كتاب : معجز أحمد
المؤلف : أبو العلاء المعري

المفاضة: الدرع الواسعة. والتريكة: البيضة. والأرقم: ضرب من الحيات منقط كأنه مرقوم، بما عليه من النقط. والهاء في يديه يعود إلى الفتى، وقيل: إلى الضيغم. وفي عينيه إلى الأرقم؛ لأنه المقدم في المعنى، وإن تأخر في اللفظ. وعينيه عطفاً على يديه شبه ساعدي الفتى في الدرع، بساعدي الأسد، وعينيه تحت البيضة، بعيني الحية.
كأجناسها راياتها وشعارها ... وما لبسته والسّلاح المسمّ؟م.
الشعار: العلامة التي يتعارف بها أهل الحرب. والمسمم: المسقى السم. وروى: المسه وهي التأنيث كله للخيل. وقيل في معنى البيت وجوه.
أحدها: أن هذا الجيش كثير مختلف، اجتمع فيه كل أمة من الجند، وكما اختلفت هذه الأجناد، كذلك اختلفت شعارها وأعلامها وسلاحها. فكل طائفة على هيئة مخالفة لغيرها من الطوائف. كقوله:
في موضع تجمع فيه كل إنس وأمة
هذا ما ذكره المخزومي.
وثانيها: أنه كلما اختلفت ألوان الخيل وأجناسها وأنواع الرجال وأجنادها، كذلك الرايات والسلاح والشعار فإنهم في هيئات الأسود والعقبان، فالأسود من جنس الرجال، والعقبان من جنس الأفراس، وشعارها مختلفة الألوان كألوان هذه الخيل، وما لبسته من الحديد، ففي الخيل والرجال صلابة مثله:
وهم في النفاد واله ... لاك كالسلاح المسمم
وثالثها: معناه أن جنسها كالحديد في صبره على التعب والقتال، ونداؤهم باسم الحديد لأنهم يتنادون بشعار سيف الدولة المنصور، والسيف: حديد، وما لبسته من التجافيف والجواشن، وهي أيضاً حديد، والسلاح حديد، وعلى الرايات اسم سيف الدولة وهو حديد، ولأنه جعل الرماح رايات.
وقال ابن جني: معناه أن عسكره كله عربي. خيله وشعاره وملبوسه وسلاحه.
وأدّبها طول القتال فطرفه ... يشير إليها من بعيدٍ فتفهم
الهاء في أدبها وإليها للخيل. وتفهم فعل الخيل، والهاء في طرفه لك فتى.
يقول: إن خيله تأدبت بآداب القتال، فإذا أشار صاحبها إليها من بعيد فهمت مراده، فجاءت إليه مسرعة. وروى: طول القياد وطول الطراد.
تجاوبه فعلاً وما تسمع الوحى ... ويسمعها لحظاً وما يتكلّم
الوحى: الصوت. يقول: إن صاحبها إذا دعاها بلحظه وإشارته، أجابت بالفعل والمجيء، وإن لم تسمع صوته.
تجانف عن ذات اليمين كأنّها ... ترقّ لميّا فارقين وترحم
تجانف: أي تتجانف، فحذف التاء، أي تميل.
يقول: إن الخيل عدلت عن ميا فارقين وأخذت في جانب فكأنها ترحمها، وكانت ميا فارقين عن يمين هذه الخيل وهي من جملة ممالكه فلم يتعرض لها لأن القصد كان إلى ديار الروم.
ولو زحمتها بالمناكب زحمةً ... درت أيّ سورينا الضّعيف المهدّم
يقول: لو زحمت الخيل ميا فارقين بمناكبها، لكانت تدري أي السورين أضعف سورها أم سور الخيل ؟ يعني جعل الخيل سوراً؛ لثباتها وبعد انزعاجها عن موضعها بإزعاج مزعج، والتصاقها للحرب، ومعناه: لو لم تعدل عنها، ونزلت عليها؛ لهدمت سورها.
قال ابن حني: وحكى أن المتنبي أنشده هذه القصيدة عصراً، فسقط سور ميا فارقين ليلاً، وكان السور جاهلياً.
على كلّ طاوٍ تحت طاوٍ كأنّه ... من الدّم يسقى أو من اللّحم يطعم
الطاوي: الضامر، واللطيف البطن، وقوله: كأنه يرجع إلى الطاوي الأول، وهي الفرس.
يقول: على كل فرس ضامر، فارسٌ مثله في الضمور. فكأن هذا الفرس سقى من الدم، وأطعم من اللحم.
قيل فيه وجوه: منها: كأنه ذئب يأكل اللحم ويشرب الدم، فهو يهجم بفارسه على الحرب كما يهجم الذئب على الصيد.
وثانيها: كأنه يأكل لحم نفسه، ويشرب دم نفسه. مبالغة في وصفة بالضمور، والهزال؛ لاعتياده القتال.
والثالث: أراد أنه أطعم لحوم الأعداء وسقى دماؤهم، فهو مجد في طلبهم اقتداء بما مضى من العادة.
لها في الوغى زيّ الفوارس فوقها ... فكلّ حصانٍ دارعٌ متلثّم
يقول: زي هذه الخيل مثل زي فوارسها؛ لأن كل فارس عليه درع ومغفر ولثام، وفرسه مغطى بالتجافيف، والبرقع.
وما ذاك بخلاً بالنّفوس على القنا ... ولكنّ صدم الشّرّ بالشّرّ أحزم
بخلاً: نصب لأنه خبر ما واسمه ذاك وهو في موضع الرفع.
يقول: تغطيتهم أنفسهم وخيلهم ليس لجبنهم وبخلهم بالحياة، ولكنه مقابلة الشر بالشر، ودفع الشر بمثله، هو الحزم وجودة الرأي.

والصدم: ضرب الشيء بمثله. وهذا قريب من قولهم: الحديد بالحديد يفلح.
أتحسب بيض الهند أصلك أصلها ... وأنّك منها ؟ ساء ما تتوهّم !
يقول لسيف الدولة: إن السيوف الهند كأنها تظن أصلها أصلك، وأنك سيف مثلها؛ لما سميت باسمها وقد ساء ما توهمت، لأنك أشرف منها جوهراً، وأمضى منها في الأمور، وإنما أشركتها في الاسم لا في الجوهر والخصال، فأنت من العرب أصلاً، وهي من الهند، وليس فيها خصالك.
إذا نحن سميّناك خلنا سيوفنا ... من التّيه في أغمادها تتبسّم
يقول: إذا سميناك تبسمت سيوفنا في غمودها عجباً بأنك سميها، فكأنها حسبت أنك منها أصلاً ومنظراً، وليس الأمر كذلك.
ولم نر ملكاً قطّ يدعى بدونه ... فيرضى ! ولكن يجهلون وتحلم
بدونه: أي بدون قدره.
يقول: ما رأيت ملكاً يسمى بدون قدره ويرضى بذلك غيرك ! فإنك لقبت بسيف الدولة فرضيت به لحلمك، وهو لا يرضون لجهلهم.
أخذت على الأرواح كلّ ثنيّةٍ ... من العيش تعطى من تشاء وتحرم
الثنية: العقبة.
يقول: حكمت بين الأرواح وبين العيش، فكأنك قعدت على طريق الحياة، فمن شئت خليت سبيل حياته، ومن شئت صرفتها عنه. يعني أنك قد استوليت على أرواح العباد، فمن أغثته يبقى، ومن لم تغثه يهلك ..
فلا موت من سنانك يتّقى ... ولا رزق إلاّ من يمينك يقسم
يقول: إن آجال الخلق في سنانك، وأرزاقهم في يدك، فلا موت يتقى إلا من سنانك، ولا رزق يقسم إلا من يمينك.
وضربت خيمة كبيرة لسيف الدولة بميا فارقين، وأشاع الناس أن المقام يتصل، فهبت ريح شديدة فسقطت الخيمة فأرجف بذلك وتطير وتحدث الناس فيه، وتكلموا عند سقوطها فقال أبو الطيب رحمه الله تعالى. يمدحه ويذكر الخيمة:
أينفع في الخيمة العذّل ؟ ... وتشمل من دهرها يشمل
العذل: جمع العاذل.
يقول: عذل الخيمة على سقوطها غير نافع، لأنها لا تقدر أن تشمل سيف الدولة مع اشتماله على الدهر، وإحاطته به ودهرها نصب بيشمل ومن كناية سيف الدولة، وهو بمعنى الذي وهو نصب بيشمل.
وتعلوا الّذي زحلٌ تحته ... محالٌ لعمرك ما تسأل
وتعلو: فعل الخيمة: والذي: في موضع نصب، لأنه مفعول تعلو.
يقول: كيف تعلو الخيمة سيف الدولة ؟ مع كون زحل تحته ! وما تسأل الخيمة من العلو عليه أمر محال.
فلم لا تلوم الّذي لامها ؟ ... وما فصّ خاتمه يذبل
التاء في تلوم للخيمة. وقيل: للخطاب. وما في قوله: وما فص خاتمه. للنفي بمعنى وليس. ويذبل: جبل.
يقول: من لامها على سقوطها فقد سامها أمراً محالاً، فلها أن تقابله بما هو محال مثله. فتقول: لم لم تجعل فص خاتمه يذبلا ؟ الذي هو الجبل، فكما أن هذا محال، فكذلك استقرارها فوق سيف الدولة محال، والهاء في خاتمه تعود إلى الذي.
تضيق بشخصك أرجاؤها ... ويركض في الواحد الجحفل
الأرجاء: النواحي، الواحد رجاً.
يقول: جوانب الخيمة، ونواحيها تضيق عن شخصك؛ والواحد من الجوانب - لسعته - لو ركض فيه جيش عظيم لما ضاق عنه. يعني أنها على سعتها تضيق عنك ! وقيل: أراد بالواحد: الواحد من الخيام: يعني أن الواحد من الخيام يركض فيه العسكر الكثير، لعظمه وسعته، إلا أنه تضيق عن شخصك نواحيها.
وتقصر ما كنت في جوفها ... وتركز فيها القنا الذّبّل
يقول: إنها وإن كانت عالية السمك بحيث يمكن أن يركز فيها الرمح، ولكنها تقصر عنك، في الوقت الذي تكون فيها؛ لأنك أعلى من النجم، وأرفع من السماء.
وكيف تقوم على راحةٍ ؟ ... كأن البحار لها أنمل !
يقول: كيف تستقر الخيمة على راحتك ؟ فكل أنملة منها مثل البحر، فلا يستقر البناء على الماء. وإن قل، فضلاً عن البحار.
فليت وقارك فرّقته ... وحمّلت أرضك ما تحمل
الوقار: السكون. والتاء في تحمل قيل: للأرض: ومعناه ليتك قسمت وقارك على جميع الخلق، وحملت الأرض من الوقار ما يمكنها أن تحمله؛ لأنها لا تستطيع أن تحمل جميع وقارك.
وقيل: التاء للخطاب ومعناه: ليتك حملت الأرض ما تحمل أنت من الوقار. ولو فرقت وقارك على جميع الخلق لوصل إلى هذه الخيمة جزء منه وأمكنها بذلك القدر من الوقار السكون والاستقرار.
فصار الأنام به سادةً ... وسدتهم بالّذي يفضل

يعني: لو فرقت وقارك وحلمك بين الناس، لوسعهم وصاروا به سادة حلماً وكنت تفوقهم بالذي يفضل عنك من الوقار والحلم.
رأت لون نورك في لونها ... كلون الغزالة لا يغسل
الغزالة: الشمس وقت طلوعها، وكذلك المشرق.
يقول: رأت الخيمة نورك قد عادها، وأضاءت الخيمة به، كما تضيء الأرض بالشمس، فلا يمكن إزالته عنها كما لا يزال ضوء الشمس. وروى: كلون الغزالة لا ينصل من نصول الخضاب.
وأنّ لها شرفاً باذخاً ... وأنّ الخيام بها تخجل
باذخاً: أي عالياً. والعامل في أن مفتوحة رأت.
يقول: رأت هذه الخيمة لنفسها شرفاً عالياً على سائر الخيام، ورأت أن الخيام تخجل من شرفها.
وقيل: أراد أصحاب الخيام.
فلا تنكرنّ لها صرعةً؛ ... فمن فرح النّفس ما يقتل
يقول: لا تنكر سقوطها، فإنها لما رأت نورك فيها، وتشرفها بك، غلبها الفرح فسقطت؛ بما داخلها من الطرب والسرور. ومن الفرح ما يقتل صاحبه !! وهذا مثل قوله ومن السرور بكاء.
ولو بلّغ النّاس ما بلّغت ... لخانتهم حولك الأرجل
يقول: لو بلغ الناس ما بلغته هذه الخيمة، لخانتهم أرجلهم من هيبتك، ولسقطوا كما سقطت.
ولمّا أمرت بتطنيبها ... أشيع بأنّك لا ترحل
التطنيب: من الأطناب، وهي الحبال تشد إلى أوتاد الخيمة.
يقول: إنك لما أمرت بضرب الخيمة، أشيع فيما بين الناس بأنك لا ترحل، بل تقيم.
فما اعتمد اللّه تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل
التقويض: هو قلع الخيام، ونقض البناء من غير الهدم. وأشار: من الإشارة إلى الشيء. وهو بمعنى الدلالة، لا بمعنى المشورة. واعتمد وأعمد: أي ما قصد الله إسقاط هذه الخيمة، ولكن أراد أن يعلم الناس أنك راحل، ودل بذلك على بطلان اعتقادهم باتصال المقام، وترك الارتحال.
وعرّف أنّك من همّه ... وأنّك في نصره ترفل
من همه: أي من إرادته. وقيل: من عنايته ونصره، والهاء في همه ونصره ترجع إلى اسم الله تعالى. وترفل: أي تسحب في أذيال النصر.
يقول: إن الله تعالى عرف الناس أن سيرك من مراده، وأنك في عنايته، وأنك مؤيد بنصره، وعليك من نصره حلل ترفل فيها؛ فلهذا أسقطت الخيمة.
فما العاندون ؟ وما أثلوا ... وما الحاسدون ؟ وما قوّلوا
العاندون: الأعداء. والواحد عاند، وأصله من المغالبة عند الجرح، إذا غلب دمه ولم ينقطع سيلانه، وأثلوا: أصلوا من التطير لسقوط الخيمة وما في قوله: فما العاندون وما الحاسدون للاستفهام، ومعناه الإنكار والاستحقار. وما في قوله: فما أثلوا ما قولوا بمعنى الذي.
يقول: ما قدر الأعداء وما أصلوه من الأراجيف والأقوال، وما قدر الحاسدون، وما تقولوا من الأكاذيب.
هم يطلبون فمن أدركوا ؟ ... وهم يكذبون، فمن يقبل ؟
يقول: هم يطلبون غايتك، أو يطلبون أعداءهم، فمن أدركوا منهم ؟! أي لا يدركون ما يؤملون، وهم يكذبون عليك فمن يقبل قولهم ؟! أي لا يقبل منهم ما يقولون.
وهم يتمنّون ما يشتهون ... ومن دونه جدّك المقبل
الهاء في من دونه تعود إلى ما أي أن أعداءك يتمنون ما تشتهيه أنفسهم، ولكن سعادة جدك، وإقبال دولتك، يحول بينهم وبين مرادهم.
وملمومةٌ زردٌ ثوبها ... ولكنّه بالقنا مخمل
ملمومة: أي كتيبة مجموعة. والزرد: حلق الدرع. وقوله زرد ثوبها في موضع الصفة لملمومة ولما جعل الدرع ثوبا: جعل الرماح خملها؛ طلبا للمشاكلة.
يقول: من دونه جدك المقبلن وكتيبته مجموعة، أثوابها الدروع، وعلى هذه الأثواب خمل من الرماح: فهي مخملة بالرماح
يفاجئ جيشاً بها حينه ... وينذر جيشاً بها القسطل
الحين: الهلاك. والقسطل: الغبار. وحينه رفع لأنه فاعل يفاجئ والقسطل فاعل ينذر ويجوز أن يكونا مرفوعين بالابتداء وبها في موضع رفع خبر الابتداء. ويفاجئ وينذر: فعل سيف الدولة. والأول أظهر. وبها يعود إلى الملمومة.
يقول: إن سيف الدولة تارة يسرى إلى العدو ليلا، فيفاجئه هلاكه ولم يشعر به، وتارة يسير نهاراً بهذه الكتيبة، فينذر جيشاً بغبارها فيهرب منه. وقيل: أراد أنه يسير مرة في الحزن من الأرض ولا يثير الغبار فيفاجئ جيش العدو، ومرة في السهل فيثير الغبار فيهربون.
جعلتك بالقلب لي عدّةً ... لأنّك باليد لا تجعل

يقول: أنت أجل من أن تنالك الأيدي فتدخرك، كما تدخر سائر السيوف والأموال، ولكن صيرتك في اعتقادي عدة لي لكل شدة، وذخراً لكل نائبة.
لقد رفع الله من دولةٍ ... لها منك يا سيفها، منصل
يقول: رفع الله دولة أنت سيفها، وأبان على جميع الدول فضلها، والهاء في لها وسيفها للدولة. والكاف في منك خطاب لسيف الدولة.
فإن طبعت قبلك المرهفات ... فإنّك من قبلها المقصل
المرهفات: السيوف المرققة الحد، والمقصل: القاطع.
يقول: إن كانت السيوف سبقتك بالطبع، فأنت سبقتها في جودة الجوهر والقطع، فأنت أول سيف قاطع.
وإن جاد بقلك قومٌ مضوا ... فإنّك في الكرم الأوّل
يقول: إن تقدمك الأجواد في الجود، فأنت سبقتهم في الفعال، وتقدمتهم في كرم الخلال، فأنت وإن تأخرت عنهم وجوداً، تقدمتهم كرماً وجوداً.
وكيف تقصّر عن غايةٍ ... وأمّك من ليثها مشبل
المشبل: التي معها أشبال، وأراد بالليث: أباه. والهاء في ليثها للأم فجعلهما أسدين، وجعله شبلهما.
يقول: فكيف تقصر عن غاية ترويها، وأنت ليث ابن ليث ابن لبؤة.
وقد ولدتك فقال الورى ... ألم تكن الشّمس لا تنجل ؟!
تنجل: أي تلد.
يقول: إنها في شرفها شمس، فلما ولدتك تعجب الناس وقالوا: أليس الشمس لا تلد ؟ فكيف ولدت الآن ! فجعله شمساً مولوداً من شمس.
فتبّاّ لدين عبيد النّجو ... م ومن يدّعي أنّها تعقل
تباّ: نصب على المصدر وعلى الذم بفعل مضمر، ومعناه: ضلالاً وخسرانا لدين من يعبد النجوم، ومن يدعي أنها تعقل وتختار وتميز. بين العلة في الذم.
وقد عرفتك فما بالها ... تراك تراها فلا تنزل ؟!
يعني: لو كانت النجوم تعقل، لكانت إذا رأتك تراها، وتنظر إليها نزلت إليك وخضعت لك، لأنك أعلى منها محلا، فلما لم تفعل علم أنها غير عاقلة.
ولو بتّما عند قدريكما ... لبتّ وأعلاكما الأسفل
يقول: لو حل كل واحد منكما المحل الذي يستحقه، لعلوت عليها وصرت في الفلك، وسفلت هي عنك، فصار أعلاكما الآن وهو النجم: الأسفل.
أنلت عبادك ما أمّلت ... أنا لك ربّك ما تأمل
التاء في أملت، تعود إلى العباد.
يقول: أنلت عبادك وهم الخلق ما أملوه منك، فبلغك الله آمالك في دنياك وآخرتك. وقيل: الضمير في قوله: ما أملت راجع إلى النجوم: أي أن ما فعلته من تبليغ الناس مناهم، كانت النجوم تأمله، فلا تقدر عليه فأملت ما أملته النجوم.
قال ابن جني: ولما أطلق على الناس لفظ العبودية له، بين في آخر البيت أنه من جملة العباد وأنه محتاج كسائر الناس فقال:
أنا لك ربّك ما تأمل
فجعله مثل سائر الناس في الحاجة. صنعة وحذاقة.
وقال وقد ركب سيف الدولة في بلد الروم، من منزل يعرف بالسنبوس في جمادي الأولى سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة فأصبح وقد صف الجيش يريد سمندو. وكان أبو الطيب متقدماً، فالتفت فرأى سيف الدولة خارجاً من الصفوف يدير رمحاً، فعرفه فرد الفرس إليه. فسايره وأنشده:
لهذا اليوم بعد غدٍ أريج ... ونارٌ في العدوّ لها أجيج
الأريج، والأرج: الرائحة الطيبة. والأجيج: من تأجج النار وهو التهابها.
يقول: سيكون لهذا اليوم الذي ركبت فيه، بعد غد أريج: أي ذكرى حسن يسر المسلمين، ويسوء المشركين، ويكون في العدو نار لها توقد والتهاب: أي حروب ووقائع تلتهب مثل النار.
تبيت به الحواصن آمناتٍ ... وتسلم في مسالكها الحجيج
الحواصن: جمع الحاصن وهي العفيفة من النساء. وقيل: المتزوجة.
وروى: الحواضر: جمع الحاضرة بخلاف البادية. وروى: الحواضن: جمع الحاضنة لأولادها.
يقول: يأمن بركوبك هذا بعد غد: من في الثغور من النساء، ويأمن أهل الحضر والبدو من الغارات، ويسلم الحجاج والمسافرون في أسفارهم وطرقهم من اللصوص وقطاع الطرق.
فلا زالت عداتك حيث كانت ... فرائس أيّها الأسد المهيج
المهيج: هو الهائج: تقول هيجته أهيجه هيجا، وهاج هو بنفسه.
يقول: جعل الله أعداءك حيث كانوا، فرائسك أيّها الأسد.
عرفتك والصّفوف معبّآتٌ ... وأنت بغير سيرك لا تعيج
لا تعيج: أي لا تبالي. تقول: ما عجت بكلامه أي ما باليت به. وعبأت الجيش وعبيته: إذا زينته وسويت صفوفه.

يقول: عرفتك في حال تعبئة الجيش، وتسوية الصفوف؛ لأنك كنت معروفا فيما بينهم ببأسك وإقدامك، ومن حيث أنك لا تبالي بغير سيرك، فكان الوقت جامعاً للأمرين: لتعبئة الجيوش، وللحالة الثانية وهي أنك لا تعيج بغير سيرك، وكان من عادته أنه كان لا يعيج بسير غيره، وإنما كان يعتمد سير نفسه، ولا يعتمد على أن تسير الجيوش إلى الأعداء، بل كان يتولاها بنفسه.
ووجه البحر يعرف من بعيدٍ ... إذا يسجو فكيف إذا يموج
يسجو: يسكن.
يقول: أنت البحر ! يعرف من المكان البعيد، وهو ساكن، فكيف إذا ماج واضطرب ؟! شبهه بالبحر المائج، لبأسه وهيبته.
بأرضٍ تهلك الأشواط فيها ... إذا ملئت من الرّكض الفروج
الأشواط: عدو الفرس. يقال: عدا شوطاً، أي طلقا. والفروج: جمع فرج، وهو ما بين القوائم.
يقول: رأيتك في أرض واسعة بعيدة الأطراف. تهلك: أي تفنى. الأشواط فيها: أي عدو الفرس فيها، لسعتها ولا تقطعها إذا جرت أشد الجري، وهو في معنى قوله:
إذا ملئت من الرّكض الفروج
تحاول نفس ملك الرّوم فيها ... فتفديه رعيّته العلوج
العلوج: جمع علج، وهو الشديد الخلق، القوى على معالجة العمل. والهاء في فيها تعود إلى الروم ويجوز أن تعود إلى الأرض.
يقول: تطلب نفس ملك الروم، وتقصده دون غيره، ولكن تفديه رعيته وأصحابه وجنوده فتقتلهم بين يديه.
أبا لغمرات توعدنا النّصارى ... ونحن نجومها وهي البروج !؟
الغمرات: الشدائد، وأراد بها الحروب.
يقول: تهددنا النصارى بالحروب والشدائد والخوض في المهالك ونحن لا ننفك عنها، وليس لنا منزل سواها فكأنا نجوم، والغمرات بروج تلك النجوم، فكما لا تزايل النجوم بروجها فكذلك نحن لا نزايل الغمرات.
وفينا السّيف حملته صدوقٌ ... إذا لاقى وغارته لجوج
يقول: كيف توعدنا النّصارى ؟ وفينا سيف الدولة ! الذي إذا حمل صدقت حملته: أي لا يرجع حتى يقتل المحمول عليه، وإذا أغار لج على الإغارة وأدامها.
تعوّذة من الأعيان بأساً ... ويكثر بالدّعاء له الضّجيج
بأساً: قيل نصب على التمييز، وقيل: على أنه مصدر، وقيل: على أنه مفعول له. أي نعوذه لأجل بأسه وإقدامه.
يقول: إذا رأينا بأسه وإقدامه. خفنا عليه من العيون، فنعوذه من شر العيون أن تصيبه، ورفعنا أصواتنا بالدعاء له، حتى ينصرف الله عنه العين.
رضينا والدّمستق غير راضٍ ... بما حكم القواضب والوشيج
الدمستق عند الروم: قائد الجيش مثل اسفهسالار عند الفرس والقواضب: السيوف والوشيج: في الأصل. أصول الرماح، وعروقها التي تنبت عليها الرماح، ثم سميت الرماح بمنبتها.
يقول: نحن رضينا بما حكمت السيوف والرماح، والدمستق غير راض بذلك، لأنها حكمت لنا بالظفر والنصر، وعلى الدمستق بالقتل والهزيمة.
فإن يقدم فقد زرنا سمندو ... وإن يحجم فموعده الخليج
سمندو: مدينة في بلاد الروم، وأراد بالخليج: خليج قسطنطينيه: وهي دار مملكة الروم.
يقول: إن أقدم فنحن توسطنا بلاده، حتى نزلنا على سمندو، وإن أحجم عنا فالموعد بيننا وبينه أن ننزل على الخليج ونحاصره في دار مملكته.

ومر سيف الدولة بسمندو وعبر آلس وهو نهر عظيم فنزل على صارخة وأحرق ربضها وكنائسها وربض الخرشنه وما حولها وأكثر القتل، وأقام بمكانه يوماً ثم رحل حتى عبر آلس راجعاً، فلما أمسى ترك السواد وأكثر الجيش وسرى حتى جاز خرشنة، وانتهى إلى بطن اللقان في غد ظهراً، ولقى الدمستق في الألوف من الخيل، فلما نظر الدمستق إلى أوائل الخيل، ظنها سرية، فثبت لها وقاتل أول الناس حتى هزمهم، وأشرف عليه سيف الدولة فانهزم. قيل: وقتل من فرسانه خلق كثير، وأسر من بطارقته وزراورته ووجوه رجاله خلق كثير نيف على ثمانين، وأفلت الدمستق، وعاد سيف الدولة إلى عسكره وسواده، وقفل غانما فلما وصل إلى عقبة تعرف بمقطعة الأثفار فصادفه العدو على رأسها، فأخذ ساقة الناس يحميهم، فلما انحدر بعد عبور الناس ركبه العدو فخرج من الفرسان جماعة، فنزل سيف الدولة على بردى وهو نهر عظيم وضبط العدو، وعقبة السير صعبة طويلة، فلم يقدر على صعودها لضيقها وكثرة العدو بها، فعدل متيا سراً في طريق وصفه له بعض أدلته، وأخذ ساقة الناس يحميهم، وكانت الإبل كثيرة مثقلة وجاءه العدو آخر النهار من خلفه، وقاتله إلى العشاء وأظلم الليل، فتسلل أصحاب سيف الدولة يطلبون سوادهم، فلما خف عنه أصحابه سار حتى لحق بالسواد تحت عقبة قريبة من بحية الحدث، فوقف وقد أخذ العدو الجبلين من الجانبين، فجعل سيف الدولة يستنفر الناس فلا ينفر أحد فمن نجا من العقبة نهاراً لم يرجع، ومن بقي تحتها لم تكن فيه نصرة ! وتخاذل الناس وكانوا قد ملوا السفر، فأمر سيف الدولة بقتل البطارقة والزراورة ولك من كان في السلاسل - وكان فيها مئات - وانصرف سيف الدولة.
فاجتاز أبو الطيب آخر الليل بجماعة من المسلمين، بعضهم نيام بين القتلى - من التعب - وبعضهم يحركونهم فيجهزون على من تحرك، فلذلك قال:
وجدتموهم نياماً في دمائكم ... كأن قتلاكم إيّاهم فجعوا
فقال أبو الطيب: يصف الحال بعد القفول في جماد الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة. ويقال: إنه قد قتل في هذه الغزاة من المسلمين زهاء مئة ألف فارس ولم ينج سيف الدولة إلا في شرذمة يسيرة.
غيري بأكثر هذا النّاس ينخدع ... إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا
قوله: هذا الناس إنما وجه فيه الإشارة، أنه حمله على لفظ الناس ثم قال: إن قاتلوا إلى آخره، فرد الكناية إلى المعنى، وروى: هذا الخلق: وهذا ظاهر.
يقول: غيري ينخدع بأكثر هؤلاء الناس، ويغتر بأقوالهم، فأما أنا، لا أنخدع بهم، ولا أغتر بقولهم، لأني جربتهم فوجدتهم لا خير فيهم، يقولون ما لا يفعلون ! فهم في ألسنتهم شجعان، وفي القتال جبناء لا خير عندهم، ولا غناء.
أهل الحفيظة إلاّ أن تجرّبهم ... وفي التّجارب بعد الغيّ ما يزع
الحفيظة: الشجاعة وأصلها: الغضب؛ لأن الشجاع يغضب عند الحروب، فيحمى عن قومه. وقيل: الحفيظة: الحمية والأنفة، والتجارب: جمع التجربة. ويزع: أي يكف يقول: هم أهل الشجاعة والحمية في الظاهر، وإذا جربتهم ظهر لك ما يزع عن الاغترار بهم، والانخداع بظاهر أحوالهم.
وما الحياة ونفسي بعدما علمت ... أنّ الحياة كما لا تشتهي طبع ؟
الطبع: الدنس، ثم سمى العار والعيب طبعاً وما استفهام في قوله: وما الحياة وموضعها رفع بالابتداء، والحياة: خبره، ونفسي: معطوفة على الحياة. يعني: وما الحياة، وما نفسي.
يقول: ما لنفسي وطلب الحياة، وكيف ترغب نفسي في حياة هي عار عليها، وغير موافقة لها ! وقد علمت نفسي أن الحياة إذا كانت تنغص بما لا تشتهيه: مرة فقر، ومرة تعب، فهي طبع وعار.
ليس الجمال لوجهٍ صحّ مارنه ... أنف العزيز بقطع العزّ يجتدع
المارن: مالان من طرف الأنف. يجتدع: أي ينقطع.
يقول: ليس جمال الرجل في صحة وجهه ومارنه، ولكن جماله في عزته ومنعته، فإن العزيز إذا ذهب عزه ذهب جماله، وكان في الحقيقة مثل من جدع أنفه، لأن السماجة فيه أكثر من قطع الأنف.
أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه ؟ ... وأترك ألغيث في غمدي وأنتجع ؟!
يقول: المجد وحسن الحال إنما يكسبان بالسيف. فأطرح هذا المجد عن كتفي ثم أطلبه ! وأترك سيفي في غمدي، وأنتجع المعروف من وجه آخر ! فإذا فعلت ذلك فكأني قد طلبت الأمر من غير وجهه.

وقيل: إنه إشارة إلى سيف الدولة. أي كيف أتركه وأطلب الخير والمجد من غيره ؟!
والمشرفيّة، لا زالت مشرّفةً ... دواء كلّ كريمٍ أو هي الوجع
يقول داعياً للسيوف: إنها لا تزال شريفة، فإن العز بها يدرك؛ لان الإنسان إما أن ينال بغيته بها، أو يقتل بها، فهي داء ودواء.
ومثله قول بعضهم:
من عاش بالسّيف لاقى عيشه عجباً ... موتاً على عجل، أو عاش منتصفاً
وفارس الخيل من خفّت فوقرها ... في الدّرب والدّم في أعطافها دفع
خفت: أي الخيل. والدرب: مضايق الروم. وقيل: الضرب. وهو المضيق في الجبل مثل الباب. والأعطاف: الجوانب. ودفع: أي دفعة بعد دفعة. رجع إلى ذكر سيف الدولة.
يقول: الفارس الشجاع من ثبت خيله وسكنها في الدرب، والدم يجري في أعطافها دفعة بعد دفعة.
وأوحدته وما في قلبه قلقٌ ... وأغضبته وما في لفظه قذع
وأوحدته: أي جعلته الخيل وحيداً فريداً وانفرد عنها، ولم يداخله قلق لوحدته، وكذلك لما أغضبته الخيل، بتقاعدهم عنه، لم يتلفظ بالخنا والفحش.
وروى: وأوجدته: أي أغضبته. من الموجدة وهي الغضب. يعني أن أصحابه لما انهزموا غضب لذلك، ولكن لم يعلق لهذا الغضب ولم يتلفظ بالقبيح.
بالجيش تمتنع السّادات كلّهم ... والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع
يقول: كل سيد وأمير يمنعه جيشه من الأعداء، ويدفع عنه شرهم، إلا سيف الدولة، فإنه يمنع جيشه بنفسه، ويذب عنه بسيفه.
قاد المقانب أقصى شربها نهلٌ ... على الشكيم وأدنى سيرها سرع
المقنب: الجماعة من الخيل. والنهل: الشرب الأول، والشكيم: جمع الشكيمة، وهي الحديدة المعترضة في فم الدابة. وسرع: في معنى سريع. وقيل: مصدر سرع سرعاً مثل ضخم ضخما.
يقول: قاد الجيش إلى بلاد الروم، وكان غاية شرب خيله النهل، ومع ذلك كانت لجمها في أفواهها لا تنزع، وكان أقل سيرها سريعاً. فكيف أعلاه ؟!
لا يعتقى بلدٌ مسراه عن بلدٍ ... كالموت ليس له ريّ ولا شبع
لا يعتقى: أي لا يمنع، يقال: عاقه واعتاقه، مقلوب من عقاه واعتقاه ومسراه: مصدر سرى يسري، وهو مفعول لا يعتقى.
يقول: لا يثبت في بلد من بلاد الروم، ولا يعوقه بلد عن آخر، فإذا فتح بلداً تحاوزه إلى آخر فيفتحه، فكأنه الموت لا يشبع، ولا يروى من هلاك الأنام، وسلب لنفوس. وشبهه بالموت، وشبه البلاد بالنفوس.
حتّى أقام على أرباض خرشنةٍ ... تشقى به الرّوم والصّلبان والبيع
الأرباض: جمع الربض، وهي نواحي المدينة، وما يبنى حول سورها من خارج. والصلبان: جمع صليب، تزعم النصارى أنه صورة الخشبة التي صلب عليها المسيج. وخرشنة: بلد أو حصن.
يقول: لم يزل يسير في بلاد الروم حتى انتهى إلى خرشنة، ونزل على أرباضها، يغير على نواحيها ويكسر صلبانها ويهدم بيعها
للسّبي ما نكحوا، والقتل ما ولدوا ... والنّهب ما جمعوا، والنّار ما زرعوا
إنما قال: ما نكحوا وما ولدوا لأحد ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه أجراهم مجرى ما لا يعقل من البهائم، فاستعمل لهم لفظ ما لأنها لما لا يعقل.
والثاني: أن ذلك لغة حكاها أبو زيد عن أهل الحجاز. قال، يقولون: سبحان ما يسبح الرعد بحمده.
والثالث: أنه في معنى المصدر، تقديره: للسبي نكاحهم، وللقتل ولادتهم.
يقول: إنه كان يسبي نساءهم، ويقتل أولادهم، وينهب أموالهم ويحرق زرعهم.
مخلىً له المرج منصوباً بصارخةٍ ... له المنابر، مشهوداً بها الجمع
مخلى: في موضع نصب على الحال. وكذلك منصوباً ومشهوداً والهاء في بها تعود إلى صارخة. والمرج وصارخة: موضعان من نواحي خرشنة، وهي من أوسط ممالك الروم.
يقول: أخلى له هذان الموضعان. ونصب له بصارخة المنابر، وبني فيها المساجد، وأقام الجمعة، فشهد الناس الجمع بها.
يطمّع الطير فيهم طول أكلهم ... حتّى تكاد على أحيائهم تقع
الطير: مفعول يطمع. وطول: فاعله.
يقول: إن الطير قد تعودت أكل لحوم القتلى منهم، فتكاد تقع على أحيائهم، فضلا عن موتاهم.
ولو رآه حواريّوهم لبنوا ... على محبّته الشّرع الّذي شرعوا
يقول: إنه مع نكايته فيهم، محبوب إلى قلوبهم لشجاعته وسخاوته، فلو رآه حواريّ النصارى لبنوا شريعيتهم على محبته.

ذمّ الدّمستق عينيه وقد طلعت ... سود الغمام فظنّوا أنّها قزع
القزع: السحاب المتفرق.
يقول: إن عيني الدّمستق كذّبتاه، حتى ظنّ جيشك العظيم، الذي هو بمنزلة الغمام الأسود، أنه قليل، بمنزلة القطع المتفرقة من السحاب، فلما علم ذلك ذم عينيه، وإنما خص الغمام الأسود، لأنه أهول منظراً وأكثر في السماء إجراء وتراكماً، فهو إشارة إلى الكثرة، ولأن فيها تكون الصواعق أكثر من غيرها، فهي بمنزلة الجيوش.
فيها الكماة الّتي مفطومها رجلٌ ... على الجياد الّتي حوليّها جذع
الكمى: الشجاع المتكمي في السلاح أي المستتر. وقيل: إنما سمى كمياً؛ لأن مواضع مقاتله كمى على قرنه. والحولي: الذي أتى عليه حول. والجذع: الذي تم له حولان.
يقول: في هذه الغمام السود، الشجعان الذي كل طفل منهم كأنه رجل؛ لشدته، أو كأنه أرجل من غيرهم، وكل مهر حولي من خيلهم كأنه جذع لقوته أو كأنه جذع من أفراس غيرهم.
يذرى اللّقان غباراً في مناخرها ... وفي حناجرها من آلس جرع
اللقان: جبل في بلاد الروم. وقيل موضع. وآلس: نهر. وقيل بينهما مسيرة يومين. ويذرى: أي يثير ويفرق. وفيه معنيان.
أحدهما: أنه يريد سرعة السير أي أن الخيل شربت الماء من آلس وسارت منه ووصلت إلى اللقان، والماء بعد في حلوقها لم تسغه فاختلط غبار اللقان في مناخرها، بماء آلس في حناجرها.
والثاني: أنه يريد كثرة الجيش حتى أن أوله يثير الغبار باللقان، وآخره على آلس يشرب من مائه كما قال غيره:
بيثرب أخراه وبالشّام قادمه
كأنّها تتلقّاهم لتسلكهم ... فالطّعن يفتح في الأجواف ما يسع
يقول: كأنه خيله تتلقى الروم لتسلكهم وتنفذ فيهم، كما ينفذ السهم، فالطعن يفتح لهم في أجواف أعدائهم ما تسع الفارس وفرسه. يعني أن كل طعن كأنه درب يسع الفارس، فلو أراد السلوك فيها أمكنه ..
تهدى نواظرها والحرب مظلمةٌ ... من الأسنّة نارٌ والقنا شمع
نار: فاعل تهدى ومفعوله. نواظرها. والهاء للخيل. والقنا: في موضع الجر عطفاً على الأسنة، ويجوز أن يكون في موضع الرفع على الابتداء، وشمع: خبره، والجملة في موضع النصب على الحال.
يقول: إذا أظلمت الحرب بالغبار، وتحيرت فيها عيون الفرسان، هداها لمع الأسنة في الرماح.
شبه القنا بالشمع، والأسنة بالنار التي في رءوسها، وهذا تشبيه بديع.
دون السّهام ودون الفرّ طافحةٌ ... على نفوسهم المقوّرة المزع
الفر: الفرار، وطافحة: أي مرتفعة، من طفحت القدر إذا جاشت وعلا زبدها. والمقورة: الخيل الضامرة. والمزع: السراع.
يعني أن هذه الخيل الضامرة السراع، واثبة على نفوس الأعداء عالية عليهم، وحائلة بينهم وبين الرمي بالسهام، والفرار بالانهزام، بل تسبق إليهم الخيل دون ذلك.
وروى: دون السهام ودون القر والمراد بالسهام: السموم، وهي الحر والقر: البرد والمزع بكسر الميم وفتح الزاي، والمقورة: الدرع، والمزع: صفتها، وهي الخلقة.
يعني أن خيله لا يلبسها من الحر والبرد والثياب المعتاد، ولكن دروع أخلقتها كثرة اللبس، والمداومة عليها.
إذا دعا علجاً حال بينهما ... أظمى تفارق منه أختها الضّلع
أراد بالعلج: الرومي. وبالأظمى: الرمح الأسمر.
يقول: إذا دعا الرومي رومياً آخر لينصره حال بين الداعي والمدعو. رمح أظمى، فيفرق بينهما، كما يفرق أحد الأضلاع من الآخر. والهاء في منه تعود إلى الأظمى وفي أختها إلى الضلع وهي المقدمة في المعنى، ورفعها لأنها فاعلة: تفارق.
أجلّ من ولد الفقّاس منكتفٌ ... إذ فاتهنّ، وأمضى منه منصرع
ولد الفقاس: هو الدمسق والمنكتف: المشدود إليه إلى خلف. والكناية في فانهن تعود إلى خيل سيف الدولة، وهي المعبر عنها بسود الغمام.
يقول: إن كان الدمستق قد نجا بنفسه، وفات خيلك، فقد أسر من أصحابه من هو أجل منه، وصرع منهم من هو أشجع منه.
وما نجا من شفار البيض منفلتٌ ... نجا ومنهنّ في أحشائه فزع
الشفار: جمع الشفرة، وهي حد السيف. وأراد بالبيض: السيوف، والأصل فيه الصفة، ثم صار اسماً لها، والكناية في منهن تعود إلى الشفار. ومنفلت ليس بالفصيح. والجيد المفلت والأول أيضاً لغة.

