كتاب : زهر الأكم في الأمثال و الحكم
المؤلف : اليوسي

الأديم الجلد. ويقال: حلم الأديم بالكسر يحلم إذا فسد ووقع فيه دود. ثم يضرب للأمر يتناهى فساده. قال الوليد بن عقبة يخاطب معاوية رحمه الله تعالى:
فإنك والكتاب إلي علي ... كدباغة وقد حلم الأديم
و سيأتي تتمة هذا الشعر.
وأول من قال هذا المثل خالد بن معاوية بن سنان السعدي، وذلك إنه استب، وهو بنو تميم، عند النعمان بن المنذر، فقال خالد يرتجز فيهم:
دوما بني غنم ولن تدوما ... لنا ولا سيدكم مرحوم
غنا سراة وسطنا قروم ... قد حملت أحسابنا تدوم
في الحرب حتى حلم الأديم
فذهب قوله حلم الأديم مثلاً. وقال لهم أيضاً:
إنَّ لنا يا أهل غنم علما ... أفواه أفراس أكلن هشما
استاه أم يغتدين لحما ... تركتم خير قويس سهما
فذهب هذا أيضاً مثلا وسيأتي.
ثم أنَّ شاعر غنم رجز بخالد أيضاً ومع خالد أخ له. فاستعدوا عليه النعمان فقال خالد: أبيت العن! إذا أركب أنا وأخي ناقة ثم نتعرض لهم فإن استطاعوا فليعقروا بنا! فأعجب النعمان ذلك وقال: قد أعطوكم بحقكم. قالوا: قد رضينا. فقال النعمان: أما والله لتجدنه ألوى بعيد المستمر! فأرسلها مثلا وسيأتي.
ثم إنَّ خالدا وأخاه أكتفلا ناقتهما بكفل وتأخر أحدهما إلى العجز وجعل وجهه مما يلي الذنب وتقدم الآخر إلى الكتف وجعل كل واحد منهما يذبب بسيفه فلم يخلصوا إلى أن يعقروا بهما.

أحلم من فرخ الطائر.
الحلم بالكسر الأنات والعقل. يقال: حلم بالضم يحلم حلما فهو حليم وهم حلماء وأحلام؛ وجمع الحلم حلوم وأحلام؛ وافرخ معروف جمعه أفراخ وفراخ. ونسب الحلم إلى فرخ الطائر لأنّه يخرج من البيضة على قنة الجبل ثم لا يتحرك حتى يتم نبات ريشه؛ ولو تحرك سقط. وتقدم في قولهم: أحزم من عقاب ومن فرخ العقاب وهو المقصود هنا.
الحمد مغنم والمذمة مغرم.
هذا المثل ظاهر المعنى إفرادا وتركيبا يضرب عند اكتساب المحامد واجتناب المذام. ومثله قول مالك بن جرير: وإنَّ قليل الذم غير قليل وقبله:
أجود على العافي وأحذر ذمه ... إذا ضن بالمعروف كل بخيلِ
و مثله قول عبيد:
الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت في زادِ
و قول الحماسي:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد!
إذا ما صنعت الزاد فلتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحداث من بعدي
وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعى بادي الخصاصة والجهد؟
وللموت خيرٌ من زيادة باخل ... يلاحظ أطراف الأكل على عمدِ
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما في إلاّ يلك من شيمة العبدِ
و قول حاتم:
أكف يدي عن أن ينال التماسها ... أكف صاحبي حين حاجاتنا معا
أبيت هضيم الكشح مضطمر الحشا ... من الجوع أخشى الذم أن أتضلعا
وإني لأستحيي رفيقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
و قول عمرو بن الأهتم:
وكل كريم يتقي الذم بالقرى ... وللخير بين الصالحين طريقُ
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيقُ
و قول الآخر:
ألا يكن عظمي طويلاً فإنني ... له بالخصال الصالحات وصولُ
ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم تزن حسن الجسوم عقولُ
إذا قد رأينا من فروع طويلة ... تموت إذا لم يحيهن أصولُ
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وإما وجهه فجميلُ
و الشعر في هذا المعنى لا يحصر.
أحمق ما يتوجه.
الحمق قلة العقل. حمق الرجل بالضم وحماقة وانحمق واستحمق فهو أحمق وهم حماق وحمق بضمتين وحمقى وحماقى؛ وتوجه: أقبل وولى وكبر. ويقال: أحمق ما يتوجه أي ما يحسن أن يأتي الغائط لحمقه.
أحمق من جهبر.
الحمق مر؛ والجهبر أنثى الدب وهو دويبة معروفة يصطاد بها يزعمون أنها تترك ولدها وترضع ولد الضبع فوصفت بالحمق.
واعلم أنهم بنوا صيغة التفضيل من حمق وهو من الخارج عن القياس: فإنَّ نحو هذه المادة لا يبنى منها قياس كما قرر في محله.
أحمق من جهيزة.

جهيزة بالجيم أوله والزاي آخره على وزن صحيفة هي أم شبيب بن زيد الشيباني الخارجي. كان أبوه يزيد اشتراها من السبي فقال لها: أسلمي! فأبت فضربها فلم تسلم فواقعها فحملت فلما أحست بالولد تحرك في بطنها قالت: إنَّ في بطني شيئا ينفر. فقال الناس حينئذ: أحمق من جهيزة وضرب بها المثل في الحمق.
وقيل إنَّ جهيزة هي عرس الذئب تدع ولدها وترضع ولد الضبع. وفيها أو في مثلها ورد قول الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال على قصد!
و جهيزة أيضاً امرأة حمقاء. واجمع قوم يخطبون في الصلح بين حيين في دم لكي يرضوا بالدية. فبينما هم كذلك قالت جهيزة: ظفر بالقاتل ولي المقتول فقتله فقالوا: قطعت جهيزة قول كل خطيب!

أحمق من أبي غبشان.
أبو غبشان بفتح الغين المعجمة وتضم أيضاً وبسكون الباء الموحدة رجل من خزاعة كان يلي سدانة الكعبة قبل قريش. فاجتمع هو وقصي في شرب بالطائف فأسكره قصي ثم اشترى منه المفاتيح بزق خمر وأشهد عليه. ودفعها قصي لابنه عبد الدار وأرسله في الحين إلى مكة. ثم أفاق أبو غباشة من سكره وهو أندم من الكسعي فضرب به المثل في الحمق وفي الندم وخسارة الصفقة كما يأتي.
أحمق من حبارى.
الحبارى بضم الحاء وبألف مقصورة للتأنيث طائر معروف يقع على الذكر والأنثى ويوصف بالحمق.
وفي كلام عثمان رضي الله عنه: كل شيء يحفظ ولده حتى الحبارى! وإنّما خصها بالذكر لأنها مشهورة بالحمق ومع ذلك تحب ولدها وتطعمه وتعلمه الطيران كسائر الحيوانات.
أحمق من دغة.
الحمق مر ودغة بدال مهملة وغين معجمة مخففة على مثال ثبة وكرة والأصل دغي أو دغو. وهي امرأة من بني عجل وهي مارية بنت مغنج ومغنج هو ربيعة بن عجل. ودغة حمقاء مشتهرة بذلك ولذلك ضرب بها المثل.
وكان من حمقها إنّها تزوجت في بني العنبر بن عمرو بن تميم. فلما أخذها الطلق ظنت إنّها تريد الخلاء فانطلقت إلى بعض الغيطان تتبرز فولدت واستهل الولد ورجعت إلى بيتها تقدر إنّها أحدثت. فقالت لضرتها: يا هنتاه هل يفتح الجعرافة؟ قالت: نعم ويدعو أباه فمضت ضرتها وأخذت الولد. فبنو العبير يدعون بذلك بني الجعراء وصار ذلك لقبا لهم.
ونظرت يوما إلى زوجها يقبل بنته ويقول: بأبي درادرك والدرادرك مغارز الأسنان. فذهبت هي ودقت أسنانها بفهر حتى بدت درادراها فجاءت زوجها وقالت له: كيف ترى درادري؟ فقال لها: أعييتني بأشر فكيف بدردر؟ وهو مثل سيأتي. وقال أبو نواس:
وما لبكر بن وائل عصم ... إلاّ بحمقائها وكاذبها
وقد خطأ أبو العباس المبرد أبا نواس في هذا وقال إنّه أراد بالحمقاء هبنقة القيسي ولا يقال للرجل حمقاء. ورد عليه بانه أراد دغة العجلية وعجل في بكر بن وائل.

قال شمس الدين بن خلكان رحمه الله تعالى: وقد رأيت المبرد في المنام وأنا بالاسكندرية وفي سنة ست وثلاثين وستمائة وعندي الله تعالى ذاك الكامل للمبرد وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربة. فرأيت في العقد في ترجمة ما غلط فيه على الشعراء وذكر أبياتا نسبوا أصحابها إلى الغلط ولم يغلطوا وإنّما وقع الغلط ممن غلطهم منها ما ذكر المبرد في الروضة من تغليط أبي نواس في البيت السابق والغلط إنّما هو من المبرد كما قررنا. قال: فلما كان بعد ليال قلائل من وقوفي على هذه الفائدة رأيت كأني بمدينة حلب في مدرسة القاضي بهاء الدين وكأننا صلينا الظهر جماعة. فلما فرغنا أردت الخروج فرأيت في أخريات الموضع رجلا واقفا يصلي فقال لي بعض الحاضرين: هذا أبو العباس المبرد. فجئت إليه وقعدت إلى جانبه انتظر فراغه. فلما فرغ سلمت عليه فقلت له: أنا في هذا الزمان أطالع كتابك الكامل. فقال لي: رأيت كتابي الروضة؟ فقلت: لا. وما كنت رأيتها قبل ذلك. فقال لي: قم حتى أريك إياه فقمت وصعد بي إلى بيته. فدخلنا ورأيت فيه كتب كثيرة. فقعد يفتش عليه وقعدت أنا ناحية. فأخرج مجلدا ودفعه لي ففتحته وتركته في حجري فقلت له: قد أخذوا عليك. فقال: أي شيء أخذوا؟ فقلت له: انك نسبت أبا نواس إلى الغلط في بيت كذا وأنشدته إياه. فقال: نعم غلط في هذا. فقلت؟ إنّه لم يغلط بل هو على صواب ونسبوك أنت إلى الغلط في تغليطه. فقال: وكيف هذا؟ فعرفته ما قاله صاحب العقد. فعض على رأس سبابته وبقي ساعة ينظر إلي وهو في صورة خجلان حتى استيقظت من منامي وهو على تلك الحال. انتهى ملخصا.

أحمق من رجلة.
الرجلة بكسر الراء وسكون الجيم: ضرب من النبات معروف ينبت في حميل السيل فيقتلعه فيوصف لذلك بالحمق. ويقال له بقلة الحمقاء والبقلة اللينة والبقلة المباركة. وقيل إنَّ البقلة المباركة هي الهندباء. وقولهم بقلة الحمقاء أضيف منه الموصوف إلى الصفة في الظاهر كقولهم: مسجد الجامع وصلاة الأولى.
أحمق من رخمة.
الرخمة بفتح الراء والخاء المعجمة طائر معروف جمعه رخم ويقال له الانوق كما مر. ومن تم يقال لها ذات الاسمين. وهي تتمنع في قلل الجبال كما تقدم وتتحرز ومع ذلك تحمق. قال الكميت:
وذات أسمين والألوان شتى ... تحمق وهي كيسة الحويل
و ذكر الروافض عند الشعبي فقال: لو كانوا من الدواب لكانوا حمرا ومن الطير لكانوا رخما. والرخمة من لئام الطير ولئام الطير فيما يزعمون ثلاثة: الرخمة والغراب والبومة.
أحمق من صاحب ضأن ثمانين.
الضأن بسكون الهمزة وفتحها جمع ضائن مثل ركب لراكب وحرس لحارس والضائن خلاف الماعز من الغنم والأنثى ضائنة. ويقال: أضأن الرجل كثرت عند الضأن وثمانون عقد معلوم من العدد وصاحب ضأن ثمانين قالوا هو رجل بشر كسرى فقال له كسرى: سل مني ما شئت فقال: أسألك ضأنا ثمانين فقال: أحمق من صاحب ضأن ثمانين. وقيل إنّه رجل حكمه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أيما أحب إليك: ثمانون من الضأن أو أدعو الله تعالى أن يجمعك معي في الجنة. فقال: بل ثمانون من الضأن. فقال صلى الله عليه وسلم : أعطوه إياه ثم قال صلى الله عليه وسلم :إنَّ صاحبة موسى كانت أعقل منك. وذلك إنَّ عجوزا دلته على عظام يوسف عليه السلام فقال لها موسى عليه السلام: أيما احب إليك: أسأل الله أن تكوني معي في الجنة أو مائة من الغنم؟ فقالت: الجنة.
ويروى أيضاً إنَّ رجلا وقف على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم حنين فقال: إنَّ لي عندك موعدا يا رسول الله قال: صدقت فاحتكم ما شئت قال: إني أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها. فقال صلى الله عليه وسلم : هي لك وقد احتكمت يسيرا. ولصاحبة موسى عليه السلام التي دلته على عظام يوسف عليه السلام كانت أحزم منك حين حكمها موسى فقالت: حكمي أن تردني شابة وأدخل مع الجنة.
وفي هذا الرجل يقال: أقنع من صاحب الثمانين وراعيها كما سيأتي.
أحمق من ضبع.
الضبع على مثال سبع معروف يقع على الذر والأنثى وهو مؤنث اللفظ. والذكر بخصوصه ضبعان بالكسر والأنثى ضبعانة ولا يقال ضبعة. وقيل يقال. ويقال للذكر منه أيضاً ذريح بكسر الذال المعجمة.

