيب التي لا يمل ترشفها ومصها. يعني: أن خصاله مستطابة كاستطابة رشف المحبوب.
قصدتك والراجون قصدي إليهم ... كثيرٌ، ولكن ليس كالذنب الأنف
قصدي: في موضع نصب، لأنه مفعول، والراجون: فاعله. أي الذين يرجون قصدي إليهم كثير، ولكن أنت كالأنف، وغيرك كالذنب، وليسوا سواء. والراجون قصدي نصب على الحال.

ولا الفضة البيضاء والتبر واحداً ... نفوعان للمكدى وبينهما صرف
واحداً نصب لأنه خبر ليس. ونفوعان: خبر ابتداء محذوف. أي هما نفوعان. والمكدى: المحروم. وهذا البيت من تمام البيت الذي قبله.
يقول: قصدتك ولو قصدت غيرك لوجدت عنده خيراً، ولكنك أكرم وأكثر عطاء من غيرك، فليس الذهب والفضة سواء وإن نفعا الطالب المحروم، ولكن أنت كالذهب وغيرك كالفضة.
ولست بدونٍ يرتجى الغيث دونه ... ولا منتهى الجود الذي خلفه خلف
بدونٍ: أي قليل صغير المقدار. وهو اسم يثنى ويجمع. ودونه: نصب على الظرف، وخلف. اسم غير ظرف.
يقول: لست بدون الناس فيبعد عنك العاني، ويرجو الغيث دونك أي سواك بل أنت أفضل من الغيث وأجود، ولأنت في الجود غاية ما خلفها غاية أخرى بل أنت النهاية التي ليست وراءها نهاية فكيف تقصد غيرك؟!
ولا واحداً في ذا الورى من جماعةٍ ... ولا البعض من كل ولكنك الضعف
يقول: ليس واحداً في هذا الخلق من جماعة، ولا بعضاً من جميع الناس، ولكنك مثليهم، لأن الضعف مثل الشيء مرتين.
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
ضعفه: رفع لأنه فاعل يتبع ومفعوله الضعف ويجوز على العكس من ذلك وقوله: ولا الضعف نصب لأنه معطوف على خبر ليس، ومثله: نصب لأنه صفة نكرة مقدمة عليها، فنصب على الحال، والنكرة ألف والهاء في مثله: ترجع إلى ضعف الضعف ومعناه أنه أكثر من الخلق ثناءً ألف مرة
أقاضينا! هذا الذي أنت أهله ... غلطت ولا الثلثان هذا ولا النصف
يقول: إن الذي قلته أنت أهله، ثم قال: قد غلطت في ذلك، بل ما قلته ليس بثلثي ما تستحقه ولا نصفه بل هو أقل من ذلك.
وذنبي تقصيري وما جئت مادحاً ... بذنبي ولكن جئت أسأل أن تعفو
يعتذر من تأخيره الخدمة والمدح.
فيقول: ذنبي وتقصيري وما جئت مادحاً، ولكن جئت أسأل أن تعفو عن ذنبي في التقصير، وتقديره وما جئت مادحاً، بل جئت بذنبي أسأل أن تعفو ما تقدم. وقيل معناه: إني لم أقصدك مادحاً بذنبي، إني مقصر وكيف أمدحك بما يعد من ذنبي؟! وهو التقصير في مدحك، وإنما جئتك أسأل العفو عن تقصيري.
وقال يمدح علي بن منصور الحاجب ويصف جيشه
بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا
الشموس: رفع بالابتداء. وخبره قوله: بأبي ويدل عليه الباء. تقديره: الشموس مفدية بأبي. والجانحات: المائلات. وغواربا. نصب على الحال. والجلابب، أصلها جلابيب، فحذف الياء ضرورة. وهي جمع جلباب: وهي الملحفة. وقيل: ثوب أوسع من الخمار.
يقول: أفدي بأبي نساءً كالشموس مائلات إلى الغروب يعني أنهن تهيأن للغروب والخروج للغيبة في الهوادج، والخروج إلى المقاصد، وأنهن كن يلبسن الثياب، والملاحف من الحرير. يصف تنعمهن وغناءهن. وقيل: أراد بقوله: غوارب أنهن كن يلبسن المصبغات بالحمرة، فكن كالشمس في حمرة الشفق.
المنهبات عيوننا وقلوبنا ... وجناتهن الناهبات الناهبا
نهبت المال: أخذته وأغرت عليه. وأنهبته: أي أمكنته من نهبه وجعلته نهباً له. فنهبت: يتعدى إلى مفعول واحد. وأنهبت: إلى مفعولين، فأحد المفعولين للمنهبات. عيوننا وقلوبنا: عطف عليه. والمفعول الآخر: وجناتهن. والناهبات: صفة لوجناتهن. والناهب: مفعول الناهبات. وهذا الناهب: ينهب وجنات النساء.
يقول: إنهلن جعلن وجناتهن ناهبات لعيوننا وقلوبنا! فهذه الوجنات هي الناهبات الناهب، وهو الذي ينظر إليهن فينهبها بالنظر، والوجنات تنهب قلبه وعينه.
وقيل: أراد أنهن جعلن وجناتهن ناهبة لقلوبنا وعيوننا، فهذه الوجنات تنهب الناهب: أي الرجل الشجاع الذي يغير على الأعداء.
الناعمات القاتلات المحييا ... ت المبديات من الدلال غرائبا
ناعمات: أي لينات المعاطف والقاتلات: أي بالهجر. والمحييات: أي بالوصل. المبديات: أي المظهرات من الدلال: وهو الغنج والتحكم. غرائبا: أي عجائب.
حاولن تفديتي وخفن مراقباً ... فوضعن أيديهن فوق ترائبا
الترائب: جمع التريب، وهو موضع القلادة من الصدر.

يقول: أردن أن يقلن: جعلنا الله فداك، فخفن من الرقيب فوضعن أيديهن على ترائبهن، فإن من أراد أن يفدي غيره وضع يده على صدره. وقيل معناه: إنهن لما منعن من التفدية، وضعن أيديهن فوق صدورهن من الحزن والوجع؛ تسكيناً لقلوبهن مما فيها من ألم الفراق.
وبسمن عن بردٍ خشيت أذيبه ... من حر أنفاسي فكنت الذائبا
يقول: ضحكن عن ثغر مثل البرد، صفاءً ورونقاً، فخشيت أن أذيب هذا البرد من حر أنفاسي لما فيها من شدة الحزن، فكأنها النار، فكنت حينئذ أنا الذائب دون البرد، وبقي البرد عل حالة وذبت أنا.
يا حبذا المتحملون وحبذا ... وادٍ لثمت به الغزالة كاعبا
حبذا: كلمة تدل على حصول المحبة في قلب المتكلم، وهو اسم موضوع لذلك، وهو في موضع الرفع بالابتداء والمتحملون: خبره. والمنادى هو: حبذا أدخل فيه النداء تأكيداً وكأنه يقول: يا حبذا المتحملون. وقيل: المنادى محذوف. أي يا قوم حبذا المتحملون. والغزالة: اسم من أسماء الشمس. والوادي: مجرى السيل في البادية.
يقول: ما أحب إلي هؤلاء المتحملون! وما أحب إلي الوادي الذي قبلت فيه حبيبتي! فكأنني قبلت شمساً ناهدة الثديين، فلما استطاب هذا الوقت اشتاق إلى القوم الذين كانت هي فيما بينهم، وإلى الوادي الذي حصل فيه التقبيل، فكأنه يشير إلى أنه وإن منع من المحبة بخوف الرقيب اتفق له هذه الحالة المذكورة.
كيف الرجاء من الخطوب تخلصاً ... من بعد ما أنشبن في مخالبا!
تخلصاً: نصب بالرجاء لأنه مصدر، يعمل عمل الفعل، فكأنه يقول: كيف أرجو التخلص من حوادث الدهر وبلاياه، بعد أن تمكنت مني، وأدخلت في مخالبها! والتأنيث في أنشبن: للخطوب.
أوحدنني ووجدن حزناً واحدً ... متناهياً فجعلنه لي صاحبا
أوحدنني: يجوز أن يريد أن المحبوبات رحلن عني وتركنني وحيداً قريناً للحزن عليهن. ويجوز أن يكون ضمير الخطوب. أي خطوب الدهر فرقت بيني وبين أحبائي وافردتني منهم، ويجوز أن يريد: أوجدتني وحيداً، أو واحد أزماني.
يقول: إن خطوب الدهر أوجدتني على ما ذكرناه ووجدت حزناً وحيداً متناهياً في الشدة، فجعلنه لي صاحباً وقرنته بي! فأنا وحيد والحزن وحيد.
ونصبنني غرض الرماة يصيبني ... محنٌ أحد من السيوف مضاربا
يقول: إن الخطوب جعلتني هدفاً للشدائد، ورمتني بمحن تصيبني! وهي أحد من مضارب السيوف؛ لأن من أصابته السيوف ربما يبرأ، ومن أصابته المحن لا يبرأ.
أظمتني الدنيا، فلما جئتها ... مستسقياً مطرت علي مصائبا
أظمتني: أي أعطشتني. والأصل: أظمأتني بالهمزة. فقلبت الهمزة ألفاً، ثم حذفها لسكونا وسكون التاء بعدها.
يقول: أظمأتني الدنيا بما أصابتني من محنها، فلما سألتها أن تكشف عني بالراحة والرضا أزادتني بلاءً فأمطرت علي مصائباً.
وحبيت من خوص الركاب بأسودٍ ... من دارش فغدوت أمشي راكبا
الخوص: جمع أخوص وخوصاء، وهو في البعير مثل الحول، إلا أنه أقل منه. وقيل: الخوصاء. الغائرة العين، وهو من أمارة الكرم. والدارش: ضرب من جلد الماعز، إذا كان مدبوغاً وتقديره: جئت بأسود من دارش ومن في قوله: من خوض الركاب. بمعنى: بدل. أي بدل ذلك.
يقول: أعطيت بدل الإبل، الخف والنعل الأسود، من جلد دارشٍ، فلبست ذلك، وغدوت أمشي راكباً: أي صرت راكباً عليه، وأنا ماشٍ في الحقيقة.
حالاً متى علم ابن منصورٍ بها ... جاء الزمان إلي منها تائباً
حالاً: نصب بفعل محذوف. أي أشكوا حالاً. أوأذكر حالاً. وقيل: نصب على الحال.
يقول: لي حالٌ لو علم ابن منصور بها لغيرها إلى ما هو أحسن منها. فيكون كأن الزمان ندم على إساءته إلي، وتاب منها. وقيل: أراد جاءني الزمان معتذراً مما جنى؛ لأنه يخاف أن ينتقم لي منه.
ملكٌ سنان قناته وبنانه ... يتباريان دماً وعرفاً ساكبا
يتباريان: يعارض كلٌّ منهما صاحبه. والساكب: الجاري.
يقول: إن دم أعدائه يجري من سنان قناته، مثلما يجري معروفه من بنانه، فكأن كل واحد منهما يباري صاحبه وينافسه، في أن أيهما أكثر انسكاباً. ونصب عرفاً ودماً: على التمييز.
يستصغر الخطر الكبير لوفده ... ويظن دجلة ليس تكفي شاربا

يقول: إنه يستصغر ما يعطي القصاد من المال الكبير الخطر! حتى يظن أن دجلة مع كثرة فيضها، وغزارة مائها لا تكفي لشارب واحد.
كرماً فلو حدثته عن نفسه ... بعظيم ما صنعت لظنك كاذبا
نصب: كرماً على أنه مفعول لأجله أي يستصغره لأجل كرمه. وقيل: نصب على المصدر: أي كرم كرماً. عن ابن جنى.
يقول: إنه كريم يفعل أفعالاً عظيمة حتى لو حدثته عن أفعاله لظنك كاذباً، لعظم ما صنعت نفسه! ولا يعلم أنها صنعت ذلك؛ لاستعظامه إذا سمعه.
وهذا ليس بالمدح الجيد وهو إلى الجهل والغباوة أقرب.
سل عن شجاعته وزره مسالماً ... وحذار ثم حذار منه محاربا
حذار: أي احذر. وهو مبني على الكسر.
يقول: سل عن شجاعته لتعلم رجوليته والقه زائراً مسالماً؛ حتى تستفيد منه، واحذر أن تقصده وتجرب شجاعته مبارزاً، فإنه يهلكك ويقتلك للوقت، ولا تصل إلى مقصدك منه.
فالموت تعرف بالصفات طباعه ... لو لم تلق خلقاً ذاق موتاً آئباً
هذا تأكيد للبيت الذي قبله، ومعناه: أنه كما يموت من يحاوله، فتعرف أحوال شجاعته بالاستخبار، كما أن الموت تعرف صفاته وطباعه بالوصف لا بالتجربة، لأنك لا تلقى أحداً ذاقه ثم عاد، حتى تعرف حقيقته، فكذلك حاله والطباع: هي الطبع وهي مؤنثة. وقيل: هي جمع الطبع. وروى كالموت تعرف بالطباع صفاته أي يعرف الموت طبعاً ومشاهدة لا تجربة
إن تلقه لا تلق إلا جحفلاً ... أو قسطلاً أو طاعناً أو ضاربا
أو هارباً أو طالباً أو راغباً ... أو راهباً أو هالكاً أو نادبا
الجحفل: العسكر، وسمي به لكثرة الخيل فيه. والقسطل: الغبار. والنادب: المتفجع على أمر وقع فيه.
يقول: إذا لقيته لقيت عسكراً، أي يقوم مقام العسكر، أو يكون معه عسكر أو رأيت غباراً وطاعناً وضارباً؛ لأنه شجاع لا يكون إلا عند هذه الأمور. يجوز أن تكون هذه أحوال الممدوح أو هارباً: أي لا تلقاه إلا هارباً من قبيح، أو طالباً، لمكرمة أو راغباً إليه سفراً وحضراً، لا يفارقه السائل أو راهباً من بأسه، أو هالكاً بسيفه وسطوته، أو نادباً: أي متوجعاً ومتفجعاً؛ من إيقاعه به. وقيل نادباً: أي داعياً إلى القتال قائداً إليه من قولهم: ندبت فلاناً لهذا الأمر فانتدب.
وإذا نظرت إلى الجبال رأيتها ... فوق السهول عواسلاً وقواضبا
وإذا نظرت إلى السهول رأيتها ... تحت الجبال فوارساً وجنائبا
العواسل: الرماح المضطربة المهتزة. والجنائب: جمع جنيبة.
المعنى: أن عسكره ملأ السهل والجبل، فإذا نظرت إلى الجبال رأيتها فوق السهول كأنها رماح وسيوف، لكثرة ما عليها، وكأنها سترتها، فلا ترى سواها. وإذا نظرت إلى السهول قد امتلأت بفوارسه، وجنائبه، فكأنها صارت فوارس وجنائب.
وعجاجةً ترك الحديد سوادها ... زنجاً تبسم أو قذالاً شائبا
القذال: قذالان، وهما ما اكتنفنا القفا من يمين وشمال. يقول: رأيت عجاجةً. جعل سواد تلك العجاجة الحديد كأنها زنج أسود تبسم، أو قذالاً قد شاب. شبه لمعان السيوف في سواد الغبار، كتبم الزنجي حين يبدو بياض أسنانه من تحت سواده، أو بقذال قد شاب، فيلوح الشيب في وسط سواد الشعر وهو تشبيه عجيب.
فكأنما كسي النهار بها دجى ... ليلٍ وأطلعت الرماح كواكبا
روى: كسي أي ألبس. وروى: كسي أي لبس، فعلى هذا يقال: كسوته فكسي. والهاء في بها: للعجاجة.
يقول: كأن النهار بهذه العجاجة قد لبس ظلمة الليل، وكأن أسنة الرماح فيها بمنزلة الكواكب، فتكون الرماح قد أطلعت الكواكب، وهي أسنتها.
قد عسكرت معها الرزايا عسكراً ... وتكتبت فيها الرجال كتائبا
الهاء في معها وفيها: للعجاجة. وعكسرت: أي جمعت عسكراً وتكتبت: تجمعت.
يقول: قد جمعت المصائب جمع هذه العجاجة كعسكر لإهلاك أعدائه، وتجمعت في هذه العجاجة الرجال، فكانوا كتائب: أي قطعةً قطعة.
وإنما ذكر للرزايا عسكراً، وللرجال كتائب، لأن العساكر أكثر من الكتائب، فيدل على أن الرزايا أكثر على الأعداء من رجاله.
أسدٌ فرائسها الأسود يقودها ... أسدٌ يصير له الأسود ثعالبا

يقول: هؤلاء الرجال الذين في العجاجة أسود فرائسها الأسود. شبه أعداءه بالأسود أيضاً، ثم قال: يقود هذا الأسود أسدٌ، وهو الممدوح. تصير له جميع الأسود من جيشه وجيش عدوه بمنزلة الثعالب، فلا يقومون قدامه.
في رتبةٍ حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا
حذف التنوين من علي وأصله: علياً الحاجب، وإنما حذفه ضرورة؛ لسكونها وسكون اللام من الحاجب وقد قرىء: " قل هو الله أحد " بحذف التنوين من أحد.
يقول: إنه من الشرف في رتبة منع الناس عن الوصول إليها، وحجبهم عن نيلها، ثم علا إلى ما هو أعلى منها؛ فسمي لذلك علياً الحاجب. فكأنه سمي علياً لعلوه، وحاجباً، لأنه حجب الناس عن رتبته.
ودعوه من فرط السخاء مبذراً ... ودعوه من غصب النفوس الغاصبا
المبذر: الذي يفسد ماله بالتفريق.
يقول: أفرط في السخاء؛ فدعي مبذراً، وأكثر من غصب نفوس الأعداء؛ فسمي غاصباً.
ومخيب العذال فيما أملوا ... منه وليس يرد كفاً خائبا
يقال خيبه: إذا قطع أمله. وذكر الكف في قوله خائباً ذهاباً بها إلى العضو. كما قال الأعشى:
يضم إلى كفيه كفاً مخضبا
والذي زاده حسناً: أن الخائب هو صاحب اليد، فالمعنى يرجع إليه.
يقول: إنه يخيب عذاله. إذا عذلوه في سخائه ولا يرد سائلاً خائباً من عطائه.
هذا الذي أفنى النضار مواهباً ... وعداه قتلاً والزمان تجاربا
النضار: بالضم الذهب، وبالكسر الجمع. وهو جمع نضر، وهو المذهب.
يقول: هذا الممدوح هو الذي أفنى جميع الذهب بالمواهب، حتى لا يوجد شيء منه إلا وهو من مواهبه، وأفنى أعداءه فلم يبق منهم أحد، ولذلك أفنى الزمان تجارباً حتى لا يوجد زمان إلا وله فيه تجربة.
هذا الذي أبصرت منه حاضراً ... مثل الذي أبصرت منه غائبا
روى: مثل رفعاً ونصباً؛ فالرفع تقديره: أن يكون هذا مبتدأ أول والذي مبتدأ ثان. ومثل خبر الذي والجملة خبر هذا. والضمير في منه: يعود إلى هذا. وتقدير النصب: أن يكون هذا مبتدأ والذي خبره ونصب مثل بأبصرت، ونصب حاضراً وغائباً على الحال من الكرم والشرف، مثل ما كنت أسمعه وأنا غائب لا كالذي يزيد.
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
يقول: هو كالبدر، فمتى التفت إليه رأيت نوراً مضيئاً منه. يعني أن عطاءه يصل إلى الحاضر والغائب، وكذلك بهاؤه واشتهاره لا يخفى على أحد.
كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... جوداً ويبعث للبعيد سحائبا
يقول: هو كالبحر من حيث ينتفع به القريب والبعيد، فالقريب ينتفع بجواهره، والبعيد ينتفع بالسحائب التي تنشأ من البخار، فتحمله الريح إلى البلاد القاصية. شبهه بالبحر؛ لعموم عطاياه، وشمولها القريب والبعيد.
كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
كبد السماء: وسطها. يقول إن عطاياه، وبهاءه، وذكره، بلغ القاصي، والداني. كالشمس فإنها تكون في وسط السماء وشعاعها يعم الأرض شرقاً وغرباً.
أمهجن الكرماء والمزرى بهم ... وتروك كل كريم قومٍ عاتبا
هجنت الرجل: نسبته إلى الهجنة، والعيب. وأزريت: إذا قصرت. والمقصر يهم بما يظهر من كرمه وتقدمه في خصاله الحميدة، ويا من يترك كل كريم قوم عاتباً عليه، لأنهم عجزوا عن شأوك. والعتب: أول الغضب.
يقول: يا من هجن عليك، لكونك فوقهم، ويجوز أن يكونوا عاتبين على أنفسهم حيث لم يكونوا مثله.
شادوا مناقبهم وشدت مناقباً ... وجدت مناقبهم بهن مثالبا
شادوا: رفعوا. والمناقب: هي الأفعال الكريمة. والمثالب: الأفعال الذميمة.
يقول: إن مناقب الناس، إذا قيست إلى مناقبك، كانت تلك المناقب كالمخازي لهم.
لبيك غيظ الحاسدين الراتبا ... إنا لنخبر من يديك عجائبا
غيظ الحاسدين: نصب؛ لأنه منادى مضاف. ونصب الراتب؛ لأنه نعت له، والراتب: الثابت ونخبر أي نعلم، ونرى ونجرب فنعلم.
كأن الممدوح دعاه، لما انتهز بما شهر من إحسانه وفضله، أو دعاه حقيقة، فأجابه. فقال لبيك يا من تغيظ الحساد، فيبقى الغيظ في قلوبهم غير زائل عنها. إنا لنعلم ونرى عجائب من يديك ضرباً وطعناً وسجناً وكناية يعجز الناس عن بلوغه، وجعل البيت، مصرعاً؛ لأنه انتقل من المديح إلى الإجابة.

