كتاب : معجز أحمد
المؤلف : أبو العلاء المعري

يقول: جاءت بنا هذه الخيل إلى من هو إنسان عين زمانه، أي كما أن أشرف ما في العيون سوادها، كذلك كافور أشرف الملوك، وهو ناظر الزمان، ومن سواه مثل البياض والمآقي؛ فلهذا قصدناه وتركنا غيره فانتظم معنيين: حسن التشبيه، لأنه شبه السواد بالسواد، والثاني التفضيل.
نجوز عليها المحسنين إلى الّذي ... نرى عندهم إحسانه والأياديا
عليها: أي على الخيل.
يقول: نتجاوز على هذه الخيل عند سيرنا عليها، المحسنين من الناس الذين يرغبون في المقام عندهم، إلى من كانت أياديه ونعمه عندهم، لأنا رأيناهم من قبل.
كأنه يذكر عبوره بابن طغج، وأنه رغب في فتركته وقصدت كافوراً.
فتىً ما سرينا في ظهور جدودنا ... إلى عصره إلاّ نرجّي التّلاقيا
يقول: ما تنقلنا في ظهور أجدادنا السالفة، إلى زمان هذا الممدوح؛ إلا لنصادف زمانه ونسعد بأيامه.
وقيل: أراد بالجدود. جمع الجد، الذي هو الحظ.
ترفّع عن عون المكارم قدره ... فما يفعل الفعلات إلاّ عذاريا
العون: جمع عوان، وهو فوق البكر، ودون القارض المسنة. والعذارى: جمع عذراء.
يقول: يرفع نفسه عن أن يقتدى بغيره في المكارم، فلا يأتي من المكارم إلا ما لا يسبقه أحد فيه.
قال ابن جني: وهذا مما ينقلب هجاءً فكأنه قال: ترفع عن المكارم هزءاً. ثم قال: فما يفعل من المخازي إلا ما لا يسبق إليه؛ لعظمه.
يبيد عداوات البغاة بلطفه ... فإن لم تبد منهم أباد الأعاديا
يقول: يتلطف في أمر الأعداء وإزالة الأحقاد من قلوبهم بإحسانه، فإن لم ينفع فيهم الرفق أهلكهم وأفناهم.
أبا المسك ذا الوجد الّذي كنت تائقاً ... إليه وذا الوقت الّذي كنت راجيا
يقول: كنت مشتاقاً إلى وجهك، راجياً لهذا الوقت، فقصدتك، فافعل أنت ما يليق بك.
وهذا بالهزء أولى، مع قبح كافور وسواد وجهه.
لقيت المروري والشّناخيب دونه ... وجبت هجيراً يترك الماء صاديا
المروري: الفلوات، واحدها مروراة والشناخيب: جمع شنخوب، وشنخاب، وهي القطعة العالية من الجبل. والهجير: شدة الحر. والصادي: العطشان. والهاء في دونه للوجه.
يقول: لقيت الفلوات وشواهق الجبال، وقاسيت الحر الشديد والعطش المهلك، الذي يترك الماء عطشاناً مع أنه يكسر العطش، فكيف حال غيره ؟؟!
أبا كلّ طيبٍ لا أبا المسك وحده ... وكلّ سحابٍ لا أخصّ الغواديا
كان كافور مكنيا بأبي المسك.
يقول: لست أنت أبا المسك وحده، بل أنت أبو كل طيب، إذ الطيب كله مجموع فيك، وكذلك أنت أبو كل سحاب، ولست بالسحاب التي تأتي كل غداة، بل كل السحاب.
يدلّ بمعنى واحدٍ كلّ فاخرٍ ... وقد جع الرّحمن فيك المعانيا
يدل: من الدلال.
يقول: كل شريف إنما يفتخر بمعنى واحد من الفضل، وأنت جمعت كل معاني الفخر.
وهذا أيضاً مما ينقلب هجاء فكأنه يقول: جمع الله فيك كل المقابح.
وعن ابن جني قال: لما وصلت إلى هذا البيت ضحكت فضحك أيضاً، وعرف غرضي. وهو أنه قصد به الهجاء.
إذا كسب النّاس المعالي بالنّدى ... فإنّك تعطي في نداك المعاليا
يقول: إذا بذل الناس الأموال؛ ليكتسبوا المعالي، وهبت أنت - في جملة هباتك - المعالي لقصادك.
يعني: أن من يقصدك يتشرف بهباتك، حتى يبني بها المعالي، أو تهب من يقصدك الولايات العظيمة، والدرجات المنيفة.
يعرض له بأن يوليه ناحيةً.
وغير كثير أن يزورك راجلٌ ... فيرجع ملكاً للعراقين واليا
العراقين: الكوفة والبصرة.
يقول: لا يستكثر منك أن تهب العراقين لرجل قصدك راجلاً فيعود والياً !.
فقد تهب الجيش الّذي جاء غازياً ... لسائلك الفرد الّذي جاء عافيا
يقول: إذا قفل جيشك من الغزو، وهبته لسائل واحد.
وقيل: أراد إذا غزاك جيش أخذته فوهبته لواحد من سؤالك، وطالبي نوالك.
وتحتقر الدّنيا احتقار مجرّبٍ ... يرى كلّ ما فيها وحاشاك فانيا
يقول: رأيت جميع ما في الدنيا فانياً، فلهذا احتقرتها ورغبت في الذكر الجميل والثناء، ثم استثنى الممدوح بقوله: وحاشاك.
وما كنت ممّن أدرك الملك بالمنى ... ولكن بأيامٍ أشبن النّواصيا

يقول: لم تدرك الملك بالتمني والاتفاق، وإنما أدركته بمقاساة الأمور العظيمة، ومعاناة الخطوب الشديدة، ومباشرة الحروب التي تشيب بهولها رءوس الأطفال. وأراد بالأيام: الحروب، والخطوب العظمة.
عداك تراها في البلاد مساعياً ... وأنت تراها في السّماء مراقيا
الهاء في تراها قيل: للمعالي وقيل: للأيام.
يقول: أنت تعتقد في المعالي، أو الخطوب العظيمة، أضعاف ما يعتقده أعداؤك من الملوك، فهم يرونها مساعي في الأرض، وأنت تراها مراقي في السماء، فحرصك عليها أبلغ، ونيلك لها أمكن.
لبست لها كدر العجاج كأنّما ... ترى غير صافٍ أن ترى الجوّ صافيا
يقول: لبست للمعالي أو للأيام، لباس الغبار، وملازمة القتام، حتى كأنك إذا رأيت الجو صافياً من غبار الحروب، رأيت ذلك كراهةً، كما يكره غيرك الغبار، وصفاء الجو عندك، كدره بالغبار. ومثل هذا البيت في صفة السيف قوله:
يلاقيك بسّاماً ووجهك عابسٌ ... فتلقاه عبّاساً وثغرك باسم
وقدت إليها كلّ أجرد سابحٍ ... يؤدّيك غضباناً ويثنيك راضيا
إليها: أي إلى الأيام، التي هي الحروب. والأجرد: القصير الشعر السابق: الذي يتقدم الخيل متجردا عنها. والسابح: الشديد الجريء.
يقول: إنك تقود إلى الحروب كل فرس سابق، وهو يأتي بك إلى الحرب وأنت غضبان، ويرجع بك وأنت راض؛ لوصولك إلى مرادك من الأعداء.
ومخترطٍ ماضٍ يطيعك آمراً ... ويعصي إذا استثنيت أو كنت ناهيا
وهذا عطف على ما قبله بإضمار فعل: أي وقدت إليها كل أجرد سابح، واخترطت كل سيف مجرد.
يقول: سيفك يطيعك إذا أمرته بالضرب، فإن أردت التوقف عن الضرب عصاك، لأنه قد قطع فلا يمكن رده.
وأسمر ذي عشرين ترضاه وارداً ... ويرضاك في إيراده الخيل ساقيا
أي: وحملت كل أسمر ذي عشرين ذراعاً. وهذا على طريق المبالغة؛ لأن ذلك لا يكون، وأكثر ما يكون الرمح ثلاثة عشر ذراعاً. والمحمود ما يكون أحد عشر ذراعاً. وقوله: ترضاه وارداً: أي إذا طعنت به رضيت نفاذه في الطعن، وهو أيضاً يرضاك إذا أوردته في نحور الخيل لتسقيه.
يعني: هو يرضى منك جودة الطعن كما ترضى منه جودة النفاذ.
كتائب ما انفكّت تجوس عمائراً ... من الأرض قد جاست إليها فيافيا
تجوس: أي تدوس وتطأ. والعمائر: القبائل، الواحدة عمارة.
يقول: إن كتائبه لا تزال تدوس قبائل من أعدائه، قد سرت إليها من بعد، وقطعت فيافي من الأرض. يعني: أنه يقصد الأعداء في ديارهم.
وقيل: أراد بالعمائر الأرض العامرة؛ ليطابق الفيافي.
والمعنى: أنها سلكت المفاوز والفلوات، حتى وصلت إلى ديار الأعداء فوطئتها وأغارت عليها.
يصف بعض غزواته، وأنه يقصد أعداءه في الأماكن البعيدة.
غزوت بها دور الملوك فباشرت ... سنابكها هاماتهم والمغانيا
المغاني: المنازل. واحدها: مغنى.
يقول: غزوت بخيلك دور الملوك فقتلتهم، ووطئت بحوافرها رءوسهم وديارهم.
وأنت الّذي تغشى الأسنّة أوّلاً ... وتأنف أن تغشى الأسنّة ثانيا
يقول: أنت تطرح نفسك على رماح أعدائك قبل أصحابك، وتأنف أن يتقدمك أحد في الحرب وروى: تلقى الأسنة في المصراعين.
يعني: أنك تطاعن الخيل قدماً، وتأنف أن يتقدم عليك أحد.
إذا الهند سوّت بين سيفي كريهةٍ ... فسيفك في كفٍّ تزيل التّساويا
يقول: إذا عملت الهند سيفين متينين من حديد واحد، حتى لا فضل لأحدهما على الآخر، فإذا حصل أحدهما في يدك صار أمضى من الآخر، وزال التساوي بينهما.
وسيف كريهة: أي قاطع، إذا أكره في الحديد والعظام مضى فيها.
ومن قول سامٍ لو رآك لنسله: ... فدى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا
سام: ابن نوح عليهما السلام، أبو العرب والروم والفرس، وحام: أبو السودان والبربر والهند، ويافث: أبو الترك. ويجوز فدى بكسر الفاء وابن أخي بالجر على الإضافة ويجوز: بفتح الفاء على أن تجعل فدى فعلاً فتنصب ابن أخي على أنه مفعول به.
والمعنى: أن ساماً لو رأى سياستك لقال لك: فداك نفسي ونسلي ومالي
مدىً بلّغ الأستاذ أقصاه ربّه ... ونفسٌ له لم ترض إلاّ التّناهيا
يقول: قد بلغ الله الأستاذ هذه المنزلة، وبلغته أيضاً نفسه التي لم ترض إلا بلوغ الغاية في المجد.

دعته فلبّاها إلى المجد والعلا ... وقد خالف النّاس النّفوس الدّواعيا
يقول: دعته نفسه وهمته إلى طلب المجد والمعالي فأجابها، وغيره من الملوك قد خالفته النفوس الداعية.
فأصبح فوق العالمين يرونه ... وإن كان يدنيه التّكرّم نائيا
يقول: أصبح كافور، وقد علا الناس كلهم، فهم يرونه بعيد المراتب على المراقب، وإن كان يدنيه تواضعه من الناس.
ودخل عليه بعد إنشاد هذه القصيدة فابتسم إليه الأسود، ونهض فلبس نعلاً فرأى أبو الطيب شقوقاً برجليه وقبحها فقال يهجوه:
أريك الرّضا لو أخفت النّفس خافيا ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
يقول: أنا أظهر لك الرضا عنك، والسرور بقربك، ولكن ما في نفسي لا يخفى، فإني غير راض عنك، ولا عن نفسي.
أميناً وإخلاقاً وغدراً وخسّةً ... وجبناً ؟ أشخصاً لحت لي أم مخازيا ؟!
مينا، وإخلافاً، وغدراً، وخسةً، وجبناً نصب على المصدر. وشخصاً نصب على الحال وكذلك مخازيا.
يقول: جمعت هذه المثالب، فإذا رأيتك لم أدر أنك إنسان، أم أنت مخاز ؟!
تظنّ ابتساماتي رجاءً وغبطةً ... وما أنا إلاّ ضاحكٌ من رجائيا
يقول: إذا رأيتني ضاحكاً حسبت أني مسرور بقربك، راج لفضلك، وليس كذلك، بل ذاك سخرية بنفسي، أضحك منها، كيف رجت منالك مع لؤمك وخستك ؟!
وتعجبني رجلاك في النّعل، إنّني ... رأيتك ذا نعلٍ إذا كنت حافيا
يقول: إذا رأيت رجليك في النعل تعجبت من لبسك النعل؛ لأني رأيتك ذا نعل، وإن كنت حافيا؛ لغلظ رجليك.
وقيل: المعنى إذا رأيتك وأنت لابس النعل تعجبت، وذكرت أيام كنت تمشي حافيا، ورجلاك كأنهما في النعل !
وأنّك لا تدري ألونك أسودٌ ... من الجهل أم قد صار أبيض صافيا ؟!
يقول: من جهلك لا تعرف حقيقة لونك، وأنك أسود أم أبيض ؟
ويذكرني تخييط كعبك شقّه ... ومشيك في ثوبٍ من الزّيت عاريا
يقول: إذا رأيت شقوق كعبك، تذكرت شقها حين كنت عبداً، والسودان تكثر الشقوق بأرجلهم.
وقوله: ومشيك في ثوب من الزيت عارياً: يعني: إني تذكرت أيام جئت من بلاد النوبة، وكنت تعرض على البيع وأنت عريان مطلى بالدهن، فكأنك لبست ثوب الزيت، وهذه عادة السودان إذا جلبوا أدهنوا بالزيت؛ ليصفو سوادهم. ونصب عاريا على الحال.
وقيل: معناه إنك أسود تضرب إلى الصفرة. والمولدون من أهل العراق يسمون من كان غير مشبع السواد زيتياً.
وقيل: معناه الوسخ الذي عليه من آثار دهن الزيت.
ولولا فضول النّاس جئتك مادحاً ... بما كنت في سرّى به لك هاجيا
يقول: إنك لا تعرف الهجو من المدح، فلولا أني أخاف من فضول الناس، لكنت أنشدك الهجو، وأريك أنه غاية المدح.
فأصبحت مسروراً بما أنا منشدٌ ... وإن كان بالإنشاد هجوك غاليا
يقول: كنت تسر بإنشادي هجوك ! ظناً منك أنه مدح، وإن كان هجوك لا يتساوى بالإنشاد.
فإن كنت لا خيراً أفدت فإنّني ... أفدت بلحظى مشفريك الملاهيا
الملاهي: جمع ملهى، وهو كل ما يلهى به. ويجوز أن يكون مصدراً. ونصب مشفريك بلحظي أي أفدت الملاهي؛ بأن لحظت مشفريك.
يقول: لم أستفد منك خيراً، ولم أصل منك إلى مال، فإني استفدت اللهو برؤية مشفريك. وأفدت: بمعنى استفدت ها هنا.
ومثلك يؤتى من بلادٍ بعيدةٍ ... ليضحك ربّات الحداد البواكيا
الحداد: الثياب السود.
يقول: إن من رآك يضحك منك، حتى النساء اللابسات السواد في المصائب، إذا رأينك يضحكن منك، ويتسلين عن غمهن، وكل من عليه الحزن يقصدك من الأماكن البعيدة؛ ليلهو عن حزنه.
وبنى كافور داراً بإزاء الجامع الأعلى على البركة، وتحول إليها وهنأه الناس بها، وطالب أبا الطيب بذكرها فقال:
إنّما التّهنئات للأكفاء ... ولمن يدّنى من البعداء
يدنى: يفتعل من الدنو.
يقول: إنما تكون التهنئة بين الأكفاء، وأنا لست بكفء لك، وتكون لمن يكون بعيداً من الملوك ثم يدنوا منهم، وأنا لست بواحد من هذين، بل أنا عضو من أعضائك. على ما يبين فيما يليه.
وأنا منك لا يهنّئ عضوٌ ... بالمسرّات سائر الأعضاء
يقول: أنا عضو من اعضائك، وهل رأيت عضو إنسان يهنئ سائر أعضائه ؟! فكما لا يهنئ الإنسان نفسه، كذلك لا يلزمني تهنئتك؛ لأني مشارك لك في الأحوال.

مستقلٌّ لك الدّيار ولو كا ... ن نجوماً آجرٌّ هذا البناء
روى مستقل بفتح القاف. والديار رفع. وروى: مستقل لك الديار نصب.
يقول: أنا أستقل لك الديار والأبنية، ولو كان آجرها من النجوم.
ولو أنّ الّذي يخرّ من الأم ... واه فيها من فضّةٍ بيضاء
يخر: أي يصوت، من الخرير.
يقول: لو كان الذي يخر فيها من المياه من فضة بيضاء، لاستقللتها لك في جنب قدرك.
أنت أعلى محلّةً أن تهنّا ... بمكانٍ في الأرض أو في السّماء
أن تهنا: أصله أن تهنأ، فخفف الهمزة، فأبدلها ألفاً.
يقول: انت أجل قدراً وأعلى محلاً من أن تهنأ بدار في الأرض أو في السماء، والمحل والمحلة واحدة.
ولك النّاس والبلاد وما يس ... رح بين الغبراء والخضراء
وما يسرح: أي ما يذهب من الدواب والوحش.
يقول: أنت تملك البلاد ومن عليها وما عليها من الحيوانات. والغبرآء: الأرض. والخضراء: السماء.
وبساتينك الجياد وما ... تحمل من سمهريّةٍ سمراء
يقول: إنما بساتينك التي تتنزّه فيها، الجياد من الخيل، وثمارها الرماح، فأنت لا تتنزه إلا بهما، فكيف أهنئك بالدار والبساتين ؟!
إنّما يفخر الكريم أبو المس ... ك بما يبتنى من العلياء
يقول هو: إنما يفتخر بما يبنى من المعالي وما يشيد من المكارم، لا بالقصور المبنية بالآجر، فإنها تنهدم عن قريب، والمعالي تبقى أبداً.
وبأيّامه الّتي انسلخت عن ... ه وما داره سوى الهيجاء
يقول: إنما يفتخر بأيام حروبه وقائعه التي سبقت له فظهرت منه، ولا دار له سوى الحروب، ومعاركها.
وبما أثّرت صوارمه البي ... ض له في جماجم الأعداء
يقول: إنما يفتخر بتأثير سيوفه في رءوس الأعداء.
وبمسكٍ يكنى به ليس بالمس ... ك ولكنّه أريج الثّناء
أرج الطيب وأريجه: توهج ريحه.
يقول: يفتخر بالمسك المكنى به، ثم قال: وليس المسك المكنى به هو المسك المعروف، وإنما هو مسك الثناء وحسن الذكر.
لا بما تبتنى الحواضر في الرّي ... ف وما يطّبى قلوب النّساء
الحواضر: جمع الحاضرة. ويطبى: أي يستميل. والريف: المدن والماء يقول: لا يفتخر بما يبنيه أهل الحضر، وسكان المدن، من الدور الحسنة ولا بالمسك لأن ذلك إنما يستميل قلوب النساء، بل لا يفتخر إلا بالمعالي وحسن الثناء والمجد.
نزلت، إذ نزلتها، الدّار في أح ... سن منها من السّنا والسّناء
السنا المقصور: الضوء، والسناء الممدود: الشرف والعلا.
يقول: لما نزلت الدار تشرفت بك وتزينت بقربك، فكأن حسنها حيث نزلتها وتقديره: نزلت الدار في أحسن منها إذا نزلتها.
حلّ في منبت الرّياحين منها ... منبت المكرمات والآلاء
يقول: أنت منبت المكرمات والنعم، حللت من هذه الدار منبت الرياحين، فأنت منبت المكارم، وهي منبت الرياحين.
تفضح الشّمس كلّما ذرّت الشّم ... س بشمسٍ منيرةٍ سوداء
يقول: إذا طلعت الشمس تفضحها بشمس سوداء ! وهذا في ظاهره مدح، وهو مضمر الهجو، إذ الشمس لا تكون سوداء.
إنّ في ثوبك الّذي المجد فيه ... لضياءٍ يزرى بكلّ ضياء
يقول: إن في ثوبك: أي في بدنك، الذي هو محل المجد ضياءً يقصر بكل ضياء. لما قال في البيت الذي قبله: شمس منيرة سوداء أورد هذا وما بعده ليزيل الإبهام.
إنّما الجلد ملبسٌ، وابيضاض النّ ... فس خيرٌ من ابيضاض القباء
يقول: سوادك لا يشينك، وإنما هو بمنزلة الثوب والقباء، وبياض النفس خير من بياض القباء، وليس الفخر بالبياض، وإنما هو بالأفعال. وهذا من قول عبد بني الحسحاس:
إن كنت عبداً فنفسي حرّةٌ كرماً ... أو أسود اللّون إنّي أبيض الخلق
ومثله كثير.
كرمٌ في شجاعةٍ، وذكاءٌ ... في بهاءٍ، وقدرةٌ في وفاء
أي جمعت هذه الخلائق الشريفة، فلا يشينك سواد لونك.
من لبيض الملوك أن تبدل اللّو ... ن بلون الأستاذ والسّحناء
السحناء: الهيئة.
يقول: إن البيض يتمنون أن يستبدلو بألوانهم لونه، ويغيروا هيئتهم بهيئته، ولكن أين لهم ذلك ؟؟!
فتراها بنو الحروب بأعيا ... نٍ تراه بها غداة اللّقاء
الهاء في تراها للملوك. والفعل: لبني الحروب. والهاء في تراه لكافور.

يقول: إن الملوك البيض يتمنون أن يستبدلوا ألوانهم بلونه، ليراهم الأبطال الذين هم أهل الحروب بالعيون التي رأوا بها كافوراً في الحرب. والأعيان: جمع عين في القلة.
يا رجاء العيون في كلّ أرضٍ ... لم يكن غير أن أراك رجائي
يقول: كل أحد يرجو أن يراك؛ لتفيض عليه إنعامك، ولم يكن لي رجاء في قصدي مصر سوى أن أراك وأتشرف بمدحك.
ولقد أفنت المفاوز خيلي ... قبل أن نلتقي، وزادي ومائي
يقول: قطعت المسافة البعيدة، والمفاوز الصعبة: لرؤيتك، حتى أفنت المفاوز خيلي وزادي ومائي.
فارم بي ما أردت منّي فإنّي ... أسد القلب آدميّ الرّواء
الرواء: المنظر.
يقول: كلفني ما شئت من الأمور العظيمة، فإني وإن كنت في المنظر آدمياً فإن قلبي قلب الأسد.
وفؤادي من الملوك وإن كا ... ن لساني يرى من الشعراء
يقول: إني وإن كنت شاعراً، فإن لي همة عاليةً، ونفسا شريفة، وقلبي قلب الملوك.
ولما أنشده أبو الطيب، حلف له كافور ليبلغنه جميع ما في نفسه، وإنه لأكذب ما يكون إذا حلف! فقال أبو الطيب وأنشده إياها في انسلاخ شهر رمضان سنة ست وأربعين وثلاث مئة:
من الجآذر في زيّ الأعاريب ... حمر الحلي والمطايا والجلابيب ؟!
الجآذر: جمع جوذر، وهو ولد البقرة الوحشية. والزي: اللباس والأعاريب: جمع الأعراب، والأعراب: جمع أعرابي. والحلي: جمع حلية. وهو بضم الحاء وكسرها. والجلابيب: جمع جلباب، وهي الملاحف والملابس. وقال أبو عبيدة: الجلابيب هي الخمر، والملاحف.
وقد روى: برفع الراء ونصبها، فالرفع على الاستئناف أي: هن حمر الحلي. والنصب على الحال. جعل كونهن جآذر حقيقة، وكونهن أعاريب مجازاً وتشبيها، وهذا على عادته في قلب التشبيه.
يقول: من هذه الجآذر التي في زي الأعراب ؟! جعلهن جآذر؛ لسواد عينهن. وهن حمر الحلي؛ لأنها من الياقوت، وملابسهن حمر لأنهن غنيات شواب، يلبسن المعصفرات وثياب الملوك، ومطاياهن حمر؛ لأنها كرام الإبل عندهم، وهي من مراكب الملوك.
إن كنت تسأل شكّاً في معارفها ... فمن بلاك بتسهيد وتعذيب ؟!
أنكر على نفسه في هذا، السؤال ! وقال: إن كنت تسأل عن هؤلاء النساء من حيث أنك شككت فيهن، حيث أشبهن الجآذر، فلا ينبغي لك أن تشك في معرفتهن، لأنهن اللاتي سهدن عينيك، وعذبن قلبك، ومن في قوله: فمن بلاك على هذا تكون خبراً، ويجوز أن تكون استفهاماً على معنى الإنكار.
والمعنى: إن لم تعرفهن فمن الذي بلاك بتسهيد وتعذيب ؟!
لا تجزني بضنىً بي بعدها بقرٌ ... تجزي دموعي مسكوباً بمسكوب
الضنى: الألم، ولا تجزني: جزم، والهاء في بعدها قيل: ضمير البقر، أي: بعد فراقهن، وقيل: هو ضمير الحالة أو المرأة. أي: بعد هذه المرأة أو الحالة. وتقديره: لا تجزني بضني بي ضني نساءٍ يجزينني بالبكاء بكاء. على سبيل الدعا لهن: أي لا مرضن كما مرضت.
والمعنى: أنه دعاء لهن بألا يضنين بفراقه، كما ضنى بفراقهن.
وقوله: تجزي دموعي صفة البقر. يعني: هذه البقرة التي جازتني بالبكاء، فجرت دموعهن لفراقي، كما جرى دمعي.
وقيل: معناه قد أضناني حب هؤلاء، حتى تغيرت محاسني، وقرب شيبي، فلا تجزني بعدهن بفرقتي، لأني قد شبت وبليت، فلم يبق لي موضع لعشق النساء كما عشقتهن، فيجزينني ضني بضني، وتقابلن بكاء ببكاء، رحمة لي لا عشقاً. فيكون البقر غير التي جرى ذكرها.
سوائرٌ ربّما سارت هوادجها ... منيعةً بين مطعونٍ ومضروب
سوائر: صفة أخرى لبقر، وقيل: وهن سوائر. ومنيعةً: نصب على الحال. يعني: أنهن عزيزات في قوم أعزة، فإذا سارت هودجهن بهن، كان حولهن من يذب عنهن ويحميهن من كل من تعرض لهن، فلا مطمع لأحد فيهن.
وربّما وخدت أيدي المطّى بها ... على نجيعٍ من الفرسان مصبوب
الوخد والوخيد: ضرب من السير السريع.
يقول: ربما سارت هوادجهن فوق الدماء، فتقع أيدي المطى على دماء الفرسان المصبوبة، إن تعرضوا لهن.
وإنما ذكر الأيدي دون الأرجل؛ لأنها أول ما تقع على الأرض، فاكتفى بذكرها عن ذكر الأرجل.
كم زورةٍ لك في الأعراب خافيةٍ ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذّيب

أي: أدهى من زورة الذيب، وقد فصل بينهما بقوله: وقد رقدوا والذيب: يضرب به المثل في الخبث والدهاء.
يخاطب نفسه ويقول: كم مرة ذهبت إلى الأعراب حين رقدوا فزرت حبيبتك وهم لا يشعرون، وهجمت عليها هجوم الذئب، إذ اختطفتها من بينهم على وجه الاحتيال والاستخفاء، كما يفعل الذئب لما يختطف من الغنم، ويهجم عليها من حيث لا يشعر الراعي.
أزورهم وسواد اللّيل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصّبح يغري بي
يقول: إن الظلام يسترني عند زيارتي هؤلاء الأعراب، فكأنه يشفع لي إلى ما أريد. وعند الانصراف يشهرني الصبح ويحول بيني وبينها. ومثله لابن المعتز:
لا تلق إلا بليلٍ من تواصله ... فالشّمس نمّامةٌ واللّيل قوّاد
فذكر جميع ما في البيت في نصف بيت.
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها ... وخالفوها بتقويضٍ وتطنيب
التقويض: ضد التطنيب.
يقول: هؤلاء الأعراب وافقوا الوحش في حلولهم مراتع الوحوش وسكناهم مساكنها وخالفوها بأنهم يحطون خيامهم مرة، ويقلعون أوتادهم مرة، ثم يطنبونها: أي ينصبونها، ويشدون حبالها.
جيرانها وهم شرّ الجوار لها ... وصحبها وهم شرّ الأصاحيب
الجوار: بضم الجيم وكسرها، هي المجاورة، ومعناه ها هنا: هم شر أهل الجوار.
يقول: جيران الوحش من حيث المسكن، إلا أنهم شر الجيران لها؛ لأنهم يصيدونها وهم أصحاب الوحوش؛ إلا أنهم أشر الأصحاب؛ لأنهم يأكلونها.
فؤاد كل محبّ في بيوتهم ... ومال كلّ أخيذ المال محروب
أخيذ المال: أي مأخوذ المال. والإضافة في تقدير الانفصال، ولهذا نكر الصفة في قوله: محروب والمحروب: الذي أخذ حريبه، وهو ماله.
يقول: إن رجالهم صعاليك يغيرون على الأعداء، ونساؤهم فواتن يسلبن قلوب العشاق، ففي بيوتهم قلوب الرجال وأموال الأبطال.
وقيل: إنهم أحنوا إلى الناس فملكوا قلوبهم بالإحسان، وملكوا أموال الأعداء بالقهر والإغارة.
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويّات الرّعابيب
الرعابيب: جمع رعبوبة، وهي البيضاء الممتلئة الجسم. والهاء في به للحضر، وهو خلاف البدو.
يقول: ليس أهل الحضر كأهل البدو.
حسن الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ ... وفي البداوة حسنٌ غير مجلوب
الحضارة: ملازمة الحضر، والبداوة: ملازمة البدو. والتقدير: حسن أهل الحضارة وأهل البداوة.
يقول: إن حسن الحضريات مصنوع بالتطرية، وحسن البدويات مطبوع، والمطبوع خير من المصنوع.
أين المعيز من الآرام ناظرةً ... وغير ناظرةٍ في الحسن والطّيب
المعيز والمعزى والمعز: واحد. وناظرةً: نصب على الحال. أقام الحضريات مقام المعز، لكون المعز حضريات، وأقام البدويات مقام الظباء؛ لكون الظباء في الفلوات.
يقول: أين المعز من الظباء في حسنها وطيبها ! وفي حال كونها ناظرةً، وفي غير حال نظرها.
أي: كما أن الظباء أحسن من المعز في كل حال، فكذلك البدويات أحسن من الحضريات.
وقيل معنى قوله: ناظرة وغير ناظرة أي أن الظباء أحسن من المعز: حيةً وميتة، فهي أحسن منها منظراً حية، ولحماً ميتة.
أفدي ظباء فلاةٍ ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
الصبغ بالفتح: مصدر، وبالكسر: اسم. والحواجيب: أراد به الحواجب، فأشبع الكسرة؛ لتحدث الياء بعدها. والهاء في بها للفلاة.
يقول: إن البدويات مطبوعات على حسن الكلام، وحسن الحواجب، فلا يصبغن حواجبهن بالسواد، ولا يمضغن الكلام؛ لأن كلامهن فيه غنة فلا يحتجن إلى تكلفها.
وقيل: أراد بمضغ الكلام التفاصح.
ولا برزن من الحمّام مائلةً ... أوراكهنّ صقيلات العراقيب
أوراكهن رفع بمائلةً وصقيلات نصب على الحال.
يعني: أنهن مخلوقات كذلك فلا يصبغن حواجبهن، ولا يكسرن في كلامهن، ولا تتمايل أوراكهن تصنعا، ولا يصقلن عراقيبهن كما تفعله النساء من أهل الحضر. فأفدى من هذه حالها.
ومن هوى كلّ من ليست ممّوهةً ... تركت لون مشيبي غير مخضوب
المموه: المزور المغشوش.
يقول: لما كنت أحب كل مطبوعة، وأبغض كل مصنوعة، تركت لون شيي ظاهراً مطبوعاً، لم أموهه بالخضاب. وهذا ينظر إلى قول الشاعر:
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم

ومن هوى الصّدق في قولي وعادته ... رغبت عن شعرٍ في الوجه مكذوب
الهاء في عادته للصدق.
يقول: من حبي للصدق واعتيادي له، زهدت عن شعر مخضوب في الوجه: وهو المكذوب.
ليت الحوادث باعتني الّذي أخذت ... منّي بحلمي الّذي أعطت وتجريبي
يقول: إن الحوادث أخذت مني الشباب، وأعطتني الحكمة والتجارب، فليتها ردت على ما أخذته من الصبي، وأخذت ما أعطت من الحلم والنهى.
فما الحداثة من حلمٍ بمانعةٍ ... قد يوجد الحلم في الشّبّان والشّيب
يقول: ليت الحوادث ردتني إلى أيام الصبى والحداثة، فإنها لا تمنع من الحلم، فيكون مع الحداثة ما يكفيني من الحلم والتجربة؛ فإن العقل يوجد في الأحداث كما يوجد في الشيوخ. والحداثة: لا توجد إلا مع الشبان.
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلاً ... قبل اكتهالٍ، أديباً قبل تأديب
ترعرع: أي شب، ولا يكون إلا حسن الشباب. والاكتهال: التمام في كل شيء. والكهل من الناس: من سنه ما بين أربع وثلاثين، إلى خمسين سنة. ونصب مكتهلاً وأديباً على الحال.
لما قال: إن الحداثة لا تمنع من الحلم، استدل بحال كافور فقال: الحلم يوجد في الأحداث، كما أن الأستاذ كافور ترعرع من الحلم والأدب، ولم يكن من الشيوخ. ولا الكهول.
يعني: أنه خلق مطبوعاً على الأدب، فلم يحتج إلى مؤدب، وكان ابتداء شبابه في الكمال، كاكتهال غيره.
مجرّباً فهماً من قبل تجربةٍ ... مهذّباً كرماً من قبل تهذيب
مهذباً ومجرباً نصب على الحال. وفهماً وكرماً نصب على المصدر أو على المفعول له.
يقول: ترعرع الملك على هذه الأحوال، فهو مجرب قبل تجربة؛ لما طبع عليه من الفهم، مهذب؛ لما جبل عليه من الكرم، فلا يحتاج إلى التهذيب والتجريب.
حتّى أصاب من الدّنيا نهايتها ... وهمّه في ابتداءاتٍ وتشبيب
التشبيب: الابتداء بالأمر.
يقول: قد أصاب الغاية من الدنيا، وهو مع ذلك في أول مطالبه وتشبيب همته، ولم تبلغ همته أقصى مرادها.
يدبّر الملك من مصرٍ إلى عدنٍ ... إلى العراق فأرض الروم فالنّوب
يعني: أن هذه النواحي كلها تحت يده، وهو يديرها.
إذا أتتها الرّياح النّكب من بلدٍ ... فما تهبّ بها إلا بترتيب
النكب: جمع النكباء، وهي كل ريح هبت بين مهبى ريحين. وقيل: هي ريح تهب من مهاب الرياح الأربع على غير استواء.
يقول: إن الريح النكباء مع اختلاف هبوبها، إذا أتت هذه النواحي، لا تهب فيها إلا بترتيب من حسن سياسته وترتيبه الأمور.
ولا تجاوزها شمسٌ إذا شرقت ... إلا ومنه لها إذنٌ بتغريب
روى: إذا شرقت وإذا طلعت والتغريب: أن تأخذ نحو المغرب.
يقول: إذا طلعت الشمس على هذه النواحي، فأرادت أن تتجاوزها، فلا تجسر على المجاوزة، إلا أن يأذن لها بالغروب، والها في منه: لكافور وفى لها للشمس.
يصرّف الأمر فيها طين خاتمه ... ولو تطلّس منه كلّ مكتوب
تطلس: أي انمحى وذهب أثره، وطلست الكتاب: محوته.
يقول: لا يمضي الأمر إلا بخاتمه، وإن انمحت كتابته متى عرفت رسومه أمضي أمره، رهبة له وإعظاماً.
يحطّ كلّ طويل الرّمح حامله ... من سرج كلّ طويل الباع يعبوب
فاعل يحط حامله: أي حامل خاتمه. والهاء للخاتم. واليعبوب: الفرس الكثير الجري. وقيل: هي الطويل، وطويل الباع: طويل القوائم.
يقول: حامل خاتمه يحط كل فارس طويل الرمح، عن سرج كل فرس طويل القوائم واسع الجري؛ لما يداخله من الهيبة، وانبساط أمره، فإذا كانت هذه حاله، فحال غيره في الانقياد أبلغ.
كأنّ كلّ سؤالٍ في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب
يقول: يفرح بسؤال كل سائل، وكأنه في أذنه. مثل: قميص يوسف في عين يعقوب، فهو يستشفى بالسؤال، كما استشفى يعقوب بقميص يوسف.
إذا غزته أعاديه بمسألةٍ ... فقد غزته بجيشٍ غير مغلوب
يقول: إن أعداءه إذا قصدوه بالخضوع والسؤال، طلباً لما له أو طلباً للصلح منه، أجابهم لما يريدون، فكأنهم قصدوه بجيش لا يغلب.
أو حاربته فما تنجو بتقدمةٍ ... ممّا أراد، ولا تنجو بتجبيب
التجبيب: بباءين هو التأخر والهرب. وروى تخبيب من قولهم: خبب فلان نفسه إذا بعد.

يقول: إن حاربه الأعداء فلا ينجون بالشجاعة والإقدام، وإن هربوا لحقهم بخيله، فلا ينجون بالهرب والانهزام.
أضرت شجاعته أقصى كتائبه ... على الحمام، فما موت بمرهوب
أضرت: أي أغرت، يقال: أضريته على كذا وضريته على كذا: إذا عودته. وأقصى كتائبه: أي جميع كتائبه؛ لأن أقصى هو الغاية.
يقول: قد عودت شجاعته جميع عسكره لقاء الحروب، فكأنه أضراهم على الموت، فلا يخافون من الموت والقتل، كالبازي إذا ضرى بالصيد، لا يخاف منه.
قالوا هجرت إليه الغيث ! قلت لهم: ... إلى غيوث يديه والشّآبيب
الشآبيب: جمع شؤبوب، وهي الدفعة العظيمة من المطر.
والمعنى: أن أرض مصر لا تمطر، وكأن الناس قالوا: لم تركت ديار الخصب والغيث، وقصدت كافوراً ؟! فقال لهم: إن غيث يديه وشآبيب جوده، أكثر من الغيث وأنفع.
إلى الّذي تهب الدّولات راحته ... ولا يمنّ على آثار موهوب
يقول: إن كنت تركت الغيث، فقد قصدت ملكاً يهب الولايات، ولا يتبع منه.
وفيه تعريضان: أحدهما تعريض لكافور أن يوليه ولاية، والآخر تعريض بسيف الدولة أنه كان يمن عليه بما يصل منه إليه.
ولا يروع بمغدورٍ به أحداً ... ولا يفزّع موفوراً بمنكوب
الموفور: الرجل الكثير المال.
يقول: لا يغدر بأحد، فيخاف آخر بأن يغدر به كما غدر بغيره، ولا ينكب صاحب مال، فيخاف منه صاحب مال أن ينكبه، كما نكب غيره.
بلى يروع بذي جيش يجدّله ... ذا مثله في أحمّ النّقع غربيب
يجدله. يصرعه على الجدالة، وهي الأرض، والأحم: الأسود، والنقع: الغبار، والغربيب: الأسود جاء به توكيداً.
يقول: لا يروع بمغدور به أحداً، ولكن يقصد إلى ملك صاحب جيش عظيم فيقتله ويروع به ملكاً آخر صاحب جيش مثل هذا المقتول، فإذا رأى ما صنع بالأول هابه.
يعني: أن همته ليست أخذ المال، بل همته طلب العز.
وجدت أنفع مالٍ كنت أذخره ... ما في السّوابق من جريٍ وتقريب
التقريب: أرفع المشي، وأدنى الجري.
يقول: كان أنفع مال وجدته وجمعته: ما في الخيل السوابق من الجري والتقريب.
جعل الجري والتقريب مالاً، لما وصل بهما إلى المال؛ لاتصاله بالممدوح.
لمّا رأين صروف الدّهر تغدر بي ... وفين لي ووفت صمّ الأنابيب
يقول: لما وصلت بهذه السوابق، وبهذه الرماح إلى جميع ما أردته، فكأنهن وفين لي، في وقت غدرت بي صروف الدهر، ولم توافني حوادث الأيام.
فهو يصف بذلك رحيله إلى مصر، ونجاته من أذية سيف الدولة.
فتن المهالك حتّى قال قائلها: ... ماذا لقينا من الجرد السّراحيب ؟!
المهالك: جمع مهلكة، وهي المفازة. والسرحوب: الفرس الطويل، ولا يوصف بها الذكر.
يقول: سرعة هذه الخيل، شكت المفاوز حتى قال قائلها: أي بعض بقاعها: أي شيء لقينا من هذه الخيل ؟! وقيل: أراد بالمهالك أسباب الهلاك. أي فأتت خيلي كل أمر فيه هلاك.
تهوى بمنجردٍ ليست مذاهبه ... للبس ثوبٍ ومأكولٍ ومشروب
تهوى: أي تسرع. والمنجرد: الماضي في أمره.
يقول: هذه السوابق تهوى في المفاوز برجل مجد في أمره، ليست همته المأكول والمشروب والملبوس، وإنما همته معالي الأمور.
يرى النّجوم بعيني من يحاولها ... كأنّها سلبٌ في عين مسلوب
يقول: ينظر هذا المنجرد إلى النجوم نظر من يريد تناولها، فكأنها سلب سلب منه، فهو ينظر إليها كما ينظر المسلوب إلى سلب في يد غيره.
يعني: أنه يستحق منازل النجوم، لكن الدهر حطه عن درجته، فهو ينظر إليها على هذا الوجه.
حتّى وصلت إلى نفس مححّبةٍ ... تلقى النّفوس بفضلٍ غير محجوب
يقول: قطعت المهالك حتى وصلت إلى نفس محبة من الناس؛ لعظم شأنه، ولكن فضلها غير محجوب.
وقيل: إن هذا تعريض بسواده. يعني: وصلت إلى نفس كريمة، محجوبة في جسم أسود، وفضلها غير محجوب: يعني: أن مخبره أحسن من منظره.
في جسم أروع صافي العقل تضحكه ... خلائق النّاس إضحاك الأعاجيب
يقول: هذه النفس في جسم رجل ذكي صافي العقل، وإن كان أسود اللون، فهو أبيض العقل، فلا يخالط عقله شيء من الكدورة، وهو يضحك من أخلاق الناس لنقصائهم في العقل ! فكأنه رأى شيئاً عجيباً.
والأروع: الذكي القلب.