والضبع توصف بالحمق. ومن حمقها فيما يزعمون أن الصائد إذا أراد أن يصيدها رمى بحجر في وجارها فتحسبه شيئاً فتخرج إليه. وإنّها أيضاً يقال لها وهي في الوجار: خامري أم عامر أي أسترى كما سيأتي. فتبقى حتى يدخل إليها ويقيدها برجلها ويخرجها. ويقال لها أيضاً وهي في الوجار: اطرحي أم طريف خامري أم عامر أبشري: بجراد عظلى وشاة هزلي فتبقى حتى تقبض. ومن الناس من يرى إنَّ هذه من خرافات العرب فقط. وأهل زمانا أيضاً يزعمون إنَّ الصيادين إذا اجتمعوا حول وجاره وجعل بعضها يقول: ما هي هما وما هنا شيء فتتلبث هي حتى تقبض وإنّهم أيضاً قد يرونها فيعظمونها ويهولون أمرها ويقولون: ما هذا السبع؟ وما هذه الداهية؟ ونحو ذلك. فتبقى تنتفخ وتتعظم في نفسها ولا تفر حتى يقبضوها.
ومن شهرة حمقها على سائر الدواب يقول العرب يقال المثال الآخر في الشيء يدعى وضوحه جدا: ما يخفى هذا الأمر على الضبع.

أحمق من ناطح الصخرة.
النطح دفع الشيء بالقرون والصخرة واحد الصخور المعروفة وناطح الصخرة هو الوعل والوعل هو التيس الجبلي كما مر جمعه أوعال ووعول. قال امرؤ القيس:
تلاعب أولاد الوعول رباعها ... دوين السماء في رؤوس المجادل
وقال أمية بن أبي الصلت:
كل حي وإن تطاول دهرا ... آئل أمره إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
يحكى إنَّ أمية لمّا احتضر غشي عليه ثم أفاق فقال: لبيكما لبيكما أنا إذا لديكما: لا عشيرتي تحميني ولا مالي يفديني ثم غشي عليه. فلما أفاق قال: كل حي ...... البيتين ففاظت نفسه. وهما من شعره الحكيم.
ويروى إنَّ عمرو بن العاصي تمثل بهما. وكان لمّا حضرته الوفاة قال له ابنه: يا أبتاه! انك كنت تقول: يا ليتني ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت به حتى يصف لي ما يجد وأنت ذلك الرجل: فصف لي الموت! فقال: يا بني كأن السماء قد انطبقت على الأرض وكأني بينهما أتنفس من سم إبرة وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي. ثم أنشأ يقول: ليتني كنت......البيت. ومثل هذا عن عبد الملك بن مروان لمّا احتضر وكان في قصره مشرفا على الناس. فنظر فرأى بعض الغسالين يغسل الثياب فقال: ليتني كنت نثل هذا الغسال أكتسب قوتي يوم بيوم ولم أكن وليت الخلافة ثم تمثل بالبيتين السابقين فمات.
ويحكى إنّه لمّا بلغت قصته هذه بعض أهل زمانه قال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يعني الرؤساء يتمنون ما نحن فيه ولم يجعلنا نتمنى ما هم فيه.
وقالوا في الوعل ناطح الصخرة لقول الأعشى:
كناطح صخرة يوما ليقلعها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
و قول الآخر:
فرشني لا أكونن ومدحتني ... كناطح يوما صخرة بعسيل
أحمق من نعامة.
النعامة معروف وتقدم ما فيه. والنعامة توصف بالحمق وذلك إنّها تخرج طلبا للطعم وتدع بيضها. فمتى وجدت بيض نعامة أخرى حضنتها ونسيت بيضها. وفي ذلك يقول أبن هرمة:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زنداً شحاحا
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملحقة بيض أخرى جناحا
و من حمقها إنَّ الصائد إذا أدركها أدخلت رأسها في كثيب رمل تقدر أنها اختفت عنه بذلك وهي بادية له. ومع ذلك فكان لها في بيضها أمر عجيب، وذلك إنّها تبيضها زوحا وتضعها فتقسمها قسمين: فقسما تحضنه وقسما تتركه يكون غذاء لمّا يكون من الأفراخ، على ترتيب في ذلك ووضع عجيب. فسبحان القادر على ما يشاء والملهم كل حي منافعه.
وأما قول علقمة:
حتى تلافى وقرن مرتفع ... أدحي عريسين فيه البيض مركوم
فقد قيل إنّه غلط لأن بيض النعام لا يكون مركوما، أي بعضه على بعض، كما قلنا.
أحمق من هبنقة.
ويقال أيضا أحمق من ذي الودعات؛ وهبنقة بالفتحات مع تشديد النون. هو يزيد بن ثروان القيسي. ويقال له ذو الودعات ولقب بذلك لأنه كان يتقلد الودع، والودع بفتحتين خرز أبيض يستخرج من البحر، الواحد ودعة والجمع ودع وتسكن الدال أيضاً وودعات.
وقال الشاعر في المفرد:
أسن من جلفزيز عوزم خلقٍ ... والحلم حلم صبي يمرس الودعه

و الجلفزيزي العجوز والناقة الهرمة؛ والعوزم العجوز والناقة المسنة فيها بقية. ومعنى يمرس الودعة: يمصها. ويقول إنه كبير الجسم، صغير العقل. وقال: الآخر في الجمع، مسكنا ومحركا:
إنَّ الرواة بلا فهم لمّا حفظوا ... مثل الجمال عليها يحمل الودع:
لا الودع ينفعه حمل الجمال له ... ولا الجمال بحمل الودع تنتفع
قيل: الودع أشتق له من الودع وهو الترك، لمّا قالوا من البحر يتركه، وذلك إنّه يقذفه حيوانا فيموت ويصلب صلابة الحجر، ويعلق للعين. فكان هبنقة أتخذ قلادة من ودع وعظام خزف يجعلها في عنقه، وكان طويل اللحية. فقيل له:لم تعلق هذا؟ فقال: لئلا أضل. ثم إنَّ أخا له سرقها ذات ليلة وتقلدها. فلما صبح هبنقة ورآها في عنق أخيه فقال له: يا أخي، أنت أنا، فمن أنا؟ فضرب به المثل في الحمق.
وقد حكيت عنه أخبار كثيرة في الحمق: منها أنه أشترى له أخوة بقرة بأربع أعنز. فلما ركبها وأعجبه عدوها، التفت إلى أخيه فقال له: زدهم عنزاً! فضرب به مثلا للمعطي بعد وجوب البيع. ثم إنّه سار بالبقرة حتى مر بأرنب تحت شجرة، ففزع منها، وركض البقرة حتى تجاوزها فقال:
الله نجاني ونجى البقرة ... من جاحظ العينين تحت الشجرة
ومنها إنّه مان إذا رعى الإبل رد السمان منها إلى المرعى، ونحى المهازيل وقال: لا اصلح ما افسد الله! ومنها إنّه اختصم إليه بنو راسب والطفاوة في غلام تنازعه الفريقان، فقال : اذهبوا فاطرحوه في النهر: فإنَّ طفا فوق الماء فهو للطفاوة، وإنَّ رسب فيه فهو لبني راسب. وهذه أيضاً تحكى عن غير هبنقة، كما سيأتي، والله اعلم. ومنها إنّه ضل له بعير فقال: من جاء به فله بعيران. فقيل له: أتجعل في بعير بعيرين؟ فقال انكم لا تعرفون حلاوة الوجدان! وقال اليزيدي:
عش بجد ولا يضرنك نوك: ... إنّما عيش من ترى بالجدود
رب ذي إربة مقل من المال ... وذي عنجهية مجدود
عش بجد وكن هبنقة القيسي ... أو مثل شيبة بن الوليد!
و سبب قول اليزيدي هذا الشعر إنّه تناظر، هو والكسائي، في مجلس المهدي، وكان شيبة أبن الوليد حاضرا فتعصب للكسائي وتحامل على اليزيدي فهجاه.

يحمل شن ويفدي لكيز.
الحمل معروف، تقول: حملت الشيء أحمله حملا كضربته أضربه ضربا؛ وشن اسم رجل وهو شن بن أفصى بن عبد القيس بن جديلة؛ وتقول فديت الرجل تفديه إذا قلت له: جعلت فداءك. قال امرؤ القيس:
فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعانٍ فككت الغل عنه ففداني
و العرب تقول في التفدية: فدتك نفسي، وأبي وأمي، وطارفي وتالدي. وتقول: فديت الرجل ثلاثيا، وفاديته إذا فككته؛ ولكيز بالزاي، على مثل زبير هو أبن أفصى، أخو شن المذكور. وكان شن وأخو لكيز مع أمهما ليلى بنت قرآن في سفره، فنزلا بموضع يقال له ذو طوى. فلما أرادت الرحيل فدت لكيز، ثم دعت شناً ليحملها. فحملها وهو غضبان حتى إذا كانا بالثنية رمى بها عن بعيرها وقال: يحمل شن ويفدى لكيز! فذهبت ويضرب في وضع الشيء غير موضعه. ثم فقط عليك بجعرات أمك يا لكيز!.
ومثل هذا المثل، المثل الآتي: هيل خير حالبيك تنطحين، وقول الشاعر:
وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يدعى جندب!
كما مر. وكل ذلك يضرب في الخطأ في مكافئة المحسن بالإساءة والمسيء بالاحسان.
الحمى أضرعتني إليك!
الحمي مرض معروف. يقال: حم الرجل بضم الأول وأحمته الله، فهو محموم؛ والاضراع: الإذلال. يقال: ضرع إليه بالفتح يضرع ضراعة: ذل وخضع، وأضرعة الغير. وهذا المثل يضرب عند الذل للحاجة.
قال: أبو علي القالي: إنّما قيل هذا لأن صاب الحاجة تأخذه رعشة، من الحرص على حاجته. ويقول: فهذا الذي في من القل هو الذي أضرعني؛ والقل الرعدة. انتهى. وقوله: القل الرعدة، يعني بكسر القاف. وحصل ما ذكر أنَّ ما طلبه من الحرص المزعج له إزعاج الحمى هو الذي أضر وأذله، كما قال الآخر: أذل الحرص أعناق الرجال وهو ظاهر
الحمى أضرعتني للنوم.

هذا المثل كالذي قبله في المعنى، وهو هو بعينه. وأوّل من قاله قرين بن مصاد الكلبي. وكان لصا مبيراً حتى إنّه كان يقال له الذئب لشدة لصوصيته. وكان له أخوان: مرارة ومرة؛ وإنَّ مرارة خرج يتصيد الأروى في جبل يقال له أبلق، فأختطفه الجن. فانطلق مرة أخوه بأثره حتى إذا كان بذلك المكان اختطف أيضاً. وكان قرين غائبا فلما قدم وعلم بأمر أخويه أقسم لا يشرب خمراً ولا يمس رأسه غسلا حتى يطلب أخويه. فتكتب قوسه وانطلق إلى ذلك المكان. فمكث فيه سبعة أيام لا ينام ولا يرى شيئاً حتى كان اليوم الثامن، فإذا هو بظليم فرماه وأصابه، واستقبل الظليم حتى صار في أسفل الجبل. فلما وجبت الشمس بصر بشخص قام على صخرة ينادي:
يا أيها الرامي الظليم الأسود ... ثبت مراميك ولمّا ترشد!
فأجابه قرين:
يا أيها الهاتف فوق الصخرة ... كم عبرة هجيتها وعبرة
بقتلكم مرارة ومرة ... فرقت جمعا وتركت صخرة!
فذهب الجني وتوارى عنه هونا من الليل. فأصابت قرينا حمى فغلبته عينه فنام. فأتاه الجني فاحتمله وقال: ما أنامك، وقد كنت حذرا؟ فقال قرين: الحمى أضرعتني للنوم. ثم أنطلق به حتى أتى حاضر الجن. فلما كان في وجه الصبح، خلى سبيله، فقال قرين عند ذلك:
ألا من بلغ فتيان قومي ... بما لاقيت بعدهم جميعا؟
غزوت الجن أطالبهم بثأري ... لأسقيهم به سما نقيعا
فيرض لي ظليم بعد سبعٍ ... فأرميه فأتركه صريعا
وكنت إذا القروم تعاورني ... جريء الصدر معتز منيعا
بنى لي معشري وجدود صدق ... بذروة شامخ بيتا منيعا
وعزا سامعا ثبت الرواسي ... ترى شم الجبال خضوعا

حمي الوطيس.
تقدم في باب الهمزة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي في الأمثال الحديثة.
أحمى من مجير الجراد.
الحماية: المنع. وتقول: حميت الشيء أحميه حماية إذا حفظته ومنعته.
قال جرير:
حميت حمى تهامة بعد نجدٍ ... وما شيء حميت بمستباح
و تقول: أجرت الرجال أخيره إذا منعته من أن يظلم، فهو جار. وقال الشاعر:
وكنت إذا جاري دعا لمضيفةٍ ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري
و جار الرجل واستجار: طلب أنَّ يجار؛ والجراد معروف، واحده جرادة للذكر والأنثى، ومجير الجراد هو مدلج بن سويد الطائي. وذكروا إنّه بينما هو ذات يوم في ظل خيمة إذ رأى قوما من طيء قد أقبلوا ومعهم الأوعية، فقال: ما شأنكم فقالوا: جراد بات بفنائك، فجئنا نأخذه. فلما سمع ذلك، قام إلى فرسه فركبه وتسلح وقال لهم: أيكون الجراد بفنائي وتريدون أخذه؟ والله لا يعرض له أحد منكم إلاّ قتلته! فلم يزل يحرسه حتى طلعت عليه الشمس وطار، فقال: شأنكم الآن به، فقد تحول الآن عن جواري! فضرب به المثل.
حن حنين الثكلى
تقدم معنى الحنين: التي فقدت ولدها وتقدم أيضاً. وحنين الثكلى شديد، كما تقدم في قولهم: أحر من دمع المقلات. وقالت أسماء المرية:
فإن بأكناف الرغام غريبه ... مولهة ثكلى طويلا نئيمها
وقال الخنساء في الثكلى من الإبل وحنينها:
فما عجول على من تحن له ... لها حنينان: إعلان وإسرار
ترتع ما غفلت إذا أذكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجع مني يوم فارقني ... صخر وللدهر إحلاءٌ وإمرار
ونحوه قول عبد الله بن الزبير الأسدي:
رمى الحدثان نسوة آل زيدٍ ... بمقدارٍ سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا
فإنك لو سمعت دعاء باكيةٍ حزينٍ ... أبان الهر وأحدها الفقيدا
حنَّ قدحٌ ليس منها.
هذا المثل يضرب للرجل يدخل نفسه في القوم وليس منهم أو يمتدح بالشيء ليس من أهله. يروى أنَّ عقبة بن أبي معيط لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله قال: أ أقتل من بين قريش؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حن قدح ليس منها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهل أنت إلاّ يهودي من صفورية؟ وذلك أنهم ذكروا أنَّ أمية بن عبد شمس خرج إلى الشام وأقام بها عشر سنين. فوقع على أمة يهودية للخم من صفورية يقال لها ترنى فولدت له ذكرا فاستلحقه أمية وكناه أبا عمرو وهو أبو أبي معيط.
حنت ولا تهنت.