تدبير ذي حنكٍ يفكر في غدٍ ... وهجوم غرٍّ لا يخاف عواقبا
الحنك: التجارب، ويجوز في تدبير، وهجوم: الرفع على خبر الابتداء المحذوف، كأن قائلاً قال: ما تلك العجائب؟ فقال: هي تدبير ذي حنك وهجوم غرٍّ، أو على الابتداء وحذف الخبر المقدم عليه، أي له تدبير ذي حنك. والنصب: بدلاً من عجائب. والغر: الذي لم يجرب الأمور.
يقول: له في السياسة تدبير ذي الرأي والتجربة، وفي الحروب إقدام الغر، الذي لم يجرب الأمور فلا يخشى العاقبة.
وعطاء مالٍ لو عداه طالبٌ ... أنفقته في أن تلاقي طالبا
روى: عطاء رفعاً ونصباً، على ما ذكرناه عداه: جاوزه من غير أن يأخذه.
يقول: له عطاء مال لو جاوزه طالب، لبذل ذلك المال في تحصيل من يطلبه ليأخذه.
خذ من ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمني في الثناء الواجبا
قصر ثناي: وهي واجبه المد قصر للضرورة وما أسطيعه: أصله ما أستطيعه، فحذف استخفافاً.
يقول: خذ من ثنائي عليك ما أقدر عليه، ولا تلزمني في مدحك ما تستحقه ويجب لك فليس ذلك في وسعي ولا يجب أن يحيط به وهمي وخاطري.
فلقد دهشت لما فعلت ودونه ... ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا
دهش الرجل: أي تحير، ودهشته وأدهشته: إذا حيرته.
يقول: خذ ما أقدر عليه وإلا تلزمني الواجب؛ لأني قد دهشت بما رأيت من صفاتك، وأقل ما أرى من فعلك يخير الملائكة الحفظة الكرام الكاتبين، مع قوتهم! فكيف أقدر أنا على الاستيفاء بالوصف! وكيف يحيط وصفي وعلمي بكنهك؟! وقال يمدح عمر بن سليمان الشرابي ويذكر حسن بلائه وهو يومئذ يتولى الفداء بين الروم والعرب
نرى عظماً بالصد والبين أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم
الصد: الإعراض، مع قرب المسافة. والبين: البعد من حيث المسافة.
يقول: إنا نستعظم أمر الإعراض والهجر مع القرب، ولا نستعظم البين: الذي هو بعد المسافة، وهو أعظم منه، ونتهم الواشين في إظهار سرنا، والدمع من جملة الواشين؛ لأنه يفضحنا ويهتك أستارنا.
ومن لبه مع غيره كيف حاله؟ ... ومن سره في جفنه كيف يكتم؟!
يقول: من كان عقله مع غيره أي: مع المحبوبة. كيف حاله؟! لأنه إذا عدم عقله ولبه، لم يدر ما يقول ويسمع، ومن يكون سره في عينه كيف يكتمه! لأن العاشق لا يمكنه إمساك الدمع فيظهر سره بذلك.
ولما التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم
الواو: في قوله: والنوى ورقيبنا: واو الحال، والجملة في موضع نصب.
يقول: لما اجتمعت أنا والمحبوبة في حال ما كان النوى والرقيب غافلين عنا، ظلت أنا أبكي وأشكو إليها ما بي من الشوق والوجد، وهي تضحك من شكواي وبكائي تعجباً من حالي، ومسرةً بما ابتليت.
فلم أر بدراً ضاحكاً قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتاً يتكلم
شبهها بالبدر، وشبه نفسه بالميت. ثم ذكر متعجباً فقال: لم أر بدراً ضاحكاً قبل وجهها؛ لأن البدر لا يضحك، وهي بدر ضاحك، وكنت ميتاً، فلم أر قبل نفسي ميتاً يتكلم! لأني كنت أشكو إليها حالي وأتكلم به، وكنت ميتاً فالعجب من ذلك.
ظلومٌ كمتنيها لصبٍّ كخصرها ... ضعيف القوى من فعلها يتظلم
المتنان: لحمتان في الصلب، يكتنفان القفا. والخضر: معقد الإزار. والقوى: جمع القوة.
يقول: متنها قوي ممتلىء، وخصرها دقيق نحيف، فهي تظلم العشاق، كما يظلم متناها خصرها، لأنهما يكلفانها فوق طاقتها، وعاشقها ضعيف القوة كخصرها. وقوله: من فعلها يتظلم زيادة، ليس فيه كبير فائدة إلا إتمام البيت، ولو قال بدل المتن الردف لكان أولى؛ لأن المتن لا يوصف في الشعر بالعبارة والفخامة، وإنما يذكر بالاهتزاز والرشاقة، ويوصف الردف بالعظم. وهذا البيت مأخوذ من قول خالد الكاتب:
صباً كئيباً يتشكى الهوى ... كما اشتكى نصفك من نصفكا
بفرعٍ يعيد الليل والصبح نيرٌ ... ووجهٍ يعيد الصبح والليل مظلم
الباء في قوله: بفرع متعلقه بقوله ظلوم ويجوز أن يكون من الضمير الذي في ظلوم.
يقول: إنها ظلمتني حين فتنتني: بفرع أسود لو نشرته في النهار لصار ليلاً، وبوجه منير، لو أسفرت عنه ليلاً لصار نهاراً. والواو واو الحال في الموضعين.
فلو كان قلبي دارها كان خاليا ... ولكن جيش الشوق فيه عرمرم

يقول: لو كان قلبه دارها، كان خالياً كخلوها، ولكن قلبي وإن كان جارياً مجرى دارها من حيث أنه محلها فإنه مملوء بالشوق بل جيش الشوق فيه كثير. وروى: ولو كان قلبي خالياً كان دارها، وقيل: هذا أولى. ومعناه: لو كان قلبي عامراً بالشوق لكان دارها؛ لأن جسمي ناحل مثل رسومها وفؤادي محترق كاحتراق أثافيها غير أن جيش الشوق فيه عرمرم.
أثافٍ بها ما بالفؤاد من الصلى ... ورسمٌ كجسمي ناحلٌ متهدم
الأثافي: تثقل وتخفف، وهي الأحجار التي تنصب تحت القدر. والصلى: الاحتراق.
تقدير البيت ومعناه: أثافٍ بها من الاحتراق، ما بالفؤاد من النار والشوق. ورسم تلك الدار ناحل متهدم كجسمي في نحوله.
بللت بها ردني والغيم مسعدي ... وعبرته صرفٌ وفي عبرتي دم
الردن: طرف الكم. والصرف: أي الخالص.
يقول: وقفت على آثار هذه الدار، فبكيت حتى بللت كمي من دموعي، وكان الغيم في تلك الحال يساعدني على البكاء، غير أن دمع الغيم كان صافياً لا يمازجه دم، وكان دمعي ممزوج بالدم.
ولو لم يكن ما انهل في الخد من دمي ... لما كان محمراً يسيل فأسقم
يقول: إن الذي ينصب من عيني دم؛ لأنه لو لم يكن دماً لما كان أحمر، ولم أسقم كلما سال من جفني؛ لأن الدم هو الذي يسقم إذا أفرط سيلانه، ومثله:
وليس الذي يجري من العين ماءها ... ولكنه نفسٌ تذوب فتقطر
بنفسي الخيال الزائري بعد هجعةٍ ... وقولته لي: بعدنا الغمض تطعم
يجوز في الخيال: الرفع على الابتداء، أي الخيال مفدى بنفسي. والنصب على إضمار فعل النسبة: أي أفدي الخيال. وهكذا في قوله. والألف واللام في الزائري: بمعنى الذي. أي الذي زارني بعد ما نمت نومة، وأفدي قوله معاتباً لي: بعدنا تطعم النوم، أي أن الخيال عاتبني فقال لي: كيف تنام بعد مفارقتي؟! فنفسي فداؤه لهذا القول.
سلامٌ فلولا الخوف والبخل عنده ... لقلت: أبو حفصٍ علينا المسلم
أي قال الخيال: سلام. فهو حكاية لقوله. ويجوز أن يكون أراد بالسلام: السلامة، فيكون التقدير بنفسي قوله: أتنام بعدنا؟ وأراد: أن الخيال لما رآه نائماً ولى عنه مغاضباً، فأخبر عن انصرافه بالسلام، لأن العادة أن يسلم الإنسان على صاحبه عند الانصراف، ثم استأنف وقال: فلولا الخوف والبخل عنده: أي لولا أن هذا الخيال فيه خوف وبخل، لكان يشبه الممدوح في حسنه وبهائه وطيب سلامه، فكنت أقول: إن هذا المسلم هو أبو حفص؛ وإنما قال ذلك، لأن الخوف والبخل محمودان في النساء، لأنها إذا خافت لم تقدم على ما لا يحل، وإذا بخلت حفظت ماء وجهها ومال زوجها.
محب الندى الصابي إلى بذل ماله ... صبواً كما يصبو المحب المتيم
الصابي: المائل. والمتيم: الذي استعبده الحب. والتيم: العبد.
يقول: إنه عاشق لبذل ماله، عشقاً متناهياً، كما يعشق المحب المستعبد حبيبته.
وأقسم لولا أن في كل شعرةٍ ... له ضيغماً قلنا له: أنت ضيغم
الضيغم: هو الأسد. من الضغم وهو العض يقول: لا يمكننا تشبيهه بالأسد؛ لأن كل شعرةٍ منه تقوم مقام الأسد، فلولا هذا، لقلت: إنه الأسد.
أتنقصه من حظه وهو زائدٌ! ... ونبخسه والبخس شيءٌ محرم؟!
هذا البيت تمام معنى البيت الذي قبله يقول: أتنقصه من حظة بأن تسميه أسداً، وهو زائد عليه فنكون قد بخسته حقه، والبخس أمر محرم.
يجل عن التشبيه، لا الكف لجةٌ ... ولا هو ضرغامٌ ولا الرأي مخذم
الضرغام: الأسد. والمخذم: السيف القاطع.
يقول: هو يرتفع عن التشبيه، فكفه أكثر من لجة البحر، وقلبه أجرأ من الأسد، ورأيه أمضي من السيف القاطع، والإنسان يشبه في سخائه بالبحر، وفي شجاعته بالأسد، وفي مضائه بالسيف.
ولا جرحه يوسى، ولا غوره يرى ... ولا حده ينبو، ولا يتثلم
يقول: لا يداوي جرحه، ولا يرى غوره: أي لا تعلم كنه صفاته وحقيقة أمره، ولا ينبو حده، فجعل له حداً لمضائه، وجعل ذلك الحد لا ينبو عن الضريبة، بخلاف حد السيف، فإنه قد ينبو ولا يعمل، وقد يتثلم وينكر، وهذا لا ينكر ولا يتثلم.
ولا يبرم الأمر الذي هو حالل ... ولا يحلل الأمر الذي هو مبرم

أظهر التضعيف في حاللٌ ويحلل: للضرورة، والأصل في القياس الإدغام: يعني أنه إذا أحكم أمراً، لا يقدر أحد على حله، وإذا حل أمراً، لا يحكمه أحد.
ولا يرمح الأذيال من جبريةٍ ... ولا يخدم الدنيا، وإياه تخدم
لا يرمح الأذيال: أي لا يضربها برجله. وروى: ولا يسحب الأذيال.
يقول: إنه متواضع لا يسحب ذيله من التجبر والخيلاء، وأنه زاهد في الدنيا، تارك لها ولا يخدمها وهي تخدمه، مقبلة عليه جارية تحت أمره، منقادة إليه.
ولا يشتهي يبقى وتفنى هباته ... ولا يسلم الأعداء منه ويسلم
يقول: إنه لا يحب البقاء في الدنيا إلا للأفضال على الأولياء، وكذلك لا يحب أن يسلم أعداؤه ويسلم هو، بل يجب الانتقام منهم.
ألذ من الصهباء بالماء ذكره ... وأحسن من يسرٍ تلقاه معدم
الصهباء: الخمر البيضاء، المعصورة من العنب الأبيض.
يقول: ذكره؛ لتضمنه المحاسن، ألذ من الخمر الممزوج بالماء. وإنما قال ذلك؛ لأنها إذا مزجت بالماء كانت ألذ طعماً وأضعف سورة، وأحسن من الغنى بعد الفقر!
وأغرب من عنقاء في الطير شكله ... وأعوز من مسترفدٍ منه يحرم
العنقاء: اسم على غير مسمى، والعرب تزعم أنه طائر عظيم في عنقه بياض، وأنه بحيث لا يراه أحد، ولا يصل إليه. وقيل: إنه طائر ذهب فلم يبق في أيدي الناس غير اسمه. وإنما سمي عنقاء، لأن في عنقه بياض كالطوق. ويضرب المثل بالعنقاء في الشيء الذي لا يوصل إليه، فيقال: طارت به العنقاء وهو أعز وأغرب من العنقاء، ويقال له: عنقاء مغرب إضافة، وصفة، وإغرابها العادي: ذهابها في الطيران. والأعواز، والعوز: عدم الشيء.
يقول: مثل الممدوح في الناس أعز وجوداً، وأغرب من هذا الطائر الذي ليس له وجود، كذلك مثله أقل وجوداً من رجل يطلب عطاءه ورفده فيحرمه ويمنعه
وأكثر من بعد الأيادي أيادياً ... من القطر بعد القطر والوبل مثجم
مثجم: من أثجمت السماء، إذا دام مطرها. وأياديا: نصب على التمييز.
يقول: هو أكثر أيادياً بعد الأيادي من تتابع القطر في الوبل الدائم.
سني العطايا لو رأى نوم عينه ... من اللوم آلى أنه لا تهوم
التهويم: اختلاس أدنى النوم.
يقول: إنه كريم جواد، فلو ظن أن نومة يدنيه من البخل، حلف عليه ألا ينام، مع أنه شيء لا يقدر عليه.
ولو قال: هاتوا درهماً لم أجد به ... على سائل أعيا على الناس درهم
يقول: إن جميع ما في أيدي الناس من هباته، فلو طلب درهماً واحداً ليس من عطاياه لأعيا على الناس ذلك، لأنه لم يوجد ما ليس من مواهبه.
ولو ضر مرءاً قلبه ما يسره ... لأثر فيه بأسه والتكرم
الهاء في قلبه: للممدوح، وفي يسره للمرء.
يقول: إنه يسر بما فيه من البأس والشجاعة، فلو كان إنسان يضره ما يسره، لكان هذا الممدوح يضره بأسه وكرمه.
يروي بكالفرصاد في كل غارةٍ ... يتامى من الأغماد بيضاً ويوتم
الفرصاد: التوت وقوله: بكالفرصاد: أراد بدمٍ كالفرصاد حمرةً. وأراد باليتامى: سيوفاً فارقت أغمادها فصارت كاليتامى، وقيل: إنما قال ذلك؛ لأن أجفانها كسرت وفللت كأنها اليتامى.
يقول: يروى سيوفه عند كل غارة بدم الأعداء، وإنه يؤتم أولاد من قتله بهذه اليتامى التي هي السيوف، وقد روى: من الأغماد تنضى: أي تجرد.
إلى اليوم ماحط الفداء سروجه ... مذ الغزو سارٍ مسرج الخيل ملجم
الغزو: رفع: بالابتداء وخبره محذوف أي هذا الغزو واقع وكائن، لم يحط الفداء، والسعي بين العرب والروم بالصلح سروجه، من وقت الغزو إلى اليوم، فهو يسعى في ذلك، مسرجٌ خيله وملجم لها. ونسب الفعل إلى الفداء لأنه كان بسببه.
يشق بلاد الروم والنقع أبلقٌ ... بأسيافه والجو بالنقع أدهم
النقع: الغبار، وصفه بأنه أبلق، لبرق الحديد في خلاله، فقد اجتمع فيه السواد والبياض.
المعنى: أنه يقطع بلاد الروم وقد اسود الجو من غبار خيله، وبياض السيوف يلمع من خلال الغبار، فالجو أدهم: أي اسود بالغبار، والغبار أبلق بالسيوف، فأعلى الجو أسود، وأسفله بالسيوف أبلق.
إلى الملك الطاغي فكم من كتيبةٍ ... تساير منه حتفها وهي تعلم

إلى: يتعلق بقوله: يشق بلاد الروم إلى الملك الطاغي وهو ملك الروم، جعله طاغياً لكفره. والهاء في منه للممدوح، وفي حتفها للكتيبة.
يقول: هو يشق بلاد الروم إلى الملك الكافر، فكم من كتيبة لملك الروم تساير حول هذا الممدوح ومنه هلاكها، وهي تعلم ذلك لأنه كان يغير عليهم.
ومن عاتقٍ نصرانهٍ برزت له ... أسيلة خدٍّ عن قليلٍ ستلطم
العاتق: البكر. ونصرانة. أي نصرانية وروى عنه أنه قال: ربما أنشدت وعذراء نصرانية برزت له: أي لهذا الممدوح. للنظر إليه عند دخوله البلد، وقيل: بروزها هو خروجها مع الرجال إلى المعركة، وقيل: هو مفارقها.
يقول: كم من جاريةٍ عذراء نصرانية وضعت خوفاً من عسكره. وقوله: عن قليل ستلطم: يعني أنه يعاود الغزو فيقتل رجالها فتلطم وجهها، أو تسبى فتلطم عند السبي.
صفوفاً لليثٍ في ليوث حصونها ... متون المذاكي والوشيج المقوم
المذاكى: الخيل التي نمت أسنانها الواحد مذكى. والوشيج: الرماح، سمى به لتداخله. والمواشجة: المداخلة. وصفوفاً: نصب على الحال من عاتق وهي في معنى الجمع، لأن كم تدل على الكثرة. وقيل: هو حال من الكتيبة. أي أتت الكتائب حوله صفوفاً.
يقول: إن الكتيبة تساير هذا الممدوح صفوفاً، والعواتق وقفن صفوفاً، ينظرن إلى قائدٍ كأنه أسد في خيل كأنهم أسود، حصونها متون الأفراس، وأطراف الرماح، لا كالروم الذين يتحصنون بحصون المدر والأحجار. ومنه قول الآخر وهو:
أن الحصون الخيل لا مدر القرى
تغيب المنايا عنهم وهو غائبٌ ... وتقدم في ساحاتهم حين يقدم
ساحة الدار: أصلها، وأصله من الاتساع، والانبساط.
يقول: إذا غاب عنهم الممدوح غاب موتهم، فإذا عاد إلى ديارهم قدم عليهم موتهم فأهلكهم.
أجدك ما تنفك عانٍ تفكه ... عم ابن سليمانٍ ومالاً تقسم
أجدك: نصب على المصدر. أي أتجد جداً ومعناه: أيجد هذا الفعل. وقوله: عم ابن سليمانٍ: أي يا عمر بن سليمان، فرخمه. وهذا جائز على مذهب الكوفيين؛ إذا كان الاسم على ثلاثة أحرف، متحرك الأوسط، ولا يجوز عند البصريين إلا إذا زيد على ثلاثة أحرف، فيرد عليه الترخيم.
يقول: إنك أبداً في فكاك الأسرى وتفريق الأموال.
مكافيك من أوليت دين رسوله ... يداً لا تؤدي شكرها اليد والفم
أوليت فلاناً خيراً: أي فعلت به خيراً.
يقول: جزاك الذي أنعمت على دين رسوله، نعمة لأتقوم بشكرها اليد واللسان فلا يمكن لأحد مكافأته، ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل.
على مهلٍ إن كنت لست براحمٍ ... لنفسك من جودٍ فإنك ترحم
يقول: ارفق بنفسك ولا تتعبها في طلب المجد، وتحمل المؤن والكلف في الجود بالمال والنفس، فإنك تنفق مالك وتجود بنفسك، فإن كنت لا ترحم نفسك فإن الله يرحمك، وكذلك الناس لما أنت فيه من تكلف الجود بالنفس والمال.
محلك مقصودٌ وشانيك مفحمٌ ... ومثلك مفقودٌ ونيلك خضرم
الخضرم: الكثير.
يقول: محلك عامر بالقصاد، وعدوك مفحم لا يقدر على ذلك، ونظيرك مفقود، وعطاؤك كثير لا يكاد يحصى.
وزارك بي دون الملوك تحرجٌ ... إذا عن بحرٌ لم يجز لي التيمم
التحرج: ترك الحرج، وهو الإثم، وهو فاعل زارك.
يقول: حملني على زيارة تلك الملوك تحرز من الإثم، الذي يلزمني في تركي قصدك، وقصدي غيرك، لأن قصدك واجب لا يجوز العدول عنه إلى غيره، كما أنه إذا ظهر البحر، وأمكن الوصول إليه، لا يجوز العدول إلى التيمم. وهو مأخوذ من قوله تعالى: " فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً "
فعش لو فدى المملوك رباً بنفسه ... من الموت لم تفقد وفي الأرض مسلم
قوله: فعش دعاء.
يقول: لو فدى العبد مولاه بنفسه من الموت، لفداك المسلمون كلهم؛ لأنهم عبيدك، فكيف تفقد وفي الأرض مسلم؟! وقال يمدح عبد الواحد بن العباس بن أبي الأصبع الكاتب:
أركائب الأحباب إن الأدمعا ... تطس الخدود كما تطسن اليرمعا
تطس: أي تكسر، وتهد وترض. واليرمع: الحجارة: يقول: يا إبل الأحباب، إن الدموع تؤثر في الخد إذا جرت، وترضه، كما تفعلن أنتن بالأحجار، فإنكن تكسرنها من شدة وطئكن عليها. واليرمع: الحجارة الرخوة كالمدر يفتت باليد.
فاعرفن من حملت عليكن النوى ... وامشين هوناً في الأزمة خضعا