فالحمد قبل له، والحمد بعد لها ... وللقنا ولإدلاجي وتأويبي
له: أي لكافور. ولها: للخيل. والإدلاج: سير الليل. والتأويب: سير النهار كله.
يقول: الحمد أولاً لك، إذ كان كرمك هو الباعث على قصدك، ثم بعد ذلك لخيلي؛ لأني وصلت بها إليك، وكذلك لسيري ليلاً ونهاراً حتى وصلت إليك.
وكيف أجحد يا كافور نعمتها ... وقد بلغنك بي يا كلّ مطلوبي ؟!
يقول: كيف أجحد نعم هذه الخيل السوابق ! وهي التي بلغتني إليك، وأنت مأمولي وغاية كل مطلوبي.
يا أيّها الملك الغاني بتسميةٍ ... في الشّرق والغرب عن وصفٍ وتلقيب
الغاني: المستغني.
يقول: أنت مشهور في العالم باسمك المذكور، فإذا قيل: كافور، عرفت واستغنيت عن الوصف، واللقب.
أنت الحبيب ولكنّي أعوذ به ... من أن أكون محبّاً غير محبوب
به: يرجع. إلى الحبيب.
يقول: أنت حبيبي، ولكني أعوذ بك من أن أكون محباً لك، ولا أكون محبوباً عندك. ومثله لأبي تمام قوله:
كم من عدوٍّ قال لي متمثّلاً: ... كم من ودود ليس بالمودود !
وقال يمدحه في ذي الحجة من هذه السنة ويستنجزه وعده.
أودّ من الأيّام ما لا تودّه ... وأشكو إليها بيننا وهي جنده
الهاء في توده ترجع إلى ما والفعل للأيام. والهاء في إليها تعود إلى الأيام. وفي جنده إلى البين.
يقول: أريد من الأيام ألا تفرق بيني وبين أحبائي، والأيام لا تريد ذلك. وأشكو إليها الفراق وهي جنده: أي هو الذي حكم بها، فإذا شكوت إليها لم تشكني.
يباعدني حبّاً يجتمعن ووصله ... فكيف بحبٍّ يجتمعن وصدّه ؟!
الحب: المحبوب، وجعل الأيام تجتمع مع الوصل والصد؛ لأنهما في الأيام يكونان، والظرف يتضمن الفعل، فإذا تضمنه فقد لابسه وصار كأنه مجتمع معه، وعطف الوصل والصد على الضمير في يجتمعن من غير التوكيد بالفصل، وهذا جائز في ضرورة الشعر.
يقول: إن الأيام تباعد مني الحبيب المواصل، فكيف تقرب الحبيب المقاطع ؟!
أبى خلق الدّنيا حبيباً تديمه ... فما طلبي منها حبيباً تردّه
يقول: كيف ترد عليك الأيام حبيبك الذي فارقك ؟ وهي لا تترك عليك حبيبك الذي هو معك !
وأسرع مفعولٍ فعلت تغيّراً ... تكلّف شيءٍ في طباعك ضدّه
يقول: إن الدنيا مطبوعة على التغير والتنقل، وإذا ساعدت بقرب حبيب لم تلبث أن تفرق بيننا وبينه ! وترجع إلى عادتها التي جبلت عليها، فأسرع شيء انتقالاً، وأقربه زوالاً هو: تكلف ما في طبعه خلافه.
رعى اللّه عيساً فارقتنا وفوقها ... مهاً كلّها يولى بجفنيه خدّه
المها: بقر الوحش، وعنى بها النساء ويولي: من الولي، وهو من المطر الثاني. والهاء في كلها للمها وفي جفنيه وخده يعود إلى لفظ كل.
يقول: حفظ الله عيساً فارقتنا وفوقهن نساء يبكين لفراقنا، فتجرى دموعهن على خدودهن مرةً بعد مرة، فكأن خد كل واحدة منهن يسقى ولياً بعد وسمى من سحابة جفنيها، تأسفاً على الفراق.
بوادٍ به ما بالقلوب كأنّه ... وقد رحلوا جيدٌ تناثر عقده
الهاء في به وكأنه للوادي، وفي عقده للجيد.
يعني: فارقتنا هذه العيس بوادٍ به من الوحشة لفراقهن مثل ما في قلوبنا من الوحشة، فهو لوحشته كالجيد الذي انقطع عقده وتناثر در قلائده. أي كن زينةً له، فلما رحلن عنه صار كالجيد نزع حليه.
إذا سارت الأحداج فوق نباته ... تفاوح مسك الغانيات ورنده
الأحداج: جمع الحدوج، وهو مركب من مراكب النساء، والرند: الآس، وقيل: شجر طيب الريح، والعرب تسمى العود رنداً والهاء نباته ورنده للوادي.
يقول: اختلطت رائحة المسك من النساء برائحة الرند في هذا الوادي، فكان كل واحد منهما يباري الآخر بفوح الرائحة.
وحالٍ كإحداهنّ رمت بلوغها ... ومن دونها غول الطّريق وبعده
غول الطريق: بعده. يقول: هو الهلاك.
يقول: رب حال مثل إحدى هؤلاء الجواري في الحسن والكمال، أو في العزة والامتناع. وأنا أروم الوصل إليها، وبيني وبينها طريق بعيد يهلك من سلكه.
وأتعب خلق الله من زاد همّه ... وقصّر عمّا تشتهي النّفس وجده
الوجد والوجدة: هو الغنى.
يقول: أتعب الناس من أتعب همته، ولم يساعده ماله وإمكانه.

فلا ينحلل في المجد مالك كلّه ... فينحلّ مجدٌ كان بالمال عقده
يقول: لا تتلف مالك كله في اكتساب المجد والثناء، فإن فعلت ذلك افتؤلت وضاع المجد الذي كنت تطلبه ! إذ المجد لا يكون إلا مع المال.
ودبّره تدبير الّذي المجد كفّه ... إذا حارب الأعداء والمال زنده
يقول: دبر المال تدبير الرجل الذي المجد كفه، والمال زنده: يعني كما لا تقوم الكف إلا بالزند، فكذلك لا تقهر الأعداء إلا بالمال.
فلا مجد في الدّنيا لمن قلّ ماله ... ولا مال في الدّنيا لمن قلّ مجده
يعني: كما لا يقوم المجد من دون المال، كذلك المال لا ينفع إلا مع المجد، فمن له المال بلا مجد فهو بمنزلة الفقير الذي لا مال له.
وفي النّاس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثّواب جلده
يقول: في الناس من ليس له همة، فقد رضى بالدون من العيش، واقتصر على طعام بطنه، فلا يركب إلا رجله، ولا يلبس إلا جلده.
ولكنّ قلباً بين جنبيّ ما له ... مدىً ينتهي بي في مرادٍ أحدّه
لفظة ما في قوله: ما له نفي.
يقول: أنا لست هكذا، لكني بعيد الهمة، ليس لهمتي غاية تقف عندها. والهاء في أحده للمراد.
يرى جسمه يكسى شفوفاً تربّه ... فيختار أن يكسى دروعاً تهدّه
الشفوف: جمع شف، وهو الثوب الرقيق. وتربه: تنعمه. وتهده: تهدمه.
يقول: هذا القلب يرى الجسم الذي فيه يلبس أثواباً رقاقاً، وهو لا يختار له ذلك، وإنما يختار الدروع مع خشونتها وغلظتها؛ لتهدم نعومة الحسم.
يكلّفني التّهجير في كلّ مهمهٍ ... عليقي مراعيه وزادي ربده
التهجير: السير في وقت الهاجرة. والعليق: ما تعلق به على الدابة، من شعير أو غيره. والربد: النعام، الواحد أربد، وربداء، سميت بذلك لسواد لونها.
يقول: قلبي يكلفني السير في وقت الهاجرة في كل مهمه بلا زاد ولا عليق، فخيلي تأكل من مراعيها، وزادي من نعامها.
وأمضى سلاحٍ قلّد المرء نفسه ... رجاء أبي المسك الكريم وقصده
يقول: أمضى سلاح المرء: قصد كافور ورجاؤه، فكما أن أبلغ ما يتوصل به المرء إلى مرامه هو السلاح، كذلك أبلغ ما يوصله إلى مراده قصده ورجاؤه.
هما ناصرا من خانه كلّ ناصر ... وأسرة من لم يكثر النّسل جدّه
يقول: رجاؤه وقصده معينان من ليس له معين. وعشيرة يتقوى بها، كما يتقوى الرجل بناصره وعشيرته.
أنا اليوم من غلمانه في عشيرةٍ ... لنا والدٌ منه يفدّيه ولده
الولد والولد: لغتان يقعان على الواحد والجمع. وقيل: الولد: جمع الولد.
يقول: أنا اليوم من جملة غلمانه، وهم لي بمنزلة الولد، ونحن أولاده نتمنى أن نفديه بأنفسنا.
فمن ماله مال الكبير ونفسه ... ومن ماله درّ الصّغير ومهده
يعني: أن نعمه عمت الكبير والصغير، فمال الكبير ونفسه من هباته، ولب الصغير ومهده من ماله.
يعني: أنه يملك نفوس الناس وأموالهم.
نجرّ القنا الخطّىّ حول قبابه ... وتردى بنا قبّ الرّباط وجرده
الهاء في جرده يرجع إلى لفظ الرباط لأنه اسم واحد موضوع للجمع مثل: القوم والنفر. وتردى: من الرديان، وهي سرعة السير. والقب: جمع أقب وقباء وهو الفرس الضامر، والرباط: اسم للخيل المربوطة، وقال أبو زيد: هي الخمس فما فوقها.
يقول: نجر القنا حول قباب الممدوح كل يوم، لأنا من غلمانه، ونجري الخيل في ميدانه؛ لأن عادة الغلمان أنهم يتلاعبون في ميادين الملوك.
ونمتحن النّشّاب في كلّ وابلٍ ... دوىّ القسيّ الفارسيّة رعده
الهاء في رعده يعود إلى وابل.
يقول: نرمي النشاب بين يديه، ونمتحنها، على عادة الغلمان من امتحان السهام. وشبه كثرة النشاب بالمطر الوابل، ودوي القسي وصوتها عند الرمي بالرعد. يصف كثرة غلمانه وجنده.
فإلاّ تكن مصر الشّري أو عرينه ... فإنّ الّذي فيها من النّاس أسده
الشري: موضع كثير الأسد، والعرين: الأجمة.
يقول: إن لم تكن مصر مقر الأسود، فإن الذي فيها أسود، فلا اعتبار بالموضع، وإنما الاعتبار بالأسد.
سبائك كافورٍ وعقيانه الّذي ... بصمّ القنا لا بالأصابع نقده
العقيان: الذهب.

يقول: هؤلاء الغلمان، والرجال الذين هم الأسود سبائك لكافور ادخرهم بعد أن امتحنهم بالطعن بين يديه، وجربهم فجعلهم ذخائر، وأقامهم مقام ماله، الذي هو السبائك والذهب؛ لأنه يصل بهم إلى مطالبه كما يوصل بالمال.
ولما جعلهم مالا جعل نقدهم بالقنا والطعن لا بالأصابع، لأنه لم يرد حقيقة الدنانير التي تنقد بالأصابع.
وقيل: أراد أنه يكسب الذهب والفضة بصم القنا لا بالتجارة. والأول هو الظاهر الأليق.
قال أبو الطيب: لما أنشدت هذا البيت قال لي كافور: من يعرف العقيان. اليوم ؟ فقلت: نعم هرباً من تفسيره إياه. فقال: الصيوف. يريد السيوف.
بلاها حواليه العدوّ وغيره ... وجرّبها هزل الطّراد وجدّه
بلاها: أي جربها. والهاء فيها قيل: تعود إلى الخيل، وقيل للسبائك والعقيان.
يقول: إن العدو قد جرب هذه الخيل والغلمان وغير العدو أيضا.
فالعدو في الحرب في حالة الجد وغير العدو في الميدان: في حالة الهزل.
أبو المسك لا يفنى بذنبك عفوه ... ولكنّه يفنى بعذرك حقده
يخاطب نفسه أو صاحبه يقول: إن عفوه لا يفنى بذنبك، ولم يغلبه ذنب المذنب، ولكنه يفنى حقده بعذرك: يعني إذا اعتذرت إليه زال عن قلبه حقده.
فيا أيّها المنصور بالجدّ سعيه ... ويا أيّها المنصور بالسّعي جدّه
سعيه وجده: رفع بالمنصور.
المعنى: أنك بلغت جدك بسعيك، ولم تبلغ ما بلغت بالجد وحده، ولكنه بالجد والسعي، فجدك ينصر سعيك في أمرك ويوفقه لك، وسعيك ينصر جدك، فقد اشتملتك السعادة والنصر.
تولّى الصّبا عنّي فأخلفت طيبه ... وما ضرّني لمّا رأيتك فقده
أخلفت: أي وجدت طيب كافور خلفاً من الصبا.
يقول: لما تولت عني أيام الصبا جعلت طيبك خلفاً عنها، فناب مناب أيام الصبا ولم يضرني فقد أيام الصبا لما رأيتك، فسروري بك مثل سروري بأيام الصبا.
لقد شبّ في هذا الزّمان كهوله ... لديك، وشابت عند غيرك مرده
يقول: شب كهول الزمان عندك؛ لسرورهم بإحسانك إليهم فكأنهم في أيام الصبا، والشباب عند غيرك شابت مرد هذا الزمان لإيذائه إياهم.
يريد سيف الدولة.
ألا ليت يوم السّير يخبر حرّه ... فتسأله، واللّيل يخبر برده
يقول: ليت حر الهواجر يخبرك بحاله؛ حتى تسأله عما فعل بي، وليت برد الليل مخبر أيضا؛ لتعرف منه ما قاسيت من البرد.
وليتك ترعاني وحيران معرضٌ ... فتعلم أنّي من حسامك حدّه
حيران: ماء بالشام، وقيل: جبل. كانت قد ظهرت له خيل وهو عليه.
يقول: ليتك تراني بهذا المكان، حين لاحت لي الخيل، لتعلم شجاعتي، وأني بمنزلة الحد في سيفك.
وقيل: شبه الجيش بحيران، الذي هو الجبل.
والمعنى: ليتك رأيتني يوم يبدو فيه الجيش، حتى تقف على شجاعتي، وتعلم أني حد حسامك.
وأنّى إذا باشرت أمراً أريده ... تدانت أقاصيه وهان أشدّه
يقول: وتعلم أيضاً أني إذا رمت أمراً، قرب بعيده وهان شديده.
وما زال أهل الدّهر يشتبهون لي ... إليك فلمّا لحت لي لاح فرده
يقول: كنت أظن أن أهل الدهر مشتبهون في المراتب والمنزلة، متساويين في القدر، فلما رأيتك رأيت فرد الزمان الذي لا نظير له.
وقيل: إن أهل الدهر من الملوك كانوا يشتبهون بك عندي، فيوهمونني مساواتهم لك في الملك وسائر الخصال، فلما رأيتك، أوحد الدهر، علمت بطلان دعاويهم.
يقال إذا أبصرت جيشاً وربّه ... أمامك ربٌّ ربّ ذا الجيش عبده
يقول: كنت إذا رأيت جيشاً وأميره، قيل لي قدامك ملك - وهو كافور - وأمير هذا الجيش، عبد ذلك الملك.
وألقى الفم الضّحّاك أعلم أنّه ... قريبٌ بذي الكفّ المفدّاة عهده
الهاء في عهده للفم. وقوله: بذي الكف: أي بهذه الكف، وقيل بصاحب الكف.
يقول: كنت إذا رأيتك فماً كثير الضحك علمت أنه قريب العهد بتقبيل كفك - التي تفدي الأنفس - وذلك الضحك، لما لحقه من السرور حين وصل إلى تقبيل كفك، أو عرفت أنه قريب العهد بعطاء كفك المفداة، فذلك الضحك سرور بعطائك.
فزارك منّي من إليك اشتياقه ... وفي النّاس إلاّ فيك وحدك زهده
المعنى: زارك مني رجل مشتاق إليك، زاهد في جميع الناس إلا فيك وحدك وقوله: زارك مني أي أنا ذلك الذي إليك اشتياقه.

يخلّف من لم يأت دارك غايةً ... ويأتي فيدري أنّ ذلك جهده
الجهد: الطاقة، والجهد: المشقة، وقيل: هما واحد.
يقول: من قصد غيرك من الملوك فقد خلف وراءه غاية، وإذا قصدك فقد بلغ غاية جهده وطاقته، فإنه ليس وراءك غاية يطلب الوصول إليها.
فإن نلت ما أمّلت منك فربّما ... شربت بماءٍ يعجز الطّير ورده
الورد: الورود، وهو فاعل يعجز والضمير في ورده للماء والباء في قوله: شربت بماء زائدة.
المعنى: إني بعيد الهمة، شريف المطلب، لا أطلب إلا غايةً بعيدة؛ فلهذا قصدتك، وقاسيت الأخطار دونك، وليس هذا بمنكر مني، فإني ربما وصلت إلى ما لا يقدر الطير على الوصول إليه ! يعني: وصلت إلى مطالب يعجز عنها غيري.
ووعدك فعلٌ قبل وعدٍ لأنّه ... نظير فعال الصّادق القول وعده
يقول: وعد كل أحد يشبه فعله، وأنت صادق القول، فإذا وعدت فكأنك ابتدأت بالجود. قبل الوعد، فإن وعدك واقع لا محالة.
فكن في اصطناعي محسناً كمجربٍ ... يبن لك تقريب الجواد وشدّه
التقريب: ضرب من سير الفرس دون الشد.
يقول: جربني في اصطناعك إياي وإحسانك إلي، ليتبين لك صغر حالي وكبرها.
شبه الصغر بالتقريب، والكبر بالشد.
إذا كنت في شكٍّ من السّيف فابله ... فإمّا تنفّيه وإمّا تعدّه
يقول: إن شككت في حالي فجربني، فإني مثل السيف يتبين حاله بالتجربة، فإن رضيتني جعلتني عدة لك، وإلا رميت بي.
وما الصّارم الهنديّ إلاّ كغيره ... إذا لم يفارقه النّجاد وغمده
نجاد السيف: حمائله.
يقول: لا فضل بيني وبين غيري إذا لم تجربني كما لا فضل بين السيف الهندي القاطع، وبين غيره من السيوف إذا لم يجرد من غمده. ومثله لأبي تمام:
لما انتضيتك للخطوب كفيتها ... والسّيف لا يكفيك حتّى ينتضى
وإنّك للمشكور في كلّ حالةٍ ... ولو لم يكن إلاّ البشاشة رفده
الهاء في رفده للمشكور.
يقول: أنا أشكر لك في كل حال، وإن لم يكن من عطائك إلا طلاقة وجهك لكفاني ذلك.
وكلّ نوالٍ كان أو هو كائن ... فلحظة طرفٍ منك عندي ندّه
يقول: كل عطاء كان منك فيما مضى أو سيكون، فنظرة منك إلي تقوم عندي مقامه. والند: المثل. والهاء في نده للنوال.
وإني لفي بحر من الخير أصله ... عطاياك أرجو مدّها وهي مدّه
يقول: أنا في بحر من الخير، وأصل هذا البحر من عطاياك، وأرجو مد عطاياك، فهي مد هذا البحر.
وما رغبتي في عسجدٍ أستفيده ... ولكنّها في مفخرٍ أستجدّه
العسجد: الذهب. وأستفيده وأستجده بمعنىً واحد.
يقول: ليست رغبتي في المال، ولكن رغبتي في استفادة الفخر واستجداد الشرف. وأراد به الولاية. ومثله لأبي تمام:
ومن خدم الاقوام يرجو نوالهم ... فإنّي لم أخدمك إلاّ لأخدما
يجود به من يفضح الجود جوده ... ويحمده من يفضح الحمد حمده
الهاء في به للمفخر.
يقول: يجود بهذا المفخر، من جوده يفضح كل جود. يعني كافورا. ويحمده على هذا الجود، من حمده يفضح كل حمد. يعني به نفسه.
يعني: أنت أجود الملوك وأنا أبلغ الشعراء وأفصحهم.
فإنّك مامّر النّحوس بكوكبٍ ... وقابلته إلاّ ووجهك سعده
يقول: لو أن كوكبا من الكواكب أصابه نحس، وقابلته أنت، سعد ذلك النجم بسعادتك، وخرج النحس من غير أن يؤثر فيه بنحوسته.
يعني: أن من أتاك سعد بقربك، وظهر عليه إقبالك، فيرجع غنيا مسرورا.
وشكا إليه ابن عياش طول قيامه في مجلس الأسود وكان دسه عليه، ليعلم ما في نفسه فقال أبو الطيب يمدح كافورا ارتجالا:
يقلّ له القيام على الرّءوس ... وبذل المكرمات من النفوس
يقول: الوقوف بين يديه يقل له، لأنه يستحق فوق ذلك، وكذلك يقل له بذل النفوس المكرمة في جنب ما يستحقه من التعظيم.
إذا خانته في يومٍ ضحوكٍ ... فكيف تكون في يومٍ عبوس ؟
يقول: إذا خانته في حال الرفاهية والسلم والسرور فتقصر في الخدمة والقيام بين يديه فكيف تكون في حال الشدة والحرب ؟! والغرض بضحك اليوم وعبوسه: حسنه وطلاقته. وقيل: أراد في يوم يضحك فيه ويعبس فيه كما يقال: ليل نائم أي ينام فيه

ومات له في دار البركة التي انتقل إليها خمسون غلاما في أيام يسيرة، ففزع، وخرج إلى دار أخرى هارباً منها في الليل، حتى قال الناس إنه جاءه في الليل أسود فقال له: إن خرجت منها.. وإلا قتلتك ! فخرج على وجهه، ونزل دار بعض غلمانه إلى أن أصلحت له دار كانت لحرم ابن طولون، فلما نزلها دخل عليه أبو الطيب فقال في المحرم سنة سبع وأربعين وثلاث مئة.
أحقّ دارٍ بأن تدعى مباركةً ... دارٌ مباركة الملك الّذي فيها
يقول: أحق الدور بأن تسمى مباركة، هي الدار التي الملك فيها، لما يشملها من نعمه وبره.
وأجدر الدّور أن تسقى بساكنها ... دارٌ عدا النّاس يستسقون أهليها
يقول: إذا كان البعيد يستسقى من جود يديك، فدارك التي تسكنها أولى بأن تسقيها بجودك وبركتك.
هذي منازلك الأخرى نهنّئها ... فمن يمرّ على الأولى يسلّيها
ويقول: نحن نهنئ دارك التي انتقلت إليها بنفسك، فمن يمر على الأولى التي انتقلت عنها يسليها: أي يصبرها. من بمعنى الذي.
إذا حللت مكاناً بعد صاحبه ... جعلت فيه على ما قبله تيها
يقول: إذا نزلت مكاناً بعد ما رحلت عن مكان غيره، تاه المكان الذي نزلته على الذي ارتحلت عنه، تشرفاً بك.
لا تنكر العقل من دارٍ تكون بها ... فإنّ ريحك روحٌ في مغانيها
يقول: لا تنكر أن تكون الدار التي تحلها لها عقل ! تعرف به شرفها بقربك، لأن ريحك في منازلها، لها روح تحيا به.
أتمّ سعدك من لقّاك أوّله ... ولا استردّ حياةً منك معطيها
يقول: أتم الله سعادتك، كما ابتدأك بها، ولا استرد منك ما أعطاك من الحياة.
ودخل يوما أبو الطيب على كافور الأسود، فلما نظر إليه وإلى قلته في نفسه ونقص عقله ولؤم كفه وقبح فعله، ثار الدم في وجهه حتى ظهر ذلك فيه، فخرج فركب فأتبعه الأسود بعض القواد، وهو يرى أن أبا الطيب لا يفطن فسايره وسأله عن حاله وقال له: أراك متغير اللون ؟ فقال أبو الطيب: أصاب فرسي اليوم جرح خفته عليه، وقلبي مشغول به، وليس له خلف إن تلف، فبلغ معه إليه ثم عاد إلى الأسود فأخبره، فأنفذ إليه مهراً أدهم، فقال أبو الطيب يمدحه ويذكر أسف الحمدانيين عليه وأنشدها يوم الأحد لأربع عشرة ليلة من شهر ربيع الآخر من هذه السنة:
فراقٌ ومن فارقت غير مذمّم ... وأمٌّ ومن يمّمت خير ميمّم
يقول: هذا فراق ومن فارقته غير مذموم، وهو سيف الدولة، وهذا أم: أي قصد، ومن أممته خير مقصود، وهو كافور.
وما منزل اللّذّات عندي بمنزلٍ ... إذا لم أبجّل عنده وأكرّم
يقول: ليست اللذة بلذة الأماكن إلا إذا أكرمني أصحابها وعظموا قدري، فمتى كنت مهاناً فيها فلا أعدها لذة عندي.
سجيّة نفسٍ ما تزال مليحةً ... من الضّيم مرميّاً بها كلّ مخرم
مليحةً: أي مشفقة خائفةً. والمخرم: المفازة.
يقول: عادة نفسي أنها تأنف الذل، وتشفق من الضيم، فلهذا أتحمل المشقة وأقطع المفاوز.
رحلت فكم باكٍ بأجفان شادنٍ ... عليّ، وكم باكٍ بأجفان ضيغم
الشادن: ولدى الظبي إذا قوى. والضيغم: الأسد.
يقول: لما رحلت بكى لفراقي النساء اللواتي عيونهن كأعين الغزلان، والأبطال الذين هم كالأسود، وعنى به سيف الدولة وأصحابه.
يعني: بكى لفراقي حبيبي بأجفان الشادن، وبكى سيف الدولة بأجفان الضيغم.
وما ربّة القرط المليح مكانه ... بأجزع من ربّ الحسام المصمّم
هذا تفسير البيت الذي قبله. والهاء في مكانه للقرط، وهو الذي يعلق في شحمة الأذن.
يقول: لم تكن حبيبتي صاحبه القرط، بأشد جزعاً لفراقي، من حبيبي الذي هو صاحب السيف. وأراد به سيف الدولة.
فلو كان ما بي من حبيب مقنّع ... عذرت ولكن من حبيب معمّم
يقول: لو كان ما بي من الشوق إنما هو لحبيبي المقنع، لعذرت نفسي في فراقه، لأني فارقته لطلب المجد والعلا، ولكن أي عذر في مفارقة حبيبي المعمم ؟؟! وما رجوته من قصد غيره، كان موجوداً عنده ! يظهر الندم على فراق سيف الدولة.
وقيل: معناه لو كان سبب فراقي من قبل المحبوبة لعذرتها، لأن التغير والفراق من عاد النساء، ولكن ما بي من حبيب معمم، فالتغير لا يعذر فيه.
رمى واتّقى رميي ومن دون ما اتّقى ... هوىً كاسرٌ كفّى وقوسي وأسهمي

يقول: ذلك الحبيب المعمم رماني بسهم، ثم خاف أن أرميه بما رماني به، وليس يدري أن هواه يكسر قوسي وكفي وسهمي.
يعني: إن سيف الدولة بدأ لي بالاساءة، ثم تغير لي، لأنه حسب أني تغيرت له، فقبل في كلام الأعداء وساء ظنه ! وليس يدري أن محبتي له تمنعني من الإساءة إليه، ومقابلته على فعله. وهذا عتاب لطيف.
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاده من توهّم
يقول: إذا أساء إنسان إلى إنسان، أساء ظنه به وصدق توهمه عليه، لأنه يظن أنه حقد عليه ففسدت نيته.
وعادى محبّيه بقول عداته ... وأصبح في ليلٍ من الشّكّ مظلم
يقول: إذا أساء الرجل إلى صديقه، ظن أنه قد تغير له، فيتنكر في مودته ويعاديه بقول أعدائه.
أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها في فعله والتّكلّم
يقول: أصدق الأرواح قبل الأشباح، وأعرف أحوال الأرواح في فعل المرء وكلامه: الذي هو صاحب النفس.
وأحلم عن خلّي وأعلم أنّه ... متى أجزه حلماً عن الجهل يندم
يقول: إذا جهل علي خليلي حلمت، وعلمت أني إذا قابلته بالحلم، ندم على ما بدر منه وعاد إلى الوصل.
وإن بذل الإنسان لي جود عابسٍ ... جزيت بجود التّارك المتبسّم
يقول: إذا شاب الإنسان جوده بالعبوس، جدت له بترك نواله، وتركته وقابلت عبوسه بالتبسم.
وأهوى من الفتيان كلّ سميدع ... نجيبٍ كصدر السّمهريّ المقوّم
السميدع: السيد.
يقول: أحب كل سيد كريم، ماض في أموره نافذاً فيها مثل الرمح المقوم.
خطت تحته العيس الفلاة وخالطت ... به الخيل كبّات الخميس العرمرم
خطت: أي قطعت من خطوت. والكبات: الصدمات والحملات. وروى لبات الخميس والهاء في تحته وفى به للسميدع.
يقول: أهوى كل سيد كريم، قطع الفلوات وشاهد الواقعات، وقارع الأبطال والزمان.
ولا عفّةٌ في سيفه وسنانه ... ولكنّها في الكفّ والفرج والفم
يقول: أهوى من لا عفة له في سيفه وسنانه: أي لا يردهما عن عدوه في قتال، وهو مع ذلك عفيف اليد والفرج والفم.
وما كل هاوٍ للجميل بفاعلٍ ... ولا كلّ فعّالٍ له بمتمّم
يقول: ليس كل من يحب الفعل الجميل يفعله، ولا كل من يفعله يتممه ويربيه. كأنه يعرض بسيف الدولة: أنه لم يتمم إحسانه.
فدىً لأبي المسك الكرام فإنّها ... سوابق خيلٍ يهتدين بأدهم
شبه الكرام بالخيل السوابق، وجعل كافورا فرساً أدهم يتقدمها لسواد لونه. وفداه بجميع الكرام المقتدين به.
أغرّ بمجدٍ قد شخصن وراءه ... إلى خلقٍ رحبٍ وخلقٍ مطهّم
شخصن: أي رفعن أبصارهن.
يقول: هذا الأدهم أغر بالمجد، لا بالبياض، فالمجد يشرق في وجهه إشراق الغرة، والسوابق وراءه ينظرون سعة خلقه وكمال خلقه، شاخصة أبصارهن إليه.
إذا منعت منك السّياسة نفسها ... فقف وقفةً قدّامه تتعلّم
يقول: إذا صعب عليك أيها الإنسان أمر السياسة، فقف بين يديه وانظر إلى سياسته، تتعلم منه حسن السياسة
يضيق على من راءه العذر أن يرى ... ضعيف المساعي أو قليل التّكرّم
راء: مقلوب رأى.
يقول: من رأى كافوراً وصحبه، فلا عذر له في ضعف مساعيه وقلة تكرمه، لأنه يتعلم منه المساعي وكرم الأخلاق.
ومن مثل كافورٍ إذا الخيل أحجمت ... وكان قليلاً من يقول لها اقدمي
اقدمي: من قدم يقدم إذا تقدم.
يقول: من يكون مثله في حال شدة الحرب ؟ حين تأخرت الخيل عن الإقدام، ولم يكن هناك من تقدم إلا القليل من الفرسان أي ليس لهمته في هذا الوقت نظير.
شديد ثبات الطّرف والنّقع واصلٌ ... إلى لهوات الفارس المتلثّم
يقول: لا يصرف بصره في المعركة مع تراكم الغبار ودخوله في لهوات الفارس المتلثم.
أبا المسك أرجو منك نصراً على العدا ... وآمل غرّاً يخضب البيض بالدّم
يقول: أرجو منك أن تنصرني على أعدائي، حتى أتمكن منهم، وأخضب من دمائهم سيوفي.
ويوماً يغيظ الحاسدين وحالةً ... أقيم الشّقا فيها مقام التّنعم

يقول: أرجو يوماً تنعم علي فيه، فيغيظ ذلك اليوم حسادي، وأرجو منك أن تبلغني يوما أقتل فيه أعدائي وأغيظ فيه حسادي، وأرجو حالة أقيم الشقاء فيها مقام التنعم: يعني يكثر فيها تعب الحرب، ومشقة القتال، ويكون ذلك الشقاء عندي بمنزلة التنعم أسر به كما أسر بالنعم.
ولم أرج إلاّ أهل ذاك ومن يرد ... مواطر من غير السّحائب يظلم
يقول: إنما رجوتك لهذا الأمر؛ لأنك أهل له قادر أن تبلغني ما أريده ولو طلبت ذلك من غيرك لكنت قد ظلمته وكلفته ما لا يقدر عليه، ووضعت الشيء في غير موضعه، وأكون كمن طلب المطر من غير السحاب.
فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها ... بقلب المشوق المستهام المتيّم
يقول: قصدت مصر لألقاك، ولو لم تكن فيها لما سرت إليها بقلب المشتاق: الذي عنده الشوق.
ولا نبحت خيلي كلاب قبائل ... كأنّ بها في اللّيل حملات ديلم
الديلم: الأعداء، والديلم: هذا الجيل من العجم.
وعن ابن جني قال: سئل أبو الطيب فقال: أتريد الديلم الأعداء، أو هذا الجيل من العجم ؟ فقال: بل كل.
يقول: لو لم تكن في مصر، لما صرت على قبائل الأعراب، حتى حملت كلابها علي، كما تحمل الديلم في حروبها مع الصياح.
ولا اتّبعت آثارنا عين قائفٍ ... فلم تر إلاّ حافراً فوق منسم
القائف: الذي يتبع الأثر والمنسم: طرف خف البعير.
والمعنى: أنه ركب الأبل وجنب الخيل، وكانت حوافرها تقع على آثار أخفاف الإبل، فمن تبع أثره رأى أثر حوافر الخيل على أثر أخفاق الإبل.
وسمنا بها البيداء حتّى تغمّرت ... من النّيل واستذرت بظلّ المقطّم
تغمرت: أي شربت شربا قليلا. واستذرت: أي استترت. والمقطم: جبل على جانب النيل.
يقول: سرنا بالخيل والإبل في البيداء، فصارت آثارها فيها كالسمة، حتى وصلنا إلى مصر، فشربت من النيل واستترت بظل المقطم.
وأبلج يعصي باختصاصي مشيره ... عصيت بقصديه مشيري ولوّمي
الأبلج: هو الجميل، وقيل: المنقطع ما بين الحاجبين.
يقول: قصدته وعصيت من لامني فيه، وأشار علي بترك لقائه، كما عصى هو من لامه في اختصاصي.
وأراد به وزير كافور ابن خنزابة لأن المتنبي لم يمدحه. وأراد بالأبلج: كافورا.
فساق إليّ العرف غير مكدّرٍ ... وسقت إليه الشّكر غير مجمجم
جمجم الرجل بكلامه إذا لم يفصح به ولم يبينه.
يقول: لما قصدته أنعم علي نعماً غير مكدرة بمن ولا أذى، ومدحته مدحاً لا عيب فيه، ولا إشارة فيه إلى ذم.
قد اخترتك الأملاك فاختر لهم بنا ... حديثاً وقد حكّمت رأيك فاحكم
أي: قد اخترتك من الأملاك، فحذف من وأوصل الفعل إلى ما بعده فنصبه.
يقول: قد اخترتك من بين الملوك، فاختر أنت حديثاً يتحدثون به عني وعنك، وقد جعلتك حاكماً، فافعل بي فعلاً إذا سمعوه كان مختاراً عندهم.
فأحسن وجهٍ في الورى وجه محسنٍ ... وأيمن كفٍّ فيهم كفّ منعمٍ
يقول: وجه المحسن أحسن الوجوه، وكفه أكثر بركةً من سائر الأكف. ومثله لآخر:
ولم أر كالمعروف: أمّا مذاقه ... فحلوٌ وأمّا وجهه فجميل
وأشرفهم من كان أشرف همّةً ... وأكثر إقداماً على كلّ معظم
يقول: أشرف الناس من كانت همته أشرف، وإقدامه على كل أمر عظيم أكثر.
لمن تطلب الدّنيا إذا لم ترد بها ... سرور محبٍّ أو مساءة مجرم
كأنه يخاطب نفسه أو صاحبه فيقول: إن المال إنما يراد به أن تسر الودود، وترغم أنف الحسود، فإذا لم ترد هذين فلماذا تطلب المال ؟! وأي معنى في طلب الجاه وحسن الحال ؟!
وقد وصل المهر الّذي فوق فخذه ... من اسمك ما في كلّ عنقٍ ومعصم
يقول: قد وصل إلي المهر الموسوم باسمك، الذي هو سمة في عنق كل حي ويده، فرساً كان أو غيره.
لك الحيوان الرّاكب الخيل كلّه ... وإن كان بالنّيران غير موسّم
يقول: أنت تملك الخيل وراكبيها، وكل حيوان موسوم باسمك فالخيل موسومة بالنيران، والناس موسومون بالنعم والإحسان.
ولو كنت أدري كم حياتي قسمتها ... وصيّرت ثلثيها انتظارك فاعلم

يقول: إنما أتقاضاك بالوعد؛ لأني لا أدري كم أعيش فأخاف حلول الموت قبل الوصول إلى الموعود، ولو كنت أعلم مقدار حياتي لأمضيت ثلثيها انتظاراً لوعدك واستطابة به، فلا أتهم وعدك وإنما أتهم الأجل.
ولكنّ ما يمضي من الدّهر فائتٌ ... فجد لي بحظّ البادر المتغنّم
يقول: ما فات من العمر لا أستدركه، فجد لي بحظ من يسبق الإحسان ويغتنمه.
رضيت بما ترضى به لي محبّةً ... وقدت إليك النّفس قود المسلّم
يقول: كل شيء ترضى به لي فإني راض به، ومؤثر هواك في كل شيء، وقدت نفسي إليك قود من سلمها لك.
ومثلك من كان الوسيط فؤاده ... فكلّمه عنّي ولم أتكلّم
الوسيط: الواسطة بين الرجلين.
يقول: من كان مثلك في الكرم فقلبه يكون واسطة بيني وبينه، وينوب منابي في التشفع إليه والتقاضي له، فيتكلم عني في حاجتي ولا يحتاج أن أتكلم بها.
وخرج من عنده فقال يهجوه:
أنوك من عبدٍ ومن عرسه ... من حكّم العبد على نفسه
من مرفوعة بالابتداء وأنوك خبره وتقديره: من حكم العبد على نفسه أنوك من عبد. والهاء في عرسه قيل: تعود إلى من أي: الذي يرضى بحكم العبد، فهو أشد حمقاً من العبد، وأشد حمقاً من امرأة نفسه. وقيل: الهاء تعود إلى العبد أي يكون أحمق من العبد، ومن امرأة العبد.
وإنّما يظهر تحكيمه ... ليحكم الإفساد في حسّه
الحس: العقل.
يقول: الذي يجعله حاكماً، ويعتقد تحكيمه في الباطن، ويظهر رضاه أيضاً. أي: يرى أنه راض بتحكيمه في الظاهر، كما هو راض به في الباطن، فقد حقق الناس فساد عقله. والهاء في حسه تعود إلى من وفي تحكيمه إلى العبد وأراد به: ابن الإخشيد الذي كان في حجر كافور. ورضى بحكمه.
وروى نظهر ونحكم بالنون.
والمعنى: إنما نظهر للناس تحكيم كافور في أنفسنا؛ لتفسد حسه، لا أنا حكمناه في الحقيقة على أنفسنا، بل أظهرنا ذلك له ليزداد في حسه فساداً؛ إذ من شأن الأحمق أنه مهما حكم ازداد حمقاً. والهاء في حسه تعود إلى العبد.
ما من يرى أنّك في وعده ... كمن يرى أنّك في حبسه
يقول: ليس من يظن أنك في حبسه، كمن يظن أنك منتظر وعده. يعني: أنا في حبسه وهو يظن أني مقيم على انتظار وعده. والكاف: خطاب لنفسه. والهاء في وعده وحبسه تعود إلى من الأولى.
العبد لا تفضل أخلاقه ... عن فرجه المنتن أو ضرسه
يقول: إن العبد ليس له همة إلا في الأكل والجماع، ولا يتجاوز همه إلى مكرمة، فكيف أرجوه؟!
لا ينجز الميعاد في يومه ... ولا يعي ما قال في أمسه
الهاء في يومه قيل: للميعاد أي في يوم الميعاد وقيل: للعهد.
يقول: إذا وعد وعداً لم ينجزه، وإذا صار إلى يوم آخر، نسى وعده بالأمس؛ لجهله، فمن هذا حاله فكيف يرجى نواله !؟
وإنّما تحتال في جذبه ... كأنّك الملاّح في قلسه
القلس: حبل السفينة.
يقول: إذا وعد شيئاً تحتاج إلى الاحتيال في جذبه إلى ذلك الموعود، فإن أغفلت جره تأخر، كما أن الملاح يحتاج إلى جر السفينة في النهر مصعداً لها، فإن ألقى الحبل من يده، انجرت مع الماء.
فلا ترجّ الخير عند امرئٍ ... مرّت يد النّخّاس في رأسه
في رأسه: أي على رأسه.
يقول: لا ترج خيراً عند من كان عبداً، فمرت على رأسه يد النخاس بالصفع، فإنه لا خير عنده.
وإن عراك الشّكّ في نفسه ... بحاله فانظر إلى جنسه
يقول: إن عرض لك شك في أمره بحسن حاله، فلا تغتر بتلك، وانظر إلى جنسه من العبيد فإن خلقه كأخلاقهم، والشيء إذا التبس حاله بغيره، يرد إلى جنسه.
فقلّما يلؤم في ثوبه ... إلاّ الّذي يلؤم في غرسه
الغرس: جلدة رقيقة تخرج على رأس المولود.
يقول: قلما يلؤم في ثوبه إلا الذي يولد وهو لئيم، فكل شيء ينزع إلى أصله.
من وجد المذهب عن قدره ... لم يجد المذهب عن قنسه
القنس: الأصل.
يقول: من وجد طريقاً إلى أن يتجاوز قدر نفسه ويباين أشكاله، فإنه لا يجد طريقاً يتجاوز أصله وينحرف به عن لؤم نفسه.
واتصل قوم من الغلمان بالصبي مولى الأسود، فأنكر ذلك عليهم وطالبه بتسليمهم إليه، فجرت بينهما وحشة أياماً، ثم سلمهم إليه فقتلهم واصطلحا، فطولب أبو الطيب بأن يذكر الصلح فقال في ذلك:

