كتاب : معجز أحمد
المؤلف : أبو العلاء المعري

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحرّ الّذي يحفظ اليدا ؟!
يقول: إذا قدرت على حر فعفوت عنه، فكأنك قتلته؛ لأنه لا يقدر بعد ذلك على محاربتك، حياءً من إحسانك إليه؛ ولكن أين ذلك الحر الذي يحفظ النعمة ويشكرها ؟! وقوله: ومن لك أي من يطلب لك الحر الذي يحفظ اليد.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللّئيم تمرّدا
يقول: إذا أكرمت الكريم وأحسنت إليه، فقد ملكته بإحسانك، وصار عبدك، وإذا أكرمت اللئيم كفر نعمتك، ولم يشكر إحسانك ! وظن أنك أكرمته خوفاً منه، فتمرد عند الإحسان للؤم طبعه.
ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلا ... مضرٌّ، كوضع السّيف في موضع النّدا
يقول: الإحسان إلى من يستحق السيف، مثل الإساءة إلى من يستحق الإحسان، في أن كل واحد منهما يقدح بالعلا ويضر بالملك وهذه الأبيات تعريض بالخليفة.
يقول: إذعانك له مع قدرتك عليه، حكم موضوع في غير موضعه، لأنه لا يعرف حق ذلك، ويعد ذلك يداً عليه. ومثله لآخر:
من لم يكن للوصال أهلاً ... فكلّ إحسانه ذنوب
ولكن تفوق النّاس رأياً وحكمةً ... كما فقتهم حالاً ونفساً ومحتدا
يقول: أنت أصوب الناس رأياً، وألطفهم حكمةً، كما أنك أحسنهم حالاً، وأشرفهم نفسا، وأكرمهم أصلاً.
ومعناه: أنك تفعل ما هو في الظاهر وضع الشيء في غير موضعه، ولكن لا اعتراض عليك؛ لأن رأيك أصوب الآراء، فلعلك رأيت فيه ما خفي على غيرك.
وقيل: إن معناه وضع الندى في موضع السيف يضر بالعلا، ولكنك لا تفعل شيئاً من ذلك، فلا تضع الندى إلا في موضعه، وكذلك السيف، لأن رأيك أصوب الآراء.
يدقّ على الأفكار ما أنت فاعلٌ ... فيترك ما يخفي ويؤخذ ما بدا
يقول: إن ما تفعله من المكارم والعجائب لا تحيط به أفكار الشعراء، فيذكرون ما ظهر لهم، ويتركون ما خفى عيهم.
أزل حسد الحسّاد عنّي بكبتهم ... فأنت الّذي صيّرتهم لي حسّدا
يقول: أزل عني حسد الحساد، بأن تكبتهم وتذلهم، بالازدياد في الإحسان إلي والرفع من منزلتي لديك، فإنك أنت الذي جعلتهم حساداً لي، إذ أعطيتني وقربت منزلتي عندك، حتى حسدوني على ذلك.
إذا شدّ زندي حسن رأيك في يدي ... ضربت بنصلٍ يقطع الهام مغمدا
يقول: إذا قربتني منك، وأعنتني بحسن رأيك، فلا أبالي بحسد الحساد، بل أقتلهم بأهون سعي، فعبر عن ذلك بالمغمد: الذي لا يعمل.
وما أنا إلاّ سمهريٌّ حملته ... فزيّن معروضاً وراع مسدّدا
المسدد: المشرع.
يقول: إنما أنا جمال مجلسك، وزين حضرتك، وأنا لك بمنزلة الرمح، تحمله يزينك، ويردع أعداءك في حربك، كذلك أنا أنشر مكارمك وأزين مجلسك وإذا حملتني إلى القتال قاتلت أعداءك.
وما الدّهر إلاّ من رواة قلائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدّهر منشدا
أراد بالقلائد: القصائد، وقد رويت أيضاً.
يقول: إن الدهر من جملة رواة قصائدي، فإذا قلت شعراً سار في الآفاق وبقى على الأيام، فصار كأن الدهر يرويه وينشده. وقيل: أراد به أهل الدهر. أي الناس كلهم يروون شعري وينشدونه.
فسار به من لا يسير مشمّراً ... وغنّى به من لا يغنّي مغرّدا
يقول: يسير بشعري من ليس عادته السير، يهديه إلى غيره، وكذلك يغني به تطريباً وتغريداً من لم يكن شأنه الغناء، لحسنه وموافقته للطباع، فيحمل كل سامع على الاستماع، ويحمل كل أحد على الإنشاد.
أجزني إذا أنشدت مدحاً فإنّما ... بشعري أتاك المادحون مردّدا
مردداً: منصوب على الحال من قوله: بشعري.
يقول: إذا أنشدك الشاعرون المدائح فأعطني الجائزة، فإني أحق منهم بها، لأنهم أخذوا المعاني من شعري ورددوها فيك، فكأنهم أتوك بشعري ونسبوه إلى أنفسهم.
وروى أن شاعراً مدح الصاحب بقصيدة سرق فيها أبياتاً من شعره، فوقع على ظهرها هذه بضاعتنا ردت إلينا.
ودع كلّ صوتٍ بعد صوتي فإنّني ... أنا الصّائح المحكيّ والآخر الصّدي
وروى: أنا الشاعر المحكي بدل الصائح.
يقول: لا تلتفت إلى الشعراء غيري؛ لأنهم يسرقون أشعارهم من أشعاري، فأنا الصائح الذي يحكي صوته، وهم كالصدى.
وقيل: معناه لا تسمع إلى قول غير قولي، فإن ما عداه هذيان، كالصدى من الصياح.

تركت السّرى خلفي لمن قلّ ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
يقول: أغنيتني بعطاياك، حتى قعدت عن السرى طلباً للغنى، وتركت السرى لمن هو قليل المال، وكثر لي الذهب حتى أنعلت به خيلي. وهذا كما قيل في المثل: من كثر ذهبه طلي به استه وقيل: إن سيف الدولة كان وهب له فرساً منعلاً بالذهب فذكره.
وقيّدت نفسي في ذراك محبّةً ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيّداً
محبةً: نصب لأنه مفعول له.
يقول: أحسنت إلي، فأقمت عندك، وصار إحسانك لي قيداً يمنعني عن الأسفار.
إذا سأل الإنسان أيّامه الغنى ... وكنت على بعدٍ جعلنك موعدا
يقول: إذا طلب أحد من الأيام أن تعينه، وكنت بعيداً عنه. قالت له الأيام: إذا بلغت سيف الدولة استغنيت. وقوله: وكنت على بعد إشارة إلى أن هذا الوعد من الأيام إنما يكون لمن بعد عنك، فأما القريب فقد أغنيته فلا يحتاج إلى السؤال.
وجرى ذكر ما بين العرب والأكراد من الفضل، فقال سيف الدولة ما تقول وتحكم في هذا يا أبا الطيب ؟ فقال:
إن كنت عن خير الأنام سائلاً
فخيرهم أكثرهم فضائلا
يقول: إن كنت تسألني عن خير الناس، فإن خيرهم من كانت فضائله أكثر، ثم بين من بعد. وفضائلا نصب على التمييز.
من أنت منهم يا همام وائلا
الطّاعنين في الوغى أوائلا
لم يصرف وائل لأنه اسم القبيلة، فهي معرفة مؤنثة؛ والطاعنين، وما بعده خبر، لأنه صفة لوائل وهي في موضع جر. وقيل: نصب على المدح.
يقول: خير الناس العرب الذين أنت منهم يا سيد وائل، وهم الذين يطعنون في الحرب أوائل الخيل في المعركة، فهم الشجعان لأنه يسبق إلى الطعان إلا الشجاع. وقيل: أراد بالأوائل. الوجوه والصدور، أي أنهم يطعنون وجوه الأعداء وصدورهم، فيكون نصباً على المفعولية.
وقيل: معناه أنهم يطعنون الأبطال أولا. أي يتقدمون إلى الأقران. ونصبه حينئذ على الحال.
والعاذلين في النّدى العواذلا
قد فضّلوا بفضلك القبائلا
العاذلين: عطف على الطاعنين.
يقول: إذا عذلهم العواذل على السخاء عذلوهن على عذلهن، ثم بين أن قبيلته قد فضلوا سائر القبائل بسبب فضله ومآثره.
وجلس سيف الدولة لرسول ملك الروم في صفر سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة فحضر أبو الطيب فوجد دونه زحمة شديدة، فثقل عليه الدخول فاستبطأه سيف الدولة فقال ارتجالاً:
ظلمٌ لذا اليوم وصفٌ قبل رؤيته ... لا يصدق الوصف حتّى يصدق النّظر
ظلم نكرة مفيدة، والوصف: خبره.
يقول: إن وصفت هذا اليوم قبل مشاهدة الحال فقد ظلمته، ولم أقدر على وصفه على الحقيقة إلا بعد المشاهدة، وإنما قال ذلك: تعظيماً لليوم، وأنه لا يحيط به العيان.
تزاحم الجيش حتّى لم يجد سبباً ... إلى بساطك لي سمعٌ ولا بصر
أي ازدحم الجيش عليك، حتى لم يبنك بصري من كثرة الناس في بساطك، وكثرت الأصوات حتى لم أسمع كلامك.
فكنت أشهد مختصٍّ وأغيبه ... معايناً، وعياني كلّه خبر
المعنى: كنت حاضراً، وكأني كنت غائباً؛ للازدحام، فلم يمكنني مشاهدة الحال، وكتب معايناً، وكان عياني خبراً؛ لشدة الزحمة وكثرة الناس.
اليوم يرفع ملك الرّوح ناظره ... لأنّ عفوك عنه عنده ظفر
يقول: إذا أجبته إلى الصلح أمن وزال منه الخوف، فيرفع طرفه؛ لأن عفوك عنه يقوم له مقام الظفر في هذه المرة.
وإن أجبت بشيءٍ عن رسالته ... فما يزال على الأملاك يفتخر
يقول: إن كتبت إليه جواب كتابه، افتخر بذلك على ملوك زمانه، وتشرف به على جميع أقرانه.
قد استراحت إلى وقتٍ رقابهم ... من السّيوف وباقي النّاس ينتظر
يقول: استراحت بهذا الصلح رقاب الروم عن السيوف، وانتظر سيوفك باقي الناس من الأعداء؛ لأنهم كانوا آمنين ما دمت مشتغلاً بغزو الروم، فالآن يخافونك أن تقاتلهم.
وقد تبدّلها بالقوم غيرهم ... لكي تجمّ رءوس القوم والقصر
الهاء في تبدلها للسيوف، والقوم. هم الروم. وغيرهم: نصب بتبدلها.
يقول: تبدل سيوفك وتنقلها من رقاب الروم إلى غيرهم، لتستريح رقابهم من ضرب السيوف، وهذا عادتك إذا أدمت القتل في قوم وأقللتهم تقلب سيوفك إلى قوم آخرين لتريحهم، فإذا كثروا واجتمعوا عاودتهم القتل وأبدتهم.

تشبيه جودك بالأمطار غاديةً ... جودٌ لكفّك ثانٍ ناله المطر
يقول: إذا شبهنا جودك بالأمطار، وصار ذلك مدحاً للمطر، وكأن هذا، تشبيه جودك، ثانياً منك على المطر وغادية: نصب على الحال من الأمطار.
تكسّب الشّمس منك النّور طالعةً ... كما تكسّب منها نورها القمر
طالعةً: نصب على الحال.
يقول: الشمس تأخذ من نورك، كما أن القمر يأخذ من نور الشمس. أي أنك للشمس شمس، كالشمس للقمر.
وقال أيضاً يمدحه ويذكر مجيء الرسول من عند ملك الروم، ودخلوه عليه، في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة.
دروعٌ لملك الرّوم هذي الرّسائل ... يردّ بها عن نفسه ويشاغل
هذي الرسائل: مبتدأ، ودروع: خبره.
يقول: هذه الرسائل تقوم للملك مقام الدروع، يحفظ بها نفسه، ويرد الموت عنه، ويشاغلك عن قتاله، ويدفعك عن قصده، ريثما يرجع رسوله إليه.
هي الزّرد الضّافي عليه ولفظها ... عليك ثناءٌ سابغٌ وفضائل
الزرد: حلق الدروع، والضافي: السابغ التام.
يقول: هذه الرسائل دروع سابغة، يلبسها ملك الروم؛ يدفع بها عن نفسه. ولفظها ثناء عليك وفضائل لك، فكأنها دروع له من حيث الباطن، وثناء لك من حيث الظاهر.
وأنّى اهتدى هذا الرّسول بأرضه ... وما سكنت مذ سرت فيها القساطل
أنى: بمعنى كيف وأين، والقساطل: هو الغبار. والهاء في بأرضه للرسول وفي فيها لأرضه.
يقول: كيف اهتدى هذا الرسول في طرقه وهي مظلمة ؟! بغبار الخيل وقتام الحرب، وما سكن بعد ذلك الغبار !
ومن أيّ ماءٍ كان يسقى جياده ... ولم تصف من مزج الدّماء المناهل ؟!
المنهل: موضع الشرب من الوادي، وأصله النهل.
يقول: من أي ماء كان يسقى خيله، وكل ماء كان ممزوجاً بدما القتلى.
أتاك يكاد الرّأس يجحد عنقه ... وتنقدّ تحت الذّعر منه المفاصل
يقول: أتاك هذا الرسول، وقد امتلأ قلبه ذعراً، مما شاهد من إيقاعك بأصحابه، حتى يكاد رأسه يجحد عنقه: أي يفارقه، وتنقد مفاصله وتتقطع، من عظم خوفه منك؛ مما شاهده وتحقق من عاداتك في قتلهم.
يقوّم تقويم السّماطين مشيه ... إليك إذا ما عوّجته الأفاكل
السماطان: صفان من الرجال يمتدان بين يدي السلطان. والتقويم: رفع لأنه فاعل يقوم ومفعوله: مشيه، والأفاكل: جمع الأفكل، وهو الرعدة.
يقول: كان يرتعد عند مشيه إليك، فقوم مشيته تقويم السماطين.
فقاسمك العينين منه ولحظه ... سميّك والخلّ الّذي لا يزايل
منه: أي من الرسول، وكذلك لحظه: أي لحظ الرسول. وفاعل قاسمك: سميك، والمراد به: السيف.
يقول: قسم سيفك عيني الرسول بينك وبينه، فكان ينظر بإحدى عينيه إليك، وبالأخرى إلى سيفك، لأنه كان يخاف منك أن تأمر بقتله، ومن سيفك أن تقتله به.
أو كان ينظر إليك ويرى كرم أخلاقك فيطمع في عفوك، وإذا نظر إلى سميك خاف بأسه، فقسم عينيه بينكما، ءيرجو ويخاف، وهذا السمى: هو خليلك الذي لا يزايلك.
وأبصر منك الرّزق والرّزق مطمعٌ ... وأبصر منه الموت والموت هائل
يقول: إذا نظر إليك طمع في الحياة؛ بما يشاهد من مخايل جودك، وأمل عفوك، وإذا نظر إلى سيفك عاين فيه الموت، لما هاله من هيبتك. والواو في قوله والرزق مطمع والموت هائل للحال.
وقيل: معناه رأى أرزاق كثير من الناس تحت يديك، فأطمعه ذلك في أن يكون من جملة القوم، ورأى حتف كثير منهم بسيفك، فهاله ذلك.
وهذا البيت يدل على المعنى الثاني الذي ذكرناه في البيت الذي قبله.
وقبّل كمّاً قبّل الأرض قبله ... وكلّ كميٍّ واقفٌ متضائل
المتضائل: المخفي شخصه من الجبن والفزع، وقيل: هو المنقبض. والواو في قوله: وكل كمي للحال.
يقول: لما وصل الرسول إليك قبل أولاً الأرض بين يديك، ثم قبل كمك، والأبطال قيام بين يديك، قد تضاءلوا هيبة لك، وأخفوا أنفسهم إجلالاً لك.
وأسعد مشتاقٍ وأظفر طالبٍ ... همامٌ إلى تقبيل كمّك واصل
أسعد: مبتدأ. وأظفر: عطف عليه، وهمام: خبره.
يقول: ملك وصل إلى تقبيل كمك هو أسعد مشتاق وأظفر طالب لحاجة، ولا مزيد على ما ناله من الشرف.
مكانٌ تمنّاه الشّفاه ودونه ... صدور المذاكي والرّماح الذّوابل

يقول: إن كمك وتقبيله، مكان تتمنى الشفاه الوصول إليه، وتريد الملوك تقبيله ولكنهم لا يصلون إليه.
فما بلّغته ما أراد كرامةٌ ... عليك، ولكن لم يخب لك سائل
كرامة: فاعل بلغته، والمفعول الأول الهاء والثاني ما.
يقول: لم يبلغ الرسول إلى ما بلغه من تقبيل كمك كرامته عليك؛ لأنه كافر وأنت تبغضه وتستخف به، ولكن لما سألك أن تمكنه من ذلك لم تخيبه، إذ عادتك ألا تخيب سائلك.
وأكبر منه همّةً بعثت به ... إليك العدى واستنظرته الجحافل
روى: أكبر بالرفع والنصب.
فالرفع: على أنه اسم المبالغة والمعنى: على أن همة الرسول وإن كانت كبيرة في قدومه عليك، فأكبر همة منه، العدى حيث بعثوا به إليك، وسألوه أن يؤخر عنهم القتال؛ لشغله إياك عنهم، والاستنظار: طلب النظر، وهو التأخير.
والنصب: يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون اسماً كالأول ومعناه: رب رسول أكبر من هذا الرسول همة، وأعلى منه قدراً، جاءك رسولاً، واستنظرته الجحافل، كما استنظرت هذا الرسول، ثم رجع إليهم وهو يعذلهم على مخالفتهم أمرك. فعلى هذا يكون البيت الذي بعده من تمامه.
والمعنى الثاني: أن يكون أكبر فعلاً ماضياً، وفاعله العدى وهمة مفعوله. والمعنى: أن العدى أكبروا واستعظموا همةً بعثت هذا الرسول إليك، وأقدمته على الدنو منك، واستنظرت هذا الرسول الجحافل على ما بيناه
فأقبل من أصحابه وهو مرسلٌ ... وعاد إلى أصحابه وهو عاذل
يقول: هذا الرسول جاء من أصحابه رسولاً، ثم عاد إليهم يعذلهم على ترك طاعتك؛ لما رآه من عظم شأنك.
تحيّر في سيفٍ ربيعة أصله ... وطابعه الرّحمن والمجد صاقل
ربيعة: ابن نذار، وإليه ينسب سيف الدولة.
لما رآك تحير فيك؛ لأنه رأى سيفاً لا كالسيوف، إذ السيف أصله الحديد، وطابعه الحداد، وصاقله الصيقل، وأنت أصلك من ربيعة، والرحمن طابعك، والمجد صاقلك.
وما لونه ممّا تحصّل مقلةٌ ... ولا حدّه ممّا تجسّ الأنامل
يقول: لون هذا السيف لا يدركه النظر، ولا تحققه المقلة، ولا يمكن الناظرين أن يملئوا أعينهم منه، هيبةً له، وكذلك ليس حده مما يمكن أن يختبر باللمس كما يحس ويضبط سيف الحديد. فتحير هذا الرسول في سيف هذه صفته.
إذا عاينتك الرّسل هانت نفوسها ... عليها وما جاءت به والمراسل
المراسل: ملك الروم. والرسل: الرسل. وما جات به: الرسالة.
يقول: إذا رأتك الرسل استحقروا أنفسهم، واستحقروا ما جاءوا به من الرسالة، واستحقروا صاحبهم الذي أرسلهم إليك؛ لما يرون من هيبتك وعلو شأنك.
رجا الرّوم من ترجى النّوافل كلّها ... لديه وما ترجى لديه الطّوائل
النوافل: العطايا، واحدتها نافلة. ومن ترجى: هو سيف الدولة يرجى منه كل عطية وصلة، ويوصل إلى كل مراد، إلا إدراك الثأر، فإنه لا يوصل إليه منه.
فإن كان خوف القتل والأسر ساقهم ... فقد فعلوا ما القتل والأسر فاعل
يقول: إن كان الذي ساقهم إليك لطلب الصلح والأمان، هو الخوف من القتل والأسر، فقد فعلوا في مجيئهم إليك ما يفعله الأسر والقتل، من الذل والاستكانة؛ لأنهم إنما جاءوك خوفاً، فصاروا مقتلين مأسورين.
فخافوك حتّى ما لقتلٍ زيادةٌ ... وجاءوك حتّى ما تزاد السّلاسل
ما نفي في الموضعين.
يقول: خوفهم منك قام لهم مقام القتل، فليس للقتل زيادة على ما أصابهم، وكذلك جاءوك مستسلمين في أمرهم طائعين كالأسارى، حتى لا يحتاج معهم إلى السلاسل؛ لأن الأسير إنما يشد إذا خيف عليه الهر.
والمصراع الأول مثل:
وإلاّ فأعلمه بأنّك ساخطٌ ... ودعه فإنّ الخوف لا شكّ قاتله
أرى كلّ ذي ملكٍ إليك مصيره ... كأنّك بحرٌ والملوك جداول
يقول: كل ملك يصير إلى حضرتك، وينضاف ملكه إلى مملكتك، فكأنك بحر وهم جداول تنصب إلى البحر.
إذا مطرت منهم ومنك سحائبٌ ... فوابلهم طلٌّ وطلّك وابل
الوابل: أشد المطر. والطل: أضعفه.
يقول: إنك تزيد على الملوك في كل حال، فكثير عطاياهم إذا قيست إلى عطاياك قليل، بمنزلة الطل من الوابل، وقليلها منك إذا قيس إلى عطاياهم كثير، كالوابل من الطل.
كريمٌ متى استوهبت ما أنت راكبٌ ... وقد لقحت حربٌ، فإنّك نازل
لقحت حرب: اشتدت.

يقول: أنت كريم بحيث لو سألك سائل في شدة الحرب فرسك الذي أنت راكبه، لنزلت عنه ووهبته له !
أذا الجود أعط النّاس ما أنت مالكٌ ... ولا تعطينّ النّاس ما أنا قائل
أذا الجود: أي يا ذا الجود، والألف للندى.
يقول: الشعر الذي أقوله لا يشركني فيه أحد.
وقيل: أراد لا تقبل منهم.
يقول: يا ذا الجود أعط الناس ما أنت مالك من المال، ولا تعطهم ما اختص به. من القصد لمكان يسرقونه من شعري في مدائحك، ولا تعطهم عليه الجائزة، فإني أنا القائل لذلك في الحقيقة.
وقيل: أراد لا تمكن الناس من مكارمك التي أذكرها في شعري، بل كن أبداً متفرداً بها.
وقيل: معناه لا تحملني على مدح غيرك، فتكون قد تركت شعري للناس.
وقيل: أراد لا تمكن الناس من شعري فيسرقوا معانيه ويفسدوه.
وهذا لا معنى له، إذ لا معنى لسؤاله إياه ستر شعره، ومنعهم من سرقة معانيه؛ لأن ذلك يكون سؤالاً لكتمان فضله، وطلباً لإخفاء ذكره.
أفي كلّ يومٍ تحت ضبني شويعرٌ ... ضعيفٌ يقاويني قصيرٌ يطاول ؟!
الضبن: الحضن، وهو ما تحت اليد من الجنب. ويقاويني: من القوة. ويطاول: من الطول.
يقول: لا أزال أرى كل يوم شويعراً هو ضعيف، ومع ذلك يفاخرني في القول، وهو قصير يطاولني بقصره، أي يباريني ولا يقاومني.
وقيل: هذا تعريض بالنامي، وقيل: بابن نباتة. وقيل: أراد غيرهما من شعراء سيف الدولة.
لساني بنطقي صامتٌ عنه عادلٌ ... وقلبي بصمتي ضاحكٌ منه هازل
يقول: لساني مع كوني ناطقاً قادراً على الكلام صامت عن هذا الشويعر، وعادل عنه لقلته وقلة مبالاتي به. وقلبي ضاحك منه ومن جهله مع صمتي عن إجابته. يعني أضحك منه في نفسي وإن لم أنطق بالكلام.
وأتعب من ناداك من لا تجيبه ... وأغيظ من عاداك من لا تشاكل
وروى: أيضاً من ناوأك من المناوأة وهي: المعاداة وناداك أولى لقوله: لا تجيبه ولقوله بعده من عاداك.
يقول: أشد الناس تعباً في ندائه من ناداك وأنت لا تجيبه، بل تجعل السكوت جوابه، وأشدهم غيظاً من عاداك وهو دونك في العمل، فيعجز عن مقاومتك.
وقيل: أراد إذا دعاك من هو دونك غاظك ذلك منه.
وما التّيه طبّى فيهم غير أنّني ... بغيضٌ إليّ الجاهل المتعاقل
التيه: الكبر. وطبى: أي عادتي. وعدمي.
يقول: ليس دائي الكبر، ولم يكن ترك جوابه كبراً وتيهاً، غير أني أبغض الجاهل المتكلف للعقل والفضل، وكرهت مجاوبته رفعاً لنفسي عن مقاومته.
وأكثر تيهي أنّني بك واثقٌ ... وأكثر مالي أنّني لك آمل
يقول: أكثر تيهي أني واثق بك؛ لأنك لا تقبل على قول حاسد، ولا يخفي عليك تمويه مموه، وأنك تعرف فضلي فتوفيني ما أستحقه من المنزلة. وأكثر مالي، هو أملي إياك ورجائي فيك، إذ لا تخيب آمليك.
لعلّ لسيف الدّولة القرم هبّةً ... يعيش بها حقٌّ ويهلك باطل
هبةً: أي نشاطاً واهتزازاً.
يقول: أرجو أن يكون منه هزة في أمري مع غيري من الشعراء الذين ينازعون فضلي، ليظهر الحق ويهلك الباطل، وهو التمويه والكلام المسروق، أو يقتل أعدائي، فأستريح منهم.
وقيل: أراد لعل له هزة وحركة يأخذ بها الروم كلها فيهلكها، فينصر فيها الحق، ويهلك الباطل: وهو الكفر.
رميت عداه بالقوافي وفضله ... وهنّ الغوازي السّالمات القواتل
يقول: رميت أعداءه بقصائدي في سيف الدولة، وفضله فيها، فقتلتهم بها حسداً وغيظاً، وهذه القوافي أسلم من الخلل والفساد من السيوف والرماح؛ لأنهم لم يجدوا في شعري مطعناً، ولا لفضائله مدفعاً.
وقد زعموا أنّ النّجوم خوالدٌ ... ولو حاربته ناح فيها الثّواكل
يقول: الناس يزعمون أن النجوم مخلدة لا يلحقها فناء، وليس كما زعموا، فإنها لو حاربته لقتلها وناح عليها من يثكلها.
وقيل: أراد لو قصدته بنحس لأبطل نحوستها وأفناها، فيبطل قول من قال: إنها خوالد.
وما كان أدناها له لو أرادها ... وألطفها لو أنّه المتناول
يقول: إن النجوم تقرب له إذا أرادها، غاية القرب، ولو أراد أن يتناولها لكانت أقرب الأشياء إليه.
قريبٌ عليه كلّ ناءٍ على الورى ... إذا لثّمته بالغبار القنابل
القنابل: جمع القنبلة وهي الجماعة من الخيل، قدر الخمسين فصاعد. ولثمته: أي شدت عليه اللثام.

يقول: إذا رام مراماً بعيداً سهل عليه الوصول إليه إذا دخل الحرب والتثم بغبار خيله، وإن كان بعيدا على من سواه.
تدبّر شرق الأرض والغرب كفّه ... وليس لها وقتاً عن الجود شاغل
روى: وقتاً نصباً على الظرف. وروى: وقت فيكون اسم ليس وشاغل صفته.
يقول: إن كفه تدبر شرق الأرض وغربها، ولا يشغلها عن الجود شاغل وقتاً يعني أنه مع شغله بتدبر الأرض، لا يشتغل عن الجود ساعة واحدة، وعلى الرفع: أنه يملك الأرض، وليس وقت يشغله عن الجود.
يتّبغ هرّاب الرّجال مراده ... فمن فرّ حرباً عارضته الغوائل
الغوائل: الدواهي، وهي جمع غائلة، وفاعل يتبع: ضمير سيف الدولة. وحرباً: نصب لأنه مفعول له، وقيل: أصله من حرب فحذف من ونصبه.
يقول: إن سيف الدولة يجعل مراده طالباً لكل من هرب منه، فمن فر منه خوفاً من محاربته، عارضته في طريقه - من قبل سيف الدولة - الغوائل والبلايا فأهلكته.
ويجوز رفع مراده فيكون هو فاعل يتبع ومعناه: أن مراده يتبع هراب الرجال ويطلبهم حتى يدركهم، فيكون اتبع وتبع بمعنى.
ومن فرّ من إحسانه حسداً له ... تلقّاه منه، حيثما سار نائل
يقول: إن جوده عم الأرض، فمن حسده على إحسانه وهرب إلى موضع لا يرى فيه إحسانه ولا يسمع به، رأى منه في كل مكان نائلاً، وسمع حيثما كان بذكر جوده وعطاياه، فلا يمكنه الفرار منه أبداً.
فتى لا يرى إحسانه وهو كاملٌ ... له كاملاً حتّى يرى وهو شامل
الشامل: العام.
يقول: لا يرى إحسانه الكمل كاملاً، حتى يكون مع كماله عاماً شاملاً.
إذا العرب العرباء رازت نفوسها ... فأنت فتاها والمليك الحلاحل
العرباء والعاربة: القديمة. رازت: أي جربت، والحلاحل: السيد. وروى: فأنت قناها وروى فتاها يقول: إذا جربت العرب أنفسها، واختبرت أحوالها، علمت أنك سيدها وكريمها.
أطاعتك في أرواحها وتصرّفت ... بأمرك والتفّت عليك القبائل
يقول: إن العرب أطاعتك في أرواحها: أي لو أمرتها بقتل نفوسها لأطاعتك، وتصرفت العرب بأمرك، واجتمعت قبائلها عليك طاعة لك وانقياداً.
وقيل: أراد أن أنسابهم أحدقت بنسبك، وأنت الواسطة فيهم.
وكلّ أنابيب القنا مددٌ له ... وما تنكت الفرسان إلاّ العوامل
عامل الرمح: قدر ذراعين من أعلاه. وتنكت: أي تسقط، يقال: نكته عن فرسه: أي أسقطه على رأسه.
يقول: أنت من العرب كالسنان من الرمح، وهم كالأنابيب تحته. والأنابيب تكون مدداً للسنان وعونا للرمح والغرض يحصل بالسنان: وهو الذي يتقدم في الحرب، فكذلك تتولى الحرب وتتقدم إليها كالسنان.
قال ابن جني: أردت أن أقول: وما ينكت بالياء، فأبى أبو الطيب ذلك وقال: أريد وما تنكت الأنابيب فلذلك أنثت وهذه لغة يقال: ما قامت إلا هند، أي ما قامت امرأة إلا هند، فكذلك تقديره: ما تنكت أنبوبة الفرسان إلا العوامل، واللغة الجيدة في مثل هذا الموضع إضمار وتذكير الفعل، فيقال: ما قام أحد إلا هند. وإضمار المؤنث أيضاً لغة.
رأيتك لو لم يقتض الطّعن في الوغى ... إليك انقياداً، لاقتضته الشّمائل
يقول: لو لم يقد الناس إلى طاعتك الخوف من طعنك، لقادهم إليك كرم شمائلك.
ومن لم تعلّمه لك الذّلّ نفسه ... من النّاس طرّاً علّمته المناصل
يقول: من لم يتعلم لك الذل في الخضوع من ذلة نفسه، علمه السيف ذلك. يعني: من لم يذل لك طائعاً ذل قهراً وجبراً. ومثله الآخر.
فإن لّم تصل رحم ابن عمرو بن مرثدٍ ... يعلّمك وصل الرّحم عضبٌ مجرّب
وأنفذ سيف الدولة قول الشاعر، وهو أبو الأسود الدؤلي:
رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتّى تجلّت
وسأله إجازته فقال ورسوله واقف:
لنا ملكٌ ما يطعم النّوم، همّه ... مماتٌ لحيٍّ أو حياةٌ لميّت
تم الكلام عند قوله: ما يطعم النوم ثم ابتدأ فقال: همه معناه: أنه لهمته لا ينام، كما قال:
يؤرّقه فيما يشرفه الفكر
ثم قال: إن همه مقصور على إحياء الأولياء: يعني تخليصهم من الهلكة، وإماتة الأعداء.
ويكبر أن تقذى بشءٍ عيونه ... إذا ما رأته خلّةٌ بك فرّت

يقول: هو أكبر من أن يرى شيئاً مكروهاً تقذى به عينيه، ولكنه إذا رأته خلة الإنسان: أي فقره وحاجته فرت الخلة منه وبعدت.
فكأنه أراد أن يزيد على ما في البيت؛ لأن الشاعر. قال: رآى خلتي فكانت في عينيه كالقذى حتى أزلها عني: أي لم يزل يتألم بها حتى أزالها، كما يتألم من تسقط في عينه القذاة.
وهو يقول: هو أكبر من أن يرى شيئاً يؤلم عينيه، فهو يزيل خلة قاصده قبل أن يراه ويقذى هو بها.
جزى اللّه عنّي سيف الدولة هاشمٍ ... فإنّ نداه الغمر سيفي ودولتي
يقول: قد أصبح جوده لي سيفاً أصول به على حوادث الدهر، ودولتي حسنت معها. فجزاه الله عني في إحسانه علي وإسدائه النعم إلي. والغمر: الكثير.
وأحدث بنو كلاب حدثاً بنواحي بالس فسار سيف الدولة خلفهم وأبو الطيب معه، فأدركهم بعد ليال بين ماءين يعرفان بالغبارات والخرارات من جبل النسر فأوقع بهم ليلاً فقتل منهم وملك الحريم، فأبقى وأحسن إلى الحرم فقال أبو الطيب بعد رجوعه في جمادي الآخرة من سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة:
بغيرك راعياً عبث الذّئاب ... وغيرك صارماً ثلم الضّراب
العبث: الولوع بالشيء من غير معنى. وراعياً: نصب على الحال من الضمير في قوله: بغيرك وقيل على التمييز: والراعي: الحافظ، وسمى الأمير راعياً، لحفظه الناس. وغيرك: مفعول مقدم، نصبه ثلم وصارماً نعت له، وقيل: المفعول صارما وغير نصب على الحال، فيكون التقدير: وثلم الضراب صارماً غيرك، فلما تقدم نعت النكرة عليها انتصب على الحال.
يقول: مثلك لا يعبث به أحد في ممالكه، وإنما يعبث بغيرك من الملوك، الذين لا يقدرون على ضبط رعيتهم وحفظ نواحيهم.
وجعل الذئاب والراعي مثلا، فشبه بني كلاب حين عدوا عليه بالذئاب إذا تعرضت للراعي وحاولت الاختلاس من غنمه، كذلك إذا كسر الضراب السيوف، فإنما يكسر ما عداك منها، ولا يعمل فيك مع كونك سيفاً: أي أنك لا تمل من الحروب ولا يؤثر فيك مداومة الضرب.
وقيل: أراد نوائب الدهر وكيد الأعداء لا يعمل فيك. فكأنه قسم الناس ثلاثة أقسام: راع، وهو سيف الدولة وسائر الملوك، وذئاب: وهم بنو كلاب وغيرهم من الصعاليك وأهل الفساد، وغنم: وهم عامة الناس.
وتملك أنفس الثّقلين طرّاً ... فكيف تحوز أنفسها كلاب ؟!
كلاب: قبيلة يقول: كيف تقدر بنو كلاب أن يحوزوا أنفسهم ويحصنوها بالفرار منك ؟ وأنت تملك أرواح الثقلين !
وما تركوك معصيةً ولكن ... يعاف الورد والموت الشّراب
يعاف: أي يكره: والورد: الورود.
يقول: لم يفارقك هؤلاء قصداً منهم إلى معصيتك، ولكن خافوا سطوتك وقتلك؛ لأن الشراب إذا كان الموت، كره الورود عليه، فلا لوم عليهم في ذلك.
طلبتهم على الأمواه حتّى ... تخوّف أن تفتّشه السّحاب
يقول: لم يبق ماء في المفازة إلا طلبتهم عليه، حتى ظن السحاب أنك ترقى إله وتطلبهم فيه ! وإنما ذكر السحاب لأنه يحتمل الماء، فجعله من جملة الأماكن التي تضمن المياه، وهذا مبالغة عظيمة.
فبتّ ليالياً لا نوم فيها ... تخبّ بك المسوّمة العراب
تخب: من الخبب، وهو أرفع السير. والمسومة: الخيل المعلمة.
يقول: إنك لم تنم ليالي تسري في طلبهم، تسرع بكم خيل عراب.
يهزّ الجيش حولك جانبيه ... كما نفضت جناحيها العقاب
شبه سير الجيش عن يمينه ويساره واهتزازه، بجناحي عقاب في طيرانها. وقيل: العقاب: ملك الطير، فشبه سيف الدولة بالعقاب؛ لكونه ملكاً، إلا أنه شبهه به في حال ما يكون في قلب العسكر والعسكر حوله يضطرب ويتحرك يمنة ويسرة، وجعل أصحاب اليمين أحد جناحيه، وأصحاب الشمال جناحه الآخر، وجعله في الوسط، كالعقاب التي نفضت جناحيها.
وتسأل عنهم الفلوات حتّى ... أجابك بعضها وهم الجواب
يقول: ما زلت تبحث عنهم فلاة فلاة، حتى وجدتهم في بعض الفلوات، فكأنك كنت تسأل عنهم الفلوات التي كانوا فيها، فصاروا كالجواب، لأنك أصبتهم.
فقاتل عن حريمهم وفرّوا ... ندى كفّيك والنّسب القراب
حريم الشيء: حقوقه، وما يحرم إضاعته من الأهل والنساء. والقراب: أبلغ من القريب. والندى: فاعل قاتل. والنسب: معطوف عليه.

يقول: إن ندى كفيك ونسبك القريب من هؤلاء، قام لهم مقام من يقاتل عن حريمهم حين فروا وإنما أثبت لهم قرب النسب؛ لأن سيف الدولة وهم، ينتسبون إلى أصل واحد، وهو معد بن عدنان وقد أشار إليه.
وحفظك فيهم سلفي معدّ ... وأنّهم العشائر والصّحاب
وروى: النساب وهو أصل النسب. الصحاب، جمع الصاحب، كقائم وقيام. وقيل: جمع صحب ككعب وكعاب. وقوله: سلفي معد أي إنهم من قبل آبائهم وأمهاتهم ينتسبون إلى معد بن عدنان.
يقول: قاتل عن حريمهم ندى كفيك والنسب القراب، وحفظك فيهم سلفهم في معد، وأنهم عشائرك وأصحابك.
تكفكف عنهم صمّ العوالي ... وقد شرقت بظعنهم الشّعاب
تكفكف: أي تكف وتصرف عنهم. وشرقت: أي امتلأت كما يشرق الإنسان بالماء. والظعن: النساء، الواحدة: ظعنية، وهي المرأة ما دامت في الهودج والشعاب: جمع شعب، وهو الطريق في الجبل.
يقول: رددت عنهم الرماح، وأمسكت عن قتلهم، لما فروا منك وظفرت بهم وقد امتلأت الشعاب من نسائهم وأموالهم.
وأسقطت الأجنّة في الولايا ... وأجهضت الحوائل والسّقاب
الولايا: جمع ولية، وهي شبيهة بالبرذعة، تطرح على ظهر البعير مما يلي سنامه. وأجهضت أرهقت وأتعبت حتى قامت، يقال، أجهضه: السير إذا أتعبه وأجهضت الناقة ولدها: أي اسقطت. والحوائل: جمع الحائل وهي التي لم تحمل في سنتها. وقيل الحائل الأنثى من ولد الناقة. والسقب: الذكر منها. وقيل السقب ولد الناقة ما دام صغيراً.
يقول: إنهم أمعنوا في الهرب خوفاً منك، وكانوا قد أردفوا نساءهم وراء الخيل وفيهم الحبالى، فأسقطن أولادهن في البراذع، على أعجاز الخيل، أو كن يركبن الإبل فأسقطن الأجنة على ظهور الإبل، وتعبت الإبل الحوائل والسقاب، فقامت ولم تقدر على السير، لما لحقها من الجهد والعياء.
وإذا قلنا إن الإجهاض: هو الإسقاط، فمعناه أن النوق أسقطت أولادها الإناث والذكور.
وعمروٌ في ميامنهم عمورٌ ... وكعبٌ في مياسرهم كعاب
بنو عمرو، وبنو كعب، بطنان من العرب، عمرو بن كلاب، وكعب بن ربيعة. والميمنة: جانبه الأيمن والميسرة: الأيسر.
يقول: اختلفت كلمة هذين البطنين خوفاً منك فقال قوم: نهرب عنه، وقوم: نتقدم فنأخذ الأمان، وقال آخرون: نتقدم ونحارب، وكانوا قبل ذلك يداً واحدة فاختلفوا حتى صارت عمرو عمورا، وكعب كعاباً، ومثله قول معاوية ابن مالك:
رأيت الصّدع من كعبٍ جميعاً ... وكان الصّدع لا يعد ارتئابا
فأمسى كعبها كعباً وكانت ... من الشّنآن قد دعيت كعابا
يعني: كانوا متفرقين متعادين فأصلحت بينهم، حتى عادوا إلى الألفة والاتفاق وصارت كلمتهم واحدة.
وقد خذلت أبو بكر بنيها ... وخاذلها قريطٌ والضّباب
أبو بكر: هنا قبيلة من بني كلاب؛ فلهذا أنث، وكذلك الضباب. والقريط: بطنان من بني كلاب. وروى قريظ بالظاء والطاء.
يقول: خذل بعض هؤلاء بعضاً وتفرقوا، لما أحسوا بطلبك إياهم، بعد أن كانوا مجتمعين على محاربتك.
إذا ما سرت في آثار قومٍ ... تخاذلت الجماجم والرّقاب
يقول: إذا سرت في أثر قوم خذلت رقابهم رءوسهم يعني: أنك تدركهم وتضرب أعناقهم، وتفرق رءوسهم من أجسادهم، إذا كان العنق يسلم رأسه والرأس يفارق جسمه خوفاً منك، فكيف لا تتفرق القبائل ويخذل بعضهم بعضا ؟!
فعدن كما أخذن مكرّماتٍ ... عليهنّ القلائد والملاب
الملاب: ضرب من الطيب.
يقول: إنك لما أسرت نساءهم بما عليهن من الحلي والطيب، لم يتعرض أحد لهن، بل رجعن إلى أهلهن وعليهن ثيابهن وطيبهن.
وقيل: أراد أنهن كن بلا قلائد ولا عطر، فقلدهن سيف الدولة وطيبهن.
يثبنك بالّذي أوليت شكراً ... وأين من الّذي تولى الثّواب ؟!
يثبنك: أي يجزينك ويعوضنك يقول: رجعن إلى أهلهن وهن يشكرنك على ما أوليتهن من الصفح الجميل، والإحسان الجزيل، ولكن أين الثواب وشكرهن جميل فعلك ؟! أي أن الشكر لا يقابل إحسانك ولا يبلغ أن يكون جزاء له.
وليس مصيرهنّ إليك شيناً ... ولا في صونهنّ لديك عاب
روى شيناً وسبياً والأول أجود في مقابلة عاب يقول: ليس في حصولهن في يدك عار لهن، لأنك منهن وهن منك، فصونك لهن كصون بعولتهن في بيوتهن. والصون: الصيانة، وهي كناية عن الستر.