من حملت: مفعول فاعرفن وفاعله النوى والهون بالفتح: الرفق، وبالضم: الهوان.
يقول للركائب: اعرفن الذي حملته عليكن النوى: وهو البعد. واعرفن حقه وامشين له مشياً ليناً، لئلا تتعبنه. وذلك يدل على عظم حال من عليهن.
قد كان يمنعني الحياء من البكا ... فاليوم يمنعه البكا أن يمنعا
البكا: يمد ويقصر.
يقول: قد كان في أول أمري يمنعني الحياء من البكاء لفقد الأحباء، فالآن تزايد الحب وغلب البكاء الحياء ومنعه من منعي عن البكاء، فصار الحياء ممنوعاً بعد أن كان مانعاً. ومثله قول بعض الأعراب:
قد كنت أعلو الحب حيناً فلم يزل ... بي النفض والإبرام حتى علانيا
حتى كأن لكل عظم رنةً ... في جلده ولكل عرقٍ مدمعا
حول الكلام عن الإخبار عن النفس إلى الغيبة.
فقال: وقد بلغ البكاء إلى حدٍّ حتى صار يبكي جميع جسد العاشق، فصار كل عرق منه يجري الجمع، وكل عظم أو عضو يرن رنيناً من ألم الفراق! وشدة الاشتياق! ويجوز أن يكون الهاء راجعاً إلى كل عضو.
وكفى بمن فضح الجداية فاضحاً ... لمحبه وبمصرعي ذا مصرعا
الجداية: الغزالة. ومن: في موضع الرفع، لأنه فاعل كفى ويجوز أن يكون فاضحاً تمييزاً أو حالاً، وذا في موضع الجر؛ لأنه بدل من مصرعي ومصرعاً نصب على التمييز. والمصرع: يجوز أن يكون اسماً، ومصدراً. وكلاهما محتمل في البيت.
يقول: كفى بمن فضح الغزالة بحسن جيده وعينه أن يكون فاضحاً لمحبه، وكفى بمصرعي هذا مصرعاً.
المعنى: أنه إذا فضح الغزالة، فليس بعجب أن يفضحني في حبه، وكفاني مصرعي يوم فراق من هذه حاله.
سفرت وبرقعها الفراق بصفرةٍ ... سترت محاجرها ولم تك برقعا
روى: الحياء والفراق.
يقول: هذه المرأة سفرت وجهها ومحاجرها، وقامت لها مقام البرقع، ولم تكن هذه صفرة برقعها.
فكأنها والدمع يقطر فوقها ... ذهبٌ بسمطي لؤلؤٍ قد رصعا
الهاء، في كأنها للصفرة وفي فوقها للمحاجر. ويجوز أن يكون في فوقها للصفرة أيضاً. والسمط: اسم لكل جانب من جوانب القلادة.
يقول: كأن صفرة وجهها والدمع فوقها، قلادة من ذهب رصع بلؤلؤ. وشبه الصفرة بالذهب والدمع باللؤلؤ لصفائه ورقته
كشفت ثلاث ذوائبٍ من شعرها ... في ليلةٍ فأرت ليالي أربعا
وروى: نشرت يقول: كشفت ثلاث ظلم، فصارت الليالي أربعاً. شبه كل ذؤابة منها بليلة لسوادها، ولم يجعلها قطعة من الليل؛ دلالة على كثرة الشعر ووفور السواد.
واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقتٍ معا
يقول: استقبلت القمر بوجهها، وهو قمر أيضاً، فأرتني قمرين معاً، أحدهما قمر السماء، والثاني وجهها. ومعاً: نصب على الحال، أي مصطحبين. وقيل: أراد بالقمرين الشمس والقمر. فكأنه يقول: أرتني الشمس والقمر معاً في وجه واحد وجعل وجهها شمساً للمبالغة.
ردي الوصال سقى طلولك عارضٌ ... لو كان وصلك مثله ما أقشعا
روى: ما أقشع وما أقلع فاعله ضمير وصلك والهاء في مثله للعارض وهو السحاب.
يقول: ارجعي إلى الوصال الذي كان بيننا، ثم دعا لها أن يسقى طلولها سحابٌ دائم لا انقطاع له، ولو كان وصلك مثله أي مثل هذا السحاب في الإدامة ما أقشع ذلك الوصل.
زجلٌ يريك الجو ناراً، والملا ... كالبحر والتلعات روضاً ممرعاً
زجل: صفة السحاب أي ذي صوت وهو الرعد. والملا: المكان الواسع، وأراد الأرض. والتلعات: جمع تلعة وهي المكان المرتفع. والممرع: الخصيب.
يقول: سقى طلولك سحابٌ ذو رعدٍ، يريك الجو ناراً؛ من كثرة بروقه، ويريك الأرض الواسعة كالبحر؛ من كثرة مائه، ويريك التلعات معشبةً ممرعة كأنها روضة مريضة مخصبة.
كبنان عبد الواحد الغدق الذي ... أروى، وآمن من يشاء، وأفزعا
الغدق: الكثير، وهو صفة البنان. وروى وأفزعا وأجزعا شبه بنان الممدوح بسحابٍ هذه صفته، ثم أخذ في وصف البنان بأنه غدق يروى كل أحد ويؤمن من يشاء ويخيف. وصفه بغاية السخاء وغاية الفتوة والعلا، وهذا تحقيق. التشبيه بالسحاب لأنه يروي البلاد والعباد ويأتي بالغيث الذي هو رحمة، وبالصاعقة التي هي نقمة.
ألف المروءة مذ نشا فكأنه ... سقي اللبان بها صبياً مرضعا
اللبان: اللبن وقيل: هو جمع اللبن، ونصب صبياً على الحال.

يقول: إنه اعتاد المروءة من صغره؛ فكأنما سقى بها اللبن وهو يرضع، أي كأنه رضع المروءة من لبن أمه
نظمت مواهبه عليه تمائماً ... فاعتادها فإذا سقطن تفزعا
روى نظمت على ما لم يسم فاعله ومواهبه اسمه، والمفعول الأول القائم مقام الفاعل. وتمائما نصب على أنه المفعول الثاني. هذه رواية ابن جنى. قال: ومعناه أن اعتقاده أن مواهبه تقيه من الذم كاعتقاد التمائم أنها تقيه من الآفات، فإذا خلا من مواهبه يفزع كما يفزع ذو التمائم إذا سقطت تمائمه.
وروى نظمت على الفعل المسند إلى الفاعل. وفاعله المواهب، والتمائم المفعول. والمعنى: مواهبه حصلت له من الحمد والثناء وأدعيه السؤال، ما هو كالتمائم، فهو إذا خلا من ذلك أنكر ذلك، وفزع من سقط تميمته. وروى: عقدت مواهبه.
ترك الصنائع كالقواطع بارقا ... تٍ والمعالي كالعوالي شرعا
الصنائع: النعم. والعوالي: جمع عالية، وهي الرمح الأعلى. والشرع: الممدودة المقومة نحو الأعداء. وبارقات وشع: نصب على الحال. وقيل: لأنه مفعول ثانٍ لترك.
يقول: أظهر الصنائع حتى صارت كالسيوف اللامعات، ورفع المعالي حتى جعلها كالرماح الشرع إلى الأعداء.
متبسماً لعفاته عن واضحٍ ... تغشي لوامعه البروق اللمعا
روى تغشى بالغين: أي تستر وتعشى: أي تظلم وتورث العشي. ونصب مبتسماً على الحال من قوله: ترك الصنائع بارقات وهو مبتسم، ويجوز نصبه على المدح بفعل مضمر، أي أعني مبتسماً. وقوله: عن واضح أي عن ثغر واضح، والمفعول الثاني من تغشى محذوف، أي تغشى لوامعه البروق برقها.
يقول: إنه يلقى سائليه مبتسماً ضاحكاً عن ثغر واضح يغلب لمعانه لمعان البرق اللامع.
متكشفاً لعداته عن سطوةٍ ... لو حك منكبها السماء لزعزعا
متكشفاً: بدل من قوله: متبسماً ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن يكون حالاً من الضمير في متبسماً فيكون العامل متبسماً. وفاعل زعزع ضمير منكبها أي حركها، ومنكبها: جانبها أو بعضٌ منها.
يقول: إنه يلقى عفاته مبتسماً في حال ظهوره لأعدائه أي مكاشفتهم بالعداوة، وله سطوة لوحك بعض منها السماء لحركها.
وإن شئت قطعت الثاني عن الأول فيجوز فيه الرفع على إضمار المبتدأ وكذلك في متبسماً.
الحازم اليقظ الأغر العالم ال ... فطن الألد الأريحي الأروعا
الكاتب اللبق الخطيب الواهب ال ... ندس اللبيب الهبرزي المصقعا
الحازم: الجامع للأطراف، الذي أحواله كلها مجموعة. واليقظ: الكثير التيقظ في الأمور. والأغر: الأبيض. والفطن: العالم بدقائق الأمور. والألد: شديد الخصومة العالم بها. والأريحي: الذي يهتز للعطاء. والأروع: الذي يروعك بجماله.
والندس: الفطن المتجاسر على الأمور. والهبرزي: الخالص الكرم والأصل. وقيل: هو الذي يبرز البدائع من مجده. والمصقع: الفصيح. وهذه الصفات كلها نصب على المدح.
نفسٌ لها خلق الزمان لأنه ... مفني النفوس مفرقٌ ما جمعا
نفسٌ: خبر ابتداء محذوف، أي هي نفسٌ، أو ابتداء وخبره محذوف، أي له نفس.
يقول: إنه يفرق ما جمعه من المال ويفني بالقتل أعداءه فخلقه كخلق الزمان.
بيدٍ لها كرم الغمام لأنه ... يسقي العمارة والمكان البلقعا
يقول: إنه يعم الخاص والعام بجوده، فيشبه الغمام الذي يسقي المكان العامر والخالي.
أبداً يصدع شعب وفرٍ وافرٍ ... ويلم شعب مكارمٍ متصدعا
الشعب الأول: هو الجمع. والثاني هو التفريق.
يقول: إنه يفرق ما اجتمع عنده من الأموال؛ ليجمع بتفريقه ماتفرق من المكارم، فهذا دأبه أبدا.
يهتز للجدوى اهتزاز مهندٍ ... يوم الرجاء هززته يوم الوعى
الوعى غير معجم بمعنى الوغى بالإعجام: وهو الحرب. وتقديره يهتز للجدوى يوم الرجاء اهتزاز مهند هززته يوم الوغى.
يقول: يهتز للعطاء كاهتزاز السيف للحرب.
يا مغنياً أمل الفقير لقاؤه ... ودعاؤه بعد الصلاة إذا دعا
يا مغنياً: نصب لأنه نداء نكرة، وأمل الفقير: مبتدأ. ولقاؤه: خبره.
والجملة في موضع نصب؛ لأنها صفة للنكرة المناداة.
يقول: يا من علا الناس بمواهبه، فكل فقير يرجو لقاءه ويدعو الله تعالى بعد صلاته، أن يجمع بينه وبينه؛ ليغنيه مثل غيره.
أقصره ولست بمقصرٍ، جزت المدى ... وبلغت حيث النجم تحتك فأربعا

أقصر الرجل عن الأمر: إذا تركه. وقوله: فأربعا أراد فأربعن فأبدل النون ألفاً. ومعناه: أقم.
يقول: أقصر وأقم فقد تجاوزت الغاية من المجد، وبلغت مكاناً فوق النجم، فاترك سعيك فليس وراءه غاية. وقوله: فلست بمقصر. أي أقصر فإنك إذا قصرت بعد تجاوز الغاية فلست بمقصر في الحقيقة، إذ ليس بعد الغاية غاية. وقيل: أراد أقصر، أنا أعلم أنك لا تقصر، ولا تقبل مني ذلك.
وحللت من شرف الفعال مواضعاً ... لم يحلل الثقلان منها موضعا
وروى: من شرف المعالي.
يقول: قد نزلت من الشرف والكرم منازل كثيرة لا يقدر الثقلان أن ينزلوا واحداً منها.
وحويت فضلهما وما طمع امرؤٌ ... فيه، ولا طمع امرؤٌ أن يطمعا
يقول: قد جمعت فضائل الجن والإنس، وما طمع أحد في ذلك الفضل؛ لأنه لم يكن في أحد من الخصال مثل ما فيك، ولا خطر ببال أحد.
نفذ القضاء بما أردت كأنه ... لك، كلما أزمعت شيئاً أزمعا
وروى: بعد القضاء.
يقول: إن القضاء يتصرف بإرادتك، فكأنه لك أي كأنه قضاؤك، وأنت تملكه، فكلما عزمت على شيء يعزم هو أيضاً عليه، متابعة لك.
وأطاعك الدهر العصي كأنه ... عبدٌ إذا ناديت لبى مسرعا
وروى: أرادك الدهر.
يقول: إن الدهر الذي لا يطيع أحداً، أطاعك! حتى كأنه عبدك، إذ ناديت أجابك مسرعاً بالتلبية والإجابة.
أكلت مفاخرك المفاخر وانثنت ... عن شأوهن مطي وصفي ظلعا
ظلع: أي عجز.
يقول: إن مفاخرك أبطلت مفاخر الخلق، فكأنها أكلتها ورجعت مطيات وصفي عن غايات تلك المفاخر، ظالعة معييةً بها.
وجرين جري الشمس في أفلاكها ... فقطعن مغربها وجزن المطلعا
الهاء في أفلاكها ومغربها للشمس.
يقول: إن مفاخرك في الدنيا كجري الشمس، فقطعت المغرب وجازت المشرق وبلغت حيث تبلغ الشمس. وإنما قال: في أفلاكها أراد إجرائه.
لو نيطت الدنيا بأخرى مثلها ... لعممنها وخشين ألا تقنعا
نيطت: أي وصلت. كناية في عممنها للمفاخر. والثاني في ألا تقنعا. ويجوز أن يكون للخطاب، ويجوز أن يكون فعل المفاخر. وقوله: وخشين. يجوز أن يكون للمفاخر، ويجوز أن يكون فعل الدنيا الموصولة بدنيا أخرى وما فيها. فأورده على الجمع.
يقول: لو وصلت هذه الدنيا بأخرى مثلها لعمتها مفاخرك، وخشيت مفاخرك الدنيا وما فيها، ألا تقنع أنت ومفاخرك بها.
فمتى يكذب مدعٍ لك فوق ذا ... والله يشهد أن حقاً ما ادعى
روى: يكذب بالرفع على الاستفهام. والله بالواو وهو الأولى لأن ما بعده من البيت يدل عليه. وروى يكذب بالجزم على الجزاء. فالله بالفاء على الجواب. ومعناه على الاستفهام.
يقول: متى يمكن أن يكون من ادعى لك فوق الذي قلت مكذباً؟! لأن الله يشهد أن ما ادعاه لك حق.
وعلى الجزم، معناه: متى ادعى لك مدع فوق هذا وكذب هذا المدعي، فالله يشهد أن ما يدعيه حق وأنه صادق.
ومتى يودي شرح حالك ناطقٌ ... حفظ القليل النزر مما ضيعا
النزر، والقليل: بمعنىً واحد. وجمع بينهما لاختلاف لفظهما، أو للمبالغة.
يقول: متى يقدر ناطق على شرح حالك؟! فإن علمه لا يحيط بكنه صفاتك، ومتى ظن أنه استوفى حالك، كان قد حفظ اليسير مما ضيع، فإن ما ضيعه كثير وما حفظه يسير.
إن كان لا يدعى الفتى إلا كذا ... رجلاً فسم الناس طراً إصبعا
تقديره: إن كان لا يدعى الفتى رجلاً إلا كذا، فالفتى؛ اسم ما لم يسم فاعله، ورجلاً خبره، وطراً نصب على الحال. وقيل: على المصدر. أي: فسم الناس إذا طررتهم طراً: أي جمعتهم جمعاً.
يقول: إن كان لا يدعى الفتى رجلاً إلا إذا كان مثل هذا الممدوح، فيجب أن تسمى جميع الناس إصبعا؛ لأنهم بالإضافة إليه كالإصبع من الجسد، فإذا كان اسمه رجلاً، فاسمهم كلهم الأصبع.
أو كان لا يسعى لجودٍ ماجدٌ ... إلا كذا فالغيث أبخل من سعى
قوله: فالغيث أبخل من سعى ومن للعقلاء، والغيث ليس منهم؛ وإنما حسن ذلك لوجهين: أحدهما: لأن المعنى أبخل الساعين، وهذا يعم من يعقل ومن لا يعقل، فغلب من يعقل كقوله تعالى: " والله خلق كل دابةٍ من ماءٍ " إلى آخره.
والثاني: وهو أن السعي لما كان من صفات العقلاء وقد استعمل في الغيث، أطلق عليه لفظ العقلاء لقوله تعالى: " والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " .

يقول: إن كان السعي في طلب المجد والجود، لا يعد سعياً حتى يكون مثل سعيك، فالغيث المضروب به المثل في الجود، أبخل الساعين؛ لبعده عن بلوغ غايتك وكونك فقته.
قد خلف العباس غرتك ابنه ... مرأى لنا وإلى القيامة مسمعا
يقول: يابن عباس. إن أباك قد خلف غرتك خلفاً منه وعوضاً عن رؤيته إلى يوم القيامة، فإذا رأيناك فكأنا رأيناه، وإذا سمعناك، فقد سمعناه.
واجتاز بمكان في بعض أسفاره بالليل، يعرف بالفراديس، فسمع زئير الأسد فقال يخاطبه:
أجارك يا أسد الفراديس مكرم؟ ... فتسكن نفسي، أم مهانٌ فمسلم؟
فتسكن نفسي: نصب لأنه جواب الاستفهام فنصبه بالفاء.
يقول: يا أسد الفراديس وهو رستاقٌ بدمشق أجارك مكرم حتى تسكن نفسي إليكن؟ أم مهانٌ فمسلمٌ إلى أعدائه.
وحكى عنه أنه قال: ما كانت نفسي نافرة فتسكن، وإنما قلت: فأعلم حقاً.
ورائي وقدامي عداةٌ كثيرةٌ ... أحاذر من لصٍ ومنك ومنهم
يقول: قد أحاط بي من قدامي وورائي، أشياء محذورة، فأعداءٌ أحاذرهم، ولصٌّ أخاف قطعه طريقي، وأسودٌ أحاذرها وأسمع زئيرها.
فهل لك في حلفي على ما أريده ... فإني بأسباب المعيشة أعلم؟
الحلف: من المحالفة، وهي المعاهدة.
يقول للأسود: هل تتحالفين معي على ما أريد من طلب الولاية، فإني مثلك في الافتراس والشجاعة، ولي فضل عليك من جهة أني أعلم بأسباب المعيشة ووجوه المكاسب، منك.
إذاً لأتاك الرزق من كل وجهةٍ ... وأثريت مما تغنمين وأغنم
يقول: لو حالفتني لأتاك الرزق من كل ناحية، فكنت أنت تكسبين من جهةٍ، وأنا أكتسب من جهة، فيكثر ما لنا ويتسع رزقنا.
وقال يمدح عبد الرحمن بن المبارك الأنطاكي:
صلة الهجر لي وهجر الوصال ... نكساني في السقم نكس الهلال
النكس بالفتح أولى، وهو مصدر نكسته والنكس بالضم. أكثر ما يستعمل في عود المرض بعد زواله، وروى ذلك أيضاً في البيت.
والمعنى: أن مواصلة الهجر لي، وهجران الوصال، رداني إلى السقم والنحول، مثل الهلال ينكس إلى النحول بعد الكمال على التدريج، فكأنه يقول كنت صحيح الجسم كامل الخلق فصرت كالهلال.
فغدا الجسم ناقصاً والذي ين ... قص منه يزيد في بلبالي
البلبال: الهم والحزن. وقيل: الاضطراب والتحير.
يقول: قد نحل جسمي، ونقصت أجزاؤه! وما ينقص من الجسم يزيد في الحزن بقدر ما نقص منه!
قف على الدمنتين بالدو من ريا ... كخالٍ في وجنةٍ جنب خال
الدمنة: البعر الملبد، والرماد المتراكم بعضه على بعض. والدو: الصحراء المستوية سميت بذلك لدوي الرياح فيها. وريا: اسم محبوبته. وإنما سمى الدمنتين؛ لأن من عادات العرب ينزلون موضعاً فإذا نفذ ماؤه وتلونت أرضه، انتقلوا إلى موضع آخر.
يقول لنفسه، قف على ما بين الدمنتين في الدو، من دو ريا. فكأنهما خالان في وجنة المحبوبة، أحدهما في جنب الآخر. شبه سواد البعر والرماد في عرصة الدار، بخالٍ في وجنة المحبوبة. وقال في جنب خال. وأراد منه حبيبته، إنها تحسن في عينه كالخيال على الخد.
بطلولٍ كأنهن نجومٌ ... في عراصٍ كأنهن ليالي
الطلول: ما شخص من آثار الديار: كالوتد، والحوض. العرصة: ساحة الدار. والباء في بطلولٍ. في موضع الحال، من قوله: كخال في وجنة. والعامل فيه معنى التشبيه، ويجوز أن يكون بدلاً من الدمنتين، أي قف بطلول في موضع الحال. شبه الأطلال بالنجوم، لأنه اهتدى بها إلى دار حبيبته كما يهتدي بالنجوم، أو لأن الأمطار غسلتها فبيضتها فصارت كالنجوم، وشبه العراص بالليالي؛ لخلائها ووحشتها ولما فيها من الرماد المحترق، وأشار أنه لا خير فيها.
ونؤيٍّ كأنهن عليهن ... خدامٌ خرسٌ بسوقٍ خدال
النوي: جمع النوى، وهو حاجز يحفر حول الخيمة لمنع المطر أن يدخل إليها. والخدام: جمع الخدمة، وهي الخلخال. والسوق: جمع ساق. والخدال: جمع الخدلة، وهي الممتلئة. والهاء في كأنهن: للنؤي، وفي عليهن: للعراص. شبه النؤي بالخلخال؛ لاستدارته حول الخيمة، وشبه موضع البيت بالساق الخدله؛ لامتلائه من الطيف، يوم ارتحال أهله عنه، وجعل الخدام خرساً؛ لأنها لا صوت لها كما لا صوت للنؤي.
لا تلمني فإنني أعشق العشا ... ق فيها يا أعذل العذال
الهاء: ضمير العرصة، والطلول.