حسم الصّلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحسّاد
وأذاعته: أي وما أذاعته.
يقول: قطع الصلح ما كانت تشتهيه الأعادي من الخلاف بينكما، وما أفشاه الحساد من الوحشة الواقعة بينكما.
وأرادته أنفسٌ حال تدبي ... رك ما بينها وبين المراد
أي: وما أرادته. والهاء راجعة إلى ما في قوله: ما اشتهته.
يقول: أراد قوم أن يوقعوا بينكما الخلاف، فحال تدبيرك بينهم وبين مرادهم.
صار ما أوضع المخبّون فيه ... من عتابٍ، زيادةً في الوداد
أوضع إيضاعاً: إذا أسرع المشي. والمخبون: الذين يحملون دوابهم على الخب، وهو السير السريع، وأراد ها هنا السعي بالنميمة.
يقول: صار فعل من يسعى بينكما بالنميمة والفساد، زيادة في إصلاح الوداد، فرجع الوشاة بالخيبة.
وكلام الوشاة ليس على الأحبا ... ب سلطانه على الأضداد
سلطانه: يروى بالرفع فيكون مبتدأ، وعلى الأضداد خبره، واسم ليس: ضمير الكلام، وعلى الأحباب خبره.
يقول: إن كلام الوشاة إنما يوقع الفساد إذا كان بين الأضداد، فأما بين الأحباب المتصافين فلا يوقع الفساد.
وروى: سلطانه بالنصب يعني ليس يتسلط على الأحباب، سلطانه على الأضداد.
إنّما تنجح المقالة في المر ... ء إذا وافقت هوىً في الفؤاد
يقول: إن مقالة الوشاة، إنما تعمل في المرء إذا وافقت منه مراداً لها، وأصغى إليها. وهذا تأكيد للمعنى الأول.
ولعمري لقد هزرت بما قي ... ل فألفيت أوثق الأطواد
الأطواد: الجبال.
يقول: إن الوشاة بالغوا في السعاية بينكما، وحركوك بالوشاية فلم تسمع قولهم، فصادفوك في الحلم والوقار مثل الجبل.
وأشارت بما أبيت رجالٌ ... كنت أهدى منها إلى الإرشاد
يقول: أشار قوم عليك بالخصومة، فأبيت ما أشاروا به، فكنت أرشد منهم وأهدى إلى الصواب فيما فعلت من الصلح.
قد يصيب الفتى المشير ولم يج ... هد ويشوى الصّواب بعد اجتهاد
يشوى: أي يخطئ. يقال: رماه فأشواه: إذا أخطأ المقتل وأصاب الشوى، وهي الأطراف.
يقو: قد يصيب الإنسان الصواب وإن لم يجتهد، وقد يخطئ الصواب بعد الاجتهاد.
يعني: أنك أصبت الرأي في الصلح، وأخطأ من اجتهد في السعاية.
نلت ما لا ينال بالبيض والسّم ... ر وصنت الأرواح في الأجساد
يقول: أدركت بصواب رأيك من مرادك، ما لا ينال بالقتال، وحفظت الدماء حتى بقيت الأرواح في الأجساد، ولم يقتل أحد ولم يرق دم.
وقنا الخطّ في مراكزها حو ... لك والمرهفات في الأغماد
يقول: وصلت إلى مرادك من غير أن حركت الرماح من مراكزها، وأخرجت السيوف من أغمادها. والمرهفات: السيوف المحدودة.
ما دروا، إذ رأوا فؤادك فيهم ... ساكناً، أنّ رأيه في الطّراد
الطراد: المطاردة، وهي المحاربة. والهاء في رأيه للفؤاد.
يقول: لما رأوك ساكن القلب، توهموا بأن ذلك عن غفلةٍ وقلة فكر فيه، ولم يعلموا أنك معمل رأيك في فؤادك لاستنباط الصواب، فكان قلبك ساكناً، ورأيك في محاربة.
ففدى رأيك الّذي لم تفده ... كلّ رأيٍ معلّمٍ مستفاد
لم تفده: أي لم تستفده.
يقول: كل رأي مستفاد معلم مكتسب بالتعلم، فداء رأيك الذي طبعت عليه، ولم تستفده أنت من أحد.
وإذا الحلم لم يكن في طباعٍ ... لم يحلّم تقدّم الميلاد
يقول: إذا لم يكن الرجل مطبوعاً على الحلم، فمرور الأيام وتقدم الولادة، لا تجعله حليماً.
يعني: لا اعتبار بالسن، وإنما الاعتبار بالطبع.
فبهذا ومثله سدت يا كا ... فور واقتدت كلّ صعب القياد
يقول: بهذا الرأي الحصيف وبمثله من الآراء، صرت سيداً، وقدت كل صعب المقادة، حتى انقاد لك، ودخل في طاعتك.
وأطاع الّذي أطاعك والطّا ... عة ليست خلائق الآساد
يقول: بمثل هذا الرأي أطاعك رجال مثل الأسود التي لم تطع لأحد قبلك، إذ ليست الطاعة من عادة الأسود.
إنّما أنت والدٌ، والأب الّقا ... طع أحنى من واصل الأولاد
يقول: أنت له بمنزلة الوالد، والأب على كل حال أشفق على ولده من الولد الواصل.
قال ابن جني: معناه أنك يا كافور أقرب إلى ابن مولاك، وأحنى عليه من ولده الواصل له: أي لو كان له ولد لكنت أحنى عليه من ولده.

لا عدا الشّرّ من بغى لكما الشّرّ ... وخصّ الفساد أهل الفساد
يقول: من طلب لكما الشر، فلا تجاوز عنه الشر ولا فارقه، وجعل الله أهل الفساد، مخصوصاً به دونكما.
أنتما ... ما اتّفقتما الجسم والرّو ح فلا احتجتما إلى العوّاد
يقول: أنتما - ما دام بينكما اتفاق وصلح - كالجسم والروح، فلا وقع بينكما اختلاف حتى تحتاجا إلى السفر في الصلح بينكما.
لما جعلهما الروح والجسم، جعل الاختلاف بينهنا مرضهما، وجعل سعي الناس في الصلح بينهما، عيادة لهما.
وإذا كان في الأنابيب خلفٌ ... وقع الطّيش في صدور الصّعاد
يقول: إذا وقع الخلف بين أهل المملكة، وهم الأمراء والجيوش والقواد، اضطرب ملكهم الذي هو صدرهم، كما أن أنابيب الرمح إذا اختلفت لم يعمل صدره وزل عن الطعن، واضطرب في يديه.
وقيل: أراد أنكما إذا اختلفتما اضطرب أمركما، كما أن الرمح إذا اختلفت أنابيبه طاشت أعاليه.
أشمت الخلف بالشّراة عداها ... وشفى ربّ فارسٍ من إياد
فاعل شفى ضمير الخلف والشراة: الخوارج، سموا أنفسهم شراة. يعني: شروا - بحزم - أنفسهم من الله تعالى: أي باعوها.
يقول: الاختلاف بين القوم يشمت الأعداء بهم، كما أن الخوارج لما اختلفت كلمتهم في خلافة أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، ظفر بهم أمير المؤمنين وأفناهم وأشمت بهم أعداءهم، وكذلك تمكن كسرى صاحب فارس من قبيلة إياد، شفى صدره، حين اختلفت كلمتهم.
وتولّى بني البريديّ في البص ... رة حتّى تمزّقوا في البلاد
يقول: إن الخلف أوقع ببني البريدي وهم ثلاثة إخوة كانوا قد ملكوا البصرة في أيام المقتدر فلم يقدر عليهم، حتى وقع الخلاف بينهم، ومات أحدهم، فتمكن منهم السلطان وشتت شملهم واستأصلهم.
وملوكاً كأمسٍ بالقرب منّا ... وكطسمٍ وأختها في البعاد
وملوكاً عطف على ما قبله. أي وتولى الخلف ملوكاً. وأختها: أي أخت طسم: وهي جديس.
يقول: أهلك الخلف ملوكاً قربوا منا، حتى أن مدة قربهم منا كمدة أمس إلى يومنا، وأهلك الاختلاف أيضاً ملوكاً في قديم الزمان: مثل طسم وجديس، وكانوا ملوك حمير.
بكما بتّ عائذاً فيكما من ... ه ومن كلّ باغٍ وعاد
الباغي: من البغي. والعادي: من العدوان. والهاء في منه تعود إلى الخلف.
يقول: أعوذ بكما أن يقع الخلف بينكما، وأن يقع بينكما كيد البغاة والعداوة.
وبلبّيكما الأصيلين أن تف ... رق صمّ الرّماح بين الجياد
كان الوجه: ألبابكما. كقوله تعالى: " فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا " ، والتثنية أيضاً جائزة.
يقول: أعوذ به بعقلكما الثابت أن تتحاربا، فتفرق الرماح بين خيولكما، فيصير معك حزب ومعه حزب.
أو يكون الوليّ أشقى عدوٍّ ... بالّذي تذخرانه من عتاد
يقول: أعوذ بعقلكما من أن تقتلا الولي، وأن تجعلاه لسلاحكما - الذي هو عدتكما وذخيرتكما للأعداء - أشقى عدو، إذ السلاح يعد للأعداء لا للأولياء.
هل يسرّنّ باقياً بعد ماضٍ ... ما تقول العداة في كلّ ناد
النادي: المجلس.
يقول: إذا تقاتلتما، فيقتل أحدكما صاحبه، هل يسر الباقي منكما ما تقول الأعداء في المجالس: إنه قتل صاحبه وهتك حرمته ؟!
منع الودّ والرّعاية والسّؤ ... دد أن تبلغا إلى الأحقاد
يقول: هذه الخصال التي فيكما منعتكما أن تبلغا إلى أن يحقد أحدكما على صاحبه؛ فلهذا عدلتما إلى الصلح، لتأكد هذه المعاني.
وحقوقٌ ترقّق القلب للقل ... ب ولو ضمّنت قلوب الجماد
يقول: ومنع أيضاً حقوق متأكدة، حتى لو كانت للجماد قلوب، فضمنت هذه الحقوق تلك القلوب، لرق بعضها لبعض.
فغدا الملك باهراً من رآه ... شاكراً ما أتيتما من سدادٍ
يقول: لما اصطلحتما أصبح الملك منيراً، أبهر من رآه، وغلبه بنوره، وشكر لكما على ما رأيتما من الصواب والسداد.
فيه أيدكما على الظّفر الحل ... و وأيدي قومٍ على الأكباد
الهاء في فيه للملك.
يقول: ظفرتما من الملك بما أردتما، وأصبح حسادكما واضعين أيديهم على أكبادهم؛ لما نالهم من الألم بالصلح الذي صار بينكما.
هذه دولة المكارم والرّأ ... فة والمجد والنّدى والأيادي

يقول: دولتكما دولة هذه الأشياء، فإذا وقع في هذه الدولة خلل، اختلت هذه الأشياء، وإذا سلمت سلمت هذه الأمور.
كسفت ساعةً كما تكسف الشّم ... س وعادت ونورها في ازدياد
يقول: هذه الدولة كسفت ساعة لمخالفتكما، كما تكسف الشمس، ثم زال الكسوف عنها فعاد نورها، وزاد على ما كان من قبل.
يزحم الدّهر ركنها عن أذاها ... بفتىً ماردٍ على المرّاد
المراد: جمع مارد، وهو الشرير الخبيث.
يقول: ركن هذه الدولة يزحم الدهر عن أذاها. أي: إذا أراد الدهر أن يؤذي هذه الدولة، زاحمه ركنها ومانعه، بفتىً ماردٍ على المراد: أي عاد على المعتدين، ومقابل للخبثاء بخبثهم. وعنى به كافور الأسود.
متلفٍ، مخلفٍ، وفيٍّ، أبيٍّ، ... عالمٍ، حازمٍ، شجاعٍ، جواد
أي يتلف ماله في الجود، ويخلف من تلف ماله، ويعوضه على ما ذهب منه. وأراد: أن هذا الفتى جامع لهذه الأوصاف.
أجفل النّاس عن طريق أبي المس ... ك وذلّت له رقاب العباد
أجفل: أي تفرق.
يقول: خلى الناس له طريق المجد والعلا، وذلت له رقاب الناس، وانقادوا له.
كيف لا يترك الطّريق لسيلٍ ... ضيّقٍ عن أتيّه كلّ واد
الأتى: السيل الذي يأتي من بلد إلى بلد. والوادي: مجرى السيل، شبهه بالسيل في إقدامه وكثرة جيوشه، ومن حيث أن السيل يحمل كل شيء يأتي عليه.
يقول: كيف لا يترك الناس الطريق لسيل يضيق عنه كل واد؛ لكثرته وكل موضع أتى عليه غرقه.
وكان كافور يتقدم إلى أصحاب الأخبار، يرجفون بأنه ولاه موضعاً في الصعيد، وينفذ إليه قوماً يعرفونه ذلك، فلما كثر هذا وعلم أن أبا الطيب لا يثق بكلام يسمعه، حمل إليه ست مئة دينار ذهباً، فقال يمدحه وأنشدها يوم الخميس لليلتين خلتا من شوال، سنة سبع وأربعين وثلاث مئة:
أغالب فيك الشّوق والشّوق أغلب ... وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
يخاطب حبيبه يقول: أنا أحاول أن أغلب شوقي إليك، وهو يغلبني لا محالة، لأنه أغلب مني: أي أقدر على الغلبة، وأعجب من هجرك لي، ووصلك أولى بأن أعجب منه؛ لأن عادتك الهجر، فليس هو بعجيب، وإنما العجب من الوصل.
أما تغلط الأيّام فيّ بأن أرى ... بغيضاً تنائى، أو حبيباً تقرّب
يقول: من عادة الأيام أنها تقرب البغيض، وتبعد الحبيب، فلم لا تغلط مرةً فتقرب الحبيب وتبعد البغيض ؟
وللّه سيري ما أقلّ تئيّةً ... عشيّة شرقيّ الحدالى وغرّب
التئية: التثبت والتلبث. والحدالى: موضع بالشام: وغرب: جبل. ولله سيرى ! تعجب. وتئيةً: نصب على التمييز.
يقول: لله سيرى ! حين جعلت الحدالى وغرب عن يميني وقصدت مصر فما كان أسرعه، وأقل تمكني فيه ! وقيل: أراد جعلت هذين المكانين في جانب المشرق، وسرت إلى جانب المغرب. وهو مصر.
عشيّة أحفى النّاس بي من جفوته ... وأهدى الطّريقين الّذي أتجنّب
أحفى الناس بي: أي أشدهم اهتماماً في البر بي. وعشية: بدل من العشية الأولى.
يقول: لله مسيري، عشية جفوت من هو ألطف الناس بي، وأشدهم اهتماماً بأمري: يعني سيف الدولة، يظهر الندم على فراقه، وأصوب الأمرين: الأمر الذي تركته لما قصدت كافوراً وجفوت سيف الدولة، مع اهتمامه بأمري.
وعن ابن جني: أنه كان ترك الجادة وتعسف، ليخفي أثره، خوفاً على نفسه، فترك أقصر الطريقين.
وكم لظلام اللّيل عندي من يدٍ ... تخبّر أنّ المانويّة تكذب
المانوية: قوم من المجوس ينتسبون إلى رجل اسمه: ماني. وهم يقولون: إن النور مطبوع على الخير والصلاح، والظلمة مطبوعة على الشر والفساد. فهو يقول: إنهم كذبوا في قولهم، فكم من نعمة لليل عندي، تدل على كذبهم في أن الظلمة لا تفعل الخير.
وقاك ردي الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدّلال المحجّب
هذا تفسير للبيت الأول يقول: كم مرة سترني الليل عن الأعداء عند سيري فيما بينهم ؟! وتمكني فيه من زيارتي الحبيب المحجوب ! وهذا كله خير حصل لي من الظلمة.
ويومٍ كليل العاشقين كمنته ... أراقب فيه الشّمس أيّان تغرب
كمنته: أي كمنت فيه.
يقول رداً على المانوية في قولهم: إن النور لا يفعل الشر.

رب يوم كمنت فيه خوفاً من أعدائي وطال علي، كما يطول الليل على العاشقين، وكنت أنتظر فيه الشمس حتى تغرب، ليظلم الليل فأسرى فيه وأنجو من أعدائي. وهذا شر حصل من النور، فبطل قولهم: إنه مطبوع على الخير، لا يقدر على الشر.
قال ابن جني: حدثني المتنبي قال: لما أنشدته قال: غيرك يستطيل الليل، فقبحاً له ! كيف عرف معناه ؟!
وعيني إلى أذني أغرّ كأنّه ... من اللّيل باقٍ بين عينيه كوكب
يقول: كنت أنظر إلى أذني الفرس الأغر، فإن توجس بهما علمت أنه أحس بشيء، فتأهبت في أمري فكأن أذني الفرس قائمان: مقام عيني، وقوله: كأنه من الليل باق: أي كأنه قطعة باقية من الليل.
شبه فرسه بقطعة من الليل؛ لأنه أدهم، وغرته بكوكب في ظلمة.
له فضلةٌ عن جسمه في إهابه ... تجيء على صدرٍ رحيبٍ وتذهب
الرحيب: الواسع، ويستحب في الفرس سعة الصدر. وإهابه: جلده.
يقول: لهذا الفرس فضلة من جلده تضطرب على صدره الواسع، فتجيء وتذهب. ويستحب في الفرس أن يكون جلد صدره واسعاً فاضلاً عنه. وقيل: أراد بالفضلة ذكاءه، ثم قال: هذه الفضلة تجيء على صدره الواسع: يعني لا يسع هذا الذكاء إلا صدره؛ لسعته، ولا يسع إهابه.
شققت به الظّلماء أدنى عنانه ... فيطغى وأرخيه مراراً فيلعب
يقول: شققت بهذا الفرس ظلمة الليل، فسرت فيها، فكنت إذا جذبت عنانه طغى برأسه: أي رفعه، لطماحه وعزة نفسه، وإذا أرخيته: لعب برأسه، لنشاطه.
وأصرع أيّ الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
يقول: إذا تبعت به أي وحش كان، لحقته وصرعته، ونزلت عنه وهو على القوة التي ركبته عليها، لم يلحقه تعب وعياء.
وما الحيل إلاّ كالصّديق قليلةٌ ... وإن كثرت في عين من لا يجرّب
يقول: الخيل وإن كانت كثيرة في عين من لا يعرفها، فالعتيق منها قليل، فهي مثل الأصدقاء يكثرون في العدد ويقلون عند التجربة.
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيّب
الشية: العلامة كالغرة والتحجيل، وكل لون يخالف لون الجلد.
يقول: إن كنت لا تعرف حسن الخيل إلا في شياتها وأعضائها فالحسن غائب عنك.
لحا الله ذي الدّنيا مناخاً لراكبٍ ... فكلّ بعيد الهمّ فيها معذّب
مناخاً نصب على التمييز، وقيل: على الحال.
يقول: لعن الله هذه الدنيا التي لا ينال فيها المراد، فكل صاحب همة شريفة فيها معذب بإجدابها عليه.
ألا ليت شعري: هل أقول قصيدةً ... فلا أشتكي فيها ولا أتعتّب
ليت شعري: أي ليتني أشعر. وتقديره: ليت شعري كائن، فحذف خبر ليت.
يقول: هل أقول قصيدة وأنا راض عن الزمان ؟ لا أشكو صروفه ولا أتعتب عليه !
وبي ما يذود الشّعر عنّي أقلّه ... ولكنّ قلبي يا ابنة القوم قلّب
قوله: يا ابنة القوم: كناية عن قوله: يا بنت أب جيد التصرف في الأمور.
يقول: بي من الهم ما يمنع أقله الشعر. كما يقال: حال الجريض دون القريض ولكن قلبي متقلب في الأمور. جلد صابر على ما ينويه، ويستخرج المعنى، مع ما فيه من الهموم.
وأخلاق كافورٍ، إذا شئت مدحه ... وإن لم أشأ تملي عليّ وأكتب
يقول: إن كانت الهموم شغلتني عن الشعر، فإني إذا شئت مدح كافور، فإن أخلاقه تبعثني على مدحه، فأكتبه وإن لم أتفكر فيه.
إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه ... ويمّم كافوراً فما يتغرّب
يقول: من حصل عنده فكأنه في أهله، لما يرى من بره ما يسره. ومثله لآخر:
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم ... وإلطافهم حتّى حسبتهم أهلي
فتىً يملأ الأفعال رأياً وحكمةً ... وبادرةً أحيان يرضى ويغضب
البادرة: البديهة.
يقول: ليس له فعل إلا فيه حكمة ورأي وبادرة، فيملأ ذلك الفعل من هذه الثلاثة.
وبالغ في ذلك حيث جعل: البديهة كالروية من غيره، في امتلائه من الحكمة، ويفعل ذلك في حالتي الرضا والغضب، ولا يمنعه غضبه من الحكمة، ولا رضاه يلهيه عنها.
وقيل: البادرة: ما يبدر عند الغضب.
والمعنى: إذا رضى ملأ أفعاله رأياً وحكمة، وإذا غضب ملأها بادرة وسطوةً، فيبالغ في كلا الحالين.
إذا ضربت في الحرب بالسّيف كفّه ... تبيّنت أنّ السّيف بالكفّ يضرب

يقول: إذا ضرب بالسيف، عمل في يده أكثر مما يعمل في يد غيره، فإذا رأيت ذلك علمت أن السيف عمل على قدر قوة الكف.
تزيد عطاياه على اللّبث كثرةً ... وتلبث أمواه السّحاب فتنضب
تنضب: أي تجف.
يقول: كلما بقيت عطاياه ازدادت ونمت؛ لأنه يهب فرساً فتنتج، أو ضيعةً فتغل، فعطاياه أبداً تزداد وتبقى، لا كعطاء السحاب، فإنه إذا أقام بمكان أياماً جف وذهب.
وقيل: معناه أنه إذا أمسك العطاء، فإنما يؤخره لتكثيره، والماء إذا منع من السيلان، غار ونضب.
وقيل: أراد أن عطاياه متصلة دائمة، فهي أكثر وأثبت من ماء السحاب، لأنها تجيء أحياناً وتقلع أخرى.
أبا المسك هل في الكأس فضلٌ أناله ؟ ... فإنيّ أغنّي منذ حينٍ وتشرب
يقول: أنا أغنيك بمدحك، وأطربك، وأنت تشرب كأس السرور بما أنظمه من أوصافك، فاسقني من فضلة هذا الكأس: أي اجعل لي في سرورك نصيبا بإنجاز ما وعدت.
وقيل: أراد أن مديحي يطرب، كما يطرب الغناء الشارب.
وهبت على مقدار كفّي زماننا ... ونفسي على مقدار كفّيك تطلب
يقول: أنت إنما وهبت من المال على قدر همة الزمان، وأنا أطلب منك على قدر همتك ومبلغ جودك.
وحكى ابن جني عنه أنه قال: كنت إذا خلوت أنشدت.
وهبت على مقدار كفّيك عسجداً ... ونفسي على مقدار كفّيّ تطلب
إذا لم تنط بي ضيعةً أو ولايةً ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
يقول: إذا لم تقطعني ضيعةً، أو توليني ولايةً تفضل عن مؤنتي، فإنه وإن كساني جودك، فإن اشتغالك بتدبير الملك عنى، يسلبني ما يكسوني إياه جودك.
يضاحك في ذا العيد كلٌّ حبيبه ... حذائي وأبكى من أحبّ وأندب
يقول: كل أحد في هذا العيد يسر بأهله في وطنه، وأنا بعيد عمن أحب، أبكى على فراقه، وأشتاق إلى لقائه.
أحنّ إلى أهلي وأهوى لقاءهم ... وأين من المشتاق عنقاء مغرب ؟
يقال: عنقاء مغرب وصفاً وإضافة. وهو جعله وصفاً. ومغرب: أي بعيد، يقال: أغرب في البلاد وغرب: إذا خرج منها.
يقول: أنا أشتاق إلى أهلي، وأشتهي لقاءهم، ولكن بيني وبينهم بعد العنقاء، فهل أصل إليهم ؟! فاشتياقي إليهم كاشتياق المشتاق إلى عنقاء مغرب ! فكما لا يصل إليه كذلك وصولي إلى أهلي.
وقيل: معناه أرى الناس يضربون المثل في البعد بالعنقاء، ولو عقلوا لضربوا بالمغرب عن الوصل؛ لأنه أبعد من العنقاء.
فإن لم يكن إلاّ أبو المسك أو هم ... فإنّك أحلى في فؤادي وأعذب
يقول: متى لم يكن لي إلا أنت، أو أهلي، فإن الذي أختاره، هو الكون عندك، والمقام في خدمتك، دون الأهل الذين أشتاقهم.
وكلّ امرئٍ يولي الجميل محبّبٌ ... وكلّ مكانٍ ينبت العزّ طيّب
يقول: أنت تفيض على نعمك، وأكتسب العز عندك، فقلبي يحبك، والمقام يطيب لي بقربك.
يريد بك الحسّاد ما الله دافعٌ ... وسمر العوالي والحديد المذرّب
المذرب: المحدد.
يقول: يريد بك الحساد السوء، والله تعالى يدفع عنك، وكذلك تدفعه رماحك وسيوفك الحداد.
ودون الّذي يبغون ما لو تخلّصوا ... إلى الشّيب منه عشت والطّفل أشيب
يقول: دون ما يرومون من كيدك حروب، لو سلموا من أهوالها إلى الشيب، لشيب رءوس أطفالهم، ولكنك متى أرادوا بك سوءاً، قصدتهم بمكر، أو ضرب، يأتي على أنفسهم ويفني حياتهم، وقوله: عشت دعاء للممدوح.
إذا طلبوا جدواك أعطوا وحكّموا ... وإن طلبوا الفضل الّذي فيك خيّبوا
يقول: إذا طلبوا عطاءك أعطيتهم وحكمتهم فيه، وإن طلبوا فضلك خيبتهم وحرمتهم.
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها ... ولكن من الأشياء ما ليس يوهب
يقول: من الأشياء ما لا يجوز هبته، وعلاك من جملة ذلك؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يحويها، فلست تمنعهم ذلك للبخل.
وأظلم أهل الظّلم من بات حاسداً ... لمن بات في نعمائه يتقلّب
يقول: أظلم الظالمين، من يحسد الذي ينعم عليه، فهو يتقلب في نعم المحسود، فحسادك يتقلبون في نعمك، ومع ذلك يحسدونك !
وأنت الّذي ربّيت ذا الملك مرضعاً ... وليس له أمٌّ سواك ولا أب
يقول: ربيت هذا الملك وهو ضعيف حتى شددته وقهرت أعداءه، فليس له كافل سواك، وأنت أولى به ممن عجز عن تدبيره وسياسته.

ويروى ذا الملك بفتح الميم. أي أنت الذي ربيت هذا الملك، وأراد به: ابن مولى كافور. أي أنك كفلته وهو طفل صغير، لا يعرف أباً ولا أماً، فليس له أب ولا أم غيرك.
وكنت له ليث العرين لشبله ... وما لك إلاّ الهندوانيّ مخلب
يقول: كنت كالأسد لشبله، تذب عنه كما يذب الأسد عن شبله، وسيفك لك كالمخلب للأسد. والهاء في له للملك أو للملك.
لقيت القنا عنه بنفسٍ كريمةٍ ... إلى الموت في الهيجا من العار تهرب
يقول: باشرت القتال عنه بنفسك الكريمة التي تهرب إلى الموت خوفاً من العار، ولا تهرب من الموت.
وقد يترك النّفس الّتي لا تهابه ... ويخترم النّفس الّتي تتهيّب
فاعل يترك ويخترم: ضمير الموت.
يقول: قد ينجو من الموت من لا يخاف منه، وقد يصيب الموت من يحذر منه، فيخترمه.
وما عدم اللاّقوك بأساً وشدّةً ... ولكنّ من لاقوا أشدّ وأنجب
يقول: الذين لقوك في الحرب لم يكونوا ضعافاً جبناء، ولكنهم لقوا من هو أشد منهم وأقدر على قهرهم.
ثناهم، وبرق البيض في البيض صادقٌ ... عليهم، وبرق البيض في البيض خلّب
سللت سيوفاً علّمت كلّ خاطبٍ ... على كلّ عودٍ كيف يدعو ويخطب
يقول: هزمهم لما لقيهم، وكانت سيوفه إذا برقت صدق برقها وعملت السيوف في البيض، وأوعدته أنها تقطعه وتقطع الرءوس التي فيه، وإذا برق البيض للسيوف كذب برقها أنها تمنع لابسها، فبرق سيوفك المسلولة علمت الخطباء في جميع البلاد: أن الواجب عليهم أن يخطبوا في جميع الناس، فخطبوا على كل منبر باسمك.
ويغنيك عمّا ينسب النّاس أنّه ... إليك تناهى المكرمات وتنسب
يقول: وإن لم يكن لك نسب في العرب فأنت أصل المكرمات وإليك نسبها، فأنت أكبر من أن تنسب إلى أب أو جد، وهذا كقول أبي طاهر:
خلائقه للمكرمات مناسبٌ ... إليها تناهى المكرمات وتنسب
وروى: إليها تناها كل مجد مؤثل.
وأيّ قبيلٍ يستحقّك قدره ؟ ... معدّ بن عدنان فداك ويعرب
الهاء في قدره للقبيل، وقيل: تعود إلى أي.
يقول: أية قبيلة من العرب تستحق أن تنسب إليها، فأنت أفضل من معد بن عدنان، ويعرب بن قحطان اللذين هما أصل العرب. وهما يفديانك.
وقيل: هذا هجو يريد: إنك عبد لا يعرف لك أصل وحسب.
وما طربي لمّا رأيتك بدعةً ... لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
يقول: ليس سروري - الآن وقد رأيتك - ببدع، فإني كنت أرجو أن أراك فأطرب بمجرد الرجاء فكيف الآن ؟! وقد رأيتك.
هذا وإن كان ظاهره مدحاً، فإن باطنه إلى الهزؤ أقرب ورفع فأطرب عطفاً على أرجو ولم يعطفه على أن أرى.
وتعذلني فيك القوافي وهمّتي ... كأنّي بمدحٍ قبل مدحك مذنب
يقول: لامتني القصائد على مدح غيرك، فقالت: لم وضعتني في غير موضعي ؟ وكذلك لامتني همتي وقالت: لم اشتغلت بخدمة غيره ؟ حتى كأن مدحي لغيرك ذنب أذنبته. وهو كقول أبي تمام:
وهل كنت إلاّ مذنباً يوم أنتحي ... سواك بآمالي فأصبحت تائباً
والمصراع الأول لو لم يضم إليه المصراع الثاني لكان هجواً ظاهراً.
ولكنّه حال الطّريق ولم أزل ... أفتّش عن هذا الكلام وينهب
يقول: إنما مدحت غيرك؛ لأن الطريق حال بيني وبينك، وكنت أتخير لك هذا الكلام لأتعلمه مدحاً لك، والملوك ينتهبونه مني.
وقيل: أراد بالطريق طريق المدح أي كان طريق مدحك بعيد التناول؛ لانتهاء أوصافك في المكارم، فكنت أتفكر في مدحك، وتنهبه الملوك مني، فكان ذلك سبب تأخري عنك.
فشرّق حتّى ليس للشّرق مشرقٌ ... وغرّب حتّى ليس للغرب مغرب
يقول: سار هذا الكلام أي الشعر في الآفاق، فشرق حتى ليس مشرق لأهل الشرق؛ لأن مشارق أهل الشرق كثيرة، فليس بعد الشرق شرق، ولا بعد الغرب غرب، ولو كان وراءهما موضع لسار إليه.
إذا قلته لم يمتنع من وصوله ... جدارٌ معلّى أو خباءٌ مطنّب
يعني: إذا قلت شعراً سار في البدو والحضر، ووصل إلى سكان المدر والوبر فالجدار المعلى لأهل الحضر، والخباء المطنب لأهل الوبر.
واتصل بأبي الطيب أن قوماً نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب، فقال في ذلك ولم ينشدها كافوراً الأسود:
بم التّعلّل ؟ لا أهلٌ ولا وطن ... ولا نديمٌ، ولا كأسٌ، ولا سكنه

التعلل: تطيب النفس. والسكن: ما يسكن إليه.
يقول: بأي شيء أتعلل ؟ وقد عدمت هذه الأشياء التي يتسلى الإنسان بها.
أريد من زمني ذا أن يبلّغني ... ما ليس يبلغه في نفسه الزّمن
يقول: أريد من الزمان أن يدوم على حال، فلا يسلب مني الشباب، ولا يكدر على السرور، وهذه حالة لو أرادها الزمان لنفسه لم يقدر عليها؛ لأنه لو اختار أن يكون نهاراً دائماً، أو ربيعاً أبداً لما أمكنه ذلك، فكيف يبلغني ما لا يقدر عليه لنفسه ؟!
لا تلق دهرك إلاّ غير مكترثٍ ... ما دام يصحب فيه روحك البدن
يقول: ما دام روحك في الجسد، فلا تبال بحوادث الدهر، فإنها لا تدوم.
وقيل: أراد لا تبال بأهل الدهر ما دمت حياً.
فما يديم سرورٌ ما سررت به ... ولا يردّ عليك الفائت الحزن
فاعل يديم: سرور.
يقول: سرورك بمواتاة الدهر لا يديم ذلك لك، وإن حرصت على دوامه. وجزعك على ما يفوتك منه لا يرده عليك، فلا تفرح بلذة إن وصلت إليك، ولا تحزن عليها إن فاتتك.
ممّا أضرّ بأهل العشق أنّهم ... هووا وما عرفوا الدّنيا ولا فطنوا
يقول: إن أهل العشق اغتروا بظواهر الدنيا، فاغتروا بحسن الخلق، وأحبوا من هو حسن الوجه، ولم يعتبروا قبح أفعاله، ولم ينظروا إلى حوادث الزمان وأحوال الدهر، فأخر ذكرهم. وقد بين ذلك فيما يليه.
تفنى عيونهم دمعاً وأنفسهم ... في إثر كلّ قبيحٍ وجهه حسن
دمعاً نصب على التمييز.
يقول: عشقوا بلا تجربة وروية؛ فعيونهم تذوب عبرةً، وأنفسهم تسيل حزناً على كل قبيح الفعل حسن الوجه.
تحمّلوا حملتكم كلّ ناجيةٍ ... فكلّ بينٍ عليّ اليوم مؤتمن
الناجية: الناقة السريعة. وتحملوا أمر، وحملتكم دعاء.
يقول لأحبابه: متى شئتم الرحيل فارحلوا، فلست أبالي بفراق من بان عني بعد أن عرفت قبح أفعالكم وخبث هذا الزمان، ولا أخاف الآن من الفراق، فكل فراق مأمون في حقي.
ما في هوادجكم من مهجتي عوضٌ ... إن متّ شوقاً ولا فيها لها ثمن
يقول: نفسي أحب إلي من النساء اللاتي في هوادجكم، فكيف أفنيها شوقاً إليهن ولا عوض لي فيهن ؟! وليس في الهوادج ثمن لمهجتي.
يا من نعيت على بعدٍ بمجلسه ... كلٌّ بما زعم النّاعون مرتهن
يخاطب سيف الدولة يقول: كل منا مرهون بالموت فلا شماتة فيه لأحد ومثله للفرزدق قوله:
فقل للشّامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشّامتون كما لقينا
كم قد قتلت وكم قدمتّ عندكم؟ ... ثمّ انتفضت فزال القبر والكفن
يقول: كم مرة أخبرت بموتي وقتلي وأنا حي، فبطل ما تمناه المرجفون وزالت أراجيفهم.
قد كان شاهد دفني قبل قولهم ... جماعةٌ ثمّ ماتوا قبل من دفنوا
يقول: قد كان جماعة قبل من أخبرك الآن بموتي، زعموا أنهم شاهدوا دفني، ثم ماتوا وأنا حي، فكذلك يموت هؤلاء وأبقى أنا حياً.
ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه ... تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن
يقول: ليس كل ما يشتهيه الإنسان يصل إليه، فإن الأقدار لا تجري على وفق الإرادات، كما أن الرياح إنما تهب على طبعها لا على ما يختاره أصحاب السفن، وهذا تعريض بسيف الدولة.
يقول: إن الأمر ليس كما تحبه من موتي، فإني ربما عشت بعدك.
ويجوز في كل النصب بإضمار الفعل يفسره الظاهر، وهو يدركه أي: ما يدرك المرء كل ما يتمناه وهذا هو الاختيار لأجل النفي، كالاستفهام.
ويجوز في كل الرفع بالابتداء وما بعدها خبرها. هذا في لغة تميم، وفي لغة أهل الحجاز رفع لأنه اسم ما وما بعدها خبرها.
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدرّ على مرعاكم اللّبن
يقول: من جاوركم لا يصون عرضه عن الذل والأذى، وليس عندكم مرعىً خصيب يدر عليه اللبن.
يعني: لا خير عندكم نصبر لأجله على الأذى.
جزاء كلّ قريبٍ منكم مللٌ ... وحظّ كلّ محبٍّ منكم ضغن
يقول: من قرب منكم مللتموه، فجزاء قربه منكم الملل، ومن أحبكم جازيتموه بالحقد عليه.
وتغضبون على من نال رفدكم ... حتّى يعاقبه التّنغيص والمنن
يقول: إذا أحسنتم إلى إنسان نغصتم إليه نعمكم حتى يصير التنغص والمنن عقوبةً عليه.
فغادر الهجر ما بين وبينكم ... بهماء تكذب فيها العين والأذن

البهماء: الأرض البعيدة التي لا يهتدي فيها.
يقول: لما جربت أحوالكم هجرتكم وبعدت عنكم، وجعلت بيني وبينكم فلاةً بعيدةً تكذب فيها العين فترى خيالات لا حقيقة لها، وتسمع فيها الأذن أصواتاً لا حقيقة لها أيضاً.
تحبو الرّواسم من بعد الرّسيم بها ... وتسأل الأرض عن أخفافها الثّفن
الرواسم: النوق التي تسير الرسيم، وهو ضرب من السير، الواحدة راسمة والثفن: جمع ثفنة وهو ما غلظ من جلد البعير إذا لاقى الأرض من اليدين والركبتين.
يقول: إذا سارت الإبل في هذه البهماء حفيت أخفافها لشدة السير فيها، فتحبوا على ثفناتها وتجري عليها، حتى تسأل الثفنات الأرض فتقول: ما فعلت أخفاف هذه الإبل التي كانت تكفينا ملاقاتك ؟!
إنّي أصاحب حلمي وهو بي كرمٌ ... ولا أصاحب حلمي وهو بي جبن
يقول: أحلم ما دام الحلم منى منسوباً إلى الكرم، فأما إذا كان منسوباً إلى الذل والجبن لم أصبر عليه.
ولا أقيم على مالٍ أذلّ به ... ولا ألذّ بما عرضي به درن
يقول: لا أختار المال مع الذل، ولا أستلذ بما يورثني العيب ويؤدي إلى دناءة الطبع ولؤم العرض.
سهرت بعد رحيلي وحشةً لكم ... ثمّ استمّر مريري وارعوى الوسن
المرير جمع المريرة وهي القوة من الحبل. يقال: استمر فلان على مريره: أي جرى على عادته التي أمر عليها.
يقول: لما فارقتكم سهرت وحشةً لفراقكم، فلما طالت الأيام نسيتكم وتسليت عنكم وعاد النوم إلى عيني.
وإن بليت بودٍّ مثل ودّكم ... فإنّني بفراقٍ مثله قمن
يقول: إن عاملني كافور بمثل ما عاملتموني به، وجرى على عادتكم في الأذى، فارقته كما فارقتكم. ومثله:
وإذا نبا بك منزلٌ فتحوّل
أبلى الأجلّة مهري عند غيركم ... وبدّل العذر بالفسطاط والرّسن
الأجلة: جمع الجلال. والعذر جمع العذار.
يقول: طال مقامي عند غيركم لإكرامه إياي، حتى أبلى مهري الأجلة جلاً بعد جل، وبدل عليه عذار بعد عذار، فلم يملني كما مللتم أنتم مقامي عندكم.
عند الهمام أبى المسك الّذي غرقت ... في جوده مضر الحمراء واليمن
يقول: أقمت عند كافور الذي عم جوده جميع العرب مضريهم ويمنيهم. وإنما سميت مضر الحمراء؛ لأن نزار لما مات وتحاكم أولاده وهم: ربيعة، ومضر، وإياد، وأنمار، إلى جرهم في قسم ميراثه، فأعطى ربيعة الخيل؛ فسمى أولاده: ربيعة الفرس. وأعطى مضر الإبل الحمر، وقيل أعطاه الذهب؛ فسمى أولاده مضر الحمراء.
وإن تأخّر عنّي بعض موعده ... فما تأخّر آمالي ولا تهن
يقول: إن تأخر عني بعض ما وعدني به من الولاية وغيرها، فإن أملي فيه في غاية القوة. وهذا استبطاء وعتاب.
هو الوفيّ ولكنّي ذكرت له ... مودّةً فهو يبلوها ويمتحن
يقول: هو يفي بما وعدني، ولكني ذكرت إظهار المودة التي يختبر بها ويمتحن.
يعني: كنت أظهر له المودة فأذكرها، فهو يمتحن ما ذكرته من المودة فيؤخر موعدي تجربة لمودتي له.
ويروى: بدل ذكرت بذلت.
ومما قاله بمصر في الحكم ولم ينشده الأسود ولم يذكره فيه.
صحب النّاس قبلنا ذا الزّمانا ... وعناهم من شأنه ما عنانا
يقول: صحب الناس قبلنا هذا الزمان، وأهمهم من أمر هذا الزمان ما أهمنا منه.
وتولّوا بغصّةٍ كلّهم من ... ه وإن سرّ بعضهم أحيانا
يقول: كل من مضى قبلنا، مضى وفي قلبه غصة من الزمان، وإن سر بعضاً في وقت. ومثله للآخر قوله:
كلٌّ يبيت من الدّنيا على غصص
ربّما تحسن الصّنيع ليالي ... ه ولكن تكدّر الإحسانا
الهاء في لياليه نعود إلى الزمان. يعني: تحسن ليالي الزمان الصنيع.
يقول: إن الزمان يمزج الإحسان بالإساءة والتكدير.
يعني: أن الزمان إذا أحسن أولا كدر وأساء آخراً، هذه عادته، يعطي ثم يرجع وإذا أحسن لا يتم الإحسان
وكأنّا لم نرض فينا بريب الد ... دهر حتّى أعانه من أعانا
يقول: لم يكفنا ما نقاسيه من حوادث الزمان، حتى أعانه عليها حسادنا وأعداؤنا، فصاروا أعواناً للزمان على الإساءة إلينا.
كلّما أنبت الزّمان قناةً ... ركّب المرء في القناة سنانا
يقول: إذا أنبت الزمان قناةً: أي كيداً أو شراً يطلب به هلاكنا، ركب الإنسان في تلك القناة السنان فيصيرها رمحاً.