يقول: إن كان الدمستق قد نجا من سيوفك، فلم يفلت إلا وقلبه مملوء من الفزع، فقد حل في قلبه من الخوف ما يقوم مقام قتله. ومثله لأبي تمام:
إن ينج منك أبو نصر فعن قدرٍ ... ينجو الرجال ولكن سله كيف نجا ؟!
يباشر الأمن دهراً وهو مختبلٌ ... ويشرب الخمر حولاً وهو ممتقع
المختبل: الفاسد العقل. والممتقع: المتغير اللون.
يقول: قد دخل قلب الدمستق من الخوف، ما يباشر معه الأمن دهرا طويلا، وعقله زائل ويشرب الخمر حولا كاملا ولونه حائل، لشدة الفزع الذي حصل له، مع أن شرب الخمر يظهر في اللون حمرة.
كم من حشاشة بطريقٍ تضمّنها ... للباترات أمينٌ ما له ورع
الحشاشة: بقية النفس. والبطريق: عند الروم القائد. وتضمنها: أي تكفل بها. والمراد بالأمين: القيد.
يقول: كم من روح قائد من قواد الروم تكفل بها للسيوف القواطع القيد، وهو أمين، حتى يرد عليها، وإن لم يكن له ورع يكفه عن الخيانة.
وقيل: أراد بالأمين سيف الدولة، وتركه للتورع هو أنه يقتلهم لأنهم كفار، ويعرض عن عفوهم، إذ التورع يقتضي ذلك. والأول أولى.
يقاتل الخطو عنه حين يطلبه ... ويطرد النّوم عنه حين يضطّجع
يقاتل الخطو عنه: الضمير في عنه للبطريق.
يقول: إذ طلبه خطوه لينجيه، دفع القيد عنه فجعل ذلك مقاتلة بين الخطو وبين القيد، وإذا أراد أن ينام طرد عنه النوم هذا القيد. وهذا أحسن المعاني في وصف القيد. وقد قال أبو نواس مثله أو قريباً منه:
إذا قام أعيته على السّاق حلقةٌ ... بها خطوه عند القيام قصير
تغدو المنايا فلا تنفكّ واقفةً ... حتّى يقول لها: عودي، فتندفع
تندفع: أي تسير سيراً سريعاً.
يقول: إن الموت تحت طاعته، فيغدوا كل يوم، فيقف بين يديه، انتظاراً لأمره، فإذا أمره بالوقوع بالأعداء يقول له: اعد إليهم، اندفع إليهم في السير، وأسرع في إجابته وطاعته، فأتى على أرواحهم.
قل للدمستق: إن المسلمين لكم ... خانوا الأمير فجازاهم بما صنعوا
يقول: إن المسلمين بفتح اللام: أي الذين أسلمهم سيف الدولة إلى أعدائهم ولم يذب عنهم، إنما فعل ذلك لأنهم خانوه، وخالفوا أمره، فتركهم حتى ظفر بهم العدو، وجعل ذلك جزاء مخالفتهم لأمره، ومعناه: أنهم لما خالفوه لم يظفروا بعدوهم.
وجدتموهم نياماً في دمائكم ... كأنّ قتلاكم إيّاهم فجعوا
لما انهزم أصحاب سيف الدولة، التجأ من لا يمكنه الفرار منهم إلى قتلى الكفار، وطرح نفسه بين القتلى، وتخضب بدمائهم؛ ليحسب أنه قتيل فلا يتعرض له.
فيقول: إنما أسرتم كل عاجز لم يكن له حيلة سوى أن يطرح نفسه بين القتلى، ويخضب بدمائهم، فكأنه هو الفجيع بقتلاكم، يلقى نفسه عليهم أسفاً، ويتخضب بدمائهم جزعاً
ضعفي تعفّ الأعادي عن مثالهم ... من الأعادي وإن همّوا بهم نزعوا
يقول: الذين أسرتموهم، وقتلتموهم كانوا ضعفى، بحيث إذا ظفر العدو بعدوه على حالة مثلها أمسك عنه، وإن هم بقتله نزع عنه: أي كف عنه، لأن حاله شر من القتلى.
وروى: وإن هموا وإن نزعوا أي لا يقتلهم العدو وإن هموا بقتلهم، ومالوا إليه.
لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمق ... فليس يأكل إلاّ الميّت الضّبع
يقول: لا تظنوا أن من أسرتم كان حياً، بل لم تأسروا إلا كل ميت لم يبق فيه رمق، لأنكم كالضبع، والضبع لا يأكل إلا الميت فلو كانوا أحياء لما أمكنكم أسرهم.
هلاّ على عقب الوادي وقد صعدت ... أسدٌ تمرّ فرادى ليس تجتمع ؟
العقب: جمع عقبة. وروى على عقب الوادي: وهو أسفله وآخره. وقيل: هو موضع بعينه.
يقول: فهلا أسرتم، أو هلا وقفتم أو حاربتم حين عبرنا الوادي وصعدنا عقبه، وكانت خيلنا كالأسود، تمر فرادى للحرب لا يتوقف بعضها لبعض.
تشقكم بفتاها كلّ سلهبةٍ ... والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع
روى: بقناها: أي برماحها. وروى: بفتاها، والمراد به سيف الدولة. والسلهبة: الفرس الطويلة، وقيل: الضامرة الخفيفة.
يقول: هلا تعرضتم لنا حين كانت الخيل السلاهب تشقكم برماحها، أو بفتاها: أي تحمل إليكم رجلا يقتلكم، أو رماحاً تطعنون بها. وقوله: الضرب يأخذ منكم فوق ما يدع أي أن من قتل منكم وجرح أكثر ممن سلم وتخلص من القتل والجرح.

وإنّما عرّض اللّه الجنود بكم ... لكي يكونوا بلا فسلٍ إذا رجعوا
يقال: عرضته للسيف: أي أمكنت السيف من عرضه، أي جانبه. والفسل: الضعيف الردىء من الرجال.
يقول: إنما مكنكم الله تعالى من جيش سيف الدولة ليتطهروا من الأوباش، فلا يبقى فيهم إلا كل شجاع فاتك فيعاودكم جيشة ليس فيه إلا الحماة والكماة.
فكلّ غزوٍ إليكم بعد ذا فله ... وكلّ غازٍ لسيف الدّولة التّبع
يقول: قد صفا جيشه من كل فسل، فكل غزو بعد هذا الغزو هو لسيف الدولة، والظفر له دونكم، وكل غاز تابع له، وداخل في جملته.
تمشي الكرام على آثار غيرهم ... وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع
يقول: كل كريم يتبع في كرمه من تقدمه من الكرام، وأنت تحدث من الكرم ما لا يسبقك إليه أحد، وتبتدع ابتداعاً، ليس لأحد مثله !
وهل يشينك وقتٌ كنت فارسه ... وكان غيرك فيه العاجز الضّرع
يشينك: أي يعيبك. والضّرع: الضعيف. والهاء في فارسه للوقت وكذلك في فيه وكان أصله: فارساً فيه. إلا أنه أضافه إليه.
يقول: أي عيل لك، إذا ثبت وانهزم أصحابك ! ليس فيه عيب، بل فيه فخر، لأنه أظهر شجاعتك وعجز غيرك.
وقيل: معناه ما شانك وقت من الأوقات في الحروب لأنك لم تنهزم قط، في وقت انهزم غيرك فيه، بل كنت الغالب وغيرك العاجز.
من كان فوق محلّ الشّمس موضعه ... فليس يرفعه شيءٌ ولا يضع
يقول: أنت أعلى من أن تضع الهزيمة من قدرك، أو يرفع الظفر محلك؛ لأنك فوق الشمس ومن كان كذلك لا يضع منه شيء ولا يرفعه؛ لأنه لا نهاية فوقه.
لم يسلم الكرّ في الأعقاب مهجته ... إن كان أسلمها الأصحاب والشّيع
يقول: إن أصحابه أسلموه فإن كره في أعقاب عدوه لم يخذله، فلم يضره خدلان أصحابه وأشياعه إياه. والهاء في أسلمها للمهجة.
ليت الملوك على الأقدار معطيةٌ ... فلم يكن لدنيٍّ عندها طمع
يقول: لو أن الملوك يعطون الناس على أقدارهم، لم يطمع الدنيء في الاتصال بهم والقرب منهم. كأنه يعرض بسيف الدولة، أنه لو كان ينفي الأراذل من جنده لم تتنفق هذه الهزيمة عليه. ويعرض بشعرائه، لأنهم لا يستحقون ما يستحقه من العطاء.
رضيت منهم بأن زرت الوغى فرأوا ... وأن قرعت حبيك البيض فاستمعوا
حبيك البيض: طرائقه.
يقول: كنت رضيت من جندك أن يكونوا نظارة، وإن ضربت الأعداء سمعوا صوت وقع السيف على رءوس الأعداء وبيضهم.
وقيل: إنه تعريض لبعض شعرائه. ومعناه: وقد رضيت منهم أن يحضروا القتلا، وأن يروا ضربك الأعداء، ويستمعوا وقع الصوت على بيضهم، ومن الواجب ألا ترضى منهم بذلك، بل كان يجب أن يضربوا بين يديك، كما أضرب أنا. والأول أظهر.
لقد أباحك غشاً في معاملةٍ ... من كنت منه بغير الصّدق تنتفع
يقول: قد أوسع في الغش معك، في معاملة، من كذبك من نفسه، وأظهر لك غير ما في ضميره، ونافقك في موالاته.
الدّهر معتذرٌ والسّيف منتظرٌ ... وأرضهم لك مصطافٌ ومرتبع
المصطاف: موضع الإقامة في الصيف والمرتبع: في الربيع.
يقول: هذه الهزيمة كانت زلة من الدهر، فهو يعتذر منها إليك، وسيفك ينتظر معاودتك غزوهم، ليتلافى ما فرط، وأرضهم لك تنزلها أيام الصيف والربيع، ولا يقدرون على ردك عنهم، ودفعك عن ديارهم.
وما الجبال لنصرانٍ بحاميةٍ ... ولو تنصّر فيها الأعصم الصّدع
الأعصم: الوعل الذي في إحدى يديه بياض. والصدع: الوعل بين السمين والهزيل. وقيل: الوعل اللطيف الجثة.
يقول: لو التجأت النصارى إلى الجبال لم تمنعهم منك، حتى لو تنصرت الأوعال التي في الجبال لكنت تصطادها بقوتك وتمضي فيها مرادك.
وما حمدتك في هولٍ ثبتّ له ... حتى بولتك والأبطال تمتصع
تمتصع: أي تقتتل يقول: لم أمدحك في شعري إلا بعد أن جربتك وشاهدتك ثباتك في الأهوال، ومضاربتك فيما بين الأبطال.
فقد يظنّ شجاعاً من به خرقٌ ... وقد يعدّ جباناً من به زمع
الخرق: الطيش. والزمع: الروية والعزم، وقيل: هو الثبات، وقيل: رعدة تصيب الرجل عند الغضب.
يقول: لم أمدحك إلا بعد التجربة فقد يحسب الأخرق المتهور في الحروب من غير تدير شجاعا، ويحسب الشجاع إذا قدم بالتدبير والعزم والثبات على الحروب جباناً أو إذا رؤى زمعه وارتعاده من الغضب يظن أنه جبان.

إنّ السّلاح جميع النّاس تحمله ... وليس كلّ ذوات المخلب السّبع
كل ذوات المخلب السبع: مبتدأ وخبر. في موضع نصب بخبر ليس، والاسم: مضمر وهو ضمير الأمر والشأن. وقيل: إن ليس ها هنا بمنزلة ما في لغة بني تميم لا ينصب خبرها.
يقول: ليس كل من يحمل السلاح شجاعاً، كما أن ليس كل ذي مخلب أسد، فقد يحمل الجبان السلاح كما يحمله الشجاع، وقد يكون لغير الأسد مخلب، كالكلب والذئب والضبع، كما يكون للأسد.
وتوقف سيف الدولة في الغزاة الصائفة في جمادي الآخرة سنة أربعين وثلاث مئة ببقعة عربسوس على افتراق القرى ثم أصبح صافا يريد سمندو، وقد اتصل به أن العدو بها جامعاً معد في أربعين ألفا، فتهيب جيش سيف الدولة الإقدام عليها، وأحب سيف الدولة المسير إليها، فاعترضه أبو الطيب وأنشده ارتجالا فلما بلغ إلى قوله:
وإن كنت سيف الدّولة العضب فيهم
قال سيف الدولة: قل لهؤلاء وأومأ بيده إلى من حوله من العرب والعجم - يقولوا كما تقول حتى لا ينثني الجيش، فما تجمل أحد منهم بكلمة.
نزور دياراً ما نحبّ لها مغنى ... ونسأل فيها غير سكّانها الإذنا
المغنى: المنزل. والضمير في لها وسكانها للديار.
يقول: نحن نزور دياراً لا نحب مغانيها، لأنها ديار الأعداء، لا ديار الأحباب، وإن كانت هذه ليست بزيارة، غير أن الصورة صورة الزيارة، لأنا لا نريد المقام بها كما يفعل الزائر، ونحن نسأل لدخول هذه الديار الإذن من غير سكانها الذين هم الروم، فنستأذن سيف الدولة، وندخلها بإذنه.
نقود إليها الآخذات لنا المدى ... عليها الكماة المحسنون بها ظنّا
الكناية في إليها ولها للديار، وفي عليها بها للآخذات، والمدى: الغاية. يقال: أخذ هذا الفرس المدى: إذا سبق.
يقول: نقود إلى ديار الروم خيلاً سوابق، عليها شجعان، يحسنون الظن لأنهم جربوها فعرفوها بالجودة.
ونصفي الّذي يكنى أبا الحسن الهوى ... ونرضى الّذي يسمى الإله ولا يكنى
يقول: نصفي الحب للّذي كنيته: أبو الحسن، وهو سيف الدولة، ونرضي الله تعالى، وذلك اسمه، ولا يجوز أن يكنى.
وقد علم الرّوم الشّقيّون أنّنا ... إذا ما تركنا أرضهم خلفنا عدنا
يقول: قد علم الروم الأشقياء أنا إذا ارتحلنا عن ديارهم، عدنا إليها مرة أخرى، ولا نزال نعاودهم حتى نستأصلهم.
وإنّا إذا ما الموت صرّح في الوغى ... لبسنا إلى حاجاتنا الضّرب والطّعنا
صرح: ظهر، وانكشف.
يقول: قد علموا أنا نخوض الضرب والطعن، حتى نصل إلى مرادنا ولا يردنا عنه الموت الصريح.
قصدنا له قصد الحبيب لقاؤه ... إلينا، وقلنا للسّيوف هلمّنّا
الضمير في له يعود إلى الموت. وفي قوله لقاؤه إلى الحبيب.
يقول: إذا ظهر الموت في الحرب قصدنا إليه مسرعين. كما نقصد جيباً نشتهي لقاءه وأشهدنا علينا السيوف، وقلنا لها تعال إلينا. وهلم: اسم للفعل ومعناه: تعال، وهو مركب من فعل وحرف أصلها لم فها تنبه ولم أمر من لم. إذا أتاه والأمر: لم يا رجل. وألم يلم والأمر منه ألمم. ثم جعلا اسماً واحداً. وقيل: هلم فيه لغتان: إحداهما: التسوية بين المذكر والمؤنث والتثنية والجمع.
والثانية: التمييز فتقول: هلما: يا رجلان وهلموا يا رجال، وهلمي يا امرأة. وما في البيت على هذه اللغة، لأنه خطاب للسيوف وأصله هلمي يا سيوف ثم أدخلوا عليه النون الثقيلة فحذفت الياء لسكونها وسكون النون الأولى بعدها فبقي: هلمن فعلى هذا يكون بكسر الميم كما تقول: اضربن يا امرأة. وحكى عن المتنبي أنه كان ينشده بضم الميم، فعلى هذا يكون أجرى السيوف مجرى المذكرين ممن يعقل. كقوله تعالى: " كلّ في فلكٍ يسبحون " ورأيتهم لي ساجدين. وكان أصله هلموا فلما أدخل عليه النون للتأكيد الثقيلة حذفوا الواو؛ لسكونها وسكون النون الأولى، لأن النون الثقيلة كالتنوين.
وخيلٍ حشوناها الأسنّة بعدما ... تكدّسن من هنّا علينا ومن هنّا
حشوناها الأسنّة: أي طعنّاها، وأدخلنا الأسنّة في جلودها، أي رب خيل ملأنا جلودها بالأسنة، بعدما اجتمعن علينا من ها هنا وها هنا، أي من كل جانب. أو من اليمين والشمال، حتى تفرقت عنا مدبرة بين أيدينا.
ضربن إلينا بالسّياط جهالةً ... فلمّا تعارفنا ضربن بها عنّا

وروى: فلما تلاقينا وتقارعنا وجهالة: نصب على أنا المفعول له.
يقول: لما رأونا ضربوا خيولهم إلينا؛ لجهلهم بنا، فلما عرفوا أمرنا ولوا عنا، يضربون خيولهم بالسياط للهرب عنا، كما كانوا يضربونها للإقبال علينا.
وقيل: معناه أنهم ظنونا عسكر الروم فأقبلوا نحونا، فلما تحققوا الأمر ولوا عنا هاربين مستحثين خيولهم.
تعدّ القرى والمس بنا الجيش لمسةً ... نبار إلى ما تشتهي يدك اليمنى
تعد: أي تجاوز. والمس بنا: أي اقصد بنا. نبار: أي نسابق أو نسبق. والتاء في تشتهي: للخطاب لسيف الدولة، فيكون يدك منصوباً. وقيل: راجع إلى اليد، فيكون مرفوعاً.
ومعناه: تجاوز قرى الروم، وأعرض عن الإعادة، واقصد بنا جيش الروم، لكي نسبق في طاعتك، وما تشتهيه يدك اليمنى، فنكون أطوع لك منها.
وقيل: معناه أنا نكون كالرماح نسبق السيف في يدك.
فقد بردت فوق اللّقان دماؤهم ... ونحن أناسٌ نتبع البارد السّخنا
بردت: جمدت. واللقان: موضع.
يقول: إذا أردت دماء الذين قتلناهم، فاقصد بنا إليهم، لتجري دماؤهم الآن، لأنا قوم نتبع البارد. الحار.
وإن كنت سيف الدولة العضب فيهم ... فدعنا نكن قبل الضّراب القنا اللّدنا
يقول: إن كنت سيفاً قاطعاً ماضياً في الروم، فاجعلنا أرماحاً لينة، لنسبق ضربك، أي قدمنا أولاً إلى الحرب، فنكون مثل الرماح، يبدأ بها في القتال فإذا كسرت وآل أمرها إلى الضراب، رجعت النوبة إليك؛ لأنك سيف قاطع، ومثله:
فلمّا أن توافينا قليلاً ... أنخنا للكلاكل فارتمينا
فلمّا لم ندع قوساً وسهماً ... مشينا نحوهم ومشوا إلينا
فنحن الألى لا نأتلي لك نصرةً ... وأنت الّذي لو أنّه وحده أغنى
الألى: بمعنى الذين. لا نأتلي: أي لا نقصر. ونصرة: نصب على التمييز. وقيل: أصله في نصرة ثم حذف حرف الجر، وأوصله إلى ما بعده فنصبه.
يقول: نحن لا نقصر في نصرتك، مع أنك لا تحتاج إلى نصرة أحد، بل في غنائك ما يكفي كل الأعداء.
يقيك الرّدى من يبتغي عندك العلا ... ومن قال: لا أرضى من العيش بالأدنى
يقول: من طلب عندك العلا صار وقاية لك، وجعله الله فداء لك، وكذلك من لا يرضى بالأدنى من العيش، وطلب أقصاه، يقيك الهلاك بنفسه، فإنه لا يدرك منا إلا بك في حياتك.
يعني: إذا كنا نطلب عندك العلو وصفو العيش، فلا بد أن نتقدمك في الحرب، ونجعل نفوسنا وقاية لك، وإن كنت تغتني عنا بنفسك.
فلولاك لم تجر الدّماء ولا اللّها ... ولم يك للدّنيا ولا أهلها معنى
القياس: فلولا أنت. كقوله تعالى: " لَوْلاَ أَنْتُم لَكُنَّا مًؤْمِنين " لأن الاسم بعد لولا مبتدأ، فإذا وقع الضمير بعدها، يجب أن يكون ضمير رفع منفصل، ولكنه أقام ضمير المجرور مقام المرفوع، واللها: الدراهم والدنانير.
يقول: الدماء كلها تجري بسيفك، والعطايا تجري على يديك، وأنت معنى الدنيا وزينة أهلها، فلولا أنت لم يكن للدنيا ولا لأهلها معنى، ولم يكن شجاعة ولا جود.
وما الخوف إلا ما تخوّفه الفتى ... ولا الأمن إلاّ ما رآه الفتى أمنا
تخوفه: أي يخافه.
يقول: الخوف والأمن، ما تصوره الإنسان في نفسه، فإذا تصور في الشيء أنه مخوف خافة، وإن لم يكن مخوفاً وإذا تصور في نفسه أن الشيء مأمون أمن منه، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة، وفيه حث على قتال الروم، ومنع من الخوف منهم.
وقال أيضاً يمدحه ويذكر هذه الغزاة وأنه لم يتم له قصد خرشنة؛ بسبب الثلوج وهجوم الشتاء.
عواذل ذات الخال فيّ حواسد ... وإنّ ضجيع الخود منّي لماجد
الخال: قيل هو الخيلاء، أي ذات الخيلاء. وقيل أراد به: الخال الذي يكون في الخد، مثل الشامة وجمعة خيلان. والخود: الناعمة الحسنة الخلق. والماجد: الكثير الشرف، وكنى به عن العفيف.
يقول: إن النساء اللواتي يعذلن هذه الجارية ذات الخال في وصلها إياي لسن بعواذل في الحقيقة، وإنما هن الحواسد، يحسدونها علي، بحبي إياها. ثم استأنف وقال: إن ضجيع الخود مني لماجد أي إذا ضاجعتها عففت عنها، ولم ينلها من جهتي عار. وأراد بالضجيع نفسه وهمته ولهذا قال منى أي أن الذي يضاجعها منى ماجد عفيف.
يردّ بداً عن ثوبها وهو قادرٌ ... ويعصى الهوى في طيفها وهو راقد

فاعل يرد ضمير الضجيع، وكذلك جميع الكنايات تعود إليه.
يقول: إذا خلوت معها رددت يدي عنها وأمسكتها عن ثوبها، ولو أردت لقدرت منها على ما اشتهيت، وإذا رأيت طيفها في النوم عصيت الهوى فيه، وعففت عنه، فحالي في النوم مع الطيف كحالي في اليقظة معها.
ومعناه: أن الفاحشة لا تخطر ببالي لاستعمال العفة في اليقظة، لأن الإنسان إنما يرى في المنام ما حدثته به نفسه في حال اليقظة، وأخذ منه التهامي هذا المعنى فقال:
إذا ما أراد الطّيف تقبيل ثغره ... ثنى وجهه عن لثمه بلثامه
فكيف يرجّى منه حال انتباهه ... حنوّاً، فهذا فعله في منامه
متى يشتفي من لاعج الشّوق في الحشى ... محبّ لها في قربه متباعد
لاعج الشوق محرقه، وفاعل يشتفي محب.
يقول: متى يشتفي العاشق من شوقه المحرق له، إذا كان في حال قربه من الحبيب متباعد منه. يعني أن العاشق إنما يداوي شوقه بلقاء حبيبه، فإذا باعده أيام قربه لم يشتف منه.
إذا كنت تخشى العار في كلّ خلوةٍ ... فلم تتصبّاك الحسان الخرائد ؟!
تتصباك تستميل قلبك. وقيل: تحملك على الصبي. وتعرضك له، والخريدة: الجارية الناعمة.
يخاطب نفسه ويقول: إذا كنت تختار العفاف في كل خلوة وتعد القرب من الحسان عاراً، فلماذا تعشقك النساء الحسان ؟! ومالك والتعرض للهوى ! وقريب منه:
من راقب النّاس مات غمّاً ... وفاز باللّذة الجسور
ألحّ عليّ السّقم حتّى ألفته ... وملّ طبيبي جانبي والعوائد
ألح دام والعوائد جمع العائد؛ وخص النساء لأنهن أعطف قلوباً، وأدوم على العيادة، فإذا ملت النساء من العيادة فالرجال أكثر ملالاً.
يقول: إن السقم قد لازمني حتى ألفته واستأنست به، وحتى ملني الطبيب والعوائد وأسلموني لما بي.
مررت على دار الحبيب فحمحمت ... جوادي، وهل تشجو الجياد المعاهد ؟!
تشجو أي تحزن والجياد مفعوله والمعاهد الفاعل. وهي المنازل، والواحد معهد.
يقول: مررت بدار الحبيب فعرفت جوادي، فحمحمت لما تذكرت أيامها حين، كنت أزور الحبيب عليها. ثم تعجب وقال: كأن الجياد أيضاً تشتاق إلى الديار ! وتشجوها المنازل ومفارقة الأحباب ! ثم رجع عن التعجب في البيت الذي بعده.
وما تنكر الدّهماء من رسم منزلٍ ... سقتها ضريب الشّول فيها الولائد ؟
الدهماء الفرس السوداء، وهي الجواد المذكورة قبل، والضريب: اللبن الخاثر والشول: جما شائل وهي الناقة التي قل لبنها، وذلك أحمد اللبن، وألطفه، والهاء في فيه للمنزل. والوليدة: الأمة والخادمة.
يقول: كيف تنكر فرسي أثر الموضع التي كانت الولائد تسقيها اللبن فيه من الشول حتى اعتادت ذلك ؟ أي كان من الواجب عليها أن تعرف ذلك، وتحزن لفراق هذا المنزل.
أهمّ بشيٍ واللّيالي كأنّها ... تطاردني عن كونه وأطارد
أهم بشيء: أي عزم عليه وأريده. والمطاردة: المحاربة. وقوله: أطارد فيه محذوف، أي وأطاردها عن كونه، وأخبر عما يهم به بالنكرة، ليكون أعظم في النفوس.
يقول: إني أحاول أمراً عظيماً وأريد أن أحصل مرادي فيه، والأيام تدافع عنه وتحاربني عليه. ومثله لآخر:
يطردني دهري وأحداثه ... عن كون ما أبغي وما أطلب
وما ينال المرء مأموله ... ودهره عنه به يهرب
وحيداً من الخلاّن في كلّ بلدةٍ ... إذا عظم المطلوب قلّ المساعد
نصب وحيداً على الحال في الضمير الذي في أطارد أي أطارد الليالي وحيداً. وروى: مرفوعاً، فيكون خبر ابتداء محذوف. أي أنا وحيد.
يقول: أحاول أمراً عظيماً وأنا وحيد فالليالي تدافعني عنه، ولا أجد خليلاً يساعدني عليه، والمطلوب إذا كان عظيماً قل من أن يساعد طالبه.
وتسعدني في غمرةٍ بعد غمرةٍ ... سبوحٌ لها منها عليها شواهد
وروى: تساعدني، وهو معنى تسعدني والشواهد: الدلائل والهاء في لها وعليها ومنها للسبوح.

يقول: يساعدني فيما أطلبه فرسي السبوح، وتقتحم معي الغمرات والشدائد، مرة بعد مرة، ثم وصف فرسه فقال: لها منها عليها شواهد أي لها من خلقها شواهد على عتقها. يعني إذا نظرت إلى حسن أعضائها استدللت على كرمها. وقيل: إن الضمير في لها للسبوح وفي منها وعليها للغمرة. يعني بهذه الفرس شواهد من هذه الغمرة التي خاضتها، وهذه الشواهد التي لها، تشهد على الغمرة بأنها قد خاضتها، وهي آثار الطعن.
وعيب عليه في الجمع بين حروف الجر، والكنايات المتناسبة ولا مطعن عليه. ومثله: في القرآن العظيم قوله تعالى: " وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا " ، " وَلِيَ فِيهَا مآرِبُ أَخْرَى " وفي الشعر قول الكميت:
إنّ ابن حزم عمرو من ذوى كرمٍ ... لي فيه منه علاماتٌ وآثار
تثنّى على قدر الطّعان كأنّما ... مفاصلها تحت الرّماح مراود
المراود جمع مرود، وهو الحلقة التي في رسن الدابة، يكون فيها مسمار يدور عليها ذلك، فذلك المسمار هو المرود.
يقول: إنها تتمايل وتتصرف بفارسها عند المطاعنه، على حسب ما يحتاج إليه الفارس، فكأن مفاصلها تحت الرماح: المرود الذي يدور في الحلقة، أو تدور الحلقة حيثما أديرت.
وقيل: المرود: هو الذي يكحل به، وهو الميل. فيكون من باب المقلوب ومعناه: كأن الرماح تحت مفاصلها المراود.
والمقصد في الوجهين وصفها بلين المفاصل، وجودة الانعطاف عند الجولان والطعان.
وأورد نفسي والمهنّد في يدي ... موارد لا يصدرن من لا يجالد
والمهند السيف المطبوع، على مثال سيوف الهند. من لا يجالد أي من لا يحارب، ولا يجيد الضرب بالسيف.
يقول: إني أورد نفسي - وسيفي في يدي - موارد الحرب التي لا يسلم منها إلا كل شجاع فاتك مجيد الضرب.
ولكن إذا لم يجمل القلب كفّه ... على حالةٍ لم يحمل الكفّ ساعد
الهاء في كفه يعود إلى من في قوله: من لا يجالد.
يقول: الرجل إذا لم يكن له قلب يحمل كفه لم يحملها ساعده، لأن القوة والشجاعة من القلب.
خليليّ إنّي لا أرى غير شاعر ... فلم منهم الدّعوى منّى القصائد ؟
يقول: كلمن أرى يدعي أنه شاعر، ولكنما بلهم اقتصروا على مجرد الدعوى، ولم يشاركوني في المعنى كما يشاركوني في الاسم.
فلا تعجبا؛ إنّ السّيوف كثيرةٌ ... ولكنّ سيف الدّولة اليوم واحد
يقول: لا تعجبا من حالنا، فأنا واحد في الشعر، وغيري مدع، كما أن السيوف كثيرة، وليس شيء، منها كسيف الدولة، فهو واحد بين السيوف. يعني أنه في الشعر كسيف الدولة في الأمراء، وقوله: اليوم زائدة.
له من كريم الطّبع في الحرب منتض ... ومن عادة الإحسان والصّفح غامد
يقول: الكرم يبعثه على المحاماة في الحرب والذب، فينتضى من غمده على الأعادي، وله عادة الإحسان والصفح عن المذنب. وذلك يحثه على العفو.
ولمّا رأيت النّاس دون محلّه ... تيقّنت أنّ الدّهر للنّاس ناقد
يقول: لما رأيت سيف الدولة أعلى الناس محلا، ورأيتهم دونه، علمت أن الدهر ناقد، ينزل كل أحد منزلته.
أحقّهم بالسّيف من ضرب الطّلى ... وبالأمر من هانت عله الشّدائد
يقول: أحق الناس بأن يسمى سيفا: من يضرب رقاب الأعداء، فيعمل عمل السيف، وأولاهم بالأمر والنهي: من تسهل عليه شدائد الزمان، وليس كذلك إلا سيف الدولة، فلهذا اختص بهذا الاسم، وتفرد بالأمر والنهي.
وقيل: معناه أحقهم بأن يكون صاحب السيف، من يضرب رقاب الأعداء ومن يتحمل شدائد الدهر، أولى بالأمر. وروى: بالأمن بالنون.
وأشقى بلاد اللّه ما الّروم أهلها ... بهذا وما فيها لمجدك جاحد
ما الأولى: بمعنى الذي أي الروم أهلها. وما الثانية: للنفي. والضمير في أهلها وفيها يعود إلى معنى ما الأولى، لأنه بمعنى البلدة والأرض. ولمجدك جاحد هذا مثل قوله تعالى: " حَتَّى إذا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْن بِهم " ومثل قول جرير:
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيّتها الخيام
استفهم أولا عن الغائب، ثم عدل إلى الخطاب.
وفي إعراب البيت خلل، لأنه إن حمل على أنه فصل بين أفعل، وما هو من تمامه، بخبر الابتداء، وهو قبيح، لأنه قال: أشقى بلاد الله ما الروم أهلها بهذا.
وتأويله: أن قوله: بهذا متعلق بمحذوف يدل عليه أشقى، أي شقوا بهذا.

المعنى: أشقى البلاد بك بلاد الروم، وأهلها أشقى الناس بك، لأنها أبداً بك تخرب بلادهم، وتغير عليهم وتسبي نساءهم، وأهليهم، وهممع ذلك يقرون بفضلك، وشرفك حتى ليس فيهم أحد ينكر ذلك.
شننت بها الغارات حتّى تركتها ... وجفن الّذي خلف الفرنجة ساهد
شننت أي فرقت بها أي بالروم. والغارات هي التي تغير عليها. والفرنجة ناحية بأقصى بلاد الروم، تجاور الأندلس. وقيل: خلف الفرنجة أراد به قسطنطينية، وهي وراء الفرنجة. وأراد بالذي ملك الروم أو ملك الفرنجة. يعني أغرت على بلاد الروم وعممتها بخيلك وسراياك، حتى صاحب الفرنجة، أو ملك الروم، لا تنام عينه خوفاً منك.
مخضّبة والقوم صرعى كأنّها ... وإن لم يكونوا ساجدين، مساجد
مخضبة نصب على الحال. أي شنت بها الغارات، وسفكت فيها الدماء، حتى خضبت الأرض بدماء القتلى، فكأن الأرض مساجد مخلقه، والقوم الصرعى فيها، كأنهم ساجدون، وإن لم يكونوا سجوداً في الحقيقة.
شبه الدم بالخلوق الذي يكون في المساجد.
تنكّسهم والسّابقات جبالهم ... وتطعن فيهم والرّماح المكايد
قال الليث: طعنه بالرمح يطعنه طعناً، وطعنه بالقول يطعنه طعاناً، ففرق بينهما في المصدر، وأما في المستقبل فمضموم العين. وقيل: يجوز طعاناً في الرمح أيضاً. وعن الليث عن بعضهم: يطعن بالرمح ويطعن بالقول. قال: وكلاهما يطعن. ومثله للكسائي بالضم فيهما. قال الفراء: سمعت يطعن بالرمح. ونكست الفارس عن فرسه: إذا طرحته عنه، على رأسه.
يقول: تحصنوا بالجبال فراراً منك، فطاعنتهم برماح كيدك، حتى نكستهم عن رءوس الجبال، التي هي كالخيور لهم.
وقيل: أراد بالسابقات الخيل نفسها، أي تقلب بالقتل عن أفراسهم التي هي كالجبال الحصينة، ويصل طعنك إليهم، والذي يوصله إليهم هو رماح المكايد والتدابير. والأول هو الوجه.
وروى والسابقات حبالهم بالحاء. أي حبالك التي تصطادهم بها: خيلك. ومكايدك: رماحك تطعنهم بها.
وتضربهم هبراً وقد سكنوا الكدى ... كما سكنت بطن التّراب الأساود
الهبر: أن يقطع اللحم ويبينه عن الجسم يقال: يضرب هبراً. أي يقطع. وقيل: هو تجاوز الضريبه والكدى جمع الكدية، وهي الأرض الصلبة. والأساود جمع الأسود وهي الحية السوداء.
يقول: فروا منك إلى المغارات والمطامير ودخلوا تحت الأرض كالحية السوداء، فأخرجتهم منها وقتلتهم.
وقيل: معناه ضربتهم هبراً حتى دخلوا الكدى، خوفا منك، فاستتروا بالمطامير، كالحيات تحت التراب.
وقيل: إن سيف الدولة أسرهم وأدخلهم المطامير.
وقيل: أراد بالكدى القلاع والحصون.
وتضحى الحصون المشمخّرات في الذّرى ... وخيلك في أعناقهن قلائد
الذرى: رءوس الجبال، الواحد: ذروة. يعني أن خيلك تصعد رءوس الجبال، فتحيط بحصونهم إحاطة القلائد بالأعناق.
عصفن بهم يوم اللّقان وسقتهم ... بهنزيط حتّى أبيضّ بالسّبي آمد
عصفن بهم أي هلكنهم، والكناية للخيل. وفي بهم للروم، وكذلك ناحية الأرض، من وراء آمد، لأنه ذهب به مذهب البلد أو الموضع، ولأن التأنيث إذا كان غير حقيقي يجوز تذكيره.
يقول: إن خيلك أهلكتهم يوم اللقان، ثم قدت خيلك إلى هنزيط حتى أغرن عليها وسببن ذراريهم ونساءهم، ثم عدت إلى آمد. حتى ابيضت من كثرة السبي الذي ملأها، لأن أهل الروم بيض الألوان وآمد سورها مبني بالحجارة السود، وكذلك دورها كلها سود.
وألحقن بالصّفصاف سابور فانهوى ... وذاق الرّدى أهلاهما والجلامد
الصفصاف وسابور حصنان. وانهوى أي سقط، والجلامد: الصخور.
يقول: ألحقت خيلك سابور بالصفصاف، لأنها هدمت الصفصاف أولا، ثم ألحقت سابور بها في الهدم والإخراب، وذاق أهلاهما، وصخورهما الهلاك.
وغلّس في الوادي بهنّ مشيّعٌ ... مبارك ما تحت اللّثامين عابد

الضمير في بهن للخيل. وفاعل غلس: مشيع أي جرى، شجاع يشيعه قلبه، ومبارك. بدل من المشيع، وما تحت اللثامين الوجه. أي مبارك الوجه، ميمون النقية. واللثامان: أحدهما، لثام الفم، والآخر لثام الأنف وقيل: أراد بهما الشيب، واللثام المعهود. وقيل: الغبار واللثام. وقيل: تلثم بلثامين. وقيل، أحدهما لثام الفم، الذي هو طرف العمامة، والآخر لثام البيضة. أي سار بخيله بالغلس في الوادي، وهو شجاع مبارك الوجه، عابد متورع، أو لأنه جهاد وغزو، فجميع ما يفعله طاعة وعبادة.
فتىً يشتهي طول البلاد ووقته ... تضيق به أوقاته والمقاصد
ووقته جر عطفاً على البلاد وفتى بدل من مشيع وما بعده صفة له.
يقول: هو يتمنى طول البلاد التي يقتحمها، أو يتمنى طولها، لتسع جيشه، ويتمنى طول وقته: أي طول عمره، ليدرك غاية همه، فأوقاته تضيق به، لأنه يطلب غاية لا تتسع لها الأوقات، وجيشه عظيم ضاقت عليه البلاد، وقوله: تضيق به يجوز أن يكون حالاً من يشتهى أي يشتهي به ضائقاً به أوقاته، ويجوز أن يكون خبراً آخر كما كان يشتهي خبراً وجميعه صفة للفتى، وهو في موضع رفع، وهذا أولى.
أخو غزواتٍ ما تغبّ سيوفه ... رقابهم إلاّ وسيحان جامد
أخو غزات نعت لفتى وقيل: خبر ابتداء محذوف: أي هو أخو غزوات. ما تغب أي ما تقصر وما تتأخر وسيحان نهر في بلاد الروم. وقيل بحر.
يقول: هو أبداً يغزوهم ويسفك دماءهم ولا يرجع عن بلادهم، إلا عند شدة البرد وجمد الماء، وإن حملته على البحر كان معناه: أن سيوفه لا تغب رقابهم أبداً، لأن البحر لا يجمد، فعلق ذلك بأمر محال.
فلم يبق إلاّ من حماها من الظّبي ... لمى شفتيها والثّديّ النّواهد
الضمير في حماها راجع إلى معنى من إذ المراد به المرأة المسبيه.
يقول: لم يبق من الروم إلا نساؤهم الحسان الوجوه اللمى الشفاة، حماها من السيوف حسنهن وملاحتهن، ونهود ثديهن، فسبين ولم يقتلن.
يبكّى عليهنّ البطاريق في الدّجى ... وهنّ لدينا ملقياتٌ كواسد
يقول: إن النساء اللاتي سبيناهن، بنات الكبار من الروم ونساؤهم؛ فهم يبكون عليهن، عندما يخلون بأنفسهم في ظلمة الليل، لأنهن أقاربهم، وهو مع ذلك عندنا مهانات ملقيات كواسد، لا يلتفت إليهن لكثرتهن.
بذا قضت الأيام ما بين أهلها: ... مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد
بذا إشارة إلى ما وصفه فيما تقدم، وقيل: إشارة إلى الحال، وهو يذكر ويؤنث.
يقول: هكذا حكم الأيام فيما بين الناس. أن يجعل مصيبة قوم فائدة لقوم؛ لأن هذه السبايا لنا فوائد، وعلى أهلها مصائب.
ومن شرف الإقدام أنّك فيهم ... على القتل موموقٌ كأنّك شاكر
الموموق المحبوب، من ومقته. والشاكد المعطى.
يقول: شرف الشجاعة أنك تقتلهم، وهم يحبونك ! كأنك تعطيهم وتحسن إليهم.
وأنّ دماً أجريته بك فاخرٌ ... وأنّ فؤاداً رعته لك حامد
وأن بالفتح عطفا على قوله: أنك فيهم يقول: من شرف الإقدام أن كل دم تجريه يفتخر بك، وكل إنسان قتلته أكسبته شرفاً، وكل فؤاد خوفته وملأته خوفاً يحمدك ويثنى عليك؛ لما يرى من شجاعتك وإقدامك ومثله لآخر:
فإن أك مقتولاً فكن أنت قاتلي ... فبعض منايا القوم أكرم من بعض
وكلّ يرى طرق الشّجاعة والنّدى ... ولكنّ طبع النّفس للنّفس قائد
يقول: كل أحد يعرف فضل الشجاعة والسخاء ويعرف الطريق إليهما، ولكن طبع اللئيم يقوده إلى الجبن والبخل، وطبع الكريم يحثه على الشجاعة والبذل، فطبع كل إنسان يقوده إلى ما يميل إليه، إذ الإنسان طوع الطبع.
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدّنيا بأنّك خالد
يقول نهبت من أعمار الأعداء ما لو جمعته وملكته، وزيد في عمرك، لبقيت في الدنيا خالداً دائماً.
وفيه إشارة إلى أن الدنيا مسرورة بكونه فيها، فلو رزق هذه الأعمار، لدام سرورها، وفيه مدح من وجهين: أحدهما: وصفه بالشجاعة المؤدية إلى قتل جماعة الأعداء.
والثاني: أن سرور الدنيا ببقائه، إذ هو زينتها. وقيل: معناه لهنئ أهل الدنيا. حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: " واسْألِ القَرْية " أي أهل القرية.
فأنت حسام الملك والله ضاربٌ ... وأنت لواء الدّين واللّه عاقد