ولا في فقدهنّ بني كلابٍ ... غذا أبصرن غرّتك اغتراب
يقول: إنهن إذا رأين غرتك وصرن عندك فلا يضرهن فقدانهن أهلهن، وليس اغتراب وبعد، لأنك منهن.
وكيف يتمّ بأسك في أناسٍ ... تصيبهم فيؤلمك المصاب ؟
يقول: كيف تقدر على أن تعاقبهم وتوقع بهم ؟ فإنك إذا أصبتهم تألمت بما يصيبهم من الضرر، لكونهم منك.
والمصاب: يجوز أن يكون مصدراً كالإصابة، وأن يكون مفعولا، وهذا البيت مثل قول الحارث بن وعلة الذهلي:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي
ونحو قول الآخر:
وإنّي وإن عاديتهم وجفوتهم ... لتألم ممّا عضّ أكبادهم كبدي
ترفّق أيّها المولى عليهم ... فإنّ الرّفق بالجاني عتاب
يقول: أنت سيدهم فتجاوز عنهم، ولا تعجل لهم في العقوبة، فإن رفقك بهم يردهم إلى طاعتك، ويقوم لهم مقام اللوم.
وإنّهم عبيدك حيث كانوا ... إذا تدعو لحادثةٍ أجابوا
يقول: ترفق بهم وتجاوز عنهم، فإنهم عبيدك وقومك، متى دعوتهم إلى حرب ونازلة أجابوك.
وعين المخطئين هم وليسوا ... بأوّل معشرٍ خطئوا فتابوا
يقول: هم حقيقة المخطئين في خروجهم عليك، غير أنهم تابوا وأذعنوا لك، كما أخطأ غيرهم ثم تاب، وليسوا بأول من فعل مثل ذلك.
وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب
يقول: إن حياتهم بك، لأنك تعطيهم ما تقوم به حياتهم من المال، فإذا غضبت عليهم زالت عنهم حياتهم، فكفاهم عقوبة أن تغضب عليهم، فإن ذلك كالموت لهم.
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربّما خفي الصّواب
الأيادي، النعم، واحدتها يد، والبوادي قيل: هي جمع بادية، وهم العرب الذين ينزلون البدو، فيكون في موضع الرفع، لأنها فاعلة جهلت والمعنى: أن أهل البدو، الذين هم بنو كلاب مقرون بإحسانك إليهم، غير جاهلين نعمك عليهم، ولكن خفي الصواب عليهم حين قاتلوك، وكان ذلك سهواً منهم من غير قصد.
وقيل: البوادي. الظاهرة من النعم أو المتقدمة منها، فهي صفة للأيادي في موضع النصب، وسكن الياء ضرورة، فيكون على هذا فاعل جهلت ضمير القبيلة التي هي بنو كلاب، يعني: أنهم لا ينكرون نعمك الظاهرة المتقدمة إليهم.
وكم ذنبٍ مولّده دلالٌ ... وكم بعدٍ مولّده اقتراب ؟
يقول: كم ذنب يتولد من الدلال أي الإفراط وتجاوز الحد وكم بعد يتولد من قرب إذا لم يكن معه الأدب ورعاية الحرمة.
والمعنى: أنهم لم يخرجوا عليك إلا ثقة منهم بقرابتك وتدللا بانتسابهم إليك.
وجرمٍ جرّه سفهاء قومٍ ... وحلّ بغير جارمه العذاب
يقول: وكم ذنب يجنيه السفيه، فيعاقب به البريء، ومثله قول بعض العرب:
إنّ الفتى بابن عمّ السّوء مأخوذ
والأصل فيه قوله تعالى: " أًتهْلِكُنَا بِمَا فَعَل السُّفَهآءُ مِنَّا " وقوله تعالى " واتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً " .
فإن هابوا بجرمهم عليّاً ... فقد يرجو عليّاً من يهاب
أراد: من يهابه، فحذف المفعول.
يقول: إن هابوه لكونه مهيباً، فإنهم يرجون عفوه، لكونه كريماً.
وإن يك سيف الدولة غير قيسٍ ... فمنه جلود قيسٍ والثّياب
قيس: هو عيلان، وإليه ينسب بنو كلاب مضر.
يقول: إن كان هو سيف دولة بني هاشم، لا سيف دولة قيس، فإن جلود قيس تربت من نعمه، وثيابهم من ماله ومن خلعه.
وتحت ربابه نبتوا وأثّوا ... وفي أيّامه كثروا وطابوا
الرباب: غيم متعلق بالغيم، يضرب إلى السواد، وقيل: هو السحاب الأبيض. وأثوا: تمكنوا وقووا من قولهم أث النبت.
يقول: إنهم نبتوا بفضله وإنعامه، كما نبت العشب بالمطر، وكثروا بدولة أيامه وطالوا.
شبههم بالنبات، وشبهه بالسحاب.
وتحت لوائه ضربوا الأعادي ... وذلّ لهم من العرب الصّعاب
يقول: إنهم بقوته وسلطانه قتلوا أعداءهم، وقهروا العرب، حتى ذلت لهم صعاب العرب وانقادت.
ولو غير الأمير غزا كلاباً ... ثناه عن شموسهم ضباب
الضباب ما يرتفع من البخار، من غدوات الربيع كالسحاب.

يقول: لو قصد بني كلاب غير سيف الدولة، لرده عن شموس بني كلاب ضبابهم. كني بالشموس عن النساء، وبالضباب عن الحرب التي كانت تحول بينهن وبين من يقصد الوصول إليهن، كما يحول الضباب دون الشمس.
وقيل: الضباب، كناية عن الغبار الذي يرتفع عن الخيل، حتى يصير كالضباب، فيصرف عن قصدهن، كما يمنع الضباب شعاع الأمس.
وقيل: عني بالشموس وجوه القوم التي هي كالشمس.
ولاقى دون ثايهم طعاناً ... يلاقى عنده الذّئب الغراب
الثاي: جمع ثاية، وهي الحجارة حول البيت، تبنى فيأوي إليها الراعي ليلاً كأنها الحظيرة، وفاعل لاقى ضمير غير في قوله: غير الأمير والهاء في عنده للطعان.
يقول: كان ينفي ذلك القاصد قبل أن يصل إلى ثايهم طعناً يكثر منه القتلى حتى يجتمع الذئب والغراب على أكل جيفهم وأجسامهم: يعني أنهم يدفعونه عن الوصول إلى حظائر الغنم، فكيف الوصول إلى النساء والحرم ؟!
وخيلاً تغتذي ريح الموامي ... ويكفيها من الماء السّراب
تغتدي: من الغذاء والموامي: جمع موماة، وهي الفلاة.
يقول: لاقى دون ثايهم طعاناً وخيلا معودة للقتال، صابرة على الجوع والعطش، حتى تكتفي عن الزرع والعلف، بانتشاق النسيم، وعن الماء بالسراب.
ولكن ربّهم أسرى إليهم ... فما نفع الوقوف ولا الذّهاب
يقول: لكن غزاهم سيف الدولة الذي هو مولاهم وهم عبيده، فلم ينفع منه الوقوف ولا الهرب.
ولا ليلٌ أجنّ ولا نهار ... ولا خيلٌ حملن ولا ركاب
يقول: إنهم لما رأوه تحيروا في أمرهم، ولم يسترهم ليل بظلمته، ولا نهار بضيائه، ولم تحملهم خيلهم وإبلهم.
رميتهم ببحرٍ من حديدٍ ... له في البرّ خلفهم عباب
العباب: صوت الموج. وقيل: عباب كل شيء: أوله.
يقول: رميتهم بجيش كأنه بحر ارتفعت أمواجه لعظمه، ولما عليه من السلاح.
فمسّاهم وبسطهم حريرٌ ... وصبّحهم وبسطهم تراب
روى: فرشهم بدل بسطهم في الموضعين. وفاعل مساهم وصبحهم ضمير البحر الذي هو الجيش.
يقول. أتاهم ليلاً جيشك، وهم على فرش الديباج فأغار عليهم وسلب أموالهم، فأصبحوا جلوساً على التراب، فصار فراشاً لهم ! وقيل: أراد أنهم انهزموا، فتبدلوا بعد بسط الحرير، الجلوس على التراب. وهذا قريب من الأول.
قال ابن جني: أراد أن جيشه مساهم فقتلهم فأصبحوا وقد تزملوا بالتراب، وصار بسطهم تراباً بعد ما كان حريراً.
ومن في كفّه منهم قناة ... كمن في كفّه منهم خضاب
يقول: مع شوكتهم، وصبرهم، واجتهادهم، وشجاعتهم، لما رأوك جبنوا وتحيروا، حتى صار الفارس الذي يحمل الرمح كالمرأة التي في يدها خضاب في قلة الغناء والدفع.
بنو قتلى أبيك بأرض نجدٍ ... ومن أبقى وأبقته الحراب
الحراب: جمع حربة وهي رمح قصير.
يقول: كان آباؤهم استعصوا على أبيك فقتلهم، وفعل بآبائهم ما فعلت بهم أنت الآن، وكان أبو سيف الدولة غزا القرامطة الذين هم في الأحساء وقتل منهم وكسر.
فيقول: هؤلاء بنو الذين قتلهم أبوك بنجد، وأبقاهم أبوك وأبقته رماحه. وبنو: خبر ابتداء محذوف: أي هم بنو قتلى أبيك.
عفا عنهم وأعتقهم صغاراً ... وفي أعناق أكثرهم سخاب
السخاب: كالثياب، يلبسه الصبيان، وجمعه سخب. وقيل السخاب: القلادة تنظمها الأعراب من القرنفل، أو حب الحنظل.
يقول: إن أباك كان عفا عن هؤلاء وأعتقهم بعد ما ملكهم، وهم صغار في أعناقهم السخب.
وكلكم أتى مأتى أبيه ... فكلّ فعال كلّكم عجاب
يقول: كل واحد منك ومنهم - أي مثل ما فعل أبوه، فأنت عفوت كما عفا أبوك عن آبائهم، وخضعوا خضوع آبائهم، فما حصل منك من الاقتداء بأبيك عجب ! وما حصل منهم من الاقتداء بآبائهم من العصيان عجب ! وقيل: وفعلت بهم مثل ما فعل أبوك بآبائهم، وأبوك فعل مثل ما فعل جدك بأجدادهم، وكل فعل منك عجب !
كذا فليسر من طلب الأعادي ... ومثل سراك فليكن الطّلاب
يقول: من طلب الأعادي والظفر بهم، فليسر إليهم كما سريت إليهم أنت، وكذا: إشارة إلى فعل سيف الدولة.

وسار سيف الدولة نحو ثغر الحدث لبنائها وكان أهلها أسلموها بالأمان إلى الدمستق سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة، فنزلها سيف الدولة يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جماد الآخرة سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة وبدأ في يومه فخط الأساس، وحفر أوله بيده، ابتغاء ما عند الله عز وجل، فلما كان يوم الجمعة نازله ابن الفقاس: دمستق النصرانية، في نحو من خمسين ألف فارس وراجل من جموع الروم والأرمن والروس والبلغر والصقلب. والخزر وأصناف رجاله ووقعت المصافة يوم الاثنين انسلاخ جمادي الآخرة من أول النهار إلى وقت العصر، ثم إن سيف الدولة حمل عليه بنفسه ف نحو خمس مئة من غلمانه وأصناف رجاله، فقصد موكبه وهزمه، وأظفره الله تعالى به، وأسر تودس الأعور: بطريق سمندو، وهو صهر الدمستق وقتل نحو ثلاثة آلاف رجل من مقاتلته، وأسر خلقاً كثيراً من اسخلاريته وأراخنته فقتل أكثرهم واستبقى البعض وأقام على الحدث إلى أن بناها، ووضع بيده آخر شرافة منها يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رجب من السنة المذكورة فقال أبو الطيب في ذلك، وأنشده إياها بعد الوقعة بالحدث.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
العزائم جمع عزيمة، وهي إمضاء الأمور، وكذلك عزمت على كذا: أي أمضيته. والمكارم: جمع مكرمة، وهي كل فعل محمود.
يقول: عزيمة كل إنسان على قدر همته وشهامة قلبه، إن كان عظيم القدر والخطر، جد أمره ومضت عزائمه، وإن كان الرجل فشلاً اضمحلت وبطلت، وكذلك المكارم: تكون على حسب فاعليها، فهي من الشريف شريفة، ومن الوضيع وضيعة.
وتعظم في عين الصّغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
الضمير في صغارها للمكارم والعزائم.
يقول: الرجل الصغير النفس يستكبر الصغير، والعالي الهمة يصغر في عينه ما يفعله وإن كان عظيماً. ومثله لعبد الله بن طاهر:
إنّ الفتوح على قدر الملوك وهم ... ات الولاة وإقدام المقاديم
يكلّف سيف الدولة الجيش همّه ... وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم
يقول: إن همته عظيمة، وهو يكلف جيشه أن تكون لهم مثل همته، والجيوش الكثيرة تعجز عنه. والهاء في عنه لهمته.
ويطلب عند النّاس ما عند نفسه ... وذلك ما لا تدّعيه الضّراغم
يقول: يطلب عند الناس من الشجاعة والبأس ما عند نفسه، والأسود تعجز عن ادعاء ذلك، فكيف بالناس ؟!
يفدّى أتمّ الطّير عمراً سلاحه ... نسور الملا أحداثها والقشاعم
النسور: جمع النسر. والأحداث جمع حدث، وهو الحديث السن، والقشاعم: المسنة الطويلة العمر. الواحد قشعم والملا: الأرض الواسعة.
يقول: إن سلاحه أكثر القتلى في البر قديماً وحديثاً، حتى شبع النسور منها، فلم تحتج إلى صيد، فقشاعمها: التي هي المعمرة، تضيف إلى الشكر القديم الشكر الحديث، وأحداثها تثنى عليه بالحديث من لحوم القتلى، فهما يفديان سلاحه ويقولان: نحن الفداء لك؛ لإنعامك علينا بكثرة القتل، إذ في ذلك استراحتها عن طلب الرزق.
وإنما قال: أتم الطير عمراً لأن النسر يعيش على زعم الناس خمس مئة سنة وإنما خص النسور؛ لأنها لا تصيد كما تصيد الجوارح، وإنما تأكل الجيف ولحوم القتلى. روى ابن جني تفدى بالتآء قال: أراد النسور فكأن قال: تفدى النسور سلاحه.
والأظهر في العربية يفدى بالياء لأنه فاعله أتم وهو مذكر وهذا حمل على الظاهر، والأول على المعنى. وعمراً نصب على التمييز وسلاحه نصب لأنه مفعول يفدي ويجوز في نسور الملا الرفع على خبر الابتداء: أي هي نسوء الملا. ويجوز أن تجعله بدلا من قوله: أتم الطير التقدير: تفدى نسور الملا سلاحه وأحداثها من نسور الملا، والقشاعهم معطوف عليه.
وما ضرّها خلقٌ بغير مخالبٍ ... وقد خلقت أسيافه والقوائم
القوائم: جمع قائم وهو قائم السيف.
يقول: لا يضر هذه النسور خلقها بغير مخالب، وألا تصيد كالبازي ونحوه، فإن سيوف سيف الدولة تغنيها عن المخالب وتقوم لها مقامها. وتم المعنى عند قوله: وقد خلقت أسيافه وقوله: والقوائم فضلة لا فائدة فيها إلا إتمام القافية.
وقيل: إنما قال ذلك؛ لأن السيوف لا ينتفع بها إلا بقوائمها، والمراد بنفي المخالب عنها ما ذكرناه أنها ليست مما يصيد كالبازي، تأكل الجيف.

وقيل: لها مخالب. وإنما أراد الفرخ الحدث الذي لا يمكنه الانتفاع بمخالبه، والمسن الذي عجز عن طلب القوت، ودل عليه في قوله: أحداثها والقشاعم.
الثاني: أن معناه ما ضر لو كانت خلقت بغير مخالب مع قيام سيوفه مقامها. وقوله: ما ضرها خلق: فالخلق هو المصدر الحقيقي.
هل الحدث الحمراء تعرف لونها ... وتعلم أيّ السّاقيين الغمائم
الحدث: قلعة، وقيل مدينة. وجعلها حمراء؛ لأن سيف الدولة أراق فيها دماء الروم، حتى سالت عليها كالمطر، ودام ذلك حتى نسي لونها الأول.
يقول: فهل تعرف الحدث لونها الأول أم نسيته من طول ما جرى الدماء عليها ؟ وهل تفرق بين سيف الدولة الذي سقاها الدم، وبين الغمام الذي سقاها الماء ؟ فتعلم أي ساقييها الغمائم.
وقيل: معناه هل تعرف لونها ؟ إنها قد حسنت به حالها حين عمرها، وكنت قد خربت قبل ذلك. وقيل: أراد أنه بناها غير البناء الأول، إذا كان بناؤه لها إعادة لا ابتداء فكأنه بناها من الحجر الأحمر، وكانت قبل ذلك بخلافه.
سقتها الغمام الغرّ قبل نزوله ... فلمّا دنا منها سقتها الجماجم
الغمام: جمع غمامة، ولهذا وصفها بأنها غر وخص الغر، لأنها أغزر وأكثر ماءً.
يقول: كانت السحاب تسقيها الغيث، فلما جاءها سيف الدولة، وقتل فيها الروم فسالت دماؤهم كالمطر السائل من السحاب.
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا ... وموج المنايا حولها متلاطم
أي: فأعلاها، فحذف المفعول، والواو للحال في قوله: والقنا، وموج المنايا.
يقول: بنى الحدث حتى أتمها وأعلاها، في حالة المطاعنة، وتداخل الرماح بعضها في بعض، والتطام أمواج الموت فيها؛ لكثرة القتل.
وكان بها مثل الجنون فأصبحت ... ومن جثث القتلى عليها تمائم
يقول: إنها تروع كل وقت، كما يروع المجنون، وتهدم وقتاً بعد وقت، فكانت لا تستقر، فتشبه بالمجنون، فلما قتل أعداءها ومن كان يطلبها، سكنت كالمجنون إذا علقت عليه التمائم، فصارت جثت القتلى لها كالتمائم.
طريدة دهر ساقها فرددتها ... على الدّين بالخطّىّ والدّهر راغم
الطريد: ما أخذه العدو من المال وفاز به.
يقول: كانت هذه القلعة طريدة الدهر قد ساقها وذهب بها الدهر وجعلها للروم، فرددتها على المسلمين الذين كانت لهم من قبل، وأرغمت أنف الدهر وقهرته.
تفيت اللّيالي كلّ شيءٍ أخذته ... وهنّ لما يأخذن منك غوارم
التاء في تفيت للخطاب. والليالي: في موضع نصب بتفيت، ومعناه: كل شيء أخذته الليالي فإنك تفيتها. أي تأخذه منها، وهي إذا أخذت منك شيئاً غرمته لك، وغيرك لا يقدر على ذلك.
وقيل: التاء تاء التأنيث، والليالي: رفع لأنها فاعلة تفيت.
والمعنى: إن ما أخذته الليالي من كل أحد أفاتته ولا ترده عليه، وما تأخذه منك فإنك تغرمه لك.
إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم
الفعل المضارع يصلح للحال وللاستقبال، والمراد ها هنا: الفعل المستقبل خاصة.
يقول: إذا نويت فعل شيءٍ تم ومضى، وتعجل وقوعه قبل أن يعوقك معوق، فعبر عن المعوق بالجوازم، وعن نفيه بنفي الجوازم، وإنما قال ذلك؛ لأن حروف الجزم كلها تعويق: إما بنفي كلم، أو بنهي نحو، لا تفعل، أو تعلق بالشرط، ولام الأمر للغائب فيه معنى التراخي، ووصول الأمر إليه.
وقيل: أراد بالجوازم ها هنا التي للذي، وجمعه إرادةً للكثرة والتكرير.
والمعنى: أنك إذا نويت أمراً سبقت به نهى الناس، وعذل العذال، وتفعله قبل أن تقول لك الناس: لا تفعل، فيكون مثل قولهم: سبق السيف العذل.
وقيل: أراد به لام الأمر نحو قولك: ليخرج زيد، ومعناه: أنك إذا نويت أمراً تم قبل أن تأمر به، فتقول ليكن كذا فيكون، مثل قوله:
يجيبك قبل أن يتمّ سينه
أو يكون المراد به أنك إذا أمرت بفعل يسبق مضاؤه لحوق هذه اللام به.
وقيل وجه رابع: وهو أن الفعل المضارع إنما يصير ماضياً بدخول لم عليه، والمعنى: أنك إذا نويت أمراً مستقبلاً انقضى ومضى بنفسه، من غير أن يعارضه ما ينفيه من الموانع.
وكيف ترجّى الرّوم والرّوس هدمها ... وذا الطّعن أساسٌ لها ودعائم !
يقول: إن الروس والروم كيف يطمعون في هدمها ؟ وأساسها ودعائمها دفاعك وطعانك ! فإذا كان كذلك فلا سبيل لهم إلى هدمها.

وقد حاكموها والمنايا حواكمٌ ... فما مات مظلومٌ ولا عاش ظالم
يقول: إن الروم والروس حاكموا هذه القلعة إلى المنايا، وجعلوها حاكمةً بينهم وبين القلعة، فكانت هذه مظلومة، والروم ظالمين، تغلبوا عليها وأخذوها من المسلمين ظلماً، فحكمت المنية بموت الظالم وحياة المظلوم، فقتل الروم، وهم ظالمون، وعاش المظلوم وهي القلعة؛ لأنها تخلصت من أيديهم.
وقيل: المظلوم هم المسلمون؛ لأن الروم ظلموهم بأخذها منهم. يعني أنك أخذتها منهم بالسيف والقتل، فكأنك حاكمتهم إلى السيوف فقضت لك بما فعلت.
أتوك يجرّون الحديد كأنّهم ... سروا بجيادٍ ما لهنّ قوائم
يقول: أتوك وعليهم الدروع، وعلى خيلهم التجافيف، كأنها لم تكن لها قوائم.
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ... ثيابهم من مثلها والعمائم
البيض: السيوف. وثيابهم: الدروع والجواشن، والعمائم البيض. وقوله: من مثلها: أي الثياب والعمائم كانت مثل البيض؛ لأنها كانت من الحديد.
يقول: جاءوك في أسلحة تامة، فلم تفرق بين سيوفهم وبينهم، لأن ثيابهم وعمائمهم كانت من الحديد.
وقيل: أراد أن السيوف لم تتميز من لباسهم، لبريقها ولمعانها.
خميسٌ بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
الزحف: السير الهين. والزمازم: جمع زمزمة، وهي كل صوت لا يفهم، وأراد به صوتهم وصليل الحديد، وصهيل الفرس.
يصف كثرة الجيش وأنه ملأ الأرض شرقها وغربها وبلغت زمازمه إلى السماء، والجوزاء مصغية إليه تسمع أصواته. وخص الجوزاء لأنها على صورة إنسان وقد أمال عنقه، فجعلها تسمع إلى أصواته.
تجمّع فيه كلّ لسنٍ وأمّةٍ ... فما يفهم الحدّاث إلاّ التّراجم
اللسن: اللغة. والحداث: المتحدثون. والتراجم: جمع الترجمان.
يقول: إن جيش العدو الذي ملأ الأرض، كان قد تجمع فيه أمم مختلفة اللغات، فلا يفهم بعضهم كلام بعض إلا بالترجمان.
وقيل أراد به جيش سيف الدولة.
فللّه وقتٌ ذوّب الغشّ ناره ... فلم يبق إلاّ صارمٌ أو ضبارم
قوله: فلله وقت في معنى التعجب، والضبارم: الأسد الشديد الغليظ.
يقول: إن وقت الحرب أذاب الغش ناره.
يعني: أن الحرب لما اشتدت فر منها كل جبان فشل عاجز، وتكسر كل سيف غير قاطع، فلم يبق إلا نخب الفرسان، فشبه الحرب بالنار، والجبن بالغش الذي تذيبه النار.
وقيل: أشار بهذا إلى أن خيل سيف الدولة لا تحارب على وجه المسارقة والختل، بل يجاهرون بالمحاربة فعبر عن الختل بالغش.
تقطّع ما لا يقطع الدّرع والقنا ... وفرّ من الفرسان من لا يصادم
يقول: لم يبق في ذلك الوقت من السيوف كل سيف لا يقطع الدروع ولا يمسها، وفر من الفرسان كل ضعيف، لا يصادم الأبطال: أي لا يحارب.
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقفٍ ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم
يقول: وقفت في مقام من قام فيه لا يشك أنه يقتل، وقد أحاط الموت من كل جانب، حتى كان الردى نائم عنك وأنت قائم في جفنه؛ لإحاطته بك.
شبه إحاطة الردى به بكونه في جفنه، وسلامته بكون الردى نائم عنه.
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسم
يقول: وقفت وكانت الأبطال تمر بك، وهي مجروحة منهزمة عابسة الوجوه، وأنت مشرق الوجه ضاحك السن، لم تداخلك حيرة لانهزام أصحابك، ومعرفتك بوجه الأمر في تلك الحالة.
وحكى أن سيف الدولة استنشد أبا الطيب هذه القصيدة وكان معجباً بها، فاندفع أبو الطيب ينشدها فلما بلغ إلى قوله: وقفت إلى آخر البيتين قال سيف الدولة: إن صدر البيتين لا يلائم عجزهما، وكان ينبغي أن تقول:
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقفٍ ... ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم
فقال أبو الطيب: لما ذكرت الموت أتبعته ذكر الردى لتجانسهما، ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من العبوس، وعينه من البكاء قلت: ووجهك وضاح وثغرك باسم للمطابقة بينهما.
تجاوزت مقدار الشّجاعة والنّهى ... إلى قول قومٍ: أنت بالغيب عالم

الغرض بالبيت: أن الشجاع يثبت ما دام يطمع في الظفر ويرجو النصر، وكذلك العاقل الحازم، يقف متى رأى مخايل النصر وأمارات الظفر، فإذا اشتد الأمر وأيقن كل واحد بالموت طلب النجاة بالفرار، وسيف الدولة تجاوز هذه المنزلة، فهو يقف في المواقف التي لا يشك الحازم والشجاع في الهلاك فيها، كأنه عالم بالغيب وعواقب الأمور.
وقوله: إلى قول قوم يعني: أن الناس لما رأوا مقامه وثباته في المواطن التي لا يشك أحد فيها بالقتل قالوا: إنه عالم بالغيب ! ولولا ذلك لم يقف، وقد فر كل شجاع.
ضممت جناحيهم على القلب ضمّةً ... تموت الخوافي تحتها والقوادم
يقول: حملت على الميمنة والميسرة فضممتهما على القلب ورددتهما إليه، حتى سقط بعضهم على بعض.
جعل الميمنة والميسرة جناحين وشبه الأبطال المقدمين بقوادم الجناح، والأتباع والحشو بالخوافي.
بضربٍ أتى الهامات والنّصر غائبٌ ... وصار إلى اللّبّات والنّصر قادم
الباء في بضرب متعلقة، قيل بقوله: تموت.
يقول: نازلت العدو وضربته بالسيف والنصر غائب، فلما بلغ الضرب إلى اللبات قدم النصر.
يصف بذلك سرعة الهزيمة ووقوع النصر بعدها، وأنه كان بين غيبته وقدومه، قدر نزول السيف من الهامة إلى اللبة، فكأنه يقول: لم يصل سيفك إلى نحورهم حتى نصرت عليهم.
وقال ابن جني: يقول. إذا ضربت عدوك، فحصل سيفك في هامته، فلا تعتد ذلك نصراً، حتى يصل السيف إلى اللبة، فحينئذ يكون ذلك نصراً، ولا ترضى بدونه.
حقرت الرّدينيّات حتّى طرحتها ... وحتّى كأنّ السّيف للرّمح شاتم
تركت الطعن بالرماح، ورجعت إلى الضرب بالسيوف، حتى كأنك حقرت الرماح وعدلت عنها إلى السيوف؛ لأنها أنكى في العدو، وكأن سيف رأى عجز الرماح وقلة غنائها فشتمها وعابها.
ومن طلب الفتح الجليل فإنّما ... مفاتيحه البيض الخفاف الصّوارم
البيض، الخفاف، الصوارم كلها صفات للسيوف.
يقول: من أراد الوصول إلى الفتوح العظيمة، فإنما يصل إليها بالسيوف، ولما جعل المطلوب فتحاً جعل السيوف مفاتيحه؛ لأن بها يوصل إلى ما وراء الباب من المقاصد.
نثرتهم فوق الأحيدب نثرةً ... كما نثرت فوق العروس الدّراهم
الأحيدب: موضع، وقيل: اسم الجبل الذي عليه مدينة الحدث.
يقول: إنك قتلتهم في كل موضع من هذا الجبل، ونثرتهم عليه كما تنثر الدراهم فوق العروس.
شبه الأحيدب بالعروس؛ لأنه قد اختضب بالدم، كالعروس في المصبوغات والمجاسد، وشبه القتلى بالدراهم؛ لبياض جثتهم حولها، ونثرهم: بنثرهم الدراهم فوق العروس.
تدوس بك الخيل الوكور على الذّرى ... وقد كثرت حول الوكور المطاعم
يقول: صعدت على رءوس الجبال إليهم فقتلتهم هناك، حتى كثرت المطاعم للطيور في رءوس الجبال، وكانت الخيل تطأ وكور الطير التي كانت في الجبال وحولها القتلى مطروحة. وقوله تدوس بك: أي تطأ وأنت عليها.
تظنّ فراخ الفتخ أنّك زرتها ... بأمّاتها وهي العتاق الصّلادم
الفتخ: العقبان، والواحد أفتخ، وفتخاء، وهي عتاق الطير كالبازي والعقاب؛ سميت بذلك للين أجنحتها وانعطافها، والأمات: جمع الأم، فيما لا يعقل، وفيمن يعقل أمهات والمراد بالعتاق: الخيل الكرام والصلادم: جمع صلدم، وهو الفرس الصلب الشديد.
يقول: لما صهلت الخيل ظنت فراخ النسور أنك زرتهن أمهاتهن؛ لاشتباه أصوات الخيل بها في بعض الأوقات، ولذلك قال الاخر:
إذا الخيل صاحت صياح النّسور
وقيل: شبه الخيل بالنسور من جهة السرعة والضمور.
إذا زلقت مشّيتها ببطونها ... كما تتمشّى في الصّعيد الأراقم
الصعيد: وجه الأرض. والأراقم: الحيات.
يقول: إذا زلقت الخيل من رءوس الجبال لملاستها وقلة استقرار قوائمها عليها، انسابت فيها على بطونها كما تنساب الحيات في الأرض والتراب.
أفي كلّ يوم ذا الدّمستق مقدمٌ ... قفاه على الإقدام للوجه لائم
وروى أيضاً: أفي كل يوم للدمستق مقدم، أي إقدام.
يقول: الدمستق كل يوم مقبل، فيقدم على لقائك ثم ينهزم من بين يديك، فيلوم قفاه وجهه فيقول: إلى كم تعرضني للجراحة ولا تكتفي بما تقدم من الانهزام ؟!
أينكر ريح اللّيث حتّى يذوقه ... وقد عرفت ريح اللّيوث البهائم

يقول: إن الدمستق لا يزال يتعرض لك حتى تقتله أو تأسره، ولو كان له عقل لكفاه ما رأى من شجاعتك وهزمك إياه، والبهائم أعقل منه، لأنها تعرف ريح الليث من بعيد فتتباعد عنه.
وقد فجعته بابنه وابن صهره ... وبالصّهر حملات الأمير الغواشم
الغواشم: جمع غاشمة، وأصله الظلم، وهي ها هنا القهر والغلبة.
يقول: لو كان له تمييز أو عقل، لم يتعرض لك بعد ما رأى من فعلك بابنه، حيث أسرته وقتلت أيضاً صهره وابن صهره.
مضى يشكر الأصحاب في فوته الظّبا ... لما شغلتها هامهم والمعاصم
المعاصم: جمع المعصم، وهو الذراع.
يقول: مضى الدمستق هارباً، وهو يشكر أصحابه حيث شغلوا المسلمين عنه؛ بأن مكنونهم من قتلهم، واستغنت السيوف برءوسهم ومعاصمهم، فكان سبب نجاته ذلك.
ويفهم صوت المشرفيّة فيهم ... على أنّ أصوات السّيوف أعاجم
فيهم: أي في الأصحاب.
يقول: كان الدمستق إذا سمع صليل السيوف في أصحابه عرف ما تفعله، وإن لم يكن لها ألسنة. وأخذ هذا المعنى المعري وشرحه فقال.
وقد تنطق الأسياف وهي صوامت ... وما كلّ نطق المخبرين كلام
ثم قال من عنده:
كفى بخطاب المشرفيّة مخبراً ... بأنّ رءوساً قد شققن وهام
يسرّ بما أعطاك لا من جهالةٍ ... ولكنّ مغنوماً نجا منك غانم
يقول: إن الدمستق يسر بما سلم إليك من أصحابه وأمواله؛ لسلامته منك، لأن المغنوم إذا نجا منك كان غانماً.
ولست مليكاً هازماً لنظيره ... ولكنّك التّوحيد للشّرك هازم
يقول: لست ملكاً كسائر الملوك في فعلك بالدمستق، حتى يقال: ملك هزم نظيره من الملوك، ولكن أنت موحد وهو مشرك، فكأن التوحيد هزم الشرك وقهره، لما ظفرت على الدمستق وقهرته.
تشرّف عدنانٌ به لا ربيعةٌ ... وتفتخر الدّنيا به لا العواصم
عدنان: أصل العرب. وربيعة: قبيلة سيف الدولة. والعواصم: حصون بالشام، وهي دار ممتلكته.
يقول: إن جميع العرب تتشرف به، لا قبيلته وحدهم، وكذلك الدنيا كلها تفتخر به، لا العواصم التي هي ممالكه.
لك الحمد في الدّرّ الّذي لي لفظه ... فإنّك معطيه وإنّي ناظم
يقول: الحمد لله. الذي أقوله في شعري ليس هو حمدي إياك، بل هي مكارمك ووصفتها في شعري، وحسن بها قولي، فكأنها در أعطيتنيه فنظمته، فلك المعنى ولي اللفظ، فالحمد لك.
وإنّي لتعدو بي عطاياك في الوغى ... فلا أنا مذمومٌ ولا أنت نادم
يقول: إنك أعطيتني في عطاياك الخيل، وهي تعدو بي في الحرب، وأقاتل بها بين يديك، فلست أنا مذموماً لتقصيري عن طاعتك وترك القتال بين يديك، ولا أنت نادم على عظم نعمتك علي بالخيل وغيرها من النعم.
وقيل: لست مذموماً بهذا الشكر وذكر عطاياك الكريمة، ولا أنت نادم على ما فعلت من اتصال شكري.
على كلّ طيّارٍ إليها برجله ... إذا وقعت في مسمعيه الغماغم
الغماغم: الأصوات في الحرب. والهاء في إليها يرجع إلى الوغى إذ الحرب مؤنثة.
يقول: تعدو بي عطاياك على كل طائر يطير برجله، خلاف سائر الطير، وأراد به الفرس إذا سمع صوت الحرب طار إليها ولا يقف.
ألا أيّها السّيف الّذي لست مغمداً ... ولا فيك مرتابٌ ولا منك عاصم
يقول: لست كسائر السيوف في أنها تغمد مرةً وتصلت أخرى، بل أنت مجرد أبداً، تنصر الدولة وتذب عنها وتحامي دونها، ولا يشك أحد في أنك بهذه الصفة، ومن طلبته لم يعصمه منك عاصم ولم يمنعه مانع. ومرتاب: يجوز أن يكون اسم الفاعل من ارتاب، ويجوز أن يكون مصدراً كالارتياب.
هنيئاً لضرب الهام والمجد والعلا ... وراجيك والإسلام أنّك سالم
يقول: هنيئاً لهذه الأشياء سلامتك؛ لأن سلامتها بك، وبقاؤها ببقاؤك؛ لأنك تحامي دونها وتذب عنها.
ولم لا يقي الرّحمن حدّيك ما وقى ... وتفليقه هام العدا بك دائم ؟
يقول: أنت سيف ماض، تنصر الإسلام ودين الله، وتضرب رءوس أعداء الله تعالى، فكيف لا يقيك الله تعالى كل مكروه ؟ ولا يدفع عن حديك كل محذور. ولما جعله سيفاً جعل له حدين. وما في قوله: ما وقى ظرف.
وورد على سيف الدولة فرسان طرسوس وأذنة والمصيصة، ومعهم رسول ملك الروم، في طلب الهدنة يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة أربع وأربعين وثلاث مئة.