يقول: لا تلمني على الوقوف بهذه الأطلال؛ فإني أعشق العشاق؛ وإن كنت أعذل العذال. وفيها: متعلق بقوله: لا تلمني وإن شئت بقوله لا تلمني بالعذال. أو بقوله: فإني أعشق العشاق فيها.
ما تريد النوى من الحية الذوا ... ق حر الفلا وبرد الظلال؟
يقول: أي شيء تريد النوى مني؟ وأنا كالحية الذواق، قد تعودت قطع الفلا، وقاسيت حرها وبرد ظلالها. يعني: أني لا أبالي بالنوى؛ لتعودي الأسفار.
فهو أمضى في الروع من ملك المو ... ت وأسرى في ظلمةٍ من خيال
يقول: هذه الحية الذواق يعني: نفسه أمضى في الحرب وأكثر إتلافاً للنفوس من ملك الموت، وأسرى في ظلمة الليل من الخيال، فلا ترده الظلمات.
ولحتفٍ في العز يدنو محبٌّ ... ولعمر يطول في الذل قال
تقديره: هو محب لحتفٍ يدنو في العز. وهو قالٍ لعمرٍ يطول في الذل.
يعني: أنه يحب العز؛ وإن كان مع الحتف، ويبغض العمر؛ وإن كان مع الذل.
نحن ركبٌ ملجن في زي ناسٍ ... فوق طيرٍ لها شخوص الجمال
قوله: ملجن أي من الجن. فحذف النون؛ لسكونها وسكون اللام من الجن.
يقول: نحن ركب نشبه الجن في أفعالها للزومنا المفاوز، وإن كنا في صورة الإنس، ورواحلنا تشبه الطير؛ لسرعة سيرها، وإن كانت في صورة الجمال.
من بنات الجديل تمشي بنا في البي ... د مشي الأيام في الآجال
الجديل: فحل كريم تنسب إليه كرائم الإبل. وهي تمشي بنا في الفلوات، وتفنيها شيئاً فشيئاً، كما تمشي الأيام في الآجال فتفنيها جزءًا فجزءًا.
كل هوجاء للدياميم فيها ... أثر النار في سليط الذبال
الهوجاء: في الأصل المجنونة، وهي ها هنا: الناقة التي ترمي بنفسها في المسير، من النشاط كأنها هوجاء، ولا يوصف الذكر بها. فلا يقال: بعير أهوج. والدياميم: جمع ديمومة وهي الفلاة. والسليط: قيل: هو السراج. وقيل: هو دهن الزيت. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة.
يقول: كل واحد من هذه الرواحل هوجاء، قد أثر المفاوز فيها وأهزلها وأخذ لحمها؛ كما تأخذ النار دهن الفتيلة وتفنيه.
عامداتٍ للبدر والبحر والضر ... غامة ابن المبارك المفضال
يجوز في عامداتٍ الجر: على البدل من هوجاء. والرفع: على إضمار المبتدأ. والنصب: على الحال. والعامل، ما في الجملة من قوله: للدياميم فيها. أي بمنزله الدياميم عامدات.
يقول: إن هذه الرواحل يقصدون ابن المبارك، الذي هو كالبدر جمالاًن وكالبحر سخاءً، وكالأسد شجاعة وإقداماً، وهو كثير الفضل غزير الإحسان.
من يزره يزر سليمان في المل ... لك جلالاً ويوسفاً في الجمال
وربيعاً يضاحك الغيث فيه ... زهر الشكر في رياض المعالي
جلالاً: نصب على التمييز. وربيعاً: عطف على قوله: يزر سليمان فكأنه قال: ويزر ربيعاً. وجعله ربيعاً؛ لانتفاع الناس فيه وبسببه وعطائه، ولما جعله ربيعاً، جعل رياضه المعالي، وزهرها الشكر والثناء، يعني أنه ربيع يسقي رياض المعالي، الغيث جوده، وزهر تلك الرياض الشكر. ويجوز أن يكون أراد شكر الناس. فشبه جوده بالغيث، وشكرهم بالزهر ومعاليه بالرياض.
نفحتنا منه الصبا بنسيم ... رد روحاً في ميت الآمال
نفحتنا: أي هبت علينا دفعة بعد دفعة. والنسيم: الريح اللينة في هبوبها.
يقول: كانت أمالنا منقطعة عن الناس لبخلهم، فهبت الصبا علينا، بنسيم هذا الربيع، ورد الروح في آمالنا الميتة وأحيتها بعد موتها. وأراد بالنسيم: إشاعة جوده واشتهار كرمه.
هم عبد الرحمن نفع الموالي ... وبوار الأعداء والأموال
يقول: همه مقصور على الإحسان إلى الأولياء، وإهلاك الأموال والأعداء في وجوه البر، واقتناء الحمد والمجد والذخر، ولا يشتغل بغير ذلك من اللهو وجمع الأموال.
أكبر العيب عنده البخل والطع ... ن عليه التشبيه بالرئبال
الرئبال: الأسد.
يقول: إن أكبر العيب عنده البخل، لفرط جوده، وهو شجاع، فإن شبهته بالأسد فقد طعنت فيه؛ لأنه أشجع من الأسد. ويجوز أن يريد: أن من أراد أن يطعن عليه، يمكنه ألا يشبهه بالأسد. وهذا ليس بطعن في الحقيقة.
والجراحات عنده نغماتٌ ... سبقت قبل سيبه بسؤال

يقول: إن عادته في تقديم النوال على السؤال، فإذا سمع نغمات السائل قبل العطاء، تألم منها كما يتألم من الجراحات، وتؤثر تلك النغمات فيه تأثير الجراحات؛ تأسفاً على سبق السؤال على الإعطاء. وقيل: أراد أن يلتذ بالجراحات في الحروب التذاذه بنغمات السؤال. يمدحه بالسخاء والشجاعة.
ذا السراج المنير هذا النقي ال ... جيب هذا بقية الأبدال
الأبدال: زهاد الدنيا. ويقال: إن الأرض لا تخلو منهم. أربعون منهم في الشام، وثلاثون في سائر الأرض، وسمو أبدالاً؛ لأنهم إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر!! وقوله النقي الجيب: أي سليم القلب، من الغش والخيانة. يصفه بالاشتهار كالسراج المنير، وبسلامة القلب؛ وبأنه من أولياء الله تعالى، الذين بهم بقاء الدنيا وقوامها.
فخذا ماء رجله وانضحا في ال ... مدن تأمن بوائق الزلزال
البوائق: جمع البائقة، وهي الداهية، وروى: تأمن، وتؤمن.
يقول: إنه ولي الله تعالى، فلو رش الماء الذي غسل به رجله في المدن والبلدان، لأمنت من الزلزال. وقيل: أراد أن الأرض لا تستقل من طيه إياها، هيبةً منه، فلو أخذ الماء الذي غسل به رجله ورش عليها لسكنت من هيبته.
وامسحا ثوبه البقير على دا ... ئكما تشفيا من الإعلال
البقير: القميص الذي لا كم له. وقيل: هو الفرجي؛ لأنه يبقر مقدمه.
يقول: إن العليل إذا مسح ثوبه شفي من جميع الأدواء.
مالئاً من نواله الشرق والغر ... ب ومن خوفه قلوب الرجال
قابضاً كفه اليمين على الدن ... يا ولو شاء حازها بالشمال
مالئاً وقابضاً: نصبا على المدح. وقيل: على الحال من قوله: هذا بقية الأبدال أي يكون هذا على هذه الأحوال.
يقول: إنه قد ملأ الأرض كلها من عطاياه، واستولى عليها شرقاً وغرباً، وملأ من خوفه قلوب الناس. وقبض عن الدنيا كفه، زاهداً عنها، ولو شاء لنالها بأهون سعيٍ، فالرواية على هذا: عن الدنيا.
وقيل: أراد أنه استولى على الدنيا كلها بيمينه، ولو شاء لأخذها بأصغر الأخذ. وهو المراد بقوله بالشمال. والرواية على هذا: على الدنيا.
نفسه جيشه وتدبيره النص ... ر وألحاظه الظبا والعوالي
يقول: إنه وحده يقوم مقام الجيش، وتدبيره بنفسه يقوم مقام النصرة، ورأيه ولحظاته تقوم مقام السيوف والرماح.
وله في جماجم المال ضربٌ ... وقعه في جماجم الأبطال
الجمجمة: عظم الرأس.
يقول: إذا فرق ماله بالهبات، فإنه يقصد الأبطال ويضرب جماجمهم بالسيف، ويسلب أموالهم. فالضرب الواقع في جماجم الأموال، هو الواقع في رءوس الأبطال.
فهم لاتقائه الدهر في يو ... م نزالٍ وليس يوم نزال
فهم: راجع إلى الأبطال. يعني: أن الأبطال يخافون منه أبداً، فكأنهم طول الدهر في قتال؛ لخوفهم منه، وإن لم يكن قتال. والدهر نصب على الظرفية.
رجلق طينه من العنبر الور ... د وطين العباد من صلصال
العنبر الورد: الذي يضرب إلى الحمرة، ومنه العنبر الأشهب: الذي يضرب إلى البياض، وهما جيدان. والأسود رديء. والصلصال: طين يابس، وهو الذي له صوت.
يقول: إن طينه الذي خلق منه، عنبر الورد، وطين غيره من صلصال، فله فضل على الناس.
فبقيات طينه لاقت الما ... ء فصارت عذوبةً في الزلال
يقول: إنه لما خلق، بقيت من طينته بقية، فخالطت الماء، فصارت تلك البقية عذوبةً في الماء الزلال، ولولاها لكانت كماء البحر.
وبقايا وقاره عافت النا ... س فصارت ركانةً في الجبال
يقول: إن بقايا وقاره وسكونه وهيبته، كرهت الناس فلم ترض بهم؛ لعلمها أنهم لا يستحقونها، فتحولت إلى الجبال فصارت سكوناً فيها.
لست ممن يغره حبك السل ... م وألا ترى شهود القتال
روى: بفتح التاء في ترى. وشهود بضم الشين. وروى: بالضم والفتح.
يقول: لست ممن يغتر بأنك تحب السلم، أي الصلح وألا تختار شهود القتال. وعلى الرواية الأخرى وألا ترى شاهد القتال. فشهود. فعول: بمعنى فاعل.
ذاك شيءٌ كفاكه عيش شان ... يك ذليلاً وقلة الأشكال
يقول: ذاك الشيء، أي ترك القتال، كفاكه ذلة مبغضيك وقلة من يشابهك؛ لأن أعداءك ذلوا وقلوا وأمثاله فقدوا، فليس يوجد أحد يقاومك وكفيت أمر الحرب بهذا الوجه، فلا تحتاج إلى القتال.

واغتفارٌ لو غير السخط منه ... جعلت هامهم نعال النعال
واغتفار: عطف على قوله: عيش شانيك.
يقول: كفاك الحرب اغتفارك ذنوب أعدائك، ولو غير السخط والغضب ذلك الاغتفار واستولى عليه، لجعل أعداءك نعالاً لنعال الأفراس، ولدستهم بخيلك.
لجيادٍ يدخلن في الحرب أعرا ... ءً ويخرجن من دمٍ في جلال
وروى: لجيادٍ وبجياد وهو من تمام البيت الذي قبله، أي تجعلهم نعالاً لنعال جياد، أو تطأهم بجياد تدخل في الحرب أعراء: أي عارية، فتكتسي بالدم فترجع والدم قد غطاها، فكأنها في جلال: أي لابسة جلالاً.
واستعار الحديد لوناً وألقى ... لونه في ذوائب الأطفال
هذا البيت معطوف على قوله: جعلت هامهم. يعني: أن السيوف كانت تختضب بالدم، فتستعير لوناً غير لونها، وألقى لونها البياض على ذوائب الأطفال؛ لأنها كانت تشيبهم من الخوف، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: " يوماً يجعل الولدان شيباً " قال البخاري؟: معناه: أنه يقتل الآباء، ويؤتم الأولاد؛ فيشيبون من الحزن والخوف!
أنت طوراً أمر من ناقع السم ... وطوراً أحلى من السلسال
السم الناقع: هو القاتل لوقته. والسلسال: الماء العذب، السهل في الحلق.
يقول: أنت في حالٍ أمر من السم القاتل، وفي حالٍ أطيب من الماء العذب السائغ.
إنما الناس حيث أنت وما النا ... س بناسٍ في موضعٍ منك خال
يقول: أنت كل الناس، فإذا غبت عن موضع فقد غاب الناس كلهم. وقيل: إنما صار الناس ناساً، إذا كنت فيهم؛ لأنهم يأتمون بك، وكل موضع خلا منك، فأهله لا تعد من الناس.
وقال يمدح أبا علي هارون بن عبد العزي الأوراجي الكاتب:
أمن ازديارك في الدجى الرقباء ... إذ حيث أنت من الظلام ضياء
أمن: فعل ماضٍ، من الأمن، والازديار: افتعال من الزيارة. والدجى: جمع دجية، وهي الظلمة. وضياء: رفع بالابتداء وخبره مقدم عليه، وهو قوله: حيث كنت.
يقول: إن رقباءك أمنوا أن تزوري أحداً في الظلام؛ لأن كل موضع تكونين فيه، مضيءٌ بنور وجهك. ومثله قول الآخر:
طارقٌ نم عليه نوره ... كيف يخفي الليل بدراً طلعا
قلق المليحة، وهي مسكٌ هتكها ... ومسيرها في الليل وهي ذكاء
القلق: الحركة، والاضطراب. وذكاء: اسم الشمس، وهي معرفة غير مصروفة. وقلق: مبتدأ. وهتكها: خبره. ومسيرها: عطف على قلق. وخبره: محذوف. تقديره: ومسيرها في الليل، وهي ذكاء هتك.
يقول: إنها كالمسك إذا حرك فاح فحركتها تهتكها وتنم عليها، وكذلك مسيرها بالليل وهي الشمس هتكٌ لها. فجعل نفسها مسكاً، ووجهها شمساً، فالمصراع الأول من قول امرىء القيس.
ألم تر أني كلما جئت طارقاً ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
ومثل المصراع الثاني:
أرادوا ليخفوا في الظلام مسيرهم ... فنم عليهم في الظلام التبسم
أسفي على أسفي الذي دلهتني ... عن علمه فبه علي خفاء
المدله: هو الذاهب العقل.
يقول: كان لي حزنٌ عليك، فحيرتني يوم الفراق عنه، حتى لم أحس به، وزال علمي به عني، فأسفي الآن على الحزن المتقدم، الذي حيرتني عن علمه، حتى صار خافياً علي. فكأنه اشتاق إلى حزنه الأول: الذي كان قبل حزن الفراق.
وشكيتي فقد السقام لأنه ... قد كان لما كان لي أعضاء
الشكية، والشكاية، والشكوى: بمعنى واحد.
يقول: شكايتي الآن من عدم السقام، لا من السقام؛ لأن السقام إنما كان عندما كان لي أعضاء، فلما فقدت الأعضاء وصرت معدوماً لزوال السقام عني، فأنا أشتاق السقام؛ لأن بوجوده وجود الأعضاء أيضاً.
مثلت عينك في حشاي جراحةً ... فتشابها؛ كلتاهما نجلاء
عين نجلاء: أي واسعة، وكذلك طعنة نجلاء. وقوله: فتشابها ذكره وحقه: فتشابهتا؛ لأن أحديهما العين، والأخرى جراحة، وهما مؤنثان. غير أنه ذهب بهما إلى المعنى، فكأنه قال: فتشابه الشيئان المذكوران. وأراد بالعين: العضو. وبالجراحة: الجرح. كقول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبراً بمرو على الطريق الواضح
وأما قوله كلتاهما فأنثه رداً إلى لفظ العين، والجراحة. وأفرد قوله: نجلاء؛ لأن لفظة كلتا مفردة، وإنما تدل على التثنية لصيغته.

يقول: جعلت بعينيك مثالاً في قلبي. أي جرحت قلبي جراحة واسعة مثل عينك الواسعة، فكل واحد من العين والجراحة واسع.
نفذت علي السابري وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء
السابري: قيل أراد به الثوب الرقيق. وقيل: هو الدرع. والصعدة: القناة القصيرة. ونفذت: فعل العين.
يقول: نفذت عينك السابري على أحد المعنيين ورقته، ووصلت إلى قلبي فجرحته جرحاً واسعاً، ثم قال: ربما تندق الرمح ويلتوي الصلب القوي في هذا السابري؛ إن أراد به الدرع، فالمعنى ظاهر: أي أن عينك نفذت هذا الدرع إلى قلبي، وربما كانت تنكسر عليه الرماح ولا تعمل فيه. وإن أراد به الثوب الرقيق فمعناه أن قميصه ربما كان لا تعمل فيه الرماح بل تندق دون الوصول إلي؛ هيبة مني، في قلب من يريد طعني، ومع ذلك فإن عينك نفذته! وقيل أراد: أن عينك وصلت إلى قلبي وجرحته ولم تخرق الدرع ولا القميص. كما قال:
رامياتٍ بأسهمٍ ريشها الهد ... ب تشق القلوب قبل الجلود
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... فإذا نطقت فإنني الجوزاء
الصخرة: إذا كانت بالوادي كانت أصلب وأثبت.
يقول: أنا كصخرة الوادي في الصلابة والثبات، فإذا زاحمني أحدٌ في الفضل والكمال، أو في حال القتال لا يقدر على إزالتي عما أنا عليه من الحال، وما أختص به من الجلال.
وقوله: فإذا نطقت فإنني الجوزاء له معنيان.
أحدهما: أنه شبه نفسه بالجوزاء؛ لعلو محله عن كل ناظر. أي إذا نطقت لم يدرك غايتي أحد في البلاغة، كما لا يدرك أحد الجوزاء، وخصه بالذكر لأنه يشبه صورة الإنسان. والثاني: أنه أراد به ما يقول المنجمون من أن الجوزاء وصاحبه عطارد، يدلان على البلاغة والنطق. فيقول: أنا كالجوزاء: يستفاد من علمي ويقتبس من فوائدي، ويستمد من فصاحتي، كما أن الجوزاء يعطى من ولد فيه النطق والبراعة والبلاغة.
وإذا خفيت على الغبي فعاذرٌ ... ألا تراني مقلةٌ عمياء
يقول: إن خفي على الجاهل فضلي، فأنا أعذره، كما أعذر الأعمى إذ لم ير شخصي؛ لأن الجاهل أعمى القلب.
شيم الليالي أن تشكك ناقتي ... صدري بها أفضي أم البيداء؟!
الشيم: جمع الشيمة، وهي العادة. وأفضي: أوسع، وهو اسم المبالغة، وأراد: أصدري أم البيداء أوسع؟! يقول: عادة الليالي لقصدها بمحنها وصروفها، أن تشكك ناقتي، فلا أدري أصدري أوسع بالأيام، وبأموالها، أم الفضاء أوسع.
فتبيت تسئد مسئداً في نيها ... إسادها في المهمة الإنضاء
الإسآد: قيل هو إسراع السير. وقيل: سير الليل كله. وقيل: هو إدامة السير ليلاً ونهاراً. والمهمة: الأرض الواسعة. والإنضاء: مصدر أنضاه. إذا هزله. وتبيت: فعل الناقة. وتقدير البيت: فتبيت تسئد مسئد الإنضاء في نيها إسآداً مثل إسآدها في المهمة.
وإعرابه: تبيت. من أخوات كان، واسمه ضمير الناقة، وتسئد: فعل. في موضع نصب، لأنه خبر تبيت. ومسئداً: نصب على الحال من الضمير الذي فيه تبيت، وهو اسم الفاعل، وفاعله الإنضاء: وهو مرفوع به؛ لأن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل. وإسآدها: نصب؛ لأنه وصف مصدر محذوف، كأنه قد أسأد مثل إسآدها، والضمير في إسآدها: راجع إلى الناقة، والناصب قوله: مسئد. ونظير التقدير الذي ذكرناه قول القائل:
تبيت هندٌ تصلي، مصلياً عمرو ... في دارها، صلاتها في المسجد
هذا كما تقول: مررت بهند واقفاً عندها عمرو فواقفاً: حال من مررت، وعمرو: مرفوع بواقف.
معناه: أن هذه الناقة تسرع في السير، والمهمة. والإنضاء يأخذ من الناقة وينقص منها، مقدار ما تنقص هي من المهمة.
ومثله لكشاجم في الشمعة قوله:
تكيد الظلام كما كادها ... فتفنى وتفنيه في الموقف
والمتنبي حول هذا المعنى إلى المفازة والناقة كما ترى.
أنساعها ممغوطةٌ، وخفافها ... منكوحةٌ، وطريقها عذراء
الأنساع: جمع نسع، وهو سير مضفور كهيئة العنان. والممغوطة: الممدودة. والخف: من البعير، بمنزلة القدم من الإنسان. ومنكوحة: أي دامية. فذكر بلفظ النكاح لذكره العذراء.
يقول: أنساع هذه الناقة ممتدة لهزالها فجالت عليها أنساع رحلها، وخفافها دامية من الحفا وطريقها مجهولٌ لم يسلكه أحد.
يتلون الخريت من خوف التوى ... فيها كما يتلون الحرباء