يقول: أنت سيف الملك، وهو ملك بني العباس، لكن الله تعالى يضرب بك أي ينصرك ويسلطك على الأعداء، وأنت لواء الدين: يعني أنت تظهر شعاره، وتدعو الناس إليه، والله يعقد هذا اللواء؛ لأن ما يعقده الله لا يقدر أحد على حله.
وأنت أبو الهيجا ابن حمدان يا ابنه ... تشابه مولودٌ كريمٌ ووالد
أبو الهيجاء: أبو سيف الدولة.
يقول: أنت أبوك. أي تشبهه في أفعاله وأخلاقه، يا ابنه نداء لسيف الدولة، معناه: يا ابن أبي الهيجاء أشبهته وأشبهك، فالمولود الكريم، ووالده متشابهان، في الأخلاق والأفعال.
وحمدان حمدونٌ، وحمدون حارثٌ ... وحارث لقمانٌ، ولقمان راشد
حمدان جد سيف الدولة. وحمدون جد أبيه، وكذلك ما بعده.
يعني: أنك أشبهت أباك، وأبوك أشبه جدك، وجدك أشبه أباه، فكل واحد منكم يشب أباه إلى الجد الأكبر، في الكرم والخصال.
وطعن الصاحب لإيراده لقطة حمدان وحمدون. وليس فيه مطعن لأنه لم يمكنه أن يغير اسم آبائه وأجداده، وأن يجعل مكانة لفظة حسنة يخترعها.
أولئك أنياب الخلافة كلّها ... وسائر أملاك البلاد الزّوائد
الأنياب جمع الناب. والزوائد ما زاد على الأسنان المعروفة في الفم، وقيل: إنما جعلهم أنياب الخلافة، لأن ذوات الأنياب يسطون بها، وكان الخلفاء يسطون بهم على أعدائهم، وجعل غيرهم من الملوك كالزوائد، لا يحتاج إليها، بل يتأذى بها، فكأنه قال: أنت وآباؤك الأمراء حقاً، وأنتم للخلافة كأنياب يذبون عنها، وغيركم التي لا خير فيها.
أحبّك يا شمس الزّمان وبدره ... وإن لامني فيك السّها والفراقد
جعله كالشمس وكالبدر. يعني أن الشمس تضيء النهار، والبدر يضيء الليل، وأنت قد جمعت معنيين فاستحققت الاسمين، وجعل غيره من الملوك إلى جنبه كالسها والفرقدين لأن السها: نجم حفي لا يكاد يراه إلا حاد البصر، والفرقدان: نجمان خفيان أيضاً، من بنات نعش الصغرى، وأتى بلفظ الفرقدين، وما حولهما من الكواكب، وقيل: أقام لفظ الجمع مكان لفظ التثنية.
وذاك لأنّ الفضل عندك باهرٌ ... وليس لأنّ العيش عندك بارد
باهر: أي ظاهر غالب، وبارد: أي طيب.
يقول: أحبك لفضلك، لا لما أناله من طيب العيش عندك، لأن ذلك يحصل في كل موضع.
فإنّ قليل الحبّ بالعقل صالحٌ ... وإن كثير الحبّ بالجهل فاسد
يقول مؤكداً لقوله: أحبك يا شمس الزمان، وإن القليل من المحبة مع العقل ينتفع بها، فأنا أحبك بالعقل، فإن قدرت أن محبتي لك قليلة، ولكنها لما كانت مع العقل كانت أنفع من محبة الجاهل إياك؛ لأن العاقل إنما يجب الإنسان لما يرى من فضله، فمحبته دائمة لذي الفضل، وأن الكثير من المحبة مع الجهل، فاسد لا أصل له، لأن الجاهل إنما يحب الإنسان للطمع، فإذا انقطع انقطعت المحبة، فغيري من الشعراء وإن كان يظهر لك من نفسه حباً كثيراً؛ فحبه لما كان مع الجهل ليس فيه طائل ومنه قوله:
يحبّ العاقلون على التّصافي ... وحبّ الجاهلين على الوسام
وقيل: أراد أنت تحبني محبة قليلة، وغيرك من الملوك يحبونني كثيراً، غير أن محبتك مع العقل، فإنك تعرف فضلي ومحبتهم مشوبة بالجهل بفضلي، والقليل من الحب إذا كان مع العقل، أصلح من الحب الكثير إذا كان مع الجهل.
وقال يمدحه ويعزيه بغلامه التركي يماك، وقد توفي في سحر يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر رمضان سنة أربعين وثلاث مئة.
لا يحزن اللّه الأمير فإنّني ... لآخذ من حالاته بنصيب
لا حزن الأمير، فإني أشاركه في أحواله. إذا حزن حزنت لأجل حزنه، وإذا سر شاركته في السرور، وهذا معنى قوله: لآخذ من حالاته بنصيب. فكأنه دعاء لنفسه. كما تقول: حرس الله على نعمه ببقائك. وهذا إشارة إلى خلوص الدعاء له وصفاء النية في حبه.
ومن سرّ أهل الأرض ثمّ بكى أسىً ... بكى بعيونٍ سرّها وقلوب
أسى في موضع نصب، لأنه مفعول له. وقيل: تمييز. والهاء في سرها للعيون وقلوب سرها، فحذف لدلالة الأول عليه.
يقول: من سر الناس كلهم بإحسانه إليهم، ثم بكى لحزن أصابه، ساء بكاؤه الذين سرهم، فكأنه يبكي بعيونهم ويحزن بقلوبهم، ومثله لآخر:
عمّت فواضله فعمّ مصابه ... فالنّاس فيه كلّهم مأجور

وقيل: معناه أن من سر أهل الأرض، إذا بكى لزم كل من سره أن يشاركه على بكائه، حتى تتحقق المحبة التي يقتضيها سرورهم بفعله، وهذا قريب من الأول ومعناه: أنهم شاركوه في حزنه، كما شاركوه في سروره. ومثله ليزيد بن محمد:
أشركتمونا جميعاً في سروركم ... فلهونا إذ حزنتم غير إنصاف
وإنّي وإن كان الدّفين حبيبه ... حبيبٌ إلى قلبي حبيب حبيبي
يقول: أنا أحب سيف الدولة، وهذا المدفون حبيبه، فهو إذاً حبيب حبيبي فمن كان حبيب حبيبي فهو حبيب إلى قلبي، فكيف لا أحزن عليه ؟!.
وقد فارق النّاس الأحبّة قبلنا ... وأعيا دواء الموت كلّ طبيب
أعيا: أي أعجز.
يقول: قد فارق الناس قبلك أحبتهم، وذاقوا ألم الفراق، فليس هذا بأول حبيب فارق حبيبه.
سبقنا إلى الدّنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئةٍ وذهوب
يقول: لو عاش من كان قبلنا في الدنيا، لضاقت الدنيا علينا، ومنعنا لكثرة أهلها عن المجيء والذهاب، والتصرف فيها.
تملّكها الآتي تملّك سالبٍ ... وفارقها الماضي فراق سليب
السالب: الآخذ مال غيره قهراً والسليب: المسلوب.
يقول: إن هذه الدنيا كانت في يد السابق، ثم تنتقل إلى من يأتي بعده، فكأن الآتي سلبها من الماضي، فجعل الوارث الآتي سالباً، والميت الماضي مسلوباً والإرث سلباً.
ولا فضل فيها للشّجاعة والنّدى ... وصبر الفتى لولا لقاء شعوب
شعوب: اسم الموت، معرفة لا يدخلها التعريف؛ لأنه اسم علم للمنية، فقد اجتمع فيه التأنيث والتعريف.
يقول: لولا خوف الموت، لكان لا يظهر فضل الشجاعة والسخاء والصبر؛ لأن الإنسان إنما جبن خوفاً من القتل، وإذا علم أنه لا يموت ارتفع الجبن، كذلك البخيل، إنما يبخل لأنه يخاف أن تبلغ به الحاجة إلى الموت، فإذا أيقن بالخلود، فقد سمحت نفسه بما في يده، لأنه آمن من الهلاك، ويرجو أن يكتسب فيما يأتي من الزمان، وكذلك من جرح فإنما يجزع خوفاً من الموت، فإذا علم أنه لا يموت، لا فضل لصبره، وفي الموت هذه الحكمة والصلاح.
وأوفى حياة الغابرين لصاحبٍ ... حياة امرئٍ خانته بعد مشيب
أوفى: أفعل من الوفاء.
يقول: الحياة لا بد لها من النفاد، وآخر غاياتها المشيب، فإذا دام الإنسان حتى يبلغ المشيب، فقد بلغ غاية الحياة، ثم تخونه هذه الحياة في الوفاء له، فأوفى الحياة، هي الحياة التي تخون صاحبها عند المشيب.
لأبقى يماكٌ في حشاي صبابةً ... إلى كلّ تركيّ النّجار جليب
اللام في قوله: لأبقى في جواب قسم مضمر، أي والله لأبقى. وقيل: اللام للتأكيد. والنجار: الأصل، وهو اللون أيضاً. وجليب: أي مجلوب، وروى في حشاي جراحة.
يقول: إني رأيت من نجابة يماك، وحسن أخلاقه وطاعته لمولاه، ما ترك في قلبي محبة لكل تركي مجلوب من بلاد الترك.
وما كل وجهٍ أبيضٍ بمباركٍ ... ولا كلّ جفنٍ ضيّق بنجيب
يقول: إني كنت أشتاق إلى تركي، وأعلم أنه لا يشبهه في نجابته وكرامته، إذ ليس كل وجه أبيض مباركاً، وكل جفن ضيق نجيباً.
وقيل: إنه رجع عما قبله من الاشتياق إلى كل تركي، إذ ليس لكل أحد من الخصال ما فيه.
لئن ظهرت فينا عليه كآبةٌ ... لقد ظهرت في حدّ كلّ قضيب
الكآبة: الحزن، والقضيب: ها هنا هو السيف.
يقول: إن ظهر علينا الحزن لموته، فقد ظهر أيضاً في السيوف، لفقدها من يضرب بها وطول لبثها في غمودها بعد موته.
وفي كلّ قوسٍ كلّ يومٍ تناضلٌ ... وفي كلّ طرفٍ كلّ يوم ركوب
التناضل: الترامي بالسهام. والطرف: الفرس الكريم.
يقول: ظهرت الكآبة أيضاً في القوس والفرس.
يعزّ عليه أن يخلّ بعادةٍ ... وتدعو لأمرٍ وهو غير مجيب
روى بعادة أي بعادة من عادات خدمتك. وروى بغارة يقول: يشتد على هذا الميت أن يخل بعادة من عادات خدمتك، أو يخل بغارة من غاراتك، وأن تدعوه لأمر وهو لا يجيبك، لكن به ما منعه عن ذلك.
وكنت إذا أبصرته لك قائماً ... نظرت إلى ذي لبدتين أديب
لبدة الأسد: ما تلبد من الشعر على عاتقه.
يقول: كنت إذا رأيته قائماً بين يديك في الخدمة، رأيت أسداً له عقل وأدب. يعني أن الأسد شجاع لا عقل له ولا أدب. وهذا قد جمع الشجاعة والعقل والأدب، فهو أفضل من الأسد.

فإن يكن العلق النّفيس فقدته ... فمن كفّ متلافٍ أغرّ وهوب
العلق خبر يكن والنفيس نعت له، واسمه مضمر. أي إن يك يماك العلق النفيس. يعني إن كان هذا العبد علقاً نفسياً فقدته، فلا تأسف عليه، لأنك مالك، ومن عادتك إتلاف الأموال وهبة الأعلاق.
كأنّ الرّدى غادٍ على كلّ ماجدٍ ... لم يعوّذ مجده بعيوب
روى عاد أي ظالم. وروى من الغداة.
يقول: كأن الهلاك يتسلط على ماجد، إلى لم يجعل لمجده عوذة من العيب، تقيه عين الحساد، ومثله الكشاجم:
شخص الأنام لحسن وجهك فاستعذ ... من شرّ أعينهم بعيبٍ واحد
ولولا أيادي الدّهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب
يقول: إن كان الدهر قد أساء في التفريق بين الأحبة، فقد تقدم إحسانه في الجمع بينهم، فلولا ما سبق من إحسانه في الجمع بيننا وبين الأحبة، لما شعرنا بذنوبه في تفريقه شملنا، ولم نعد ذلك عليه ذنبا.
وللتّرك للإحسان خيرٌ لمحسنٍ ... إذا جعل الإحسان غير ربيب
ربيب: بمعنى مربوب، وربى الإحسان إذا رباه.
يقول: الدهر أحسن أولاً ثم أفسد إحسانه آخراً، وترك الإحسان ابتداء، خير من أن يبتدئ به ثم لا يربيه بالمداومة عليه.
ورجع في هذا البيت إلى ذم الدهر.
وإنّ الذي أمست نزارٌ عبيده ... غنيّ عن استعباده لغريب
يقول: إنك ملكت نزاراً كلها بإحسانك، واستعبدتهم بفضلك، وهم قومك وعشيرتك، فلا حاجة بك إلى استعباد عبد غريب.
كفى بصفاء الودّ رقّاً لمثله ... وبالقرب منه مفخراً للبيب
بين كيفية استعباده لنزار: أي هم عبيدك بالطاعة وصفاء المودة، وكفى بصفاء المودة منهم رقاً لك، فلا تريد منهم إلا أن تصفوا لك المودة، وكفى بالقرب منك فخر لمن كان لبيباً.
فعوّض سيف الدّولة الأجر إنّه ... أجلّ مثابٍ من أجلّ مثيب
الهاء في إنه يعود إلى سيف الدولة، والمثاب: هو سيف الدولة أيضاً.
يقول: عوض سيف الدولة الأجر، على جهة الدعاء أي عوض الله ذلك أجل من أثيب الأجر، والله أجل مثيب.
وقيل: إن الهاء للأجر، أي إن الأجر أجل مثاب، أي أجل ثواب من أجل مثيب، وهو الله تعالى، والمثاب على هذا: مصدر كالإثابة.
فتى الخيل قد بلّ النّجيع نحورها ... يطاعن في ضنك المقام عصيب
النجيع: قيل: هو الدم الطري على الإطلاق، وقيل: دم الجوف والضنك: الضيق. والعصيب: الشديد الصعب. وروى يطاعن: أي فتى الخيل يطاعن وروى: تطاعن أي تتطاعن.
يقول: هو الفتى المشهور في الشجاعة، الذي يطعن في ضنك المقام عند اشتداد القتال، وابتلال نحور الخيل بالدم.
يعاف خيام الرّيط في غزواته ... فما خيمه إلاّ غبار حروب
يعاف: يكره. والرّيط: الملاء البيض.
يقول: يكره المبيت والتنعم في الخيام، وإنما يحب القتال، فليس له خيمة إلا غبار الحروب.
وقيل: معناه أنه لا يستظل في غزواته بخيمة، كما يفعله الملوك، وإنما يستظل بغبار الحروب.
علينا لك الإسعاد، إن كان نافعاً، ... بشقّ قلوبٍ لا بشقّ جيوب
الإسعاد: المساعدة. يعني لو كان شق الجيوب والبكاء يردان ميتاً. لأسعدناك بشق القلوب، عن شق الجيوب.
فربّ كئيبٍ ليس تندى جفونه ... وربّ كثير الدّمع غير كئيب
يقول: إن الدمع ليس دلالة الوجد، فكثير من الناس ينحرق قلبه ولا يجري منه دمع ! وكثير منهم يجري دمعه ولا حزن في قلبه !
تسلّ بفكرٍ في أبيك فإنّما ... بكيتفكان الضّحك بعد قريب
يروى: أبيك بفتح الباء. وهو جمع قولهم أباً. مثل: عصا، وكان في الأصل أبين فانقلبت الياء ألفاً، وبعدها ياء جمع، فحذفت لالتقاء الساكنين، فبقي أبين ثم أضافه إلى كاف الخطاب، فحذف النون للإضافة فصار أبيك، وفي حال الرفع: أبون والأبا لغة في الأب. فعلى هذا تقول: هذا أباك ورأيت أباك ومررت بأباك. ويجوز أن يكون تثنية بمعنى أبويك. وروى: أبيك فيجوز أن يكون واحداً وجمعاً.
يقول: تفكر في آبائك فإنك بكيت عند موتهم، ثم سليت عن قريب وصبرت، فاعتبر حالك اليوم بحالهم حين فقدت أباك.
إذا استقبلت نفس الكريم مصابها ... بخبثٍ ثنت فاستدبرته بطيب

المصاب: المصيبة. وقوله ثنت أي ثنت النفس المصاب. وأراد بالخبث: الجزع، وبالطيب: الصبر. ومعناه: إذا جزع الكريم عند أول المصيبة، راجع أمره في آخرها، فعاد إلى الصبر، والرضا والتسليم.
وقيل: أراد بالخبث: الصبر، لأن النفس تنفر عنه، لما فيه من المشقة، والطيب: عاقبة الصبر، وهو ما يجد الصابر من المدح على صبره والثواب في الآخرة. لأن ذلك يطيب النفس.
ومعناه: أن الكريم وإن خبثت نفسه في الابتداء لصبره على المصيبة في الأول قبل وقوعها صعب عليه الصبر عند وقوعها.
وللواجد المكروب من زفراته ... سكون عزاءٍ أو سكون لغوب
الواجد: الحزين يقول: كل جازع على مصيبة، فآخر أمره السلوة والسكون: إما صبراً واحتساباً، وإما تعباً وملالاً. ومثله لمحمود الوراق:
إذا أنت لم تسل اصطباراً وحسبةً ... سلوت على الأيّام مثل البهائم
ومثله لأبي تمام:
أتصبر للبلوى عزاءً وحسبةً ... فتؤجر أو تسلو سلوّ البهائم
وكم لك جدّاً لم تر العين وجهه ... فلم تجر في آثاره بغروب
الغروب: مجاري الدموع في العيون. ونصب جداً على التمييز، وكم يحتمل الاستفهام، والخبر: فإن كان استفهاماً، كان الواجب نصب جداً لأنها في الاستفهام تنصب تمييزها، وإن كانت خبراً، فالاختيار هو النصب ها هنا، لأنك إذا فصلت بينها وبين ما يضاف إليها بفاصل، كان الواجب النصب.
يقول: إن ما مضى وغاب عنك، كشيء لم تره، فكما أنك لم تبك على أجدادك الماضين، الذي لم ترهم، فكذلك ينبغي أن تسلو عمن فقدته الآن، لغيبته عن عينك.
فدتك نفوس الحاسدين فإنّها ... معذّبة في حضرةٍ ومغيب
يقول: نفوس حسادك معذبة بحسد معاليك، حضروا أم غابوا، فجعلهم الله فداك، ووقاك بهم صروف الزمان، ليستريحوا من هذا العذاب الذي ينالهم، وهذا مثل قوله:
فإن لهم في سرعة الموت راحةً
وفي تعبٍ من يحسد الشّمس نورها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب
الضريب هو النظير والشبيه. شبهه بالشمس، وخصاله بنورها وقال: من حسد الشمس على نورها فهو في تعب، لأن نورها لا يزايلها، ومن جهد أن يأتي بنظيرها لم يقدر عليه؛ لأنه لا نظير لها، كذلك أنت لا نظير لك في علو محلك وخصالك الجميلة وخلائقك الحسنة.
وقال أيضاً يمدحه. ويذكر بناءه مرعش، وإصابته المطر عند دخوله، ومحاربته الدمستق وهزمه، في سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة.
فديناك من ربعٍ وإن زدتنا كربا ... فإنّك كنت الشّرق للشّمس والغربا
قوله: فديناك، من ربع: أي فديناك ربعاً ومن زائدة وربعاً: بدل من الكاف في فديناك.
خاطب ربع حبيبته فقال: نحن نفديك بأنفسنا، وإن كنت تزيد في غمنا؛ لخلوك من المحبوبة، ثم قال: إنما قد فديناك، لأنك كنت مألف محبوبتي، التي هي كالشمس، فكنت مطلعاً لها حين تخرج وتبرز بروز الشمس من مطلعها الذي هو المشرق، وإذا احتجبت وغابت فيك كنت لها مغرباً، لما جعلها الشمس جعل الربع مطلعاً لها ومغرباً.
وكيف عرفنا رسم من لم تدع لنا ... فؤاداً لعرفان الرّسوم ولا لبّا ؟!
العرفان: مصدر عرفت وتدع: تعود إلى معنى من وأنث على معنى المرأة، ويجوز من يدع رداً إلى لفظ من.
يتعجب من رسم دار المحبوبة التي هي الشمس فيقول: كيف عرفنا رسم دارها، مع أنها لم تدع لنا قلباً ولا عقلاً ؟!
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامةً ... لمن بان عنه أن نلمّ به ركبا
الأكوار: جمع كور، وهو الرحل، وكرامة نصب لأنه مفعول له وركباً: على الحال: أي نلم به راكبين، وأصله عن أن نلم به، فحذف عن ويجوز أن يكون معناه كراهة أن نلم به، أو ألا نلم به، فحذف والهاء في عنه وبه للربع.
يقول: لما أتينا الربع نزلنا عن رواحلنا كرامةً لأهله، ورفعاً لقدره، عن أن نلم به فحذف راكبين.
يا ساكن النّوب انهض طالباً حلباً ... نهوض معنى لحسم الدّاء ملتمس
واخلع حذاءك إن حاذيتها ورعاً ... كفعل موسى كليم اللّه في القدس
ندمّ السّحاب الغرّ في فعلها به ... ونعرض عنها كلّما طلعت عتبا
السحاب: بمعنى الجمع، ولذلك وصفها بالغر وهو جمع أغر، ونصب عتبا على أنه مصدر واقع موقع الحال أي عاتبين. وقيل: إنه مفعول له، والعتب: أدنى الغضب.

يقول: نحن نذم السحاب البيض في فعلها بهذا الربع، لأنها درست آثاره، وإذا طلعت وظهرت في السماء أعرضنا عنها، وصرفنا وجوهنا، كما يفعل العاتب إذا رأى من عتب عليه.
ومن صحب الدّنيا طويلاً تقلّبت ... على عينه حتّى يرى صدقتها كذبا
يقول: إن الربع قد تغير وحال عن الحسن الذي كان له بكون الحبيب فيه، وكذا عادة الزمان، فمن صحب الدنيا علم أن ما يعانيه من أحوالها زائل، فكأن ما يراه حقيقة وصدقاً، فهو محال وكذب.
وقيل: معناه من عمر تبدل به الحال، فصار العمر الذي يسره يسوءه، لقربه من الفناء، فكأن كل شيء في الدنيا وإن كان سروراً فإنه غم، فصاحب الدنيا يرى صدقها كذباً، وحياتها موتاً، لما كان عاقبتها إلى الفناء وغاية أمرها إلى الزوال.
وكيف التذاذي بالأصائل والضّحى ... إذا لم يعد ذاك النّسيم الّذي هبّا ؟!
الأصائل: واحدها أصيل، وهو آخر النهار والنسيم: الريح الطيبة التي يلتذ بها، وأراد به قرب الحبيب.
يقول: كيف ألتذ بأوقاتي: الغدوات والعشيات، مع أني بعيد عمن أهواه، إذا لم تعد إلى أوقاتي في الأصائل والضحى؛ لأنها أطيب الأوقات، لا حر فيها يؤدي، ولا برد شديد، وخص الأصائل والضحى ليعلم أنه إذا لم يلتذ بأطيب الأوقات فكيف يلتذ بغيرها ؟
ذكرت به وصلاً كأن لم أفز به ... وعيشاً كأنّي كنت أقطعه وثبا
الباء: بمعنى في أي في الربع، وهو متعلق بذكرت أي ذكرت في الربع، كقول النابغة: وما بالربع من أحد.
وقيل: إن الباء متعلق بقوله: وصلاً وعيشا أي ذكرت وصلاً وعيشاً كان لي به أي فيه. والهاء في قوله: لم أفز به للوصل وفي أقطعه للعيش.
يقول: لما وقفت بهذا الربع تذكرت عيشاً مر لي فيه، كأني لم أظفر به من قصر، كأنه لم يكن، كما قال عبد الصمد بن المعذل:
شبابٌ كأن لم يكن ... وشيبٌ كأن لم يزل
وتذكرت عيشاً كان من قصره وقصر أوقاته وكل نعمة فيه، كأنه قصر وقت الوثب، فكل زيارة من الحبيب وثبة، ولك ساعة من اللقاء والاجتماع وثبة، والوثب في معنى قصر الوقت وقصر العيش. وفيه معنى بديع ومبالغة حسنة.
وفتّانة العينين قتّالة الهوى ... إذا نفحت شيخاً روائحها شبّا
وفتانة: عطفاً على قوله: ذكرت وصلاً وعيشاً أي ذكرت جارية تفتن الناس بحسن عينيها، وتقتلهم بهواها، ولو اتصلت روائحها بالشيخ، لعاد إليه شبابه، وهذا كقولي الأعشى:
لو أسندت ميتاً إلى صدرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
لها بشر الدّرّ الّذي قلّدت به ... ولم أر بدراً قبلها قلّد الشّهبا
البشر: جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. والشهب: قيل: إنه جمع شهاب وهو النجم. وقيل جمع أشهب، وهو أيضاً النجم، والتأنيث كله للفتانة والهاء في به للدر.
يقول: هي في نعومة بشرتها كالدر الذي قلدت به، وهي في الحسن كالبدر. والدر الذي عليها كالنجوم، وما رأيت بدراً متقلداً بالدر حتى رأيتها. والأول أليق بذكر البدر.
فيا شوق ما أبقى ! ويالي من النّوى ... ويا دمع ما أجرى ! ويا قلب ما أصبى !
وأصله: يا شوقي ما أبقاك ! ويا دمعي ما أجراك ! ويا قلبي ما أصباك ! فحذف الياء من المنادى كما تقول: يا غلام وحذف ضمير المفعول الذي هو المتعجب منه ويجوز الرفع في قوله: يا شوق ويا دمع ويا قلب على أن يكون نداء مفرداً وقوله: ويالي من النوى توجع منه لنفسه فيما لقي من ألم النوى، ومعناه يا شوقي ما أدومك، ويا دمعي ما أجراك، ويا قلبي ما أشد صبوتك.
لقد لعب المشتّ بها وبي ... وزوّدني في السّير ما زوّد الضّبّا

المشت: المفرق، من أشت جمعهم، وشت القوم: تفرقوا. وفاعل ما زود ضمير البين وهو السفر، ومعناه زودني البين في سيري، ما زود البين الضب في سيره وما في موضع النصب. قوله: لعب البين بها وبي أي فرق بيننا. وقوله: زودني إلى آخره معناه: لم يزودني البين من حبيبتي شيئاً أتعلل به بعد فراقنا: كالقبلة والعناق، وغير ذلك. إلا التفرق. وخص الضب لأنه يتبلغ بالنسيم، ولا يرد الماء، ولا يشرب بل يكتفي بنسيم الرياح عند العطش، فكأنه قال لم يزودني البين من حبيبتي شيئاً إلا النسيم والتعلل به كما يتعلل الضب به. وقال أبو علي بن فورجة. معناه أن الضب إذا فارق حجره ضل وتحير، لأنه لا يهتدي للرجوع إليه، على ما ضرب به المثل فقيل: أضل من ضب، وأتيه من ضب، وأحير من ضب. فكأنه قال زودني البين في رحيلي حيرة الضب إذا فارق حجره. أي سرت متحيراً واله العقل.
ومن تكن الأسد الضّواري جدوده ... يكن ليله صبحاً ومطعمه غصبا
ومن تكن: عنى به نفسه أي من كان شجاعاً كالأسد، لم يثنه الليل عن مرام ولا يحول بينه وبين مراده ظلامه ليل، فهو مثل الصبح يسعى فيه لطلب مآربه، وإذا حاول أمراً أو طلب مالاً، تناوله غصباً وقسراً. ومعناه أن الممدوح أسد ومن كان أسداً كان جده أسداً لا محالة، وليس المراد به من كان له أب أو جد شجاع، لأنه قد يكون أبوه شجاعاً وهو جبان.
ولست أبالي بعد إدراكي العلا ... أكان تراثاً ما تناولت أم كسبا
يقول: إذا نلت الشرف ومعالي الأمور، فلا أبالي بأن يكون ذلك موروثاً، أو مكتسباً. ومثله:
نفس عصام سوّدت عصاما ... وصيّرته ملكاً هماما
فربّ غلام علّم المجد نفسه ... كتعليم سيف الدّولة الدّولة الضّربا
يقول: رب إنسان علم نفسه المجد من غير أن يعلمه أحد، لأن طبعه وجوهره يحمله عليه، ولأنه إذا نظر في أفعال المجد يحمل نفسه عليها، حتى يبلغ إلى منازلهم، كما أن أهل الدولة إذا نظروا إلى مواقف سيف الدولة في الحروب، وشجاعته فيها تعلموا منه الضرب، واقتدوا به في أفعاله، فكأنه هو الذي علم الدولة الضرب أي أهل الدولة، فحذف أهل.
إذا الدّولة استكفت به في ملمّةٍ ... كفاها فكان السّيف والكفّ والقلبا
الملمة: المصيبة، والشدة. يعني: إذا نزلت بالدولة ملمة، فاستعانت به. أراد سيف الدولة وهو الخليفة كفى الدولة تلك الحادثة، فكان لها سيفاً وكفاً وقلباً: لأن السيف لا يعمل إلا بالكف، ولا يضرب به الكف حتى يشيعه القلب، وسيف الدولة يستغني عن ذلك، فهو السيف والقلب والكف، فيكفي الدولة ما ينوبها، ولا يحتاج إلى ناصر ومعين.
تهاب سيوف الهند وهي حدائدٌ ... فكيف إذا كانت نزاريّةً عربا ؟!
الحدائد: جمع حديدة، وهي نصل السيف. يقال: سيف جيد الحديدة، أي جيد النصل.
يقول: إذا كانت سيوف الهند يحذر منها ويهاب بأسها، وهي حدائد لا تعمل حتى تجد ضارباً بها، فسيف الدولة الذي هو عربي يضرب بنفسه رءوس الفرسان، وكذلك قومه، الذين هم من نزار، أولى بأن يخاف منهم، ولهذا قال: إذا كانت نزاريةً عربا.
ويرهب نناب اللّيث واللّيث وحده ... فكيف إذا كان اللّيوث له صحبا ؟!
يقول: إذا كان الليث يتقي نابه، ويخاف افتراسه وهو وحده، فلأن يتقي سيف الدولة وحوله الليوث أولى وأجدر.
ويخشى عباب البحر وهو مكانه ... فكيف بمن يغشى البلاد إذا عبّا ؟!
عباب البحر: تراكم أمواجه. يقال: عب البحر إذا ماج. وقيل: عبابه: صوت أمواجه. ومكانه: نصب على الظرف.
يقول: يخاف موج البحر إذا اضطرب، وهو مستقر مكانه، فكيف لا يخاف البحر الذي يملأ البلاد بخيله ورجله ؟!
عليم بأسرار الدّيانات واللّغى ... له خطراتٌ تفضح النّاس والكتبا
اللغى: جمع لغة، والخطرات: جمع خطرة، وأراد به الخواطر يقول: هو عالم بأحوال الناس وديانتهم، ومذاهبهم، واختلاف ألسنتهم، ولغاتهم، وله خواطر يستنبط بها ما ليس في الكتب وما لا يدركه الناس ولا يجري على قلب أحد.
فبوركت من غيثٍ كأنّ جلودنا ... به تنبت الدّيباج والوشى والعصبا
العصب: ضرب من برود اليمن.

يقول: بارك الله فيك أيها الغيث، فإن الغيث يكسو الأرض أنواع الأزهار وأصناف النبات والأنوار، وأنت تكسونا الخلع النفسيه من ضروب الوشى والديباج، فكأن جلودنا أنبتت هذه الثياب، كما أنبتت الأرض النبات بالغيث. شبه الجلود بالأرض، والخلع بالنبات، وسيف الدولة بالغيث.
ومن واهب جزلاً ومن زاجر هلاً ... ومن هاتك درعاً، ومن ناثرٍ قصبا
وهذا معطوف على قوله: فبوركت من غيث، ومن واهب، وهلا: زجر للخيل، ينون على النكرة ولا ينون على معنى المعرفة، وذلك كناية عن كونه فارساً مقتدراً، على أن يصرف فرسه كيف شاء والقصب: الأمعاء وروى: باتر قصبا أي قاطع أمعاء.
يقول: بوركت من واهب كثيراً، وزاجر فرسه في المعركة، وهاتك درع عدوه عليه بسيفه، وناثر أمعاءه: إذا أصاب جوفه ونثر أمعاءه على الأرض.
هنيئاً لأهل الثّغر رأيك فيهم ... وأنّك حزب الله صرت لهم حزبا
نصب هنيئاً على المصدر، وقيل: على الحال لفعل مضمر، أي ثبت رأيك هنيئاً وحزب الله نصب لأنه منادى مضاف، والثغر: مدينة مرعش.
يقول: هنأ الله أهل الثغر بحسن رأيك فيهم واهتمامك بأمرهم، وهنأهم الله، يا حزب الله، أنك صرت لهم حزباً وجيشاً وناصراً، تعاونهم وتذب عنهم.
وأنّك رعت الدّهر فيها وريبه ... فإن شكّ فليحدث بساحتها خطبا
الكناية في فيها وساحتها راجعة للثغر، وأنثه على معنى المدينة، أو البلدة، أو الأرض، وفاعل فليحدث ضمير الدهر، وخطبا مفعوله، وفاعل شك ضمير الدهر أيضاً.
يقول: وهنيئاً لهم انك خوفت الدهر في هذه المدينة، وخوفت حوادثه، فإن شك الدهر في ذلك، فليحدث بساحة هذه المدينة خطبا، ولينزل بها حادثة.
فيوماً بخيلٍ تطرد الرّوم عنهم ... ويوماً بجودٍ تطرد الفقر والجدبا
يقول: لا تزال تذب عنهم، وتحامي عليهم، فإن قصدهم الروم طردتهم بخيلك، وإن نازلهم فقر وجدب كشفته عنهم بجودك وأفضالك.
سراياك تترى والدّمستق هاربٌ ... وأصحابه قتلى وأمواله نهبى
يقول: سراياك متصلة إلى الروم، والدمستق لا يثبت لها بحال، أي من قتلك أصحابه، وأمواله نهبة للمسلمين.
أتى مرعشاً يستقرب البعد مقبلاً ... وأدبر إذ أقبلت يستبعد القربا
مرعش: مدينة كان سيف الدولة جدد بناءها.
يقول: أتى الدمستق مدينة مرعش وهو مسرور، لطمعة فيها، فكأن الأرض تطوى له، والبعيد يقرب عليه، فلما قصدته ولى مدبراً، وهو شديد الغم، وطال عليه الطريق فصار قريبه بعيداً ومثله:
أرى الطّريق قريباً حين أسلكه ... إلى الحبيب بعيداً حين أنصرف
ومثله لتوبة:
وكنت إذا ما زرت ليلى بأرضها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
كذا يترك الأعداء من يكره القنا ... ويقفل من كانت غنيمته رعبا
أراد بالأعداء: سيف الدولة، وجيشه.
يقول: من يكره أن يقتله أعداؤه، هكذا ينهزم ويرجع، ولم يغنم في قتاله إلا الخوف.
وهل ردّ عنه باللّقان وقوفه ... صدور العوالي والمطهّمة القبّا
يقول: قد فر بين يديك، لعلمه أنه لا يقاومك؛ لأنه لما ثبت لك حين لقيته على اللقان، قتلت أصحابه، وغنمت أمواله، ولم يرد عنه وقوفه الرماح، فلهذا لم يقف لك الآن، والقب: جمع أقب، وهو الضامر من الخيل.
مضى بعد ما التفّ الرّماحان ساعةً ... كما يتلقّى الهدب في الرّقدة الهدبا
أراد بالرماحين: رماح العسكرين، فثنى الجمع، كأنه قال: رماح هؤلاء ورماح أولئك. والهدب: شعر الجفن، شبه التفاف الرماح واشتباكها، عند الطعن باشتباك الأجفان عند النوم.
يقول: ثبت لك على اللقان ساعة، فلما اشتبكت رماح العسكرين، ولى منهزماً، وكأن اشتباك الرماح كالتقاء الهدبين إذا نام الإنسان.
ولكنّه ولّى وللطّعن سورةٌ ... إذ ذكرتها نفسه لمس الجنبا
السورة: الحدة، والشدة، وقوله: إذا ذكرتها نفسه إلى آخر البيت: صفة لسورة.
لما اشتد الطعان ولى، وقد امتلأ قلبه خوفاً، وكلما ذكر سورة الطعن، لم يصدق أنه سلم منها فيلمس جنبه، هل هو صحيح أم مطعون ؟ ومثله لأبي نواس:
إذا تفكّرت في هواي له ... لمست رأسي: هل طار عن جسدي ؟
وقيل: معناه يلمس جنبه وينثني عليه خوفاً من أن تنشق مرارته من الخوف كما قال آخر:

وأذكر أيّام الحمى ثمّ أنثنى ... على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا
وقيل: إنه يلمس الجانب الذي فيه قلبه، هل يخفق قلبه خوفاً أم لا ؟!
وخلّى العذارى والبطاريق والقرى ... وشعث النّصارى والقرابين والصّلبا
العذارى: جمع عذراء، وهي البكر، وشعث النصارى: الرهابين جمع أشعث، والقرابين: خاصة الملك. والصلب: جمع صليب.
المعنى: أنه ترك هذه الأشياء وترك عسكره وبلاده وجميع ما فيها، ونجا بنفسه خوفاً منك.
أرى كلّنا الحياة بسعيه ... حريصاً عليها مستهاماً بها صبّا
المستهام، والصب: بمعنى. روى بسعيه وبجهده والمستهام: العاشق.
يقول: كل أحد يحب نفسه وحياتها، ويسعى ليدفع عن نفسه الضرر والهلاك.
فحبّ الجبان النّفس أورده التّقى ... وحبّ الشّجاع النّفس أورده الحربا
ويختلف الرّزقان والفعل واحدٌ ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
النفس: منصوبة بحب في الموضعين؛ لأنه مصدر، فيعمل عمل الفعل وأورده: فعل، فاعله ضمير الحب.
يقول: كل أحد يطلب لنفسه البقاء، فالجبان يحذر لقاء الأقران، ويستعمل الخوف إبقاء على نفسه وطلباً لنجاته، والشجاع، يطرح نفسه في المهالك ويباشر القتال طلباً لاستبقاء النفس، بدفع الشر والأعداء عن نفسه، وإبقاء للذكر الجميل بعده، والقصد منهما واحد: وهو طلب الحياة، والسعي مختلف.
يقول: إن الجبان والشجاع قد اتفق فعلاهما في طلب الحياة، واختلف رزقاهما؛ لأن رزق أحدهما المدح، ورزق الآخر الذم.
وقيلك معناه أن الشجاع أعطى الحياة التي طلبها، والجبان حرم ذلك، لأنه في حال حياته ميت فكيف بعد الممات ؟! وقيل: إن الشجاع رزق موتاً هو كحياة، لبقاء الذكر له، ورزق الجبان حياة هي كممات لحصول الذم له.
وقيل: رزق الشجاع رفاهية ورغدا، والجبان شقاء وتعباً.
وقوله: إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا معناه: أن الشجاع إذا تعرض للقتل حتى يقتل، كان ذلك عنده إحساناً إلى نفسه، وذلك عند الجبان أكبر ذنب لإلقائ بنفسه إلى التهلكة، والجبان إذا أحسن إلى نفسه بترك الحرب وطالب الصلح، يراه الشجاع ذنباً.
وقيل: معناه أن الجبان إذا علم - مثلا - أنه لا ينتقم من اللاطم لجبنه، كان هذا إحساناً إلى اللاطم، لنه عفو في الظاهر، وهو ذنب عظيم عند الشجاع. وفي جميع هذه الوجوه يكون البيت متصلا بما قبله.
وقد قيل: إنه منقطع عما قبله ومعناه: أن الرجلين ربما طلبا أمراً من وجه واحد فيرزق هذا، ويحرم الآخر، فيكون ذلك الفعل إحساناً لأحدهما يرزق به، وذنباً للآخر يحرم لأجله. ومثله الآخر:
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... ويعطى الفتى من حيث آخر يحرم
فأضحت كأنّ السّور من فوق بدؤه ... إلى الأرض قد شقّ الكواكب والتّربا
فأضحت: أي مدينة مرعش، وفوق: مضموم كقبل وبعد.
يقول: كأن سورها ابتدئ ببنائه من فوق، حتى انتهى إلى الأرض، فأصله شق الكواكب، وطرفه شق الترب: أي الأرض، وقيل: أراد بالترب: الغبار الذي ارتفع إلى السور من الحرب حواليه، أي أنه شق الغبار المرتفعة وجاوزها، وشق الكواكب أيضاً.
وقيل: أراد أن سورها لاتساعه على وجه الأرض كأنه شق الترب لطوله، وكأنه قد شق الكواكب وهو كعكس قول السموءل:
رسا أصله تحت الثّرى، وسما به ... إلى النّجم فرعٌ لا ينال طويل
تصدّ الرّياح الهوج عنها مخافةً ... وتفزع فيها الطّير أن تلقط الحبّا
الرياح الهوج: الشديدة الهبوب، التي لا تثبت على سمت واحد.
يقول إن الرياح لا تجسر أن تمر بها، وتخاف الطير أن تلقط منها الحب؛ لأنها إذا لقطت الحب نقصت من حبوبها، وذلك إضرار بها، وأنت قد أحميتها من كل ضرر.
والمصراع الثاني ضعيف؛ لأن الطير في كل موضع، تفزع أن تلقط الحب، فلا وجه لعطفه على الرياح.
وقيل في المصراع الأول: إن الرياح تعدل عنها؛ لطول السور الذي رفعتها في الجو والأولى أنه يريد أنها تعدل للهيبة.
وتردى الجياد الجرد فوق جبالها ... وقد ندف الصّنّبر في طرقها العطبا
وتردى: من الرديان، وهو ضرب من العدو، وأراد بالصنبر: ها هنا السحاب البارد، وقيل: أراد البرد والعطب: القطن.
شبه الثلج على الجبال بقطن مندوف.