فقال أبو الطيب يمدحه وأنشدها بحضرتهم وقت دخولهم:
أراع كذا كلّ الأنام همام ... وسحّ له رسل الملوك غمام ؟!
الهمزة في أراع للاستفهام، في معنى التعجب. وراع: أي أفزع. والمفعول: كل الأنام، والفاعل: همام. وكذا أي كما أرى، وهو في موضع نصب؛ لأنه صفة لمصدر محذوف: أي أراع روعاً كذا.
يقول: كيف راع الأنام كلهم رجل واحد ؟ حتى تقاطرت إليه رسل الملوك يسألونه الصلح، كما يتقاطر المطر من الغمام. وقوله سح أي أسح ؟ على الاستفهام.
ودانت له الدّنيا فأصبح جالساً ... وأيّامها فيما يريد قيام
يقول: انقادت له الدنيا، وأطاعه أهلها، وهو جالس، وأيام الدنيا تسعى في مراده، وتقوم له قيام الخدم للمخدوم.
إذا زار سيف الدّولة الرذوم غازياً ... كفاها لمامٌ لو كفاه لمام
اللمام: الزيارة القليلة.
يقول: إذا قصد بلاد الروم كفاهم قليل من إيقاعه بهم، ولكنه لا يرضى إلا بالسبي والقتل وأخذ الممالك.
فتىً تتبع الأزمان في النّاس حكمه ... لكلّ زمانٍ في يديه زمام
روى: خطوة وحكمه.
يقول: إن الزمان يتبع حكمه ويتصرف بإرادته، يذل من أذله ويعز من أعزه فكأن زمام الدهر في يده، يقوده كيف شاء. وقوله: فتى خبر ابتداء محذوف، أي: هو فتى.
تنام لديك الرّسل أمناً وغبطةً ... وأجفان ربّ الرّسل ليس تنام
يقول: إذا وصلت الرسل إليك سكنت نفوسها، ونامت عيونها لجوارك، وأجفان الذين يرسلونهم لا تنام خوفاً منك.
حذاراً لمعروري الجياد فجاءةً ... إلى الطّعن قبلاً ما لهنّ لجام
اعروريت الفرس: إذا ركبته عرياناً بلا سرج. وقبلاً: أي متقدماً إلى أعدائه. وقيل: هو جمع أقبل وقبلاء، وهو الذي أقبلت إحدى عينيه على الأخرى وهو محمود في الخيل؛ وإنما تفعل ذلك لعزة نفسها. وحذاراً: مفعول له. والمعروري: هو الفاعلي من اعروري. وفجاءة: نصب على الحال، وكذلك قبلاً.
يقول: إن أجفان رب الرسل لا تنام حذاراً من ملك يركب الفرس عرياناً لمفاجأته الغزو، ويصرفه بغير لجام.
تعطّف فيه والأعنّة شعرها ... وتضرب فيه والسّياط كلام
فيه أي في الطعن.
يقول: إن هذه الخيل مؤدبة معودةً للحرب، فتنعطف في الطعن ولا أعنة لها سوى شعر أعرافها ونواصيها؛ وكذلك تضرب في حال الطعن، لا بالسياط، بل بالكلام والزجر.
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرام
يقول: إن الخيل الكرام، لا تغنى حتى يكون فوقها كرام. ومثله للبحتري:
وما السّيف إلا مستعار لرينةٍ ... إذا لم يكن أمضى من السّيف حامله
إلى كم تردّ الرّسل عمّا أتوا به ... كأنّهم فيما وهبت ملام
يقول: إلى متى ترد الرسل عما يلتمسونه من الصلح ؟ فكأن سؤالهم إياك عذل العاذل على جودك، فأنت تردهم عما راموه، كما ترد من يعذلك على جودك عن مرامه، ولا تصغي إلى ملامهم. وشبههم باللوم وشبه ردهم برد اللوم.
فإن كنت لا تعطى الذّمام طواعةً ... فعوذ الأعادي بالكرام ذمام
الذمام: العهد. والطواعة، والطواعية، والطوع: واحد.
يقول: إن كنت لا تعطيهم الأمان والذمة بطاعتهم لك، أو رغبة منك في ذلك. وقيل: معناه. متبرعاً، وقد عاذوا بك والتجأوا إليك، وعوذهم بك يوجب حفظهم.
وإنّ نفوساً أمّمتك منيعةٌ ... وإنّ دماءً أمّلتك حرام
يقول مؤكداً للمعنى الأول: قصدهم إليك، تحصين نفوسهم، ورجاؤهم لك، يصون دماءهم، فنفوسهم منيعة ودماؤهم حرام.
إذا خاف ملكٌ من مليكٍ أجرته ... وسيفك خافوا والجوار تسام
الواو في قوله: وسيفك للعطف. وتسام: أي تكلف، وتطلب منك.
يقول: من عادتك إجارة كل ملك خاف ملكاً آخر، وهؤلاء خافوا سيفك فاستجاروا بك، والتجأوا إليك، وكلفوك إجارتهم، فالأولى أن تجيرهم.
لهم عنك بالبيض الخفاف تفرّقٌ ... وحولك بالكتب اللّطاف زحام
يقول: إذا لقوك في الحرب تفرقوا عنك، خوفاً من السيوف الخفاف، ثم يجتمعون حولك ويزدحمون عليك طلباً للصلح، ويرسلون إليك كتباً لطافاً يسألونك فيها العفو. وإنما جعلها لطافاً، لأنها كتب مبعوثة على كتمان، فكل كبير وبطريق يتقرب إليه بكتاب لطيف، سراً عن صاحبه !
تغرّ حلاوات النّفوس قلوبها ... فتختار بعض العيش وهو حمام

يقول: إن حلاوات النفوس تغر القلوب، حتى تختار قلوب بعض الناس العيش والذل، وهو مثل الموت.
وشر الحمامين الزّؤامين عيشةٌ ... يذلّ الذي يختارها ويضام
الزؤام: السريع.
يقول: العيش في الذل أحد الحمامين السريعين، وهو أشرهما.
فلو كان صلحاً لم يكن بشفاعةٍ ... ولكنّه ذلّ لهم وغرام
يقول: هذا الصلح ليس بصلح، وإنما هو ذل لهم وعقوبة وغرامة يحملونها لك؛ لأن الصلح لا يكون بالشفاعة وإنما يكون صلحاً إذا استوى فيه الفريقان وأراجه الخصمان.
ومنّ لفرسان الثّغور عليهم ... بتبليغهم ما لا يكاد يرام
الثغر: موضع المخافة.
يقول: هذا الصلح ذل لهم وغرام، وتفضل لفرسان الثغور من المسلمين عليهم، حيث ساروا معهم إليك، وبلغوهم إلى ما ما لا يكاد يطلب منك، فلولا أنهم صحبوا لهم، لم يقدروا على الوصول إليك.
كتائب جاءوا خاضعين وأقدموا ... ولو لم يكونوا خاضعين لخاموا
يقول: إنما أقدموا عليك لأنهم جاءوك خاضعين سائلين، ولو كانوا محابين لم يجسروا على الإقدام، فيكون المراد بالكتائب: رسل الروم.
وقيل: أراد به فرسان الثغور.
كتائب جاءوا إليك خاضعين متشفعين للروم، ولو لم يكن كذلك لجبنوا عن الحروب، وعن الوصول إليك.
وعزّت قديماً في ذراك خيولهم ... وعزّوا، وعامت في نداك وعاموا
يقول: لما وصلوا إليك أمنوا وعزوا، واستراحت خيلهم، وأفضلت عليهم حتى عاموا في نعمك وإحسانك، ولم تزل تفعل ذلك بهم في قديم من الزمان إذا صدروا إليك واستذموا بجوارك. والمراد به الرسل.
وعلى الثاني: أن أهل الثغور عزوا بك وعاموا في نداك قديماً وحديثاً؛ لأنك أهل ثغر المسلمين.
على وجهك الميمون في كل غارةٍ ... صلاةٌ توالي منهم وسلام
قوله: توالى أصله تتوالى، منهم. قيل: الضمير يرجع إلى الروم، ومعناه: قد عمهم فضلك وإحسانك وبهرهم إقدامك، وكلما أغرت عليهم ورأوا وجهك دعوا لك وأتبعوك بالسلام، لما يروا من جمالك وشجاعتك، مع إغارتك عليهم وقتلك إياهم، وهو مثل قوله:
ومن شرف الإقدام
وقيل: إن الضمير في منهم يعود إلى فرسان الثغور، أراد صلاتهم وسلامهم عليك يتصل في كل غارة تكون لك على الروم.
وكلّ أناسٍ يتبعون إمامهم ... وأنت لأهل المكرمات إمام
يقول: كل أحد يقتدى بغيره في المكارم، وأنت إمام لأهلها، فكل كريم يقتدى بك في المكارم. ويشبه قوله أيضاً:
يمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
وربّ جوابٍ عن كتابٍ بعثته ... وعنوانه للنّاظرين قتام
القتام: الغبار وعنوان الكتاب: ما يكتب على ظهره.
يقول: ربما كتب إليك ملك الروم كتاباً قبل هذه المرة، فقصدته بجيشك، وجعلته جواب كتابه، فصار غباره يدل عليه، كما يدل العنوان على الكتاب: ممن هو ؟ وإلى من هو ؟
تضيق به البيداء من قبل نشره ... وما فضّ بالبيداء عنه ختام
يقول: هذا الجواب الذي بعثته هو الجيش تضيق به البيداء من قبل نشره عن كتائبه ولم يفض عنه ختمه يعني: أنه ما تفرق أو هو مجتمع غير منتشر.
حروف هجاء النّاس فيه ثلاثةٌ: ... جوادٌ، ورمحٌ ذابلٌ، وحسام
يقول: حروف هذا الكتاب ثلاثة: فرس جواد، ورمح ذابل، وسيف قاطع، لما جعل الجيش كتاباً جعل حروفه هذه الثلاثة.
أذا الحرب قد أتعبتها فاله ساعةً ... ليغمد نصلٌ أو يحلّ حزام
يقول: إنك قد أتعبت الحرب، يعني أهلها بكثرة إنهاضهم لها، فاتركها ساعة ليستريح الناس ويغمدوا سيوفهم ويحلو حزم خيلهم، ويحطوا سروجها.
وقوله: أذا الحرب قيل: الهمزة للنداء: أي يا ذا الحرب. وقيل: هو إذا يعني: إذا أتعبت الحرب.
وإن طال أعمار الرّماح بهدنةٍ ... فإنّ الّذي يعمرن عندك عام
الهدنة: الصلح وعمر الرجل يعمر: إذا طال عمره.
يقول: أطول أعمار الرماح بصلحك معهم عام واحد، ثم تعود إلى قتالهم فتقصر أعمار الرماح بالكسر والحطم، لأنك لا تصبر على قتالهم، فلا تعقد الهدنة إلا سنة واحدة.
وما زلت تفني السّمر وهي كثيرةٌ ... وتفني بهنّ الجيش وهو لهام
جيش لهام: أي كثير يلتهم كل شيء ويبتلعه.
يقول: لم تزل تكسر الرماح بالطعن وتفني بها الجيش، أي ذلك عادتك.

متى عاود الجالون عاودت أرضهم ... وفيها رقابٌ للسّيوف وهام
الجالون: الذين تركوا بلادهم هرباً منه، الواحد: جال.
يقول: متى عاود الذين هربوا عن بلادهم من الروم إليها؛ عاودت أرضهم بالغارة والقتل، وتكون الرقاب التي ضربتها بسيوفك والهام التي فلقتها بعد، ساقطة لم تبل.
يصف قرب المدة التي يعاودهم فيها.
وقيل: معناه أنهم متى عاودوا أرضهم وحصلوا فيها، وعلمت أن هناك رقاباً تضربها، وهاما تفلقها، فإنك تعود إليهم؛ لأنك إنما تركت غزوك لجلائهم عنها.
وربّوا لك الأولاد حتّى تصيبها ... وقد كعبت بنتٌ وشبٌ غلام
كعبت الجارية: إذا نتأ ثديها وشب الغلام: ارتفع سنه، وأخرج من الصبي.
يقول: إن هؤلاء الروم يربون أولادهم لتسبيهم وتأخذهم في أحسن أحوالهم، وهو إذا كعبت الجارية، وارتفع سن الغلام، أي عاقبة أمرهم تعود إلى ذلك.
جرى معك الجارون حتّى إذا انتهوا ... إلى الغاية القصوى جريت وقاموا
يقول: إن الكرام جاروك في مضمار المجد، فلما انتهوا إلى أقصى الغاية وقفوا، وجريت أنت وحدك، لم يجارك أحد بعد.
وقيل: أراد أنهم جروا معك إلى المجد في المعركة، إلى أن اشتد القتال فقاموا، وجريت أنت.
فليس لشمسٍ مذ أنرت إنارةٌ ... وليس لبدرٍ مذ تممت تمام
يقول: أنت أنور من الشمس، وأكمل في الخصال من البدر، فخفي بنورك نور الشمس، وانتقص بكمالك كمال البدر.
وقيل: أراد بالشمس والقمر، ملوك عصره وكرام دهره، أي أنه أشرق عليهم وطمس معالم أفعالهم ومكارم خصالهم.
وتجمعت عامر بن صعصعة، وعقيل، وقشير، وعجلان وأولاد كعب ابن ربيعة بن عامر، بمروج سلمية، وكلاب بن ربيعة بن عامر ومن ضامهم بماء يقال له الزرقاء، بين خناصرة وسورية، ونمير بن عامر بدير دينار من الجزيرة وتشاركوا ما يلحقهم من سيف الدولة وتوافقوا على التذام فيما بينهم، وشغله من كل ناحية والتناصر إن قصد طائفة منهم، وبلغه ما عملوا عليه، وأقل الفكر فيهم، فأطغاهم كثرة عددهم وعددهم، وسولت لهم أنفسهم الأباطيل، واستوىل على تدبير كعب عقيلها، وحسن ذلك لهم قواد كانوا في عسكر سيف الدولة، فسار إليهم وظفر بهم فقال أبو الطيب يذكر ما جرى ويمدحه سنة أربع وأربعين وثلاث مئة.
تذكّرت ما بين العذيب وبارق ... مجرّ عوالينا ومجرى السّوابق
العذيب: اسم ماء لبني تميم. وبارق: اسم موضع. والمجر: يجوز أن يكون موضع الجر، وأن يكون مصدراً. والمجرى: بفتح الميم موضع الجر، ومصدر كالجري. وبالضم: موضع الأجراء ومصدر كالإجراء، وقد روى: مجرى السوابق بضم الميم وفتحها وما في قوله: ما بين العذيب قيل: اسم في موضع نصب بتذكرت، ومجر عوالينا: بدل عنه. ومجرى: عطف عليه، ويجوز أن يكون صفة له.
والمعنى: تذكرت الموضع الذي بين العذيب وبارق بعد مفارقتي له، وكان ذلك الموضع مجر رماحنا ومجرى خيلنا: إما لعباً أو حرباً. وقيل ما زائدة وبين ظرف ومجر بعده نصب بتذكرت: أي لما حصلت بين العذيب وبارق تذكرت هناك جر رماحنا وإجراء خيلنا.
وصحبة قومٍ يذبحون قنيصهم ... بفضلات ما قد كسّروا في المفارق
يقول: تذكرت صحبة قوم أبطال، إذا قنصوا صيداً ذبحوه ببقايا سيوفهم التي كسروها في رءوس أعدائهم.
وليلاً توسّدنا الثّويّة تحته ... كأنّ ثراها عنبرٌ في المرافق
توسدنا الثوية: أي اتخذناها وسادة، والثوية: أرض بالكوفة. والثرى: التراب الرطب والهاء في ثراها للثوية وفي تحته لليل، وقيل: للثوية، إذ هو في معنى الرمل. وليلاً: عطف على ما قبله، وتوسدنا الثوية جملة من فعل وفاعل في موضع نصب صفة الليل، وقوله: كأن ثراها: في موضع النصب على الحال.
يقول: تذكرت ليلة كنا بالثوية وضعنا رءوسنا على ثراها، فكان ثراها الملتزق بمرافقنا عنبر لطيبه.
بلادٌ إذا زار الحسان بغيرها ... حصى تربها ثقّبنه للمخانق
الحسان: منصوب بزار، والهاء في بغيرها تعود إلى البلاد، وحصى: في موضع رفع لأنه فاعل زار. وأراد بالحصى: الفصوص الغروية التي تحمل من الغرى: وهو بناء عظيم بظهر الكوفة، وعنده مشهد علي أمير المؤمنين رضي الله عنه.
يقول: إن الثوية بلاد إذا حمل حصى هذه البلاد إلى النساء اللواتي هن بغير هذه البلاد، فإنهن يثقين هذا الحصى ويجعلنه في مخانقهن، لحسنه وصفائه.

وقيل: إن هذه البلاد من بلاد الشام، والحصى: أراد به الفسيفساء تكون بتلك البلاد. والأول هو الأظهر.
سقتني بها القطربّليّ مليحةٌ ... على كاذبٍ من وعدها ضوء صادق
الكناية في بها للبلاد أو للثوية. وقطربل: قرية من قرى بغداد، والقطربلي: الخمر المنسوبة إلى قطربل.
يقول: سقتني في هذه البلدة امرأة مليحة، وكانت الساقية المليحة تعدني من وصلها مواعيد كاذبة، تشبه الصدق؛ لحسن لفظها وطيب كلامها.
وقيل: إنه أراد أنه رآها في النوم تسقيه الشراب، وتعده الوصال، وكان كاذباً وإن كان في صورة الحق.
سهادٌ لأجفانٍ وشمسٌ لناظرٍ ... وسقمٌ لأبدانٍ، ومسكٌ لناشق
نشق الطيب: إذا طلبت رائحته.
يقول: قد اجتمعت في هذه المليحة هذه الأوصاف، فهي سهاد لأجفان العشاق، لأنهم لا ينامون شوقاً إليها، وشمس للناظرين إليها؛ من جمالها وحسنها، وسقم لأبدان العشاق؛ لأنهم يذوبون من حبها وتبلي أجسامهم شوقاً إليها، ومسك لناشق، يعني أنها طيبة البدن، فمن شمها وجد فيها رائحة المسك.
وقيل: أراد بها الخمر؛ لأنه تسهد لشربها، وشمس؛ للونها وسقم عند شربها، ومسك؛ لطيب رائحتها.
وأغيد تهوى نفسه كلّ عاقلٍ ... عفيفٍ ويهوي جسمه كلّ فاسق
الأغيد: الناعم الجسم، الطويل العنق، مع لين ونعومة. وهو رفع عطف على قوله: مليحة. أو على قوله: سهاد. وذكر قوله أغيد؛ لأنه أراد به شخصاً أغيد.
يقول: هو حسن الخلق والخلق، فالعاقل العفيف يهواه؛ لحسن خلقه وكمال عقله. والفاسق يهوى جسمه لحسن خلقه وملاحة وجهه.
وقيل: معناه سقاني الخمر المليحة الجامعة للصفات الأربع في البيت قبله، غلام أغيد، صفته كذا وكذا.
أديبٌ إذا ما جسّ أوتار مزهرٍ ... بلا كلّ سمعٍ عن سواها بعائق
أديب: رفع لأنه نعت لأغيد، أو بدل عنه. والمزهر: العود الذي يستعمل في الغناء وجس: أي مس. وبلا: أي جرب وامتحن.
يقول: إذا جس أوتار العود، شغل كل سمع عن الإصغاء إلى غيره؛ لحسن ضربه وجودة غنائه وصوته.
يحدّث عمّا بين عادٍ وبينه ... وصدغاه في خدّي غلامٍ مراهق
يقول: هو أديب يحفظ أيام الناس وأشعارهم، ويخبر بالأخبار القديمة التي كانت بينه وبين أيام عاد، وهو بعد مراهق حديث السن.
وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
يقول: حسن الوجه لا يكسب لصاحبه شرفاً؛ ما لم يكن معه حسن الفعل وكرم الأخلاق.
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق
يقول: ليس بلد الإنسان إلا ما يوافقه، فلا تلتفت إلى وطنك إذا لم يوافقك، وحسنت في غيره حالك، وليس أهل الإنسان وأقاربه الأدنون إلا كل من يصادقه في المودة، فكل إنسان يصادقك فهو قريبك.
وجائزةٌ دعوى المحبّة والهوى ... وإن كان لا يخفى كلام المنافق
جائزة: قيل نافذة، وقيل: ممكنة.
يقول: دعوى المحبة من غير معنىً ربما تجوز وتنفذ، وإن كان كلام المنافق لا يخفى عليك.
وكان جماعة من شيوخ بني كلاب جاءوا وطرحوا أنفسهم على سيف الدولة وتضرعوا إليه. لما قصد لهم فقال: هؤلاء يدعون حبك وهذه الدعوى تنفذ منهم وإن كانوا منافقين في ذلك.
وقيل: معناه أن الإنسان يمكنه أن يظهر المودة بلسانه، وقلبه على خلافه، ولكنه لا يقدر أن يخفي نفاقه.
برأي من انقادت عقيلٌ إلى الرّدى ... وإشمات مخلوقٍ، وإسخاط خالق ؟
من استفهام، وهو في موضع الجر باضافة رأى إليه وعقيل: قبيلة. والشماتة: الفرح ببلية العدو.
يقول: بتدبير من أظهرت عقيل عصيان سيف الدولة ؟ فإنه أوقعها في الهلاك، وأشمت بها أعداءها، وأسخط خالقها.
أرادوا عليّاً بالّذي يعجز الورى ... ويوسع قتل الجحفل المتضايق
يقول: قصدوا عليا بالأمر الذي يعجز الخلق عن إيقاعه به؛ لأنهم أرادوا قتله والخروج من طاعته، وذلك يعجز الناس ولا يقدر عليه أحد، ولو أراد الجيش العظيم المجتمع الذي تضيق به الأرض لكثرته، أن يفعلوا ذلك لقتلوا دونه، حتى تتسع الأرض، وأراد بالمتضايق: المجتمع.
فما بسطوا كفّاً إلى غير قاطع ... ولا حملوا رأساً إلى غير فالق
يقول: بسطوا أيديهم إلى من يقطعها ! وحملوا رءوسهم إلى من يشقها.

يعني: لما كان آخر أمرهم ذلك، كانوا كأنهم بسطوا أيديهم للقطع ورءوسهم للشق.
لقد أقدموا لو صادفوا غير آخذٍ ... وقد هربوا لو صادفوا غير لاحق
يقول: كان يتم إقدامهم لو صادفوا من هو مثلهم، فلما أقدموا عليك أسرتهم، فلولاك لكان يتم ما أرادوه، وكان يمكنهم الهرب لو هربوا منك، فلما لاحقهم لم يمكنهم الهرب منه
ولمّا كسا كعباً ثياباً طغوا بها ... رمى كلّ ثوبٍ من سنانٍ بخارق
كعب: اسم قبيلة يقول: لما كساهم سيف الدولة ثياب إنعامه، وكفروا إحسانه، خرق عنهم تلك الثياب بممزق من سنان، يعني أنهم لما جحدوا نعمه أزالها عنهم وقتلهم، وتلك نعمة عليهم.
ولمّا سقى الغيث الّذي كفروا به ... سقى غيره في غير تلك البوارق
البوارق: جمع بارقة، وهي السحابة التي فيها برق، وهذا مثل الذي قبله.
يقول: أنشأ عليهم سحائب إحسانه وسقاهم غيث امتنانه، فلما جحدوا فضله أمطر عليهم من سحائب غير تلك السحائب، يعني أتاهم من عسكره في مثل السحائب البارقة فصب عليهم صواعق الانتقام، وأزال عنهم غيث الإنعام
وما يوجع الحرمان من كفّ حازمٍ ... كما يوجع الحرمان من كفّ رازق
يقول: إن كان الحرمان ممن جرت عادته به لا يوجع المحروم، كما يوجع إذا كان ممن جرت عادته بالنعم والامتنان.
أتاهم بها حشو العجاجة والقنا ... سنابكها تحشو بطون الحمالق
حشو: نصب على الظرف أو الحال، والهاء في بها للخيل المضمرة التي يدل عليها ذكر الجيش، والحملاق: باطن الجفن، والحمالق: أصلها الحماليق فحذفت الياء ضرورة يقول: أتاهم سيف الدولة بالخيل وسط الغبار والرماح، وحوافرها تنثر الغبار فيدخل في عيونها وعيون فرسانها.
عوابس حلّي يابس الماء حزمها ... فهنّ على أوساطها كالمناطق
عوابس: نصب على الحال أي أتاهم عوابس. وحلي: من التحلية. والحزم: جمع الحزام، وأراد بيابس الماء: عرقها.
يقول: قصد إليهم بالخيل وقد عبست وجف عرقها على حزمها فابيض فصار كأنه حلي من فضة، وأشبهت الحزم على أوساطها المناطق المحلاة بالفضة.
وقيل أراد به الماء الحقيقي.
والمعنى: أنه قصدهم في الشتاء وخاض بها الأنهار فجرى الماء على حزمها مثل الحلي في المناطق.
فليت أبا الهيجاء يرى خلف تدمرٍ ... طوال العوالي في طوال السّمالق
أبو الهيجاء: والد سيف الدولة. وتدمر: مدينة على طرف السماوة من ناحية الشام. يقال: إنها من بناء سليمان عليه السلام. والسمالق: جمع السملق، وهي الأرض البعيدة الأطراف. وقيل: السمالق: الطرق البيض.
يقول: ليت والده رآه وقد هزم عقيلاً وطردها بالرماح في هذه النواحي؛ ليفرح وتقر به عينه.
وسوق عليٍّ من معدٍّ وغيرها ... قبائل لا تعطى القفىّ لسائق
القفى: جمع القفا. واللام في قوله: لسائق زائدة كقوله تعالى: " رَدِفَ لَكُمْ " وسوق: عطف على قوله: طوال العوالي يقول: وليته رأى سوق ابنه قبائل العرب من معد وغيرها، ممن كان لا ينهزم لأحد ولا يوليه قفاه.
قشيرٌ وبلعجلان فيها خفيّةٌ ... كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق
هما قبيلتان، وبلعجلان: أراد بني العجلان، فحذف النون، كما قالوا في بني الحارث بلحارث. وأما إذا أرادوا إدغام النون في اللام فلا يمكنهم، لسكون اللام، فعدلوا إلى الحذف لتعذر الإدغام، والنون من بلعجلان مكسورة لأن الاسم مجرور بالإضافة.
وحكى ابن جني عنه أنه كان يضمه ذهاباً إلى أن الاسمين صارا اسماً واحداً.
والألثغ: الذي يميل بالراء إلى اللام، والمعنى: أن هاتين القبيلتين مع كثرتهما قد خفيتا في جملة القبائل كالراءين في لفظ الألثغ في خفائهما بغيرهما من الحروف.
تخلّيهم النّسوان غير فواركٍ ... وهم خلّوا النّسوان غير طوالق
الفوارك: جمع فارك، وهي التي تبغض. وغير في الموضعين نصب على الحال.
يقول: شتت سيف الدولة جمعهم، حتى خلت النساء أزواجهن، لا للبغض والطلاق !
يفرّق ما بين الكماة وبينها ... بطعنٍ يسلّي حرّه كلّ عاشق
الهاء في بينها للنسوان.
يقول: إن سيف الدولة كان يفرق بين الأبطال ونسوانهم بطعن، لو أصاب العاشق أنساه حره حرارة العشق الذي في قلبه، وسلاه عن العشق.
وقيل: معناه أنه كان يقتل بالطعن الذي إذا حل في العاشق أنساه عشقه.

أتى الظّعن حتّى ما تطير رشاشةٌ ... من الخيل إلاّ في نحور العواتق
الظعن: جمع ظعينة، وهي المرأة ما دامت في الهودج. وروى: أتى الطعن بالطاء. والرشاش: ما تطاير من الدم. الواحدة رشاشة: والعواتق: النساء الأبكار، الواحدة عاتق.
يقول: إن سيف الدولة ألجأهم إلى رحلهم والتواري في خدور العواتق، واقتحم عليهم بخيله وسط نسائهم، وكانت الخيل تطعنهم فيطير الدم في نحور العواتق.
وفي رواية الطاء: طاعن الأعداء وهم في بيوتهم، فهذا معنى إتيان الطعن حتى يطير رشاشه في نحور النساء.
بكلّ فلاةٍ تنكر الإنس أرضها ... ظعائن حمر الحلي حمر الأيانق
المعنى: أنهم فروا بنسائهم إلى كل فلاة لم يطأها الإنس قبلهم، وكانت فيها نساء حمر الحلي: أي أن حليهم ذهب، وأيانقهن حمر، يعني: أنهن نساء ملوك وأرباب نعمة.
وقيل: أراد بقوله. حمر الحلي أنهن مختضبات بالدماء التي ترششت عليهن من رجالهن في نحور العواتق.
وملمومةٌ سيفيّةٌ ربعيّةٌ ... تصيح الحصى فيها صياح اللّقالق
أي كتيبة ملمومة: وهي المجتمعة. وسيفية: منسوبة إلى سيف الدولة؛ لأنهم جنده وأصحابه. وقوله: ربعية: منسوبة إلى ربيعة: يعني هم من بني ربيعة ليس فيهم غيرهم وإنما هم قومه وبنو عمه. واللقالق: جمع لقلق وهو طائر معروف. وفاعل تصيح: هو الحصى. وروى: يصيح الحصى أي الملمومة تحمله على الصياح. والهاء في فيها للفلاة.
يقول: إن هذه الملمومة إذا سارت في الحصى حكى وقع حوافرها فيه، صوت اللقالق.
وقيل: معناه أنها قد لبست التجافيف والدروع، وإذا وقعت حصاة عليهم طنت في الحديد والدروع، فأشبهت صياح اللقالق. وملمومة عطف على قوله ظعائن يعني أنهم فروا بظعائنهم إلى الفلوات، وسار سيف الدولة في طلبهم بخيله، وكان في كل فلاة ظعائنهم وخيل سيف الدولة تطلبهم. وهذا التشبيه من قول الشاعر:
تصيح الرّدينيّات فيها وفيهم ... صياح بنات الماء أصبحن جوّعاً
بعيدة أطراف القنا من أصوله ... قريبة بين البيض غبر اليلامق
هذا من صفة الملمومة.
يقول: هي بعيدة أطراف القنا من أصوله. يعني طويلة الرماح فأطرافها بعيدة من أصولها، وهي قريبة بين البيض: أي مجتمعة مزدحمة. والبيض: الذي على رءوسها يمس بعضها بعضاً بتزاحم الخيل. وهي غبر اليلامق: أي أن الغبار قد علاها. واليلامق: جمع يلمق، وهي جبة يكثر حشوها وتضرب وتلبس مثل الجوشن. وربما يجعل فيما بينها دروع.
وقيل: اليلمق: القباء، وإنما مدح بطول الرماح؛ لأن تمام الفروسية بحسن استعمالها.
وقوله: غبر اليلامق كان الوجه غبراء اليلامق كقوله قريبة وبعيدة، ولكنه حمله على المعنى؛ لأن الكتيبة جماعة، والأوليان محمولة على اللفظ. وقيل: رده إلى كل جزء من الكتيبة، كما يقال: امرأة واضحة اللباب.
نهاها وأغناها عن النّهب جوده ... فما تبتغي إلاّ حماة الحقائق
حماة الحقائق: هم الشجعان الذين يحمون ما يحق حمايته. والهاء في نهاها وأغناها للملمومة. وفاعل تبتغي ضميرها أيضاً.
يقول: إن سيف الدولة نهى الكتيبة عن الإغارة وأغناهم بجوده عن الاشتغال بالنهب، فهم لا يلتفتون إلى الأنهاب والأسلاب، وإنما قصدهم الأبطال والفرسان الحامون للحقائق.
توهّمها الأعراب سورة مترفٍ ... تذكّره البيداء ظلّ السّرادق
السورة: الوثبة. وقيل: هي الحرب ها هنا. والمترف: المتنعم. والسرادق: ما أحاط بالخيمة مثل السور. والهاء في توهمها ضمير الحرب، وقيل: ضمير السورة. وتذكره: تفسير لها.
يقول: ظن الأعراب أنك إذا سرت خلفهم تعبت، وأن سورتك مثل سورة كل متنعم، لا يصبر على الحر، فإذا حصل بالبيداء تذكر لين العيش، فتركهم وانصرف.
فذكّرتهم بالماء ساعة غبّرت ... سماوة كلبٍ في أنوف الحزائق
فذكرتهم بالماء: الباء فيه زائدة، أي ذكرتهم الماء. والسماوة: مفازة بين الشام والعراق، وأضافها إلى بني كلب لأنهم ينزلونها، وهي أصعب البرية. وغبرت: أي ركب عليها الغبار. والحزائق: الجماعات والواحد حزيق وحزيقة.
يقول: إنهم توهموا أنك لا تصبر على البادية فتنصرف سريعاً، كما يفعل كل مترف فكذبت ظنونهم وطردتهم، حتى إذا بلغوا السماوة، وثار غبارها فدخل في أنوف جماعتهم، عطشوا فتذكروا الماء من شدة ما لحقهم من العطش.

وكانوا يروعون الملوك بأن بدوا ... وأن نبتت في الماء نبت الغلافق
يروعون: أي يفزعون. وبدوا: أي صاروا أهل البادية وسكنوها. والغلافق: جمع الغلفق وهو الطحلب، وقيل: هو ما نبت في الماء مثل الطحلب.
يقول: كانوا يخوفون الملوك بنزولهم في البادية، وبأن الملوك لا تصبر على الماء كما لا تصبر الغلافق.
فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه ... وأبدى بيوتاً من أداحي النّقانق
الهاء في نجومه يعود إلى لفظ الفلا ويجوز نجومها فيكون راجعاً إلى المعنى؛ لأنها جمع الفلاة. وهاجوك: أي هيجوك. وموضع أهدى نصب على الحال. وأبدى بيوتاً: أي أدخل في البدو بيتاً من النعام، فأبدى: من البادية. وأداحي: جمع الأدحية، وهي موضع بيض النعام. والنقانق: جمع نقنق وهو ذكر النعام.
يقول: هيجوك للحرب، وأنت عالم بالفلوات وأكثر اهتداء من النجوم، وكنت أدخل في البادية بيتاً من النقانق.
وقيل: إن قوله أبدى بيوتاً: أي أظهر بيوتاً، ومعناه: كنت فيها أظهر بيوتاً من النقانق؛ لأن بيوتها تكون ظاهرة غير خفية.
وأصبر عن أمواهه من ضبابه ... وآلف منها مقلةً للودائق
الودائق: جمع الوديقة، وهي شدة الحر. ويجوز أمواهها وضبابها رداً إلى معنى الجمع. والهاء في منها للضباب. وأصبر وآلف نصب على الحال، عطفاً على قوله: أهدى في الفلا ومقلةً نصب على التمييز.
يقول: كنت أصبر في الفلوات عن الماء من الضباب؛ لأنها تتبلغ بالنسيم عن الماء، وكنت آلف للحر من الضباب، ومقلتك أكثر إلفاً للحر من مقلة الضباب.
وكان هديراً من فحولٍ تركتها ... مهلّبة الأذناب خرس الشّقاشق
الهدير: صوت الفحل الهائج. المهلبة: مجذوذة الأذناب، والهلب: شعر الذنب والشقاشق: جمع الشقشقة، وهي ما يخرجه الفحل من فمه شبه الرئة، والفحل إذا هاج شد ذنبه فيسكن عند ذلك ويذل، فالمهلبة: هي المشدودة الأذناب.
وقيل: إن الفحل الهائج إذا نتف ذنبه سكن. فالمهلبة: المنتوفة الأذناب على المعنيين اللذين ذكرناها، فسكتت وخرست شقاشقها: أي انقطع هديرها.
قال ابن جني: المعنى كأن فعلهم من طغيانهم كهدير من فحول هاجت، فانتدب لها فحل أصعب منها فهربت منه وولته أذنابها، فهلبها: أي أخذ شعر أذنابها فنتفها وسكن هديرها.
فما حرموا بالرّكض خيلك راحةً ... ولكن كفاها البرّ قطع الشّواهق
فما حرموا: أي ما منعوا خيلك. نصب لأنها المفعول الأول بحرموا. وراحةً: المفعول الثاني والهاء في كفاها للخيل وهو المفعول الأول. وقطع: المفعول الثاني. والبر: فاعل كفاها.
يقول: إنهم ما منعوا خيلك بالركض راحةً وما كلفوها مشقةً؛ لأنها أبداً لا تخلو من الحرب، فلولا أنها لم تسر إليهم لغزت بلاد الروم، وعلت الجبال الشواهق، والبر أسهل عليها من الجبال.
ولا شغلوا صمّ القنا بقلوبهم ... عن الرّكز لكن عن قلوب الدّماسق
الدماسق: جمع الدمستق.
يقول: لم تكن رماحك مركوزة في الأرض، فشغلوها عن الركز في الأرض بالطعن في قلوبهم، وإنما حولوها عن قلوب الدماسق إلى قلوبهم. يعني: لا راحة لخيلك ولا راحة لسلاحك.
ألم يحذروا مسخ الّذي يمسخ العدى ... ويجعل أيدي الأسد أيدي الخرانق
المسخ: تغير الصورة إلى غيرها. والخرانق: جمع الخرنق، وهو الأرنب الصغير.
يقول: أما خافوا سيف الدولة أن يمسخهم كما يمسخ أعداءه ؟! ويرد أيدي الأسود منهم إلى أيدي الخرانق في القصر. والذلة والضعف، يعني: أن يجعل العزيز ذليلاً.
وقد عاينوه في سواهم وربّما ... أرى مارقاً في الحرب مصرع مارق
المارق: الخارج عن الطاعة. والهاء في عاينوه للمسخ، وفاعل أرى ضمير سيف الدولة.
يقول: أما خافوا مسخه ؟! وقد شاهدوا سيف الدولة كيف مسخ أعاديه من غيرهم ! فكان سبيلهم أن يرتدعوا بغيرهم، وسيف الدولة إذا مرق واحد من طاعته صرعه وقتله، وأرى مارقاً غيره مصرع الأول ليحذر منه ويتعظ به، ومثله قول أشجع:
شدّ الخطام بأنف كلّ مخالفٍ ... حتّى استقام له الّذي لم يخطم
تعوّد ألاّ تقضم الحبّ خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق
العلائق: المخالي التي يجعل فيها الشعير، وتعلق على الدابة.

قال ابن جني: سألت المتنبي عن معناه فقال: الفرس إذا علقت عليه المخلاة طلبت موضعاً مرتفعاً يضعها عليه، ثم يتناول منها، فخيل سيف الدولة أبداً إذا علقت عليها علائقها رفعته على هام الرجال الذين قتلتهم ! لكثرة هاماتهم.
وقد قيل: إن هذا يؤدي إلى أن تكون الخيل هجنا قصار الأعناق؛ لأن الفرس العتيق لا يضع مخلاته على شيء لطول عنقه.
واعتذر عنه فقيل: إن رءوس القتلى قد كثرت حتى غطت وجه الأرض، فالفرس لا يضع مخلاته - إن وضعها - إلا على رءوس القتلى؛ وكثر ذلك حتى صار عادة لها، ولم يفعل ذلك لأنه كان يحتاج إليه لقصر عنقه.
ولا ترد الغدران إلاّ وماؤها ... من الدّم كالرّيحان تحت الشّقائق
الشقائق: يقال له الشقر، وهو اسمه الأصلي، وإنما سمي الشقر شقائق بمنبته، والشقائق: جمع شقيقة، وهي كل أرض مستطيلة تشق بين الرملين. وقيل لها: شقائق النعمان؛ لأن النعمان مر على شقائق فيها هذا النور فأعجبه فحماه، ولم يدع أحداً يرعى تلك الشقائق، فأضيفت إليه يقول: تعودت خيله ألا ترد لشرب الماء إلا الغدران الممزوجة بالدماء. شبه خضرة الماء تحت الدم بالريحان تحت الشقائق. وقيل: أراد بالريحان الطحلب ومعناه: أن حمرة الدم تعلو خضرة الطحلب. وأخذ هذا المعنى بعض المتأخرين ونقله إلى وصف سيف فقال:
ويلوح في ورق النّجيع فرنده ... كالماء تحت شقائق النّعمان
لوفد نميرٍ كان أرشد منهم ... وقد طردوا الأظعان طرد الوسائق
الوسائق: جمع الوسيقة، وهو ما يطرد من الوحش عند الصيد.
يقول: بنو نمير كانوا أرشد منهم رأياً حين فروا بنسائهم، وبعثوا وفودهم إليه يسألونه العفو، ولم يقفوا لك، كما فعلت عقيل.
أعدّوا رماحاً من خضوعٍ فطاعنوا ... بها الجيش حتّى ردّ غرب الفيالق
الغرب: الحد.
يقول: جعلوا خضوعهم إلى سيف الدولة رماحاً لهم، طعنوا بها الجيش، وردوا بها حدته عنهم.
فلم أر أرمى منه غير مخاتلٍ ... وأسرى إلى الأعداء غير مسارق
يقول: لم أر أرمى منك غير مخادع. يعني أنك لا تخادع أعداءك، ولا تسري إليهم سراً، بل تجاهر بالطلب وتواجه بالرمي.
تصيب المجانيق العظام بكفّه ... دقائق قد أعيت قسيّ البنادق
قسي البنادق: ما يستعمله أهل العراق في رمي الطيور ويسمونه: الجلاهق. والبنادق: جمع بندقة، تعمل من الطين بقدر البندقة، وترمي بها الطير. وقيل: حجارة مستديرة كهيئة البندقة يرمى بها.
يقول: إن المجانيق تعمل بكفك عمل الجلاهق، فيمكنك أن تصيب بالمنجنيق المواضع اللطيفة الدقيقة التي لا يصيبها غيرك بقوس البنادق.
يعني: أنه يتوصل بجيشه عند مجاهرة أعدائه إلى ما لا يقدر غيره على التمكن منه بالختل والمخادعة.
وقال أبو الطيب هذه القصيدة في هذه السرية يسترضيه على قبائل العرب المشار إليها إلا أنه لم يذكر المنازل ولا وصف الوقعة؛ لأنه لم يشهدها، فشرحها له سيف الدولة وسأله أن يصفها فقال.
طوال قناً تطاعنها قصار ... وقطرك في ندىً ووغىً بحار
الهاء في تطاعنها لطوال القنا، وأراد أصحابها.
يقول: إذا طاعنت أصحاب الرماح الطوال قصرت تلك الرماح في أيديهم؛ لأن أيديهم تضعف وترتعد عند لقائك، فلا تعمل رماحهم فيك، وكأنها مع طولها قصيرة، والقليل من عطائك كثير بالإضافة إلى عطايا غيرك، كالقطرة في البحر، وكذلك القليل من حربك كثير بالإضافة إلى حرب غيرك.
وفيك إذا جنى الجاني أناةٌ ... تظنّ كرامةً وهي احتقار
الأناة: الحلم والرفق. والتأني.
يقول: أنت حليم تتغافل عن المسيء، فيظن المسيء وغيره أن ذلك لكرامته عليك، وإنما هو لاحتقارك إياه.
وأخذٌ للحواضر والبوادي ... بضبطٍ لم تعّوده نزار
وأخذ: عطف على قوله: أناة.
يقول: فيك أخذ لأهل الحضر وأهل البدو، سياسةً وشدة لم تتعود العرب مثله. ونزار يجمع ربيعة ومضر ونحوهما أكثر العرب، فلذلك خصهم بالذكر.
تشمّمه شميم الوحش إنساً ... وتنكره فيعروها نفار
أراد: تتشممه، فحذف أحد التاءين، والضمير في تشممه يعود إلى الضبط. فيعروها: أي يظهر لها، والهاء في يعروها لنزار.
يقول: تتشمم نزار ضبطه وسياسته كما يتشمم الوحش الإنس فتهرب عند ذلك؛ لأنها لم تتعود هذه السياسة.