يعني: أن الإنسان يتم أمر الدهر في الإيقاع بنا.
ومراد النّفوس أصغر من أن ... نتعادى فيه وأن نتفانى
يقول: ما يريد الإنسان من هذه الدنيا من المأكول والملبوس والنعم، أحقر من أن يقتل بعضنا بعضاً لأجله؛ لأنه لا يدوم لأحد.
غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا
كالحات أي عابسات، وقيل: شديدات، وهي نصب على الحال.
يقول: إن الدنيا لا قدر لها، ولكن احتمال الهوان أصعب من ملاقاة الموت.
ولو أنّ الحياة تبقى لحيٍّ ... لعددنا أضلّنا الشّجعانا
يقول: لو كانت الحياة تدوم، لكان الشجعان الذين يتعرضون للقتل أكثر الناس ضلالاً وأغبنهم رأياً.
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ... فمن العجز أن تكون جبانا
يقول: فإذا كانت الحياة منقطعة بالموت، والموت لا محيص عنه بحال، والجبن لا ينجى منه، فاستعمال الجبن هو العجز والذل.
كلّ ما لم يكن من الصّعب في الأن ... فس سهلٌ فيها إذا هو كانا
ما لم يكن: أي ما لم يقع.
يقول: إن كل ما لم يقع مما يستصعب في النفوس، فهو سله إذا وقع.
وكان الأستاذ أبو المسك اصطنع شبيباً بن جرير العقيلي فقلده عمان والبلقاء وما بينهما من البر والجبال، فعلت منزلته وزادت رتبته واشتدت شوكته وغزا العرب في منابتها، من السماوة وغيرها، واجتمعت العرب إليه وكثر من حوله وطمع في الأسود وأنف من طاعته، فسولت له نفسه أخذ دمشق والعصيان بها، فسار إليها في نحو عشرة آلاف، وقاتله أهلها وسلطانها واستأمن إليه جمهور الجند الذين كانوا بها، وغلقت أبوابها واستعصموا بالحجارة والنشاب، فترك بعض أصحابه على الثلاثة الأبواب التي تلي المصلي ليشغلهم بهم، ودار هو حتى دخل على القوات، حتى انتهى إلى باب الجابية، وحال بين الوالي وبين المدينة ليأخذها.
وكان يقدم أصحابه، فزعموا أن امرأة دلت على رأسه صخرة. واختلف الناس في أمره. فقال قوم: وقعت يد فرسه في قناة ولم تخلص يدها فسقط، وكان مكسور الكتف والترقوة بسقطة سقطها عن الفرس في الميدان بعمان قبل ذلك بقليل، وسار إلى دمشق قبل تمام الانجبار وذكروا أنه سار من سقطته فمشى خطوات، ثم غلب فجلس وضرب بيده ألماً إلى قائم سيفه وجعل يذب حوله، وكان شرب وقت ركوبه سويقاً، فزعم قوم أنه طرح له فيه شيء، فلما سار وحمى عليه الحديد وازدحم الناس حوله عمل فيه؛ غير أنه سقط ولم ير أثر شيء من السلاح ولا الحجارة التي أصابته، وكثر تعجب الناس منه ومن أمره، حتى قال قوم: كان يتعهده صرع فأصابه ذلك في تلك الساعة.
وانهزم أصحابه لما رأوا ذلك، وخالفوا الموضع الذي دخلوا منه، وأرادوا الخروج منه معه فقتل منهم أربع مئة فارس وبضعة عشر، وأخذ رأسه، ووردت الكتب إلى مصر بخبره يوم الجمعة لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة وطالب الأسود أبا الطيب بذكره فقال، وأنشدها يوم السبت لست خلون منه.
عدوّك مذمومٌ بكلّ لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
القمران: الشمس والقمر.
يقول: كل من عاداك فهو مذموم عند كل أحد، حتى أن الشمس والقمر لو عادياك لذمهما جميع الناس: يعني: أن الخلق أجمعوا على فضلك وإقبال دولتك، حتى أن من عاداك لم يوجد في وجميع الأمم من يحمده.
وقد صرف هذا المعنى إلى الذم كأنه قال: أنت رذل ساقط، ومن كان كذلك لا يعاديه إلا مثله، فإذا كان من يعاديك مثلك فهو مذموم بكل لسان، حتى لو عاداك القمران لكانا مذمومين بمساجلتهما إياك.
وللّه سرٌّ في علاك وإنّما ... كلام العدى ضربٌ من الهذيان
يقول: لله تعالى سر بما أعلى قدرك، وإنما رفع قدرك لما علم من فضلك، فكلام العدى لا معنى له مع إرادة الله تعالى.
وقد صرف إلى الهجو.
وقيل: أراد أن الله تعالى إنما بلغك هذه المنزلة ليغيظ بك الأحرار، وليعلم الناس أن الدنيا لا قدر لها عند الله تعالى، إذ لو كان لها قدر لما مكنك منها مع حقارتك ومهانة قدرك.
أتلتمس الأعداء بعد الّذي رأت ... قيام دليلٍ أو وضوح بيان ؟!
يقول: قد ظهر للأعداء دليل على ما قلت: إن لله تعالى سر في علاك بموت شبيب حين غدر بك، فهل يطلبون دليلاً أوضح من هذا ؟!
رأت كلّ من ينوي لك الغدر يبتلي ... بغدر حياةٍ أو بغدر زمان

يقول: رأت الأعداء كلّ من يغدر بك مغدوراً به، إما من جهة الحياة بالموت أو من جهة الزمان بالذل.
برغم شبيبٍ فارق السّيف كفّه ... وكانا على العلاّت يصطحبان
علات الدهر: حوادثه.
يقول: إن السيف فارق شبيباً على رغم منه، بعد أن كان لا يفارقه فقتل بسيفه على ما يقال.
كأنّ رقاب النّاس قالت لسيفه: ... رفيقك قيسيٌّ وأنت يماني
قيس: من عدنان. واليمن: من قحطان. وبينهما عداوة قديمة وتارات وكيدة وهذا الرجل كان من قيس عيلان، والسيوف الجيدة تنسب إلى اليمن.
يقول: كأن رقاب الناس لما تبرمت بقطع شبيب لها، أغرت بينه وبين سيفه ليقتله حتى تسلم الرقاب من شره فقالت له: لم تصحبه ؟! وأنت يماني وهو قيسي، وبين قيس واليمن تلك الحروب والتارات، فبان من يده وضرب عنقه وأخذ منه ثأر اليمن عند قيس.
وأراد أن يذكر سبب قتله بسيفه فعبر عنه بأحسن عبارة.
فإن يك إنساناً مضى لسبيله ... فإنّ المنايا غاية الحيوان
اسم كان مضمر: أي إن كان شبيب إنساناً مات، فالموت غاية كل حي، فضلاً عن كل إنسان.
فهذا كالمرثية له.
وما كان إلاّ النّار في كلّ موضعٍ ... يثير غباراً في مكان دخان
يقول: كان في أيام حياته ناراً في المواقع، وكان يثير الغبار بدل الدخان. جعله ناراً وغبار المعركة دخاناً.
فنال حياةً يشتهيها عدوّه ... وموتاً يشهّي الموت كلّ جبان
يقول: عاش في حياة نكدة منغصة يشتهيها كل عدو له، ومات موتةً قبيحةً تمنى الجبان أن يموت قبل أن يصير إلى مثل حاله.
قيل: قنطر به فرسه. وقيل: إن امرأة رمته بجرة ملآنة عذرة.
وقيل: إن هذا البيت مرثية له.
يقول: إنه عاش في عز وعلاء يتمناه العدو لنفسه، ومات موتاً يشجع الجبان؛ لأنه إذا علم أن الموت لا محيص عنه، وأن تحرزه لا ينجيه منه، اشتهى الموت في القتال.
نفى وقع أطراف الرّماح برمحه ... ولم يخش وقع النّجم والدّبران
يقول: دفع رماح الأبطال عن نفسه برمحه، لما خشى أن يصل إليه من جهتهم قتل أو جرح، ولم يخش أن ينزل إليه الموت من السماء.
يعني: استبعد الموت من الجهة التي أتاه منها، كما يستبعد وقع النجوم من السماء. وذلك أن امرأة دلت على رأسه حجراً من سور دمشق، وقيل: سقطت به فرسه. يعني لم يكن يخشى ذلك.
ولم يدر أنّ الموت فوق شواته ... معار جناحي، محسن الطّيران
شواته: أي جلدة رأسه.
يقول: لم يعلم أن الموت نجم أعير جناحا طائر، وأنه يعلم الطيران فيهتدي إليه.
وقد قتل الأقران حتّى قتلته ... بأضعف قرنٍ، في أذلّ مكان
يقول: لم يزل يقتل الأبطال حتى قتلته الأقران بأضعف قرن في أخس مكان وأذله. يعني: المرأة التي دلت عليه الرحى.
أتته المنايا في طريقٍ خفيّةٍ ... على كل سمعٍ حوله وعيان
يقول: أتاه الموت من حيث لا يشعر به هو ولا أصحابه فكأنه جاء في طريق خفي على كل أحد ممن حوله.
ولو سلكت طرق السّلاح لردّها ... بطول يمينٍ واتّساع جنان
الجنان: القلب. والهاء في ردها للمنايا.
يقول: لو جاءته المنايا من طريق الحرب لردها عن نفسه بطول يمينه وسعة قلبه.
تقصّده المقدار بين صحابه ... على ثقةٍ من دهره وأمان
تقصده: قيل: قصده، وقيل: قتله.
يقول: قصد موته أو أجله القدر. وهو بين أصحابه، واثق من دهره آمن من صروفه.
وهل ينفع الجيش الكثير التفافه ... على غير منصورٍ وغير معان ؟
التفافه: أي اجتماعه.
يقول: إذا لم يكن الإنسان منصوراً من جهة الله تعالى، فلا ينفعه كثرة جيشه واجتماعه.
ودى ما جنى قبل المبيت بنفسه ... ولم يده بالجامل العكنان
ودى: أي أعطى الدية. وفاعله: ضمير شبيب. وما جنى مفعوله. والجامل: اسم موضع لجماعة الجمال. مثل الباقر: لجماعة البقر. والعكنان: الكثير.
يقول: أعطى دية من قتله من الأقران قبل دخول الليل بنفسه ولم يعط ديتهم بالإبل الكثيرة.
أتمسك ما أوليته يد عاقلٍ ... وتمسك في كفرانه بعنان ؟
يقول: كيف تمسك يد العاقل إحسانك ثم يكفره ؟! وتمسك يده العنان لمحاربتك ! يعني لا يفعل هذا عاقل، وإن رامه خذلته يده.
وعطف تمسك على تمسك ولو نصب الثاني لجاز. كقولك: أتأكل السمك وتشرب اللبن.

ويركب ما أركبته من كرامةٍ ... ويركب للعصيان ظهر حصان !
طريقة الإعراب في يركب الثاني مثل ما ذكر في جواز الرفع والنصب.
يقول: كيف يجمع عاقل بين ركوب كرامتك وركوب فرسه لمحاربتك ؟!
ثنى يده الإحسان حتّى كأنّها ... وقد قبضت كانت بغير بنان
يقول: إحسانك قبض يده عن معصيتك، فكأنها وقد قبضت السيف والعنان ليس لها أصابع وبنان.
وعند من اليوم الوفاء لصاحبٍ ؟ ... شبيبٌ وأوفى من ترى أخوان
يقول: من يفي اليوم لصاحبه ؟ فأوفى الناس مثل شبيب في غدره.
وهذا معنى قوله: شبيب وأوفى من ترى أخوان يعني أوفى الناس أخو شبيب: أي مثله، وأراد أنهما ميتان. وقيل: أخوان: أي متشابهان في العلة متشاكلان في الطبع كالأخوين.
قضى الله يا كافور أنّك أوّلٌ ... وليس بقاضٍ أن يرى لك ثاني
يقول: إن الله تعالى قد حكم بأنك الأول في الفضل والسابق إليه، ولم يحكم بأن يكون لك نظير في الفضل.
فمالك تختار القسيّ وإنّما ... عن السّعد يرمي دونك الثّقلان ؟
يقول: لم تختار القسي وتستعدها، فأنت لا تحتاج إليها؛ لأن سعادة جدك ترمي الجن والإنس.
ومالك تعني بالأسنّة والقنا ... وجدّك طعّانٌ بغير سنان ؟
تعني من العناية.
يقول: أي حاجة لك إلى الإعناء بالأسنة والقنا، وإقبال دولتك يطعن عنك أعداءك بغير سنان.
ولم تحمل السّيف الطّويل نجاده ... وأنت غنيٌّ عنه بالحدثان ؟
يقول: لم تحمل السيف وحوادث الدهر قد أغنتك عنه ؟ وقيل: أراد بالحدثان؛ قضاء الله تعالى وقدره.
أرد لي جميلاً: جدت أو لم تجد به ... فإنّك ما أحببت فيّ أتاني
يقول: أرد لي الجميل، فعلته أو لم تفعله، فإن الأيام تبلغني إليه؛ لأنها لا تفعل إلا ما تريده.
لو الفلك الدّوّار أبغضت سعيه ... لعّوقه شيءٌ عن الدّوران
يقول: لو كرهت دوران الفلك، لعرض له ما يمنعه من الدوران، وحبسه على وفق إرادتك.
وروى هذا البيت برفع الفلك والدوار: صفة له، فيكون مرفوعاً بفعل مضمر، وهذا الظاهر تفسير له. كأنه قال: لو خالفك الفلك لعوقه. وصار أبغضت تفسيراً له. ولا يجوز رفعه بالابتداء؛ لأن لو لا يقع بعدها إلا الفعل.
ولو نصب الفلك لكان أظهر في الإعراب؛ لأنك كنت تضمر فعلاً، ويكون أبغضت تفسيراً له وتقديره: لو أبغضت سعي الفلك أبغضت سعيه فأضمرت الأول لدلالة الثاني عليه.
ونالت أبا الطيب بمصر حمى، كانت تغشاه إذا أقبل الليل، وتنصرف عنه إذا أقبل النهار بعرق، فقال يصف الحمى ويذم الأسود، ويعرض بالرحيل، فشغف الناس بها بمصر، وأنشدوها الأسود فساءته.
وذلك في يوم الاثنين لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة.
ملومكما يجلّ عن الملام ... ووقع فعاله فوق الكلام
الملوم: الرجل الذي يلام.
يقول لصاحبيه: الرجل الذي تلومانه يعني نفسه يجل عن لومكما فلا تؤذياه بملامكما. وكذلك وقع فعل هذا الرجل الملوم فوق الكلام الذي توجهانه إليه على سبيل الملام. يعني: أن فعله أجل أيضاً من أن يلام عليه.
وقيل: اراد فعل هذا الرجل أجل من أن يلحقه الوصف بالكلام، ويبلغه البيان بالعبارة والمقال.
وقيل: الهاء في فعاله تعود إلى الملام أي وقع فعل الملام وتأثيره فوق تأثير الكلام.
يعني: أن الملام يفعل في فعل السهام لا فعل الكلام. وعلى الأول الهاء تعود إلى الملام.
ذراني والفلاة بلا دليلٍ ... ووجهي والهجير بلا لثام
نصب الفلاة والهجير لأنهما مفعول والهجير: شدة الحر، واللثام: ما يشد على الفم من طرف العمامة.
يقول لصاحبيه: ذراني مع الفلاة أقطعها بلا دليل، فإني دليل لنفسي، وذرا وجهي مع الهجير بلا لثام، فإن جلدة وجهي تنوب لي مناب اللثام.
فإني أستريح بذا وهذا ... وأتعب بالإناخة والمقام
بذا إشارة إلى الفلاة، وذكره على معنى المكان وروى: بذي أي بهذه، وهو إشارة إلى الفلاة لفظا. وهذا: إشارة إلى الهجير.
يقول: أنا أستريح بقطع الفلوات وملاقات الحر وأتعب بإناخة المطية والإقامة.
عيون رواحلي إن حرت عيني ... وكلّ بغام رازحةٍ بغامي
البغام: صوت الناقة عند التعب. والرازحة: المعيبة التي كلت. وقامت. وله معنيان:

أحدهما ما ذكره ابن جني عن أبي الطيب أنه قال: إن حارت عيني فعيون رواحلي عيني، وبغامهن بغامي، يعني به طريقة الدعاء، فكأنه قال: أنا بهيمة مثلهن إن تحيرت. كما إذا قال القائل: إن فعلت كذا فأنت حمار.
والثاني يقول: أنا أقتدي بعيون رواحلي إن حارت عيني، فعينها تقوم مقام عيني.
وقوله: كل بغام رازحة بغامي يعني: أني أهتدي بالبغام: الذي هو صوت الرازحة، وأستدل بصوتها على جادة الطريق، لأن الروازح لا تئن إلا على جواد الطريق، فيكون بغامهن بمنزلة بغامي الذي أهتدي به، ودليل على الطريق.
وقيل: معناه أن صوتها ينوب عن صوتي في شكوى التعب.
فقد أرد المياه بغير هادٍ ... سوى عدّى لها برق الغمام
قيل: إن العرب إذا عدت للسحاب مئة برقة، لم تشك أنها ماطرة فتنتجعها. وقيل سبعين برقة.
يقول: أنا أعد البرق وأنتجع مواقع غيثه فيكون عدى البرق دليلاً على الماء، فلا أحتاج أي دليل آخر من الناس يدلني إليه.
يذمّ لمهجتي ربّي وسيفي ... إذا احتاج الوحيد إلى الذّمام
يذم أي يجعلني في ذمته، والذمة هنا: الغرر.
يقول: إذا سرت فإنما أسير في ذمة الله تعالى. وذمة سيفي، ولا أحتاج إلى خفير يجيرني إذا احتاج إليه غيري.
وحكى أنه لما رجع من عند عضد الدولة وبلغ الأهواز أحضر خفير العرب وقاطعهم على الخفارة فوقع النزاع بينه وبينهم في نصف دينار، سألوه زيادة على ما بذل لهم فلم يجبهم إليه، وضرب فرسه وهو ينشد هذا البيت.
يذمّ لمهجتي ربّي وسيفي ... البيت
فقتل عند دير العاقول:
ولا أمسى لأهل البخل ضيفاً ... وليس قرىً سوى مخّ النّعام
يقول: لا أمسى ضيف البخيل، ولو لم أجد شيئاً البتة. وجعل مخ النعام كناية عن ذلك؛ إذ النعام لا مخ لها.
ولمّا صار ودّ النّاس خبّاً ... جزيت على ابتسامٍ بابتسام
الخب: الخديعة.
يقول: لما نافقني الناس بالوداد، عاشرتهم كما عاشروني، وجازيتهم ابتساماً على ابتسامهم.
وصرت أشكّ فيمن أصطفيه ... لعلمي أنّه بعض الأنام
يقول: لما رأيت الناس مطبوعين على الغدر ! صرت أشك فيمن أصطفيه وأثق به من أهل أو ولد، لمعرفني أنه بعض الناس، والغدر قد عمهم.
وقيل: أراد بمن أصطفيه نفسه، وهذا بعيد لأن الإنسان لا يشك في نفسه.
يحبّ العاقلون على التّصافي ... وحبّ الجاهلين على الوسام
الوسام، والوسامة، والميسم: حسن الوجه.
يقول: العاقل يحب من يصطفيه في الوداد. والجاهل يحب من حسن وجهه.
وآنف من أخي لأبي وأمّي ... إذا ما لم أجده من الكرام
يقول: إن أخي من الأم والأب إذا لم يكن كريماً لجانبته وأنفت أن يكون لي أخاً مع لؤمه.
يعني: لا أصحب إلا كرام الناس وخيارهم.
أرى الأجداد تغلبها كثيراً ... على الأولاد، أخلاق اللّئام
كثيراً: نصب على الظرف، أي كثيرا من الأزمنة، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف.
يقول: إذا كان الولد لئيماً حال لؤم الولد بين الولد والجد، فينسب إلى اللؤم، ويعرف به دون الجد، فيكون كأنه ولد من اللؤم لا من الأب.
ولست بقانعٍ من كلّ فضلٍ ... بأن أعزى إلى جدٍّ همام
يقول: لا أرضى من الفضل والشرف بمجرد كرم النسب، حتى أكسب لنفسي مفاخر أتشرف بذكرها.
عجبت لمن له قدٌّ وحدٌّ ... وينبو نبوة القضم الكهام
القد: القامة. والحد يجوز أن يريد به أن يكون قد بلغ حد الرجال، وأن يريد به الحدة في الأمر. والقضم: المتكسر. والكهام: الكليل.
يقول: عجبت ممن له صورة الرجل الكامل، وآلة تبلغه إلى معالي الأمور فلم يبلغ إليها، وينبو كالسيف الكليل.
ومن يجد الطّريق إلى المعالي ... فلا يذر المطيّ بلا سنام
من في موضع جر عطفاً على قوله: عجبت لمن له قد وقيل: استفهام.
يقول: عجبت ممن يجد الطريق إلى المعالي فلا يسير إليها حتى يهزل المطي بسيره ويذيب أسنمتها تحته، فتبقى بغير سنام،
ولم أر في عيوب النّاس عيباً ... كنقص القادرين على التّمام
يقول: ليس في الإنسان عيب أقبح من أن يكون ناقصاً مع قدرته على الكمال.
وقيل: معناه ليس عيب أقبح من الكسل.
أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخبّ بي الرّكاب ولا أمامي

يقول: بقيت بمصر متبرماً بها فلا أسير عنها متقدماً ولا متأخراً.
وملّني الفراش وكان جنبي ... يملّ لقاءه في كلّ عام
يقول: طال نومي على الفراش حتى مل الفراش مني، وكان جنبي إذا لقي الفراش في عام مرةً واحدة مل منه.
قليلٌ عائدي، سقمٌ فؤادي ... كثيرٌ حاسدي، صعبٌ مرامي
رفع هذا كله ليخبر أنه على هذه الأوصاف في الحال دون ما مضى، إذ لو أراد الماضي لنصب على الحال من يمل لقاءه.
عليل الجسم ممتنع القيام ... شديد السّكر من غير المدام
المدام: الخمر. والسكر من غير مدام عبارة عن الشدة وعظم المحنة. وهذا من قوله تعالى: " وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمَ بِسُكَارَى " .
وزائرتي كأنّ بها حياءً ... فليس تزور إلاّ في الظّلام
عنى بالزائرة: الحمى، كأنها تستحي من أن تزور بالنهار، فتأتيني في الظلام؛ لفرط حيائها.
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها، وباتت في عظامي
المطارف: أردية من الخز، معلمة الأطراف، الواحد مطرف، بضم الميم. والحشايا: جمع حشية.
يقول: فرشت لهذه الزائرة الفرش الحسنة فكرهت أن تبيت عليها، ولم تقنع بها، فوصلت إلى عظامي وباتت فيها.
يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السّقام
عنها: أي عن الزائرة.
يقول: جلدي يضيق عن احتمال نفسي واحتمال الحمى، فوسعت الحمى جلدي؛ بأن أذابته وأكلت لحمي ليتسع لها !
إذا ما فارقتني غسّلتني ... كأنّا عاكفان على حرام
يعني: أنه كان يعرق عرقاً شديداً إذا أقلعت عنه الحمى.
يقول: إن هذه الزائرة إذا فارقتني غسلتني بالعرق، فكأنا كنا مقيمين على حرام، فغسلت له.
وخص الحرام لأن الزائرة تكون أجنبية دون زوجته.
كأنّ الصّبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعةٍ سجام
يقول: إذا جاء الصبح فارقتني هذه الزائرة، فكأن الصبح يطردها عني بعد ما ألفتني، فتدمع عينها جزعاً من ألم الفراق.
جعل عرقه دمعاً يسيل من أجفانها. وقوله: بأربعة سجام يعني: أن الدمع كان يجري من طرفي العين الذي يلي الأنف والأصداغ، وكذلك من العين الأخرى، فهذه أربعة مجار. وسجام: أي جارية.
أراقب وقتها من غير شوقٍ ... مراقبة المشوق المستهام
يقول: أنا أنتظر وقت زيارتها، كما ينتظر العاشق وقت زيارة حبيبه، وليس ذلك من شوق مني إليها.
ويصدق وعدها والصّدق شرٌّ ... إذا ألقاك في الكرب العظام
وروى: تصدق يعني: أن الزائرة تصدق وعدها. والأول أولى.
يقول: هي صادقة الوعد، وليتها تخلف وعدها فإن الصدق إذا كان يؤدي إلى المحن العظام فهو مذموم.
أبنت الدّهر عندي كلّ بنتٍ ... فكيف وصلت أنت من الزّحام ؟!
بنت الدهر: هي الداهية.
يقول للحمي: يا بنت الدهر، كيف وصلت إلي مع ازدحام حوادث الدهر علي وتراكم الدواهي؟!
جرحت مجرّحاً لم يبق فيه ... مكانٌ للسّيوف ولا السّهام
يقول للحمي: جرحت مني بدناً مجرحاً، قد عمته الجراحات، فليس فيه موضع صحيح تجرحه السيوف والسهام.
ألا يا ليت شعر يدي أتمسى ... تصرّف في عنانٍ أو زمام
يقول: ليت يدي عرفت، هل تتمكن من التصرف في عنان فرسي، أو زمام ناقتي بعدها ؟ عند رحيلي من مصر ومفارقتي الأسود.
وهل أرمي هواي براقصاتٍ ... محلاّة المقاود باللّغام
اللغام: الزبد الذي يخرج من فم البعير. والراقصات: الإبل السريعة.
يقول: ليتني علمت: هل أرتحل من مصر وأقصد إلى ما أهواه بإبل راقصات قد سال لعابها على مقاودها فصار عليها كالحلية.
فربّتما شفيت غليل صدري ... بسيرٍ أو قناةٍ أو حسام
يقول ربما شفيت نفسي ووصلت إلى مرادي إما بسير إليه وإما بسيف أو رمح.
وضاقت خطّةٌ فخلصت منها ... خلاص الخمر من نسج الفدام
نسج الفدام: خرقة من الإبريسم تشد على فم الإبريق لتصفي الشراب.
يقول: ربما ضاقت على حالة فتخلصت منها بألطف وجه، فزدت عند ذلك شرفاً، وزادت أخلاقي تهذيباً، وجوهري صفار ورونقاً، كما أن الخمر إذا خلصت من الفدام ازدادت صفاءً ورونقاً وقريب منه قول الآخر:
ما تعتريني من خطوب ملمّةٍ ... إلاّ تشرّفني وتعظم شاني
وفي ذكر الفدام قول المطرز البغدادي:

وقبلةٌ هي الخم ... ر إلاّ أنّها بفدام
وفارقت الحبيب بلا وداعٍ ... وودّعت البلاد بلا سلام
يقول: ربما فارقت حبيبي من غير وداع، وربما خرجت من البلاد ولم أسلم على أهلها سلام الوداع. يعني: أنه هرب من أشياء كرهها وتخلص من أمور عافها مرات كثيرة، فكذلك مفارقته مصر لا يتعذر عليه.
يقول لي الطّبيب: أكلت شيئاً ... وداؤك في شرابك والطّعام
يقول: إذا رآني الطبيب متغير الحال قال: قد أكلت شيئاً ضرك، فاحتم فإن ذلك من الطعام والشراب.
وما في طبّه أنّى جوادٌ ... أضرّ بجسمه طول الجمام
الجمام: الراحة.
يقول: إن الطبيب لا يعلم أن مرضي من طول مقامي بمصر، وتركي لما هو عادتي من السفر، كما أن الفرس إذا تعود السير عليه، وتحمل الكد والنصب، ثم طال مقامه على الجمام، أضر به ذلك.
تعوّد أن يغبّر في السّرايا ... ويدخل من قتامٍ في قتام
يغبر: أي يثير الغبار.
يقول: مثلي مثل فرس يدخل من غبار إلى غبار.
فأمسك لا يطال له فيرعى ... ولا هو في العليق ولا اللّجام
العليق: ما يعلق على الفرس.
يقول: أنا مثل فرس جواد تعود القتال، ثم حبس في مكان فلا يرخي له الحبل حتى يرعى بنفسه، ولا يعلق عليه ما يأكله، ولا عليه لجام ! فكذلك أنا عند كافور: لا يأذن لي في الرحيل، ولا يكفيني مؤنة المقام.
فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أحمم فما حمّ اعتزامي
يقول: إن أمرض فصبري صحيح لم يمرض، وعزمي لم يتغير عما عهدته، فهذا المرض يزول، ويعود إلى الصحة جسمي.
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
يقول: إن سلمت الآن من مرضي فلا خلود في الدنيا، ولكن آخر أمري الموت، فكأني نجوت من موت معجل إلى موت مؤجل.
تمتّع من سهادٍ أو رقادٍ ... ولا تأمل كرىً تحت الرّجام
الرجام: القبور، واحدها رجم.
يقول: تمتع في هذه الدنيا من النوم واليقظة، ولا تطمع في النوم ولذته إذا صرت إلى القبر.
فإنّ لثالث الحالين معنىً ... سوى معنى انتباهك والمنام
يقول: إن الموت حالة ثالثة سوى النوم والانتباه، وليس فيه شيء من اللذة التي ترجى في اليقظة والمنام، ولكنه الفناء والفساد، ولا ترجى فيه اللذة بحال من الأحوال.
وكان كافور يتطلع إلى مدحه، ويقتضيه إياه، ولم يكن له بد من مداراته فقال فيه، وأنشدها إياه في شوال سنة تسع وأربعين وثلاث مئة.
وهي آخر ما أنشده ولم يلقه بعدها:
منىً كنّ لي أنّ البياض خضاب ... فيخفي بتبييض القرون شباب
القرون: الذوائب. وقوله: أن البياض في موضع الرفع بدلا من منى.
يقول: كنت في حال شبابي أتمنى أن أخضب شبابي بالبياض، فيكون البياض خضابا للسواد، كما يخضب البياض بالسواد، فينظر إلي بعين الجلالة والوقار والحلم.
ليالي عند البيض فوداي فتنةٌ ... وفخرٌ وذاك الفخر عندي عاب
الفودان: جانبا الرأس وليالي نصب بفعل مضمر، يعني كنت أتمنى ذلك ليالي كان فوداي فتنة للنساء البيض لسواد شعري، فكن يفتن به ويعددنه فخراً، وأنا أعده عيباً لأنه يدل على الجهل والنزق.
فكيف أذمّ اليوم ما كنت أشتهي ... وأدعو بما أشكوه حين أجاب ؟!
يقول: كنت أشتهي المشيب أيام الشباب، فكيف أذمه لما بلغت إليه ؟! وكنت أدعو الله تعالى أن يهب لي المشيب، فلا يحسن بي الآن أن أشكوه حين أجابني إليه.
وقيل: قوله: أدعو بما أشكوه من قولك: دعوت بفلان إذا دعوته إليك.
والمعنى: كيف أدعو بشيء، إذا أجبت إليه شكوته ؟! وهو المشيب، أي كنت أدعو المشيب إلى نفسي. فكيف أشكوه الآن.
جلا اللّون عن لونٍ هدى كلّ مسلكٍ ... كما انجاب عن ضوء النّهار ضباب
جلال: أي زال يقول: زال السواد عن لون هدى كل مسلك: يعني البياض لأنه حليف الهداية والمانع من الغواية. وشبه زوال السواد وطلوع البياض بانكشاف الضباب عن ضوء النهار والضباب: ما تراه على وجه الأرض في الربيع.
وفي الجسم نفسٌ لا تشيب بشيبه ... ولو أنّ ما في الوجه منه حراب
الحراب: جمع حربة.
يقول: إن كان جسمي أثر فيه الشيب، فإن نفسي التي في جسمي لم تضعف بضعفه ولو أن بدل كل شعرة بيضاء حربة في الوجه مغروزة.

لها ظفرٌ إن كلّ ظفرٌ أعدّه ... ونابٌ إذا لم يبق في الفمّ ناب
يقول: لنفسي ظفر أجعله عدةً لي، إن كل ظفر الجسم: أي إن ذهبت قوته. فقوة النفس باقية، وكذلك إن لم يبق ناب في الجسم فللنفس ناب.
يغيّر منّي الدّهر ما شاء غيرها ... وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب
الكعاب: الجارية التي كعب ثديها.
يقول: إن الدهر يغير من جسمي كل شيء، ولا يقدر أن يغير نفسي، فإنها أبداً تبقى في قوتها، وإن بلغت أقصى العمر.
وإنّي لنجمٌ يهتدي صحبتي به ... إذا حال من دون النّجوم سحاب
الصحبة: الأصحاب.
يقول: إن صحبتي يهتدون برأيي ودلالتي، فإذا نالهم خطب رجعوا إلى رأيي، وإذا حال سحاب دون النجوم اهتدوا بدلالتي، لمعرفتي بالفلوات، وهدايتي في المفاوز، فكأنه نظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم.
غنيٌّ عن الأوطان؛ لا يستفزّني ... إلى بلدٍ سافرت عنه إياب
يستفزني: أي يستخفني وقد روى أيضا.
يقول: أنا مستغن عن الأوطان، فإذا سافرت عن بلد لا يستخفني الرجوع إليه.
وعن ذملان العيس إن سامحت به ... وإلاّ ففي أكوارهنّ عقاب
الذملان: ضرب من السير. وعنى بالعقاب: نفسه، فالهاء في به للذملان.
يقول: إني غني عن سير الإبل، فإن سمحت به سرت عليها، وإلا فما أبالي، فإن الذي في أكوارهن عقاب: أي كما أن العقاب لا يحتاج إلى سير الإبل، كذلك أنا أسير على قدم كما يطير العقاب.
وأصدي فلا أبدي إلى الماءٍ حاجةً ... وللشّمس فوق اليعملات لعاب
أصدى: أي أعطش. واليعملات: النوق التي يعمل عليها في السير، والواحدة يعملة، ولا يوصف بها الذكر. ولعاب الشمس: ما يتدلى منها مثل الخيوط إذا اشتد الحر.
يقول: أعطش في شدة الحر وأصبر عليه، ولا أظهر من نفسي الحاجة إلى الماء وأهل البادية يمتدحون بذلك.
وللسّرّ منّي موضعٌ لا يناله ... نديمٌ ولا يفضي إليه شراب
لا يفضي إليه أي لا يصل إليه.
يقول: أنا أودع السر من قلبي موضعاً لا يطلع عليه نديمي، ولا يصل إليه الشراب، وذلك أن الرجل إذا سكر أذاع ما في قلبه من السر. فيقول: أنا لا أسكر من الخمر على وجه يزول عقلي، حتى لا أبوح بما في قلبي من السر صيانةً لعقلي ومروءتي.
وقيل: أراد أن الخمر لا تصل إلى السر، مع أن الخمر تجري من الإنسان مجرى الدم فتصل إلى كل موضع.
وللخود منّي ساعةٌ ثمّ بيننا ... فلاةٌ إلى غير اللّقاء تجاب
الخود: المرأة الناعمة.
يقول: إن اجتماعي مع المحبوبة ساعةً واحدةً، ثم أفارقها وأقطع الفلوات إلى غير لقائها، ولا أبالي بها، وإنما همتي السعي في معالي الأمور.
وقيل: ذكر الفلاة مثلا. أي يكون بيننا فلوات ومفاوز. على معنى ما يقال: بيني وبين فلان مسافة بعيدة في امتناع الوصول إليه.
وما العشق إلاّ غرّةٌ وطماعةٌ ... يعرّض قلبٌ نفسه فتصاب
الغرة: الاغترار، والطماعة: الطمع.
يقول: إن العشق اغترار وطمع، وهما مذمومان، وقلب العاشق يعرض نفسه على الهلاك فتهلك.
وغير فؤادي للغواني رميّةٌ ... وغير بناني للزّجاج ركاب
يقول: كل قلب سوى قلبي فهو هدف للنساء يصبنه للعشق. وكل بنان سوى بناني ركاب للزجاج الذي فيه الخمر، فأما أنا فلا أشتغل باللذة واللهو، فلا أعرض قلبي للعشق ولا أشتغل بشرب الخمر.
وروى للرخاخ وهو الشطرنج. يعني لا أشتغل بالنساء واللعب بالشطرنج وسائر الملاهي، وما يذهب به العمر باطلاً.
تركنا لأطراف القنا كلّ شهوةٍ ... فليس لنا إلاّ بهنّ لعاب
اللعاب: الملاعبة.
يقول: تركنا كل شهوة، ولذة لعاب، إلا بالرماح والسيوف.
نصرّفه للطّعن فوق حواذرٍ ... قد انقصفت فيهنّ منه كعاب
الهاء في نصرفه راجع إلى لفظ القنا وقوله: فوق حواذر أي خيل حواذر من الطعن، لأنها قد تعودته وانقصفت: أي انكسرت.
يقول: نصرف القنا فوق خيل قد تعودت الطعان فهي تحذر منه، فانكسرت في الخيل كعوب الرماح مرة بعد أخرى.
أعزّ مكانٍ في الدّنى سرج سابحٍ ... وخير جليسٍ في الزّمان كتاب
الدنى: جمع الدنيا، جعل كل مكان فيها دنيا، ثم جمعه.