يقول: إن خيلك تطوف فوق جبال مرعش وحولها وتحرسها، والثلج على جبالها كأنه قطن مندوف، والضمير في جبالها لمرعش، وفي طرقها للجبال.
كفى عجباً أن يعجب النّاس أنّه ... بنى مرعشاً تبّاً لآرائهم تبّاً !
التب الخسران، وأراد به الدعاء على آرائهم، كقولك: قبحاً له. وفاعل كفى أن يعجب، لأن أن مع صلتها كاسم مفرد وعجباً نصب على التمييز وتباً على الذم أو على المصدر.
يقول: ليس من العجب بناؤه مرعش، ولكن العجب استعظام الناس وتعجبهم من بنائها.
وما الفرق ما بين الأنام وبينه ... إذا حذر المحذور واستصعب الصّعبا ؟!
إذا كان يحذر من الأمر المحذور، ويصعب عليه الأمور الصعبة، مثل سائر الناس، فأي فرق بينه وبين سائر الناس.
لأمر أعدّته الخلافة للعدى ... وسمّته دون العالم الصّارم العضبا
يقول: لولا اختصاصه من بين سائر الأنام بمعان، لم تجعله الخلافة من بينهم، عدة لها، ولما سمته سيفاً قاطعاً وأراد بالخلافة: الخليفة أي ذوي الخلافة.
ولم تفترق عنه الأسنّة رحمةً ... ولم تترك الشّام الأعادي له حبّا
يقول: لولا شجاعته، لم تفترق الأسنة عنه في حروبه، ولم تترك الأعادي له الشام، لولا خوفهم منه.
ولكن نفاها عنه غير كريمةٍ ... كريم النّثا ما سبّ قطّ ولا سبّا
الضمير في نفاها للأعادي، وغير كريمة حال من الأعادي، والعامل فيها نفاها والهاء في عنه لسيف الدولة، وقيل: يرجع إلى الشام والنثا بالنون قيل: مقصور، هو الذكر في الحمد، والذم.
يقول: لم يترك العادي له الشام محبة منهم له، ولكنه طردهم قهراً، مهانين غير مكرمين، وهو ملك كريم الذكر ما سب قط: أي لم يشتمه أحد؛ لأنه لم يفعل ما يشتم عليه، ولا شتم أيضاً هو أحداً؛ لأن الشتم سلاح من لا قلب له على المحاربة؛ ولأن الناس بعضهم مطيع له فلا يشتمه، وبعضهم خائف أن يشتمه.
وجيشٌ يثنّى كلّ طودٍ كأنّه ... خريق رياحٍ واجهت غصناً رطبا
يثنى: أي يعطف، ويجعل اثنين. والطود: الجبل. والخريق: الريح الشديدة التي تخرق كل شيء تجري عليه.
يقول: نفي أعداءه عن الشام كريم النثا، وجيش عظيم يثنى كل جبل: أي يعطفه ويهده، ويزعزه، عن موضعه، وأراد به أن يجعل الجبل اثنين: أحدهما الجبل، والثاني نفس الجيش، ثم شبه الجيش بريح شديدة قابلت غصناً رطبا: يعني أنه يكسر الجبل ويعطفه كريح هذه صفتها، وإن هذا الجيش وإن كانوا كالجبل، فالجبل الذي تحتهم كالغصن الرطب عند الريح الشديدة الهبوب.
كأنّ نجوم اللّيل خافتت مغاره ... فمدّت عليها من عجاجته حجبا
مغاره: إغارته والهاء فيها، وفي عجاجته: للجيش.
يقول: كأن النجوم قد خافت أن يغير عليها هذا الجيش، فمدت على نفسها من غبار هذا الجيش حجباً، حتى لا يراها. يعني أن غباره وصل إلى النجوم.
فمن كان يرضى اللّؤم والكفر ملكه ... فهذا الّذي يرضى المكارم والرّبّا
هذا في قوله: فهذا إشارة إلى سيف الدولة.
يقول: هو أبداً في الجهاد، يرضى الرب بفعله، ويبذل الأموال، يرضى بها مكارمه، وغيره من الملوك: إما مشرك برضى الكفر، وإما بخيل برضى البخل، واللؤم.
وأهدى سيف الدولة إلى أبي الطيب هدية فيها ثياب ديباج رومية، ورمح وفرس معها مهرها وكان المهر أحسن من الفرس فقال يمدحه:
ثياب كريمٍ ما يصون حسانها ... إذا نشرت كان الهبات صوانها
الصوان: ما يلف به الثوب ويصان به: ثياب: رفع لأنه خبر ابتداء محذوف: أي هذه ثياب كريم، أو هي مبتدأ وخبره محذوف: أي عندي ثياب كريم، ليس يصون حسان الثياب، ولكن إذا نشرها فرقها على جلسائه، وجعل صوانها أن يهبها لأصحابه.
ترينا صناع الرّوم فيها ملوكها ... وتجلو علينا نفسها وقيانها
امرأة صناع: حاذقة دقيقة اليد في صنعتها وجمعها صنع، ورجل صنع وجمعها صناع. وروى: صناع الروم وهي جمع صنعة، والكناية في فيها للثياب، وفي نفسها للصناع، وفي ملوكها وقيانها للروم، ويجوز أن تكون راجعة إلى صناع الروم. والقيان: جمع قينة، وهي الجارية المغنية.
يقول: إن المرأة الصانعة من الروم ترينا في هذه الثياب الملوك، وتظهر علينا نفسها أي نفس هذه الصانعة من الروم، وصور القيان. يعني: أن هذه الثياب صورة ملوك الروم، وصورة الناقشة، وصورة القيان.

ولم يكفها تصويرها الخيل وحدها ... فصوّرت الأشياء إلاّ زمانها
الهاء في يكفها راجعة إلى صناع الروم، وكذلك في تصويرها وفي وحدها إلى الخيل، وفي زمانها إلى الأشياء.
يقول: لم يكفها أنها صوّرت على الثياب صور الخيل، حتى صورت معها كل شيء من طائر وسبع وغيرهما من الزمان، إلا الزمان فإنها لا تقدر على تصويره.
وما ادّخرتها قدرةً في مصوّرٍ ... سوى أنّها ما أنطقت حيوانها
تاء التأنيث الساكنة في ادخرتها راجعة إلى صناع، والهاء، إلى الثياب، وأصلها: ادخرت عنها، فحذف حرف الجر، وأوصل الفعل إلى الضمير: أي ما خبأت هذه المرأة عن هذا الثياب قدرةً عليها في مصور إلا صورت على هذه الثياب، غير أنها لا تقدر على إنطاق الحيوان المصور عليها، إذا لو قدرت على ذلك لفعلت، والهاء في حيوانها راجعة إلى الثياب.
وسمراء يستغوى الفوارس قدّها ... ويذكرها كرّاتها وطعانها
وسمراء: عطف على قوله: ثياب كريم. والضمير في قدها للسمراء وفي يذكرها وكراتها وطعانها للفوارس ويستغوي: أي يستميل، ويحمله على الغي، وسمراء: صفة لمحذوف: أي وهذه فتاة سمراء، يحمل قدها واستواؤها الفوارس على ملاقات الأقران، ويسوقهم إلى الطعان. وذكر الفوارس موافق للقتال.
ردينةٌ تمّت وكان نباتها ... يركّب فيها زجّها وسنانها
الزج: الحديدة التي في أول الرمح، يعني أنها مستقيمة نبتت كذلك، لم تحتج إلى تثقيف مثقف، فلم يبق إلا أن يركب فيها الزج، والسنان.
وأمّ عتيقٍ خاله دون عمًه ... رأى خلقها من أعجبته فعانها
وهذا أيضاً عطف على ما تقدم، وأراد بالعتيق: المهر، وقوله: خاله دون عمه أي أبوه أكرم من أمه؛ لأنه إذا كان خاله دون عمه، كانت أمه دون أبيه.
يقول: هذه أم مهر كريم، أمه دون أبيه في الكرم، وكانت هي حسنة الخلق فرأى خلقها من أعجبته فعانها، أي أصابها بالعين، فصار ولدها أحسن منها وأكرم.
إذا سايرته باينته وبانها ... وشانته في عين البصير، وزانها
يقول: إذا سارت الأم معه بانت منه، وبان منها. أي لم يشبهها في الحسن والجمال، كما يشبه المهر أمه، وشانته في عين البصير: أي أن البصير بالخيل لم ير فيه عيباً إلا كونه من هذه الأم التي هي دونه، فهو له عيب وشين، وهذا المهر زان الأم، لأنها ولدت مهراً كريماً، فهو يزينها، وهي تشينه.
فأين الّتي لا تأمن الخيل شرّها ... وشرّى، ولا تعطي سواي أمانها ؟
يقول: هلا وهبت لي فرساً أكرم منها ؟ وهي التي لا تأمن الخيل شرها يعين أنها سابقة إذا سابقت سائر الخيل، لم تأمن شرها ولا تأمن الفرسان شري، ولا تعطى سوى أمانها: أي لا يقدر على ركوبها إلا مثلي من الفرسان الحذاق بالركوب.
وأين الّتي لا ترجع الرّمح خائباً ... إذا خفضت يسرى يديّ عنانها
يقول: هلا وهبت لي الفرس التي إذا رخيت عنانها بيدي اليسرى وجلت عليها لا أرجع خائباً، ولا ترد رمحي من دون قتل العدو.
ومالي ثناءٌ لا أراك مكانه ... فهل لك نعمى لا تراني مكانها ؟
يقول: ليس عندي ثناء لا أراك مستحقاً له، فهل عندك نعمة لا تراني أهلاً لها ؟ يعني: كما لا أدخر عنك ثناء، فلا تدخي عني نعمة.
وكان سيف الدولة إذا تأخر عنه مدحه شق عليه، وأكثر أذاه وأحضر من لا خير فيه، وتقدم إليه بالتعرض له في مجلسه بما لا يحب، فكان أبو الطيب لا يجب أحداً عن شيء، فيزيد ذلك في إنكاء سيف الدولة، ويتمادى أبو الطيب في ترك قول الشعر، ويلح سيف الدولة فيما يستعمله من هذا القبيح وأكثر عليه مرة بعد أخرى فقال أبو الطيب هذه القصيدة وأنشده إياها في محفل من العرب والعجم.
واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم ... ومن بجسمي وحالي عنده سقم
وأحر قلباه: ندبة وهذه الهاء لا تدخل عند أهل البصرة إلا في الوقف، فإذا وصلت حذفت.
وأجاز الفراء دخولها في حال الوصل، وأنشد فيه أبياتاً، وإذا كان كذلك، فما ذكره لا مطعن عليه، إذ جاءت عن العرب، والرواة الثقات.
وحكى أبو الفتح بن جني: أن المتنبي كان ينشده بكسر الهاء وضمها، قال: والوجه إذا جاز إثبات الهاء، كسرها لالتقاء الساكنين قال: ولا أرى للضم وجهاً. قال: ولو فتحت الهاء لالتقاء الساكنين ومجاورة الألف كان قياساً.

وطعن فيه من وجوه أخر: وهو حذف الياء من قلباه، وكان الوجه: قلبياه، لأن هذه الياء إنما تحذف قياساً على التنوين، فحيث يحذف التنوين في المنادي، جاز سقوط الياء وثباتها كقولك. يا زيد، فتحذف منه التنوين، ثم تقول: وازيداه، لتحذف الياء، وحيث ثبت التنوين لم يجز حذف الياء، كقولك: واغلام زيد فتنون زيد، فإذا قلت: واغلامياه، أثبتت الياء.
والحاصل: أن الياء إنما تحذف من المنادى، لا من المضاف إليها المنادى، وقد أجاز بعض النحويين إسقاط الياء في هذا الموضع وإن كان ضعيفاً، فيجوز في الشعر لأنه موضع الضرورة. والشيم: البارد.
يقول: أشكو حرارة قلبين وشدة وجدي ممن قلبه خالي مما أنا مبتلى به، وممن حالي عنده ضعيفة سقيمة مثل جسمي. يعني أني سقيم بحبه، وليس لي عنده حال ولا منزلة.
مالي أكتّم حبّا قد برى جسدي ... وتدّعي حبّ سيف الدّولة الأمم
وروى: أكاتم: يقول: كل أحد من الأمم، يدعي حبه ! فلم لا أقتدي بهم، وأظهر حبه مثل ما يظهرون ؟ ومعناه: أنهم يظهرون حبه، وأنا أحتاج إلى أن أكتمه، كأنه يشير إلى أنه يتأذى بإظهار حبه فيكتمه ! فيؤدي كتمانه إلى سقمه ونحول جسمه، وقيل: كتمانه الحب من حيث أنه يتجنب التملق بحبه، لما فيه من التكلف، وأن غيره يتملقون إليه بحبه ويتكلفون ذلك.
إن كان يجمعنا حبّ لغرّته ... فليت أنّا بقدر الحبّ نقتسم
يقول: إن كان يجمعني والأمم حب سيف الدولة، فليت حظنا منه على قدر حبنا، فأكون أخصهم منه قرباً، كما أني أكثرهم له حباً، أو أكون مثلهم في قوة أجسامهم، وحسن أحوالهم، وهو مثلي في مرضي ورثاثة حالي.
قد زرته وسيوف الهند مغمدةٌ ... وقد نظرت إليه والسّيوف دم
يقول: نظرت إليه في حالتي السلم والحرب. وصحبته في حالتي الخوف والحب، كأنه عليه بطول الخدمة، ثم يصف قيامه بجميع الأمور.
فكان أحسن خلق اللّه كلّهم ... وكان أحسن ما في الأحسن الشّيم
الشيم: جمع الشيمة، وهي الخليقة، وأحسن الأول: نصب لأنه خبر كان واسمه ضمير سيف الدولة، وأحسن الثاني، خبر كان الثاني، والشيم: اسمه، وأراد بالأحسن الممدوح.
يقول: نظرت إليه فكان أحسن خلق الله، وأحسن ما في هذا الأحسن الذي نظرت إليه أخلاقه، فكأنه يقول: هو أحسن الناس، وخلقه أحسن من حسن وجهه.
فوت العدوّ الّذي يمّمته ظفرٌ ... في طيّه أسفٌ في طيّه نعم
الهاء في طيه الأول للظفر، والثاني للأسف.
يقول: هرب عدوك الذي قصدته، منك ظفر، ذلك، غير أن في طي هذا الظفر أسفاً، لأنك كنت تشتهي أن تقتله، أو تأسره، وفي طي هذا الأسف نعم لأنه هرب منك خوفاً.
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت ... لك المهابة ما لا تصنع البهم
البهم: جمع بهمة، وهو الشجاع.
يقول قد حصل لك في قلوبهم من الخوف والهيبة، ما يزيد على فعل الشجعان فيهم.
ألزمت نفسك شيئاً ليس يلزمها ... ألاّ تواريهم أرضٌ ولا علم
تواريهم: أي تسترهم. والعلم: الجبل.
يقول: كلفت نفسك في طلب أعدائك، تهزمهم وتكسر جموعهم، بل تريد ألا تسترهم أرض ولا جبل، بأن تخرجهم من مكان من الأرض، وتحطهم من رءوس الجبال.
وقيل: معناه لا ترضي أن تسترهم أرض ولا جبل، وإنما ترضى أن يواريهم بطون الطير، والوحوش.
أكلّما رمت جيشاً فانثنى هرباً ... تصرّفت بك في آثاره الهمم ؟
أكلما: استفهام، ومعناه التقرير، وانثنى: أي انصرف. تصرفت بك: أي صرفتك.
يقول: كلما قصدت جيشاً وهرب من بين يديك حملتك همتك العلية على طلبه، واتباع أثره.
وقيل: معناه حملتك همتك على الجزع في فوتهم منك.
عليك هزمهم في كلّ معترك ... وما عليك بهم عارٌ إذا انهزموا
الجمع: راجع إلى معنى الجيش.
يقول: إنما عليك أن تهمزمهم، فإذا انهزموا فليس عليك عار في انهزامهم بل ذلك يدل على قوتك.
أما ترى ظفراً حلواً سوى ظفرٍ ... تصافحت فيه بيض الهند واللّمم ؟
اللمم: جمع اللمة، وهي الشعر. الملم بالمنكب، وأراد بالتصافح: التلاقي.
يقول: لا تعد الظفر ظفراً إلا بعد القتل والقتال، وضرب السيوف على رءوس الأبطال. وعبر عن ذلك بتصافح السيوف واللمم؛ لأن القتل يحصل عند ذلك.
يا أعدل النّاس إلاّ في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم !

يقول: أنت أعدل الناس إلا بيني وبينك، فأنت لا تنصفني ولا تعينني قدر ما أستحقه عندك من المنزلة. فيك الخصام: أي الخصومة بيني وبين أعدائي وقعت فيك، وأنت الخصم: لأنك ملت إليهم، ولأني أخاصمك على منزلتي عندك، وأنت الحاكم: فاحكم على نفسك، فوفني ما أستحقه من المنزلة ! وقيل: معناه مع ذلك كيف أطمع في الانتصاف منك !
أعيّها نظراتٍ منك صادقةً ... أن تحسب الشّحم فيمن شحمه ورم
نظران نصب على التمييز. قال أبو الفتح: قلت له: الهاء في أعيذها لأي شيء تعود ؟ فقال: إلى النظران. أجاز الأخفش مثله في قوله تعالى: " فَإنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ " وقال أبو الفتح: وإنما جاز إضمارها قبل الذكر، لأنها كانت مشاهدة في الحال، فاكتفى بمشاهدتها من تقدم ذكرها.
يقول: أعيذ نظراتك الصادقة، أن تغلط، فترى الشيء على خلاف الحقيقة، فتحسب الشحم ورماً فجعل الشحم مثلا لنفسه، والورم لسائر الشعراء.
وما انتفاع أخي الدّنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم
بناظره: أي ببصره.
يقول: إن الإنسان إذا لم يفرق بين النور والظلمة، فاستويا في عينه، فلا ينتفع بناظرهن بل هو بمنزلة الأعمى.
يعني أن حاله تخالف غيره من الشعراء والفضلاء، وأنت إذا لم تميز بيننا كنت كالأعمى.
أنّا الّذي نظر الأعمى إلى أدبي ... وأسمعت كلماتي من به صمم
من في موضع نصب، لأنه مفعول أسمعت وفاعله كلماتي وأراد بها القصائد.
يقول: إذا نظر الأعمى إلى أدبي يعرفه ويراه، فكيف البصير ؟! والأصم يسمع شعري، فكيف السميع ؟! معناه أن أدبي وشعري قد اشتهرا، حتى استوى في معرفتها العالم والجاهل، فضرب الأعمى والأصم مثلا للجاهل الذي لا يتفكر فيعرف.
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جرّاها ويختصم
جراها: من أجلها، والهاء في شواردها للكلمات، وهي جمع شاردة: أي سائرة تروى بكل مكان.
وقيل: معناه أنها تشرد، وتصعب على صاحبها.
يقول: أنا أقول القصائد الشوارد عفواً، من غير إتعاب فكر، وأنام عنها ملء جفوني، والخلق كلهم يسهرون من أجلها، ويتنازعون في دقيق معانيها، وجودة مبانيها.
وقيل: معنى قوله: أنام أي أموت. والأول أظهر.
وجاهل مدّه في جهله ضحكي ... حتّى أتته يدٌ فرّاسةٌ وفم
فراسة: من الفرس، وهو دق العنق.
يقول: رضي الله عنه جاهل غره ضحكي في وجهه، فتمادى في جهله، حتى سطوت عليه وقصدته مني يد فراسة، وفم: أي أهلكته بيدي ضرباً وقتلا، وأهلكته بفمي من طريق الهجو، والذم.
إذا رأيت نيوب اللّيث بارزةً ... فلا تظنّنّ أنّ اللّيث مبتسم
يقول: لما رآني أكشر الأسنان، حسب أني مسرور بفعله، ولم يعلم - من جهله - أني كالليث، إنما يكشر عن أنيابه وأسنانه، إذا اشتد غضبه.
والأصل فيه قول عنترة:
لا رآني قد نزلت أريده ... أبدى نواجذه لغير تبسّم
ومهجةٍ مهجتي من همّ صاحبها ... أدركتها بجوادٍ ظهره حرم
الهاء في صاحبها وأدركتها للمهجة الأولى.
يقول: رب نفس كانت همتها إتلاف نفسي، فأدركتها بفرس جواد، ظهره حرم: يعني من ركبه أمن، لأنه إذا طلب فات، فلا يخاف أحداً، كما لا يخاف سكان الحرم.
رجلاه في الرّكض رجلٌ واليدان يدٌ ... وفعله ما تريد الكفّ والقدم
الركض: في الأصل ضرب الدابة بالرجل لتعدون، ثم ذكر ذلك حتى قيل لنفس العدو ركض فيقال: ركض الفرس: أي عدا.
يقول: إن رجليه تقعان معاً على الأرض وكأنهما رجل واحدة، وكذلك يداه وأنه لجودة جريه يغني راكبه عن تحريك يده بالسوط، وتحريك رجليه للركض، بل هو يعطيه من العدو ما يطلبه منه، بيده وقدمه، ذكره ابن جني.
وقال غيره: معناه أن فرسه مؤدب مطيع لفارسه، متصرف على اختياره، فكأن رجليه رجل راكبه، فيضع قوائمه حيث شاء صاحبه، ويتصرف راكبه فيهما، كما يتصرف في جوارح نفسه.
ولا يقال: إن هذا المعنى الذي ذكرتموه هو معنى المصراع الثاني، فيكون المصراعان واحداً، فليس فيه إلا التكرير بلا فائدة.

لأنا نقول: إن الأول يفيد أن رجليه رجلاً راكبه، ويديه يداه في حال ركضه فقط، والمصراع الثاني يدل على أن فعل هذا الفرس، ما يريده صاحبه في جميع الأحوال، من ركض أو غيره، وأنه مطيع لصاحبه في جميع جوارحه، فكأنه قال: أفعال الفرس من أحواله كلها وجوارحه جميعاً موافقة لاختيار صاحبه، وتصريف كف راكبه وقدمه، وهذه فائدة جديدة.
ومرهفٍ سرت بين الموجتين به ... حتّى ضربت وموج الموت يلتطم
وروى: الجحفلين أي العسكرين. والموجتين: هما صفتا العسكرين وأراد بالموج. الأمواج، فهو واحد في معنى الجمع، ولهذا قال: يلتطم، والالتطام لا يكون من واحد، ويجوز أن يكون الموج: جمع موجة.
يقول: رب سيف محدد شققت به الصفين، وضربت به الأعداء في حال اشتداد الحرب، والتطام موج الموت. وأراد به مقدمات الموت، من الضرب والطعن.
وقيل: أراد بالموجتين: جملة كل واحد من الصفين على الآخر كالتطام الأمواج.
فالخيل واللّيل والبيداء تعرفني ... والحرب والضّرب والقرطاس والقلم
يقول: أنا لجامع بين آداب السيف والقلم: فالخيل تعرفني بالفروسية لإدماني ركوبها، والليل يعرفني لدوام سيري في ظلامه، والبيداء تعرفني لإدمان قطعي إياها، ودوام سكناي فيها، والحرب يعرفني لكثرة مباشرتي له، والقرطاس والقلم يعرفاني لأني كاتب أديب.
وقيل: أراد به أهل الخيل، وأهل البيداء إلخ يعرفوني.
قال ابن جني: قد سبق بجميع هذه الأمور في بيت واحد، ولم يجتمع مثله في بيت مما أعلمه، الأقرب إليه قول البحتري:
اطلبا ثالثاً سواي فإنّي ... رابع العيس والدّجى والبيد
وحكى أن سيف الدولة قال لما أنشد هذا البيت: والله لو قال هذا البيت في لشاطرته في ملكي.
صحبت في الفلوات الوحش منفرداً ... حتّى تعجّب منّي القور والأكم
القور: جمع قارة، وهي صرة من الأرض، فيها حجارة سود، وقيل: جبل صغير أسود كأنه مطلي بالقار، والأكمة: الجبل الصغير، وجمعها الأكم، والآكام، وقيل: هي ما ارتفع من الأرض.
يقول: إني لا أزال أقطع المفاوز وحدي، من غير أن يدلني أحد. وأراد بذلك وصف شجاعته، وقيل: أراد بذلك أنه بدوي، تربيته مع الوحش، بين الأكم والقور.
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم ... وجداننا كلّ شيء بعدكم عدم
يعز: أي يشتد، يعرض برحيله عن سيف الدولة، يقول: يا من يشتد علينا مفارقتهم، كل شيء نجده بعد فراقكم فهو عندنا عدم، أي وجوده كعدمه ومثله:
ومن اعتاض عنك إذا افترقنا ... وكلّ النّاس زورٌ ما خلاكا
ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ ... لو أنّ أمركم من أمرنا أمم
يقول: ما أخلقه بهذا الأمر ! وما أجدوه ! وما أولاه ! والأمم: القصد والقرب يقول: ما أولانا منكم بأن تكرمونا ! لو أن أمركم قريب من أمرنا، وجواب لو محذوف أي لو كنتم تحبوننا، كما نحبكم، لكنتم تكرموننا.
إن كان سرّكم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم
يقول: إن كان سركم قول الحساد وسعايتهم بي، فإني أصبر على ذلك، وكل جرح يصيبني فلا أتألم به، إذا كان فيه رضاكم.
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفةٌ ... إنّ المعارف في أهل النّهي ذمم
قوله: معرفة مبتدأ وبيننا خبرها مقدم عليها، وذكرها ذهابا بها إلى العرفان أو الحق، وتقديره: بيننا معرفة لو رعيتم ذاك: أي لو رعيتم حق المعرفة، وجواب لو محذوف أي لو رعيتم لرفعتم منزلتي، وكافأتموني عليه.
يقول: قد تقدمت بيننا معرفة، وحرمة يجب عليك رعاية حقها؛ لأن المعارف ذمم بين أهل العقول: يعني يمتنع كل أحد من المتعارفين أن يسيء إلى صاحبه إذا كان عاقلاً، فكأن هذه المعرفة ذمة وعهد بينهما.
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ؟ ... ويكره اللّه ما تأتون والكرم
يقول: لا تزالون تطلبون عيباً فيّ، فيعجزكم عيبي: أي لا تقدرون عليه، وهذا الفعل لا يرضى الله به، ولا يليق بالكرم.
ما أبعد العيب والنّقصان من شرفي ... أنا الثّريّا وذان الشّيب والهرم
ذان: إشارة إلى العيب، والنقصان.
يقول: كما أن الثريا لا تشيب، ولا تهرم، كذلك شرفي لا يلحقه عيب ولا نقصان.
ليت الغمام الّذي عندي صواعقه ... يزيلهنّ إلى من عنده الدّيم

الضمير في صواعقه: للغمام، ويزيلهن فعله، والكناية التي هي هن تعود إلى الصواعق كني بالغمام عني سيف الدولة وصواعقه عن إيذائه إياه وبالديم عن عطائه عند غيره.
فيقول: ديم هذا الغمام عند غيري، وصواعقه عندي، فليت صواعقه عند من ديمه عنده، يعني ليته إن ليم يخصني بكرامة لا يقصدني بأذاه، بل يصرف امتنانه إلى من عنده عطاياه، ومثله لآخر:
فلو شاء هذا الدّهر أقصر سوءه ... كما أقصرت عنّا لهاه ونائله
ومثله للبحتري:
سحابٌ خطاني جوده وهو مسبل ... وبحر عداني قطره وهو مفعم
وبيت ابن الرومي أقرب إلى أبي الطيب:
أعندي تنقضّ الصّواعق منكما ... وعند ذوي الكفر الحيا والثّرى الجعد
والأصل في ذلك قول الحسين بن علي رضي الله عنهما: نال حارها من تولي قارها.
أرى النّوى تقتضيني كلّ مرحلةٍ ... لا تستقلّ بها الوخّادة الرّسم
تقتضيني: أي تتقاضاني، وتطالبني، والوخادة الإبل التي تسير الوخد، وهو ضرب سريع من السير، والرسم: جمع رسوم، وهي التي تسير الرسيم، وهو أيضاً ضرب من السير، والهاء في بها للمرحلة: أي لا ينهض بها.
يقول: أرى البعد يطالبني بكل مرحلة لا تقطعها الإبل السريعة السير، من طولها، فأظهر لسيف الدولة السير عنه والرحيل. وبينه أيضاً فيما يليه.
لئن تركن ضميراً عن ميامننا ... ليحدثنّ لمن ودّعنهم ندم
ضمير: اسم ماء في السماوة وقيل: جبل عن يمين طالب مصر، إذا خرج من الشام قاصداً مصر، والكناية في تركن وميامنها وودعن إلى الوخادة الرسم.
يقول: لئن تركت الإبل الوخادة الرسم ضميراً عن ميامنها، وأخذت بنا طيق مصر، ليحدثن لمن أفارقه ندم. واللام في قوله: ليحدثن جواب قسم محذوف: أي والله ليحدثن. واللام في لئن تركن زائدة دخلت توطئة للام الثانية، وحل جواب القسم محل جواب الشرط.
إذا ترحّلت عن قومٍ وقد قدروا ... ألاّ تفارقهم فالرّاحلون هم
الراحل: المرتحل.
يقول مخاطبا لنفسه: إذا قدر قوم على ألا يضطروك إلى مفارقتهم والرحيل عنهم، ثم اضطروك إلى ذلك، فهم مخلون بحقك، فيكونون بمنزلة المرتحلين عنك، لرغبتهم عنك، فلا فرق بين رحيلهم عنك، وإلجائهم إياك إلى فراقهم.
شرّ البلاد بلادٌ لا صديق بها ... وشرّ ما يكسب الإنسان ما يصم
ما يصم أي ما يصمه، ومعناه: ما يلحقه الوصم، وهو العيب.
يقول: شر البلاد بلاد لا صديق بها تسكن إليه، ويعينك على ما تريده، ويدفع ما يضرك، وشر كسب يكسبه الإنسان، ما يعاب به، وبذل عرضه بسببه.
وشرّ ما قنصته راحتي قنصٌ ... شهب البزاة سواءٌ فيه والرّخم
البزاة: الشهب البيض، وهي كرامها، والرخم: جمع رخمة، وهي طائر يشبه النسر، تأكل الجيف ولا تصيد، وهي من لئام الطير وقيل: الرخمة: الأنثى من النسور. وروى: اقتنصته وقنصته.
يقول: أنا كالبازي، وشعراؤك كالرخم، فلم سويت في المنزلة بيننا في الجائزة فيبطل فضل البازي فيم يعد لذلك العطاء عندي قدر. ومثله لأبي تمام:
كلابٌ أغارت في فريسة ضيغم ... طروقاً وهامٌ أطمعت صيداً أجدلا
بأيّ لفظٍ يقول الشّعر زعنفةٌ ... تجوز عندك لا عربٌ ولا عجم ؟!
الزعانف: سقاط الناس، واحدها زعنفة، وأصله من زعنفة الأديم: وهو ما سقط منهن إذا قطع فلا ينتفع به، فشبه به رذال الناس، وقيل: الزعانف: أجنحة السمك، ثم يقال للدعي الملحق بالقوم زعنفة.
يقول: إن شعراءك الذين تسوي بيني وبينهم أدعياء في الشعراء، وإنهم من جملة رذال الناس، ليسوا بأهل للإقبال عليهم؛ لأنهم دخلاء في الشعر، ليسوا من العرب ولا من العجم، فتقبل منهم شعرهم، ويجوز عليك تمويههم.
وقال ابن جني: معناه ليست لهم فصاحة العرب، ولا تسليم العجم، والفصاحة للعرب، فهم فضول رذال.
وقيل: إنه عرض في هذا بالنامي، وكان أخص شعراء سيف الدولة وأنشد أبو الطيب يوما قول النامي:
ومن العجائب أنّ بيض سيوفه ... تلد المنايا السّود وهي ذكور
فاستحسنه.
هذا عتابك إلاّ أنّه مقةٌ ... قد ضمّن الدّرّ إلاّ أنّه كلم
العتاب: أدنى الملامة والمقة: المحبة.

يقول: هذا عتابك في الظاهر، ولكنه محبة لك، يعني لم أعاتبك إلا من محبتي إياك، فكلامه كالدر في الحسن والرونق والصفاء، وإن كان في الصورة كلاماً، وهو كقول أبي تمام:
تخال به مبرداً عليك محبرّا ... وتحسبه عقداً عليك مفصّلا
والمصراع الأول من قول القائل:
ويبقى الودّ ما بقي العتاب
ومثل لآخر:
نعاتبكم يا أمّ عمرو لحبّكم ... ألا إنّما المقلىّ من لا يعاتب
فلما أنشد هذه القصيدة وانصرف، اضطرب المجلس، وقال له نبطي كان في المجلس: اتركني أسعى في ذمه، فرخص له في ذلك، والنبطي هو السامري، وفيه يقول أبو الطيب:
أسامريّ ضحكة كلّ رائي ... فطنت وأنت أغبى الأغبياء
صغرت عن المديح فقلت أهجى ... كأنّك ما صغرت عن الهجاء
وما فكّرت قبلك في محالٍ ... ولا جرّبت سيفي في هباء
فانصرف المتنبي فوقف له رجاله سيف الدولة في طريقه ليغتالوه، فلما رآهم أبو الطيب؛ وتبين السلاح تحت ثيابهم أمكن يده من قائم سيفه، وجاءها حتى خرقها، فلم تقدم عليه، ثم أنفذت الطير إلى أبي العشاير في أمره، فأنفذ عشرة من خاصته، فوقفوا بباب سيف الدولة أول الليل، وجاءه الرسول على لسان سيف الدولة، فسار إليه، فلما قرب منهم ضرب راجل منهم - بين أيديهم - إلى عنان فرسه، وسل أبو الطيب السيف، فوثب الراجل وتقدمت فرسه به الجيل، فعبر قنطرة كانت بين أيدهم واجترهم إلى الصحراء، فأصاب أحدهم نحرة فرسه بسهم فأنفذه، فانتزع أبو الطيب السهم، ورمى به. واستقلت الفرس وتباعد بهم ليقطعهم عن مدد - إن كان لهم - ثم رد عليهم بعد أن فنى النشاب، فضرب أحدهم فقطع الوتر وبعض القوس، وأسرع السيف في ذراعه ووقفوا على المضروب، فسار وتركهم. فلما يئسو منه، قال له أحدهم في آخر الوقت: نحن غلمان أبي العشائر، فلذلك قال: ومنتسب عندي إلى من أحبه وللنبل حولي من يديه حفيف الأبيات ........ .
وعاد أبو الطيب إلى المدينة في الليلة الثانية مستخفياً فأقام عند صديق له، والمراسلة بينه وبين سيف الدولة متصلة، وسيف الدولة ينكر أن يكون فعل ذلك، أو أسر به فعند ذلك قال أبو الطيب:
ألا ما لسيف الدّولة اليوم عاتبا ... فداه الورى أمضى السّيوف مضاربا
ألا تنبيه وما للاستفهام على جهة الإنكار، وعاتبا نصب على الحال ومضاربا نصب على التمييز، والعتب: أدنى الغضب.
يقول: ما باله اليوم قد عتب علي، جعل الله الورى فداء له، وقوله: أمضى السيوف مضاربا: هذه الجملة في موضع نصب على الحال، أي فداه الورى في هذه، أي في حال كونه أمضى السيوف.
وما لي إذا ما اشتقت أبصرت دونه ... تنائف لا أشتاقها وسباسبا !
التنائف: جمع تنوفة، وهي الأرض الواسعة البعيدة الأطراف. والسباسب: جمع سبسب وهو الفضاء الواسع.
يقول: ما لي إذا ما اشتقت إلى لقائه حال بيني وبينه إعراضه. أقام عتب سيف الدولة مقام المفاوز التي يحتاج أن يقطعها، حتى يصل إلى مراده، كما أن المفاوز مانعة لمن أراد الحاجة، فكذلك عتبه مانع من مراده.
وقيل: ضرب التنائف والسباسب: مثلا للصد والمباعدة.
وقد كان يدني مجلسي من سمائه ... أحادث فيها بدرها والكواكبا
أي ماله أبعدني عن مجلسه؛ بعد أن كان يقربني منه، ويجعلني من جلسائه ؟! لما جعله بدراً جعل مجلسه سماء وجعل خصاله وأفعاله كواكب، وكذلك جعل ندماءه كواكب سمائه، والهاء في فيها وفي بدرها تعود إلى السماء.
حنانيك مسئولاً، ولبّيك داعيا ... وحسبي موهوباً وحسبك واهباً
حنانيك: أي تحنناً بعد تحنن، ومعناه الرحمة، معناه أسألك رحمة بعد رحمة وأرجو أن تضاعف على النعمة، ولبيك: أي إجابة بعد إجابة إذا دعوتني وحسبي موهوباً: أي حسبي من جميع هباتك، أن تهب لي نفسي، وقيل: يكفني ما وهبت من المال، وحسبك واهباً: أي كملت في هذه الصفة، فالكفاية واقعة في كونك واهباً، لا يزاد معك إنسان آخر يكون واهباً، وقيل: حسبك من جميع المناقب أن تكون واهباً نفسي مني، ونصب حنانيك ولبيك على المصدر. أو بفعل مضمر، ونصب مسئولا وداعياً وموهوباً وواهبا على الحال.
أهذا جزاء الصّدق إن كنت صادقاً ؟ ... أهذا جزاء الكذب إن كنت كاذبا ؟

يقول: إن كنت صادقا في مدحك، فليس جزائي منك الإبعاد والعتب، وإن كنت كاذباً في مدحك فقد تكلفت لك المجاملة في القول، فكان من الواجب أن تعاملني بمثل ذلك، فعلى الحالين أستوجب منك خلاف ما فعلته بي.
وقيل: معناه إن كنت صدقت فيما عاتبتك عليه فما جزاء الصدق أن تأمر بقتلي ! وإن كذبت، فالواجب على كرمك أن تعفو عني.
وإن كان ذنبي كلّ ذنبٍ فإنّه ... محا الذّنب كلّ المحو من جاء تائبا
الهاء في إنه ضمير الشأن، أي فإن الشأن محا الذنب من جائ تائبا.
يقول: إن كان ذنبي يوازي ذنوب الناس كلهم، فإن توبتي تمحوه، فإن من جائ تائباً استوجب العفو، وإن كان ذنبه بمنزلة جميع الذنوب، أخذه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له ومثل البيت قول الآخر:
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه ... وكلّ امرئٍ لا يقبل العذر مذنب
قال: ودخل على سيف الدولة، بعد تسع عشرة ليلة، فتلقاه الغلمان، وأدخلوه إلى خزانة الكسوة فخلع عليه وطيب، ثم دخل على سيف الدولة فسأله سيف الدولة عن حاله وهو مستح منه، فقال له أبو الطيب: رأيت الموت عندك أحب إلي من الحياة دونك، فقال له سيف الدولة: بل يطيل الله بقاءك ودعا له.
ثم ركب أبو الطيب وسار معه خلق كثير إلى منزله، وأتبعه سيف الدولة طيباً كثيراً وهدية، فقال أبو الطيب يمدحه وأنشدها إياه في شعبان سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة.
أجاب دمعي وما الدّاعي سوى طلل ... دعا فلبّاه قبل الرّكب والإبل
يقول: لما وقفت على الطلل، بكيت قبل أصحابي، وقبل بكاء الإبل، فكأن الطلل دعا دمعي فأجابه قبل أصحابي.
ظللت بين أصيحابي أكفكفه ... وظلّ يسفح بين العذر والعذل
الأصيحاب: تصغير الأصحاب، وأكفكفه: أي أحبسه، وأردده والها: للدمع. وظل: أي الدمع. يسفح: أي يجري.
يقول: ظللت عند إجابة الدمع أكف دمعي عن السيلان، وأمنعه من الهملان، وظل الدمع يسيل ولا ينقطع، وأمنعه ولا يمتنع، فكان يجري بين عاذل من أصحابي على البكاء، وبين عاذر منهم، لما يرى من شدة صبابتي.
أشكو النّوى ولهم من عبرتي عجبٌ ... كذاك كانت وما أشكو سوى الكلل
الكلل: جمع الكلة، وهي الحجلة والتاء في كانت: للعبرة.
يقول: كنت أشكو النوى إليهم، وهم يتعجبون من دمعي، وليس ذلك بموضع تعجب؛ لأن الدمع كان هكذا، حين كانت المحبوبة قريبة منين لا يغيبها عن عيني سوى كلل. فالآن وقد بعدت وحالت بيننا المفاوز والبلاد، أجدر أن أبكي، وقوله: كذا كانت خطاب للأصحاب، أي قلت لهم: لا تعجبوا فإني كنت هكذا أبكي وهي قريبة مني.
وما صبابة مشتاق على أمل ... من اللّقاء كمشتاق بلا أمل
أي كصبابة مشتاق بلا أمل، فحذف المضاف.
يقول: إذا كنت أبكي وهي بالقرب، وكان البعد بيننا كله، فالآن - مع هذا البعد - أولى بالبكاء، لأن الاشتياق، إذا كان مع الأمل من اللقاء، لا يكون في الشدة كالاشتياق إذا كان من غير الأمل! ومثله لأبي تمام:
يصدّون عمّن لو تيقّن أنّه ... صدود انقطاعٍ لانثنى فتقطّعا
متى تزر قوم من تهوى زيارتها ... لا يتحفوك بغير البيض والأسل
يقول: إذا زرت قوم حبيبك الذي تهواه: جعلوا تحفتك السيوف والرماح، يعني أنهم وإن قصدوني عن زيارتي إياها بالرماح والسيوف، طلباً لقتلي، فإني لا أمتنع عن زيارتها، وقد بين ذلك بقوله.
والهجر أقتل لي ممّا أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل ؟!
يقول: إن هجرت زيارتها خوفاً من القتل، فالهجر أشد قتلاً لي، وما أراقب من قومها، ربما قارنته السلامة، وخوفي من قومها كالبلل.
ما بال كلّ فؤادٍ في عشيرتها ... به الّذي بي وما بي غير منتقل ؟
يقول: ما بال كل قلب من قلوب عشيرتها يحبها ! فبهم مثل ما بي من حبها، وكلنا ثابت الحب لها، غير منتقل الهوى عنها؛ لأنه إذا أخبر أن لكل فؤاد ما بفؤاده ثابت، فقد تضمن ذلك الإخبار عما في قلوبهم من الحب، أنه غير منتقل.
وقيل - وهو الأولى - معناه: أن كل أحد من عشيرتها يحبها مثلما أحبها لا تفاوت بيننا في حبها، فكأننا نحبها بحب واحد، وهذا الحب في قلوبنا أجمع، فكيف يكون وجدي وشوقي في قلب غيري وهو غير منتقل عني، والشيء الواحد لا يحل مكانين في زمان واحد ؟!