وما انقادت لغيرك في زمانٍ ... فتدري ما المقادة والصّغار
المقادة: الانقياد. والصغار: الذل.
يقول: إن نزار لم تنقد لأحد قبلك، حتى تعرف ما الصغار والانقياد.
فأقرحت المقاود ذفرييها ... وصعّر خدّها هذا العذار
الذفران: الجيدان المكتنفان للنقره حول القفا، وقيل: هما العظمان الناشزان خلف الأذنين، وأراد بهما الذفاري، فذكر لما يكون للواحد؛ لأن لكل واحد ذفرين، فاكتفى بالواحد عن الجمع. وصعر خدها: أي أماله، وأراد بالخد أيضاً: الخدود. وبالعذار: العذر. وفاعل أقرحت: المقاود. والهاءات لنزار. والمقاود: جمع مقود، وهو الحبل تقاد به الدابة الصعبة الانقياد.
يقول: ما زلت تقودهم بالعذار والمقود الخشن، حتى تقرح ذفرياها وتصعر خدها من ذلك العذار.
وأطمع عامر البقيا عليها ... ونزّقها احتمالك والوقار
ولم يصرف عامر لأنه جعلها اسماً للقبيلة. والهاء في عليها تعود إلى عامر والبقيا: اسم من الإبقاء، وهي المسامحة.
يقول: لما أبقيت على بني عامر طمعت فيك، فدعاها ذلك إلى الخفة والطيش، حتى أقدمت على محاربتك.
وغيّرها التّراسل والتّشاكي ... وأعجبها التّلبّب والمغار
التلبب: التحزم للقتال ولبس الأسلحة. والمغار: هو الإغارة على العدو.
وقيل: من الإغارة التي هي إحكام الفتل فيقرب من التلبب.
يقول: غيرها عن الطاعة تراسل بعضهم بعضاً، وشكوى سيف الدولة، فكان يشكو بعضهم بعضاً ما يعاملهم به، وقيل: معناه غيرها عن الطاعة مراسلة سيف الدولة إياهم متلطفاً، وكذلك شكايته أفعالهم، ظنوا أن ذلك عن عجزه وأعجبها التحزم للحروب والغارات، وطمعوا في ذلك من سيف الدولة، لما رأوا احتماله.
وقيل: معناه اغتروا بتحزمهم ولبسهم الأسلحة وكثرة الإغارة على الأعداء.
جيادٌ تعجز الأرسان عنها ... وفرسانٌ تضيق بها الدّيار
جياد: عطف على قوله: التلبب والمغار، وقيل: هي مبتدأ والخبر محذوف، أي لهم جياد.
يقول: أعجبها خيل جياد تعجز عنها الأرسان؛ لكثرتها فلا يوجد لها أرسان تكفيها.
وقيل: تعجز الأرسان عن ضبطها؛ لصعوبتها، وكذلك أعجبها فرسان لا تسعهم الأرض لكثرتهم.
وكانت بالتّوقّف عن رداها ... نفوساً في رداها تستشار
نفوساً: خبر كانت. واسمه ضمير القبيلة التي هي بني عامر.
يقول: كانت هذه القبيلة بإقامتهم على عصيانهم سيف الدولة كالمشيرين عليه بقتلهم، وكان هو يتوقف عن قتلهم، فكأنه كان هو كالمستشير في قتله إياهم.
وكنت السّيف قائمه إليها ... وفي الأعداء حدّك والغرار
غرار السيف: ما بين حده إلى عيره الناشز في وسطه. وقيل: هو الحد، وجمع بينهما لاختلاف اللفظين.
يقول: كنت قبل أن يعصوك، سيفاً لهم قائمه في أيديهم، وحده في أعدائهم، فلما عصوك انقلب حده فيهم ومثله:
نقاسمهم أسيافنا شرّ قسمةٍ ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
ومثله لجعفر الحارثي:
لهم صدر سيفي يوم بطحاء سحبلٍ ... ولي منه ما ضمّت عليه الأنامل
فأمست بالبديّة شفرتاه ... وأمسى خلف قائمه الحيار
البدية والحيار: ماءان. وقيل موضعان. فالحيار: قريبة من العمارة. والبدية: واغلة في البرية، وبينهما مسيرة ليلة. وكان سيف الدولة بالحيار، وبنو عامر بالبدية.
يقول: كنت سيفاً لهم، قائمة في إيديهم، فلما عصوك صار حده فيهم وقائمه خلف الحيار.
وقيل: معناه أن قائمه كان خلف الحيار وشفرتاه بالبدية: أي طال السيف إليهم حتى وصل من خلف الحيار إلى البدية، وإنما طال بطول باع حامله.
يصف بذلك سرعة وصوله إليهم.
وكان بنو كلابٍ حيث كعبٌ ... فخافوا أن يصيروا حيث صاروا
كعب: مرفوع بالابتداء وخبره محذوف. أي حيث كعب كائنة. وكان سيف الدولة بالحيار، فسار عنها يقصد البدية، فتلقاه مشيخة بني كلاب في الطريق، واستأمنوه، وقد كانوا مع كعب يداً واحدة، فخالفوهم وساروا مع سيف الدولة، إلى بني كعب.
فيقول: كان بنو كلاب مع كعب، فخافوا أن يحل بهم ما حل بكعب من القتل، فرجعوا إلى الطاعة.
تلقّوا عزّ مولاهم بذلٍّ ... وسار إلى بني كعبٍ وساروا
يقول: ذل بنو كلاب لعز مولاهم وهو سيف الدولة وانقادوا له فساروا معه إلى بني كعب.

فأقبلها المروج مسوّماتٍ ... ضوامر لا هزال ولا شيار
الهاء في أقبلها للخيل، وأضمرها للعلم بها، وأقبلها: أي أجازها وحولها نحوها. والمسومات: أي معلمات. والمروج: مروج سلمية. والهزال: جمع هزيل. وشيار: جمع شير، وهو الفرس السمين الممتلئ من اللحم.
يقول: أقبل بخيله إلى المروج، وهي مضمرة ليست بهزيلة ولا سمينة، بل كانت خفيفة اللحم لا من الهزال.
تثير على سلمية مسبطرّاً ... تناكر تحته لولا الشّعار
تناكر: أي تتناكر. وسلمية: موضع. مسبطراً: أي غباراً ساطعاً ممتداً.
يقول: أثارت الخيل غباراً بسلمية حتى ستر الشمس وأظلم النهار لامتداد الغبار، فأنكر ما تحته؛ لشدة الظلمة، وإنما كانوا يتعارفون بالعلامات.
عجاجاً تعثر العقبان فيه ... كأنّ الجوّ وعثٌ أو خبار
عجاجاً: بدل من مسبطراً. والوعث: الأرض السهلة الكثيرة الرمل. والخبار: الأرض السهلة التي فيها حجارة.
يقول: صار الجو من كثرة الغبار وتكاثفه أرضاً ذات وعث وخبار، حتى إن العقبان تعثر فيها ولا يمكنها الطيران.
وظلّ الطّعن في الخيلين خلساً ... كأنّ الموت بينهما اختصار
الخيلان: خيل سيف الدولة وخيل العدو، وهم بنو كلاب. والخلس: الاختلاس. يصف الجيش بالحذق في الطعن.
يقول: لما التقى الخيلان تخالسوا الطعن واختصروا الطريق إلى الموت، يعني أنهم اقتصروا على الطعن والضرب، فكأنهم اختصروا الحرب، وحذفوا فضولها، وقربوا القتل على الأعداء، فهذا اختصار الموت.
وقيل: إن معناه أن الموت كان يقلل من عدد جيش العدو بسرعة، لأن الاختصار هو رد الكثير إلى القليل.
فلزّهم الطّراد إلى قتالٍ ... أحدّ سلاحهم فيه الفرار
لزهم: أي ألجأهم. والطراد: المطاردة.
والمعنى: ألجأهم القتال إلى الهرب. أحد سلاحهم فيه الفرار يدفعون به القتل عن أنفسهم، كما يدفع السلاح، لما لم يمكنهم القيام لسيف الدولة.
مضوا متسابقي الأعضاء فيه ... لأرؤسهم بأرجلهم عثار
الهاء في فيه ضمير الفرار والطراد.
يقول: مضوا منهزمين فكانت أعضاؤهم يسبق بعضها بعضاً في الفرار، فالرأس يترك جسمه ويتقدم عليه ويتعثر بأرجل المنهزمين.
أو كانت الرءوس إذا أبينت تسقط على أرجل أصحابها فتعثر بها، خلاف المعهود، لأن المعهود أن تتعثر الأرجل لا الرءوس.
والمعنى: أنهم ولوا وتبعت خيل سيف الدولة أدبارهم تضرب أعناقهم وتسقط رءوسهم على أرجلهم، وهم ينهزمون، فجعل ذلك سابقاً من أعضائهم في الفرار.
يشلّهم بكلّ أقبّ نهدٍ ... لفارسه على الخيل الخيار
يشلهم: أي يطردهم. والأقب: الضامر البطن. والنهد. المشرف العالي.
يقول: يطردهم سيف الدولة بكل فرس ضامر مرتفع عالي، لفارسه خيار على الخيل: يعني يصرفها كيف شاء: إن شاء سبق، وإن شاء لحق؛ لجودة فروسيته.
وقيل: أراد بالخيار أنه يختار من يقتلهم، فكأنه يقتل القواد والكبار من أصاب الخيل دون الأرذال والحشو.
وكلّ أصمّ يعسل جانباه ... على الكعبين منه دمٌ ممار
وكل: عطف على قوله: بكل أقب. ويعسل: أي يضطرب. وجانباه: جانب الزج، وجانب السنان. وأراد بالكعبين: الكعبين اللذين في عامل الرمح. قيل: أراد به الكعاب للرمح فعبر عنهما بالتثنية. والممار: المجرى من أمرت الدم أي أجريته، فهو ممار، ومار، فهو مائر.
يقول: يطردهم بكل فرس ضامر، وكل رمح أصم لا تجويف فيه يهتز طرفاه، وقد سال الدم على كعوبه.
يغادر كلّ ملتفتٍ إليه ... ولبّته لثعلبه وجار
ثعلب الرمح: ما دخل منه في السنان. والوجار: بيت الثعلب بفتح الواو وكسرها. واللبة: المنحر.
يقول: هو يطردهم بكل رمح إذا التفت المنهزم لينظر هل وراءه أحد، طعنه في لبته حتى تصير لبته لثعلب الرمح بمنزلة الوجار للثعلب الذي هو الحيوان.
إذا صرف النّهار الضّوء عنهم ... دجا ليلان: ليلٌ والغبار
يقول: إذا زال عنهم ضوء النهار غطاهم ليلان: أحدهما الليل المعروف، والثاني ظلمة الغبار الموصوف.
وإن جنح الظّلام انجاب عنهم ... أضاء المشرفيّة والنّهار
جنح الليل وجنحه: جانبه، وقيل: سواده، وانجاب: انكشف.

يقول: إذا انكشف الليل عنهم أضاء لهم نهاران: أحدهما النهار الحقيقي، والثاني ضوء لمع السيوف. وقد أتى النابغة بجميع ذلك في بيت واحد فقال:
تبدوا كواكبه والشّمس طالعةٌ ... نوراً بنورٍ وإظلاماً بإظلام
يبكّي خلفهم دثرٌ، بكاه ... رغاءٌ أو ثؤاجٌ أو يعار
الرغاء: صوت الإبل. والثؤاج: صوت الضأن. واليعار: صوت الماعز. والدثر: المال الكثير.
يقول: يصيح وراءهم مال عظيم من الإبل والضأن والماعز فكأنها تبكي.
غطا بالغنثر البيداء حتّى ... تخيّرت المتالي والعشار
غطا يغطو، وغطى يغطي بمعنىً. والغنثر: ماء. والمتالي: جمع متلية وهي التي يتلوها ولدها. والعشار: الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر والواحدة عشراء.
يقول: لما وصل سيف الدولة إلى هذا الماء أخذ أموال بني كعب لما هربوا، وغطى بها البيداء وملأها، حتى عجز الجيش عن سوقها، فكان أصحابه يختارون نفائسها وكرائمها وهي المتالي والعشار.
وقيل: إن فاعل غطا هو ضمير الدثر. والمعنى: أن المال غطى بكثرته البيداء على هذا الماء، حتى أخذ كرائمه.
ومرّوا بالجباة يضمّ فيها ... كلا الجيشين من نقعٍ إزار
الجباة: ماء، أو موضع. والنقع: الغبار.
يقول: انهزموا من سلمية، ومروا بالجباة، وخيل سيف الدولة خلفهم فأحاط الغبار بهم جميعاً، فكان العسكران كأنهما في إزار واحد، وصار الغبار كالإزار المحيط بهم. ومثله للخنساء تصف عيراً يطرد أتاناً:
يتعاوران من الغبار ملاءةً ... بيضاء ساطعةً هما نسجاها
وجاءوا الصّحصحان بلا سروجٍ ... وقد سقط العمامة والخمار
الصحصحان: صحراء هناك. وأراد بالعمامة: العمائم. وبالخمار: الخمر.
يقول: انهزموا من الجباة وجاءوا الصحصحان، وقد ألقوا سروجهم لتخف دوابهم، وسقطت عمائمهم عن رءوسهم وخمر نسائهم.
وأرهقت العذارى مردفاتٍ ... وأوطئت الأصيبية الصّغار
أرهقت: أي كلفت أمراً صعباً. والأصيبية: تصغير صبية، وهي جمع الصبي في القلة.
يقول: أردفوا العذارى خلفهم وأتعبوهن من شدة الركض، وأوطئوا إبلهم وخيلهم صبيانهم الصغار؛ لشدة هربهم.
وقد نزح العوير فلا عويرٌ ... ونهيا والبييضة والجفار
هذه كلها أسماء مياه.
يقول: نزحوا هذه المياه لما أصابهم من شدة العطش حين مروا بها.
وليس بغير تدمر مستغاثٌ ... وتدمر كاسمها لهم دمار
تدمر: مدينة على طرف السماوة. والمستغاث: الموضع الذي يلتجأ إليه. والدمار: الهلاك.
يقول: لما لم يجدوا في هذه المواضع ماء اجتمعوا في تدمر ليدبروا رأياً، ولم يكن لهم موضع سواها يلتجئون إليه، فلما نزلوا بها قصدهم سيف الدولة، فدمر عاليهم فيها، فصار اسمها موافقاً لهلاكهم ودمارهم.
أرادوا أن يديروا الرّأي فيها ... فصبّحهم برأيٍ لا يدار
يقول: اجتمعوا في تدمر؛ ليدبروا رأيهم، فصبحهم سيف الدولة برأي لا يتوقف فيه، لأنه لا يرى إلا ما يكون صواباً في أول وهلة، وقيل: أراد أنه يستبد برأيه، ولا يرجع فيه إلى أحد، ولا يعرض له ما يعوقه عنه.
وجيشٍ كلّما حاروا بأرضٍ ... وأقبل أقبلت فيه تحار
حار يحار حيرة: إذا تحير. والضمير في حاروا قيل: يعود إلى بني كعب. وفي فيه إلى الجيش.
يقول: صبحهم برأي وجيش عظيم يغطي الأرض كثرةً، فمتى تحير القوم المنهزمون بأرض تحيرت الأرض في هذا الجيش، لكثرته.
وقيل: حاروا للجيش وفيه لسيف الدولة، والمعنى: صبحهم بجيش كلما تحير هذا الجيش بأرض: إما لأنها تضيق بهم لكثرتهم، وإما لسعتها فلا يهتدون فيها، وإما لخشونتها، ثم إذا أقبل سيف الدولة وجاء إلى الجيش أقبلت الأرض تتحير في سيف الدولة؛ لعظم هيبته.
وقيل: حاروا فعل الجيش على المعنى. قيل: وفيه يعود إلى لفظ الجيش. يعني: أن الجيش إذا تحيروا في هذه الأرض أقبلت الأرض تتحير في هذا الجيش لكثرته وزيادته عليها.
يحفّ أغرّ لا قودٌ عليه ... ولا ديةٌ تساق ولا اعتذار

يقول: إن هذا الجيش يحف أغر: أي يحيط به من جميع جهاته، وإذا قتل إنساناً لا يقتل به قوداً؛ لعزته ومنعته، أو لأنه لا يقتله إلا بحق، ولا يطالب أيضاً بديته، ولا يعتذر عما فعله؛ للوجهين اللذين ذكرناهما. وهو من قوله تعالى: " لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ " .
تريق سيوفه مهج الأعادي ... وكلّ دمٍ أراقته جبار
المهجة: دم القلب، وهي النفس أيضاً. والدم الجبار: الباطل.
يقول: كل دم تريق سيوفه من دم الأعادي، ذهب هدراً لا يدرك له ثأر.
فكانوا الأسد ليس لها مصالٌ ... على طيرٍ وليس لها مطار
المصال: مصدر صال، والمطار: من طار.
يقول: إنهم كانوا أسوداً في أنفسهم بشجاعتهم وإقدامهم، وكانت خيلهم كالطيور سرعة، ولكن لما رأوك تحيروا وتحيرت أفراسهم هيبةً لك، فلم يكن لهم مصال مع كونهم أسود، ولا لخيلهم مطار مع كونها في السرعة كالطير.
وقيل: المعنى أنهم كانوا قبل ذلك مثل الأسود، والآن لما غضبت عليهم ليس لهم مصال على طير لضعفهم وقلتهم، وليس لهم أيضا مطار؛ لأنك قد أهلكتهم بالقتل والأسر. وأراد بالمصال على طيران الأفراس: كالطير لخفتها، فكأنه قال: ليس لها مصال على غيرهم من الفرسان لضعفهم، فشبه خيل المخالفين لهم بالطير.
إذا فاتوا الرّماح تناولتهم ... بأرماحٍ من العطش القفار
يقول: إن فاتوا رماحك ودخلوا البر هلكوا من العطش، وكأن العطش رماح القفار، قتلتهم بها.
يرون الموت قدّاماً وخلفاً ... فيختارون، والموت اضطرار
يقول: قد أحاط بهم الموت من قدامهم وخلفهم فقدامهم العطش، ووراهم الرماح، فكانوا بين موتين، فيختارون أحدهما، وإن هذا الموت ليس باختيار، بل هو اضطرار.
وقيل: معناه يختارون أحد الموتين، فأما الموت فهو نازل بهم لا محالة ولا محيص لهم عنه، وإنما يختارون أحد الموتين.
إذا سلك السّماوة غير هادٍ ... فقتلاهم لعينيه منار
الهادي: الدليل، وقيل: هو العارف بالطريق، وهو في معنى المهتدي. والمنار: العلامات التي تبنى على الطريق، ليهتدي بها، والواحدة: منارة.
يقول: إنهم دخلوا السماوة فراراً من سيف الدولة، وتبعهم فقتلهم في كل مكان، وبقيت جثثهم مطروحة على الطرق حتى لو سلك السماوة من لا يهتدي فيها، لكانت جثثهم تدله على الطريق، وتقوم له مقام المنار.
وقيل: أراد أنهم ماتوا عطشاً هناك وبقيت جثثهم دالة للمار بها.
ولو لم يبق لم تعش البقايا ... وفي الماضي لمن بقي اعتبار
يقول: لو لم يعف عنهم سيف الدولة لهلكوا عن آخرهم، ولم يعش الباقي منهم، ومن بقي منهم يعتبر حاله بحال من مضى.
والماضي: هو المقتول، والباقي: الذي بقي بعدهم.
إذا لم يرع سيّدهم عليهم ... فمن يرعى عليهم أو يغار ؟!
أرعى فلان على فلان: إذا كف عنه ورق له.
يقول: إذا لم يرحمهم سيدهم فمن الذي يرحمهم ويغضب لهم ؟!
تفرّقهم وإيّاه السّجايا ... ويجمعهم وإيّاه النّجار
هولاء من أصل واحد، لأنهم جميعاً من نزار، وسجاياهم متفرقة. والنجار. الأصل.
يقول: خليقة سيف الدولة وخلائقهم مختلفة؛ لأن خليقة سيف الدولة الكرم والعفو، وخلائقهم العصيان والنزق، فبينهما فرق من هذه الجهة.
ومال بها على أركٍ وعرضٍ ... وأهل الرّقّتين لها مزار
الهاء في بها للخيل. وأرك وعرض: موضعان. والرقتان: مدينتان من ديار بكر.
يقول: لما فرغ من بني كعب، عطف بخيله على أهل أرك وعرض، وقرب من أهل الرقتين، حتى لو شاء أن يزورهما بخيله، لم يبعد عليه.
وقيل: مال بالخيل على أرك وعرض، لطلب بني كعب.
وقيل: معناه عدل بجيشه على أهل أرك وعرض، مع بعدهما عن مقصده؛ لأنه كان قد توجه إلى الرقتين وأرك وعرض بعيدان عن الرقتين.
وأجفل بالفرات بنو نميرٍ ... وزأرهم الّذي زأروا خوار
أجفل: أسرع هارباً مذعوراً. والزأر والزئير: صوت الأسد. والخوار: صوت الثور.
يعني: أن بني نمير فروا من الفرات، خوفاً منه، وكانوا قبل ذلك يزأرون كالأسود، ويرعدون بالحرب، فلما رأوه ذلوا وصار زئيرهم خواراً: أي بعد أن كانوا أسوداً في الشدة صاروا مثل البقر في الذلة.
فهم حزقٌ على الخابور صرعى ... بهم من شرب غيرهم خمار

الحزق: جمع حزقة، وهي الجماعة، والخابور: موضع بقرب الموصل.
يقول: إن بني نمير فروا من الفرات، ونزلوا الخابور صرعى من الخوف والكلال، فصاروا كالموتى خوفاً من أن يسري إليهم سيف الدولة، وهم صرعى كأنهم مخمورون، ورماحك كانت الشاربة، فكيف أصابهم الخمار دونها ؟! وقيل: معناه أنهم بقوا هناك خائفين صرعى خوفاً من الممدوح، فيهم خمار: وهو الخوف والتقطع من الكلال من شرب غيرهم، وهو ما فعل ببني كعب من القتل، فخافوا أن يشربوا كأس الموت مثل ما شرب بنو كعب.
فلم يسرح لهم بالصّبح مالٌ ... ولم توقد لهم بالليل نار
يقول: هولاء كمنوا في الخابور وحبسوا مالهم، فلا يجسرون على تسريح مواشيهم بالنهار، خوفاً من الإغارة، ولا على إيقاد النار بالليل، خوفا من الدلالة وقيل: معناه ذهب مالهم، فلا مال يسرح لهم في الصبح، وتقوضت خيامهم فلا نار لهم توقد بالليل.
حذار فتىً إذا لم يرض عنهم ... فليس بنافعٍ لهم الحذار
حذار: نصب لأنه مفعول له.
يقول: فعلوا ذلك خوفاً من فتى، إن لم يرض عنهم لم ينفعهم الحذار.
تبيت وفودهم تسري إليه ... وجدواه الّذي سألوا اغتفار
يقول: وفود هولاء يأتون سيف الدولة، ولا يسألون من العطايا شيئاً إلا العفو عنهم والصفح عن إساءتهم.
فخلّفهم بردّ البيض عنهم ... وهامهم له معهم معار
معار: من العارية وهو مفعول عار.
يقول: لما رد سيوفه عنهم، ترك رءوسهم عارية عندهم؛ لأنها له متى شاء أخذها منهم، فكأنه لما عفى عنهم أعارهم رءوسهم.
هم ممّن أذمّ لهم عليه ... كريم العرق والحسب النّضار
أذم لهم: أي صيرهم في ذمامه والحسب: الشرف. والنضار: الخالص.
يقول: صيرهم في ذمامه كرم الأصل وصحة الحسب.
وأضحى بالعواصم مستقرّاً ... وليس لبحر نائله قرار
أي عاد إلى دار مملكته واستقر بها، ونائله لا يستقر بل يسير في الآفاق. وينتشر في البلاد.
وأضحى ذكره في كلّ أرضٍ ... تدار على الغناء به العقار
يقول: سار ذكره في الآفاق، يتحدث في كل مجلس بفضائله، ومتى أراد قوم شرب الخمر يغني لهم المغني بفضائله.
وقيل: معناه نظمت الأشعار بمدحه، فإذا أراد الناس شرب العقار غنى لهم المعني بهذه الأشعار.
تخرّ له القبائل ساجداتٍ ... وتحمده الأسنّة والشّفار
يقول: غنه ملك رقاب العرب، وتسجد له قبائلها، وإن الرماح وشفار السيوف تحمده؛ لأنه أعلى قيمتها بكثرة الاستعمال، ولأنها تكون باعثة على حمده؛ لأن من رأى طعنه وضربه بها حمده.
وقيل: عنى أصحاب السيوف والرماح.
كأنّ شعاع عين الشّمس فيه ... ففي أبصارنا عنه انكسار
الهاء في فيه لسيف الدولة، وفي عنه للشعاع، ويجوز أن يكون له أيضاً.
يقول: له من الهيبة والنور ما لا يمكننا أن ننظر معه إليه، كما لا نقدر أن ننظر إلى عين الشمس ومثله قوله عنترة:
إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأنّ الشّمس من قبلي تدور
فمن طلب الطّعان فذا عليٌّ ... وخيل الله والأسل الحرار
الحرار: العطاش، واحدها: حرى: كغضبي وغضاب.
يقول: من أراد الحرب، ولا يجد محارباً فهذا علي فليأته، فقد رأيتموه وجربتموه، وهذه خيل الله؛ لأنه مجاهد بخيله، وهذه الرماح العطاش إلى الدماء.
يراه النّاس حيث رأته كعبٌ ... بأرضٍ ما لنازلها استتار
يقول: إنه يجاهر من يحاربه، ويبرز إليه في البيداء كما جاهر بني كعب، ولا يمتنع بسور.
وقيل: أراد أنه أبداً يقطع المفاوز إلى الأعادي ولا يمكن لأحد أن يستتر عنه. والمعنى: يراه الناس بالعين التي رأته بها كعب.
يوسّطه المفاوز كلّ يومٍ ... طلاب الطّالبين لا الانتظار
فاعل يوسط طلاب. تقديره: لا انتظاره.
يقول: كل يوم يتوسط المفاوز في طلب الهاربين إليها من أعدائه، والنازلين بها، لا أنه يهرب إليها ويتحصن بها، وينتظر من يقصده فيها.
وقيل: معناه أنه يتوسط الفلوات لطلب المغيرين على الناس من أهل الفساد، لا لانتظار صيد يقع أو فرصة تنتهز.
تصاهل خيله متجاوباتٍ ... وما من عادة الخيل السّرار
السرار: المسارة.

يقول: يخرج بخيله إلى المفاوز جاهراً بها في طلب الأعداء، فهي تتجاوب بالصهيل، ولا يمنعها الصهيل بالضرب، إذ ليس من عادتها المسارة، فهو يتركها مع عادتها.
وقال ابن جني: معناه كأن بعض خيله يسر إلى بعض شكية لما يجشمها من الحروب وقطع المفاوز، فيجاوبها الآخر سراً.
قال: ويجوز أن يريد أن خيله مؤدبة معلمة فتصهل سراً هيبة وإجلالا.
بنو كعبٍ وما أثّرت فيهم ... يدٌ لم يدمها إلاّ السّوار
يقول: إن بني كعب يفتخرون بأنك أوقعت بهم، ويتجملون بقصدك إليهم، وإن أصابتهم الالآم والعقوبات، كيد يدميها السوار، فإن صاحبها لا يشكو الألم الذي ناله من السوار، لما كان السوار جمال يده وزينته.
بها من قطعه ألمٌ ونقصٌ ... وفيها من جلالته افتخار
الهاء في بها لليد، وكذلك في فيها وفي قطعه وجلالته للسوار. ومعناه هم مثل يد أدماها السوار، فهي تتألم من قطعه وتفتخر بجماله.
لهم حقٌّ بشركك في نزارٍ ... وأدنى الشّرك في أصلٍ جوار
يقول: لهم عليك حق لانتسابك معهم إلى نزار، وأقل القرابة تقوم مقام الجوار، فكما يجب صيانة حق الجار، فكذلك حق القريب.
لعلّ بنيهم لبنيك جندٌ ... فأوّل قرّح الخيل المهار
يقول: اعف عنهم، فلعل أبناءهم يكونون جنداً لبنيك، كما أنهم جندك، فكل كبير يكون صغيراً ويصير رجلا، وأول ما يكون الخيل: مهاراً ثم تكون قرحاً.
وأنت أبرّ من لو عقّ أفنى ... وأعفى من عقوبته البوار
يقول: أنت أبر كل من ملك، إذا عقهم من تجب عليهم طاعتهم، لم يرضوا في عقوبتهم بغير الإهلاك، وأكثرهم عفواً وصفحاً، إذا كان غيرك يهلك بشدة عقوبته.
يعني: أنك بررتهم وعفوت عنهم ولو أردت لأهلكتهم.
وأقدر من يهيّجه انتصارٌ ... وأحلم من يحلّمه اقتدار
يقول: أنت أقدر الملوك الذين يهيجون للانتصار من أعدائهم، أي متى هجت لتنتصر من أعدائك، كنت أقدر من كل ملك هذه صفته، وأنت أحلم من كل حليم يحلم عند قدرته.
وما في سطوة الأرباب عيبٌ ... ولا في ذلّةٍ العبدان عار
العبدان: جمع عبد.
يقول: إنك لربّهم وهم عبيدك، فلا عيب عليهم في سطوتك ولا عليهم في خضوعهم لك.
وقال أيضاً وقد ودعه إلى الإقطاع الذي أقطعه:
أيا رامياً يصمي فؤاد مرامه ... تربّى عداه ريشها لسهامه
يصمي: أي يقتل. يقال: رماه فأصماه، إذا قتله مكانه. والهاء في ريشها للعدى. وفاعل تربى: عداه والهاء في سهامه ومرامه وعداه: للرامي.
يقول لسيف الدولة: أيا راميا يصيب فؤاد مطلبه، بسهام ريشها من أعدائه فكأن أعداءه طير تربى أجنحتها حتى إذا بلغت أخذها لريش سهامه وأراد بالسهام: جيشه. وبريش السهام: سلاح أعدائه، الذي سلبه من الأعداء وكساه جيشه، يعني أنك تغير على الأعداء فتأخذ أسلحتهم وتقتلهم
أسير إلى إقطاعه، في ثيابه ... على طرفه، من داره بحسامه
يعني: أن جميع ما أملكه من عطاياه، فداري التي أسكنها وثيابي، وفرسي، من هباته، ومثله قول جحظه:
فكيف لا أشكر من لا أرى ... في منزلي إلاّ الّذي جاد به ؟!
والأصل فيه قول النابغة:
وإنّ سلاحي إن نظرت وشكّتي ... ومهري وما ضمّت عليه الأنامل
حباؤك والعيس العتاق كأنّها ... هجان المها تردى عليها الرّحائل
وقال أيضاً جميع ذلك في نصف بيت:
وما أغفلت شكرك فانتصحني ... فكيف ومن عطائك كلّ مالي ؟
وما مطرتنيه من البيض والقنا ... وروم العبدّي هاطلات غمامه
العبدي والعبود: اسم الجمع بمعنى العبيد.
يقول: عبيدي وسلاحي من مطره الذي مطرته لي سحائبه الهاطلة، وعطاياه الشاملة.
ودل بذلك على أن جوده يعم العالم، ويشمل الأزمان، ويتناول الأقوام.
فتىً يهب الإقليم بالمال والقرى ... وما فيه من فرسانه وكرامه
يقول: هو يملك العباد والبلاد، ويهب الإقليم بما فيه من الأموال، ومن عليه من الفرسان والرجال.
ويجعل ما خوّلته من نواله ... جزاءً لما خوّلته من كلامه
خولته: أي ملكته.
يقول: إن أياديه علمتني الشكر، ولقنتني الثناء والذكر، فكلامي منه من هذا الوجه، فلما أثنيت عليه جازاني على ثنائي فخولت الإحسان جزاء على ما خولت من الكلام.

وقيل: أراد، أستفيد منه حسن الكلام فإذا مدحته به جازاني بالنعم العظام.
فلا زالت الشّمس التي في سمائه ... مطالعة الشّمس الّتي في لثامه
أضاف السماء إليه في قوله: في سمائه توسعاً ليجانس قوله: في لثامه قلت: إنما أضافها إليه لأنه جعله مالكاً للسماء والأرض.
يقول داعياً له بدوام البقاء: لا زالت شمس السماء مقابلة لوجهك الذي هو كالشمس في حسن البهاء والسمو والعلا.
ولا زال تجتاز البدور بوجهه ... تعجّب من نقصانها وتمامه
يقول: لا زال أبدا يطلع البدر عليه، ويرى وجهه أحسن منه وأكمل بهاءً ومنظراً.
وقيل: أراد بذلك بدر السماء ينتقص في كل شهر، ووجه الممدوح أبداً غاية التمام، فيتعجب البدر من نقصانه كل شهر، وتمامه أبد الدهر.
وقال في يوم الأربعاء المنتصف من شهر رمضان سنة أربع وأربعين وثلاث مئة معزياً لسيف الدولة في أخته الصغرى ومسلياً ببقاء الأخت الكبرى.
إن يكن صبر ذي الرّزيّة فضلاً ... تكن الأفضل الأعزّ الأجلاّ
الرزية: المصيبة، وأصلها من النقصان، يقال: رزى فلان في ماله وأهله، إذا أصيب. وذي: بمعنى الصاحب، والتاء في تكن للخطاب.
يقول: إن كان صبر صاحب الرزية فضلا له، فأنت أفضل من كل مصاب، لأنك أحسن صبراً على ما يصيبك من كل أحد، ولأن لك فضائل أخرى، مع فضل هذه المصيبة ولأن لك صبراً في هذه المصيبة وصبراً في أمور أخر.
أنت يا فوق أن تعزّى عن الأح ... باب فوق الّذي يعزّيك عقلا
التعزية: أصلها من النسب، كأن المعزي يقول للمصاب: اذكر أباك وأجدادك، فإنهم قد هلكوا وبادوا، يسليه بهذا القول، فكأنه ينسبه إليهم. وفوق: الأول نصب، لأنه نداء مضاف. والثاني ظرف.
يقول: أنت أرفع قدراً من أن تحتاج إلى أن يعزيك أحد عن فقد الأحباب، فكل من يعزيك، فأنت أوفر عقلا منه، وأعرف بأحوال الدهر.
وبألفاظك اهتدى فإذا عز ... زاك قال الّذي قلت قبلا
قبل: يبنى على الضم إذا أريد به الإضافة فقطع عنها، فإذا لم يرد الإضافة صرف، ويجعل نكرة، فلذلك نون ها هنا، ونصبه على الظرف. تقول: جئتيك قبلاً وبعداً.
يقول: إذا عزاك المعزي فإنما اهتدى إلى التعزية بتعليمك، فيقول لك عند التعزية: ما قلته له قبل ذلك، ويرد عليك ما حفظه من كلامك. أخذه من قوله تعالى: " بِضَاعتنا رُدَّتْ إلَيْنَا " .
قد بلوت الخطوب مرّاً وحلواً ... وسلكت الأيّام حزناً وسهلا
يقول: جربت أحوال الدهر، ودخلت في الأيام. صعبها وسهلها، فلم يشتبه عليك شيء في أحوال الدهر.
وقتلت الزّمان علماً فما يغ ... رب قولاً ولا يجدّد فعلا
يقال: قتلت الشيء علماً إذا تيقنته.
يقول: عرفت الزمان بحقيقته، فلا يأتي الزمان بقول غريب لم تعرفه، ولا يفعل جديداً لم تجربه.
أجد الحزن فيك حفظاً وعقلا ... وأراه في الخلق ذعراً وجهلا
يقول: وجدت الحزن فيك على من تفقد، حفظاً منك لحرمته ورعاية لصحبته وفي من سواك: خوفاً من ريب الدهر، وجهلا بالسبب الموجب للحزن.
وإنما ذكر العقل لأنه يدعو إلى الحفاظ، ومراعاة الحرمة. وأراد بالعقل: العلم بأحوال الدهر.
لك إلفٌ يجرّه وإذا ما ... كرم الأصل كان للإلف أصلا
الهاء في يجره للحزن.
يقول: لك إلف يجر هذا الحزن عليك، وكرم الأصل يعينه على ذلك، فكأنه أصلي للإلف الذي لك.
يعني: أنك إنما تحزن لفقد أحبتك لأنك ألوف كريم الأصل، وليس ذلك بجزع وخوف.
ووفاءٌ نبتّ فيه ولكن ... لم يزل للوفاء أهلك أهلاً
يقول: لو وفاء نبت فيه جره إليك. والوفاء عادة لك موروثة عن آبائك وأجدادك، فلم يزل أهلك أهلاً للوفاء.
إنّ خير الدّموع عيناً لدمعٌ ... بعثته رعايةٌ فاستهلاّ
استهل: أي جرى. وعيناً: نصب على التمييز.
يقول: أكرم الدموع ما أجرته رعاية الحقوق. وروى عوناً بدل قوله: عيناً.
أين ذي الرّقّة الّتي لك في الحر ... ب إذا استكره الحديد وصلاّ
استكره الحديد: أي ضرب على كره، وتكف من الدروع ما لا يقدر على قطعه، وصل الحديد: إذا سمعت له صوتاً.
يقول: أين هذه الرقة التي حصلت لك الآن عند كونك في الحرب، وذلك حين تجرد السيوف وتقتل بها الناس.

والمعنى: أن هذه الرقة لو كانت لضعف قلبك للحقتك أيضاً في الحرب، ولكنه وفاء ورعاية، فأنت تستعمل كل واحد منهما في موضعه، حيث تحمده وتستحسنه العقول، ولا تضعه في غير موضعه.
أين خلّفتها غداة لقيت الرّ ... وم والهام بالصّوارم تفلى
تفلى: من فليت رأسه، إذا فتشته لتخرج منه القمل.
معناه: يضرب بالسيوف من كل جهة، كما أن الفالي يعم الرأس.
يقول: أين تركت هذه الرقة غداة محاربتك الروم فيما كنت تضرب رءوسهم بالسيوف الصوارم.
قاسمتك المنون شخصين جوراً ... جعل القسم نفسه فيه عدلاً
أنت المنون على معنى المنية. والهاء في فيه ترجع إلى الجور.
يقول: قاسمتك المنون على أختيك ظلماً وجوراً منها في هذه المقاسمة؛ لأنها ليس لها الحق في واحدة منهما، غير أن هذه القسمة جعلت نفسها في الجور الذي حصل من المنون عدلاً؛ لأنها أخذت الصغيرة وتركت الكبيرة.
وقال ابن جني: يجوز فيك: فيكون المعنى: أن المنون جارت في فعلها، إلا أنك إذا كنت البقية فجورها عدل.
أو يقال: إن هذه القسمة نفسها في حقك عدل، وإن كان قاسمها ظالما.
فإذا قست ما أخذن بما أغ ... درن سرّى عن الفؤادي وسلّى
أغدرن: أي تركن. وسرى: أي كشف. وسلى: من التسلية. وروى أغبرن مكان أغدرن والفاعل ضمير المنون، وأراد بها المنايا.
يقول: إذا قست ما أخذته المنية بما تركته، كشف بقاء الباقية منهما هذا الحزن عن قلبك.
وتيقّنت أنّ حظّك أوفى ... وتبيّنت أنّ جدّك أعلى
يقول: إذا قست سهمك بسهم المنية علمت أن حظك أكثر، وأن جدك أعلى؛ لأن الكبرى خير من الصغرى.
ولعمري لقد شغلت المنايا ... بالأعادي، فكيف تطلبن شغلا ؟
يقول: شغلت المنايا بقبض أرواح الأعادي، فكيف تطلب المنايا شغلاً ؟! لأن لها شغلاً بالأعداء، لا تتفرغ عنه إلى شغل آخر.
وكم انتشت بالسّيوف من الدّه ... ر أسيراً وبالنّوال مقلاّ
انتشت: أي دفعت، والانتياش: افتعال من النوش والمقل: الفقير.
يقول: كم أنقذت كثيراً من الأسرى من أسر الدهر بسيوفك، ومن الفقر بجودك، ونائلك، فأغنيتهم بعطاياك، ورفعتهم من الذل والصغار.
عدّها نصرةً عليه فلمّا ... صال ختلاً رآه أدرك تبلاً
الهاء في عدها ضمير الحالة: أي عد الدهر هذه الحالة التي هي إنقاذ الأسير من يده، ورآه: أي رأى نفسه ويجوز ذلك في الرؤية: بمعنى العلم: وسائر أفعال الشك، واليقين.
يقول: لما رآك الدهر تنقذ أساراه حقد عليك، وعد فعلك نصرةً لعيه لمن خاصمه فلما صال مخادعة، وأخذ أختك مسارقةً، حسب أنه أدرك ثأره.
كذبته ظنونه؛ أنت تبلي ... ه وتبقى في نعمةٍ ليس تبلى
يقول: كذب الدهر ظنه أنه يقدر على أخذ ثأره عندك، فإنك تجعل الدهر بالياً ! وتبقى أنت في نعمة لا تبلي.
وقيل: إن قوله أنت تبليه دعاء له بطول البقاء فكأنه يقول: أبقاك الله في نعمة دائمة حتى تبلي الدهر وتفنيه.
ولقد رامك العداة كما را ... م فلم يجرحوا لشخصك ظلاّ
يقول: طلب أعداؤك أن يدركوا ثأرهم عندك - كما طلب الدهر - فلم يقدروا أن يجرحوا ظل شخصك؛ لاتصاله بك.
ولقد رمت بالسّعادة بعضاً ... من نفوس العدا فأدركت كلاّ
قوله: بالسعادة متعلق بقوله: فأدركت كلا يعني: أنك رمت بعض أعدائك فأدركت الكل بسعادة جدك، وهو متصل بما قبله.
قارعت رمحك الرّماح ولكن ... ترك الرّامحين رمحك عزلا
الرامح: صاحب الرمح. والعزل: جمع أعزل، وهو الذي لا سلاح معه.
يقول: قد حاربك الأعداء فعجزوا، فصار الرمح منه أعزل.
لو يكون الّذي وردت من الفج ... عة طعناً أوردته الخيل قبلا
القبل: جمع أقبل: وهو مثل الأحول، والخيل تفعل ذلك لعزة أنفسها، وليس بخلقه.
يقول: لو لقيت مكان هذه المصيبة طعناً وكان مجيئها إليك محاربة؛ لأوردت خيلك، ودفعت عن نفسك بشجاعتك. والهاء في أوردته للطعن.
وقيل: معناه لو كنت تلقى بدل هذه المصيبة طعناً لأوردته الخيل ورددته بشجاعتك.
ولكشّفت ذا الحنين بضربٍ ... طالما كشّفت الكروب وجلّى
الحنين: رقة الحزن، وهو أيضاً الصوت الضعيف كالأنين، وقد يراد به الاشتياق. وجلى: أي كشف، وجمع بينهما لاختلاف اللفظين.