هذا المثل لمازن بم مالك بن عمرو بن تميم وذلك أنَّ الهيجمانة بنت العنبر بن عمرو بن تميم بن مر كان عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم كان يزورها. فنهاه قومها عن ذلك فأبى حتى وقعت الحرب بين قومه وقومها. فأغار عليهم عبد شمس في جيشه فعلمت به الهيلمانة فأخبرت أباها. وكانوا يعرفون إعجاب الهيلمانة به كإعجابه بها. فلما قالت هذه المقالة لأبيها قال مازن بن مالك: حنت ولا تهنت! وأنى لها مقروع؟ ومقروع عبد شمس كان يلقب به، لأن القريع والمقروع في كلام العرب هو المختار فقال لها أبوها عند ذلك: أي بنية اصدقيني! كذلك هو؟ فانه لا رأي لمكذوب. فقالت: ثكلتك إن أكن صدقتك فانج لا أخالك ناجيا! فذهبت كلمة مازن وكلمته وكلومتها أمثالا. فقال مازن: حنت ولا تهنت أراد أنها إنما كان غرضها أن تذكر عبد شمس ليجري اسمه على لسانها حبينا إليه وشوقا لا شفقة على قومها ولا نصحا لأبيها ولا تحذيرا. وقوله: ولا تهنت دعاء عليها أي: لا هناها الله بذلك! وأراد: لا تهنأت بالهمز من الهناء ثم خفف الهمزة وقلبها ألفاً ثم حذف الألف لملاقاة التاء الساكنة كما في نظائره.
قيل: ويحتمل أن يريد: ولات هنا أي ليس هذا الوقت أو: أنَّ ذلك ولا حينه كما قال الأعشى:
لات هنا ذكرى جبيرة أم من ... جاء منها بطائف الأهوال!
أي ليس هذا حين ذكرها يأسا منها. وكما قال الراعي:
أفي أثر الأظعان عينك تطمح؟ ... نعم! لات هنا إنَّ قلبك متيح!
و كما قال جحل بن نضلة الباهلي:
حنت نوار ولات هنا حنت ... وبدا الذي كانت نوار أحنت
لمّا رأت ماء السلى شربا لها ... والفرث يعصر في الإناء أرنت
و في إعرابه كلام مبين في علم النحو. والتاء في لات لتأنيث الكلمة كما قيل في رب وثم ربت وثمت. وقيل إنها بدل من الألف لأن التاء تبدل من الألف عند الوقف وعند السجع كما قيل:
من بعدما وبعدما وبعدمت ... صارت نفوس القوم عند الغلصمت
حورٌ في محارةٍ
الحور بضم الحاء وفتحها وهو مضموما: الهلاك والنقصان ومفتوحا النقصان أيضاً والرجوع. يقال: حار إليه بحور حورا: رجع. قال مهلهل بن ربيعة التغلبي:
أليلتنا بذي حسم أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري!
أي: لا ترجعي! والمحاورة النقصان أيضاً.
ومعنى المثل: نقصان في نقصان. يقال للرجل يكون أمره في إدبار أو للرجل ينقص بعد الزيادة ويكون صالحا فيفسد ولمن لا يصلح. ومن ورود الحور بمعنى النقصان قول الشاعر:
واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدروا ... والذم يبقى وزاد القوم في حورِ

حيل بين العير والنزوان.
تقول: حال الشيء بيني وبين كذا يحول حيلولة: منعني منه؛ وحيل بين زيد وبين كذا. قال تعالى )وحيلَ بينهم وبينَ ما يشتهونِ(؛ والعير بالفتح الحمار وسيد القوم أيضاً؛ والنزوان مصدر قولك: نزا الفحل على الأنثى ينزو عليها نزوا ونزوانا.
والمثل يضرب للرجل يعوقه عن مطلبه عائق. وهو قول صخر بن عمرو بن الشريد:
أهم بفعل الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
و سنذكره وما يتعلق به في الأمثال الشعرية إن شاء الله تعالى.
حال الجريض دون القريض.
الجرض الريق يغص به. يقال: جرض الرجل بريقه يجرض كفرح يفرح إذا ابتلعه بجهد على هم وحزن؛ والجريض الاختناق بالريق على الموت. قال امرؤ القيس:
كأن الفتى لم يغن في الناس ساعة ... إذا اختلف اللحيان عند الجريضِ
و يقال: هو يجرض على نفسه أي يكاد يقضي ومن ذلك قول امرئ القيس أيضاً:
وأفلتهن علباء جريضاً ... ولو أدركته صفر الوطاب
و القريض: الشعر.
ومعنى المثل أنَّ الاختناق بالريق منع من قول الشعر فيضرب في كل أمر يعوق عنه عائق.
وأوّل من قاله جوشن الكلابي. وكان أبوه منعه من قول الشعر فمرض حزنا فرق له أبوه وقد أشرف فقال له يا بني انطق بما أحببت! فقال: هيهات! حال الجريض دون القريض. قيل: وأنشد:
عذريك من أبيك بضيق صدري ... فما تغني بيوت الشعر عني!
و قيل أول من قاله عبيد بن الأبرص حين وفد على النعمان في يوم بؤسه وأيقن بالموت وقال له النعمان: أنشدني! فقد كان يعجبني شعرك فقال عبيد: حال الجرض دون القريض! وقد تقدمت قصته في حرف الهمزة مستوفاة.

وقال أبو محمد الحريري رحمه الله تعالى:
ما بات جارٌ لهم ساغباً ... ولا لروع قال: حال الجريض
حوَّل حابله على نابله.
الحابل هنا السدى؛ والنابل اللحمة وقد تقدما. ومعنى حول حابله على نابله جعل أعلاه أسفله وهو ظاهر.

حوالينا لا علينا.
يتمثل به كثيرا وهو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم حين استصحى فقال: اللهم حوالينا ولا علينا! أي أنزل المطر حوالينا ولا تنزله علينا! والحديث مشهور.
وقال مشيرا إلى ذلك على طريق الاقتباس الصاحب بن عباد:
أقول وقد رأيت لها سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا
وقد سحت عزاليها يهطل: ... حوالينا الصدود ولا علينا!
و تقول: جلست حول الرجل وحوليه وحواليه وأحواله مفتوحات الأول وكلها بمعنى واحد.
حيث لا يضع الراقي أنفه.
حيث من ظروف المكان؛ والوضع: الطرح والجعل. تقول: وضعت الشيء أضعه بفتح الضاد فيهما؛ والرقية بضم الراء العوذة رقاه يرقيه رقيا فهو له نفث في عوذته. قال عروة بن حزم:
فما تركا من رقية يعلمونها ... ولا شربة إلاّ بها سقياني
و هذا المثل يضرب في الأمر لا يدنى ولا يقرب منه.
قال أبو علي القالي: وكأنهم يرون أنَّ أصل ذلك ملسوعا لسعا في آستة فلم يقدر الراقي أن يقرب أنفه مما هناك. انتهى.
قالت: وأورده أبو عبيد في أمثاله بلفظ جرحه حيث لا يضع الراقي أنفه وقال إنّه يضرب في الجناية لا دواء لها. فقال البكري عن أبن الكلبي: أوّل من نطق بهذا المثل امرأة من العرب وأظنها زوجة حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم أو بنته وكان حنظلة شيخا كبيرا. فأصابتهم ليلة ريح ومطر وبرق. فخرجت تصلح طنب بيتها وعليها صدار. فأكبت على الطنب وبرقت السماء برقة فأبصرها مالك بن عمرو بن تميم وهي مجيبة فشد عليها حتى خالطها فقالت:
يا حنظل بن مالك لحرها ... يشفى بها من ليلةٍ وقرها!
فأقبل بنوها وزوجها فقالوا لها: مالك؟ فقالت: لدغت. قالوا: أينه؟ فقالت: حيث لا يضع الراقي أنفه.فذهبت مثلا. ومات حنظلة بن مالك فتزوجها مالك بن تميم صاحب اللدغة فولدت له نفرا.
أحير من برغوث.
تقول: حار الرجل يحار حَيرة وحِيرة وتحيرا: إذا نظر فلم يهتد؛ والبرغوث بضم الباء معروف. قال الأعرابي:
إلاّ ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث علي سبيلُ؟
و هو يطير إلى وراء وذلك من لطف الله تعالى به ليرى من يكيده.
أحير من ضب.
الحيرة تقدمت، والضب معروف يوصف بالحيرة، وذلك انهم يزعمون إنَّ في طبعه النسيان وعدم الهداية، ولذلك يحفر حجره عند صخرة، أو في أكمة ليلا يضل عنه إذا خرج لطلب الطعام، وذلك توجد براثينه كليلة من حفرة الكدى والأماكن الصلبة، كما قال خالد بن علقمة:
ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه ... كضب الكدى أفنى براثينه الحفر
و تقدم شيء من هذا في الباء.
الحية من الحيية.
الحية معروف يقع على الذكر والأنثى، والتاء فيه للوحدة من الجنس، كالبطة والدجاجة وحكى بعض الأقدمين: رأيت حيا على حية، أي ذكر على أنثى.
ومعنى المثل أنَّ الأمر العظيم ينشأ عن الأمر الصغير، وهو كقولهم: العصا من العصية، وسيأتي. وقريب من قولهم: إنَّ السقط يحرق الحرجة، وقد تقدم. وقد جعل بعضهم نظير هذا المعنى من كتاب الله قوله تعالى: ) ولا يلدوا إلاّ فاجرا كفارا(.
أحيى من ضب.
يقال: حيي الشيء بالكسر يحيى حياة فهو حي؛ والضب معروف ووصف بكثرة الحياة وطول عمره. فقد ذكر إنّه يعيش سبعمائة سنة أو أكثر، ولا تسقط له سن، ويبول كل أربعين يوما مرة واحدة. قال الشاعر:
إنك لو عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل
والصخر مبتل كطين الوحل
و الحسل بالكسر ولد الضب ومن ثم يقال للضب أبو حسل؛ والفطحل على مثال هزبر فيما يزعمون: زمان كانت الصخر فيه رطبة.
ومما يلحق بهذا الكتاب قولهم:
حبا وكرامة.
يقول الرجل لآجر إذا طلبه شيئاً: نعم وحبا وكرامة. ويقال أيضاً: حبة وكرامة. والحبة بضم الحاء بمعنى الحب؛ والكرامة من الإكرام، ويقال أيضاً: حبا وكرامة، وحبا وكرمانا بضمها وقيل المراد بالحب هنا الحب الذي هو الجرة العظيمة وهي الخابية والكرامة غطاء الجرة.

