كتاب : زهر الأكم في الأمثال و الحكم
المؤلف : اليوسي

و قلت أنا في أمر حدث:
تعلم أنَّ شر الأصدقاء ... صديق لا يدوم على الإخاء
متى ما تلقيه أرضاك بشراً ... و ليس إذا تغيبت ذا وفاء
لعمرك ما الوداد سوى وداد ... يدوم على التداني والتنائي
وفي الأتراب والترب المجلي ... أخاك وفي المسرة والبلاء
وليس أخوك من يبدي ودادا ... بوجهك طاويا مكنون داء
فإن أدبرت أتبعك أعتضاضاً ... بنابيه وعاد من العداء
و قال الآخر:
إنَّ الذي وهو مثر لا يجود حرٍ ... بفاقة تعتريه بعد إثراء
قوله: وهو مثر جملة حالية فصل بها بين الموصول وصلته وذلك قيل؛ والمثري: الغني. وقال الحماسي قيس بن الخطيم الأنصاري:
وكنت أمرء لا أسمع الدهر سبه ... أسب بها إلاّ كشفت غطاءها
متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة ... لنفسي إلاّ قد قضيت قضاءها
يريد: إلاّ قضيتها قضاء فأوقع القلب كما ترى. وقال الآخر:
أقول لمقلتي لمّا التقينا ... وقد شرقت مآقيها بماء
خذن اليوم من نظري بحظ ... فسوف تكونين إلى البكاء
و مثله قول الآخر:
ترفق بدمعك فاستبقه ... فبين يديك بكاءٌ طويل
و قال البحتري بن المغيرة بن أبي صفرة وكان المهلب بن أبي صفرة قد استعمل يزيد على حرب خراسان والمغيرة على خراجها ولم يوله هو شيئا. فكتب إليه:
أقرأ السلام على الأمير وقل له: ... إنَّ المقام على الهوان بلاءُ
أصل الغدو إلى الرواح وإنّما ... أذني وأذن الأبعدين سواءُ
أجفى ويدعى من ورائي جالساً ... ما بالكرامة والهوان خفاءُ
فلما بلغ المهرب ذلك وجد عليه وألزمه بيته فكتب إليه:
جفاني الأمير والمغيرة قد جفا ... و أمسى يريد لي قد أزور جانبه
وكلهم قد نال شبعا لبطنه ... و شبع الفتى ليسؤم إذا جاع صاحبه
فيا عم مهلاً واتخذني لنوبة ... تلوم فإنَ الدهر جم نوائبه
أنا السيف إلاّ أنَّ للسيف نبوة ... و مثلي لا تنبو عليك مضاربه
فرضي عنه وعزل المغيرة وولاه. وقال خالد الكاتب:
أعان طرفي على جسمي وأحشائي ... بنظرة وقفت جسمي على داءِ
وكنت غراً بما يجنى على بدني ... لا علم لي أنَّ بعضي بعض أدواءِ
و أخذه من قول إبراهيم بن المهدي:
إذا كلمتني بالعيون الفواتر ... رددت عليها بالدموع البوادر
فلم يعلم الواشون ما بيننا ... و قد قضيت حاجاتنا بالضمائر
أقاتلتي ظلما بأسهم لحظها ... أما حكم يقضي على طرف جائرِ
فلو كان للعشاق قاض من الهوى ... إذا لقضى بين الفؤاد وناظري
و مثله قول الآخر:
والله يا طرفي الجاني على بدني ... لتطفئن بدمعي لوعة الحزن

ولهذا الشعر قصة طريفة: حكي عن بعض المغنين قال قدم عليَّ فتى حسن الوجه عليه اثر السقم وقال: لي عندك حاجة! قلت: وما هي؟ فأخرج ثلاثمائة دينار وقال: اقبلها مني واصنع لي لحنا في بيتين وغنني بها. فقلت: نعم! حبا وكرامة فأنشد البيتين المذكورين. قال: فصنعت لحنا شجيا ثم غنيته إياه. فأغمي عليه حتى ظننته قد مات ثم أفاق وكأنما نشر من قبر. فقال: أعد عليّ! فناشدته الله في نفسه وقلت: أخشى والله أن تموت. فقال: ليت ذلك قد كان فأستريح! وجعل يتضرع لي حتى رحمته فأعدت الصوت. فصعق صعقة ظننت أن نفسه زهقت فيها. فجعلت أنضح وجهه بالماء. فلما أفاق وضعت دنانيره بين يديه وقلت: انصرف عني فإني لا أحب أن أشرك في دمك. فقال: لا حاجة لي بها ولك عندي مثلها. وأخرج ثلاثمائة أخرى وقال: أعد علي الصوت مرة أخرى وأنا أنصرف عنك. فشرهت نفسي إلى الدنانير وقلت:أفعل على ثلاث شروط. قال: وما هي؟ قال: الأول أن تأكل من الطعام ما تتقوى به؛ والثاني أن تشرب أقداحا من النبيذ تمسك قلبك والثالث أن تحدثني بقصتك فلعل ذلك ينفعك. فقال: نعم. فدعوت بالطعام فأصاب منه ودعوت بالشراب فشرب أقداحا وأنا أغنيه ما يحضرني. فلما رأيت النبيذ شد قلبه غنيت الصوت فطرب وأعته عليه مرارا رضي وسكن. فقلت: حدثني. فقال. أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزها وقد سال العقيق مع أصحاب لي. فخرج فتيات لمثل ما خرجنا إليه. فنظرت إلى فتاة منهن كأنها غصن بان، فعلقتها من وقتي وأطلت إليها وأبصرت هي ذلك مني. فلما تفرق الناس وجدت بقلبي جرحا ولم أعرف لها ولا لصواحبها خبرا. فمرضت لذلك حتى يئس مني أهلي. فخلت بي ظئري وسألتني عن ضري وضمنت لي كتمان السر والسعي فيما يصلح. فأخبرتها خبري، فقالت: لا بأس عليك سيعود المطر ويسيل العقيق فتخرج معك. فإذا رأيتها عرفتني بها فلا أفارقها حتى تقف على موضعها وأوصلك إليها وأسعى في تزوجها. فسكنت نفسي لقولها ولم نلبث أن جاء المطر وسال العقيق. فخرجت مع أصحابي ومعي ظئري وجلسنا مجلسنا الأول بعينه وإذا بالنسوة وفيهن صاحبتي. فأومأت إلى ظئري حتى عرفتها وقلت لها: انطلقي وقولي: يقول لك الفتى: والله لقد أحسن الذي يقول:
رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت ... و قد غادرت جرحا به وندوبا
فمضت وقالت لها ذلك. فقالت: قولي له: لقد احسن القائل واحسن الذي يقول:
بنا مثل ما يشكو فصبرا لعلنا ... نرى فرجا يشفي الفؤاد قريبا
قال: فلما انصرفنا، تبعتها حتى عرفت مكانها، فتلطفت حتى جمعت بيننا على مخالسة، فظهر ما بيننا فحجبت عني ولم أقدر على لقائها. فبلغ ذلك أبي فخطبها من أبيها فقال: لو كان هذا قبل اشتهار حديثها لأسعفته؛ وأما الآن فلا أحقق مقالة الناس فيها بتزويجها منه. فيئست منها ومن نفسي، فخرجت هائما حتى بلغتك. قال المعني المذكور: ثم إنني حضرت مجلس جعفر بن يحيى، فغنيته بشعر الفتى، فقال: ويحكم! ما هذا الصوت وما قصته؟ فقلت: قصة أظرف منه. ثم حدثته بحديث الفتى، فأمر بإحضاره وسأله، فأعاد عليه الحديث كما حدثته فقال له: أنا ضامن لك تزويجها، فطابت نفسه. ثم ركب جعفر إلى الرشيد وحدثه الحديث. فاستظرفه وأمر بإحضارنا جميعا،و سأل الفتى عن حديثه فحدثه وقال لي: غن الصوت فغنيته وطرب له وشرب عليه، وأمر بالكتب إلى عامل الحجاز بأشخاص الرجل وأهله وولده مكرمين. فلما حضروا عنده أعطى الرجل ألف دينار وأمره بتزويج الجارية من الفتى، وأعطى الفتى ألفي دينار، وأمر لي بألف دينار.
وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، من قصيدة:
انظر وإياك الهوى لا تمكنن ... شيطانه من مقلةٍ شوشاء
و قال أيضاً، من هذه القصيدة، يخاطب خالد بن يزيد:
لو سيرت لالتقت الضلوع على أسى ... كلف قليل السلم للأحشاء
ولجف نوار الكلام وقلما ... يبقى بهاء الغرس بعد الماء
و قال أيضاً، من أخرى:
لا تسقيني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ما بكائي

و في إضافة الماء للملام، غرابه أوجبت بعض الهجنة والبرودة في الكلام يحكى إنّه عيب عليه ذلك حتى تحدث أن بعض عصرييه أرسل إليه إنَّ ابعث إلي بشربة من ماء الملام. فقال: حتى تبعث إلي بريشة من جناح الذل. وهذه خطيئة أبشع من الأولى، فإن الاستعارة في جناح الذل مأنوسة الاستعمال قديما وحديثا، ومدركا حسنها وفصاحتها بالذوق دون ماء الملام. وقد وقع له في هذه القصيدة نفسها ما يقرب من هذا، حيث قال:
رأي لو استسقيت ماء نصيحةٍ ... لجعلته رأيا من الآراء
غير إنَّ هذا، وإنَّ كان غريبا، يحسنه أن الرأي والنصيحة تحيا بهما النفوس كما تحيا بالماء الأبدان، ولا كذلك الملام. وقال أبو الطيب أحمد بن حسين المتنبي:
عذل العواذل حول قلبي التائه ... و هوى الأحبة منه في سودائه
و تقدم هذا المنزع وما فيه قبل. وقال أيضاً:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... فإذا انطلقت فأني الجوزاء
وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... ألا تراني مقلة عمياء
و قال الآخر:
إنَّ الحديث جانب من القرى ... ثم المنام بعد ذلك في الذرى
و قال الآخر:
إذا القوم قالوا من لعظيمةٍ ... فما كلهم يدعى ولكنه الفتى
و قال الآخر:
ضاع سعيي وخبت وخابت أعاديك ... و من يبتغي لك الأسواء
واحتملت الحرمان والنقص والأبعاد ... و الذل والعنا والجفاء
وتحملت واصطبرت فلم يبق ... على عوادي الزمان لحاء
أعلى هذه المصيبة صبر ... لا ولو كنت صخرة صماء
و مثله في التشكي قول الآخر:
أسجناً وقيد واشتياق وغربة ... و نأي الحبيب إنَّ ذاك عظيم!
وإنَّ أمرءاً تبقى مواثيق عقده ... على مثل ما لاقيته لكريم
و قول الآخر:
ولقد أردت الصبر عنك فأعاقني ... علق بقلبي من هواك قديم
يبقى على حادث الزمان وريبه ... و على جفائك إنّه لكريم
و قال الآخر:
قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل ... سهر دائم وحزن طويل
و قال الآخر:
وإذا ما الصديق صار عدوا ... كان في الشر أكبر الأعداء
و قال الآخر:
لا تعدن للزمان صديقا ... و اعد الزمان للأصدقاء
و مثله قول الآخر:
ليس بالمنكر انقلاب صديقٍ ... ربما غص شارب بالشراب
لا تصيع مودة من صديق ... فانقلاب الصديق شر انقلاب
و قول منصور الفقيه:
أحذر عدوك مرة ... و أحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الصديق ... فكان أعرف بالمضره
و قوله:
أحذر مودة ماذق ... مزج المرارة بالحلاوة
يحصي الذنوب عليك ... أيام الصداقة للعداوة
و قول الآخر:
كن من صديقك خائفا فلربما ... حال الصديق فصار غير الصديق
و قول أبن الرومي:
عدوك من صديقك مستفاد ... فأقلل ما استطعت من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
و قول الآخر:
دار الصديق إذا استشاط تغيظا ... فالغيظ يخرج من كامن الأحقاد
قول أبن الخالدي:
وأخٍ رخصت عليه حتى ملني ... والشيء مملول إذا ما يرخص
ما في زمانك ما يعز جوده ... إنَّ رمته إلاّ صديق مخلص
و قول المنصور أيضاً:
إذا تخلفت عن صديقٍ ... و لم يعاتبك في التخلف
فلا تعد بعدها إليه ... فإنما وده تكلف
و قول الأنصاري:
إلاّ رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته ساءك ما يفري
لسان له كالشاهد مادت حاضراً ... و بالمغيب مطرور على ثغرة النحر
و قول أبي الطيب:
ومن نكد الدنيا على المرء إنَّ يرى ... عدوا له ما من صداقته بد
و ما يحكى إنَّ كسرى قال يوما لمرازبته: من أي شيء انتم اشد حذراً؟ قالوا: من العدو الفاجر، والصديق الغادر. وقول موسى بن جعفر: اتق العدو وكن من الصديق على حذر، فإن القلوب سميت قلوب لتقلبها. وسيأتي كثير من هذا النمط بعد إنَّ شاء الله تعالى. وقال أبو الطيب:
وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أ يعمى العالمون عن الضياء
و قال أيضاً مادحا:
وإذا مدحت فلا لتكسب رفعة ... للشاكرين على الإله ثناء
وإذا مطرت فلا لأنك مجدب ... يسقى الخصيب وتمطر الادماء

و الادماء:البحر. وقال أيضاً:
إنّما التهنئات للأكفاء ... و لمن يدني من البعداء
وأنا منك لا يهنئ عضو ... بالمسرات سائر الأعضاء
و قال أيضاً من هذه القصيدة يمدح كافورا وكان أسود:
إنّما الجلد ملبس وابيضاض ... النفس خير من ابيضاض القباء
و قال أيضاً:
وما كل من قال قولا وفى ... و لا كل من سيم خسفاً أبى
و قال:
ولا بد للقلب من آلة ... ورأي يصدع صم الصفا
و قال:
فكان على قربنا بيننا ... مهامه من جهله والعمى
و قال:
وماذا بمصر من المضحكات ... و لكنه ضحك كالبكا
و قال:
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
و قال الحماسي محرز الضبي يهجو بني عدي بن جندب، من أبيات:
وإني لراجيكم على بطئ سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاء
واخبر من لاقيت أن قد وفيتم ... و لو شئت قال المخبرون أساءوا
و قال القاسم بن حنبل في بني سنان:
لهم شمس النهار إذا استقلت ... و نور ما يغيره العماء
هم حلوا من الشرف المعلى ... و من حسن العشيرة حيث شاءوا
بناة مكارم وأساء كلمٍ ... دماؤهم من الكلب الشفاء
و إنّما قال ذلك لمّا يزعمون من أنَّ من أصابه الكلب، وهو شبه جنون يصيب من عضه الكلب، ثم سقي دم ملك أو شريف برئ، ومثله قول زهير:
وإنَّ يقتلوا فيشتفى بدمائهم ... و كانوا قديما من مناياهم القتل
و قول الآخر:
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم من الكلب
و قال الحسين بن مطير الأسدي يصف برقا وسحابا:
مستضحك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء
فله بلا حزن ولا بمسرةٍ ... ضحك يراوح بيننا وبكاء
كثرت ككثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تحلب فاضت الأطباء
وكأن عارضها حريق يلتقي ... أشب عليه وعرفج وآلاء
لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لو يبق في لجج السواحل ماء
و للعرب فمن بعدهم في وصف السحاب والبرق والرعد إكثار وإطناب لا يأتي عليه الحصر ولكنا نذكر جملة من مستحسن ذلك ومما كان منه حسن إنَّ يتمثل به. فمن ذلك قول امرئ القيس:
اصاح ترى برقها وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... آمال السليط في الذبال المفتل
و قوله:
اعني على برق أراه وميض ... يضيء حبيا في شماريخ بيض
ويهدأ تارات سناه وتارة ... ينوء كتغتاب الكسير المهيض
وتخرج منه لامعات كأنها ... اكف تلقى الفوز عند المفيض
و قوله:
ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرى وتدر
تخرج الود إذا ما اشجذت ... و تواريه إذا ما تستكر
و هي قطعة أبيات في هذا. وأشجذت: أقلعت. وقوله:
يساجل التؤم اليشكري ... و أواخر الأنصاف للتؤم
و قوله:
أحار ترى بريقا هب وهنا ... كنار مجوس تستعر استعارا
أرقت له ونام أبو شريح ... إذا ما قلت قد هدأ استطارا
كأن هزيره بوراء غيب ... عشار وله لاقت عشارا
فلما أن دنا لقفا أضاح ... و هت أعجاز ريقه فحارا
فلم يترك بذات السر ظبيا ... و لم يترك بجلهتها حمارا
و قال عبيد أبن الأبرص:
يا من لبق أبيت الليل ارقبه ... في عارض كمضي الصبح لماح
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
كأن ريقه لمّا علا شطبا ... اقراب ابلق ينفي الخيل رماح
ينزع جلد الحصى أجش مبترك ... كأنه فاحص أو لاعب داح
فمن بنجوته كمن بعقوته ... و المستكن كمن يمشي بقرواح
كأن فيه عشار جلة شرفا ... شعثا لهاميم قد همت بارشاح
هدلا مشافرها بحا حناجرها ... تزجا مرابعها في صحصح ضاح
و قول كثير:
فالمستكن ومن يمشي بمروته ... سيان فيه ومن بالسهل والجبل
و قول الحماني:
دمن كأن رياضها ... يسبيان أعلام المطارف
وكأنما غدرانها ... فيها عشور في مصاحف
وكأنما أنهارها ... يهتز بالريح العواصف
طرر الوصائف يلتقين ... بها إلى طرر الوصائف

باتت سواريها تمخض ... في رواعدها القواصف
ثم انبرت سحا ... كباكية بأربعة ذوارف
وكأن لمع بروقها ... في الجو أسياف المثاقب
و قول عبيد:
سقى الرباع مجلجل ... الأكناف لمع بروقه
جون تكفكفه الصبا ... و هنا تمريه خريقه
مري العسيف عشاره ... حتى إذا درت عروقه
ودنا يضيء ربابه ... غبا يضرمه حريقه
حتى إذا ما ذرعه ... بالماء ضاق فما يطيقه
هبت له من خلفه ... ريح الشماسية تسوقه
حلت عزاليه الجنوب ... فثج واهيه خروقه
و قال كثير:
تسمع الرعد في المخيلة منها ... مثل هزم القرون في الاشوال
وترى البرق عارضا مستطيرا ... مرح البلق جلن في الإجلال
أو مصابيح راهب في يفاع ... سغم الزيت ساطعات الذبال
و قوله:
اهاجك برق آخر الليل واصب ... تضمنه فرش الحيا فالمسارب
يجر ويستأني نشاطا كأنه ... بغيقه حاد جلجل الصوت جالب
تألق واحمومى وخيم بالربى ... احم الذرى ذو هيدب متراكب
كما اومضت بالعين ثم تبسمت ... خريع بدا منها جبين وحاجب
و قول عبد الله بن المعتز:
ومزنة جاد في أجفانها مطر ... فالروض منتظم والقطر منتثر
ترى مواقعه في الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستتر
و قوله أيضاً:
كأن رباب الجون والفجر ساطع ... دخان حريق لا يضيء له جمر
و قول أبي الغمر:
نسجته الجنوب وهو صناع ... فترقى كأنه حبشى
و قول الآخر:
ما ترى نعمة السماء على الار ... ض وشكر الرياض على الأمطار
و قول الآخر:
وموقرة بثقل الماء جاءت ... تهادي فوق أعناق الرياح
فجاءت ليلها سحا ووبلا ... و هطلا مثل أفواه الجراح
و قول الآخر:
بدا البرق من نحو الحجاز فشاقني ... و كل حجازي له البرق شائق
سرى مثل نبض العرق والليل دونه ... و أعلام أبلى كلها والاسالق
و قول الطائي ومنه اخذ:
إليك سرى بالمدح ركب كأنهم ... على العيس حيات اللصاب النضانض
تشيم بروقا من نداك كأنها ... و قد لاح أولاها عروق نوابض
و قول الآخر:
أرقت لبرق آخر الليل يلمع ... سرى دائبا منها يهب ويهجع
سرى كإقتداء الصبر والليل ضارب ... بأوراق والصبح قد كاد يسطع
و قول الآخر:
أرقت لبرق سرى موهنا ... خفي كغمزك بالحاجب
كأن تألقه في السماء ... يدا حاسب أو يدا كاتب
و قول أبن المعتز:
رأيت فيها برقها منذ بدت ... كمثل طرف العين أو قلب يجب
ثم حدت بها الصبا حتى بدا ... فيها من البرق كأمثال الشهب
تحسبه فيها إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعة يضرب
وتارة تحسبه كأنه ... ابلق مال جله حين وثب
حتى إذا ما رفع اليوم الضحى ... حسبته سلاسلا من الذهب
؟؟و قول الآخر:
نار تجدد للعيدان نضرتها ... و النار تلفح عيدان فتحترق
و قول الطائي:
يا سهم للبرق الذي استطارا ... ثاب على رغم الدجى نهارا
آض لنا ماء وكان نارا
وقول عبد الله بن عبد الله بن طاهر:
أما ترى البرق قد رقت حواشيه ... و قد دعاك إلى اللذات داعيه؟
وجاد بالقطر حتى خلت إنَّ له ... إلفا ناه فما ينفك يبكيه
و مثله قول الآخر:
كأن سحاب الغر غيبن تحتها ... حبيبا فما ترقى لهن مدامع
و تتبع الشعر في هذا يطيل فلنمسك العنان. وقال أبو الأسود الدؤلي:
وما طلب المعيشة بالتمني ... و لكن القي دلوك في الدلاء
تجيء بملئها طورا وطورا ... تجيء بحماة وقليل ماء
و سيأتي إتمام هذا المنزع بعد إن شاء الله تعالى. وقال أبن نقطة:
لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في الضراء والسراء
فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
و قال أبو سعيد الخوارزمي في أبي بكر الخوارزمي الشاعر:
أبو بكر له أدب فضل ... و لكن لا يدوم على الوفاء
مودته إذا دامت لخل ... فمن وقت الصباح إلى المساء

و قال عبد الله بن رواحة الأنصاري يوم خرجوا إلى مؤتة وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بعد زيد وجعفر رضي الله عنهم أجمعين:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم ... و لا ارجع إلى أهلي وراء
قوله: فشأنك فانعمي يريد إنّه قضى الوطر من ركوبها ولم تبق له تباعة على ظهرها وهي كناية على إنّه لا يحب المرجع ولا يشتهي مذهبا على ذلك الموضع. ومن ثم قال: ولا ارجع إلى أهلي بجزم الفعل قصدا للدعاء كأنه يقول: اللهم لا ترجعني إلى أهلي وأستشهدني! وما ذكره في الناقة قد تداوله الشعراء كثيرا فمن ذلك قول الشامخ في عرابة الأوسي:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعة لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
إذا بلغتني وحملت رحلي ... إليه فاشرقي بدم الوتين
ومثل سراة قومك لم يجاروا ... إلى ربع الرهان ولا الثمين
و كان الشماخ قدم المدينة فقال له عرابة: ما أقدمك؟ فقال: قدمت لأمتار. فملأ له عرابة رواحله تمرا وبرا وأعطاه غير ذلك فقال فيه ما تقدم. وقول ذي الرمة يمدح بلال بن أبي رباح:
إذا أبن أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأس بين وصليكِ جازرُ
غي إنّه يعاب على هذين الشاعرين أن جعلا جزاء الراحلة التي بلغتهما ذلك المأمول العظيم والمطلب الخطير شرا، وما كان ينبغي لهما أن ينظرا لها عند الاستغناء عنها ويكافئها خيرا بما قضيا منها كما أشار إليه أبلغ البلغاء وأحكم الحكماء صلى الله عليه وسلم حيث وردت المرأة راكبة على ناقته فقالت: إني نذرت إن نجوت عليها أن أنحرها. فقال صلى الله عليه وسلم : بئس ما جزيتها! لا نذر في معصية الله ولا نذر للإنسان في غير ماله. أو كما قال صلى الله عليه وسلم وعلى هذا المنزع العجيب النبوي كان قول أبن رواحة السابق. وقول أبي نواس في محمد الأمين بن هارون الرشيد، وأوضح هذا المعنى:
وإذا المطي بنا بلغنا محمدا ... فظهورهن على الرجال حرامُ
قربننا من خير من وطئ الثرى ... فلها عينا حرمة وذمامُ
و قول الفرزدق:
متى تردى الرصافة تستريحي ... من التهجيري والدبر الدوامي
و لهذا الشعر قصة تذكر بعد إن شاء الله تعالى. والعذر للأولين أن الدعاء عليها في نحو ذلك أبلغ في التنبيه على الاستغناء عنها وعدم الالتفات إليها. وليس هذا المعنى ملحوظا في قصة المرأة فليس يقاس عليه. ومن هذا الباب قول السلامي:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصار المطايا أن يلوح لها القصرُ
و لعل السابق إلى هذا المعنى الأعشى القيسي في قصيدته التي توجه بها إلى النبيصلى الله عليه وسلم حيث يقول:
متى ما تناخي عند باب أبن هاشم ... تراحي وتلقي من فواضله يدا
فضمن لها عند النزول بابن هاشم صلى الله عليه وسلم أن يخلي عن ظهرها ويريحها من كد الأسفار إذ لا مطلب ورائه ولا حاجة إلى أحد سواه. وقال أبو بكر بن دريد في مقصورته:
والناس كالنبت: فمنهم رائق ... غضٌ نضيرٌ عوده مر الجنى
ومنه ما تقتحم العين فإنَ ... ذقت جناه انساغ عذبا في اللهى
و هذا المقصورة جلها أمثال وحكم، وهي مشهورة لا حاجة إلى ذكرها. وقال الآخر:
يقولون هذه أم عمرو قريبةٌ ... نأت بك ارضٌ نحوها وسماءُ
ألا إنّما قرب الحبيب وبعده ... إذا هو لم يوصل إليه سواءُ
و قال صالح بن جناح:
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه ... و لا خير في وجهٍ إذا قل ماؤه
و قال الآخر:
ورب دنيةٍ ما حال بيني ... و بين ركوبها إلا الحياءُ
إذا رزق الفتى وجهاً وقاحا ... تقلب في الأمور كما يشاءُ
و تقدم شيء من هذا في قولهم: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت. وقال الآخر:
إذا جار الأميرُ وكاتباه ... و قاضي الأرض داهن في القضاءِ
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ ... لقاضي الأرض من قاضي السماءِ!
و قال زهير:
وإنَّ الحق مقطعه ثلاثٌ ... يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ
و يروى أنَّ عمر رضي الله عنه لمّا سمع هذا البيت جعل يردده استحسانا له وتعجبا من معرفته بالحقوق وإبانته أحكامها وإقامته أقسامها. وقال الآخر:

خير ما ورث الرجال بينهم ... أدب صالح وحسن ثناءِ
و قال سابق البربري:
موت التقي حياة لا انقطاع لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياءُ
و مثله قول الآخر:
أخو العلم حي خالد بعد موته ... و أوصاله تحت التراب رميمُ
وذو الجهل ميتٌ وهو يمشي على الثرى ... يعد من الأحياء وهو عديمُ
و قال أبن الرومي:
إنَّ لله بالبرية لطفا ... سبق الأمهات والأباءَ
و قال أيضاً:
أنت عيني وليس من حق عيني ... غض أجفانها على الأقذاءِ
و قال لبيد:
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألانها الإصباح والامساءُ
و قال عبد الله بن عيينة:
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الأعداءِ
و مثله في ذكر الشماتة قول الآخر:
إذا ما الدهر جر على أناس ... بكلكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا: أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
و قال عدي بن زيد:
أيها الشامت المعير بالدهر ... أأنت المبرأ الموفور؟
أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... بل أنت جاهل مغرورُ
من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفيرُ
و قال منصور الفقيه:
يا من يسرُ بموتي ... إذا أتاه البشيرُ
أليس من كان بمثلي ... إلى مصيري يصيرُ
و تمثل الشافعي رضي الله عنه، حين بلغه دعاء من دعا عليه بالموت ببيتي الشاعر:
تمنى رجال أن أموت فإنَ أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحدِ
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قدِ
و قال الحماس في الملح:
وما العيش إلاّ أكلة وتشرق ... و تمر كأكباد الجراد وماءُ
التشرق بالراء: القعود للشمس، والتمر الذي كأكباد الجراء: الصيحاني. وقال الآخر:
من فاته العلم واخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حدٍ سوا
و لنقتصر على هذا القدر من هذا الباب، فإنَ فيه كفاية إن شاء الله تعالى. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الباء
بحث عن حتفه بظلفه
البحث: التفتيش. والحتف: الهلاك. والظلف بكسر الظاء للشاة والبقرة والظبي بمنزلة القدم لنا. واستعاره عمرو بن معدي كرب للخيل في قوله: وخيلٍ تطأكم بأظلافها.
يضرب هذا المثل في الحاجة تؤدي صاحبها إلى التلف وجناية الإنسان على نفسه. وأصله أنَّ ما عزة لبعض العرب كانوا أرادوا ذبحها، فلم يجدوا شفرة يذبحونها بها فجعلت تنبش برجلها في الأرض حتى استخرجت بنبشها شفرة كانت ضاعت لهم في الأرض، فذبحوها بها وقالوا: بحثت عن حتفها بظلفها. فذهبت مثلا. وقال الفرزدق في ذلك:
وكان يجير الناس من سيف مالكٍ ... فأصبح يبغي نفسه من يجيرها
وكان كعنز السوء قامت بظلفها ... إلى مدية تحت الثرى تستثيرها
و قال أبو الأسود:
فلا تكُ مثل التي استخرجت ... بأظلافها مدية أو بفيها
فقام إليها بها ذابحٌ ... و من تدع يوما شعوبٌ يجيها
أبخر من الأسد.
البخر بفتح الخاء المعجمة: نتن الفم وغيرها. يقال: بخير بالكسر، فهو أبخر وهي بخراء. وعلى هذا فالقياس أن لا يصاغ التفضيل من لفظه، بل يقال: أشد بخرا. فإنَ صح ورود لفظ المثل عنهم كان من الشواذ: وإلاّ فهو لحن. والأسد معروف، وهو مشهور ببخر الفم وبه يضرب المثل فيه ومن ثم قال البلغاء: لو قيل: جاء أسد، وأريد رجل أبخر، كان استعارة صحيحة، غير إنّها لا تكون مقبولة لعدم استعمالها: فإنَ الوجه فيها يشترط أن يكون بينا، ولا يكون بحيث يجعلها كاللغز. ومن الأمثال المشهورة للعامة قولهم: من يستطيع إنَّ يقول للأسد أنت أبخر الفم؟ يضربونه عندما يرون عيب أو أذى ممن لا يقدر أن يذكر له ذلك وينبهه عليه ويقبح له، أو تصدر كلمة باطلة مما لا يقدر أن ترد عليه. وكان من أصل ذلك مثل آخر لهم وهو قولهم: يبرأ الجرح السوء، ولا يبرأ الكلام السوء. وسيأتي.
أبخر من صقر
البخر: تقدم. والصقر، بفتح الصاد المهملة وسكون القاف: كل شيء يصيد من البزاة والشواهين. جمعه صقر بالضم، وأصقر وصقور وصقورة وصقار وصقارةٍ. ويقال تصقر الرجل: صاد بالصقر وهو أيضاً مما يوصف ببخر الفم. قال الشاعر:
فله لحية تيس ... و له منقار نسر

وله نكهة ليثٍ ... خالطت نكهة نسر
و النكهة: رائحة الفم.

البدل أعور
بدل الشيء بفتحتين والدال المهملة، وبدله بالكسر وبديله: خلفه والأعور معروف. يضرب هذا المثل في سوء الخلف والرجل المذموم يخلف بعد الرجل المحمود. وأصله أنَّ يزيد بن المهلب كان على خراسان ثم عزل عنها وولي مكانه قتيبة بن مسلم الباهلي وكان شيخا أعور شحيحا، فقال الناس: هذا بل أعور! فذهب مثلا لكل ما لا يرضى بدلا. وفي ذلك قال بعض الشعراء:
كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها ... وكل باب من الخيرات مفتوحُ
حتى أتانا أبو حفص بأسرته ... كأنما وجهه بالخل منضوحُ
و فيه قال أبن همام السلولي:
أقتيب قد قلنا غداة أتيتنا ... بدل لعمرك من يزيد أعورُ
قلت: ويظهر لي أنَّ المثل قديم ويد على ذلك ما نسبه أهل السيرة لدحية بن خليفة إنّه قال حيث أتى قيصر:
ألا هل أتاها على نأيها ... بأني قدمت على قيصرِ
فغررته بصلاة المسيح ... و كانت من الجوهر الأحمرِ
وتدبير ربك أمر السماء ... و الأرض فأغضى ولم ينكرِ
وقلت تقر ببشرى المسيح ... فقال سأنظر قلت أنظرِ
فكاد يقر بأمر الرسول ... فمال إلى البدل الأعورِ
فشك وجاشت له نفسه ... و جاشت نفوس بني الأصفرِ
على وضعه بيديه الكتاب ... على الرأس والمنخرِ
فأصبح قيصر من أمره ... بمنزلة الفرس الأشقرِ
و الله اعلم.
برح الخفاء
يقال: برح الرجل مكانه بالكسر إذا زال عنه. وأكثر استعماله مع النفي ونحوه، كقوله:
وما برحت أقدامنا من مكاننا ... ثلاثتنا حتى أزيروا المنائيا
و قد يحذف لفظا كقول الآخر:
وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقا مجيدا
والنتطق: ذو السلاح، والمجيد بالضم: صاحب الجواد من الخيل. ومن هذا قولهم لا براح قال:
من صد عن نيرانها ... فأنا أبن قيس لا براحُ
و يقال للأسد والرجل الشجاع حبيل براح، بمعنى أنَّ كل منهما كأنه شد بالحبال فلا يبرح مكانه ولا يزول. ويقال : برح الخفاء بالكسر ومعناه وضح الأمر. قال بعض اللغويين: معناه ظهر الأمر وصار كأنه في براح وهو المكان المستوي من الأرض. ويقال: البراح من الأرض ما كان ظاهرا مكشوفا؛ ولذا قيل للشمس براح، وهو اسم معدول مكسور قال الراجز:
هذا مقام قدمي رباح ... غدوة حتى دلكت براح
و رباح اسم ساق كان يسقي لإبله. يريد إنّه أقامعاى السقي حتى دلكت الشمس أي مالت. وقيل: برح الخفاء أي ذهب السر وظهر. والخفاء هنا: السر. وقيل: الخفاء المتطأطئ من الأرض والبراح والمرتفع منها الظاهر. فإذا قيل: برح الخفاء فكأنه قيل أرتفع المتطأطئ حتى صار كالمرتفع الظاهر. وقال بعضهم: الخفاء ما غاب عنك. وقال بعض الأئمة: يقال: برح الشيء يبرحه إذا انتحى وذهب وبرح الخفاء: ذهب؛ وأبرحته أنا: أذهبته. قال أبن دريد: وأوّل من قاله شق الكاهن. وقال حسان رضي الله عنه:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاءُ
أبرد من حبقر.
أبرد: من البرودة وهي معروفة وحبقر أصله حب قر والحب: حب الغمام، والقر: البرد. ويقال : أبرد من حب قر وأبرد من عبقر ومن عب قر. والعب من أسماء البرد.
بر الكريم طبعٌ، وبر البخيل دفعٌ.
البر: الحسان والفضل. ولا شك أنَّ الكريم ينبعث منه البذل طيبة به نفسه، بل يجد في ذلك أعظم اللذات، والبخيل لا يصدر عنه عطاء إلاّ عناء ومقاساة من نفسه حتى لا يكاد تسمع نفسه بالعطاء إلاّ عن رغبة أو رهبة كتوقي الأذى في النفس والمال والعرض. وهذا المنى بين مشروح في أبواب الكرن والبخل، مشهور لا حاجة إلى ذكره وما قيل فيه.

ومن الشديد الصعب في هذا المقام ما ذكره صاحب التشوق رحمه الله تعالى في مناقب الشيخ أبي العباس السبتي رضي الله عنه عن أبي زيد عبد الرحمن بن يوسف الحسني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أريد أن أراك في النوم كل ليلة. فقال: هذا لا يمكن فإني مطلوب في المشرق والمغرب. فشكوت له حالتي فقري، فقال لي: البخل أضر بك. قال: فمر بنا أحمد بن دوناس، وهو رجل صالح من الأولياء الأخفياء من أهل أغمات، لا يمسك شيئاً وربما تجرد عن أثوابه فيؤثر بها ويستتر بالأبواب. فسلم علينا وانصرف. فقلت: يا رسول الله وهذا؟ فقال: البخل اضر به. فقلت: يا رسول الله بين لي ما هذا البخل. فقال لي: لأقولن لك فيه قولا ينقله إليكم علماؤكم، إذا خطر لأحدكم خاطر بالعطاء ثم عقبه خاطر آخر بالمنع فالتردد في الخاطر الأول بخل. قال : فسألته عن أبي العباس السبتي، وكنت سيئ الاعتقاد فيه فتبسم ثم قال لي: هو من السباق. فقلت له: بين لي. فقال لي: هو ممن يمر على الصراط كالبرق. قال: فأصبحت وخرجت فلقيت أبى العباس السبتي فقال: ما سمعت وما رأيت؟ فقلت له: دعني. فقال: والله لا تركتك حتى تعرفني. فذهبت معه إلى حانوت أبن مساعد، فأنشأت أحدثه إلى أن قلت له: التردد في الخاطر الأول بخل. فصاح وغشي عليه، ثم قال: كلمت الصفا من المصطفى، وصار متى يذكر هذا الكلام يغشى عليه. انتهى ملخصا. فليعتبر العاقل بهذه القصة وهذا الكلام ولينظر في أحوال نفسه وأحوال غيره كيف يلقى من نفسه عندما يهم بخير غاية التردد والمنازعة والعناء، حتى إذا أعطى قليلا واكدى أهمته نفسه أنه جواد كريم رؤوف رحيم. وليته عرف مقامه وتقصيره فيتوب أو يستغفر وينكسر، عسى أن يتخلص مما ورد على البخل من الوعيد الشديد والذم الأكيد! والله المستعان.