يقول: لو لقيت مكانها حزناً لكنت تزيل الحزن عن قلبك بالسيف، كما كانت عادتك في الحرب أن تكشف الحروب عن نفسك بالضرب وتجليه بالطعن.
وقيل: أراد لو كان بدل هذا الحنين الذي حصل بموت الأخت، حنين الفرسان يوم الحرب، لكشفت ذلك بالضرب وخلصتهم من الغم بالسيف، ولكن قضاء الله تعالى لا مرد له.
خطبةٌ للحمام ليس لها ردٌّ ... وإن كانت المسمّاة ثكلا
ثكلا: نصب لأنه مفعول ثان للمسماة التقدير: وإن كانت الخطبة تسمى ثكلا، فالخطبة المضمرة: اسم كان. والمسماة: خبره. وفيه ضمير الخطبة وموضعه: رفع؛ لأنه مفعول ما لم يسم فاعله وثكلا: مفعوله الثاني.
يقول: إن هذا الموت يجري مجرى الخطبة من الحمام للمرأة، وإن كانت الناس يسمونه ثكلا.
يعني: الحمام قد خطب أختك فلم تقدر على رده.
وإذا لم تجد من النّاس كفئاً ... ذات خدرٍ، أرادت الموت بعلا
يقول: إن المرأة المخدرة إذا لم تجد لنفسها كفئاً لها اختارت الموت على الأزواج الذين ليسوا بأكفاء.
ولذيذ الحياة أنفس في النّف ... س وأشهى من أن يملّ وأحلى
يقول: إن الحياة لذيذة للنفس، وإن كانت في ضر وبؤس، ولكنها لما عدمت الكفء صار ذلك سبباً في اختيار الموت وإن لم يكن لها ملال من الحياة ولذتها.
وإذا الشّيخ قال: أفٍّ فما مل ... ل حياةً وإنّما الضّعف ملاّ
يقول: إذا قال الشيخ الهرم: أف تضجراً فإنه لم يقل ذلك ملالاً من الحياة ولكنه يقول تضجراً من الضعف والمرض.
آلة العيش صحّةٌ وشبابٌ ... فإذا ولّيا عن المرء ولّي
المرء: الشاب.
يقول: لذة العيش مع الشباب وصحة الجسم، وإذا عدم المرء هذين، فليس له عيش، بل إذا وليا ولي المرء: أي يموت ويفارق المرء بفراقهما.
أبداً تستردّ ما تهب الدن ... يا فيا ليت جودها كان بخلاً !
الدنيا: رفع بتهب، أو بتسترد، على حسب إعمال أحد الفعلين.
يقول: عادة الدنيا أنها تسترد ما تهب، فليت أنها لم تهب ولم تجد !
فكفت كون فرحةٍ تورث الغم ... م وخلٍّ يغادر الوجد خلاّ
يقول: ليت الدنيا كفت كون فرحة تورث الغم وتعقب ترحة ! وليتها كفت كون خليل يترك الحزن خليلاً، ويجعله صاحباً للمرء بعد خليله الذي كانت الدنيا وهبته منه.
وهي معشوقةٌ على الغدر ولا تح ... فظ عهداً ولا تتمّم وصلاً
يقول: الدنيا معشوقة مع كونها غدارة لا تحفظ عهداً، وإن واصلت لا يدوم وصلها.
كلّ دمعٍ يسيل منها، عليها ... وبفكّ اليدين عنها تخلّى
يقول: كل دمع يسيل فإنه يكون من جملة الدنيا عليها ولا يتركها إلا أن تفك يداه قسراً فيؤخذ عنها بالقهر، وذلك يكون عند الموت.
شيم الغانيات فيها فلا أد ... ري لذا أنّث اسمها النّاس أم لا ؟
يقول: في هذه الدنيا أخلاق الغانيات. في قلة الوفاء، وسرعة التقلب، وكثرة الغدر، فلعل الناس أنثوها لشبهها بالغواني في الغدر والانقلاب ! وهذا مثل قوله:
ولذا اسم أغطيه العيون جفونها
يا مليك الورى المفرّق محياً ... ومماتاً فيهم وعزّا وذلاّ
يقول: يا مليك الخلق الذي يقسم بينهم الأحوال، فمنه ضرهم ونفعهم، وموتهم وحياتهم، وعزهم وذلهم.
قلّد الله دولةً سيفها أن ... ت حساماً بالمكرمات محلّى
يقول: قلد الله حساماً محلى بالمكرمات دولة أنت سيفها.
لما جعله سيفاً جعل حليه المكارم.
فيه أغنت الموالي بذلاً ... وبه أفنت الأعادي قتلا
الموالي: يعني الأولياء ها هنا. والفعل للدولة، والهاء في به للسيف.
يقول: بهذا السيف أغنت الدولة أولياءها، وأفنت أعداءها.
أي أغنت أولياءها ببذل مالك، وأفنت أعداءها بقتالك.
وإذا اهتزّ للنّدى كان بحراً ... وإذا اهتزّ للوغى كان نصلا
يقول: هذا السيف إذا اهتز للجود كان غايةً فيه، وهو البحر، وفي الحرب كان نصلاً في مضائه ونفاذه.
وإذا الأرض أظلمت كان شمساً ... وإذا الأرض أمحلت كان وبلا
يقول: إذا أحدث أمراً تظلم له الأرض، كشفه وجلاه، كما تجلو الشمس الظلام، وإذا أصابها قحط، يقوم جوده مقام الغيث.
وهو الضّارب الكتيبة والطّع ... نة تغلوا والضّرب أعلى وأغلى

هذه الأبيات الأربعة صفة لقوله: قلد الله دولةً سيفها أنت: أي قلدها الله منك حساماً هذه صفته.
يقول: هو يضرب الكتيبة بسيفه، حيث لا يقدر أحد منها أن يطعن برمحه. والضرب أعلى وأغلى: معناه إذا لم يقدر أحد على الدنو من العدو، وقيد الرمح بالدنو فيه، فقيد السيف أصعب وأشد.
ولا يعترض على هذا بأن يقال: الأمر بخلاف ذلك؛ لأنه ربما لا يمكن المطاعنة لطول الرماح، ويمكن المضاربة بالسيوف لقصرها، فلا يكون الضرب أعلى وأغلى؛ لأن المعنى ما بينا: أنه إذا لم يمكن الدنو مقدار رمح لشدة القتال، فالدنو مقدار سيف أشد تعذراً، أو لأنه إذا كانت الحال هذه فترتعش الأيدي، ولا تقل السيوف.
أيّها الباهر العقول فما يد ... رك وصفاً أتعبت فكري فمهلاً
يقول: حيرت العقول بفضلك، فلا تحيط الأوصاف كنه وصفك، وقد أردت وصفك في الشعر فأتعبت فكري بمحاسن أوصافك، فارفق ولا تكلفني من وصفك ما لا أطيق. ووصفاً: نصب على التمييز، ومهلاً: على المصدر.
من تعاطى تشبّهاً بك أعيا ... ه ومن دلّ في طريقك ضلاّ
دل في طريقك: أي سلكها، يقال: دل فلان في طريق إذا عرف أعلامها، وتبع الناس أثره فيه.
يقول: من رام أن يشتبه بك أعجزه ما يرومه ولم يقدر عليه، ومن سلك طريق فعالك ضل وتحير ولم يقدر أن يقتفي آثار سعيك. وفاعل أعياه قيل: ضمير التشبه، وقيل: راجع إلى التعاطي: أي أعياه تعاطيه، ودل عليه: تعاطى.
فإذا ما اشتهى خلودك داعٍ ... قال: لا زلت أو ترى لك مثلا
يقول: لا نظير لك في الشرف، ولا يكون لك نظير فيما بعد، فمن أراد أن يدعو لك بالخلود قال: لا زلت حتى ترى لك نظيراً. وهذا مما لا يكون، فكأنه قال: لا مت أبداً.
وورد على سيف الدولة الخبر، آخر ساعة نهار يوم الثلاثاء لست خلون من جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثلاث مئة، بأن الدمستق وجيوش النصرانية قد نزلت ثغر الحدث، في يوم الأحد، ونصبت مكايد الحصون عليه، وقدرت نيل فرصة، لما تداخلها من القلق والانزعاج والوصم في تمام بنائه على يد سيف الدولة، لأن ملكهم ألزمهم قصدها، وأنجدهم بأصناف الكفر من البلغر والروس والصقالبة وغيرهم وأنفذ معهم العدد فركب سيف الدولة لوقته نافراً، وانتقل إلى موضع غير الموضع الذي كان به، ونظر فيما يجب أن ينظر فيه في ليلته، وسار عن حلب غداة يوم الأربعاء لسبع خلون فنزل رعبان، وأخبار الحدث مستعجمة عليه لضبطهم الطرق، تقديره أن يخفى عليه خبرهم، فلما أسحر لبس سلاحه وأمر أصحابه بمثل ذلك، وسار زحفاً، فلما قرب من الحدث عادت إليه الطلائع، فأخبرته بأن عدو الله تعالى لما أشرفت عليه خيول سيف الدولة، على عقبة يقال لها: العبراني، رحل ولم تستقر به دار، وامتنع أهل الحدث من البدار بالخبر خوفاً من كمين يعترض الرسل، فنزل سيف الدولة بظاهرها، وذكر خليفته بها أنهم نازلوه وحاصروه فلم يخله الله تعالى من نصره عليهم، إلا في نقوب نقبوها في فصيل كان قديماً للمدينة وأتتهم طلائعهم بخبر سيف الدولة في إشرافه على ثغر رعبان، فوقعت الصيحة فيهم وظهر الاضطراب في جمعهم وولي كل فريق على وجهه، وخرج أهل الحدث فأوقعوا ببعضهم وأخذوا آلة حربهم فأعدوها في حصنهم. فقال أبو الطيب في ذلك، ويمدحه:
ذي المعالي فليعلون من تعالي ... هكذا هكذا، وإلاّ فلا، لا
ذي إشارة: إلى المعالي. وتعالي: بمعنى: علا. وهكذا: إشارة إلى المعالي أيضاً، وكرره تفخيماً لأمر سيف الدولة.
يقول: المعالي هذه التي يسعى إليها سيف الدولة، ومن أراد أن يعلو إلى المعالي ويسعى إلى المجد، فليفعل كما فعل، وإلا فليترك طلبها. وليدعها لمن هو أقدر منه، فإنه لا معالي دون ذلك.
شرفُ ينطح النّجوم بروقي ... ه وعزٌّ يقلقل الأجبالا
روقاه: قرناه. والهاء فيه للشرف. ويقلقل: أي يحرك، هذا تفسير للمعالي.
يقول: للمعالي شرف ينطح النجوم بقرنيه، وعز يزعزع الجبال من أماكنها، مثل شرف سيف الدولة وعزه.
حال أعدائنا عظيمٌ وسيف الدّ ... ولة ابن السّيوف أعظم حالا
الحال: يذكر ويؤنث، ولهذا قال: عظيم.
يقول: إن كان حال الروم عظيما فسيف الدولة أعظم منهم حالاً.
كلّما أعجلوا النّذير مسيراً ... أعجلتهم جياده الإعجالا
أعجلت السير: استعجلته. والنذير: المنذر.

يقول: كلما بعث الروم عينا يتعرف لهم خبر سيف الدولة وينذرهم، وأعجلوا رسولهم في مسيره إليهم بأخباره، أعجلهم سيف الدولة بخيله، وسار إليهم قبل عود الرسول إليهم، وقبل أن يصل نذيره إليهم.
فأتتهم خوارق الأرض ما تح ... مل إلاّ الحديد والأبطالا
خوارق: نصب على الحال.
يقول: أتتهم خيل سيف الدولة تشق الأرض بحوافرها؛ لشدة وطئها وقوة جريها، وليس عليها إلا الفرسان والسلاح.
خافيات الألوان قد نسج النّق ... ع عليها براقعاً وجلالا
يقول: أتتهم الخيل قد خفيت ألوانها لما علاها من الغبار، حتى صار لها مثل البراقع والجلال، وخافيات: نصب على الحال.
حالفته صدورها والعوالي ... ليخوضنّ لدونه الأهوالا
حالفته: أي حلفت له، والهاء لسيف الدولة، وكذلك في دونه وقوله: ليخوضن المروى عنه بضم الضاد، وأجراها مجرى العقلاء، فلذا أطلق عليها اسم المحالفة، كقوله تعالى: " رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجدِينَ " ولو قال لتخوضن بالتاء وفتح الضاد، لكان أظهر في الإعراب.
يقول: حلفت لسيف الدولة هذه الخيل، والرماح أنها تخوضن الأهوال دونه، وتقاتل الأبطال عنه.
ولتمضنّ حيث لا يجد الرّم ... ح مداراً ولا الحصان مجالا
القياس: وليمضن عطفاً على قوله: ليخوضن غير أنه رده إلى أصل التأنيث، فأورده بالتاء، ثم كان القيسا على هذا لتمضين كما يقال: لتقومن هند، إلا أن هذا لغة أيضاً.
يقول عطفاً على ما تقدم: إن خيله ورماحه حالفته أنها تمضي حيث لا يقدر الرمح أن يدور فيه لضيقه، ولا يتمكن الحصان من الجولان عليه. والمدار والمجال: يجوز أن يكونا مصدرين من. جال يجول مجالاً، ودار يدور مداراً. ويجوز أن يكونا اسمين لمكان الدوران والجولان.
لا ألوم ابن لاونٍ ملك الرّو ... م وإن كان ما تمنّى محالا
يقول: لا ألوم ملك الروم على قلقه. لما بنيت من هذه القلعة، وإن كان ما تمناه من هدمها محالاً.
أقلقته بنيّةٌ بين أذني ... ه وبانٍ بغى السّماء فنالا
يقول: لا ألوم ملك الروم على قصده لهدم هذه البنية التي هي قلعة الحدث لأنها أقلقته، فكأنها مبنية على مؤخر رأسه بين أذنيه، فلا بد من أن تقلقه لثقلها عليه، وهذا الباني أيضاً قلعة وهو الذي طلب السماء فوصل إليها، فكأنه يقول: كيف يتعذر على سيف الدولة بناء الحدث وهو قد رام السماء فنالها بعلوه.
كلّما رام حطّها اتّسع البن ... ى فغطّى جبينه والقذالا
بنى يبني بنياً و، بناء.
يقول: كلما أراد ملك الروم هدم هذه القلعة، وسع سيف الدولة بناءها، وأحكم حائط سورها، حتى عم بها رأسه: مقدمه مؤخره، فيكون حطه سبباً لإحكامها، فيعظم أمرها عليه.
يجمع الرّوم والصّقالب والبل ... غر فيها وتجمع الآجالا
فيها: أي في ناحيتها، والآجال: جمع الأجل.
يقول: إن ملك الروم يجمع الأمم لهدم هذه القلعة، وأنت تجمع آجالهم ومناياهم فتوافيهم بها وتقتلهم.
وتوافيهم بها في القنا السّم ... ر كما وافت العطاش الصّلالا
الصلال: جمع صلة وهي الأرض التي أصابها المطر من بين الأرضين التي لم تمطر وقيل: هي بقايا المياه.
يقول: تجمع آجالهم وتوافيهم بها على أطراف الرماح، فآجالهم تتسابق إليهم، كما تتسابق العطاش إلى الأرض الممطورة.
والمعنى: أنهم كلما بعثوا إليها الجيش لهدمها قصد إليه سيف الدولة فأهلكه.
قصدوا هدم سورها فبنوه ... وأتوا كي يقصّروه فطالا
يقول: إنهم قصدوا إليها؛ ليهدموا سورها، فقتلهم سيف الدولة، وتمم بناء سورها، فكأن قصدهم لهدمها سبب بنائها.
وحكى ابن جني: إن سبب إتمام بناء الحدث. أن الروم لعنوا سيف الدولة، فاغتاظ من ذلك وأتمه، فلما كان لعنهم إياه سبباً لإتمامه، أجرى عليه لفظ البناء.
واستجرّوا مكايد الحرب حتّى ... تركوها لها عليهم وبالا
استجروا: أي جروا. ومكايد الحرب: آلاتها. والهاء في لها لقلعة الحدث، وأراد بها: أهلها.
يقول: إنهم جمعوا آلات الحرب، ومكايد الحصون، ثم انهزموا وتركوها، فأخذها أهل الحدث، واستعانوا بها عليهم، فصارت وبالاً عليهم.
وقيل: أراد بمكايد الحرب: تدبيرهم في الحدث فقال: إن تدبيرهم صار وبالاً عليهم، لأن أهل الحدث أوقعوا بهم.

ربّ أمرٍ أتاك لا تحمد الفع ... عال فيه وتحمد الأفعال
يقول: إن هذا الفعل كان منهم محموداً في نفسه؛ لما فيه من نفع المسلمين، فحمدته لذلك، وإن كان لا تحمدهم على فعلهم ذلك.
وقسيّ رميت عنها فردّت ... في قلوب الرّماة عنك النّصالا
يقول: إنهم جاءوا بها، ثم انهزموا، فأخذ أصحابك قسيهم، فرموا بها من كان يرميهم، فردت نصالهم في نحورهم.
أخذوا الطّرق يقطعون بها الرّس ... ل فكان انقطاعها إرسالا
يقول: أخذوا الطرق من كل جهة؛ ليمنعوا الرسل الذين يرسلهم أهل الحدث إلى سيف الدولة، فلما انقطعت الرسل استراب، وعلم أن الروم حاصروهم، فركب إليهم، وكأن انقطاع الرسل عنه قائماً مقام الإرسال.
وقيل: أراد أنهم وإن اجتهدوا في قطع الرسل عنه، فلم يخف الخبر عليه؛ لأن الناس تطلعوا إلى إبطاء الخبر عنهم، وعادوا بالخبر إليه.
وهم البحر ذو الغوارب إلاّ ... أنّه صار عند بحرك آلا
كثروا فكانوا كالبحر، ذي الأمواج، فكانوا بالإضافة إليك كالسراب إلى البحر.
ما مضوا لم يقاتلوك ولكن ... ن القتال الّذي كفاك القتالا
ما: نفي، ولم يقاتلوك: في موضع الحال، أي ما مضوا غير مقاتلين لك، أي أنهم ما انهزموا من غير قتال، بل ثبتوا وقاتلوا، ولكن كان القتال الذي هزمهم هو قتالك معهم قبل ذلك، وكفاهم الآن قتالهم.
والمعنى: أنهم لما جربوك قبل هذا اليوم، وشاهدوا إيقاعك بهم، خافوا الآن من الإقدام، فانصرفوا منهزمين.
والّذي قطع الرّقاب من الضّر ... ب بكفّيك قطّع الآمالا
يقول: إن السيف الذي قطع رقابهم حين ضربتهم به قبل ذلك، قطع الآن آمالهم أن يقدموا عليك.
والثّبات الّذي أجادوا قديماً ... علّم الثّابتين ذا الإجفالا
يقول: إن الروم كانوا ثبتوا فيما مضى من الأيام، وجودوا الثبات لك، فأدى ثباتهم إلى قتلهم واستئصالهم، فعلم هؤلاء ثباتهم من قبل، هذا الهرب والانهزام، لأنهم علموا أنهم لو ثبتوا لهلكوا.
والإجفال: الانهزام.
نزلوا في مصارعٍ عرفوها ... يندبون الأعمام والأخوالا
يقول لما نزل هؤلاء حول الحدث؛ ورأوا مصارع أعمامهم وأخوالهم الذين قتلهم قبل هذا اليوم، وأقبلوا يندبونهم، ويبكون عليهم.
ثم انهزموا خوفاً من أن يحل بهم ما حل بمن تقدمهم من أقربائهم.
تحمل الرّيح بينهم شعر الها ... م وتذري عليهم الأوصالا
تذري: أي تسير. والأوصال: الأعضاء.
يقول: نزلوا في مصارع الذين قتلهم من الروم، وأوصالهم كانت موجودة بها بعد، فكانت الريح تذري عليهم رميم أوصالهم، وتحمل بينهم شعور هامهم.
تنذر الجسم أن يقيم لديها ... وتريه لكلّ عضوٍ مثالاً
فاعل تنذر ضمير المصارع، وإليها يرجع الضمير في قوله: لديها وقيل: إن فاعل تنذر: ضمير الريح. والأول أولى.
والمعنى: إن مصارع المقتولين من قبل تنذر أجسام هؤلاء المنهزمين أن يقيموا بها، وترى هذه المصارع أجسامهم لكل عضو منها مثالاً من أعضاء المقتولين، فإذا تأملوا تلك الأعضاء علموا أنهم إن أقاموا بها قتلوا، وصارت أعضاؤهم منقطعة.
أبصروا الطّعن في القلوب دراكاً ... قبل أن يبصروا الرّماح خيالا
دراكاً: تباعاً. متداركاً. وتقدير البيت: أبصروا الطعن في القلوب دراكاً خيالا قبل ان يبصروا الرماح.
يقول: إنهم تخيلوا الطعن في قلوبهم، لما رأوا مصارع قتلاهم، فانهزموا قبل أن يروا الرماح عياناً.
وإذا حاولت طعانك خيلٌ ... أبصرت أذرع القنا أميالا
الأميال: جمع ميل. وهو ثلث الفرسخ.
يقول: إن العدو إذا أراد مطاعنتك رأى رماحك طوالاً، حتى كأنه يرى كل ذراع منها في طول الميل، لما لحقه من الخوف والوهل، فكأنه مأخوذ من قول الله تعالى " يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنْ " .
بسط الرّعب في اليمين يميناً ... فتولّوا وفي الشّمال شمالاً
قال ابن جني: هذا مثل قول الله تعالى: " يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنْ " ولم يزد على هذا.
والمعنى: أن الرعب قد ملأ قلوبهم لما عاينوا جيشك، فصور لهم أنه قد اتصل بناحية يمين جيشه يمين أخرى، وكذلك في ناحية الشمال، فرأوه أكثر مما هو، فكأنهم رأوا الرجل رجلين، واليمين يمينين والشمال شمالين، فولوا أدبارهم منهزمين.

وقيل: المعنى أن الخوف قد تسلط عليهم حتى أعجزهم عن القتال، فكأن الخوف بسط في يمين الجيش يمينه وفي شمال الجيش شماله. وهو جيش العدو.
ينفض الروع أيدياً ليس تدري ... أسيوفاً حملن أم أغلالا
يقول: إن الخوف ملأ قلوبهم، وكانت أيديهم ترتعد، وهي قابضة على السيوف فكأنها مغلولة.
ووجوهاً أخافها منك وجهٌ ... تركت حسنها له والجمالا
وجوهاً: نصب لأنها معطوفة على قوله: أيديا لفظاً، وهي منصوبة بفعل مضمر معنىً، دل عليه ينفض أي يغير وجوهاً.
يقول: خوفك يغير وجوهاً، ويردها من حال الحسن إلى حال القبح، ولا يلحقك خوف يتغير له وجهك، فكأن وجهك سلب وجوههم حسنها، وانتقل إلى وجهك جمال الوجوه.
والعيان الجليّ يحدث للظّنّ ... زوالاً، وللمراد انتقالا
يقول: جاءوا ليهدموا الحدث، ظناً منهم أنهم يقدرون على ذلك، فلما عاينوك بطل الظن، وانتقل المراد إلى غيره، ورضوا من الظفر بالهزيمة.
وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ ... طلب الطّعن وحده والنّزالا
الهاء في وحده للجبان.
يقول: الجبان إذا خلا بنفسه أظهر الشجاعة، وإذا عاين الحرب انثنى عزمه.
أقسموا لا رأوك إلاّ بقلبٍ ... طالما غرّت العيون الرّجالا
يقول: حلفوا أنهم لا يرونك إلا بالقلب وإعمال الفكر، فإن يونهم قد غرتهم، وأرتهم منك خلاف ما جربوه.
أيّ عينٍ تأمّلتك فلاقتك ... وطرفٍ رنا إليك فالا ؟
يقول: كل عين نظرت إليك تحيرت بجلالك وهيبتك، ولم يمكنها أن تلاقيك، والطرف إذا رنا إليك بقي شاخصاً لا يرجع من النظر إليك ..
ما يشكّ اللّعين في أخذك الجي ... ش فهل يبعث الجيوش نوالا
يقول: إن ملك الروم لا يشك في أنك تأخذ جيشه وتأسره، ومع ذلك يبعث الجيوش إليك، أفتراه يبعثها إليك هدية وعطيةً ؟؟! وحكى ابن جني: أن أبا الطيب كان يرفع اللعين وينصبه على: أعني اللعين.
ما لمن ينصب الحبائل في الأر ... ض ومرجاة أن يصيد الهلالا ؟
ومرجاةً: نصب لأنه مفعول معه: أي ماله مع مرجاة. وهي مفعلةٌ من: رجا يرجو.
يقول: من ينصب حبائل في الأرض، كيف يطمع أن يصيد الهلالا ؟! وهذا مثل والمعنى: كيف يطمع ملك الروم في قلعة الحدث ؟! وهي في بعد المنال كالنجم والهلال.
إنّ دون الّتي على الدّرب والأح ... دب والنّهر مخلطاً مزيالا
الأحدب: اسم جبل وعليه قلعة الحدث. والمخلط من الرجال: من يخلط للقتال. والمزيال: الذي يفارقه. وقيل: المخلط والمزيال: الرجل الداهية، لا يعرف كيف يدخل في الأمر ! وكيف يخرج منه ! يقول: دون هذه القلعة رجل بصير بالأمور، يقابل وقت القتال، ويزايل وقت الزيال، فهو يحول بين القلعة وبين من يقصدها.
وقيل: المخلط: الذي يخلط بين الجيشين. والمزيال: الذي يميز بينهما، وهي صفة الرجل الشجاع، والمراد به سيف الدولة.
غصب الدّهر والملوك عليها ... فبناها في وجنة الدّهر خالا
خالا: نصب على الحال.
يقول: إن سيف الدولة قد غصب هذه القلعة من الملوك ومن الدهر: أي خلصها من حوادثه، وبناها وحصنها، فهي تلوح في وجنة الدهر كالخال، فلا يقدر الدهر على أن يزيلها حتى يزول، فهي باقية ما بقي الدهر، لبقاء الخال ببقاء الخد.
وحماها بكلّ مطّرد الأك ... عب جور الزّمان والأوجالا
يقول: منعها من حوادث الزمان، ومن الخوف، بكل رمح مطرد الأكعب أي مستو ليس في كعوبه اختلاف واضطراب.
فهي تمشي مشي العروس اختيالا ... وتثنّي على الزّمان دلالا
يقول: هذه القلعة تختال في مشيها، كما تختال العروس، وتتثني دلالاً على الزمان؛ لأنها أمنت أحداثه. وأراد به أهل القلعة.
في خميسٍ من الأسود بئيسٍ ... يفترسن النّفوس والأموالا
بئيس: أي شديد.
يقول: تمشي مشي العروس، في جيش شديد مثل الأسود، فهي تفترس النفوس بالقتل، والأموال بالنهب.
وظباً تعرف الحرام من الحلّ ... فقد أفنت الدّماء حلالا
يقول: إن السيوف التي حولها، تعرف الحلال من الحرام، فهي لا تسفك إلا دماً يحل سفكه: يعني أنها لا تقتل إلا من حل دمه، وظباً: عطف على خميس.
إنّما أنفس الأنيس سباعٌ ... يتفارسن جهرةً واغتيالا
الأنيس: الإنس. والاغتيال: الخديعة.

يقول: نفوس الناس مثل السباع يفرس بعضها بعضاً، إما مجاهرة، وإما مخادعة، كما تفعل السباع. وجهرة واغتيالاً: مصدران واقعان موقع الحال.
من أطاق التماس شيءٍ غلاباً ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا
الغلاب: المغالبة.
يقول: من قدر على مراده بالغصب، لم يطلبه بالسؤال.
كلّ غادٍ لحاجةٍ يتمنّى ... أن يكون الغضنفر الرّئبالا
يقول: من يطلب أمراً يتمنى أن يكون فيه كالأسد في الشجاعة والقهر. والرئبال والغضنفر: اسمان للأسد، وجمع بينهما لاختلاف اللفظين.
وقيل: إن الرئبال بدل من الغضنفر، وقيل صفة له.
وفزع الناس لخيل لقيت سرية سيف الدولة ببلد الروم، فركب وركب أبو الطيب معه فوجد السرية قد قتلت بعض الخيل، وأراه بعض العرب سيفه فنظر إلى الدم عليه وإلى فلول أصابته في ذلك الوقت فأنشد سيف الدولة متمثلاً قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلولٌ من قراع الكتائب
تخيّرن من أزمان يوم حليمةٍ ... إلى اليوم قد جرّين كلّ التّجارب
فقال أبو الطيب مجيباً له في الوقت ارتجالاً.
رأيتك توسع الشعراء نيلاً ... حديثهم المولّد والقديما
القديم: من كان في الجاهلة. والمخضرم: الذي أدرك الجاهلية والإسلام. والإسلامي: من ولد في الإسلام إلى وقت بشار. والمولد: من كان في وقت بشار، وهم إلى يومنا، فبشار أبو المولدين وكذلك الحديث.
وقيل: القديم: البدوي. والمولد: الحضري.
يقول: قد عم إحسانك الشعراء السالف منهم والباقي، وحديثهم وما كان بعده بدل من الشعراء.
فتعطي من بقي مالاً جسيماً ... وتعطي من قضي شرفاً عظيماً
بقي: لغة طائية.
يقول: تعطي الباقي منهم الأموال الجسيمة، وتعطي الماضي الشرف العظيم وروى عميماً أي ثابتاً.
سمعتك منشداً بيتي زيادٍ ... نشيداً مثل منشده كريماً
النشيد: الإنشاد. وزياد: اسم النابغة، وأراد بمنشده: سيف الدولة.
يقول: سمعتك تنشد بيتي النابغة، وكان هذا الإنشاد كريماً مثلك.
فما أنكرت موضعه ولكن ... غبطت بذاك أعظمه الرّميما
الرميم: البالية، وإنما لم يؤنثه، وإن كان صفةً لأعظمه، لأن الرميم مصدر في الأصل. يقال: رم العظم يرم رماً ورميماً، فلما استعمله صفة لم يؤنثه، كقولهم: رجل صؤوم وامرأة صؤوم.
يقول: لم أنكر موضع النابغة في الشعراء ومحله في الفصحاء، ولكن غبطت عظامه البالية؛ حيث تشرف بإنشادك شعره، فتمنيت أن أكون مكانه.
وقال أيضاً يمدحه وكان قد اجتاز برأس عين سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة، وقد أوقع سيف الدولة بعمرو بن حابس من بني أسد، وبني ضبة ورباح من بني تميم، ولم ينشدها إياه، فلما لقيه دخلت في جملة مدائحه وهي من قوله في صباه:
ذكر الصّبا ومرابع الآرام ... جلبت حمامي قبل وقت حمامي
ذكر: جمع ذكرى. وروى ذكر الصبا مصدر: ذكرت. والمرابع: جمع مربع، وهو المنزل في أيام الربيع، وقيل: المرعى. والآرام: جمع ريم، وهو الظبي الأبيض.
يقول: تذكرت منازلنا في الربيع، ومنازل مجاورةً، لنساء كالظباء البيض جلبن علي الموت قبل وقته.
وإنما تذكر العرب أيام الربيع؛ لأنهم يخرجون إلى المراعي فيجتمعون مع أحبابهم، فإذا جاء الصيف، رجع كل قوم إلى دارهم، وهاجت صبابة الاشتياق، وتجرعوا مرارة الافتراق.
دمنٌ تكاثرت الهموم عليّ في ... عرصاتها كتكاثر اللّوّام
دمن: خبر ابتداء محذوف، أي هذه المرابع دمن. والدمن: جمع الدمنة، وهي ما يرى من آثار الديار: من الأبوال والأبعار.
يقول: لما وقفت في هذه المرابع، تذكرت أحبابي فيها، فتكاثرت علي الهموم كتكاثر اللوم في وقوفي في تلك العرصات.
وكأنّ كلّ سحابةٍ وقفت بها ... تبكي بعيني عروة بن حزام
عروة بن حزام: أحد العشاق، وصاحبته عفراء.
يقول: عفت آثار هذه المرابع بكثرة الأمطار حتى كأن كل سحابة كان لها بهذه الدمن حبيب، فهي إذا وقفت عليها بكت لتذكره، كما بكي عروة على عفراء، ومثله لأبي تمام:
كأنّ السّحاب الغرّ غيّبن تحتها ... حبيباً فما ترقى لهنّ مدامع
وقد شبه غزارة المطر بغزارة دمع عروة على عادته في قلب التشبيه
ولطالما أفنيت ريق كعابها ... فيها، وأفنت بالعتاب كلامي
الكعاب: التي كعب ثدياها.

يقول: إن كانت هذه المرابع قد درست، فطالما خلوت فيها بجارية كاعب، أقبلها وأترشف ريقها، وهي تعاتبني حتى أفنيت ريقها بالترشف؛ وأفنت كلامي بالعتاب.
قد كنت تهزأ بالفراق مجانةً ... ويجرّ ذيلي شرّةٍ وعرام
وروى: قد كنت أهزأ وأجر والمجانة: المجون. والعرام، والعرامة: خلع العذار.
يخاطب نفسه ويقول: قد كنت تستصغر شأن الفراق، وتسخر منه في أيام الوصال وكنت تجر ذيل الشرة والنشاط، ولم تشكر ما أنت فيه من النعمة، حتى بليت بالفراق فعرفت مرارة الاشتياق.
ليس القباب على الرّكاب وإنّما ... هنّ الحياة ترحّلت بسلامٍ
يقول: هذه الهوادج التي على الجمال ليست هي القباب؛ وإنما هي حياتي رحلت عني، وكانت حياتي سالمة فذهبت بما فيها من السلامة.
ليت الّذي خلق النّوى جعل الحصى ... لخفافهنّ مفاصلي وعظامي
لخفافهن: أي لخفاف الركاب.
يقول: ليت الله تعالى لما خلق الفراق جعل مفاصلي، وعظامي تحت خفاف الإبل، حتى يمشين عليها؛ لكرامتهن علي، بسبب من عليها من الجواري.
وقيل: تمنى ذلك ليتلف بسببهن، كي يستريح من الاهتمام بفراقهن، وليتذذ بهذا الموت، بعد علمه بأن الفراق أشد من الموت.
وقيل: معناه ليت الله تعالى لما خلق الفراق أماتني قبل أن أبتلي به، وجعل عظامي حصى تدوسه إبلهم بأخفافها: أي ليتني مت قبل أن أرى الفراق.
متلاحظين نسحّ ماء شئوننا ... حذراً من الرّقباء في الأكمام
متلاحظين: نصب على الحال من فعل محذوف: أي وقفتا متلاحظين، يلحظ بعضنا بعضاً، وينظر إليه سراً. ونسح: أي نصب والشئون: مجاري الدموع من الناس. وحذراً: نصب على المفعول له وفي الأكمام: متعلق بقوله: نسح. أي نسح في الأكمام.
يقول: وقفنا متلاحظين حال التوديع: نصب دموعنا في أكمامنا خوفاً من الرقباء أن يقفوا على أحوالنا.
أرواحنا انهملت وعشنا بعدها ... من بعد ما قطرت على الأقدام
روى: انهملت وانهلت.
يقول: إن الدموع هي أرواحنا، سالت منا وقطرت على أقدامنا، فكيف عشنا بعد خروج الروح من أبداننا ؟؟! وجعل الدموع أرواحاً لأن البكاء يمرض ويتلف.
وقيل: أراد أن دموعهم كانت دماً ! والدم إذا كثر خروجه أتلف ومثله لآخر:
وليس الّذي يجري من العين ماؤها ... ولكنّها نفسٌ تذوب وتقطر
لو كنّ يوم جرين كنّ كصبرنا ... عند الرّحيل لكنّ غير سجام
السجام: الغزيرة، وهي جمع ساجم.
يقول: لو كانت دموعنا يوم الفراق على قدر صبرنا. لكانت قليلة كقلة صبرنا.
لم يتركوا لي صاحباً إلاّ الأسى ... وذميل ذعبلةٍ كفحل نعام
روى: الأسى والأذى والذميل: ضرب من السير. والذعلبة: الناقة الخفيفة، وروى بدلها عرمسة.
يقول: لم يترك الأحباب الراحلون صاحباً لي إلا لحزن، وناقةً خفيفةً أرحل عليها، وأقصد الممدوح، وهي في السرعة كفحل النعام.
وتعذّر الأحرار صيّر ظهرها ... إلاّ إليك، عليّ فرج حرام
يقول: قلة الأحرار وتعذرهم حرم علي أن أركب ظهر هذه الناقة إلا إليك، فلا أقصد عليها سواك، كما لا أركب فرجاً حراماً.
أنت الغريبة في زمانٍ أهله ... ولدت مكارمهم بغير تمام
أنت الغريبة: أي الخصلة الغريبة، أو الحالة الغريبة. وقيل: أدخل الهاء للمبالغة كقولهم: فلان كريمة قومه.
يقول: إن أهل هذا الزمان إذا فعلوا مكرمة لم يتموها، وأنت بينهم غريبة؛ لتمام مكارمك وكمال معالمك.
أكثرت من بذل النّوال ولم تزل ... علماً على الإفضال والإنعام
يقول: أكثرت بذل العطاء وبالغت في الجود والسخاء، حتى صرت في الجود علماً مشهوراً ومثالاً مضروباً، ولم تزل كذلك في قديم الأيام.
صغّرت كلّ كبيرةٍ وكبرت عن ... لكأنّه وعددت سنّ غلام
يقول: فعلت كبار الصنائع حتى صغرت كل صنيعة كبيرة ! وجل قدرك عن أن يشبه شيء، فيقال: والله لكأنه بحر في جوده، وبدر في علوه، وبلغت هذا المبلغ وأنت في سن الغلام الحدث! واللام في قوله: لكأنه جواب القسم المحذوف لدلالة اللام عليه.
ورفلت في حلل الثّناء وإنّما ... عدم الثّناء نهاية الإعدام

رفل الرجل: إذا تبختر في مشيه وجر ذيله؛ فشبه الثناء بالحلل؛ لما فيه من الزينة والجمال، وإنما عندك الإعدام هو عدم الثناء لا عدم المال، فلهذا أبيت الحلل واكتسيت من الثناء الحلل.
عيبٌ عليك ترى بسيفٍ في الوغى ... ما يصنع الصّمصام بالصّمصام
ترى: أي أن ترى بسيف، أي مع سيف.
يقول: أنت سيف فلا حاجة لك إلى حمل سيف في الحرب، وحمله عيب عليك لأنك أمضى منه.
إن كان مثلك كان أو هو كائنٌ ... فبرئت حينئذٍ من الإسلام !.
أقسم بالبراءة من الإسلام، إن كان له نظير في زمانه، أو سيكون في مستقبل أيامه !.
ملكٌ زهت بمكانه أيّامه ... حتّى افتخرن به على الأيّام
زهت: أي زهيت، فأبدل من الكسرة فتحة فصارت الياء ألفاً، ثم سقطت لسكونها وسكون التاء الساكنة بعدها، وهذه لغة طيئ.
يقول: أيامه افتخرت بمكانه فيها على سائر الأيام؛ لأنه كساها فخراً وزادها على الأيام شرفاً.
وتخاله سلب الورى من حلمه ... أحلامهم فهم بلا أحلام
من حلمه: أي بحلمه. والأحلام: العقول.
يقول: إذا رأيت عقله وعقل الناس، ظننت أنه سلبهم عقلهم ورأيهم فلا عقول لهم.
وإذا امتحنت تكشّفت عزماته ... عن أوحديّ النّقض والإبرام
الأوحدي: منسوب إلى الأوحد.
يقول: إذا جربت عزمه رأيته أوحداً في نقضه وإبرامه، لا نظير له في أفعاله.
وإذا سألت بنانه عن نيله ... لم يرض بالدّنيا قضاء ذمام
يقول: إذا استمحنت بنانه، استحقر الدنيا بأسرها في قضاء حقك وحرمة سؤالك.
مهلاً ! ألا لله ما صنع القنا ... في عمرو حاب وضبّة الأغتام
ألا لله: تعجب. وما: بمعنى الذي، وقيل: استفهام، وأراد عمرو بن حابس، فرخم في غير النداء وهو جائز عند الكوفيين، ولا يجيزه البصريون، والأغتام: جمع الغتم وهو الجاهل الجافي.
يقول: اكفف عن هاتين القبيلتين فقد أوقعت بهم وقعة كبيرة.
لمّا تحكّمت الأسنّة فيهم ... جارت وهنّ يجرن في الأحكام
جارت: أي عليهم.
يقول: لما جعلت الرماح حكماً بينك وبينهم، جارت عليهم في حكمها، وعادتها أن تجور إذا حكمت؛ لأنها تقتل الناس.
فتركتهم خلل البيوت كأنّما ... غضبت رءوسهم على الأجسام
يقول: تركتهم وسط البيوت قتلى، أجساماً بلا رءوس، فكأن رءوسهم غضبت على جسومهم ففارقتها.
أحجار ناسٍ فوق أرضٍ من دمٍ ... ونجوم بيضٍ في سماء قتام
يعني: أن الأرض احمرت بما سال من دمائهم، وهم مصروعون على الدماء كالحجارة على الأرض، وكأن السيوف كانت تلمع في الغبار، كما تلمع النجوم في السماء.
لما جعل الأرض دماً جعل حجارتها القتلى، ولما جعل البيض نجوماً جعل القتام سماء.
ويجوز في أحجار الرفع على إضمار المبتدأ، والنصب على إضمار الفعل: أي أشبهوا أحجاراً، والرفع أجود.
وذراع كلّ أبي فلانٍ كنيةً ... حالت فصاحبها أبو الأيتام
وهذا معطوف على قوله: أحجار ناس.
يقول: إنك قتلتهم وفرقت أوصالهم ! فهناك ذراع كل إنسان كل يكنى أبا فلان، كأبي زيد وأبي محمد وغيره، فحين قتلته حالت كنيته، فصار يكنى أبا الأيتام.
وكنيةً نصب على الحال من أبي فلان وقيل: على المصدر: أي يكنى كنية. وقدر انفصال كل أبي فلان لأن كل إذا أضيف إلى اسم واحد في معنى الجمع، لا يقع بعده إلا النكرة، فيقال: كل رجل في الدار، ولا يقال: كل زيد. غير أنه قدر الانفصال اضطراراً، فكأنه قال: كل أب لفلان، كما تقول: رب واحد أمه. أي رب واحد لأمه.
عهدي بمعركة الأمير وخيله ... في النّقع محجمةً عن الإحجام
يقول: عهدت ذلك اليوم خيل الأمير محجمة عن الإحجام: أي مقدمة في الغبار إلى الأعداء؛ لأنها إذا تركت الإحجام فعلت ضده، وهو الإقدام.
صلّى الإله عليك غير مودّعٍ ... وسقى ثرى أبويك صوب غمام
غير مودع: نصب على الحال، دعاء له بالصلاة والرحمة، ولثرى أبويه بالسقيا، ثم قال: لا جعل هذا الدعاء مني وداعاً لك.
وكساك ثوب مهابةٍ من عنده ... وأراك وجه شقيقك القمقام
الهاء في عنده يعود إلى اسم الله تعالى. القمقام: البحر، والقمقام: السيد.
يقول: ألبسك الله الهيبة، وجمع بينك وبين أخيك السيد البحر وهو ناصر الدولة وكان أميراً بالموصل.