وقد يقال: أفعل كذا حبا وكرامة لك بالفتح وكرما وكرمة وكرمى وكرمة عين بضم الكل وليس له فعل ظاهر. وقولهم:

حطني القصا.
أي تباعد عني، والقصا البعد، ويقال قصا الشيء يقصو قصوا، وقصي الرجل عن جواري بالكسر يقصي قصى أي تباعد. والقصا أيضاً فناء الدار ويمد والناحية. يقال. ذهبت قصا فلان، أي ناحيته. وقال الشاعر:
فحاطونا القصا ولقد رأونا ... قريبا حيث يستمع السرار
قال في الصحاح، عن الأصمعي: معنى حاطونا القصى أي تباعدوا عنا وهم حولنا وما كنا بالبعد منهم لو أرادوا أنَّ يدنوا منا. انتهى. وقولهم:
تحللت عقد فلانٍ.
أي سكن غضبه. ومن الأمثال المشتهرة في هذا الباب على ألسنه الناس قولهم:
أحسن من نار القرى.
كانت خولة بنت منظور بن زيان أجمل نساء قومها، فقدمت المدينة لزيارة أختها زوجة عبد الله بن الزبير، فسمع الناس بها فخطبوها وفيهم الحسن بن علي رضي الله عنه. فجعلت أمرها بيدي أختها، فوكلت أبن الزبير فزوجها من الحسن. فلما بلغ الخبر أباها جاء المدينة فركز رأيته عند المسجد ونادى: يا آل قيس! فلم يبقى قيسي إلاّ دخل تحت رايته. فبلغ ذلك الحسن فجاء إليه فقال له: شأنك بابنتك! فجاءها فحملها معه. فلما خرجا قالت له: أو يرضى أحد بمثل فعلك؟ الحسن بن علي وفاطمة، وسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة، أين تجد مثله؟ فقال: صدقت، ولكن تعالي ننزل بقبا. فإن كان له غرض فيك فسيلحقنا! فبينما هم هنالك اقبل الحسن والحسن وأبن جعفر وأبن العباس، فردها إليه. فولدت للحسن الحسن المثنى، أكبر ولده. ولم تزل عنده حتى مات. فكثر خطابها، فقالت: والله لا كان لي حمء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكشفت القناع وبرزت للرجال في هيئة المتجالات، فيئسوا منها عند ذلك. وكانت معروفة بفعل الخير والتفضل ويقصدها الناس في حوائجهم فتقضيها. وعاشت كثيراً.
فحكي عن معبد المغني قال: جئتها ألتمس معروفا، وهي عجوز، وغنيتها شعراً قاله فيها بعض من أراد تزويجها وهي شابة فلم تنكحه ومنه:
قفا في دار خولة فاسألاها ... تقادم عهدها وهجرتماها
بمحلال كأن المسك فيه ... إذا فاحت بأبطحه صباها
فطربت وأهتزت وقالت: يا عبد بني قطن، أنا والله يومئذ أحسن من نار القرى في عين التائه الصدي! وقولهم:
أحقر من ذباب وأحقر من قلامة.
وهو ما يزال من الظفر. وهذا باب مطرد. وقولهم:
أحير من طير في شبكة.
يريدون الطير المقنوص في شبكة الشديد الاضطراب والموجان؛ وقولهم:
أحير من بقة في حقة.
ونحو هذا.
ومن الأمثال العامية قولهم:
حل عبستك، ما أردت خبزتك!
يضربون للرجل يعجز إنَّ يجامل الناس بحسن خلقه فضلا عن إنَّ يسامح بنداه. وقولهم:
الحمار حماري وأنا أركب من وراء!
وقد آن أنَّ نذكر في هذا الباب ما يتيسر من الشعر. قال الشاعر:
أخاك أخاك، إنَّ من لا أخاله ... مساع إلى الهيجا بغير سلاح
وإنَّ أبن عم المرء فأعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح؟
وقال الآخر:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زندا شحاحا
كتاركة بيضها بالعراء ... وملحفة بيض أخرى جناحا
يريد النعامة، وقد تقدم ذلك فيها.
وقال عروة بن الورد:
وقلت بقوم في الكنيف تروحوا ... عشية بتنا وإنَّ رزح
تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم ... إلى مستراح من حمام مبرح
وسيأتي ما يناسب هذا المعنى، إن شاء الله.
ومن يكن مثلي ذا عيال ومقترا ... يغرر ويطرح نفسه كل مطرح
ويبلغ عذرا أو يصيب رغيبة ... ومبلغ نفس مثل منجح
و الكنيف حظيرة تعمل للماشية تحفظ فيها؛ والرزح جمع رازح وهو الساقط المعيي هزالا، وهو نعت القوم؛ والحمام بكسر الحاء الموت وجعله مبرحا أي شاقا لطوله لأنهم يبقون حتى يموتوا جوعا.

وذلك أنَّ عروة مر بقوم من أهله قد جهدوا على أنفسهم حظيرة، فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: أنا جهدنا وخفنا على أنفسنا السباع، فعملنا هذا نبقى فيه حتى نموت. فلامهم على ذلك واستنهضهم لطلب الرزق. فسار بهم حتى نزلوا ماء يقال له ماوان لبنى فزارة. فمر بهم راكب معه ظعينة على بعير ومائة ناقة. فقام إليه عروة فقاتله حتى قتله. فأخذ ذلك وقسمه على أصحابه.
وقوله: ومبلغ نفس عذرها مثل منجح: مثل سائر عند القوم: ويريد به أنَّ من جد في الطلب، عانى المشقة والتعب، فهو إنَّ ظفر فذلك ما يسعى إليه، وإنَّ لم يظفر فلا ملامة عليه، كما قال امرؤ القيس: نحاول ملكا أو نموت فنعذرا وقال أبن هرمة:
يحب المديح أبو ثابتٍ ... ويفرق من صلة المادح
كبكر تشهى لذيذ النكاح ... وتجزع من صولة الناكح
وقال الحماسي عمرو بن الاطنابة الأنصاري:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح
الإجشام: الإكراه على تحمل المشقة؛ والمشيح والشائح: الجاد في الأمر؛ وجشأت نفس الرجل: تحركت واضطربت من جزع أو حزن؛ وجاشت: ماجت واضطربت، ومنه الجيش، لموجانه بعضه في بعض؛ والمآثر ما يذكر عن الإنسان ويؤثر عنه؛ والعرض الصحيح: الذي لم يتعلق به عيب فيمرضه.
وقال جميل بن معمر:
أريد صلاحها وتريد قتلي ... فشتى بين قتلي والصلاح!
و قبله:
تنادى آل بثنة بالرواح ... وقد تركوا فؤادك غير صاح
فيا لك منظرا ومسير ركبٍ ... شجاني حين أمعن في الفياحي
ويا لك خلة ظفرت بعقلي ... كما ظفر المقامر بالقداح!
و بعده أريد صلاحها " البيت "
لعمر أبيك لا تجدن عهدي ... كعهدك في المودة والسماح
ولو أرسلت تستهدين نفسي ... أتاك بها رسول في سراح
وقال أبو الطيب:
وما ترك الشعر إلاّ إنّه ... تقصر على نفسي وصف الأمير المدائح
قلت: وما أحق أنَّ يتمثل بك بهذا عند ترك الاشتغال بمديح النبي صلى الله عليه وسلم! فإن أكثر الفحول تركوه واشتغلوا بمديح غيره. وما ذلك إلاّ عجزاً: فإن نباهة مكانه صلى الله عليه وسلم، وجلالة جانبه تبهر العقل وتحير الفكر، فلا يستطيع إنَّ يجول فيه، ولو جال لقصر. وقد ذكر أبن الخطيب رحمه الله هذا المعنى في صدر كتاب السحر والشعر له، بعد إنَّ ذكر مقطعات لبعض الأدباء في مدحه صلى الله عليه وسلم، فقال وكما أنَّ الشعر لم يتعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي له لئلا يرتاب المبطلون، وذلك في حقه الكامل، بخلاف غيره، كذلك يبعد أو يمتنع أنَّ وجد قسم السحر في مدحه، إذ أصله الإغياء والمحاكاة والخيال والتمجين، حتى قال: ووقار جانبه صلى الله عليه وسلم يبهر النفس ويمنع من استرسالها في ذلك. فالمجيد فيه من عول على نصاعة اللفظ، وقصد الحق، وقرب المعنى، وإيثار الجد. انتهى. قلت: ومن أسباب ذلك إنَّ المديح إنّما يحسن لاشتماله على المحاسن وأوصاف كمال للممدوح، ويتفطن لها الشاعر دون غيره، ويبالغ فيها أكثر مما يستحق الممدوح ويظن به.
وقد علم في حق النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ كل ما يتخيله الشاعر من المحاسن والكمالات، فالنبي صلى الله عليه وسلم زائد على ذلك وارفع منه إذ لا يبقى فوق كماله صلى الله عليه وسلم إلاّ كمال الألوهية، وليس لأحد أنَّ يثبته له، فلم يبق للشاعر إلاّ إنَّ يبين ما هو عليه أو أنقص، وكلاهما لا طائل فيه، مع أن إتيان قدره صلى الله عليه وسلم نتعذر عادة، إذ لا تصل إليه العقول فليس إلاّ القصور. ولله در القائل:
ما قصر الشعراء فيك تعمدا ... بل دق في أفكارهم معناكا
نعم! يمكن الإتيان بشيء من حلاه صلى الله عليه وسلم وأوصفه على نوع من الغرابة وضرب من المبالغة، بحسب ما يرى الناس من حاله صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضاً:
أيكون الهجان غير هجان؟ ... أيكون الصراح غير صراح؟
جهلوني وإنَّ عمرت قليلاً ... نسبتي لهم رؤوس الرماح
وقال أيضاً:
تخفي العداوة وهي غير خفيةٍ ... نظر العدو بما أسر يبوح
وقال أيضاً:

فقلت لكل حي يوم سوء ... وإنَّ حرص النفوس على الفلاح
وقال أبو العلاء المعري:
وأمراض المواعد أعلمتني ... بأن وراءها سقما صحيحا
وقال:
أعباد المسيح يخاف صحبي ... ونحن عبيد من خلق المسيحا
وقال:
وما للمسك في أنَّ فاح حظ ... ولكن حظنا في أنَّ يفوحا
وقال:
وذلك إنَّ شعرك طال شعري: ... فما نلت النسيب ولا المديحا
ومن لم يستطع علام رضوى ... لينزل بعضها نزل السفوحا
و هذا في معنى ما مر لأبي الطيب: وقال الشاعر:
إذا أبطا رسولك فارج يسرا: ... ففي إبطائه أثر النجاح!
و هذا يشبه قول أبي الطيب:
ومن الخير بطئ سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام
وقال الآخر:
إذا أنت لم تصلح لنفسك لم تجد ... لها أحداً من سائر الناس يصلح
وقال الآخر:
جبينك والعمامة والثنايا ... صباح في صباح في صباحٍ
وقال الآخر:
دع الناس طرا واهجر الناس كلهم ... إذا كنت في أخلاقهم لا تسامح!
وقال الآخر:
صديق بلا عيب قليل وجوده ... وذكر عيوب الأصدقاء قبيح
وقال الآخر:
طلبت بك التكثير قلة ... وقد يخسر الإنسان في طلب الربح
وقال الآخر:
كأنني الجزار في فعله: ... ما قال بسم الله إلاّ ذبح
وقال الآخر:
كن في أمان الله من خاطر: ... مثلك لا يهجى ولا يمدح
وقال الآخر:
ليس عاراً بان يقال مقل: ... إنّما العار أنَّ يقال شحيح
و مثله قول الآخر:
ألم تعلمني يا عمرك الله إنني ... كريم على حين الكرام قليل
وإني لا أخزى إذا قيل مملق ... كريم وأخزى أنَّ يقال بخيل
قول الآخر من شعراء الحماسة:
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غني في العيون جليل
وليس الغنى إلاّ غنى زين الفتى ... عشية يقرى أو غداة ينيل
وقال إحسان بن حنظلة:
تلك ابنة العدوي قالت باطلا ... أزرى بقومك قلة الأموال
أنا لعمرك أبيك يحمد ضيفنا ... ويسود مقترنا على الإقلال
و قول الآخر:
لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مال مع الليل رائح
و قول الآخر:
بكر العواذل بالسواد يلمنني ... جهلا يقلن: ألا ترى ما صنع؟
فأتيت مالك في السفاه، وإنما ... أمر السفاهة ما أمرنك أجمع
وقتود ناجية وضعت بقفرة ... والطير عاشية العوافي وقع
بمهند ذي حليةٍ جردته ... يبرى الأصم من الكعوب ويقطع
لتنوب نائبة فيعلم إنني ... ممن يغر على الثناء فيخدع
إني مقسم ما ملكت فجاعل ... أجراً لآخره ودنيا تنفع
وقول أبي زياد الأعرابي:
له نار تشب على يفاعٍ ... إذا النيران ألبست القناعا
ولم يك أكثر الفتيان مالا ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
و قول الآخر:
وليس بأوسعهم في الغنى ... ولكن معروفة أوسع
وقال الآخر:
وتبا لمن بخلت نفسه ... بشيء يؤول إلى المستراح
أي: المرحاض:وقال الآخر:
وشيئان معدومان في الأرض: درهم ... حلال، وخل في الحقيقة ناصح
وقال الآخر:
ويؤلمني جميل لا أكافا ... عليه كأنه عندي قبيح
وقال الآخر:
هجوت زهيرا ثم أني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح
وقال الآخر:
لا يصحب الإنسان في قبره ... غير التقى والعمل الصالح
وقال الآخر:
وما العيش إلاّ في خمول مع الغنى ... وعافية تغدوا بها وتروح
وقال الآخر:
وما كل حين يصدق المرء ظنه ... ولا كل أصحاب التجارة يربح
وقال معن بن أوس:
رأيت رجالا يكرهون بناتهم ... وفيهن لا تكذب نساء صوالح
وفيهن والأيام يعثرن بالفتى ... عوائد لا يمللنه ونوائح
وقال الآخر:
ولا تفش سري إلاّ إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا!
فإني رأيت غواة الرجال لا يتركون أديما صحيحا
و قيل: وكان أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه يتمثل بهذين البيتين كثيرا، وقيل انهما له. والأديم: الجلد، استعير هنا للعرض، وجعل لام الوشاة سهاما يرما بها الأعراض حتى تهتكها. ومثله قول أبن الخياط:

فلا تعدل إلى الواشين سمعا ... فإنَّ كلام أكثرهم كلام
وإنَّ الود عندهم نفاق ... إذا طاوعتهم والحمد ذام
وأقوال إذا سمعت سهام ... تقصر عن موقعها السهام
فلما نصحوا لمجدك بل مراداً ... لمّا قد ساءني قعودا وقاموا
فليتك تسمع القولين حتى ... تبين في من الحق الخصام!
وقالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية ترثي أخاها وقيل ليلى بنت يزيد بن الصعق ترثي ابنها قيس بن زياد:
لقد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاح
قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البراز وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراح
وأغض من بصري وأعلم إنّه ... قد مات خير فوارس ورماح
وإذا دعت قمرية شجبنا لها ... يوما على فنن دعوت صباحي
و تمثلت بها فاطمة أم السبطين رضي الله عنها يوم وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم. ومعنى: دعوت صباحي أي قلت: وأسوء صباحاه! لعدم ناصري فيه. وفي معنى الأول قول أبي الوفاء يرثي غازي:
أيا تاركي ألقى العدو مسلما ... متى ساءني بالجد قمت ألاعبه
وقال سعد بن قيس:
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح
فالهم بيضات الخدور ... هناك لا النعم المراح
و الضمير في كشفت للحرب في قوله:
يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا
و كشف الساق كناية عن اشتدادها، أخذ من كشف الرجل عن ساقه وتشميره إذا جد في الأمر، كما قيل:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... اشمر حتى ينصف الساق مئزري
و الصارح: الخالص أصله اللبن الذي ذهبت رغوته، كما مر؛ فالهم بيضات الخدور الخ . . فيه وجهان: أحدهما إنّه يقول: أما حينئذ لا نبالي بأموالنا أن تذهب، وإنّما همنا الدفع عن حريمنا؛ والآخر: إنَّ يريد: أنا ظهرنا على العدو ولم نلتفت إلى أموالهم وأخذها، وإنما همنا منهم القتل والسباء وهو أفخر.
وقال أحد بني يشكر:
إلاّ أبلغ بني ذهل رسولا ... وخص إلى سراة بني البطاح
بأنا قد فتلنا بالمعلى ... عتيبة منكم وأبا الجلاح
فإن ترضوا فأنا قد رضينا ... وإنَّ تأبوا فأطراف الرماح
مقومة وبيض مرهفات ... تبين جماجما وبنان راح
وقال الحيض بيض:
ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما ... غدونا على الأسرى فنعفو ونصفح
ويحكى عن بعضهم قال: رأيت الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في المنام، فقلت له: يا أمير المؤمنين، تفتحون مكة وتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يؤثم على ولدك الحسين مآثم؟ فقال لي: أسمعت أبيات الصيفي في هذا، وهو الحيص بيض؟ فقلت: لا. قال: اسمعنا منه! قال: فانتبهت، فلما أصبحت بادرت إلى دار الحيص بيص فأخبرته بالقصة فبكى وحلف بالله ما خرجت من فيه إلى أحد وما نظمها إلاّ في ليلته، فأنشدني: ملكنا فكان العفو منا البيتين.
وقال الحماسي أحد بني الحارث بن كعب:
لنا حمد أرباب المئين ولا يرى ... إلى بيتنا مال مع الليل رائح
وقال مالك بن أسماء، من شعراء الحماسة أيضاً:
وحسبك تهمة ببرئ قومهم ... يضم على أخي سقم جناحا
و قبله:
هجوت الأدعياء فنا صبتني ... معاشر خلتها عربا صحاحا
فقلت لهم وقد نجوت طويلا ... إلى وما أجبت لهم نباحا
أمنهم أنتم فأكف عنكم ... وأدفع عنكم الشتم الصراحا؟
وحسبك " البيت "
والمناصبة: المعاداة. ويقول: إنَّ عاديتموني بسببهم وذهبتم عنهم، فأنتم منهم ولا أهجوكم للؤمكم، وكفى بكم ريبة إنَّ تضموا الجناح على المريبين.
وقال الآخر:
وإني لأغلي لحمها وهي حية ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح
بذا فآندبيني فإنني ... فتى تعتريني هزة حين امدح
و تقدم هذا الشعر وما كان بمعناه.
وقال الآخر:
ونصر الفتى في الحرب أعداء قومه ... على قومة للمرء ذي الطعم فاضح
وقبله:
دعاني أبو نصر وأهدى نصيحة ... إلي ومما أنَّ تعز النصائح
لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي ... دعا القاسطي حتفه وهو نازح

أو البرجمي حين أهداه حينه ... لنار عليها موقدان وذابح
ورأي أبي سعد وإنَّ كان حازما ... بصير وإنَّ ضاقت عليه المسارح
أعان به ملعون نبهان سيفه ... على قومه والقول عاق وجارح
ونصر الفتى في الحرب " البيت "
وقوله: لأجزر لحمي أي: أصير نفسي جزرة، والجزرة البدنة تنحر. قال: عنترة:
إنَّ يعفرا مهري فإنَّ أباهما ... جزر لخامعة ونسر قشعم
و القاسطي الذي ذكره هو أحد القارضين الهالكين، وسيأتي فيهما المثل؛ والبرجمي هو وافد البراجم المتقدم؛ وقوله: للمرء ذي العقل والمعرفة. وقال الحماسي أشجع السلمي:
مضى أبن سعيد حين لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلاّ له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح
فاصبح في لحد من الأرض ميتا ... وكان به حيا تضيق الصحاصح
فما أنا من رزء، وإنَّ جل، جازع ... ولا بسرور بعد موتك فارح
كأن لم يمت حي سواك ولم تقم ... على أحد إلاّ عليك النوائح!
وقال أبن المعتز:
كما يخلق الثوب الجديد ابتذاله ... كذا يخلق المرء العيون الطوامح
و من هذا قولهم: طول المجالسة يخلق: وقد قال أزدشير لأبنه: لا تمكن الناس من نفسك: فإن أجرا الناس على الأسود أكثرهم لها معاينة! وقال أبو بكر بن النطاحي في المدح:
يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنى يوجه وقاح
هكذا هكذا، المعالي: ... طرق الجد غير طرق المازح!
و البيت الثاني ذهب مثلا سائرا. وقال مجد الدين الاربلي:
طرفي وقلبي: ذا يسيل دما، وذا ... بين الورى أنت العليم بقرحه
وهما بحبك شاهدان وإنّما ... تعديل كل منهما في جرحه
و نحو هذا من التوجيه قول الآخر:
زرت الإمام الشافعي ولم أكن ... يوما زيارة قبره بالتارك
فوجدت مولاي الحبيب يزوره ... فظفرت عند الشافعي بمالك
و قول الآخر:
وعاطيته علم البديع وخده ... يعلمني تلوينه علم جابر
وصفحت من شوقي مدونة الرضى ... لثغر فأفتاني بنص الجواهر
و قول الآخر:
لا غزو إنَّ يصلي الفؤاد ببعدكم ... نارا تؤججها يد التذكار:
قلبي إذا غبتم يصور شخصكم ... فيه وكل مصور في النار!
وقال الآخر في هذا المعنى:
إلاّ إنَّ حالي في هواك خفيفة ... ولكن لعيني بالصبابة تبريح
عجبت لدمع لا يزال مرويا ... فيقبل في آثاره وهو مطروح
وأعجب من ذا أن خدي شاهد ... يصادق في أقواله وهو مجروح
وقال أيضاً:
ومحكم اللحطات في مهج الورى ... تحكيم نار هواه بين جوانحي
جريح الفؤاد فطار من ولع به ... فكيف الخلاص لطائر من جارح؟
ومثله أيضا قوله:
أحادثه بالفكر فهو منادمي ... على الدهر لا أبغي عليه بديلا
تملك قلبي فهو رهن اعتقاله ... فمن شاء يبصر مالكا وعقيلا
وتقدم لنا هذا المعنى في حرف الثاء، مستوفى، وسنعيد منه كثيرا.
وقال القاضي أبو الفضل عايض رحمه الله:
انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ماست أمام الرياح
كتبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان فيها جراح
و مثله قوا الآخر:
فتح الشقائق جرحها ومغنمها ... وشيء الربيع، وقلاها من الثمر
لأجل هذا إذا هبت طلائعه ... تدرع النهر واهتزت قنا الشجر
و نحو هذا من حسن التعليل في هذا المعنى قولي:
إنَّ بين الغمام والزهر الغض ... لرحما قديمة وإخاء
بان إلف عن إلفه فتوارى ... في الثرى ذا وذاك حل السماء
فإذا ما لغمام زارت جانبا ... أذنت فيه بالحبيب اللقاء
ذكرت عهده القديم فحنت ... عند لقياه فاستهلت بكاء
فترى الزهر بارزا من خباياه ... يحيى الوفود والأصدقاء
بادي البشر والبشاشة جذلا ... ن لبوسا من كل لون رداء
ثملا من شموس شمس الضحى ... وهو على بسط سندس خضراء
راقصات والصبا تهنيه والو ... رق غواني القيان تشدو غناء
و ما رأيت أحدا ولا أظنه سيبقي إلى هذا المعنى، ولا تصريحا ولا تلويحا.
وقال الحسن بن هانئ:

مازلت أشرب روح الزق في لطفٍ ... وأستميح دما من غير مجروح
حتى أغديت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح
وقال أيضاً في هذا المعنى:
أذكى السراج وساقي القوم يمزجها ... فلاح في البيت كالمصباح مصباح
كدنا على علمنا للشك نسأله: ... أراحنا نارنا أم نارنا الراح؟
و سيأتي هذا المعنى مستوف في بعد. وقال أبن الخياط في صفحة الحساب:
أخفى مسالكها الظلام فأوقدت من برقها كي تهدي مصباحا
وكان صوت الرعد خلف سحابها ... حادٍ إذا ونت الركائب صاحا
و تقدم هذا المعنى في حرف الهمزة. وقال عبد الله بن المعتز:
كأن سماءنا لمّا تجلت ... خلال نجومها عند الصباح
رياض بنفسج خضل ثراه ... تفتح بينه نور الأقاح
وقال أبن الزقاق:
فبت وقد زارت بأنعم ليلة ... تعانقني حتى الصباح صباح
على عاتقي من ساعديها حمائل ... وفي خصرها من ساعدي وشاح
وقال إدريس بن اليماني:
ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
حفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح
وقال الآخر في وصف الروض:
ورياض من الشقائق أضحت ... تتهادى بها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تفوق لون الراح
قلت: ما ذنبها؟ فقال مجيبا: ... سرقت حمرة الخدود الملاح!
وقال الآخر في زورق:
لو أبصرت عيناك زورق فتيةٍ ... بيدي لهم لمح السرور مراحة
وقد استداروا تحت ظل شراعه ... كل يمد بكأس راح راحه
لحسبته خوف العواصف طائرا ... مد الحنان على بنيه جناحه
وقال أبن الرومي:
قالت: علا الناس إلاّ أنت قلت لها: ... كذاك يسفل في الميزان مارجحا
وقال أبو إسحاق بن الحاج:
يا مالكي بصبيح وجهٍ حسنه ... أربى على فلق الصباح الأوضح
ما شك قلبي فيك أنك مالك ... لمّا عرفت وسامة بالإصباحِ
وقال سيف الدولة:
لا أواخذك بالجفاء فإني ... واثقٌ منك بالوفاء الصريحِ
فجميل العدو غير جميلٍ ... وقبيح الصديق غير قبيحي!
وقال مهيار:
اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا
وارحموا صبا إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا
وقال شرف الدين الحموي شيخ الشيوخ:
حديثي في المحبة ليس يبرح: ... فدعني من حديث اللوم واسرح
فما لك مطمع ببراح قلبي ... عن الحب الذي أعيا وبرح
فكم من لائم ألحى إلى أن ... تأمل من هويت فما تنحنح
فيا لله ما أشهى وأبهى ... ويا لله ما أحلى وأملح!
له طرفٌ يقول: الحرب أحرى ... ولي قلبٌ يقول: الصلح أصلح
سألت سواره المثري فنادى ... فقير وشاحه: الله يفتح
وماس من القوام بغصن بان ... إذا أنشدت أغزالي ترنح
وحياني بألحاظٍ مراضٍ ... صحيحاتٍ فأمرضني وصحح
أعاتبه فلا يصغي لعتبي ... ولا أسلو فأتركه وأربح
وقال عبد المحسن الصوري:
وأخٍ مسه نزولي بقرحٍ ... مثل ما مسني من الجوع قرحُ
بت ضيفاً له كما حكم الد ... هر وفي حكمه على الحر قبحُ
فابتداني يقول وهو من السكر ... ة بالهم طافحٌ ليس يصحو:
لم تغربت؟ قلت: قال رسول ... الله والقول منه نصح ونجح:
سافروا تغنموا. فقال: وقد قال ... تمام الحديث: صوموا تصحوا!
وقال أبن الوردي:
قد عجبنا لأميرٍ ... ظلم الناس وسبح
فهو كالجزار فيهم ... يذكر الله ويذبح
وقال شهاب الدين الخفاجي وهو من باب التورية اللطيفة:
وصفت خصره الذي ... أخفاه ردف راجحُ
قالوا: وصف جبينه ... فقالت: ذاك واضح!
وقال أيضاً وفيه نحو ما في الذي قبله من التورية:
لله أيام الصبا والهوى ... لله أيام النجا والنجاح!
ذاك زمان مر حلو الجنى ... ظفرت منه بحبيب وراح
وقال أبو محمد الحريري:
لزمان السفار وجبت القفار ... وعفت النفار لأجنبي الفرح
وخصت السيول ورضت الخيول ... لجر ذيول الصبا والمرح
ومطت الوقار وبعت العقار ... لحسو العقار ورشف القدح