مطاعة اللّحظ في الألحاظ مالكةٌ ... لمقلتيها عظيم الملك في المقل
اللحظ: العين ها هنا.
يقول: إنها ملكت عيون الناس بحسن عينيها، وغنج ألحاظها، فلم تدع عينا أن تتخطاها إلى غيرها، فهي إذاً مطاعة العين فيما بين العيون كلها، وهي مالكة لمقلتيها الملك العظيم فيما بين المقل.
تشبّه الخفرات الآنسات بها ... في مشيها فينلن الحسن بالحيل
الخفرة: الحيية، والآنسة: التي تأنس محدثها ويأنس هو بها.
يقول: إن النساء الحسان يتشبهن بها في مشيها فيمسن كما تميس هي، فينلن حسن مشيها بالحيل والسرقة، وكأنهن يحاكينها في المشي فقط.
قد ذقت شدّة أيّامي ولذّتها ... فما حصلت على صابٍ ولا عسل
الصاب: شجر مر.
يقول: جربت أحوال الدهر، وذقت حلاوته ومرارته، فما وجدت لشيء منها حقيقة، لأنه لا يدوم ولا يبقى.
وقد أراني الشّباب الرّوح في بدني ... وقد أراني المشيب الرّوح في بدلي
فاعل أراني: الشباب، والمشيب والروح مفعوله الثاني، والكناية في أراني مفعوله الأول. والبدل قيل: أراد به غيره من الشبان ومعناه: أني ما دمت شاباً رأيت روحي في بدني، والآن لما شبت أرى الحياة في غير من الشبان، فكأن الروح التي كانت في انتقلت مني إلى غيري.
وقيل: معناه أيقنت عند طلوع الشيب أني قد ندبت إلى فراق الدنيا ليعمرها غيري.
وقيل: أراد بالبدل ولده، أي ما كنت أراه في نفسي من اللذة والروح في الحياة، انتقل مني إلى ولدي، فصرت أرى في بدلي وهو ولدي الذي يخرج مني، بعد ما كانت في بدني، وكأني قد انتقلت من الدنيا، وقام ولدي مقامي.
وقد طرقت فتاة الحيّ مرتدياً ... بصاحبٍ غير عزهاةٍ ولا غزل
طرقتها: أتيتها ليلاً والعزهاة: الجافي الذي لا يصبو إلى النساء ولا يرغب فيهم والغزل: ضده.
يقول: ربما زرت حبيبتي ليلا، وأنا متقلد بسيفي، وجعله صاحبه، ثم قال: إن صاحبي لا يكره النساء ولا يميل إليهن، فهو لا عزهاة ولا غزل.
فبات بين تراقينا ندفّعه ... وليس يعلم بالشّكوى ولا القبل
يقول: ضاجعتها، وعلي سيفي، فبات بيني وبينها، وكنا ندفعه إلى جانب عند المباشرة، وهو لا يعلم ما يجري بيننا من القبل والشكوى.
ثمّ اغتدى وبه من ردعها أثرٌ ... على ذؤابته والجفن والخلل
الردع: أثر الزعفران وأثر الطيب، وذؤابة السيف: السير الذي في طرف قائمه. والجفن: الغمد. والخلل: الغاشية التي يغشى بها السيف.
يقول: اغتدى السيف وقد علق به من طيها أثر، وكذلك علق بذؤابته وغمده.
لا أكسب الذّكر إلاّ من مضاربه ... أو من سنان أصمّ الكعب معتدل
يقول: لا أكسب الذكر الجميل، والثناء الحسن، إلا بحد السيف وسنان الرحم الأصم الكعب، فلهذا لا أفارقه.
جاد الأمير به لي في مواهبه ... فزانها وكساني الدّرع في الحلل
به: أي بالسيف فزانها: أي زان المواهب.
يقول: هذا السيف الذي لا أكسب الذكر إلا من مضاربه، وهبه لي الأمير في جملة مواهبة، فزان هذا السيف.
وقيل: زان سيف الدولة المواهب، وكذلك كساني الدرع في جملة ما كساني من الحلل.
ومن عليّ بن عبد اللّه معرفتي ... بحمله، من كعبد اللّه أو كعلي ؟!
معرفتي: ابتداء. ومن علي بن عبد الله خبره.
يقول: إنما تعلمت حمل السيف من سيف الدولة، ومن يشبه سيف الدولة أو والده في الجود والكرم ؟!
معطى الكواعب والجرد السّلاهب وال ... بيض القواضب والعسّالة الذّبل
السلاهب: الطوال من الخيل والعسالة: الرماح المضطربة.
يقول: سيف الدولة هو يهب هذه الأشياء كلها.
ضاق الزّمان ووجه الأرض عن ملكٍ ... ملء الزّمان وملء السّهل والجبل
عن ملك: يعني ملأ الزمان بأفعاله ومناقبه وذكره، وملأ الأرض بخيله ورجله، حتى ضاقت عنه.
فنحن في جذلٍ، والرّوم في وجلٍ ... والبرّ في شغلٍ، والبحر في خجل
يعني: نحن في سرور من إحسانه إلينا، والروم في خوف من غزوه إليهم، والبر في شغل بخيله وجوده، والبحر في خجل من كثرة عطائه.
من تغلب الغالبين النّاس منصبه ... ومن عديّ أعادي الجبن والبخل
هو من تغلب، وتغلب من عدي، وروى: العنصر والمنصب، وهما الأصل.

يقول: أصله من تغلب الذين هم يغلبون الناس، ومن عدي أيضاً وهم أعادي البخل والجبن.
أي إنهم في طباعهم الجود والشجاعة.
والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده ... بالجاهليّة عين العيّ والخطل
تنجده: أي تعينه، والخطل: الكلام الفاسد.
يقول: إذا استعنت في مدحه بذكر أيام آبائه، الذين كانوا في الجاهلية وإعانة مدحه بوصفهم عين العي والخطل، لأنك تجد في مناقبه ما لا يحتاج معه إلى ذكر آبائه.
قال ابن جنيك سألته عن هذا، قال: بعض الشعراء قد مدح سيف الدولة بذكر آبائه وأجداده ويعني به: النامي الشاعر.
وقيل: يجوز ألا يراعي السبب في ذلكن غير أنه لما قال فيما قبله من تغلب البيت. عاد إلى مدحه في نفسه، وبين أنه لم يذكر آباءه لاحتياجه إلى ذلك.
ليت المدائح تستوفي مناقبه ... فما كليبٌ وأهل الأعصر الأول ؟!
يقول لذلك الشاعر. أو لنفسه: ليت أن الشعر يستوفي فضائله ومآثره، أي أن ما فيه من المناقب لا تحيط به المدائح، فما كليب وغيره من المتقدمين في الأزمنة الخالية بالإضافة إليه، حتى تذكر مناقبهم في مدحه !
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ... في طلعة الشّمس ما يغنيك عن زحل
يقول: خذ ما قرب منك، ودع ذكر من غاب عنك، ولا سيما القريب منك الذي تشاهده، أكثر مناقب من البعيد الذي سمعت بذكره، وضرب المثل وشبهه بالشمس وأباه بزحل، فإن الشمس أقرب إلينا من زحل، وأبين منه نوراً، وأكثر منه فضلا.
يعني: عليك بمدح سيف الدولة الذي هو كالنور. وهذا البيت من محاسن الشعر.
وقد وجدت مكان القول ذا سعةٍ ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل
يقول: قد وجدت لمدحك مجالاً، ولمكانك في الوصف مقالاً، فإن كان لك لسان يساعدك، وبيان يطاوعك فامدح. ومثله للنميري:
إذا امتنع المقال عليك فامدح ... أمير المؤمنين تجد مقالا
إنّ الهمام الّذي فخر الأنام به ... خير السّيوف بكفّي خيرة الدّول
خير السيوف: خبر إن.
يقول: إن الملك الهمام الذي يفتخر به الأنام هو خير السيوف بكفي خيرة الدول، وهي دولة الإسلام، لأنه سيفها.
تمسي الأمانيّ صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيءٍ: ليت ذلك لي
يقول: إنه بلغ فوق ما يتمناه، فلا يرى شيئاً لم يصل إليه، فيتمنى أن يكون له ! بل إذا تمنى شيئاً وصل إليه، وإلى ما هو خير منه.
ومعنى قوله: تمسي الأماني صرعى دون مبلغه معنى بديعي، لأبلغ مبلغاً، كل أمنية ساقطة دونه، فلا يحتاج أن يتمناها مع تجاوزه عنها، وهو في هذا ينظر إلى قول عنترة العبسي.
ألا قاتل اللّه الطّلول البواليا ... وقاتل ذكراك السّنين الخواليا
وقيلك للشّيء الّذي لا تناله ... إذا ما حلافي العين: يا ليت ذاليا !
انظر إذا اجتمع السّيفان في رهجٍ ... إلى اختلافهما في الخلق والعمل
الرهج: الغبار.
يقول: إذا ارتفع غبار الحرب، فانظر إلى سيف الدولة، وإلى السيف الذي في يده؛ لتعرف فضل ما بينهما خلقاً وعملا، يعني أنه وإن شارك السيف في الاسم، فهو مخالف له في الخلق والعمل والمضاء، والعزم والفناء.
هذا المعدّ الدّهر منصلتاً ... أعدّ هذا الرّأس الفارس البطل
أعد: فاعله المعد لريت الدهر. والمنصلت: المتجرد من الغمد، ومنصلتاً نصب على الحال.
يقول: إن سيف الدولة سيف جعله الخليفة عدته لحوادث الدهر، وهذا السيف قد اتخذ سيف الحديد عدة للحرب، ليضرب رءوس الأبطال، فهذا الأول إشارة إلى سيف الدولة والثاني إشارة إلى سيف الحديد.
فالعرب منه مع الكدريّ طائرةٌ ... والرّوم طائرةٌ منه مع الحجل
الكدري: ضرب من القطا، تضرب ألوانها إلى الكدرة والحجل: القبج.
يقول: إن الروم والعرب هربت منك، والتجأت إلى البوادي والجبال، فالعرب هاربة إلى البوادي مع القطا، والروم إلى الجبال مع القبج.
وخص العرب بالقط؛ لأنها تكون في بلاد العرب دون الروم، وخص الروم بالحجل، لأنها تكون في بلاد الروم وجبالها.
وما الفرار إلى الأجبال من أسدٍ ... تمشي النّعام به في معقل الوعل
الضمير في به للأسد، وأراد به: سيف الدولة، وأراد بالنعام ها هنا الخيل خيل سيف الدولة العراب.
يقول: كيف يمنع الروم فرارها إلى الأجبال من أسد تمشي به الخيل في الجبل التي هي معقل الوعل.

شبه الخيل بالنعام لسرعتها. وفيه إشارة إلى أنه لا يمتنع عليه أمر رامه؛ لأنه إذا أمكنه أن يبلغ بالنعا وهي سهلية إلى رءوس الجبال، فكيف يقدرون على التحرز منه في معقل الأوعال.
وقيل: معناه أن سيف الدولة لو ركب النعام مشت به في معاقل الأوعال، مع أنها من طير السهل، لأنه قد سهل له كل صعب.
وقيل: أراد بالنعام حقيقتها. ومعناه: أنه قد أحوج النعام التي هي من طيور السهل إلى الفرار منه ومن جيشه إلى رءوس الجبال.
جاز الدّروب إلى ما خلف خرشنةٍ ... وزال عنها وذاك الرّوع لم يزل
الدروب: مضايق الروم. وقيل: هي دروب الروم. وقيل: موضع بعينه. وخرشنة: بلد في الروم.
يقول: دخل بلاد الروم حتى جاوز الدروب والمضايق، وخلف خرشنة وراء ظهره، ثم عاد منها بعد الإغارة والسبي وخوفه بعد في قلوبهم لم يزل عنهم.
فكلّما حلمت عذراء عندهم ... فإنّما حلمت بالسّبي والجمل
يقول: قد تمكن رعبك في قلوبهم، فالبكر منهم ترى في نومها أنها تسبى؛ لتمكن ذلك في نفسها في حال اليقظة، فهي تراه في المنام، أو ترى الجمل؛ لأنه لا يكون في بلاد الروم، فالنفس له أنكر والطباع منه أنفر.
وقيل: خص الجمل؛ لأنها إذا سبيت تحمل على الإبل.
وقيل: معناه أنهن يسبين صغاراً فيحملن على الجمال إلى عند أصحاب سيف الدولة؛ لأنها أصحاب جمالز ومثله لعلي بن جبلة:
وعلى عدوّك يا ابن عمّ محمّدٍ ... رصدان: ضوء الصّبح والإظلام
ومثل ذلك لأبي الطيب:
يرى في النّوم رمحك في كلاه ... ويفرق أن يراه في السّهاد
إن كنت ترضى بأن يعطوا الجزي بذلوا ... منها رضاك ومن للعور بالحول !؟
الجزي: جمع جزية يقول: إن كنت ترضى منهم بالجزية، أعطوك منها ما تطلب، فهم يتمنون ذلك، كما يتمنى الأعور الحول، لأن الجزية خير لهم وأحب في أنفسهم من السبي والقتل، كما أن الحول خير من العور.
ناديت مجدك في شعري وقد صدرا ... يا غير منتحلٍ في غير منتحل
صدرا: راجع إلى مجد سيف الدولة وشعر المتنبي، وفيه إشارة إلى أنهما ليسا بمستحدثين، ولو قال: وردا لأوهم ذلك، والانتحال: ادعاء الشيء كذباً.
يقول: ناديت مجدك فيما أقوله في مدائحك، فقلت في ندائي: يا مجداً غير منتحل في شعر غير منتحل. يعني: أن مجدك حقيقة لك لم تنتحله، كما أن شعري كذلك غير منتحل.
وقوله: قد صدرا أي صدر الشعر مني والمجد منك ويجوز أن يريج صدر الشعر، والمجد من فعلك، إذ لولا عطاؤك لما كان مني مدح.
بالشّرق والغرب أقوامٌ نحبّهم ... فطالعاهم وكونا أبلغ الرّسل
يقول، قلت لمجدك وشعري لما سارا في البلاد: إن في الشرق والغرب لي أحبة، فأبلغا أحبتي عند سيف الدولة.
وذلك إشارة إلى اشتهار المجد والشعر، إلا أنه لما كان مشتملا على ذكره مجده، كان المجد أيضاً سائراً بسيره ومشتهراً باشتهاره. وقد بين تتمة الرسالة فيما يليه فقال:
وعرّفاهم بأنّي في مكارمه ... أقلّب الطّرف بين الخيل والخول
الخول: جمع الخائل، وهو الخادم.
يقول للمجد والشعر: عرفا أحبتي ما أنا فيه من الكرامة، وما أعطاني الأمير من الخيل والعبيد.
يا أيّها المحسن المشكور من جهتي ... والشّكر من قبل الإحسان لا قبلي
يقول: أحسنت إلي وشكرت على إحسانك إلي، فالشكر من جهة إحسانك لا من جهتي، فكأنه هو الشاكر دوني.
ما كان نومي إلاّ معرفتي ... بأنّ رأيك لا يؤتى من الزّلل
أقام النوم مقام الغلفة والسهو، يعتذر مما بدر منه في القصيدة الميمية.
يقول: ما نمت عما وجب من صيانة مدحك، عن خلطه بالعتاب المؤلم، إلا بعد ثقتي باحتمالك وحلمك، وأنك لا تعجل علي بعقوبتك. وفوق ها هنا ظرف كما تقول: نمت فوق السرير. وقيل: إنه صفة لمصدر محذوف، أي لما وثقت بحلمك وعلمت أنك لا تزل في رأيك، تسحبت في العتاب تسحباً فوق ما عرفته من ثبات رأيك.
وقيل: معناه يا أيها الملك الذي أحسن إلي وشكرته على إحسانه، ما لحقني السهو والتفريط إلا بعد سكون نفسي إلى فضلك، وأنك لا تزل في رأيك.
أقل، أنل، أقطع، أحمل، علّ، سلّ، أعد ... زد، هشّ، بشّ، تفضّل، أدن، سرّ، صل

أقل: من الإقالة من العثرة، والعفو عن الزلل. أنل: من الإنالة، وهو إسداء العطية. أقطع من الإقطاع. أحمل: من حملته على فرسي، ومنه قوله تعالى: " ولا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلهُمً " . عل: من إعلاء المحل. يقال: عليت منزلته، وأعليتها. سل: من تسلية الهموم أعد: من الإعادة إلى العادة الأولى. زد: من الزيادة. وهش بش من الهشاشة، والبشاشة، وهما: التهلل، واللقاء بالبشر، والطلاقة. تفضل: من تفضل فلان على صاحبه. أدن: من الإدناء وهو التقريب. وسر: من سررته أسره. صل: من الصلة وهي العطية، أو من المواصلة وهي المقاربة.
ومعنى هذه الكلمات: إما دعاء لسيف الدولة. أي لا زلت أبداً تقيل عثرة من يبغي من أصحابك وتنيل أولياءك وتقطعهم ضياعك، وتحملهم على خيلك إلى آخر البيت.
وإما للسؤال والطلب، فالمعنى: أقلني من عثرتي، وأنلني من فضلك، وأقطعني ضيعة من ضياعك، واحملني على فرس من خيلك، وعل منزلتي عندك، وسل ما حصل في قلبك من غش، أو سل ما في قلبي من الهم بإعراضك عني، وأعدني ما كنت عليه من المنزلة، وسرني إلى الإجابة إلى ما سألتك وقيل سر قلبي برضاء عني، وصلني بصلة من صلاتك، أو صل ما بيني وبينك.
ويحكى أن سيف الدولة وقع بخطه تحت أقل أقلناك. وتحت أنل يحمل إليه كذا وكذا ألف درهم، وتحت أقطع أقطعناك الضيعة الفلانية بباب حلب، وتحت أحمل يقاد إليه فرس مركب وتحت عل قد فعلنا وتحت سل قد فعلنا فاسأل، وتحت أعد أعدناك إلى حالك من حسن رأينان وتحد زد يزاد كذا وكذا، وتحت تفضل قد فعلنا، وتحت أدن قد أدنيناك وتحت سر قد سررناك.
فقال أبو الطيب: إنما قلت هب سرّية لي فأمر بجارية له، وتحت سل قد فعلنا.
ويحكى أن المعقلي وكان شيخاً ظريفاً قال لسيف الدولة: قد فعلت به كل شيء سألك، فهلا قلت: لما قال: هش بش هئ هئ: يحكى الضحك، فضحك سيف الدولة وقال: اذهب يا ملعون.
لعلّ عتبك محمودٌ عواقبه ... فربّما صحّت الأجسام بالعلل
يقول: لعلي أتأدب بعد عتبك علي، ثم بعد عفوك عني هذه الكرة، فيكون عتبك علي تهذيباً لأدبي، ويؤدي إلى العاقبة المحمودة، كما أن بعض العلل يكون محمود العاقبة، لما يؤمن معه من الأمراض، كالزكام، فإنه يؤمن معه من أدواء كثيرة من أدواء الرأس، ويعقبه الصحة. كالفتور الذي ينال شارب الدواء ثم يتعقبه صحة كثيرة وكضرب المؤدب للغلام.
قال ابن جني: وهذا من الكلام الذي يقضي بفضله كل من فهمه.
وما سمعت ... ولا غيري بمقتدر أذبّ منك لزور القول عن رجل
عن رجل: عني به نفسه، كأنه كان قد كذب عليه بعض حاسديه عند سيف الدولة، ولم يقبل قوله، ولكنه عاتبه على ذلك من غير علم هذا الحاسد. فقال: لم أسمع أنا ولا غيري بملك يقتدر على الانتقام. أذب منك لزور القول عن رجل سعى إليك بزور القول.
لأن حلمك حلمٌ لا تكلّفه ... ليس التحكّل في العينين كالكحل
الكحل: أن تكون أشفار العين سوداً خلقةً. والتكحل: استعمال الكحل.
يقول: إنما توقف على أمر من يسعى عندك، لن حلمك في طباعك غير متكلف، فلا يتغير بسعاية ساع، كما يتغير الحكم التكلفي. فحلمك ثابت لا يزول، كما أن الحكل في العين إذا كان خلقة لا يزول ولا يحول، وحلم غيرك من الملوك متكلف سريع الانتقال، كما أن التكحل لا دوام له.
وما ثناك كلام النّاس عن كرمٍ ... ومن يسدّ طريق العارض الهطل ؟!
ما ثناك: ما صرفك. والهطل: المتتابع، وروى: ومن يرد ومن يسد شبه كرمه بالعارض الهطل فقال: فكما أن أحداً لا يمكنه سد طريق العارض الهطل، كذلك لا يمكن أحد أن يمنعك من استعمال الكرم.
أنت الجواد بلا منٍّ ولا كدرٍ ... ولا مطالٍ وى وعدٍ ولا مذل
المذل: الضجر من الشيء.
يقول: أنت الجواد الذي لا يمن بعطائه، ولا يكدر معروفه بالمن وغيره، وليس في عطائه مطل ولا مدافعة ولا وعد، بل يعطى العطية ابتداء، ولا يضجر من جوده ولا يندم.
وقيل: معناه أن يجود بالتثبت والسكون، لا بالطيش والخفة.
أنت الشّجاع إذا ما لم يطأ فارسٌ ... غير السّنّوز والأشلاء والقلل
السنور: قيل: جميع السلاح، وقيل: ما يلبس من السلاح، كالدروع ونحوها، والأشلاء: جمع شلو، وهو جسد المقتول. والقلل: الرءوس

يقول: أنت الشجاع المشهور، في حال لا يقع حافر فرسه إلا على أجساد القتلى، ورءوسهم وسلاحهم.
وردّ بعض القنا بعضاً مقارعةً ... كأنّه من نفوس القوم في جدل
يقول: أنت الشجاع إذا ضاق المجال، وقرع القنا بعضه بعضاً، فصار الرمح يرد الآخر عن الطعن، كما يرد الخصم حجة خصمه.
شبه النفوس بالمعاني، والرماح بالحجج، والاعتراضات التي تدور بين الخصمين والحرب بالجدال. وهذا البيت متصل بالذي قبله.
والمعنى: يعني أنه الفارس الشجاع في جميع الأحوال.
لا زلت تضرب من عاداك عن عرضٍ ... بعاجل النّصر في مستأخر الأجل
عن عرض: أي عن يمنة ويسرة، وهو متعلق بقوله تضرب.
يقول: لا زلت تضرب أعداءك معترضاً لهم بسيفك، والله يؤيدك بنصر قد عجله لك، وأجل قد أخره الله عنك، فكأنه أخر الله أجلك، وعجل نصرك.
فاستحسن سيف الدولة ومن حضره القصيدة هذه وأطنبوا في وصفها، فقال ارتجالا:
إنّ هذا الشّعر في الشّعر ملك ... سار فهو الشّمس والدّنيا فلك
يقول: شعري ملك الشعر، كما أنك ملكت الخلق، وهو شمس يسير في الدنيا، كما تسير الشمس في الفلك.
عدل الرّحمن فيه بيننا ... فقضى اللّفظ لي والحمد لك
يقول: عدل الله تعالى في قسمه هذا الشعر بيني وبينك، فأعطاني لفظه، وأعطاك معناه. وهو الحمد والثناء.
فإذا مرّ بأذني حاسدٍ ... صر ممّن كان حيّا فهلك
يقول: إذا سمعه من يحسدك على مجدك، ومن يحسدني على فضلي، غلب على قلبه الحسد، فأهلكه، فيهلك بسببه.
ولم أنشده: أقل أنل رأى قوماً يعدون ألفاظه فزاد فيه وأنشده.
أقل، أنل، أن، صن، احمل، علّ، سلّ، أعد ... زد، هش بشّ، هب، اغفر، أدن، سرّ، صل
أن: أمر من الأون، وهو الرفق. وصن أمر من الصيانة، والمراد به حفظ الجاه.
فرآهم يستكثرون الحروف فقال. يظهر مقدرته على جمع كلمات كثيرة في بيت واحد.
عش، ابق، اسم، سد، قد، جد، مر، انه، ره، فه، اسر، نل ... غظ، ارم، صب، احم، اغز، اسب، رع، زع، ده، له، اثن، بل
عش: من العيش، وابق: من البقاء، واسم: من السمو. وسد: من السيادة، وقد: من قاد الجيش، وجد: من الجود، ومر: من الأمر بالشيء، وانه: من النهي، أي لا زلت آمراً ناهياً. وره: من وريته أريه، وهو داء في الجوف، أي أصب اعدو بهذه الآفة. وفه: من الوفاء بالعهد، واسر: من السرية، أي جهز الجيش إلى الأعداء.
وقيل: معناه الدعاء، أي لا زلت أبداً تسري إلى أعدائك. ونل: من النيل، وهو الإدراك، أي لا زلت تدرك من أعدائك إرادتك، ويجوز نل بضم النون من نلته: أي أعطيته. وغظ: أي غظ حسادك بما يرون من إقبال دولتك وارم: من يكيدك. وصب: من صاب السهم الهدف، أي أصابه، أي لا زلت ترمي أعداءك فتصيب مقاتلهم. واحم: من حميت الرجل إذا منعته، أي احفظ حوزتك. واغز: من الغزو. واسب: من السبي أي لا زلت أبداً تغزو الأعداء، وتسبي زراريهم. ورع: أي أفزع أعداءك، أي لا زلت كذلك. زع: أي كف شر أعدائك. ده: من وديت القتيل، إذا أعطيت ديته، أي لا زلت تحمل الدية عن القاتل لكرمك. له، من الولاية، أي لا زلت تلي الولايات. واثن: أي اصرف أضدادك عن الوصول إليك: وقيل اثن من ثنيت الفعل إذا فعل مرة بعد مرة. أي لا زلت كلما وليت ولاية ثنيتها بأخرى، وشفعتها بما هو خير منها، وبل: من الوبل. وهو المطر إذا اشتد، أي لا زلت تعطي عطاء كالوابل.
وهذا البيت لم يسبقه أحد إلى مثله. ولا لحقه أحد فيه، وهو مركب من أربع وعشرين كلمة، وهي مع ذلك فصيحة، وقد قال قبله عدة من الشعراء فلم يزيدوا على عشر كلمات كقول أبو العميثل:
اصدق، وعفّ، وبر، واصبر، واحتمل ... واحلم، ودار، وكاف، وانصر، واسمع
والأصل قول امرئ القيس:
أفاد، وجاد، وساد، وحاد وقاد، وباد، وعاد، وأفضل
فقال سيف الدولة: أيمكن أكثر من هذا ؟! فقال: نعم ولكن يغيظ جداً
وهذا دعاء لو سكتّ كفيته ... لأني سألت الله فيك وقد فعل
أي هذا الدعاء أمر زائد، لأن كلما سألت الله فيك، قد فعله الله فيك، فلو سكت كنت كفيته.

وقال أيضاً وقد حضر مجلس سيف الدولة في شوال سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة، وبين يديه طلع ونارنج، وهو يمتحن الفرسان فقال لابن جش وهو شيخ المصيصة وكان عالماً: لا يتوهم أن هذا للشرب. فقال أبو الطيب ارتجالا:
شديد البعد من شرب الشّمول ... ترنج الهند أو طلع النّخيل
الشمول: الخمرة. وسميت بذلك لأنها تشمل عقل شاربها، وقيل: لأنها تجتمع شمل الندامى عليها. والترنج: جمع ترنجة، وهي لغة. والأصح: الأترج، والأتجة. والطلع: الثمر: أول ما يخرج وهو في كمة، وكان الذي بين يدي سيف الدولة هو نارنج فسماه أترجاً، لأنه نوع من أنواعه.
يقول: هذا الطلع والأرتج بعيد من الشرب عليه، لم يحضر لذلك. قوله: ترنج الهند مبتدأ، وشديد البعد خبره مقدم عليه.
وقال ابن جني: في الكلام حذف. فقوله شديد البعد خبر ابتداء محذوف، أي أنت شديد البعد. وقوله: ترنج الهند: مبتدأ، وخبره محذوف: أي عندك، أو في مجلسك، أو بين يديك ترند الهند. وعلى الوجه الأول لا حذف فيه، وهو أولى وأو في قوله: أو طلعب النخيل بمعنى الواو، كما قيل في قوله تعالى: " أَوْيزيدونَ " .
ولكن كلّ شيءٍ فيه طيبٌ ... لديك من الدّقيق إلى الجليل
يعني: أنك لم تحضر هذا لأجل الشرب، ولكن لأجل طيبه، وكل شيء فيه طيب دق أو جل، فهو عندك وبين يديك.
وميدان الفصاحة والقوافي ... وممتحن الفوارس والخيول
ممتحن: يجوز أن يكون موضع الامتحان، ويجوز أن يكون مصدراً كالامتحان.
يقول: عندك أيضاً مجال الفصاحة، والأشعار، لمعرفتك بهما، وعندك موضع امتحان الفوارس والخيل، لأنك أعرف الناس بهذه الأشياء كلها.
فلم يتبين معنى البيت الأول لقوم حضروا فقال يرد على من أنك عليه استعمال لفظ: الترنج:
أتيت بمنطق العرب الأصيل ... وكان بقدر ما عانيت قيلي
الأصيل: هنا القوى المكين الذي له أصل.
يقول: إنما نطقت بكلام العرب الفصيح، وكان وصفي بقدر ما شاهدته ورأيته في الحال.
فعارضه كلامٌ كان منه ... بمنزلة النّساء من البعول
أي تعرض له وناقضه، والهاء في منه تعود إلى منطق العرب وكذلك في قوله: فعارضه.
يقول: عارض قولي الفصيح قول ركيك ضعيف لكان كلامي ذكر، وكلام من عارضني أنثى. وهذا كقول الراجز:
إنّى وكلّ شاعرٍ من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
وهذا الدّرّ مأمون التّشظّي ... وأنت السّيف مأمون الفلول
التشظي: التكسر، والتشقق يقول: كلامي در مخالف للدر الحقيقي؛ لأن الدر غير مأمون التشظي، وكلامي لا يقع فيه خلل. كما أنك سيف لا يخاف عليك الفلول فهو سالم عن كل عيب بخلاف سائر السيوف.
وليس يصحّ في الأفهام شيءٌ ... إذا احتاج النّهار إلى دليل
يعني: إنما يقام الدليل على الشيء الخفي، فأما الظاهر الجلي، فهو بمنزلة النهار الذي لا يحتاج إلى الدليل، لأن كل من رآه عرفه، ومن خفي عليه ضوء النهار، فلا فائدة لإقامة الدلالة في حقه، إذ المعاينه أقوى، والمشاهدة أولى، وهذا كقول البحتري:
عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر
وقال أيضاً وقد جلس سيف الدولة لرسول ملك الروم، وقد ورد يلتمس الفداء، وركب الغلمان بالتجافيف، وأحضروا لبؤة مقتوله، ومعها ثلاثة أشبال أحياء، وألقوها بين يديه، فقال ارتجالا لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة:
لقيت العفاة بآمالها ... وزرت العداة بآجالها
العفاة: طلاب المعروف.
يقول داعيا: لا زلت تلقى العفاة بآمالها، يعني إذا لقيتهم أعطيتهم وأغنيتهم، ولا زلت تقصد أعداءك وتفنيهم.
وأقبلت الرّوم تمشي إلي ... ك بين اللّيوث وأشبالها
أطلق لفظ الروم جملة على رسولهم، لما كان منهم.
يقول: إن الروم قصدت إليك تمشي بين الليوث المقتولة، وأولادها. وجعل الليوث: لبؤة.
إذا رأت الأسد مسبيّةً ... فأين تفرّ بأطفالها ؟
يقول: إذ رأتك الروم وأنت تقتل الليوث وتسبي أولادها، علمت أنها لا تقدر على الفرار بأولادها الصغار، وإنما قال: مسبيه لأنها كانت أحياء.
وقال أيضاً يذكر الفداء الذي التمسه الرسول، وكتاب ملك الروم الوارد معه.
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحبّ ما لم يبق منّي وما بقي

ما يلقى: مبتدأ بمعنى الذي. ولعنيك: خبر مقدم عليه، وكذل المصراع الثاني يقول: كل شيء لقي قلبي من ألم الشوق فيما مضى، وفيما يلقاه من بعد فهو بسبب عينيك، ولأجل حسنها.
وقيل: يعني حلال لعينيك ما لقيته وما ألقاه، والمراد جعلت قلبي لعينيك، فكل ما يمر عليه معفو عنه.
وقيل: أراد، ظاهر لعينيك ما يلقاه فؤادي وما لقيته، وكذلك في المصراع الثاني. إني ما لقيت من نحول جسمي، وهزال بدني، وما بقي منه، فهو لأجل حبك، أو هو حلال، أو ظاهر للحب.
وقيل: أراد كأن الحب ملكه يتصرف فيه تصرف الملاك في الأملاك، فأذهب بعض جسمه بالهزال، وأبقى بعضه وقيل: أذهب قوتي وأبقى جسمي.
وقيل: أراد عمري الذي مضى وبقي. وقيل: أراد بما بقي روحه وبما لم يبق جسمه.
وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه ... ولكنّ من يبصر جفونك يعشق
يقول: لم أكن ممن يميل به أسباب الهوى، ولكني لما أبصرت جفونك، وغنج عينيك صرت عاشقاً لك.
وبين الرّضا والسّخط والقرب والنّوى ... مجالٌ لدمع المقه المترقرق
يقول: لا أزال أبكي في حال رضي الحبيب، خوفاً من سخطه، وفي حال سخطه، لحصوله، وفي حال القرب، خوفا من النوى، وفي حال النوى لحصولها، فبين كل شيء من هذه الأحوال مجال لدمع السائل. ومثله لآخر.
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراق
وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ... وفي الهجر، فهو الدّهر يرجو ويتّقي
أحلى الهوى: ما يشوبه الخوف والرجاء، حتى يكون العاشق مرة خائفاً ومرة راجياً، فلا يشفى بالوصل، فيزدري ذلك بحلاوته، ويؤدي إلى الملال، ولا ييئس من الوصل رأسا، فيؤدي ذلك إلى شدة الحزن الذي يؤدي إلى الهلاك فحالة الشك والتردد في الهجر والوصل، والوقوف بين حالتي الخوف والرجاء، ألذ أحوال الهوى.
وغضبي من الإدلال سكرى من الصّبا ... شفعت إليها من شبابي بريّق
ريق كل شيء: أوله.
يقول: رب جارية غضبي، غضب الدلال لا غضب الهجران، فكانت من الإدلال غضبي ومن الشباب سكرى، توسلت إليها بريق شبابي، فوصلت منها إلى ما أحب، أي نظرت إلي فعشقتني، لأجل شبابي، وساعدتني على مرادي، فكأن الشباب كان شفيعاً عندها.
وأشنب معسول الثّنيّات واضحٍ ... سترت فمي عنه فقبّل مفرقي
الأشنب الثّغر: الذي له شنب، وهو برد الأسنان. وقيل: إنه حدة الأسنان، وقد جعله صفة لشخص: أي ورب حبيب ذي ثغر أشنب. والمعسول: الحلو، كأنه جعل فيه العسل. والواضح: الأبيض المضيء.
يقول: ما زلت أطلب العفاف، حتى في حال الخلوة مع الحبيب، ورب حبيب ثناياه باردة عذبة، حلوة الترشف، عففت عنه حين خلوت به، وأراد أن يقبل فمي، فسترت فمي عنه، لأنه موضع التلذذ بالقبلة، فقبل مفرقي ليدل إلي فلم أستر المفرق، لأن ذلك للعظمة لا للذة.
وأجياد غزلانٍ كجيدك زرنني ... فلم أتبيّن عاطلاً من مطوّق
العاطل: الذي لا حلى عليه. والمطوق: اللابس للطوق يقول: رب نساء مثلك كأن أجيادهن أجياد الغزلان، جئن لزيارتي، فلم أنظر إليهن وإلى أجيادهن، لعفتي، حتى لم أتبين العاطل منهن من المطوق. والمقصد وصف نفسه بالعفة.
وما كلّ من يهوى يعفّ إذا خلا ... عفافي ويرضى الحبّ والخيل تلتقي
إني إذا خلوت عففت، وكذلك أنا أرضى حبيبي في حال التقاء الخيل، لشجاعتي، لأن. المرأة من العرب يعجبها أن يكون خليلها شجاعاً مقداماً. وقيل: أراد بإرضائه الحبيب في حالة الحرب: الدفع عنه. والذب دونه، كقول عمرو بن كلثوم:
يقتن جيادنا ويقلن لستم ... بعولتنا إذا لم تمنعونا
إذا لم تمنعنّ فلا بقينا ... لشيءٍ بعدهنّ ولا حيينا
وقال المخزومي في معنى البيت: هو أن يقول أعف كرماً وأكتم هواي، فإني أرعى الهوى وأحافظ عليه في ملتقى الخيل، والمراد بإرضاء الحبيب رعاية الهوى، وفي ذلك خصلتان: إحداهما: الدلالة على أن الهوى عند ذوي الوفاء لا يشغل عند الشدائد كقول أبو عطاء:
ذكرتك والخطّى يخطر بيننا ... وقد نهلت منّا المثقّفة السّمر
وكقول الآخر:
ولقد ذكرتك والسّياط تنوشني ... عند الإمام وساعدي مغلول
ولقد ذكرتك والّذي أنا عبده ... والسّيف عند ذؤابتي مسلول

والثانية: الدلالة على كونه رابط الجأش عند التحام القتال، حتى لم يشتغل خاطره عن الهوى في ذلك الحال.
سقى اللّه أيّام الصّبا ما يسرّها ... ويفعل فعل البابليّ المعتّق
البابلي: منسوب إلى بابل، وهي أرض العراق، وأراد به الشراب، والمعتق: القديم، ويفعل: أي وما يفعل. وقوله: ما يسرها يحتمل معنين: أحدهما: سقى الله من الغيث قدر ما يبلغ مرادها من الري، حتى لا يكون قاصراً عن إرادتها، ولا زائداً عن حاجتها فيكون مثل قول الآخر:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الرّبيع وديمةٌ تهمى
الثاني: أهدى إليها السرور، كما سررنا بها، وذلك أنه رأى أن دعاءه للصبا بالسقيا لا معنى له، لأنها أوقات وزمان، فقال: سقاها الله شيئاً يهدي إليها السرور والارتياح، يفعل بها فعل الشراب، فكأنه قال: سقاها الله خمراً يسرها.
إذا ما لبست الدّهر مستمتعاً به ... تخرّقت والملبوس لم يتخرّق
يقول: إذا كنت لابساً للدهر، وتستمتع به وتعيش فيه، تخرقت أنت، والملبوس الذي هو الدهر، لم يتخرق، بل يكون أبداً جديداً، بخلاف سائر الملابس، فأنت تبليها وتخرقها، وهو يبلي الأبدان، ويفنيها وهذا مثل قوله:
تغيّر حالي والليالي بحالها
ونحو قول ابن دريد:
إنّ الجديدين إذا ما استوليا ... على جديد أدنياه للبلى
وقول الآخر:
وأفناني ولا بقيا نهاراً ... وليل كلّما يمضي يعود
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم ... بعصن بكلّ القتل من كلّ مشفق
المشفق: قيل من الشفقة، التي ترجع إلى معنى المحبة.
يعني: كنت إذا نظرت إليهن ونظرن إلي قتلنني وقتلتهن من خوف الفراق، وما منا إلا مشفق على صاحبه، فلم أر أعجب من الألحاظ، كيف اجتمع فيها القتل والشفقة !؟ فكأنه من قول الشاعر:
ونبكي حين نقتلكم عليكم ... ونقتلكم كأنّا لا نبالي
وقيل: المشفق: الخائف، ومعناه بعثت الألحاظ من كل خائف من ألم الفراق، كل أنواع القتل لأنها أبكتهم فسفكت دماءهم وأماتتهم.
أدرن عيوناً حائراتٍ كأنّها ... مركّبةٌ أحداقها فوق زئبق
الضمير في أدرن للألحاظ، وروى: أدرنا.
يقول: كنا نقلب عيوناً حائرات عند وداعنا، لا تبصر شيئاً مما دهانا من ألم الفراق، فكأنها من كثرة حركاتها وقلة استقرارها مركبة على الزئبق، لأن طبعه الحركة. وقيل: الحيرة ليست لامتناع الرؤية، وإنما هي لاجتماع ظهور الدمع في العين وغلبته.
وقيل: معنى البيت كنا نقلب عيوننا في النظر تارة إلى العذال وتارة إلى الأحباب، فكانت لا تستقر، كأنها ركبت فوق زئبق.
عشيّة يعدونا عن النّظر البكى ... وعن لذّة التّوديع خوف التّفرّق
يعدونا: أي يصرفنا.
يقول: كانت هذه الحالة وقت العشية حين كان البكاء يمنعنا من النظر، وخوف الفراق يمنعنا من التلذذ بالوداع والعناق.
نودّعهم والين فينا كأنّه ... قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق
الفيلق: العسكر، قلب، أي وسط.
يقول: كنا نودع الأحباب، في الحال التي كان البين يفعل في قلوبنا من التفريق مثل ما تفعل رماح سيف الدولة في قلب عساكر الأعداء من التفريق والقتل.
قواضٍ مواضٍ نسج داود عندها ... إذا وقعت فيه كنسج الخدرنق
أي هذه القنا قواض: يعني تقضي بالموت وتمضي في الأعداء، أي لا يردها شيء إذا وقعت في الدروع المنسوبة إلى داود، وتمضي فيها، كما تنفذ في نسج العنكبوت والخدرنق: العنكبوت، والتأنيث في البيت للقنا والهاء في فيه لنسج داود، وموضع قواض رفع لأنه خبر ابتداء محذوف: أي هذه القنا قواض مواض، كما تقول: هذا حلو حامض.
وقيل: هو ابتداء الكلام. والمراد أداء السيوف، والأول أظهر.
هوادٍ لأملاك الجيوش كأنّها ... تخيّر أرواح الكماة وتنتقي
هواد: جمع هادية، وقيل: هو من هديت فلاناً إذا أرشدته، ومعناه أن هذه الرماح ترشد الموت، أي تهديه إلى الملوك وقواد الجيش، فكأنها تتخير أرواح الكماة، وتنتقي نفوس الأملاك دون من عداهم.
وقيل: من هدى بمعنى اهتدى، فإن هدى واهتدى بمعنى، أي إن هذه القنا تهتدي إلى الملوك فتقتلهم.
تفكّ عليهم كلّ درعٍ وجوشنٍ ... وتفري إليهم كلّ سورٍ وخندق
روى تفك أي تحل، وتقد: أي تقطع. وتفري: أي تقطع.