فلقد رمى بلد العدوّ بنفسه ... في روق أرعن كالغطمّ لهام
روق أرعن: أي مقدمة العسكر. والغطم: البحر.
يقول: إن أخاك قصد العدو بنفسه في جيش عظيم كالبحر، وهو في أول الخيل.
قومٌ تفرّست المنايا فيكم ... فرأت لكم في الحرب صبر كرام
أي أنتم قوم تفرست: أي تأملت، وكان الوجه فيهم ولهم غير أنه رده إلى المعنى؛ لأنه أبلغ.
يقول: نظرت المنايا فيكم فرأتكم صابرين على الحرب، وعاينت فيكم صبر الكرام، فعدلت عنكم إلى أعدائكم الذين لم يصبروا على الحرب.
تالله ما علم امرؤٌ لولاكم ... كيف السّخاء وكيف ضرب الهام ؟!
تالله: قسم وتعجب، وإنما خصت التاء بهذا الاسم لتضمنها معنى التعجب، فمنع التصرف، كما منع فعل التعجب.
يقول: علمتم السخاوة والشجاعة، ولولا أنتم لما علم امرؤ طريق السخاء والشجاعة.
وغزا سيف الدولة من حلب وأبو الطيب معه، وقد أعدوا الآلات لعبور أرسناس فاجتاز بحصن الران وهو في يده، ثم اجتاز ببحيرة سمنين ثم بهنزيط، وعبرت الروم والأرمن أرسناس وهو نهر عظيم لا يكاد أحد يعبره سباحةً إلا جره وذهب به، لشدته وشدة جريه فسبحت الخيل حتى عبرته خلفهم إلى تل بطريق، و قتل من وجه بها، وأقام أياماً على أرسناس وعقد بها سماريات يعبر فيها.
ثم قفل، فاعترض البطريق في الدرب بالجيش، وارتفع في ذلك الوقت سحاب عظيم وجاء بمطر غزير وقع القتال تحت المطر، ومع البطريق نحو ثلاثة آلاف قوس، فابتلت أوتار القسي ولم تنفع، وانهزم أصحابه، ثم انهزم بعد أن قاتل وأبلى، وعلقت به الخيل، فعجل الهرب يحمي نفسه حتى سلم.
فقال أبو الطيب وأنشدها إياه بآمد، وكان دخوله إليها منصرفاً من بلاد الروم في آخر نهار يوم الأحد، لعشر خلون من صفر سنة خمس وأربعين وثلاث مئة.
الرّأي قبل شجاعة الشّجعان ... هو أوّلٌ وهي المحلّ الثّاني
يقول: إن الرأي والعقل أفضل من الشجاعة، لأن الشجعان يحتاجون أولاً إلى الرأي ثم إلى الشجاعة، فإذا لم تصدر الشجاعة عن الرأي فهي التنزي وربما أتت عليه. وروى بدل: الشجعان: الفرسان.
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ مرّةٍ ... بلغت من العلياء كلّ مكان
مرة: أي أبية. وروى: حرة.
يقول: إذا اجتمع الرأي والشجاعة لنفس واحدة كريمة أبية، بلغت كل مكان من المعالي.
ولربّما طعن الفتى أقرانه ... بالرّأي قبل تطاعن الأقران
يقول: إن الرأي ربما يغني عن الشجاعة، ويوصل صاحبه إلى الإيقاع بالأعداء والنكاية بهم قبل أن يقع حرب أو قتال.
لولا العقول لكان أدنى ضيغمٍ ... أدنى إلى شرفٍ من الإنسان
أدنى ضيغم: من الدناءة. وأدنى إلى شرف: من الدنو. والأول اسم كان، والثاني خبره.
يقول: لولا ما خص الله تعالى الناس من العقل، لكان أدنى أسد أقرب إلى الشرف من الإنسان؛ لما للأسد من فضل البأس والإقدام.
ولما تفاضلت النّفوس ودبّرت ... أيدي الكماة عوالي المرّان
قوله: ودبرت أي ولما دبرت.
يقول: لولا العقول لما كان لبعض الناس فضل على البعض، وما كانت الأيدي تصرف الرماح، بل تكون هي المدبرة للأيدي؛ لأن لها من المضاء ما ليس للأيدي. فبالعقل صار الإنسان مدبراً لها.
لولا سميّ سيوفه ومضاؤه ... لمّا سللن لكنّ كالأجفان
يقول: لولا سيف الدولة ومضاؤه، لم يكن للسيوف مضاء حين تسل من أغمادها، بل كانت كالأجفان في قلة الغناء.
خاض الحمام بهنّ حتّى ما درى ... أمن احتقارٍ ذاك أم نسيان
بهن: أي بالسيوف. حتى ما دري: أي ما دري الحمام. وروى: حتى ما دري على لغة طيئ.
يقول: خاض سيف الدولة الموت بسيوفه حتى ما دري الموت، هل ذاك احتقار منه، أم نسي كونه في الحرب ؟!
وجرى فقصّر عن مداه في العلا ... أهل الزّمان وأهل كل زمان
وروى: وسعى أهل الزمان: أي أهل زمانه. وجرى إلى المعالي فعجز أهل زمانه عن بلوغ شأوه، كذلك كل أهل زمان قبله وبعده.
تخذوا المجالس في البيوت، وعنده ... أنّ السّروج مجالس الفتيان
تخذت واتخذت بمعنىً.
يقول: إنما قصروا عن بلوغ مداه؛ لأنهم اتخذوا بيوتهم مجالسهم، وهو يجعل مجالسه سروج الخيل، ومثله لعنترة:
وتبيت عبلة فوق ظهر حشيّةٍ ... وأبيت فوق سراة أدهم ملجم

وتوهّموا اللّعب الوغى الهيجاء ... غير الطّعن في الميدان
يقول: حسب الناس لعبهم بالرماح في الميدان، أنه مثل الطعن في الحرب عند ملاقاة الأقران، وليس الأمر كما قدروا.
قاد الجياد إلى الطّعان ولم يقد ... إلاّ إلى العادات والأوطان
يقول: قاد الخيل إلى المطاعنة، ولم يكن قوده لها أول مرة، بل قد سبق له أمثالها، وتعودت خيله التردد إلى الروم، ومعارك الحرب، فكأنه يقودها إلى أوطانها التي تعودت الإقامة بها.
كلّ ابن سابقةٍ يغير بحسنه ... في قلب صاحبه على الأحزان
هذه الجياد، وكل ابن فرس سابقة حسن الخلق، إذا نظر صاحبه إليه أغار على ما في قلبه من الحزن بحسنه، وأزاله عن قلبه.
إن خلّيت ربطت بآداب الّوغى ... فدعاؤها يغني عن الأرسان
يقول: إن أرسلت هذه الخيل، فرابطها آداب الوغى.
يعني: أنها مؤدبة بآداب الحرب، فإذا أرسلت لم تشرد، فتحتاج إلى أن تشد برسن أو شكال، ولكنها متى دعاها صاحبها أقبلت إليه، فيغني دعاؤها عن أرسان تقاد بها.
في جحفلٍ ستر العيون غباره ... فكأنّما يبصرن بالآذان
الهاء في غباره للجحفل.
يقول: قاد جياده في جيش عظيم، قد ثار غباره حتى ستر العيون، وأطبق الجفون من تكاثفه، فكأن هذه الخيل تبصرن بالآذان؛ لأن الغبار لا يطبق الآذان، بل تكون أبداً منتصبة.
يرمى بها البلد البعيد مظفّرٌ ... كلّ البعيد له قريبٌ داني
يقول: يغير بهذه الخيل كل بلد ملك مظفر، كل مرام بعيد له قريب، وكل صعب على غيره، عليه سهل يسير.
فكأنّ أرجلها بتربة منبجٍ ... يطرحن أيديها بحصن الرّان
منبج: مدينة بالشام. والران من بلاد الأرمن وبينهما مسيرة خمس ليال.
يقول: كأن هذه الخيل لخفتها تكون أرجلها بمنبج وأيديها بحصن الران، فلا يتخلل من مسيرها من منبج إلى حصن الران، إلا مقدار الزمان الذي تتخلله الخطوة الواحدة.
وقيل: أراد بذلك سعة خطوها، فكأنه يقول: إنها تقطع ما بينهما بخطوة واحدة.
حتّى عبرن بأرسناس سوابحاً ... ينشرن فيه عمائم الفرسان
أرسناس: نهر عظيم في بلاد الروم.
يقول سار بها حتى عبرت هذا النهر سابحةً، وكانت تنشر عمائم الفرسان فوقهن؛ لسرعتهن في السباحة، فتضطرب العمامة لذلك.
وقيل: أراد أن ما يطفو من الماء من جنبي الفرس يعلو إلى أطراف العمائم المسدلة فينشرها. والأول هو الظاهر.
يقمصن في مثل المدى من باردٍ ... يذر الفحول وهنّ كالخصيان
يقمصن: أي يثبن. والمدى: جمع مدية وهي السكين: يقول: إن هذا النهر يعمل في البدن ما تعمل السكاكين من شدة برده ! وتقلصت الخصى وبردت حتى صارت الفحول مثل الخصيان.
والماء بين عجاجتين مخلّصٌ ... تتفرّقان به وتلتقيان
يقول: إن الغبار قد ثار على جانبي هذا النهر، فكأن موج الماء يفرق بينهما، فمرة يفترقان ومرة يلتقيان فيتصلان من أحد الجانبين إلى الآخر.
وقيل لأبي الطيب: إنك وصفت برد الماء، وذلك يكون في الشتاء، ثم بالغت في وصف الغبار، والغبار لا يثور على الوجه المذكور في الشتاء، فبينهما تناقض، فقال: إنما وصفت ما عاينت. وفي رواية أخرى: إن ماء هذا النهر يكون في الصيف شديد البرد إلى الغاية.
وقيل: أراد بالعجاجتين: ما يثور من الماء على جانبي الفرس السابح، فإذا شق الماء افترق جانباه ثم تلاقيا من بعد.
ركض الأمير وكاللّجين حبابه ... وثنى الأعنّة وهو كالعقيان
اللجين: الفضة. والعقيان: الذهب. والحباب: طرائق الماء.
يقول: ركض، وكان الماء في الصفاء كالفضة البيضاء، وثنى عنانه راجعاً. وقد صار كالذهب؛ لما سال إليه من دماء القتلى، واحمر بما خالطه من دماء الروم.
فتل الحبال من الغدائر فوقه ... وبنى السّفين له من الصّلبان
الغدائر: الذوائب.
يقول: فتل من شعور من قتل من الروم الحبال الكثيرة، وكذلك بنى مما كسر من الصلبان سفناً يعبر بالسبي والأموال عليها.
وأراد: أنه لو أراد أن يفعل لأمكنه؛ من كثرة ما قتل منهم، وكسر من صلبانهم.
وحشاه عاديةً بغير قوائمٍ ... عقم البطون حوالك الألوان
العادية: الجارية.

يقول: ملأ هذا النهر بخيل تعدو بلا قوائم، يعني: السفن فهي عقيمة لا تلد كسائر الخيول، وهي سود الألوان؛ لأنها مغبرة، فعبر عن السفن بالخيل، وأخرجه مخرج اللغز.
تأتي بما سبت الخيول كأنّها ... تحت الحسان مرابض الغزلان
يقول: هذه السفن كانت تحمل ما سبته الخيول من النساء والولدان، فكأنهن الغزلان والسفن تحتهن كأنها مرابض الغزلان.
بحرٌ تعوّد أن يذمّ لأهله ... من دهره وطوارق الحدثان
يقول: هذا النهر بحر يحفظ أهله، ويحصن من حوله من حوادث الدهر، فلم يقدر أحد على عبوره.
فتركته وإذا أذمّ من الورى ... راعاك واستثنى بني حمدان
يقول: جعلته بعد عبورك به، إذا ضمن لمعشر أن يمنعهم، استثناك وقومك، فيقول: إني أمنعكم من كل أحد، إلا من بني حمدان، فإني لا أمنعكم منهم.
وأراد أن الروم إذا تحصنوا به، لم يقدر أحد أن يصل إليهم إلا أنت وقومك.
المخفرين بكلّ أبيض صارمٍ ... ذمم الدّروع على ذوي التّيجان
يقال: أخفرته: إذا نقضت عهده، وهذا صفة بني حمدان.
يقول: إن دروع الملوك أعطتهم ذمةً أنها تمنعهم، فهم يخفرون بسيوفهم تلك العهود والذمم، ويهتكون بسيوفهم دروعهم. وذووا التيجان: هم الملوك.
متصعلكين على كثافة ملكهم ... متواضعين على عظيم الشّان
الصعلوك: الفقير، والمتصعلك: من يتكلف ذلك.
يقول: هم يتخلقون بأخلاق الصعاليك، ويتطامنون مع ملكهم العظيم، وهم متواضعون مع علو قدرهم وعظم شأنهم.
يتقيّلون ظلال كلّ مطهّمٍ ... أجل الظّليم وربقة السّرحان
روى ابن جني: يتقيلون وحمله على معنى قولهم: فلان يتقيل أباه: أي يتشبه به. قال: ومعناه أن كل واحد منهم يتشبه بأب كريم، ويتبعه كما يتبع الفرس ظله، ويسبق إلى المجد والكرم، كالفرس المطهم الذي إذا رأى الظليم أهلكه، وإذا رأى الذئب شده.
قال: ويجوز أن يكون ويتقيلون من القائلة، يعني: يقيلون في ظل كل فرس مطهم، فوافق في المعنى رواية سائر الناس وروى غيره يتفيئون من الفيء. والمعنى أنهم يستظلون في الهواجر بظلال خيولهم كما يفعله الصعاليك، ولا يدخلون الخيام كما يفعله المتنعمون.
وقوله: أجل الظليم: صفه المطهم، أي أنه إذا عدا خلف الظليم أدركه أجله الذي لا خلاص له منه، وإذا عدا خلف سرحان لحقه، فكأنه قيده، وهذا من قول امرئ القيس.
بمنجردٍ قيد الأوابد هيكل
وقيل: يمدحهم بالفروسية والثبات على الخيل فيقول: هم لا يفارقون ظهورها بل يلازمونها ملازمة الظلال ويتقيلون يميناً وشمالاً كما تنقلب الظلال.
خضعت لمنصلك المناصل عنوةً ... وأذلّ دينك سائر الأديان
العنوة: القهر.
يقول: سيفك قهر كل سيف، فانقادت له السيوف قهراً، ودينك ذل سائر الأديان وقهرها.
وعلى الدّروب وفي الرّجوع غضاضةٌ ... والسّير ممتنعٌ من الإمكان
الدروب: جبال الروم، وطرقها. والغضاضة: الذل والقهر. والتقدير وعلى الدروب غضاضة، وفي الرجوع غضاضة.
وقيل: على تعلق بالفعل الذي بعده وهو نظروا أي نظروا على الدروب إلى خليك.
يقول: قهرتهم في حالة صعبة على المسلمين، وذلك حيث لم يمكنهم المقام على الدروب، ولا الرجوع عنها، وكان السير ممتنعاً فدخلت عليك الغضاضة لذلك.
والطّرق ضيّقة المسالك بالقنا ... والكفر مجتمعٌ على الإيمان
يقول: إن الطرق كانت قد ضاقت برماح الروم، وكان الكفر مجتمعاً على الإيمان في تلك الحال، فأذللت الكفر ونصرت الإسلام.
نظروا إلى زبر الحديد كأنّما ... يصعدن بين مناكب العقبان
يقول: نظر الروم إلى قطع الحديد على الخيل، فكأن هذه القطع عليها، بين مناكب العقبان.
شبه الخيل بالعقبان في سرعتها، والدروع التي على الفرسان والبيض وغيرها كأنها علت العقبان وصعدت بين مناكبها.
وفوارسٍ يحي الحمام نفوسها ... فكأنّها ليست من الحيوان
يقول: نظروا إلى فوارس يعدون الموت في الحرب حياة؛ لبقاء الذكر، حتى كأنهم ليسوا من الحيوان، لأن الحيوان إذا مات ينسى.
ما زلت تضربهم دراكاً في الذّرى ... ضرباً كأنّ السّيف فيه اثنان
روى: في الذرى أي رءوس القوم، أو رءوس الجبال. وروى: في الوغى وهي الحرب. دراكاً: أي تباعاً.

يقول: ما زلت تضربهم ضرباً في إثر ضرب، متوالياً من دون أن يتخللها، فكأنك تضربهم بسيفين.
وقيل: ما زلت تضربهم ضربةً تعمل عمل ضربتين. يعني: كأن السيف الواحد سيفان، والهاء في فيه راجع إلى الضرب.
خصّ الجماجم والوجوه كأنّما ... جاءت إليك جسومهم بأمان
خص السيف، أو الضرب رءوسهم ووجوههم دون أجسامهم، حتى كأنك أعطيت أجسامهم أمانك ألا تمسها بضرب.
فرموا بما يرمون عنه وأدبروا ... يطئون كلّ حنيّةٍ مرنان
روى يطئون من الوطء بالرجل، وروى: يطوون من طويته. والحنية: القوس. والمرنان: الكثير الرنة. وما يرمون عنه: هو القسي التي كانوا يرمون عنها.
يقول: رموا قسيهم وانهزموا يطئون قسيهم المطوية عند الرمي.
يغشاهم مطر السّحاب مفصّلاً ... بمهنّدٍ ومثقّفٍ وسنان
قيل: أراد بالمطر: المطر الحقيقي. والمعنى: أصابهم المطر النازل من السحاب، مفصلاً بالسيوف والرماح، كما يفصل العقد بالدر والذهب.
يعني: كما هزمهم السلاح هزمهم أيضاً المطر.
وقال ابن جني: أراد بالسحاب: جيش سيف الدولة. شبهه بالسحاب لكثافته، ولما جعله سحاباً جعل مطره الرماح والسيوف.
حرموا الّذي أملوا وأدرك منهم ... آماله من عاد بالحرمان
يقول: حرموا ما كانوا يؤملونه من الظفر بك، وانهزموا، فمن كان منهم محروماً من أمله الأول أدرك أمله الثاني، من العود إلى أهله، والسلامة من القتل والأسر، وهذا مثل قولهم: من نجا برأسه فقد ربح.
وإذا الرّماح شغلن مهجة ثائرٍ ... شغلته مهجته عن الإخوان
يقول: إنهم جاءوا يطلبون بثأر من قتلت منهم، فلما وقعت الرماح في قلوبهم اشتغلوا بأنفسهم ونسوا إخوانهم الذين يطلبون ثأرهم. وهذا من قول الله تعالى " لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " .
هيهات ! عاق عن العواد قواضبٌ ... كثر القتيل بها وقلّ العاني
العواد: الرجوع، وهو مصدر عاود يعاود معاودةً وعواداً وهي ها هنا من: عاود. وروى مكانه: الرجوع والعاني: الأسير.
المعنى كما قال: وأدرك منهم آماله من عاد بالحرمان فقال: ما أبعد عليهم الرجوع ! وقد عاقهم عن ذلك سيوفك التي كثرت القتل فيهم، فكان من قتل منهم أكثر ممن أسر.
ومهذّبٌ أمر المنايا فيهم ... فأطعنه في طاعة الرّحمن
ومهذب: هو سيف الدولة، عطف على قواضب.
يقول: منعهم عن الرجوع إلى ديارهم رجل مهذب صفي من كل عيب، أمر الموت بقبض أرواحهم فأطاعه الموت في طاعة الله تعالى؛ لأن قتلهم طاعةً، وفيه رضى الله تعالى.
قد سوّدت شجر الجبال شعورهم ... فكأنّ فيه مسفّة الغربان
الهاء في فيه للشجر. والمسفة: الدانية من الأرض.
يقول: إن شعورهم سودت أشجار الجبال؛ لأنها متعلقة بها، فكأن عمومها الأشجار، غربان دانية من الأرض، واقفة على الأشجار.
وجرى على الورق النّجيع القاني ... فكأنّه النّارنج في الأغصان
يقول: جرى دمهم على الأوراق، فثمرت به، فأشبه الدم عليها، النارنج على الأغصان.
والمعنى: أن الشعور تعلقت بالشجرة فأشبهت الغربان على الأشجار، والدماء تطايرت فخضبت ورق الأغصان.
إنّ السّيوف مع الّذين قلوبهم ... كقلوبهنّ إذا التقى الجمعان
يقول: إن السيوف، إنما تعمل إذا كانت مع الشجعان الذين قلوبهم في المضاء كقلوب هذه السيوف عند اجتماع الجيشين.
تلقى الحسام على جراءة حدّه ... مثل الجبان بكفّ كلّ جبان
التاء: للخطاب، ومعناه: تلقى أيها السامع السيف القاطع مع جراءته في الحد، غير عامل، إذا كان في يدي الجبان، حتى كأنه جبان مثله.
وقيل: التاء ضمير السيوف.
يعني: أن السيوف التي في أيدي أصحاب سيف الدولة، الذين قلوبهم كقلوبها، تلقى سيوف الروم - مع جراءة حدها - غير قاطعة، فكأنها جبان مثل أصحابها الحاملين لها، وجبن السيوف: قلة المضاء.
رفعت بك العرب العماد وصيّرت ... قمم الملوك مواقد النّيران
العماد: عماد البيت، ويعبر به عن الشرف؛ لأن الرجل إذا كان شريفاً، كان عماد بيته رفيعاً. ومنه يقال في المدح: هو رفيع العماد، أي شريف، كثير الرماد. والقمم: جمع قمة، وهي وسط الرأس.
يقول: إن العرب تشرفت بك، وقتلت الملوك، فجعلوا هامهم أثافي لقدورهم.

أنساب فخرهم إليك وإنّما ... أنساب أصلهم إلى عدنان
عدنان: أبو العرب كلها.
يقول: العرب تنتسب إليك من حيث الفخر، وتنتسب إلى عدنان من جهة النسب: فكما أن عدنان أصل نسبها، فإنك أصل فخرها وشرفها.
يا من يقتّل من أراد بسيفه ... أصبحت من قتلاك بالإحسان
يقول: أنت تعم الناس بالقتل، فتقتل الأعداء بسيفك، والأولياء بإحسانك؛ من حيث الاستعباد، وأنا من جملة قتلى إحسانك.
فإذا رأيتك حار دونك ناظري ... وإذا مدحتك حار فيك لساني
يقول: إذا رأيتك تحير ناظري دونك، فلا يمكنني أن أنظر إليك ملء عيني؛ لهيبتك، وكثرة مآثرك، وإذا أردت مدحك حار في وصفك لساني، وعجز عن استيفاء مدحك عبارتي وبياني.
وتحدث بحضرة سيف الدولة: أن البطريق أقسم عند ملكه أن يعارض سيف الدولة في الدرب، ويجتهد في لقائه، وسأله إنجاده ببطارقته وعدده، فخيب الله ظنه وأتعس جده.
فقال أبو الطيب وأنشده إياها بحلب سنة خمس وأربعين وثلاث مئة. وهي آخر قصيدة قالها عند سيف الدولة.
قال ابن جني: قلت لأبي الطيب وقت قراءة هذه القصيدة عليه: إنه ليس في جميع شعرك أعلى كلاماً من هذه القصيدة، فاعترف بذلك وقال: كانت وداعاً.
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم ... ماذا يزيدك في إقدامك القسم ؟
يقول: عاقبة اليمين على عاقبة الحرب ندامة؛ لأنه إذا حلف على لقاء من لا يقاومه انهزم، وكان انهزامه أشنع، والملامة فيه أوقع، فيكون عاقبة اليمين الحنث واللوم، وعاقبة الحرب الانهزام، وهذا أشد من الانهزام بلا يمين، والقسم لا يزيد شجاعة الإنسان إذا لم يكن في نفسه شجاعة، يمكنه بها مقاومة خصمه. وعلى في قوله: على عقبى الوغى متعلق بلفظ اليمين.
وفي اليمين على ما أنت واعده ... ما دلّ أنّك في الميعاد متّهم
يقول للبطريق: إن يمينك يدل على تهمتك في نفسك، فيما تعده من الإقدام، فلو كنت تصدق في وعدك لم تحتج إلى اليمين لرفع التهمة.
آلى الفتى ابن شمشقيقٍ فأحنثه ... فتىً من الضّرب ينسى عنده الكلم
الكلم: جمع كلمة.
يقول: حلف ابن شمشقيقٍ على الإقدام على سيف الدولة، فأحنثه سيف الدولة، وحال بينه وبين مراده، بضرب ينسى عنده الأيمان، فلما ضربه بسيفه نسى يمينه وفر من بين يديه.
وفاعلٌ ما اشتهى يغنيه عن حلفٍ ... على الفعال، حضور الفعل والكرم
وفاعل: عطف على فتى.
يقول: أحنثه فاعل يفعل كل ما اشتهاه، لا يحتاج فيه إلى اليمين، بل يغنيه عن اليمين حضور ذلك الفعل الذي أراده، ويغنيه عنها أيضاً كرمه ومضاء عزمه، فهو إذا هم بأمر أمضاه.
كلّ السّيوف إذا طال الضّراب بها ... يمسّها غير سيف الدّولة السّأم
السأم: الملال.
يقول: كل السيوف إذا طال عليها الضرب تكل وتعجز عن القطع، إلا سيف الدولة فإنه لا يمل.
لو كلّت الخيل حتّى لا تحمّله ... تحمّلته إلى أعدائه الهمم
قال ابن جني: اختار أبو الطيب في تحمله الرفع لأنه فعل الحال، والنصب جائز على معنى إلى أن لا تحمله.
يقول: لو كلت خيله وعجزت عن حمله إلى أعدائه لكانت هممه وصحة عزائمه تحمله إليهم ليحاربهم.
أين البطارق والحلف الّذي حلفوا ... بمفرق الملك والزّعم الّذي زعموا
البطارق، والبطاريق: جمع بطريق، وهو القائد للروم. والزعم: أكثر ما يستعمل في القول من غير علم.
يقول: أين يمين قواد الملك حين حلفوا برأسه، وزعموا أنهم يثبتون لسيف الدولة ؟!
ولّى صوارمه إكذاب قولهم ... فهنّ ألسنةٌ أفواهها القمم
فاعل ولي ضمير سيف الدولة ومعناه: فوض إليه. وصوارمه: مفعوله الأول وإكذاب: المفعول الثاني.
يقول: فوض إلى سيفه تكذيب قول البطاريق، فالسيوف بمنزله الأفواه، فكأنها تكلمت في رءوسهم فقال لهم: كذبتم في يمينكم. ووجه التشبيه: أن السيوف تتقلقل فيها فيسمع عند وقعها في العظام ما يعلم منه كذبهم، فينوب ذلك عن قوله لهم: كذبتم.
نواطقٌ مخبراتٌ في جماجمهم ... عنه بما جهلوا منه وما علموا
يقول: هذه السيوف تنطق في جماجمهم، وتخبرهم عن سيف الدولة ما علموا من أحواله، وما جهلوا من أخباره.
الرّاجع الخيل محفاةً مقوّدةً ... من كلّ مثلٍ وبارٍ أهلها إرم

المحفاة: التي أحفاها الركض، يقال: حفى الفرس: إذا رق حافره، وأحفاه فارسه. ووبار من مدائن قوم عاد، خربت، وهي بين اليمن وعمان، والعرب تزعم أنها من مساكن الجن. وإرم: قوم عاد.
يقول: إن سيف الدولة هو الذي يرجع الخيل من الغزو، وقد أحفاها طول السير، حتى نزل فارسها عنها، فقادها رفقاً بها، بعد ما خرب أرض العدو، وأهلك، أهلها فترك تلك الأرض خراباً مثل وبار، وأهلها هلكى مثل إرم
كتلّ بطريقٍ المغرور ساكنها ... بأنّ دارك قنّسرون والأجم
قنسرون: بفتح النون الأولى. قال ابن جني: وكان المتنبي يكسرها. والأجم: موضع. وتل بطريق: مدينة خربها سيف الدولة.
يقول: إنه يخرب أرض العدو ويهلك أهلها كما خرب تل بطريق التي اغتر أهلها ببعدك عنهم وأنك في قنسرين، فقد رأوا أنك لا تقدر على أن تصل إليهم، فقصدتهم وخربت بلادهم.
وظنّهم أنّك المصباح في حلبٍ ... إذا قصدت سواها عادها الظّلم
وظنهم: عطف على قوله: بأن دارك.
يقول: اغتروا أيضاً بظنهم أنك لا تقدر أن تفارق حلب؛ خوفاً من أن تضطرب وتستولي عليها الأعداء، فلا يمكنك العود إليها، فشبهه فيها بالمصباح لأنه ينفي عنها ظلم الفتنة، كما ينفي المصباح ظلمة الليل.
والشّمس يعنون إلا أنّهم جهلوا ... والموت يدعون إلا أنّهم وهموا
يقول: جهلوا حيث شبهوك بالمصباح، ولم يعلموا أنك كالشمس، يعم نورها الأرض وتضيء الدنيا وهي بعيدة، وكذلك أنت تسوس جميع ممالكك وتدبر أحوال الناس وإن كنت بعيداً عنهم، وكذلك أنت كالموت لا كالمصباح، فغلطوا في تشبيهك بالمصباح، ولم يعلموا أنك كالموت لا يمتنع منك أحد ولا يبعد عليك متناوله.
فلم تتمّ سروجٌ فتح ناظرها ... إلا وجيشك في جفنيه مزدحم
سروج: مدينة، والهاء في ناظرها تعود إلى سروج. وفي جفنيه للناظر.
يقول: كانوا يغترون ببعدك منه فجئت إليهم أسرع من فتح سروج عينها، حتى ازدحم جيشك في عينها.
وقيل: أراد بازدحام الجيش في جفني الناظر عبارة عن امتلائهما بالغبار المرتفع من أرجل الخيل.
وقيل: معناه لم تصبح سروج إلاّ وخيلك مزدحمة عليها، فجعل الصباح لها بمنزلة فتح الناظر من النوم.
والنّقع يأخذ حرّاناً وبقعتها ... والشّمس تسفر أحياناً وتلتئم
النقع: الغبار. وحران: مدينة بالشام. والبقعة: بضم الباء، أرض يخالف لونها لون ما حولها.
وذكر أبو العلا المعري: أنه بفتح الباء وهكذا يروي قال: وهو موضع يقال له بقعة حران، وهذا أحسن لأنه لو لم يرد مكاناً مخصوصاً لم يكن لذكرها فائدة، لأن النقع إذا أخذ حران فقد أخذ بقعتها وإن لم تذكر.
يقول: جئت إلى سروج وعم غبار خيلك حران وسترها، وكانت الشمس تارة تظهر، حين انحسر عنها الغبار، وتارةً تستتر، حين تكاثف الغبار.
سحبٌ تمرّ بحصن الرّان ممسكةً ... وما بها البخل لولا أنّها نقم
حصن الران: من أعمال سيف الدولة.
يقول: كانت خيلك تمر بحصن الران كالسحاب، لأنها كانت تمطر النقم والهلاك، غير أنها كانت ممسكة عن الأمطار، وليس الإمساك عن بخل، ولكن ما فيها كانت نقماً وعقوبات، فلم تصبها على حصن الران؛ لأنها لم ترد هلاكها وهلاك أهلها.
جيشٌ كأنّك في أرضٍ تطاوله ... فالأرض لا أممٌ والجيش لا أمم
الأمم: القصد، والقرب. وتطاوله: فعل الأرض، والهاء: للجيش.
يقول: إن الجيش جيش ممتد متباعد الأطراف، يسير في أرض كذلك، فالأرض تطاول الجيش وتباريه في الطول، فلا الأرض متقاربة الطول، ولا الجيش، بل كلاهما طويل ممتد.
إذا مضى علمٌ منها بدا علمٌ ... وإن مضى علمٌ منه بدا علم
منها يعود إلى الأرض. والعلمان: كل واحد منهما الجبل. والهاء في منه تعود إلى الجيش. والعلمان: كل واحد منهما العلم المعروف: الذي هو الراية.
يقول: إذا غاب جبل من هذه الأرض بدا جبل آخر، وإذا مضت راية من جيشك بدت راية أخرى.
وشزّبٌ أحمت الشّعري شكائمها ... ووسّمتها على آنافها الحكم
الشزب: جمع الشازب، وهو الفرس الضامر. وقوله: أحمت الشعري شكائمها إنما قال ذلك؛ لأن طلوع الشعري يكون في شدة الحر، فأضاف الفعل إليها. والشكيمة: رأس اللجام. وقوله: فوسمتها. من السمة التي هي الكي. والحكم: جمع حكمة وهي ما على أنف الدابة.

يقول عطفاً على ما قبله: وظهرت خيل ضامرة وقد أحمت شدة الحر شكائمها، حتى صارت كالمكاوي، فوسمت أنوفها.
حتّى وردن بسمنينٍ بحيرتها ... تنشّ بالماء في أشداقها اللّجم
تنش: من النشيش، وهو صوت القلي، وصوت الحديد المحمي، إذا ألقى في الماء. وفاعل تنش: اللجم.
يقول: وردت خيلك بحيرة سمنين، وقد حميت شكائمها من شدة الحر، فلما شربت الماء، جعلت لجمها تنش في الماء نشيش الحديد المحمي إذا ألقي في الماء.
وأصبحت بقرى هنزيط جائلةً ... ترعى الظّبا في خصيبٍ نبته اللّمم
فاعل ترعى ضمير الخيل: أي أنهار راعية السيوف، مسببة لها في المرعى.
يقول: أصبحت الخيل جائلة في قرى هنزيط، تغير وتقتل، وأرسلت السيوف ترعى في منبت خصيب، وهي الرءوس: خصيبة بالشعور.
وقيل: إن فاعل ترعى الظبا أي كانت الظبا ترعى في رءوسهم الخصيبة من الشعور.
فما تركن بها خلداً له بصرٌ ... تحت التّراب ولا بازاً له قدم
الخلد: فأرةٌ عمياء فما تركن: أي الغارة والسيوف. وبها أي بقري هنزيط.
يقول: لم تترك الخيل والسيوف بقرى هنزيط شيخاً متوارياً من الأعداء منجحرا كالخلد في بطن الأرض إلا أنه ذو بصر، ولا شابا خفيفاً توغل في الجبال وتحصن بها كالباز، إلا أن طيرانه بقدم.
شبه المتوارين في البراري بخلد ذي بصر، والمتحصنين بالجبال بباز ذي قدم، إزاله للتوهم أنه خلد حقيقي، أو باز حقيقي، وبياناً أنه قصد به التشبيه والاستعارة.
ولا هزبراً له من درعه لبدٌ ... ولا مهاةً لها من شبهها حشم
اللبد: جمع لبدة الأسد، وهي ما تلبد على كتفه من وبره. والمهاة: البقرة الوحشية. والحشم: حاشية الرجل.
يقول: ما تركت بها شجاعاً أيضا مثل الأسد، عليه - مكان لبدته - درع، ولا امرأة كالمهاة ولها من أمثالها خدم.
ترمى على شفرات الباترات بهم ... مكامن الأرض والغيطان والأكم
الباء في بهم متعلق بترمى بهم: أي بالأعداء.
يقول: إن الأرض ترمى بالأعداء على شفار السيوف، وكل موضع استتروا فيه وهربوا إليه استخرجتهم الخيل وقتلتهم، فلم تكتمهم مكامن الأرض، ولا واراهم الغيطان، ولا حصنتهم الآكام.
وجاوزوا أرسناساً معصمين به ... وكيف يعصمهم ما ليس ينعصم ؟!
أرسناس: نهر عظيم. معصمين به: أي ممتنعين به.
يقول: لما عبروا أرسناس ظنوا أنه يحول بينك وبينهم، وكيف يعصمهم منك وهو لم يمكنه أن يعصم نفسه منك ؟! لأنك عبرته بخيلك، فلم يقدر على الامتناع عليك.
وما يصدّك عن بحرٍ لهم سعةٌ ... وما يردّك عن طودٍ لهم شمم
الشمم: الارتفاع.
يقول: لا يمنعك عن بحر الأعداء سعته، ولا يردك عن جبلهم ارتفاعه.
ضربته بصدور الخيل حاملةً ... قوماً إذا تلفوا قدماً فقد سلموا
حاملةً: نصب على الحال. وقوماً: نصب بحاملة. أي يحمل قوماً صفتهم ما بعده.
يقول: ضربت أرسناس بصدور الخيل وكانت تحمل من أصحابك قوماً يعدون التلف في الحرب سلامة، فيسرون به كما يسرون بالسلامة.
تجفّل الموج عن لبّات خيلهم ... كما تجفّل تحت الغارة النّعم
تجفل: أي أسرع في الذهاب.
يقول: إن الموج كان يتفرق يميناً وشمالاً عن صدور الخيل بالسرعة، كما تتفرق الإبل عند الإغارة عليها.
عبرت تقدمهم فيه وفي بلدٍ ... سكّانه رممٌ، مسكونها حمم
يقول: عبرت هذا النهر، وأنت تتقدم الجيش، وتقدمتهم أيضاً في بلد أحرقته حتى صار كالفحم، وصار أهلها رميما.
وفي أكفّهم النّار الّتي عبدت ... قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم
يقول: عبرت هذا النهر بخيلك، وفي أيديهم السيوف المجردة، وشبهها بالنار لبريقها، ولما جعلها ناراً جعلها معبوداً من قبل المجوس الذين يعبدون النار.
يعني: أن المجوس دانوا لها وخضعوا لشعارها من أول الدهر إلى يومنا هذا.
وقبل: تم الكلام عند قوله: وفي أكفهم النار التي عبدت ثم قال: قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم.
يعني: أن السيوف مضطرمة متألقة قبل زمان المجوس إلى زماننا هذا. فكأنه يقول: إن السيوف كالنيران الحقيقية، وهي النيران المعبودة. ثم بين أن اضطرامها تقدم زمان المجوس، يعني: أن سيوفه عتيقة.
هنديّةٌ إن تصغّر معشراً صغروا ... بحدّها أو تعظّم معشراً عظموا

يقول: هذه النارة هندية: أي سيوف مطبوعة بالهند، فهي تصغر المقتول وتعظم القتال، ويدرك بها العز والشرف.
قاسمتها تلّ بطريقٍ فكان لها ... أبطالها ولك الأطفال والحرم
يقول قسمت أهل هذه البلد بينك وبين سيوفك، فأعطيتها الأبطال، وأخذت لنفسك النساء والأطفال.
تلقى بهم زبد التّيّار مقربةٌ ... على جحافلها من نضحه رثمٌ
التيار: الموج. والمقربة: ها هنا، هي السفن. والرثم: بياض في شفة الفرس العليا. والضمير في بهم يعود إلى أصحاب الخيل وإلى السى.
يقول: سبيت الأطفال والحرم، وشحنت بهم السفن، وعبرت بهم النهر. وشبه السفن في النهر بالخيل المقربة، وشبه زبد الماء على مقاديم السفن بالرثم، وجحافل الخيل: أراد بها الخيل نفسها.
دهمٌ فوارسها ركّاب أبطنها ... مكدودةٌ وبقومٍ لا بها الألم
يقول: إن هذه الخيل دهم. يعني: أن السفن مطلية بالقار، وفوارسها يركبون بطونها، بخلاف الخيل التي يركب ظهورها، وهي مكدودة في السير، ولكن ليس بها ألم الكد، وإنما يلحق الكد والتعب قوماً آخرين، وهم الملاحون.
من الجياد الّتي كدت العدوّ بها ... ومالها خلقٌ منها ولا شيم
يقول: هذه السفن، هي بعض خيلك التي تكيد بها عدوك، ولكنها لا تشبهها في الخلقة ولا في الطبع.
نتاج رأيك في وقتٍ على عجلٍ ... كلفظ حرفٍ وعاه سامعٌ فهم
يقول: هذه السفن كانت نتيجة رأيك لما أردت أن تعبر النهر بالسبي، أنشأتها في أسرع وقت، وكانت المدة في اتخاذها، في القصر كمدة فهم السامع كلمة نطق بها الناطق.
وقد تمنّوا غداة الدّرب في لجبٍ ... أن يبصروك فلمّا أبصروك عموا
في لجب: أي في اختلاط أصوات. وروى: في لجب: أي في جيش ذا لجب.
يقول: كانوا يتمنون لقاءك حين كانوا على الدرب، فلما عاينوك عموا: أي ماتوا، فزالت أبصارهم.
وقيل: تحيروا لما نظروا إليك فلم يملكوا أبصارهم.
وقيل: عموا عن الرأي؛ لما لحقهم من الخذلان.
صدمتهم بخميسٍ أنت غرّته ... وسمهريّته في وجهه غمم
وروى صبحتهم بدل صدمتهم والغمم: كثرة الشعر على الناصية والقفا، شبه الجيش بفرس، وشبه سيف الدولة بغرته، والرماح بشعر ناصيته، وإنما شبهه بالغرة لتقدمه على الجيش، أو لأنه كان يزين الجيش كما تزين الفرس غرته
فكان أثبت ما فيهم جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم
يقول: كانت جسومهم أثبت شيء منهم؛ لأنها إذا سقطت عن الدواب ثبتت مكانها، والأرواح كانت تطير ولا تستقر.
والأعوجيّة ملء الطّرق خلفهم ... والمشرفيّة ملء اليوم فوقهم
الأعوجية: الخيل المنسوبة إلى أعوج، وهو فرس كريم كان لكندة، فأخذه بنو سليم في بعض أيامهم، فصار إلى بني هلال.
يقول: انهزموا وتبعتهم خيلك وكانت تملأ الطرق، لانبساطها على وجه الأرض. ولما كانت السيوف تعلوا في الجو، جعلها ملء النهار لأنه ما بين السماء والأرض ولأن النهار من الشمس والشمس تعلو.
إذا توافقت الضّربات صاعدةً ... توافقت قللٌ في الجوّ تصطدم
يقول: إذا اتفقت الضربات في الصعود إلى الرءوس: أي وقعت في وقت واحد، توافقت الرءوس في انحدارها، ويصطدم بعضها ببعض، وإنما قال: صاعدة لأن الحذاق يضربون السيوف من تحت إلى فوق وصاعدة نصب على الحال.
وأسلم ابن شمشقيقٍ أليّته ... ألاّ انثني فهو ينأى وهي تبتسم
يقول: انهزم وترك يمينه التي حلف، ألا انثني عنك، فكان يبعد هو في الهرب ويمينه تبسم من عمله بها.
لا يأمل النّفس الأقصى لمهجته ... فيسرق النّفس الأدنى ويغتنم
يقول: هو يتوقع القتل، ولا يطمع في أن يبقى، وهو النفس الأقصى، فيسرق النفس الأدنى: أي الأقرب منه ويعده غنيمة، ولا يأمل أن يتنفس نفساً بعده.
تردّ عنه قنا الفرسان سابغةٌ ... صوب الأسنّة في أثنائها ديم
السابغة: الدرع، وهي فاعلة ترد والهاء في عنه للبطريق.
يقول: إن الخيل كانت في إثره تطعن ظهره وهو منهزم، ولكن رد عنه رماح الفرسان درعه المحكمة، مع أن وقع الأسنة عليها في الكثرة كوقع المطر.
تخطّ فيها العوالي ليس تنفذها ... كأنّ كلّ سنانٍ فوقها قلم
فيها: أي في السابغة.