يقول: أعز مكان في الدنيا سرج فرس سابح، لأن الشجاع إذا ركبه امتنع، وخير جليس في الزمان كتاب؛ لأنك لا تخشى غوائله ويؤدبك بآدابه، ويؤنسك عند الوحشة بحكمه.
وبحر أبو المسك الخضمّ الّذي له ... على كلّ بحرٍ زخرةٌ وعباب
الخضم: الكثير العطاء، الزخرة: تراكم الماء، والعباب: مثله. وروى: بحر جراً على العطف على ما قبله. أي: وخير جليس في الزمان كتاب، وخير بحر أبو المسك. والتقدير: وخير البحور ثم أقام الواحد مقام الجمع. وروى: وبحر أبي المسك على الإضافة.
يقول: هو كثير العطاء، له فضل على كل سخي، كالبحر الذي يزيد على البحار. شبهه بالبحر، ثم فضله على سائر البحار.
تجاوز قدر المدح حتّى كأنّه ... بأحسن ما يثنى عليه يعاب
يقول: قد تجاوز غاية المدح وكل ما وصفته وأثنيت به عليه فهو دونه، وكأني إذا مدحته أعيبه وأنقصه عن قدره. وهو مأخوذ من قول البحتري:
جلّ عن مذهب المديح علا ... ه فكأنّ المديح فيه هجاء
وغالبه الأعداء ثمّ عنوا له ... كما غالبت بيض السّيوف رقاب
يقول: إن أعداءه طلبوا مغالبته فقهرهم وأذلهم فخضعوا له. وكانوا له مثل رقاب غالبت السيوف فقطعتها.
وأكثر ما تلقى أبا المسك بذلةً ... إذا لم يصن إلاّ الحديد ثياب
التاء في تلقى خطاب لنفسه أو صاحبه. وأبا المسك مفعول تلقى وبذلةً نصب على التمييز.
والمعنى: أن أبا المسك في أكثر أوقاته تلقاه لابساً ثوب البذلة، في وقت لا يصون الأبطال الثياب، من الرماح والسيوف، وإنما يصونهم منها الحديد. فهو يباشر الحديد القتال في تلك الحال، لابساً ثوب البذلة حاسراً بلا درع ومغفر، وذلك لقوة قلبه وثقته بنفسه، وقلة مبالاته بعدوه. والحديد على هذا نصب مستثنى مقدم. ومفعول يصن محذوف كأنه قال: إذا لم يصن الأبطال والأبدان ثياب، ولكن الذي يصونها هو الحديد.
وقال ابن جني معناه: إذا لبست الأبطال الثياب فوق الحديد خشية واستظهاراً فهو في ذلك الوقت أشد ما يكون تبذلا بنفسه. والحديد: هو الدروع وهو منصوب لأنه مفعول يصن.
وأوسع ما تلقاه صدراً وخلفه ... رماءٌ وطعنٌ والأمام ضراب
الرماء مصدر راميته. والأمام نصب على الظرف، فكأنه قال: وأمامه، فجعل الألف واللام بدلاً من الإضافة.
يقول: أوسع ما يكون صدراً إذا كان في مضيق الحرب، وخلفه رمي وطعن من قبل الأعداء، وأمامه ضراب.
يعني: أنه يتقدم على أصحابه يضرب بالسيف وجوه الأعداء وأمامه ضرب وخلفه رمي، فيكون في تلك الحال ثابت النفس، لا يدخله روع وقلق.
وروى: وخلفه دماء والمعنى: أنه لا يضيق صدره عند مضيق الحرب، بل يقتل ويخلف دماءً سفكها، ويضرب أمامه بالسيوف.
وأنفذ ما تلقاه حكماً إذا قضى ... قضاءً ملوك الأرض منه غضاب
يقول: إذا أراد أمراً يغضب منه جميع ملوك الأرض، فذلك الأمر أنفذ ما يكون من أوامره، لأنهم لا يمكنهم أن يردوا عليه أمره.
يقود إليه طاعة النّاس فضله ... ولو لم يقدها نائلٌ وعقاب
يقول: لو لم يطعه الناس رغبةً في نائله ورهبة من عقابه، لأطاعوه لفضله. وهذا مثل قوله:
رأيتك لو لم تقتض الطّعن في الوغى
أيا أسداً في جسمه روح ضيغم ... وكم أسدٍ أرواحهنّ كلاب
يقول: أنت الأسد، وروحك روح الأسد، وغيرك من الملوك جسمه جسم الأسد، وروحه روح كلب.
شبههم بالأسود من حيث الجثة وبالكلاب من حيث الهمة. وقوله: أرواحهن كلاب: أي أرواحهن أرواح كلاب فحذف المضاف.
ويا آخذاً من دهره حقّ نفسه ... ومثلك يعطى حقه ويهاب
يقول: هذا الملك حق لك، أخذته من دهرك قهراً، ولم يقتدر أن يمتنع من ذلك، ومن كان مثلك في البأس والقوة: يخاف منه ويعطى حقه.
لنا عند هذا الدّهر حقٌّ يلطّه ... وقد قلّ إعتابٌ وطال عتاب
يلطه أي يمطله ويدفعه والإعتاب: الرجوع إلى أن تجيب من يعاتبك.
يقول: لنا عند الدهر حق يمطلنا به، قد طال عتابنا له وهو لا يرجع إلى ما أحبه.
وقيل: هذا تعريض بالممدوح، وأنه طال عتابه واستبطاؤه فيما كان يعده به من الولاية.
وقد تحدث الأيّام عندك شيمةً ... وتنعمر الأوقات وهي يباب
الشيمة: العادة. واليباب: الخراب، وقيل: هو إتباع لخراب.

يقول: إن الأيام قد تترك عادتها عندك من قصد ذوي الفضل، لحصولهم في ذمتك وجوارك، وتعود أوقاتهم بك عامرة، بأن يدركوا مطلوبهم بعد أن كانت خراباً.
وقيل: معناه أن الأيام تغير كل إنسان وتبدل الأحوال، فلا آمن أن تصل إليك فتحدث في أخلاقك تغييرا، كما تفعل في نفسها ضد خلقها، من عمارة بعد خراب.
وقيل: أراد إن عادة الأيام عندنا دفع حقنا، وعندك إيصال حقك إليك، وأوقاتها عندنا خراب، وعندك عامرة.
ولا ملك إلاّ أنت والملك فضلةٌ ... كأنّك نصلٌ فيه وهو قراب
يقول: قوام الملك سياستك، فالملك إنما هو أنت وما سواك فضلة، كما أن العامل هو السيف والقراب فضله.
أرى لي بقربي منك عيناً قريرةً ... وإن كان قرباً بالبعاد يشاب
يقول: إن قربي منك مشوب بالحجاب والبعد، فتارةً أحجب عنك وأخرى ينحجب الحجاب وأقرب، فمتى قربت منك قرت عيني بالقرب الذي يتفق، فكأن الحجاب لم يكن.
وقيل: أراد بالبعاد، الوحشة التي كانت بينه وبين كافور.
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الّذي أمّلت منك حجاب
يقول: أي نفع في رفع الحجاب ؟! إذا كان ما أؤمل منك حجاب. يعني: أنت لا تبذل لي ما أملته منك من العطاء والوداد.
أقلّ سلامي حبّ ما خفّ عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
نصب حب لأنه مفعول له وعنكم في موضع عليكم ويكون ها هنا فعل تام لا يحتاج إلى خبر.
يقول: أقل سلامي عليكم، طلباً للتخفيف عليك، وأسكت عن إذكارك بحاجتي؛ لئلا أكلفك الجواب، ولئلا يكون له جواب أكرهه.
وفي النّفس حاجاتٌ وفيك فطانةٌ ... سكوتي بيانٌ عندها وخطاب
الهاء في عندها يعود إلى لفظ الفطانة.
يقول: في نفسي حاجات ولك معرفة، فسكوتي عند معرفتك يغنيني عن بيانها وإظهارها بالخطاب. ومثله لأبي تمام:
وإذا الجود كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التّقاضي
وما أنا بالباغي على الحبّ رشوةً ... ضعيفٌ هوىً يبغي عليه ثواب
يقول: من أحب إنساناً لمنفعته فحبه ضعيف، وأنا أحبك حباً خالصاً، لا أطلب عليه رشوة.
وما طلبت منك إلا طلب الإدلال لمن عذلني على قصدك. أني أصبت في مخالفتي قوله، فإذا رأى منزلتي عندك علم فساد قوله وصواب رأيي
وما شئت إلاّ أن أدلّ عواذلي ... على أنّ رأيي في هواك صواب
يقول: لم أرد ما أطلبه إلا كي أدل عواذلي اللاتي عذلنني في قصدك. أني كنت مصيبا في هواك، وأنك تحسن إلي وتقضي حق زيارتي.
وأعلم قوماً خالفوني فشرّقوا ... وغرّبت أنّي قد ظفرت وخابوا
يقول: أردت أن أعلم من خالفني، وقصد ملكاً غيرك، أنه قد خاب وأني ظفرت. ومثله للبحتري:
وأشهد أنّي في اختيارك دونهم ... مؤدّىً إلى حظّي ومتّبعٌ رشدي
جرى الخلف إلاّ فيك أنّك واحدٌ ... وأنّك ليثٌ والملوك ذئاب
يقول: قد وقع الخلاف في كل شيء إلا فيك، فإنهم اتفقوا على أنك واحد ولا نظير لك، وأنك أسد والملوك ذئاب بالنسبة إليك. فأنت أوحدهم، كما أن الأسد أوحد السباع ومثله لأبي تمام:
لو أنّ إجماعنا في فضل سؤدده ... في الدّين لم يختلف في الأمة اثنان
وأنّك إن قويست صحّف قارئ ... ذئاباً ولم يخطئ فقال: ذباب
يقول: لو صحف إنسان قول: إنك ليث والملوك ذئاب فجعل مكانه ذباب لم يخطئ في تصحيفه؛ لأن الأمر كذلك على الحقيقة.
وإنّ مديح النّاس حقٌّ وباطلٌ ... ومدحك حقٌّ ليس فيه كذاب
وهذا معطوف على ما قبله: أي قد اتفقوا على أن مدح غيرك فيه حق وباطل، وأن مدحك حق لا كذب فيه.
إذا نلت منك الودّ فالمال هيّنٌ ... وكلّ الّذي فوق التّراب تراب
يقول: إذا حصل لي ودك فلا أبالي بعده بالمال؛ لأن المال لا قدر له، فهو تراب كأصله الذي تولد منه.
وما كنت لولا أنت إلاّ مهاجراً ... له كلّ يوم بلدةٌ وصحاب
يقول: لولا أنت وحبي قربك ما كنت بمصر، بل كنت كل يوم في بلد ومعي أصحاب.
ولكنّك الدّنيا إليّ حبيبةٌ ... فما عنك لي إلاّ إليك ذهاب
يقول: إنما أقمت عندك لأنك دنياي، فلا منصرف لي عنك، إذ الدنيا حبيبة إلى كل أحد، فأنت محبوب إلي فليس لي ذهاب إلا إليك.
وحبيبة خبر ابتداء محذوف: أي هي حبيبة إلي.
هذا آخر ما أنشده أبو الطيب في الأسود.

فلما خرج من عنده قال يهجوه:
من أية الطّرق يأتي نحوك الكرم ... أين المحاجم يا كافور والجلم ؟
الجلم المقص، وأكثر ما يستعمل في الذي يجز به الصوف من الغنم.
يقول: من أي طريق يصل إليك الكرم ؟! وأنت لئيم الأصل تصلح لآلات الحجامين: من المحاجم والمقص.
وقيل: أراد أنك تصلح أن تكون حجاما أو راعياً يجز الصوف بالجلم. وإنما نسبه إلى الحجامة؛ لأن الحجامين بمصر لا يكونون إلا سوداناً، وكذلك رعاة الغنم أكثرها العبيد السود.
جاز الألى ملكت كفّاك قدرهم ... فعرّفوا بك إنّ الكلب فوقهم
قدرهم منصوب بجاز.
يقول: الذين ملكتهم من أهل مصر كانوا قد بغوا وجاوزوا قدرهم، فأذلهم الله تعالى بك، وأعلمهم أن الكلب خير منهم عنده.
وكأن هذا تفسير لقوله: ولله سر في علاك.
لا شيء أقبح من فحلٍ له ذكرٌ ... تقوده أمةٌ ليست لها رحم
جعله أمةً لأنه خصى، ثم حطه عن منزلة الأمة. فيقول: هو أمة بلا رحم ! فالأمة مع تمام خلقها أحسن حالا منه. فالفحل إذا رضي بحكمه وانقاد لأمره فهو أذل من الكلب. وهذا تعريض بابن الإخشيد، وتضريب بينه وبين كافور
سادات كلّ أناسٍ من نفوسهم ... وسادة المسلمين الأعبد القزم
القزم: رذال الناس والمال.
يقول: سيد كل أمة منهم ومن أعزهم، إلا المسلمين فإنهم يرضون بسيادة العبيد
أغاية الدّين أن تحفوا شواربكم ... يا أمّةً ضحكت من جهلها الأمم ؟؟!
من عادة أهل مصر إحفاء الشوارب.
يقول: اقتصرتم من الدين على ذلك، وعطلتم سائر أحكامه ! ورضيتم بولاية كافور عليكم مع خسته، حتى ضحكت الأمم منكم واستهزءوا بكم وبقلة عقلكم.
ألا فتىً يورد الهنديّ هامته ... كيما تزول شكوك النّاس والتّهم ؟
يقول: سيادتك تشكك الناس في حكمة الله تعالى فمن الذي يتعصب للدين ؟! فيضرب رأسه بالسيف ويزيل هذا الشك عن قلوب الشاكين.
فإنّه حجّةٌ يؤذي القلوب بها ... من دينه الدّهر والتّعطيل والقدم
يقول: إن هؤلاء الكفار إذا رأوا ما ناله كافور مع خسته، جعلوا ذلك حجة لقولهم: إن العالم ليس له مدبر حكيم. وآذوا بها قلوب المسلمين، فمن الذي يقتله ؟ حتى تزول هذه الأذية عن قلوب المسلمين.
ما أقدر الله أن يخزي خليقته ... ولا يصدّق قوماً في الّذي زعموا
يقول: إن الله تعالى قادر على أن يخزيه ويخزي المعطلين، بأن يبطل قولهم واحتجاجهم على نفي الصانع.
يعني: إن لم يقتله الناس. فإن الله تعالى يريح المسلمين، ويزيل الشبهة عن قلوب المؤمنين.
وقال أيضاً يهجوه:
أما في هذه الدّنيا كريم ... تزول به عن القلب الهموم ؟
يقول: ليس في هذه الدنيا كريم يؤنس إليه، ويزيل الهموم عن قلوب من يجالسه.
أما في هذه الدّنيا مكانٌ ... يسرّ بأهله الجار المقيم ؟!
أي ليس فيها مكان، يسر المقيم في ذلك المكان بأهله.
تشابهت البهائم والعبدّي ... علينا والموالي والصّميم
العبدي: العبيد. والصميم الصريح الخالص النسب يقول: الناس كلهم جهال بمنزلة البهائم، فأحرارهم وعبيدهم ومواليهم سواء في اللؤم.
وما أدري أذا داءٌ حديثٌ ... أصاب النّاس أم داءٌ قديم ؟؟!
يقول: لست أدري هل كان في قديم الزمان على ما نشاهده الآن في استواء الناس أم حدثت هذه الحالة الآن ؟
حصلت بأرض مصر على عبيدٍ ... كأنّ الحرّ بينهم يتيم
كأنّ الأسود اللاّبىّ فيهم ... غرابٌ حوله رخمٌ وبوم
يقال للأسود: لابي ولوبي ونوبي. منسوب إلى اللابة، وهي الحجارة السود شبهه بالغراب، لسواده، وشبه من حوله بالرخم والبوم، وكل هذه من شرار الطير.
أخذت بمدحه فرأيت لهواً ... مقالي للأحيمق يا حليم
يقول: لم أجد من مداراته بد، فلما أخذت بمدحه استهزأت به. وقلت له مع حمقه: إنك حليم، ومع لؤمه، إنك كريم !
ولمّا أن هجرت رأيت عيّاً ... مقالي لابن آوى يا لئيم
يقول: لما رأيت هجوه، لم أجد لمقالي مجالاً، فرأيت هجوي له عياً، فكنت بمنزلة من يقول لابن آوى: يا لئيم وهو أخس من أن يقال له ذلك.
فهل من عاذرٍ في ذا وهذا ... فمدفوعٌ إلى السّقم السّقيم

يقول: هل في الناس من يعذرني في مدحي وهجوي إياه، فإني مضطر إليهما، كما أن المريض مضطر إلى المرض غير مختار له.
إذا أتت الإساءة من وضيعٍ ... ولم ألم المسيء فمن ألوم ؟!
يقول معتذراً لنفسه في هجوه: إن الإساءة إذا وصلت لي من جهة لئيم اضطررت إلى لومه، ولا معنى للوم غيره ولم يسئ إلي.
وقال أيضاً يهجوه ولم ينشدها أحداً:
لو كان ذا الآكل أزوادنا ... ضيفاً لأوسعناه إحسانا
يقول: هذا الذي أكل أزوادنا من غير أن يمدنا بنعمته، لو كان ضيفاً لنا لم نعامله مثل ما عاملنا به، بل كنا نوسعه إحساناً، خلاف ما يفعله بنا. وأراد بأكل الأزواد: أن مقامه عنده يفني نفقاته.
لكنّنا في العين أضيافه ... يوسعنا زوراً وبهتاناً
يقول: ولكنني في الظاهر ضيفه ونازل عليه، وقراي عنده هو أن يوسعني زوراً وبهتانا، ويعدني بالمواعيد الكاذبة.
فليته خلّى لنا طرقنا ... أعانه الله وإيّانا
يقول: ليته إذا لم يحسن إلي خلى سبيلي ولم يحبسني، فقد رضيت من صلته وبره بتخلية سبيلي. ومثله لامرئ القيس:
وقد طوّفت في الآفاق حتّى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
وكتب إليه أبو الطيب يستأذنه في المسير إلى الرملة لتنجز مال له بها، وإنما أراد أن يعرف ما عنده في مسيره ولا يكاشفه.
فأجابه: لا والله - أطال الله بقاك - لا نكلفك المسير لتنجز مالك، ولكنا ننفد رسولاً قاصداً يقبضه ويأتيك به في أسرع وقت، ولا نؤخر ذلك إن شاء الله تعالى، فلما قرأ الجواب قال:
أتحلف لا تكلّفني مسيراً ... إلى بلدٍ أحاول فيه مالا
وأنت مكلفي أنبي مكاناً ... وأبعد شقّةً وأشدّ حالا
أنى مكاناً: من نبا بك المنزل، إذا لم يمكن المقام فيه، ويدفعك لارتفاعه. وروى: أنأى مكاناً: أي أبعد مكانا.
يقول: أنت تحلف أنك لا تكلفني تجشم الارتحال لاقتضاء الحال، وأردت التخفيف علي، وليس الأمر كذلك، فإنك كلفتني ما هو أشد وأبعد منه، وأراد حبسه إياه على وجه العمر.
وقيل: أراد ما عزم عليه من الهرب والخروج من مصر، والتقدير: أنبى منه مكانا وأبعد منه شقة وأشد منه حالاً، فحذف منه تخفيفاً، والمحذوف يرجع إلى المسير.
إذا سرنا عن الفسطاط يوماً ... فلقّني الفوارس والرّجالا
يقول: إذا سرت عن الفسطاط، وصار بيني وبينه مسيرة يوم، فأنفذ خلفي الخيل والرجال ويوماً نصب على الظرف، والعامل فيه سرنا أي قطعنا بالسير يوماً.
لتعلم قدر ما فارقت منّي ... وأنّك رمت من ضيمي محالاً
أي لقني الفوارس والرجال؛ لتعلم قدري في شجاعتي، ودفعي عن نفسي، وتعلم أنك طلبت أمراً محالا.
وقيل: إن اللام من لتعلم متعلقة بمحذوف أي رحلت من أعمالك لتعلم أنك لا تقدر على ضيمي.
وأقام أبو الطيب بعد أن أنشده قصيدته البائية سنةً لا يلقي الأسود، إلا أن يركب فيسير معه في الطريق لئلا يوحشه، وقد عمل على مراغمته والرحيل عنه، فأعد الإبل وخفف الرحل.
وقال يهجوه في يوم عرفة من سنة خمسين وثلاث مئة، وذلك قبل مسيره من مصر بيوم واحد:
عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيد ... بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد
كأنه قال: هذا عيد ثم خاطب العيد فقال: يا عيد بأية حال عدت ؟! هل عدت بما مضى من حالك، أم فيك تجديد لأمر آخر ؟ وتجديد مبتدأ، ولأمر خبره، وفيك صفة لأمر. وقيل: تجديد مبتدأ وفيك خبره ولأمر مفعول له.
أمّا الأحبّة فالبيداء دونهم ... فليت دونك بيداً دونها بيد
البيد: جمع البيداء والهاء في دونها للبيد قبلها.
يقول: بيني وبين أحبابي فلاة بعيدة فما أصنع بك مع البعد عنهم ! لأن الإنسان إنما يسر بالعيد إذا كان معه أحبته، فأما مع بعدهم، فليت بيني وبينك فلوات دونها فلوات.
لولا العلا لم تجب بي ما أجوب بها ... وجناء حرفٌ ولا جرداء قيدود

لم تجب أي تقطع. والوجناء الناقة العظيمة الوجنات، وقيل: هي العظيمة الخلق، وقيل: الصلبة. والحرف القوية، وهي مشبهة بحرف الجبل، وهي الضامرة وقيل: التي انحرفت من الهزال إلى السمن، وقيل: السريعة الحادة، مشبهة بحرف السيف. والجرداء من صفة الخيل، وهي القصيرة الشعر، وقيل: هي السابقة. والقيدود: هي الطويلة. ووجناء فاعل لم تجب بي وما في موضع نصب والهاء في بها ضمير الوجناء قبل الذكر.
يقول: لولا ما أطلبه من العلا لم تقطع بي فلوات ناقة وجناء ولا فرس جرداء.
ولو ساعده الوزن لقال: لولا العلا لم تجب بي الوجناء ما أجوب بها من الفلاة.
وكان أطيب من سيفي مضاجعةً ... أشباه رونقه الغيد الأماليد
الغيد: جمع أغيد وغيداء وهي الحسنة الجيد الناعمة. والأماليد: جمع الأملود، وهي اللينة الأعطاف الرخص الناعمة. والهاء في رونقه للسيف ومضاجعة نصب على التمييز.
يقول: لولا طلب العلا لكان أطيب من مضاجعتي سيفي مضاجعة النساء الحسان الغيد النواعم، اللواتي يشبهن رونق السيف في الصفاء والطلاوة.
ورونق السيف: ماؤه وجوهره.
لم يترك الدّهر من قلبي ولا كبدي ... شيئاً يتيّمه عينٌ ولا جيد
يتيمه: يتعبده بالحب.
يقول: إن الدهر قد ملأ قلبي من المحن والشدائد، ولم يترك بي موضعاً يشغله العشق، إلى حسن عنق أو عين.
يا ساقييّ أخمرٌ في كئوسكما ... أم في كئوسكما همٌّ وتسهيد ؟
يقول: يا ساقيي إن ما في كئوسكما خمر، أو حزن، منع من النوم، فكلما شربت ازددت حزناً وسهراً بخلاف عادة سائر الخمور.
أصخرةٌ أنا ؟ ما لي لا تغيّرني ... هذي المدام ولا هذي الأغاريد !
يقول: كأني صخرة لا يؤثر في الشراب والغناء ! ولا يحدثان في السرور.
والأغاريد: الأغاني، وأصلها تغريد الطائر، إذا رجع صوته.
إذا أردت كميت اللون صافيةً ... وجدتها، وحبيب النّفس مفقود
يقول: إذا أردت الشراب واللهو، وجدت الخمر، ولكن الحبيب مفقود ! وقيل: أراد بالحبيب: الشرف، أي إذا تشاغلت بالخمر فقدت العز والعلا.
ماذا لقيت منن الدّنيا ؟ وأعجبها ... أنّي بما أنا باكٍ منه محسود !
يقول: ما أعجب ما ألقاه من هذه الدنيا ! وأعجب ما لقيت: أني أحسد على ما أبكي منه ! يريد كونه عند الأسود وقربه منه.
أمسيت أروح مثرٍ خازناً ويداً ... أنا الغنيّ وأموالي المواعيد
يقول: أمسيت ويدي في راحة، وكذلك أمسى خازني في راحة، لأنه لا شيء في يدي أحتاج إلى حفظه، ولا في يد خازني. وأنا الغني من المواعيد الكاذبة.
وأراد بالغني: غني النفس، وأراد: إني بغير مال كافور.
وخازنا ويداً نصبا على التمييز.
إنّي نزلت بكذّابين ضيفهم ... عن القرى وعن التّرحال محدود
يقول: إني نزلت على قوم كذابين، ضيفهم ممنوع من القرى الذي يعد للضيوف، وكذلك ممنوع عن الرحيل، فلا يضيفونه ولا يخلون سبيله.
جود الرّجال من الأيدي وجودهم ... من اللّسان فلا كانوا ولا الجود
يقول: عطاء الناس من الأيدي، وهو المال، وعطاؤهم من الألسنة، وهو الوعد، ثم دعا عليهم فقال: لا كانوا ولا كان جودهم.
ما يقبض الموت نفساً من نفوسهم ... إلاّ وفي يده من نتنها عود
يقول: إن الموت لا يباشر أنفسهم بيده عند قبضها، استقذارا لها، بل ينزعها من الجسد بعودٍ في يده توقياً من نتنها.
من كلّ رخو وكاء البطن منفتقٍ ... لا في الرّجال ولا النّسوان معدود
يصف هذه النفوس، وأن كل واحدة منها بهذه الصفة. وقوله: رخو وكاء البطن منفتق أي إنه رخو الشرج لا يحبس ما يخرج منه، وهكذا يكون الخصى. وإنما عنى به كافوراً وحده، وأخبر عنه بلفظ الجمع.
أكلّما اغتال عبد السّوء سيّده ... أو خانه فله في مصر تمهيد
يقول: كافور اغتال سيده أي قتله غيلة وجلس مكانه، وهكذا كل عبد في مصر إذا خان مولاه أو قتله ارتفع شأنه عند الأسود.
صار الخصىّ إمام الآبقين بها ... فالحرّ مستعبدٌ والعبد معبود
الهاء في بها لمصر.
يقول: لما ملك كافور مصر هرب كل عبد من مولاه وانضم إليه، فالحر ذليل كأنه عبد، والعبد مخدوم بها معظم.
نامت نواطير مصرٍ عن ثعالبها ... فقد بشمن وما تفنى العناقيد

النواطير: جمع ناطور، وهو حافظ الزرع. ويجوز بالطاء والظاء.
يقول: غفل الملوك عن مصر وأهملوها فتمكن منها العبيد والأرذال، فجمعوا الأموال وأتخموا من كثرتها.
شبه مصر بالبستان. والملوك بالنواطير، والغواة بالثعالب.
العبد ليس لحرٍّ صالحٍ بأخٍ ... لو أنّه في ثياب الحرّ مولود
الهاء في أنه تعود إلى حر وأراد به ابن الإخشيد، لأنه كان يسمى كافورا أخاه. فيقول: إن الحر لا يصلح أن يكون العبد أخاه، لو كان حراً ولد في ثياب الأحرار. يعني: لو كنت ولدت في ثياب حر لما اتخذته أخاك.
وقيل: تعود إلى العبد والمعنى: أن العبد لو ولد في ثياب الحر لما كان يصلح أن يكون أخاً للحر، لأنه ينزع إلى أصله.
لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه ... إنّ العبيد لأنجاسٌ مناكيد
المناكيد: جمع منكاد، ومنكود، وهو قليل الخير.
يقول: العبد نجس نكد لا يستقيم إلا بالضرب.
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمنٍ ... يسيء بي فيه كلبٌ وهو محمود
الها في فيه للزمن.
يقول: ما ظننت أني أبقى إلى زمن يسيء بي في ذلك الزمان كلب، وهو محمود على إساءته لي. وأحتاج إلى مدحه مع ذلك.
ولا توهّمت أنّ النّاس قد فقدوا ... وأنّ مثل أبي البيضاء موجود
لقبه بضد اسمه كما يقال للأعمى: البصير.
يقول: ما ظننت أن الناس يفقدون وكافور يبقى بعدهم مع خسة نفسه ودناءة أصله.
وأنّ ذا الأسود المثقوب مشفره ... تطيعه ذي العضاريط الرّعاديد
العضاريط: الأتباع والخدم واحدها عضروط والرعاديد الجبناء واحدهم رعديد.
يقول: لم أتوهم أن هؤلاء السفلة الأرذال تطيع مثل هذا الأسود، حتى يجوز عليهم أمره، وأنه يحصل له مثل هذا الملك والتسلط عليهم.
جوعان يأكل من زادي ويمسكني ... لكي يقال عظيم القدر مقصود
يقول: قاسى في الجوع قلبه الذي قاساه في عبوديته؛ فلهذا لا تسمح نفسه بالعطاء، وهو مع ذلك يأكل من زادي: أي يطالبني بأن أمدحه بشعري.
وقيل: أراد يحبسني من غير عطاء فأحتاج إلى أن أنفق مالي، وإنما يمسكني عنده ليقال: إنه مقصود يمدحه مثلي من الشعراء.
إنّ امرأً أمةٌ حبلى تدبّره ... لمستضامٌ سخين العين مفئود
المفئود الذي أصيب فؤاده، أي عقله، وجعله أمة حبلى لخصاه وعظم بطنه. يعرض بابن مولاه، ابن الإخشيد.
يقول: من جعل أمره إلى أمة حبلى حتى تدبره، فهو مقهور ذليل سخين العين مصاب الفؤاد، زائل العقل.
ويلمّها خطّةً ويلمّ قابلها ... لمثلها خلق المهريّة القود
ويلمها تعجب، وأصلها: ويل لأمها، فلما كثر استعمال هذه الكلمة خففت وحذفت اللام والهمزة، وجعلت الكلمتان واحدة. وخطةً نصب على التمييز والها في ويلمها للخطة والمهرية إبل منسوبة إلى مهرة، قبيلة من اليمن. والقود: الطوال الأعناق.
يقول: ما أعجب هذه الخطة ! وما أعجب من يرضى بها ! وإنما خلقت المهرية لتركب أنفةً من هذه الحال.
وعندها لذّ طعم الموت شاربه ... إنّ المنيّة عند الذّلّ قنديد
القنديد: الخمر، وقيل: هي التي فيها الأفاوية، والهاء في عندها للخطة وهي الحالة والقضية، يقال: إن فلاناً يكلفني خطة من الخسف.
يقول: وعند هذه الخطة يستلذ الموت كما يستلذ الخمر المطيبة بالأفاوية. وهذا كقوله:
الموت أحلى عندنا من العسل
لا عار بالموت إذا الموت نزل
من علّم الأسود المخصىّ مكرمةً ... أقومه البيض أم آباؤه الصّيد ؟!
يقول: من أين تعلم هذا الخصى الأسود المكارم ؟! أتعلمها من قومه البيض الألوان ! أو البيض الكرام ! أو من آبائه الملوك ! يعني: ليس له في الكرم أصل فكيف يهتدى إلى فعل المكارم وإتيان الجميل ؟! يلوم نفسه لطلبه الغني عنده مع لؤم أصله.
أم أذنه في يد النّخّاس داميةً ... أم قدره وهو بالفلسين مردود
نصب دامية على الحال من أذنه.
يقول: أعلمته المكرمة إدماء النخاس أذنه عركاً، أم قدره وهو لا يساوي فلسين.
أولى اللّئام كويفيرٌ بمعذرةٍ ... في كلّ لؤمٍ وبعض العذر تفنيد
يقول: إن كافوراً أولى اللئام بأن يعذر في كل لؤم ! وقوله: وبعض العذر تفنيد: أي عذري له تفنيد وتوبيخ ونهاية في اللوم، وهجو صريح؛ لأني إنما أعذره وأدع لومه لخسته.

وذاك أنّ الفحول البيض عاجزةٌ ... عن الجميل فكيف الخصية السّود ؟
الخصية: جمع خصى.
يقول: أنا أعذره؛ لأن الذكور الأحرار تعجز عن الجميل، فكيف. لا يعجز السود الخصيان ؟ هذا آخر ما قاله في كافور وإنما أخرنا مدح فاتك لئلا يختلط بغيره، وسنأتي بمدحه بعد هذه القصيدة إن شاء الله تعالى.

خروج المتنبي من مصر إلى الكوفة
وكان جميع جيرانه يراعونه حتى كان قوم يمرون حذاء منزله يتعرفون من يدخل إليه ويخرج من عنده، ويغدو كل يوم صاحب الخبر إلى بابه، حتى يقف على حاله وهو يعلم ذلك ولا يظهر لهم.
وكان يتسلى بفاتك وبالحديث معه، وتوفي فاتك فعمل أبو الطيب على الرحيل، وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في لطف ورفق ولا يعلم به أحداً من غلمانه، وهو يظهر الرغبة في المقام، وطال عليهم التحفظ، فخرج فدفن الرماح في الرمل، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل عدة لعشر ليال، وتزود لعشرين وكتب إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف الخزاعي.
جزى عرباً أمست ببلبيس ربّها ... بمسعاتها تقرر بذاك عيونها
وروى: ببلبيس وهو مكان بأعلى الشام دون مصر على بحر القلزم، والمسعاة: واحدة المساعي.
يقول: جزى الله العرب الذين هم أهل هذا المكان بمساعيها جزاء حسناً تقر بذاك عيونهم. وربها فاعل جزى: أي جزاها ربها.
كراكر من قيس بن عيلان ساهراً ... جفون ظباها للعلا وجفونها
كراكر أي جماعات، وهي بدل من عرب.
يقول: جفون سيوفهم فقدت نصولها، وجفون عيونهم فقدت نومها؛ لأنهم يسهرون لطلب المعالي، شاهرين سيوفهم للذب عنهم. ولما ذكر سهر عيونهم، ذكر سهر جفون السيوف؛ لتجانس اللفظ.
وخصّ بها عبد العزيز بن يوسفٍ ... فما هو إلا غيثها ومعينها
روى: معينها ومعينها والهاء في بها يرجع إلى الأرض: التي هي بلبيس. وقيل: إلى الدعوة التي يدل عليها قوله: جزى الله والهاء في غيثها ومعينها يرجع إلى العرب: أي خص الله بهذه الدعوة هذا الرجل، فإنه سيد هذه العرب، يقوم جوده لها مقام الغيث.
والمعين: الماء الجاري من العيون.
فتىً زان في عينيّ أقصى قبيله ... وكم سيّدٍ في حلّةٍ لا يزينها
القبيل: الثلاثة فصاعداً من ولد أب واحد، أو من قوم شتى. والقبيلة: لا تقال إلا في ولد أب واحد، والحلة: جماعة بيوت الأعراب والجمع الحلل.
يقول: زين في عيني قبيله وصار قومه مفتخرين به وبشرفه، وكم سيد لا يتجاوز فخره إلى غيره.
وأخفى طريقه فلم يأخذوا له أثراً حتى قال بعض أهل البادية: هبه سار فهل محا أثره ؟ وقال بعض المصريين: إنما أقام حتى عمل طريقاً تحت الأرض.
وتبعه البادية والحاضرة ومن وثقوا به من الجند، وكتبوا إلى عوالة الحوفين والجفار وغزة والشام وجميع البوادي. وعبر أبو الطيب بموضع يعرف بنجه الطير إلى الرثنة حتى خرج إلى ماء يعرف بنخل، وتسميه العامة بحرا في التيه بعد أيام، فلقي عنده في الليل ركباً وخيلاً صادرةً عنه، فقاتلوه فأخذهم وتركهم، وسار حتى خرج من قرب النقاب، فرأى رائدين لبني سليم على قلوصين، فركب الخيل وطردهما حتى أخذهما، فذكرا له أن أهلها أرسلوهما رائدين، وواعدهما النزول ذلك اليوم بين يديه، فاستبقاهما ورد عليهما القلوصين وسلاحهما، وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل. فضرب له ملاعب ابن أبي النجم خيمةً بيضاء وذبح له.
وغدا وسار إلى النقع فنزل ببادية من معن وسنبس فذبح له عفيف المعنى غنماً وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه اثنان من جذيم يدلانه، فصعد في النقب المعروف بتربان، وفيه ماء يعرف بعرند فسار يوماً وبعض ليلة ونزل.
وأصبح فدخل حسمي وحسمي هذه أرض صلبة تودي إلى أثر النخلة من لينها، وتنبت جميع النبات، مملوءة جبالا في كبد السماء، متناوحة ملس الجوانب إذا نظر الناظر إلى قلة أحدها فتل عنقه - حتى يراها - بشدة. ومنها ما لا يقدر أحد أن يصعده، ولا يكاد القتام يفارقه، ولهذا لما قال النابغة:
وأصبح عالقا بجبال حسمي ... دقاق التّرب مخترم القتام
اختلف الناس في تفسيره، ولم يعلموا ما أراده.

يكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين، يعرفها من رآها من حيث رآها لأنها لا مثل لها في الدنيا، ومن جبالها جبل يعرف بإرم عظيم العلو، تزعم أهل البادية أن فيه كروماً وصنوبراً - فوجد بني فزارة بها شاتين، فنزل بقوم من عدي فزارة، فيهم أولاد لاحق بن مخلب، وكان مخلب هذا خرج يطلب ناقة له فقدها، وكانت بنو فزارة قد أخذت غزياً غزتها فكانت الأسرى في القد بين البيوت، فسمعه بعض الأسرى ينشد الناقة فقال له: هي بموضع كذا وكذا وجدناها أمس وشربنا لبنها وتركناها لنعود فنأخذها. فقال مخلب: على شهادتكم يا معشر العرب، ثم عاد فلبس سلاحه وركب فرسه فقال: الغزي ضيوفي فخلصهم من القد بعد اختلاف الناس وخوف الشر، فرد عليهم كل شيء أخذ لهم وقراهم وسيرهم وميرهم فقال مخلب:
فإن تك ناقتي منعت غزيّا ... تجرّ صرارها ترعى الرّحابا
فأيّ فتى أحقّ بذاك منّي ... وأجدر في العشيرة أن يهابا ؟
وكانت بينه أي بين أبي الطيب وبين أمير فزارة: حسان بن حكمة مودة وصداقة. فنزل بجار للقوم ليواري عنهم، فلا يعلم ما بينه وبينهم، واسم الجار: وردان بن ربيعة من طيئ، ثم من معن ثم من بني شبيب، فاستغوى عبيده وأفسدهم عليه، وأجلسهم مع امرأته، فكانوا يسرقون له الشيء بعد الشيء من رحله.
وطابت حسمي لأبي الطيب فأقام بها شهراً، وكتب كافور إلى من حوله من العرب ووعدهم، وظهر لأبي الطيب فساد عبيده، وكان الطائي يرى عند أبي الطيب سيفاً مستوراً فيسأله أن يريه إياه فلا يفعل؛ لأنه كان على قائمه وفعله ذهب من مائة مثقال، وكان السيف لا ثمن له، فجعل الطائي يحتال على العبيد بامراته طمعا في السيف؛ لأن بعضهم أعطاه خبره، فلما أنكر أبو الطيب أمر العبيد ووقف على مكاتبة كافور لكل العرب التي حوله في أمره، أنفذ رسولاً إلى فتىً من بني فزارة، ثم من بني مازن من ولد هرم بن قطبة. بن سيار يقال له: فليتة بن محمد وفيهم يقول بعض البادية:
إذا ما كنت مغترباً فجاور ... بني هرم بن قطبة أو دثارا
إذا جاورت أدنى مازنيٍّ ... فقد ألزمت أقصاها الجوارا
وكان وافقه قبل ذلك على المراسلة فسار إليه. وترك أبو الطيب عبيده نياماً وتقدم إلى الجمال فشد على الإبل وحمل خوفاً أن يحتبس عنه عبيده في الليل، ولم يعلموا حتى نبهم وطرحهم على الإبل وجنب الخيل، وسار تحت الليل والقوم لا يعلمون برحيله، ولا يشكون أنه يريد البياض، فلما صار برأس الصوان أنفذ فليتة بن محمد إلى عرب بين يديه وتوقف.
وأخذ أحد العبيد في الليل السيف فدفعه إلى عبد آخر ودفع إليه فرسه، وجاء ليأخذ فرس مولاه فانتبه أبو الطيب فقال الغلام: أخذ العبد فرسي أخذ العبد فرسي يغالط بهذا الكلام، وعدا نحو الفرس ليقعد على ظهره، والتقى هو وأبو الطيب عند الحصان، وسل العبد السيف فضرب رسنه، فضرب أبو الطيب وجه العبد فقسمه، فخر على رتمة أنفه، وأمر الغلمان فقطعوه، وانتظر الصباح وكان هذا العبد أشد من معه وأفرسهم.
فلما أصبح أتبع العبد علياً الخفاجي وعلواناً المازني، فأخذا أثره، فأدركاه عصراً، وقد قصر الفرس الذي تحته، فسألهما عن مولاه فقالا جاءك من ثم، وأشارا إلى موضع، فدنا منهما كالعائذ وهو يتبصر فقالا له: تقدم، فقال: ما أراه، فإن رأيته جئتكما وإن لم أره فما لكما عندي إلا السيف، فامتنع عنهما وعادا في غد، ووافقا عودة فليتة فقال فليتة: لقد كان فيما جرى خبرة، لأن الوقت الذي اشتغلتم بقتله فيه كانت سرب الخيل عابرة مع ذلك العلم، ولو كنتم زلتم عن موضعكم لحدث بعضكم بعضا، فقال أبو الطيب ارتجالا:
فإن تك طيئٌ كانت لئاما ... فألأمها ربيعة أو بنوه
يقول: إن كانت طيئ لئاماً فربيعة الذي هو أبو وردان وبنوه أكثرهم لؤما. وقوله: أوبنوه معناه: وبنوه أو في معنى الواو.
وإن تك طيّئٌ كانت كراما ... فوردانٌ لغيرهم أبوه
يقول: إن كانت طيّئ كراما، فأبو وردان ليس منهم، بل من غيرهم، لأنه لئيم وطيئ كرام. وكانت في البيتين زائدة، والتقدير: إن تك طيئ كراما، وإن تك طيئ لئاما.
مررنا منه في حسمي بعبدٍ ... يمجّ اللّوم منخره وفوه
حسمي: أرض بالسماوة. ويقال: منخر: بفتح الميم وكسرها.
يقول: نزلنا عليه بحسمي، فوجدناه عبداً لئيماً يمج اللؤم أنفه وفوه.