الخريت: الدليل العالم بخفيات الطرق، كخفاء ثقب الإبرة. والتوى: الهلاك. والحرباء: دابة أكبر من العظاية، على خلقتها. ويقال: إنها ذكر أم حبين تستقبل الشمس دائماً كيف دارت. والهاء في فيها: للطريق، لأنها تؤنث. وقيل: ترجع إلى البيداء.
المعنى: أن هذه الطريق مجهولة فالدليل إذا سلكها يتقلب يميناً وشمالاً وخلفاً وقداماً، ومن ناحية إلى ناحية؛ وهذا هو التلون، كما تتقلب الحرباء في الشمس. ذكره ابن جنى.
وقيل: أراد أنه يصفر لونه مرة، ويسود تارة، ويحمر أخرى؛ خوف الهلاك ورجاء الاهتداء. فهذا هو التلون كحال الحرباء مع الشمس.
بيني وبين أبي عليٍّ مثله ... شم الجبال ومثلهن رجاء
الهاء في مثله: للممدوح. والشم: جمع أشم، رفع لأنه بدل من قوله: مثله ويجوز أن يكون الابتداء مضمر أي: هو شم الجبال. فيكون كالتفسير لمثله ومثلهن منصوب؛ لأنه وصف لنكرة وهو رجاء فلما تقدمت على الموصوف نصبت على الحال.
يقول: بيني وبين الممدوح جبالٌ، هي مثل الممدوح في العلو والثبات والرزانة والوقار. فشبه الجبال به، ولم يشبهه بالجبال.
وهذه عادته: أن يمكن التشبيه في الموصوف، ويجعل المعنى ثابتاً فيه. ثم قال: ومثلهن رجاء. أي لي رجاء عنده مثل هذه الجبال.
وعقاب لبنانٍ، وكيف بقطعها ... وهو الشتاء، وصيفهن شتاء؟
العقاب: جمع عقبة. ولبنان: جبل بالشام في ناحية دمشق. والباء في بقطعها زائدة. قوله: وهو الشتاء في موضع نصب على الحال.
يقول: بيني وبينه عقابٌ وهي شديدة البرد، وصيفها مثل شتاء غيرها، فكيف لي بقطعها في الشتاء وهي بهذه الصفة؟
لبس الثلوج بها علي مسالكي ... فكأنها ببياضها سوداء
لبس: أي عمى وغطى وأخفى، علي الطريق في هذه العقاب، فكأنها مع بياضها سوداء؛ حيث أن الطريق خفي فيها وهي بيضاء، كما يخفى في سواد الليل، إذ العادة أن الطريق لا يخفيه إلا سواد الليل وظلمة الغيم، فمتى خفي بالبياض صار بمنزلة السواد.
وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ ... سال النضار بها وقام الماء
النضار: هو الذهب. وقام الماء: أي جمد. وأراد بالكريم: الممدوح. يعني إنما جمد لتحيره في عطائه، وخجله من كثرة سخائه، وسال الذهب في هباته كما سال الماء.
جمد القطار فلو رأته كما رأى ... بهتت فلم تتبجس الأنواء
الأنواء: الأمطار بالقمر؛ وقد بيناه. وتتبجس: أي تتفجر. ورأى: فعل القطار، رده إلى اللفظ، وليس فيه علامة التأنيث. وروى: كما أرى أي لو رأته القطار كما أرى وأشاهد، لميزت كما ميزت، ولو رأته الأنواء والقطار على اختلاف التقدير. يعني: لو رأته الأنواء كما رأته القطار. ويجوز رفع الأنواء من ثلاثة أوجه: أحدها: بقوله: رأته.
والثاني: بقوله: بهتت الأنواء.
والثالث: فلم تتبجس وهو المختار عند البصريين، وباقي الأفعال فيه ضمير الأنواء.
يقول: إن المطر لما رأى جوده جمد وتحير فصار ثلجاً، ولو رأته الأنواء كما رآه المطر لتحيرت ولم تتفجر بالماء؛ خجلاً منه، وهذا على مذهب من يعتقد أن الأمطار من النجوم.
في خطه من كل قلبٍ شهوةٌ ... حتى كأن مداده الأهواء
يقول: كل أحد يهوى خطه لحسنه، فشهوة كل قلب حاصلة في خطه، فكأن مداد خطه من أهواء الناس ومحبتهم.
ولكل عينٍ قرةٌ في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء
القرة: المسرة وأصله البرد. والمغيب: الغيبة. والأقذاء: جمع قذىً، وهو ما يسقط في العين. وروى الإقذاء مصدر من أقذيت عينه إذا طرحت فيها القذى.
يقول: كل أحد يسر من قربه ويحزن لفراقه، فكأن رؤيته قرة العين، وغيبته قذى يسقط فيها.
من يهتدي في الفعل ما لا يهتدي ... في القول حتى يفعل الشعراء
تقديره: من يهتدي في الفعل إلى ما لا يهتدي إليه الشعراء في القول حتى يفعله. فالشعراء: رفع بقوله: ما لا يهتدى وأما يهتدى. ففيه ضمير الممدوح، وكذلك في حتى يفعل وفي هذا البيت وجوه: أحدها: أن من يصلح أن يكون بمعنى الذي، موضعه رفع بخبر الابتداء المحذوف. أي هو الذي، وما بعده إلى آخر البيت صلة، والضمير العائد إليه مستتر في الفعل الذي يليه.
والثاني: يصلح أن يكون استفهاماً: أي من يفعل هذا غيره؟ وهو مرفوع بالابتدائ وما بعده خبر عنه.

والثالث: أنه حذف حرف الجر من يهتدى وعداه إلى المفعول. والأصل: من يهتدى في الفعل إلى ما لا يهتدى. فحذف إلى وأوصل الفعل إلى المفعول.
والرابع: أن ما في قوله ما يهتدى يصلح أن يكون بمعنى الذي، وأن يكون نكرة موصوفة. أي يهتدى في الفعل إلى شيء لا يهتدى إليه الشعراء.
والخامس: أنه حذف الضمير الراجع إلى ما وهو قوله: إليه وهذا لا يجوز إلا في ضرورة؛ لأنه من صلة ما وإنما يجوز حذفه إذا كان متصلاً بالفعل كقولك: ما شربته ماء، وما شربت ماء. فأما إذا انفصل الضمير فلا يجوز حذفه.
المعنى: أنه يهتدى في الفعل إلى ما لا يهتدى إليه الشعراء بالقول، حتى يفعله هو، فإذا فعله اهتدوا إليه.
في كل يومٍ للقوافي جولةٌ ... في قلبه ولأذنه إصغاء
القوافي ها هنا: القصائد.
يقول: إن الممدوح في كل يوم يمدح بالقصائد وينشد، فللقوافي جولان في قلبه، ولها استماع في أذنه.
وإغارةٌ فيما احتواه كأنما ... في كل بيتٍ فيلقٌ شهباء
الفيلق: القطعة من الجيش. والشهباء: بيضاء من الحديد، وإنما تكون دالة إلى الكتيبة، لا إلى الفيلق، والبيت من الشعر.
يقول: إنه كل يوم يقصد ويمدح، ويهب ماله للشعراء، فكل بيت يمدح به، جيشٌ يغير على ماله؛ وذلك لتمكين الشعراء من ماله.
من يظلم اللؤماء في تكليفهم ... أن يصبحوا وهم له أكفاء
من: بمعنى الذي. أي: هو الذي يظلم اللؤماء. ويجوز أن يكون نكرة موصوفة. أي: هو رجلٌ يظلم اللؤماء. واللؤماء: جمع لئيم.
يقول: هو الذي يطلب من اللئام أن يفعلوا مثل فعله، وأن يكونوا نظراء له، فهو يظلمهم بذلك؛ لأنه يكلفهم ما ليس في طباعهم، فهم يظلمون بذلك.
ونذمهم وبهم عرفنا فضله ... وبضدها تتبين الأشياء
نذمهم: أي نعيرهم.
يقول: نحن نعير اللئام ونذمهم ولا يجب أن نذمهم؛ إذ بهم عرفنا فضل الممدوح؛ لأنهم لو كانوا مثله لما عرفنا فضله، وإنما عرفنا فضله لقصورهم عنه؛ لأن الشيء إنما يتبين إذا قرن بضده. وروى: وبضدها تتبين الأشياء، على ما لم يسم فاعله.
من نفعه في أن يهاج وضره ... في تركه، لو تفطن الأعداء
يقول: إن الممدوح نفعه في أن يهيج للحرب؛ لأنه حينئذٍ يغير على أعدائه، ويغنم أموالهم وينتفع بها.
وضره في ترك هيجانه؛ لأنه إذا لم يحارب، صالح أعداءه. واستضراره بذلك: حيث يفرق ما جمعه في حال الحرب. ولو تفطن الأعداء بذلك قصدوا إلحاق الضرر به.
فالسلم يكسر من جناحي ماله ... بنواله ما تجبر الهيجاء
السلم: يذكر ويؤنث. والهيجاء: الحرب. شبه المال بالطائر فاستعار له جناحين.
يقول: الصلح يكسر جناحي ماله، بنواله وتفرقته. أي أن الصلح يقل ماله، وما يكسره الصلح يجبره الحرب؛ لأنه يغنم أموال أعدائه فهو يتلف ويخلف.
يعطي فتعطى من لها يده اللها ... وترى برؤية رأيه الآراء
اللها: الدراهم والدنانير، واحدها لهوة. وأصلها القبضة التي تلقى في فم الرحاء. والآراء: جمع الرأي، وهو مقلوب مخفف من الأأراء.
يقول: إنه يعطي عطاء كثيراً، والمعطى إليه يعطي من عطاياه. يعني: أنه قد أغناه بعطائه، حتى أنه يجود على غيره، وإذا نظر غيره إلى آرائه، تعلم منه الرأي والتدبير، ويبصر به وجه الصواب، بسداد رأيه. وقيل: أراد أنه إذا نظر إلى رأيه فكأنه قد أبصر جميع آراء الناس.
متفرق الطعمين مجتمع القوى ... فكأنه السراء والضراء
يقول: إنه جمع اللين والشدة، والبأس والجود، والرأي لا يدخله خلل، فكأنه لاجتماع اللين والشدة والسراء والضراء. وقيل: أراد بقوله مجتمع القوى باجتماع هذين الخلقين فيه اجتمعت قواه وكملت صفاته.
وكأنه مالا تشاء عداته ... متمثلاً لوفوده ما شاءوا
متمثلاً: نصب على الحال. وما: بموضع رفع.
يقول: كأنه صور مما يكرهه أعداؤه، ومما يحبه أولياؤه في حال تمثله لوفوده وهم أولياؤه. وقيل: أراد أنه يسيء إلى أعدائه في حال إحسانه إلى أوليائه، فيجمع الأمرين في وقت واحد.
يا أيها المجدي عليه روحه ... إذ ليس يأتيه لها استجداء
يقول: يا أيها الرجل الموهوب له روحه، من حيث لم يأت أحد يستجديه. أي: يستوهبه. يعني: لو طلب طالبٌ روحك لوهبته منها، فمن لا يطلب ذلك فكأنه وهبه منها. ومثله:

ولو لم يكن في كفه غير روحه... البيت
ومثله قوله:
لا خلق أسمح منك إلا عارفٌ ... بك راء نفسك لم يقل لك هاتها
احمد عفاتك لا فجعت بفقدهم ... فلترك ما لم يأخذوا إعطاء
يقول: احمد سائليك؛ حيث لم يستوهبوك نفسك؛ لأنهم لو استوهبوها منك لأعطيتهم إياها! فتركهم لروحك بمنزلة الإعطاء منهم لك. وقوله: ولا فجعت بفقدهم حشوٌ لطيف. وفيه وجهان: أحدهما: أنه دعاء لهم، لما ذكر من أنه ينتفع بهم. والثاني: أنه دعاء له بدوام النعمة وبقاء الدولة. فكأنه قال: لا زلت مقصوداً.
لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ ... إلا إذا شقيت بك الأحياء
لهذا البيت معنيان: أحدهما: أن الأموات لا تكثر إلا إذا غضبت على الأحياء فقتلتهم وأفنيتهم فشقوا. وقوله: كثرة قلة يعني أنها في الحقيقة قلة من حيث كانت فناءً وعدماً، أو لأن الأموات تبلى فتذروها الرياح وتأكلها الوحش والطير، فهي تقل وإن كثرت.
والثاني: أن الأموات لا تكثر إلا إذا مات هذا الممدوح، وشقي الأحياء بفقده، وأنهم يموتون كلهم بموته؛ فحينئذ تكثر الأموات كثرة في قلة؛ لأنه من حيث هو موت رجل واحد قليل، ومن حيث ينضم إليه موت الخلق كثير. ومثله قول الآخر:
لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ... ولا شاةٌ تموت ولا بعير
ولكن الرزية موت حيٍّ ... يموت بموته خلقٌ كثير
وقال أبو عمرو السلمي: عدت أبا علي الأوراجي في علته التي مات فيها بمصر فاستنشدني:
لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ
فجعل يستعيده ويبكي، فخرجت ولحقت بمنزلي فقيل: إنه مات! وكان أبو علي يتصوف.
والقلب لا ينشق عما تحته ... حتى تحل به لك الشحناء
الشحناء: البغض، كأنها تشحن الصدر، أي تملؤه عداوة.
يقول: إن القلب لا ينشق عما دونه وما فيه، بالرماح والأسلحة، إلا إذا نزلت به عداوتك. وقيل: أراد أن القلب لا يحتمل عداوتك، فإذا حلت به عداوتك انشق القلب فمات فزعاً وخوفاً. فكأنه يقول: لا يهلك أحد إلا ببغضه.
لم تسم يا هارون إلا بعد ما اق ... ترعت ونازعت اسمك الأسماء
يقول: لما ولدت تنافست الأسماء في الشرف بك حتى تقارعت بالقرعة عليك فخرج سهم هارون فسميت به، فلم تسم بهارون إلا بعد هذه الحالة.
فغدوت واسمك فيك غير مشاركٍ ... والناس فيما في يديك سواء
يقول: فصرت لا شريك لك في هذا الاسم، إذ لام يسم أحد بهذا الاسم مثلك في الفضل، فصرت منفرداً به والناس شركاء في أموالك، يتصرفون فيها كيف شاءوا.
لعممت حتى المدن منك ملاء ... ولفت حتى ذا الثناء لفاء
اللام في قوله: لعممت جواب القسم، أي والله لعممت، أي ملأت المدن. وملاء: جمع ملآن. واللفاء: الشيء القليل الذي لا قدر له.
يقول: قد عممت الأرض بجودك، حتى المدن ممتلئة به، وسبقت ثناءك، لما لك من القدر حتى صار هذا الثناء الذي أثني به عليك قليل، في جنب قدرك.
وقد صرع البيت في أثناء القصيدة من غير انتقال إلى قصةأخرى. وهذا جائز وإن قل.
ولجدت حتى كدت تبخل حائلاً ... للمنتهي ومن السرور بكاء
المنتهي: هو الانتهاء.
يقول: جدت حتى بلغت الغاية في الجود وكدت تستحيل بخيلاً، لأن الشيء إذا بلغ غايته انعكس إلى ضده. ثم قال: ومن السرور بكاء! أي أن الإنسان إذا تناهى في السرور دمعت عيناه، فيصير السرور بكاء.
أبدأت شيئاً منك يعرف بدوه ... وأعدت حتى أنكر الإبداء
يقول: ابتدأت فابتدعت بنوع المكارم ما لم يعهد قبلك، فمنك مبدؤه ثم كررته وزدت على ما كنت ابتدأت به، حتى تنسى الأول لأجل الثاني. ومثله:
فإذا أتيت بجود يومك مفخراً ... عمت به أرواح جودك في غد
فالفخر عن تقصيره بك ناكبٌ ... والمجد من أن تستزاد براء
ناكب: أي عادل. وبراء: أي بريء.
يقول: إن الفخر لا يقصر بك وهو ناكب عن أن يقصر بك؛ لأنك قد بلغت الغاية. والمجد: وهو الشرف، بريء من أن تستزيده؛ لأنه ليس فيه رؤية لم تبلغها أنت فتسأل الزيادة حتى تبلغها.
فإذا سئلت فلا لأنك محوجٌ ... وإذا كتمت وشت بك الآلاء

الآلاء: النعم واحدها أليٌّ وإلي أي متى طلب الناس منك شيئاً فليس لأنك أحوجتهم إلى السؤال، ولكن سألوك تشرفاً بسؤالك وتلذذاً به، وإذا كتمك كاتم، أو كتم محلك وذكرك، دلت عليه نعمك الظاهرة المنتشرة، فلا يمكنه ذلك. ومثله قول مسلم:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دل على القبر
وإذا مدحت فلا لتكسب رفعةً ... للشاكرين على الإله ثناء
يقال: كسب المال وكسب الرجل المال.
يقول: إن مدحنا إياك، لا يكسبك رفعة؛ لأنك في نفسك رفيع، وإنما نمدحك شكراً لإحسانك، وتشرفاً بمدحك، وترفعاً بالثناء عليك. ثم ضرب مثلاً بأن من يثني عليك كالشاكرين لله تعالى؛ لأنهم يشكرون الله تعالى، لنفع يعود إليهم، لاإلى الله عز وجل. وأخذه من قول الأول
فلو كان يستغني عن الشكر ماجدٌ ... لعزة ملكٍ أو علو مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال: اشكروا لي أيها الثقلان
وإذا مطرت فلا لأنك مجدبٌ ... يسقي الخصيب ويمطر الدأماء
أجدب القوم: إذا أجدبت أرضهم، أو وقعوا في مكان جدب. والدأماء: البحر.
يقول: إذا مطرت فلست تمطر لإجداب محلك وجدب بلدك، ولكن تمطر مع الاستغناء عنه، كما يمطر المكان الخصيب وكما يمطر البحر مع كثرة مائه.
لم تحك نائلك السحاب وإنما ... حمت به فصبيبها الرخصاء
الصبيب بمعنى المصبوب، وهو المطر. والرخصاء: عرق الحمى. والهاء في به: للنائل. والتأنيث: للسحاب؛ لأنه بمعنى الجمع.
يقول: إن السحاب لم يعارضك في السخاء بمائه وإنما حسدك لزيادتك عليه فحم بسبب كثرة عطائك، فهذا الذي ينصب عنه، عرق الحمى التي أصابته.
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا ... إلا بوجهٍ ليس فيه حياء
يقول: لم تلق الشمس وجهك، إلا بوجه ليس فيه حياء؛ إذ لو كان في وجهها حياء لم تقابله؛ لقصور نورها وبهائها عن نوره وبهائه.
فبأيما قدمٍ سعيت إلى العلا ... أدم الهلال لأخمصيك حذاء
قوله: ما صلة وأي استفهام في معنى التعجب وأدم الهلال: جلده. والحذاء: النعل يقول: إنك بلغت من العلا محلاً لم يبلغه أحد فبأي قدمٍ سعيت إليها؟! ثم دعا له: بأن يكون أديم الهلال نعلاً لأخمصيه: أي لا زلت عالياً حتى يصير الهلال لك بمنزله النعل.
ولك الزمان من الزمان وقايةٌ ... ولك الحمام من الحمام فداء
دعا له فقال: وقاك الله من حواث الزمان بالزمان، وفداك بالموت من الموت. وقيل: أراد ليهلك الزمان دون هلاكك، وليمت الموت دون موتك. وقيل: أراد به أهل الزمان، وقاية لك من حوادث الزمان، وموت أهل الزمان فداء لموتك فيموتون عنك.
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
الورى: الخلق من بني آدم. واللذ: بحذف الياء: لغة في الذي.
يقول: لو لم تكن من بني آدم، الذين هم في الحقيقة منك؛ لأنك جمالهم وشرفهم، ولو لم تكن فيهم لعدوا في العدم، ولكانت حواء بولادة نسلها عقيماً، كأنها لم تلد أحداً.
ودخل أبو الطيب يوماً على أبي علي الأوراجي فقال له أبو علي: وددنا أنك كنت معنا يا أبا الطيب اليوم. فقال أبو الطيب: ولم؟ فقال: ركبنا ومعنا كلبٌ لابن مالك، فطردنا به وحده ظبياً، ولم يكن لنا صقرٌ. فاصطاده! فقال أبو الطيب: أنا قليل الرغبة في ذلك والنظر إلى مثل هذا. فقال أبو علي: إنما اشتهيت أن تراه حتى تستحسنه فتقول فيه شيئاً. فقال أبو الطيب: أنا أفعل. قال له: فأحب منك ذاك. وتحدث أبو علي ثم قال: أنا أحب أن تفعل ما وعدتني، فقال له أبو الطيب: قد أحفيت السؤال! أتحب أن يكون ذلك الساعة؟ فقال أبو علي: أيمكن مثل هذا؟ قال: نعم، وقد حكمتك في الوزن، وحرف الروي. فقال أبو علي: بل الأمر فيهما لك. فأخذ أبو الطيب درجاً وأخذ أبو علي درجا يكتب فيه كتاباً إلى إنسان، فقطع عليه أبو الطيب الذي يكتبه وأنشده يصف كلب صيد أرسل على غزال وليس معه صقر.
ومنزلٍ ليس لنا بمنزل
ولا لغير الغاديات الهطل
الغاديات: السحاب يأتي غدوة، واحدها غادية. والهطل: جمع هاطلة، وهي الكثيرة المطر. يقال: هطلت السماء تهطل هطلاً وهطلاناًح إذا صبت صباً دائماً شديداً.
يقول: رب منزل ليس بمنزل الإنس، وإنما هو منزل السحاب التي تصب الأمطار.
ندى الخزامى ذفر القرنفل