يقول: إنها درع حصينة، فكانت الرماح تخط عليها خطاً ولا تنفذها، كما يخط القلم على الألواح ولا ينفذها.
فلا سقى الغيث ما واراه من شجرٍ ... لو زلّ عنه لوارى شخصه الرّخم
روى: لوارى ولوارت وجسمه وشخصه وروى الرجم أي القبر والحجارة. وما في موضع نصب، لأنه مفعول سقي.
يعني: أنه لولا دخوله فيما بين الأشجار. وتواريه، لكان يقتل، ولكانت الرخم تأكله وتوارى شخصه، أو يواريه قبره فلا سقى الله هذا الشجر.
ألهى الممالك عن فخرٍ قفلت به ... شرب المدامة والأوتار والنّغم
الممالك: أي أهل الممالك، فحذف المضاف.
يقول: شغل الملوك عن هذا العز الذي رجعت به، شربهم المدام، واشتغالهم بسماع اللهو، وأصوات أوتار البربط والعود والنغم، وهي الأصوات الطيبة.
مقلّداً فوق شكر الله ذا شطبٍ ... لا تستدام بأمضى منهما النّعم
مقلداً: نصب على الحال، أي قفلت مقلداً. وشطب السيف: طرائقه.
يقول: قفلت من الغزو، وأنت مقلداً سيفاً ذا شطب، فوق شكر الله تعالى على ما أولاك من الظفر وكساك من النصر، فجعلت الشكر دثاراً والسيف شعاراً.
ثم قال: إن النعم لا تستدام بشيء أمضى من شكر الله تعالى، ومن السيف القاطع؛ لأن الشكر يحرس النعم من الزوال ويحفظها من حوادث الأيام والانتقال والسيف يذب عنها كيد الحساد فتدوم النعم.
ألقت إليك دماء الرّوم طاعتها ... فلو دعوت بلا ضربٍ أجاب دم
يقول: دماء الروم تطيعك، فلو دعوتها بلا سيف لاجابتك.
يعني: أنك قدرت على سفك دمائهم على أي وجه أردت.
يسابق القتل فيهم كلّ حادثةٍ ... فما يصيبهم موتٌ ولا هرم
يقول: القتل يسبق إلى الروم كل حادثة، فيميتهم القتل قبل أن يصيبهم شيب ولا هرم، ولا شيء من حوادث الأيام.
نفت رقاد عليٍّ عن محاجره ... نفسٌ يفرّح نفساً غيرها الحلم
يقول: نفي عن عينه النوم نفسه النفيسة، وهمته العالية، وكل نفس غيرها تسر بالأحلام الكاذبة.
القائم الملك الهادي الّذي ... شهدت قيامه وهداه العرب والعجم
يقول: هو قائم بشرائط الملك ومدبر لأمر رعيته، وهاد إلى معالم الدين، وقد حضرت ذلك منه، وعلمته سائر العرب والعجم.
ابن المعفّر في نجدٍ فوارسها ... بسيفه وله كوفان والحرم
يقول: هو ابن الذي قتل فرسان نجد، وعفرهم بالتراب، وهو قد ملك الكوفة والحجاز واستولى عليهما وكوفان: هي الكوفة ونواحيها. والحرم: مكة والمدينة. وأراد بما ذكر محاربة أبي الهيجاء والد سيف الدولة للقرامطة أصحاب الأحساء والبحرين.
وروى: وابن المعقر بالقاف وهو المقطع، من عقرت الدابة.
لا تطلبنّ كريماً بعد رؤيته ... إنّ الكرام بأسخاهم يداً ختموا
يخاطب نفسه أو صاحبه يقول: لا تطلب أحداً كريما بعد رؤيته فإن الكرام ختموا بأسخاهم، وهو سيف الدولة.
ولا تبال بشعرٍ بعد شاعره ... قد أفسد القول حتّى أحمد الصّمم
الهاء في شاعره لسيف الدولة، وأحمد الصمم أي وجد محموداً.
يقول: لا تفكر في شعر بعد شاعر سيف الدولة، وعنى به نفسه، فإن الشعراء قد ختموا به كما ختم الكرام بسيف الدولة، وهو خاتم الكرام وأنا خاتم الشعراء، وقد أفسد الشعر حتى صار الصمم محموداً، لأن الإنسان إذا سمع شعر أهل هذا العصر، تمنى أن يكون أصم لا يسمع لفساده واختلاله.
بذا آخر مدائحه في سيف الدولة، وما قاله فيه بحلب.
ثم مدحه بمصر بهذه الدالية.
فارقتكم فإذا ما كان عندكم ... قبل الفراق أذىً بعد الفراق يد
يقول معرضاً بسيف الدولة: كانت منكم أحوال أكرهها، فأعدها قبل الفراق أذى، فكنت أتأذى، فلما فارقتكم صارت تلك الإساة والأذى نعمة إلي وإحساناً، من حيث إني إذا تذكرتها أزالت عني الشوق: وقيل: إن معناه، شكرتكم قبل أن أجرب غيركم، فعلمت أن ما ظننته أذىً كان نعمة.
إذا تذكّرت ما بيني وبينكم ... أعان قلبي على الشّوق الّذي أجد
يقول: كلما اشتد حزني على مفارقتكم، وغلب علي الاشتياق إليكم، تذكرت ما كنتم تعاملونني به من الإساءة، فأتسلى وتطيب نفسي لفراقكم، فيكون الأذى من هذه الجهة نعمة ويداً.
وعلى الثاني: إذا تذكرت ما بيننا من الأحوال زادني الشوق والحزن على الفراق.

وتوفيت أخت سيف الدولة الكبرى، بميافارقين من ديار بكر لثلاث بقين من جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة، وورد الخبر إلى العراق فقال أبو الطيب يرثيها في شعبان. وأملاها لثلاث خلون من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة:
يا أخت خير أخٍ، يا بنت خير أبٍ، ... كنايةً بهما عن أشرف النّسب
كنيت الشيء وكنيت عنه: إذا تركت التصريح به، وعبرت بلفظ آخر يؤدي معناه. ونصب كناية على المصدر.
المعنى: أراد أن يقول: يا أخت سيف الدولة، ويا بنت أبي الهيجاء، فكنى بذلك عن قوله: يا أخت خير أخ يا بنت خير أب وأراد التصريح باسمها فعبر عنه بهذه العبارة، ثم قال: كناية بهما.
يعني: إذا قلت ذلك علم أن نسبها أشرف النسب، والغرض انتسابها إليهما لا يخص الأب وحده، وجعل كونها أختاً له: نسباً لها وهذا تعظيم شأن سيف الدولة.
أجلّ قدرك أن تسمى مؤبّنةً ... ومن يصفك فقد سمّاك للعرب
روى: أن تسمي وأن تدني وهما متقاربان. يقال: أسميته بكذا وسميته به، وقد جمع بينهما في البيت. والتأبين: مدح الميت. ومؤبنة: نصب على الحال.
يقول: أجل قدرك أن أذكر اسمك في مرثيتك، ولكني إذا وصفت ما فيك من المحاسن والمناقب، عرفتك العرب، لأن ذلك لا يوجد في غيرك.
وقيل اراد: أني أصفك بقولي يا أخت خير أخ، يا بنت خير أب، وهذه صفة يقع بها التمييز بينك وبين سائر النساء؛ لأن هذه الصفة ليست إلا لك خاصة. وإنما أعرض عن تسميتها؛ لأن تسمية النساء من قلة المروءة ما وجد إلى تعريفها - بغير التسمية - سبيلا، أو لأجل أن سيف الدولة ربما لحقته الغيرة إذا سمع التصريح باسمها، أو لأجل أنه أراد أن يعد محاسنها، والتعريف بالأوصاف المحمودة أجل من ذكر اللقب المحض الذي لا مدح تحته. ومثله لأبي نواس:
فهي إذا سمّيت فقد وصفت ... فيجمع الاسم معنيين معا
وأبو الطيب - رحمة الله - قلده.
لا يملك الطّرب المحزون منطقه ... ودمعه وهما في قبضة الطّرب
الطرب: خفة تصيب الإنسان من فرط الفرح، أو الجزع. والطرب: اسم فاعل منه.
يقول: الرجل الذي غلب الحزن على قلبه لا يملك منطقه ودمعه؛ لأنهما في قبضة الطرب، فهو مغلوب لا فعل له في ذلك.
غدرت يا موت كم أفنيت من عددٍ ... بمن أصبت وكم أسكتّ من لجب ؟؟!
اللجب: الصوت في الحرب.
يقول: يا موت غدرت بهذه المتوفاة: بعد أن كنت تصل بها إلى إفناء الأعداء: الذين هم الكفار، وإلى إسكات لجبهم، لأنها تجهز الجيش، وتنفق في سبيل الله تعالى.
وقيل: إن المعنى أنك أفنيت بإفنائها كثيراً من الناس، وأسكت أصواتهم، لأنهم ماتوا بموتها، لأن حياتهم كانت بها. وهذا مثل قول الآخر:
ولكنّ الرّزيّة فقد حيٍّ ... يموت بموته بشرٌ كثير
ومثله قول الآخر:
فما كان قيسٌ هلكه هلك آدم ... ولكنّه بنيان قومٍ تهدّما
وكم صحبت أخاها في منازلةٍ ... وكم سألت فلم يبخل ولم تخب
يقول: يا موت كم صحبت أخاها في الحروب ؟! وكم سألته أن يمكنك من تناول الأبطال فلم يبخل ؟! هو بما سألت، ولم تعد خائباً في سؤالك عنه، ثم غدرته ونقضت ما كان بينكما من المواصلة.
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
خبر: مرفوع بجاءني. وفي طوى ضمير على شريطة التفسير. وفي قول الكوفيين مرفوع بالفعل الأول وجاءني مسند إلى ضميره: أي حتى جاني هو. والجزيرة: مدينة معروفة على شط دجلة بين الموصل وميافارقين.
يقول: جاءني خبر موتها من الشام وقطع الجزيرة حتى وصل إلي، فلما سمعته التجأت إلى التعلل بالآمال الكاذبة فقلت: لعله يكون كذباً، فلم ينفعني ذلك.
حتّى إذا لم يدع لي صدقه أملاً ... شرقت بالدّمع حتّى كاد يشرق بي
يقول: فلما تحققت صدقه، ولم يبق فيه موضع أمل بكيت جزعاً، حتى سار دمعي وجرى في حلقي وشرقت، ثم زاد وفاض، حتى غمرني، فصرت في وسطه كالجرعة من الماء في الحلق.
تعثّرت به في الأفواه ألسنها ... والبرد في الطّرق والأقلام في الكتب
حذف الياء من به ضرورة، واكتفى بالكسرة عنها. وروى: تعثرت بك فيكون عدولا عن الغائبة إلى مخاطبة الخبر، والهاء في به تعود إلى الخبر.

يقول: لعظم هذا الخبر تعثرت الألسن في الأفواه، فلم تقدر على أن تنطق به إذا أرادت الإخبار عنه، وكذلك البرد الذي تحملت هذا الخبر تعثرت في الطرق، وتعثرت الأقلام في الكتب، فلم تقدر أن تكتب هذا الخبر.
كأنّ فعلةً لم تملأ مواكبها ... ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب
لما لم يصرح باسمها كنى عنه، وذكر وزنه من الفعل وكان اسمها خولة وديار بكر: ما بين الشام والعراق.
يقول: إنها ملأت ديار بكر بجيوشها، ووهبت الأموال، وخلعت، ثم زال ذلك كله بموتها، فكأنها لم تفعل شيئاً من ذلك.
ولم تردّ حياةً بعد توليةٍ ... ولم تغث داعياً بالويل والحربٍ
يقو: كأنها لم ترد حياةً على رجل بعد ما ولت عنه حياته. يعني: رجلاً أشرف على الهلاك، فأزالت عنه هلاكه، فكأنها ردت إليه حياته، وكأنها لم تغث ملهوفاً يقول: يا ويلاه ويا حرباه ! يعني: أنها كانت تفعل ذلك، فبطل ذلك بموتها.
أرى العراق طويل اللّيل مذ نعيت ... فكيف ليل فتى الفتيان في حلب ؟!
يقول: لما أخبرت بموتها طال علي الليل وأنا بالعراق لما دخل علي من الأسف، فكيف حال أخيها وهو في حلب ؟! يعني: إذا انت هذه حالي في طول الليل فليله أطول.
يظنّ أنّ فؤادي غير ملتهبٍ ... وأنّ دمع جفوني غير منسكب
أي: ايظن سيف الدولة أن فؤادي غير محترق بالحزن، وأن دمعي غير سائل على فقدها ؟!
بلى وحرمة من كانت مراعيةً ... لحرمة المجد والقصّاد والأدب
يقول: ليس الأمر كما يظن أني لم أتأسف على فقدها، بل تأسفت على فقدها ثم حلف بحرمتها فقال: وحرمة هذه المرأة التي كانت مراعية لحرمة المجد وحقوق القصاد، وحق الأدب، أن فؤادي ملتهب ودمعي منسكب لعموم هذه المصيبة القريب والبعيد.
ومن مضت غير موروثٍ خلائقها ... وإن مضت يدها موروثة النّشب
النشب: المال ومن في موضع الخبر، عطفاً على قوله: من كانت.
يقول: وحرمة من مضت، وخلائقها غير موروثة؛ لأنها لا توجد إلا فيها، وإن مضت هي موروثة المال، وأضاف النشب إلى اليد، لأن الكسب والتصرف في الغالب يقع بها. يعني إن لم تورث خلائقها فقد ورث مالها. وقد روى: مردودة النشب.
يعني: أن سماحتها التي ورثتها عن آبائها ردت عليها حياتها، حسن الذكر كما قال:
ردّت صنائعه إليه حياته
وغير موروثة نصب على الحال.
وهمّها في العلا والملك ناشئةٍ ... وهمّ أترابها في اللّهو واللّعب
الأتراب: جمع ترب وهو اللدة وأكثر ما يكون للمؤنث.
يقول: كان همها اكتساب المعالي وهي ناشئة حديثة السن، وهم أمثالها ومن كانت في سنها: اللهو واللعب. يعني: وحرمة من كانت كذلك.
يعلمن حين تحيّا حسن مبسمها ... وليس يعلم إلاّ الله بالشّنب
المبسم: الثغر. والشنب: برد الريق، وقيل أراد بالشنب ها هنا: الكناية عن المال.
والمعنى: أن أترابها يعلمن حسن مبسمها حين يجئنه؛ لأنها كانت تستعمل البشر إذا حييت، وذلك عنوان العطية، فهن يعرفن هذا القدر والله يعلم ما يتبع التبسم من المال، فكنى عن ذلك بالشنب حيث ذكر المبسم.
وقيل: أراد بالشنب المعني الحقيقي. يعني: أنهن يعرفن حسن المبسم فقط، وأما طيب ريقها وبرده فلا يعلمه أحد إلا الله تعالى، ولا تعلمه النساء فضلا عن الرجال ومثله قول جميل:
لا والذي تسجد الجباه له ... ما لي بما دون ثوبها خبر
ولا بفينا ولا هممت به ... ما ان إلاّ الحديث والنّظر
ومثله لبشار:
يا أطيب النّاس ريقاً غير مختبرٍ ... لا شهادة أطراف المساويك
ولغيره:
يخبّرني المسواك عن طيب ثغرها ... وليس بها إلا السّؤال بذي خبر
مسرّةٌ في قلوب الطّيب مفرقها ... وحسرةٌ في قلوب البيض واليلب
اليلب: ترسة تعمل من جلود الإبل، وقيل جلود تضفر ويضم بعضها إلى بعض وتلبس على الرأس مثل البيضة، وقيل: تلبس إذا لم يكن لهم درع وقيل تحت الجواشن، وقيل تحت البيض.
يقول: إن الطيب يسر بحصوله في مفرقها؛ لأنها كانت تستعمل الطيب، والبيض واليلب يتحسران عليها ويحسدان الطيب؛ لأنها لا تلبسهما لكونها امرأة.
إذا رأى ورآها رأس لابسه ... رأى المقانع أعلى منه في الرّتب

التقدير والمعنى: إذا رأى البيض رأس من يلبس البيض، ورأى هذه المرأة، علم أن المقانع أعلى منزلة من البيض؛ لأنها على رأسها، وهي أشرف من الرجال الذين يلبسون البيض واليلب.
فإن تكن خلقت أنثى فقد خلقت ... كريمةً غير أنثى العقل والحسب
الحسب: ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، وقيل: هو كرم الخلق.
يقول: إنها وإن كانت أنثى، فعقلها وحسبها مثل الذكور وحسبهم.
وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإن في الخمر معنىً ليس في العنب
تغلب: قبيلة؛ فلهذا أنثها فوصفها بالغلباء وهي تأنيث الأغلب والعنصر: الأصل.
يقول: هي وإن كانت من تغلب، ففيها من معاني الكمال وأنواع الخصال ما ليس في تغلب، كما أن الخمر وإن كانت من العنب، ففيها معان ليست فيه: من التفريح، والتصحيح للأبدان وطيب الرائحة، وغير ذلك. ومثله قوله في سيف الدولة:
وإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال
وكقوله في نفسه:
وما أنا منهم في العيش فيهم ... ولكن معدن الذّهب الرّغام
فليت طالعة الشّمسين غائبةٌ ... وليت غائبة الشّمسين لم تغب
يقول: كانت كالشمس فليتها بقيت ولم تغب، وليت الشمس التي تطلع كل يوم غابت وفقدت.
وليت عين الّتي آب النّهار بها ... فداء عين الّتي زالت ولم تؤب
العين الأولى: قرص الشمس، والثانية: عين المرأة المرثية.
وقيل: أراد بالعين نفس المرثية.
يقول: ليت عين الشمس التي تعود كل يوم بعد غروبها فداء عين هذه المرأة، أو فداء نفسها التي زالت بالموت ولم ترجع.
فما تقلّد بالياقوت مشبهها ... ولا تقلّد بالهنديّة القضب
يقول: ليس لها شبيه في النساء اللاتي يتقلدن بالحلي، ولا في الرجال الذين يتقلدون بالسيوف. والقضيب: السيف اللطيف الدقيق.
ولا ذكرت جميلاً من صنائعها ... إلاّ بكيت ولا ودٌّ بلا سبب
يقول: ولم أذكر جميل صنائعها إلا بكيت، وليس ودي لها بلا سبب، بل أودها لإحسانها إلي، وكل أحد إذا ود غيره فإنما يوده بسبب.
قد كان كلّ حجابٍ دون رؤيتها ... فما قنعت لها يا أرض بالحجب
يقول: كانت محجوبة لا تصل إليها العيون، فلم ترض بهذه الحجب، حتى حجبتها بنفسك.
ولا رأيت عيون الإنس تدركها ... فهل حسدت عليها أعين الشّهب ؟!
يقول مخاطباً للأرض: ما رأيت أحداً من الإنس يراها، فهل حسدت الكواكب على رؤيتها حتى حجبتها بنفسك عن إدراك الكواكب لها ؟!
وهل سمعت سلاماً لي ألمّ بها ؟ ... فقد أطلت وما سلّمت من كثب
يقول للأرض: أطلت عليها السلام، وأنا بعيد منها، فهل سمعت سلامي وصل إليها وهي في بطنك ؟
وكيف تبلغ موتانا الّتي دفنت ... وقد يقصّر عن أحيائنا الغيب ؟
الغيب: جمع غائب.
يقول مستبعداً لوصول سلامه إليها: كيف يصل سلامي من المكان البعيد إلى من دفن في التراب ؟ وهو يقصر عن الأحياء الغيب ! فالميت أحرى ألا يصل إليه السلام. وقيل: أراد بالحي سيف الدولة.
يا أحسن الصّبر زر أولى القلوب بها ... وقل لصاحبه: يا أنفع السّحب
الهاء في بها للمرأة المرثية، وفي صاحبه تعود على: أولى القلوب.
يقول: يا أحسن الصبر زر قلب سيف الدولة، فإنه أولى القلوب بأخته، وأقربهم منها، وقل لصاحب ذلك القلب: يا أنفع السحب؛ لأن عطاياه مهنئة، بلا من ولا كدر، كالسحاب بلا صاعقة.
وأكرم النّاس لا مستثنياً أحداً ... من الكرام، سوى آبائك النّجب
النجب: جمع نجيب، وهو الكريم. ومستثنياً: نصب على الحال. أي قل غير مستثن.
يقول: وقل لصاحبه يا أكرم الناس كلهم، من غير أن تستثني أحداً من الكرام، سوى آبائه الكرام الذين هو ينسب إليهم.
قد كان قاسمك الشّخصين دهرهما ... وعاش درّهما المفدىّ بالذّهب
المعنى: يا أحسن الصبر زر أولى القلوب به وقل لصاحبه: قد كان قاسمك الدهر أختيك فأخذ لنفسه الصغرى وترك لك الكبرى، فكانت كالذهب فدى به الدر. شبه الصغيرة بالذهب، والكبيرة بالدر في النفاسة.
وعاد في طلب المتروك تاركه ... إنّا لنغفل والأيّام في الطّلب
يقول: قد ترك لك الدهر الكبرى منهما، فعاد تاركها في طلب المتروكة. وهذا مثل قول الآخر:

وقاسمني دهري بنيّ بشطرهم ... فلمّا تقضّى شطره عاد في شطري
وقوله: إنا لنغفل مثل معناه: إنا غافلون عن حوادث الدهر، وهو في طلبنا، حتى يأتينا فجأة، ومثله للنمر بن تولب:
تدارك ما قبل الشّباب وبعده ... حوادث أيّام تمرّ وأغفل
ما كان أقصر وقتاً كان بينهما ... كأنّه الوقت بين الورد والقرب
تقرب الليلة، ترد الماء في صبيحتها.
المعنى: إن الوقت بينهما كان قريباً حتى كأن الصغيرة ماتت عشية، والكبرى ماتت في صبيحة تلك العشية، وكأن ما بينهما قدر ما بين القرب والورد من الوقت.
جزاك ربّك بالأحزان مغفرةً ... فحزن كلّ أخي حزنٍ أخو الغضب
يقول: جزاك الله تعالى مغفرة بهذا الحزن الذي أصابك، فهو نوع من الذنب. قال الله تعالى: " لكيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ " و: " لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ ما أصَابَكُمْ " والحزن: أخو الغضب؛ لأنهما من أصل واحد، وإنما يفترقان من جهة الرتبة: فالحزن: هو سخط فعل من هو فوقك، والغضب: سخط فعل من هو دونك؛ لأنه غضب لما نال منه الدهر.
وأنتم نفرٌ تسخو نفوسكم ... بما يهبن ولا يسخون بالسّلب
يقول بياناً لقوله: إن الحزن أخو الغضب: إن حزنك إنما هو غضب على الدهر وأنفة من أن الدهر قدر على غضبك على أختك، لأنك وقومك تسخون بالمال عند السؤال، ولا تعطون عند المقابلة والاستيلاء.
حللتم من ملوك النّاس كلّهم ... محلّ سمر القنا من سائر القصب
يقول فضلكم على سائر الملوك، فضل الرماح على ما سواها من القصب.
فلا تنلك اللّيالي إنّ أيديها ... إذا ضربن كسرن النّبع بالغرب
النبع: شجر صلب تتخذ منه القسي، ومنبته في رءوس الجبال، وما ينبت في سفح الجبال فهو: الشريان وما كان في الحضيض فهو: الشوحط وجميعها شجرتها واحدة واختلفت أسماؤها لاختلاف منابتها والغرب: شجر ضعيف يشبه شجر الخلاف.
يقول: لا أصابتك حوادث الدهر، فإن أحداً لا يقدر على دفعها، فمتى شاءت الليالي قهرت القوى بالضعيف، والعزيز بالذليل، والأصيل بالدخيل، وضرب النبع والغرب مثلا.
ولا يعنّ عدواً أنت قاهره ... فإنّهنّ يصدن الصّقر بالخرب
الخرب: ذكر الحباري وجمعه خربان.
يقول: لا أعانت الليالي عدواً لك مقهورا في يدك، ذليلا في جنبك؛ فإنها إن أعانته عليك قهرك، وإن كان أضعف منك شوكةً فإنها لو أرادت أن تصيد الصقر - مع قوته - بالخرب - مع ضعفه - لامكنها ذلك. وروى: ولا يعز عدو أي لا عز عدوك وروى: ولا يعز عدواً أي الليالي لا أعزت عدواً.
وإنه سررن بمحبوبٍ، فجعن به ... وقد أتينك في الحالين بالعجب
يقول: إن الليالي تجمع بين المسرة والمصيبة، وهما ضدان وهذا من العجب: وقيل: العجب أنها سرتك بحياة المرثية مسرةً عظيمة، وفجعتك بموتها فجيعة عظيمة.
وقيل: إنها سرت من غير علة، وفجعت من غير علة.
وربّما احتسب الإنسان غايتها ... وفاجأته بأمرٍ غير محتسب
غايتها: أي غاية الليالي.
يقول: ربما حسب الإنسان لنفسه غاية أحداث الليالي، وأن يعيش دهراً طويلا فتفاجئه الليالي بما لم يكن في حسابه.
وما قضى أحدٌ منها لبانته ... ولا انتهى أربٌ إلاّ إلى أرب
اللبانة: الحاجة وكذلك الأرب الإربة. وقيل الأرب: الغرض.
يعني: أن الإنسان ما دام في الدنيا لا يقضي منها وطره، وإن عاش دهراً طويلا، لأن ورآء كل حاجة حاجة أخرى، وهو كقول الآخر:
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجةٌ ما بقي
تخالف النّاس حتّى لا اتّفاق لهم ... إلا على شجبٍ، والخلف في الشّجب
الشجب: الهلاك، وهو شجب وشاجب: أي هالك.
يقول: إن الناس اختلفوا في كل شيء، حتى لا يوجد منهم اتفاق إلا في الموت، فإنهم اتفقوا على كونه ومع ذلك اختلفوا فيه.
فقيل: تخلص نفس المرء سالمةً ... وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
هذا تفسير للخلاف في الموت.
يعني: أن الناس مع اتفاقهم على أنه كائن، اختلفوا فيه أيضاً، فقال قوم: إن الجسم يموت والنفس تبقى حية، وهو قول الفلاسفة. وقال آخرون: تموت النفس مع الجسم، وهذا قول أهل الحق. والله أعلم بالحق.
ومن تفكّر في الدّنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتّعب

يقول: من تفكر في أحوال الدنيا وتقلبها بأهلها، وفي حال نفسه فيها، وأراد الوقوف على حقيقة الأمر، أتعب فكره وانقطع عاجزاً لم يحصل له علم بأحوالها ولم يقف على حقيقة أمرها.
وقال يمدح سيف الدولة، وقد أنفذ إلى أبي الطيب بعد مجيئه من مصر - وهو بالعراق - هدية مرةً بعد مرة، ومالاً، وذلك في شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاث مئة:
ما لنا كلّنا جوىٍ يا رسول ؟! ... أنا أهوى وقلبك المتبول
جو: أي حزين، والجوى: الحزن. والمتبول: المستهام في الهوى، كأنه أصيب بنبل، اتهم رسوله بمشاركته إياه في حبه.
يقول: يا رسول ما لكل واحد منا حزين بحب هذه الجارية ؟ ولم أنا العاشق وقلبك المستهام المحزون !
كلّما عاد من بعثت إليها ... غار منّي وخان فيما يقول
يقول: كلما عاد رسولي من عندها وجدت فيه الحسد علي، والغيرة من مراسلتي ومواصلتي، وخان فيما يؤديه من المراسلة.
أفسدت بيننا الأمانات عينا ... ها، وخانت قلوبهنّ العقول
الكناية في قلوبهن للعقول وخان فعلها أيضاً، والتقدير: وخانت العقول قلوبهن، ونسب القلوب إلى العقول؛ لأنها محلها.
يقول: إن عينيها أفسدت ما بيننا من الأمانات، فكل من ينظر إلى عينيها عشقها وغلبه الهوى على حفظ الأمانات فخان فيما يؤديه من الرسالات، وخانت العقول قلوب أصحابها، من حيث لم تصور للقلوب وجوب حفظ الأمانة وحسنت للقلوب الغدر والخيانة.
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشّو ... ق إليها والشّوق حيث النّحول
يقول: تشتكي المحبوبة من الشوق مثلما اشتكيت، ثم عرض بتكذيبها في شكواها فقال: والشوق حيث النحول: أي لو كانت تشتاق كما زعمت لنحلت كما نحلت؛ لأن النحول لا يفارق الاشتياق، فلما لم تنحل دل ذلك على خلاف ما تدعيه.
وإذا خامر الهوى قلب صبٍّ ... فعليه لكلّ عينٍ دليل
يقول: إذا خالط الهوى قلب صب، ظهرت عليه أماراته، فكل عين رأته استدلت بهذه الأمارات على ما في قلبه من ألم الشوق.
زوّدينا من حسن وجهك ما دا ... م فحسن الوجوه حالٌ تحول
ما دام: أي ما ثبت. وتحول: أي تنتقل وتزول.
يقول: متعينا بالنظر إلى حسن وجهك، ما دام الحسن معك، فإنه يزول ولا يدوم.
وصلينا نصلك في هذه الدّن ... يا فإنّ المقام فيها قليل
يقول: صلينا ما دمنا في الدنيا؛ فإنها دار زوال، والمقام فيها قليل، ففي قريب تزول.
من رآها بعينها شاقه القطّا ... ن فيها كما تشوق الحمول
القطان: المقيمون والحمول: الأحمال.
يقول: من رأى الدنيا بعين الدنيا، كما هي عليه، تمنى المقام فيها، كما يتمنى العاشق المقام مع أحمال المعشوق.
وقيل: معناه أن الناس في الدنيا على سفر، فمن نظر إلى الدنيا ووقف على حقيقتها علم أن المقيم فيها كالراحل عنها، فكما يجزع لفراق أصحاب الحمول ويشتاق للمحتملين، كذلك أيضاً يجزع للمقيمين، ويشتاق إليهم، فإنهم عن قريب راحلون ومثله:
وفارقتهم والدّهر هام لفرقةٍ ... أواخره دار البلى وأوائله
إن تريني أدمت بعد بياضٍ ... فحميدٌ من القناة الذّبول
أدم يأدم: أي مال لونه إلى الأدمة. وهي حمرة تضرب إلى السواد.
يقول: إن كانت الأسفار لوحت وجهي، فليس ذلك بعيب، وإن كان عيباً في سواي، بل هو وصف محمود؛ لدلالته على طلبي لمعالي الأمور، كما أن الذبول محمود في القناة، وإن كان مذموماً في غيرها.
صحبتني على الفلاة فتاة ... عادة اللّون عندها التّبديل
أراد بالفتاة الشمس؛ لأن الدهر لا يؤثر فيها، فكأنها كل يوم جديد.
يقول: صحبتني في الفلاة الشمس التي عادتها أن تغير الألوان، فغيرت لوني وأورثتني الأدمة.
يعني: أن الذي غير لوني طول الأسفار وملازمة القفار.
سترتك الحجال عنها ولكن ... بك منها من اللّمي تقبيل
اللمي: سمرة تعلو الشفة.
يقول لمحبوبته: إن الشمس لم تغير لونك؛ لأن الحجال سترتك عنها وإن على شفتك سمرة تشبة لوني فكأن الشمس قبلت شفتك، فهذه السمرة فيها من تقبيل الشمس إياك.
مثلها أنت لوّحتي وأسقم ... ت وزادت أبهاكما العطبول
لوحت الشيء بالنار: إذا غيرته وسفعت وجهه والعطبول: الناعمة الجسم الطويلة العنق.

يقول: أنت مثل الشمس حسناً وإساءة، فهي لوحتني وأنت أسقمتني، وكلاكما دلت بالبهاء، وأبهاكما زادت في الإساءة والتأثير، وهي العطبول. يعني: كما زادت عليها في البهاء والنعومة، زادت في الإساءة إلي والتحول.
نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ ... أطويلٌ طريقنا أم يطول ؟
أدرى: أفعل التفضيل من دريت.
يقول: نحن أعلم بطريقنا هل هو طويل على الحقيقة، أم يطوله الشوق إلى المقصود، أو العوائق من رغبتي إلى غير المقصود، من الملوك ومن المرض وغير ذلك، وإن كنا نسأل عن الطريق ونستخبر الركبان عن المسافة بيني وبينه.
وكثيرٌ من السّؤال اشتياقٌ ... وكثيرٌ من ردّه تعليل
يقول: أنا أسأل عن حال الطريق مع علمي بها؛ اشتياقاً إلى المقصود، وكثير من السؤال يكون من فرط الاشتياق، لا عن جهل وطلب معرفة. وقوله: وكثير من رده تعليل: أي ربما رد في جواب السائل ما ليس بالجواب، وإنما هو تعليل وتطييب لنفس السائل، كقولك لمن سألك عن مكان: قد بلغته ولم يبق إلا يسير. والهاء في رده للسؤال: أي وكثير من رد جوابه، ثم حذف المضاف.
لا أقمنا على مكانٍ وإن طا ... ب ولا يمكن المكان الرّحيل
لا أقمنا جواب قسم محذوف: أي والله لا أقمنا على مكان وإن طاب ذلك المكان. وإن المكان لا يمكنه الرحيل معنا إلى سيف الدولة.
يطمع سيف الدولة بالرجوع إليه.
يقول: والله لا أقمت ببلد وإن طاب لي، إلا أن يرحل معي إليك، فكما أنه لا يمكنه الرحيل كذلك لا أقيم عليه، والواو للحال، كأنه قال: لا أقمنا على مكان غير متمكن من الرحيل معنا.
وقيل: لا أقمنا: بمعنى الدعاء كقولك: لا يفضض الله فاك.
كلّما رحبّت بنا الرّوض قلنا: ... حلبٌ قصدنا وأنت السّبيل
يقول: كلما نزلنا روضة فرحبت بنا كي ننزل عليها، أي أظهرت لنا حسنها وخضرتها وطيب مكانها، فجعل ذلك بمنزلة البشر منها، والترحيب للمقام فنقول لها: حلب قصدنا، وأنت طريقنا إليها.
وقيل: أراد رحب بنا أهل الأرض.
فيك مرعى جيادنا والمطايا ... وإليها وجيفنا والذّميل
الوجيف، والذميل: كلاهما سير سريع.
يقول: وقلنا للروض: وأنت طريقنا ومرعى خيلنا وإبلنا، ومسيرنا إلى حلب، وأنث الروض؛ لأنها جماعة الروضة.
والمسمّون بالأمير كثيرٌ ... والأمير الّذي بها المأمول
يقول: الأمراء من حيث الاسم في الدنيا كثير، والأمير الذي بها: أي بحلب، هو الذي يرجى فضله ويؤمل نائله.
الّذي زلت عنه شرقاً وغرباً ... ونداه مقابلي لا يزول
يقول: الأمير المأمول الذي بعدت عنه، وسافرت شرقاً وغرباً، وعاؤه مقابل لي حيثما كنت فهو لا يفارقني.
ومعي أينما سلكت كأنّي ... كلّ وجهٍ له بوجهي كفيل
أي كل ناحية وجهة من الأرض.
يقول: نداه معي أينما توجهت، حتى كأن كل مكان كفيل له بوجهي، حتى يوصلني إليه.
وإذا العذل في النّدى زاد سمعاً ... ففداه العذول والمعذول
يقول: إذا سمع العذل أحد في الجود، سمع عذله أو لم يسمعه، ففدى الله سيف الدولة كل عاذل، فإنه لا يصغي إلى عذل عاذل.
وموالٍ تحييهم من يديه ... نعمٌ غيرهم بها مقتول
وموال: عطف على قوله: ففداه العذول والمعذول: يعني جعل الله أصحابه وعبيده فداءً له، فإنهم إنما يعيشون بنعمه. وقوله: غيرهم بها مقتول: معناه أنه يهبهم المال والخيل، ويعطيهم الأسلحة فيقتلون بها أعداءهم.
وقيل: معناه يقتل أعداءه فيغنم أموالهم، ويهبها أولياءه فيحييهم بها.
فرسٌ سابق ورمحٌ طويلٌ ... ودلاصٌ زغفٌ وسيفٌ صقيل
الدلاص: الدرع البراقة. والزغف: اللينة اللمس، وهذا بدل من قوله: نعم التي تقدم ذكرها وتفسيرها.
كلّما صبّحت ديار عدوٍّ ... قال: تلك الغيوث، هذي السّيول
يقول: كلما صبحت نعمه التي هي: الخيل والسلاح والموالي والأصحاب ديار عدو قال العدو: هذه السيول من تلك الغيوث، وأراد بالغيوث: سيف الدولة وبالسيول: مواليه وسلاحه.
يعني: أنهم إنما قدروا على أعدائهم بسيف الدولة، كما أن السيف يكون من المطر.
وقيل: الغيوث: هي عطايا سيف الدولة. والسيول: ما وهبه لأبي الطيب. والمعنى: أنه وهبني هذه الأشياء فمتى قصدت بهذه الأجناس ديار العدو قال العدو: تلك العطايا التي هي كالأمطار تتولد منها هذه السيول.