أشذّ بعرسه عنّي عبيدي ... فأتلفهم ومالي أتلفوه
أشذ أي فرق. والباء للسبب أي بسبب عرسه.
يقول: فرق عني عبيدي وأفسدهم بامرأته وأتلفهم، وهم أتلفوا مالي.
فإن شقيت بأيديهم جيادي ... لقد شقيت بمنصلى الوجوه
يقول: إن كانت خيلي شقيت بأيدي عبيدي: أي سرقوها، فقد شقيت بسيفي وجوههم.
يصف ما كان من أخذ عبيده فرسه، وقتله للآخر.
وقال يهجو وردان بن ربيعة:
لحا الله ورداناً وأمّاً أتت به ... له كب خنزيرٍ وخرطوم ثعلب
يقول: لعن الله ورداناً وأمه التي أتت به فإنه قبيح الوجه لئيم الكسب، يقود على أهله ويكتسب بالقيادة.
وإنما خص كسب خنزير لأن كسبه لا يتضمن الشجاعة، بخلاف سائر السباع، وقيل: لأنه يفسد الزرع ونحوه مما لا يفسده سائر السباع، فلما كان هذا الرجل أفسد عبيده شبهه به. وقيل: لأنه يأكل العذرة والأقذار، فشبهه به لقبح كسبه من جهة القيادة، وجعل له خرطوم ثعلب: أي أنفه، وشبهه به؛ قباحةً ووحشةً.
فما كان منه الغدر إلاّ دلالةً ... على أنّه فيه من الأمّ بالأب
يقول: غدره بي: دلالة على أن أمه غدرت فيه بأبيه، فجاءت به لغير رشدة. وروى: من الأم والأب: أي أن أبويه كانا غادرين.
إذا كسب الإنسان من هن عرسه ... فيل لؤم إنسانٍ ويا لؤم مكسب !!
الهن: كناية عن الفرج.
يقول: ما ألأم إنساناً يقود على امرأته ويكس بهنها، وما ألأم كسبه ذلك !
أهذا اللّذيّا بنت وردان بنته ... هما الطّالبان الرّزق من شرّ مطلب
يقول: أهذا الذي تنسب إليه بنت وردان ! نكد عاهرة، وأظهر التجاهل لوردان. ثم قال: هما يطلبان الرزق من أقبح وجوهه، هو يطلبه بالقيادة، وتلك تطلبه بالفجور والزنا.
لقد كنت أنفي الغدر عن توس طيئٍ ... فلا تعذلاني ربّ صدقٍ مكذّب
التوس والسوس: الأصل.
يقول: كنت أنفي الغدر عن أصل طيئ، فكان الأمر بخلاف ذلك، فلا تعذلاني يا صاحبي، فرب صدق مكذب.
وقال أيضاً يصف العبد الذي قتله وهو في طريقه من مصر إلى العراق
أعددت للغادرين أسيافا ... أجدع منهم بهنّ آنافا
لا يرحم الله أرؤساً لهم ... أطرن عن هامهنّ أقحافا
يقول: استعددت لكل غادر سيوفاً أقطع بها أنوفهم، وأطرن فعل ضمير الأسياف. والأقحاف: جمع قحف، وهو العظم الذي يكتنف الدماغ. وقيل: لا يقال له قحف حتى يبين عن الرأس.
يقول: لا رحم الله رءوساً أطارت أسيافي عن هامهن أقحافها. والضمير في هامهن للأرؤس.
ما ينقم السّيف غير قلّتهم ... وأن تكون المئون آلافا
قوله: وأن تكون المئون آلافا فيه محذوف. أي غير أن تكون. وقيل: ألا يكون فحذف لا.
يقول: لا ينكر السيف منهم إلا قلتهم؛ لأنه يتمنى كثرة الغادرين، وأن يكون بدل كل مئة ألفاً، فهو لا ينكر إلا قلتهم، وألا يكون المئون ألوفاً.
يا شرّ لحمٍ فجعته بدمٍ ... وزار للخامعات أجوافا
روى: زار وزاد وفاعله قيل: اللحم، وقيل: الدم. والخامعات الضباع.
يقول مخاطباً للحم عبده الذي قتله: أنت شر لحم فجعته بإراقة دمه، فشربت الضباع من دمه، وأكلت الضباع هذا اللحم، فصار في أجوافها، فكأنه زارها. وقوله: فجعته بدم أي فرقت بينه وبين دمه لما قتلته.
قد كنت أغنيت عن سؤالك بي ... من زجر الطّير لي ومن عافا
عفت الطير وزجرتها بمعنى تفاءلت بها ومن نصب بالمصدر الذي هو سؤالك.
يقول: كنت غنياً عن أن تسأل الكهان، والزاجرين للطير عن حالي في تعرضك لي، لأني كنت أعلم بحالي منهم.
وعدت ذا النّصل من تعرّضه ... وخفت لمّا اعترضت إخلافا
يقول: وعدت سيفي هذا أن أقتل به كل من تعرض له، فلما اعترضت له حين أردت أخذ فرسي، وخفت أن تفوته وأخلف سيفي ما وعدته، فقتلتك.
لا يذكر الخير إن ذكرت ولا ... تتبعك المقلتان توكافا
يقول: إذا ذكرت لا تذكر بخير، ولا ينسب الخير إليك ولا تبكيك عين تفقدك.
أخذه من قول الله تعالى: " فَمَا بَكَتْ عَلَيْهمُ السَّمَاءُ وَاْلأَرْضُ " .
إذا امرؤٌ راعني بغدرته ... أوردته الغاية الّتي خافا
يقول: من خوفني بغدره قتلته، وأوردته الغاية التي يخافها وهي الموت.

وسار أبو الطيب حتى نظر إلى آثار الخيل، ولم يجد مع فليتة خبراً عن العرب التي طلبها فقال له: احرف بنا على بركة الله تعالى إلى دومة الجندل.
وذلك أنه أشفق أن تكون عليه عيون بحسمي قد علمت أنه يريد البياض، فسار حتى ورد البويرة بعد ثلاث ليال، وأدركتهم لصوص فأخذت آثارهم وهم عليها، فلم يطمعوا فيهم، وسار معه منهم حمصي بن القلاب، فلما توسط البسيطة رأى بعض العبيد ثوراً يلوح فقال: هذه منارة الجامع. ونظر آخر نعامة في جانبه فقال: وهذه نخلة. فضحك أبو الطيب وضحكت البادية فقال يذكر ضلال غلمانه في حذر الأشباح التي لاحت لهم في البادية:
بسيطة مهلاً سقيت القطارا ... تركت عيون عبيدي حيارى
بسيطة: أرض بقرب الكوفة.
يقول: سقاك المطر يا بسيطة مهلاً، فإنك حيرت عيون عبيدي. فدعا لها بالسقيا. ولم يدع عليها لكي تكف عن التحير، فلو دعا عليها لزادت في التحيير، فتلطف لها بالدعاء بالسقيا.
فظنّوا النّعام عليك النّخيل ... وظنّوا الصّوار عليك المنارا
الصوار القطيع من البقر الوحشي.
يقول: حيرت عيونهم حتى ظنوا أن النعام نخيل، وأن الثور منار الجامع.
فأمسك صحبي بأكوارهم ... وقد قصد الضّحك فيهم وجارا
يقول: لما سمع صحابي ذلك ضحكوا حتى خافوا أن يسقطوا عن إبلهم، فتعلقوا برحالهم، وفيهم من ضحك ضحكاً معتدلاً، وفيهم من جاوز الحد في الضحك. وروى: قسط أي عدل الضحك في بعضهم وجار في بعضهم: وروى قصد وهو في معناه.
وورد العقدة بعد ليال، وسقي بالجراوي، واجتاز ببني جعفر بن كلاب وهو بالبرية والأضارع فبات فيهم، وسار إلى أعكش حتى نزل الرهيمة. ودخل الكوفة فقال يصف منازل طريقه ويفخر بمسيره في البادية ويهجو كافوراً في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وثلاث مئة:
ألا كلّ ماشية الخيزلي ... فدى كلّ ماشية الهيدبي
الخيزلي والخوزلي: مشية النساء، وهي مشية فيها تثنى وتفكك، والهيدبي: مشية الإبل فيها سرعة.
يقول: جعل الله كل امرأة تتثنى في مشيتها فداءً لكل ناقة تسرع في سيرها.
والخيزلي والهيدبي نصب على صفة المصدر المحذوف: أي كل ماشية تمشي مشية الخيزلي والهيدبي.
وكلّ نجاةٍ بجاويّةٍ ... خنوفٍ وما بي حسن المشي
النجاة: السريعة. والبجاوية: منسوبة إلى بجاوة، وهي قبيلة من البربر، يطاردون عليها في الحرب، والخنوف: التي تميل يدها في سيرها.
يقول: جعل الله كل امرأة تمشي الخيزلي، فدى كل ناقة سريعة. ثم بين أنه لم يفدهن بالإبل لأن مشية الإبل أحسن من مشية النساء، ولكن لأجل النفع والبعد من الضيم. والمشي: جمع مشية.
ولكنّهنّ حبال الحياة ... وكيد العداة وميط الأذى
يقول: إنما فديتهن بها؛ لأن الإبل حبال الحياة: أي أسباب الحياة، ينجو بها الإنسان من المهالك، وبها يكيد الإنسان عدوه، ويدفع الأذى بها عن نفسه.
ضربت بها التّيه ضرب القما ... ر إمّا لهذا وإمّا لذا
التيه: برية على جانب مصر، وهي التي تاه فيها قوم موسى عليه السلام يقول: ضربه بها إما للنجاة، وإما للهلاك، كما يفعل المقامر.
إذا فزعت قدّمتها الجياد ... وبيض السّيوف وسمر القنا
فمرّت بنخلٍ وفي ركبها ... عن العالمين وعنه غنى
نخل: ماء معروف. وركبها: يعني نفسه وغلمانه. أي مرت هذه الإبل على هذا الماء، وأصحابها يغنون عن هذا الماء، لما لهم من العدة، وعن العالمين، لقوتهم وشجاعتهم.
وأمست تخيّرنا بالنّقا ... ب وادي المياه ووادي القرى
النقاب: موضع، يفترق منه طريقان: إلى وادي المياه، وإلى وادي القرى.
يقول: لما وصلنا إلى هذا المكان خيرتنا الإبل فقالت: خذ أي الطريقين شئت. وروى بالباء: أي خبرتنا. وقالت: هذا طريق وادي المياه، وهذا طريق وادي القرى.
وقلنا لها: أين أرض العراق ؟ ... فقالت ونحن بتربان: ها
تربان: موضع وها حرف إشارة. والمراد: ها هي هذه، فحذف الجملة وترك الحرف الذي هو ها.
يقول: لما وصلنا إلى تربان سألناها عن أرض العراق فقالت عندما كنا بتربان: ها هي هذه بين أيديكم. يعني العراق. فعلى هذا يكون الواو للحال.
وقيل: معناه أنها قالت: نحن قد حصلنا بتربان، وهي قريبة من العراق فيكون ذلك من قول الإبل.

وهبّت بحسمي هبوب الدّبو ... ر مستقبلاتٍ مهبّ الصّبا
هبت: أي أسرعت. والدبور: من قبل الغرب، ويستقبل المشرق، وهو مهب الصبا. وقيل: الصبا محلها من ناحية قبلة العراق، والدبور يقابلها.
يقول: إنها سارت بنا سيراً سريعاً كأنها الدبور استقبلت مهب الصبا.
روامي الكفاف وكبد الوهاد ... وجار البويرة وادي الغضى
روامي أي قواصد، موضعه نصب على الحال. والكفاف، وكبد الوهاد، وجار البويرة كلها مواضع. ووادي الغضى بدل من وجار البويرة.
يقول: إن هذه الإبل البجاوية قصدت هذه المواضع، وعبرت عليها.
وجابت بسيطة جوب الرّدا ... ء بين النّعام وبين المها
جابت: أي قطعت. وبسيطة: مفازة بقرب الكوفة.
يقول: قطعت الإبل بسيطة وشقتها كما يشق الرداء، ومسيرها بين النعام وبقر الوحش.
إلى عقدة الجوف حتّى شفت ... بماء الجراويّ بعض الصّدى
عقدة الجوف: موضع معروف، والجراوي: منهل معروف.
يعني: أنها سارت من بسيطة إلى عقدة الجوف، فشربت من الجراوي حتى شفت بعض عطشها، ولم تستوف الشرب عجلةً أو خوفاً، أو حرصاً على السير، أو خشية أن يثقلها كثرة الشرب.
ولاح لها صورٌ والصّباح ... ولاح الشّغور لها والضّحى
صور، والشغور: اسما موضعين بقرب العراق.
يقول: سارت طول ليلها فظهر لها صور عند الصبح وظهر لها الشغور مع وقت الضحا.
ومسّى الجميعيّ دئداؤها ... وغادى الأضارع ثم الدّنا
هذه أسماء المواضع، والدئداء: سير سريع.
يعني: أنها وصلت إلى الجميعي مساءً فأسرعت فيه السير، وجاءت إلى الأضارع. والدنا: وقت الغداة.
فيا لك ليلاً على أعكشٍ ... أحمّ البلاد خفيّ الصّوى
أعكش: مكان معروف. وأحم أسود. والصوى: أعلام وحجارة تنصب على الطريق، الواحدة: صوة. وقوله: فيا لك تعجب. وليلاً نصب على التمييز.
يقول: ما أعجب ليلاً في أعكش ! وما أشد ظلامه وسواد البلاد ! حتى خفيت الأعلام.
وردنا الرّهمية في جوزه ... وباقيه أكثر ممّا مضى
الرهيمة: قرية بقرب الكوفة. وعنى بالجوز ها هنا صدر الليل.
يقول: وردنا الرهيمة وما بقي من الليل أكثر مما مضى.
فلمّا أنخنا ركزنا الرّما ... ح فوق مكارمنا والعلا
يقول: لما نزلنا الكوفة أنخنا إبلنا وركزنا رماحنا فوق العز والمكارم.
يعني هذا المسير فخر لنا عالي المحل؛ لأنا أرغمنا به أنف كافور مع ملكه.
وبتنا نقبّل أسيافنا ... ونمسحها من دماء العدى
يقول: لما وصلنا إلى وطننا قبلنا أسيافنا شكراً لها، ومسحنا عنها دماء الأعداء الذين قتلناهم بها.
لتعلم مصر ومن بالعراق ... ومن بالعواصم. أنّى الفتى
يقول: فعلنا هذا؛ ليعلم أهل مصر، وأهل العراق، وأهل العواصم: أي سيف الدولة. أنى الفتى الكامل في جميع الخصال.
وأنّى وفيت وأنّى أبيت ... وأنّى عتوت على من عتا
يقول: فعلت هذا؛ ليعلم من في مصر أني وفيت بما وعدت من سيرى حيث قلت:
وإن بليت بودٍّ مثل ودّكم
وأنى أبيت ضيم كافور، وأنى قهرت كل طاغ.
وما كلّ من قال قولا وفى ... ولا كلّ من سيم خسفاً أبى
سيم: أي كلف. والخسف: الذل.
يقول: ما كل أحد إذا قال قولاً، صدق قوله كمال فعله، وليس كل من حمل على ضيم أباه ودفعه عن نفسه.
ومن يك قلبٌ كقلبي له ... يشقّ إلى العزّ قلب التّوى
التوى: الهلاك، أي من كان له مثل قلبي، دخل قلب الهلاك، حتى يصل إلى العز والعلا.
ولا بدّ للقلب من آلةٍ ... ورأيٍ يصدّع صمّ الصّفا
يقول: إن الإنسان لا يكفيه جرأة قلبه، حتى يكون له رأي صائب، وآلة يتوصل بها إلى مرامه، وإلا أدته شجاعته إلى هلاكه.
وكلّ طريقٍ أتاه الفتى ... على قدر الرّجل فيه الخطا
يقول: كل فعل يفعله الرجل على قدر شجاعته وهدايته، وعلى حسب رأيه.
ولما جعل الفعل طريقاً استعار فيه ذكر الرجل والخطا.
ونام الخويدم عن ليلنا ... وقد نام قبل عمىً لا كرى
عنى بالخويدم: كافورا.
يقول: إنه قد نام عن الليل الذي سرنا فيه، وكان في حال يقظته أيضاً نائماً؛ لعمى قلبه لا من النوم الحقيقي.
وكان على قربنا بيننا ... مهامه من جهله والعمى

يقول: قد كان كافور على قرب ما بيننا في المسافة بجسمه، بعيداً منا؛ لجهله وعمى قلبه.
لقد كنت أحسب قبل الخصىّ ... أنّ الرّءوس مقرّ النّهى
النهى: العقول، واحدها نهية.
يقول: كنت قبل أن أرى كافورا أظن أن العقل يحل الرءوس، فكان الأمر لما رأيته بخلاف ذلك.
فلمّا نظرت إلى عقله ... رأيت النّهى كلّها في الخصى
أي ظننت أن العقل يحل الرأس، فلما رأيت كافوراً وقلة عقله، صح عندي أن محل العقل إنما هو الخصى؛ لأنه لما قطعت خصيته زال عقله.
وماذا بمصر من المضحكات ... ولكنّه ضحكٌ كالبكا
يقول: ماذا في مصر من أحوال عجيبة مضحكة ! ولكنه ليس يضحك منها ضحك فرح، ولكنه يضحك تعجباً، وهذا الضحك كالبكاء.
بها نبطيٌّ من أهل السّواد ... يدرّس أنساب أهل الفلا
يقول: من جملة ما فيها من المضحكات نبطي بها، من أهل السواد، يقرأ عليه أنساب العرب، وهو يدرك هذه الأنساب، وهذا مما يضحك منه.
وكان اسم الرجل ابن خنزابة وكان أديباً بمصر.
وأسود مشفره نصفه ... يقال له: أنت بدر الدّجى
ويقول: ومنها أسود قبيح الوجه، تدلت شفته كأنها مقدار نصفه، مع ذلك يقال له: أنت بدر الدجى ! وعنى به كافوراً.
وشعرٍ مدحت به الكركدن ... ن بين القريض وبين الرّقى
الكركدن: كلمة تقال لكل قبيح، وقيل: هو دابة بالهند.
يقول: ومنها شعري الذي مدحت به كافورا، كان في ظاهره شعراً، وفي باطنه رقيةً أرقيه بها من جنونه.
فما كان ذلك مدحاً له ... ولكنّه كان هجو الورى
يقول: ما قلت فيه من المدح ليس بمدح له، وإنما كان هجو للناس؛ لأنهم رغبوا عن الحمد وجميل الذكر، فأحوجوني إلى مدحه. فمدحي له يدل على سقوط الخلق وخستهم.
وقد ضلّ قومٌ بأصنامهم ... فأمّا بزقّ رياحٍ فلا
يقول: قد ضل قوم بالأصنام فعظموها لحسنها، وما سمعت أن أحداً عبد زقاً منفوخاً ! فلولا جهل أهل مصر، لما رضوا بحكمه.
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
يقول: إذا لم يعلم الإنسان قدر نفسه، فإن الناس يعلمون من حاله ما خفي عليه.
يعني: أن كافور إن كان نسي ما كان فيه من الخسة ومهانة القدر، فالناس يعلمون ذلك من حاله.
وقال أيضاً يهجو كافوراً
وأسود أمّا القلب منه فضيّقٌ ... نخيبٌ وأمّا بطنه فرحيب
النخيب: الفارغ الخالي، ويقال للجبان: نخيب. ومنخوب الفؤاد: يعنون أن صدره فارغ لا قلب فيه. والرحيب: الواسع.
يقول: هذا أسود ضيق القلب بالعطاء، جبان ليس فيه فؤاد، وبطنه واسع عظيم، أو أنه شره ليس له همة إلا جوفه.
يموت به غيظاً على الدّهر أهله ... كما مات غيظاً فاتكٌ وشبيب
الهاء في به للأسود، وفي أهله للدهر، وغيظاً مفعول له.
يقول: إن الناس إذا رأوا حالة كافور ماتوا غيظاً على الدهر - حيث ألقى الدهر إليه أزمة الملك - كما مات شبيب العقيلي وفاتك المجنون غيظاً على الدهر.
أعدت على مخصاه ثمّ تركته ... يتبّع منّى الشّمس وهي تغيب
مخصاه: موضع خصيته.
يقول: أخزيته بهجائي له، فكأني خصيته ثانية، ثم رحلت عنه وتركته ينظر إلى الشمس وقت غروبها. أي لا يصل إلي، كما لا يصل إلى الشمس إذا غابت.
ومثله للمجنون:
فأصبحت من ليلي الغداة كناظرٍ ... مع الصّبح في أعقاب نجمٍ مغرّب
إذا ما عدمت الأصل والعقل والنّدى ... فما لحياةٍ في جنابك طيب
يعني: إذا عدمت جميع خصال الخير فلا يطيب لأحد الحياة في قربك.
وأنشده صديق له بمصر من كتاب الخيل لأبي عبيدة وهو نشوان:
تلوم عليّ أن أمنح الورد لقحةً ... وما تستوي والورد ساعة تفزع
فأجابه أبو الطيب:
بلى تستوي والورد، والورد دونها ... إذا ما جرى فيك الرّحيق المشعشع
الورد اسم فرس كان لقائل البيت. فلامته امرأته على قيامه بتعهده وإيثاره على عياله، فرد عليها بأبيات منها هذا البيت، وبين أن هذا الفرس أنفع في حال الشدة منها.
فقال أبو الطيب: إن هذا غير مستمر، بل هي مثل الورد، بل الورد دونها في حال اللذة والشرب. والرحيق: الخمر، المشعشع: الممزوج.
هما مركبا أمنٍ وخوفٍ فصلهما ... لكلّ جوادٍ من مرادك موضع

يقول: كل واحد منهما لحال، فالمرأة لحال الأمن، والفرس لحال الخوف، فكما يكرم أحدهما ليومه فكذلك الآخر.

خبره مع فاتك
كان أبو شجاع فاتك الكبير المعروف بالمجنون رومياً، أخذ صغيراً، وأخ وأخت له من بلاد الروم، قرب حصن يعرف بذي الكلاع، فتعلم الخط بفلسطين، وهو ممن أخذه ابن طغج من سيده وهو بالرملة كرهاً بلا ثمن، فأعتقه صاحبه، فكان معهم حراً في عدة المماليك، كريم النفس حر الطبع، بعيد الهمة.
وكان في أيام كافور مقيماً بالفيوم من أعمال مصر وهو بلد كثير الأمراض، لا يصح به جسم، وإنما أقام به أنفةً من الأسود وحياءً من الناس أن يركب معه، وكان الأسود يخافه، ويكرمه، فزعاً، وفي نفسه ما في نفسه فاستحكمت العلة في بدن فاتك، وأحوجته إلى دخول مصر فدخلها، ولم يمكن أبا الطيب أن يعوده، وفاتك يسأل عنه ويراسله بالسلام، ثم التقيا في الصحراء، فحمل إلى منزله للوقت هدية قيمتها ألف دينار ذهباً، ثم أتبعها هدايا بعدها.
فقال أبو الطيب يمدحه في جمادى الآخر. سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة.
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النّطق إن لم تسعد الحال
يقول لنفسه: ليس عندك خيل ولا غيرها من الأموال تهديها إلى فاتك، مكافأة على إحسانه، فأنت قادر على مدحه، فساعده بالقول الجميل، إن لم يساعدك الحال على الأجر الجزيل. وهذا كقول الحطيئة.
إلاّ يكن مالٌ يثاب فإنّه ... سيأتي ثنائي زيداً بن مهلهل
ومثله للمهلبي:
إن يعجز الدّهر كفّى عن جزائكم ... فإنّني بالهوى والشّكر مجتهد
وأجز الأمير الّذي نعماه فاجئةٌ ... بغير قولٍ، ونعمى النّاس أقوال
فاجئة: اسم فاعل من الفجاءة.
يقول: كافئ الأمير الذي يفاجئ بإنعامه من غير وعد، وغيره يقول ولا يفعل: يعرض بكافور.
فرّبما جزت الإحسان موليه ... خريدةٌ من عذارى الحيّ مكسال
الخريدة: الجارية الناعمة، وقيل الكثيرة الحياء. والمكسال من النساء: الفاترة القليلة التصرف.
يقول: إذا كانت النساء مع ضعفهن، وعادتهن كفران النعم، ربما جازين من أحسن إليهن، فأنت أقدر على شكر من أحسن إليك.
وخص من النساء الخريدة المكسال؛ لضعفها وفتورها.
وإن تكن محكمات الشّكل تمنعني ... ظهور جريٍ فلي فيهنّ تصهال
الشكل: جمع الشكال.
يقول: إن كان ضيق حالي يمنعني من مكافأتك فعلا، فإني أكافئك قولاً يظهر ما في نفسي، كصهيل الجواد يظهر ما في نفسه من الشوق إلى الجري. شبه نفسه بالجواد المشكول، إذا لم يقدر على الجري صهل شوقاً إليه.
وقيل: معناه إذا لم أقدر على المكاشفة بنصرتك على كافور، فإني أمدحك، وإني في ذلك كالجواد المشكول عن الجري فإنه يصهل شوقاً إليه.
وما شكرت لأنّ المال فرّحني ... سيّان عندي إكثارٌ وإقلال
الإكثار: كثرة المال. والإقلال: قلته، وأراد الغنى والفقر.
يقول: لم أشكر؛ لفرحي بالمال الذي أسديته إلي، وسواء عندي الغنى والفقر.
لكن رأيت قبيحاً أن يجاد لنا ... وأنّنا بقضاء الحقّ بخّال
بخال: جمع باخل.
يقول: إنما شكرت لك لأني رأيت بخلي بقضاء الحق مع جودك علي قبيحاً.
قال ابن جني: لما وصلت في القراءة إلى هذا الموضع، قال المتنبي: هذا رجل حمل إلي ألف دينار في وقت واحد.
قال: وما رأيته أشكر لأحد منه لفاتك، وكان يترحم عليه كثيراً.
فكنت منبت روض الحزن باكره ... غيثٌ بغير سباخ الأرض هطّال
يقول: نمت صنيعته عندي، وزادت كالأرض الطيبة إذا صابها المطر الكثير ولم يذهب باطلا، كالمطر في الأرض السبخة.
غيثٌ يبيّن للنّظّار موقعه ... أنّ الغيوث بما تأتيه جهّال
موقعه: فاعل يبين، ويجوز فيه النصب، فيكون فاعله ضمير الغيث.
يقول: إن فاتكاً غيث يولي بإنعامه من هو أهله، فإذا نظر الناس علموا أن الغيوث جاهلة بما تفعله: من سقى المكان السبخ والطيب. فموقع نعمه يبين هذا المعنى.
لا يدرك المجد إلا سيّدٌ فطنٌ ... لما يشقّ على السّادات فعّال
يقول: لا يصل إلى المجد إلا كل فطن يراعي أحوال القضاء، ويتحمل المشاق التي تشق على سائر السادات.
لا وارثٌ جهلت يمناه ما وهبت ... ولا كسوبٌ بغير السّيف سآل

يقول: لم يرث هذا المال الذي وهبه من آبائه فيجهل قدره، حيث لم يلحقه عناء بجمعه، بل كبه بسيفه وقهر عليه أعداءه، ولم يجمعه بالسؤال، حتى لا يعرف خطره.
ولا في قوله: لا وراث بمعنى غير: أي غير وارث. وقيل: إنها اطفة كقولك: جاءني زيد لا عمرو: أي لا يدرك المجد إلا سيد فطن لا وراث جاهل بقدر ما يهب.
قال الزّمان له قولاً فأفهمه ... إنّ الزّمان على الإمساك عذّال
يعني: أن الزمان أيقظه بتصاريفه، حتى كأنه عذله على الإمساك، وأمره بأن يهب كيما يكسب المجد والشرف، فكأنه قال هذا القول:
تدري القناة إذا هتزّت براحته ... أنّ الشّقيّ بها خيلٌ وأبطال
يقول: إذا تحركت القناة في يده، علمت أنه يقتل بها الأبطال، والخيل. وهذه الأبيات من تمام قوله: لا يدرك المجد إلا سيد فطن.
كفاتكٍ. ودخول الكاف منقصةٌ ... كالشّمس قلت، وما للشّمس أمثال
يعني. لا يبلغ المجد إلا سيد كفاتك، ثم استدرك وقال: ودخول الكاف منقصة أي إذا قلت: كفاتك جعلت له نظيراً، ولا نظير له، ثم اعتذر فقال: إنما قلت: كفاتك مع علمي أنه لا نظير له، كما أشبه الأشياء بالشمس، وأعلم أنه لا مثل لها، ولم يوجب ذلك نقصا فيها كذلك هذا. ومثله لآخر:
لقد جلّ في أوصافه وخطابه ... عن الكاف إلا أن يقال كريم
القائد الأسد غذّتها براثنه ... بمثلها من عداه وهي أشبال
يقول: هو يقود غلماناً رباهم بأسلاب أعدائه، حتى صاروا كالأسود. وقوله: بمثلها أي غذتهم براثنه: أي سيوفه، بأسلاب أسود أمثالهم من أعدائهم، وهذه الأسود أشباله.
جعله أسداً، وغلمانه حوله كالأشبال.
القاتل السّيف في جسم القتيل به ... وللسّيوف كما للنّاس آجال
يقول: يضرب الفارس بسيفه فيقتله، وبكسر السيف في جسمه. وقوله: والسيوف كما للناس آجال أخده من قوله صلى الله عليه وسلم: لا تضربوا إماءكم بكسر إنائكم، فإن لها آجالاً كآجالكم والمصراع الأول مثل قوله:
قتلت نفوس العدي بالحدي ... د حتّى قتلت بهنّ الحديدا
تغير عنه على الغارات هيبته ... وما له بأقاصي الأرض أهمال
الأهمال: جمع الهمل والهمال، والهمل: جمع الهامل، وهو المال المهمل في المرعى بلا راع.
يقول: إن هيبته تغير عن الممدوح غارات اللصوص: أي تبعدهم عن التعرض لماله، فماله يرعى في المرعى مهمل بلا راع، فلا يتعرض إليه أحد من الهيبة.
له من الوحش ما اختارت أسنّته: ... عيرٌ وهيقٌ وخنساءٌ وذيّال
العير: حمار الوحش والهيق: ذكر النعام والأنثى هيقة، والخنساء: البقرة الوحشية، والذيال: الثور الوحشي.
يقول: إنه يقدر على اصطياد كل ما يختاره.
تمسي الضّيوف مشهّاةً بعقوته ... كأنّ أوقاتها في الطّيب آصال
عقوته سهله وما قرب منه. والمشهاة: من قولهم: شهيته: أي جعلته يشتهي، أو أنلته ما يشتهي. والآصال: جمع أصل، وأصل: جمع أصيل، وهو بعد العصر؛ وذلك الوقت يطيب خاصة في الصيف.
يقول: إنه يكرم أضيافه، ويمكنهم من كل ما يشتهونه، فأوقاتهم كلها عنده طيبة كالآصال.
لو اشتهت لحم قاريها لبادرها ... خراذلٌ منه في الشّيزى وأوصال
القاري: المضيف، وهو الممدوح، ولحم خراذل بالذال والدال: مقطع والواحد خرذلة. والشيزى: جفان سود يقال إنها من الشيز.
قال الأصمعي: الشيز لا يعمل منه الجفان، وإنما تعمل من الجون فتسود من الدسم فتشبه الشيز، والهاء في قاريها وبادرها للأضياف، وفي منه للحم ويجوز أن يكون للممدوح.
يقول: لو اشتهت الأضياف لحمه لنحر لهم نفسه، وحملت قطعاً إلى الضيوف في الجفان، وحملت إليهم أوصاله مقطعةً.
لا يعرف الّزء في مالٍ ولا ولدٍ ... إلا إذا حفز الضّيفان ترحال
الحفز: التحريك والإزعاج.
يقول: لا يغتم لشيء أصابه في ماله وولده، وإنما يحزن عندما يتأهب الضيف للرحيل.
يروى صدى الأرض من فضلات ما شربوا ... محض اللّقاح، وصافي اللّون سلسال
الصدى: العطش، وأراد ها هنا يبس الأرض. والمحض: اللبن الخالص. واللقاح: جمع لقحة، وهي الناقة التي تحلب. والسلسال: الشراب الصافي السهل المساغ، وأراد به الخمر.
يقول: إذا رحل أضيافه أراق ما يبقى من شرابهم من اللبن والخمر، ولم يدخره لغيرهم، لأنه يتلقى كل ضيف بقرىً جديد.

تقرى صوارمه السّاعات عبط دمٍ ... كأنّما السّاع نزّالٌ وقفّال
العبط والعبيط: الدم الطري واللحم. والساع: جمع ساعة.
يقول: يريق كل ساعة دماً طرياً من أعدائه، ويذبح وينحر للأضياف، فكأنه يقري الساعات بما يريقه من الدماء، وكأنها قوم ينزلون، وقوم يقفلون عنه.
تجري النّفوس حواليه مخلّطةً ... منها عداةٌ وأغنامٌ وآبال
النفوس: الدماء وقد روى ذلك أيضاً.
يقول: إنه يقتل الأعداء وينحر الآبال ويذبح الأغنام، فتختلط الدماء بعضها ببعض.
والتقدير: منها دماء أعداء ومنها دماء أغنام. فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
لا يحرم البعد أهل البعد نائله ... وغير عاجزةٍ عنه الأطيفال
الأطيفال: تصغير أطفال.
يقول: يصل نواله إلى القريب والبعيد، والقوي والضعيف، فلا يحرم البعيد نائله لأجل بعده، والصغير لا يعجز منه لصغر سنه.
أمضى الفريقين في أقرانه ظبةً ... والبيض هاديةٌ والسّمر ضلاّل
يقول: إذا التقى الجيشان، وسقطت الرماح السمر، وآل الأمر إلى السيوف البيض، فهو أمضى الفريقين سيفا في ذلك الوقت.
يريك مخبره أضعاف منظره ... بين الرّجال وفيها الماء والآل
الهاء في فيها للرجال.
يقول: إذا جربته في الحرب رأيت منه أضعاف منظره. وفي الرجال من له حقيقة كالماء، وفيهم من لا حقيقه له كالسراب.
وقد يلقّبه المجنون حاسده ... إذا اختلطن وبعض العقل عقّال
العقال: داء يأخذ الدابة في الرجلين، فيعقلهما عن التصرف. ويجوز تخفيفه. وقوله: إذا اختلطن قيل: أراد به الصفوف فأضمر، وقيل: أراد به خيله وخيل عدوه.
كان فاتك يلقب بالمجنون، فصرح بذكر لقبه ثم تخلص منه أحسن تخلص، حتى فضل الجنون على العقل.
فيقول: إنما جنونه عند اختلاط الصفوف، والعقل في ذلك الوقت عقال على صاحبه، فجنونه: شجاعة وإقدام، لا كما يزعمه الحاسد. فحسن لقبه !
يرمي بها الجيش لا بدٌّ له ولها ... من شقّه ولو أنّ الجيش أجبال
بها أي بالخيل، والهاء في له للمدوح.
يقول: يرمي بخيله جيش العدو، فلا بد له ولخيله من شق الجيش، وإن كان كالجبل شدة وثباتا.
إذا العدى نشبت فيهم مخالبه ... لم يجتمع لهم حلمٌ ورئبال
نشبت: ثبتت. والرئبال: الأسد.
يقول: هو في يوم الحرب أسد، فإذا نشبت مخالب الأسد في فريسة، فلم يكن حينئذ حلم، إذ الحلم لا يوجد مع الأسد.
وهذا تأكيد لتحسين لقبه، وتفضيله على العقل.
يروعهم منه دهرٌ صرفه أبداً ... مجاهرٌ وصروف الدّهر تغتال
يقول: هو على أعدائه كالدهر، يروعهم أبداً بحروبه وغاراته مجاهرة، بخلاف صروف الدهر فإنها تغتالهم ولا تجاهرهم. فضلة على الدهر.
أناله الشّرف الأعلى تقدّمه ... فما الّذي بتوقّي ما أتى نالوا
ما في قوله: فما الذي قيل: للاستفهام على جهة الإنكار، الذي في موضع نصب بنالوا والتوقي: مصدر توقي، وهو مضاف إلى ما الثانية وما في موضع الجر، وتقديره: فأي شيء نالوا بتوقيهم ما أتاه هو ؟ يقول: أوصه إلى نيل الشرف الأعلى جرأته، فما الذي نال أعداؤه لما توقوا ما أتاه، وأشفقوا على أنفسهم ؟ وقيل: ما الأولى نفي والثانية بمعنى الذي. ويتوقى فعل مضارع انتصب به ما والذي في موضع الذين.
والمعنى: أن تقدمه أناله الشرف الأعلى، فليس الذين يتوقون الشرف الذي أتاه هو، نالوا ما ناله من الشرف. أي إنهم لما جبنوا عن مباشرة الشدائد لم ينالوا ما ناله.
إذا الملوك تحلّت كان حليته ... مهنّدٌ وأصمّ الكعب عسّال
اسم كان مضمر، والجملة في موضع النصب على أنها خبر كان: أي كان هو، أو كان الأمر والشأن حليته مهند، ولو نصبت حليته على الخبر وجعلت مهنداً اسمها كان قبيحاً، لأن الخبر يكون معرفة والاسم نكرة، ومثل هذا قد جاء في الشعر.
يقول إذا تزين الملوك بالحلل وأنواع الحلي فهو يتزين بسيفه ورمحه.
والعسال: الرمح المضطرب.
أبو شجاعٍ أبو الشّجعان قاطبةً ... هولٌ نمته من الهيجاء أهوال
نمته ها هنا أي ولدته، وأصله من الانتماء، وهو الانتساب.
يقول: من حقه أن يكنى أبا الشجعان قاطبة، لا أبا شجاع واحد. وهو هول نمته أهوال من الهيجاء: أي ممارة الخطوب أعلت قدره وصارت نسباً له ينتمي إليه.