يقول: هذه الرماح تقطع على الكماة والملوك دروعهم وجواشنهم، وتخرق إليهم الحصون والأسوار والخنادق حتى تصل إليهم، وتفتح بلادهم.
يغير بها بين اللّقان وواسطٍ ... ويركزها بين الفرات وجلّق،
اللقان: موضع ببلد الروم، وقيل: جبل. وواسط: مدينة بالعراق بناها الحجاج بن يوسف والفرات: معروف يجيء من بلاد الروم، ويمر على أطراف الشام، حتى ينتهي إلى العراق، ويلتقي مع دجلة أسفل بغداد فيصيران نهراً واحداً، ويمران على البصرة ثم إلى البحر. وجلق: موضع بدمشق.
يعني لا يزال أبداً يغير برماحه مرة في بلاد الروم، ومرة على البوادي التي في العراق، ويركزها بين الفرات وجلق، لأنها دار مملكته ومعدن ولايته.
ويرجعها حمراً كأنّ صحيحها ... يبكّي دماً من رحمة المتدقّق
المتدقق: المتكسر، يقال: اندق الرمح، إذا انكسر، ولا يستعمل الأندقاق إلا فيما كان فيه طول، مثل الرمح ونحوه، ويقال: سقط فلان فاندقت عنقه.
يقول: يرجع هو رماحه من الغارات وقد احمرت بالدم، وبعضها قد تكسر في بدن الأعداء، فكأن الصحيح منها يبكي دماً على ما تكسر منها، حزناً عليها، لأنه من جنسه، ودماً نصب على التمييز، ويجوز أن يكون مفعولاً به عن فعل مضمر، دل عليه. يبكي أي يبكي فيجري دماً.
فلا تبلغاه ما أقول فإنّه ... شجاعٌ متى يذكر له الطّعن يشتق
يقول: لا تبلغا يا صاحبي سيف الدولة ما أقول، فإنه شجاع، إذا سمع وصف الشجاعة اشتاق إليها.
وهذا بيت كثير نقله من النسيب إلى الشجاعة، وهو:
فلا تذكراه الحاجبية يشتق
وهذه السرقة قبيحة، لأنه أخذ المعنى واللفظ والوزن والقافية.
ضروبٌ بأطراف السّيوف بنانه ... لعوبٌ بأطراف الكلام المشقّق
روى بصير ولعوب والمشقق: الكلام الذي له خط في كل شق. ويقال: فلان يشقق في كلامه. إذا تصرف في معانيه. وقيل: هو المشق من المشة، أي يشق على غير الفصيح التكلم به. يصفه بالشجاعة والفصاحة.
كسائله من يسأل الغيث قطرةً ... كعاذله من قال للفلك: ارفق
يقول: هو يجود بالطبع، فمن يسأله كمن يسأل الغيث قطرة.
وقيل: معناه كما أن القطرة لا تؤثر في الغيث، كذلك سائله لا يؤثر في جوده وماله، وكذلك من يعذله على كرمه، لكونه مطبوعاً عليه، كمن يعذل الفلك على دوره. وقال له: ارفق في الحركة.
وقيل: إن من يسأل الغيث قطرة، فقد تكلف ما قد استغنى عنه، وأتى غيثاً، إذ قطراته مبذولة، فكذلك سائل سيف الدولة يتكلف ما لا يحتاج إليه، لأنه يعطى قبل السؤال، فنائله مبذول كقطر الغيث.
لقد جدت حتّى جدت في كلّ ملّةٍ ... وحتى أتاك الحمد من كلّ منطق
أي: من كل ذي منطق.
يقول: عممت بجودك أهل الإسلام، وأهل الشرك، فحصل لك الشكر من كل ذي منطق.
جعل إجابته إلى الصلح، فضلاً منه على الروم.
رأى ملك الرّوم ارتياحك للنّدى ... فقام مقام المجتدي المتملّق
الارتياح: الاهتزاز للعطية، والمجتدي: طالب المعروف. والمتملق: المتلطف في الكلام.
يقول: علم ملك الروم جودك، فبعث إليك رسوله، واستوهب منك أسراء الروم، فقام لك مقام السائل المتلطف في سؤاله، لعلمه أنك لا تخيب سائلك.
وخلّى الرّماح السّمهريّة صاغراً ... لأدرب منه بالطّعان وأحذق
صاغراً نصب على الحال. والدربة في معنى العادة والتجربة. والحذق: إحكام الصنعة.
يقول: إن ملك الروم ترك الرماح على رغم منه، وذل لمن هو أعود للطعان وأحذق به. وأراد به سيف الدولة، يعني أنه ترك قتالك وعدل إلى استعطافك.
وكاتب من أرضٍ بعيدٍ مرامها ... قريبٍ على خيلٍ حواليك سبّق
يقول: كاتبك في الصلح من أرض بعيدة المرام، ولكنها مع بعدها قريبة عليك، وعلى خيلك السوابق التي هي حواليك.
وقد سار في مسراك منها رسوله ... فما سار إلاّ فوق هامٍ مفلّق
المسرى: اسم المكان السري، والهاء في منها للأرض.
يعني: أن رسول ملك الروم سار في الطريق التي سرت فيها إلى بلاد الروم، فلم يسر إلا فوق هام مشققة بسيوفك.
فلمّا دنى أخفى عيه مكانه ... شعاع الحديد البارق المتألّق
البارق المتألق: هو اللامع، وإنما أتبع أحدهما الآخر، لاختلاف اللفظين. والهاء في مكانه للرسول.

يقول: وصل الرسول إليك، فأخفى عليه مكانه، بريق السيوف ولمعان الأسنة، فلم يمكنه أن يبصر موضعه.
وأقبل يمشي في البساط فما درى ... إلى البحر يمشي أم إلى البدر يرتقي ؟!
يقول: لم يدر أيمشي إلى بحر أو إلى بدر، لأنك تشبه البحر في السخا، وتشبه البدر في النور والبهاء.
ولم يثنك الأعداء عن مهاجتهم ... بمثل خضوعٍ في كلامٍ منمّق
المنمق: المحسن.
يقول: لا يقدر أعداؤك أن يردوك عن مهجاتهم، أي أنفسهم، إلا بالخضوع، والتملق بالثناء والتعظيم.
وكنت إذا كاتبته قبل هذه ... كتبت إليه في قذال الدّمستق
القذال: مؤخر الرأس: والضمير في كاتبته وإليه لملك الروم.
يقول: كنت متى أردت أن تكتب إلى ملك الروم كتبت إليه في قفا الدمستق، وذلك كناية عن هزيمته، والجراحة تقوم لك مقام الكتابة.
فإن تعطه بعض الأمان فسائلٌ ... وإن تعطه حدّ الحسام فأخلق
يقول: إن أعطيته بعض المراد فأمنته، فهو سائل، ومن عادتك ألا تخيب سائلك، وإن أعطيته السيوف، فهو أجدر بذلك.
وهل ترك البيض الصّوارم منهم ... حبيساً لفادٍ، أو رقيقاً لمعتق
يقول: إن سيوفك لم تترك منهم أسيراً محبوساً من الأسرى، يفدونه بما يحمل إليك، ولا رقيقاً يسألونك أن تعتقه.
وقيل: معناه لم تترك سيوفك عبداً عندهم يعتقه معتق.
لقد وردوا ورد القطا شفراتها ... ومرّوا عليها زردقاً بعد زردق
الهاء في شفراتها للبيض الصوارم. وهي منصوبة بوردوا أي وردوا شفرات الصوارم، كما ترد القطا المناهل. والزردق فارسي معرب.
يقول: وقعوا على شفرات سيوفك كما تقع القطا على الماء، ووفدوا عليها صفا بعد صف.
يعني أنك تقتلهم فوجاً بعد فوج.
بلغت بسيف الدّولة النّور رتبةً ... أنرت بها ما بين غربٍ ومشرق
روى: اليوم بدل النور.
يقول: نلت عنده منزلة ألقت علي ضياء نوره حتى أنرت بها الدنيا. وأراد به اشتهار ذكره في العالم.
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمقٍ ... أراه غباري، ثمّ قال له: الحق
كان سيف الدولة يغرى به الشعراء، ويبعثهم على مباراته، لأنه كان يغتاظ من عجبه بنفسه.
فيقول: إن سيف الدولة لا يخفى عليه فضلي على من حوله من الشعراء، ولكنه إذا شاء أن يتلهى بشاعر أراه من فضلي أدنى شيء، ثم قال: الحق به، وهات مثله، وإنما وصفه بالحمق، لأن من طمع في إدراك غايته، فهو عنده أحمق ! فلا جرم يريد سيف الدولة أن يسخر من قلة عقله. وقوله: أراه غبارى: كناية عن اليسير من فضله.
وما كمد الحسّاد شيئاً قصدته ... ولكنّه من يزحم البحر يغرق
الكمد: الحزن.
يقول: ليس لمن يحسدني أن يلومني، لأني لم أقصد أن أغم الحساد، ولكني بحر في الفضل، فمن زاحمني من الجهال غرق في فضلي، كما أن من تعرض للبحر وطرح نفسه فيه غرق، فاللوم عليه لا على البحر.
ويمتحن النّاس الأمير برأيه ... ويغضى على علمٍ بكلّ ممخرق
الممخرق: الكذاب والمدلس وهي اللغة الجيدة، والباء فيه، متعلق بقوله: على علم.
يقول: هو يمتحن الناس، ويجرب أحوالهم، ثم يغضى ويتغافل، مع علمه بالفاضل منهم، والمدلس الممخرق، ويتجاوز عن الجهال بحلمه.
وإطراق طرف العين ليس بنافعٍ ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق
يقول: متى علم صاحبك بتمويهك، لم ينفعك إعراضه وإطراق طرفه. فعبر عن معرفته بترك إطراق طرف قلبه.
فيا أيّها المطلوب جاوره تمتنع ... ويا أيّها المحروم يمّمه نرزق
يقول: يا أيها الخائف، جاور سيف الدولة تمتنع على من يظلمك، ويا أيها الفقير اقصده تصل إلى الغنى.
ويا أجبن الفرسان صاحبه تجترئ ... ويا أشجع الشّجعان فارقه تفرق
يقول: يا أيها الجبان، صاحبه تصر شجاعاً، اقتداء به ويا أيها الشجاع، فارقه تصر جباناً، لأن الشجاعة به.
إذا سعت الأعداء في كيد مجده ... سعى مجده في جده سعى محنق
المحنق: المغضب. والجد: البخت والإقبال.
يقول: متى قصد أعداؤه إلى هدم مجده غضب لذلك إقباله وجده، ورد كيد العدو إليه.
وما ينصر الفضل المبين على العدا ... إذا لم يكن فضل السّعيد الموفّق
يقول: الفضل الظاهر لا ينصر صاحبه على أعدائه، حتى يوافقه على ذلك سعادة جده وتوفيق ربه.

ودخل على سيف الدولة ليلاً وقد رفع سلاح كان بين يديه، وهو في ذكره ووصفه، فقال ارتجالاً:
وصفت لنا ولم نره سلاحاً ... كأنّك واصفٌ وقت النّزال
نصب سلاحاً بوصفت وتقديره: وصفت لنا سلاحاً ولم نره.
يقول: وصفت لنا هذا السلاح، حتى كأنك صورت لنا وقع الحرب، فكأنك واصف وقت النزال، فشوقتنا إلى القتال، بوصفك للسلاح.
وأنّ البيض صفّ على دروعٍ ... فشوّق من رآه إلى القتال
البيض: المغافر، والفعل في شوق للبيض، ورده إلى اللفظ، وكذلك جميع التذكير راجع إليه.
يعني أنك ذكرت أن كل درع جعل عليها بيضتها، وكل من في نفسه شجاعة، إذا رأى آلة القتال اشتاق إلى الطعان.
فلو أطفأت نارك تالديه ... قرأت الخطّ في سود اللّيالي
تا بمعنى: هذه، وهي إشارة إلى السراج يقول: لو أطفات سراجك، لأمكنك أن تقرأ الخط في الليل المظلم، لبريق السلاح ولمعه.
ولو لحظ الدمستق حافتيه ... لقلّب رأيه حالا لحال
حافتيه: أي جانبيه، والهاء في رأيه للدمستق. أي لقلب رأيه في محاربتك، إلى الانقياد لك، والفرار منك.
إن استحسنت وهو على بساطٍ ... فأحسن ما يكون على الرّجال
أراد: إن استحسنته، فحذف الهاء.
يقول: إن استحسنت هذا السلاح، وهو على بساطك، فأحسن ما يكون، إذا كان على الرجال، يوم القتال.
وإنّ بها وإنّ به لنقصاً ... وأنت لها، النّهاية في الكمال
إن الثانية زائدة أي: وإن به وبها لنقصاً، وقيل: اسم إن الأولى محذوف. أي: إن بها لنقصا، وإن به لنقصا. فاسم الثانية دل على المحذوف. وبه: أي بالسلاح وبها: أي بالرجال. وقيل: به: للبيض، وبها: للدروع.
يقول: إن جمال السلاح، وكمال الدروع والرجال بك، فما لم تكن لابسها، أو لم تكن فيها بين الرجال، لم يكن لهم غناء، فأنت غاية الكمال ونهاية الجمال.
وقال وقد عرضت على سيف الدولة سيوف، فوجد فيها سيفاً غير مذهب فأمر بإذهابه فقال ارتجالا:
أحسن ما يخضب الحديد به ... وخاضبيه النّجيع والغضب
أحسن: مبتدأ. وما بمعنى: الذي، وهو في موضع الجر بإضافة أحسن إليه. والنجيع: خبر الابتداء، والغضب: عطف عليه. وخاضبية: جر عطفاً على ما أي وأحسن خاضبيه. والهاء في به لما وفي خاضبيه للحديد.
يقول: أحسن شيء يخضب الحديد به: الدم: وأحسن خاضبيه: الغضب. وقيل: أراد به صاحب الغضب. والنجيع: الدم الطري.
وقيل: خاضبيه: جر على القسم، ومعناه: أحسن ما يخضب به الحديد، النجيع والغضب. وجعل الغضب خضابا له توسعا، إذا كان سبباً لخضابه. وروى مكان الغضب القضب وهو جمع قضيب، وهو السيف: أي أحسن الخاصبين السيوف التي تخضب الأشياء بالدم.
فلا تشيننه بالنّضار فما ... يجتمع الماء فيه والذّهب
يقول: رونق هذا الحديد وماؤه، أحسن فيه من ماء الذهب، فإذا أذهبته ذهبت بمائه ورونقه وصار ما قصدت من زينة شيناً له.
وأنفذ إلى سيف الدولة أحد أهل بغداد أبياتاً، يذكر أنه رآها في النوم، يشكو إليه الفقر فقال أبو الطيب:
قد سمعنا ما قلت في الأحلام ... وأنلناك بدرةً في المنام
البدرة: عشرة آلاف درهم. وسميت بدرة؛ لأنها تمام العدد. والبدرة أيضاً: جلد السخلة، إذا رعت وفطمت. ويجوز أن تكون البدرة من هذه؛ لأن العادة جرت أن تجعل الدراهم في جلد السخلة.
يقول: سمعنا أيها المتعرض لنائلنا، ما قلت من الشعر في الأحلام، فأعطيناك - على وجه المقابلة والمكافأة - بدرة في المنام.
وانتبهنا كما انتبهت بلا شي ... ءٍ فكان النّوال قدر الكلام
يقول: مدحتنا في النوم، فأجزناك في النوم، فكان العطاء على قدر المدح، فلما لم يكن لنوالنا حقيقة، كذلك لم يكن لمديحك إيانا.
كنت فيما كتبته نائم العي ... ن فهل كنت نائم الأقلام ؟
يقول: إن كنت حين قلت هذا الشعر نائم العين، فإنك حين كتبته كنت مستيقظاً، يجب عليك حفظ الأدب والتحرز من الكلام الركيك، ويمكن أن يكون قرنت إلى الأبيات رسالة أخرى في معنى الاعتذار.
فيقول: إن كنت في الأبيات نائماً، فلم تكن في الرسالة نائماً.
أيّها المشتكي إذا رقد، الإع ... دام، لا رقدةٌ مع الإعدام

يقول: زعمت أنك رأيتها في النوم، وشكوت فيها عدمك، فإن كنت معدماً على الحال التي وصفتها، فكيف يأخذك النوم ؟!
افتح الجفن واترك القول في النّو ... م وميّز خطاب سيف الأنام
يقول: دع عنك الخطاب في النوم، وافتح الجفن، وميز خطاب سيف الدولة، وهو سيف الخلق كلهم، والذاب عنهم، ولم يمكنه أن يقول: سيف الدولة، لأجل القافية فرده إلى الأنام وروى: سيف الإمام أي الخليفة.
الّذي ليس عنه مغنٍ ولا من ... ه بديلٌ، ولا لما رام حام
يقول: سيف الدولة، هو الذي لا أحد من الناس يقوم مقامه في الكرم والخصال الحميدة.
وقيل: معناه كل الناس يقتدون به؛ ولا يغنيهم عنه ملك غيره، ولا يجدون له بدلاً يسد مسده، وإن رام أمراً لم يمنعه منه مانع.
كل آخائه كرام بنى الدّن ... يا ولكنّه كريم الكرام
الآخاء: جمع أخ، وقد ذكره سيبويه في كتابه. وروى: كل آبائه. يقول: جميع إخوته أكرم الناس، ولكنه أكرم من إخوته، فهو أكرم الكرام.
وقال وقد أمره سيف الدولة بإجازة الأبيات التي لأبي ذر: سهل بن محمد الكاتب أولها:
بالائمى كفّ الملام عن الذي ... أضناه طول سقامه وشقائه
على هذا الوزن، والروى فقال:
عذل العواذل حول قلبي التّائه ... وهوى الأحبّة منه في سودائه
التائه: المتحير، وقيل: هو المتكبر، وها هنا: الذي لا ينقاد للعاذل. وسوداء القلب، وسويداؤه: الحبة السوداء فيه، وقيل الدم الذي في جوفه.
يقول: هوى أحبتي قد حل وسط فؤادي، وعذل العواذل يحول حوله، وليس يدخله البتة، فلا يبالي القلب به، فكيف يقدر العذول أن يصرفني عنه ؟!
يشكو الملام إلى اللّوائم حرّه ... ويصدّ حين يلمن عن برحائه
الهاء في حره للقلب، وكذلك في برحائه والبرحاء: الشدة.
يقول: إن اللوم إ ذا دنا من قلبي أحرقه بحره، فأعرض عنه وعاد إلى اللوائم، يشكو إليهن ما لقي من شدة حرارته، فكأن حر قلبي يصرف اللوم عني، والضمير في يلمن للعواذل.
وبمهجتي يا عاذلي الملك الّذي ... أسخطت أعذل منك في إرضائه
يقول لعاذله: تعذلني على حبه والانقطاع إليه ؟! وقد لامني من هو أشد منك عذلا، فلم أقبل منه، بل أسخطته واتبعت رضاء سيف الدولة، ولم ألتفت إلى غيره من الملوك، والهاء في إرضائه للملك.
إن كان قد ملك القلوب فإنّه ... ملك الزّمان بأرضه وسمائه
يقول: إن كان سيف الدولة قد ملك القلوب. بموداتها وثبات حبه فيها، حتى لا تميل إلى غيره، فليس بعجاب؛ فإنه ملك الزمان وجميع ما فيه، فالقلوب بعض ما في الزمان ومن جملة ما ملكه.
وقيل: اسم كان محذوف مضمر: أي إن كان الحبيب الذي يعشق قد ملك قلوب عاشقيه، فإن هذا الحبيب ليس كسائر الأحبة، لأنه إنما يحب لجلالة قدره، وسمو أمره، وإنه إن كان الحبيب المعشوق قد ملك القلوب، فإن هذا الملك قد ملك الزمان بما فيه، فضلا عن القلوب.
الشّمس من حسّاده والنّصر من ... قرنائه، والسّيف من أسمائه
أي: الشمس تحسده على إشراق غرته، وعلو منزلته، والنصر قرينه حيثما توجه نصر على أعدائه، والسيف بعض أسمائه، أي هو مسمى بسيف الدولة.
أين الثّلاثة من ثلاث خلاله ... من حسنه وإبائه ومضائه ؟!
الخلال: الخصال.
يقول: أين حسن الشمس من حسن وجهه ؟ بل حسنها يعجز عن حسنه ! وأين النصر من عزة نفسه وإبائه ؟ أي أن النصر يعجز عن نصرة من يريد خذلانه، وأين السيف من مضائه ؟ أي هو أمضى وأكثر غناءً منه !
مضت الدّهور وما أتين بمثله ... ولقد أتى فعجزن عن نظرائه
أتى: أي سيف الدولة.
يقول: مضت الدهور قبله، ولم يكن فيها أحد مثله في فضائله ! وأتى هو الآن فعجزت الدهور عن الاتيان بأمثاله في زمانه أيضا، فليس له نظير فيما مضى من الزمان ولا في زمانه.
فاستزاده سيف الدولة فقال يمدحه
القلب أعلم يا عذول بدائه ... وأحقّ منك بجفنه وبمائه
الضمائر في قوله: بدائه، وبجفنه، وبمائه، راجعة إلى القلب، وقيل: إنه في قوله بمائه راجع إلى الجفن فقط.
يخاطب عاذله فيقول: القلب أعلم بما يلاقيه من ألم الشوق، والقلب أيضا أولى منك بجفنه ودموعه؛ لأنه المالك للعيون فيصرفها كيف شاء، ويجريها على من يحب، فمالك أيها العاذل والاعتراض عليه ؟!

فو من أحبّ لأعصينّك في الهوى ... قسماً به وبحسنه، وبهائه
الفاء في قوله: فو من للعطف. والواو حرف القسم، والمقسم به المحبوب، والجواب لأعصينك، والكاف، خطاب للعاذل، وقسماً: نصب على المصدر.
يقول: وحق من أحب، وحق حسنه، لا أطيعك فيما تأمرني، ولا أصغي إلى ملامك فيه.
أأحبّه وأحبّ فيه ملامةً؟ ... إنّ الملامة فيه من أعدائه
يقول: لا أحب الملامة في جيي، ولا أصغي إليها، فكأنه ناقض أبا الشيص في قوله.
أجد الملامة في هواك لذيذةً ... حبّاً لذكرك، فليلمني اللّوّم
عجب الوشاة من اللّحاة وقولهم: ... دع ما نراك ضعفت عن إخفائه
الوشاة: جمع الواشي. واللحاة: جمع: اللاحي، وهو الذي يزجر ويغلظ القول في الملامة. وما في قوله: ما نراك بمعنى الذي، وهو في موضع نصب بدع ونراك صلة ما وضعفت في موضع المفعول الثاني، والأول هو الكاف.
يقول: إن اللحاة قالوا لي: دع الذي نراك ضعيفاً عن إخفائه. أي دع هذا الهوى، فعجب الوشاة من تكليف اللحاة إياي ما لا أطيق، فإني إذا ضعفت عن إخفائه، كنت على تركه والإفاقة من سكره أضعف.
ما الخلّ إلاّ من أودّ بقلبه ... وأرى بطرفٍ لا يرى بسوائه
يقول: ليس في هؤلاء اللحاة صديق شفيق، ولا خليل نصيح، فأصغ إلى ملامه، فإن الصديق من يساعد صديقه، فيحب ما يحبه، ويكره ما يكرهه، حتى كأنهما يحبان بقلب واحد، وينظران بعين واحدة.
فكأنه يقول: ليس صديقي إلا من يوافقني، فإذا أحببت شيئاً فكأني أحبه بقلبه ! وإذا رأيت شيئاً فكأني رأيته بعينه ! وهذا البيت يوافق بعض الأبيات التي أجازها وهي.
إن كنت ناصحه فداو سقامه ... وأعنه ملتمساً لأمر شفائه
حتّى يقال بأنّك الخلّ الّذي ... يرجى لشدّة دهره ورخائه
ومثله:
إن كنت تصدق في ادّعاء وداده ... فافككه من أسر الهوى أو فاده
ومعنى البيت: أنه ليس لك خليل إلا نفسك، فلا تغتر بقول من يقول: إني خليلك. وأراد بقوله: من أود بقلبه: نفسه؛ لأن المرء إنما يود الشيء بقلب نفسه، وكذلك قوله: وأرى بطرف لا يرى بسوائه أراد طرف نفسه، وهو مثل قوله:
خليلك أنت لا من قلت خلّى ... وإن كثر التّجمل والكلام
إن المعين على الصّبابة والأسى ... أولى برحمه ربّها وإخائه
الضمير في ربها يعود إلى الصبابة. وفي إخائه إلى ربها. والأسى: الحزن والمعين على الصبابة: هو الزائد في الصبابة.
يقول: إن الذي يعين على صبابتي ويزيد بلومه في حزني، كان الأولى أن يرحمني ويلتمس شفائي.
وقيل: على بمعنى مع أي مع الصبابة وهذا مثل قول من أجاز أبياته:
أولا فدعه، فما به يكفيه من ... طول الملام فلست من نصحائه
وروى: بالأسى والمراد بها الصبر، فمعناه إن الذي يعيني في اعتقاده على صبابتي، ويريد إزالة بلائها عني، بأن يصبرني، ليس ما يفعله بإعانة في الحقيقة، وكان الأولى في باب الشفقة أن يرحمني ويساعدني على ما أنا فيه من البلوى.
والأول أولى وهو أن المراد بالمعين العاذل الذي يزيد في حزنه بالعذل.
مهلاً فإنّ العذل من أسقامه ... وترفّقاً فالسّمع من أعضائه
مهلاً وترفقاً نصب بفعل مضمر: أي أمهل مهلاً، وترفق ترفقاً. والضمير في أسقامه وأعضائه يعود إلى ربها في قوله: برحمة ربها.
يقول لعاذله: ارفق بصاحب هذه الصبابة، فإنه سقيم وعذلك يزيد في سقمه، وما زاد في السقم فهو سقم، وارفق أيضا بسمعه فإنه من جملة أعضائه، كما أن سائر الأعضاء سقمت، كذلك السمع، وسقمه: هو الصمم وقيل معناه: إن السمع إذا سمع العذل يفنى كما فنيت سائر الأعضاء، فيؤدي إلى فوات غرض العاذل، إذ لا يبقى سمع يعي العذل.
وهب الملامة في اللّذاذة كالكرى ... مطرودةً بسهاده وبكائه
هب: أي اجعل. يقال: وهبني الله فداك. واللذاذة: متعلقة بالملامة: أي لذة الملامة. معناه: دع عنك ملامتك إياي، وإن كان لك فيها لذة، لما تراه من بكائي وسهادي، واعمل على أن بكائي صرف عنك لذتك في الملامة، كما صرف عني الملام، فكما أني فقدت لذة الكرى، كذلك أنت لا بأس عليك أن تفقد لذتك في ملامتي.

وقيل: إن اللذاذة هي لذة الهوى، ومعناه: اجعل ملامتك إياي في لذتي مطرودة عني، كالنوم المطرود بالسهاد والبكاء ومعناه: اصرف ملامتك عني من جميع الوجوه. والهاء في قوله بسهاده وبكائه راجع إلى قوله ربها.
لا تعذر المشتاق في أشواقه ... حتّى يكون حشاك في أحشائه
يقول: أيها اللائم أنت لا تقبل عذر العاشق ! حتى تبتلي بمثل ما ابتلي به من الصبابة والاشتياق، فيكون في قلبك من لوعة الشوق مثل ما في قلب المشتاق.
ومثله للبحتري:
إذا شئت ألاّ تعذل الدّهر عاشقاً ... على كمدٍ من لوعة البين فاعشق
ومثله لآخر:
وإنّما يعرف العشّاق من عشقا
إن القتيل مضرّجاً بدموعه ... مثل القتيل مضرّجاً بدمائه
مضرج: أي مخضب. وقد نصب على الحال في الموضعين.
يقول: إذا دام عذلك علي هلكت أنا، فتكون أنت قد قتلتني ! فإنه إذا جرت دموعي حتى أموت، كنت مثل القتيل الذي يسيل دمه، فالمقتول بالعذل هو كالمقتول بالسيف، فهذا يسيل دموعه، وذاك يسيل دمه.
والعشق كالمعشوق يعذب قربه ... للمبتلي وينال من حوبائه
الحوباء: النفس.
يقول: العشق محبوب للعاشق، كما أن المعشوق محبوب إليه، فيتلذذ العاشق بقرب المعشوق وإن كان يذيب جسمه ويؤلم قلبه.
لو قلت للدّنف الحزين: فديته ... ممّا به لأغرته بفدائه
الدنف: الذي أدنفه الحب، وأغرته: أي حملته على الغيرة.
يقول: إن العاشق يشتهي العشق، ويلتذ بغرامه وطول سقامه، حتى لو قلت له: قد جعلني الله فداك مما بك، وأنزل بي سقمك لحملته على الغيرة.
وقيل. معناه لو قلت له: دعني حتى أتحمل عنك مؤن العشق وتكاليفه، لغار عليك. فالأول على الدعاء والثاني على الأمر. وقوله: بفدائه: أي بفدائك إياه، وأضاف المصدر إلى المفعول، وحذف الفاعل.
وقى الأمير هوى العيون، فإنّه ... ما لا يزول ببأسه وسخائه
هوى: في موضع النصب، على أنه خبر ما لم يسم فاعله، واسمه الأمير يخاطب سيف الدولة.
يقول: وقاك الله هوى العيون، فإنه أمر لا يمكنك إزالته عن نفسك، بسخائك وشجاعتك. وقوله: هوى العيون: مصدر مضاف إلى المفعول: أي وقى الأمير هواه للعيون.
يستأسر البطل الكميّ بنظرةٍ ... ويحول بين فؤاده وعزائه
يستأسر: أي يأسر، وهو في الأصل بمعنى الاستسلام للأسر، وروى: يستأصل.
يقول: إن الرجل الشجاع لا يقدر على دفع الهوى عن نفسه، بل يأسره هذا الهوى بنظرة واحدة من نظرات العين ! ويحول بين قلبه وصبره، فوقى الله تعالى الأمير ذلك.
إنّي دعوتك للنّوائب دعوةً ... لم يدع سامعها إلى أكفانه
الضمير في سامعها للدعوة، وفي أكفائه لسامعها. وأراد بالسامع سيف الدولة.
يقول: إني دعوتك لتنصرني على نوائب الدهر، كل نائبة - وإن خلت - تقصر عن أن تدعى لها، لأنا لا نجد ما يكون كفواً لك منها، فندعوك إليه، لكن لما لم أجد أحداً أستعين به عليها غيرك، دعوتك لها لتزيلها عني، وإن لم تكن النوائب من أكفائك.
فأتيت من فوق الزّمان وتحته ... متصلصلاً وأمامه وورائه
متصلصلاً: أي له صلصلة، وهي صوت الحديد عند السرعة.
يقول: لما دعوتك للنوائب أجبتني في أسرع وقت، وأحطت بالزمان من جميع جهاته، وكأنك أتيت ولأسلحتك صلصلة لسرعتك.
وقيل: معناه: أنك لما كنت سيفاً دعوتك للنوائب لتقطعها عني، فأتيت مسرعاً في الإجابة، ولك صلصلة، وهي صوت السيف والحديد.
من للسّيوف بأن تكون سميّها ... في أصله، وفرنده، ووفائه
التاء في تكون قيل: ضمير للسيوف، وقيل: خطاب لسيف الدولة وكذلك إذا روى: بالياء.
يقول: من للسيوف بأن تكون هي مثل سميها الذي هو سيف الدولة، أو أن تكون أنت سمي السيوف، بل له عليها مزية، في أصله وجوهره ووفائه.
طبع الحديد فكان من أجناسه ... وعليٌّ المطبوع من آبائه
يقول: إن كل واحد من سيف الدولة وسيف الحديد، رجع إلى أصله وجنسه، وإن اتفق الاشتراك في الاسم، فالسيوف ترجع إلى جنسها الذي طبعت منه وهو الحديد، فليس لها فعل سوى القطع وسيف الدولة يرجع إلى آبائه في الخصال الحميدة، من الوفاء والسخاء، ويشاركها في القطع والمضاء. ومراده تفضيله على السيف الحقيقي.

والأبيات التي أجازها أبو الطيب لأبي ذر: سهل بن محمد البصري الكاتب مؤدب سيف الدولة. وهي:
يا لائمي كفّ الملام عن الذي ... أضناه طول سقامه وشقائه
إن كنت ناصحه فداو سقامه ... وأعنه ملتمساً لأمر شفائه
حتّى يقال بأنّك الخلّ الّذي ... يرجى لشدّة دهره ورخائه
أولا فدعه فما به يكفيه من ... طول الملام فلست من نصحائه
نفسي الفداء لمن عصيت عواذلاً ... في حبّه لم أخش من رقبائه
فالشّمس تطلع من أسرّة وجهه ... والبدر يطلع من خلال قبائه
وجاء رسول سيف الدولة مستعجلا، ومعه رقعة فيها بيتان للعباس بن الأحنف في كتمان السر، يسأله إجازتهما وهما:
امتّي تخاف انتشار الحديث ... وحظّي في ستره أوفر
فإن لم أصنع لبقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر
فقال أبو الطيب:
رضاك رضاي الّذي أوثر ... وسرّك سرّى فما أظهر
يقول: الذي ترضى به فهو رضائي الذي أوثره، وسرك مثل سري أكتمه كما أكتم سري، ولا أظهره لأحد.
كفتك المروءة ما تتّقى ... وآمنك الودّ ما تحذر
الكاف في كفتك المفعول الأول لكفي. وما يتقى: المفعول الثاني، وكذلك الكاف في آمنك، وما تحذر.
يقول: إن مودتي لك ومروءتي آمناك ما تخاف من إفشاء السر، فلا تحذر على سرك من جانبي.
وسرّكم في الحشا ميّتٌ ... إذا أنشر السّرّ لا ينشر
يقال: أنشر الله الموتى فنشروا. وروى: إذا نشر من النشر الذي هو ضد الطي، وهو أيضاً في معنى أنشر الله الميت.
يقول: سرك في قلبي كالميت في قبره، وإذا أحيي الموتى يوم القيامة لا يحيي هذا الميت.
يعني: إني لا أظهره إذا أظهر غيري سره.
كأنّي عصت مقلتي فيكم ... وكاتمت القلب ما تبصر
يقول: إن عيني إذا شاهدت شيئاً من أحوالكم لم ترو إلى القلب ما رأته، فكأنها تكاتم القلب ما تبصره.
يعني: أن سركم يصير في قلبي منسياً.
وإفشاء ما أنا مستودعٌ ... من الغدر والحرّ لا يغدر
يقول: السر أمانة وعهد، وإظهاره خيانة، والحر لا يغدر بعهده، فلو أبديت سرك صرت غادراً ولم أكن حراً.
إذا ما قدرت على نطقةٍ ... فإنّي على تركها أقدر
النطقة: المرة الواحدة من النطق. وهي بمنزلة الكلمة، واللفظة يقول: إذا قدرت على أن أنطق بالسر، كنت على السكوت عنه أقدر؛ لأنه أهون من النطق وأيسر.
أصرّف نفسي كما أشتهي ... وأملكها والنقا أحمر
يقول: أنا أملك نفسي، أصرفها كما أريد، وأقهرها على هواها، وأملكها في حال شدة القتال، فمتى أرادت الإحجام قهرتها على الإقدام، فلذلك إذا دعتني نفسي إلى أن أبدي السر قهرتها على كتمانه.
دواليك يا سيفها دولةً ... وأمرك يا خير من يأمر
الدوال كالدولة. ودواليك: نصب على المصدر، وثنى على التكرير: أي أدالك الله دولةً بعد دولة. والهاء في سيفها للدولة. ودولة: تفسير للدولة المضمرة، وهي نصب على التمييز، وقيل: على المصدر، وأمرك: أيضاً نصب بفعل مضمر أي مر أمرك.
يقول: أدام الله دولتك. مرني بأمرك، وخصني بأوامرك ونواهيك، حتى أتشرف به.
أتاني رسولك مستعجلاً ... فلبّاه شعري الّذي أذخر
أراد أذخره، فحذف الضمير.
يقول: جاءني رسولك مستعجلا، يأمرني بإجازة البيتين، فلبيته بشعري الذي أدخره وأعده.
ولو كان يوم وغىً قاتماً ... للبّاه سيفي والأشقر
قاتماً: نصب صفة ليوم. والقاتم: المظلم من شدة الغبار، وروى: أيضا قائماً من قولهم: قامت الحرب. ويوم: نصب لأنه خبر كان، واسمه مضمر: أي لو كان أمرك أو إتيان رسولك إلي يوم وغى.
يقول: لو كان دعاؤك إياي إلى يوم حرب لأجبتك بسيفي وفرسي.
فلا غفل الدّهر عن أهله ... فإنّك عينٌ بها ينظر
فاعل ينظر: ضمير الدهر.
يقول: إنك عين الدهر الذي ينظر بها إلى أهله، فمن أكرمه كان كريماً، ومن أهانه كان مهانا، فكأنه قال: لا زلت أبداً تراعي أهل زمانك إذ الدهر غافل لولا أنك فيه. والغرض: الدعاء بالبقاء ودوام السلامة.