دهمته تطاير الزّرد المح ... كم عنه كما يطير النّسيل
النسيل: الوبر الساقط عن البعير. والهاء في دهمته للعدو.
يقول: دهمت العدو خيل سيف الدولة ومواليه فجأة، فكانت تضربه فتطاير حلق الدرع عنه، كما يسقط الوبر عن البعير، فلا تغنيه الدرع.
تقنص الخيل خيله قنص الوح ... ش ويستأسر الخميس الرّعيل
الرعيل: القطعة من الخيل المتقدمة.
يقول: خيله تصطاد خيول الأعداء اصطياد الوحش، والرعيل من خيله، يأسر الجيش العظيم من عسكر الأعداء.
وإذا الحرب أعرضت زعم الهو ... ل لعينيه أنّه تهويل
الهول: الخوف العظيم، وكل أمر عظيم، والتهويل: ما لا حقيقة له. وأعرضت: أي قربت وظهرت.
يقول: إذا عرضت لسيف الدولة الحرب لم يعبأ بهولها، بل يستحقرها، فكأن الهول يقول: ليس لي حقيقة، فلا تبالي بي؛ لأني تهويل ولست بهول.
فإذا صحّ فالزّمان صحيحٌ ... وإذا اعتلّ فالزّمان عليل
يقول: أحوال الزمان منوطة به، فاستقامة الزمان وصحته باستقامة أمره، وصحته وعلته، باعتلاله.
وإذا غاب وجهه عن مكانٍ ... فيه من نثاه وجهٌ جميل
النثاء: في الخير والشر والثناء: في الخير خاصة.
يقول: إذا غاب وجهه عن مكان، ناب عنه ذكره الجميل فيه مناب وجهه.
ليس إلاّك يا عليّ همامٌ ... سيفه دون عرضه مسلول
الأولى أن يقول: إلا إياك لكن هذا جائز.
يقول: ليس أحد من الملوك يذب عن عرضه بسيفه غيرك يا سيف الدولة.
كيف لا يأمن العراق ومصرٌ ... وسراياك دونها والخيول ؟!
كيف لا يأمن من الملوك العراق ومصر ؟! وأنت تذب عنهم بسراياك التي تبعثها إلى الروم، وقتالك لهم.
لو تخرّمت عن طريق الأعادي ... ربط السّدر خيلهم والنّخيل
السدر: رفع لأن فاعل ربط والنخيل معطوف عليه ومعناه أمسك السدر خيلهم إذا ربطت إليه وتخرمت بمعنى عدلت.
يقول: لو عدلت عن طريق الأعادي الذين هم الروم وخليت طريقهم، لدخلوا العراق ومصر، ولربطوا خيلهم في السدر والنخيل، وإنما خصهما لأنهما ليسا في ديار الروم.
ودرى من أعزّه الدّفع عنه ... فيهما أنّه الحقير الذّليل
فيهما أي في العراق ومصر.
يقول: لو انحرفت عن طريق الروم، لعلم من صار عزيزاً بالعراق ومصر بدفعك عنه أنه الحقير الذليل، وأن عزه بمدافعتك عنه وهذا تعريض بالخليفة، وكافور.
أنت طول الحياة للرّوم غاز ... فمتى الوعد أن يكون القفول ؟
طول: نصب على الظرف.
يقول: أنت طول عمرك تغزو الروم، فمتى ترجع إلى قوم آخرين أو متى تستريح من التعب ؟!
وسوى الرّوم خلف ظهرك رومٌ ... فعلى أيّ جانبيك تميل ؟
يقول: سوى الروم روم أخر من البوادي والأعراب، فإنهم بمنزلة الروم، فعلى أيهما تميل، لأنك قد تمل من الحرب والقتال.
وقيل: إنما عنى بذلك عضد الدولة يحرضه على المجيء إلى العراق ومقاتلته إذ كان بينهما عداوة.
قعد النّاس كلّهم عن مساعي ... ك وقامت بها القنا والنّصول
يقول: عجز الناس أن يسعوا مثل سعيك، فقامت بمساعيك الرماح والسيوف فهي تعينك على مساعيك.
ما الّذي عنده تدار المنايا ... كالّذي عنده تدار الشّمول
ما للنفي.
يقول: ليس الملك الذي تدار عنده المنايا ويشتغل بالحروب والقتال، كالملك الذي تدار عنده الخمر ويشتغل باللهو واللعب والشرب، عن الاجتهاد في الحرب والقتال.
لست أرضى بأن تكون جواداً ... وزماني بأن أراك بخيل
يقول: لا أرضى بأن تبعث إلي الهدايا وأنا متأخر عنك، وزماني يبخل علي برؤيتك ويمنعني مشاهدتك.
نغّص البعد عنك قرب العطايا ... مرتعى مخصبٌ وجسمي نحيل
يقول: كدر بعدي عنك ما تبعثه إلي من العطايا، فمربعي خصيب بعطاياك وجسمي نحيل للوعة الشوق إلى لقياك.
إن تبّوأت غير دنياي داراً ... وأتاني نيلٌ فأنت المنيل
تبوأت: أي سكنت.
يقول: عطاياك تصل إلي بكل مكان توجهت إليه فلو خرجت من الدنيا وسكنت داراً غيرها ثم وصل إلي البر والنيل لكنت أنت المعطي لذلك البر.
من عبيدي ... إن عشت لي ألف كافو رٍ ولي من نداك ريفٌ ونيل

الريف: ما أحدق بسواد العراق وأشرف عليه من نجد، والريف أيضا رستاق مصر وقراها - وهو المراد ها هنا - وهو ما كان تحت النيل، وما كان فوقه الصعيد، والنيل: نهر مصر، وهو أيضاً نهر بالعراق جاء من الفرات، ويسقي سواد الكوفة.
يقول: إن عشت لي أعطيتني من المال ما أشتري به من المماليك، وأسمي ألفاً منهم كافوراً، وحصل لي من جهتك ريف ونيل: أي تملك مصر كلها وتهب لي ما على النيل من ريفه.
ما أبالي إذا اتّقتك المنايا ... من دهته حبولها والخبول
الحبول: الدواهي والخبول: الفساد.
يقول: إذا سلمت من المنايا فلا أبالي بمن أصابته المنايا، فإنك عوض عن كل هالك.
وورد المستنفرون من الثغور على سيف الدولة، يذكرون إحاطة الدمستق وجيوش النصرانية بطرسوس واستسلام أهلها إن لم يغاثوا، أو يبادروا، وكان في بقية علة عرضت له، فبرز للوقت وسار، وكان الدمستق قد شحن الدرب الذي يلي الثغور والشام بالرجال، فلما اتصل بالدمستق خبره أفرج عن منازلة طرسوس، وولي على عقبه قافلاً إلى بلده ولم يظفر بشيء، وبلغ الخبر أبا الطيب وكتب إليه سيف الدولة كتاباً يستدعيه فأجابه في شوال. سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة.
فهمت الكتاب أبرّ الكتب ... فسمعاً لأمر أمير العرب
سمعاً: نصب على المصدر، وكذلك في البيت الذي يليه، وهو قوله: طوعاً وابتهاجاً وأبر الكتب: أي أصدقها. وقيل: أبلغ الكتب وأصدقها في البر بالمكتوب إليه.
وطوعاً له وابتهاجاً به ... وإن قصّر الفعل عمّا وجب
الابتهاج: الفرح، والهاء في به وله للكتاب، ويجوز أن يكون ضمير الأمير: أي سميع مطيع لأمرك، وإن كنت مقصراً عن واجب حقك.
وقيل: معناه أنا مطيع لك، وإن كنت مقصراً في حقي.
وما عاقني غير خوف الوشاة ... وإنّ الوشايات طرق الكذب
ما عاقني: أي ما منعني.
يقول: ما منعني من خدمتك وقصدي إليك إلا ما سعى بي إليك السعاة من السعايات، وأنواع الوشايات، فكانوا يغرونك بي وبالإساءة إلي، والوشايات طرق الكذب يعني إنهم إذا وشوا كذبوا، وزادوا، فالوشايات لا بد لها من الكذب والزيادة.
وتكثير قومٍ وتقليلهم ... وتقريبهم بيننا والخبب
التقريب؛ ضرب من سير الفرس، والخبب: السير السريع، وعنى بها ها هنا السعاية.
يقول: إنما منعني من خدمتك قول الوشاة، وتكثيرهم قولهم مرة، وتقليلهم أخرى، وتقريبهم وتخببهم في الإفساد بيني وبينك. يعني: أنهم يستعملون كيدهم من كل وجه.
وقد كان ينصرهم سمعه ... وينصرني قلبه والحسب
يقول: إنه كان يسمع من الوشاة ما يقولون، وهذا ينصرهم، ولكن كان قلبه وكرمه معي، لأنه لم يصدقهم على قولهم، فهذا كان نصرة لي.
وما قلت للبدر أنت الّلجين ... ولا قلت للشّمس أنت الذّهب
يقول: لم أنقص من مدحك شيئاً، كما ينقص من البدر إذا شبه بالفضة، والشمس إذا شبهت بالذهب، حتى تغريهم بي وتغضب علي.
فيقلق منه البعيد الأناة ... ويغضب منه البطيء الغضب
يقول: ما قلت له ما يوجب نقصاً له حتى يقلق ويضطرب مع حلمه وأناته ومعنى قوله: البعيد الأناة هو تمام الحلم وغاية الرفق، كما يقال: بعيد الغور أي ما قلت شيئاً ينكره، حتى يغضب البطيء الغضب، وأراد بالبعيد الأناة والبطيء الغضب: سيف الدولة.
وما لاقني بلدٌ بعدكم ... ولا اعتضت من ربّ نعماي رب
ما لاقني: أي حبسني. يقال: دخلت المدينة فما لاقتني، أي: ما أعجبتني وما حبستني. ويقال: لاقني وألاقني، ومنه قولهم: لقت الدواة ولقتها بكسر اللام وضمها: إذا حركتها ليعلق بها المداد، ويقال للكرسفة الليقة. وقوله: من رب نعماي رب في موضع النصب، وكان من حقه أن يقول: رباً لأن المنصوب المنون إذا وقف عليه أبدل التنوين ألفاً، ولكنه أجراه مجرى المرفوع والمجرور في إسقاط التنوين في الوقف، ومثل هذا جائز في القافية، وخفف الباء أيضاً؛ لأن الحرف المشدد إذا وقع حرف الروى خفف.
يقول: ما حبسني بلد منذ فارقتكم، ولا وجدت من جميع الملوك عوضاً عنكم. وخاطبه بخطاب الجمع: تعظيماً له وتفخيماً لقدره.
ومن ركب الثّور بعد الجوا ... د أنكر أظلافه والغبب
غبب الثور وغبغبه: ما تدلى تحت حلقه.

يعني: لو اعتضت منه ملكاً غيره، كنت مثل: من ترك الفرس الجواد وركب الثور، ومثله قول خداش بن زهير:
ولا أكون كمن ألقى رحالته ... على الحمار وخلّى صهوة الفرس
وما قست كلّ ملوك البلاد ... فدع ذكر بعضٍ، بمن في حلب
التقدير: ما قست كل ملوك البلاد بمن في حلب.
المعنى: أنا لا أقيس به جميع الملوك، فكيف أقيس به بعضهم ؟!
ولو كنت سمّيتهم باسمه ... لكان الحديد وكانوا الخشب
الخشب: جمع خشبة.
يقول: كيف أقيس به غيره من الملوك؛ وهم إلى جنبه كالخشب من الحديد ؟! ولو سميتهم باسم سيف الدولة، لكان هو سيفاً حديداً، وكانوا هم سيوف خشب.
أفي الرّأي يشبه، أم في السّخا ... ء أم في الشّجاعة، أم في الأدب ؟
يقول: في أي شيء من مناقبه يشبهونه في رأيه ؟ أم في سخائه ؟ أم في شجاعته ؟ أم في أدبه! يعني: أنه أفضل منهم في هذه الأوصاف.
مبارك الاسم، أغرّ اللّقب ... كريم الجرشّي، شريف النّسب
الجرشي: النفس.
يقول: هو مبارك الاسم، لأن اسمه علي والعلو محبوب مبارك. وقوله: أغر اللقب: أي مشهور اللقب، لأنه إذا قيل سيف الدولة عرف في الآفاق، وهو كريم النفس، شريف النسب؛ لأنه من العرب وآباؤه الأمراء.
أخو الحرب، يخدم ممّا سبى ... قناه، ويخلع ممّا سلب
يخدم: من قولك أخدمت الرجل، إذا أعطيته خادماً يخدمه. وفاعل سبي: قناه، وأسند الفعل إليه، لأنه يستعان به على السبي.
يقول: هو أخو الحرب أي عارف بها، كما يعرف الأخ أخاه، أو يحبها كما يحب الأخ أخاه، أو ملازم لها ونشأ معها كما ينشأ الأخ مع أخيه، وهو يسبي الجواري والغلمان، ثم يهبها لأصحابه، ويخلع عليهم مما سلب من أعدائه.
إذا حاز مالاً فقد حازه ... فتىً لا يسرّ بما لا يهب
يقول: إذا حاز المال وجمعه واستفاده، فإنما يحوز للهبة، وهو الفتى الذي لا يسر بما لا يهب.
وإنّي لأتبع تذكاره ... صلاة الإله وسقي السّحب
يقول: إذا ذكره عقب ذكره بالصلاة والدعا بالسقيا، فيقول: صلى الله عليه وسقى دياره وربوعه.
وأثني عليه بآلائه ... وأقرب منه نأى أو قرب
يقول: إنما أشكر نعمه إذا ذكرته، وأمدحه بمآثره وأقرب منه بالمحبة والموالاة سواء كان قريبا مني أو بعيداً.
وإن فارقتني أمطاره ... فأكثر غدرانها ما نصب
الهاء في غدرانها للأمطار.
يقول: إن بره وإن كان قد انقطع فبقيتها عندي لم تنفذ.
أيا سيف ربّك لا خلقه ... ويا ذا المكارم لا ذا الشّطب
يجوز: يا سيف ربه باختلاس كسرة الهاء، ويا سيف ربك.
يقول: أنت سيف الله لا سيف الخلق، وأن تسمي: ذا المكارم أولى من أن تسمي: ذا الشطب. وهي الطرائق التي في السيف.
وأبعد ذي همّةٍ همّةً ... وأعرف ذي رتبةٍ بالرّتب
أراد: يا أبعد ذوي الهمم وأعرف ذوي الرتب، وأقام الواحد مقام الجماعة. وهمةً: نصب على التمييز.
يقول: يا من همته أبعد من همة كل صاحب همة، ويا من هو أعلم بالرتب من كل من له رتبة ومنزلة.
وأطعن من مسّ خطّيّةً ... وأضرب من بحسامٍ ضرب
يقول: يا من هو أحذق الناس بالطعن والضرب.
والمعنى: أنت أعرف الحاملين للرمح بالطعن، وأضرب الضاربين بالسيوف وأقام الواحد مقام الجمع.
بذا اللّفظ ناداك أهل الثّغور ... فلبّيت والهام تحت القضب
يقول: ناداك أهل الثغور بهذا اللفظ، وهو ما تقدم من قوله: يا سيف ربك وما بعده. حين أتى الدمستق على ثغورهم، فلبيتهم وأجبتهم وخلصتهم بعد ما صارت رءوسهم تحت سيوف الروم.
وقد يئسوا من لذيذ الحياة ... فعينٌ تغور وقلبٌ يجب
غارت العين: إذا دخلت في الرأس. ووجب القلب: إذا خفق.
يقول: أعنتهم بعد أن انقطع رجاؤهم من الحياة وأشرفوا على الهلاك.
وغرّ الدّمستق قول الوشا ... ة: إنّ عليّاً ثقيلٌ وصب
الوصب: ناحل الجسم، وقيل: هو الذي يجد الألم.
يقو: اغتر الدمستق بخبر علتك، وقدر أنك لا تقدر على نصرة أهل الثغور وصيانتهم
وقد علمت خيله أنّه ... إذا همّ وهو عليلٌ ركب
الهاء في خيله قيل للدمستق.
والمعنى: أنها تعلم أن سيف الدولة مع علته، لو هم بالركوب لركب؛ لما شاهدت منه فيما مضى من الحروب.

وقيل: أراد به أن خيل سيف الدولة علمت ذلك.
أتاهم بأوسع من أرضهم ... طوال السّبيب قصار العسب
السبيب: شعر العرف والذنب. والعسب: جمع العسيب، وهو العظم الذي ينبت عليه الذنب، ويستحب في الفرس طول شعر ذنبه، وقصر عسيبه.
يقول: أتى الدمستق أهل الثغور بخيل، موضعها من الأرض أوسع من أرضهم، ونصب طوال وقصار على الحال.
تغيب الشّواهق في جيشه ... وتبدو صغاراً إذا لم تغب
يقول: كانت الجبال الشواهق تغيب في جيش الدمستق لكثرته، فإن ظهرت الجبال ولم تغب تبدو صغاراً.
ولا تعبر الرّيح في جوّه ... إذا لم تخطّ القنا أو تثب
الهاء في جوه للجيش وإذا لم تخط القنا هو من تخطيت القوم: إذا جاوزتهم، وهو فعل الريح، وتثب عطف عليه والقنا في موضع النصب، لأنه مفعول قوله: إذا لم تخط.
يقول: لا تقدر الريح أن تنفذ في جو هذا الجيش إلا أن تخطت القنا وجاوزته، أو وثبت من فوقه، وإلا لم يمكنها أن تنفذ في جوه.
فغرّق مدنهم بالجيوش ... وأخفت أصواتهم باللّجب
يقول: إن الدمستق ملأ مدن الثغور بخيله، حتى غرقت في جيوشه، وأخفى أصوات أهل المدن بلجب جيوشه.
فأخبث به طالباً قتلهم ... وأخبث به تاركاً ما طلب
أي ما أخبثه في الحالين ؟! يقول: ما أخبثه حين جاء يقاتل المسلمين، وما أخبثه حين هرب وانقاد للعار والضيم، فهو في كلا الحالين خبيث وطالبا وتاركاً نصب على الحال.
نأيت فقاتلهم باللّقاء ... وجئت فقاتلهم بالهرب
يقول: لما بعدت عن أهل الثغور، قصدهم الدمستق ولقيتهم، فلما جئت هرب وتركهم، فكان هذا قتاله.
وكانوا له الفخر لمّا أتى ... وكنت له العذر لمّا ذهب
وكانوا: أي أهل الثغور.
يقول: كان أهل الثغور فخراً للدمستق لما أتى لأنه كاد يقهرهم ولما ذهب كنت له العذر، لأن مثله لا يقاومك.
سبقت إليهم مناياهم ... ومنفعة الغوث قبل العطب
الغوث: مصدر أغاثه إذ أنقذه.
يقول: سبقت إليهم قبل وصول هلاكهم إليهم، فأغثتهم قبل أن يهلكوا. والغوث إنما ينفع قبل الهلاك، وأما بعده فلا فائدة فيه.
فخرّوا لخالقهم سجّدا ... ولو لم تغث سجدوا للصّلب
يقول: لما أغثت أهل الثغور سجدوا لله تعالى شكرا، وبقوا على الإسلام، ولو لم تنصرهم لألجأهم الكفار أن يسجدوا للصلب.
وكم ذدت عنهم ردىً بالرّدى ... وكشّفت من كربٍ بالكرب
يقول: كم مرة دفعت الهلاك عن أهل الإسلام؛ بإهلاك أعدائهم ؟! وكشفت الغم عنهم بالغم الذي أوقعت فيه أعداءهم.
وقد زعموا أنّه إن يعد ... يعد معه الملك المعتصب
المعتصب: المتوج.
يقول: إن الناس زعموا أن الدمستق إذا عاد إلى الثغور عاد معه ملكهم الأعظم، صاحب التاج.
ومتى قيل: لم قال: يعد معه الملك المعتصب والعود إنما يكون بعد البدء، والملك لم يكن قصدهم قبل ذلك ؟ قيل له: قد جاء العود في معنى الابتداء كما قال الله تعالى: " أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا " .
وقيل: إن هذا الاعتراض غير متوجه؛ لأن قوله: يعد معه فعل الدمستق، ومعه الملك المعتصب في موضع نصب على الحال: أي يعد ومعه الملك وهذه الواو، تحذف إذا كان في الحال ضمير يرجع إلى صاحبها والملك على هذا يرفع بالابتداء، وعلى الوجه الأول يرتفع لفعله.
وقلت: إن يعد في معنى الابتداء، وحسن ذكره ها هنا لتعلقه بالأول، فيكون قد أجرى عليه لفظاً يتعلق به، إذ لا شك أن العود الأول على حقيقته، فلما تعلق الثاني به أجرى مجراه، كقوله تعالى: " وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيئَةٌ مِثْلُهَا " .
ويستنصران الّذي يعبدان ... وعندما أنّه قد صلب
يقول: زعموا أن الدمستق والملك يرجعان ويطلبان النصرة ممن يعبدانه، وهو المسيح عليه السلام، وفي اعتقادهما أنه قد صلب، فكيف يقدر أن يدفع عنهم القتل، وهو لم يقدر على أن يدفعه عن نفسه ! يتعجب من عقول النصارى وفساد اعتقادهم.
ويدفع ما ناله عنهما ... فيا للرّجال لهذا العجب !
اللام الأولى مفتوحة؛ لأنها لام الاستغاثة للمدعو، والثانية مكسورة؛ لأنها لام المتعجب منه المدعو إليه.
والمعنى: أنه يتعجب من قول النصارى. أي كيف يدفع عنهما ما ناله من القتل في اعتقادهما ! فلو قدر لدفع عن نفسه !

أرى المسلمين مع المشركي ... ن إمّا لعجزٍ وإمّا رهب
كأنه كان قد انضم طائفة من المسلمين إلى الروم ! فقال: أراهم معهم ولا أدري لأي علة ؟! أعجزوا عن قتالهم ؟ أو خافوا منهم ! وقيل: المعنى أن المسلمين قد وافقوا النصارى وصدقوهم في زعمهم أن المسيح ينصرهم وذلك إما لعجز عنهم أو لخوف منهم.
وأنت مع الله في جانبٍ ... قليل الرّقاد كثير التّعب
يقول: أنت مع أمر الله وطاعته، قليل النوم، لحفظ الثغور كثير التعب، لإدامة الحرب.
وقيل: إن المسلمين قد وافقوا النصارى على قولهم وأنت متوكل على الله، مستنصر به، غير مائل إلى قول النصارى في استنصار المسيح عليه السلام.
كأنّك وحدك وحّدته ... ودان البريّة بابنٍ وأب
يقو: أنت تفردت بتحمل المشاق في مجاهدة الكفار، حتى كأنك متفرد بالتوحيد، وسائر الناس اعتقدوا النصرانية.
فليت سيوفك في حاسدٍ ... إذا ما ظهرت عليهم كئب
يقول: ليت سيوفك بعد ظهورك على الأعداء، تقتل كل حاسد حزين والتقدير على هذا البيت: سيوفك إذا ما ظهرت على الأعداء في حاسد كئب.
وقيل: معناه ليت سيوفك تقتل كل حاسد يحزن لظفرك بالأعداء.
وليت شكاتك في جسمه ... وليتك تجزي ببغضٍ وحب
يقول: ليت علتك هذه في جسم حاسدك، وليتك تجزي كل إنسان بحسب قدره في بغضه وحبه.
يعني: لو فعلت ذلك لكنت أحسن حالا من سائر الناس، ولو جزيت الأعداء ببغضك لما أبقيت أحداً.
فلو كنت تجزي به نلت من ... ك أضعف حظٍّ بأقوى سبب
يقول: لو كنت تجزي كل أحد ببغض وحب، لنلت ما أتمناه من قتل من كادني على محبتي لك.
وقال أيضا بمدح سيف الدولة:
سيف الإله على أعلى مقلّدة ... وموضع العزّ منه فوق مقعده
المصراع الثاني قيل: لم يتممه أبو الطيب ! وقيل: بل تممه ولم يرو عنه إتمامه.
وقيل إن تمامه قوله: وموضع العز منه فوق مقعده.
وقيل: إن هذه اللفظة فوق مقعده لم يعترف بها المتنبي. وقيل: إنه قال: ألقيتها فلا تنسبوها إلي.
والمعنى: سيف الله على أرفع رجل قلد السيف. وموضع الشرف من هذا السيف هو السماء، لا موضع الذي يرى أنه مقعداً، أو الموضع الذي قعده.
ما اهتزّ منه على عضوٍ يسيّره ... إلاّ اتّقاه بترسٍ من مخلّده
المخلد: موضع الخلد، وهو القرط.
يقول ما تحرك السف على عضو عدو، يريد أن يرمي به إلا اتقاه ذلك الجسم بأكثر من مطلوبه، وهو أن يترس موضع القرط من موخر عنقه.
ذمّ الإله إليه من محبّته ... ما ذمّ في بدرٍ من حمد حامده
يقول: ذم الله تعالى إلى سيف الدولة من أحبابه، جزعهم وذلهم في هذه الحرب الذي صبر فيها سيف الدولة دونهم، مثل ما ذم جل جلاله من حمده النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أصحابه وأحبته في يوم بدر، لما ذلوا وفزعوا بقوله تعالى: " وَلَقَدْ نَصَرَكُم الله بِبَدْرٍ " .
شمسٌ، إذا الشّمس لاقته على فرسٍ ... تردّد النّور منها في تردّده
يقول: هو كالشمس فإذا قابلته الشمس وهو على فرس رد شعاعها إلى نفسها كثرة جولان هذا الفارس.
والمعنى: أنه إذا ركب بجيشه حجب بالغبار نور الشمس.
لم يقبح الحسن إلاّ عند طلعته ... كالعبد يقبح إلاّ عند سيّده
يقول: إن الحسن إذا رؤى بحضرته يفتضح بحسنه، ويقبح لكمال جماله كالعبد لا يقبح إلا عند سيده. وحذف لا من قوله: كالعبد يقبح
قالت عن السّير طب نفساً فقلت لها ... لا يصدر العبد إلاّ بعد مورده
أي قالت العاذلة أو المحبوبة أو غيرهما، ممن يشفق عليه: كفاك ما سرت من الدنيا فأقم، فقلت لها: إني ما سرت بعد إلى من هو المقصود، ولا وردت موردي، فكيف أصدر ؟ لأن الصدر بعد الورود، يحسن ويكمل.
نفسٌ تصغّر نفس الدّهر من كبرٍ ... لها نهى كهله في سنّ أمرده
يقول: نفسه من كبرها وعظمها تصغر نفس الدهر، والضمير في الكهل يعود إلى النفس والضمير في الأمرد يعود إلى الدهر
لم أعرف الجود إلا مذ عرفت فتىً ... لم يولد الجود إلاّ عند مولده
يريد: منذ وقت مولده، فحذف للعلم به.
والمعنى: أن الجود يدور معه، ولم يكن قبل مولده جود فلما ولد هو وجد الجود.
وقال أيضاً فيه بديهاً:
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له ... خير الخلائق والعباد سميّ

إن عنى بذي الجلال، الله تعالى فهو في هذا الموضع قبيح، لأنه لا يقال: دولة الله تعالى.
وإن عنى به الخليفة فهو أشنع، لأن هذا الوصف لا يطلق على غير الله تعالى.
يقول: يا سيف الدولة من هو كذلك، يا سمي خير البرية وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
انظر إلى صفّين حين أتيتها ... فانصاع عنها الجحفل الغربيّ
انصاع: تفرق.
يقول: انكشف عنك العسكر من الغرب فانهزموا. فشبه المعركة بصفين.
فكأنّه جيش ابن حربٍ رعته ... حتّى كأنّك يا عليّ، عليّ
العسكر الغربي: جيش الإخشيد فهزمته حتى كأنك يا علي، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي الله عنه.

الجزء الرابع
الكافوريات وهي المصريات
قيل: إن السبب الذي أوجب خروج أبي الطيب إلى مصر، ومدحه كافوراً الأسود: أن سيف الدولة كان يتلون عليه، ولا يثبت معه على حال واحدة، ويصغي إلى قوم كانوا يغرونه به ويقعون فيه حسداً له، فكثر الأذى عليه من جهته فأجمع رأيه على الرحيل من حلب، فلم يجد بلداً أدنى إليه من دمشق لأن حمص من عمل سيف الدولة، فسار إليها حتى نزلها، وبها يهودي من أهل تدمر يعرف بابن ملك من قبل كافور، فالتمس منه المدح فثقل عليه، وغضب ابن ملك فكتب إلى كافور يخبره أن أبا الطيب عنده، وجعل كافور يكتب في إرسال أبي الطيب إليه، فكتب إليه ابن ملك أن أبا الطيب قال: ما أقصده فإنه عبد، وإذا دخلت مصر فإنما قصدي مولاه فأحفظته كتبه.
ونبت دمشق بأبي الطيب، فسار منها إلى الرملة، فحمل إليه أميرها الحسن بن عبيد الله بن طغج هدايا وخلع عليه، وحمله على فرس جواد بمركب ثقيل، وقلده سيفاً محلى، وسأله المدح فاعتذر إليه بالأبيات الرائية وهي قوله:
ترك مدحيك كالهجاء لنفسي
وقد تقدم ذكرها قبل هذا، واتصل به أن كافوراً يقول: أترونه يبلغ إلى الرملة، ولا يبلغ إلينا ؟! وأنه واجد عليه، ثم كتب كافور من مصر إلى أبي الطيب يستدعيه إلى حضرته، فلم يمكنه إلا المسير إليه، يظن أنه لا يسومه سوم غيره، من منعه من التصرف في نفسه.
وكافور هذا عبد أسود خصى لابي مثقوب الشفة السفلى بطين، قبيح القدمين ثقيل اليدين، لا فرق بينه وبين الأمة، وقد سئل عنه بعض بني هلال بالصعيد، فقال: رأيت أمةً سوداء تأمر وتنهي.
ولقد كان رسول الروم بمصر، فلما قعد في مركب راجعاً إلى بلد الروم والمسلمون ينظرون إليه قال لهم: ما أعرف أمةً أخس منكم ! أعوزكم أبيض تملكونه أنفسكم ! وسار، وولي كافور هذا أمر بني طغج عليهم، وملك ما كان في أيديهم، واستملك العبيد، وأفسدهم على ساداتهم.
وكان هذا الأسود لقوم من أهل مصر، يعرفون ببني عياش، يحمل لهم الحوائج من الأسواق على رأسه، ويخدم الطباخ. مشتراه ثمانية عشر ديناراً وكان ابن عياش يربط في عنقه حبلا إذا أراد النوم، فإذا طلب منه حاجته جذبه لسقوطه ! فإنه لم يكن ينتبه بالصياح فدخل إلى دار ابن طغج والناس يمدون أيديهم إلى رأسه ! ويصفونه بصلابة القفا، فكان الغلمان كلما صفعوه ضحك ! فقالوا: هذا الأسود خفيف الروم؛ وكلموا صاحبه في بيعه، فوهبه لهم، فأقاموه على الوضوء والخلاء، ورأى مخاريق ابن طغج وكثرة كذبه، وما يتم لربه، فتعلم ذلك حتى ما يصدق في حرف، وأخذ عنه وزاد عليه، حتى وضع الكذب في غير مواضعه فاشتهر به.
ومات ابن طغج بدمشق وولده صغير، والأسود يخدمه، فأخذ البيعة على الناس عند موته، والناس يظنون أنه قد أمره بأخذها، وسار غلمانه في الوقت إلى مصر، فاقتسموا الضياع، وكانوا ضعفاء فقراء، فاشتغلوا بما في أيديهم لا يصدقون أنه يبقى لهم.
وتفرد الأسود بخدمة الصبي ومالت إليه والدته ! وهي أمة؛ لأنه عبد، وتمكن من الصبى والمرأة حتى قرب من شاء وأبعد من شاء، ونظر الناس إلى هذا مع صغر هممهم وخفة أنفسهم، فتسابقوا إلى التقرب إليه، وسعى بعضهم ببعض عنده، حتى أن الرجل لا يأمن مملوكه ولا ولده على سره ! وصار كل عبد بمصر يرى أنه خير من سيده، ولا تنبسط يد سيده عليه، ولا يستبعد أن يصل إلى أضعاف ما وصل إليه الخصى، حتى ملك الأمر على الصبي، وصار كل من معه عيناً عليه للأسود، فلا يقدر أحد أن يكلمه ويسلم عليه !

وإذا رآه بعض غلمان أبيه أو غيرهم أسرع هاربا لئلا يقال: إنه كلمه ! فمن كلمة أتلفه الأسود، فلما كبر الصبي وتبين ما هو فيه، وجعل يبوح بما في نفسه في بعض الأوقات على الشراب، وكل من معه عين عليه، فقدم الأسود فسقاه سماً فقتله، وخلت له مصر وهان عليه أخوه الأصغر وغيره.
فلما ورد كتاب الأسود على أبي الطيب بالرملة، لم يمكنه إلا المسير إليه، وظن أنه لا يسومه سوم غيره. من أخذ ماله، وإضعاف حاله، ومنعه من التصرف في نفسه. وهذه فعال الأسود بكل حر له محل، يحتال عليه بالمكاتبة والمواعيد الكاذبة، حتى يصير إليه، فإذا حصل عنده أخذ عبيده وخيله وأضعفه عن الحركة، ومنعه منها، وبقي مطرحا يشكو إليه ويبكي بين يديه ولا يعينه على المقام، ولا يأذن له في الرحيل، وإن رحل عن غير إذنه غرقه في النيل، ولا يصفو قلبه إلا لعبد، كأنه يطلب الأحرار بحقد.
فلما قدم عليه أبو الطيب اخلى له داراً ووكل به، وأظهر التهمة له، وطالبه بمدحه، وخلع عليه، وحمل إليه آلافاً من الدراهم وغيرها.
فقال أبو الطيب يمدحه لما وفد عليه في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاث مئة ويعرض بسيف الدولة
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا
الباء في بك زائدة، والتقدير: كفاك داءً، وليست هذه الباء مثلها في قوله تعالى: " وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدا " " وكَفَى بنَا حَاسِبين " لأن، ها هنا زيدت الباء على المفعول، وفي الآية زيدت على الفاعل، والفاعل في البيت قوله: أن ترى وداءً نصب على التمييز. والأماني أصلها التثقيل، والتخفيف جائز.
يقول: كفاك من الداء وأذية الزمان، ما تستشفى منه بالموت ! وما تتمنى معه الموت ! إذ الموت غاية الشدائد، فإذا تمناه المرء فقد تمنى كل شدة.
تمنّيتها لمّا تمنّيت أن ترى ... صديقاً فأعيا، أو عدوّاً مداجيا
يقول: تمنيت الموت، لما تمنيت أن ترى صديقاً مخلصاً في صداقته، أو عدوا مساتراً للعداوة فأعيا عليك وجود ذلك، فلما لم تجد إلا صديقاً غير مخلص وجدت عدوا مظهراً للعداوة، تمنيت الموت.
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلّةٍ ... فلا تستعدّنّ الحسام اليمانيا
استعد وأعد بمعنىً.
يقول: إذا رضيت بالذل، وصبرت على الضيم، فلا معنى لاستعداد السيف، لأن السيف يراد لدفع الضيم. ومثله لأبي العتاهية:
فصغ ما كنت حلّي ... ت به سيفك خلخالا
فما تصنع بالسي ... ف إذا لم تك قتّالا ؟
ومثله لعبد الرحمن بن دارة:
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا بغايا للخلوق وللكحل
وبيعوا الرّدينيّات بالخمر واقعدوا ... على الذّل وابتاعو المغازل بالنّبل
ولا تستطيلنّ الرّماح لغارةٍ ... ولا تستجيدنّ العتاق المذاكيا
لا تستطيلن: أي لا تطلب طولها، وكذلك لا تستجيدن: أي لا تطلب جودها.
يقول: إذا رضيت بالذل فلا تطلب الرمح الطويل، والخيل الجياد، فإنك لا تحتاج إليها بعد أن رضيت بالذل واحتمال الضيم.
فما ينفع الأسد الحياء من الطّوى ... ولا تتّقي حتّى تكون ضواريا
يقول: إن الحياء لا ينفع الأسد من الجوع ولا يشبعه، ولا يخشى منه إلا إذا كان ضارياً جريئاً.
يعني: أن الإنسان إنما يبلغ مراده إذا اطرح قناع الحياء عن وجهه، واتكل على إقدامه.
حببتك قلبي قبل حبّك من نأى ... وقد كان غدّاراً فكن لي وافيا
حببته وأحببته: لغتان: وقلبيك منادى، أي يا قلبي، ومن في موضع نصب بالمصدر الذي هو حبك.
يقول: يا قلبي أحببتك قبل أن تحب الحبيب الذي نأى عنك وغدر بك، فأنكرت غدره فلا تصنع معي من الغدر مثل ما صنع بك حبيبك، فتكون قد فعلت ما كرهته من غيرك.
وجعل حنين قلبه إلى الحبيب غدراً منه، لأنه يؤلمه ويؤدي إلى تلفه، فتقع المفارقة بينه وبين قلبه ! وهي التي ذاقها من حبيبه. وهذا تعريض منه بسيف الدولة.
وأعلم أنّ البين يشكيك بعده ... فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
يقول: يا قلبي، أعلم أن البين يحوجك إلى الشكوى، ويؤثر فيك، وإن فعلت ذلك تبرأت منك، ونفيت أن تكون قلبي، لأنك غدرت بي.
فإنّ دموع العين غدرٌ بربّها ... إذا كنّ إثر الغادرين جواريا
روى: غدراً فيكون مصدراً في معنى غادر فلا يثنى ولا يجمع، ولا يؤنث، وروى غدر وهو جمع غدور.

يقول: إن بكاءك على من غدر بك وفارقك غدر منك بي، وهذا إشارة إلى شكاية سيف الدولة.
إذا الجود لم يرزق خلاصاً من الأذى ... فلا الحمد مكسوباً والمال باقيا
شبه لا بليس في نصب الخبر؛ فلهذا نصب مكسوباً وباقياً.
يقول: إذا لم يكون الجود خالصاً من الأذى، وما يكدره من المن والتكدير، فلم يكسب فاعله حمداً، وذهب ماله هدراً. وهذا تعريض بسيف الدولة.
وللنّفس أخلاقٌ تدلّ على الفتى ... أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا
يقول: لكل إنسان أخلاق يستدل بها على ما يأتيه من الجود، هل هو طبيعي أو تكلفي ؟ فيعرف حاله.
أقلّ اشتياقاً أيّها القلب ربّما ... رأيتك تصفي الودّ من ليس جازيا
يجوز في أقل كسر اللام ونصبها.
يقول لقلبه: قلل الاشتياق إلى من لا يشتاق إليك، فإنك تخلص المودة لمن لا يجازيك على ذلك، ولا يودك مثل ما توده، وهذه الأبيات تعريض بسيف الدولة، وتطييب لنفسه على فراقه.
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصّبى ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
يقول جبلت على الإلف، حتى إنني لشدة إلفي، لو فارقت الشيب الذي هو مكروه عند كل أحد ورجعت إلى أيام الصبى؛ لبكيت جزعاً على الشيب، من فراق المألوف، فلهذا أحن إلى سيف الدولة وإن كان يقصدني بالأذى.
ولكنّ بالفسطاط بحراً أزرته ... حياتي ونصحي والهوى والقوافيا
الفسطاط: مدينة مصر التي بناها عمرو بن العاص رضي الله عنه، فأما مصر القديمة فهي في الجانب الآخر من النيل، وليس بها اليوم إلا دور قليلة.
المعنى: أني فارقت سيف الدولة مع إلفي له وأسفي على فراقه؛ لأزور كافوراً الذي هو كالبحر: في الجود وسعة الصدر وبعد الغور. وقوله: أزرته حياتي أي زرته بها.
وجرداً مددنا بين آذانها القنا ... فبتن خفافاً يتّبعن العواليا
وجرداً عطف على ما تقدم: أي قصدنا بخيل جرد ونصبنا رماحنا بين آذانها فكانت الخيل تتبعها في السير.
تماشى بأيدٍ كلّما وافت الصّفا ... نقشن به صدر البزاة حوافيا
تماشى: أي تتماشى.
يقول: هذه الخيل الجرد كانت تمشى بعضها إلى بعض، فإذا وطئت الصفا بأيديها وهي حواف أثرت فيه آثار نقش صدر الباز.
وروى: صدر البزاة وهي جمع صدار. وروى: صدر البزاة ويراد به الصدور.
وتنظر من سودٍ صوادق في الدّجى ... يرين بعيدات الشّخوص كما هيا
يقول: تنظر هذه الخيل من عيون سود، ترى هذه العيون - من حدة النظر - الشخص البعيد على هيئته وحاله، ولا يتغير عليها فيصغر أو يعظم، بل تراه على حقيقته. وقوله: يرين: يجوز أن يكون فعل سود ويجوز أن يكون: فعل الخيل.
؟وتنصب للجرس الخفيّ سوامعاً يخلن مناجاة الضّمير تناديا الجرس: الصوت.
يقول: هذه الخيل حديدة السمع، فإذا أحست حساً خفيفاً وصوتاً خفياً، نصبت أذانها، فهي لحدة أذانها تحسب الصوت الخفي، أنه كلام ظاهر وصوت عال.
تجاذب فرسان الصّباح أعنّةً ... كأنّ على الأعناق منها أفاعيا
إنما قال: فرسان الصباح، لأن الغارات أكثر ما تكون في وقت السحر، وشبه الأعنة للينها ودقتها بالأفاعي.
يقول: إن الخيل لا تترك الأعنة تستقر في أيدي فرسانها، لما فيها من المرح والنشاط، فكأن الأعنة أفاع على أعناقها فهي تجاذبها الفوارس.
بعزمٍ يسير الجسم في السّرج راكباً ... به ويسير القلب في الجسم ماشيا
الباء: متعلق بقوله: أزرته يعني: زرته بعزم.
يقول: قصدته بعزم قوى، وجسمي يسير وأنا راكب، وقلبي يسبقني إلى المنازل؛ لقوة العزم وفرط الاشتياق إلى حضرته، وكنت كلما نزلت منزلاً، كانت همتي المنزل الآخر، لأقطعه.
قواصد كافورٍ توارك غيره ... ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا
قواصد: نصب على الحال. والعامل: أزرته أو تجاذب أو تماشى ويجوز الرفع: أي هي قواصد.
يقول: قصدت هذه الخيل كافوراً، وتركت من سواه من الملوك؛ لأنه أفضل منهم، وغيره من الملوك بالإضافة إليه كالجدول من البحر.
فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلّت بياضاً خلفها ومآقيا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8