أبو شجاع: مبتدأ. وأبو الشجعان: بدل منه. وقاطبةً: نصب على المصدر أو الحال. وهول خبر المبتدأ. وأهوال رفع بنمته ويجوز أن يكون أبو شجاع مبتدأ وأبو الشجعان خبره. وهول خبر ابتداء محذوف: أي هو هول، أو بدل من أبي الشجعان.
تملّك الحمد حتّى ما لمفتخر ... في الحمد حاءٌ ولا ميمٌ ولا دال
يقول: قد استولى على الحمد كله واستحقه بفضله، حتى لم يبق لأحد شيء من الحمد وأجزائه.
عليه منه سرابيلٌ مضاعفةٌ ... وقد كفاه من الماذيّ سربال
يقول: عليه من الحمد. سرابيل ظاهرة مضاعفة، وفي الحرب يكتفي بدرع واحد. يعني لا يرضى من الحمد إلا بالسرابيل المضاعفة ويكفيه في الحرب سربال واحد.
وقيل: عليه لباس الحمد المضاعف، وقد كفاه الدرع وإن لم يكن الحمد، فاجتمعا له جميعا، حتى يكون ذلك أشرف له.
وكيف أستر ما أوليت من حسنٍ ... وقد غمرت نوالاً أيّها النّال
رجل نال: أي كثير النوال.
يقول: كيف أستر أفضالك، وقد أكثرت علي نوالك وغمرتني به، حتى لا يمكنني ستره.
لطّفت رأيك في وصلي وتكرمتي ... إنّ الكريم على العلياء يحتال
يقول: لطفت رأيك واحتلتفي إحراز ثنائي ومدحي، وهذه عادة الكرام بتوصلون إلى اكتساب المعالي بكل حيلة.
حتّى غدوت وللأخيار تجوالٌ ... وللكواكب في كفّيك آمال
يقول: لما تلطفت في إكرامي ومدحتك فجال ذكرك بين الناس، وطمعت النجوم في نوالك.
وهذان البيتان مدح أبو الطيب بهما نفسه ! يعني: أنا كالنجم من بعدي من عطاء مثلك ! فلما احتلت في إيصال برك إلي رغبت النجوم أيضا في نوالك.
وقد أطال ثنائي طول لابسه ... إنّ الثّناء على التّنبال تنبال
التنبال: القصير، وعنى بطول لابسه طول السؤدد والكرم.
يقول: إذا مدح الانسان كريما كثير الفضائل طال حمده بطول كرمه، وجاد شعره، وإذا مدح لئيما قليل الكرم لؤم شعره وقل؛ لأن المادح لا يجد ما يمدح به.
إن كنت تكبر أن تختال في بشرٍ ... فإنّ قدرك في الأقدار يختال
يقول: إن كنت ترفع نفسك من أن تتكبر على الناس، فإن قدرك يختال على كل قدر ويتكبر على كل ذي فخر.
كأنّ نفسك لا ترضاك صاحبها ... إلا وأنت على المفضال مفضال
ولا تعدّك صوّاناً لمهجتها ... إلاّ وأنت لها في الرّوع بذّال
يقول: كأن نفسك. تفوق كل متفضل من الناس ولا ترضى أن تكون صاحبها حتى تفضل على كل ذي فضل، ولا تعد أنك تصونها إلا بذلتها في الحرب، فأنت تقتحم على كل غمرة، وتحمل نفسك على كل مهلكة.
لولا المشقّة ساد النّاس كلّهم ... الجود يفقر والإقدام قتّال
يعني: أن السيادة لا تتم إلا ببذل المال ومخاطرة النفس، فالجود يؤدي إلى الفقر، والإقدام يفضي إلى العطب. ولولا مشقة هاتين الخلتين لكان الناس كلهم سادة.
وإنّما يبلغ الإنسان طاقته ... ما كلّ ماشيةٍ بالرّحل شملال
الشملال: الناقة السريعة الخفيفة. يعني: كل أحد يسعى على قدر همته ومبلغ طاقته، وليس الناس سواء، كما أنه ليس كل ناقة شملال.
إنّا لفي زمنٍ ترك القبيح به ... من أكثر النّاس إحسانٌ وإجمال
فصرنا في زمان لا خير عند أهله، فمن كف أذاه عن الناس فهو يحسن عندهم.
ولطف في قوله: من أكثر الناس حتى لا يدخل الممدوح.
ذكر الفتى عمره الثّاني، وحاجته ... ماقاته وفضول العيش أشغال
يقول: ذكر الإنسان بعد موته يقوم له مقام العمر الثاني، فكأنه موجود وغير معدوم، وحاجته من الدنيا ما يقوته، وما فضل عنه يكون شغلاً له.
يمنعه عن جمع المال ويحثه على العلا. وروى: ما فاته أي هو محتاج أبداً إلى ما لم ينله، فأما ما ناله فلا حاجة به إليه.
قال ابن جني: قد جمع في هذا البيت ما يعجز كل من يدعي الشعر والحكمة والكلام الشريف، فينبغي أن يلحق بالأمثال السائرة. ومثله لسالم بن وابصة:
غني النّفس ما يكفيك من سلخ حاجةٍ ... وإن زاد شيئاً كان ذاك الغني فقراً
وهو قد استوفى جميع ذلك وزاد عليه بقوله: ذكر الفتى عمره الثاني.
وتوفي أبو شجاع فاتك بمصر ليلة الأحد عشاء لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمسين وثلاث مئة.
فقال أبو الطيب يرثيه عند موته ويهجو كافوراً وأنشدها بعد رحيله عن الفسطاط:

الحزن يقلق والتّجمّل يردع ... والدّمع بينهما عصيٌّ طيّع
يقول: الحزن يحملني على الجزع، والتجمل يردعني عن الجزع، فدمعي متحير بين التجمل والقلق، يعصي التجمل ويطيع القلق.
يتنازعان دموع عين مسهّدٍ ... هذا يجيء بها وهذا يرجع
يقول: إن الحزن والتجمل يتنازعان: دموع عين لا تنام. هذا يجيء بها، أي الحزن يجيء بالدموع. وهذا يرجع. أي التجمل يردها.
النّوم بعد أبي شجاعٍ نافرٌ ... واللّيل معيٍ والكواكب ظلّع
يقال: ظلع يظلع إذا عي من التعب فهو ظالع، والجمع ظلع.
يقول: قد زال عني النوم بعد موت أبي شجاع، وطال علي الليل حتى كأنه معي لا نهوض له، والكواكب أيضا لا تبرح مكانها حتى كأنها غامزة.
يصف طول ليله عليه، ودوام سهره.
إنّي لأجبن من فراق أحبّتي ... وتحسّ نفسي بالحمام فأشجع
يقول: ليس حزني هذا من ضعف قلبي، ولكنه إلف وعادة، فنفسي إذا أحست بالموت أقدمت عليه، وإذا أحست بفراق صديق جبنت عنه.
ويزيدني غضب الأعادي قسوةً ... ويلمّ بي عتب الصّديق فأجزع
يقول: إذا غضب العدو، لم أبال بغضبه، بل ازددت قسوة عليه، وإذا عتب علي صديق أدنى عتب، جزعت منه.
تصفو الحياة لجاهلٍ أو غافلٍ ... عمّا مضى فيها وما يتوقّع
ولمن يغلط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
يقول: لا تصفو الحياة إلا لثلاث: إما جاهل بأحوال الدنيا، أو غافل عما مضى، وما ينتظره من الحياة، أو من يغالط نفسه في الحقائق، ويعللها بالأماني الكاذبة ويطمعها في الأمور المحالة.
أين الّذي الهرمان من بنيانه ؟ ... ما قومه ما يومه ما المصرع !!
الهرمان: بناءان شاهقان في الهواء، وسمك كل واحد منهما أربع مئة ذراع في عرض مثلها، لا يعرف من بناهما ! ويقال: بناهما عمرو المشلل.
ما قومه ؟ لفظه استفهام، ومعناه التعظيم يعني: أن هذا الباني مع قومه وعزه سلطانه، قد انقطع خبره، فلا يعلم من هو ولا من أي أمة هو !!
تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حيناً، ويدركها الفناء فتتبع
الهاء في أصحابها للآثار. يعني: ان الآثار تبقى بعد أربابها زمانا، ثم إن الفناء يبطل الآثار أيضاً، فتتبع في الفناء أصحابها.
لم يرض قلب أبي شجاعٍ مبلغٌ ... قبل الممات ولم يسعه موضع
يقول: كان بعيد الهمة، لم يرض من الدنيا منالا ناله، بل كان يطلب أكثر مما ناله، ولم يسعه موضع حتى مات، فكأنه كرهها فارتحل عنها.
كنّا نظنّ دياره مملوءةً ... ذهباً فمات وكلّ دارٍ بلقع
البلقع: الخالية، والجمع: بلا قع.
يقول: كنا نظن أن خزائنه مملوءة من الذهب؛ لكثرة ما كان يهبه من الأموال، فلما مات وجدنا دياره خالية من المال؛ لأنه وهب ماله في حال حياته، ولم يجمع إلا أربعة أشياء ذكرها فيما يليه:
وإذا المكارم والصّوارم والقنا ... وبنات أعوج كلّ شيءٍ يجمع
بنات أعوج: هي الخيل، تنسب إلى فحل كريم في العرب يقال له: أعوج.
يقول: كل شيء جمعه في خزانته فهو هذه الأشياء، دون الذهب وسائر الأموال. ومثله لآخر:
ولم يك كنزه ذهباً ولكن ... سيوف الهند والحلق المذالا
المجد أخسر والمكارم صفقةً ... من أن يعيش لها الكريم الأروع
الأروع: الجميل الذي يروعك جماله.
يقول: إن المجد والمكارم قد خسرت صفقتها فلا يعيش لها كريم يعتني بأمرهما.
وتقدير البيت في الظاهر: المجد والمكارم أخسر صفقة. وإعرابه على غير هذا الوجه؛ لأنك إذا علقت صفقة بأخسر كنت قد فصلت بين الصلة والموصول بقولك: والمكارم ولكن تحمله على إضمار فعل ينصب به صفقة كأنك قلت: المجد أخسر والمكارم كذلك، وتم الكلام، ثم استأنفت صفقة وأضمرت فيه فعلا أي: خسر المجد صفقة.
والنّاس أنزل في زمانك منزلاً ... من أن تعايشهم وقدرك أرفع
يقول لفاتك: إن الناس أنزل درجةً من أن يستحقوا أن تعيش معهم، وأنت أرفع قدراً من أن تصاحبهم، فلما أنفت من ذلك اخترت الموت.
برّد حشاي إن استطعت بلفظةٍ ... فلقد تضرّ إذا تشاء وتنفع
يقول: إن قلبي فيه حرارة الحزن، فبرده بلفظة منك أنتفع بها؛ لأنك قد كنت قادراً على ضر من شئت ونفع من أردت، فذلك لم يتعذر عليك.

ما كان منك إلى خليلٍ قبلها ... ما يستراب به ولا ما يوجع
قبلها: أي قبل هذه الحالة، أو هذه المصيبة، وما يستراب: أي ما يكره.
يقول: لم يكن منك قبل هذه الحالة ما يريب صديقك ويوجعه.
ولقد أراك وما تلمّ ملمّةٌ ... إلا نفاها عنك قلبٌ أصمع
قلب أصمع: أي ذكي.
يقول: إذا نالتك مصيبة، تدفعها عنك بقوة قلبك، وحدة ذكائك.
ويد كأنّ نوالها وقتالها ... فرضٌ يحقّ عليك وهو تبرّع
ويد عطف على قلب.
يقول: كنت أعرفك، إذا نزلت بك حادثة دفعتها عنك بذكاء قلبك وشدة ساعدك، فما بالك لم تدفعها الآن عنك ؟؟! وقوله: كأن نوالها وقتالها أي أنك لم تبخل بقتال ولا بذل نوال، حتى كأنهما واجبان عليك، وهو تبرع وتفضل.
يا من يبدّل كلّ يومٍ حلّةً ... أنّى رضيت بحلّةٍ لا تنزع ؟
أي: يا من كان يبدل، فحذف كان وكذلك فيما قبله، كقوله تعالى: " واتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ " أي ما كانت تتلوا.
يقول: كنت تنزع كل يوم حلة للسؤال، وتلبس حلة جديدة، فكيف رضيت الآن بحلة لا تنزعها أبداً، ولا تبدلها بغيرها ؟ يعني الكفن.
ما زلت تخلعها على من شاءها ... حتّى لبست اليوم ما لا تخلع
يقول: لم تزل تخلع حلتك على من طلبها حتى لبست الآن حلةً لا يشتهيها أحد، ولا يسألك أن تخلعها عليه. والهاء في تخلعها وشاءها للحلة.
ما زلت تدفع كلّ أمرٍ فادحٍ ... حتّى أتى الأمر الّذي لا يدفع
يقول: كنت تدفع كل حادثة عظيمة تنزل بك، حتى نزل بك الآن ما لا يمكن أحد دفعه يعني: الموت.
فظللت تنظر لارماحك شرّعٌ ... فيما عراك ولا سيوفك قطّع
عراك: أي أتاك.
يقول: لما نزل بك حادث الموت، لم تغن عنك رماحك وسيوفك، لكنك ظللت تنظر إلى أصحابك، ولا يقدر أحد على دفعه عنك.
بأبي الوحيد وجيشه متكاثرٌ ... يبكي ومن شرّ السّلاح الأدمع
يقول: أبي فداء المتوحد الذي جيشه كثير.
يعني: أن جيشه لا يقدر على دفع الموت عنه.
جعله وحيداً لا ناصر له، وكأن جيشه يبكي عليه، لأنهم لا يملكون له شيئاً سوى البكاء ثم قال: والدموع شر السلاح؛ لأنه لا يدفع بها حادثة.
وإذا حصلت من السّلاح على البكا ... فحشاك رعت به، وخدّك تقرع
يقول: إذا كان رأس سلاحك هو البكاء لم يصل ضرره إلا إليك، لأنك تؤلم به قلبك وتقرع به خدك.
وصلت إليك يدٌ سواءٌ عندها ال ... بازي لاشهب والغراب الأبقع
أراد يد الدهر، والمراد بالبازي لاشهب: الكريم. وبالغراب الأبقع: اللئيم. يعني: أن الموت إذا جاء لم يفرق بين الشريف والوضيع.
من للمحافل والجحافل والسّرى ؟ ... فقدت بفقدك نيّراً لا يطلع
المحافل: المجالس، وقيل: هي جماعات الناس. والجحافل: الخيل. والسرى: جمع سراية. كأن قوام هذه الأشياء، نيرها الذي غاب عنها فلا يطلع أبدا.
ومن اتّخذت على الضّيوف خليفةً ؟ ... ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيّع
من استفهام. يعني: كنت تتعاهد أمر أضيافك، فمن الذي تركت بعدك خليفة يقوم بأمورهم ؟ فإنهم ضاعوا، ولم يكن من عادتك أن تضيع أحداً.
قبحاً لوجهك يا زمان ! فإنّه ... وجهٌ له من كلّ قبحٍ برقع
يقول: قبح الله وجهك يا زمان ! فإنه وجه مبرقع بكل لؤم: أي كل فعل مذموم مجتمع فيك !
أيموت مثل أبي شجاعٍ فاتكٍ ... ويعيش حاسده الخصيّ الأوكع ؟!
الأوكع الذي تميل إبهام رجله على أصابعه حتى تخرج عن أصله، ويجوز أن يكون فاتك رفع بدلا من مثل وجر بدلا من من أبي شجاع.
أنكر على الزمان موت فاتك وحياة كافور بعده، وقال: تترك كافوراً مع لؤمه، وتهلك فاتكا مع شرفه وكرمه ؟! وإنما تفعل ذلك للؤمك، فأنت تحامي من كان مثلك. وقوله: أيموت مثل أبي شجاع: أي يموت أبو شجاع، ومثل زائدة.
أيدٍ مقطّعةٌ حوالي رأسه ... وقفاً يصيح بها: ألا من يصفع ؟
يقول: إن كافوراً للؤمه وخسته يبعث الناس على صفعه، فكأن قفاه يصيح: هل من أحد يصفعني ؟ ولكن كأن أيدي من حوله مقطوعة لا يقدرون على صفعه وتناوله. وهذا على معنى الخبر، أن أيديهم كذلك. ويجوز أن يكون دعاء على أصحابها فكأنه يقول: قطع الله هذه الأيدي.
أبقيت أكذب كاذبٍ أبقيته ... وأخذت أصدق من يقول ويسمع
ويسمع: أي يجيب.

يقول للزمان أو للموت: أبقيت كافوراً الذي هو أكذب الناس قولا، وأخذت فاتكاً الذي هو أصدقهم قولا ووعدا..
وتركت أنتن ريحةٍ مذمومةٍ ... وسلبت أطيب ريحةٍ تتضوّع
ريح وريحة ورائحة بمعنى. وتضوعت رائحة الطيب: إذا انتشرت. وهذا البيت كالذي قبله.
يعني: بأنتن ريحة كافوراً وبأطيب ريحة فاتكا.
فاليوم قرّ لكلّ وحشٍ نافرٍ ... دمه وكان كأنّه يتطلّع
يقول: إنه كان يديم قنص الوحش، فلما مات استقر دم كل وحش في جلده بعد أن كان الدم يتطلع: أي يهم بالخروج من غير أن يجريه خوفا منه.
وقيل: يتطلع الوحش: أي كان يهم بالخروج ولم يخرج خوفاً منه.
وتصالحت ثمر السّياط وخيله ... وأوت إليها سوقها والأذرع
ثمر السياط: أطرافها.
يقول: إنه كان يديم ضرب خيله بالسياط في الحروب والغارات والصيد وطرد الوحش، فلما مات تصالحت السياط مع خيله، حتى سكنت إليها سوق الخيل وأذرعها، وأمنت أذاها وألمها، إذ لا يضربها أحد بالسياط بعده.
وعفا الطّراد فلا سنانٌ راعفٌ ... فوق القناة ولا سنانٌ يلمع
الطراد: مطاردة الفرسان. وقيل: هو الرمح الصغير. وعفا: أي درس.
يقول: عفا بموته رسم الطعان والضراب، فلا يرى بعده سنان راعف: أي قد طعن به فهو يقطر دما، وكذلك لا يرى سيف يلمع ويبرق.
ولّى وكلّ مخالمٍ ومنادمٍ ... بعد اللّزوم مشيّعٌ ومودّع
المخالم: المصادق.
يقول: لما مات تفرقت ندماؤه وأصدقاؤه، فودع بعضهم بعضا وشيعه، بعد أن كانوا ملازمين لا يتفرقون. وقيل: أراد ودع فاتكاً كل منادم وصديق.
قد كان فيه لكلّ قومٍ ملجأ ... ولسيفه في كلّ قومٍ مرتع
يقول: قد كان فاتك ملجأ ينتمي إليه كل قوم عندما يقع لهم من الحوادث، وكذلك سيفه كان يقتل كل قوم، فكأنه يرتع في لحوم القتلى.
إن حلّ في فرسٍ ففيها ربّها ... كسرى تذلّ له الرّقاب وتخضع
الفرس: أهل فارس. والهاء في فيها ترجع إلى الفرس، وأراد به أرض فارس، أو القبيلة أو الجماعة.
أو حلّ في رومٍ ففيها قيصرٌ ... أو حلّ في عربٍ ففيها تبّع
يقول: إن فاتكا كان في الفرس كسرى، وفي الروم قيصرا، وفي العرب تبعا. والتبابعة: ملوك اليمن.
قد كان أسرع فارسٍ في طعنةٍ ... فرساً، ولكنّ المنيّة أسرع
فرسا: نصب على التمييز. والتقدير: كان أسرع فارس فرسا في طعنه.
يقول: كان أحذق بالطعن من كل فارس، وفرسه أسرع من كل فرس، ولكن لم ينفعه ذلك حين جاء الموت.
لا قلّبت أيدي الفوارس بعده ... رمحاً ولا حملت جواداً أربع
يعني: أنه كان حاذقاً بركوب الخيل والطعن بالرماح، فإذا قامت فلا حملت فرسا قوائمه الأربع، ولا حمل فارس رمحا بيده.
؟

العراقيات الأخيرة
ودخل صديق لأبي الطيب عليه بالكوفة وبيده تفاحة من ند، مما جاءه في هدايا فاتك، عليها اسمه فناوله إياها فقرأها..
فقال أبو الطيب يرثي فاتكا:
يذكّرني فاتكاً حلمه ... وشيءٌ من النّدّ فيه اسمه
يقول: إن حلم فاتك يذكرني فاتكاً، حتى لا أنساه، فكلماً رأيت حليما تذكرته، وكذلك يذكرني فاتكاً قطعةٌ من ند كتب عليها اسمه.
ولست بناسٍ ولكنّني ... يجدّد لي ريحه شمّه
التقدير: ولست بناس إياه، أو بناس عهده. والهاء في ريحه لفاتك وفي شمه لشيء من الند.
لما قال: إن اسمه وحلمه يذكراني إياه، كان ذلك دلالة على النسيان فاستدرك ذلك في البيت وقال: لست أنساه حتى أتذكره، ولكن شم هذا الند جدد لي ريحه، وطيب شمائله.
وأيّ فتىً سلبتني المنون ؟ ... لم تدر ما ولدت أمّه !
أمه يجوز أن يرفع بالفعل الأول وهو لم تدر ويجوز أن يرفع بالفعل الثاني وهو: ولدته.
يقول: أي فتىً أخذته المنون عني، ثم عظم أمره وقال: إن أمه لم تدر ما ولدته، لأنها ولدت الموت في صورة المولود فحسبته ولدا ! فإذا لم تعلمه أمه، فغيرها أولى ألا يعرفه.
ولا ما تضمّ إلى صدرها ... ولو علمت هالها ضمّه
الهاء في صدرها وهالها للأم وفي ضمه لفاتك. وهو رفع لأنه فاعل هالها.
يقول: لم تدر أم فاتك ماذا تضم إلى صدرها، ولو علمته لكان يهولها ضمه؛ لأنها ضمت الموت إلى صدرها.
بمصر ملوكٌ لهم ما له ... ولكنّهم ما لهم همّه

يقول: قد كان في مصر من له مثل ما له، ولكنه قد قصر همه عن همه. ومثله لأشجع:
وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكنّ معروفه أوسع
فأجود من جودهم بخله ... وأحمد من حمدهم ذمّه
وأشرفه من عيشهم موته ... وأنفع من وجدهم عدمه
يقول: موته خير من حياة ملوك مصر، وفقره أنفع من غناهم. وهذه الأبيات مبالغة في المدح.
وإنّ منيّته عنده ... لك الخمر سقيّه كرمه
يقول: إن كان أصل المنية، يسقى الناس كأسها، كما أن الكرم عنصر الخمر، فلما شرب كأس المنية صار كالخمر يسقى الكرم، فرد إليه ما خرج منه.
وقيل: معناه إن المنية كانت تطيب له؛ لشجاعته لا يكرهها، كما يطيب الكرم أن يسقى الخمر. والهاء في قوله سقيه وفي كرمه يعود إلى الخمرة، وذكره على معنى النبيذ، والنبيذ مذكر.
فذاك الّذي عبّه ماؤه ... وذاك الّذي ذاقه طعمه
عبه أي شربه: أي الخمر الذي ذاقه هو الموت.
يقول: هذا الموت، الذي شربه ماؤه، كما أن الخمر، ماء الكرم. وهذا الموت الذي ذاقه من طعم المنية، إنما كان طعمه.
وعلى الثاني: إذا سقى الكرم فالذي عبه هو ماؤه على الحقيقة من الذي ذاقه طعمه. أي هو موافق له غير مباين.
ومن ضاقت الأرض عن نفسه ... حرىً أن يضيق بها جسمه
يقول: ضاقت الأرض عن نفسه لبعد همته فلم تسعه، ومن كان كذلك في حال الحياة فهو حقيق بعد الموت أن تضيق بجسمه.
وقال أيضاً بعد خروجه من مدينة السلام إلى الكوفة وأنشدها بها، يذكر مسيره من مصر ويرثي فاتكاً، في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة:
حتّام نحن نساري النّجم في الظّلم ... وما سراه على خفٍّ ولا قدم ؟
حتام: أي إلى متى، والأصل: حتى ما فحذف الألف من ما وجعل مع حتى بمنزلة اسم واحد، لكثرة الاستعمال، وكذلك: بم وفيم وعم وعلام هذا في الاستفهام. وفي الخبر لا يحذف الألف.
ونساري نفاعل من السري: أي نسري معه، وأراد بالنجم: النجوم. وروي: على ساق ولا قدم.
يقول: إلى متى نعارض النجوم في سيرها؛ ونسري معها، ونتعب نحن وهي لا تتعب؛ لأنها لا تسري على ساق ولا قدم، كما نسري نحن وإنما سيرها طبعها.
ولا يحسّ بأجفانٍ يحسّ بها ... فقد الرّقاد غريبٌ بات لم ينم
ولا يحس يعني النجم وفقد نصب لأنه مفعول يحس وفاعل يحس بها غريب.
يقول: إن النجوم لا تتألم بجهة السفر، ولا يصيبها ألم السهر، كما نتألم نحن بذلك، فكيف نقدر على مباراتها ؟! وأراد بالغريب الذي بات لم ينم: نفسه وكل من كان مثله.
تسوّد الشّمس منّا بيض أوجهنا ... ولا تسوّد بيض العذر واللّمم
العذر جمع عذار، وهو جانب اللحية.
يقول: الشمس تسود ألوان وجوهنا البيض، ولا تغير بياض الشعر سواداً، وهو شكاية لأن بياض الوجه مما يشتهي بقاؤه، فلا تبقيه، وبياض الشعر مما يكره بقاؤه فتبقيه ولا تغيره !
وكان حالهما في الحكم واحدةً ... لو احتكمنا من الدّنيا إلى حكم
يقول: كان الواجب في مقتضى القياس أن تسود الشمس الأبيض من شعورنا، كما سودت وجوهنا البيض؛ لأن كل واحد منهما استوى في البياض.
ونترك الماء لا ينفكّ من سفرٍ ... ما سار في الغيم منه سار في الأدم
يقول: كما أدمنا السفر ولم ننفك منه، كذلك تركنا الماء غير منفك عن السفر؛ لأنا كنا نسافر في المفاوز المقفرة، فنحتاج إلى حمل الماء فنغترفه من أعقاب السحاب، فنجعله في الأداوي والمزاود، ونحمله مع أنفسنا، فلم يخل الماء أيضا من السفر؛ لأنه مرةً يسير في السحاب، ثم بعده يسير في المزاود.
وإنما نسب سير الماء الذي في السحاب إليهم في قوله: ونترك الماء لا ينفك من سفر وإن كان سيره فيه ليس من جهتهم؛ لأنه لما كان هذا السير، والسير في المزاود واحد، هما عقيب صاحبه وسببا عنه. جريا مجرى الفعل الواحد؛ لأن السبب الذي أدى إلى إدامة السير هو فعلهم: الذي هو صب الماء في المزاود، فلولا هذا لم يدم سير الماء.
لا أبغض العيس لكنّي وقيت بها ... قلبي من الحزن أو جسمي من السّقم
يقول: إتعابي العيس في السير ليس لأجل أني أبغضها، ولكني وقيت بالعيس قلبي من الحزن، وجسمي من المرض، حين كنت بمصر.
طردت من مصر أيديها بأرجلها ... حتّى مرقن بنا من جوش والعلم

جوش والعلم: موضعان من حسمى على أربع مراحل.
يقول: سرت بها من مصر حتى خرجت من هذين الموضعين، خروج السهم من القوس أو من الرمية.
وطرد الأيدي بالأرجل: إتباعها من غير تراخ في عدو. وهو استعارة لطيفة؛ لأنه جعل أرجلها تطرد أيديها في السير، كما يطرد الصيد، وهو مأخوذ من قول بعض العرب:
كأنّ يديها حين جدّ نجاؤها ... طريدان والرّجلان طالبتا وترا
إلا أن لفظ أبي الطيب ألطف وأحسن.
تبرى لهنّ نعام الدّوّ مسرجةً ... تعارض الجدل المرخاة باللّجم
تبرى لهن أي تعارض العيس، وفاعل تبرى نعام الدو: وأراد بها الخيل. شبهها بالنعام؛ لطول ساقها، وسرعة جريها. والدو: الفلاة المستوية. والجدل: جمع جديل، وهو زمام الناقة المضفور من السيور.
يقول: إن الخيل كانت تعارض في سيرها هذه العيس، وتقابل اللجم بأزمتها؛ لطول عنقها.
في غلمةٍ أخطروا أرواحهم ورضوا ... بما لقين رضا الأيسار بالزّلم
الأيسار: الذين ينحرون الجزور، ويتقارعون عليها بالسهام، واحدهم يسر. والزلم: السهم، وجمعه أزلام.
يقول: سرت بهذه الإيل في غلمة خاطروا معي بأنفسهم، ورضوا بما يلقون من خير وشر، كما يرضى بحكم القداح.
تبدوا لنا كلّما ألقوا عمائمهم ... عمائمٌ خلقت سوداً بلا لثم
يقول: إذا طرحوا عمائمهم عن رءوسهم، ظهرت عمائم خلقت: يعني شعورهم. وجعلها بلا لثم، لأنهم مرد لا شعور على وجوههم.
بيض العوارض طعّانون من لحقوا ... من الفوارس، شلاّلون للنّعم
العوارض: محط اللحية في الخد. والشل: الطرد.
يقول: هم مرد لا شعور على عوارضهم، وهم يطعنون كل من لحقوا من الفوارس، ويغيرون على النعم.
وروى ابن جني عنه: بالنصب.
أي بيض العوارض طعانين شلالين وهو نصب على الحال والمدح.
قد بلّغوا بقناهم فوق طاقته ... وليس يبلغ ما فيهم من الهمم
يقول: بلغوا بقناهم فوق طاقة القنا من الطعن، ومع ذلك فإن القنا لا يبلغ حد هممهم، بل يقصر عنه.
في الجاهليّة إلا أنّ أنفسهم ... من طيبهنّ به في الأشهر الحرم
يقول: هم على عادة أهل الجاهلية في الغارة والحرب، ولكن أنفسهم لثقتها برماحها آمنة، فتسكن أنفسهم كما سكنت نفوس أهل الجاهلية في الأشهر الحرم.
وقيل: أراد أنهم لعفتهم كأنهم في الأشهر الحرم. فكنى بالطيب عن العفة.
ناشوا الرّماح وكانت غير ناطقةٍ ... فعلّموها صياح الطير في البهم
ناشوا: تناولوا. والبهم جمع بهمة، وهو الشجاع.
يقول: أخدوا الرماح وهي خرس فطعنوا بها الأبطال، حتى صاحت فيهم صياح الطير. وهو كقول المثلم:
تصيح الردينيّات فينا وفيهم ... صياح بنات الماء أصحن جوّعا
تخذي الرّكاب بنا بيضاً مشافرها ... خضراً فراسنها في الرّغل والينم
تخذي: أي تسرع السير. والرغل والينم: نبتان حسنان. والفرسن: أسفل الخف. وقوله: بيضاً مشافرها لأنا لا ندعها ترعى.
معكومةً بسياط القوم نضربها ... عن منبت العشب نبغي منبت الكرم
معكومة: أي مشدودة الأفواه.
يقول: ضربت بالسياط فكأن السياط شدت أفواهها. وقوله: نضربها عن منبت العشب: يعني نمنعها بضربها بالسياط عن رعي العشب، نطلب منبت الكرم لنرعى منه.
وأين منبته من بعد منبته ... أبي شجاعٍ قريع العرب والعجم ؟
القريح: السيد الكريم، لما قال: نبغي لها منبت الكرم رجع عنه وقال: أين نطلب لها منبت الكرم؟! بعدما بطل منبته، وهو أبو شجاع فاتك، الذي هو سيد العرب والعجم أي: لا منبت للكرم بعد أبي شجاع. بدل من منبته.
لا فاتكٌ آخرٌ في مصر نقصده ... ولا له خلفٌ في النّاس كلّهم
أي: إنما كان منبت الكرم فاتكا وقد مضى هو، فليس في مصر من يشابهه.
من لا تشابهه الأحياء في شيمٍ ... أمسى تشابهه الأموات في الرّمم
الرمم: جمع رمة وهي العظم البالي.
يقول: لم تكن تشبهه الأحياء في أخلاقه الكريمة، وقد أمسى الآن تشبهه الأموات في عظامه الرميمة.
عدمته وكأنّي سرت أطلبه ... فما تزيدني الدّنيا على العدم
يقول: لما فقدته طلبت له مثلا في مكارمه وأخلاقه، فما ظفرت به في الدنيا، إذ ليس له نظير.
وقيل: أراد طال سيرى في طلب مثله، تمنياً للغاية وعطائه فلم تزدني الدنيا على العدم شيئاً.

ما زلت أضحك إبلي كلّما نظرت ... إلى من اختضبت أخفافها بدم
يقول: قصدت ملوكا وأدميت أخفاف إبلي بسيري إليهم، فلما وصلت إليهم وجدتهم لا خير فيهم، فكنت أضحك إبلي من حالي معهم ! تعجبا وهزؤا.
أسيرها بين أصنامٍ أشاهدها ... ولا أشاهد فيها عفّة الصّنم
أسيرها: يجوز بفتح الهمزة ويجوز بضمها. يقال: سرت أنا وأسرت ناقتي.
يقول: كنت أسير إبلي بين قوم كأنهم أصنام لا خير عندهم ولا عقل، ولكن ليس فيهم ما في الصنم من العفة.
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسّيف ليس المجد للقلم
يقول: ما زلت أتوسل إليهم بالقلم والفضل والعلم، فلما لم أظفر بخير قالت لي الأقلام: اطلب الشرف بالسيف لا بالقلم.
اكتب بنا أبداً بعد الكتاب به ... فإنّما نحن للأسياف كالخدم
الكتاب: مصدر كالكتابة.
يقول: قالت الأقلام: اطلب أولا بالسيف، ثم بعد ذلك اكتب بنا. بعده، فإنا تبع له وخدم: أي مهد أمرك أولا بالسيف، ثم بعد ذلك اكتب بنا. ومثله للبحتري.
تعنو له وزراء الملك خاضعةً ... وعادة السّيف أن يستخدم القلما
أسمعتني ودوائي ما أشرت به ... فإن غفلت فدائي قلّة الفهم
يقول لأقلامه: قد أسمعتني ما قلت لي؛ ودوائي هذا الذي أمرتني به من إعمال السيف، فإن لم أفعل فدائي من قلة العلم والفضل.
من اقتضى بسوى الهنديّ حاجته ... أجاب كلّ سؤال عن هلٍ بلم
فاعل أجاب ضمير من.
يقول: من طلب حاجته بغير السيف لم يظفر بها، فإذا سأله إنسان وقال له: هل أدركت حاجتك؟ قال له. لم أدركها.
وهل حرف استفهام ولم حرف نفي وجعلهما اسمين وجرهما.
توهّم القوم أنّ العجز قرّبنا ... وفي التّقرّب ما يدعو إلى التّهم
يقول: إن الملوك توهموا أن قربي منهم لعجز في، أو لأستميح رفدهم، لأن التقرب من الإنسان ربما يدعو إلى مثل هذا الوهم.
وقيل: معناه إن التوهم كما يكون للاستماحة قد يكون لتمكن الفرصة وانتهازها، وليس ينبغي لهم أن يتوهموا أن قصدي إياهم للعجز دون أن يكون لانتهاز الفرصة.
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعةً ... بين الرّجال ولو كانوا ذوي رحم
يقول: إنهم لما لم ينصفوا في إنزالنا منازلنا ففارقناهم، لأن قلة الإنصاف تقطع بين الناس، وإن كانوا ذوي قربي.
فلا زيارة إلا أن تزورهم ... أيدٍ نشأن مع المصقولة الخذم
المصقولة الخذم: هي السيوف القواطع.
يعني: بعد هذه الكرة لا أزورهم إلا بأيد متعودة للضرب وحمل السيوف.
من كلّ قاضيةٍ بالموت شفرته ... ما بين منتقمٍ منه ومنتقم
المنتقم: الرجل القاتل. والمنتقم منه: المقتول: أي كل واحد من هذه المصقولة الخذم شفرته قاضية بالموت بين المقتول والقاتل أي كأن الفريقين يحتكمان إلى شفرته فيقضي بينهم بالموت.
صنّا قوائمها عنهم فما وقعت ... مواقع اللّؤم في الأيدي ولا الكزم
الكزم: القصر في أصابع اليد.
يقول: صنا هذه السيوف أن يسلبنا إياها أعداؤنا من الملوك وغيرهم، فتقع قوائمها في أيديهم، وهي مواقع اللؤم؛ لأن قوائم السيوف إنما تقع في بواطن الأيدي إذا سلبوها، فإذا لم يسلبوها فما يقع فيهم إلا مضاربها.
هوّن على بصرٍ ما شقّ منظره ... فإنّما يقظات العين كالحلم
ما شق منظرة: أي ما كره النظر إليه لقبحه.
يقول: هون على كل أمر مهول لا تقدر العين أن تنظر إليه، فإنه لا حقيقه لليقظة كما لا حقيقه للأحلام، كذلك أحوال الدنيا وشدائدها إلى الزوال عن قريب، كحلم مفزع يراه الإنسان في نومه، فإذا انتبه زال.
ولا تشكّ إلى خلقٍ فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرّخم
يقول: لا تشك لأحد حالك فإنه يشمت بحلول المكروه بك. فصرت كالجريح يشكو ما به إلى الغربان والرخم، فإنها تتمنى موته لتأكل لحمه.
وكن على حذرٍ للنّاس تستره ... ولا يغرّك منهم ثغر مبتسم
الهاء في تستره للحذر.
يقول: احذر من الناس واستر حذرك منهم؛ لأنك إذا أظهرته جاهروك بالعداوة، ولا تغتر بابتسامهم في وجهك.
غاض الوفاء فما تلقاه في عدةٍ ... وأعوز الصّدق في الإخبار والقسم
يقول: ذهب الوفاء فلا تلقاه في وعد أحد من الناس، وتعذر وجود الصدق في أخبار الناس وأيمانهم.

سبحان خالق نفسي كيف لذّتها ... فما النّفوس تراه غاية الألم ؟؟؟!
يعني: أن لذة نفسي في الحروب، وورود المهالك، وذلك عند الناس غاية الألم، فسبحان الله الذي خلق نفسي على هذه الصفة.
الدّهر يعجب من حملي نوائبه ... وصبر نفسي على أحداثه الحطم
الحطم بالضم جمع حطوم.
يقول: إن الدهر مع غلبته لكل أحد يعجب من احتمالي شدائده، ومن صبري على أحداثه الكاسرة.
وقتٌ يضيع، وعمرٌ ليت مدّته ... في غير أمّته من سالف الأمم
يقول: إن وقتي ضائع فيما بين أهل هذا القرن الذي أنا فيهم وعمري يذهب هدرا فيما بينهم، فليتني كنت قبل هذا الوقت بين الأمم السالفة.
أتى الزّمان بنوه في شبيبته ... فسرّهم وأتيناه على الهرم
يقول: من تقدم من سالف الأمم أدركوا الزمان في أول أمره فنالوا خيره، وأتيناه نحن في آخره فلم نجد إلا التعب والعناء. كولد الرجل إذا جاءوا في أول شبيبته انتفعوا بأبيهم، وكسب لهم الأموال وسرهم وأحسن إليهم، وإذا جاءوا له بعد الكبر والعجز والفقر، لم ينل ولده منه إلا الغم والحزن، وربما يموت الوالد فيبقى الوالد يتيما. وهذا كقول الآخر:
ونحن في غفلةٍ إذ دهرنا جزعٌ ... فاليوم أمسى وقد أودى به الخرف
كان قوم من أهل العراق قتلوا يزيداً الضبي ونكحوا امرأته، ونشأ له منها ولد يسمى: ضبة يغدر بكل أحد نزل به، أو أكل معه، أو شرب، ويشتمه واجتاز أبو الطيب بالطف فنزل بأصدقاء له، وسارت خيلهم إلى هذا العبد واستركبوه، فلزمه المسير معهم. فدخل هذا العبد الحصن وامتنع به، وأقاموا عليه، فلبس سلاحه لهم، وأخذ يشتمهم من وراء الحصن أقبح شتم، ويسمى أبا الطيب بشتمه، وأراد القوم أن يجيبه بمثل ألفظاه القبيحة وسألوه ذلك، فتكلف لهم على مشقة، وعلم أنه لو سبه لهم معرضاً لم يفهم ولم يعمل فيه عمل التصريح، فخاطبه على ألسنتهم من حيث هو.
فقال في جمادى الآخرة سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة.
قال ابن جني ورأيته وقد قرئت عليه هذه القصيدة وهو ينكر إنشادها، وكان مثل أبي الطيب معه في هذه القصيدة كما روى عن ابن مهرويه عن ابن خلاد عن أبيه قال: قلت لبشار: يا أبا معاذ إنك لتأتي بالأمر المتفاوق فمرةً تثير بشعرك العجاج فتقول:
إذا ما ضربنا ضربة مضريّةً ... هتكنا حجاب الشّمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلةٍ ... ذرى منبرٍ صلّى علينا ورسلّما
ثم تقول:
ربابة ربّة البيت ... تصبّ الخلّ في الزّيت
لها سبع دجاجاتٍ ... وديكٌ حسن الصّوت
فقال: إنما أكلم كل إنسان على قدر معرفته، فأنت وعلية الناس يستحسنون ذلك، وأما رباب فهي جاريتي تربي دجاجات وتجمع لي بيضهن، فإذا أنشدتها هذا حرصت على جمع البيض وأطعمتنيه، وهو أحسن عندها وأنفق من شعري كله، فإذا أنشدتها في النمط الأول لما فهمته ولا انتفعت بها.
فهذه صورة المتنبي في هذه القصيدة كما ترى:
ما أنصف القوم ضبّه ... وأمّه الطّرطبّه
رموا برأس أبيه ... وناكوا الأمّ غلبّه
الطرطبة: الطويلة الثديين، وإنما تطول ثدياها إذا صارت عجوزاً. وقد روى: باكوا بالباء وأصله مواقعة الحمار. والغلبه: الغلبة.
يقول: إن القوم لم ينصفوا ضبة ولا أمه العجوز، حيث قتلوا أباه وأتوا أمه إتيان الحمار.
فلا بمن مات فخرٌ ... ولا بمن نيك رغبه
يقول: ليس لهم بأبيه الذي قتلوه فخر، لأنه ساقط وضيع، ولا بأمه التي نيكت رغبة؛ لأنها عجوز لا يرغب أحد فيها.
وإنّما قلت ما قل ... ت رحمةً لا محبّه
وحيلةً لك حتّى ... عذرت لو كنت تنبه
تنبه: تشعر، وكسر التاء في مثلها على لغة بني تميم.
يقول: إنما قلت: ناكوا أمك غلبة وقهرا رحمة لك، حيث قتلوا أباك ونحكوا أمك. وقلت أيضا: حيلة لك، ليعذرك الناس على ما جرى، وأنه كان قهرا وغلبة، لا عن رضا منها بالفجور، ولو كنت تفطن لمرادي، ولكنك من جهلك لا تعلم ما أردت. وروى: غدرت: أي قلت هذا القول حيلة لك في الانصاف، حتى تغدر بي لو كنت تبالي بالغدر..
وما علكي من ألقت ... ل إنّما هي ضربه
وما عليك من الغد ... ر إنّما هي سبّه
وما عليك من العا ... ر أنّ أمّك قحبه
وما يشقّ على الكل ... ب أن يكون ابن كلبه