محللٍ ملوحش لم يحلل
الخزامى، والقرنفل: نبتان طيبان. وقيل: الخزامى خيري البر، والندى: الرطب. من بلد الندى. والذفر: الحاد الرائحة الطيبة والخبيثة، وبالدال النتن خاصة. والمحلل: المكان الذي يكثر الحلول فيه. وأراد: من الوحش فحذف النون، وقد مضى مثله.
يقول: هذا المنزل فيه رائحة الخزامى والقرنفل، وإنه منزل الوحش وفيه تخلق دون الناس، فلا يحله أحدٌ من الناس. وقيل: أراد هذا المكان محلل الوحش، وإن أخذه سهل حلال؛ لكثرته وقرب تناوله، فكأن هذا المنزل قد أحل فيه تناول الوحش ما لم يحل اصطياده في غير ذلك الموضع.
عن لنا فيه مراعي مغزلٍ
محين النفس بعيد الموئل
عن: أي ظهر وعرض. فيه: أي في المنزل. والمراعي: اسم من راعى. والمغزل: الظبية التي معها ولدها. فالمراعي الظبى، والمغزل: الظبية. ومحين النفس: الذي دنا حين أجله. والموئل: الملجأ.
يقول: ظهر لنا في هذا المنزل ظبي يراعي ظبية ذات ولدٍ. أي يرعى معها. وهو محين النفس: أي أن الحين لاحق به، ودنا هلاكه، وهو بعيد الملجأ: أي لا ملجآ له؛ لأن الكلب صلاه فصار هالكاً.
أغناه حسن الجيد عن لبس الحلى
وعادة العري عن التفضل
الحلي: الحلي، فخفف. والعري والتفضل: أن يلبس ثوباً يبتذل له في منزل الخدمة. والهاء في أإناه: لمراعي مغزل.
يقول: إن حسن جيده أغناه عن التزين بالحلي، واعتياده أن يكون عرياناً كفاه، لفضله عن لبس الحلي.
كأنه مضمخٌ بصندل
معترضاً بمثل قرن الأيل
يقول: كأنه مطلي بالصندل، لا من كونه يضرب إلى الصفرة كلون الصندل، وقرنه في الطول مثل قرن الأيل: وهو التيس الجبلي. وقيل: الثور الجبلي. ومعترضاً: حال من الهاء في كأنه. وهو من سرعة عدوه يسق لحظة الكلب فلا يقدر أن يتأمله.
يحول بين الكلب والتأمل
فحل كلابي وثاق الأحبل
عن أشدقٍ مسوجرٍ مسلسل
أقب ساطٍ شرسٍ شمردل
الكلاب: صاحب الكلب. والوثاق: الرباط. والأشدق: واسع الشدقين وهما شق الفم عن يمين وشمال أي عن كلب أشدق. ومسوجر: أي في عنقه ساجور. وهو الخشب الذي يكون في عنق الكلب. ومسلسل: أي في عنقه سلسلة. والأقب: الضامر البطن. والساطي: البعيد ما بين الرجلين، إذا مشى. والشرس: السيىء الخلق. والشمردل: الطويل. وقيل: الخفيف الكثير الحركة.
يقول: حل الكلابٌ رباط الحبال عن كلب هذه صفته.
منها، إذا يثغ له لا يغزل
موجد الفقرة رخو المفصل
منها: يرجع إلى الأحبل، والكلاب، وإن لم يجر للكلاب ذكر؛ لدلالة الكلام عليها. وإذا يثغ صوت الثغاء: أي صوت الغنم. واستعاره للغزال وجزم يثغ بإذا ولا يجوز إلا في الشعر. وقوله: لا يغزل من قولهم: غزل الكلب يغزل، إذا دنا وأدرك الغزال، فتحير ولم يمسكه وقوله موجد الفقرة: أي وثيق الفقرة: وهو عظم الظهر وأراد برخو المفصل: أنه سريع التعطف.
يقول: إن هذا الكلب إذا أدرك أيلاً وثغاله لم يدهش من ثغائه، ولم يمسك عنه لاعتياده الاصطياد، وإنه وثيق عظم الظهر ورخو المفصل: أي سريع التعطف
له إذا أدبر لحظ المقبل
كأنما ينظر من سجنجل
يعدو إذا أحزن عدو المسهل
إذا تلا جاء المدى وقد تلي
أحزن: أي وقع في الحزن، وهو ما غلظ من الأرض. والمسهل: الواقع في السهل. والسجنجل: المرآة.
يقول: من تيقظه يرى ما وراءه كما يرى ما قدامه. وإنه يعدو في الحزن من الأرض مثل ما يعدو في السهل.
يقول: كأن عينه المرآة؛ من حيث إنه يرى بها خلفه وأمامه، كما يبصر الإنسان وجهه في المرآة؛ عن عكس المقابلة في الصورة.
يقعي جلوس البدوي المصطلي
بأربعٍ مجدولةٍ لم تجدل
الإقعاء: هو أن يجلس على إليتيه ويرفع ركبتيه. وأقعى الكلب: إذا وقع على ذنبه. وجلوس: نصب على المصدر. المجدولة: المحكمة.
يقول: إذا تبع الصيد وعدا خلفه، أدرك الغاية، وتقدم الصيد، فيتلوه الصيد: يعني أنه يصير متبوعاً بعد أن كان تابعاً. يعني يسبق الصيد ثم يعطف عليه فيصييده ثم قال: يجلس هذا الكلب مثل جلوس البدوي على النار: يعني أنه لعظم جثته يشبه البدوي، وجلوسه يشبه جلوسه عند الاصطلاء بالنار، وقوله: بأربع. أي يقعي بأربع قوائم مفتولة وهي في الحقيقة لم تفتل.
فتل الأيادي ربذات الأرجل

آثارها أمثالها في الجندل
الفتل: جمع أفتل. يعني أنه مفتول اليدين، وقيل: إنه جمع فتلاء، وهي التي تباعد ذراعها عن جنبها. وهي محمودة في الكلب. والأيادي: جمع الأيدي. والأيدي: جمع اليد. وربذات: أي مسرعات.
يقول: إن هذا الكلب يده على هذه الصفة. وإن رجله خفيفة سريعة الانتقال. وقوله آثارها: أي آثار هذه القوائم إذا مشى على الصخر. يعني أنها تؤثر في الحجر، وتترك فيه آثارها.
يكاد في الوثب، من التفتل
يجمع بين متنه والكلكل
وبين أعلاه وبين الأسفل
شبيه وسمي الحضار بالولي
التفتل: الالتواء. والكلكل: الصدر. والحضار: العدو.
يعني: يلتوي في وثبه حتى يكاد أن يجمع بين صدره وظهره، ورأسه وقوائمه. فآخر عدوه كأوله، لا يلحقه فتور ولا تعب. يسرع أولاً ولا يبطىء آخرا
كأنه مضبرٌ من جرول
موثقٌ على رماح ذبل
ذي ذنبٍ أجرد غير أعزل
يخط في الأرض حساب الجمل
مضبر: أي مجتمع الخلق. والجرول: الحجر. والذبل: جمع الذابل، وهو الذي أخذه الحفا، ولم يلبس. والأجرد: قصير الشعر. والأعزل: المائل في أحد شقي الجسد، وهو عيب في الخيل، والكلاب.
يقول: كأنه أحكم ونحت من الحجر، وهو موثق على قوائم طوال، مثل الرماح الذبل. ثم وصف ذنبه، بأنه قليل الشعر؛ ليكون أخف، وأنه غير أعزل؛ لأنه عيب. وقوله: يخط في الأرض قيل: إنه من فعل الذنب، أي ذنبه طويل يخط في الأرض دفعة بعد أخرى، فيمحوا في الثاني، ما يخط في الأول، كما يفعل بالحروف الحساب على التخت، وقيل: أراد أن الكلب يخط ذلك، ووجه التشبيه أن أكثر ما يخط من حروف الهند أحرف معدودة، مختلفة الصور، فشبه آثار يدي الكلب ورجيله، يمنة ويسرة، على ما فيها من الاختلاف بتلك الصور.
والجمل: أصله جمل فشدد للضرورة.
كأنه من جسمه بمعزل
لو كان يبلي السوط تحريكٌ بلي
نيل المنى، وحكم نفس المرسل
وعقلة الظبي، وحتف التتفل
تحريكٌ: مرفوع؛ لأنه فاعل يبلي والسوط مفعوله.
يقول: كان هذا الكلب؛ من سرعته بمعزل عن جسمه. أي يكاد يترك جسمه ويتميز منه لسرعته. وقيل إن الهاء عائدة إلى الذنب، أي أن ذنبه طويل، بعيدٌ من جسمه، فكأنه في ناحية منه.
يقول: لو كان السوط يبلي من كثرة تحريكه، لكان هذا الكلب يبلى من سرعة عدوه، فكما لا يؤثر التحريك في السوط فكذلك كثرة العدو لا تؤثر فيه. فشبه جسمه لدقته وصلابته بالسوط.
وقيل: شبه ذنبه لدقته بالسوط. يعني: لو كان السوط يبلي من كثرة التحريك لكان ذنبه يبلي من كثرة تحريكه إياه.
والتتفل: ولد الثعلب. وقوله: نيل المنى: أي أن صاحبه إذا أرسله على الصيد نال مناه، وحكم لنفسه بما أراد. وهذا الكلب عقلة الظبي: أي هو للظبي بمنزلة العقال، لأنه لا يمكنه من العدو، وأنه هلاك ولد الثعلب. أي لا يقدر أن يفلت منه. وهو من قول امرىء القيس:
.......... قيد الأوابد هيكل
فانبريا فذين تحت القسطل
قد ضمن الآخر قتل الأول
في هبوة كلاهما لم يذهل
لا يأتلي في ترك ألا تأتلي
مقتحماً على المكان الأهوال
يخال طول البحر عرض الجدول
انبريا: أي اندفعا واعترضا. قوله فذين: أي فردين ونصبه على الحال، وأراد به الظبي والكلب. والقسطل: الغبار. والهبوة: الغبرة. أي أقبلا وظهرا للناظر يعدوان في الغبار منفردين لا ثالث معهما، وقد ضمن الآخر وهو الكلب قتل الأول وهو الغزال، لأن الكلب عدا خلف الظبي، وكل واحد منهما في وسط الغبار لم يغفل عن عدوه، بل كان مجداً فيه. الظبي للهرب. والكلب في الطلب. أي كل منهما لم يعرض له بغته ولم يأخذه سهوة والله أعلم ولا في قوله: لا يأتلي زائدة أي لا يأتلي في ترك أن يأتلي. ونصب مقتحماً على الحال، والعامل فيه لا يأتلي. وإن شئت نصبته بما بعده. أي يخال طول البحر مقتحماً. وهذه الأبيات تصلح أن تكون للكلب ولكل من الكلب والظبي يقول: إنه لا يقصر في ترك التقصير وإنه يطرح نفسه لشدة عدوه على الأمر الأعظم الأخوف ولا يبالي، لقلة مبالاته يظن طول البحر عرض النهر الصغير فيطرح نفسه فيه.
حتى إذا قيل له نلت افعل
افتر عن مذروبةٍ كالأنصل
لا تعرف العهد بصقل الصيقل
مركباتٍ في العذاب المنزل

افتر: أي كشر. ومذروبةٍ: أي محدودة. والأنصل: جمع نصل.
يقول: حتى إذا وصل إلى الغزال وقيل له: أصبته افعل به ما شئت. كشر عن أنياب محددةٍ مصقوله كأنها النصول في الحدة، وهذه الأنياب كانت مصقولة خلقةً لا بصنعة صيقل، وإنها مركبة في حنك شديد، كل من عضه حطمه، كأنه عذاب منزل على الغزال.
كأنها من سرعةٍ في الشمأل
كأنها من ثقلٍ في يذبل
كأنها من سعةٍ في هوجل
التأنيث: للمذروبة. ويذبل: جبل. والهوجل: ما اتسع من الأرض.
شبه حنكه؛ لسرعته بالشمال وشبه شدقه بيذبل الجبل المتسع. أي كأن هذه الأنياب مركبة في الشمال، وشبه شدة عض الحنك بالجبل. أي كأن الأنياب من ثقلها مركبه في يذبل.
كأنه من علمه بالمقتل
علم بقراط فصاد الأكحل
المقتل: يجوز أن يكون مصدراً أو اسماً للموضع الذي إذا أصيب قتل، فمعناه على المصدر: أي كأنه لعلمه بالمقتل وأراد به إراقة الدماء علم بقراط الحكيم فصد الأكحل. وعلى الاسم: أي كأنه من حذقه بالصيد واجتنابه عند العض مواضع القتل علم بقراط الحكيم فصد الأكحل. والأكحل: عرق باطن الزراع.
فحال ما للقفز للتجدل
وصار ما في جلده في المرجل
فلم يضرنا معه فقد الأجدل
التجدل: السقوط على الجدالة، وهي الأرض. والأجدل: الصقر.
يقول: فحال: أي استحال وانقلب ما للقفز: وهو الوثوب، وهي القوائم أي صارت قوائمه التي يقفز بها للسقوط، وصار ما في جلدها من اللحم في المرجل: أي ذبحناه وطبخناه بعد سلخ الجلد فلم يضرنا مع هذا الكلب فقد الصقر؛ لأنا صدنا بالكلب وحده، وذلك لأن الكلب لا يقدر على صيد الغزال إلا مع الصقر، إلا هذا الكلب.
إذا بقيت سالماً أبا علي
فالملك لله العزيز ثم لي
ختم بالدعاء له ومعناه ظاهر

قصائد بدر بن عمار
وقال يمدح بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني وهو يومئذٍ على حرب طبرية من قبل أبي بكر محمد بن رائق:
أحلماً نرى أم زماناً جديدا ... أم الخلق في شخص حيٍّ أعيدا؟!
أحلماً: نصب بنرى. وأم زماناً: عطف عليه بأم. وجديدا: صفة لزمان. وقوله: أم الخلق: رفع لأن أم ها هنا منقطعة، والأولى متصلة.
يقول: إن ما أرى من صفات هذا الممدوح وأفعاله عجب أنراه في المنام لبعده عن العادة، أم هذا زمان جديد، غير ما كان من قبل؛ لأننا نرى فيه ما لم يعهد في زمانٍ قبله! أم الناس قد أعيدوا في شخصٍ واحد؟!
تجلى لنا فأضانا به ... كأنا نجومٌ لقينا سعودا
تجلى: أي ظهر. فأضانا به: أي صرنا مضيئين به. وهو فعل لازم وأضاء يلزم ويتعدى.
يقول: ظهر لنا هذا الممدوح، فعلا نوره وشرفه حتى أنرنا به، ولما ظهر كنا كأنا النجوم لقينا سعوداً فحسن بنوره وبركته.
رأينا ببدرٍ وآبائه ... لبدر ولوداً، وبدراً وليدا
أراد بالبدر الأول: الممدوح. والثاني: هو القمر. وبدراً ولوداً ووليداً: نصب برأينا. واللام في قوله لبدر: لام المفعول إذا قدم على الفعل كقوله تعالى: " إن كنتم للرؤيا تعبرون " أي إن كنتم تعبرون للرؤيا.
يقول: لما رأينا بدراً وهو الممدوح وأباه، لأن أباه قد ولد بدراً، ورأينا بدراً قد ولد، وهذا غير معهود في العالم أن يكون البدر والد البدر. جعله بدراً في الحقيقة ثم تعجب من كونه مولوداً!
طلبنا رضاه بترك الذي ... رضينا، له فتركنا السجودا
يقول: رضينا أن نسجد له؛ إعظاماً، فكره هو ذلك وأنكر منا السجود له، ولم يرضه. وطلبنا رضاه بترك السجود؛ موافقة وإيثاراً لرضاه على رضانا.
أميرٌ أميرٌ عليه الندى ... جوادٌ، بخيلٌ بألا يجودا
هذا كقول أبي تمام:
ألا إن الندى أضحى أميراً ... على مال الأمير أبي الحسين
يقول: هو أمير على الناس، والسخاء أمير عليه؛ لأنه يطيع أمره، فهو أبداً جواد لا يعدل عنه. وهو بخيل بألا يجود: أي بخيل. بترك الجود وهذا غاية الجود.
يحدث عن فضله مكرهاً ... كأن له منه قلباً حسوداً
يقول: هو يكره أن يحدث عنه بما فيه من الفضل؛ تنزهاً عن الكبر، فمتى حدث عنه فضله حدث مكرهاً عليه من غير اختيار منه، حتى كأن نفسه تحسده فلا تحب أن تسمع ثناءه، كما لا يحب الحاسد ذلك.
ويقدم إلا على أن يفر ... ويقدر إلا على أن يزيدا

أقدم على الأمر: إذا دخل فيه غير خائف منه.
يعني: أنه شجاع يقدم على كل أمر صعب إلا على زيادةٍ من مجده وعلو محله، فلا نهاية فوقه ولا يقدر عليه.
كأن نوالك بعض القضاء ... فما تعط منه نجده جدودا
يقول: إنك إذا أعطيت إنساناً صار له بنوالك جد في الناس، وحظ من السعادة، فكأن عطاءك بعض القضاء حيث أنه يسعد كما يسعد بالقضاء.
وربتما حملةٍ في الوغى ... رددت بها الذبل السمر سودا
رب وربما وربت وربتما: لغات كثم وثمت وما زائدة.
يقول: رب حملة لك في الحرب، فرجعت ورماحك السمر صاروا سوداً من الدم الذي جف عليها.
وهولٍ كشفت ونصلٍ قصفت ... ورمح تركت مباداً مبيدا
النصل: حديد السيف من غير قائم، وكذلك من الرمح والسهم والسكين.
يقول: ورب هول كشفته عن أوليائك في الحروب وغيرها، ورب سيف كسرته في أعدائك، ورب رمحٍ كسرته في طعنك العدو بعد أن قتلته فتركته مباداً مبيدا: أي مكسوراً وكاسراً لمن طعن به.
ومالٍ وهبت بلا موعدٍ ... وقرنٍ سبقت إليه الوعيدا
يقول: رب مال وهبت ابتداء من غير وعد يتقدمه، ورب قرن: أي عدو، سبقت الوعيد إليه: أي قتلته قبل أن أوعدته وتهددته.
بهجر سيوفك أغمادها ... تمني الطلى أن تكون الغمودا
الطلى: جمع طلية، وهي صفحة العنق. والباء في بهجر سيوفك أي بسبب هجر سيوفك.
يقول: إذا فارقت سيوفك الأغماد لا تعود إليها، وتنتقل من هامٍ إلى هام من رقاب أعدائك، فهي تتمنى أن تكون أغماداً لسيوفك حتى لا تسيئها ولا تضرها، وقيل: أراد أنها تتمنى أن تكون غموداً لسيوفك ومن جملة قتلاك؛ لعلمها أن أعداءك إذا ماتوا بسيوفك كان ذلك فخراً لهم.
إلى الهام تصدر عن مثله ... ترى صدراً عن ورود ورودا
الهاء في مثله للهام، فرده إلى اللفظ.
يقول: ترد هذه السيوف الهام بعد صدورها عن هام آخر، فيصير الصدور عن ورود الهام، فهي أبداً صادرة واردة. وقوله: ترى فعل السيوف ويجوز أن يكون للخطاب. والورود: الإتيان: والصدور: الرجوع.
قتلت نفوس العدى بالحدي ... د حتى قتلت بهن الحديدا
الكناية في بهن للنفوس. يقول: قتلت العدى بالسلاح حتى كسرت السلاح في الأعداء مثل قوله:
ورمح تركت مباداً مبيدا
وقوله:
القاتل السيف في جسم القتيل
ومثله لأبي تمام:
وما كنت إلا السيف لاقى ضريبةً ... فقطعها ثم انثنى فتقطعا
فأنفدت من عيشهن البقاء ... وأبقيت مما ملكت النفودا
طابق بين أنفدت وأبقيت.
يقول: أفنيت من نفوس العدا البقاء، حتى عدمت وفنيت، وأبقيت مما ملكت النفوذ. أي أفنيت أعداءك بالقتل ومالك بالبذل.
كأنك بالفقر تبغي الغنى ... وبالموت في الحرب تبغي الخلودا
يقول: كأنك تبغي البقاء والخلود. بالموت في الحرب، والغنى بالفقر! يعني: أنت تحرص على إتلاف مالك في الجود. ونفسك في الحرب، فكأنك ترى غناك في الفقر، وخلودك في الموت.
خلائق، تهدي إلى ربها ... وآية مجدٍ أراها العبيدا
خلائق: خبر ابتداء محذوف، أي هذه الأفعال خلائق. وربها: قيل هو الممدوح وقيل: هو الله تعالى، وأراها وفعل الله تعالى أو الممدوح يقول: هذه الأفعال خلائق غريبة تدل على صاحبها. الذي هو الممدوح. علامة مجد، أراها الممدوح الذي هو ربها، أي أعلمها العبيد، أي الذين أنفسهم أنفس العبيد، وأراد سائر الناس. وعلى الوجه الآخر: أنها تدل على الله تعالى أنه مجد، أظهرها الله تعالى لعباده لتدل على قدرته.
مهذبةٌ حلوةٌ مرةٌ ... حقرنا البحار بها والأسودا
يقول: هذه خلائق مهذبة. أي مخلصة من كل عيب، وهي حلوة لأحبابه، ومرةٌ لأعدائه. وقيل. حلوة: أي كل أحد يستحلها ويستحسنها. ومرةً: أي لا يمكن الوصول إليها لصعوبتها، ولما فيها من بذل المال والمخاطرة بالنفس، حتى إذا قيست البحار إليها حقرت، وكذلك الأسود حقيرة؛ لما له من السخاء والشجاعة.
بعيدٌ على قربها وصفها ... تغول الظنون وتنضي القصيدا
تغول: يعني تهلك، يقال: غالته غول: أي أهلكته. وتنضي: أي تهزل.