ولولا الطماح إلى شرب راح ... لمّا كان باح فميبالملح
ولا كان ساق دهئي الرفاق ... لأرض العراق بحملي السبح
فلا تغضبن ولا تصخبن ... ولا تعتبن فعذري وضح
ولا تعجبن لشيخ أبن ... بمغنى أغن ودن طفح:
فإنَّ المدام تقوي العظام ... وتشفي السقام وتنفي الترح
وأصفى السرور إذا ما الوقور ... أماط ستور الحيا وأطرح
وأحلى الغرام إذا المستهام ... أزال اكتتام الهوى وافتضح
فبح بهواك وبرد حشاك ... فزند أساك به قد قدح
وداوي الكلوم وسل الهموم ... ببنت الكروم التي تقترح
وخص العبوق بساق ... بلاء المشوق إذا ما طمح
وشاد يشيد بصوت تميد ... جبال الحديد له إن صدح
وعاص النصح الذي لا يبيح ... وصال المليح إذا ما سمح
وجل في المحال ولو بالمحال ... وجع ما يقال وخذ ما صلح
وفارق أباك إذا ما أباك ... ومد الشباك وصد من سنح
وصاف الخليل وناف البخيل ... وأول الجميل ووال المنح
ولذلك بالمتاب أمام الذهاب ... فمن دق باب كريم فتح
وقال أيضاً:
نهاني الشيب عما فيه أفراحي ... فكيف أجمع بين الراح والراحِ؟
وهل يجوز اصطباحٌ من معتقةٍ ... وقد أنار مشيب الرأس إصباحي
أنَّ ليت لا خامرتني الخمر ما علقت ... روحي بجسمي وألفاظي بإفصاحي
ولا اكتست لي بكاسات السلاف يدٌ ... ولا أجلت قداحي بين أقداح
ولا صرفت إلى صرفٍ مشعشعة ... همي ولا رحت مرتاحا إلى راح
ولا نظمت على مشمولة أبداً ... شملي ولا اخترت ندماناً سوى الصاحي
محا المشيب مراحي حين خط على ... رأسي: فأبغض به من كتاب ماح!
ولاح يلحى على جري العنان إلى ... ملهى: فسحقاً له من لائح لاح!
ولو لهوت وفودي شائب لخفى ... بين المصابيح من غسان مصباحي
قومٌ سجاياهم توقير ضيفهم ... والشيب ضيفٌ له التوقير يا صاح!
وقال أيضاً:
أعدد لحسادك حدّثني السلاح ... وأورد الأمل ورد السماح
وصارم اللهو ووصل المهى ... وأعمل الكوم وسمر الرماح
واسع لإدراك محل سما ... عماده لا لادراع المراح
والله ما السؤدد حسنو الطلا ... ولا مراد الحمد رؤد رداح
واها لحر صده واسع ... وهمه ما سر أهل الصلاح
مورده حلو لسؤاله ... وماله ما سألوه مطاح
ما اسمع للآمل ؤداً ولا ما طله والمطل لؤم صراح
ولا أطاع اللهو لمّا دعا ... ولا كسا راحا له كأس راح
سوده إصلاحه سرة ... وردعه أهواءه والطماح
وحصل المدح له علمه ... ما مهر الحور مهور الملاح
وقال عوف بن محلم:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ ... وغصنك ميادٌ ففيم تنوحُ؟
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيحُ
ولوعاً فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد جريحُ
و زعموا إنّه خرج مع عبد الله بن طاهر في بعض غزواته فسمع عبد الله يوما وهما يتسايران صوت حمامة فأنشد أبيات عوف ثم التفت إلى عوف وقال له: هل حضرك شيء في هذا المعنى وهذه القافية؟ فقال عوف:
أفي كل عامٍ غربةٌ ونزوح؟ ... أما للنوى من ونيةٍ فتروحُ؟
لقد ظلم البين القذوف ركائبي: ... فهل أرين البين وهو طليحُ؟
وأرقني بالري نوح حمامةٍ ... فنحت وذو الشوق الغريب ينوحُ
على أنها ناحت ولم تدر عبرةً ... ونحت وأسراب الدموع سفوحُ
وناحت جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتلقى عصا التسيار وهي طريحُ
فإنَّ الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الغنى بالقترين نزوحُ
فرق له عبد الله وصرفه إلى أهله بعطاء جزيل وقال: يصلك عطاؤك كل سنة لموضعك.
وللشعراء قديما وحديثا الإكثار من ذكر الحمام والفواخت والورشان في أشعارهم واستحسان أصواتها. فمن مستحسن ما للأولين في ذلك قول الشاعر:
سيغنيك عن مزمار آل مخارق ... وبربطهم تغريد تلك الحمائمِ
بأيكة ناظر تجاوبن بالضحى ... على شاهقات آفلاتٍ نواعمِ
قول الآخر:

أحن إلى حوائط ذات عرقٍ ... لتغريد الفواخت والحمامِ
ألم بها بكل فتى كريمٍ ... من الفتيان مخلوع الزمامِ
إذا غنت على الأغصان ورقٌ ... أجبناها بإعمال المدامِ
و قول أبي صخر:
ولمّا دعت غورية الأيك سجعت ... فسجع دموعي يستهل ويستشري
يذكرني شجي دعاء حمامةٍ ... ويبعث لوعات الصبابة في صدري
بكت حزناً رزء الهديل وشفني ... فراق حبيب ضاق عن فقده صبري
و قول الآخر:
أيها البلبل المغرد في النخ ... ليس غريبا من أهله حيرانا
أفراقا تشكوه أم ظلت تعو ... فوق أفنان نخلك الورشانا؟
هاج لي شجوك المغرد شجواً ... رب صوتٍ يهيج الأحزانا
و قول حميد بن ثور:
وما هاج هذا الصوت إلاّ حمامةٌ ... دعت ساق حر ترحةً وترنما
محلاة طوقٍ لم يكن بتميمةٍ ... ولا ضرب صواغٍ بكفيه درهما
تغنت على غصنٍ عشاءً فلم تدع ... لنائحةٍ في نوحها متلوما
إذا حركته الريح أو مال ميلةً ... تغنت عليه مائلاً ومقوما
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بمنطقها فما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً شاقه صوت أعجما!
و قول الآخر:
ومن بستان إبراهيم حنت ... حمائم بينها فننٌ رطيبُ
و قول عدي بن الرقاع:
ومما شجاني أنني كنت نائماً ... أعلل من برد الكرى بالتنسمِ
إلى أن دعوت ورقاء في غصن أيكةٍ ... تردد مبكاها بحسن الترنمِ
فلو قيل مبكاها بكيت صبابةً ... بسعي شفيت النفس قبل التندمِ
ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت: الفضل للمتقدمِ
وقال المجنون:
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الاباطحِ
تجافيت عني حين لا لي حيلةٌ ... وخلفت ما خلفت بين الجوانحِ
و زعموا أنَّ رجلا دخل بني عامر يسأل عن المجنون فقيل له إنّه في هذه لبصحراء قد استوحش وإنّه إذا رآك نفر منك؛ ولكن إذا رأيته فاجلس كأنك لا تقصده فانه يجلس إليك. فإذا جلس إليك فإن كان عندك شيء من شعرا بن ذريح فاذكره فانه يصغي إليك. قال: ففعلت ذلك. فلما جلس إلي قالت: ما أشعر قيس بن ذريح حيث يقول:
وإني لمفنٍ دمع عيني بالبكا ... حذاراً لمّا قد كان أو هو كائنُ
وقالوا: غداً أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراق حبيبٍ بان أو هو بائنُ
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفي إلاّ الله تعالى ما حان حائنُ
قال: فبكى طويلا ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:
أبى القلب إلاّ حبها عامريةً ... لها كنيةً عمرو وليس لها عمرُ
تكاد يدي تندى إذا لمستها ... وينبت في أطرافها الورق الخضرُ
عجبت لسعي الهر بيني وبينها ... فلما انقضى ما بيننا سكن الهرُ
ثم أوغل في الصحراء وتركني فانصرفت. فلما كان الغد رجعت فقلت: ما أشعر قيسا حيث يقول:
يبيت ويضحى كل يومٍ وليلةٍ ... على منهج تبكي عليه القبائلُ
قتيلٌ للبنى صدع الحب قلبه ... وفي الحب شغلٌ للمحبين شاغلُ
فبكى أيضاً طويلا ثم قال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... معرقةً تضحى لديك وتخصرُ
وأخيلتها من مخها فكأنها ... قوارير في أجوافها الريح تصفرُ
إذا سمعت ذكر الفراق تقطعت ... علائقها مما تخاف وتحذرُ
ثم قام هاربا وتركني. فانصرفت ثم عدت في الغد فقلت: ما أشعر قيسا حيث يقول:
هبوني امرءاً إن تحسنوا فهو شكرٌ ... لذاك وإن لم تحسنوا فهو صافحُ
فأن يك قومٌ قد أساؤوا بهجرنا ... فإنَّ الذي بيني وبينك صالحُ
فبكى أيضاً طويلا ثم قال: أما والله أشعر منه حيث أقول: وأدنيني حتى إذا ما سبيتني " البيتين " . ثم فر عني وانصرف. وعدت من الغد فلم أجده فأخبرت قومه فانطلقوا يطلبونه فوجدوه بعد يومين ميتا في شعراء بين حجرين.
قلت: وفي البيتين المذكورين قال جرير لمّا أنشده إياها بعض أصحابه وهما متوجهان إلى الشام: لو كان النخير يصلح لنخرت حتى يسمعني هشام على سريره من هاهنا! وقال أبن الدمينة:
إلاّ يا حمى وادي المياه قتلتني ... أباحك لي قبل الممات مبيحي

ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروحِ
أبى الناس ريب الناس لا يشترونها ... ومن ذا الذي يشتري دوى بصحيحِ؟
و الدوى: المريض الشديد المرض والمرض الشديد أيضاً والأحمق.
وينشد هذا الشعلا أيضاً على إسقاط البيت الأول وزيادة آخر وهو:
أئن من الشوق الذي في جوانحي ... أنين غصيص بالشراب جريحِ
و يحكى عن إبراهيم الموصلي المغني المشهور أنه قال: سألت الرشيد أن يهب لي يوما أخلو فيه بنفسي وكان أمره أن لا يتغيب عنه يوما أصلا قال: فقال لي إني أستثقل يوم السبت فآله فيه بما شئت! قال: فأعددت يوما شرابا وأطعمة منتخبة وأصبحت عازما على أن لا آذن لأحد. فأمرت البواب بإغلاق الأبواب وجلست وحولي جواري والخدم يترددون بين يدي فإذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال حسن الثياب بيده عكازة مقمعة بفضة وقد سطع منه ريح المسك حتى ملأ البيت. قال: فامتلأت غيظا على البوابو عزمت على غقوبته. فسلم علي الشيخ بأحسن السلام فرددت عليه وأمرته بالجلوس. فجلس فأخذ في أحاديث العرب وذكر أيامها وأشعارها حتى أذهب ما بقلبي. وقلت: لعل البواب عرف أدبه فأراد مسرتي به فقلت له: هل لك في الطعام؟ فأبى. فقلت: هل لك في الشراب؟ فقال: ما أكرهه. فشربت وسقيته فقال: يا أبا إسحاق وهل لك أن تغني لنا من صنعك؟ فقد نبغت فيها عند الخاص والعام وأحسن فيها ما استطعت حتى نكافئك بمثلها! فأخذت العود وغنيته أصواتا حسانا في كلها يقول: أحسنت يا سيدي! ويطرب ويستزيدني. ثم وضعت العود فقال: أتأذن لعبدك في الغناء؟ فاستصعبت لكني أذنت له. فلما أخذ العود وجسه خلته والله ينطق بلسان عربي. ثم اندفع يغني:
ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني
إلى آخر الأبيات الثلاثة المتقدمه. فو الله لقد ظننت أنَّ الحيطان والأبواب وكل ما في البيت يغني معه حتى خلت عظامي وثيابي تجاوبه وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام لمّا خالط قلبي. ثم غنى:
ألا يا حمامات اللوى عدن عودة ... فأني إلى أصواتكن حزينُ
فعدن فلما عدن كدن يمتنني ... وكدت بأسراري لهن أبينُ
دعون بترديد الهدير كأنما ... شربن الحميا أو بهن جنونُ
فلم تر عيني مثلهن حمائما ... بكين ولم تدمع لهن عيونُ
فكاد والله عقلي يذهب طربا وارتياحا لمّا سمعت. ثم غنى:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجد. ... فقد زادني مسراك وجدا على وجدِ
لقد زعموا أنَّ المحب إذا دنا ... يمل وأنَّ النأي يشفي من المجدِ
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أنَّ قرب الدار خيرٌ من البعدِ
على أنَّ قرب الدار ليس بنافعٍ ... إذا كان من تهواه ليس بذي ودِ
ثم قال: يا إبراهيم هذا الشعر الماخوري فانح نحوه في غنائك وعلمه جواريك! فقلت: أعده علي! فقال: لست تحتاج إلى إعادته. فغاب عن بصري فارتعت وقمت إلى السيف فجردته وعدوت نحو الباب فوجدته مغلقا. فسألت البواب عن الشيخ فقال: والله ما دخل علي اليوم أحد! فرجعت متحيرا فإذا هو هتف بي من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك أبا إسحاق! فقال هو إبليس اخترت مندمتك اليوم فلا ترع! فال إبراهيم: فركبت من فوري إلى الرشيد وقلت: لا أطرفه بطرفة أحسن من هذه! فلما دخلت حدثته الحديث فقال: ويحك غن لي ما غناك! فأخذت العود وغنيته إياها كأنها من محفوظاتي. فطرب الرشيد وجلس للشرب ولم يكن عزم عليه وأمر لي بصلة وقال: الشيخ كان أعلم حيث قال إنك أخذتها. فليته متعنا بنفسه يوما كما أمتعك! انتهى. قوله الماخوري: هو نسبة إلى الماخور وهو بيت الريبة معرب. وقيل إنّه عربي من مخرت السفينة الماء لتردد الناس إليه. وقال أبن عبد المنان:
صبحته عند المساء فقال لي: ... ماذا الصباح وظن ذاك مزاحا
فأجبته: إشراق وجهك غرني ... حتى توهمت المساء صباحا
و سبب قوله هذا الشعر إنّه دخل وهو ثمل على السلطان أحمد المريني عشية فصبحه. فنظر السلطان إليه نظر منكر، وقال له:أي وقت هذا؟ وأي معنى للصباح فيه؟ فأفاق من سكره وانشد ما مر ارتجالا، وهذه بديهة لا بأس بها.