أبر من هرة.
البر يطلق على الخير وعلى الاتساع في الإحسان كما مر، وعلى الصلة وعلى الجنة وعلى الطاعة وعلى الصدق وعلى ضد العقوق وهو المراد هنا. يقال منه: بررته بكسر الراء وفتحها براً ومبرة، أبره، فأنا بار، وهو مبرور. والهرة بكسر الهاء معروفة وهي الأنثى؛ والذكر هر. وإنّما وصفت الهرة بالبر لأنها تؤكل أولادها محبة لهن، كما قال الشاعر:
أما ترى الدهر وهذا الورى ... كهرة تأكل أولادها
و هي أيضاً توصف بالعقوق، وسيأتي.
بالرفاء والبنين.
الرفاء بكسر الراء والمد على مثال كساء: الاتفاق والالتئام. ويستعمل عند تهنئة المتزوج والدعاء له بأن يرزق اجتماع الشمل ويرزق الأولاد. والرفاء مأخوذ من قولك: رفأت الثوب ورفوته يهمز ولا يهمز. ومعناه لأمته وضممت بعضه إلى بعض. يقال: من اغتاب خرق، ومن استغفر رفأ؛ وقال أبن هرمة:
بدلت من حدّ الشبيبة ... و الإبدال ثوب المشيب أردؤها
ملاءة غير جد واسعة ... أخيطها مرة وأرفؤها
و استعمل الرفاء والمرافات في الموافقة. قال الآخر:
ولمّا أن رأيت أبا رويم ... يراعيني ويكره أن يلاما
و بعض اللغويين يجعل هذا المعنى أصلا للمثل المذكور. وقيل هو دعاء بالسكون والطمأنينة أخذا من قولهم: رفوت الرجل أي سكنته من الرعب. قال أبو خراش:
رفوني وقالوا: يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم همُ
و يقال: رفأت الرجل ترفيئا: قلت له بالرفاء والبنين وتزوج عقيل بن أبي طالب امرأة فقيل: بالرفاء والبنين. فقال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رفأ أحدكم أخاه فليقل: بارك الله لك وبارك عليك!
برق لمن لا يعرفك.
يقال : برق الرجل وبرق وأبرق إذا أوعد وتهدد. ويقال أيضاً : رعد وبرق وأرعد وأبرق. قال أبن أحمر:
يا جل ما بعدت عليك بلادنا ... فأبرق بأرضك ما بدا لك وأرعد!
و قال الكميت:
أبرق وأرعد يا يزيد ... فما وعيدك لي بضائر!
و قال المتلمس:
إذا جاوزت من ذات عرق ثنية ... فقل لأبي قابوس ما شئت فارعد!

و أنكر الأصمعي أبرق وأرعد رباعيا. ذكر القالي في نوادره عن أبي حاتم قال : قلت للأصمعي: أتقول في التهدد أبرق وأرعد؟ قال: لا لست أقول ذلك إلاّ أن أرى البرق أو اسمع الرعد. قلت: فقد قال الكميت أبرق وأرعد، البيت فقال، الكميت جرمقاني من أهل الموصل ليس بحجة؛ والحجة الذي يقول: إذا جاوزت من ذات عرق، البيت. فأتيت أبا يزيد فقلت له: كيف تقول من الرعد والبرق فعلت السماء؟ قال : رعدت وبرقت أو أرعدت وأبرقت من الرعد والبرق قلت: فمن التهدد؟ قال : رعدَ وبرقَ، وأرعد وأبرق، فأجار اللغتين جميعا.و أقبل إعرابي محرم فأردت أن أسأله، فقال لي أبو زيد: دعني فأنا أعرف بسؤاله. فقال أبو زيد: يا إعرابي، كيف تقول: رعدت السماء وبرقت أو أرعدت وأبرقت؟ فقال: رعدت وبرقت. فقال أبو زيد فكيف تقول للرجل من هذا؟ فقال: أمن الجخيف تريد؟ يعني التهدد. قال : نعم. فقال: أقول: رعدَ وبرقَ وأرعد وأبرق. ومعنى المثل: برق وتهدد على من لا يعرف موقع وعيدك ومنتهى تهديدك! وأما أنا فقد عرفتك. يضرب عند جواب الجبان إذا جعل يخوف ويتهدد. قد ذكر في ه المثل الآخر، وهو قولهم: برق ورعد، فلا حاجة إلى إعادته.

أبرما قرونا.
البرم بفتحتين: من لا يدخل مع القوم في الميسر وهو ذم عند العرب غاية؛ كما أنَّ الدخول فيه مدح. قال متمم:
ولا برم تهدى النساء لعرسه ... إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
هلا سألت بني ذبيان ما حسبي ... إذا الدخان تغشى الأشمط البرما؟
يقول إنّه يغشى مستوقد القوم ليصيب مما نحروا، لأنه برم لا تسخو نفسه بالأخذ مع القوم والخول معهم؛ وجمعه أبرام. قال دريد بن الصمة:
إذا عقب القدور عددن مالا ... أحب حلائل الأبرام عرسي
و عقب القدور: ما يبقى في أسفلها فاضلا ولا تعد مالا إلاّ عند اشتداد الأمر؛ وحينئذ تبقى زوجات الأبرام لا مرقة عندهن فيحببن عرسي لمّا عندها من المرق والخير. وبرم الرجل بالكسر، يبرم. قال النابغة:
لا يبرمون إذا ما الأفق جلله ... برد الشتاء من الامحال كالأدمِ
و يقال في ضده: يسر الرجل ييسر أي ضرب بالقداح. قال علقمة:
وقد يسرت إذا ما الجوع كلفه ... معقب من قداح النبع مقروم
و رجل يسر والجمع أيسار قال الشاعر:
وراحلة نحرت لشرب صدق ... وما ناديت أيسار الجزورِ
وقال الحماسي:
هينون لينون أيسارٌ ذوو كرمٍ ... سواسُ مكرمةٍ أبناء أيسارِ
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
و قال عنترة في معناه:
ومشك سابغةٍ هتكت فروجها ... بالسيف عن حامي الحقيقة معلمِ
ربذٍ يداه بالقداح إذا شتا ... هناك غايات التاجر ملومِ
و اربذ المسرع. يريد إنّه يسرع إلى ضرب القداح إذا شتا؛ والتجار: باعة الخمر. ويريد إنّه مع ذلك يشرب الخمر ويسقيها في ثمنها حتى يعطي غاية ما يطلبه التاجر،و هو معنى هتك غاياتهم.

وقلت عجوز أعرابية لثلاث بنات لها: لتصف لها كل منكن من تحب من الرجال! فقالت الكبرى: أريده أورع بساما أحذ مجذاما سيد ناديه وثمال عافيه ومحسب راجيه فناؤه رحب وقياده صعب. وقالت الوسطى: أريده عاي السناء، مصمم المضاء، عظيم نار، متمم أيسار، يفيد ويبيد ويبدئ ويعيد، في الأهل صبي وفي الجيش كمي، تستعبده الحليلة وتسوده الفضيلة. وقالت الصغرى: أريده بازل عام، كامهند الصمصام، قرانه حبور، ولقاؤه سرور، إن ضم قضقض، وإن دس أغمض وإن أخل أحمض. فقالت أمها: فض فوك! لقد فررت لي شرة الشباب جذعة. والأورع: الكريم وقيل الجميل. والأحذ: الخفيف السريع. والمجذام: القاطع للأمور من الجذم وهو القطع. والنادي: المجلس. والثمال: الغياث. والعافي والمعتفي: من جاء طالبا للمعروف. والفناء: الرحب الواسع. وصعب القياد من الرجال: العزيز الممتنع، وأصله في الدابة. والسناء بالمد: الشرف؛ والمصمم: الماضي في الأمور لا يثنيه شيء. والأيسار جمع يسر كما مر. والكمي: الشجاع. وحليلة الرجل: زوجه. والفصيلة: رهط الرجال المقربون. وبازل عام: التام الشباب، وأصله في الإبل، وستذكر بعد أسنانها إن شاء الله تعالى. وقضقض: كما يقضقض الأسد فريسته وهو أن يحطمها فيسمع لعظامها صوت؛ ودس الشيء: دفعه؛ والاخلال والأحماض: مثل، وسيأتي تفسير ذلك بعد أن شاء الله تعالى؛ والقرون فعول من قرن للمبالغة: يقال: قرن بين أحدين إذا جمع بينهما، فهو قارن وقرون وقرآن.
وأصل المثل أنَّ رجلا كان برما فدخل على امرأته فوجدها تأكل لحما فجعل يأكل بضعتين. فقالت له: أبرما قرونا، فذهبت مثلا. والمعنى أن تكون برما قرونا، فتجمع بين مذمتي البخل والنهم. ولم يذكر في الصحاح أصل هذا المثل وقال : معناه هو برم ويأكل مع ذلك تمرتين انتهى. فجعل القرآن. وهو يحتمل أن يكون أصله أو من مضاربه وهو صحيح. ومثله في القاموس إلاّ إنّه فسر البرم في المثل بالثقل. ولا شك أنَّ البرم يطلق على السأم والضجر. يقال: برم به إذا ضجر وأبرمه: أضجره. قال الشاعر في ثقيل:
مشتمل بالبغض لا تنثني ... إليه طوعا لحظة الرامقِ
يظل في مجلسنا مبرما ... أثقل من واشٍ على عاشقِ
و يقال: كتب الأعمش نقشا في خاتمه: يا مقيت، أبرمت فقم! فإذا استقبل جليسا ناوله إياه.

أبصر من عقاب.
البصر: حس العين. يقال: بصر بالشيء، بالضم والكسر بصارة وبصرا، صار مبصرا له؛ وتبصره: نظر هل يبصره؛ وهو أبصر منه، أي أقوى إدراكا. والعقاب: الطائر المعروف، جمعه أعقب، لأنه مؤنث. قال امرؤ القيس:
كأنَّ دثاراً حلقت بلبونه ... عقاب تنوفى لا عقاب القواعلِ
و العقاب توصف بحدة البصر.
أبصر من غراب.
البصر معروف. والغراب جمعه غربان وأغربة وغرابين وغرب، ويوصف أيضاً بحدة البصر. وزعموا أنه يرى من تحت الأرض مقدار منقاره. وذكر بعض اللغويين أنَّ العرب تسمي الغراب أعور، ويزعمون أنه يغمض أبدا إحدى عينيه، ويقتصر على النظر بواحدة من قوة بصره. وقيل سموه أعور من حدة بصره على طريق التفائل، كما قال بشار بن برد:
وقد ظلموه حين سموه سيداً ... كما ظلم الناس الغراب بأعورا
و قال أبن اللبانة:
لمّا تناهيت علما ظل ينقصني ... عند الكمال خضيب النير السررِ
وفي الغراب إذا فكرت مغربة ... من فرط إبصاره يعزى إلى العورِ
أبصر من فرس.
الفرس معروف للذكر والأنثى. ويوصف أيضاً بحدة البصر، وهو صحيح مجرب، بحيث إنَّ الفارس قد يرخي عنانه في الطريق غير الواضح، والظلام معتكر، فيسير به ويتخطى المهاوي والجراثيم التي لا شعور للراكب بها ولا إحساس.
أبصر من المائح باست الماتح.
المائح: الذي ينول البئر ليملأ الدلو بيده إذا قلَّ الماء فيها، وقد ماح يميح. قال الراجز:
يا أيها المائح داوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
و قال الآخر:
فآنس سرب قطا قاربٍ ... جبى منهل لم تمحه الدلا
والماتح:المستقي النازع للدلو على جبى البئر. قال علقمة:
كأنَّ ذراعيها على الخل بعد ما ... ونين ذراعا ماتحٍ متجردِ
و قال ذو الرمة:
كأمه دلو بئر جد ما تحها ... حتى إذا ما رآها خانها الكربُ

و من المعلوم أنَّ المائح الذي تحته يبصر عورته ويكون بصيرا باسته إن لم يتسرول؛ فلذلك قالوا ما تقدم. وقال بعض الأدباء:
يا مائح العين عدمت الرقى ... من حرص هذي العين لم يستقي
من شيمة الماء انحدارٌ فلم ... ما جفوني أباً يرتقي؟

أبصر من هدهد
ٍ
الهدهد معروف، ويقال له أيضاً هداهد بالضم والجمع هداهد بالفتح، ويوصف بحدة البصر أيضاً. وزعموا أنه يبصر الماء من تحت الأرض، وأنَّ الأرض كانت له كالزجاج. وقالوا إنه كان دليل نبي الله سليمان عليه السلام على الماء، وإنه إنما غضب عليه وحلف ليعذبنه لكونه نزل على غير ماء. وحضرت الصلاة، فسأل الإنس والجن والطير على الماء فلم يجد عندهم علما، فتفقد الهدهد فلم يجده فغضب عليه وفي ذلك قصة طويلة. وتقدم من كلام أبن عبالس وأنَّ نافعا سأل لم اعتنى سليمان مع ما خوله الله تعالى من الملك بالهدهد مع صغره؟ فقال: أنه احتاج إلى الماء والهدهد كانت له الأرض كالزجاج وأنَّ أبن الأزرق قال لابن عباس: قف يا وقاف! كيف يبصر الماء من تحت الأرض ولا يرى الفخ إذا غطي له بمقدار إصبع من تراب؟ فقال أبن عباس: إذا نزل القضاء عمي البصر!
أبصر من وطواطٍ بالليل.
الوطواط: الخفاش وهو معروف.
بصبصن إذ حدين بالأذناب
يقال: بصبص الكلب والفحل وغيرهما إذا حرك ذنبه. وحدين: سقن من الحداء الذي يبعث به نشاط الإبل وهو بالدال المهملة. ويروى حذين بالذال المعجمة، من المحاذاة. يضرب هذا المثل في فرار الجبان وخضوعه واستكانته، وكأنه شطر بيت.
بضرب خبابٍ وريش المقعدِ
خباب: قينٌ بمكة كان يضرب السيوف؛ والمقعد كان يريش السهام. فتكالم الزبير وعثمان فقال الزبير: إن شئت تقاذفنا، قال: أبالبعر، يا أبا عبد الله؟ فقال الزبير: بل
بضرب خباب وريش المقعد
، أي نتقاذف بالسيف والسهام.
أبطأتَ بالجواب، حتى فات الصواب.
قاله قصير لجذامة الأبرش في قصة طويلة. وملخصها على ما ذكر الأخباريون يزيد بعضهم عن بعض ويدخل حديث بعضهم في بعض، إنَّ جذيمة هذا وهو جذيمة بالذال المعجمة المكسورة أبن مالك بن فهم بن الأوس بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن يشرب بن يعرب بن قحطان. وقد قيل إنه من العرب الأولى من إياد بن أميم وكان بياض. فكرهت العرب أن تقول أبرص فقالت له أبرش والواضح. وقيل: الصواب أنَّ الواضح غير هذا. وقيل: سمي الأبرش لأنه أصابه حر ونار فبقي فيه نقطا سوداء وحمراء. كان ملك الحيرة وما حولها ستين سنة، وكان زمان ملوك الطوائف وكان يغير على من حوله من الملوك حتى غلبهم على كثير مما في أيديهم. وهو أول من أوقد له الشمع ونصب المجانيق للحرب. ثم إنَّ جذيمة غزا الحضر وهي مدينة بين دخلة والفرات. وإياه عنى عدي بن زيد العبادي بقوله:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة ... تجبى إليه والخابورُ
شاده مركراً وجلله كلسا ... فللطير في ذراه وكورُ
و كان صاحب الحضر إذ ذاك عمرو بن الظرب، وهو أبو الزباء كان ملك على الحضر، فظفر به جذيمة وقتله. وذهبت بنته الزباء مطرودة نحو الروم، وكانت من أجمل نساء زمانها، وكان لها شعر إذا أرسلته غطى بدنها وبذلك لقبت بالزباء وهي تأنيث الأزب أي الكثير الشعر. وعلى هذا فاسمها ممدود. وقال البكري: الزباء ألفها مقصورة. قال: وقد رد العلماء فيه المد لأنه تأنيث زبان الاسم المستعمل. فأما الزباء ممدودا فإنما هو تأنيث أزب، لم يستعمل اسما وإنما هو صفة للكثير شعر البدن. قال: والشاهد لمّا قلناه قول عدي بن زيد:
فأضحت في مدائنها كأن لم ... تكن زبا لحاملةٍ جنينا

قلت: وما أراه إلاّ وهما وغلطا، وذلك إنَّ فعاى بالقصر إنّما تأتي تأنيث فعلان، كعطشان وسكران. وزبان الذي هو اسم إنّما هو فعال أصيل النون من مادة الزبن والمزابنة لا فعلان. ومادة زبب لم يرد منه إلاّ زبان لصاحب الزبيب، وأزب للكثير الشعر. والأول لا يرد منه فعلى بالقصر كما من عشاب وبقال وحمَّار. وكذا الثاني، إنّما يرد منه فعلاء بالمد كأحمر وأشهب وأوطف وأجرد ومؤنثه حمراء ووطفاء وجرداء وكذا أزب وزباء وهذا أمر واضح. وأما قوله: إنَّ الأزب لم يستعمل اسما فغير بين فإنَ الأزب من أسماء الشياطين. وفي حديث العقبة هو شيطان اسمه أزب العقبة. والزباء اسم لبلد على الفرات ولفرس الأصيدف الطائي ولماء لبني سليط وآخر لطهية ولعين باليمامة. والزباء أيضاً اسم من أسماء الأست، والدهية الشديدة. فلم يصح قوله إنّه لم يستعمل اسما. ولم يمتنع أن يكون اسما للملكة المذكورة وإن كان وصفها في أصله بل لو لم يكن اسما في غيرها لم يمتنع أن يكون اسما فيها على أنه ليس اسما لها بادئ بدء. وإنّما لقبت به لكثرة شعرها كما قلنا أوّلاً فغلب عليها. واسمها فارعة وقيل نائلة وقيل ميسور. وأما البيت الذي استشهد به، فليس وحده بناهض في الاحتجاج لصحة قصر الممدود. والمعروف عند اللغويين إنَّ الزباء بالمد كما نطق به الإمام أبو بكر بن دريد في مقصورته حيث قال:
فاستنزل الزباء قسرا وهي من ... عقاب لوح الجو أعلى منتهى

و هو الموافق للقياس. ومد المقصور أضعف من قصر الممدود. ثم إنَّ الزباء جمعت الأموال والأجناد وتوقفت وكانت نبيلة علقلة. فعادت إلى دياره أبيها وأزالت جذيمة عنها وملكت. فكانت تعد من ملوك الطوائف وحرمت الرجال على نفسها فهي بتول. وكان بينها وبين جذيمة مهادنة بعد حروب جرت. فلما همت بالقيام بثأر أبيها أرسلت إليه تخطبه على نفسها وترغبه في أن يتصل ملكه بملكها، فأحب ذلك. وقيل هو الذي حدثته نفسه بخطبتها فشاور خاصته فوافقوه كلهم إلاّ قصيرا. وهو قصير بكسر الصاد أبن سعد وكان عاقلا نبيلا وهو أبن عم جذيمة وصاحب أمره وعهده. قالوا ولم يكن قصيرا وإنّما سمي به فقط. قال له: أبيت اللعن أيها الملك! إنَّ الزباء حرمت الرجال فهي بتول عذراء لا ترغب في مال ولا جمال ولها عندك ثأر والدم لا ينام؛ وإنّما هي تاركتك رهبة وحذاراً والحقد دفين في سويداء القلب له كمون ككمون النار في الحجر إن اقتدحته أورى إن تركته توارى وللملك في بنات الملوك متسع. وقد رفع الله قدرك عن الطمع فيما هو دونك وعظم الرب شأنك فما أحد فوقك. فقال جذيمة: يا قصير الرأي ما رأيت ولكن النفس تواقة وإلى ما تحب مشتاقة ولكل امرئ قدر لا مفر منه ولا وزر! ثم وجه جذيمة إليها خاطبا وأمره أن يظهر لها ما ترغب به وتميل فلما جاءها الخاطب أجابت وأظهرت فرحا كبيرا وغبطة عظيمة وقالت: لولا أنَّ المسير في هذا أجمل بالرجال سرت إليه فوجهت الخاطب وبعثت معه إلى جذيمة بهدية سنية فيها من الإماء والكراع والسلاح والأموال والبقر والغنم وغير ذلك من الجواهر الرفيعة والطرف العجيبة ما يبهر الناظرين. فلما بصر جذيمة بذلك أعجبه مع ما بلغه من حسن جوابها وطيب كلامها وظن أنَّ ذلك كان رغبة منه فيه زوجا. فخرج إليها من فوره مع خاصته وفيهم قصير واستخلف على مملكته أبن أخيه عمرو بن عدي اللخمي وسيأتي ذكره بعد إن شاء الله تعالى. فسار حتى بلغ موضعا يقال بقعة فأكل وشرب وأعاد المشوار فاستصوبوا أيضاً ما أراد إلاّ قيصرا فانه قال : أيه الملك كل عزم لا يؤيد بجزم فإلى أفن يكون كونه. فلا تثق بزخرف قول لا محصول له ولا تقذف الرأي بالهوى فيفسد لا الحزم بالمنى فيبعد! والرأي عندي للملك أن يتعقب أمره بالتثبت ويأخذ حذره بالتيقظ. ولولا أنَّ الأمور تجري بالمقدور لعزمت على الملك عزما بتا أن لا يفعل. فقال جذيمة: الرأي مع الجماعة. فقال قصير: أرى القدر سائق الحذر لا يطاع لقصير أمر أو رأي. فأرسلها مثلا. ثم سار جذيم حتى قرب من ديار الزباء فأرسل إليها يعلمها بمجيئه. فلما جاءها الرسول أظهرت السرور والرغبة، وأمرت بحمل الضيافة إليه وقالت لأجنادها وخاصتها: تلقوا سيدكم ومالك دولتكم!و عاد الرسول بالجواب إليه وأخبره بما رأى وسمع. فلما أراد جذيمة أن يسير دعا قصيرا فقال له: أنت على رأيك؟ قال: نعم! وقد زادت بصيرتي فيه. أف أنت على عزمك؟ قال: نعم! وقد زادت رغبتي فيه. فقال قصير: ليس للدهر بصاحب من لم ينظر في العواقب. فأرسلها مثلا. ثم قال له: وقد نذرتك الأمر قبل فواته وفي يد الملك بقية هو بها قادر على استدراك الصواب؛ فإنَ وثقت بأنك ذو ملك وسلطان وعشيرة فقد نزعت يدك من سلطانك وفارقت عشيرتك وألقيتها في يد من لست آمن عليك مكره وغدره. فإن كنت فاعلا ولا بد فإنهم غدا يلقونك ويقومون لك صفين حتى إذا توسطهم أحدقوا بك؛ فهذه العصا لا يشق غبارها وهو أول من قاله. وكانت العصا فرسا لجذيمة لا تدرك فهي ناجية بك إن ملكت ظهرها وناصيتها. ويروى أنه قال له: انهم غدا إنَّ لقولك فترجلوا وحيوك فتقدموا، فقد كذب ظني، وإنَّ رأيتهم حيوك فطافوا بك، فإني اعرض لك العصا. فسمع جذيمة كلامه فلم يرد عليه جوابا.ثم سار جذيمة، وقصير عن يمينه، فقامت الزباء وبعث وقالت لهم: سيروا حتى إذا لقيتموه فقوموا صفين عن يمينه وشماله، فإذا توسطكم فانقضوا عليه اجمع، وإياكم أن يفوتكم! فلما أحاطوا به وعلم أنهم ملكوه أقبل على قصير، وكان مسايره، فقال له: صدقت يا قصير! فقال قصير: أبطأت بالجواب، حتى فات الصواب! فأرسلها مثلا. فقال جذيمة: فكيف الرأي؟ فقال: تركت الرأي ببقة! فأرسلها مثلا. ويروى إنّه قال له: هذه العصا فدونكها لعلك تنجو عليها! فأنك من ذلك. وقيل إنه عرضها له فشغل عنها، فركبها قصير فنجا. فلما نظر إليه جذيمة وهو عليها ينقطع دونه السراب

قال: ما ذل من جرت به العصا! فأرسلها مثلا. ويروى إنّه قال، حين نظر إليه على ظهرها: ويل أمه حزما على ظهر العصا! فأرسلها مثلاً. ثم سارت الجيوش بجذيمة، فتطلعت عليه الزباء من قصرها فقالت: ما احسنك من عروس تجلى علي وتزف إلي! حتى دخلوا به عليها في قصرها وحولها جواريها. وكانت قد ربت شعر عانتها سنة وضفرته. فلما دخل عليها تكشفت له فقالت: أَ شوار عروسٍ ترى؟ فقال: بل شوار أمةٍ بظراء. فقالت: أما إنه ليس من عدم المواسي، ولا من قلة الأواسي، ولكنه شيمة ما أقاسي فأمرت به فأجلس على نطعٍ وقطعت رواهشه. ويروى في طست من ذهب تفاؤلاً أن يذهب دمه هدراً. وكان قد قيل لها: تحفظي بدمه، فإنه إنَّ وقعت قطرة منه على الأرض طلبت بثأره. فلما صعفت يده سقطت، فقطر منه في غير الطست شيء، فقالت: لا تضيعوا دم الملك! فقال: دعوا دما ضيعه أهله! ومات. وقيل إنّه قد قال: لا يحزنكم دم أراقه أهله! فقالت: والله ما وفى دمك، ولا شفى قتلك، ولكنه غيض من فيض فأرسلها مثلا. فلما قضى أمرت به فدفن. وكان عمرو بن عدي يخرج إلى ظهر الحيرة يستشرف خبر خاله. فبينما هو ذات يوم ينظر إذ رأى العصا تهوي بقصير، فقال عمرو: أما الفرس ففرس جذيمة، وأما الراكب فكالبهية، لأمر جاءت العصا. فأرسلها مثلاً. فإذا هو بقصير قد اقبل، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: سعى القدر بالملك إلى حتفه، على الرغم من انفي وانفه! وسيأتي تتمة القصة بعد هذا في خير فصير حيث قام بثأر جذيمة إنَّ شاء الله تعالى. وفي تقل جذيمة قال الشاعر:
وقددت الأديم لراهشيه ... و ألفي قولها كذبا ومينا
و قال سويد بن أبي كاهل:
وأبو ملك الملك الذي ... قتلته بنت عمرو بالخذع

أبطأ من غراب نوح.
زعموا أنَّ نبي الله نوح عليه السلام بعث الغراب لينظر له هل غرقت البلاد ويأتيه بخبرها. فذهب فوجد جيفة طافية على وجه الماء، فأشتغل بها وبقي ولم يأته بالخبر. فدعا عليه فغلت رجلاه وخاف من الناس. وأعلم أنَّ البطء ثلاثي ورباعي: يقال بطؤ بضم الطاء، وبطئا وبطاء بالكسر، وأبطأ: ضد أسرع. ويقال: هو أبطأ منه. وهو إنَّ كان صوغه من الثلاثي فمقيس اتفاقا؛ وإنَّ كان من الرباعي فهو جائز أيضاً عند سيبويه في هذا الوزن.
أبطأ من فندٍ.
البطء: مر. وفند بكسر الفاء وسكون النون بعدها دال مهملة: اسم رجل. وهو مولى لعائشة بنت سعد بن أبي وقاص، بعثته يأتيها بنار. فلما خرج وجد قوما يريدون مصر، فصحبهم وأقام بمصر سنة، ثم رجع فأتاها بالنار؛ وجاء يشتد فعثر وتبدد الجمر فقال: تعست العجلة! فضرب به المثل في البطء.
البطنة، تذهب الفطنة.

هذا من الأمثال الحكيمة. والبطنة بالكسر: امتلاء البطن طعاماً. والفطنة بكسر الفاء: الذكاء والحذق. يقال: فطن إليه، وفطن له، بضم الطاء وكسرها وفتحها، يفطن بالضم والفتح فطنا وفطانة. وفي الأثر يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما احل الله حلالا أبغض من بطن يملأ طعاماً " . وقال عليه الصلاة والسلام: " ما ملأ أبن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب أبن آدم أكل أو لقيماتٌ يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلثٌ للنفس " . وعن عمر رضي الله عنه: أيها الناس، إياكم والبطنة، فأنها مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسد، مورثة للسقم. وعن علي كرم الله وجهه: إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للقلب. وقال الحارث بن كلدة: أربعة أشياء يهرمن البدن: الغشيان عن البطنة، ودخول الحمام على الامتلاء، وأكل القديد، ومجامعة العجوز. ويقال أقلل طعاما، تقلل سقاما. ويقال: النهم لؤم، والرغب شؤم. وقيل: أكبر الدواء، تقليل الغذاء. وجمع الرشيد أربعة من الأطباء العارفين: هندياً ورومياً وفارسياً وعربياً، وقال لهم: ليصف لي كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه. فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه الأهليلج الأسود. وقال الرومي: هو حب الرشاد الأبيض. وقال الفارسي: هو عندي الماء الحار. فقال العربي، وكان أعلمهم: الأهليلج يعفص المعدة وذلك داء، وحب الرشاد يرق المعدة وذلك داء؛ والماء الحار يرخي المعدة، وذلك داء. فقالوا له: وما الدواء الذي لا داء فيه عندك؟ قال: إنَّ تضع يدك في الطعام وأنت تشتهيه، وترفع يدك منه وأنت تشتهيه. فقالوا: صدقت! وسلموا له. ويروى حديثا: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وأصل كل داء البردة: والبردة: النخمة. ويقال إن مالكا، رضي الله عنه، لمّا وادع يحيى بن يحيى قال له: أوصيكم بأربع كلمات: الأولى أجمع لك فيها فقه الفقهاء، إذا سئلت عن شيء لا تعرفه فقل لا ادري، والثانية أجمع لك فيها حكمة الحكماء، إذا جالست قوما فكن أصمتهم، فإن أصابوا أصبت معهم، وإنَّ أخطئوا سلمت، والثالثة أجمع لك فيها طب الأطباء، أنَّ تضع يدك في الطعام وأنت تشتهيه، وترفع يدك وأنت تشتهيه؛ فإنك إذا فعلت ذلك لم يصبك مرض إلاّ مرض الموت. وفي الحكمة: إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة، ورقدت الأعضاء عن العبادة. وقال حاتم بن عبد الله الطائي:
أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف صحابي حين حاجتنا معا
أ بيت هضيم الكشح منطوي الحشا ... من الجوع أخشى الذم أنَّ أتضلعا
وإني لأستحيي رفيقي أنَّ يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
وانك إنَّ أعطيت بطنك سؤله ... و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا
و قد اكثر الحكماء من هذا النمط نثراً وشعراً، وفيما ذكرناه كفاية إنَّ شاء الله تعالى.

بطني وعطري، وسائري ذري!
البطن: خلاف الظهر، وهو مذكر، جمعه أبطن، وبطون، وبطنان؛ ويقال أيضاً لمّا دون القبيلة من الناس بطن كما قيل:
وإنَّ كلابا هذه عشر أبطن ... و أنت بريء من قبائلها العشر
و المراد هنا الأول: والعطر، بكسر العين: الطيب. ويقال: منه عطرت المرأة، بالكسر، فهي عطرة؛ ويقال عطرت الرجل تعطيرا: طيبته والسائر: الباقي، وهو من السؤر، وهو البقية مهموز. يقال: أسأر الشيء وسأره إذا أبقاه، فهو سئار، وقياسه مسئر، وهو جائز أيضاً. وذهب كثير من الناس إلى أنَّ السائر يكون أيضاً بمعنى الجميع، وأنكره آخرون: وذري معناه اتركي يقال: ذره أي أتركه. وأصل الماضي منه. وذره بالكسر يذره كوسعه يسع، لكن لم يستعمل منه ماضٍ ولا مصدر. وأصل المثل أنَّ أعرابياً ضاف قوما، فأمروه جارية لهم أن تطيبه فقال: بطني عطري، وسائري ذري! ومعناه ظاهر. وإضافة التعطير إلى البطن في نحو هذا يكون من المشاكلة، وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته، كقوله:
قالوا: أقترح شيئاً نجد لك طبخه ... فقلت: اطبخوا أي جبة وقميصا!

أراد أنَّ يقول: خيطوا لي جبة! فقال: اطبخوا! لصحبته للطبخ تحقيقاً. وكقوله تعالى: ) وجزاء سيئةٍ سيئة مثلها(، وقوله تعالى: ) فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم(. أطلقت السيئة والاعتداء على جزاء السيئة وجزاء الاعتداء عدلا لأجل المصاحبة، وإنَّ لم يكن الجزاء سيئة ولا اعتداء. وقوله تعالى: ) تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك(. وهو كثير. وكقول أبن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا، ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
و قد يتقدم المشاكل فتراعى صحبة المتأخر، كقول أبي تمام:
من مبلغ أفناء يعرب كلها ... إني ابتنيت الجار قبل المنزل؟
و الافناء بالفاء: جماعة من الناس. ومن هذا أيضاً عند بعضهم قولهم:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
و من هذا القسم لفظ المثل، لأن المراعي هو قوله: وسائري ذري! أي لا تعطري شيئاً من سائر بدني: ويحتمل إنَّ يكون قائله لم يعتبر هذا، وإنّما اعتبر قولهم للجارية عطريه، فيكون من القسم الأول. ويحتمل أنَّ يكون راعي فعل الجارية وما همت به من التعطير، فتكون المصاحبة إنّما وقعت تقديراً، كقوله تعالى: ) صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة( عبر الله عن تطهير الله بالإيمان، لوقوع ذلك في صحبة الصبغ الواقع للنصارى بغمسهم أولادهم في ماء اصفر تقديراً، لأن سبب النزول دل على ذلك. ومثله لمن يغرس أشجاراً: غرس كما يغرس فلان! تريد رجلاً يصطنع المعروف إلى الكرام.
تتمة: وقع في اللفظ الوارد على المشاكلة إشكال من حيث إنه لا يكون حقيقة، إذ ليس موضوعاً لذلك المعنى، ولا مجاز أيضاً لعدم العلاقة، فإن إطلاق اللفظ على المعنى لأجل الصحبة في المشاكلة صحيح، سواء وجد هنالك شيء مما يكون من العلاقات، كإطلاق السيئة على الجزاء المتسبب عنها في الآية السابقة، أو لم يوجد كإطلاق طبخ الجبة على خياطتها. قال سعد الدين التفتازاني في شرح المفتاح: ولا محيص سوى التزام قسم ثالث في الاستعمال الصحيح بأن يجعل نفس الوقوع في الصحبة مصححاً لاستعمال لفظ المصاحب عليه، أو القول بأن هذا النوع من العلاقة فيكون مجازاً. انتهى.

أبعد من بيض الأنوق.
البعد معروف؛ يقال: بعد بالضم والكسر؛ وقد يستعمل البعد بمعنى الموت والهلاك. قالت الشاعرة:
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
و الأنوق بفتح الهمزة، على مثال صبور: الرخمة، وهو طائر أسود أصلع الرأس أصفر المنقار. وهي تجعل بيضها حيث لا ينال، فتتخذ أوكارها في قنن الجبال الصعبة، فيضرب المثل ببيضها في البعد وعزة المنال، كما قيل:
وكنت إذا استودعت سراً كتمته ... كبيض الأنوق لا ينال لها وكر
و قال الآخر:
وأجازها قذفات كل تنوفة ... وكر العقاب بها وبيت الأعصم
فوطئن أوكار الأنوق ... و روعت منها وبات المهر ضيف الهيثمِ
و زعموا أنَّ رجلا أتى معاوية رضي الله عنه فقال له: زوجني هند! يعني أمه. فقال: لا أرب لها في زوج. قال: فولني كذا! فأنشد معاوية:
طلب الأباق العقوق ... فلما لم يجده أراد بيض الأنوقِ
و الأبلق العقوق: الذكر الحامل وسيأتي وهو محال. فكأنه يقول طلب أمرا محالا، فلما أعجزه طلب أمرا بعيدا لا يناله. واعترضت الحكاية بأن أم معاوية ماتت سنة أربع عشرة، فكيف يطلب تزويجها يوم الولاية؟ وحكيت على وجه آخر يصح وهو أنَّ رجلا أتاه فقال له: افرض لي شيئا! قال: نعم! فقال: ولولدي؟ قال: لا! قال: ولعشيرتي؟ فأنشد البيت.
قلت: وعلى كلا الوجهين لم يقع الانتقال موقعه لأنه إنما يحسن عندما يكون من الأضعف إلى الأقوى ولم يوجد ذلك في البيت على شيء من المجهين: فانه في أحدهما من المحال إلى الممكن البعيد وفي الآخر: من البعيد إلى البعد ضرورة أن الفرض للعشيرة أبعد من الفرض للولد وإن كان السائل يغتر بشبهة أنه لمّا فرض له أغنى ذلك عن الولد فلم يبق له استحقاق الفرض وكانت العشيرة أولى منه ولذا سأل لها بعده. ومن اللغويين من قال: إنَّ الأنوق الذكر من الرخم ووجدان البض له محال. ولا إشكال حينئذ إذ القصد النداء على ضلال السائل وحيويته حيث جعل ينتقل من محال إلى محال. ومنهم من قال: الأنوق يطلق على الذكر والأنثى والله أعلم.

فائدة: قيل وفي الرخمة عشر خصال: تحضن بيضها وتمنع فرخها ولا تمكن من نفسها غير زوجها وتقطع في أول القواطع وترجع في أول الرواجع وتألف ولدها.
هي مع ذلك تحمق كما قيل:
وذات اسمين والألوان شتى ... تحمق وهي كيسة الحويلِ
أي الحيلة. والرخمة أحد لئام الطير وهي: الرخمة والغراب والبوم.