يقول: هذه الخلائق قريبة منا، نشاهدها ولكن وصفها بعيد؛ لأنا لا ندرك غورها، فظنوننا تهلك قبل الإحاطة بها، وأشعارنا تعجز عن استيفائها. وهو المراد بقوله: وتنضي القصيد أي تعجزها.
فأنت وحيد بني آدمٍ ... ولست لفقد نظيرٍ وحيدا
يقول: أنت أوحد بني آدم؛ لفضلك وقصور الناس عن محلك، لا لأنه كان لك نظير ففقدته لأنه مات وانقضى فبقيت وحيداً، بل أنت مع وجود الخلق كلهم بلا نظير، وضد ذلك قول الشاعر:
خلت الديار فسدت غير مدافع ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
وقال أيضاً فيه وقد فصده الطبيب من أجل علة فغرق المبضع فوق حقه فأضر به ذلك:
أبعد نأي المليحة البخل ... في البعد ما لا تكلف الإبل
وروى مكان المليحة البخيلة ومكان قوله: في البعد في البخل يقول: أبعد بعد المحبوبة البخل: أي أن بخلها على محبها أشد عليه من بعدها لأنه بعدٌ لا يحتاج معه إلى تكليف الإبل مشقة السير. ومثله قول أبو تمام:
لا أظلم البين قد كانت خلائقها ... من قبل وشك النوى عندي نوىً قذفا
غير أن أبا الطيب ذكر هذا المعنى في المصراع الأول، وزاد مثلاً آخر في المصراع الثاني.
ملولةٌ ما يدوم ليس لها ... من مللٍ دائم بها ملل
الهاء في ملولة للمبالغة؛ إلحاقاً لها بالأسماء، كالمحمولة والمركوبة والمحلوبة، ولو جعله وصفاً لكان بغيرها؛ لأن فعولاً إذا كان صفةً لا يلحقها علامة التأنيث نحو: امرأة صبور وشكور. وما بمعنى الذي، موضعه نصب. أي تمل الذي يدوم. ويجوز أن تكون بمعنى شيء أي تمل كل شيء يدوم، ومللها دائم، فليس لها من مللها الدائم ملل. وكان القياس أن تمله كما تمل كل شيء يدوم.
وروى. بالتاء فما تكون للنفي ومعناه: أنها ملولة لا تدوم على حالة واحدة؛ فتكون تأكيداً لقوله ملولة ومثل هذا البيت قول بعض المتأخرين:
إن خلف الميعاد منك طبيعةٌ ... فعدينا إذا تفضلت هجرا
يعني: أن من عادتك إخلاف وعدك، فتفضلي وعدينا بالهجر؛ لتجري على طبيعتك فتخلفي وعدك فتصلينا خلافاً لوعدك.
كأنما قدها إذا انفتلت ... سكران من خمر طرفها ثمل
انفتلت: أي تثنت، والتوت. وقيل: إذا التفتت.
يقول: كأن هذه المرأة حين تثني قدها سكران من خمر طرفها. وهذا يتضمن وصفها بالتبختر، ووصف عينيها بالملاحة.
يجذبها تحت خصرها عجزٌ ... كأنه من فراقها وجل
الهاء في كأنه للعجز. والوجل: الخائف. وتحت خصرها: نصب على الظرف. ويجوز أن يكون حالاً من النكرة. أي يجذبها عجز كائن تحت خصرها، فلما تقدم نصب على الحال.
يقول: خصرها دقيق، وعجزها غليظ، فإذا أرادت النهوض جذبها عجزها وأمسكها، كأنه يخاف انفصالها عنه فهو متعلق بها كما يتعلق الرجل بذيل صاحبه إذا خاف نهوضه كما قال الآخر:
فقعودها مثنى إذا قعدت ... وقيامها فرداً إذا نهضت
أي إنها إذا أرادت القيام جذبها ثقل ردفها مرة أخرى.
بي حر شوقٍ إلى ترشفها ... ينفصل الصبر حين يتصل
يتصل الفعل بحر الشوق.
يقول: بي حر شوق إلى مص ريق هذه المرأة، متى اتصل هذا الحر والشوق ينفصل عني الصبر. وقيل: إن يتصل فعل الترشف، كأنه يقول: متى اتصل الترشف ووجدت إليه سبيلاً انفصل صبري وزاد حر الشوق لاستطابة الريق والإشفاق من انقطاعه.
الثغر والنحر والمخلخل وال ... معصم دائي والفاحم الرجل
الثغر: السن ما دامت نابتة في الفم. والنحر: الصدر. والمخلخل: الساق وهو موضع الخلخال. والمعصم: الذراع. والفاحم: الشعر الأسود. والرجل: بين الجعد والسبط.
ومهمةٍ جبته على قدمي ... تعجز عنه العرامس الذلل
المهمة: المفازة. جبته: أي قطعته. وعرامس: جمع عرمس، وهي الناقة القوية الصلبة. والذلول: ضد الصعبة.
يقول: رب فلاةٍ قطعتها على قدمي، وكانت بحيث يعجز عن قطعها الإبل القوية المعودة السير والركوب. يفضل نفسه عليها.
بصارمي مرتدٍ، بمخبرتي ... مجتزىءٌ بالظلام مشتمل

مرتدٍ: أي متقلد. ومخبرتي: بخبرتي: مشتمل أي ملتحفٌ وروى متشحٌ أي متزين. وقوله: بالظلام مشتمل أي ملتحف. وقوله: بصارمي مرتد في موضع الحال ومجتزىء، أي قطعته وأنا كذلك، وكذلك ما بعده إلى آخر البيت، ولو نصبته على الحال لجاز، ولكنه أضمر المبتدأ وجعل قوله: مرتد خبره والجملة في موضوع النصب على الحال.
يقول واصفاً نفسه بجرأة القلب، والهداية لمعرفة المفاوز: ورب مهمة سرت فيها ليلاً وقطعتها وحدي راجلاً لا يصحبني أحد غير سيفي، ولا دليل يدلني إلا معرفتي وخبرتي، وقد اشتملت الظلام وأقمته مقام اللحاف.
إذا صديقٌ نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل
نكرت وأنكرت بمعنىً واحد. وقوله: لم تعيني أي لم يتعذر علي. والحيل رفع لأنه فاعل لم تعيني.
يقول: إذا رأيت من صديقي ما كرهت لم يصعب علي الاحتيال في فراقه. أي أني أفارقه وأسير عنه. ومثله لجرير:
سريعٌ إذا لم أرض داري خياليا
في سعة الخافقين مضطربٌ ... وفي بلادٍ من أختها بدل
الخافقان: جانبا الأرض بين المشرق والمغرب؛ سميا بذلك لوجود الخلق بينهما، ذهابهم ومجيئهم والمضطرب: يجوز أن يكون بمعنى الاضطراب، وأن يكون اسماً لمكان الاضطراب.
يقول: إذا ضاق بي مكان رحلت عنه إلى غيره؛ لأن في سعة الأرض مكانٌ غيره، ويقوم بدل مكان البلد الأول والهاء في أختها للبلد وروى أمثاله من الأشعار كثيرة منها:
ولله أرضٌ ذات طوالٍ عريضةٌ ... إذا ذل منها جانبٌ عز جانب
ومثله قول البحتري:
شرق وغرب تجد من معرضٍ ... فالأرض من تربة والناس من رجل
ومثله:
وفي الناس إن رثت حبالك واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
وهذا مأخوذ من قوله تعالى: " وأرض الله واسعة " وقوله: " ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها " .
وفي اعتماد الأمير بدر بن عما ... رٍ عن الشغل بالورى شغل
الاعتماد: يجوز أن يكون من قولك: اعتمدت فلاناً إذا استعنت به، كأنك جعلته عماداً لك. ويجوز: افتعالاً من عمدت الشيء، إذا قصدته.
يقول: إن اعتمادي بدراً أشغلني عن كل أحد، فلا أبالي بصديق إذا تغير عني وتقديره: في اعتماد الأمير بدر بن عمار شغلٌ لي شغلني عن الورى.
أصبح مالاً كماله لذوي ال ... حاجة لا يبتدي ولا يسل
يقول: أصبح مالا معداً لذوي الحاجة يتناولونه فهو للمحتاجين، كماله له، فكما أنه إذا أراد ماله لم يحتج إلى ابتداء من معط، ولا إلى مسألة، فكذلك المحتاجون يأخذون ويتصرفون فيه متى شاءوا فهو لا يبتدىء بهم بالعطاء، لأنه لا يحزن المال دونهم ولا يسأل، لأنه لا يحتاج إلى ذلك.
وقيل: أراد أنه أصبح مالاً كماله. على معنى: كما أن ماله لا يستأذن الواردون في أخذه، فلا يكون منه ابتداء بالدفع ولا سؤال من الوارد، فكذلك نفسه مبذولة لهم.
هان على قلبه الزمان فما ... يبين فيه غمٌّ ولا جذل
يكاد من طاعة الحمام له ... يقتل من ما دنا له أجل
هان: أي سهل، من قولهم: هذا أمر هين.
يقول: إنه يحتقر الزمان، فلا يحزن لإدباره، ولا يفرح بإقباله. بل غرضه فعل الجميل، لاقتناء الثناء الجزيل.
وقوله: طاعة الحمام له. الهاء في: له الأولى للمدوح، وفي له الثانية: ترجع إلى من.
يقول: إن الموت يطيعه حتى أنه لفرط طاعته يقرب أن يقتل من لم يحن أجله.
يكاد من صحة العزيمة، ما ... يفعل قبل الفعال ينفعل
يقول: إنه صحيح العزم، فمن صحة عزمه إذا هم بأمر قارب أن يكون ذلك الفعل، قبل أن يفعله.
تعرف في عينه حقائقه ... كأنه بالذكاء مكتحل
يقول: إنك إذا نظرت إليه تعرف حقيقته المختصة به في عينه؛ لظهور أثرها عليه، فكأنه قد اكتحل بالذكاء والفطنة، وهذا من قوله تعالى: " سيماهم في وجوههم " وفي المثل: إن الجواد عينه فراره ويجوز أن تكون العين بمعنى النفس. ويجوز أن تكون العين بمعنى الرؤية.
أشفق عند اتقاد فكرته ... عليه منها أخاف يشتعل
الهاء في عليه: للممدوح وفي منها للفكرة.
يقول: أخاف من حدة فكرته، أن يشتعل من حرارتها، لأن الذكي والفطن يوصف بأنه متقد القلب.
أغر، أعداؤه إذا سلموا ... بالهرب استكرثوا الذي فعلوا
روى استكبروا واستكثروا.

أغر: أي أبيض الوجه، صيغته تتعدى إلى مفعولين. أو معروف مشهور كالغرة في الفرس. ثم ابتدأ فقال: أعداؤه إذا سلموا منه بالهرب، استعظموا ذلك من أنفسهم.
يقبلهم وجه كل سابحةٍ ... أربعها قبل طرفها تصل
يقبلهم: من قولهم: أقبلتهم وجه الخيل، فيتعدى إلى مفعولين، ومنه:
وأقبلت أفواه العرق المكاويا
وقيل: أراد يقبل عليهم بوجه، فحذف حرف الجر ضرورة. وأربعها: قوائمها الأربع، والتأنيث للسابحة.
يقول: إنه يستقبل أعداءه بوجه كل فرس سابحة، من سرعة عدوها تصل قوائمها إليهم قبل وصول طرفها إليهم، يعني أنها إذا نظرت إليهم وصلت قوائمها قبل طرفها.
جرداء ملء الحزام مجفرةٍ ... تكون مثلى عسيبها الخصل
جرداء: أي قصيرة شعر الحافر. وقيل: هي المتجردة من الخيل لتقدمها. ومجفرة: أي عظيمة البطن لملء حزامها. والعسيب: العظم الذي عليه شعر الذنب، ويستحب قصره. والخصل: جمع خصلة وهي القطعة من الشعر. يعني: إن عظم ذنبه قصير، وشعره طويل.
إن أدبرت قلت: لا تليل لها ... أو أقبلت قلت: ما لها كفل!
التليل: العنق.
يقول: إنها مشرفة العنق ممتلئة الكفل، فإذا أقبلت عليك حال عنقها بينها وبين كفلها حتى ظننت أنه لا كفل لها، وإذا أدبرت حال ردفها بينك وبين عنقها، حتى ظننت أنه لا عنق لها. وهذا محمود فيها.
والطعن شزرٌ والأرض واجفةٌ ... كأنما في فؤادها وهل
روى: واجفة، وراجفة، ومعناهما واحد: وهو الاضطراب. والوهل: الخوف. والواو في والطعن. للحال والهاء في فؤادها: للأرض.
يقول: إنه يقبل على أعدائه بخيل، والطعن شزرٌ والأرض مضطربة، حتى كأن في قلبها فزع لشدة الارتعاد.
قد صبغت خدها الدماء كما ... يصبغ خد الخريدة الخجل
الخريدة: الحبيبة. والخجل: فتور يصيب المرأة عند الاستحياء. والهاء في خدها: راجعة إلى السابحة، وقيل إلى الأرض. ومعناه على الأول: إن الدماء قد صبغت خد السابحة، ولا تفزع ولا تنفر، كما يصبغ خد الجارية الحبيبة. الخجل؛ لأنه يولد الحمرة في الوجه. وهذا من قول امرىء القيس:
كأن دماء الهاديات بنحرها ... عصارة حناءٍ بشيبٍ مرجل
وعلى الثاني: أراد أن الأرض قد احمرت بالدم، مثل احمرار خد الجارية بالخجل. وقوله: خد الأرض. استعارة.
والخيل تبكي جلودها عرقاً ... بأدمع ما تسحها مقل
ما تسحها: أي ما تصبها. والمقلة: شحمة العين التي تجمع البياض في السواد. أراد أن الخيل تسيل عرقها من شدة عدوها، وشبه العرق بالدمع، وشبه جلود الخيل بالعيون، وهذا التشبيه حسن؛ لأن الدمع والعرق لا يكونان إلا من الشدة.
سار ولا قفر من مواكبه ... كأنما كل سبسبٍ جبل
روى: سار. وتقديره: وهو سار. والقفر: المكان الخالي. والسبسب: الفضاء الواسع يقول: إنه إذا سار ملأ الدنيا خيلاً ورجالاً، فلا يكون موضعٌ خالٍ من مواكبه؛ لكثرة جيشه، فتصير المفاوز بمنزلة الجبل لكثرة جيشه وكثرة سلاحهم.
يمنعها أن يصيبها مطرٌ ... شدة ما قد تضايق الأسل
الهاء في يمنعها ويصيبها: للمواكب. والأسل: الرماح. وفاعل يمنعها: شدة. وفاعل يصيبها: المطر.
يقول: إن الرماح تضامت وتضايقت حتى حالت بين الخيل وبين المطر فمنعها تضايقها أن يصيبها المطر.
يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليث الشرى يا حمام يا رجل
وروى: يا همام.
يقول: مع هذه الأوصاف المذكورة أنت رجل في الحقيقة. والشرى: موضع بعينه توصف أسوده بالجرأة.
إن البنان الذي تقلبه ... عندك في كل موضع مثل
قوله عندك لا فائدة فيه إلا تمام البيت.
يقول: إن البنان الذي تقلبه بالسخاء هو مثلٌ مضروب في كل موضع، أي: إن الناس يضربون المثل في الجود ببنانك.
إنك من معشرٍ إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا
المعشر: مفعل من المعاشرة، وهو الاجتماع والمخالطة.
يقول: إنك من قوم كرام، لا يعدون الجود إلا بذل الأعمار، فإذا وهبوا ما دون الأعمار، فقد بخلوا عند أنفسهم.
قلوبهم في مضاءٍ ما امتشقوا ... قاماتهم في تمام ما اعتقلوا
الامتشاق: قيل هو استلال السيف. وقيل التقلد به.
يقول: إن قلوبهم في المضاء مثل سيوفهم المستلة، وقاماتهم في الطول مثل رماحهم المعتقلة.

أنت نقيض اسمه إذا اختلفت ... قواضب الهند والقنا الذبل
أنت لعمري البدر المنير ولكنك ... في حومة الوغى زحل
القواضب: القواطع. وقوله: نقيض اسمه أي أنك بدر تضيء الدنيا، ولكنك في الحرب تستحيل زحلاً على أعدائك وتصير ظلمة عليهم ونحساً لهم مثل زحل.
كتيبةٌ لست ربها نفلٌ ... وبلدةٌ لست حليها عطل
النف: الغنيمة. والعطل: التي لا حلي عليها.
يقول: كل كتيبة لست صاحبها فهي غنيمة لأعدائها، وكل بلدة لست واليها، فهي عطل: أي لا عدل فيها. يعني: أن الجيوش لا تمنع إلا بك، والبلاد لا تتزين إلا بعدلك.
قصدت من شرقها ومغربها ... حتى اشتكتك الركاب والسبل
أي قصدت من شرق الأرض ومغربها، فأضمر الأرض وإن لم يجر لها ذكر لتقدم العلم بها كقوله تعالى: " ما ترك على ظهرها من دابة " .
يقول: كثر القصد إليك من نواحي الأرض شرقها وغربها، حتى اشتكتك الركاب والسبل؛ لكثرة سير القصاد عليها إليك، وركوبهم عليها. ومثله قول أبي العتاهية.
إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا
لم تبق إلا قليل عافيةٍ ... قد وفدت تجتديكها العلل
تجتديكها: أي تطلبها منك، والهاء: للعافية.
يقول: إنك وهبت جميع مالك، فلم يبق لك إلا قليل عافية في بدنك؛ وعلمت العلل بسخائك فقصدتك تسأل العافية منك؛ وإنما قال: قليل العافية، لأنه أراد أنه كثير التعب في طلب المكارم وحمل المغارم، فلم يبق من العافية إلا السلامة من المرض فقط.
عذر الملومين فيك أنهما ... آسٍ جبانٌ ومبضعٌ بطل
كان الطبيب فصده فغرق المبضع في ذراعه، فذكر أبو الطيب عذرهما، وأراد بالملومين: الطبيب والمبضع. فقال: إن عذرهما. أنه كان جباناً ومبضعه جريئاً؛ فلما أراد فصده دهش فلم يمكنه ضبط مبضعه فغاص في العرق فوق الواجب، وليس من واحد منهما ذنبٌ.
مددت في راحة الطبيب يداً ... وما درى كيف يقطع الأمل
يعتذر عن الطبيب ويقول: إن صناعة الطبيب فصد العروق، لا قطع الآمال، ويدك معدن الآمال، وقد أمرته بقطع الآمال، ولا عهد له بذلك، فاعذره على غلطه. ومثله لابن المعتز:
يا فاصداً ليدٍ جلت أياديها ... ونال منها الذي يرجوه راجيها
يد الندى هي فارفق لا ترق دمها ... فإن أرزاق طلاب الندى فيها
إن يكن النفع ضر باطنها ... فربما ضر ظهرها القبل
النفع: أراد به الفصد؛ لأن العافية تعود إليه.
يقول: إن كان الفصد ضر باطن يدك فطالما ضر ظهرها تقبيل الناس. أراد أنها لدقتها ولطافتها يؤثر فيها التقبيل. ومثله لابن الرومي:
فامدد إلي يداً تعود بطنها ... بذل النوال وظهرها التقبيلا
ومثله قول أبي تمام:
تقبل الركن ركن البيت نافلةً ... وظهر كفك موقوفٌ على القبل
يشق في عرقها الفصاد ولا ... يشق في عرق جودها العذل
الفصاد: مصدر كالفصد.
يقول: إن كان الفصد يشق عرق يدك ويؤثر فيه، فإن عرق جودها لا يؤثر فيه اللوم.
خامره إذ مددتها جزعٌ ... كأنه من حذاقةٍ عجل
الهاء في خامره: للطبيب، وقيل للمبضع. ومعناه. خالطه. العجل: المستعجل.
يقول: لما مددت يدك إلى الطبيب، أخذته هيبة فدهش، وأخذه الجزع فأداه حذقه إلى الاستعجال، فتجاوز الحد وأفرط فيه، فكأنه من حذاقته مستعجل.
جاز حدود اجتهاده فأتى ... غير اجتهادٍ لأمه الهبل
الهبل: الثكل: وهو موت الولد. أي جاوز الحد فغلط. ثم دعا عليه أنه يفقد.
أبلغ ما يطلب النجاح به الطب ... ع وعند التعمق الزلل
النجاح: الظفر. والتعمق: التكلف وتناهي الحد.
يقول: إن الإنسان إنما يظفر بمراده إذا جرى على طبعه، فإذا تكلف أد إلى الغلط والزلل.
إرث لها إنها بما ملكت ... وبالذي قد أسلت تنهمل
يقول: ارحم يدك فإنها تنهمل بما تملكه من الأموال، وبالدم الذي قد أسلته منها، فلا تجمع عليها سلب الأموال وإسالة الدم فيضر ذلك بها.
مثلك يا بدر لا يكون، ولا ... تصلح إلا لمثلك الدول
يقول: مثلك غير موجود، ولا يوجد في المستقبل، ولا تصلح الدولة إلا لمثلك، فإن لم يكن أحد مثلك فالملك لا يستحقه أحد غيرك أبداً.
وقال أيضاً في بدر بن عمارٍ يمدحه:

بقائي شاء ليس هم، ارتحالا ... وحسن الصبر زموالا الجمالا
ارتحالا: نصب بشآء، وفاعله: ضمير بقائي. وحسن الصبر: نصب بزموا. والجمال: عطف عليه، وليس: بمعنى: لا وأنه ليس له خبر.
وقيل. اسم ليس: مضمر. وهم: خبره. وقيل. اسمه: هم. غير أنه استعمل الضمير المنفصل في موضع المتصل. قوله. زموا: أي أمسكوا الجمال وحبسوها ليركبوها ويحملو عليها ومثله لأبي تمام:
قالوا الرحيل؛ فما شككت بأنه ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا
تولوا بغتةً فكأن بيناً ... تهيبني ففاجأني اغتيالا
البغتة، والفجاءة، والاغتيال متقاربة برحيلهم قبل وقوعه، فكأن البين كان يخاف مني أن يجاهرني بالإقدام علي، فهجم علي وأنا غافلٌ عنه. فقوله: تهيبني من ألفاظ الفخر استعمله في الغزل.
فكان مسير عيسهم ذميلاً ... وسير الدمع إثرهم انهمالا
الذميل: ضرب من السير السريع. وروى: عيرهم.
قال ابن جنى: معناه أن مسير إبلهم كان ذميلاً. وهو السير المتوسط. وسير دمعي انهمالا يعني: أن دمعي سبق عيسهم، فكان سيره أسرع من سير عيسهم. وقيل: إن معناه أن دمعي كان يباري إبلهم فالإبل تسرع السير، والدمع يسرع. وهو الصحيح، لأن الذميل هو السير السريع. كذا ذكره ابن السكيت.
كأن العيس كانت فوق جفني ... مناخاةٍ فلما ثرن سالا
وروى: فلما سرن. مناخاةٍ: أي باركات. يقال: أنخته فبرك، ولا يقال: ناخ. وثار البعير يثور: إذا نهض من مبركه. وسالا: من سال سيلاً فاعله: ضمير الدمع.
يقول: كأن العيس سائرات، كانت فوق جفني مناخة، قد سدت مجاري الدمع وحبسته من السيلان، فلما نهضت عن جفنه عند سيرهن، سال الدمع المحبوس. وهذا من بدائع ما ذكره أبو الطيب.
وحجبت النوى الظبيات عني ... فساعدت البراقع والحجالا
الظبيات، بتحريك الباء، جمع ظبية، نحو جفنة وجفنات. ويجوز الإسكان. والتأنيث: للنوى؛ لأنها مؤنثة. والحجال: جمع حجلة.
يقول: لما ارتحلوا حجبت النوى هذه النساء اللواتي هن كالظبيات عني ورافقت هذه النوى البراقع والحجال، فكما كانت البراقع والهوادج تسترهن، فكذلك النوى، سترتهن عني، فاتفقا من هذا الوجه.
وقيل: إن مساعدتهما هو أن البراقع والهوادج إنما يحصل لهن عند إرادتهن الارتحال، وهو وقت النوى، فكأن النوى ساعدت البراقع والحجال حيث إنهما يكونان معاً.
لبسن الوشي لا متجملاتٍ ... ولكن كي يصن به الجمالا
نصب متجملات على الحال. والمتجمل: من يتكلف التجمل. المعنى: أنهن لبسن ثياب الوشي والديباج، لا لاجتلاب الحسن واكتساب الجمال؛ ولكن لبسنه ليسترن حسنهن ويصن جمالهن. وقيل: أراد أنهن يلبسن ذلك صيانةً لجمالهن من العيون.
وضفرن الغدائر لا لحسنٍ ... ولكن خفن في الشعر الضلالا
الضفر: الفتل. والغدائر: جمع غديرة، وهي الذؤابة، وسميت غديرة؛ لأنها غودرت حتى طالت. والضلال: الضياع.
المعنى: أنهن لا يضفرن شعورهن ويضعن فيها؛ لطولها وكثافتها ووفورها.
وقيل: أراد أنهن خفن ضلال الناس في شعورهن.
وفيه وجهان: أحدهما: أن الدنيا تصير مظلمة من سواد شعورهن، فيضل الناس عن الطريق حضراً وسفراً، فإذا ضفرنها تظهر لهم وجوههن، فيغلب ضياء الوجوه سواد الشعور، فلا يضلون.
والثاني: أن الناس يضلون عن الدين؛ افتتاناً بهن وبحسن شعورهن، فإذا ضفرنها صار الأمر أهون؛ لأنه لا يكاد يتبين فيه الجعودة. التي هي غاية حسن الشعر.
بجسمي من برته فلو أصارت ... وشاحي ثقب لؤلؤةٍ لجالا
جال: فعل الجسم، والثقب. أنث قوله: من برته رداً إلى المعنى، لأن من يقع على المذكر والمؤنث. ولو قال: براه لجاز. والهاء فيه عائدة إلى الجسم. والوشاح ها هنا النطاق.
يقول: جسمي فداء المرأة التي برت جسمي وأنحلته، حتى لو جعلت ثقب لؤلؤة وشاحي: أي لو توشحت بلؤلؤة، لجال جسمي في ثقبها؛ لدقته ونحوله. وجال: فعل الجسم، وفعل الثقب.
ولولا أنني في غير نومٍ ... لبت أظنني مني خيالا
يقول: ذبت حتى صرت كالخيال، الذي لا حقيقة له، لا أنام بالليل؛ لما بي من الوجد، ولو كنت ممن أنام، ثم رأيت جسمي في النوم، لقدرته خيالاً لا حقيقة له، وقيل: معناه لولا أنني متيقظ لظننت نفسي الخيال، الذي يرى في النوم.

بدت قمراً، ومالت خوط بانٍ، ... وفاحت عنبراً، ورنت غزالا
رنت: نظرت. ونصب قمراً وما بعده: على الحال، لأنه أقام اسم الجنس مقام الصفة، فإذا جاز أن يكون صفة، جاز أن يكون حالاً.
ومعناه: بدت منيرةً كالقمر. أي وجهها. ومالت لينة الأعطاف كالغصن: وأراد به القامة. وفاحت زكية كالعنبر، ورنت كحلاء الجفون كالغزال. ومثل هذا قول بعض المتأخرين وهو قوله:
سفرن بدوراً، وانتقبن أهلةً ... وفحن عبيراً والتفتن جآذرا
كأن الحزن مشغوفٌ بقلبي ... فساعة هجرها تجد الوصالا
مشغوف: أي ممتلىء، من شغفه الحب إذا ملأه. والهاء في هجرها للمحبوبة.
يقول: إنها كلما هجرتني واصلني الحزن، فكأنه عاشقٌ لقلبي، كما أعشقها، فلا يجد الحزن سبيلاً إلى قلبي إلا عند هجرانها، فمتى هجرتني واصلني الحزن والكمد.
كذا الدنيا على من كان قبلي ... صروفٌ لم يدمن عليه حالا
روى: يدمن فيكون حالاً منصوباً به. وروى: يدمن. وحالاً: نصب على التمييز. أي لم تزل الدنيا على هذه الحال مذ كانت، لا تثبت صروفها على حالٍ واحد.
يقول: كما أنها لا تدوم لي على حالة واحدة، فكذلك كان حالها مع غيري من الناس الذين قبلي.
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
وروى: أشد الغم في الدنيا سرور. والهاء في عنه: للسرور. وكذلك في صاحبه.
يقول: لا أغتر لسرور الدنيا؛ لعلمي بزوالها، فكل سرور يتيقن صاحبه زواله عنه، فهو أشد الغم عندي؛ لأن العاقل لا يفرح بما تئول عاقبته إلى الحزن والزوال.
ألفت ترحلي وجعلت أرضي ... قتودي والغريري الجلالا
القتود: خشب الرحل. والغريري: فحلٌ منسوب إلى غرير والجلال: مبالغة في الجليل، وهو عظيم الجسم.
يقول: ألفت الرحيل، وجعلت أرضي ظهر البعير، وخشب الرحل، لا أنقلب عنه لكثرة أسفاري وشدة ملازمتي له.
فما حاولت في أرضٍ مقاماً ... ولا أزمعت عن أرضٍ زوالا
أزمعت: أي عزمت.
يقول: ما أقمت في مكانٍ، لأني متنقل من أرض إلى أرض. ولا زلت عن أرض: أي عن ظهر البعير. الذي جعله كالأرض، يمسي ويصبح عليه، فإذا كان كذلك، فلم يقم عن الأرض الحقيقية، ولا زال عن الأرض المستعارة. وهي ظهر البعير.
وقيل: ليست هذه كناية عن إدامة السفر؛ لأنه إذا لم يقم في موضع، فلا يحتاج إلى الإزماع لزواله عنها ورحيله منها.
على قلقٍ كأن الريح تحتي ... أوجهها جنوباً أو شمالا
روى: على قلق: أي أنا على الاضطراب، والتحرك. وروى: على قلقٍ. أي على بعير قلقٍ سريع السير. وروى: يميناً أو شمالاً.
يقول: لم أزل أقلق في السير حتى كأني راكبٌ متن الريح، أصرفها كيف أشاء. مرة جنوباً ومرة شمالاً، والشمال تأتي من شمالك إذا استقبلت القبلة والجنوب تقابلها.
إلى بدر بن عمار الذي لم ... يكن في غرة الشهر الهلالا
وروى: إلى البدر. ومثله من الأسماء، حسنٌ. والحسن والعباس. وحذف التنوين من عمار؛ لسكونها وسكون اللام الأولى من الذي. ويجوز أن يكون جعله اسماً لقبيلةٍ فلم يصرفه.
يقول: لم أزل أتقلب في الأسفار حتى وصلت إلى بدر بن عمار، الذي لم يزل بدراً كاملاً، ولم يكن هلالاً قط، وليس كالبدر الذي يكون ناقصاً في غرة الشهر، ثم يزيد إلى أن يكمل.
ولو يعظم لنقصٍ كان فيه ... ولم يزل الأمير ولن يزالا
يقول مؤكداً للمعنى الذي ذكره في البيت الأول: أي لم يزل عظيماً مذ كان، لا أنه كان ناقصاً ثم صار عظيماً، ولم يزل أميراً فيما مضى، ولا يزال أميراً في المستقبل، ويجوز أن يكون دعاء.
بلا مثلٍ وإن أبصرت فيه ... لكل مغيبٍ حسنٍ مثالا
بلا مثل متعلق بقوله ولن يزالا: أي لم يزل أميراً بلا مثل، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي هو بلا مثل. يعني: أنه جمع كل فضيلة، فكل شيء حسن غائب، يوجد فيه نظيره ومثله وإن كان لا مثل ولا نظير له يجمع ما جمعه من الفضائل، فهو شبه كل شيء حسن.
حسامٌ لابن رائقٍ المرجى ... حسام المتقي أيام صالا

لابن رائق المرجى: في موضع الجر. ويجوز أن يكون صفة مستأنفة للممدوح في موضع الرفع، والأول أولى. وحسام المتقي: جر لأنه صفة لابن رائق وهو اسم جنس بمعنى صفة. وابن رائق: قائد كبير، كان للخليفة المتقي بالله، وكان ابن عمار من قبل ابن رائق.
والمعنى: أن ابن رائق سيف الخليفة، لما صال الخليفة على أعدائه وحارب بني اليزيد في البصرة، وكان بدر حساماً لابن رائق: أي كان يعتمد عليه في حروبه، وكان يقتل به أعداءه.
سنانٌ في قناة بني معدٍ ... بني أسدٍ إذا دعوا النزالا
بني أسد: يجوز أن يكون منصوباً بالنداء المضاف، ويجوز أن يكون بدلاً من قناة بني معد: أي في بني أسد الذين هم قناة بني معد. ويجوز أن يكون بدلاً من معد والتقدير: سنان في قناة بني أسد.
يقول: هو يقوم في الدفع عنهم مقام السنان في القناة يوم الحرب والمنازلة.
أعز مغالبٍ كفاً وسيفاً ... ومقدرةً ومحميةً وآلا
المغالب: الذي يغالبك وتغالبه. والمحمية والمقدرة: القبيلة والأتباع. وكفاً: نصب على التمييز، وعطف سيفاً عليه، وإن كان لا يقال: هو أعزهم سيفاً لأنه أضمر فيه قوله: وأمضاهم سيفاً. يعني: أنه أعز من كل من يغالبه فنفسه أعز، وسيفه أقطع، وحميته وقدرته أكثر وصفه بخمسة أوصاف.
وأشرف فاخرٍ نفساً وقوماً ... وأكرم منتمٍ عماً وخالا
الفاخر: صاحب الفخر، ويجوز أن يكون اسم الفاعل: من فخر يفخر. وروى: منتمٍ ومعتز ومعناهما واحد.
يقول: هو أشرف من فخر بنفسه وقومه، وأعمامه وأخواله أشرف من كل شريف. نفساً وما عده نصب على التمييز.
يكون أحق إثناءٍ عليه ... على الدنيا وأهليها محالا
يقول: إن أحق ما يستحقه من الثناء، محال أن يثنى به على الدنيا، وجميع من فيها؛ لأنه أفضل من جميع أهل الأرض، فثناؤه لا يستحقه أهل الدنيا.
ويبقى ضعف ما قد قيل فيه ... إذا لم يترك أحدٌ مقالا
يترك ويترك: بمعنى واحد، وهو افتعل من الترك. وضعف الشيء: مثله مرتين.
يقول: إذا أثنى عليه الناس، ولم يتركوا مقالاً؛ بقي من أوصافه، ضعف ما وصفوا به.
فيابن الطاعنين بكل لدنٍ ... مواضع يشتكي البطل السعالا
اللدن: الرمح اللين. ومواضع: قيل إنه نصب بالطاعنين، فهو مفعول به. وقيل: نصب على الظرف. وتقديره: مواضع يشتكي فيها البطل السعال.
المعنى على الأول يقول: يابن الطاعنين صدور الشجعان. وهي المواضع التي يخرج منها السعال، فهي مواضع شكاية السعال.
وعلى الثاني: أنهم يطعنون في المواضع التي لا يقد الشجاع أن يسعل فيها؛ من ضيقها وشدتها.
ويابن الضاربين بكل عضبٍ ... من العرب الأسافل والقلالا
يقول: يابن الذين يضربون بكل سيف قاطع، أسافل العرب وقلالها. أراد بالأسافل: الأرجل. وبالقلال: الرءوس: وقيل: أراد بالقلال. رؤساء العرب وبالأسافل. الأتباع. وقيل: القلال: العرب الذين يسكنون الجبال. والأسافل: سكان السهول.
أرى المتشاعرين غروا بذمي ... ومن ذا يحمد الداء العضالا؟!
المتشاعر: الذي يتكلف قول الشعر، وغرو: أي أولعوا. والداء العضال: الذي لا دواء له.
يعني: أرى المتشبهين بالشعراء وليسوا منهم قد أولعوا بذمي، وطعنوا في، وحسدوا منزلتي عندك، وأنا أعذرهم لأني الداء الذي لا دواء له، لأني أبداً أغيظهم، فلابد لهم من أن يذموني.
ومن يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ ... يجد مراً به الماء الزلالا
يقول: من يعيبني؛ إنما يعيبني للنقص الذي فيه، كما أن المريض يجد الماء العذب مراً؛ لأنه في فيه لاقى الماء، فكذلك ليس في شعري ولا في فضائلي مطعن، فمن طعن فلنقص فيه.
وقالوا: هل يبلغك الثريا؟ ... فقلت: نعم، إذا شئت استفالا
الثريا: من الأسماء التي لا تجيء إلا مصغرة، مثل الحميا والحديا والكميت. والاستفال: الانحطاط. وقالوا: الضمير يرجع إلى المتشاعرين، ويجوز أن يرجع إلى الناس، ويكون البيت مستأنفاً.
يقول: إنهم يقولون: أتطمع أن يبلغك الثريا؟ فقلت لهم: قد بلغني فوق الثريا، فإذا شئت أن يحطني عن المحل الذي أنا عليه، يبلغني الثريا في الانحطاط، لا في الارتفاع.
هو المفني المذاكي والأعادي ... وبيض الهند والسمر الطوالا

المذاكى: جمع المذكى، وهو الفرس الذي أتي عليه بعد أن يقرح سنه. وسكن الياء من الأعادي وأصلها الفتح.
يقول: إنه يفنى الخيل بالركض في حروب الأعداء بالقتل، والسيوف والرماح بضرب وطعن. يصفه بغاية الشجاعة.
وقائدها مسومةً خفافاً ... على حيٍّ تصبحه ثقالا
قائدها: أي قائد المذاكى. والمسومة. المعلمة: من السمة. ومسومة وخفافاً وثقالاً: نصب على الحال. والتاء في تصبحه: للمذاكى.
يقول: هو يغير على أعدائه بخيل توافيهم صباحاً، وهي وإن كانت خفافاً في أنفسها سريعة السير فإنها ثقالاً على أعدائه؛ لأنها تهلكهم وتغير عليهم.
جوائل بالقنى مثقفاتٍ ... كأن على عواملهما الذبالا
الجوائل: جمع جائلة، ونصبها على الحال من المذاكى. والقنى: جمع القناة ومثقفات: نصب على الحال من القنى.
وعامل الرمح: قدر ذراعين من أعلاه. والذبال: جمع ذبالة، وهي الفتيلة، شبه أسنة الرماح بقناديل وسرج مشعلة لصفائها وبريقها.
إذا وطئت بأيديها صخوراً ... بقين لوطء أرجلها، رمالا
يصف شدة وطء الخيل، وأنها إذا وطئت بأيديها الصخور الصلبة سحقتها، حتى تصير رملاً، فلا تصل أرجلها إلى موضع الأيدي، إلا وقد صارت رمالا.
جواب مسائلي: أله نظيرٌ؟ ... ولا لك في سؤالك لا، ألا، لا
يقول: من سألني قائلاً: هل لهذا الرجل نظير؟ فجوابي له: لا، ولا لك نظير في سؤالك هذا؛ لأن كل أحد يعلم أنه لا نظير له. ثم افتتح الكلام بقوله: ألا وكرر لا تأكيداً للرد. فكأنه قال: لا لا، كقولك وقد سألك إنسان هل زيد قائم؟ فتقول: لا لا. وفيه تقديم المعطوف على المعطوف عليه وذلك لا يجوز إلا عند الضرورة كقول القائل:
ألا يا نخلة من ذات عرقٍ ... عليك ورحمة الله السلام
لقد أمنت بك الإعدام نفسٌ ... تعد رجاءها إياك مالا
وقد وجلت قلوبٌ منك حتى ... غدت أوجالها فيها وجالا
يقول: كل نفسٍ جعلت مالها رجاءها إياك، فقد أمنت من الفقر؛ لأنك تحقق رجاءها، فكأنه مال له حاصل والأوجال: جمع وجل، وهو الخوف. والوجال: جمع الوجل، وهو الخائف. والهاء في أوجالها وفيها للقلوب.
يقول: قد خافت قلوب الأعداء منك، حتى صار الخوف الذي في قلوبهم خائفاً منك، فتعدى الخوف من قلوبهم إلى نفس الخوف! وقيل: الوجال: جمع الوجل الذي هو الخوف، وهو للتكثير. والأوجال للتقليل. يعني صار قليل وجلهم كثيراً.
سرورك أن تسر الناس طراً ... تعلمهم عليك به الدلالا
الدلال والدل: الشكل والغنج.
يقول: إنك لا تسر إلا بأن توصل السرور إلى الناس كلهم، لتعلمهم كيف يتدللون عليك؛ لأنهم إذا علموا أنك تسر بالإحسان إليهم تدللوا عليك بقبول هباتك وسألوك ما لا يستحقونه منك.
إذا سألوا شكرتهم عليه ... وإن سكتوا سألتهم السؤالا
يقول: إذا سألوك شكرتهم على سؤالهم إياك؛ لحبك العطاء. وإن سكتوا عن سؤال سألتهم أن يسألوك؛ لأنك تلتذ بنغمات سؤالهم، وتحب أن تشكرهم على سؤالهم، فتشتهي أن تكون أبداً شاكراً للسؤال.
وأسعد من رأينا مستميحٌ ... ينيل المستماح بأن ينالا
المستميح: طالب العطاء. والمستماح: المطلوب منه العطاء. والإنالة: الإعطاء. والنيل. الأخذ.
يقول: أسعد من رأينا من الناس، هو الطالب يعطي المطلوب منه؛ بأن يأخذ منه العطاء، وليس كذلك إلا سؤالك؛ لأنهم يأخذون من مالك ما يريدون، ويمنون عليك بما يأخذونه منك.
يفارق سهمك الرجل الملاقي ... فراق القوس ما لاقى الرجالا
يقول: إن سهمك إذا لقي رجلاً نفذ منه وفارقه، كما يخرج من القوس من شدة قوته، ولا يزال يمضي كذلك ما دام يلقى الرجال، واحداً بعد واحد. فقوله: مالاقى الرجالا في موضع النصب على الظرف: أي مدة ملاقاة الرجال وقيل: إن ما للنفي ومعناه. أن سهمه يفارق ما لاقاه فراقه القوس، كما لم يلق شيئاً، ولم يصب أحداً، فيكون أبلغ في القوة.
فما تقف السهام على قرارٍ ... كأن الريش يطلب النصالا
يقول: إن السهام تتجاوز المرمى إلى غيره، فلا تقف على قرار، فكأن الريش يطلب النصل ويطردها وهي تفر منه وهو يطلبها
سبقت السابقين فما تجاري ... وجاوزت العلو فما تعالي
المجاراة: المغالبة في الجري. والمعالاة: من العلو.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8