القحبه الفاجرة، وأصلها من القحاب، وهو السعال، وكانت العاهرة إذا أحست بأحد سعلت، ليعلم مكانها فسميت بذلك.
يقول: أي عار عليك في قتل أبيك إنما هي ضربة بالسيف، والرجل قد يضرب الضربة والضربتين، ولا يلحقه في ذلك عار، وكذلك أي ضرر عليك بأن تنسب إلى الغدر، فليس هذا بأكثر من نسبة تنسب إليها، وأنت مخلوق من المخازي، وأي عار عليك في كون أمك فاجرة تنكح، فإن النساء لذلك خلقن أي للنكاح ! هذا كله هزؤ به. وأنت كلب للؤمك وخستك، فلا ضرر على الكلب في أن يكون ابن كلبة. وما هذه نافية، وفيما قبلها استفهام.
ما ضرّها من أتاها ... وإنّما ضرّ صلبه
الهاء في صلبه لمن وما للنفي.
يقول: لم يضرها كثرة من وطئها؛ لأنها كانت تشتهي ذلك ! ولكن الذي أتاها أوهن صلبه بإتيانها، على ما قيل في نكاح العجوز من زيادة الضرر.
ولم ينكها ولكن ... عجانها ناك زبّه
العجان: ما بين الدبر إلى أصل الخصية، والزب: قضيب الرجل.
يقول: واطؤها لم يواقعها تلذذاً بمواقعتها، بل كانت الرغبة من جهتها والتلذذ كان لها، وكان الفعل منسوباً إليها فكأنها هي الناكحة دون ناكحها.
يلوم ضبّة قومٌ ... ولا يلومون قلبه
وقلبه يشتهّي ... ويلزم الجسم ذنبه
يقول: الناس يلومون ضبة بأفعاله القبيحة، وإنما يجب أن يلوموا قلبه لأنه هو الذي يشتهي، فأي ذنب للجسم.
لو أبصر الجذع فعلاً ... أحبّ في الجذع صلبه
الفعل: كناية عن الأير. وروى مكانه شيئاً بهذا المعنى.
يعني: أنه من حبه للأير لو كان الجذع أيرا لاشتهى أن يصلب عليه.
يا أطيب الناس نفساً ... وألين النّاس ركبه
وأخبث النّاس أصلاً ... في أخبث الأرض تربه
وأرخص النّاس أمّاً ... تبيع ألفاً بحبّه
قوله: يا أطيب الناس نفسا: كناية عن سماحته بأهله، وقوله: وألين الناس ركبة كناية عن أبنته.
يقول: أصلك أخبث أصل، وبلدك أخبث بلد، وأنت تبيع ألف أم بحبة واحدة.
كل الفعول سهامٌ ... لمريم وهي جعبه
الفعول: كناية عن الأيور، شبهها بالسهام وشبه أمه بالجعبة وأن اسمها مريم على جهة السخرية، نسبها لمريم بنت عمران في حصانتها.
وما على من به الدّا ... ء من لقاء الأطبّه
يقول: ليس عليها لوم في فجورها، فإن ذلك لحكاك في رحمها، وصاحب الداء لا يلام على لقاء الأطبة، لتشفيه من دائه.
وليس بين هلوكٍ ... وحرّةٍ غير خطبه
الهلوك: الفاجرة من النساء.
يقول: هي وإن كانت زانية فلا عار عليها في ذلك، إذ ليس بين الزانية وبين الحرة فرق إلا هذا العقد، وأما من حيث الصورة فيستويان.
يا قاتلاً كلّ ضيفٍ ... غناه ضيحٌ وعلبه
وخوف كلّ رفيقٍ ... أباتك اللّيل جنبه
الضيح: اللبن الممزوج بالماء، والعلبة: قدح من جلد يكون مع الراعي.
يقول: إذا نزل بك ضيف فقير يغنيه شرب اللبن الممزوج بالماء، وقصعة يشرب بها اللبن، قتلته وأخذت ما معه. فكيف تفعل بالأغنياء ! وأنت ممن يخافه كل رفيق، وصاحب ينزل به ويبيت عنده، ونصب جنبه لأنه مفعول ثان من أبات وقيل ظرف.
كذا خلقت ومن ذا ... الّذي يغالب ربّه !
يقول: أنت معذور على غدرك، فأنت طبعت عليه فمن يقدر أن يحولك على طبعك عليه.
ومن يبالي بذمٍّ ... إذا تعوّد كسبه ؟
يقول: أنت تعودت هذا الغدر، ومن كسب مثل ذلك لا يأنف منه، كما لا يأنف الحجام من حجامته لما كان ذلك كسبه.
أما ترى الخيل في النّخ ... ل سربةً بعد سربه
على نسائك تجلوا ... أيورها منذ سنبه
وهنّ حولك ينظر ... ن والأخيراج رطبه
النخل: موضع يعنيه، وقبل: أراد به حقيقة النخل، والسربة: القطعة من الخيل، والسنبة: القطعة من الزمان. وتحلوا. تظهر. وروى أيورها وفعولها وهي كناية عنها.
يقول: أما ترى خيولنا كيف تعرض أيورها على نسائك ؟! منذ زمان ! ونساؤك حولك ينظرن إلى الأيور وأخراجهن رطبة لها.
وكلّ غرمول بغلٍ ... يرين يحسدن قنبه
الغرمول: للبغل والفرس. والقنب: وعاء الغرمول.
يقول: إذا نظرت نساؤك إلى أيور البغال حسدن قنب أيورهن، ويشتهين أن يكون أخراجهن وعاء لها: أي أرحامهن.
فسل فؤادك يا ضب ... ب أين خلّف عجبه ؟

اراد: يا ضبة فرخم.
يقول: أين ذلك العجب الذي كان فيك قبل نزولنا على حصنك ؟! وذلك أنه هرب منهم ودخل حصنه ولم يجسر على لقائهم.
وإن يخنك لعمري ... لطالما خان صحبه
لعمري: قسم.
يقول: إن خانك قلبك الآن وأسلمك، فلعمري أن الخيانة له عادة، فطالما خان أصحابه قبل ذلك.
وكيف ترغب فيه ... وقد تبيّنت رعبه
يقول: كيف ترغب في قلبك بعدما علمت من خوفه وجبنه.
ما كنت إلاّ ذباباً ... نفتك عنه مذّبه
الهاء في عنه للقلب، وقيل: للعجب.
يقول: لما نزلنا عليك طار قلبك من الخوف، فكأنك كنت ذبابا طردت عن قلبك وعن عجبك بالمذبة.
وكنت تنخر تيهاً ... فصرت تضرط رهبه
روى: تفخر من الفخار، وتنخر من النخير، وهو الصوت من الأنف.
يقول: كنت تنخر قبل ذلك تكبراً، فلما نزلنا حول حصنك تركت ذلك التكبر خوفاً، وصرت تضرط رهبة وخوفاً.
وإن بعدنا قليلاً ... حملت رمحاً وحربه
وقلت ليت بكفّي ... عنان جرداء شطبه
الشطبة: الفرس الطويلة.
يقول: إن بعدنا عنك خرجت من حصنك، وحملت رمحك وسيفك وقلت: ليت في يدي عنان فرسي.
إن أوحشتك المعالي ... فإنّها دار غربه
أو آنستك المخازي ... فإنّها لك نسبه
يقول: إن كانت المعالي قد أوحشتك، فإنها دار غربة، لا يسكنها إلا غريب. وهذا مثل.
والمعنى: إن المعالي لا يحوزها إلا القليل من الناس، فإنها بمنزلة الغرباء وإن عجزت عنها فأنت معذور فإنها لا تليق بك، وإن تألف المخازي وتأنس بها. فغير منكر، لأنها نسبك وأصلك الذي تولدت منه فكيف لا تأنس بها ؟!
وإن عرفت مرادي ... تكشّفت عنك كربه
وإن جهلت مرادي ... فإنّه بك أشبه
يقول: أنت الآن في كربة وشغل قلب من هذا الشعر؛ لأنك من جهلك لا تعرف: أمدح هو أم هجو ؟! فلو عرفت أنه هجو لانكشفت عن قلبك كربته، لأنك لا تبالي بالهجو والذم، لسقوطك وحقارة أصلك، وإن جهلت مرادي فيما أقول فإنه أشبه بك؛ لأنك جاهل لا تعرف الشتم من المدح.
ونجم خارجي من بني كلاب بظهر الكوفة، وذكر له أن خلقاً من أهلها قد أجابوه وحلفوا له، فسارت إليها بنو كلاب معه، ليأخذها، ورفعت الرايات وخرج أبو الطيب على الصوت من ناحية قطوان فلقيته قطعة من الخيل في الظهر، فقاتلها ساعةً فانكشفت وجرح منها وقتل.
وسار في الظهر حتى دخل إلى جمع السلطان والرعية من درب البراجم. ووقعت المراسلة سائل اليوم، وعادوا من غد فاقتتلوا إلى آخر النهار، فلم يصنع الخارجي شيئاً، ورجع وقد اختلفت فيه بنو كلاب وتبرأ بعضهم من بعض، وعاد بعد أربعة أيام فاقتتل في الظهر فوقع بالسلطان والعامة جراح، وقتل من بني كلاب، وطعن فرس لأبي الطيب تحت غلام له في لبته فمات لوقته، فحمله محمد بن عمرو على فرس، وخرج له غلام آخر فقتل رجلاً، وعادوا من غد فالتقى الناس عند دار أسلم، وبينهم حائط فقتل من بني كلاب بالنشاب عدة، فانصرفوا ولم يقفوا للقتال.
ووقعت الأخبار إلى بغداد، فسار أبو الفوارس دلير بن لشكروز وجماعة من القواد، فورد الكوفة بعد رحيل بني كلاب عنها، فأنفذ إلى أبي الطيب ساعة نزل ثياباً نفيسةً من ديباج رومي ومن خز ودبيقي فقال يمدحه وأنشده إياها في الميدان وهما على فرسيهما، وكان تحت دلير فرس جواد أصغر، وعليه حلية ثقيلة مقلدة، فقاده إليه، وذلك في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة:
كدعواك كلٌّ يدّعي صحّة العقل ... ومن ذا الّذي يدري بما فيه من جهل
يخاطب عاذلته ويقول: كل أحد يدعي صحة عقله كما تدعينه أنت، ولا يعلم أحد ما فيه من الجهل والحمق؛ لأن المرء لا يعرف عيب نفسه.
لهنّك أولى لائمٍ بملامةٍ ... وأحوج ممّن تعذلين إلى العذل
لهنك: كلمة تستعمل عند التوكيد وأصلها: لأنك فأبدلت الهمزة هاء كما قالوا: إياك وهياك، وهي إن، التي تنصب الاسم وترفع الخبر، وأدخلوا عليها اللام للتأكيد، وجمع بينهما، وإن كانت إن للتأكيد، لأن الهمزة لما أبدلت هاء زالت لفظة إن فصارت كأنها شيء آخر غير إن فجاز الجمع بينهما. وهذا جواب القسم المحذوف.
والمعنى: والله إنك أولى بالملامة وأحوج إلى العذل من هذا الذي تعذلينه، فإنك أجهل منه.
تقولين ما في النّاس مثلك عاشقٌ ... جدي مثل من أحببته تجدي مثلي

مثلك نصب على الحال، لأنه صفة نكرة قدم عليها وجدي: أمر من الوجود وتجدي جوابه.
يقول لعاذلته: إنك تقولين له، إنه ليس لك في العشاق نظير، فقد صدقت، وإنما كنت كذلك لأن من أحبه لا نظير له، فأوجدي مثل من أحبه حتى تجدي عاشقاً مثلي.
وحبٌّ كنى بالبيض عن مرهفاته ... وبالحسن في أجسامهنّ عن الصّقل
فاعل كنى ضمير المحب، والهاء في مرهفاته تعود إليه.
يقول: أنا محب بخلاف سائر المحبين، فإذا رأيتني أذكر البيض فإنما أكنى بها عن السيوف، وإذا ذكرت الحسن فإنما أعني به صقل السيوف.
وبالسّمر عن سمر القنا غير أنّني ... جناها أحبّائي وأطرافها رسلي
يقول: إذا سمعتني أذكر السمر فإنما أعني بها الرماح. وجني الرماح أحبائي: أي ما تجنيه الرماح من القتل والسبي، فإنها أحبائي، وأطراف الرماح رسلي إلى أحبائي وهذا مثل قوله:
وما سكني سوى قتل الأعادي
وقوله:
وليس لنا إلاّ السّيوف رسائل
عدمت فؤاداً لم تبت فيه فضلةٌ ... لغير الثّنايا الغرّ والحدق النّجل
يدعو على قلبه ويقول: لا كان لي قلب ليس له همة إلا النساء، وليس فيه فضلة لطلب المعالي واقتناء المكارم.
فما حرمت حسناء بالهجر غبطةً ... ولا بلّغتها من شكا الهجر بالوصل
الغبطة: السرور، والهاء في بلغتها للغبطة، وهي أحد المفعولين، والثاني من.
يقول: لا تبالي بوصل النساء وهجرهن؛ فإن الحسناء إذا هجرتك لم تحرمك سروراً، وإذا وصلت لم تبلغك إليها. وهذا معنى قوله:
ولا بلّغتها من شكا الهجر بالوصل
ذريني أنل ما لا ينال من العلا ... فصعب العلا في الصّعب والسّهل في السّهل
يقول لعاذلته: دعيني أخاطر بنفسي حتى أنال من الأمور ما لا يناله غيري، فإن صعاب المعالي لا تنال إلا بصعاب الأمور.
تريدين لقيان المعالي رخيصةً ... ولا بدّ دون الشّهد من إبر النّحل
يقول: إنك تريدين أن أدرك المعالي بالهويني، وهذا مما لا يكون، فإن المرء لا يدرك حلاوة المعالي إلا بمقاساة مرارة الخطر، كما أنه لا يجتني الشهد حتى يصبر على لسع النحل.
حذرت علينا الموت والخيل تدّعي ... ولم تعلمي عن أيّ عاقبةٍ تجلي
الخيل تدعي: أي أصحاب الخيل يدعو بعضهم بعضاً. وقيل: تدعي أي تنتسب كل قبيلة إلى أبيها. وتجلي: أي تنجلي وتنكشف.
يقول لعاذلته: خفت على القتل ولم تعلمي عواقب الحرب، فربما انكشفت عن الظفر والعز.
ولست غبيناً لو شريت منيّتي ... بإكرام دلّير بن لشكروزٍّلي
يقول: لو اشتريت منيتي بهذا الإكرام من جهة دلير، لما كنت مغبوناً بل كنت مغبوطاً.
تمرّ الأنابيب الخواطر بيننا ... ونذكر إقبال الأمير فتحلولي
يقول: أمر الشيء يمر إمراراً فهو ممر، ومر يمر مرارةً فهو مر. والخواطر صفة الأنابيب أي الأنابيب المتحركة. ويقال: حلا الشيء يحلو، واحلولي يحلولي بمعنىً.
يقول: نرى طعم الرماح فيما بيننا مراً، حتى إذا ذكرنا إقبال الأمير عاد ما أمر منها نهايةً في الحلاوة، فأقدمنا غير كارهين له.
وفي قافية هذا البيت خلل؛ وذلك أنه جاء بها مردفة وليس في القصيدة بيت مردف غيره.
ومعنى المردف: أن يكون قبل حرف الروي ألفاً أو واواً أو ياءً، فيلزم جميع القصيدة نحو: مسعود وسعيد وسالم.
وما جاء به عيب عند العلماء بعلم القوافي، إلا أنه قد جاء في الشعر القديم مثله وهو:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه
فجاء بهذه القافية مردوفة بالواو المضموم ما قبلها ثم قال:
وإن باب أمرٍ عليك التوى ... فشاور لبيباً ولا تعصه
وهذه غير مردفة.
ولو كنت أدري أنّها سببٌ له ... لزاد سروري بالزّيادة في القتل
الهاء في أنها قيل: راجعة إلى الطعنة التي أصابته في قتال الخارجي. وقيل: راجعة إلى الأنابيب، وقيل: راجعة إلى خيل الخارجي. والهاء في له للإكرام أو الإقبال.
يقول: لو علمت أن هذه الطعنة أو هذه الأنابيب أو هذه الخيل سبب لإكرام الأمير وإقباله لكنت أزداد فرحاً بزيادة القتل والإقدام ليكون الإكرام أكثر.
فلا عدمت أرض العراقين فتنةً ... دعتك إليها كاشف الخوف والمحل

نصب كاشف على النداء المضاف، أو على الحال، أو على البدل من الكاف في دعتك والمحل: الجدب.
يقول: لا عدم أهل العراقين مثل هذه الفتنة التي كانت سبب مجيئك إلينا؛ لأنك كشفت عنا الخوف ببأسك، والمحل بجودك وفضلك.
ظللنا إذا أنبى الحديد نصولنا ... نجرّد ذكراً منك أمضى من النّصل
أنبى أي جعلها تنبو، يقال نبا النصل، وأنباه غيره.
يقول: كنا إذا ضربنا أعداءنا فرجعت نصولنا ونبت؛ لما عليهم من الحديد، ذكرنا لهم اسمك فكان يؤثر فيهم أكثر مما يؤثر السيف ! أي كنا نذكر اسمك فنهزمهم بذكره.
ونرمي نواصيها من اسمك في الوغى ... بأنفذ من نشّابنا ومن النّبل
النشاب: سهام العجم، وهي أطول من النبل، والهاء في نواصيها للخيل.
يعني: كنا نرميها من اسمك بسهم أنفذ من كل سهم.
فإن تك من بعد القتال أتيتنا ... فقد هزم الأعداء ذكرك من قبل
جعل قبل نكرة فأعربه.
يقول: إن كنت جئت إلينا بعد أن هزمناهم، فإنما هزمناهم باسمك فقام ذكرك مقام حضورك.
وما زلت أطوي القلب قبل اجتماعنا ... على حاجةٍ بين السّنابك والسّبل
قوله: أطوي القلب كناية عن العزم.
يقول: ما زلت اضمر في نفسي المسير إليك، فكنى عن ذلك بالسنابك والطرق.
ولو لم تسر سرنا إليك بأنفسٍ ... غرائب يؤثرن الجياد على الأهل
يقول: لو لم تأتنا لأتيناك بأنفس غريبة، تختار الخيل على الأهل، وقوله: غرائب يجوز أن يكون المراد بها أنها غريبة فيما بين الأنفس، لأن سائر الأنفس لا تختار ذلك، ويجوز أن يريد أنها غريبة في هذا الزمان لعلو همتها.
وخيلٍ إذا مرّت بوحشٍ وروضةٍ ... أبت رعيها إلاّ ومرجلنا يغلي
أي: سرنا إليك بأنفس وخيل كريمة، قد تعودت الصيد، فإذا مرت على روضة فيها وحش، لم ترع حتى تصيد لنا، ثم ترعى بعد ذلك.
ولكن رأيت القصد في الفضل شركةً ... فكان لك الفضلان بالقصد والفضل
يقول: إنك رأيت قصدنا إليك مشاركةً في فضلك، فقصدتنا بنفسك حتى حويت الفضل الذي لك وفضل القصد فاجتمع الفضلان.
وليس الّذي يتّبّع الوبل رائداً ... كمن جاءه في داره رائد الوبل
يعني: أنك قصدتنا وأفضت علينا إنعامك، فهذا أهنى من عطاء كان بعد قصدنا إليك، كما أن الرجل إذا جاءه الغيث في داره، كان أهنى من أن يخرج في طلبه وارتياده. ومثله لآخر:
فكنت فيهم كممطورٍ ببلدته ... فسرّ أن جمع الأوطان والمطرا
وما أنا ممّن يدّعي الشّوق قلبه ... ويحتجّ في ترك الزّيارة بالشّغل
يقول: لست ممن يزعم أنه مشتاق صديقاً، ثم يحتج في ترك زيارته؛ لأن الأشغال تمنعه عنها، لأن من هذه حاله، فليس بصادق في الشوق، فلولا أنك قصدتنا لكنا نقصد إليك ولم نتأخر عن خدمتك.
وقيل: أراد أني لم أحتج بترك زيارتك بشغل ولكني أقول إن شاء الله تعالى. أراد أن يحصل لك فضل القصد مع غيره من الفضل.
أرادت كلابٌ أن تقوم بدولةٍ ... لمن تركت رعى الشّويهات والإبل
أنث كلاباً على معنى القبيلة. ومن استفهام على وجه الاستهزاء.
يقول: أرادت بنو كلاب القيام بدولة الملك، وهم رعاة الغنم والإبل، فإذا طلبوا الولاية فلمن يتركوا رعيها ؟! أي رعى الغنم والإبل أولى لهم من الإمارة.
أبى ربّها أن يترك الوحش وحدها ... وأن يؤمن الضّبّ الخبيث من الأكل
الهاء في ربها لبني كلاب وقيل: للشويهات. وفي وحدها للوحش.
يعني: أنهم يسكنون مع الوحش، فلم يرد الله تعالى أن يؤتيهم الولاية فتنفرد الوحش عنهم، وعادتهم أكل الضباب فلم يرد الله تعالى لهم الولاية، فيأمن الضب من أكلهم لها.
وقاد لها دلّير كلّ طمرّةٍ ... تنيف بخدّيها سحوقٌ من النّخل
الطمرة: الفرس الوثابة، وقيل: المشرفة. والسحوق: النخلة الطويلة، وأراد بها ها هنا عنق هذه الطمرة، وهي فاعل تنيف والهاء في لها لبني كلاب.
يقول: قصد دلير بني كلاب بكل فرس كأن عنقها نخلة طويلة، ترفع خديها.
وكلّ جوادٍ تلطم الأرض كفّه ... بأغنى عن النّعل الحديد من النّعل
أي قصد إليها بكل فرس صلب الحوافر لا يحتاج إلى نعل، كما لا يحتاج النعل إلى النعل وأراد: تلطم الأرض بحافر أصلب من نعل الحديد.

فولّت تريغ الغيث والغيث خلّفت ... وتطلب ما قد كان في اليد بالرّجل
يقول: ولت بنو كلاب لما قصدهم دلير، وذهبت بالوادي تطلب الغيث لإبلها، وخلفت الغيث: وهو طاعة السلطان.
يعني: أنها تركت ما كانت فيه من الأمن والخصب، لما خرجت من طاعة السلطان، ورجعت إلى البوادي تطلب مساقط الأمطار.
تحاذر هزل المال وهي ذليلةٌ ... وأشهد أنّ الذلّ شرٌّ من الهزل
وهي ذليلة: يعني بنو كلاب.
يقول: خافت أن تهزل أموالها، فخرجت تنتجع الأمطار والمراعي. وما لحقها من الذل شر من هزال المال.
وأهدت إلينا غير قاصدةٍ به ... كريم السّجايا يسبق القول بالفعل
غير قاصدة نصب على الحال، ونصب كريم لأنه مفعول أهدت وهو فعل بني كلاب، وبه يرجع إلى كريم السجايا وهو مقدم في المعنى.
يقول: كان سبب مجيء دلير إلينا، مجيء بني كلاب، فكأنها أهدته لنا وإن لم تقصد ذلك، وهو يبتدئ بالنوال قبل الوعد بالسؤال.
تتبّع آثار الرّزايا بجوده ... تتبّع آثار الأسنّة بالّفتل
الفتل جمع فتيلة.
يقول: جر بجوده كل مصيبة أصابتنا، في نفس أو مال. وأصلح حالنا، كما تصلح الجراح بالفتل عند المعالجة.
وروى بالقتل يعني: أتى على المصائب بعطاياه، كما يأتي بالقتل على آثار الأسنة: أي لا يحتاج مع القتل إلى معالجة آثار الأسنة.
شفى كلّ شاكٍ سيفه ونواله ... من الدّاء حتّى الثّاكلات من الثّكل
يقول: شفى كل إنسان مما كان يشكوه، فشفى الفقر بنواله، والجور بسيفه، وأخذ للثاكلات بثأرهن؛ فشفاهن من الثكل.
عفيفٌ تروق الشّمس صورة وجهه ... ولو نزلت شوقاً لحاد إلى الظّلّ
شوقاً مفعول له.
يقول: هو مع عفته قد عشقته الشمس، فلو نزلت من شوقها إليه، لعلد عنها إلى الظل لعفته.
شجاعٌ كأنّ الحرب عاشقةٌ له ... إذا زارها فدّته بالخيل والرّجل
يقول: تسلم إليه الحرب من شاء قتله أو سبيه، فكأنها عاشقة له، وتفديه بهم.
قال ابن جني: هذا من بدائع معانيه.
وريّان لا تصدى إلى الخمر نفسه ... وعطشان لا تروى يداه من البذل
يقول: لا يرغب في الشراب؛ لما فيه من الإثم، فهو ريان عنه، ولا يفتر عن البذل؛ لما فيه من الحمد، فهو عطشان إليه.
فتمليك دلّيرٍ وتعظيم قدره ... شهيدٌ بوحدانيّة الله والعدل
يقول: تمليك الله تعالى إياه، وتعظيمه لقدره، دليل على التوحيد والعدل؛ لأن توليته إياه حكمة وصواب، ووضع للحق في موضعه.
وما دام دلّيرٌ يهزّ حسامه ... فلا ناب في الدّنيا لليثٍ ولا شبل
يعني: أن أنياب الأسود لا تعمل عمل سيفه، فكأنها في جنب سيفه معدومة.
وما دام دلّيرٌ يقلّب كفّه ... فلا خلق من دعوى المكارم في حلّ
أي ما دام هو يقلب كفه بالعطاء وقتل الأعداء فليس لأحد ادعاء المكارم، لأنه قد ملك المكارم.
فتىً لا يرجّى أن تتمّ طهارةٌ ... لمن لم يطهّر راحتيه من البخل
يقول: هو فتىً يعتقد أن الطهارة من الأنجاس لا تتم إلا بتطهير الراحة من البخل، فكما أن الطهارة من الأنجاس واجبة، كذلك اجتناب البخل واجب.
وقيل: أراد بالطهارة: الختان، أي أن طهارة الختان لا تتم إلا بإزالة البخل.
فلا قطع الرّحمن أصلاً أتى به ... فإنّي رأيت الطّيّب الطّيّب الأصل
يقول: هو طيب وأصله الذي أتى به طيب إذ الطيب لا يأتي إلا من أصل طيب، فلا قطع الله تعالى أصلاً جاء بمثله.

العميديات
وقال يمدح أبا الفضل محمد بن الحسين بن العميد، حين ورد عليه بأرجان في ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثلاث مئة:
بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا ... وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
باد أي ظاهر، وهواك: رفع بالابتداء وباد خبره مقدم عليه عند سيبويه.
وعند الأخفش: باد مبتدأ وهواك مرتفع به كما يرتفع الفاعل، وقد سد مسد المبتدأ.
وقوله: أو لم تصبرا في موضع جزم، وأصله: تصبرن بالنون الخفيفة للتأكيد، فأبدل عنها ألفاً في الوقف، كقوله تعالى: " لَنَسْفَعاً " وقول الأعشى:
ولا تعبد الشّيطان والله فاعبدا
هذا قول البصريين. وفي قول البغداديين: أنه خاطب الواحد الاثنين كقول الآخر:
فإن تزجراني بابن عفّان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنّعاً

والمعنى: أن هواك ظاهر علاماته، سواء صبرت أو جزعت، وكذلك بكاؤك ظاهر، سواء جرى دمعك أو لم يجر.
وحكى أنه قيل للمتنبي: إنك خالفت بين المصراعين، فوضعت في الأول إيجاباً بعده نفي، وفي الثاني نفياً بعده إيجاب، وصنعة الشعر تقتضي الموافقة بين صدر البيت وعجزه. فقال: إن كنت خالفت بينهما لفظاً فقد وافقت بينهما معنىً، وذلك أن من صبر لم يجر دمعه، ومن لم يصبر جرى دمعه، ومراعاة المعنى أولى من مراعاة اللفظ.
وبكاك عطف على هواك ويجوز أن يكون عطفاً على الضمير في صبرت كأنه قال: صبرت وصبر بكاؤك فلم يجر دمعك أو لم تصبر فجرى دمعك.
كم غرّ صبرك وابتسامك صاحباً ... لمّا رآه وفي الحشى ما لا يرى
الوجه: لما رآهما. ولكنه أقام ضمير الواحد مقام الاثنين. وقيل: أراد، كم غر صبرك صاحباً لما رآه، وابتسامك لما رآه، فحذف أحد الضميرين لدلالة الآخر، كما قال بعضهم:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرّأي مختلف
أي نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض. ثم اكتفى بأحد الخبرين عن الآخر.
وقيل: إنه أضمر التجلد. والضمير في رآه إليه راجع؛ وذلك أن الصبر والابتسام واحد وهو التجلد.
والمعنى: أن كثيراً من أصحابك لما رأوا صبرك وضحكك غرهم ذلك منك، ولم يعلموا ما في قلبك من نار الهوى وألم العشق.
أمر الفؤاد لسانه وجفونه ... فكتمنه وكفى بجسمك مخبرا
الهاء في لسانه وجفونه: للفؤاد، وقيل: للعاشق؛ لأن في الكلام دلالة عليه، وفي كتمنه إلى ما لا يرى.
يقول: لسانك يكتم أمر الهوى فلا ينطق به، وجفونك تكتمه بترك البكاء، فكأن قلبك أمرهما بكتم الهوى، وهما إخوانه وأتباعه، ولكن نحول جسمك يخبر عما في قلبك، فكفى به مخبراً.
تعس المهارى غير مهريٍّ غدا ... بمصّورٍ لبس الحرير مصوّرا
المهارى: جمع مهري، وهي إبل تنسب إلى مهرة بن حيدان أبو حي من العرب جيد الإبل. وتعس: أي شقي جده، وقوله: بمصور أي بإنسان مصور صورة حسنة، لبس حريراً مصوراً بالصور والنقوش.
دعاء على الإبل؛ لأنها سبب الفراق، إلا هذا البعير الذي فوقه هذه المرأة التي هي كالصورة في حسنها، وعليها ثياب حرير عليها تصاوير. ومصوراً: نصب على الحال.
نافست فيه صورةً في ستره ... لو كنتها لخفيت حتّى يظهرا
الهاء في فيه للمصور وهو المحبوب، وقيل: هو الحرير. والهاء في ستره يرجع إلى المصور.
يقول: كان دون هذه المحبوبة ستر عليه صورة، نافست هذه الصورة وحسدتها على قربها من المحبوب، ولو كنت هذه الصورة لخفيت وغبت حتى يظهر المحبوب للرائيين، بخلاف هذا الستر الذي لا يغيب.
والفائدة في ظهوره إنما هو تنزه الأبصار برؤيته وتكون الفائدة فيه.
وصف نفسه بالنحول وأنه بصفة لا تستره عن الناظرين، أو يريد إقامة عذره للناس في حبه إياه.
لا تترب الأيدي المقيمة فوقه ... كسرى مقام الحاجبين وقيصرا
لا تترب: أي لا تفتقر المقيمة الفاعلة من الإقامة التي هي المتعدي من القيامة. وكسرى وقيصر نصب به، والهاء في فوقه للستر.
يقول: لا تترب يد من نقش على هذا الستر صورة كسرى وقيصر؛ حيث أقامهما على باب الستر كالحاجبين.
يقيان في أحد الهوادج مقلةً ... رحلت وكان لها فؤادي محجرا
المحجر: ما يبدو من النقاب من حوالي العين، جعل المحبوبة عين قلبه فقال: إن كسرى وقيصر يحفظان في واحد من الهوادج يعني هودج حبيبته مقلةً، فلما ارتحلت المقلة زال عن قلبي ضياؤه وعمي قلبي، فصار محجراً لا مقلة له.
قد كنت أحذر بينهم من قبله ... لو كان ينفع حائناً أن يحذرا
لهاء في قبله للبين، وقيل: أراد من قبل وقوعه، فحذف المضاف والحائن: الذي دنا حينه وهلاكه.
يقول: لو نفع الحذر الحائن لنفعني؛ لأني كنت أحذر فراقهم قبل وقوعه، فلم ينفعني الحذر، لما وقع بي ما حذرته.
ولو استطعت إذا غدت روّادهم ... لمنعت كلّ سحابةٍ أن تقطرا
الرواد: جمع رائد.
يقول: لو قدرت - حين تخرج روادهم لطلب الماء والكلأ - لمنعت السحاب من المطر، لكن لا قدرة لي على ذلك.
فإذا السّحاب أخو غراب فراقهم ... جعل الصّياح ببينهم أن يمطرا

يقول: لو قدرت لمنعت كل سحابة من المطر؛ لأني تأملت الحال فرأيت السحاب سبباً للفراق؛ لأنه إذا مطر خرجوا لطلب المطر والكلأ، فهو مثل غراب البين؛ لأنه إذا صاح أذن بالفراق ! ومطر السحاب كذلك، فالسحاب كالغراب ومطره في دلالته على الفراق كصياح غراب البين، فلو قدرت لمنعته من المطر حتى لا يؤدي إلى الفراق.
وإذا الحمائل ما يخدن بنفنفٍ ... إلاّ شققن عليه ثوباً أخضرا
الحمائل: جمع الحمولة، وهي الإبل التي يحمل عليها. والنفنف: المهوى بين جبلين. ويخدن: يسرعن. شبه كثرة الكلأ على وجه الأرض بثوب أخضر، وشقها إياه: رعيها له حتى يصير كالثوب المشقوق لما رعت الوسط وتركت الحافات.
وقيل: شقها إياه: سيرها فيه.
يقول: وإذا إبلهم لا تسير في فلاة إلا شقت عليها ما لبست من الكلأ، برعيها ووطئها.
يحملن مثل الرّوض إلاّ أنّه ... أسبى مهاةً للقلوب وجؤذرا
شبه الهوادج بالروض؛ للنقوش التي عليها، وشبه النساء التي في الهوادج ببقر الوحش وأولادها.
يقول: تحمل هذه الإبل في هذا الروض هوادج مثل الروض وكذلك مثل الروض من ربات الهوادج، إلا أن هؤلاء النساء أسبى للقلوب من المها والجآذر.
ومهاةً وجؤذرا نصبا على التمييز.
فبلحظها نكرت قناتي راحتي ... ضعفاً، وأنكر خاتماي الخنصرا
نكرت الشيء فأنكرته.
يقول: بسبب لحظ النساء ضعفت راحتي عن حمل قناتي، وقلق خاتمي في خنصري؛ لنحولي وضعفي.
أعطى الزّمان فما قبلت عطاءه ... وأراد لي فأردت أن أتخيّرا
يقول: أعطاني الزمان حظاً فلم أقبله منه، وأردت أن أكون أشرف منه، وأراد لي حالاً فأحببت أن يكون على اختياري، فلم أرض إلا بلقاء ابن العميد.
أرجان أيّتها الجياد فإنّه ... عزمي الّذي يذر الوشيج مكسّرا
أرجان: مدينة من فارس، أصله بتشديد الراء، ونصبه بفعل مضمر، أي اقصدي أرجان.
يقول لخيله: اقصدي أرجان فإني عزمت على لقاء ابن العميد عزماً صحيحاً، لو ردني عنه رمح لكسر الرمح عزمي.
والوشيج: الرماح. وأصله: أصول الرماح.
لو كنت أفعل ما اشتهيت فعاله ... ما شقّ كوكبك العجاج الأكدرا
الفعال بفتح الفاء: ما يفعله الإنسان من كرم وجود وغيرهما، وكوكب الخيل: مجتمعها، والأكدر: الأسود.
يقول لخيله: لو فعلت ما نت تشتهينه ما جشمتك دخول الغبار الأسود وشقه؛ لأن مرادك ألا تتكلفي ذلك، غير أني لا أرضى إلا بما أجشمك من المشقة في قصدي إلى ابن العميد ورؤيتي إياه.
أمّي أبا الفضل المبرّ أليّتي ... لأيمّمنّ أجلّ بحرٍ جوهراً
أمي: أي اقصدي، والمبر: المصدق، والآلية: اليمين. يعني: اقصدي أبا الفضل؛ فإنه الذي يبر يميني فيكون المبر خبراً لأمي.
يقول: اقصدي أبا الفضل، فإنه الذي يبر يميني حيث حلفت أني أقصد بحراً جوهره أجل من جوهر كل بحر، وليس أحد بهذه الصفة غيره، فهو الذي يبر يميني.
أفتى برؤيته الأنام وحاش لي ... من أن أكون مقصّراً أو مقصرا
يقال: قصرت عن الشيء: إذا تركته عاجزاً، وأقصرت: إذا تركته وأنت قادر عليه.
يقول: لما حلفت على أن ألقي أجل بحر جوهراً، أفتاني الناس كلهم بأن يميني لا تبر إلا برؤيته، لأنه المختص بهذه الصفة، وحاشى لي من أن أترك قصده قدرت أو لم أقدر عليه، فإن مثلي إذا حلف لا يحنث في يمينه، فلا بد لي من لقائه.
صغت السّوار لأيّ كفٍّ بشّرت ... بابن العميد، وأيّ عبدٍ كبّرا
يقول: صغت السوار، لأجعله في يد من يبشرني بابن العميد، وكذلك صغت لأي عبد كبر. يريد بذلك: ما جرى من عادة الناس إذا رأوا ما يتوقعون، أو شيئا يعجبهم كبروا عند رؤيته.
إن لم تغثني خيله وسلاحه ... فمتى أقود إلى الأعادي عسكرا ؟!
يقول: إن لم يغثني ابن العميد بخيله وسلاحه، لم أقدر على تجهيز الخيل إلى قتل الأعداء.
بأبي وأمّي ناطقٌ في لفظه ... ثمنٌ تباع به القلوب وتشترى
يقول: أبي وأمي فداء لناطق يملك بحسن لفظه، قلوب الناس، فكأنه يجعل لفظه ثمناً للقلوب يشتريها به.
من لا تريه الحرب خلقاً مقبلاً ... فيها، ولا خلقٌ يراه مدبرا
من بدل من قوله: بأبي وأمي ناطق والهاء في فيها للحرب.

يقول: بأبي من لا تريه الحرب أحداً من الناس مقبلا إليه، ولا يراه أحد مدبرا: أي لا يقدر على لقائه أحد، ولا يولي من بين يدي أحد أيضاً.
خنثى الفحول من الكماة بصبغه ... ما يلبسون من الحديد معصفرا
أي: جعل الفحول كالمخنثين الذين يلبسون المعصفرات: يعني خضب ثياب الكماة ودروعهم بدمائهم فصاروا كالمخنثين الذين يلبسون المعصفرات. وقيل: جعلهم كالمخنثين لجبنهم. وتقديره: بصبغه معصفرا ما يلبسون من الحديد.
يتكسّب القصب الضّعيف بخطّه ... شرفاً على صمّ الرّماح ومفخراً
أراد بالقصب الضعيف: القلم، وبالمفخر: الفخر.
يعني: إذا كتب بقلمه اكتسب قلمه بخطه شرفا على الرماح؛ لأنه يفعل بقلمه ما لا يفعله الفارس برمحه.
ويبين فيما مسّ منه بنانه ... تيه المدلّ فلو مشى لتبخترا
الهاء في منه للقصب.
يقول: يظهر في كل قصب مسه بنانه من التيه ما لو أمكنه المشي لتبختر في مشيه.
يا من إذا ورد البلاد كتابه ... قبل الجيوش ثنى الجيوش تحيّرا
يعني: إذا كتب لعدو كتاباً لم يحتج إلى إنفاذ الجيوش؛ لأنه يهزمهم بكتابه ويصيرهم متحيرين بوعده ووعيده.
وهذا المعنى ذكره ابن العميد لنفسه في قوله:
إذا ما حلّ أرض علاي خطبٌ ... كشفت الخطب عنها بالخطابه
وإن زحف الكتائب نحو أرضي ... قصمت عرى الكتائب بالكتابه
أنت الوحيد إذا ركبت طريقةً ... ومن الرّديف وقد ركبت غضنفرا
يقول: أنت في جميع أحوالك لا نظير لك، لا تركب إلا كل طريقة صعبة لا يطيقها أحد، ولا يتبعك فيها أحد؛ مخافة فضيحة، فكأنك ركبت الأسد، ومن ركب الأسد لا يمكن أحد من أن يصير رديفا له.
قطف الرّجال القول قبل نباته ... وقطفت أنت القول لمّا نوّرا
يقول: كلام الناس لم يدرك بعد، فهو كنور لم يتنور، وكلامك عذب فصيح كنور تنور وأدرك.
فهو المتبّع بالمسامع إن مضى ... وهو المضاعف حسنه إن كرّرا
فهو: أي القول.
يقول: كلامك كلما سمعه سامع استعاده وتتبعه بسمعه؛ لحسنه، وكلما كرر على المسامع ازداد حسنه.
وإذا سكتّ فإنّ أبلغ خاطبٍ ... قلمٌ لك اتخذ الأصابع منبراً
يقول: إذا سكت قام قلمك مقام خطابك، يخطب الناس ومنبره أصابعك شبه قلمه على أنامله بخطيب على منبر.
ورسائلٌ قطع العداة سحاءها ... فرأوا قناً وأسنّةً وسنّورا
السحاء ما يشد به القرطاس، سمي بذلك لأنه يسحي من ظهره أو يقشر، والسنور: ما لبس من جنس الحديد خاصة كالدروع والجواشن.
يقول: إذا فض أعداؤك كتبك رأوا من بلاغتك ما يملأ قلوبهم رعباً، فكأن الكتابة كتيبة فيها الرماح والأسلحة، تدفع بها الأعداء وتفل بها الجيوش.
وقيل: إنهم إذا رأوا فصاحتك ماتوا حسداً لك.
فدعاك حسّدك الرّئيس وأمسكوا ... ودعاك خالقك الرّئيس الأكبرا
كان ابن العميد يخاطب بالأستاذ الرئيس.
يقول: إن أعداءك خاطبوك بالرئيس، ولم يزيدوا عليه، والله تعالى قد سماك الرئيس الأكبر.
خلفت صفاتك في العيون كلامه ... كالخطّ يملأ مسمعي من أبصرا
الهاء في كلامه تعود إلى الخالق.
يعني: أن الله تعالى لم يدعك الرئيس الأكبر بصوت يسمع، وإنما جعل فيك صفات تقوم مقام كلامه، لأن صفاتك توجب لك هذه التسمية. فكأنها خط فيه حكاية قول الله تعالى: إنك الرئيس الأكبر. فكما أن الخط إذا نظر إليه فهم ما يدل عليه من المعاني، وإن لم يسمع، فكذلك يفهم في صفاتك هذا الاسم وإن لم يسمع.
أرأيت همّة ناقتي في ناقةٍ ... نقلت يداً سرحاً وخفّاً مجمرا ؟!
اليد السرح: السهلة القبض والبسط، والخف المجمر: الصلب يقول: هل رأيت همة ناقتي فيما بين النوق، كيف علت سائر الهمم، حيث قصدتك، بنقل يد سرح وخف مجمر، وترك الملوك وراءها.
تركت دخان الرّمث في أوطانها ... طلباً لقومٍ يوقدون العنبراً
الرمث نبت يوقد به وإذا أكلته الإبل اشتكت بطونها.
يقول: تركت ناقتي أهل البادية الذين يوقدون الرمث، وقصدت ملكاً يوقد العنبر، فهمتها بخلاف همة سائر النوق. ومثله للبحتري:
نزلوا بأرض الزّعفران وجانبوا ... أرضاً تربّ الشّيح والقيصوما
وتكرّمت ركباتها عن مبركٍ ... تقعان فيه وليس مسكاً أذفرا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8