أبعدي عني ظلك، أحمل حملي وحملك!
هذا من الأمثال الموضوعات على ألسنة العجماوات. زعموا أنَّ النخلة قالت ذلك لجارتها بمعنى أنها إذا تباعدتا حملت كل واحدة منها مثل ما تحملان معا. والحمل إذا أطلق على ما يحمل من الأمتعة على ظهر أو رأس فهو بكسر الحاء؛ وإذا أطلق على ما في بطن الأنثى فهو بالفتح؛ وإذا أطلق على ثمر الشجر فهو بالوجهين لمّا له من الشبه بالأمرين. هكذا قال بعض اللغويين وقال: ما بطن من الثمار فبالفتح وما ظهر فبالكسر. وقيل إنَّ الثمر كله بالفتح كما في البطن. وقيل إنَّ الثمر بالكسر ما لم يكثر ويعظم فإذا كثر فبالفتح. وجمع الحمل حمال ومنه: هذا الحمال لا حمال خيبر.
بعض الشر أهون من بعضٍ.
هذا مثل مشهور وظاهر المعنى. ويوافق من أمثال العامة قولهم: نصف الخسارة ولا الخسارة كلها. وقال طرفة بن العبد لمّا حبس:
أبا منذرٍ كانت غروراً صحيفتي ... ولم أعطيك في الطوع مالى ولا عرضي
أبا منذرٍ أفنيت فأستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعضِ
و قال أبو خراش الهذلي:
حمدت إلا هي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعضِ
و بعده:
فوا لله ما أنسى قتيلا رزئته ... بجانب قوسيما مشيت على الأرض
على أنها تعفو الكلوم وإتما ... نوكل بالأذى وإن جل ما يمضي
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنه قد سل عن ماجدٍ محضِ
ولم يك مثلوج الفؤاد مبهجا ... أضاع الشباب في الريبة والخفضِ
ولكنه قد لوحته مخامص ... على أنه ذو مرة صادق النهضِ
كأنهم يشبثون بطائر ... خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض
يبادر قرب الليل فهو مهابذ ... يحث الجناح بالتبسط والقبضِ
و ذكر صاحب القلائد أنَّ الظافر بن المعتمد لمّا قام عليه أبن عكاشة وأتباعه بقرطبة ودافعهم حتى قتل وجرد من ثيابه وكان ليلا مر به أحد المغلسين إلى الجامع فألقى ثوبا ولم يعرف من فعل ذلك. فكان أبوه المعتمد بن عباد إذا تذكر ذلك رفع عقيرته وأنشد: ولم أدار من ألقى عليه رداءه. ومن أظرف الاتفاق ما يحكى أبن الخطيب من قول بعضهم في طبيب يسمى نعمان ويكنى أبا المنذر:
أقول لنعمان وقد ساق طبه ... نفوسا نفيسات إلى باطن الأرض
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
و مما قيل في الطبيب الجاهل قول الآخر:
يا ملك الموت وأن زهر ... جاوزتما الحكمة والنهاية!
ترفقا بالورى قليلا ... في واحدٍ منكما الكفاية!
و قوله:
أعمى وأفنى ذا الطبيب بطبه ... و بكحله الأحياء والبصراء
فإذا نظرت رأيت من عميانها ... أمما على أمواته قراء
و قول الآخر:
قال حمار الطبيب تومي ... لم أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... و صاحبي جاهل مركب
بعلة الورشان يأكل رطب المشان.
الورشان بفتحتين: طائر وهو ساق حر. وأنشدوا عن الأصمعي:
أيها البلبل المغرد في النخل ... غريبا من أهله حيرانا
أفراقا تشكوه أم ظلت تدعو ... فوق أفنان نخلك الورشانا؟
هاج لي شجوك الغرد شجواً ... رب صوت يهيج الأحزانا
و المشان بضم الميم وكسرها على مثال غراب وكتاب والشين معجمة: نوع من الرطب طيب؛ ورطب المشان في لفظ المثل بالإضافة ولا يقال الرطب المشان وأصل المثل أن قوما استحفوا غلاما لهم رطب نخلهم فكان يأكله وإذا سئل عن ذلك وعوتب عليه قال: أكله الورشان، فقالوا ذلك. يضرب ذلك لمن يظهر شيئا والقصد شيء آخر.
البغاث بأرضنا يستنسر.
تقدم معنى هذا المثل في الباب الأول.
أبلعني ريقي.
يقال: بلعت الشيء بكسر اللام وابتلعته بمعنى وأبلعته غيري: أمكنته أن يبلعه: والريق: ماء الفم ما دام لم ينفصل عنه فإذا انفصل فهو بزاق؛ والبعض منه ريقة. قال النابغة:

زعم الهمام ولم أذقه أنه ... يشفي برياً ريقها العطش الصدي
و قال الآخر:
يسقي امتياحا ندى المسواك ريقها ... كما تضمن ماء المزنة الرصف
و يقال: أبلغني ريقي أي أمهلني ساعة مقدار ما أبلعه ولا تعجل عليَّ! يضرب عند الاستمهال في مقام المحاورة والإكثار من السؤال واستدعاء الجواب حتى يعوق الاشتغال بالجواب عن بلع الريق. والقصد التأخير والتنفيس. قال شاس بن عبدة:
حلفت بما ضم الحجيج إلى منى ... وما ثج من نحر الهدى المقلد
لئن أنت عافيت الذنوب التي ترى ... و أبلغت ريقي وأنظرتني غدي
لأستعتبن مما يسؤك بعدها ... و إن سبني ذو لكنة بين أعبِ
و يحكى أنَّ عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى قال يوما لحاجبه: هات بدرة! فأتى بها، فوضعها بين يديه وقال لمن حضر من وجوه العرب: أيكم أنشدني صدر هذا البيت: والعود أحمد، فله هذه البدرة! فلم يكن فيهم من يعرفه. فقال للحاجب: اخرج وانظر من بالباب من العرب، وقل: من ينشدني صدر البيت: والعود أحمد، فله جائزة!فخرج الحاجب وقال ذلك. فقام فتى من القوم فقال: أنا. قال الحاجب: فأنشدني!قال: لا!إلاّ أن أشافه أمير المؤمنين. فدخل الحاجب فأخبره فقال عبد الملك: هذا رجل طال مقامه بالباب وله حاجة. والله لئن دخل عليَّ ولم ينشدني لأعاقبنه. أدخله! فلما دخل وسلم قال له عبد الملك أنشدنا صدر بيتنا! فقال: يا أمير المؤمنين، حاجتي! قال: وما هي؟ قال: بنو عم لي باعوا ضيعتهم بالسواد فأدخلوا ضيعتي في ضيعتهم فقال عبد الملك: فإن أمير المؤمنين قد رد عليك ضيعتك فأنشدنا صدر بينتا! قال: نعم يا أمير المؤمنين! قالت تميم إنه بيتها. قال أوس بن حجر:
جزينا بني شيبان صاعا بصاعهم ... وعدنا بمثل البدء والعود أحمد
قال: أخطأت! قال: يا أمير المؤمنين، أبلعني ريقي! قال: قد أبلعتك قال: قالت اليمن أنه بيتها. قال امرؤ القيس:
فإنَ كنت قد ساءتك مني خليقة ... فعودي كما نهواك والعود أحمدُ
قال: أخطأت! قال: يا أمير المؤمنين، قالت ربيعة إنّه بيتها. قال المرقش:
وأحسن فيما كان بيني وبينها ... و إن عاد بالإحسان فالعود أحمدُ
قال: أصبت، وإنك لظريف. فمن أنت؟ قال أنا زيد بن عمرو. قال: ممن؟ قال من حي جانب عجرفية قيس، وعنعنة تميم، وكسكسة ربيعة وصأصأة اليمن وتأنيث كنانة: أنا امرؤ من عذرة. فأمر له بالبدرة. وكان بين أبي العباس بن سريج الفقيه الشافعي، وبين أبي بكر محمد بن داود الظاهري مناظرات. فقال له أبو بكر يوما: أبلعني ريقي! قال أبلعتك دجلة! وقال له مرة أخرى أمهلني ساعة! قال: أمهلتك إلى قيام الساعة! وقال له أخرى: أجيئك من الرجل، وتجيئني من الرأس، قال: هكذا شأن البقر: إذا حفيت أظلافها، دهنت قرونها. واجتمعا في مجلس الوزير أبي الحسن بن الجراح فتناظرا في مسألة من الأبلاء، فقال له أبن سريج: أنت بكتاب الزهرة اعرف منك بهذا الفن، حيث تقول فيه: ومن كثرت لحظاته، دامت مسراته. فقال أبو بكر: والله انك لا تحسن أن تقرأه، وإنّه لأحد مناقبي حيث أقول:
أنزه في روض المحاسن مقلتي ... و أمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه ... يصب على الصخر الأصم تهدما
وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... و لو اختلاسي رده لتكلما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم ... فلست أرى حبا صحيحا مسلما
فقال أبن سريج: أو علي تفخر بهذا وأنا القائل، ولو شئت لقلت:
ومسافر بالغنج من لحظاته ... قد بت أمنعه لذيذ سناتهِ
صبا بحسن حديثه وغنائه ... و أردد اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولى بخاتم ربه وبراتهِ
فقال أبو بكر: يا وزير، إنه قد أقر: فعليه إقامة البينة أنه بخاتم ربه وبراته، وإلاّ أقمنا عليه الحد! فقال أبن سريج: هذا لا يلزمني: فإن مذهبي أنَّ من أقر بأمر وناطه بصفة، فان إقراره لا يلزمه إلاّ منوطاً بتلك الصفة. وقيل: بل قال له: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك:
أنزل في روض المحاسن مقلتي ... و أمنع نفسي أن تنال محرما
فضحك الوزير وقال: لقد جمعتما أو ملئتما علما وظرفا ولطفا! ويحكى أيضاً أنَّ الحجاج لمّا قال لأبي عمرو بن العلاء البصري ما وجه بياض.

يبلغ الخضم بالقضم.
بلوغ الشيء معروف. والخضم، بالخاء والضاد المعجمتين الأكل بجميع الفم، أو بأقصى الأضراس. وقيل خاص بالشيء الرطب كالقثاء؛ يقال منه: خضمت الشيء بكسر الضاد وفتحها أخضمه كذلك بالكسر والفتح. والقضم، بالقاف والضاد المعجمة: الأكل بأطراف الأسنان؛ يقال قضمت الشيء بكسر الضاد أقضمه. وفي الحديث أيترك يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل؟ ودخل إعرابي على أبن عم له بمكة فقال: إن هذه بلاد مقضم، وليست ببلاد مخضم. وقلت أنا زمن الصبا، من أبيات:
لو كان لي تجارة غيرها ... أو كنت بين الخال والعمِ
أو كنت في وسع لقيل اكتفى ... من ذاك بالقضم عن الخضمِ
و معنى المثل أنَّ الخضم الذي هو الآكل الكثير يدرك وينال بسبب القضم الذي هو الأكل الضعيف، فالشبعة قد تدرك بالأكل بأطراف الفم. والمقصود من ذلك أنَّ الغاية البعيدة تدرك بالرفق. قال الشاعر:
تبلغ بإخلاف الثياب جديدها ... و بالقضم حتى تدرك الخضم بالقضم
و للعامة في نحو هذا المعنى أمثال كثيرة، منها قولهم:المهمل يبلغ وقولهم: الراحة تنزل شيئاً فشيئاً. واصله في المريض. وقولهم: لا يجيء دفعة إلاّ الموت؛ وقولهم: قطرة إلى قطرة فيسيل النهر؛ وقولهم: امش بالنعلين حتى تجد السباط، أي الخفين.
بلغ السكين العظم.
السكين بفتح السين وتشديدها معروف يذكر ويؤنث. قال في الصحاح: والغالب عليه التذكير. وأنشد:
يرى ناصحا فيما بدا فإذا خلا ... فذلك سكين على الحلق حاذق
و يقال: سكين وسكينة والعظم معروف وبلوغ السكين العظم في القطع كناية عن بلوغ الأمر في الشدة نهاية وفي الصعوبة غاية كما قيل:
وكم ذدت عني من تحامل حادث ... و سورة أيام حززن إلى العظم
بلغ السيل الزبى.
السيل مصدر يقال: سال الماء يسيل سيلا وسيلانا. فإذا قيل للماء سيل فمعناه سائل وضع المصدر مكان الصفة. ويستعمل السيل في الماء الكثير السائل والزبى بالزاي جمع زبية وهي حفرة تتخذ للأسد في الموضع العالي ويغطى بشيء ويجعل عليها لحم. فإذا تناوله الأسد سقط فيه. هكذا ذكر بعضهم. ويقال تزبيتها: اتخذتها. قال الراجز:
وكنت بالأمر الذي قد كيدا ... كالذي تزبى زبية فاصطيدا
و هي في كتابة اللغة: إنَّ الزبية تطلق على المكان المرتفع لا يصل إليه الماء ومنه المثل وعلى حفرة الأسد. وقال الطرماح:
ياطيء السهل والأجبال موعدكم ... كمبتغي الصيد أعلى زبية الأسد
نعم قال في الصحاح: إنّما سميت حفرة الأسد بذلك لأنهم كانوا يحفرونها في الموضع العالي. فأصل الزبية الموضع العالي. والسيل لا يصل إليه وإن وصله كان جارفا مفراطا مجحفا. فإذا قيل: بلغ السيل الزبى، فمعناه أن الأمر قد بلغ غايته والهول أدرك نهايته كما قال الراجز: قد بلغ السيل الزبى فلا غير. أي قد عظم الأمر عن أن يغير ويصلح. وكتب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أيام حصير إلى أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أما بعد فقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين وطمع في من لا يدفع عن نفسه ولم يفخر عليك كضعيف ولم يغلبك مثل مغلب فأقبل إلي على أي أمريك أحببت:
فأما كنت مأكولا فكن خير آكل ... و إلاّ فداركني ولمّا أمزق
و هذه أمثال أخرى سيأتي كل منها في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال أبو بكر بن دريد رحمه الله:
لست إذا ما بهضتني غمرة ... ممن يقول: بلغ السيل الزبى
و من أبلغ ما جاء في وصف قوة السيل قول امرئ القيس:
كأن ذرى رأس المجيمر غدمة ... من السيل والغثاء فلكة مغزل
والقى بصحراء الغبيط بعاه ... نزول اليماني ذي العياب المخول
كأن اسودا فيها غرقى غدية ... بأرجائها القصوى أنابيش عنصل
و المحيمر: جبل وذراه أعالي وفلكة المغزل التي يدور بها معرفة. يريد إنَّ السيل قد أحاط بهذا الجبل، فكأنه يدور فلذا شبهه بفلك المغزل فهو من التخيلات. والغرقى جمع غرق والأرجاء: النواحي والقصوى: البعيدة والعنصل: البصل البري المعروف. والأنالبيش جمع انباش والأنباش جمع نبش وهو أصل المنبوش. يريد إنَّ هذا السيل لكثر أغراق السياع فصارت طافية فوق الماء كأنها انبش العنصل يقتلعها السيل.
بلغ الشظاظ الوركين.

الشظاظ بكسر الشين وبظاءين مشالتين بينهما ألف: عويد يجعل في عروة الجوالق. قال الراجز:
أين الشظاظين وأين المربعة ... و أين سقف الناقة الجلنفعة
يقال شظظت الجوالق: شددت عليه شظاظه وأشظظته: جعلت له شظاظا والورك على وزن كتف: ما فوق الفخذين ويقال أيضاً ورك بسكون الراء مع فتح الواو وكسرها. قال الراجز: ما بين وركيها ذراعا عرضا. وبلوغ الشظاظ الوركين كناية عن اشتداد الأمر: من معنى الذي قبله.

بلغ الله بك اكلا العمر.
يقال: كلات الرجل بالهمز كمنعته أكلؤه كلاء وكلاءة بالكسر: حرسته وحفظته؛ وكلا الدين: تأخر والكالئ النسيئة. قال الراجز: وعينه كالكالئ المضمار. وفي الحديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ. وهو يصح من كلأ إذا تأخر أو من كلاته: حفظته أي بيع المكلؤ لأن كلأ لصاحب شيئا. قيل وكان الأصمعي لا يهز الكالئ وينشد:
إذا تباشرك الهموم ... فإنها كال وناجز
وه المثل يقال في الدعاء فقيل: معناه بلغ الله بك أحفظ العمر كما يقال: كلأه الله أي حفظه. قال الشاعر:
كلاك الله حيث عزمت وجها ... و حاطك في المبيت وفي الرحيل
و قيل: الصواب أن معناه الدعاء بطول العمر أي بلغ الله بك أنسأ العمر أي أبعده من كلأ بمعنى تأخر كما مر.
بلغ من العلم اطوريه.
الطور بفتح فسكون: الحد ومنه قولهم: تعدى فلان طوره وملك الدار بطورها وطورها وأطوارها بمعنى. ويقال: هذا الدار أطور من هذه أي أوسع حدودا. فإذا قيل: بلغ من الأمر أطوريه فهو بكسر الراء جمع أطور أي بلغ منه أي أقصى حدوده. هكذا قاله أبو زيد بكسر الراء. وقال غيره: بلغ أطوريه بفتح الراء وهو تثنيه أطور أي بلغ منه حدّثني الطول والعرض. فيضرب في الانتهاء إلى غاية العلم.
ابله من ضب.
يقال: بله بكسر اللام يبله أو بلاهة فهو أبله والبلة: الغفلة وقيل: الغفلة عن الشر خاصة وقيل: الحمق بلا تمييز. وقيل الأبله: المأمون الشر؛ وقيل: من غلبت عليه سلامة الصدر. والضب بالضاد المعجمة: الدويبة المعروفة والأنثى: ضبة وهو يضرب به المثل في أمور كثيرة مثل البله والعوق والخديعة وغير ذلك. وسيأتي الكل إن شاء الله تعالى. وإنّما ضرب به المثل في البله والذهول لمّا يزعمون من أن في طبعه الحيرة والنسيان وعدم الهداية. قالوا: ولذلك يحفر بيته في كدية وموضع مرتفع لئلا يضل عنه إذا خرج لابتغاء الطعم ورجع والله اعلم.
ابنك أبن ايرك، ليس بذي أب غيرك.
الأير بفتح الهمزة وسكون الياء: الذكر. والمعنى أن ابنك الذي يكون لاحقا بك وناصرا ومعينا هو الذي نشأ من نطفتك ولم ينتسب إلى غيرك. يضرب في تبني الرجل أو المرأة غير ولديهما.
ابنك أبن بوحك.
هذا كالذي قبله في المعنى والمضروب. وبوح في هذا المثل بضم الباء الموحدة قيل هو الذكر وقيل النفس وقيل الوطء. وهو يطلق على الكل في اللغة ومرجعها إلى معنى واحد. ويقال أيضاً في هذا المثل: ابنك أبن بوحك الذي يشرب من صبوحك. قيل: وأول من نطق بهذا المثل الأحزن بن عوف العبدي وذلك إنّه كانت عنده امرأة فطلقها وذهبت بولد فتزوجها عجل بن لجيم بن بكر بن وائل فقالت لعجل حين تزوجها: أحفظ علي ولدي! وسماه عجل سعدا. وشب الغلام فخرج به عجل ليدفعه إلى الأحزن بن عوف أبيه. وأقبل حنيفة بن لجم أخو عجل فتلقاه بنو أخيه فلم ير فيهم سعدا فسألهم فقالوا: انطلق به أبونا إلى أبيه. فذهب حنيفة في طلبه فلقيه راجعا قد وضع الغلام في يد أبيه. فجمع حنيفة بني أخيه إليه وسار إلى الأحزن ليأخذ سعدا فوجده مع أبيه ومولى له فاقتتلوا. فقال الأحزن لسعد: يا بني! إلاّ تعينني على حنيفة؟ فكع الغلام عنه، فقال الأحزن حينئذ: ابنك أبن بوحك الذي يشرب من صبوحك فذهبت مثلا. وضرب حنيفة الأحزن بالسيف فجذمه فسمي جذيمة. وضرب الأحزن حنيف على رجله فحنفها فسمي حنيف وكان اسمه اثال بن لجيم. فأخذ حنيف سعدا فرده إلى عجل. وقال بعضهم: الباحة وسط الدار وجمعها بوح. ومن كلامهم: ابنك أبن بوحك الذي يشرب من صبوحك. انتهى. فجعله في باحة الدار.
ابنك من دمى عقبيك

الدم اصله الدمي. تقول: دمي الشيء بالكسر يدمى فهو دم ودام وأدميته أنا ودميته تدمية. وهذا المثل كالذي قبله. قيل: وقائله امرأة الطفيل بن ملك بن جعفر بن كلاب. وكانت من بلقين وولدت للطفيل عقيل بن الطفيل فتبنته ضرتها كبش بنت عروة بن جعفر بن كلاب. ثم إنَّ عقيلا ذات يوم ضربته أمه فجاءت كبشة فمنعتها وقالت أبني! أبني! فقالت لها البلقينية ابنك من دمي عقبيك وهو بكسر الكافين مخطبة بها أي: ابنك هو الذي نفست به حتى ادمى النفاس عقبيك لا الذي تتبنينه ولم تلديه. ولمّا قالت البلقينية هذا الكلام لكبشة انقلبت عنها مغمومة منكسرة إذ لم يكن لها ولد وتعظمت عليها ضرتها بولدها فأشتملت كبشة على عامر بن الطفيل في تلك الليلة فجاءت اسود أهل زمانه وأنجد أهل زمانه وأفرس أهل زمانه حتى كان مناديه ينادي بعكاظ: هل من راجل فأحمله أو من خائف فأؤمنه؟.

به لا بظبي.
الظبي معروف جمعه ظباء وأظبي وظبي. وهذا المثل يقال عند الدعاء على أحد المصائب والموبقات وأن لا يعدلن عنه عند الشماتة به. والمعنى: جعل الله ما أصابت لازماله! قال الفرزدق لمّا مات زياد وكان مسكين الدرامي رثاه بقوله:
رأيت زيادة الإسلام ولت ... جهارا حين فارقها زياد
فقال الفرزدق يرد على مسكين:
امسكين أبكى الله عبنه إنّما ... جرى في ضلال دمعها فتحدرا
فبكيت امرءا فظا غليظا مبغضا ... ككسرى على أعدائه وكقيصرا
أقول له لمّا أتاني نعيته ... به لا بظبي بالصريمة اعفرا
و قال أبو تمام في قصيدة له:
قتلته سرا ثم قالت جهرة ... قول الفرزدق لا بظبي اعفرا
باءت عرار بكحلٍ.
يقال: باء إليه يبوء إذا رجع إليه وانقطع؛ وباء بذنبه بواء إذا احتمله أو اعترف به؛ وباء دمه بدمه: عدل به؛ وباء فلان بفلان إذا قتل به فقاومه. ومنه قول مهلهل البكري الذي قتله: بؤ بشسع نعل كليب! وقول الشاعر:
فقلت له: بؤ بامرئ لست مثله ... وإن منت قنعانا لمن يطلب الدما!
و عرار على وزن رقاش. وكحل بفتح الكاف وسكون الحاء: بقرتان وكانتا قد انتطحتا فماتتا معا فقيل: باءت عرار بكحل أي باءت هذه بهذه. يضرب إذا قتل القاتل بمقتوله. ويضرب لكل متكافئين متساويين.
بال حمارٌ فاستبال أحمرة.
البول معروف. يقال: بال، يبول، بولا. والحمار معروف. ومعنى استبال أحمرة: حملهن على البول لمّا بال. وأما قول الفرزدق:
وإنَّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساعٍ إلى أسد الشري يستبيلها
فقالوا: معناها في يده. ولا يبعد أن يكون معناه: يحملها أن تبول عليه، ويتعرض لذلك أي يتعرض لهجومي كما قال الآخر:
تعرضت بياض لأهجوها ... كما تعرض لاست الخاريء الحجرُ
و المثل المذكور يضرب في تعاون القوم على المكروه وتنافسهم في الشر.
بالت عليه الثعالب.
الثعالب جمع ثعلب. يضرب هذا المثل للشر الواقع بين القوم وفساد ما بينهم.
فقط حميد بن ثور:
ألم تر ما بيني وبين محاربٍ ... من الود قد بالت عليه الثعالبُ
وأصبح باقي الود بيني وبينه ... كأن لم يكن والدهر فيه عجائب
بات فلان بليلةٍ ابن المنذر.
هو النعمان بن المنذر أي بليلة شديدة.
باتت المرأة بليلةٍ حرةٍ.
أي إذا لم يقدر الزوج على افتضاضها ليلة هدائها. ويقال ليلة حرة بالوصف وهي أوّل ليلة من الشهر. قال النابغة:
شمسٌ موانع كل ليلة حرةٍ ... يخلقن ظن الفاحش المغيار
باتت بليلة شيباء.
يقال: ليلة شيباء بالإضافة وليلة الشيباء وهي آخر ليلة من الشهر. ويقال ذلك إذا غلبت على نفسها عكس الذي قبله.
باتت بليلة أنقد.
الأنقد بالدال المهملة على مثل أحمر: القنقذ وهو يبيت الليل كله لا ينام، فيقال لمن بات غير نائم: بات بليل أنقد. وذكر في الصحاح أنَّ لفظ أنقد معروفة كأسامة للأسد. وجوز غيره أن تدخل عليه الألف واللام.
بيدي لا بيد عمرو.

قالته الزباء الملكة السابق ذكرها. وعمرو هذا هو عمرو بن عدي بن نصر اللخمي ابن أخت جذيمة. وسبب ذلك أنَّ الزباء لمّا قتلت جذيمة كما مر رجع قصير إلى عمرو بن عدي فقال له: قم بثأر خالك من الزباء! فقال عمرو: كيف لي بها وهي أمنع من عقاب الجو؟ فأرسلها مثلا. فقال قصير: اطلب الأثر وخلاك ذم! فذهبت مثلا. فقال له إني والله لا أنام على طلب دمه ما لاح نجم أو طلعت شمس حتى أدركه أو تخترم نفسي دونه! ثم قال قصير لعمرو: اجدع أنفي، واقطع أذني واضرب ظهري حتى تؤثر فيه، وخلني وإياها! ففعل عمرو ذلك. وقيل إنَّ عمرا أبى عليه ففعل هو ذلك بنفسه فقالت العرب: لأمر ما جدع قصير أنفه فذهبت مثلا. قال المتلمس:
ومن طلب الأوتار ما حز أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
ثم إنَّ قصيرا ذهب فلحق الزباء فقالت له: ما أتى بك إلينا يا قصير وبيننا وبينك دم عظيم الخطر؟ فقال لها: يا ابنة الملوك العظام قد كان دم الملك يعني أباها يطلب جذيمة حتى أدركه؛ وقد أتيتك فيما فيه مثلي مثلك مستجيرا من عمرو، فانه اتهمني بقتل خاله وفعل بي ما ترين. وقد حال بيني وبين أهلي وولدي وخشيت على نفسي فأتيتك. فأعطته الجوار وأنزلته مكرما مخدما. فأقام مدة لا يكلمها وهو يتطلب لها الحيل ويتأمل الفرص. ثم قال لها يوما: إنَّ لي بالعراق أموالا كثيرة وذخائر نفيسة مما يصلح بالملوك. فإنَ أذنت لي في الخروج إلى العراق وأعطيتني شيئا اتعلل به تجارة وأتخذه وصلة إليها أتيتك بما أمكنني منها. فأعطته مالا، فرجع إليها بأرباح كثيرة وطرائف خطيرة. فلما رأت ذلك أعجبها وعظمت منزلته عندها ورغبت فيه. ولم يزل يتلطف إليها ويتقرب حتى أعادته مرة أخرى إلى العراق، فأضعف لها الأموال، وأتاها من الجواهر والخز والبز والديباج بشيء عظيم، فازدادت منزلته عندها. ويقال إنّه رجع مرة ثالثة فأتاها بأكثر من الأوليين. فبلغ منها مكانة عظيمة حتى إنها كانت تستعين به في مهماتها. وكان لبيبا أديبا. وكانت ابتنت على الفرات مدينتين عظيمتين واتخذت بينهما نفقا. فإذا أوجست شرا دخلت النفق.فلما بلغ قصير من مدخلها ما بلغ، عرف النفق وعرف الطريق إليه. فعند ذلك رجع مرة أخرى للتجارة. ويقال إنّها هي التي قالت له: أريد أن أغزو بلد كذا من أرض الشام، فاخرج إلى العراق فأتني بكذا وكذا من السلاح والكراع والعبيد والثياب! فقال قصير: ولي في بلد عمرو بن عدي ألف بعير وخزانة من السلاح فيها كذا وكذا وما لعمرو به علم. ولو قد علمه لاستعان به على حرب الملكة وقد كنت أتربص به المنون وها أنا أخرج متنكرا من حيث لا يعلم فأتي الملكة بذلك مع الذي سألت فأعطته من المال ما أراد. ويذكر أنها قالت له إذ ذاك: يا قيصر! الملك يصلح لمثلك وعلى يد مثلك يصلح أمره. ولقد بلغني أن أمر جذيمة كان إيراده وإصداره إليك. وما يقصر بك عن شيء تناله يدي ولا يقعد بك حال ينهض بي فسمع كلامها رجل من خاصة قومها فقال: أسد خادر وليث ثائر قد تحفز للوثوب! فلما سمع قصير كلامها وعلم ما بلغ من قلبها قال: الآن تمكن الخداع! وخرج من عندها فأتى عمرا فقال له: قد أصبحت الفرصة. قال له عمرو: قل أسمع ومر أقبل فأنت طبيب هذه القرحة! قال: الرجال والأموال فقال عمرو: حكمك مسلط فينا عندي!فعمدا إلى ألفي رجل من فتاك قومه فحملهم على ألفي بعير في الغرائر السود. ويقال انه اتخذ الجوالق وهو أوّل من اتخذها وحمل فيها الرجال وجعل ربطها من داخل. فأتى بها وأخذ غير الطريق وجعل يسير الليل ويكمن النهار. وجاء عمرو معه. وكان عمرو قد صور للزباء قاعدا وقائما وراكبا. فلما عمي عنها خبر قصير سألت عنه فقيل لها إنّه أخذ على طريق الغور فقالت: عسى الغوير أبؤسا. فذهبت مثلا، وسيأتي. فلما قربوا تقدم قصير ودخل على الزباء فقال لها: قفي فانظري إلى العير! فرقبت سطحا وجعلت تنظر إلى الإبل تحمل الرجال. فقالت: يا قصير:
ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا؟
أم صرفانا باردا شديدا ... أم الرجال جثما قعودا؟

و يقال إنَّ الزباء كان وشي لها بقصير فلما رأت مشية الأجمال ازدادت الريبة في قلبها فقالت ذلك. فلما دخلت العير القصر وعلى الباب بوابون من النبط وفيهم رجل بيده مخصرة فطعن بها جوالقا فأصابت المخصرة رجلا فضرط فقال البواب بالنبطية: بشتا! بشتا! أى الشر! الشر! فاستل قصير السيف فقتل النبطي فدخل عمرو وكان وراء الإبل. فبركت الإبل وخرج الرجال وذهب عمرو فوقف على فم النفق وكان قد وصفه له قصير وعرفه به. فجاءت الزباء نحو النفق. فلما رأت عمرا عرفته بما صور لها فمصت خاتما كان في يدها مسموما وقالت: بيدي لا بيد عمرو فماتت. ويقال إنّه هو قتلها بالسيف واستباح بلادها. ومعنى المثل ومضربه واضح.

بيدين ما أوردها زائدة.
اليد تطلق على الجارحة وعلى القوة الناشئة عنها. ويثنى بالمعنى الثاني أيضاً كما يثنى بالمعنى الأول الحقيقي. قال تعالى: )لمّا خلقتُ بيديَّ(. وقال عروة بن حزام:
فقالوا شفاك الله والله مالنا ... بما حملت منك الضلوع يدانِ
و اليد في المثل إن كانت بالمعنى الحقيقي فهي كناية عن الجد والشدة والقوة لأن العامل عملا بكلتا يديه يكون عليه أقوى وأشد من الذي يعمله بيد واحدة؛ وإن كان بالمعنى الثاني فواضح وثنيت للمبالغة. والمثل يضرب للجلادة والقوة في العمل
بيض القطا يحضنه الأجدلُ.
القطا: الطير المعروف، واحدته قطاة، وتقدم إنّها تعد في الحمام. وتبيض ولا تزيد غالبا على ثلاث بيضات، ومن ثم يقال للقطا أم ثلاث. قال الشاعر:
وأم ثلاثٍ شببن عققنها ... و إنَّ متن كان الصبر منها على صبر
و حضانة الأولاد معروفة، وأصل الحضن جعل الشيء تحت الإبط. والاجدل هو الصقر، مشتق من جدل وهو القوة، وغلبت عليه الصفة. وهذا المثل يضرب في الضعيف يستند إلى القوي ويأوي إليه.
بين الصبح لذي عينين.
معناه أنَّ الليل لا ظلامه يستوي فيه البصير والأعمى، فإذا أقبل الصبح تبينت الأشياء لكل ذي بصر فأدركها. أو معناه أنَّ الصبح لظهوره يدركه كل ذي بصر لا يمتري فيه ولا يلتبس عليه. يضرب في الشيء يتضح وينجلي بحيث لا يتطرق إليه التباس. ويقال أيضاً: وضح الصبح لذي عينين. وأصل المثل لقيس بن زهير العبسي صاحب الحروب بين عبس وذبيان بسبب الفرسين داحس والغبراء. وسنشرح ذلك في موضوعه إن شاء الله تعالى. وكان قيس داهية من دهاة العرب، يضرب به المثل في ذلك كما سيأتي. فحكي أنَّ رجلاً مر بحي الاحوص، فلما دنا من الحي نزل عن راحلته فعمد إلى شجرة فعلق عليها سقاء من لبن، وجعل بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم أستوى على راحلته وانطلق. فنظر القوم إلى ذلك فعمي عليهم أمره، فأرسلوا إلى قيس بن زهير، فلما جاءهم قال له الأحوص: المثل تخبرني أنه لا يرد عليك أمر إلاّ عرفت مأتاه؟ قال: ما ذلك؟ فأراه ذلك، فقال: وضح الصبح لذي عينين. فأرسلها مثلا، ثم قال: هذا رجل أسره جيش " قاصد " إليكم، ثم أنطلق بعد أن أخذ عليه العهد والميثاق أن لا ينذركم، فعرض لكم بما ترون. أما الصرة من التراب فأنه يزعم أنه أتاكم عدد كثير؛ وأما الحنظلة فإنه يزعم أن بني حنظلة قد غزتكم، وأما الشوك فيخبر إنَّ لهم شوكة، وأما اللبن فإنه دليل على قرب القوم أو بعدهم إنَّ كان حلواً أو حامضاً. فأشتد القوم فكان كما قال.
ومما يتلحق بهذا الباب قولك مثلا. أبرد من الثلج، وابرد من قرة، ونحو ذلك وهذا النحو من الأمثال لا يختص بنوع ولا ينحصر في شيء، إذ ما من شيء اتصف بصفة وامتاز بميزة من برودة أو بله أو بطئ أو إبصار أو غير ذلك من الأوصاف، إلاّ ولك أنَّ تضرب به المثل، إما تفصيلاً أو تشبيها. وهكذا في باب؛ غير إنَّ ما اشتهر من ذلك يثبت في الكتاب، وما سواه فسائغ استعماله، غير محذور ارتكابه.
وقولهم: بفلان تقرن الصعبة.
يقال للرجل إذا كان نافذا في أمور قويا عليها ناهضا بها.
وقولهم: بعد اللتيا والتي.
في الأمر يكون بعد معاناة الكد ورؤية الشدة.
وقولهم: هو ابن زوملتها
أي عالم بها .
وقولهم: هو بين سمع الأرض وبصرها

إذا لم يدرك أين توجه. أو يراد به إنّه بأرض خالية لا يسمعه ولا يبصره إلاّ الأرض. وقيل أريد بسمع الأرض وبصرها طولها وعرضها. وضمن هذا المثل أبو محمّد بن عبدون رحمه الله! في قصيدته التي يرثي بها بني المظفر، فقال:
وانفذ في كليب حكمها ورمت ... مهلهلا بين سمع الأرض والبصر
و من أمثال العامة في هذا الباب قولهم: يبر الجرح السوء، ولا يبرا الكلام السوء. وأصله يزعمون أنَّ شخصاً أداة تطوافه إلى إنَّ سقط في مغارة الأسد منكسراً، فوجد أشباله فلاذ بها. فلما دخل عليه الأسد ورآه على تلك الحال، رق له وجعل يأتيه باللحم ويقدمه إليه ويرفق به حتى برئ وذهب إلى أهله. فبينما هو يحدثهم ذات يوم بقصته مع الأسد، إذ جاء الأسد فأستمع من وراء البيت، وسمعه يقول لهام: ما رأيت في الأسد من عيب إلاّ بخراً في فيه، يدنو مني فيؤذيني غاية الإيذاء. فلما سمع الأسد كلامه أحفظه. فبينما ذلك الشخص يوما في موضع إذ وجده ذلك الأسد وعرفه، فقال له الأسد: أما كان لي عليك حق وجزاء لنعمتي ورفقي وإحساني بك؟ أو نحو هذا. قال نعم! قال له: فإني أسألك أن تضربني بهذا الفأس ضربة بين عيني منكرة، فأبى عليه، وألح عليه الأسد حتى ضربه. فذهب، ومكث زمانا حتى برئت تلك الضرب وذهب أثرها. فرجع إليه حتى لقيه فقال له:أنظر هل ترى لضربتك التي ضربتني أثراً! قال: لا! فقال له حينئذ: يبرؤ جرح السوء، ولا يبرؤ كلام السوء. يعني قوله فيه إنّه كان أبخر، وافترسه. ولنحو هذا يقول العامة في مثل آخر: من ذا يقدر إنَّ يقول للأسد: فوك أبخر؟

و قولهم: البركات في الحركات.
وقد ورد في مدح السفر والحضر على التحول والتحرك لنيل الأوطار كلام كثير. قال صلى الله عليه وسلم: " سافروا تصحوا، وأغزو تستغنموا! " . ويروى: " سافروا تصحوا وتغنموا! " . وقال: " الأرض أرض الله والعباد عباد الله: فحيث وجد أحدكم رزقه، فليتق الله وليقم " . وقال: " ما مات ميت بأرض غربةٍ إلاّ قيس به من مسقط رأسه إلى منقطع أثره في الجنة " . وقال: " موت الغريب شهادة " .و قال: " من مات غريباً مات شهيداً " . وفي التوراة: أبن أدم، احدث سفرا احدث لك رزقا. وفيها أيضاً: ابد آدم، خلقت من الحركة إلى الحركة: فتحرك وأنا معك!. وفي بعض الكتب: امدد يدك إلى باب من العمل، أفتح لك باباً من الرزق! وقال صلى الله عليه وسلم لوفد من قيس: ما المروءة فيكم؟ قالوا: العفة والحرفة. وقال موسى بن عمران عليه السلام: لا تلوموا السفر! فإني أدركت فيه ما لم يدرك أحد، يريد أنَّ الله كلمه. ونظمه أبو تمام بقوله:
فإن موسى صلى على روحه ... الله صلاة كثيرة القدس
صار نبياً وعظم بغيته ... في جذوة للصلاة أو قبس
قيل: وقد قال رجل لمعروف الكرخي: يا أبا محفوظ، أتحرك لطلب الرزق أمثال اجلس ؟ قال: بل تحرك، فإنه أصلح لكّ! فقال له: أتقول هذا؟ قال: ما أنا قلته، ولكن عز وجل أمر به حين قال: )و هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا(، ولو شاء أن ينزله عليها فعل. وفي هذا أنشد الثعالبي:
ألم تر أنَّ الله أوحى لمريم ... فهزي إليك الجذع تساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها ... جنته ولكن كل شيء له سبب
وقال المأمون: لا شيء ألذ من السفر في كفاية، لأنك تحل يوم محلة لم تحللها، وتعاشر قوماً لم تعاشرهم. وقالوا: ربما أسفر السفر، عن الظفر. وقالوا: إنَّ من فضائل السفر أنَّ صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومحاسن الآثار، وأمثال يزيد علما بقدرة الله، ويدعو إلى شكر نعمته. وقالوا: السفر يشد الأبدان، وينشط الكسلان، ويسلي الثكلان، ويشهي الطعام، إذ ليس بينك وبين بلدٍ نسب، فخير البلاد ما حمل. وكتب أبن رشيق إلى بعض إخوانه: مثل الرجل القاعد، أعزك الله! كمثل الماء الراكد، وإنَّ ترك تغير، وإنَّ حرك تكدر؛ ومثل المسافر كالسحاب الماطر، هؤلاء يدعونه نقمة، وهؤلاء يدعونه نعمة. فإذا اتصلت أيامه، ثقل مقامة، وكثر لوامه. فاجمع لنفسك فرجة الغيبة، وفرحة الأوبة! وقالوا: المسافر يسمع العجائب، ويكشف التجارب، ويحلب المكاسب. أوحش أهلك إذا كان انسك في إيحاشهم، واهجر وطنك إذا نبت عنك نفسك! وقيل لأعشى بكر: إلى كم ذا الاغتراب؟ أما ترضى بالدعة؟ فقال: لو دامت الشمس يوماً عليكم لمللتموها. وأخذ أبو تمام فقال:

وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجته فأغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أنَّ ليست عليهم بسرمد
و قال الحكماء: لا تنال الراحة إلاّ بالتعب، ولا تدرك الدعة إلاّ بالنصب. وقال أبو تمام:
ولكني لم أحو وفراً مجمعا ... ففزت به إلاّ بشمل مبدد
ولم تعطني الأيام يوماً مسكنا ... ألذ به إلاّ بنوم مشرد
و قال لنابغة الجعدي في هذا المعنى الذي نحن فيه:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا الديار أو تموت فتعذرا
و قال أبن صارة:
سافر فأن الفتى من بات مفتتحا ... قفل النجاح بمفتاح من السفر
إنَّ شئت خضرتها يا أبن الرجاء فكن ... في طي غبر الفيافي ثاني الخضر
ولا يصدنك عن وجه تصعبه ... قد ينبغ الكوثر السلسال من حجر
و قال الآخر:
تخوفي طول السفار وإنني ... لتقبيل كف العامري سفير
ذريني أرد ماء المفاوز آجنا ... إلى حيث ماء المكرمات نمير
وإنَّ خطيرات المهالك ضمن ... لراكبها أن الجزاء خطير
و قال الآخر:
لا يمنعنك خفض العيش في دعةٍ ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد أنت ساكنها ... أهلا بأهلٍ وجيرانا بجيران
و قال البحتري:
وإذا الزمان كساك حلة معدمً ... فليس له حلل النوى وتغرب
و قال الآخر:
ليس ارتحالك ترداد لغنى سفرا ... بك المقام على خسف هو السفر
و قال أبو الفتح البستي:
فالحر حر عزيز النفس حيث ثوى ... و الشمس في كل برج ذات أنوار
و قال ديك الجن:
وليس المرء ذو العزمات إلاّ ... فتى تلقاه كل غد بلاد
و قال الآخر:
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... و ترمي النوى بالمقترنين المراميا
و قال البحتري:
وإذا ما تنكرت لي بلاد ... أو صديق فإنني بالخيار
و قال أبو الطيب:
إذا لم أجد في بلدة ما أريده ... فعندي لأخرى عزمة وركاب
و قال:
ما بلد الإنسان غير الموافق ... و لا أهله الأدنون غير الأصادق
و قال الآخر:
غب عن بلادك وارج حسن مغبة ... إنَّ كنت حقا تشتكي الإقلالا
فالبدر لم يحجب به إبداره ... إلاّ بغير يطلب الإقبالا
و قلت أنا من جملة قصيدة:
لا يكسك الوطن الأليف مذلة ... أن كنت تكتسب العلى بتغرب
فالجار من يدنو إليك مواتياً ... في كل أرض بالجوار الأطيب
ومن احتبك مودة ونصيحةً ... في حالتيك فذاك خير الأقرب
و هذا باب لا يحصى. وقد أكثروا في عكس هذا المقصد، وهو مدح الإقامة والإخلاد إلى الراحة وانتظار الفرج واستمطار الرجاء. قال الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجراً ومسحبا
وتدفن منه الصالحات وإنَّ يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا
و قال زهير:
فقري في بلادك إنَّ قوما ... متى يدعوا بلادهم يهنوا
و قال الآخر:
لقرب الدار في الاقتدار خير ... من العيش الموسع في اغتراب
وقال الآخر:
وما زلت أقطع عرض البلا ... د من المشرقين إلى المغربين
وأدرع الخوف تحت الرجا ... و استصحب الجدي والفرقدين
واطوي وانشر ثوب الهمو ... م إلى أنَّ رجغت بخفي حنين
و قال الآخر:
يعطي الفتى فينال في دعةٍ ... ما لم ينل بالكد والتعب
فأطلب لنفسك فضل راحتها ... إذ ليست الأشياء بالطلب
إنَّ كان لأرزق بلا سبب ... فرجاء ربك أعظم السبب
و قال الآخر:
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد لعنس رحلا ولا قتبا
ويحرم المال ذو المطية والر ... حل ومن لا يزال مغتربا
و قال الآخر:
قد يرزق المرء لم تتعب رواحله ... و يحرم الرزق بالأسفار والتعب
إني وعمرك لا أحصي ذوي حمق ... الرزق اغرى بهم من لاصق الجرب
و قال الآخر:
إلاّ رب باغي حاجة لا ينالها ... و آخر قد تقضى له وهو جالس
و قال الآخر:
قد يرزق المرء لا من حسن حيلته ... و يصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي

ما مسني من غنى يوم ولا عدم ... إلاّ وقولي فيه الحمد لله
و قلت أنا من جملة قصيدة:
لا ولا بالحجى تنال الأماني ... لا ولا الجهل رائد الحرمان
فالغنى بالحظاء لا بالتعني ... و الثمى بالقضاء لا بالتواني
كم لبيب ذي نجدة مات هزلا ... و غبي يحفه ألف هان
وكريم اذيل بعد اعتزاز ... و وضيع يسمو على كيوان
قسمة قدرات وأحكم مبن ... اها قضاء المهيمن الديان
و لنرجع إلى المقصود خشية الطول.
وقولهم: بأضدادها تتبين الأشياء. ونظمه أبو الطيب حيث قال:
من يظلم اللؤماء في تكليفهم ... إنَّ يصبحوا وهم له أكفاء
ويذمهم وبهم عرفنا فضله ... و بضدها تتبين الأشياء
و نحوه قول أبي تمام:
كثرة السفر يمنة وشمالا ... أضعفت في نفيسة العقيان
و نحوه قول المعري:
والشيء لا يكثر مداحه ... إلاّ إذا قيس إلى ضدهِ
لو لا غضا نجدي وقلامه ... لم يئن بالطيب على رندهِ
و قد يعاب الامتداح بنحو هذا بتبه امتداح بكمال إضافي، وقلما يخلو شيء من نحو هذا الكمال. والجواب أنَّ القصد إلى بيان كون الكمال إضافي لا حقيقيا، بل إلى بيان أنَّ الكمال اتضح غاية الاتضاح وإنَّ سبب اتضاحه كذا. والشيء قد يكون في غاية الكمال والفضل ويخفى لشدة ظهوره ولا يعرف إلى بالقياس لغيره. فلو لم يخلق الله المرض لم يعرف حسن الصحة؛ وكذا الفقر والغنى والمرارة والحلاوة ونحو ذلك. ولو لم يخلق الليل لمّا عرفت فائدة النهار كما قال حبيب:
بين البين فقدها قلما ... تعرف فقدا للشمس حتى تغيبا
و لهذا ورد في الخير إنّه يرى المؤمن النار وما أبدله به الجنة؛ وكذا الكافر بالعكس. وشاع في ألسنة العامة قولهم: لا تمدحني حتى تجرب غيري، كما قال حبيب:
وإساءات ذي الإساءة يذكر ... نك يوماً إحسان ذي الإحسانِ
و قال أيضاً:
إساءة دهر اذكرت حسن فعله ... إليَّ ولولا الشري لم يعرف الشهدُ
و أما قول أبي الطيب:
زانت الليل غرة القمر الطا ... لع فيه ولم يشنها سوادهُ
فمراده به المبالغة في الثناء، وإنَّ طلعة الممدوح تكشف الظلماء مع غلبتها الأنوار، وأو أضاف إشراق طلعته إلى النهار لم يكن لذلك كبير فضل، من حيث إنَّ الشيء يظهر بالنهار ولو ضعيفا. ولم يعتبر هو ما مر، وإنّما اعتبر ما اعتبره النابغة حيث اعترض على حسان قوله: يلمعن بالضحى. وكان النابغة تضرب له قبة بسوق عكاظ، فيعرض عليه الشعراء أشعارهم. فدخل عليه يوما حسان بن ثابت وعنده الأعشى، وقد كان أنشده شعرا له فاستحسنه، وإذا بالخنساء فأنشدت:
يا صخر وراد ماء قد تناذره ... أهل المياه وما في ورده عارُ
مشي السبنتى إلى هيجاء معضلة ... لها سلاحان: أنياب وأظفارُ
فما عجول على بوٍّ تحن له ... لها حنينان: إعلان وإسرارُ
ترتع ما غفلت حتى إذا ذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبارُ
يوماً بأوجع مني يوم فارقني ... صخرٌ والدهر إحلاء وإمرارُ
وإنَّ صخراً لوالينا وسيدنا ... و إنَّ صخرا إذا نشتو لنحَّارُ
وإنَّ صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ
جوابُ قاصيةٍ جزارُ ناصيةٍ ... عقاد ألويةٍ للعيش جرارُ
حامي الحقيقة محمود الخليقة ... مهدي الطريقة نقاع وضرارُ
لم تره جارة يمشي بساحتها ... لريبة حين يخلى بيته الجارُ
فقال لها النابغة: لو لا أنَّ أبا بصير يعني الأعشى أنشدني قبلك لقلت أنك أشعر الإنس والجن فقال حسان: أنا اشعر منك ومنها ومن أبي بصير، حيث أقول:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... و أسيافنا يقطرن من نسجه دما
وليدنا بني العنقاء وأبن محرق ... فاكرم بنا خالا واكرم بنا أبنما!
فقال له النابغة: انك لشاعر لو لا انك قلت الجفنات فقللت العدد ولو قلت الجفان كان اكثر؛ وقلت يلمعن بالضحى، ولو قلت يشرقن بالدجى كان ابلغ وقلت يقطرن ولو قلت يجرين كان ابلغ؛ وفخرت بما ولدت ولم تفغر بمن ولدك على انك يا بني لا تحسن أن تقول:
فانك كالليل الذي هو مدركي ... و إن خلت أنَّ المنتآى عنك واسعُ
فقام حسان خجلا منكسرا.

فائدتان: الأولى قول النابغة: أشعر الإنس والجن أو الجن والإنس خطأ في العربية. فإن المعطوف في حكم المعطوف عليه واسم التفضيل إنّما يضاف على ما هم بعض منه، غير إنّه إن كانت الرواية تأخير الجن أمكن أن يستسهل في التابع ما لا يسوغ في المتبوع.
الثاني: بيت النابغة الذي تبجح به وفخر به على حسان هو من جيد الشعر، وقد اعترضه الأصمعي في انتصاره للرشيد على البرامكة. فإنَ النهار سواء هو والليل في الإدراك واللحاق ولا مزية لليل حتى يخص بالذكر. وقصة محاضرتهم مشهورة. قلت: وأنت إذا علمت وأنصفت عرفت أن ليس لحاق النهار كلحاق الليل الذي تنقطع الحركات لإقباله ويستكن كل أحد لغشيانه، ويخضع تحت أطنابه: فتشبيه الملك به أحق. وليتنبه الأديب إلى كلام النابغة وانتقاداته ليعرف مبلغ شعراء الجاهلية في معرفة الشعر والغوص على المعاني ويقدرهم حق قدرهم في هذا الباب ويعرف أنَّ البلاغة طوع إيمانهم وإنها تدب على ألسنتهم دبيب النمل، وتجري منهم مجرى الدم وتسري في أفكارهم سريان العذب السلسال، حتى يعرف مقدار من تحداهم رب العزة بكلامه فأعجزهم، وأنهم لأمر ما عجزوا وأذعنوا. فلا يغتر الفتى الجاهل اليوم ويتوهم إذا سمع شقاشق أهل إعصاره أنَّ أولائك أغمار. وقولهم للإنسان غير المستوطن: بيته على ظهره. وأصله في السلحفاة. ومثله قول الشاعر:
حيثما كنت لا أخلف رحلا ... من رآني فقد رآني ورحلي
و قد آن أن أذكر ما يتيسر من الأمثال الشعرية في هذا الباب وما يجري على نمطها. وينخرط في سفطها. قالوا:
ومن يكن الغراب له دليلا ... يدل به على جيف الكلابِ
يريدون أنَّ من اتخذ الدنيء مرتادا واللئيم قوادا فهو يسوقه إلى سخفه أو يقع به إلى حتفه. وقال الآخر:
ومن لم يكن عقربا يتقى ... مشت بين أثوابه العقربُ
و هو مثل قول العامة: من لم يكن ذئبا أكلته الذئاب. وقول أبن دريد:
من ظلم الناس تحاموا ظلمه ... و عز فيهم جانباه واحتمى
وهم لمن لان جانبه ... أظلم من حيات أنباث السفا
و قال مسكين الدارمي:
رب مهزولٍ سمينٌ عرضه ... و سمين الجسم مهزول النسب
أي رب وهزول البدن والجسم كريم الأب رفيع النسب صين الحسب، وبالعكس. وقال رجل من مذحج:
إنَّ السوية إن إذا استغنيتم ... و أمنتم فأنا البعيد الأجنبُ
وإذا تكون كريهة ادعى لها ... و إذا يحاس الحيس يدعى جندبُ
هذا وجدكم الصغار بعينه ... لا أم لي إنَّ كان ذاك ولا أبُ!
و المثل هو البيت الوسط وفي معناه مثل من أمثال النساء يقلن: الطرية للهاتي، والقسية لأخواتي. وقال النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب؟
و مثله قول الآخر:
وإن كنت لم تصحب سوى ذي كمالة ... فأين من الأخوان من هو كاملُ؟
و قولي من قصيدة:
وإذا تبتغي صديقا بلا ذا ... مر فعش مفردا عن الخلانِ
و قال أبو عبد الله بن شرف في معنى بيت النابغة:
ولا تعتب على نقص الطباع أخا ... فإنَ بدر الدجى لم يعط تكميلا
و قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... و بقيت في خلف كجلد الأجربِ
و قال أبن شرف في معناه:
كم خانني الدهر في أوفى الورى فمضى ... به وخلف مرذولا فمرذولا
و قال الآخر:
ألا إنّما الدنيا غضارة أيكة ... إذا اخضر منها جانب جف جانبُ
الغضارة: الطين اللازب الأخضر وتطلق أيضاً على الخصب والنعمة.
وقال أبن شرف في معنى البيت:
ولم يزل ثمر الدنيا لقاطفه ... رطبا ويبسا وماجوجا ومعسولا
و قال الآخر:
وإنَّ امرئ قد سار تسعين حجة ... على منهلٍ من ورده لقريبُ
و قال الآخر:
وأجرا من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال ذوو العيوبِ
و قال أبن شرف في معناه:
ولم تجد قط عيابا ومفتخرا ... إلاّ على العيب والعوراء مجبولا
و قيل للأحنف بن قيس: دلني على رجل كثير العيوب! فقال: اطلبه عيابا فانه لا يعيب الناس إلاّ بفضل ما فيه! وقال امروء القيس:
وانك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب
و في البيت مثلان سيأتيان إن شاء الله تعالى. ومثله أبي تمام:

وضعيفة فإذا أصابت قدرة ... قتلت: كذلك قدرة الضعفاء
و قال الآخر:
راحت مشرقة ورحت مغرباً: ... شتان بين مشرق ومغرب!
و مثله ما انشد الأصمعي من قول الشاعر:
أذكرك مجالس بني أسد ... بعدوان فنحن إليهم القلب
الشرق منزلهم ومنزلنا ... غرب: وأين الشرق والغرب؟
من كل أبيض جل زينته ... مسك أحم وصارم عضب
مدجج يدعى بشكته ... و عقيره بفنائه تحبو
و قال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي:
السيف أصدق أنباءً من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب
والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين في السبعة الشهب
و قال أيضاً:
إذا المرء لم يستخلص الحزم نفسه ... فذروته للحادثات وغاربه
أعذلتنا ما أخشن الليل مركبا ... و أخشن منه في الملمات راكبه
دعيني وأهوال الزمان أفانها ... فأهواله العظمى تليها رغائبه
فإن نحن الحسام الهندواني إنّما ... خشونته ما لم تفلل مضاربه
و قال:
لأمر عليهم أنَّ تتم صدوره ... و ليس عليهم أن تتم عواقبه
و قال أيضاً:
سلي هل عمرت القفر وهو سباسب ... و أدرت ربعي من ركابي سباسبا
وغربت حتى لم أجد ذكر مشرقٍ ... و شرقت حتى قد نسيت المغاربا
خطوب إذا لاقيتهم رددني ... جريحا كأني قد لقيت الكتائبا
ومن لم يسلم للذنوب أصبحت ... خلائقه طراً عليه نوائبا
وقد يكهم السيف المسمى منية ... و قد يرجع المرء المظفر خائبا
فآفة ذا ألا يصادف مضربا ... و آفة ذا ألا يصادف ضاربا
و قال أيضاً:
كانت لنا ملعب نلهو بزخرفه ... و قد ينفس عن جد الفتى اللعب
وعاذل هاج لي بالعذل مأربة ... باتت عليه هموم الصدر تصطخب
لمّا أطال ارتجال العذل قلت له: ... الحزم يثني خطوب الدهر لا الخطب
و قال:
مالي أرى جلبا فعما وليست أرى ... سوقا ومالي أرى سوقا ولا جلب؟
أرض بها عشب جرف وليس بها ... ماء وأخرى بها ماء ولا عشب
و قال أيضاً في أبي دلف:
يرى اقبح الأشياء أوبة آملٍ ... كسته يد المأمول حلة خائب
وأحسن من نور تفتحه الصبا ... بياض العطايا في سواد المآرب
وقال:
ولو كان يفني الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
وقال أيضاً:
وما الأسد الضرغام يوما بعاكسٍ ... ريمته إن أن أو بصبص الكلب
وقال أيضاً:
لو رأى الله أنَّ للشبيب فضلا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا
وقال أيضاً:
والحظ يعطاه غير طالبه ... و يحز الدر غير محتلبه
وقال أيضاً:
فاض اللئام وغاضت الاحساب ... و اجتثت العلياء والآداب
فكأن يوم البعث فاجأهم فلا ... أنسب بينهم ولا أسباب
وقال:
ما إن سمعت ولا أراني سامعا ... أبداً بصحراء عليها باب
من كل مفقود الحياء فوجه ... من غير بواب له بواب
ما زال وسواسي لعقلي خادعا ... حتى رجا مطرا وليس سحاب
ما كنت ادري لا دريت بأنه ... يجري بأفنية البيوت سراب
و قال أيضاً يهجو يوسف السراج:
سمعت بكل داهية نآد ... و لم اسمع بسراج أديب
أما لو إنَّ جهلك عاد علما ... إذا لنفذت في علم الغيوب
ومالك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
فلو نشر المقابر عن زهير ... لصرح بالعويل وبالنحيب
متى كانت قوافيه عيالا ... على تسفير بقراط الطبيب؟
و قال أيضاً:
هو الدهر لا يشوي وهن المصائب ... و اكثر آمال الرجال كواذب
و قال:
وقلت: أخي قالوا: أخ ذو قرابة ... فقلت لهم: إنَّ الشكول اقرب
نسيبي في عزمي ورأيي ومذهبي ... و إنَّ باعدتنا في الأصول المناسب
و قال:
على إنّها الأيام قد صرن كلها ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
و قال أيضاً:
إنَّ ريب الزمان يحسن إنَّ يهدي ... الرزايا إلى ذوي الاحساب

فلهذا يجف بعد اخضرار ... قبل روض الوهاد روض الروابي
و قال أيضاً:
ومن يكن طيبا فلا عجب ... إنَّ يأكل الناس من أطيابه
و قال أيضاً:
غير مستأنس بشيء إذا غبت ... سوى ذكرك الذي لا يغيب
أنت دون الجلاس انسي وإنَّ كنت ... بعيدا فالأنس منك قريب
و قال أيضاً:
لعمر مع الرمضاء والنار تلتظي ... ارق وأحفى منك في ساعة الكرب
متى ابتغي النصف من قلب صاحب ... إذا لم يكن قلبي شفيقا على قلب
و قال أيضاً يعاتب أبا دلف:
أقمت شهورا في فنائك خمسة ... لقى حيث لا تهمي علي جنوب
فإنَ نلت ما أملت فيك فإنني ... جدير وإلاّ فالرحيل قادب
و قال أيضاً:
يا أيها الملك النائي برؤيته ... وجوده لمراعي جوده كثب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إنَّ السماء ترجى حين تحتجب
و قال أيضاً:
لعمرك لليأس غير المريب ... خير من الطعم الكاذب
وللريث تحفزه بالنجاح ... خير من الأمل الخائب
و قال أيضاً يصف غيثا:
لم أر عيرا جمة الدؤوب ... تواصل التهجير بالنأويب
ابعد من أين ومن لغوب ... منها غداة الشار والمهضوب
نجائب ولين من نجيب ... شبائه الأعناق بالعجوب
كالليل أو كاللوب أو كالنوب ... منقادة لعارض غريب
كالشمعة التفت على النقيب ... آخذة بطاعة الجنوب
ناقصة لمرر الخطوب ... تكف غرب الزمان العصيب
محاءة للأزمة اللزوب ... محو استلام الركن للذنوب
لمّا دنت الأرض من قريب ... تشوفت لوبلها السكوب
تشوف المريض للطبيب ... و طرب المحب للحبيب
وفرحة الأديب بالأديب ... و خيمت صادقة الشؤبوب
وقالم فيها الرعد كالخطيب ... و حنت الريح حنين النيب
فالشمس ذات حاجب محجوب ... قد أغربت من غير ما غروب
والأرض في ردائها القشيب ... في زاهر من نبتها رطيب
بعد اشتهاب الثلج والضريب ... كالكهل بعد السن والتنحيب
تبدل الشباب بالمشيب ... كم أنست من جانب غريب
وغلبت من الثرى المغلوب ... و نفست من بأرض مكرب
وسكنت من نافر الجبوب ... و أقنعت من بلد رغيب
يحفظ عهد الغيث بالمغيب ... لذيذة الريق والصبيب

كأنها تهفي على القلوب.
وتقدم استيفاء هذا المعنى في الباب الأول.
وقال أيضاً:
الصبر كاس وبطن الكف عارية ... و العقل عار إذا لم يكس بالنشب
وما أضيع العقل إنَّ لم يرع ضيعته ... و فر وأي رحى دارت بلا قطب
و قال:
بأي وخد قلاص واجتناب فلا ... إدراك رزق إذا ما كان في هرب
و قال:
إذا قصدت لشلو خلت إني قد ... أدركته ادركتني حرفة الأدب
و إنّما قال ذلك لمّا يزعم من إنَّ حرفة الأدب مشؤومة حليفة الفقر حتى قال قائلهم:
الضب والنون قد يرجى اجتماعهما ... و لا يرجى اجتماع المال والأدب
و ستأتي في هذا الباب حكايات ظريفة في هذا المعنى للأدباء.
وقال أيضاً:
إنَّ الأسود اسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب السلب
و كانوا يرون الفضيلة عند اللقاء إنّما هي في الاهتمام بضرب الهام دون جمع الحطام. ومنه قول عنترة:
هلا سألت القوم يا أبنت معبد ... إنَّ كنت جاهل بما لم تعلم
إذ لا أزال على رحالت سابح ... نهد تعاوره الكماة معلم
طورا يعرض للطعان وتارة ... يأوي إلى حصد القسي عرمرم
يخبرك من شهد الوقيعة إنني ... أغشى الوغى واعف عند المغنم
و هذا المعنى هو الذي نبه عليه الأول وأوضحه. وقد أكثر الشعراء في هذا المعنى. ولمّا سيق إلى المعتصم المازيار أسيرا فأمر بصلبه قال له: من علي ولك أموال جليلة الخطر! فأبى وانشد:
إنَّ الأسود اسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب السلب
و قال أيضاً:
إذا ما شبت حسن الدين ... منك بصالح الأدب
فمن شئت كن فلقد ... فلجت بأكرم النسب
فنفسك قط أصلحها ... و دعني من قديم آب
اصله قوله تعالى: إنَّ أكرمكم عند الله اتقاكم. وقال أبو الطيب:

ومن سر أهل الأرض ثم بكى أسى ... بكى بعيون سرها وقلوب
و قال:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا ... و أعيى دواء الموت كل طبيب
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... منعنا بها من جيئة وذهوب
تملكها الآتي تملك سالب ... و فارقها الماضي قراق سليب
ولا فضل فيها للشجاعة والندى ... و صبر الفتى لولا لقاء شعوب
وأوفى حياة الغابرين لصاحب ... حياة امرئ خانته بعد مشيب
و قال:
وما كل وجهٍ أبيضٍ بمباركٍ ... ولا كل جفنٍ ضيقٍ بنجيبِ
و قال:
كأنَّ الردى عادٍ على كل ماجدٍ ... إذا لم يعوذ مجده بعيوبِ
وأولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوبِ
وللتركُ للاحسان خيرٌ لمحسنِ ... إذا جعل الإحسان غير ربيبِ
و قلا:
فربَّ كئيبٍ ليس تندى جفونه ... و رب كثير الدمع غير كئيبِ
و قال:
إذا استقبلت نفس الكريم مصابها ... بخبثٍ ثنت فاستدبرته بطيبِ
وللواحد المكروب من زفراته ... سكون عزاءٍ أو سكون لغوبِ
و قال:
وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... و يجهد أن يأتي لها بضريبِ
و قال أيضاً يمدح سيف الدولة:
وكيف عرفنا رسم من يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبا؟
نزلنا عن الأوكار نمشي كرامةً ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
و تمثل به أحد الفضلاء حيث أقبل على المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام! وقال:
ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت ... على عينه حتى يرى صدقها كذبا
و قال:
ومن تكن الأس الضواري جدوده ... يكن ليله صباحاً ومطعمه غصبا
ولست أبالي بعد إدراكي العلا ... أكان تراثا ما تناولت أم كسبا
و قال:
تهاب سيوف الهند وهي حدائد ... فكيف إذا كانت نزارية عربا؟
ويرهب ناب الليث والليث وحده ... فكيف إذا كان الليوث له صحبا؟
ويخشى عباب البحر وهو مكانه ... فكيف بمن يغشى البلاد إذا عبا؟
و قال:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه ... حريصا عليها مستهاما بها صبا
فحب الجبان النفس أورده التقى ... و حب الشجاع النفس اورده الحربا
ويختلف الرزقان والفعل واحدٌ ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا
و قال أيضاً:
وإن كان ذنبي كل ذنبٍ فانه ... محا الذنب كل المحو من جاء تائبا
و قال أيضاً يستعطف سيف الدولة على بني كلاب:
ترفق أيها المولى عليهم ... فإنَ الرفق بالجاني عتابُ
وانهم عبيدك حيث كانوا ... إذا تدعو لنائبة أجابوا
و كأنه من قول أبن أبي عيينة:
جلبنا الخيل من بغداد شعثا ... عرائس تحمل الأسد الغضابا
بكل فتى أغر مُهلبي ... تخال بضوء صوته شهابا
ومن قحطان كل أخي حفاظٍ ... إذا يدعي لنائبةٍ أجابا
و قال أيضاً:
بأخوالي وأعمامي أقامت ... قريش ملكها وبها تهابُ
متى ما أذاع أخوالي لحربٍ ... و أعمامي لنائبةٍ أجابوا
و قال:
وعين المخطئين هم وليسوا ... بأول معشرٍ خطئوا فتابوا
وكم ذنبٍ مولده دلال ... و كم بعد مولده اقترابُ
وجرم جره سفهاء قوم ... و حل بغير جارمه العذابُ
و قال:
ومن في كفه منهم قناة ... كمن في كفه منهم جضابُ
و هو معنى قول الآخر:
فلا يمنعك من أرب لحاهم ... سواءٌ ذو العمامة والخمارِ
و قال أيضاً:
وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها ... فإنَ في الخمر معنى ليس في العنبِ
و قال:
فلا تنلك الليالي إنَّ أيديها ... إذا ضربن كسرن النبع بلالغربِ
ولا يعن عدواً أنت قاهره ... فإنهن يصدن الصقر بالخربِ
وإن سررن بمحبوبٍ فجعن به ... و قد أتينك في الحالين بالعجبِ
وربما احتسب الإحسان غايتها ... و فاجأته بأمر غير محتسبِ
وما قضى أحد منها لبانته ... و لا انتهى أرب إلاّ إلى أربِ
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلاّ على شجب والخلف في الشجبِ
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... و قيل تشك جسم المرء في العطبِ

ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعبِ
و قال أيضاً:
ومن ركب الثور بعد الجواد ... أنكر أظلافه والغبب
و قال:
ويستنصران الذي يعبدان ... و عندهما أنه قد صلب
ويدفع ما ناله عنهما ... فيا للرجال لهذا العجب
و قال أيضاً:
لأي صروف الدهر فيه نعاتبُ ... و أي رزاياه بوترٍ نطالبُ؟
و قال أيضاً:
فالموت أعذر لي والصبر أجمل بي ... و البر أوسع والدنيا لمن غلبا
و قوله: والدنيا لمن غلبا هو مثل مشهور ووقع في قول الآخر: والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا. وأنشد أبن الخطيب لبعض الأعراب:
من كان أبصر شيئا أو رأى عجبا ... فإنني عشت دهرا لا أرى عجبا
الناس كالناس والأيام واحدٌ ... و الهر كالهر والدنيا لمن غلبا
فلا أدري لأوارده فيه أبو الطيب أم أخذه منه وهو في بيت الأعرابي أقعد وبسياقه أنسب. وتمام البيت المذكور ما أنشده المصعب الزبيري في أنساب قريش لبعض الشعراء في معاوية بن يزيد وهو:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها ... فالملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
و أراد بابي ليلى معاوية بن يزيد المذكور وفيه يقول عبد الله بن همام السلولي:
تلقفها يزيد عن أبيه ... فخذها يا معاوية عن يزيدا
فإنَ دنياكم لكم اطمأنت ... فأولوا أهلها خلقا سديدا
و قال أيضاً:
أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستسقياً مطرت عليَّ مصائبا
و قال في وصف علي بن المنصور:
كالبدر من حيث التفت وجته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... جودا ويبعث للبعيد سحائبا
كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
و قال أيضاً:
ليس بالمنكر إن برزت سبقاً ... غير مدفوعٍ عن السيف الغرابُ
و قال أيضاً:
إذا لم تكن نفس النسيب كأصله ... فماذا الذي تغني كرام المناصب؟
وما قريب أشباه قومٍ أباعدٍ ... و لا بعدت أشباه قومٍ أقاربِ
إذا علوي لم يكن مثل طاهر ... فما هو إلاّ حجةٌ للنواصبِ
و قال أيضاً:
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... و في البداوة حسن غير مجلوب
و قال:
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب
و قال:
فما الحادثة من حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
و قال أيضاً:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر إنَّ المانوية تكذب
وقاك ردى الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب
و قال:
وما الخيل إلاّ كل الصديق قليلة ... و إنَّ كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... و أعضائها فالحسن عندك مغيب
لحا الله ذي الدنيا منخا لراكب ... فكل بعيد الهم فيها معذب
إلاّ ليت شعري هل أقول قصيدة ... فلا اشتكي فيها ولا اتعب
و قال يخاطب كافورا:
وهبت على مقدار كفي زماننا ... و نفسي على مقدار كفيك تطلب
و قال:
يضاحك في ذا العيد كل حبيبه ... حذائي وابكي من احب واندب
احن إلى أهلي وأهوى لقائهم ... و أين من المشتاق عنقاء مغرب
و قال:
كل امرئ يولي الجميل محبب ... و كل مكان ينبت العز طيب
و قال:
واظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب
قال صاحب الرسالة الحكيمة وهو قول ارسطوطاليس: اقبح الظلم حسدك لعبدك ومن تنعم عليه. قلت: وهو غلط. إنَّ كانت رواية هذه الحكمة هكذا فإنَ أبا الطيب إنّما أراد عكسها وهو إنَّ اقبح الظلم إنَّ يحسدك من تنعم عليه وتحسن إليه بدليل سياق كلامه.
وقال:
وقد يترك النفس التي لا تهابه ... و يحترم النفس التي تتهيب
و قال أيضاً:
وما العشق إلاّ غرة وطماعة ... يعرض كل نفس فتصاب
و قال:
اعز مكان في الدنيا سرج سابح ... و خير جليس في الزمان كتاب
و قال يخاطب كافورا:

وهل نافعي إنَّ ترفع الحجب بيننا ... و دون الذي أملت منك حجاب
و قال:
وفي نفسي حاجات وفيك فطانة ... سكوتي جواب عندها وخطاب
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يبغي عليه ثواب
و قال يخاطبه:
إذا نلت منك الود فالمال هين ... و كل الذي فوق التراب تراب
و ينشد العارفون رضوان الله عليهم والخطاب للملك الحق هكذا:
فليتك تحلو والحياة مريرة ... و ليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... و بيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... و كل الذي فوق التراب تراب
و اذكرني هذا المعنى حكاية عن الأصمعي قال: بينما أنا أسير في طريق اليمن إذا أنا بغلام واقف في الطريق في اذنيه قراط في كل جوهرة يضيء وجهه من ضوء الجوهرة وهو ربه بأبيات من الشعر وهي:
يا فاطر الخلق البديع وكافلا ... رزق جميع سحاب جودك هاطل
يا مسبغ البر الجزيل ومسبل ... الستر الجميل عميم طولك طائل
يا عالم السر الخفي ومنجز ... الوعد الوفي قصاء حكمك عادل
عظمت صفاتك يا عظيم فجل إنَّ ... يحصى الثناء عليك فيها قائل
الذنب أنت له بمنكب غافر ... و لتوبة العاصي بحلمك قابل
تعصيه وهو يسوق نحوك دائما ... مالا تكون لبعضه تستأهل
متصدق أبداً وأنت لجوده ... بقبائح العصيان منك تقابل
وإذا دجى ليل الخطوب وأظلمت ... سبل الخلاص وخاب فيه الأمل
وايست من وجه النجاة فما لها ... سبب وما يدنو بها متناول
يأتيك من الطافه الفرج الذي ... لم تحتسبه وأنت عنه غافل
يا موجد الأشياء من القي إلى ... أبواب غيرك فهو غر جاهل
ومن استراح بغير ذكرك أو رجا ... أحدا سواك فذاك ظل زائل
رأي يلم إذا عرته ملمة ... بسوى جنابك فهو رأي فائل
عمل أريد به سواك فأنه ... عمل وإن زعم المرائي باطل
وإذا رضيت فكل شيء هين ... و إذا حصلت فكل شيء حاصل
أنا عبد سوء ابق كل على ... مولاه أوزار الكبائر حامل
قد أثقلت ظهري الذنوب وسودت ... صحفي العيوب وستر عفوك شامل
ها قد أتيتك حسن ظني شافع ... و وسائلي ندم ودمع سائل
فأغفر لعبدك ما مضى وارزقه تو ... فيقا لمّا ترضى ففضلك كامل
فافعل به ما أنت أهل جميله ... و الظن كل الظن انك فاعل
قال: فدنوت منه وسلمت عليه فقال: ما أنا براد عليك حتى تؤدي من حقي الذي يجب عليك. قلت: وما حقك؟ قال: أنا غلام على دين إبراهيم الخليل عليه السلام لا أتغدى كل يوم ولا أتعشى حتى أسير الميل والميلين في طلب الضيف. فأجبته فرحب بي وسرت معه حتى وافينا الخيمة فصاح: يا أختاه فأجابته جارية من الخيمة: يا لبيكاه! فقال: قومي إلى ضيفنا فقالت الجارية: حتى ابدأ بشكر المولى الذي ساقه إلينا. فصليت ركعتين لله تعالى. قال: فأدخلني الشاب الخيمة وأجلسني وأخذ شفرة فقام إلى عناق فذبحها. قال: فلما جلست في الخيمة نظرت إلى الجارية فإذا هي احسن الناس وجها. فكنت اسارقها النظر ثم فطنت لي فقالت لي: مم! أنا علمت انه نقل عن صاحب طيبة عليه الصلاة والسلام إنّه قال: زنى العينين النظر. أما إني ما أردت بهذا إنَّ أوبخك ولكني أردت أن أؤدبك لئلا تعود إلى مثل هذا. فلما كان النوم بت أنا والغلام خارج الخيمة وباتت الجارية داخلها. فكنت اسمع دوي القرآن إلى السحر بأحسن صوت وارقه. ثم سمعت أبيات من الشعر بأعذب لفظ وأشجى نغمة وهي:
أبى الحب أن يخفى وكم قد كتمته ... فأصبح عندي قد أناخ وطنبا
إذا اشتد شوقي هام قلبي بذكره ... و إن رمت قربا من حبيبي تقربا
ويبدو فأفنى ثم أحيا به له ... و يسعدني حتى ألذ واطربا
فلما أصبحت قلت للغلام: صوت من سمعت؟ قال صوت أختي وذلك دأبها كل ليلة. فقلت: أنت أحق بهذا منها إذ أنت رجل وهي امرأة. فتبسم ثم قال: أما علمت إنّه موفق ومخذول ومقرب ومبعد؟ فودعتها وانصرفت. ولا يخفى إنَّ محل الاستشهاد قوله:
وإذا رضيت فكل شيء هين ... و إذا حصلت فكل شيء حاصل
و هذا الشعر يتمثل به الصوفية كثيرا. وقال أيضاً:

وما يشق على الكلب ... أن يكون أبن كلبة
و قال أيضاً:
لابد للإنسان من ضجعة ... لا تقلب المضجع على جنبه
ينسى بها ما مر من عجبه ... و ما أذاق الموت من ركبه
نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه؟
تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمن هي من كسبه
فهذه الأرواح من جوه ... و هذه الأجسام من تربه
لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه
و هو معنى قول ارسطوطاليس: النظر في عواقب الأشياء يزهد في حقائقها والعشق عمى النفس عن درك رؤية المعشوق. والذي قبله هو معنى قوله أيضاً: اللطائف سماوية والكثائف أرضية وكل عنصر عائد إلى عنصره الأول.
وقال:
يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه
و نحوه قول بعضهم في أبن سينا:
وكان أبن سينا يداوي الرجال ... و في السجن مات أخس الممات
فلم يشف ما قاله في الشفا ... و لم ينج ما قاله بالنجات
و قال:
وغاية اللمفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه
و هو قريب من قول ارسطوطاليس: آخر افراط التوقي أوّل موارد الحذر.
وقال:
يدخل صبر المرء من مدحه ... و يدخل الإشفاق في ثلبه
ولم اقل مثلك اعني به ... سواك يا فردا بلا مشبه
و قال أيضاً:
إذا اكتسب الإنسان من هن عرسه ... فيل لؤم إنسان ويا لؤم مكسب
و قال الحماسي سعد بن ناشب:
سأغسل عني العار بالسيف جالبا ... علي قضاء الله ما كان جالب
واذهل عن داري وأجعل هدمها ... لعرضي من ياقي المذلة حاجب
ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالب
و قال:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... و نكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في أمره غير نفسه ... و لم يرض إلاّ قائم السيف صاحبا
و قال موسى أبن جابر:
لا اشتهي يا قوم إلاّ كارها ... باب الأمير ولا دفاع الحاجب
ومن الرجال أسنة مذروبة ... و مزندون شهودهم كالغائب
منهم ليوث ما ترام وبعضهم ... مما قمشت وضم حبل الحاطب
وقال بعض بني مازن:
وما قتل جار غائب عن نصيره ... لطالب أوتار بمسلك مطلب
و قال:
وقد ذقتمونا مرة بعد مرة ... و علم بيان الأمر عند المجرب
و قال القتال الكلابي:
نعرض للطعان إذا التقينا ... وجوها لا تعرض للسباب
و مثله قول الهمداني:
لقد علمت نسوان همدان إنني ... لهن غداة الروع غير خذول
وابذل الهيجاء وجهي وأنني ... له في سوى الهيجاء غير بذول
و من هذا قول أبي مخزوم النهشلي الدارمي من شعراء الحماسة:
أنا لنرخص يوم الروع أنفسنا ... و لو نسام بها في الأمن اغلينا
و قال بعض الفقعسيين:
رأيت بني عمي إلاّ لي يخذلونني ... على حدثان الدهر إذ يتقلب
فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا ... و في الأرض مبثوقا شجاع وعقرب
و قال:
كأنهم لم تسبق من الليل ليلة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
و قال ربيعة بن مقروم الضبي:
إذا ما المرء لم يحببك إلاّ ... مغالبا نفسه سئم الغلابا
ومن لا يعط إلاّ في عتاب ... يخاف يدع به الناس العتابا
أخوك أخوك من يدنو وترجو ... مودته وإن دعي استجابا
إذا حاربت حارب من تعادي ... و زاد سلاحه منك اقترابا
يواسي في كريهته أخاه ... إذا ما مضلع الحدثان نابا
و قال قراد بن عتاب الحماسي أيضاً:
إذا المرء لم تغضب له حين يغضب ... فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبون
ولم يحبه بالنصر قوم اعزه ... مقاحيم في الأمر الذي يتهيب
تهضمه أدنى العدو ولم يزل ... و إنَّ كان عضا بالظلامة يضرب
المقاحيم جمع مقحام وهو المقتحم في الأمور الجريء عليها ويتهيب يتخوف وتهضمه تنقصه وأدنى العدو اخسهم والعض بالكسر الرجل الداهية كما تقدم في الهمزة والظلامة الظلم. أي لا يزال يضرب أي يقابل ويرمي بالظلم وإن كان عضا إذا لم يكن له أنصار.
وقال الاخنس بن شهاب:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى القوم الذين نضارب

يقول: إذا ضاق مجال الحرب عن مضاربة الأقران بالسيوف خطونا إليهم وأقدمنا عليهم جرأة حتى نصل إليهم فنضربهم.
ومثله قول الآخر:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدمنا ونلحقها إذا لم تلحق
و قال محمد بن بشير:
وكل امرئ يوما سيركب كارها ... على النعش أعناق العدى والأقارب
و قال نهشل الدارسي:
وهون وجدي عن خليلي أنني ... إذا شئت لاقيت امرؤا مات صاحبه
ومن ير بالأقوام يوما يروا به ... معرة قوم لا توارى كواكبه
و مثل بيته الأول قول الخنساء:
لولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
و قال الغطمش الضبي:
إلاّ رب من يغتابني ود إنني ... أبوه الذي يعزى إليه وينسب
على رشدة من أمه ولغية ... فيغلبها فحل على النسل منجب
فبالخير لا بالشر فارج مودتي ... و أي امرئ يغتال منه الترهب؟
أقول وقد فاضت من العين عبرة ... أرى الأرض تبقى والإخلاء تذهب
اخلاي لو غير الحمام أصابهم ... عتبنا ولكن ما على الدهر معتب
الرشدة: النكاح والغية: الزنى. ويقال: انجب الرجل إذا ولد نجيبا.
وقال الحكم بن عبدل الأسدي:
اطلب ما يطلب الكريم من ... الرزق لنفسي واجمل الطلبا
واحلب الثرة الصفي ولا ... اجهد إخلاف غيرها حلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعة رغبا
والعبد لا يطلب العلاء ولا يعطيك شيئا إلاّ إذا رهبا
مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن مشيا إلاّ إذا ضربا
ولم أجد الخلائق إلاّ ... الدين لمّا اعتبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شد بعنس رحلا ولا قتبا
ويحرم المال ذو المطية ... و الرحل ومن لا يزال مغتربا
الثرة: الناقة الغزيرة اللبن ومثلها الصفين ولذا وصفها بها. والإخلاف جمع خلف وهو حلمة الضرع. يقول: إني احلب الكثيرة الدر وآخذ منه عفوا ولا اجهد غيرها لاستخراج النزر واستنزل العسير وهذا تمثيل. والمراد إني اجمل في الطلب ولا أكد نفسي في استحصال الرزق علما مني بان ما قدر من الرزق ألي واصل وما قسم لا محالة حاصل.
وقالت أم ثواب الهزانية في أبن لها عاق:
ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه ... أم الطعام ترى في ريشه زغبا
حتى إذا آض كالفحل شذبه ... آباره ونفى عن متنه الكربا
انشا يمزق أثوابي ويضربني ... ابعد شيبى عندي يبتغي الأدبا؟
أم الطعام: الحوصلة والفحال: ذكر النحل وهي أطولها وتشذيبه: تجريده وتنقيته من فضول الشوك والسعف وبذلك يطول في السماء والكرب: أصول السعف تبقى متصلة بالجذع.
وقال حاتم:
وما أنا بالساعي بفضل زمامها ... لتشرب ماء الحوض قبل الركائب
وما أنا بالطاوي حقيبة رحلها ... لابعثها خفا واترك صاحبي
إذا كنت ربا للقلوص فلا تدع ... رفيقك يمشي خلفا غير راكب
و قال الاحوص وقد ضرب بنو عم له مولاه:
لئن كنت لا ارمي وترمي كنانتي ... تصب جانحات النبل كحشي ومنكبي
و هو مثل اصله إنَّ رجلا رمى آخر متقلد كنانة فقال له المرمي: ما هذا؟ فقال له: لم أرمك إنّما رميت كنانتك. فيضرب مثلا لمن نيل وليه بسوء.
وقال أبو النشناش:
إذا المرء لم يسرح سواما ولم يرح ... سواما ولم تعطف عليه أقاربه
فللموت خير للفتى من قعوده ... عديما ومن مولى تدب عقاربه
و قال:
فلم أر مثل الهم ضاجعه الفتى ... و لا كسواد الليل أخفقت صاحبه
فعش معدوما أو مت كريما فإنني ... أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه
و قال قيس بن المغيرة:
جفاني الأمير والمغيرة بعده ... و أمسى يزيد لي قد ازور جانبيه
كلهم قد نال شبعا لبطنه ... و شبع الفتى لؤم إذا جاع صاحبه
و تقدم هذا الشعر وقصته قبل.
وقال بعض بني أسد:
وما أنا بالنكس الدني ولا الذي ... إذا صدعني ذو المودة احرب
ولكنني إن دام دمت وإن يكن ... له مذنب عني فلي عنه مذنب
إلاّ إنَّ خير الود ود تطوعت ... به النفس لا ود آتى وهو متعب

و معنى احرب اغضب ومعنى إن دمت دام أي إن دمت فقد دام إذ لو لم يدم ما دمت بديل ما بعده وإن شئت جعلته في القلب. وتقدم هذا المعنى مستوفى.
وقال خالد بن نضلة الأسدي:
لعمري لرهط المرء خير بقية ... عليه وإنَّ عالوا به كل مركب
من الأبعد النائي وإن كان ذاغني ... جزيل ولم يخبرك مثل مجرب
إذا كنت في قوم عدى لست منهم ... فكل ما علفت من خبيث وطيب
وإن حدثتك النفس انك قادر ... على ما حوت أيدي الرجال فكذب
و تقدم في الاغتراب ولزوم الأوطان من الشعر ما لا بد منه.
وقال عبد الله بن الدمينة:
وإني لأستحيك حتى كأنما ... علي بظهر الغيب منك رقيب
و قال قيس بن ذريح:
وكل مصيبات الزمان وجدتها ... سمى فرقة الأحبة هينة الخطب
و قال اياس بن الارت:
إذا ما تراخت ساعة فاجعلنها ... بخير فإن الدهر أعصل ذو شغب
فإنَ يك خير أو يكن بعض راحة ... فانك لاق من غموم ومن كرب
الأعصل: المعوج الملتوي، وأصل العصل اعوجاج في أنياب البعير إذا أسن؛ والشغب: الشر: وقال أيضاً:
وما دهري بحب تراب أرضٍ ... و لكن من يحل بها حبيب
وهو مثل قول قيس:
وما حب الديار شغفن قلبي ... و لكن حب من سن الديارا
و قال أبن مفرغ:
يقولون: هل بعد الثلاثين ملعب؟ فقلت: وهل قبل الثلاثين ملعب؟
لقد جل قدر الشيب إنَّ كان كلما ... بدت شيبة يعرى من اللهو مركب
و سيأتي فصل في مدح الشيب ومذمة بعد إن شاء الله تعالى.
وقال أبن ميادة:
فو الله ما ادري أيبلغني الهوى ... إذا جد البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب وإنَّ يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
و قال فرعان بن الأعرف في أبن له عاق ويسمى منازلا:
جزت رحم بيني وبين منازلٍ ... جزاءاً كما يستنزل الدين طالبه
لربيته حتى إذا أض شيظما ... يكاد يساوي غارب النخل غاربه
وربيته حتى إذا ما تركته ... أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه
فلما رآني أحسب الشخص أشخصاً ... قريب وذا الشخص البعيد أقاربه
تغمد حقي ظالما ولوى يدي ... و لوى يده الله الذي هو غالبه
وكان له عندي إذا جاع أو بكى ... من الزاد أحلى زادنا وأطايبه
وجمعتها دهما جلادا كأنها ... أشاء نخيل لم تقطع جوانبه
فأخرجني منها سليبا كأنني ... حسام يمان فارقته مضاربه
أيظلمني مالي ويحنث ألوتي؟ ... فسوف يلاقي ربه فيحاسبه
الدهم: الإبل الوتر تضرب إلى السواد. والأشاء: صغار النخل، شبه بها الإبل في عظمها؛ والالوة: اليمين.
فقال منازل ابنه يجيبه:
وكنت كمن ولى بأمر كتيبة ... فعي بها فارفض عنه كتائبه
وماذا من جرى عقوق تعده ... و لا خلق مني بدا أنت عائبه
و يقول: انك أضررتني ففارقتك كمن تولى أمر جيش فأساء فيهم السيرة فتفرقوا عنه، وما ذاك مني من جرى عقوق، أي من أجله. ومن عجيب الاتفاق ما ذكر الشنتمري في شرحه على هذا المحل من الحماسة أنَّ منازلا هذا ولد له أبن يقال له خليع فعقه كما كان هو فعل بأبيه، فأستعدي إليه الوالي. فلما حضر ليضربه قال قائل للوالي: أتعرف أصلحك الله من هذا؟ قال: لا. قال: هذا منازل الذي يقول فيه أبوه، وانشد الأبيات السوابق.
فقال الوالي: يا هذا:
فلا تجز عن من سيرة أنت سرتها ... فأول راضٍ من يسيرها
ثم أمر بإطلاق ابنه خليع.

وفي نواد العامة أنَّ رجلا كان له أبن، ولمّا أسن وعجز عن العمل أخذه ابنه ذاك وذهب به إلى الفلاة من الأرض، فطرحه تحت شجرة وتركه هناك حتى هلك. فلما كبر هذا الابن وبلغ مبلغ أبيه كان له أبن له وهو لا يعلم بالقصة، فأخذ أيضاً وذهب به إلى الفلاة وطرحه تحت شجرة كما فعل هو بابيه. فلما تولى عنه التفت إليه فرآه يبتسم. فتعجب من ذلك ورجع إليه وقال له: مم تضحك، وقد أيقنت بالهلاك؟ فقال له أبوه: والله ما ضحكت إلاّ إنني تذكرت ما فعلت بأبي، وقص عليه القصة. فقال الولد حينئذ: لئن أنا تركته حتى مات ليفعلن بي عقبي مثل هذا. فأذه ورده إلى بيته. ومثل هذا ما قيل في آخر الرؤوس المحمولة إلى الولاة التي أولاها رأس الحسين، جمع الله شمله في الفردوس الأعلى، وجمع أعداءه في مصب الحميم المغلى! والقصة مشهورة وستأتي. وقال الآخر:
إنَّ يعلموا الخير وإنَّ علموا ... شراً أذيع وإنَّ لم يعلموا كذبوا
و قال أبو مسلم الخراساني:
محا سيف اسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب
و كان أبو مسلم لمّا آثار على بني أمية كتب إليه مروان، وكاتبه إذ ذاك عبد الحميد، فلم يو شيئاً أطنب فيه عبد الحميد مثل ذلك الكتاب، حتى قيل إنَّ الكتاب من عظم جرمه حمل على بعير. فلم يلتفت أبو مسلم إلى ذلك وأجابهم بالبيت المذكور.
وقال بعض الأعراب:
إذا كان الطباع طبع سوءٍ فليس بنافع فيها الأديب
حكى الأصمعي قال: دخلت البادية فأتيت على عجوز، فإذا بين يديها جرو ذئب مقطع وشاه مقتولة. فقالت: أتدري ما هذا؟ قلت: لا قالت: جرو ذئب أخذناه وأدخلناه في بيتنا. فلما كبر قتل شاتنا، وقلت في ذلك شعراً. قلت: ما هو؟ فأنشدت:
بقرت شويهتي وفجعت قومي ... و أنت لشاتنا أبدا ربيب
غذيت بدرها وربيت فينا ... فمن أنباك إنَّ أباك ذيب؟
إذا كان الطباع البيت
و قال الآخر:
لا تمدحن امرءاً حتى تجربه ... و لا تذمنه من غير تجريب
فرب خدن وإنَّ أبدى بشاشته ... يضحي على خدنه أعدى من الذيب
و قال الآخر:
وإنَّ مدحك من لم تلبه صلف ... و إنَّ مدحك بعد الذم تكذيب
و قال الآخر:
كل يوم قطيعة وعتاب ... ينقضي دهرنا ونحن غضاب
ليت شعري فهل خصصت بهذا ... أنا وحدي أم هكذا الأحباب؟
و ما احسن قول بشار:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرةٍ ومجانبه
إذا أنت ليس تشرب مراراً على القذا ... ظمئت وأي الناس تصفوا مشاربه؟
و قول الآخر:
البس الناس ما استطعت على ... النقض وإلاّ لم تستقم لك خله
عش وحيداً إنَّ كنت لا تقبل العذر ... و إنَّ كنت لا تجاوز زله
و تقدم هذا المعنى، ويأتي كلام مما يتعلق بالعتاب بعد إن شاء الله تعالى.
وقال الأعشى: وهن شر غالب لمن غلب، يعني النساء. وزعموا إنّه ذهب يمتار لأهله في شهر رجب فهربت امرأته معاذة ناشزاً، ولاذت برجل عزيز قومه. فلما رجع الأعشى طلبها فتمنعت منه وأبى الذي لاذت به أنَّ يدفعها إليه وكان أعز منه. فأتى الأعشى النبي صلى الله عليه وسلم فأشتكى إليه وانشأ يقول:
يا سيد الناس وديان العرب ... أشكو إليك ذربة من الذرب
كذائبة الغبشاء في ظل السرب ... خرجت ابغيها الطعام في رجب
فخلفتني بنزاع وهرب ... و قذفتني بين عيصٍ مؤتشب
أخلفت الواعد ولطت بالذنب ... و هن شر غالب لمن غلب
فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: هن شر غالب لمن غلب فكتب له إنَّ ترد إليه. الذربة: السليطة اللسان؛ والعيص: أصل الشجرة؛ والمؤتشب: المتلف. وقوله: لطت بالذب به على فرجها فسدت به على نفسها وامتنعت من الفحل. وقال الآخر:
احب بلاد الله ما بين منعج ... إلي وسلمى إنَّ يصوب سحابها
بلاد بها حل الشباب تمائمي ... و أوّل أرض مس جلدي ترابها
ذكر بعض الأدباء عن بعض أهل نصيبين قال: أتاني أبن الرومي بقصيدة التي يمدح بها سليمان بن عبد الله بن طاهر وقال: انصفني! أيّها احسن: قولي في الموطن:
ولي وطن أليت ألاّ أبيعه ... و ألا أرى غيري له الدهر مالكا

عمرت به شرخ الشباب ونعمة ... كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم ... و مأرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
أم قول الأعرابي: احب بلاد الله الأبيات؟ قال. فقلت: بل قولك، لأنّه ذكر الوطن ومحبته، وأنت ذكرت العلة في ذلك.
ومثل هذا قول أبن الرومي أيضاً:
بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... و لبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... و عليه أغصان الشباب تميد
و مثله قول آخر:
ذكرت بلادي فاستهلت مدامعي ... يشوق إلى عهد الصبا المتقادم
حننت إلى أرض بها اخضر جانبي ... و قطعتم عني فيها عقد التمائم
و قال أبن غالب الرصافي:
بلادي التي رشيت قويدمتي بها ... فريخا وآتوني قرارتها وكرا
مبادئ لين العيش في ريق الصبا ... أبى الله إنَّ أنسى اغتراري بها غرا
لبسنا بها ثوب الشباب لباسها ... و لكن عرينا من حلاه ولم نعرا
و قال العسكري:
إذا أنا لا أشتاق أرض عشيرتي ... فليس مكاني في النهى بمكين
من العاقل أن اشتاق أول منزل ... غنيت بخفض في ذراه ولين
وروض رعاه بالأصائل ناظري ... و غصن ثناه بالغداه يميني
وإني لا أنسى العهود إذا أتت ... بنات النوى دون الخليط ودوني
إذا أنا لم أرع العهود على النوى ... فلست بمأمون ولا بأمين
و قال رجاء بن هارون:
احن إلى وادي الأراك صبابة ... بعهد الصبا فيه وتذكار أول
كأن نسيم الريح في جنباته ... نسيم حبيبٍ أو لقاء مؤملِ
و مثل قول الأعرابي قول أبن ميادة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بحرة ليلى حيث ربينني أهلي
بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي ... و قطعن عني حيث أدركني عقلي
و من الحنين إلى الوطن على الجملة قول الطائي:
سقى الله أطلالاً بأخيلة الحمى ... و إن كنَّ قد أبدين للناس ما بيا
منازل لو مرت بهن جنازتي ... لقال صداي: حامليَّ انزل بيا
وق الآخر:
طيب الهواء ببغدادٍ يؤرقني ... شوقاً إليها وإن عاقت مقاديرُ
فكيف أصبر عنها الآن إذ جمعت ... طيب الهوائين: ممدود ومقصورُ
و قولي:
سقى الله أطلالاً بأكثبة الحمى ... من العارض الهتان صوب عهاد
بلاد بها حلت سليمى ودارها ... فحل فؤادي عنها وودادي
وأني بها أسقيتها أو بكيتها ... هياما فما أسقيت غير فؤادي
و ما أعلم أحدا سبقني إلى هذا المعنى مع تداول هذا الغرض بين الشعراء كثيرا. وسيأتي في أمثال الحنين إلى الوطن زيادة على ما ذكرنا. إن شاء الله تعالى.
وقال راشد بن عبد ربه رضي الله عنه : لقد هان من بالت عليه الثعالب. وكان اسمه في الجاهلية غاوي بن عبد العزى، وكان سادن صبم لقومه بني سليم فبينما هو عنده ذات يوم إذ أقبل ثعلبان يشتدان حتى طلعا عليه فبالا عليه، فقال:
أنَّ ربٌّ يبول الثعلبان برأسه؟ ... لقد هان من بالت عليه الثعالبُ؟

ثم كسره وقال :يا معشر سليم، والله ما يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع! ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما اسمك؟ قال : غاوي بن عبد العزى. قال : بل أنت راشد بن عبد ربه، والثعلبان في البيت، بضم الثاء واللام، وهو ذكر الثعالب. هذا قول جماعة من اللغويين منهم الجوهري. وقال آخرون ومنهم صاحب القاموس: ذاك غلط، وإنّما هو بفتحهما على أنه تثنية ثعلب. وتمسكوا بالقصة السابقة وأنه أقبل ثعلبان وبالا معا على الصنم. وقال بعضهم: كان لرجل صنم وكان يأتي بالخبز والزبد فيضعه على رأسه ويقول أطعم! فجاء ثعلبان فأكلا الخبز والزبد. وقال آخرون: هذا خطأ في التفسير والرواية، وإنّما الحديث: فجاء ثعلبان وهو الذكر من الثعالب لا مثنى فأكل الخبز والزبد ثم فعل. فقام الرجل إلى الصنم فكسره وقال في ذلك شعره. قلت: والحق أنَّ القصة بعد صحتها على ما قال أهل التثنية من أنها ثعلبان لا تفيد أنَّ الواقع في البيت مثنى على التعيين إذ لا يلزم من وقوع البول من الثعلبين أن يذكرهما الشاعر، وإنّما المعول الرواية: فإنَ وردت بالإفراد كان حسنا وكان المقصود الجنس والنداء على هوان الصنم ببول الثعلب عليه لا شرح القصة. وإذا رد الأمر إلى النفس وجد فيها للفرد حلاوة، وعن التثنية كزازة والله أعلم.
وقال الآخر:
فقعدت كالمهريق فضلة مائه ... في ظل هاجرةٍ للمع سرابِ
و مثله قول الآخر:
وكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آلٍ فوق رابيةٍ صلدِ
و هذان البيتان يضمنا معنى المثل السابق في صاحب النعامة.
وقال أبو الغريب:
إنَّ اللئيم الأرس غير نازعٍ ... عن وذء جارة الغريب والجنب
الأرس هو الأصل أي اللئيم الأصل والوذء: الشتم. والجنب: الأجنبي الغريب، وقال أعرابي:
كلاب الناس أن فكرت فيهم ... أضر عليك من كلب الكلابِ
لأن الكلب لا يؤذي صديقا ... و إنَّ صديق هذا في عذابِ
ويأتي حين يأتي في ثيابٍ ... و قد جزمت على رجلٍ مصابِ
فأخزى الله أثوابا عليه ... و أخزى الله ما تحت الثيابِ
و مثل هذا يحكى عن بعضهم قال : وجدت إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أو غيره من نظرائه مضطجعا وعند رأسه كلب نائم. فأردت أن أقيم الكلب فقال: دعه فانه خيرٌ من جليس السوء.
وقال الشيخ القطب العارف أبو محمد عبد القادر الجيلاني فيما ينسب إليه وكان ينشده على الكرسي:
أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها ... طرباً وفي العلياء بازٌ أشهبُ
و قال الآخر:
أتطلب صاحبا لا عيب فيه ... و أي الناس ليس له عيوبُ؟
و تقدم نحو هذا قبل.
وقال الآخر:
إذا رمتم قتلي وأنتم أحبتي ... إذاً فالأعادي واحدٌ والحبائبُ
و قال الآخر:
إذا الخل لم يهجرك إلاّ ملامهً ... فليس له إلاّ الفراق عتابُ
و قال الآخر:
إذا أنت جازيت المسيء بفعله ... ففعلك من فعل المسيء قريبُ
و قال الآخر:
إذا الغضب لم يثمر وإن كان أصله ... من المثمرات اعتاده الناس للحطبِ
و قال الآخر:
إذا المرء لم يحببك إلاّ تكلفاً ... فذلك من أفعاله ما يغالبُ
ومثله قول الحماسي السابق:
إذا ما المرء لم يحببك إلاّ ... مغالب نفسه سئم الغلابا
وقال الآخر:
إذا جفاني بنو الدنيا وضقت بهم ... طالعت كتبي ونادمت الألى ذهبوا
و مثله قول الآخر:
لنا جلساءٌ لا يمل حديثهم ... ألبَّاءُ مأمونون غيباً ومشهدا
و قال علي بن الجهم:
أعاتب ذا المروءة من صديق ... إذا ما رابني نته اجتنابُ
إذا ذهب العتاب فليس ودٌ ... و يبقى الود ما بقي العتابُ
و مثله من هذا الباب قول الآخر:
أعاتب من أحببت في كل زلةٍ ... ليحتمي الأمر الذي معه العتبُ
فإني أرى التأديب عند وجوبه ... بمنزلة الغيث الذي قبله الجدبُ
و سيأتي في الحكم تمام هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
وقال الآخر:
إذا شئت أن تلقي فزر متواترا ... و إن شئت أن تزداد حباً فزد غبا
و سيأتي تمامه وقال الآخر:
إذا عبت أمراً فلا تأته ... فذو اللب مجتنب ما يعيبُ
و قال الآخر:
إذا قلت للعذال: لست بعاشقٍ ... يقول لهم فيض المدامع: يكذبُ

و قال الآخر:
تعالوا نصطلح وتكون منا ... مصافاةٌ بلا عد الذنوبِ
و قال الآخر:
تقاربت الجسوم وأي نفعٍ ... يكون إذا تباعدت القلوبُ؟
و قال الآخر:
تكلفت لي هذا الوداد فلم يدم ... و كل ودادٍ بالتكلف يصعبُ
و تقدم نحوه.
وقال الآخر:
تيهٌ بلا نسبٍ كبرٌ حسب ... فخرٌ بلا أدب هذا من العجبِ
و قال الآخر:
جهل الشريف يشين منصبه ... و أبن الوضيع يزينه أدبه
و سيأتي تمام هذا المعنى.
وقال الآخر:
حبيبٌ غاب عن نظري وسمعي ... و لكن عن فؤادي ما يغيبُ
و قال الآخر:
طبع الفتى يسرق من طبع من ... يصحبه فانظر لمن تصحبُ
و مثله قول المراكشي في أرجوزته في الطريق:
أختر لصحبتك من أطاعا ... أنَّ الطباع تسرق الطباعا
و قال الآخر:
قد قنعنا منكم برد جواب ... دون إسعافنا بما في الكتابِ
و قال الآخر:
قد يلام البريء من غير ذنبٍ ... و يغطى على المريب ذنوبُ
و قال الآخر:
كأنك لم تتعب وإن كنت متعباً ... إذا أنت لاقيت الذي فيه تتعبُ
و قال الآخر:
كعصفورة في كف طفلٍ يسومها ... حياض المنايا وهو يلهو ويلعبُ
و قال الآخر:
كل امرئ لا بد يقضي نحبه ... إن كره الموت وإن أحبهُ
و قال الآخر:
كن للغريب إذا رأيت مساعداً ... فعساك يوماً أن تصير غريبُ
و قال الآخر:
لئن غاب عن إنسان عيني شخصه ... فما هو عن فكري وقلبي بغائبِ
و قال الآخر:
لحى الله دنيا ألجأتنا لمعسرٍ ... فراقهم أشهى الأمور إلى قلبي
و قال الآخر:
لحوم أهل العلم مسمومةٌ ... و من يعاديها سريع العطبِ
و قال الآخر:
ليس الرزية في أيامن عجباً ... بل السلامة فيها أعجب العجبُ
و مثله قول أبي بكر بن دريد:
لا تعجبن من هالكٍ كيف هوى ... بل فاعجبن من سالمٍ كيف نجا
و قال الآخر:
ليس التقي بمتقٍ في دينه ... حتى يطلب طعامه وشرابهُ
و قال الآخر:
ليست الأحلام في حال الرضى ... إنّما الأحلام في حال الغضب
و قال الآخر:
ليس يصفو إلاّ بقربك عيشي ... كيف لي أن تكون مني قريبا؟
و قال الآخر:
ما أصعب الشيء ترجوه فتحرمه ... لا سيما بعد طول الجهد والتعبُ!
و قال الآخر:
ما صاحبي من ودني حاضراً ... بل صاحبي من ودني غائبا
و مثله قول الحماسي من هذا الباب:
وليس أخي من ودني رأي عينه ... و لكن أخي من ودني وهو غائب
و قال الآخر:
ما يفتح الله باب الرزق من أحدٍ ... إلاّ ويفتح غير الباب أبوابُ
و قال الآخر:
متى تكن مع صديقٍ أو عدو ... تخبرك الوجوه عن القلوبِ
و قال الآخر:
من الناس من يغشى الأباعد نفعه ... و يحرم منه صحبه وأقاربه
و قال الآخر:
من ذم من كان كل الناس يحمده ... فإنما يربح التكذيب والكذبا
و قال الآخر:
من عوَّد الناس إحساناً ومكرمةً ... لا يعتبنَّ على من لج في الطلبِ
و قال الآخر:
نحن ندعو الإله في كل كربٍ ... ثم ننساه عند كشف الحروبُ
و قال الآخر:
نفسك لا تعطيك كل الرضى ... فكيف ترجو ذاك من صاحبِ؟
و قال الآخر:
نوئاب هذا الدهر شتى وإنني ... أرى فرقة الأحباب أدهى النوائب
و هو من قول قيس السابق. وقال الآخر:
وأحزم الناس من لم يرتكب سببا ... حتى يدبرها يجني عواقبه
وقال الآخر:
وإذا الزمان كساك حلة معدمٍ ... فالبس له حلل النوى وتغرب
وتقدم مع ما يشاكله. وقال الآخر:
وإذا تصبك خصاصة فارج الغنى ... و إلى الذي يهب الرغائب فارغب
وقال الآخر:
واطلب قربي من حماكم وانتم ... إلى ناظري والقلب في غاية القرب
و قال الآخر:
وإنَّ كنت مسترعي ونحن رعية ... فكل سيلقى ربه فيحاسبه
و قال الآخر:
وانك إنَّ أهديت لي عيب صاحب ... امهدٍ إلى غيري جميع عيوبي
و قال الآخر:
وإني بكم في كل حالٍ لواثق ... و لكن سوء الظن من شدة الحب
و قال الآخر:

وبالناس عاش الناس قدما ولم يزل ... من الناس مرغوب إليه وراغب
وقال الآخر:
وتشتت الأعداء في آرائهم ... سبب لجمع خواطر الأحباب
وقال الآخر:
وخير عمر الفتى عمر يعيش به ... مقسم الحال بين الجد واللعب
وقال الآخر:
وعد العتاب إذا استربت بصاحب ... ليست تنال مودة بعتاب
و قال الآخر:
ورث النجابة كابراً عن كابرٍ ... كالرمح أنبوبا على أنبوب
و قال الآخر:
وسائل: ما الملك؟ قيل: الغنى ... فقلت: لا بل راحة القلب
و قال الآخر:
وعهد المشيب كأني به ... يمر كما مر عصر الصبا
و قال الآخر:
وقد كنت لا أخشى مع الذنب جفوة ... و قد صرت أخشاها ومالي من ذنب
و قال الآخر:
وقد نثر التوديع من كل مقلةٍ ... على كل خد لؤلؤا لم يثقب
و قال الآخر:
وقطعت في الدنيا العلائق ليس لي ... ولد يموت ولا جدار يخرب
و قال الآخر:
وكنا نستطب إذا مرضنا ... فجاء الداء من قبل الطبيب
و تقدم ما يشكل هذا في حرف الهمزة، فيمن يغص بالماء. وقال الآخر:
وكنت أرى أنَّ التجاريب عدة ... فخانت ثقات الناس حتى التجارب
و قال الآخر:
ولا خير في قربٍ لغيرك نفعه ... و لا في صديق لا تزال تعاتبه
و قال الآخر:
ولا خير فيمن لا يوطن نفسهُ ... على نائبات الدهر حين تنوبُ
و قال الآخر:
ولربما بخل الكريم وما به ... بخل ولكن سوء جظ الطالبُ
و قال الآخر:
ولو أنَّ ما بي بالحصا فلق الحصا ... و بالريح لم يسمع لهن هبوبُ
و قال الآخر:
ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب علي ذنوبُ
و قال الآخر:
وليس بتقدير الكواكب ما ترى ... و لكنه تقدير رب الكواكب
و قال الآخر:
وليس بحاكم من لا يبالي ... أ أخطأ في الحكومة أم أصابا
و قال الآخر:
وليس عتاب الناس للمرء نافعاً ... إذا لم يكن للمرء لبٌ يعاتبه
و قال الآخر:
وليلٍ أردنا أن يدب عذاره ... فما اختط حتى صار بالصبح شائبا
و قال الآخر:
وما المرء إلاّ حيث يجعل نفسه ... فكن طالباً للنفس أعلى المراتبِ
و قال الآخر:
وما شرف الإنسان إلاّ بنفسه ... و إن عد أباءً كراماً ذوي حسب
و قال الآخر:
وما كان لي ذنب فأخشى جزاءه ... ز عفوك مرجو وإن كان لي ذنبُ
و قال الآخر:
وما لقلوب العاشقين مزية ... إذا نظرت أفكارها في العواقبِ
و قال الكميت:
ومالي إلاّ أحمد شيعةٌ ... و مالي إلاّ مذهب الحق مذهبُ
و قال الآخر:
ومالي ذنب أستحق به الجفا ... وإن كان أي ذنب فإني تائبُ
و قال الآخر:
وما هي إلاّ غاطةٌ قد غلطتها ... و قد يغلط الإنسان ثم يتوبُ
و قال الآخر:
ومن عادة الأيام أنَّ صروفها ... إذا ساء منها جانبٌ سر جانبُ
و قال الآخر:
ومن مذهبي حب الديار وأهلها ... و للناس فيما يعيشون مذاهبُ
و قال الآخر:
ومن ربط الكلب العقور ببابه ... فعقر جميع الناس من رابط الكاب
و قال الآخر:
ويوهمني أنه ناصحٌ ... وفي نصحه حمة العقربِ
و قال الآخر:
هنيئا لكم ماء الفرات وطيبه ... إذا لم يكن لي في الفرات نصيبُ
و قال الآخر:
لا تجزعن من المداد ولطخه ... إنَّ المداد خلوف ثوب الكاتبِ
و قال الآخر:
لا تكونن للأمور هيوبا ... فإلى خيبةٍ يصير الهيوبُ!
و قال الآخر:
لا تنكحن لئيمة لمحاسنٍ ... فاللؤم يبقى والمحاسن تذهبُ
ومصداقه قوله صلى الله عليه وسلم : إياكم وخضراء الدمن، وسيأتي.
وقال الآخر:
لا تيأسن وإن عز الوصال فقد ... تجفو أناسٌ وهم في الغيب أحبابُ
و قال الآخر:
لا يقبل الصدق من الكذب ... و لو أتى بمنطق عجابُ
و قال الآخر:
يا بصيراً إلاّ بإبصار كتبي ... و جواداً إلاّ بردِّ جوابِ
و قال الآخر:
يخيب الفتى من حيث يرزق غيره ... و يعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه
و قال الآخر:
يذمون دنياهم وهم يطلبونها ... و لم ير كالدنيا تذمُ وتطلبُ

و هو مثل قول الآخر:
قد أجمع الناس على ذمها ... و ما أرى منهم لها تاركا
و هذا من توهيمات الخيال وأغاليط الشعراء وإلاّ فليس لهذا التعجب موقع ولا للألغاز محل، إذ العقول السليمة كلها ذامة للدنيا وليست بطالبة لها ومتى وقع منها طلب فمكلوبها غير مذموم كما أنَّ مذمومها غير المطلوب. فإنَ الدنيا من حيث إنّها مزرعة للآخرة وقنطرة يعبر منها إليها وزاد يبلغ إليها لا بد منها وهي محمودة غير مذمومة ومن حيث إنّها فتنة وعائقة عن الفوز ومبعدة عن النجاح وموجبة للعقاب أو العتاب، مذمومة عند كل بصير غير مطلوبة بل مهروب منها غاية الهرب ومنفور منها غاية النفور ولا يطلبها على هذا الوجه إلاّ أعمى البصيرة وهذا الله تعالى بذمها. وقد يذمها بلسانه وهو يحبها سراً، وهو غير ذام لها بالحقيقة. وعلى مثل هذا الذي خالف قوله فعله يحسن من جهة الظاهر إنشاد الشعر السابق، ولا يصح الاتفاق ولكن الأكثر والأغلب هذا نسأل الله السلامة من فتنة المحيا والممات.
وقال الآخر:
يرحم الله صديقا ... جاء يهدي لي عيوبي
و قال الآخر:
دع المزاح فقد يزري بصاحبه ... و ربما آل في العقبى إلى الغضب
و قال الآخر:
رأيت تباعد الإخوان قربا ... إذا اشتملت على الود القلوبُ
و قال الآخر:
رأيت الود ليس يكاد يبقي ... إذا كثر التعصب والعتابُ
و قال الآخر:
رب لحظ يكون أبلغ من لفظٍ ... و أبى لمضمرات القلوب
و قال الآخر:
سأرعاك في البعد المفرق بيننا ... كما كنت أرعى والمزار قريبُ
و قال الآخر:
سأصفيك الهوى من كل وحهٍ ... و أمنحك الرضى من لك بابِ
و قال الآخر:
ستعلم هل ربحنا أم خسرنا ... إذا فكرت في أمر الحسابِ
و قال الآخر:
سقى الله أيام التواصل بيننا ... و رد إلى الأوطان كل غريبِ
و قال الآخر:
سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل ... فتى ذاق طعم العيش منذ قريبِ
و قال الآخر:
سمعت عتاباً يستطاب فليتني ... أطلت ذنزبي كي يطول عتابُ
و قال الآخر:
سيغني الله عن بقرات زيدٍ ... و يأتي الله باللبن الحليبِ
و قال الآخر:
شهدنا وجربنا أموراً كثيرة ... فلا تهملوا نصح الصديق المجرب
و قال أحد القدماء:
صاح أبصرت أو سمعت بارعٍ ... رد في ضرع ما قرأ في الحلاب؟
و قال الآخر:
صروف الليالي أحوجتنا إليهم ... كما أحتاج صياد إلى صحبة الكلب
و قال أبو العلاء المعري:
وسمهرية ليس يشرف قدرها ... حتى يسافر لدنها عن غابه
والغضب لا يشفي أمرءاً من ثأره ... إلاّ يفقد نجاده وقرابه
والله يرعى سرح كل فضيلة ... حتى يروحه إلى أربابه
و قال أيضاً:
وهجيرة كالهجر عودي منبر ... للظهر إلاّ إنّه لم يخطب
فكأنه رام الكلام فيسمه ... عي فأسعده لسان الجندب
و قال الآخر:
وما رحم الأهلين إنَّ سالموا العدى ... بمجدية إلا مضاعفة الكرب
ولكن أخو المرء الذي إذا دعا ... أجابوا بما يرضيه في السلم والحرب
و قال الآخر:
ما المرء أخوك أم لم تلفه وزرا ... عند الكريهة معوانا على النوب
و أعلم أنَّ لفظ الأخ فيه لغات كثيرة: يقال أخ، وهي اللغة المشهورة، وأخو بسكون الخاء على مثال فرو، وهو الواقع في البيت المذكور ويقال في الجمع اخوة وأخون، وهذا الثاني هو الواقع في البيت الثاني من البيتين قبل هذا، وحذفت نونه للإضافة إلى المرء، وليس مفردا بدليل الإخبار عنه بالذين.
وقال الآخر:
لعمرك ما حق امرئ لا يعدلي ... على نفسه حقا علي بجواب
وما أنا النائي علي بوده ... بودي وصافي خلتي بمقارب
ولكنه إنَّ مال يوما بجانبٍ ... من الصدق والهجران ملت بجانب
و تقدم نحو هذا. ويقال جرير، كان اشترى جارية من رجل من أهل اليمامة يقال له زيد، ففركته وحنت إلى بائعها:
تكلفني معيشة آل زيد ... و من لي بالمرقق والصناب؟
وقالت: لا تضم كضم زيد، ... و ما ضمني وليس معي شبابي؟
فقال الفرزدق:
وإنَّ تفركك عاجلة آل زيدٍ ... و يعوزك المرقق والصناب