وقد كان سيف الدولة استبطأ مدحه، وعاتبه مدةً، ثم لقيه في الميدان، فأنكر أبو الطيب تقصيره فيما كان عوده من الإقبال إليه والتسلم عليه، فعاد إلى منزله وكتب بهذه الأبيات إليه لوقته: يعتذر عن إبطاء مدحه ويعاتبه ويشيد بمدائحه فيه.
أرى ذلك القرب صار ازورارا ... وصار طويل السّلام اختصارا
الازورار: الإعراض.
يقول: قربي منك صار بعداً وإعراضاً، وطول سلامي صار اختصارا وتقصيرا.
تركتني اليوم في خجلةٍ ... أموت مراراً، وأحيا مراراً
يقول: لما عرضت عني فيما بين الناس تركتني خجلا أموت جزعاً؛ لإعراضك عني، وأحيا طوراً رجاء كرمك وعفوك.
أسارقك اللّحظ مستحيياً ... وأزجر في الخيل مهري سرارا
يقول: كنت أنظر إليك سرقة وخجلا وحياءً، وإذا زجرت مهري أخفيت صوتي لئلا تسمع صوتي حياءً منك وإخفاء لشخصي، أو كنت أسر زجره مخافةً أن يرى حالي من يحبني من الفرسان، فيعرف سقوط منزلتي عندك، استدلالاً بما بي من الاغتمام، أو كنت أخفي صوتي لما لحقني من الغم، إذ المغموم لا يكاد يرتفع صوته.
وأعلم أنّي إذا ما اعتذرت ... إليك أراد اعتذاري اعتذارا
يقول: لو أردت أن أعتذر إليك، كان عندي أيضا ذنباً ثانياً يجب الاعتذار منه إذ الاعتذار من غير ذنب كذب، والكذب مما يعتذر منه والغرض ادعا براءة الساحة.
وقيل: معناه إني إذا اعتذرت إليك، مع علمي بسعة عفوك الذي لا يحتاج معه إلى الاعتذار، كنت قد أذنبت في اعتذاري ذنباً آخر، لأن ذلك يوهم خلاف ما أنت عليه من عادة الصفح وسعة العفو.
وقيل: معناه إن اعتذاري متى اعتذرت يكون كذبا فيلزمني الاعتذار عنه، لأنك جفوتني، فألجأتني إلى التقصير في خدمتك، فمتى كنت كاذباً في الاعتذار، يلزمني الاعتذار منه أيضا.
كفرت مكارمك الباهرا ... ت إن كان ذلك منّي اختيارا
يقول مقسماً: إن كان تأخير مدحك عن اختيار مني كذلك، فجحدت مكارمك الظاهرات، ولكن كان اعتذاري على ما بينته.
ولكن حمى الشّعر إلاّ القلي ... ل همٌّ حمى النّوم إلا غرارا
الغرار: النوم القليل.
يقول: منعني من قول الشعر هم منع نومي إلا القليل منه.
وما أنا أسقمت جسمي به ... ولا أنا أضرمت في القلب نارا
الهاء في به للهم.
يقول: هذا الهم الذي أسقم جسمي بألمه، لم يكن عن قصد مني، وكذلك إضرام نار الهم في قلبي، لم يكن من فعلي، فإذا لم يكن هذا الهم عن قصدي، فلا ذنب لي فيه، أستوجب به عتبك، ولكن الذنب للزمان.
فلا تلزمنّي ذنوب الزّمان ... إليّ أساء وإيّاي ضارا
ضار يضير، وضره يضره بمعنىً.
يقول: لا تعتب علي في تأخير مدحك، فليس لي فيه ذنب، وإنما الذنب للزمان الذي قصدني بهمومه، وشغل قلبي عن الشعر، فلا تلزمني ذنوبة، واعلم أن الزمان إنما قصدني بالإساءة، وألحق الضر بي دونك، لأن مدحي إياك يزيد في شرفي ومنزلتي عندك، وتأخره جر على عتبك وإعراضك عني، فالضرر في تأخيره راجع إلي، والإساءة واقعة بي لا بك.
وعندي لك الشّرّد السّائرا ... ت لا يختصصن من الأرض دارا
يقول: سأمدحك من بعد، بقصائد سائرات، لا تستقر في مكان، بل تعم الشرق والغرب، والسهل والجبل.
فإنّي إذا سرن من مقولي ... وثبن الجبال وخضن البحارا
المقول: اللسان. يعني إذا قلت قصيدة سارت في البر والبحر. وقوله: وثبن الجبال: عداه بنفسه على معنى: جزن الجبال ومثله لعلي بن الجهم في وصف شعره:
فسار مسير الشّمس في كلّ بلدةٍ ... وهبّ هبوب الرّيح في البرّ والبحر
ولي فيك ما لم يقل قائلٌ ... وما لم يسر قمرٌ حيث سارا
يقول: قد مدحتك قبل هذه بقصائد التي لم يقل أحد مثلها، وقصر القمر عن شأوها، فوصلت إلى الآفاق واشتهرت في العالم.
فلو خلق النّاس من دهرهم ... لكانوا الظّلام وكنت النّهارا
يقول: لو كان الناس خلقوا من الدهر لكانوا الليل، وكنت النهارا: يعني إن لك فضلا عليهم، كفضل النور على الظلام.
أشدّهم في النّدى هزّةً ... وأبعدهم في عدوٍّ مغارا
يقول: أنت أشد الناس اهتزازاً في الجود، وأبعدهم غارة في العدو، وهزة، ومغارا نصب على التمييز.
سما بك همّي فوق الهموم ... فلست أعدّ يساراً يسارا

يقول: ارتفعت همتي على كل همة بسببك، وصغر في عيني المال، فلا أعتد باليسار، ولا أقصر على ما أناله من المال، فإنما أطلب معالي الأمور، وارتفاع المحل والمنزلة.
ومن كنت بحراً له يا عليّ ... لم يقبل الدّرّ إلاّ كبارا
هذا مثل: يعني من كنت مقصوده فلا يرضي بالقليل، ويستصغر الخطب الجليل، وإنما يرضي منك بشرف القدر وجلالة المنزلة.
ورحل سيف الدولة من حلب إلى ديار مضر، لاضطراب البادية بها فنزل حران وأخذ رهائن بني عقيل وقشير والعجلان. وحدث له بها رأي في الغزو، فعبر الفرات إلى دولوك وإلى قنطرة صنجة إلى درب القلة، فشن الغارة على أرض عرقة وملطية وعاد ليعبر من درب موزار فوجد العدو قد ضبطه عليه، فرجع وتبعه العدو، فعطف عليه فقتل كثيراً من الأرمن، ورجع إلى ملطيه، وعبر قباقب وهو نهر حتى ورد المخاض على الفرات: وهو نهر، تحت حصن يعرف بالمنشار، فعبر إلى بطن هنزيط وسمنين ونزل بحصن الران ورحل إلى سميساط فورد عليه بها من أخبره أن عدوه في بلد المسلمين، فأسرع إلى دلوك فعبرها، فأدركه راجعاً على جيحان فهزمه وأسر قسطنطين بن الدمستق، وجرح الدمستق في وجهه. فقال أبو الطيب يصف ما كان في جمادي الآخرة سنة اثنتين وأربعين وثلاث مئة.
لياليّ بعد الظّاعينين شكول ... طوالٌ وليل العاشقين طويل
شكول: جمع شكل في الكثير وهو المثل، واختار الجمع الكثير في الطول لليالي، ليكون أبلغ في الشكوى، وأدل على عظم الشوق والبلوى وليالي: مبتدأ، وشكول: خبره. وطوال: بدل من شكول، فكأنه قال: ليالي طوالٌ، وإن شئت جعلت طوالا تفسيراً لشكول، وأضمرت فيه مبتدأ يرفعه: أي هي طوال وتم المعنى عند قوله طوال. ثم ابتدأ فقال: وليل العاشقين طويل.
المعنى: ليالي بعد الأحباء الظاعنين عني كلها مشاكلة في الطول، لا تختلف كليالي سائر الناس؛ لأنها تقصر مرة وتطول أخرى، ثم قال: إن ليل العشاق كذا يكون، وكل عاشق يطول ليله؛ لسهره فيه، وعظم حزنه شوقاً إلى حبيبه. وقيل: أراد أنها مشاكلة في السهر وبعد النوم وفقد الروح والراحة، شوقاً إلى الظاعنين، فهي طوال، لبعد العهد باللقاء وطول المدة، ولا يسلى عني ما بي من الشوق، فهي مشاكلة يشبه أولها آخرها في الشوق إلى الظاعنين.
يبنّ لي البدر الّذي لا أريده ... ويخفين بدراً ما إليه سبيل
بين: أي يظهرن، والنون فيه، وفي يخفين: لليالي.
يقول: هذه الليالي يظهرن لي بدراً لا أريده، وهو بدر السماء ولا أشتهيه، ولا أختار النظر إليه، ويسترن عني بدراً لا سبيل لي في الوصول إليه، وأراد به حبيبه.
وإنما قال ذلك؛ لأنه يراه بالنهار، والغيبة كانت تحصل بالليل، وإنما لا يريد البدر الحقيقي، لأنه ينم إذا سار إلى حبيبه، فلا يتمكن من الوصول إليه في ضوئه. قال ابن المعتز:
ولاح ضوء هلالٍ كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدّت من الظّفر
وقال بعض الأعراب:
أشكو إليها ثلاثاً لا تلائمني ... منها: العجوز ومنها الكلب والقمر
وما عشت من بعد الأحبّة سلوةً ... ولكنّني للنّائبات حمول
سلوة: نصب على أنه مفعول له، وقيل: على التمييز.
يقول: لا تظن أن بقائي بعد رحيل حبيبي عني هو للسلوة عنه، ولكن هان علي حوادث الدهر وتحمل الشدائد. وقريب منه قول الآخر:
فلو كان قلبي ساعة البين زيرةً ... جرى جزعاً أو صخرةً لتفطّرا
ولكنّه من جوهر لا تحيله ... حوادث صرف الدّهر كيف تنكّرا
ولكن قلبي أشد من الحديد، وأقسى من الصخر؛ فلهذا لم يذب من لوعة الهجر. ومثله لأبي خراش:
فلا تحسبنّي أنّي تناسيت عهده ... ولكنّ صبري يا أميم جميل
؟وإنّ رحيلاً واحداً حال بيننا وفي الموت من بعد الرّحيل رحيل يقول: معتذراً لبقائه بعد فراق الأحبة. إن رحيلهم الواقع، قد حال بيني وبينهم، وبقي رحيل آخر وهو الموت، وسيحصل هذا الرحيل أيضاً أسفاً على فراقهم، فيزيد البعد بيني وبينهم، وتنقطع الأسباب عنا بالكلية.
إذا كان شمّ الرّوح أدنى إليكم ... فلا برحتني روضةٌ وقبول

الروح في اللغة: الريح، وأكثر ما يستعمل في الريح المستلدة، وقد يستعمل في معنى الراحة، وقيل: أراد بشم الروح: الحياة. والقبول: الريح تأتي من جهة القبلة، وخصها لأنها كانت تجيء من ناحية حبيبه. وأدنى: فعل متعد من دنيت.
والمعنى: إذا كانت الحياة وشم الروح يقربني إليكم، فلا فارقتني حياة ولا برحت مكاني روضة وقبول؛ لأنها تكون سبباً إلى انتشاق روائحكم. وهذا توكيد لعذره في الحياة بعدهم؛ لأنه يجد في الحياة أسباباً تقربه منهم: من نسيم محبوبته، وامتزاج أنفاسه بأنفاسها، ووصول القبول من جهته، وغير ذلك.
وقيل: إن أدنى: اسم بمعنى أقرب: يعني أن شم الروح إذا كانت أقرب إليكم، قرب المسافة، وأدنى إلى جهتكم، فلا فارقني الذي هو قريب منكم.
وقيل: أراد بالقرب. قرب المحبة دون المسافة.
ومعناه: إذا كان شم الروح أقرب إلى قلوبكم وأشبه بإيثار محبتكم، فلا فارقتني الروضة والقبول، حتى لا أكون مفارقاً ما تهدون وتؤثرون.
وقيل: معناه إذا لم يكن من فراقكم إلا التعلل بالنسيم، شهة لما كان ينالني من الفرح بقربكم، فلا فارقتني روضة وقبول يهيج ذلك النسيم لي. لأشمه. ومعناه: إني أرضى بقليل الراحة من الشوق، إذا لم أصل إلى الحبيب.
والأولى في برحتني أن يكون فعلاً تاماً، كفارقتني، فيكون روضة رفعاً به ولا يحتاج إلى الخبر، كقوله تعالى: " فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ " وعن ابن جني أنه من باب كان وروضة اسمه وهي نكرة، وخبره: ضمير لشم الروح، ونكر اسمه لأجل القافية ضرورة.
وما شرقي بالماء إلا تذكّراً ... لماءٍ به أهل الحبيب نزول
نصب تذكرا على الحال، أي متذكرا، ويجوز أن يكون مفعولا له.
يقول: إذا أردت شرب الماء تذكرت الماء الذي نزل عليه أهل من أحبه فشرقت بهذا الماء، لما خنقني من العبرة، أو لأجل أني كنت أشتهي أن يكون شربي من الماء الذي نزلوا عليه، لمجاورته إياهم.
وحكى أن الصاحب أنشد هذا البيت فقال: ليس والله هذا هوى وصبابة، ولكنه وفاء ورعاية.
يحرّمه لمع الأسنّة فوقه ... فليس لظمآنٍ إليه وصول
يقول: إن هذا الماء ممنوع الوصول إليه مما فوقه من الرماح، وما حوله من الأبطال، فلا يصل إليه أحد؛ لعزة قومه.
أما في النّجوم السّائرات وغيرها ... لعيني على ضوء الصّباح دليل ؟
يقول مستفهماً، ومستطيلا لليل: أما في نجوم هذا الليل السيارة منها، والثابتة - على ما يقوله المنجمون - نجم يدل على ضوء الصباح، وزوال الظلام ؟ لأن كثيراً من النجوم يختص طلوعها بأواخر الليالي، فيجب أن يعرفه، ليدل على قرب الصباح. وروى: أما في النجوم الساريات وغيرها: معناه ليس في هذه النجوم التي تسري بالليل ولا في غير النجوم: من صوت طائر وغيره، ما يدل على طلوع الفجر وذهاب الليل.
ألم ير هذا اللّيل عينيك رؤيتي ... فتظهر فيه رقّةٌ ونحول ؟
روى: رقة ودقة يقول: ألم ير هذا الليل الطويل عينيك يا حبيبتي مثلما رأيتهما ؟! حتى يذوب ويزول، فيصيرنا حلاً دقيقاً مثلي.
وقيل: معناه يا رؤيتي. يعني. ألم ير الليل عينيك يا رؤيتي ؟! ولم يرد معهما ونحولهما فيرحمني، ويرق لي، ويظهر فيه النحول والقصر رقة علي، فيزول الليل ويقصر.
لقيت بدرب القلّة الفجر لقيةً ... شفت كمدى واللّيل فيه قتيل
تخلص إلى مدح سيف الدولة وقال: لقيت الفجر في هذا الموضع. الذي فيه درب القلة، لقية واحدة، وهذه اللقية شفت حزني وأذهبت كمدى، وصار الليل قتيلاً؛ لانقطاعه وذهابه. وقيل: إنما يجعل الليل قتيلا، لأنه أراد أن الحمرة التي تظهر عند الفجر كانت كالدم على بدن القتيل.
وقيل: لم يرد حقيقة الفجر، وإنما أراد نيراناً أوقدها سيف الدولة بدرب القلة، وكان ضياؤها مختلطاً بالدخان، فشبه اختلاط الضياء بالدخان، بالفجر الذي يختلط فيه الظلام بالضياء. والهاء في فيه تعود إلى الدرب. وقيل: تعود إلى القلة، وذكره على تأويل الموضع والمكان، ودرب القلة: موضع ببلاد الروم.
وعن ابن جني قال: سألته وقت القراءة عليه عن معنى هذا فقال: كنا نساير سيف الدولة فلقينا القلة وقت السحر مع الفجر، فكأني لقيت الفجر بها، ثم سرنا صبيحة ذلك اليوم إلى العصر وشننا الغارات، وغنمنا.
ويوماً كأنّ الحسن فيه، علامةٌ ... بعثت بها والشّمس منك رسول

يوماً: نصب عطفاً على قوله: لقيت بدرب القلة الفجر لقية ويوماً.
وجعل حسن اليوم الذي ظفر فيه الممدوح بالروم، كأنه علامة من محبوبته، وجعل الشمس كأنها رسولها، وذلك لسروره في هذا اليوم، وسروره بطلوع الشمس فيه.
وقيل: إنه إنما استحسن هذا اليوم، وطلوع الشمس فيه؛ لزوال الليل واستراحته بالنهار من السهر والحزن.
وقيل: معنى البيت أن الحسن في ذلك كان خفياً لشدة الحرب، وإظلام الجو باقتام، وأن الشمس كانت تبدو مرة وتختفي أخرى لتكاثف الغبار، فشبهه برسول يأتي من عند حبيبته، فهو إذا رأى رقيباً توارى، وإذا صادف خلوة بدا، وشبه حسن ذلك اليوم: وهو النصر والظفر بالاعداء في حقائقه - بعلامة تكون بين المحب وحبيبه، لا يعلمها أحد سوهما، وفيه إشارة إلى أن الحرب كانت قد اشتدت في ذلك، حتى خفيت علامة النصر، إلا على سيف الدولة، فإنه كان عالماً بالظفر، كما يعلم المحب العلامة التي بينه وبين حبيبته وهذا من لطائف أبي الطيب.
وما قبل سيف الدّولة اثّار عاشقٌ ... ولا طلبت عند الظّلام ذحول
اثار: افتعل من الثأر. أي أدرك ثأره، يقال: اثار وثار بمعنى. والذحول: جمع ذحل وهو الحقد في القلب. فذكر أن الليل صار قتيلاً، ثم قال: إن القاتل هو سيف الدولة.
وقال: لولا سيف الدولة لم يقدر عاشق على أخذ الثأر من الليل، وما أدرك عاشق ثاره قبل حصول سيف الدولة بدرب القلة، ولم يطلب أحد عند الليل ذحلاً وثأراً قبله وهذا ضد قوله في بدر:
حدقٌ يذمّ من القواتل غيرها ... بدر بن عمّار بن إسماعيلا
ولكنّه يأتي بكلّ غريبةٍ ... تروق، على استغرابها، وتهول
تروق: تعجب بحسنها، وتهول: تخوف.
يقول: إن قتله الليل وإدراك ثأره منه أمر عجيب ! وشيء عجيب ! لكن سيف الدولة لا يزال يأتي بكل فعل غريب ! كل من رآه راقه حسنه، ويهول القلوب لعظمه، فليس هذا منه ببديع.
رمى الدّرب بالجرد الجياد إلى العدا ... وما علموا أنّ السّهام خيول
الدرب: ها هنا، موضع معروف من بلاد الروم. يقول: رمى درب الروم، كما يرمي لغرض بالسهام، ولم يعلم الروم أن الخيل في السرعة تقوم مقام السهام. شبه خيله بالسهام في إقدامها وسرعتها.
شوائل تشوال العقارب بالقنا ... لها مرحٌ من تحته وصهيل
الشوائل: جمع شائلة، وعداها إلى القنا بالباء. والتشوال: مصدر شول. والمرح: النشاط. والشوائل: نصب على الحال. وقوله: لها مرح إلى آخره نصب على الحال. والهاء في تحته للقنا، راجع إلى اللفظ.
يقول: رمى الدرب بالخيل رافعة رماحها، كما رفعت العقارب أذنابها، وكان لهذه الخيل مرح تحت القنا وصهيل، يعني بأن الركض لم يذهب مرحها. وهذا قول بشار:
والخيل شائلةٌ تشقّ غبارها ... كعقاربٍ قد رفعت أذنابها
غير أنه زاد عليه في التشبيه، فبشار شبه الخيل الرافعة لأذنابها بالعقارب، رافعة أذنابها، فالتشبيه واقع على وجه واحد، وهو أوقع التشبيه من وجهين: أحدهما: أنه جعل الخيل شائلة بالقنا، كما تشول العقارب بأذنابها.
والثاني: أنه شبه أطراف الرماح بأذناب العقارب، وأن لها من الطعن مثل ما للعقارب من اللسع، فأخذ معنى بشار، وضم إليه هذه الزيادة، فكان هو أولى به من بشار.
وما هي إلا خطرةٌ عرضت له ... بحرّان لبّتها قناً ونصول
وما هي: أي الغزاة. وحران: مدينة بالشام، والضمير في له للمدوح، وفي لبتها للخطرة، والتاء: للقنا، والنصول: للسيوف، وعرضت: أي ظهرت.
يقول: لم تكن هذه الغزاة عن تأهب واستعداد، ولكن خطر بقلبه وهو بحران أن يقصد بلاد الروم، فأجابته الرماح والسيوف، فسار إليهم غير محتفل.
همامٌ إذا ما همّ أمضى همومه ... بأرعن، وطء الموت فيه ثقيل
الهموم: بمعنى الهمم. والأرعن: الجيش العظيم.
يقول: هو عظيم الهمة إذا هم بشيء وعزم على أمر أمضاه. بجيش عظيم، كأنه لا يمر على ناحية إلا أنكى فيها وأكثر القتل فيها، وهو في معنى قوله: وطء الموت: وقعه، يعظم ويكثر من هذا الجيش، أو يشتد وطء هذا الجيش ويعز عليه.
وخيل براها الرّكض في كلّ بلدةٍ ... إذا عرّست فيها فليس تقيل
وخيل: عطف على أرعن. والتعريس: النزول آخر الليل.

المعنى: إذا هم بأمر أمضاه بجيش أرعن، وبخيل قد أنحلها اتصال السير بالسرى، فإذا عرست في بلدة من بلاد العدو، رحلت عنها ولم تقم إلى وقت القائلة.
فلمّا تجلّى من دلوك وصنجةٍ ... علت كلّ طودٍ رايةٌ ورعيل
تجلى: أسي بان عنها وفصل، وأصله الظهور، ودلوك وصنجة: موضعان من بلاد الأرمن، والطود: الجبل. والرعيل: قطعة من الخيل تتقدم الجيش.
يقول: لما انفصل عن هذين الموضعين وانتشرت خيله على رءوس الجبال، فكان على كل جبل راية وخيل.
على طرقٍ فيها على الطّرق رفقةٌ ... وفي ذكرها عند الأنيس خمول
الهاء في فيها للطرق. وقيل راجعة إلى كل طود وهو في معنى الجمع، ومعناه أنه سار إليهم بين الجبال، في الطرق المجهولة فكانت فيها رفعة على سائر الطرق؛ لأنها كانت على رءوس الجبال.
وقيل: معناه أنها كانت رفيعة القدر من حيث كانت موصلة إلى المطالب الجليلة، والمغانم الجزيلة. ثم قال: في ذكر هذه الطرق عند الناس خمول؛ لأنها غير مسلوكة ولا يهتدي إليها أحد، فطابق بين الرفعة والخمول.
فما شعروا حتّى رأوها مغيرةً ... قباحاً، وأمّا خلقها فجميل
فما شعروا: يعني الروم، أضمرهم لدلالة الحال، وتقدم العلم.
يقول: ما علم الروم بخيل سيف الدولة، حتى شاهدوها تغير عليهم، فكانت قباحاً في أعينهم؛ لسوء أفعالها بهم، وإن كانت جميلة الخلق حسنة المنظر. ومغيرة: نصب على الحال، وليس مفعولاً لرأوها: لأن الرؤية بمعنى المشاهدة لا تتعدى إلى مفعولين. وقباحاً: بدل من مغيرة ويجوز أن تكون حالاً ثانية، كقولك: جاء زيد راكباً مسرعاً. ويجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب فيكون المفعول الأول الهاء، ومغيرة حالاً. أي رأوها في حال غارتها قباحاً.
سحائب يمطرن الحديد عليهم ... وكلّ مكانٍ بالدّماء غسيل
سحائب: نصب بدلاً من قباح، يجوز فيها الرفع على إضمار المبتدأ: أي هذه الخيل سحائب.
يقول: هذه الخيل سحائب ولكن مطرها الحديد، ثم قال: وكل مكان حلت به مغسول بدماء الأعداء لكثرة القتله به، وإسالة الدماء فيه.
وأمسى السّبايا ينتحبن بعرقةٍ ... كأنّ جيوب الثّاكلات ذيول
ينتحبن: أي يرفعن أصواتهن بالبكاء. وعرقة: مدينة بالشام، وقيل: من الروم.
يقول: حصلت السبايا بعرقة، فأقمن بها يبكين على من قتل من أولادهن وأقاربهن، وقد شققن جيوبهن حتى صارت في السعة كالذيول.
وقيل: أراد بالسبايا الأولاد، وبالثاكلات: الأمهات في الروم: يعني لما سبى الأولاد، بكت أمهاتهن في الروم عليها.
وعادت فظنّوها بموزار قفّلاً ... وليس لها إلاّ الدّخول قفول
موزار: اسم بلد.
يقول: إن خيله أغارت عليهم، وحملت السبايا إلى عرقة، وعادت لتعبر من درب موزار، ثم عادت راجعة إلى بلادهم مرة أخرى، فلما رأوها بموزار ظنوها راجعة إلى بلاد الإسلام، ولم يعلموا أنها عادت لتدخل بلادهم مرة أخرى، فصار دخولها قفولا.
وكان سيف الدولة أراد بعد الإغارة أن يعبر من درب موزار، فوجد العدو هناك، قد أخد عليه الدرب، فرجع داخلاً إلى بلاد الروم، وتبعه العدو فعطف عليه وقتل كثيراُ من الأرمن. وهذا معنى قوله: وليس لها إلا الدّخول قفول.
فخاضت نجيع الجمع خوضاً كأنّه ... بكلّ نجيع لم تخضه كفيل
الضمير في خاضت: لخيل سيف الدولة. والهاء في كأنه للنجيع، وهو الدم.
يقول: إنها عادت إلى بلاد الروم، وقتلت الأبطال، وخاضت في دمائهم المصبوبة، فكأن هذه الوقعة ضمنت لها سفك كل دم بعدها؛ لأنها قتلت فؤاد الجيوش، فسهل بعد ذلك عليها مرامها، وصار من لم يقتل تحت قدرتها متى شاءت قتلته، وخاضت في دمه.
تسايرها النّيران في كل مسلكٍ ... به القوم صرعى والدّيار طلول
يقول: إن النيران تسايرها وترافقها في كل موضع تسلكه من بلاد الروم، لأنها كانت تنزل فيه، وتوقد النيران فيه، وهو خراب وأهله صرعى، ولم يبق لديارهم إلا الآثار.
وقيل: معناه أنها قتلت أهل كل منزل نزلته، وأحرقت مساكنهم.
وكرّت فمرّت في دماء ملطيةٍ ... ملطية أمّ للبنين ثكول
ملطية: مدينة من بلاد الروم.
يقول: إن الخيل كرت على أهل ملطية فخاضت في دمائها، فصارت ملطية مثل أم ثكلت أولادها.
وأضعفن ما خلّصنه من قباقبٍ ... فأضحى كأنّ الماء فيه عليل

ما خلصنه: أي خلصن من الماء، من بين القوائم. وروى: ما كلفنه أي الموضع الذي كلفت الخيل قطعه من هذا النهر. وقباقب: اسم نهر.
يقول: إن الخيل لما عبرت هذا النهر سكرته بقوائمها، وكسرت شدة جري الماء، وأضعفت قوته، فصار الماء يضعف جريه، كأنه عليل.
شبه جريه بين قوائمها بمشي العليل في فتور وضعف.
ورعن بنا قلب الفرات كأنّما ... تخرّ عليه بالرّجال سيول
ورعن بنا قلب الفرات: يعني أن الخيل خوفن بنا قلب الفرات. أي عبرته بنا الخيل، وخاضت دماءه.
وشبه انحدار الخيل فيه بتدافع السيل، وشبه الخيل بالسيول، والرجال بما تحمله السيول.
فيقول: كأنه مثل السيول تقع من موضع إلى موضع من الوادي.
يطارد فيه موجه كلّ سابحٍ ... سواءٌ عليه غمرةٌ ومسيل
الضمير في فيه وموجه للفرات. وفي عليه للسابح والغمرة معظم الماء، وأردا به ها هنا معظم الحرب. والمسيل: حيث يسيل الماء.
يقول: إن الخيل لما عبرته كان يدافعها موجه، فكأنه تطارده: أي تحاربه. وسواء على كل فرس منها خوض الماء، وغمرة الحرب، وكلاهما سهل عليها.
تراه كأنّ الماء مرّ بجسمه ... وأقبل رأسٌ وحده وتليل
تشبيه بديع؛ لأن التليل: العنق.
يقول: كأن الماء حمى جسده وأبان عن رأسه وعنقه. فهذا الفرس إذا سبح لم يظهر منه إلا رأسه وعنقه.
وفي بطن هنزيطٍ وسمنين للظّبي ... وصمّ القنا ممّن أبدن بديل
أبدن: أهلكن، والضمير للخيل، وللظّبي. وصم القنا، وهنزيط وسمنين: بلدان من الروم.
يقول: إن أصحاب السيوف والرماح قد أهلكوا أهل عرفة وملطية، ولم يصلوا إلى بطن هنزيط وسمنين، فكأن أولئك الهالكين بدل في هاتين البلدتين للسيوف والرماح ولأصحاب الخيول، يهلكونهم متى شاءوا، ويقتلونهم متى قفلوا.
طلعن عليهم طلعةً يعرفونها ... لها غررٌ ما تنقضي وحجول
طلعن: أي الخيل. عليهم: أي على أهل هنزيط وسمنين.
المعنى: أن خيل سيف الدولة لما فرغت من أهل ملطية، عطفت عليهم وطلعت على ديارهم، وهذه الطلعة معروفة مشهورة؛ لأنها لم تكن أول مرة، بل تقدم لها أخوات مشهورة كشهرة الغرر والحجول، في الخيل الغر المحجلة. والعرب تصف الشهرة بالغرة والحجول، كما قال الآخر:
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... ولما يكن يومٌ أغرّ محجّل
وقوله: لها عزر مأخوذ من قول السموءل:
وأيّامنا مشهورةٌ في عدوّنا ... لها غررٌ معلومةٌ وحجول
فهو وإن وافقه في المعنى والوزن والقافية وبعض الألفاظ، إلا أن هذا لما كان من العام المنتشر لا يقال فيه: إنه مسروق.
تملّ الحصون الشّمّ طول نزالنا ... فتلقى إلينا أهلها وتزول
يقول: إن الحصون الطوال المرتفعة، ملت من طول منازلتنا إياها، فتلقى إلينا أهلها، وتزول الحصون عن أماكنها، حتى لا يبقى منها شيء.
وبتن بحصن الرّان رزحي من الوجى ... وكلّ عزيزٍ للأمير ذليل
رزحي: تعبة معيية، والواحد رازح، والوجى: وجع بحافر الفرس؛ من الحفا، وكثرة المشي.
وقيل: أراد به كثرة الضرب والطعن، من قولهم: وجأته بالسكين.
يقول: إن الخيل عادت إلى حصن الران، وقد تعبت وكلت بعد أن قتلت كل بطل، وأذلت كل عزيز، وموضعه نصب على الحال. أي بتن على هذه الحال.
وقيل: معناه أنها لم تصر كذلك للضعف، ولكنه كلفها من همته أصعبها فضعفت.
وفي كلّ نفس ما خلاه ملالةٌ ... وفي كلّ سيف ما خلاه فلول
الضمير في ما سواه وما خلاه للأمير.
يقول: كل أحد قد مل من طول الحرب، وكل سيف انثلم من كثرة الضرب، سوى سيف الدولة.
ودون سميساط المطامير والملا ... وأوديةٌ مجهولةٌ وهجول
سميساط: مدينة، والمطامير: الآبار، تحفر فلا تبلغ بها إلى الماء، والواحدة: مطمورة. والملا: الأرض الواسعة. والهجول: جمع هجل، وهو المطمئن من الأرض، وقيل: هو الأرض البعيدة الأطراف. يعني: بيننا وبينها هذه الطرق المجهولة، والأراضي الواسعة.
لبسن الدّجى فيها إلى أرض مرعشٍ ... وللرّوم خطبٌ في البلاد جليل
مرعش: مدينة والضمير في فيها للمطامير والأودية، وقيل: يرجع إلى سميساط.

يقول: لبست خيل سيف الدولة ظلمة الليل بين هذه المطامير والودية، من سيساط حتى أتى مرعش، وقوله: وللروم خطب: في موضع الحال، أي كانت هذه المسيرة والحال هذه، وهي أن خطبهم قد عظم واشتد أمرهم.
فلمّا رأوه وحده قبل جيشه ... دروا أنّ كلّ العالمين فضول
يقول: لما رآه الروم وحده متقدماً على جيشه، علموا أنه كاف عن كل أحد، وأن من عداه زيادة لا يحتاج إليها.
وأنّ رماح الخطّ عنه قصيرةٌ ... وأنّ حديد الهند عنه كليل
يقول: وعلموا أن الرماح تقصر عنه ولا تناله، والسيوف تكل ولا تعمل فيه، أي لا يقدر أحد على طعنه وضربه.
فأوردهم صدر الحصان وسيفه ... فتىً بأسه مثل العطاء جزيل
يجوز في سيفه النصب عطفاً على صدر الحصان.
يقول: جعل سيف الدولة صدر سيفه وفرسه مورد الأعداء. يعني أنه قتلهم بسيفه، واقتحمهم بفرسه. وهو فتى شجاعته مثل عطائه، وكل واحد منهما جزيل.
جوادٌ على العلاّ بالمال كلّه ... ولكنّه بالدّارعين بخيل
العلات: جمع العلة، وأرد ها هنا كل حدث شاغل، وقيل: قلة المال وتعذر الحال.
يقول: هو جواد بماله كله في جميع الأحوال، لا تشغله الحروب والشدائد عن الجود.
وقيل: معناه أنه يجود حين يعتل عليه ماله ويقل، ولكنه مع هذا الجود، بخيل بالرجال، لا تسمح نفسه أن يسلمهم للقتل، بل يذب عنهم بنفسه. والدارعين: أصحاب الدروع.
فودّع قتلاهم وشيّع فلّهم ... بضرب حزون البيض فيه سهول
البيض: جمع بيضة، وهي الترك. وروى: حزون الموت والفل: القوم المنهزمون. والضمير في قتلاهم وفلهم للروم.
يقول: قتل قوماً وهزم الباقين، ثم ترك القتلى مكانهم فودعهم، وشيع المنهزمين، وفعل هذا التوديع والتشييع بضرب حزون البيض فيه سهول: أي شدة البيض وصعوبته سهل على هذا الضرب، لم تمنعه الدروع والبيض.
وقيل: إنه جعل ضربه إياهم توديعاً لمن قتل منهم، وتشييعاً لمن انهزم كما قال:
تحيّة بينهم ضربٌ وجيع
على قلب قسطنطين منه تعجّبٌ ... وإن كان في السّاقين منه كبول
قسطنطين: ابن الدمستق، والكبول: القيود.
يقول: هو متعجب مما شاهد من سيف الدولة من الشجاعة والإقدام ! لم يشغله عن التعجب ما هو فيه من الأسر والقيود.
لعلّك يوماً يا دمستق عائدٌ ... فكم هاربٍ ممّا إليه يئول
يقول: إن كنت قد هربت وسلمت. فلعلك ترجع يوماً آخر، فتؤسر وتقتل، وكثير من الناس هرب من أمر، ثم رجع إليه.
نجوت بإحدى مهجتيك جريحةً ... وخلّفت إحدى مهجتيك تسيل
يقول: نجوت بواحدة من مهجتيك مجروحة: يعني نفسه، وخلفت مهجتك الأخرى: يعني ولده؛ لأنه في حكم نفسه. تسيل: أي تذوب في القيد؛ وهذا لأنه جعل ابنه إحدى روحيه. كما روى في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: فطمة بضعة منّى.
أتسلم للخطّيّة ابنك هارباً ... ويسكن في الدّنيا إليك خليل !!؟
يقول: أنت إذا سلمت ابنك، الذي هو نفسك، للرماح وهربت عنه ! فكيف يسكن إليك صديقك ! وكيف يثق بالوفاء منك خليلك ؟!
بوجهك ما أنساكه من مرشّةٍ ... نصيرك منها رنّةٌ وعويل
الهاء في أنساكه للابن. والمرشة: الضربة التي ترش الدم، أي تطايره.
يقول: هربت وفي وجهك ضربة أنستك ابنك وشغلتك بنفسك، فنصيبك من هذه الضربة الأنين والبكاء، أي لا تقدر إلا على البكاء والعويل.
أغرّكم طول الجيوش وعرضها ؟! ... عليّ شروبٌ للجيوش أكول
يقول: غركم كثرة جيوشكم، فلم تعلموا أنه يأكلها ويشربها ! يعني أنها غنيمة له يأكلها، فكلما كثرت، كان أجود له.
إذا لم تكن للّيث إلا فريسةً ... غذاه ولم ينفعك أنّك فيل
يقول: إذا كنت فريسة لليث، لم ينفعك عظم جسمك، ولو كنت مثل الفيل، بل سمنك وعظم جسمك يغذوه، وموضع أنك فيل رفع بغذاه: أي غذاه كونك ذلك، فأعمل الفاعل الأول فيه وأضمر الفاعل الثاني. وقيل: أضمر الفاعل في غذاه لدلالة الثاني عليه، وتقديره: وغذاه الفيل، ولم ينفعك أنك كذلك.
إذا الطّعن لم تدخلك فيه شجاعةٌ ... هي الطّعن لم يدخلك فيه عذول
يقول: إذا لم يكن فيك شجاعة، تدخلك في الطعان، وتحملك على مقارعة الأقران، لم يحملك عليه عذل العاذل.
فإن تكن الأيّام أبصرن صولةً ... فقد علّم الأيّام كيف تصول