ومثله ما يحكى إنّه وقع ليحيى بن أكثم، وكان الأمين بن الرشيد شرب يوما مع عبد الله بن ظاهر، ومعهما يحيى. فتغامزا عليه، وأمر الساقي فأكثر له حتى أسكره. وكان بين أيديهم ردم من رياحين. فأمر يحيى فدفن فيه، وأمر قينة أنَّ تغني عند رأسه بيتين علمهما. فغنت:
ناديته وهو ميت لا حراك به ... مكفن في ثياب من رياحين
فقلت: قم؟ قال: رجلي لا تطاوعني ... وقلت: خذ! قال: كفي لا تواتيني
فأنتبه يحيى لصوت العود وصوت الجارية، فأخذ العود منها وغنى:
يا سيدي وأمير الناس كلهم ... قد جار في حكمه من كان يسقيني
إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما رأيت سليب العقل والدين
لا أستطيع نهوضا قد وهى بدني ... ولا أجيب لداع حين يدعوني!
وقال أبو الفتح البستي:
أفد طبعك المكدود بالجد راحة ... يجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ... بقدر الذي يعطى الطعام من الملح
وقال آخر في معناه:
ممازحة الصديق تزيد ودا ... إذا كانت تضاف إلى الملاحه
فمازح من تحب وتصطفيه ... فمزحك مع صديق في راحه
وقال الآخر في المدح:
إذا نزل الضيف ليلا بهم ... رأى أوجها لاح منها الصباح
كرام الوجوه لمن أمهم ... وعند وجوه الكرام السماح
و هذا من العكس، وهو عند أهل البديع قسمان: تعاكس الكلم وتعاكس الحروف.
فمن الأول في النثر قولهم: عادات السادات سادات العادات: وقولهم عقول الملوك ملوك العقول؛ وكلام الملوك ملوك الكلام؛ وفول بعضهم، وقد قيل له لا خير في السرف، لا سرف في الخير، ونحو هذا. وفي الشعر ما مر وقول صاحب الحلية:
خير الليالي ليالي الخير في إضمٍ ... والقوم قد بلغوا أقصى مرادهم
و قول أبي الطيب:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
و قول أبن جابر:
عطفت قدها النضير فقالت: ... هل رأيتم لحسن هذا نظيرا؟
بذلت للمحب يوم وصالٍ ... فرأينا وصال يوم كثيرا
و نحوه وهو كثير.
ومن التالي في النثر كقوله تعالى: ) كل في فلك( وقوله تعالى: ) وربك فكبر( وقول العماد الاصبهاني للقاضي الفاضل: سر، فلا كبا بك الفرس! وقول بعضهم:
سرو حماة بربها محروس؛ وقولك أرض خضراء ورمح أحمر، ونحو ذلك وهو كثير.
ومن الشعر قول الشاعر:
مودته تدوم لكل هول ... وهل كل مودته تدوم؟
و من النوع الأول قولي في أبيات:
نتائج أبناء كرام غطارفٍ ... كرام بنين ماجدين كبار
و قول الآخر:
إذا المرء لم يمدح بحسن فعاله ... فمادحه يهذي وإنَّ كان يفصح
و قول الآخر في معناه:
وما شرف أنَّ يمدح المرء نفسه ... ولكن أعمالاً تذم وتمدح
و قول الآخر يروي لأبن الفارض، رضي الله عنه:
خليلي إنَّ زرتما منزلي ... ولم ترياه فسيحا فسيحا،
وإنَّ رمتا منطقي من فمي ... ولم ترياه فصيحا فصيحا،
و قول أبي بكر بن عمار في الاستعطاف:
سجاياك إنَّ عافيت واسمح ... وعذرك إنَّ عاقبت أجلى وأوضح
وإنَّ كان بين الخطيتين مزية ... فأنت إلى الأدنى من الله أجنح
وقال أبو عيسى بن لبون في النسيب:
سقى أرضا نووها كل مزن ... وسايرهم سرور وارتياح
فما ألوى بهم ملل ولكن ... صروف الدهر والقدر المتاح
سأبكي بعدهم حزنا عليهم ... بدمع في أعنته جماح
وقال أيضاً:
يا رب ليل شربنا فيه صافية ... حمراء في لونها تنفي التباريحا
ترى الفراش على الأكواس ساقطة ... كأنها أبصرت منها مصابيحا
وقال أبو محمّد بن عبدون:
سقاها الحيا من مغان فساح ... فكم لي بها من معان فصاح؟
وحلى أكاليل تلك الربى ... ووشى معاطف تلك البطاح
فما أنس لا أنس عهدي بها ... وجري فيها ذيول المراح
ونومي على حبرات الرياض ... يجاذب بردي مر الرياح
ولم أعط أمرا النهى طاعة ... ولم أصغ سمعا إلى لحي لاح
وليل كراجعة طرف المريب ... لم أدرله شفقا من صباح
و قلت أنا:
أم والمهيمن إنني من بعدكم ... لكطائر قد قُدَّ منه جناح

أوديتم بمحبكم من بعدكم ... أو ليس على المضر جناح؟
قد كان فيهم أعصرا بوصالهم ... قد طبن روح للنفوس وراح
فكأنني صبرا سقيت فكيف لي ... صبر وقد زموا المطي وراحوا؟
و قلت أيضاً:
نقل النسيم عن الأراك محدثا ... عن ثغر سلمى الأشنب الوضاح
وحديثه المروي إنَّ رضابه ... عسل ومسك شوبا بالراح
صدقا أحاديث الصحيح قد اعتلت ... عن ريبة تعزى لها من لاح
وقال بعض السادات الصوفية رضي الله عنهم:
قد كنت أحسب إنَّ وصلك يشترى ... بنفائس الأموال والأرواح
حتى رأيتك تجتبي وتخص من ... تختاره بنفائس الأرباح
فعلمت انك لا تزال بحيلة ... ولويت رأسي تحت طي جناح
وجعلت في عشق الغرام إقامتي ... أبدا وفيه تحويلي ورواحي
وقال الآخر:
أبداً نحن إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى كمال جمالكم ترتاح
وارحمة للعاشقين تحملوا ... ألم المحبة والهوى فضاح
بالسير إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح
وقال الآخر:
راحوا فبانت راحتي ... صفرا وأضحى حبهم لي راحا
فتحوا على القلب الغموم وأغلقوا ... باب السرور وضيعوا المفتاحا
وقال بشار:
خليلي ما بال الدجى لا تزحزح ... وما لعمود الصباح لا يتوضح؟
أضل النهار المستنير طريقه؟ ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح؟
وطال علي الليل حتى كأنه ... بليلين موصول فما يتزحزح
و اعلم إنَّ الشعراء في الليل قديما وحديثا مقصدين مختلفين لباعثين متباينين: فتارة يستطيلونه ويستبطئون الإصباح وذلك لأجل الاختناق بتباريح الأشواق عند احتساء كأس الفراق المر المذاق وتارة يستقصرونه ويودون أن لو دام وذلك عند اجتناء ثمرات الوصال والاشتغال بلذات الإقبال. فمن الأول قول مهلهل:
أليلتنا بذي حسم أنبري ... إذا أنت أنقضيت فلا تحوري
و لم يحضرني لمن قبله شيء في هذا الباب. وقول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطا بجوزه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
إلاّ أيّها الليل الطويل إلاّ أنجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
و قوله أيضاً:
أعني على التهمام والذكرات ... يبتن على ذي الهم معتكرات
بليل التمام أو وصلن بمثله ... مقياسة أيامها نكرات
و هو أوّل من أبدع في هذا الباب فيما علمنا. وقول النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طورا وطورا تراجع
و قوله أيضاً:
كليني لهم يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنص ... وليس الذي يرعى النجوم بآءب
وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف في الحزن من كل جانب
و قوله أيضاً:
كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا ... وهمين هما مستكنا وظاهرا
أحاديث نفس تشتكي ما يربها ... وورد هموم لن يجدن مصادرا
و قوله أيضاً:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي أهتم منها وأنصب
فبت كأن العائدات فرشنني ... هراسا به يعلى فراشي ويقشب
و قول جندح:
في ليل صول تناهى العرض والطول ... كأنما ليله بالليل موصل
لا فارق الصبح كفي إن ظفرت به ... وإن بدت غرة منه وتحجيل
لساهر طال في صول تململه ... كأنه حية بالسوط مفتول
حتى أرى الصبح قد لاحت مخائله ... والليل قد مزقت عنه السراويل
ليل تحير ما ينطح في جهة ... كأنه فوق متن الأرض مشكول
نجومه ركد ليست بزائلة ... كأنما هن في الجو القناديل
ما أقدر الله أن يدنى على شحط ... من داره الحزن ممن داره صول

الله يطوي بساط الأرض بينهما ... حتى يرى الربع منه وهو مأهول
و قول الحصري:
يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده؟
و قول الآخر:
إلاّ هل على الليل الطويل معين ... إذا نزحت دار وحن حزين؟
أكابد هذا الليل حتى كأنما ... على نجمه إلاّ يغور يمين
وتالله ما فارقتكم قاليا لكم ... ولكن ما يقضي فسوف يكون
و قول الآخر:
ما لنجوم الليل لا تغرب ... كأنها من خلفها تجذب؟
روادك ما غار في غربها ... ولا بدا من شرقها كوكب
و قول العباس بن الأحنف:
أيّها الراقدون حولي أعينوني ... على الليل حسبه وآئتجارا
حدثوني عن النهار حديثا ... أوصفوه فقد نسيت النهارا
وقال السويد بن أبي كاهل:
وإذا ما قلت ليل قد مضى ... عطف الأول منه فرجع
يسحب الليل نجوما ظلعا ... فتواليها بطيآت التبع
ويزجيها على إبطائها ... مغرب اللون إذا الليل انقشع
و قول أبن الرومي:
رب ليل كأنه الدهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد
ذي نجوم كأنهن نجوم الشيب ... ليست لكن تزيد
و قول سعيد بن حميد:
يا ليل بل يا أبد ... أنام عندك غد؟
يا ليل لو تلقى الذي ... ألقى بها أو تجد
قصر من طولك أو ... ضعف منك الجلد
أشكو إلى ظالمة ... تشكو الذي لا تجد
وقف عندها ناظري ... وقف عنها السهد
و قول الآخر:
يخيل إلي إنَّ الشهب في الدجى ... وشدت بأهداب إليهن أجفان
و قول الآخر:
رب ليل أمد من نفس العاشق ... طولا قطعته بآنتحاب
وحديث ألذ ممن نظر الوامق ... بدلته بسوء العتاب
و قول أبن شهيد:
وبتنا نراعي الليل لم يطو برده ... ولم يجن شيب الصبح في فزعه وخطا
تراه كملك الزنج من فرط كبره ... إذا رام مشيا في تبختره أبطا
مطلا على الآفاق تاجه ... وقد علق الجوزاء من أذنه قرطا
وقال بعضهم: كان علي بن الجهم يستنشدني شعر خالد الكاتب فأنشده فيقول: ما صنع شيئاً حتى أنشدته يوما له:
رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر
ولم تدر بعد ذهاب الرقاد ... ما صنع الدمع من ناظري
فقال: قاتله الله لقد أدمن الرمي حتى أصاب الغرة.
ومن الاعتبار الثاني قول الأعرابي:
وليل لم يقصره رقاد ... وقصر طوله وصل الحبيب
و قول أبن المستوفي:
حسد الليل الصباح لمّا ضمنا ... غيظا ففرق بيننا داعيه
و قول الآخر:
رأيت في المنام أقل بخلا ... وأطوع منك في غير المنام
فليت الصبح زال فلا نراه ... وليت الليل يبقى ألف عام
ولو إنَّ النعاس يباع حينا ... لأغليت التعاس على النيام
و قول القاضي الفاضل وهو السحر حقا:
بتنا جميعا كيف شاء الهوى ... وربما لا يمكن الشرح
بوابنا الليل وقلنا له: ... إن غبت عنا دخل الصبح
و قول أبن الصمد بن المعذل:
أقول وجنح الدجى ملبد ... ولليل في كل فج يدُ
ونحن ضجيعان في مسجدٍ ... فلله ما ضمنا المسجدُ:
قيا ليلة الوصل لا تبعدي ... كما ليلة الهجر لا تنفدُ
ويا غد إن كنت لي راحما ... فلا تدن من ليلتي يا غدُ!
و قول الآخر:
شباب المرء ثوبٌ مستعار ... وأيام الصبا أبداً قصارُ
و لأجل الاعتبالرين كان قول الأعرابي:
تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الغضا ليلي علي يطولُ
و قول أبي الوليد بن زيدون:
أجل إنَّ ليلي فوق شاطئ بيطة ... لأقصر من ليلي بآنة فالبطحا
و قول عمر بن أبي ربيعة:
فيالك من ليلٍ تقاصر طوله ... وما كان ليلي قبل ذلك يقصرُ
و من الثاني أيضاً قال الآخر:
لله أيام الشباب وعصره ... لو يستعار جديده فيعارُ
ما كان أقصر ليله ونهاره ... وكذاك أيام السرور قصارُ!
و قول أبي بكر بن دريد:
يا رب يومٍ جمعت قطريه لي ... بنت ثمانين عروساً تجتلى
و قد شرح الاعتبارين الوليد بن يزيد في قوله:
لا أسأل الله تغييراً لمّا فعلت ... نامت وقد أسهرت عيني عيناها