فقدما كان عيش أبيك مرا ... يعيش بما يعيش به الكلاب
و الصناب، بكسر الصاد. قال المبرد: هو صباغ يتخذ من الخردل والزبيب، ومن ذلك قيل للفرس صنابي إذا كان في ذلك اللون.
وقال الآخر:
ويأخذ عيب المر من عيب نفسه ... مراد لعمري ما أراد قريب
قيل وهذا البيت مبني على كلام الأحنف، وقد قال له رجل: دلني على رجل كثير العيوب! فقال: أطلبه عيابا، فإنما يعيب الناس بفضل ما فيه! وقال الآخر:
لن المنابر من خوف ومن وهل ... و استطعم الماء لمّا جد في الهرب
وألحن كل الناس قطابة ... و كان يوله بالتشديق في الخطب
و هذا الشعر قاله بعض الشعراء في خالد بن عبد الله القسري، وكان من الخطباء البلغاء؛فصعد المنبر ذات يوم فخرج عليه المغيرة بن سعد بالكوفة في عشرين رجلا، فعطعطوا به، فعيي خالد وقال: اطعموني الماء! وهو على المنبر، فعير بذلك، وكتب هشام إليه رسالة وبخه فيها، وقيل فيه ما تقدم وقال فيه أيضاً يحيى بن نوفل:
لأعلاجٍ ثمانية وعبدٍ ... لئيم الأصل في عدد يسير
هتفت بكل صوتك أطعموني ... شرابا ثم بلت على السرير!
و سيأتي في الحكم إن شاء الله ذكر كثير ممن أرتج عليه الكلام.
وقال محمّد بن أبي عيينة يعاتب بعض الأشراف:
أتيتك زائرا لقضاء حق ... فحال الستر دونك والحجاب
وعندك معشر فيهم أخ لي ... كأن إخاءه الآل السراب
وليست بساقط في قدر قوم ... و إنَّ كرهوا كما يقع الذباب
ورائي مذهب عن كان ناء ... بجانبه إذا عز الذهاب
و قال الآخر:
فلله مني جانب لا أضيعه ... و للهو مني والبطالة جانب
و قال الآخر:
ويعرف وجه الحزم حتى كأنما ... تخاطبه من كل أمر عواقبها
و قال الآخر:
أخ لي كأيام الحياة إخاؤه ... تلون أحيان علي خطوبها
إذا عبت منه خلة فهجرته ... دعتني إليه خلة لا أعيبها
و قال الآخر:
مالي عقلي منتم إلى أحد ... فأنني منتم إلى أدبي
و هذا مثل قول عامر بن الطفيل:
وإني وإنَّ كنت أبن سيد عامر ... و في السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر عن وراثةٍ ... أبى الله إنَّ أسموا بأم ولا أب
ولكني أحمي حماها واتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب
و قول بعض الأشراف الطالبيين:
لسنا وإنَّ أحسابنا كرمت ... يوما على الاحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
و قول الحسين رضي الله عنه، وقد أجزل صلة شاعر فليم على ذلك فقال: أتراني خفت أن يقول لست من فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ولا علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ ولكنني خفت أنَّ لست كمثلهما فيصدق ويحمل عنه، ويبقي مخلداً في الكتاب على ألسنة الرواة. فقال ذلك الشاعر حينئذ: وأنت والله يا أبن الرسول الله أعرف بالمدح والذم مني! ويحكى أنَّ رجلاً تكلم بين يدي عبد الملك بكلام ذهب فيه كل مذهب. فقال له وقد أعجبه: أبن من أنت يا غلام؟ قال: أبن نفسي، يا أمير المؤمنين: والتي نلت بها هذا المقام منكم. وأخذه بعض الشعراء فقال:
كن أبن من شئت واتخذ أدبا ... يغنيك مأثوره عن الحسب
إنَّ الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي
و آخر في قوله:
كن أبن من شئت وكن مؤدبا ... فإنما المرء بفضل حسه
وليس من تكرمه لغيره ... مثل الذي تكرمه بنفسه
و يحكى عن يحيى بن أكثم قال: بينما أنا يوما جالس مع المأمون إذ دخل الدار. فتى أبرع الناس زياً وهيبة ووقاراً، وهو لا يلتفت إعجابا بنفسه. فنظر إليه المأمون فقال: يا يحيى، هذا لا يخلوا إنَّ يكون هاشميا أو نحوياُ. ثم بعث من يتعرف ذلك منه، فإذا هو نحوي. فقال المأمون: يا يحيى، أن علم النحو قد بلغ بأهله من عزة النفس وعلو الهمة منزلة بني هاشم في شرفهم؟ يا يحيى، من قعد به نسبه، نهض به أدبه! ومثله يقول أبي العلاء المعري:
لو يعلم الإنسان مقداره ... لم يفخر المولى على عبده
لولا سجاياه وأخلاقه ... لكان كالمعدوم في لحده
ومجدة أفعاله لا الذي ... من قبله كان ولا بعده
و قال أبي محمد الحريري رحمه الله:

لعمرك ما الإنسان إلاّ أبن يومه ... على ما تجلى يومه لا أبن أمسه
وما الفخر بالعظم الرميم وإنّما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه
وقول أبي الطيب:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ... و بنفسي فخرت لا بجدودي
و الشعر في هذا المعنى كثير، وأصل هذا كله قوله تعالى وجلت كلمته: )إنما المؤمنونَ اخوةٌ( وقوله تعالى : )إنَّ أكرمكم عندَ اللهِ أتقاكم( وقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: أيّها الناس إنّما الناس اخوة وليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى. أيّها الناس إنَّ ربكم واحد وإنَّ أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، وأكرمكم عند الله أتقاكم. وهو قطع لمّا كانت فيه العرب من الافتخار بالآباء.
ولعلي كرم الله وجهه:
الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواءُ
و ينسب إليه:
ما الفخر إلاّ لأهل العلم إنهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدر كل امرئ ما كان يحسبه ... و الجاهلون لأهل العلم أعداءُ
و قال الآخر:
لئن فخرت بآباءٍ لهم كرمٌ ... لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
و قال الكميت:
وما استنزلت في غيرها قدر جارنا ... و لا ثفئت إلاّ بنا حين تنصبُ
وقال أبو الطمحان:
وإني من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم ميت قام صاحبه
نجوم سماء كلما انفض كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
وما زال منهم حيث كان مسودٌ ... تصير المنايا حيث صارت كتائبه
قوله: نظم الجزع ثاقبه، يريد أنهم لو استضاء بضيائهم في غياهب الظلام من يثقب الخرز الذي هو أشد شيء لأبصر ذلك فكيف بما هو أظهر؟ وهذه غاية المبالغة في تنزيل المعقول منزلة المحسوس.
وقال الآخر:
شربنا طيباً عند طيبٍ ... كذاك شراب الطيبين يطيبُ
شربنا وأهرقنا على الأرض فضلة ... فالأرض من كأس الكرم نصيبُ
و قال السلامي:
تبسطنا على الآثام لمّا ... رأينا العفو من ثمر الذنوبِ
و هو كقول المأمون:
لو علم أرباب الجرائم تلذذنا ... بالعفو لتقربوا ألينا بالذنوبِ
و هو مأخوذ من قول أبي نواس:
تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار السرورا
و قال ضابئ بن الحارث:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فأني وقيار بها لغريبُ
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ولا عن ريثهن يخيبُ
ورب أمور لا تضير ضيرة ... و للقلب من مخشاتهن وجيب
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
و قال الغنوي:
وهلك الفتى أنَّ لا يراح على الندى ... و أنَّ يرى شيئاً عجيبا فيعجبا
و قال جرير بن الخطفى:
فعض الطرف أنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا!
و بعده:
ولو وضعت شيوخ بني نمير ... على الميزان ما عدلتا ذبابا
و كانت بنو نمير من جمرات العرب، لم يخالفوا أحد لعزتهم وقوتهم. فكان الواحد منهم إذا سئل يقول: من بني نمير، ويفخم صوته إدلالاً بعزته، حتى هجا جرير عبيد بن حصين منهم بما قدم من قصيدة، فوقعت فيهم الموقع، ولم يرفعوا، ولم يرفعوا بعدها رأساً، حتى كانوا يفرون من الانتساب إلى نمير لمّا وسم به. فكان أحدهم إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: من عامر بن صعصعة وهو الجد الأكبر.
ومما يحكى أن مولى لبعض بأهله كان يرد سوق البصرة، فسخر منه بنو نمير، فذكر ذلك لمواليه فقالوا له: إذا نبزك أحد منه فقل له:
فعض الطرف انك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
فلما رجع، سخروا منه ونبزوه، فأراد أن يقول البيت فنسيه فقال: غمض وإلاّ جاءك ما تكره! فكفوا عنه عند ذلك وعلموا إنّه عرف قول جرير فيهم.
وروي أن امرأة مرت بقوم من بني نمير، فأخذوا ينظرون إليها ويتواصفونها، فقالت: قبحكم الله يا بني نمير! ما امتثلتم واحدة من اثنين: لا قول الله تعالى حيث يقول: ) قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم( ولا قول جرير حيث يقول: فغض الطرف " البيت " . فأجمعوا بذلك وذهبوا.
وأحاب بعض بني نمير جريرا عن شعره فقال:
نمير جمرة العرب التي لم ... تزل في الحرب تلتهب التهابا

وإني إذ أسب بها كليبا ... فتحت عليهم للسخف بابا
ولولا أن يقال هجا نميرا ... و لو نسمع لشاعرهم جوابا
؟رغبنا عن هجاء بني كليبٍ و كيف يشتم الناس الكلابا؟ فما ضر ذلك كليبا ولا جريرا ولا نفع نميرا. وقصيدة جرير مذكورة هي التي سماها الدامغة. ولاستمرار الضعة في بني نمير بهجاء جرير قال أبن مناذر يهجو ثقيفا:
وسوف يزيدكم ضعة هجاني ... كما وضع الهجاء بني نمير
و قال عنترة العبسي يخاطب امرأته:
لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
إنَّ الغبوق له وأنت مسودة ... فتأوي ما شئت ثم تحوبي
كذب العتيق وما شن بارد ... إنَّ كنت سائلتي غبوقا فاذهبي!
قوله العتيق، يجوز نصبه ورفعه، ومعناه على الجملة الإغراء، أي عليك بالعتيق، وهو التمر القديم، ولإعرابه تحقيق في علم النحو مشهور.
وقال الآخر:
خذ من أخيك العفو ذنوبه ... و لا تك في كل الأمور تعاتبه
فإنك لن تلقى أخاك مهذبا ... و أي امرئ ينجو من العيب صاحبه؟
أخوك الذي لا ينقض النأي عهده ... و لا عند صرف الدهر يزور جانبه
وليس الذي يلقاك بالبشر والرضى ... و إنَّ غبت يوما لسعتك عقاربه
و قال رجل من بني ضبة لعبد الملك:
والله ما ندري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلب
فلقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم ينسب
فأصبر لعادتنا التي عودتنا ... أولا فأرشد إلى من نذهب
فقال له عبد الملك: إلي! إلي! وأكرمه وحباه.
وقال ضمرة بن ضمرة:
بكرت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي!
ولقد علمت تظني غيره ... أنَّ سوف تخلجني سبيل صاحبي
أ أصرنا وبني عمي ساغب؟ ... فكفاك من إبة علي وعاب
أنَّ رأيت إن صرخت منها هامتي ... و خرجت منها بالي الأثواب
هل تخمشن إبلي عليَّ وجوهها ... لم تعصبن رؤوسها بسلابِ؟
قوله بسل، أي حرام، كقول زهير:
بلاد بها نادمتهم وألفتهم ... فإنَ تقويا منهم فانهم بسلُ
و قوله تخلجني، أي تجذبني، والخلج الجذب، ومنه خليج الماء لا تجاذبه إلى ناحية؛ والساغب الجائع؛ والأبة: الحياء.
وقال الآخر:
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك إنَّ الرأي منك لعازبُ
وليس أخي من ودني رأي عينه ... و كان أخي من ودني وهو غائبُ
و قال الآخر:
إذا ما علوا قالوا أبونا وأمنا ... و ليس لهم عالين أمٍ ولا أبُ
أي إذا غلبوا انتسبوا وتحببوا وتقربوا، وإن كانوا هم الغالبين تعثلموا وتبرؤوا وتبرموا وهذا فعل اللئيم.
ذكر أبو علي البغدادي عن أبي الكلبي عن أبيه قال: كان مرثد الخير بن ينكف قيلاً من أقيال اليمن وكان حدباً على عشيرته محباً لصالحها. وكان سبيع بن الحارث وميثم بن مثوب بن ذي رعين تنازعا الشرف حتى تشاحنا، وخيف أن يقع بين حييهما شرٌ فيتفانيا. فبعث إليهما مرثد فأحضرهما ليصلح بينهما فقال لهما: إنَّ التخفط وامتطاء الهجاج، واستحقاب اللجاج، سيقفكما على هوةٍ في توردها بوار الأصيلة، وانقطاع الوسيلة. فتلاقيا أمركما قبل انتكاث العقد، وانحلال العهد، وتشتت الألفة، وتباين السهمة! وأنتما في فسحة رافهة، وقدم واطدة والمودة مثرية والبقيا معرضة. فقد عرفتم أنباء من كان قبلكم من العرب ممن عصى النصيح، وخالف الرشيد وأصغى إلى التقاطع. ورأيتم ما آلت إليه عواقب سوء سعيهم وكيف كان صيور أمرهم قبلا، فتلافوا القرحة قبل تفاقم الثاني واستفحال الداء وإعواز الدواء! فانه إذا سفكت الدماء، استحكمت الشحناء وإذا استحكمت الشحناء تقصبت عرى الإبقاء، وشمل البلاء. فقال سبيع: أيّها الملك إنَّ عداوة بني العلات، لا تبرئها الأساة، ولا تشفيها الرقاة ولا تستقل بها الكفأة والحسد الكامن هو الداء الباطن. وقد علم بنو أبينا هؤلاء أنا لهم ردء إذا رهبوا وغيث إذا اجدبوا، وعضد إذا حاربوا، ومفزع إذا نكبوا؛ وأنا وإياهم كما قال الأول:
إذا ما علوا قلوا أبونا وأمنا ... وليس لهم عالين أم ولا أبُ

فقال ميثم: أيّها الملك إنَّ من نفس على أبن أبيه الزعامة وجدبه في المقامة، واستكثر له قليل الكرامة كان قرفاً بالملامة ومؤنباً على ترك الاستقامة. وإنَّا والله ما نعتد لهم بيد إلاّ وقد نالهم منا كفاؤها ولا نذكر لهم حسنة إلاّ وقد تطلع إليهم منا جزاؤها، ولا تفيا لهم علينا ظل نعمة إلاّ وقد قوبلوا بشرواها. ونحن بنو فحل مقرم لم تغد بنا الأمهات ولا بهم، ولم تنزعنا أعراق السوء ولا إياهم. فعلام مط الخدود وخزر العيون والجخيف والتصعر والبأو والتكبر؟ ألكثرة عدد أم لفضل جلد أم لطول معتقد؟ وإنا وإياهم لكما قال الأول:
لاه أبن عمك لا أفصلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
و مقاطع الأمور ثلاثة: حرب مبيرة أو سلم قريرة أو مداجاة غفيرة. فقال الملك: لا تنشط عقل الشوادر ولا تلقحوا العون القواعد، ولا تورثوا نيران الأحقاد! ففيها التلفة المستأصلة والجائحة والأليلة؛ وعفو بالحلم، أبلاد الكلم، وأنيبوا إلى السبيل الأرشد، والمنهج المقصد! فإنَ الحرب تقبل بزبرج الغرور وتدبر بالويل والثبور. ثم قال الملك:
ألا هل أتى الأقوال بذلي نصيحة ... حبوت بها مني سبيع وميثما؟
وقلت اعلما أنَّ التدابر غادرت ... عواقبه للذل والقل جرهما
فلا تقدحا زند العقوق وابقيا ... على العزة القعساء أن تتهدما
ولا تجنيا حربا تجر عليكما ... عواقبها يوما من الشر أشأما
فإنَ جنات الحرب للحين عرضة ... تفوقهم منها الزعاف المقسما
حذار فلا تستنبثوها فإنها ... تغادر ذا الأنف الأشم مكشما
فقالا: أيها الملك بل نقبل نصحك ونطيع أمرك ونطفئ النائرة ونحل الضغائن ونثوب إلى السلم.
قال أبو بكر بن دريد: التحفظ ركوب الرجل رأسه في الشر خاصة. قال أبو علي: ولم أسمع هذه الكلمة من غيره. فأما التخمط بالميم فالتكبر. انتهى. وكذا من رأينا من اللغويين لم يذكروا تلك المادة أصلا. وركب الرجل هجاجة: لج ومحك. قاله أبن دريد. وفي الصحاح: ركب هجاج غير منصرف، وركب هجاج كقطام: ركب رأسه، وأنشد: وقد ركبوا عاى لومي هجاج واستحقاب اللجاج استفعال، إما من حقيبة الرجل، وهو ما يكون وراء الرجل يملأ حشيشا أو تبنا وإما من الحقاب وهو بريم تشد به المرأة وسطها. وعلى الأول يكون استحقاب اللجاج معناه جعله في الوعاء؛ وعلى الثاني يكون معناه الأضرار به على المجاز فيهما؛ والهوة: الحفرة. والبوار: الهلاك؛ والأصيلة: الأصل: والانتكاث: الانتقاض. ورافة: ناعمة. وواطدة: ثابتة. ومثرية: متصلة، من الثرى وهو التراب الندي. والمعرضة: الممكنة، من أعراض الصيد إذا أمكن من عرضه أي جنيه ليرمى. وصيور الأمر: ما يؤول إليه. واستفحال الداء: اشتداده. وتقصبت: تقطعت. والأساة: الأطباء. والزعامة: الرئاسة: وجدبه في المقامة، أي عابه، والمقامة: المجلس وقد يراد به الجلاي، ويحتملهما قول زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... و أندية ينتابها القول والفعلُ
و قرفاً بالملامة أي خليقا لها. وشرواها: مثلها. والخزر: النظر بمؤخرة العين، وهو معروف عند العامة اليوم. والجخيف: التكبر. والمداجات: المساترة والغفيرة: الغفران. ولا تنشطوا: لا تحملوا. ولا تلحقوا العون: لا تسرعوا الحرب، وأصله في الإبل؛ يقال: لقحت الناقة إذا حملت وألقحها الفحل. والعون جمع عوان وهي الثيب وتستعار للحرب التي قوتل فيها مرة أخرى. وتورثوا: تذكوا. والاليلة: الثكل. والابلاد: الآثار، وأحدها بلد. والقعساء: الثابتة. وتفوقهم: تسقيهم الفواق أي ما بين الحلبتين. وتستنبثوها: تستخرجوا نبيثها والنبيثة في الأصل ما يخرج من البئر إذا حفرت. ومكشم: مقطوع.
وقال الآخر:
يرى الحاضر الشاهد المطوئن ... من الأمر ما لا يرى الغلئبُ
و قال الأحوص:
قالت وقلت تحرجي وصلي ... حبل امرئ بوصالكم صبُ
صاحب إذا بعلي فقلت لها ... الغدر شيء ليس من ضربي
ثنتان لا أدنو لوصلهما: ... عرس الخليل وجارة الجنبِ
أما الخليل فلست فاجعه ... و الجار أوصاني به ربي
عوجا كذا نذكر لغانيةٍ ... بعض الحديث مطيكم صحبي
ونقل لها فيهم الصدود ولم ... أذنب بل أنت بدأت بالذنبِ
إن تقبلي نقبل وننزلكم ... من بدار السهل والرحبِ

أو تدبري يكدر معيشنا ... و تصدي متلائم الشعبِ
و لمّا سمع أبو السائب هذا الشعر قال : هذا المحب عيناً لا الذي يقول:
وكنت إذا حبيبٌ رام صرمي ... وجدت وراي منفسحاً عريضا
اذهب فلا صحبك الله ولا وسع عليك! قلت: واتما قال ذلك لأنهم يرون أنَّ فضيلة المحب وكمال العاشق أن يتطبع بلواعج البلبال، ويستديم الصبابة على كل حال.
وحدث بعض الأدباء قال: قال عروة بن عبد الله : نزل أبن أذينة في دارنا بالعقيق فسمعته ينشد:
إنَّ التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
كيف الذي زعمت به وكلاهما ... أبدى بصاحبه الصبابة كلها؟
ولعمرها لو كان حبك فوقها ... يوما وقد ضحيت إذا لأظلها!
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها ... بلطافة فأدقها وأجلها
لمّا عرضت مسلما لي حاجة ... أخشى صعوبتها وأرجو ذلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها!
فدنا وقال لعلها معذورةٌ ... في بعض رقبتها فقلت لعلها
قال وبلغ ذلك أبا السائب المخزومي فأتاني وقال : أنشدني ما سمعت من عروة أذينة، فأنشدته إياها فلما بلغت البيت الأخير طرب وقال : والله الدائم الصبابة الصادق لا الذي يقول:
إن كان أهلك يمنعونك رغبةً ... عني فأهلي بي أضن وأرغبُ
ثم قلت: هلم الذي الطعام!فقال: والله ما كنت لأخلط بلذة هذه الأبيات طعاما إلى الليل! وأنصرف.
قلت: ووقع ما يشبه العيب الذكور في قول امرئ القيس:
أ أسماء أمسى ودها قد تغيرا ... سنبدل إن أبدلت بالود آخرا
ومن نمط المحمود في استدامة الحب والصبابة قول بعضهم:
إذا ما صديق أسا مرةً ... و قد كان فيما مضى مجملا
ذكرت المقدم من فعلهِ ... فلا ينقض الآخر الأولا
و قال الآخر، وينسب للمجنون أو إبراهيم بن العباس:
تطلع من نفسي إليك نوازعٌ ... عوارف أنَّ اليأس منك نصيبها
وأزالت زوال النفس عن مستقرها ... فمن مخبري في أي أرضٍ غروبه؟
حلالٌ لليلى أن تروع فؤادهُ ... بهجرٍ ومغفورٌ لليلى ذنوبها
و قال الآخر:
ومن شغفي فيكم ووجدي أنني ... أهون ما ألقاه وهو هوانُ
ويحسن قبح الفعل إن جاء منكم ... كما طاب ريح العود وهو دخانُ
و قال الآخر:
إن أمت وجداً فلي قدمٌ ... بي إلى حتف الهوى سعتِ
أو ترق يلك اللحاظ دمي ... فهي في حلٍّ وفي سعةِ
و قال الآخر:
أبدا أزيدُ مع الوصال تلهفاً ... كالعقد في جيد المليحة يقلقُ
ويزيدني كلفا فأذكر فعلهُ ... كالمسك تسحقه الأكف فيعبقُ
و قال الآخر:
فرقت بيننا الحوادث لكن ... في نفسٌ إليكم أدنيها
وكأني في الود فأرة مسكٍ ... أفرغوها ونفحة الطيب فيها
و قال الآخر:
وإذا المليح أتى بذنبٍ واحدٍ ... جاءت محاسنه بألف شفيعِ
و قال بعضهم فيه:
ما ذلتي في حبكم وخضوعي ... عارٌ ولا شغفي بكم ببديعِ
دين الهوى ذلٌ وجسمٌ ناحلٌ ... و سهاد أجفانٍ وفيض دموعِ
كم قد لحاني في هواكم لائمٌ ... و ثنيت عطفي عنه غير سميعِ
ما يحدث التقبيح عندي سلوةً ... لكم ولو جئتم بكل فظيعِ
وإذا المليح أتى بذنبٍ واحدٍ ... جائت محاسنه بألف شفيعِ
و قال الحكيم:
مستقبل بالذي بهوى وإن كثرت ... منه الذنوب ومعذورٌ بما صنعا
في وجهه شافعٌ يمحو أساءته ... من القلب وجيهٌ حيثما شفعا
و قول أبي فراس الحمداني:
أساء فزادته الإساءة حظوةً ... حبيبع ما كان منه حبيبُ
تعدُ عليَّ الوشيات ذنوبه ... و أين من الوجه المليح ذنوبُ؟
و قال الآخر:
وكلما رمتُ أن أقابله ... على تماديه في تعديهِ
جاءت على غفلةٍ محاسنه ... تلزمني الصفح عن مساويهِ
و قال الآخر:
كلما أذنب أبدى وجهه ... حجةً فهو مليٌ بالحججِ
كيف لا يفرط في إجرامه ... من متى شاء من الذنب خرج
و قال الآخر:
عفت محاسنه عندي إساءته ... حتى لقد حسنت عني مساويهِ
و قال الآخر:

لي حبيبٌ كالظبي غرٍّو لكن ... بعذابي في الحب ما أغراهُ!
وإذا كرر الذنوب فيكفيه ... اعتذاراً مما جنى أن أراهُ
و قال الآخر:
ومستنصٍ في العذر مستعجل القلى ... بعيدٍ من العتبى قريبٍ من الهجرِ
له شافعٌ في القلب مع كلِّ زلةٍ ... فليس بمحتاج الذنوب إلى العذرِ
و قال أبي الطيب:
فأن يكن الفعل الذي ساء واحداً ... فأفعاله اللائى سررن ألوفُ
و قال حاتم أو عمرو بن الأهتم:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ... و يخصب عندي والمحل جديبُ
وما الخصب للأضيافِ أن يكثر القرى ... و لكنما وجه الكريم خصيبُ
وسنذكر ما في هذا النزع من الشعر بعد إن شاء الله تعالى. وقال رجل من عبس:
إذا راح ركبٌ مسرعون فقلبه ... مع الرائحين المسرعين جنيبُ
وإن هبَّ علويُّ الرياح رأيتني ... كأني لعلو يأتهن نسيبُ
فلا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيباً ولم يطرب إليك حبيبُ
و قال الآخر:
من كان يزعم أن سيكتم حبه ... حتى يشكك فيه فهو كذوبُ
الحب أغلبُ للفؤاد بقهره ... من أن يرى للستر فيه نصيبُ
وإذا بدا سر اللبيب فإنه ... لم يبد إلاّ أنه مغلوبُ
إني لأبغض عاشقاً متستراً ... لم تتهمه أعينٌ وقلوبُ
و قال ذو الرمة:
إذا هبت الأرواح من نحو جانبٍ ... به أهل ميٍّ هاج لبي هبوبها
هوى تذوف العينان منه وإنما ... هوى كل نفسٍ حيث حل حبيبها
وقال المجنون:
يقولون لي يوماً وقد جئت حيهم ... و في كبدي نارٌ يشب لهيبها
أما تخشى من أسدنا؟ فأجبتهم ... هوى كلً نفسٍ حيث حل حبيبها
و قال بعض الأعراب:
شكوت فقالت كل هذا تبرماً ... بحبي أراح الله قلبك من حبي!
فلما كتمت الحب قالت لشدما ... صبرت وما هذا يفعل شجي القلبِ
وأدنو فتقصيني وأبعد طالباً ... رضاها فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواي يؤذيها وصبري سيوؤها ... و تجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلةٍ تعرفونها؟ ... أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي!
و تقدم هذا المعنى في حرف الهمزة. وقريب منه وإن عاكسه في الترديد قول امرئ القيس:
وقالت متى يبخل عليك ويعتلل ... يسؤك وإن يكشف غرامك يدربِ
و قال الإمام العارف بالله تعالى أبو بكر الشبلي رضي الله عنه وقد دخل على شيخه الإمام أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه فوقف بين يديه وصفق بيده وقال:
عودوني الوصال والوصل عذبُ ... و رموني بالصد والصدُ صعبُ
زعموا حين أزمعوا أنَّ ذنبي ... فرط حبي لهم وما ذاك ذنبُ
لا وحق الخضوع عند التلاقي ... ما جزا من يحب إلاّ يُحَبُ
فأجابه الشيخ فقال:
وتمنيت أن أراك ... فلما رأيتكا
غلبت دهشة السرور ... فلم أملك البكا
و قال أبو علي الفارسي النحوي:
خضبت الشيب لمّا كان عيباً ... و خضب الشيب أولى أن يعابا
ولم أخضب مخافة هجر خلٍ ... و لا عيبا خشيت ولا عتابا
ولكن المشيب بدا دميما ... فصيرت الخضاب له عقابا
و سيأتي ذكر ما في الشيب والخضاب مستوفي إن شاء الله تعالى.
وقال عبد الله بن سعيد الموصلي الشافعي:
قالوا سلا، صدقوا عن ... السلوان ليس عن الحبيبِ
قالوا: فلم ترك الزيارة؟ ... قلت: من خوف الرقيبِ
قالوا: فكيف يعيش مع ... هذا؟ فقلت: من العجيبِ
و قال انو العرب الصقلي:
لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسىً ... و أعجب لأسود عيني كيف لم يشب
البحر للروم لا تجري السفين به ... إلاّ على خطرٍ والبر للعرب
و سبب قوله ذلك إنَّ المعتمد بن عباد بعث إليه بخمسمائة دينار وأمره أن يتجهز بها ويقدم عليه، فكتب إليه الحصري:
أمرتني بركوب البحر أقطعه ... غيري لك الخير فاخصصه بذي الداء
ما أنت نوحٌ فتنجيني سفينته ... و لا أنا أمشي على الماءِ
و قال أبو الوفاء:
ومن كان في المسعى أبوه دليله ... تدانى له الشأو الذي هو طالبه
و قال يحيى بن خالد بن برمك:
أنصب نهاراً في طلاب العلى ... و أصير على فقد الحبيب القريب

حتى إذا الليل أتى مقبلا ... و استترت فيه وجوه الغيوبُ
فكابد الليل بما تشتهي ... فإنما الليل نهار الأريب
كم من فتى تحسبه ناكساً ... يستقبل الليل بأمر عجيب
غطى عليه الليل أستاره ... فبات في لهو وعيش خصيب
ولذة الأحمق مكشوفة ... يسعى بها كل عدو رقيب
و سبب هذا الشعر أن ابنه الفضل بن يحيى كان الرشيد قد ولاه عمل خراسان فأقام بها مدة ثم وصل كتاب صاحب البريد إلى الرشيد، ويحيى بين يديه جالس، مضمنه أن الفضل أشتغل بالصيد واللذات عن النظر في أمور الرعية. فلما قرأ الرشيد الكتاب رمى به إلى يحيى وقال له: يا أبي! اقرأ هذا الكتاب واكتب إليه ما يرده عن هذا. فكتب إليه يحيى على ظهر كتاب صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمتع بك! قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه شاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية فأنكره، فعاود ما هو زين بك، فانه من عاد إلى ما يريبه ويشينه لم يعرفه أهل دهره إلاّ به، والسلام. وكتب في أسفله الأبيات المذكورة، والرشيد ينظر إلى ما يكتب. فلما فرغ قال: أبلغت يا أبي! فلما ورد الكتاب على الفضل، لم يفارق المسجد نهاراً إلى إنَّ انصرف عن عمله.
وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: تزوجت امرأة بمكة من قريش، وكنت أمازحها فأقول:
ومن البليلة أنَّ تحب ... فلا يحبك من تحبه
فتقول هي:
ويصد عنك بوجهه ... و تلج أنت فلا تغبه
و قال الشريف الرضي:
ولقد وقفت على طلولهم ... و ربوعهم بيد البلى نهب
و من أعجب الاتفاق أن بعض الأدباء مر بدار الشريف هذا التي ببغداد، وقد خربت وذهبت بهجتها، ولم يبق منها إلاّ آثار تشهد لها بالحسن والنظارة. وفوقف وتمثل بالبيت المذكور وهو لا يعرف لمن الدار. فمر به شخص وسمعه ينشد البيت فقال له: أتعرف هذه الدار؟ قال: لا. قال: هي دار الشريف صاحب البيت. وهذه تشبه حكاية عبيد الجرهمي، وكان دخل على معاوية فقال له: حدثني بأعجب ما رأيت. فقال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتا لهم، فاغرورقت عيناي بالدموع، وتمثل بقول الشاعر:
يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر، وهل ينفعنك اليوم تذكير؟
فاستدر الله خيرا من وراضين به ... فبينما العسر إذ جاءت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... و ذو قرابته في الحي مسرور
فقال لي رجل: أتعرف من يقول هذا الشعر؟ فقلت: لا. فقال: إنَّ قائله هو الذي دفناه الساعون وأنت الغريب الذي تبكي عليه، وهذا الخارج من قبره أمس الناس رحما وأسرهم بموته. فقال له معاوية: لقد رأيت عجبا! وقال صر در:
إنَّ الهلال يرتجي طلوعه ... بعد السرار ليله احتجابه
والشمس لا يويس من طلوعها ... و إنَّ طولها الليل في جنابه
و قال:
كم عودة دلت على دوامها ... و الخلد للإنسان في مآبه!
ولو قرب الدر على جالبه ... ما لجج الغائض في طلابه
ولو أقام لازما أصدافه ... لم تكن التيجان في حاسبه
ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه ... إلاّ وراء الهول من عبابه
و قال الآخر:
جروح الليالي ما لهن طبيب ... و عيش الفتى بالفقر ليس يطيب
وحسبك أنَّ المرء في حال فقره ... تحمقه الأقوام وهو مصيب
ومن تعتوره الحادثات بصرفها ... يمت وهو مغلوب الفؤاد سليب
وما ضرني أنَّ قال أخطأت جاهل ... إذا قال كل الناس أنت مصيب
و قال علي بن الجهم:
سقى الله ليلا ضمنا بعد هجعة ... و دنى فؤادا من فؤاد معذب
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة ... من الخمر فيما بيننا لم تسرب
وهذا معنى بليغ في العناق، أخذه من قول بشار:
فبتنا معا لا يخلص الماء بيننا ... إلى الصبح دوني حاجب وستور
و أبلغ منه في هذا المعنى قول عبد الله من المعتز:
ما اقصر الليل على الراقد ... وأهون السقم على العائد
ويفديك ما أبقيت من مهجتي ... لست لمّا أوليت بالحاجد
كأني عانقت ريحانة ... تنفست في ليلها البارد
فلو ترانا في قميص الدجى ... حسبنا من جسد واحد
و هو مأخوذ من قول الآخر:

خلوت فناداها ساعة ... على مثلها يحسد الحاسد
كإنا وثوب الدجى مسبل ... علينا لمبصرنا واحد
و ابلغ من هذا عندي قول أبن الرومي:
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدان؟
وألثم فاها كي تموت حرارتي ... فيشد ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الهوى ... ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله ... سوى أن يرى الروحان يمتزجان
فإن الامتزاج أخص مطلق الوحدة وأصرح في قطع العدة، وذلك في الأرواح أبلغ و أبدع منه في الأجسام، غير إنّه في الشعرين السابقين إخبار عن أمر هو واقع أو كالواقع، بخلاف هذا.
ولابن عبدوس الفارسي في العناق أيضاً:
لا والمنازل من نجد وليلتنا ... يفيد إذ جسدانا بيننا جسد
كم رام فينا الكرى من لطف مسلكه ... نوما فما أنفك لا خد ولا عضد!
و هو نحو ما للأولين وابلغ من حيث الجزم واصلح بن موسى:
لي سيدٌ ما مثله سيدٌ ... تصدت الحمى له فاشتكا
عانقته عند موافاتها ... و الأفق بالليل قد أحلو لكا
فجاءت الحمى لعادتها ... فلم تجد ما بيننا مسلكا
و هو نحو ما لابن الجهم وأبلغ منه لأن عدم نفوذ المعنى أغرب من عدم نفوذ الجسم.
ولابن رشيق أيضاً :
ومهفهفٍ يحميه عن نظر الورى ... غيران سكنى الموت تحت قبابه
فلثمت خداً منه ضرم لوعتي ... و جعلت أطفئ حرها برضابه
وضممته للصدر حتى استوهبت ... مني ثيابي بعض طيب ثيابه
فكأن قلبي من وراء ضلوعه ... طرباً يخبر قلبه عما به
و لابن معتز:
يا رب إخوان صحبتهم ... لا يرفعون لسلوة قلبا
لو تستطيع قلوبهم خرقت ... أجسامهم فتعانقت حبا
وهذا أبلغ ما سمعنا في الباب وتركنا ما قيل في مطلق العناق. وهو كثير خشية الإطناب.
وقال أبو قتبان المصري في باب المدح:
رغبت لنفسي أن أكون مصاحباً ... أناساً قيدوا إلى الذل أصحبوا
فجاورت ملكا تستهل يمينه ... ندى حين يرضى أو ردى حين يغضبُ
تدور كؤوس الحمد طوراً فينتشي ... و طوراً تعني المرهبات فيطربُ
عرفت فكان الانتساب زيادة ... و غيرك يخفيه الخمول فينسبُ
وفي بعض ذا المجد الذي ظفرت به ... يدرك غنى عما بنى الجد والأبُ
قضى الله أن يزداد بينك رفعة ... على أنه فوق النجوم مطنبُ
و قال أبو العلاء:
ردت لطافتة وحدة ذهنه ... و حش اللغات أو إنساً يخاطبه
كالنحل يجني المر من نور الربى ... فيعود شهداً في طريف رضابه
و قال أبو المظفر:
يا من يساجلني وليس بمدرك ... شأوي وأين له جلاله منصبي؟
و سيأتي تمام هذا الشعر بعد، إن شاء الله تعالى.
وقال مالك بن المرحل:
وبيداء كانت لي ضلوعاً تكنني ... كأني فيها لوعةٌ ووجيبُ
وتحت قميص الليل مني مجمر ... و فوق رداء الصبح مني طيبُ
وفي مقلة الظلماء مني موردٌ ... له بين أهداب السحاب دبيبُ
وفي مبسم الإصباح مسواك إسحلٍ ... و لكنه مهما عجمت صليبُ
فيقضي علي والليل أدعجٌ ... و يفصم عني الصبح وهو شنيبُ
و قال الآخر يرثي صديقا له نصرانياً:
أخي بوداد لا أخي بديانتي ... و رب أخٍ في الود مثل نسيبِ
وقالوا أتبكي اليوم من لست صاحباً ... غداً؟ إنَّ هذا فعل غير لبيبِ
ومن أين لا أبكي حبيبا فقدته ... إذا خاب منه في المعاد نصيبي؟
و قال بعض الأعراب:
أ حجاج بيت الله في أي هودجٍ ... و في أي بيت من بيتوكم حبي؟
يقولون هذا آخر العهد منكم ... فقلت وهذا آخر العهد من قلبي
و قال الآخر:
ليس ليوم البين عندي سوى ... مدامعٍ يجمعها سكبُ
كأنما فض بأجفانها ... رمانةٌ فانتثر الحبُ
و قال الآخر:
والغصن قد مال نحو النهر فالتقيا ... على هوى حين غنى الطائر الطربُ
فقبل النهر غصناً ثغره زهر ... و قبل الغصن نهراً ثغره حببُ
و قال الآخر:
قم أدرها فالليل رق دجاه ... وبدا طيلسانه ينجابُ
وكأن الصباح في الأفق بازٌ ... و الدجى بين مخلبيه غرابُ

وكأن السماء لجة بحر ... و كأن النجوم فيه عبابُ
و سيأتي ما قيل في هذا المعنى من مختار الشعر.
وقال محمد بن حسام الدين:
ألا إنَّ أرض الغرب أفضل موطنٍ ... تساق إليه الواخذات النجائبُ
ولو لم تكن في الغرب كل فضيلة ... لمّا حركت شوقا إليه الكواكبُ
و قال الآخر:
قوض خيامك عن أرض يهان بها ... و جانب الذل إنَّ الذل مجتنبُ
وارحل إذا كانت الأوطان مضيعة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطبُ
و تقدم هذا المعنى مستوفي. وفي معناه أيضاً قول سهل بن مالك:
منغص العيش لا يأمي إلى دعةٍ ... من كان ذا ولدٍ أو كان ذا بلدِ
والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى مكان ولم يسن إلى أحدِ
و قال لبن الخطيب:
وإذا تنغصك الزمان ببلدةٍ ... فاطو المراحل كي تحوز كمالا
لمّا توغل في السرى بدر الدجى ... أبصرته بدراً وكان هلالا
و قال الآخر:
مللت حمص وملتني فلو نطقت ... كما نطقت تلاحينا على قدرِ
وسولت لي نفسي أن أفارقها ... و الماء في المزن أصفى منه في الغدرِ
و قول القاضي عبد الوهاب لن نصر:
بغداد دار لأهل المال والسعة ... و للصعاليك دار الضنك والضيقِ
أصبحت أمشي مضاعاً في أزقتها ... كأنني مصحف في بيت زنديقِ
و قال الآخر في ضده:
لا يعدم المرء ركنا يستكن به ... و شعبه بين أهليه وأصحابهِ
ومن نأى عنهم قلت مهابته ... كالليث يحقر لمّا غاب عن غابِ
و مثله قول الآخر:
إنَّ الهزير إذا نأى عن غيضه ... ضربت له الأيدي على ترقيصه
وكذا الغريب إذا نأى عن داره ... أدته غربته إلى تنقيصه
و مثله قول الآخر:
وقالوا اضطرب في الأرض فالرزق واسعٌ ... فقلت ولكن مسلك الرزق ضيقُ
إذا لم يكن في الأرض حر يعينني ... و لم أك ذا مالٍ فمن أين أنفقُ؟
و قال أبن المهدي:
واحن أيام الهوى يومك الذي ... يروع بالهجران فيه وبالعتبُ
إذا لم يكن في الحب بسخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب؟
و قال الآخر:
شيئان لو بكت الدماء عليهما ... عيناي حتى تؤذنا بذهابِ
لم تبلغا المعشار من حقيهما ... فقد الشباب وفرقة الأحبابِ
و سيأتي ما في هذا المنزع من الشعر بعد إن شاء الله تعالى.
وقال مالك بن المرحل:
مذهبي تقبيل خد مذهب ... سيدي ماذا ترى في مذهبي؟
لا تخالف مالكا في رأيه ... فيه يأخذ أهل الغربِ
و سيأتي ما قيل في التوجيه بعد إن شاء الله تعالى وقال عبد الجليل المرسي:
ما للعذار وكان وجهك قبله ... قد خط فيه من الدجى محرابا؟
وأرى الشباب وكان ليس بخاشعٍ ... قد خر فيه راكعا وأنابا
ولقد علمت بكون ثغرك بارقاً ... أن سوف يرمي للعذار سحابا
و قال نجم الدين بن بطريق:
أعاذك الله من همٍّ ومن نصب ... و لا لقيت الذي ألقى من الحربِ
هذا زماني أبو جقلٍ وذا حربي ... أبو معيط وذا قلبي أبو لهبِ
و قال الآخر:
قال حمار الطبيب قومي ... لو أنصفوني لكنت أركبُ
لأنني جاهل بسيط ... و صاحبي مركب
و قال أبو الفتح البستي:
إذا غدا ملك باللهو مشتغلا ... فالحكم على ملكه بالويل والحرب
أما ترى الشمس في الميزان ساقطة لمّا غدا وهو بيت اللهو والطرب؟
قال أبو الحسن الوارد:
يقولون: لاح الشيب فاله عن الصبا ... و عن قهوة تصبو لها وتنيب!
فقلت: دعوني نصطبحها سلافة ... على صبح شيبي فالصبوح عجيب
و مثله قول الآخر:
وقالوا: أنَّ تلهو والشباب قد انقضى ... و عمرك قد ولى يبق طائل؟
و قال الآخر:
وقائله: خل الهوى لرجاله ... فإن الهوى بعد المشيب جنون
فقلت لها: إنَّ الهوى فيه راحة ... ألذ الكرى عند الصباح يكون
و قال الآخر:
ولائمة لي إذ رأتني مشمراً ... أهرول في سبل الصبا خالع العذر
تقول: انتبه من رقدة اللهو والصبا ... فقد دب صبح الشيب في غسق الشعر
فقلت لها: كفي عن اللوم واعلمي ... بأن ألذ النوم إغفاء الفجر!

و قول أبن الساعاتي في ضده:
لا تعجبين لطالب نال العلى ... كاهلا واخفق في الزمان المقبل!
فالخمر تحكم في العقول مسنة ... و تدلس أوّل عصرها بالأرجل
و قال كاشح في نتف الشيب:
إذا ما مضى المنقاش يأتي بها أتت ... و قد أخذت من دونها جارة الجنب
كجان على السلطان يجزى بذنبه ... تعلق بالجيران من شدة الرعب
و مثله قول أبن النبيه:
اقتطف البيضاء من لمتي ... دأبا مع السوداء إذ تشرف
فتخلف البيض بأمثالها ... و تعضب السودا فما تخلف
حمامة السودان معروفة ... يعرفها من كان لا يعرف
و قال أبن الخطيب:
إني لمثلي من بعد ما ... للوخط في الفودين أي دبيب؟
لبس البياض وحل ذروة منبر ... مني ووالي الواعظ فعل خطيب
و قال أيضاً:
وقد كنت يهوى الروض طيب شمائلي ... و يمرح غص البان بين قبابي
فمذ كتب الوخط الملم بعارضي ... حروفا أتى فيها بمحض عتابي
نسخت بما قد خطه سنة الهوى ... و كم سنة منسوخة بكتاب!
و قال أيضاً:
وما كان إلاّ إنَّ جنى الطرف نظرة ... غدا لقلب رهنا في عقوبة ذنبه
وما العدل أنَّ يأتي امروء بجريرة ... فيؤخذ في أوزارها جار جنبه
و قال الآخر:
قد قلت إذا سار السفين بهم ... و البين ينهب مهجتي نهبا:
لو أن لي ملكا أصول به ... لأخذت كل سفينة غضبا
وقال الآخر:
رضاك شباب لا يليه مشيب ... و سخطك داء ليس منه طبيب
كأنك من كل النفوس مركب ... فأتت إلى كل النفوس حبيب
و قال أبن أبي العافية:
ودعتها ووداعها متضمن ... لوداع لذات الحياة وطيبها
واصفر منها وجهها ففهمت ما ... معنى اصفرار الشمس عند غروبها
وسيأتي ما في هذا المنزع بعد إن شاء الله تعالى.
وقال الآخر:
عجبت لطيف زار في الليل مضجعي ... و آب ولم يشف الفؤاد المعذبا
فأوهمني أمراً وقلت لعله ... رأى حالة لم يرضها فتجنبا
وما ذاك من أمر يريب وإنّما ... رآني قتيلا في الدجى فتهيبا
وسيأتي هذا أيضاً بعد إن شاء الله تعالى.
وقال أبو محمّد المصري:
سلام على الشيب الذي لا أريده ... و لا قلت أهلاً حين جلى ومرحبا
ولكنه ضيف كرهت قدومه ... و أكرمته إذ لم أجد عنه مذهبا
و قال الميكالي:
عيرتني ترك المدام وقالت: ... هل جفاها من الكرام أديب؟
هي تحت الظلام نور وفي الأكباد ... برد وفي الخدود لهيب
قلت: يا هذه عدلت عن النصح ... و ما للرشاد منك نصيب
إنها للستور هتك وللألباب ... قتل وفي المعاد ذنوب
و قال الآخر:
دعتني إلى لهو التصابي وما درت ... بأن زمان اللهو عني ذاهب
فقلت لها: مالي وللهو بعد ما ... تولى الصبا وازور للغيد جانب
وقد وخطت بيض من الشعر لمتي ... تخبر إنَّ البيض عني رواغب
أ ألهو وفجر الشيب قد لاح نوره ... بفودي، فقالت: أوّل الفجر كاذب
و قال الآخر:
أن استحسنت مقلتي غيركم ... أمرت السهاد بتعذيبها
وعاقبتها بالبكا دائما ... لمّا استحسنت غير محبوبها
فلما تنظر العين إلاّ إليك ... لأنك غاية مطلوبها
و قال أبو محمّد بن عبد البر رحمه الله:
قل للوزير وقد قطعت بمدحه ... عمري فكان السجن منه ثوابي
لم تعد في أمري الصواب موفقا ... هذا جزاء الشاعر الكاذب!
و قال بعض الأدباء في طريق التورية:
ومعطر الأنفاس يبسم دائما ... عن در ثغر زانه ترتيب
من لم يشاهد منه عقد جواهر ... لم يدر ما التنقيح والتهديب
ومثله أيضاً في هذا المعنى:
قلت والشعر يشي في خده ... لام حسن سهلت لومي علي
بحياة الحب كوني للرضى ... لام جر لا تكوني لام كي!
و قال الآخر على هذا الطريق:
هبت مع لفجر لميعادها ... فافتضح الشارق والغارب
فجران ذلك الوجه أسناهما ... هل يستوي الصادق والكاذب؟
و قال آخر على قريب من هذا:
دهر يمر وآمال مخيمة ... و لا أحتقاب يسوي وزر على الحقب

تمضى الفروع على حكم الأصول ولا ... استذكار قلب ولا تمهيد منقلب
خط المشيب على فوديك تذكرة ... بأن تنيب وحتى لأن لم تنب
وقد نضى سيفه فأحذر صرامته ... فالسيف أصدق أنباء من الكتب!
سلت عليك الليالي منه ذا شطبٍ ... في حده الحد بين الجد واللعب
و كتب المستعصم بالله إلى أبن عمار على وجه العتب فيما بلغه عنه:
وزهدني في الناس معرفتي بهم ... و طول اختباري صاحبا بعد صاحب
فلم تراني الأيام خلا تسرني ... مباديه إلاّ ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لدفع ملمة ... من الدهر إلاّ كان إحدى المصائب
فأجابه أبن عمار بقطعة منها:
فديتك لا تزهد وثم بقية ... سيرغب فيها عن وقوع النوائب!
وابق على الخلصان إنَّ لديهم ... على البدء كراتٍ بحسن العواقب
و قال بعضهم، وقد زاره إخوان له:
أهلاً وسهلاً بسادات لنا نجب ... كالذبل السمر أو كالأنجم الشهب!
أجملتم وتفضلتم بزورتكم ... و ليس ينكر فضل من ذوي حسب
أضاء منزلنا من نور أوجهكم ... و طاب من عيشا ما كان لم يطب
و قال أبن الرومي:
أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ... فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب؟
هناك يحق الصبر والصبر واجب ... و ما كان منه كالضرورة أوجب
هو المهرب المنجى لمن أحدقت له ... مكاره دهر ليس عنهن مهرب
و قال القاضي الفاضل في معناه:
لا تلن للخطوب الحديد ما كان إلاّ ... حين أبدى لينا لحر اللهيب
إنَّ ضرب الحديد ما كان إلاّ ... حين أبدى لينا لحر اللهيب
و تقدم ما في هذا المنزع وهو كثير.
وقال بعض الأعراب:
لا يقنع الجارية الخضاب ... و لا الوشاحان ولا الجلباب
من دون أن تلتقي الأركاب ... و يقعد الأير لعاب
الأركاب جمع ركب بفتحتين، وهو ظاهر الفرج أو العانة أو منبتها؛ ويقعد معناها هنا يصير، أي يصير الأير وهو الذكر ذا لعاب.
وقال الآخر:
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... و للمشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنياه سواه فهو من ذين أخيب
و قال الحماسي:
وإنَّ أتوك فقالوا إنّها نصف ... فإنَ أطيب نصفيها الذي ذهبا
و ينشد هذا الشعر على ضر آخر وهو:
لا تنكحن عجوزا أو مطلقة ... و لا يسوقنها في حبلك القدر
وإنَّ أتوك وقالوا إنّها نصف ... فإنَ أطيب نصفيها الذي غبرا
و فيه عيب القافية. والنصف من النساء بفتحتين: المتوسطة. وقوله أخلع ثيابك يحتمل أنَّ يريد به: انزع محبتك منها وتسل عنها ولا تلتفت إليها والثياب تطلق على لقلوب، فتطلق على المحبة باعتبار إنّها فيها. ومن الأول قول عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
أي شققت قلبه. ويصحان معا وفي قول امرئ القيس:
وإنَّ كنت قد ساءتك مني خليفة ... فسلي ثيابك من ثيابك تنسل
أي سلي قلبي من قلبك، أو محبتي من قلبك. وقيل في قوله تعالى: ) وثيابك فطهر(، أي قلبك، ويكنى بالثياب عن الأعمال أيضاً. ورد إنَّ الميت يبعث في أثوابه أي أعماله.
فائدة: ذكر أبو العباس أحمد بن عطاء الله أنَّ الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنهما بات ليلة، وضنها ليلة سبع وعشرين، بالمسجد الجامع وافتتح الصلاة، فجعل الأولياء يتساقطون عليه من كل ناحية، فلما اصبح قال: ما كانت البارحة إلاّ ليلة مباركة! سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا علي طهر ثيابك من الدنس ، تحظ بمدد الله تعالى في كل نفس في كل نفس! فقلت يا رسول الله، ما ثيابي؟ قال: كذا، وفسرها له بأخلاق قلبه ومقاماته؛ ونسيت اللفظ لطول العهد به. قال أبو الحسن:فعرفت حينئذ معنى قوله تعالى )و ثيابك فطهر(.
وقال الآخر:
فإنَ تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب
و هذا البيت من قصيدة، أضطرب في القائها، رثي بها رجل يقال له أبو المغوار، ورأيت أن أثبتها هنا مع طولها، لحسنها واشتمالها على الأمثال وهي:
تقول سليمى: ما لجسمك شاحبا ... كأنك يحميك الطعام طبيب؟
فقلت، ولم يعي الجواب لقولها ... للدهر في صمم الإسلام نصيب:

تتابع أحداث تخر من اخوتي ... و شيبن رأسي والخطوب تشيب
لعمري لئن كانت أصابت منية ... أخي والمنايا للرجال شعوب
لقد عمجت منا الحوادث ماجداً ... عروفا لريب الدهر حين يريب
وقد كان أما حلمه فمروح ... علينا وأما جهله فعيزب
فتى الحرب إنَّ حاربت كأنَّ سهامها ... و في السلم مفضال الدين وهوب
هوت أمه ماذا تضمن قبره ... من الجود والمعروف حين يؤوب؟
جموع خلا الخير من كل جانب ... إذا جاء جياء بهن ذهوب
مفيد مفيت الفائدات معود ... لفعل الندى والمكرمات كسيب
فتى لا يبالي إنَّ يكون بجسمه ... إذا نال خلات الكرام شحوب
غنينا بخير حقبة ثم جلحت ... علينا التي كل الأنام تصيب
فأبقت قليلاً ذاهبا وتجهزت ... لأخر والراجي الخلود كذوب
واعلم أنَّ الباقي الحي منهما ... إلى أجل أقصى مداه قريب
فلو كان حي يفتدى لفديته ... بما لم تكن عنه النفوس تطيب
بعيني أو يمنى يدي وإنني ... ببذل فداه جاهدا لمصيب
فإن تكن الأيام أحسن مرة ... إلي فقد عادت لهن ذنوب
أخي كان يكفيني وكان يعينني ... على نائبات الدهر حين تنوب
عظيم رماد النار رحب فناؤه ... إلى سند لم يحتجنه غبوب
قريب ثراه ما ينال عدوه ... له نبطا أبي الهوان قطوب
لقد افسد الموت الحياة أتى ... على يومه علق إلي حبيب
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
إذا ما تراه أه الرجال تحفظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... و لا ورع عند اللقاء هيوب
على خير ما كان الرجال نباته ... و ما الحظ إلاّ طعمة ونصيب
و يروى:
على خير ما كان الرجال خلاله ... و ما الخير إلاّ قسمة ونصيب
حليف الندى يدعو الندى فيجيبه ... و يدعوه الندى فيجيب
هو العسل الماذي لينا وشيمة ... و ليث إذا يلقى العدو غضوب
حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت ... حبى الشيب للنفس اللجوج غلوب
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... و ماذا يرد الليل حين يؤوب؟
كعالية الرمح الرديني لم يكن ... إذا ابتدر الخير الرجال يخيب
أخو شتوات يعلم الحي إنّه ... سيكثر ما في قدره ويطيب
ليبكك عار لم يجد من يعينه ... و طاوي الحشى نائي المزار غريب
تروح تزهاه صبى مستطيفة ... بكل ذرى والمستزاد جذيب
كأن أبا المغمور لم يوف مرقبا ... إذا ربا القوم الغزاة رقيب
ولم يدع الفتيان كرامة لميسر ... إذا هب من ريح الشتاء هبوب
إذا حل لم تقصر مقامة بيته ... و لكنه الأدنى بحيث يجيب
حبيب إلى الزوار غشيان بيته ... جميل المحيى شب وهو أديب
يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه ... إذا لم يكن في المنقيات حلوب
كأن بيوت الحي ما لم يكن بها ... بسابس لا يفنى بهن غريب
إذا شهيد الايسار أو غاب بعضهم ... كفى ذاك وضاح الجبين نجيب
و يروى:
وإن شهدوا أو غاب بعض حماتهم ... كفى ذاك وضاح الجبين أريب
وداع دعا: يا من يجيب إلى الندى؟ ... فلم يستجيه عند ذاك مجيب
فقلت: ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبي المغوار منك قريب!
و يروى:
يجبك كما قد كان يفعل إنّه ... نجيب لابواب العلاء طلوب
فاني لباكيه وإني لصادق ... عليه وبعض القائلين كذوب
فتى اريحي كان يهتز للندى ... كما اهتز ماضي الشفرتين قضيب
وخبرتماني إنّما الموت بالقرى ... فكيف وهاتا روضة وكثيب؟
و قال جميل بن معمر بن عبد الله العذاري:
وقالوا: يا جميل أتى أخوها ... فقلت: أتى الحبيب أخو الحبيب
احبك إنَّ نزلت جبال حسمى ... و إنَّ ناسبت بثنة من قريب
و كانت حفصة بنت عمران مات عنها زوجها فخاطبها عبد الله بن الحسين بن حسن بن علي وإبراهيم بن هشام. فكان أخوها محمد بن عمران إذا دخل على إبراهيم أنشدت إبراهيم متمثلا: وقالوا: يا جميل أتى أخوها البيت وقال أبو محمد الحريري رحمه الله:

وقع الشوائب شيب ... و الدهر بالناس قلب
إنَّ دان يوما لشخص ... ففي غد يتقلب
فلا تثق بوميض ... من برقه فهو خلب
وإذا هو أضرى ... بك الخطوب وألب
فما على التبر عار ... في النار حين يقلب
وقال أيضاً:
لجوب البلاد مع المتربة ... احب ألي من المرتبة
لأن الولاة لهم نبوة ... و معتبة يا لها معتبة
وما فيهم من يرب الصنيع ... و لا من يشيد ما رببه
فلا يخدعنك لموع السراب ... و لا تأت أمرا إذا ما اشتبه
فكم حالم سره حلمه ... و أدركه الروع لمّا انتبه
و قال أيضاً:
فاليوم من يعلق الرجاء به ... اكسد شيء في سوقه الأدب
لا عرض أبنائه يصان ولا ... يرقب فيهم آل ولا نسب
كأنهم في عراصهم جيف ... يبعد من نتنا ويجتنب
و هذا منزع سيأتي ذكر ما فيه إن شاء الله تعالى. وقال أيضاً:
سل الزمان علي عضبه ... ليروعني وأحد غربه
واستل من جفني كراه ... مراغما وأساله غربه
وأجالني في الأفق اطوي ... شرقه وأجوب غربه
فبكل جو طلعه ... في كل يوم لي وغربه
وكذا المغرب شخصه ... متغرب ومواه غربه
الغرب الأول حدّثني السيف والغرب الثاني مجرى الدمع والثالث ضد الشرق والرابع فعلة من الغروب يقال: غرب غربة وطلع طلعة والخامس البعد يقال: نوى غربة أي بعيده.
قال طرفة:
أخبرك إنَّ الحي فرق بينهم ... نوى غربة ضرابة لي كذلك
و فسرت هنا أيضاً بالحدة وهي من معانيها وغربة النوى بعدها.
وقال أيضاً:
لا تيأسن عند النوب ... من فرجة تجلو الكرب
فلكم سموم هب ثم ... جرى نسيما وانقلب
وسحاب مكروه تنشى ... فاضمحل وما سكب
ودخان خطب خيف منه ... فما استبان له لهب
ولطالما طلع الأسى ... و على تفيئته غرب
فاصبر إذا ما ناب رو ... على فالزمان أبو العجب
وترج من زوح الإله ... لطائف لا تحتسب
و قال أيضاً:
لعمرك ما تغني المغاني ولا الغنا ... إذا سكن المرء الثرى وثوى به
فجد في مراضيه الله بالمال راضيا ... بما تقتني من اجره وثوابه
وبادر به صرف الزمان فانه ... بمخلبه الاشقى يصول ونابه
ولا تأمن الدهر الخؤون ومكره ... فكم خامل أخفى عليه ونابه
وعاص هوى النفس الذي ما أطاعه ... أخو ضلة إلاّ هوى من عاقبه
ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه ... بدمع يضاهي الوبل حال مصابه
ومثل لعينيك الحمام ووقعه ... و روعة ملقاه ومعظم صابه
وإنَّ قصارى مسكن الحي حفرة ... سينزلها مستنزلا عن قبابه
فواها لعبد ساءه سوء فعله ... و أبدى التلافي قبل إغلاق بابه
و قال أيضاً:
اصرف بصرف الراح عنك الأسى ... و روح القلب ولاتكتئب
وقل لمن لامك فيما به ... تدفع عنك الهم: قدك اتئب!
و هذا مما يتمثل به أهل المجون لكنه بصدد أن يستعمل في الجد وخمر المحبة والعرفتن والأنس الرحماني، يعرف ذلك ذوو البصائر. وقال أيضاً :
فإنَ فطنتم للحن القول بان لكم ... صديقي ودلكم طلعي على رطبي
وإن شهدتم فإنَ العار فيه على ... من لا يميز بين العود والخشب
و قال الآخر:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه ... و عن بعض ما فيه يمت وهو عاتبُ
ومن يتتبع حاهداً كل عثرةٍ ... يجدها ولا يبقى له الدهر صاحبُ
و تقدم هذا المعنى وما فيه.
ويحكى أنَّ يزيد بن عبد الملك بلغه أيام خلافته أنَّ أخاه هشاماً ينتقصه. فكتب إليه معاتبا له: مثلي ومثلك كما قال الأول:
تمنى رجالٌ أن أموت فإن أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحدِ
لعل الذي يبغي ردائي ويرتجي ... به قبل موتي أن يكون هو الردي
فكتب إليه هشام إنّما مثلي ومثلك كما قال الأول:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه ... و عن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
فكتب إليه يزيد: نحن مغتفرون لك ما كان منك، حفظا لوصية أبينا فينا، وحضه إيانا على إصلاح ذات البين، وأنا أعلم كما قال معن بن أوس:
لعمرك ما أدري لأوجل ... على أينا تعدو المنية أولُ

وإني على أشياء منك تريبني ... قديما لذو صفحٍ على ذاك مجماُ
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أي كفٍّ تبدلُ!
إذا سؤتني يوما رجعت إلى غدٍ ... ليعقب يوماً منك آخر مقبلُ
ويركب حدّثني السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحلُ
وفي الناس إن رثت حبالك واصلٌ ... و في الأرض عن دار القلى متحولُ
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكن ... إليه بوجهٍ آخر الدهر تقبلُ
فلما جاء الكتاب هشاما رحل إليه فلم يزل في جواره حتى مات خوفا من شر الوشاة.
وقال المولى أبو حمو موسى بن يوسف الملك الزياني:
الحب اضعف جسمي فوق ما وجبا ... و الشوق رد خيالي بالسقام هبا
والبين أشعل نار الوجد في كبدي ... و الدمع يضرمها في القلب واعجبا!
وماءٌ ونارٌ وأكبادي لها حطبٌ ... لكن عذابي به للحب قد عذبا
ما كنت أدريهما حتى صحبتهما ... كرهاً وقد يكره الإنسان من صحبا
و قال الآخر:
كل يومٍ قطيعةٌ وعتابٌ ... ينقضي دهرنا ونحن غضاب
ليت شعري فهل خصصت بهذا ... أنا وحدي أم هكذا الأحبابُ؟
و تقدم هذا الشعر إلاّ أنَّ له حكاية تذكر.
قال الجاحظ: بعث إلي المتوكل لتأديب ولده. فلما رآني استبشع منظري وأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني. فلما خرجت من عنده لقيت محمد بن إبراهيم يريد الانحدار في سفينة إلى مدينة السلام، فركبت معه. فأمر يوما بنصب أستاره وأمر عوادة عنده أن تغني، فأخذت العود وغنت: كل يوم قطيعة وعتاب البيتين ثم سكتت. فأمر طنبورية كانت عنده أن تغني فأخذت الطنبور وغنت:
وارحمة للعاشقين ... ما أرى لهم معينا!
كم يظلمون ويهجرو ... ن ويقطعون فيصبرون!
فقالت العوادة: وماذا يصنعون؟ فقالت: يصنعون هكذا! فهتكت الستارة ورمت بنفسها في الماء. وكان على رأس محمد غلام مثلها في الجمال، بيده مدية. فلما رأى ما صنعت ألقى المدية وجاء إلى الموضع الذي رمت بنفسها منه فقال:
أنت الذي غرقتني ... بعد القضا لو تعلمين
لا خير بعدك في البقا ... و الموت زين العاشقين
ثم رمى بنفسه في أثرها وعانقها في الماء، فكان آخر العهد بهما. فعظم الأمر على محمد والتفت إلي وقال: يا عمرو، حدثني بحديث تسليني به عن هذين، وإلاّ لحقت بهما! فقالت: جلس سليمان بن عبد الملك يوما للمظالم فعرضت عليه بطاقة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أعزه الله أن يخرج ألي جاريته فلانه حتى تغني لي ثلاثة أصوات فعل. فاغتاظ وأمر بإحضاره. فلما حضر قال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: الثقة بحلمك. فسري عنه وأمره بالجلوس وأمر الناس بالانصراف. ثم أمر بإخراج الجارية فجاءت بعودها وجلست. فقال لها الفتى: غني لي:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... و من بعد ما كنا نطافا وفي المهدِ
وزاد كما زدنا وأصبح ناميا ... و ليس وإن متنا بمنتقض العهدِ
ولكنه باقٍ على حاله كذا ... و زائد ما في ظلمة القبر واللحدِ
فلما غنته طرب طربا شديدا وقال: فداؤك أبي وأمي! قال: غني لي:
إذا قلت: مابي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت: ثابتٌ ويزيدُ
وإن قلت: ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت: ذاك منك بعيدُ
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... و يحيا إذا فارقتها ويعودُ
فلما غنت طرب طربا أعظم من الأول وقال: فدتك نفسي! ثم قال: غني لي:
مني الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرق بيننا الدهرُ
والله لا أنساكم أبداً ... ما لاح نجم أو بدا بدرُ
فما أتمتها حتى زج بنفسه في الهواء ثم انعكس على دماغه وسقط بالأرض فإذا هو ميت. فقال سليمان: عجل على نفسه. والله ما أخرتها إلاّ على ملكه! يا غلام خذ بيدها وانطلق بها فإن كان له أهل وإلاّ بيعت وتصدق بثمنها عليه. فانطلق بها، فلما توسطت الدار رأت حفرة أعدت لماء المطر فقالت:
من مات عشقا فليمت هكذا ... لا خير في عشق بلا موت!

ثم جذبت بيدها من يد الغلام، وألقت بنفسها في الحفرة على دماغها فماتت. قال: فسيري عن محمّد ووصلني وكساني. قال ثم حدثت بهذا الحديث محمّد بن جعفر الأخباري فقال: كان محمّد بن حميد الطوسي يوما مع ندمائه، فغنت جارية له:
يا قمر القصر متى تطلع؟ ... أشقى وغيري بك يستمتع
إنَّ كان ربي قد قضى ما أرى ... منك على رأسي فما أصنع؟
و كان على رأس محمّد بن حميد غلام بيده قدح يسقيه به. فرما بالقدح من يده وقال: تصنعين هكذا! ورمى بنفسه من الدار إلى دجلة. فلما رأت ذلك الجارية قامت ورمت بنفسها على أثره، فكان آخر العهد بهما. وقال آخر من الطفيليين:
كل يوم أدور في عرصة الدار ... أشم القتار شم الذباب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخانا أو دعوة الأصحاب
لم أعرج دون التقحم لا أرهب ... شتما ولكزة البواب
مستهينا بمن دخلت عليه ... غير مستأذن ولا هياب
ذاك أهنا من التكلف والعز ... م وشتم البقال والقصاب
و كان هذا الطفيلي أتى وليمة فأقتحم الدار وأخذ مجلسه من الناس فأنكره صاحب المنزل وقال له: لو صبرت حتى يؤذن لك لكان أحسن لأدبك فقال: إنّما واطراحها صلة. وجاء في الأثر: صل من قطعك وأحسن إلى من أساء إليك! ثم إني أجمع فيها خلالا: أدخل مجالسا، وآكل موانسا، وأبسط رب دار وإنَّ كان عابسا وانشد ما تقدم.
وقال الآخر:
كنا نعاتبكم ليالي ... عودكم حلو المذاق وفيكم مستعتب
فالآن حين بدا التنكر منكم ... ذهب العتاب وليس عنكم مذهب
يحكى أنَّ قينة أجتمع عند أربعة من عشاقها، وكل يخفي أمره عن الآخرين. وكان أحدهم غائبا فقدم، والثاني عزم على السفر، والثالث قد انقضت أيامه، والرابع كما ابتدأ.
فضحكت إلى الأول، وبكت إلى الثاني، وأبعدت الثالث، وأطمعت الرابع. وانشدها كل منهم ما يشاكل حاله، وأجابته بمثل ذلك. فقال لها القادم: جعلت فداك أتستحسنين:
ومن ينأ عن دار الهوى يكثر البكا ... و قول لعل أو عسى ويكون
وما اخترت نأي الدار عنك لسلوة ... و لكن مقادير لهن شجون
فقالت: نعم! وأنا أحذق بقول مطارحه، ثم غنت:
وما زلت مذ شطت بك الدار باكيا ... أو مل منك العطف حين تؤوب؟
فأضعف ما بي حين أبت وزدتني ... عذابا وإعراضا وأنت قريب
و قال الذي عزم على السفر: جعلت فداك! أتحسنين:
أزف الفراق فأعلني جزعا ... و دع العتاب فإنما سفر
إنَّ المحب يصد مقتربا ... فإذا تباعد شفه الذكر
فقالت: نعم! وأحسن من شكله. ثم غنت:
لأقيمن مأتما عن قريب ... ليس بعد الفراق غير النحيب
ربما أوجع النوى للقلوب ... ثم لا سيما فراق الحبيب
و قال الذي انقضت أيامه: جعلت فداك! أتحسنين: كنا نعاتبكم ليالي عودكم البيتين السابقين. فقالت: ولكن أحسن في معناه، ثم غنت:
وصلتك لمّا كان ودك خالصا ... و أعرضت لمّا صرت نهبا مقسما
ولن يلبث الحوض الجديد بناؤه ... على كثرة الوراد أنَّ يتهدما
و قال الذي أقبلت أيامه جعلت فداك! أتحسنين:
إني لأعظم أنَّ أبوح بحاجتي ... فإذا قرأت صحيفتي فتفهمي
وعليك عهد الله إنَّ أثبته ... أحدا وإنَّ آذنته بتكلم
فقالت: نعم! واحسن في معناه. ثم غنت:
لعمرك ما استودعت سري وسرها ... سوانا حذار أنَّ تذاع السرائر!
أ كاتم ما بالقلب بقيى على الهوى ... مخالفة أنَّ يغرى بذلك ذاكر
فانصرفوا، وكل قد لوح بحاجته، واخذ جوابه.
وقالت امرأة كان زوجها غائبا عنها فذكرته:
تطاول هذا الليل وأسود جانبه ... و أرقني ألا خليل ألاعبه
فو الله لولا الله تخشى عواقبه ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
وبت إلا هي غير بدع منعما ... لطيف الخشا لا يحتويه مصاحبه
يلاعبني فوق الحشايا وتارة ... يعاتبني في حبه وأعاتبه
ولكنني أخشى رقيبا موكلا ... بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه
مخافة ربي والحياء يصونني ... و حفظا لبعلي أنَّ تنال مراكبه

و يروى أنَّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه خرج ليلا فسمع هذا المرأة تنشد، فلما فرغت من الشعر المذكور، تنفست الصعداء وقالت لهان على أبن الخطاب وحشتي وغيبة زوجي عني. فتأوه عمر لذلك ووجه في إقبال زوجها، وسأل النساء كم تصبر المرأة عن الزوج، فقلن أربعة اشهر، فجعل ذلك غاية الغيبة في المغازي كما في الايلاء وقيل ستة اشهر. وفي الشعر المذكور اختلافات كثيرة.
وقال الآخر:
رب ليل أمد من نفس العا ... شق طولا قطعته بانتحاب
وحديث ألذ من نظر الوا ... مق بدلته بسوء العتاب
يحكى عن خالد الكاتب قال: دخلت دير فإذا أنا بشاب جميل موثق، فسلمت عليه فرد علي وقال: ومن أنت: فقلت خالد بن يزيد. وقال: صاحب الشعر الرقيق؟ فقلت: نعم! قال: إنَّ رأيت أنَّ تفرج عني بعض ما أنا فيه بإنشاد شيء من شعرك ففعل! فأنشده:
ترشفتُ من شفتيها عقاراً ... و قبلت من خدها جلنارا
وعانتفت منها كثيباً مهيلاً ... و غصناً رطيباً وبدراً أنارا
وأبصرت من نورها في الظلا ... م ثال بكل مكان بليلٍ نهارا
فقال: أحسنت لا فضض الله فاك! ثم قال: أجزاي هذين البيتين وأنشد: ربَّ ليلٍ أمد من نفس العاشق البيتين. قال خالد: فو الله لقد أعملت فكري وحاولت في الزيادة عليها فلم أقدر! وقال أبن بسام الورد:
أما ترى الورد يدعو للورود على ... حمراء صافيةٍ في لونها صهبُ؟
مداهنٌ من يواقيت مركبةٍ ... على الزبرجد في أجوفها ذهبُ
خاف الملالة إذ طالت إقامته ... فصار يظهر حيناً ثم يحتجبُ
و سيأتي ذكر ما في هذا المنزع بعد إن شاء الله تعالى.
وقال الآخر:
إذا ملك لم يكن ذاهبه ... فدعه فدولته ذاهبه
أي إذا لم يكن صاحب هبة وعطية فدولته ذاهبة لا بقاء لها.
وقال التنسي:
غن أهل العلم قوم سادة ... ما على نور سناهم من حجاب
من عداً يجحد جهلا حقهم ... حاق في الأخرى به سوء العذاب
و قال أيضاً :
من يكن بأبيه والأم براً ... فهو من ربه بوصف اقترابِ
و قال إبراهيم بن حسان:
يشين الفتى في الناس قلة عقله ... و إن كرمت أعراقه ومناسبه
و قال الآخر:
ألم تر أنَّ العقل زين لأهله ... و لكن تمام العقل طول التحاربِ
و قال الآخر:
وما سمى الإنسان إلاّ لأنسه ... و لا القلب إلاّ أنه يتقلبُ
و قال الآخر:
عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاةٌ ولا تركب ذلولا ولا صعبا!
و سيأتي هذا المعنى.
وقال أبن المعتز:
لحومهم لحمي وهم يأكلونه ... و ما داهيات المرء إلاّ أقاربه
و من كلام الكندي في هذا : الأب رب، والجد كد والولد كمد والأخ فخ والعم غم والخال وبال والأقارب عقارب وإنّما المرء بصديقه. ولبعضهم فيه:
أقاربك العقارب في أذاها ... فلا تركن إلى عم وخال
فكم عم أتاك الغم منه ... و كم خالٍ من الخيرات خالِ
و قال أبن الرومي:
عدوك من صديقك مستفادٌ ... فلا تستكثرن من الصحاب!
فإنَ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب
و هذا منزع يتسع فيه القول أستوفي في غير هذا الموضع.
وقال الآخر:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟ ... كفى المرء نبلا أن تعد معليبه
و قال أبن الرومي:
ومن قلة الإنصاف أنك تبتغي ... مهذب أخلاقٍ ولست مهذبا
و قال إبراهيم بن هرمة:
فإنك وأطرا حك وصل سلمى ... لأخرى في مودتها نكوبُ
كثاقبةٍ لحلي مستعارٍ ... لأذنيها فشانها الثقوبُ
فأدت حلي جارتها إليها ... و قد بقيت بأذنيها ندوبُ
و حاصل هذا الشعر وفحواه أنه لا ينبغي لك أن تطرح صاحبك إلى صاحب آخر وأنت تجد فيه إلاّ مثل ما في الأول أو شراً منه. فعليك بالصفح والغفران والاستبقاء على الخلان.
وقال صالح بن عبد القدوس:
إذا وترت امرؤا فأحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا
إنَّ العدو وإنَّ أبدى مسالمة ... إذا رأى منك يوما فرصة وثبا
و تقدم هذا في الباب الأول. وقال الآخر::
قد ينفع الأدب الأحداث في مهل ... و ليس ينفع بعد الكبر الأدب