يقول: إن أبصرت الأيام صولته هذه على الروم، فقد علمها أيضاً قبل هذه الصولة كيف تصول؟ يعني أن الأيام نظرت إلى صولته بالأعداء فتعلمت منه كيف تقصد أهلها بصروفها، وقيل. أراد بالأيام: أهلها.
فدتك ملوكٌ لم تسمّ مواضياً ... فإنّك ماضي الشّفرتين صقيل
يقول: فداك كل ملك لم يسم باسمك، وليس له مضاء مثل مضائك، فإنك ماض فيما بينهم، فأنت كالسيف وهم كالبوقات والطبول.
إذا كان بعض النّاس سيفاً لدولةٍ ... ففي النّاس بوقاتٌ لها وطبول
يقول: أنت كالسيف وغيرك كالطبول والبوقات؛ لأنه إذا جاز أن يكون سيفاً للدولة؛ جاز أن يكون لها طبول، لأن غيرك من الملوك ليس لهم مضاء في الأمور، وليس عنده إلا القول الخالي من الفغل، كالبوقات.
أنا السّابق الهادي إلى ما أقوله ... إذ القول قبل القائلين مقول
يقول: أنا السابق إلى ما أقوله من الشعر، والمبدع لمعانيه، وغيري من الشعراء يسرق ما يقوله ممن تقدمه من الشعراء.
وما لكلام النّاس فيما يريبني ... أصولٌ، ولا للقائليه أصول
يقول: كلام الناس في غيبتي، والطعن فيّ لا أصل له، غذ لا عيب فيّ، وكذلك لا أصل لمن يعيبني ويطعن عليّ وأصلة من الحديث: الساعي لغير رشده.
أعادي على ما يوجب الحبّ للفتى ... وأهدأ والأفكار فيّ تجول
حسدوني لفضلي وعادوني، وكان يجب أن يحبوني؛ لأن الفضل يوجب المحبة، وأهدأ: أي أسكن، ولا أحسد أحداً، بل أنام خالي البال، وأفكار الحساد تجول فيّ. ومثله للبحتري:
إذا محاسني اللاّتي أدلّ بها ... كانت ذنوبي، فقل لي: كيف أعتذر ؟
سوى وجع الحسّاد فإنّه ... إذا حلّ في قلبٍ فليس يحول
يقول: داو كل داء من الأمراض والفقر وغيرهما، فإنه يزول بمداواتك، ولا تشتغل أنت بمداواة وجع الحساد؛ لأنه لا يزول أبداً.
ولا تطمعن من حاسدٍ في مودّةٍ ... وإن كنت تبديها له وتنيل
يقول: لا تطمع في مودة حاسدك، فإنك وإن كنت تظهر له المودة، وتعطيه المحبة فإن ما في قلبه من الحسد يمنعه من مودته لك.
وإنّا لنلقي الحادثات بأنفسٍ ... كثير الرّزايا عندهنّ قليل
يقول: إن لنا نفوساً كريمة، وقلوباً صابرة على حوادث الدهر، وكثرة الرزايا والشدائد عندها قليل، لكثرتها وصبرها.
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراضٌ لنا وعقول
الأعراض: جمع العرض، وهو موضع الحمد والذم.
يقول: إذا سلمت الأعراض والعقول، فلا حظ للأجسام عندنا، بل يهون علينا ما يحدث فيها من الجراحات والأسقام. ومثله:
إذا أبقت الدّنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
فتيهاً وفخراً تغلب ابنة وائل ... فأنت لخير الفاخرين قبيل
يقول: يا تغلب ابنة وائل تيهي تيهاً، وافخري فخراً، فإنك قبيلة سيف الدولة، وهو خير الفاخرين، وأنت تغلب. ذهاباً بها إلى القبيلة أو العشيرة، ونصب تيهاً وفخراً على المصدر أي تيهي تيهاً، وافخري فخراً.
يغمّ عليّاً أن يموت عدوّه ... إذا لم تغله بالأسنة غول
إذا لم تغله: إذا لم تهلكه. والغول: الداهية. وقيل: المنية.
يقول: إن سيف الدولة إذا مات عدو يغتم بموته، وإنما يريد أن يقتله.
شريك المنايا، والنّفوس غنيمةٌ ... فكل مماتٍ لم يمته غلول
الغلول: الخيانة في الغنيمة.
يقول: إن سيف الدولة شارك المنية في الإغارة على نفوس الأعداء، والنفوس غنيمة لها يشتركان فيها، فإذا استبدت المنية في نفس واحد لم يقتلها هو فقد خانته وغلت تلك النفس منه.
فإن تكن الدّولات قسماً فإنّها ... لمن ورد الموت الزّؤام تدول
الزؤام: السريع. وتدول أي صارت له، ورجعت إليه.
يقول: إن كانت الدولة مقسومة بقدر السعي فالأولى بها من يقتحم على الأهوال ويباشر القتال وأسباب الموت. فأطلق لفظ الموت على أسبابه.
لمن هوّن الدّنيا على النّفس ساعةً ... وللبيض في هام الكماة صليل
لمن هون: بدل من قوله: لمن ورد.
يقول: إن الدولة لمن هون الدنيا على نفسه ساعة، في موضع الضرب والطعن، وضرب على شدائدها في تلك الحال؛ لأنه متى صبر فاز بالظفر والغلبة.
وتأخر مدحه عنه فعتب عليه، فقال يعتذر:

بأدنى ابتسامٍ منك تحيا القرائح ... وتقوى من الجسم الضّعيف الجوارح
القرائح: جمع القريحة، وهي خالص طبيعة الإنسان، وأصلها من قريحة البئر، وهو أول ما يخرج من مائها إذا حفرت.
يقول: إذا ابتسمت ورضيت عنا تحيي ما مات من خواطرنا وتقوي ما ضعف من جوارحنا.
ومن ذا الّذي يقضي حقوقك كلّها ؟ ... ومن ذا الّذي يرضى سوى من تسامح ؟
يقول: لا يقدر واحد على قضاء حقوقك، وعلى إرضائك في قضائها، إلا أن تسامحه، ولا تكلفه فوق طاقته.
وقد تقبل العذر الخفيّ تكرّماً ... فما بال عذري واقفاً وهو واضح ؟
تكرماً نصب على المفعول، وواقفاً على الحال، ومعناه: غير مقبول.
يقول: أنت تقبل العذر الخفي لكرمك، فكيف صار عذري غي مقبول في تأخيري مدحك مع وضوحه وظهوره ؟!
وإنّ محالاً ... إذبك العيش أن أرى وجسمك معتلّ وجسمي صالح
يقول: إن كان قوام عيشي بك فمن المحال سلامة جسمي مع اعتلال جسمك، بل الواجب مشاركتنا. إياك في لاعتلال.
وما كان ترك الشّعر إلاّ لأنّه ... تقصّر عن وصف الأمير المدائح
جعل تقصير المدائح عن وصفه عذراً في تأخير المدح، فقال: لم أترك مدحك تغافلاً عن قضاء حقك، ولكن رأيت المدائح قاصرة عن وصفك، غير ناهضة بآداء شكرك.
وقال وقد تشكى سيف الدولة من دمل في شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وثلاث مئة.
أيدري ما رأيك من يريب ؟ ... وهل ترقى إلى الفلك الخطوب !؟
فاعل يدري: ما أريك، وهو الدمل ومن في موضع نصب؛ لأنه المفعول، وهو سيف الدولة على جهة التعجب والتعظيم للأمر.
يقول: أيدري هذا الدمل من يريب ؟ وعلى من أقدم ؟ أي لو علم علو مكانك لما تجاسر على الحلول بك، فإنك الفلك في العلو والارتفاع عن الآفات، والخطوب لا ترقى إلى الفلك، فكيف رقى إليك الدمل ؟!
وجسمك فوق همّة كلّ داءٍ ... فقرب أقلّها منه عجيب
الهاء في أقلها للأدواء التي تدل عليه قوله: كل داء إذ هو في معنى الجمع.
يقول: إن جسمك أعلى محلاً من أن يصيبه أعظم الأدواء، وأن تبلغ همته إليه، فكيف وصل إليك الدمل الذي هو أقل الأدواء وأحقرها ؟
يجشّمك الزّمان هوىً وحبّاً ... وقد يؤذي من المقة الحبيب
يقول: إن الزمان يحبك حباً شديداً فآلمك بهذا القدر من الألم؛ لأن الحبيب يؤذيه الحبيب إذا غلبه الحب، تذللاً. والمقة: الحب، وقد روى: يجمشك والتجميش: مداعبة الحبيب والممازحة معه.
يقول: إن الزمان يداعبك، ويتعرض لك؛ لحبه إياك، وهذا الدمل الذي أصابك تجميش منه، فآذاك وآلمك، فإن المحب ربما آذى حبيبه بالعض وغيره، محبة منه. وقوله هوى وحباً نصب على المفعول له.
وكيف تعلّك الدّنيا بشيءٍ ... وأنت بعلّة الدّنيا طبيب ؟
يقول: كيف أصابتك الدنيا بعلة وأنت طبيبها ؟ الذي تداوي علتها، وتذهب سقمها، وتصلحها من الفساد.
وكيف تنوبك الشّكوى بداءٍ ... وأنت المستغاث لما ينوب ؟
تنوبك أي تصيبك والشكوى: المرض.
يقول: كيف تصيبك ما تشكو منه ؟ ومن نابته الشكوى استغاث بك فأجرته.
مللت مقام يومٍ ليس فيه ... طعانٌ صادقٌ ودمٌ صبيب
المقام: الإقامة، والصبيب: المصبوب.
يقول: قد تعودت الحرب، وتركت الإقامة، فمتى فقدت ذلك يوماً واحداً ألمت من ذلك، ومللت من طول الإقامة، فألمك هو الجلوس في الدعة، وترك الحرب، لا من الدمل، إذ هو أقل من أن تبالي به. وقوله: طعان صادق يعني أنه لا يخطئ بل يصيب.
وأنت الملك تمرضه الحشايا ... لهمّته، وتشفيه الحروب
الحشايا: جمع الحشية.
يقول: أنت ملك عظيم الهمة لا تلتذ بالتنعم والراحة، فالنوم على الحشايا يمرضك، والحروب تشفيك وتوافقك. إذ ترك العادة يمرض الإنسان.
وما بك غير حبّك أن تراها ... وعثيرها لأرجلها جنيب
العثير: الغبار، والضمير في تراها وعثيرها وأرجلها للخيل، فأضمرها وإن لم يجر لها ذكر: للعلم بها. إذ الحروب لا تعرى من الخيل. والجنيب: التابع كالجنيبة التي تقاد إلى جنب الفرس.
يقول: هذا الألم الذي ألم بك، ليس هو من المرض، ولكنه لشوقك إلى أن ترى الخيل، وقد أثارت الغبار في الحروب، وصار غبارها تابعاً لأرجلها، كما يتبع الفرس قائده.

مجلّحةً لها أرض الأعادي ... وللسّمر المناحر والجنوب
مجلحةً: مصممة جادة في شأنها، ونصب على الحال. والمناحر: موضع النحر، والجنوب: جمع الجنب، وأراد به: جنوب الأعادي ونحورهم.
يقول: ليس بك إلا ألم حبك أن ترى خيلك مجلحة محدة في الحروب، وقد ملكت أرض الأعادي، وملكت الرماح نحور الأعادي وجسومها.
وقيل أراد: نحور الخيل وجنوبها، يعني: أنها تتلقى الرماح بنحورها، وجنوبها، ولا تولي عنها.
فقرّطها الأعنّة راجعاتٍ ... فإنّ بعيد ما طلبت قريب
تقريط الأعنة: هو أن يرخي الفارس عنان الفرس، حتى يمس أذنه، فيصير بمنزلة القرط له. وقيل: هو طرح اللجاح في رأس الفرس.
يقول: إذا كان مرضك هذا، فشفاؤك في يدك، فارجع بخيلك إلى أرض الروم، وارخ لها الأعنة، حتى تبلغ مرادك، ويشفيك من ألمك، فإن ما طلبته هذه الخيل، وإن كان بعيداً، فهو عليها قريب.
إذا داءٌ هفا بقراط عنه ... فلم يعرف لصاحبه ضريب
هفا: أي غفل وزل. ولم يعرف: أي ليس يوجد، وأقام لم مقام ليس والضريب: المثل والنظير، فالهاء في لصاحبه للداء.
والبيت يفسر على وجوه.
أحدها: أن بقراط قد ذكر جميع الأدواء، ولم يذكر فيها حب الحروب، ولم يعلم بقراط أحداً، يكون فقد الحرب مرضاً له، فمن أصابه هذا الداء الذي هفا عنه بقراط، لم يكن له في الناس نظير، فكأنه يقول: ليس لك نظير في هذه الهمة، فإنا ما سمعنا بمن يمرضه حب الحرب، وتؤلمه الراحة والدعة. وجواب إذا قوله: لم يعرف.
والثاني: أنه جعله بمنزلة بقراط. فيقول: أنت مع علمك وكونك في مثل علم بقراط، عجزت عن دفع هذا الداء عنك، وكل داء هفا بقراط عنه، فإن صاحب ذلك الداء ليس له نظير، إذ هو خارج عن الطبائع البشرية؛ لأن بقراط لا يشكل عليه طبايع البشر، فلما كنت بقراط فعجزت عن مداواة هذا الداء، علمنا أنك تفارق جميع الناس، ولا يشبهك أحد منهم، وجواب إذا أيضاً فلم يعرف.
والثالث: أن المراد بالداء: الحروب ونيوب الدهر، وهو متعلق بقوله: فإن بعيد ما طلبت قريب إذا داء هفا بقراط عنه، فلم يوجد عليل، به تلك العلة، ففي تلك الحال بعيد ما تطلبه قريب الغرض به.
يعني: أنه إذا اختل أمر الثغور كان عود خيلك إليها قريباً، فتكون أنت مداوياً لها. والفاء على هذا تكون عاطفة لجملة على جملة، وهذا كقول ليلى الأخيلية:
إذا هبط الحجّاج أرضاً مريضةً ... تتبّع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الدّاء العضاء الّذي بها ... غلامٌ إذا هزّ القناة سقاها
بسيف الدّولة الوضّاء تمسى ... جفوني تحت شمسٍ ما تغيب
الوضاء: مبالغة الوضيء.
يقول: إذا أبصرته أبصرت شمساً لا تغيب، كما تغيب الشمس، وقوله: جفوني تحت شمس: أن ناظرة إلى وجهه.
فأغزو من غزا، وبه اقتداري ... وأرمى من رمى وبه أصيب
يقول: إذا غزا سيف الدولة غزواً غزوته معه، ولكن اقتداري به، وقوتي ونكاتي في غزوه بتأييده.
وقيل: معناه أني لا أغزوهم إلا بنفقته وخيله وسلاحه الذي وهب لي، فكأن اقتداري بعطيته، وإذا رميت الاعداء أصبتهم بدولته.
وللحسّاد عذرٌ أن يشحّوا ... على نظري إليه وأن يذوبوا
يقول: إن حسدوني على نظري إليه، ونافسوني فيه، وذابوا كمداً وحزناً، بمنزلتي عنده، فلهم في ذلك عذر.
فإنّي قد وصلت إلى مكانٍ ... عليه تحسد الحدق القلوب
يقول: من يحسدني على منزلتي عنده، ونظري إليه فهو معذور؛ لأني قد جعلت في مكان يحسد قلبي فيه عيني، لما تدركه من اللذة بالنظر إليه، ورؤيتها لمكارمه ومحاسنه، والقلب لا يصل إليها مباشرة، وإنما يصل إليها بالعلم. وهو قريب من قول الآخر:
إذا زرت حفصاً تستضيء برأيه ... فقلبك مغبونٌ وطرفك رابح
وروى: تستضيء بشمسه.
وقال سيف الدولة، وعنده رسول ملك الروم: الساعة يسر الرسول بهذه العلة، فأجابه أبو الطيب:
فديت، بماذا يسرّ الرّسول ؟ ... وأنت الصّحيح بذا لا العليل
يقول: جعلنا الله تعالى فداءك، بأي شيء يسر الرسول ؟ وأنت الصحيح بهذا الدمل لا المريض؛ لأن بهذا يزول أدواء كثيرة، وهذا علامة الصحة.
عواقب هذا تسوء العدوّ ... وتثبت فيك وهذا يزول

يقول عاقبة هذا الدمل، وهو الصحة تسوء أعداءك، وتثبت فيك الصحة دائماً، وهذا الذي أصابك يزول في أسرع وقت.
وقال أيضا في علة سيف الدولة، يمدحه:
إذا اعتلّ سيف الدّولة اعتلّت الأرض ... ومن فوقها والبأس والكرم المحض
يقول: إذا أصاب سيف الدولة علة، عمت الأرض ومن عليها، واعتل بها أيضا الشجاعة والكرم؛ لأن قوام الكل به. والبأس: الشجاعة. ومثله لعلي بن الجهم:
وإذا رابكم من الدّهر ريبٌ ... عمّ ما خصّكم جميع الأنام
وكيف انتفاعي بالرّقاد وإنّما ... بعلّته يعتلّ في الأعين الغمض ؟
يقول: إذا اعتل هو، لم أنتفع بالنوم، ولم أجد له لذة؛ لأنه إذا اعتل اعتل النوم في عيني جزعاً عليه.
شفاك الّذي يشفي بجودك خلقه ... فإنّك بحرٌ كلّ بحرٍ له بعض
يقول: شفاك الله تعالى، كما يشفي خلقه بجودك، فإنك في الجود بحر، إذا قيست البحار إليه كانت بعضاً منه وجزءا له.
وقال أيضاً في شهر رمضان وقد عوفي سيف الدولة من الدمل:
المجد عوفي إذا عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم
يقول: إن المجد والكرم اعتلا بعلتك ؟! فلما عوفيت عوفيا بعافيتك، وزال ألمك الذي بك إلى أعدائك؛ لأنهم اغتموا بعافيتك، وتألموا بصحتك، فكأن ألمك انتقل إليهم.
وقيل: إن هذا دعاء: أي رد الله تعالى ألمك إلى أعدائك.
والأولى أنه خبر، وليس بدعاء؛ لأنه أخبر في صدر البيت أنه عوفي، فلا يتصور معه الدعاء عليهم بداء له وقد زال.
صحّت بصحّتك الغارات وابتهجت ... بها المكارم وانهلّت بها الدّيم
ابتهجت: أي فرحت. وانهلت: أي انصبت.
يقول: لما راجعتك الصحة صحت الغارات بصحتك؛ لأنها كانت سقيمة بسقمك، وسرت المكارم بها؛ لأنها كانت سقيمة، وجرى بها عطاياك المتصلة، كأنها ديم منهلة.
وراجع الشّمس نورٌ كان فارقها ... كأنّما فقده في جسمها سقم
يقول: كانت الشمس فارقها نورها لمرضك، فعاد إليها الآن لأجل صحتك، وكأن فقد هذا النور سقما في جسم الشمس، فزال عنها مرضها لأجل صحتك.
ولاح برقك لي من عارضي ملكٍ ... ما يسقط الغيث إلاّ حين يبتسم
العارض: أول ما يلي الناب من الثنايا، ويقال: هو الناب.
شبه نقاء عارضيه بالبرق، ثم قال: ما يسقط الغيث إلا حين يبتسم هذا الملك، يعني إذا ابتسم أعطى، فعبر عن العطايا بالغيث.
وقيل: أراد بالبرق علامات جوده ومخايل إحسانه.
يسمى الحسام وليست من مشابهةٍ ... وكيف يشتبه المخدوم والخدم ؟!
يقول: يسمى الممدوح باسم السيف، وهذا لا يشابهه في الخصال والمعاني، وكيف يشبهه وهو خادمه يتصرف على إرادته ؟!
تفرّد العرب في الدّنيا بمحتده ... وشارك العرب في إحسانه العجم
المحتد: الأصل، والضمير فيه وفي إحسانه للممدوح.
يقول: تفرد العرب بأصله؛ لأنه والعرب من أصل واحد، والعجم تشارك العرب في إحسانه ونعمه.
يعني أن فضله عم العجم عمومه للعرب، وشاع في الناس كافة.
وأخلص الله للإسلام نصرته ... وإن تقلّب في آلائه الأمم
الآلاء: النعم. واحدها إلى وألي.
يقول: جعل الله تعالى نصرته للإسلام خالصة؛ لأنه أبداً يجاهد الكفار؛ ويذب عن الإسلام، فنصره مقصور على الإسلام، ونعمه تعم الخلق: مؤمنهم وكافرهم.
وما أخصّك في برءٍ بتهنئةٍ ... إذا سلمت فكلّ النّاس قد سلموا
يقول: لا أخصك بهذه التهنئة على برئك من المرض، بل أهنئ جميع الناس، فإنهم كانوا مرضى لمرضك، فإذا سلمت منه سلم جميع الناس، فاستووا معك في استحقاق التهنئة.
وقال في انسلاخ شهر رمضان يمدح ويهنئه بعيد الفطر:
الصّوم والفطر والأعياد والعصر ... منيرةٌ بك حتّى الشّمس والقمر
الشمس: مرفوعة، لأنها معطوفة بحتى على ما قبلها.
يقول: هذه الأشياء نورها وبهجتها بك، حتى أن الشمس والقمر اللذين هما الأصل في الإنارة، منيران بك مضيئان بدولتك؛ لأنهما يشهدان النور من أنوارك، كالقمر يشهد النور من الشمس.
ترى الأهلّة وجهاً عمّ نائله ... فما يخصّ به من دونها البشر
التذكير: للوجه، وفي به للنائل، والتأنيث: للأهلة.

يقول: نظر الأهلة إلى وجهه، يقوم مقام نائله، لأنها تقابل منه سعداً وتكتسب منه نورا، فنائله عم الأهلة وسائر الخلق، ولم يختص به البشر دون غيره.
ما الدّهر عندك إلا روضةٌ أنفٌ ... يا من شمائله في دهره زهر
الروضة الأنف: التي لم ترع، فيكون أحسن لها.
شبه الدهر بالروضة، وشمائله بالزهر الذي هو في الروضة لحسنها.
ما ينتهي لك في أيامه كرمٌ ... فلا انتهي لك في أعوامه عمر
الهاء في أيامه للدهر، وكذلك في أعوامه وقوله: فلا انتهى دعاء للمدوح.
يقول: ليس لكرمك نهاية في الدهر، وعمرك يزيد في أعوام الدهر.
فإنّ حظّك من تكرارها شرفٌ ... وحظّ غيرك منه الشّيب والكبر
الهاء في تكرارها للأيام أو للأعوام، وفي منه للدهر.
يقول: إنك لا تزال تزداد شرفاً على مرور الأيام وكرور الأعوام؛ لأنك تفعل في كل وقت فعلاً لك فيه ذكر وشرف، وغيرك يزداد شيباً وهرماً.
ومد قويق: وهو نهر بحلب، فأحاط بدار سيف الدولة، فخرج أبو الطيب من عنده، فبلغ الماء صدر فرسه. فقال:
حجّب ذا البحر بحارٌ دونه
يذمّها النّاس ويحمدونه
البحر: سيف الدولة، والبحار: مدود النهر.
يقول: حالت هذه السيول، والمدود، بيننا وبين بحر الجود، فالناس يذمون هذه البحار؛ لأنها منعتهم عن ذلك البحر ويحمدون سيف الدولة؛ لأنه لم يحجب نائله عنهم.
وقيل: يذمون البحار استحقاراً بالإضافة إليه، ويحمدونه تعظيماً له.
يا ماء هل حسدتنا معينه ؟
أم اشتهيت أن ترى قرينه ؟
المعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، مفعول من العين: أي تدركه.
يقول للماء: هل حسدتنا على كثرة جوده، الذي هو كالماء الجاري، فحلت بيننا وبينه ؟ وقيل: معناه هل حسدتنا على مشاهدتنا لسيف الدولة فعقتنا عنه وعن الوصول إليه ؟ أم أردت يا ماء أن ترى قرينه: أي تكاثر جوده، فتكون أنت قريناً له ؟؟!
أم انتجعت للغنى يمينه ؟
أم زرته مكثّراً قطينه ؟
قطين الملك: خدمه المقيمون.
يقول للماء: أم قصدته يا ماء مستميحاً الغنى منه ؟ أم أردت أن تكثر بنفسك خدمه وحشمه تشرفا بخدمته ؟
أم جئته مخندقاً حصونه ؟
إنّ الجياد والقنا يكفينه
يقول: لعلك جئته لتصير خندقاً حول حصونه، ثم إنه لا يحتاج إلى إحاطتك بحصنه، بل هو غني بخيله وسلاحه.
والضمائر من أول الأبيات إلى ها هنا للبحر.
يا ربّ لجّ جعلت سفينه
وعازب الرّوض توفّت عونه
اللج: جمع لجة. والهاء في سفينه عائدة إليها لفظاً. والسفين: جمع السفينة، والهاء في عونه للروض. والعون: جمع عانة، وهي القطعة من حمر الوحش. والتاء في جعلت وتوفت للجياد.
يقول: رب لجة جعلت الجياد سفيناً لها. يعني أنه اقتحم بها الأنهار العظيمة في غزواته، فصارت كالسفن. وقيل: أراد حومة القتال وغمرة الحرب. ورب روض بعيد قد وصلت إليه هذه الجياد، فاستوفت جميع ما فيها من عانات الحمر الوحشية وأهلكته.
وذي جنونٍ أذهبت جنونه
وشرب كأسٍ أكثرت رنينه
وأبدلت غناءه أنينه
وقوله: وذي جنون: كناية عن الشجاع، أو كناية عن الباغي. وقيل: أراد به ملكاً. كأنه من غيرة نفسه مجنون، والشرب: القوم المجتمعون على الشراب. والهاء في جنونه لذي جنون وفي رنينه وغناءه وأنينه للشرب، لفظاً لا معنىً، والرنين: صوت الباكي الحزين. والأنين: صوت الحزين المتوجع.
يقول: ورب ذي جنون قصدته هذه الخيل، وأذهبت ذلك الجنون من رأسه، ورب قوم شاربين للكأس، هجمت عليهم فقتلتهم وأكثرت رنينهم وأبدلت غناءهم وطربهم حزناً وبكاء !
وضيغمٍ أولجها عرينه
وملكٍ أوطأها جبينه
العرين: موضع الأسد في الأجمة. وفاعل أولجها ضمير البحر، الذي هو سيف الدولة، والهاء: ضمير الجياد، وكذلك في أوطأها أي ورب أشد أدخل سيف الدولة هذه الجياد في أجمته، وأغار على مملكته، ورب ملك قتله، ومشى بها على جبينه.
يقوده مسهّداً جفونه
مباشراً بنفسه شؤونه
مسهداً ومباشراً نصب على الحال، والضمائر كلها راجعة إلى سيف الدولة، وهو المعبر عنه بالبحر.
يقول: يقود سيف الدولة هذه الجياد إلى الحروب ليلاً، وقد منع أجفانه من النوم.

وقيل: الهاء في جفونه تعود إلى الملك: أي يسهد جفون الملك بقصده بخيله. وهو يتولى أموره بنفسه، ولا يتكل فيها إلى كفاية غيره؛ لفضل قوته وبعد همته.
مشرّفاً بطعنه، طعينه
عفيف ما في ثوبه مأمونه
أبيض ما في تاجه ميمونه
المنصوبات كلها على الحال. إلا قوله: طعينه فإنه منصوب بمشرف.
يقول: إذا طعن إنساناً فإنه يتشرف بطعنه، لأنه يقال قد نازله وثبت له، وهو عفيف الفرج، أبيض الوجه، مبارك ميمون على من رآه.
بحرٌ يكون كلّ بحرٍ نونه
شمسٌ تمنّى الشّمس أن تكونه
قوله: أن تكونه الهاء فيه خبر كان وقد وصله، والأولى فيه الفصل، فيقال: أن تكون إياه. وذكر الضمير في أن تكونه وإن كان راجعاً إلى قوله: شمس لأنه أراد بها سيف الدولة.
يقول: هو بحر في الجود والهيبة، إذا قيست البحار إليه كانت بمنزلة السمكة في البحر، وهو شمس في إشراقه وعلو همته، ومنزلته وشهرة ذكره، والشمس الحقيقي تتمنى أن تكون مثله.
إن تدع يا سيف لتستعينه
يجبك قبل أن تتمّ سينه
الهاء في سينه تعود إلى سيف. يخاطب صاحباً له، أو نفسه، فيقول: إن دعوته وقلت يا سيف الدولة، تستعين به أجابك قبل أن تلفظ بالسين، من يا سيف.
وقيل: هو خطاب لسيف الدولة: أي إن دعوت سيفك لتستعين به أجابك قبل إتمام السين منه.
أدام من أعدائه تمكينه
من صان منهم نفسه ودينه
من فاعل أدام، وأراد به الله تعالى.
يقول: أدام الله تمكينه، كما صان منهم نفسه ودينه: أي حال بينهم وبينه من أن ينالوه بطعن في نفسه ودينه.
وقال في ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين وثلاث مئة، يمدحه ويهنئه بعيد الأضحى، وأنشده إياها في ميدانه بحلب، تحت مجلسه، وهما على فرسيهما ويذكر أسره لابن الدمستق وفيها يفتخر بنفسه وشعره:
لكلّ امرئٍ من دهره ما تعوّدا ... وعادات سيف الدّولة الطّعن في العدا
يقول: كل إنسان يجري على ما تعود من دهره، وعادة سيف الدولة التي لا ينفصل عنها، أن يطعن أعداءه، فهو جار عليه.
وأن يكذب الإرجاف عنه بضدّه ... ويمسي بما تنوي أعاديه أسعدا
الإرجاف: خوض العامة في الإخبار عن الملوك بالسيئ. وقيل: هو مقدمة الكون.
يقول: من عادته أيضاً أن يكذب إرجاف أعدائه عنه بضد ما أرجفوا، فإذا نووا على إيقاع شر به عاد ما تمنوه عليهم، فيصير هو أسعد من أعدائه. بما نووا عليه. وروى: بما تحوي وتنوي.
وربّ مريدٍ ضرّه، ضرّ نفسه ... وهادٍ إليه الجيش، أهدى وما هدى
الهاء في ضره لسيف الدولة، وفي نفسه للمريد، وهاد: من قولهم: هديته الطريق، والجيش: نصب بهاد وضره: بمريد. وأهدى: من الهدية.
يقول: رب إنسان أراد أن يضره، ضر نفسه ! وعاد كيده إليه، وهذا من قوله تعالى: " وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلا بِأَهْلِهِ " . ومنه قول الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريّاً ومن قعر الطّويّ رماني
أي عاد رميه إليه، مثل من يرمي حجراً من قعر بئر، فيعود على رأسه.
ورب قائد هدى إليه جيشاً، فكأنه بعث إليه هدية وغنيمة.
ومستكبرٍ لم يعرف الله ساعةً ... رأى سيفه في كفّه فتشهّدا
يقول: رب كافر مستكبر عن طاعة الله تعالى، لم يؤمن ساعة، لما رأى سيف الدولة وفي يده سيفه أسلم، وتشهد: أي أقر بشهادة التوحيد.
ويجوز أن يكون ساعةً متعلق بقوله: رأى السيف في يده، ساعةً، ووقتاً، فأسلم.
هو البحر غص فيه إذا كان ساكناً ... على الدّرّ واحذره إذا كان مزبداً
يقول: هو بحر، فإذا كان ساكناً فغص فيه، واستخرج منه الدر، وإذا كان هائجاً مزبداً فاحذره ولا تقربه، فتغرق فيه. يعني: استمنح منه الرغائب في حال السلم، واحذر من أن تلقاه محارباً، فإنه يهلكك. وهو وقوله:
سل عن شجاعته وزره مسالماً
فإنّي رأيت البحر يعثر بالفتى ... وهذا الّذي يأتي الفتى متعمّداً
يقول: هو أشد من البحر بأساً؛ لأن البحر إنما يصيب الإنسان اتفاقاً، فربما سلم منه، وإن باعد منه لم يقصده، وهذا البحر يقصد إلى قرنه عن عمد، ويهلكه عن قصد، فيكون يعثر بمعنى يصيب.
وقيل: معناه البحر ليس هو مكنه على قصد مكان غير مكانه، وهذا البحر يقصد العدو ويهلكه، وهو قريب من الأول.

وقيل: لما سوى بين البحر وبين سيف الدولة من حيث الغضب والسكون فضله على البحر فقال: ما يفعله سيف الدولة في حالتي الغضب والسكون، فهو عن قصد وإرادة، وما يفعله البحر لا يكون عن قصد وإرادة، وليس إغناء البحر من يقصده. بما فيه من الدر عن قصد، وكذلك إهلاكه في حال الاضطراب، فيكون قوله: يعثر بالفتى عبارة عن وقوع الفعل غفلة لا عن قصد وعمد.
تظلّ ملوك الأرض خاشعةً له ... تفارقه هلكى، وتلقاه سجّداً
يقول: إن الملوك تخشع له، فإذا لقيته سجدت له، وإذا خرجت من عنده ففي قلوبهم من الخوف والهيبة ما يقوم لهم مقام الهلاك.
وقيل: أراد به حقيقة الهلاك. يعني إذا فارقوه على سبيل العصيان أهلكهم.
وتحيي له المال الصّوارم والقنا ... ويقتل ما تحيي التّبسّم والجدا
الجدا، والجدوى: العطية.
يقول: يغنم الأموال بالسيوف والرماح، ثم يهبها بتبسمه وجدواه. وقوله: بالتبسم إشارة إلى أنه لا يمكن أن يؤخذ منه على وجه القهر. ومثله لأبي تمام:
إذا ما أغاروا فاحتووا مال معشرٍ ... أغارت عليهم فاحتوته الصّنائع
ذكيٌّ تظنّيه طليعة عينه ... يرى قلبه في يومه ما ترى غدا
تظنيه: أصله تظننه، وهو تفعل من الظن، وتظنيه: مبتدأ: وطليعة عينه: خبره، والجملة: صفة لذكي.
يقول: هو ذكي يعرف الأمر قبل موقعه، فكأن ظنه طليعة لعينه، فهو يرى بقلبه اليوم ما تراه أيها الإنسان بعينك غدا.
وصولٌ إلى المستصعبات بخيله ... فلو كان قرن الشّمس ماءً لأوردا
روى: المستصعبات بالكسر، والفتح. والكسر: على أنه من الفعل اللازم، استصعب: أي صعب. والفتح: من قولك استصعبت الأمر: وجدته صعباً.
يقول: لا يتعذر عليه ما يريده، حتى لو كان قرن الشمس ماء لأورد خيله منه.
لذلك سمّى ابن الدّمستق يومه ... مماتاً، وسمّاه الدّمستق مولداً
الهاء في يومه لابن الدمستق، وفي سماه لليوم، وقوله: لذلك إشارة إلى البيت الذي قبله: أي أنه أسر ابن الدمستق، لأنه يصل إلى كل أمر صعب بخيلة، فسمى ابن الدمستق اليوم الذي أسر فيه مماتاً؛ لأنه دنا من الموت، وأيس من الحياة، وسماه أبوه: مولداً؛ لأنه قد نجا من القتل والموت، فكأنه ولد في ذلك اليوم، أو كأنه عاد إلى الدنيا، بعد أن خرج منها.
سرت إلى جيحان من أرض آمدٍ ... ثلاثاً؛ لقد أدناك ركضٌ وأبعدا
جيحان: نهر في بلاد آمد مسافته بعيدة.
يقول: سريت من آمد إلى جيحان في ثلاث ليال، مع بعد المسافة بينهما، قاله متعجباً. ثم قال: لقد أدناك الركض من جيحان؛ وأبعدك من آمد.
وعن ابن جني قال: أدناك من جيحان، وأبعد أولئك القوم من جيحان؛ مخافةً منك، فيكون مفعول أبعد محذوفاً.
فولّى وأعطاك ابنه وجيوشه ... جميعاً ولم يعط الجميع لتحمداً
يقول: ولى الدمستق لما رآك، وأسلم ابنه وجيشه إليك، ولم يعط جميع ما قلت لتحمده عليه؛ لأنه لم يعطك عن طيب نفس واختيار منه حتى تحمده، ولكن كان ذلك على رغم منه: قهراً وقسراً.
عرضت له دون الحياة وطرفه ... وأبصر سيف الله منك مجرّدا
يقول: لما رآك غلب على قلبه الخوف، وعلى عينه الحيرة، فلم تر عينه غيرك، وحلت بينه وبين حياته، فصار كالميت؛ لبطلان حواسه.
وجعله سيف الله؛ لأنه مجاهد في سبيله ودينه. وروى: وطرقه أي حلت بينه وبين طريقه إلى الحياة.
وما طلبت زرق الأسنّة غيره ... ولكنّ قسطنطين كان له الفدا
الفدا إذا فتح: يقصر، وإذا كسر: يمد.
يقول: لم تطلب الرماح إلا الدمستق ولكن نجا هو وصار ابنه فداءً له.
فأصبح يجتاب المسوح مخافةً ... وقد كان يجتاب الدّلاص المسرّدا
يجتاب: أي يلبس المسوح ويدخل فيها. والمسوح: جمع مسح. والدلاص: الدرع الصافية البارقة. والمسرد: المحكم النسج.
يقول: إن الدمستق لما نجا ترهب خوفاً من سيف الدولة، ولبس المسوح السود، وقد كان يلبس الدروع ويباشر الحروب فترك ذلك.
ويمشي به العكّاز في الدّير تائباً ... وما كان يرضى مشى أشقر أجردا
العكاز، والعكازة: العصا. والدير للرهبان، كالصوامع للعباد.

يقول: لما عجز عن المقاتلة كانت تحمله العصا في الدير؛ لأنه قد ضعف ومرض خوفاً، وأظهر التوبة، وكان قبل ذلك لا يرضي أن يحمله الفرس الأشقر الأجرد، لأنه على ما يقال: يكون أصبر على السير.
وما تاب حتّى غادر الكرّ وجهه ... جريحاً وخلّى جفنه النّقع أرمدا
يقول: لم يتب اختياراً وزهداً في الدنيا، ولكن لما تركت وجهه جريحاً، وأسرت ابنه، وجعل الغبار عينه أرمد، خاف على نفسه فترهب.
فإن كان ينجي من عليٍّ ترهّبٌ ... ترهّبت الأملاك مثنى وموحدا
يقول: إن كان كل من يترهب ينجو من سيف الدولة، فإن جميع الملوك يترهبون اثنين اثنين، وواحداً واحداً ومثنى وموحد نصب على الحال.
وكلّ امرئٍ في الشّرق والغرب بعدها ... يعدّ له ثوباً من الشّعر أسودا
وكل امرئ بعدها: أي بعد حالة الدمستق. وقيل: بعد الوقعة والهاء في له لامرئ، أي يعد لنفسه.
يقول: إن كان ينجيه ترهبه، فكل أحد بعد هذا - في الشرق والغرب - يجعل لنفسه مسحاً أسوداً ليلبسه. يعني لا ينفعه ذلك.
هنيئاً لك العيد الّذي أنت عيده ... وعيدٌ لمن سمّى وضحّى وعيّدا
هنيئاً: نصب على الحال، والعيد: رفع بفعل مضمر يدل عليه هنيئاً: أي ثبت العيد لك هنيئاً.
يقول: هنأك هذا العيد الذي أنت عيد له، لأنه يتجمل بك ويسر بكونك فيه، كما يتجمل الناس في العيد، وأنت أيضاً عيد لكل مسلم يرى هذا اليوم عيداً، فيضحي ويذكر اسم الله تعالى في أيامه.
وقيل: أراد هذا العيد عيد لكل من سمى وضحى، وجعله عيداً: أي عيد لكل مسلم.
ولا زالت الأعياد لبسك بعده ... تسلّم مخروقاً وتعطي مجدّدا
يقول: لا زلت بعده تلقى أعياداً كثيرة وتلبسها، فإذا أبليت عيداً ملبوساً، لبست عيداً جديداً.
فذا اليوم في الأيّام مثلك في الورى ... كما كنت فيهم واحداً كان أوحدا
يقول: هذا اليوم في الأيام بمنزلتك من الأنام، فهو سيد الأيام وأوحدها، كما أنك أوحد الناس وسيدهم.
هو الجدّ حتّى تفضل العين أختها ... وحتّى يكون اليوم لليوم سيّدا
يقول: البخت يسعد كل شيء، حتى الأيام، فيصير اليوم سيدا لليوم، والعين قيل: أراد بها العين الحقيقية. يعني: أن البخت ربما يجعل إحدى العينين أفضل من الأخرى؛ لما يلحق الأخرى من الآفة والنقص فتصير دونها. وقيل: أراد بالعين قول القائل هذا عين الشيء.
أي قد يكون عينان من ثوبين أو درتين وغيرهما - وإن كانا من جنس واحد - تفضل إحداهما على الأخرى؛ لما لها من الحظ، فتكون أوقع في النفس وأعظم للحظ.
فواعجباً من دائلٍ أنت سيفه ... أما يتوقّى شفرتي ما تقلّدا
الدائل: صاحب الدولة.
يقول: ما أعجب أمر الخليفة ؟! حيث جعلك سيفه، كيف لا يخافك فأنت أقوى منه سلطانا ؟!
ومن يجعل الضّرغام للصّيد بازه ... تصيّده الضّرغام فيما تصيّدا
يقول أنت كالأسد، فإذا جعلك الخليفة بازه، كان قد وضع الشيء في غير موضعه ! لأن الأسد لا يصيد لأحد، وإنما يصيد لنفسه، فمن جعله بازه كان آخر أمره أن يعطف عليه يوماً فيجعله من جملة صيده، فكذلك الخليفة، ربما عطفت عليه فأقمته عن ملكه وقعدت مكانه، فيصير صيداً لك.
ومن شرط ويجعل مجزوم به وكان يجب جزم قوله: تصيده لكن حمله على التقديم والتأخير: أي تصيد الضرغام فيما تصيد، من يجعل الضرغام للصيد بازه كقول الشاعر:
إنّك إن تصرع أخاك تصرع
أي إنك تصرع إن تصرع أخاك. وقال أبو الفتح بن جني: قلت له: لم جعلت من في قولك ومن يجعل شرطاً صريحاً ؟ وهلا جعلته بمنزلة الذي، وضمنت الصلة معنى الشرط حتى لا تركب الضرورة، نحو قوله تعالى: " الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمُ باللَّيْلَ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيةً فَلهُمْ أجْرُهُم " . فقال: هذا يرجع إلى معنى الشرط والجزاء وإنما جئت بلفظ الشرط صريحاً؛ لأنه أوكد وأبلغ، قال: وأردت الفاء في قوله تصيده وحذفتها وهذا جائز.
رأيتك محض الحلم في محض قدرةٍ ... ولو شئت كان الحلم منك المهنّدا
يجوز أن يكون متصلاً بما قاله: أي أنك مع قدرتك الظاهرة تعامل الخليفة بالحلم. ولو شئت جعلت مكان الحلم السيف، ويجوز ألا يكون متصلاً به. أي حلمك عن الجهال عن قدرة، ولو شئت جعلت مكانه سيفاً.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8