إنَّ الغصون إذا قومتها اعتدلت ... و لن تلين إذا قومتها الخشب
و قال الآخر:
فما خلق الله مثل العقول ... و لا اكتسب المرء مثل الأدب
وما كرم النفس إلاّ التقى ... و لا حسب المرء إلاّ النسب
وفي العلم زين لأهل الحجى ... و آفة ذي الحلم طيش الغضب
و قال كشاجم:
لم أرض عن نفسي مخافة سخطها ... و رضى الفتى عن نفسه إغضابها
ولو إنني عنها رضيت لقصرت ... عما تزيد بمثله آدابها
وتبينت آثار ذاك فأكثرت ... عذلي عليه وطال فيه عتابها
و قال الآخر:
احب مكارم الأخلاق جهدي ... و اكره إنَّ أعيب وإنَّ اعابا
واصفح عن يباب الناس حلما ... و شر الناس من يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تهيبوه ... و من حقر الرجال فلن يهابا
و قال الآخر:
فيا رب السنة كالسيوف ... تقطع أعناق أربابها!
و قال عبد الله بن سليمان بن وهب:
نوائب الدهر أدبتني ... و إنّما يوعظ الأديب
فذقت حلوا وذقت مرا ... كذاك عيش الفتى ضروب
لم يمض بؤس ولا نعيم ... إلاّ ولي منهما نصيب
كذاك من صاحب الليالي ... تعروه في أمرها الخطوب
و قال أبو الأسود:
وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... و لا كل مؤت نصحه بلبيب
و قال الفضل بن العباس بن عتبة:
وقد ترفع الأيام من كان جاهلاً ... و يردي الهوى ذا الرأي وهو لبيب
ويحمد في الأمر الفتى وهو مخطئٌ ... و يذل في الإحسان وهو مصيب
و قال النمر بني تولب:
ولا تغضبن على امرئ في ماله ... و على كرائم صلب مالك فأغضب
و قال النابغة:
فإنَ يك عامر قد قال جاهلاً ... فإنَ مظنة الجاهل الشباب
و قال عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبة يؤوب ... و غائب الموت لا يؤوب
و قال الآخر:
لمعرك ما ود اللسان بنافعٍ ... إذا لم يكن أصل المودة في القلب
و قال الآخر:
وما الدهر والأيام إلاّ كما ترى: ... رزية مال أو فراق حبيب
و قال الآخر:
ولا أتمنى الشر والشر تاركي ... و لكن متى أحمل على الشر أركب
و قال الكميت:
إذا لم يكن إلاّ الأسنة مركب ... فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها
و قال أيضاً:
أيا موقد ناراً لغيرك ضوءها ... و ياحاطبا في حبل غيرك تحطب!
و قال أبن المعتز:
وإنَّ فرصة أمكنت من العدى ... فلا تبد فعلك إلاّ بها
و قال محمود:
كم من حريص على شيء ليدركه ... و إنَّ إدراكه يدني إلى عطبه
وقال السري الموصلي:
إذا الحمل الثقيل توزعته ... اكف القوم خف على الرقاب
وقال أعرابي يهجو بنيه:
إنَّ بني كلهم كالكلب ... إبرهم أولاهم بنسب
لم يغني عنهم أدبي وضربي ... و لا أتساعي لهم وحربي
فليتني بت بغير عقب ... أو ليتني كنت عقيم الصلب
و قال النابغة يمدح غسان:
ولا عيب فيهم غير إنَّ سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
و يروى إنَّ عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال لعبد الملك بن مروان: أريد إنَّ تعطيني سيف أخي عبد الله بن الزبير. فقال له: هو بين السيوف ولا أميزه. فقال: إذا أحضرت ميزته أنا. فأمر عبد الملك بن مروان بإحضاره. فلما أحضره اخذ عروة سيفا مفلول الحد وقال: هذا سيف أخي. فقال عبد الملك: أ كنت عرفته قبل اليوم؟ قال: لا قال: فكيف عرفته؟ قال: عرفته بقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير إنَّ سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
و قال بعض المتأخرين قبل عصرنا بقريب:
وهبني جهلت النحو يزري بقسطه ... ففيم ارزق في المعاني الغرائب؟
و كان هذا القائل مزجى البضاعة في النحو وله قريحة لا بأس بها. يحكى إنّه مدح بعض ملوك مراكش بقصيدة فكأنه رأى غضاضة من قبل الأعراب فقال ذلك. وهذا البيت مما يتعلق به في وقتنا البطالون عند الاعتذار عن التقصير في درك الأشياء. وكان هذا الرجل شبيها بالمعمار في زمنه وكان المعمار أحد الأدباء له شعر رائق ذكر كثير منه أبو بكر بن حجة الحموي في كتابه تقديم أبي بكر غير إنّه يقع في شعره أمور لا تساعدها العربية. وقال سحيم الفقعسي:

وأكتم الأسرار لكن ابنها ... و لا ادع الأسرار تلغي على قلد
وإنَّ قليل العقل من بات ليلة ... تقلبه الأسرار جانبا إلى جند
و هذه سخافة وسقاطة. ولولا أنَّ الكتاب بصدد أنَّ يذكر فيه ما يتمثل به إنَّ كان ما عجز على مثل هذا الكلام، لمنافاته الخلق الجميل. وقلت أنا معارضا له على هذا الأسلوب:
لعمرك ما من بث سرا بذي لب ... و لا حاشاه منه أمسى على كرب
ولكن أخو الحلم الذي ما أذعته ... تنساه حتى ليس يهجس بالقلب
و في الخبر: من أسر إلى أخيه سراً لم يحل له أنَّ يشفيه. وقال عمر رضي الله عنه: من كتم سره كان خياره بيده.
وقال أكثم بن صيفي: سرك من دمك، فأنظر أين تريقه! وقال بعضهم:
ولو قدرت على نسيان مثال أشتملت ... مني الضلوع من الأسرار والخبر
لكنت أوّل من ينسى سرائره ... إذ كنت من نثرها يوما على خطر
و يقال: من ضاق صدره، اتسع لسانه. وسيأتي ما قيل في كتمان السر مستوفي.
وقال آخر في طبيب:
لأبي العيص ألف قتيل ... كان يوم وليس ذا بعجيب
أيّها الناس إنَّ ذا لغريبٌ ... ملك الموت في ثياب طبيب
و قال آخر:
عد عني لست من أربي ... كان هذا حين كنت صبي
وجنة كانت أبا لهب ... فغدت حمالة الحطب
و قال أبن المعتز:
شهر الصيام مبارك ... لو لم يكن في شهر آب
خفت العذاب فصمته ... فوقعت في عين العذاب
و قلت أنا معارضا على هذا الأسلوب:
شهر الصيام مارك ... و لا سيما في شهر آب
إنَّ الصدى في حره ... يشفي صدى يوم الحساب
وينيل ورد السلسبيل ... و رشف معسول الرضاب
و قال أبو الغريب:
سقيا لعهد خليل كان يأدم لي ... زادي ويذهب عن زوجاتي الغضب
كان الخليل فأضحى قد تخونه ... مر الزمان وتطيعني به الثقب
يا صاح بلغ ذوي لزوجات كلهم ... أنَّ ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب!
كان أبو الغريب هذا شيخا، فتزوج ولو يولم. فاجتمع الفتيان ول خبائه، فصاحوا به:أولم ولو بيربوع، ولو بقدرٍ، مجدوع، قتلتنا من الجوع! فأولم. فلما عرس غدوا عليه فقالوا:
يا ليت شعري عن أبي غريب ... إذ بات في مساحب وطيب
معانقا للرشا والربيب ... أ أجمد المحفار في القليب
أم كان رخوا يابس القضيب؟
فصاح: يابس القضيب والله! ثم انشأ يقول: سقيا لعهد الخليل " الأبيات " . يريد قضيبه.
وقوله عرى الذنب يريد عرى الذكر، وهو العصب.
وقال الحماسي
أنخ فاصطنع قرصا إذا اعتادك الهوى ... بزيت لكي يكفيك فقد الحبائب
إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... نسيت وصال الغنيات والكواعب
فدع عنك أمر الحب لا تذكرنه ... و بادر إلى تمر معد ورائب
و في هذا الكلام خلل وتدافع يغتفر في جانب الهزل والتلميح.
ومن معنى هذا ما روي أنَّ حميد المهلبي، وكان من النعماء، جلس يوما إلى قينة كاز يهواها، فجعلت تحدثه. فلما طال المجلس وغلب عليه الجوع قال لها: مالي لا أسمع للغداء ذكراً؟ فقالت له: أما تستحي؟ أليس في وجهي ما يشغلك عن هذا؟ فقال لها جعلت فداك! لو أنَّ جميلاً وبثينة جلسا ساعة يتحدثان ولم يأكلا فيها شيئاً لبصق كل منهما في وجه صاحبه وافترقا! ولعل هذا القد يكفي من الباب، فلنمسك العنان خشية الطول، )و الله يقول الحق وهو يهدي السبيل(.

باب التاء والمثناة
تتابعي بقر!
يقال بعت الرجل بالكسر أتبعه إذا مشيت وراءه؛ وكذا أتبعته، وتتابعوا: اتبع بعضهم بعضا، والبقر معروف يطلق على الإنسية المعروفة وعلى الوحشية، كقول الشاعر يصف نساء:
أشبهن من بقر الخلساء أعينها ... و هن أحسن من صيرانها صورا
و هن أربع أصناف: المها والأيل واليحمور والتيثلز وأصل المثل أنَّ بشر بن الحارث الأسدي خرج في سنة جهد وجدب، فمروا ببقر فنفرت منهم، فقام على راس الجبل ورماها بقوسه، فجعلت تلقي نفسها وهو يقول: تتابع بقر!، حتى تكسرت ثم رجع إلى قومه فأعلمهم بها فأخذوها. يضرب عند تتابع الأمر وسرعته. وعلى هذا فبقر منادى، تتابعي يا بقر. وحذف منه حرف النداء وإنَّ كان اسم جنس، وهو جائز على قلة، كقوله: ثوبي حجر! وقال الشاعر:

فقلت له: عطار هلا أتينا ... بريح الخزامى أو بخوضة عفرج؟

أتبع الفرس لجامها، والناقة زمامها، والدلو رشاءها.
ويقال أيضاً: أتبع المهرة لجامها الخ. وتقول اتبعت زيداً إذا سبقك فلحته، واتبعته كذا إذا جعلت ذلك تابعا له : والفرس معروف، يقع على الذكر والأنثى والمهر ولد الفرس، وقيل أوّل ما ينتج منه ومن غيره؛ والأنثى مهرة. قال عنترة:
لمّا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب!
و قال حميدة بنت النعمان بن بشير:
وما أنا إلاّ مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل
و الناقة معروفة، جمعها ناق ونوق وانوق ويهمز واونق واينق على القلب وانواق والزمام بكسر الزاي: ما يشد به جمعه أزمة والدلو معروف مؤنث وقد يذكر جمعه أدل ودلاء ودلي والرشاء بكسر الراء والمد: الحبل وهمزته مقلوبة عن واو جمعه ارشية وقال زهير:
فشج به الأماعز وهي تهوي ... هوي الدلو أسلمها الرشاء
أي شج هذا الحمار المذكور يعني علا بها أي بالأتان الاماعز وهي الأمكنة الغليظة وهي تهوي أي تسرع إسراع الدلو أسلمها الرشاء أي انقطع عنها حبلها فهوت إلى قعر البئر ولا أسرع منها حينئذ ومعنى جملة المثل ظاهر وهي عند التفصيل ثلاثة أمثال ومقصدها واحد تضرب عند الأمر باستكمال المعروف وإتمام الصنع. وسببه إنَّ ضرار بن عمرو أغار على حي عمرو بن ثعلبة وعمرو غير حاضر. فلما حضر تبعه فلحقه قبل أن يصل إلى أرضه فقال له: " رد علي أهلي ومالي! " فردهما عليه فقال له: " رد علي قياني! " فرد عليه القينة الرابعة وحبس ابنتها سلمى. فقال له حينئذ: " يا أبا قبيضة اتبع الفرس! " الخ. وفي معنى الجملة الأخيرة قول الحماسي قيس بن الخطيم:
إذا ما شربت أربعا خط مأرزي ... و اتبعت دلوي في السماح رشاءها
يقول إذا شربت من الراح أربعا: يعني أربع اكؤس خط مأرزي أي جررت ردائي خيلاء واتبعت دلوي في السماح رشاءها أي تخلقت بالسماحة والفضل فأعطيت البذل وأوسعت الطول. وهم يفتخرون بالسماح حال السكر لأن ذلك من مكارم الأخلاق التي يحركها الثمل والنشوة كما قال طرفة:
لا تعز الخمر إن طافوا بها ... بسباء الشول والكوم البكر
فإذا ما شربوها وانتشروا ... و هبوا كل آمون وطمر
ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر
و الآمون كصبور التي يؤمن عثارها من النوق والطمر الوثاب من الخيل. يقول: إذا سكروا جادوا بالنجائب من الإبل والعتاق من الخيل. وقوله يلحفون الأرض هداب الأزر أي يجرون هداب الأزر على الأرض. هو كصدر بيت أبن الخطيم. وابلغ من هذا في الافتخار واشمل للوصف بالسماح حالتي السكر والصحو معا قول عنترة:
فإذا انتشيت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم
وإذا صحوت فما اقصر عن ندى ... و كما علمت شمائلي وتكرمي
و كقول امرئ القيس يمدح أخاه سعد بن الضباب:
وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... و من خاله من يزيد ومن حجر
سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... و نائل ذا إذا صحا وإذا سكر
و هذا من الشعر الذي يوضع على كرائم الإحداق وترصع به نفائس الأطواق غير أن فيه ثلبا خفيفا هو توالي القبض! ومن ذا الذي يسلم من الاعتراض عند العرض؟ وقول طرفة " لا تعز الخمر إن طافوا بها " يريد: لا يعجزون عن شرائها لغلائها إنَّ جاءوا مريدين لها بل يبذلون فيها الشول والكوم البكر أي التي بكرت بالنتاج وهي احب أموالهم وهو كقول عنترة:
بذ يداه بالقداح إذا شتا ... هتاك غايات التجار ملوم
و تقدم تفسيره. وهذا الوصف مدح عندهم لكن ما دام باقيا على سنن الاقتصاد والعدل وقد يمتدحون بإنفاق المال في النوائب واقتناء المحامد وترك أنفاقه في الشهوات كقول زهير في حصن بن حذيفة:
أخ ثقة لا تتلف الخمر ماله ... و لكنه قد يتلف المال نائله
و محتمل لأن يكون نفيا للوصف الخاص وهو الإتلاف في الخمر أو الفعل من اصله وهو الأنفاق فيها المؤدي إلى ذلك.
اتبع من الظل.
الاتباع تقدم والظل معروف قيل وهو الفيء وقيل الظل بالغداة والفيء بالعشي وقد يستعمل في سواد الليل. قال ذو الرمة:
قد اعرف النازح المجهول معسفه ... في ظل اخضر يدعو هامه البوم

قال في الصحاح: وهو استعارة لأن الظل في الحقيق إنّما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع. فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة وليس بظل. والمقصود من المثل إنَّ ظل الحيوان ونحوه تابع له أينما تحرك وملاصق له أينما تقلب لا يفارقه ولا يتلكأ عنه فضرب به المثل لذلك في كل تابع. ويسمى الظل تبعا على مثال سكر أما لهذا المعنى وأما لأنّه يتبع الشمس كما قيل. واحسن بعض الشعراء في ذكر الظل حيث قال:
مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا ... فإذا ما ملت عنه اتبعك

اتجر من عقرب.
يقال: تجر في الشيء يتجر على مثال كتب يكتب فهو تاجر والتاجر من يبيع ويشتري في كل شيء وجمعه تجار وتجر. وقد يطلق على بائع الخمر خاصة وهو الكثير الاستعمال عند الأعراب في الجاهلية.
قال امرؤ القيس:
كأن التجار اصعد بسبيئه ... من الخص حتى أنزلوها على يسر
و قال أيضاً:
إذا ذقت فاها قالت طعم مدامة ... معتقة مما تجيء به التجر
و العقرب معروف يذكر ويؤنث وعقرب في المثل اسم رجل كان بالمدينة وكان من اكثر الناس تجارة وأشدهم مطلا وتسويقا حتى ضربوا بمطله النثل ويحكى إنّه اتفقت له معاملة مع الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وكان هو من اشد الناس اقضاء. فقال الناس: ننظر الآن ما يصنعان. فلما حل الأجل لزم الفضل باب عقرب وقيد حماره بالباب وقعد يقرأ القرآن. فأقام عقرب على المطل غير مكترث به. ثم إنَّ الفضل ترك ملازمة بابه واشتغ بهجائه. فمما اشتهر عنه فيه قوله:
قد تجرت في سوقنا عقرب ... لا مرحبا بالعقرب التاجره
كل عدو كيده في أسته ... فغير مخشي ولا ضائره
كل عدو يتقلى مقبلا ... و عقرب يخشى من الدابره
إن عادت العقرب عدنا لها ... و كانت النعل لها حاضره
و حكي إنَّ الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد كان في صباه هو وزوج أخته الشيخ تقي الدين بن الشيخ ضياء الدين يلعبان الشطرنج فأذن العشاء فقاما فصليا فقال الشيخ تقيي الدين: أما نعود؟ فقال صهره:
إن عادت العقرب عدنا لها ... و كانت النعل لها حاضرة
فانف الشيخ من ذلك ولم يعد إلى إنَّ مات رحمه الله تعالى.
تحفة المؤمن الموت.
وهو حديث والتحفة البر والصلة والبرة من الفاكهة ونحوها وتاؤه أصلية. يقال أتحفته. وحكى أبى أبن الأثير عن الأزهري إنَّ أصل التحفة وحفة فأبدلت الواو تاء.وعليه يكون موضعه الواو. والمعنى إنَّ المؤمن إنما ينجو من أذى الدنيا وأهوالها وأحزانها أدارها ويصل إلى ما اعد له عند الله من الخير وهيئ له من الكرامة بالموت. كما قيل:
قد قلت إذا مدح الحياة وأسرفوا: ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان عذابه بلقائه ... و فراق كل معاشر لا ينصف
أتخم من الفصيل.
التخمة بفتح الخاء كهمزة وتسكن في الشعر: داء يصيب من أكل الطعام معروف الجمع تخم وتخمات. يقال: تخم بفتح الخاء وكسرها وأتخم: أصابه ذلك وأتخمه الطعام. وهذا الطعام متخمة يتخم به. وأصل التخمة وخمة من قولك: وخم الطعام والنبات فهو وخيم إذا لم يوافق. وتوخمه واستوخمه إذا لم يستمره. وذكرناه في هذا الباب نظرا إلى ظاهر اللفظ: فإنَ الواو مستهلكة بالإبدال حتى وقع تصرف الفعل. والفصيل، بصاد مهملة: ولد الناقة إذا فصل عن أمه ويوصف بالتخمة. وقالوا لأنه يفرط في الرضاع أكثر مما يطيق.
فائدة في ذكر أسنان الإبل. قال أهل اللغة: إذا وضعت الناقة، فقبل إنَّ يعلم أذكر ولدها أم أنثى، ولدها سليل، فإذا علم، فإن كان ذكرا فهو سقب، بفتح السين المهملة وسكون القاف، وأمه مسقب؛ وإنَّ كانت أنثى فهي حائل، وأمها أم حائل، كما قال الهذلي:
فتلك التي لا يبرح القلب حبها ... و لا ذكرها ما أرزمت أم حائل
و متى جاءت الناقة بذكر قيل أنَّ ذكرت، فهي مذكر؛ وإنَّ جاءت بأنثى قيل أنثت، فهي مؤنث. فإنَ كان من دأبها أن تلد الذكور قليل هي مذكار. قال النابغة على وجه التمثيل:
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتق مذكار

و إنَّ كان دأبها الإناث فهي مئناث؛ فإذا اشتد ولدها ومشى معها فهو راشح وهي مرشح؛ فإذا حمل في سنامه شحما فهو مجد ومكعد، ثم هو ربع، على وزن صرد. والذي يقوله الكثيرون إنَّ الربع ما نتج في أوّل الناتج كما إنَّ الهبع - بوزنه - ما نتج في أخره؛ ثم هو حوار، بضم الأول؛ فإذا فصل عن أمه، أي فطم عنها، فهو فصيل؛ فإذا أتى عليه حول فأبن مخاض، ولذلك قيل:
وجدنا جعفر فضلت فقيما ... كفضل أبن المخاض على الفيصل
و الأنثى بنت مخاض. وسمي أبن مخاض لأن أمه لحق بالمخاض من النوق، أي الحوامل وإنَّ لم تكن حاملا، فإذا استكملت السنة الثانية ودخل في الثالثة فصار لأمه لبن وكانت لبونا، فهو أبن اللبون، فإذا دخل في الرابعة فهو حق والأنثى حقة. وسمي بذلك لاستحقاقه أنَّ يحمل عليه ويركب؛ فإذا دخل في الخامس فهو جذع والأنثى جذعة؛ فإذا دخل في السادسة فهو ثني والأنثى ثنية؛ فإذا دخل في السابعة فهو رباع والأنثى رباعية؛ فإذا دخل الثامنة فهو سديس وسدس بفتح الدال للذكر والأنثى، وقد يقال الأنثى سديسة؛ فإذا دخل في التاسعة فهو بازل للذكر والأنثى؛ فإذا دخل في العاشرة فهو مخلف. ولاسن بعد هذا، وإنما يقال بازل عام، وبازل عامين، ومخلف عام وعامين. وما ذكرنا في أوائل الأوصاف هو طريقة بعض اللغويين، وليس هذا محل بسط اللغة.

تركت الرأي ببقة.
ويروى: ببقة تركت الرأي. وهو مثل قاله قصير بن سعد لجذيمة لمّا صار في بلد الزباء. وتقدم هذا مستوفى. وفيه قال عدي بن الرقاع:
دعا بالبقة الأمناء يوما ... جذيمة ينتحي عصبا ثمينا
فطاوع نفسه وعصى قصيراً ... و كان يقول: لو نفع اليقينا!
و قال نهشل بن ضمرة:
ومولي عصاني واستبد بأمره ... كما لم يطع باليقين قصير
ترك الخداع من أجرى من المائة.
الترك معروف، والخداع: الختل والمكر، والخداع والمخادعة المخاتلة؛ والمائة حذف مميزة أي مائة غلوة، والغلوة بالفتح: ما بين موقف الرامي ومسقط سهمه. يقال: غلوت بالسهم غلوا وغلوا، وغاليته، وغاليت به: رفعت به إلى أقصى الغاية. وكل مرماة فهي غلوة وكان أصل المثل إنَّ الرهان، لمّا وقع بين قيس بن زهير وحذيفة بن بدر الفزاري أو أخيه حمل بن بدر، قال حذيفة: خدعتك يا قيس، ترك الخداع من أجرى من المائة! يريد أن أجرى فرسه وأرسله من مائة غلوة، فقد كشف أمره ولم يبق خداع. وقيل إنَّ أحد المتخاطرين في الرهان المذكور قال لصاحبه: الغاية على حكمي. فقال: الغاية مائة غلوة. قال: أتخدعني؟ فقال: ترك الخداع من أجرى من المائة. يضرب للرجل الذي قد حنكه السن مع العقل والحزم.
تركت فلانا بملاحس البقر أولادها.
ويقال: تركته بملحس البقر. والملاحس جمع ملحس، وهو مفعل من اللحس. يقال: لحس القضعة ونحوها بالكسر، يلحسها لحسا؛ والملحس يكون مصدراً بمعنى اللحس ومكانا له كما في النظارة. والمعنى: تركته بمكان ملحس البقر أولادها أي بحيث تلحس البقر أولادها يعنون به مكان البقر.
تركته ترك الظبي ظله.
الظبي معروف وجمعه اظب وظباء وظبي وظله بكسر الظاء المشالة: ما يأوي إليه ويستظل به من حر الشمس. وهو إذا تركه لا يعود إليه أبداً. فيضرب للرجل عند نفوره. وعبارة صاحب القاموس: اتركه ترك الظبي ظله وهو نحو مما كتبنا نحن. وفعل ذلك لبيان إنَّ الراء في ترك ساكنه وهو مصدر أضيف إلى فاعله وكمل بمفعول أي تركا يشبه ترك الظبي لظله وقال: إنَّ فتح الراء من ترك كما عند الجوهري وهم.
قلت: وهو كذلك في صحاح الجوهري مضبوطا بالقلم مفتوح في النسخة. ولعل الرواية كذلك عنه وإلاّ فهو محتمل لأن يكون مسكنا. وهو مصدر عاملة مقدرة وهو الذي أظهرناه أو ما يشبهه. ثم على الفتح لا مانع من صحته إنَّ تكلمت به العرب كذلك. ويكون فعلا ماضيا والظبي فاعله. فإذا نفر أحد من شيء نفرة عزما حسن إنَّ يقال: ترك الظبي ظله أي إنّه ذهب مذهبا لا مرجع فيه كأنه ظبي ترك ظله.
تركته كجوف الحمار.

ويقال: هو كجوف حمار ويقال كجوف عير ومعناه خال لا خير فيه. واختلف العلماء فيه فقيل: المراد الحمار المعروف وجوفه ليس فيه شيء ينتفع به فلا خير فيه. وقيل: المراد حمار أبن مويلع وهو رجل من عاد وله موضع يقال له جوف كان يزدرعه احرقه الله تعالى واحرق ما فيه لمّا كفر بالله تعالى. وفيه يقال اكفر من حمار كما سيأتي. قال امرؤ القيس:
وخرق كجوف العير قفر مضلة ... قطعة بسام ساهم الوجه حسان
قال شارح ديوان عاصم بن أيوب: قول كجوف العير قال أبن الكلبي: هو واد باليمن قفر لا شيء به. قال: وقال القتبي: أراد كجوف الحمار. والحمار وإنَّ كان ذكيا لا ينتفع به ولا بشيء من حشاه فكأنه خال من كل خير. وقيل: وهو رجل من بقايا عاد كان يقال له حمار بن مويلع وكان على التوحيد فأصابت بنين به عشرة صاعقة فأحرقتهم فغضب وقال: لا اعبد ربا فعل بي هذا! ومال إلى عبادة الأوثان ومنع الضيفة. فأرسل الله عليه نارا فأحرقته وأحرقت جوفه وهو موضع كان يزدرعه من جميع ما كان فيه وجميع من دخل معه في عبادة الأوثان فاصبح الجوف كأنه الليل المظلم. فضربت العرب المثل قالوا: وادي الحمار وجوف العير. وقال أبن دريد: إذا قالت العرب: كأنه جوف حمار فأنهم يريدون وصف الموضع الخريب الوحش. وقال: أما جوف حمار فكان لحمار بن مالك أبن نصير بن أسد وكان جبارا عاتيا. فبعث الله عليه نارا فأحرقت الوادي بما فيه وصار مثلا.

تركتهم لحما على وضم.
اللحم معروف بسكون الحاء ويجوز فتحها والوضم بفتحتين: ما وقي به اللحم من خشب وحصير ونحوهما. قال الشاعر:
ليس براعي ابل ولا غنم ... و لا بجزار على ظهر وضم
جمعه اوضام واوضمة. تقول وضمت اللحم بفتح الضاد إذا عملت له وضما أو وضعته على الوضم واوضمته واوضمت له إذا عملت وضما وتقول: تركتهم لحما على وضم أي مثل اللحم المجعول أي مثل اللحم المجعول على الاوضام وذلك إذا أوقعت بهم وأوجعت فيهم. قال الحماسي:
وتركتنا لحما على وضم ... لو كنت تستبقي من اللحم
و قال البوصيري في معناه:
ما زال يلقاهم في كل معترك ... حتى حكوا بالقنا لحما على وضم
و قال صفي الدين الحلي:
أبيت والدمع هام هامل سرب ... و الجسم في أضم لحما على وضم
ترك الوطن أحد السباءين.
الوطن بالفتحتين معروف والسباء بالكسر والمد: الأسر. يقال: سبى عدوه يسبيه سبيا سباء واستباه إذ أسره. والمعنى إنَّ الخروج من الوطن ومفارقة الأهل والسكن شبيه بالسباء نوعان: أحدهما الأسر والآخر: السفر فسار السفر أحد السباءين وهذا ذم له. وتقدم في ذم السفر ومدحه من الآثار والأشعار ما أغنى عن الإعادة. وسيأتي ذكر ما في هذه التثنية الواقعة في السباء إن شاء الله تعالى.
اتق مأثور القول!

التقوى معروف والمأثور: المروي المحكي. والمثل لحمل بن بدر قاله يوم الهباءة وهو اكبر أيام حرب داحس بين عبس وذبيان وسبب الحرب كلها. وصدور المثل على ضرب من الإيجاز والاختصار إنَّ قيس بن زهير فيما يزعمون وهو من بني عبس كان اشترى من مكة درعا تسمى ذات الفضول فاغتصبها منه عمه الربيع بن زياد وكان سيد عبس. فغضب قيس وتحل عنهم ونزل على بني ذبيان وسيدهم إذ ذاك حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر فأكرموه واحسنوا جواره. ثم إنَّ قيس بن زهير وحذيفة بن بدر تراهنا يوما على خطر عشرين بعيرا وجعلا الغاية مائة غلوة والمضمار أربعين ليلة والمجرى من ذات الاصاد. فاجرى قيس داحس والغبراء وأجرى حذيفة الخطار والحنفاء. فوضعت بنو فزارة رهط حذيفة كمينا في الطريق. فلما جاءت الغبراء وكانت سابقة لطموها وردوها. فقال قيس: سبقت فدفعوه عن ذلك حتى وقع بينهم الشر. فطلب منهم قيس بعيرا واحدا فقال جذيمة: ما كنا لنقر لكم بالسبق فلما رأى قيس ذلك ترحل عنهم وفارقهم. ثم إنّه أغار فلقي عوف بن بدر أخا حذيفة فقتله ووداه مائة ناقة عشراء. ثم خرج مالك بن زهير أخو قيس فلقيه حمل بن بدر فقتله. فأرسل قيس إلى حذيفة إنَّ اردد علينا ابلنا فقد قتلت مالك بن زهير بعوف بن بدر. وكانت الإبل قد تناجت عند حذيفة فدفعها دون أولادها. وامتنعت عبس إلاّ إنَّ يقابلهم ابلهم بأولادهم فهاجت الحرب بين الفريقين ودامت أربعين سنة فيما يزعمون إلى إنَّ اصلح بينهم الحارث بن عوف وهرم بن سنان المريان كما سنذكر. وكانت بنو عبس وتروهم فاجتمعت القبائل وحلفاؤها وتعاقدوا وتحالفوا فسار حذيفة إلى عبس في جموع لا تحصى. فلما رأت عبس ذلك اجتمعوا إلى قيس بن زهير فقالوا له " ما الرأي؟ فقال: خلوا الأموال والظغن وادخلوا في الشعب فإنَ الجموع إذا رأت الظعائن لا رجال فيها أمنوا فغنموا وتفرقوا فتدركوا منهم حاجتكم! فلما أشرفت جموع حذيفة على أموال بني عبس ظنوا انهم فروا فأمنوا وغنموا وجعل الجل يطرد ما قدر عليه من الأموال. فلما تفرقوا كرت عليهم خيل عبس فوضعت فيهم السلاح وانهزموا. وأسرفت في القتال حتى ناشدهم بنو ذبيان البقية وكان يوم شديد الحر. فمضى حذيفة وأخوه حمل حتى استغاثا بجفر الهباءة فنزلا ومعهما ورقاء بن بلال ونزعوا سلاحهم وسرجهم واقعدوا ربيئة يتطلع ولم يكن لعبس هم إلاّ في حذيفة. فبعثوا الخيل تقص أثره. فنظر الربيئة فقال: إني أرى شخصا كالنعامة فلم يكترثوا به وجعلوا يتحدثون فأذاهم بخيل عبس قد لحقهم وحالت بينهم وبين خيلهم. فلما حملوا عليهم وهم في الجفر قال حذيفة: يا بني عبس فأين الأحلام؟ فضرب أخوه حمل بين كتفيه وقال: اتق مأثور القول فأرسلها مثلا. يريد: انك تقول قولا تتذلل فيه وتخضع وتقتل ولا ينفع فتشتهر عنك أخباره ويبقى عليك عاره. فقتلوا حذيفة ومن معه وتمزقت بنو ذبيان.

ولا يخفى إنَّ هذا المثل حقه إنَّ يذكر في غير هذا الباب لكن الواو لمّا استهلكت بالإبدال اعتبرنا الظاهر تقريبا. وداحس بالدال المهملة على وزن فاعل من الدحس وهو الدفع. وسنئتي بذلك لأن أباه ذا العقال وهو فرس كان لرجل يسمى حوطا خرجت به جاريتان له يومان تقودانه فمرتا به على فرس أنثى لقرواش تسمى جلواء وهي إذ ذاك وديق والو الديق بالدال المهملة: المشتهية الفحل ومنه المثل الآتي: ودق العير إلى الماء فلما رآها ذو العقال ودق. فضحك شباب منهم فاستحيت الجاريتان فأرسلتا مقوده فزنا عليه. فلما جاء حوط وكان رجلا سيئ الخلق عرف النزو في عين ذي العقال فغضب وقال: أعطوني ماء فحلي فلما رأوا الخطب قد عظم قالوا: دونك وماء فحلك فأخذ الفرس وجعل يده في الماء والتراب وادخل اليد في رحمها حتى إنّه استخرج الماء. وقد اشتملت الرحم على ما فيها فنتجت قروش مهرا اسمه داحسا لدحس حوط إياه وخرج كأنه ذو العقال أبوه. ثم إنَّ قيس بن زهير أغار على بني يربوع فغنم فرأى داحس قد ركبه فتيان فقطعها الخيل ونجوا. فاعجب به قيس ودعا إلى إنَّ يجعله فداء المغنم كله. فأطوه إياه وكان سبب الحروب حتى قيل: أشأم من داحس وسيأتي. والخطار بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة بعدها ألف فراء وهم فرس لحذيفة والحنفاء: فرس له أيضاً تأنيث الأحنف. والحنف قيل هو الاعوجاج في الرجل وقيل أن يقبل إحدى إبهامي الرجل على الأخرى وقيل ميل في صدور القدم وقيل المشي على ظهر القدمين من شق الخنصر.
ويذكر في هذه القصة أيضاً أن حذيفة أجرى قرزلا والقرزل بالقاف والراء والزاي على وزن جحذب وهو فرس لحذيفة أيضاً ويحتمل إنّه الخطار المذكور. وقد قيل في هذه القصة إنَّ الصحيح إنَّ الرهان إنّما وقع بين قيس وحمل بن بدر لا حذيفة وإنَّ فرس قيس داحس وفرس حمل الغرباء. وفي القصة اضطرابات كثيرة اضربنا عنها. والهباء بفتح الهاء ثم باء موحدة وبعد الألف همزة مقلوبة عن واو ثم هاء التأنيث وهي أرض لغطفان فيها ماء. وفي الفرسين يقول عنترة بن معاوية بن شداد العبسي يرثي مالك بن زهير:
لله عين من رأى مثل مالك ... عقير قوم إنَّ جرى فرسان
فليتهما لم يجريا نصف غلوة ... و ليتهما لم يرسلا لرهان
وليتها ماتا جميعا ببلدة ... و أخطاهما قيس فلا يريان
وكان لهى الهيجاء يحمى ذماره ... و يضرب عند الكرب كل بنان
لقد جلبا حينا وحربا عظيمة ... تبيد سراة الحي من غطفان
و قال الربيع بن زياد أيضاً عم مالك المذكور يرثيه:
إني أرقت فلم اغمض حار ... من سيء النبل الجليل الساري
من مثله يمشي النساء حواسرا ... و تقوم معولة مع الأسحار
أبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجوا النساء عواقب الأطهار؟
ما أن أرى في قتله لذوي النهى ... إلاّ المطي تشد والاكوار
ومجنبات ما يذقن عذوقة ... يقذفن بالمهرات والامهار
ومسارعا صدأ الحديد عليهم ... فكأنما طلب الموجوه يقار
من كل سرور بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسر يندبنه ... قد قمن قبل تبلج الأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترا ... فالآن حين بدون للنظار
يضربن حر وجوههن على فتى ... عف الشمائل طيب الأخبار

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6