فالليل أطول شيء حين أفقدها ... والليل أقصر شيء حين ألقاها
و الآخر في قوله:
أخو الهوى يستطيل الليل من أرقٍ ... والليل في طوله جارٍ على قدر
ليل الهوى سنةٌ في الهجر مدته ... لكنه سِنةٌ في الوصل من قصر
والآخر في قوله:
ليلي وليلى سواءٌ في اختلافهما ... قد صيراني جميعاً في الهوى مثلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
و قول جميل:
وقالوا: لا يضرك نأي شهرٍ ... فقالت صاحبي: فمن يضيرُ؟
يطول اليوم إن شحطت نواها ... وحولٌ نلتقي فيه قصيرُ
و قول بشار:
لا أظلم الليل ولا أدعي ... أنَّ نجوم الليل ليست تغيورُ
ليلي كما شاءت فإن لم تجد ... طال وإن جادت فليلي قصيرُ
تصرف الليل على حكمها ... فهو على ما صرفته يدورُ
و قول الآخر:
تعالوا أعينوني على الليل إنه ... على كل عينٍ لا تنام طويل!
و قول الآخر:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيفٌ ألم
و قول الفرزدق:
يقولون طال الليل والليل لم يطل ... ولكن من يبكي من الشوق يسهرُ
و هذا المعنى أكثر من أن يستقصى. وترقى عن الاعتبارات قول بعض العارفين المحبين:
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلا
إنَّ للعاشقين عن قصر الليل ... وعن طوله من الهم شغلا
وقال أبن حمديس الصقلي في مجونه:
قم هاتها من كف ذات الوشاح ... فقد نعى الليل بشير الصباح
باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح
من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الاقاح!
وقال أيضاً:
بت منها مستعيراً قبلاً ... كن لي منها على الهر اقتراح
وأروى غلل الشوق بما ... لم يكن في قدرة الماء القراح
وقال الآخر:
سل المفتي المكي هل في تزاور ... وضمة مشتاق الفؤاء جناحُ
فقال: معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراحُ
و المعنى هنا بالمفتي هو عطاء بن أبي رباح الإمام الفقيه المشهور أحد الكبراء من التابعين. وكان بمكة مفتيا.
قال شمس الدين بن خلكان في تأريخه: لمّا بلغه هذان البيتان قال: والله ما قلت شيئا من هذا! وقال فخر الدين التكريتي:
وما ذات طوق في فروع أراكةٍ ... لها رنةٌ تحت الدجى وصدوحُ
ترامت بها أيدي النوى وتمكنت ... لها فرقةٌ من أهلها ونزوحُ
فحلت بزوراء العراق وزغبها ... بعسفان ثار منهم وطليحُ
تحن إليهم كلما ذر شارقٌ ... وتسجع في جنح الدجا وتنوحُ
إذا ذكرتهم هيجت ذا بلابل ... وكادت بمكتوم الغرام تبوحُ
بأبرح من وجدي بذكراكم متى ... تألق برقٌ أو تنسم ريحُ
وقال أبن الزيات:
سماعاً يا عباد الله مني ... وكفوا عن ملاحظة الملاحِ
فإنَّ الحب آخره المنايا ... وآخره يهيج بالمزاحِ
وقالوا: دع مراقبة الثريا ... ونم فالليل مسود الجناحِ
فقلت: وهل أفاق القلب حتى ... أفرق بين ليلي والصباحِ؟
وقال مؤيد الدين الموصلي:
يا قالة الشعر قد نصحت لكم ... ولست أدهى إلاّ من النصحِ
فقد ذهب الدهر بالكرام وفي ... ذاك أمورٌ طويلة الشرحِ
وأنتم تمدحون بالحسن والظرف ... وجوها في غاية القبحِ
وتطلبون السماح من رجلٍ ... قد طبعت نفسه على الشحِّ
من هاهنا تحرمون كدكم ... لأنكم تكذبون في المدحِ
صونوا القوافي فما أرى أحداً ... يعثر فيه الرجاء بالنجاحِ
فإن شككتم فيما أقول لكم ... فكذبوني بواحد سمحِ!
و نحو هذا البيت في المعنى ما حكي أنَّ بعض ظرفاء السؤال مر بقوم يأكلون فقال لهم: يا بخلاء! فأنكروا عليه. فلما سمع إنكارهم قال لهم: كذبوني بلقمة! وقال أبن ميادة:
فنظرن من خلل الحجال بأعينٍ ... مرضى يخالطها السقام صحاحِ
وأرشن حين أردن أن يرمينني ... نبلاً بلا ريشٍ ولا بقداحِ
وقال آخر يخاطب الناس:
تبعتم السابح في لجه ... ورعتم في الجو ذات الجناح

هذا وأنتم غرضٌ للردى ... فكيف لو خلدتم يا قباحِ؟
وقال أبن الساعاتي:
وكم فيك من عذراء زفت ... لفهمك في غدو أو رواحِ
من الغيد الحسان بلا شبيهٍ ... فكيف يفوتها حظ القباحِ؟
وقال الآخر:
وإذا الفتى من دهره كملت له ... خمسون وهو إلى التفى لم يجنحِ
طلعت عليه المخزيات وقلن قد ... أرضيتنا فكذاك كن لا تبرحِ
وإذا رأى إبليس صورته بدت ... حيى وقال: فديت من لم يفلحِ
و مثله قول التهامي:
إذا بلغ الفتى عشرين عاماً ... وأعجزه الفخار فلا اعتذارُ
إذا ما أوّل الخطي أعطى ... فما يرجى لآخره انتظارُ
و قول الآخر:
وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم تنغر بها ساعة قدرُ
أتاني بها يحيى وقد نمت نومةً ... وقد غابت الشعرى وقد طلع النسرُ
فقالت اغتبقها أو لغيري فاسقها ... فما أنا بعد الشيب ويحك والخمرُ
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياءٌ ولا سترُ
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... ولو جر أسباب الحياة له الهرُ
وقال الآخر:
وقولوا: في الهجاء عليك إثمٌ ... وليس الإثم إلاّ في المديح
لأني إن مدحت كذباً ... وأهجو حين أهجو بالصحيحِ
وقال الآخر:
قالوا: تعشقها عمياء قلت لهم: ... ما شأنها ذاك في عيني ولا قدحا
بل زاد وجدي فيها أنها أبداً ... لا تعرف الشيب في فودي إذا وضحا
إن يجرح السيف مسلولا فلا عجبٌ ... وإنّما العجب سيفٌ مغمدٌ جرحا
كأنما هي بستان خلوت به ... ونام حارسه سكران قد طفحا
تفتح الورد فيه من كمائمه ... والنرجس الغض فيه بعد ما انفتحا
و مثله قول أبن سناء الملك:
فتنتني مكفوفةٌ ناظرها ... كتبا لي من الجراح أمانا
فهي لم تسلل الجفون حساماً ... لا ولم تحمل الفتور سنانا
وهي بكر العينين محصنة الأجفان ... ما افتض ميلها الأجفانا
قصرت عشقها علي فلم تع ... شق فلاناً إذ لم تعلين فلانا
عميت من الهوى وأرتحل الانسا ... ن من عينها وأخلى المكانا
علمت غيرتي عليها فخافت ... أن تسمي غيري لها إنسانا
وقال أبن قاضي ميلة:
وكيف لا تدركه نشوةٌ ... واللحظ راح وجنى الريق راح؟
لو لم تكن ريقه خمرةً ... لمّا تثنى عطفه وهو صاح
وقال أبن نباتة السعدي:
وغانية هذه الدنيا فسادٌ ... فكيف نكون منها في صلاحِ؟
هي الخرقاء تنقص بعد نسجٍ ... فما فيها لحيي من فلاحِ
و سيأتي هذا المعنى مستوفي في الحكم إن شاء الله تعالى.
وقال الآخر وكان أبو بكر بن دريد يتمثل به كثيرا أو هو قائله:
فواحزناً إنَّ الحياة لذيذةٌ ... ولا عملٌ يرضي به الله صالحُ
و قلت أنا:
تصبر إن أصابك نبل عوض ... وضاق عليك متسع البراح
فإنَّ الدهر ليس بذي اصطبار ... عليك بل التول والبراح
وإنَّ الخطب أسرع من ذناب ... بمنسجم يسيل إلى سراحي
وما أمر يضيق عليك إلاّ ... بآخره يصير إلى سراح
فكم أمسيت ذا حزن وأصبحت ... تصبح مسرور كؤوس راح
العوض: الدهر كما قال الحماسي:
ولولا نبل عوض في ... خضماتي وأوصالي
لطاعنت صدور الخيل ... طعنا ليس بالآلي
و البراح: المتسع من الأرض لا زرع فيها ولا شجر والبراح في البيت الثاني: الزوال مصدر برح مكانه أي زال عنه والذناب مسيل بين التلعتين والسراحي بالياء الكثمانية جمع سرحان وهو هنا وسط الحوض والسراح في البيت بعده الانسراح والانفراج وتصبح تستقي تقول: صبحت زيدا إذا سقيته الصبوح فهو مصبوح وقولي مسرور فحذفت نون من وهو جائز فصيح.
ولنكتف بهذا القدر والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الخاء المعجمة
خبأة خير من يفعة سوء.
الخبأ الستر تقول: خبأت الشيء خبأ وخبيئة إذا سترته والخبأة على مثال همزة المرأة تلازم بيتها. وفي الصحاح: الخبأ المرأة تطلع ثم تختبئ. واليفع التل والمرتفع من الأرض ووصف للغلام. يقال: غلام يفع بفتحتين ويفعة.

والمعنى إنَّ بنتا تلزم بيتها تخبأ فيه خير من غلام يفعة لا خير فيه وهو واضح. والمسوغ للابتداء بالنكرة في هذا وما يشبهه نحو تمرة خير من جرادة القصد إلى العموم ذكره أبن مالك في شرحه على التسهيل. وهو أحسن من التعبير بأن المسوغ كونه مثلا إذ لا يكون مثلا إلاّ بعد حين. وهو مفتقر أول وهلة إلى المسوغ مع إنَّ كونه مثلا وإن حصل ابتداء لا يناسب أن يكون مسوغا بوجه كما لا يخفى إذ التسويغ إنّما هو بالتخصيص أو التعميم المخرج للقضية عن الإهمال المحض لفظا ومعنى. نعم المعنى قد يفهم بقرائن وإن لم يكن ثم مسوغ ظاهر فيكفي ذلك ويمكن أن يدعى إنَّ هذا المثل ونحوه من ذلك. مع إنّه في مثلنا يدعى إنَّ الميوغ كون المبتدأ وصفا لمحذوف هو المبتدأ حقيقة. فإنَّ المعنى امرأة خبأة خير من غلام يفعة. وفي المسألة كلام وليس من غرضنا ولا هذا محله.

خبط خبط عشواء.
الخبط: الضرب يقال: خبط البعير الأرض إذا ضربها برجله. والعشى بالقصر سوء البصر بالليل. يقال: عشى بالكسر يعشى وعشى أيضاً عشى فهو أعشى وهي عشواء. والعشواء في المثل الناقة الضعيفة البصر والتي لا تبصر أمامها وهي تضرب وتخبط بيديها كل شيء فيضرب بها المثل. ويقال: خبط فلان هذا الأمر خبط عشواء وذلك إذا دخل فيه بغير بصيرة وهو ظاهر.
خبقة خبقة ترق عين بقة.
الخبق على مثال هجف وعلى مثال فلز الطويل من الرجال والخيل. وقيل: الخبق من الخيل: السريع والخبق أيضاً الرجل الوثاب. وهكذا وقع هذا الكلام في القاموس. والذي في الصحاح: حزقة حزقة ترق عين بقة. والحزقة الرجل القصير أو الذي يقارب الخطو لضعف بدنه. يقال: رجل حزق على مثال عتل ورجل حزقة. قال الشاعر في الأول:
حزق إذا ما القوم ابدوا فكاهة ... تفكر آإياه بعون أم قردا
وقال امرؤ القيس في الثاني:
وأعجبني مشي الجزقة خالد ... كمشي أتان حلئت في المناهل
حلئت: منعت وطردت والترقي: الصعود والبق: البعوض أو أعظمها. قال ذو الرمة يذكر خيلا:
قياما تذوذ البق عن نخراتها ... بنهز كإيماء الرؤوس الموانع
النخرات بالنون والخاء المعجمة مخارج النفس من الأنوف ونهزات الدابة برأسها إذا ذبت به.
وروي في الحديث إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يرقص أحد سبطيه فيقول: حزقة حزقة ترق عين بقة وقوله: ثرق أي اصعد إلى النماء. ويقال أيضاً: رجل حبقة بالحاء المهملة وبسرتين مشددة القاف أي قصر. ورجل حبق على مثال صرد أي ضعيف العقل. وكذا امرأة حبقة. قل الراجز:
حبقة يتبعها شيخ حبق ... وإن يوفقها لخير لا تفق
أخدع من ضب.
الخدع: الختل. يقال: خدعه خدعا إذا ختله وأراد به المكروه من حيث لا يشعر واختدعه أيضاً اتداع فانخدع هو والاسم الخديعة. والضب تقدم ما فيه وهو يوصف بالخديعة والمكر. قال الشاعر:
وأخدع من ضب إذا جاء حارش ... أعد له عند الذنابة عقربا
و إنّما قال ذلك لأنهم يزعمون إنَّ بين الضب والعقرب ألفة فتأوي إلى حجره فمن مد يده إليه لسعته.
قال المبرد في الكامل: العرب تزعم إنّه ليس من ضب إلاّ في جحره عقرب. فهو لا يأكل ولد العقرب وهي لا تضربه فهي مسالمة له وهو مسالم لها. وأنشد البيت السابق.
مخرنبق لينباع.
الآخرنباق: انقماع الرجل المريب واللصوق بالأرض والسكوت والإطراق والانبياع: سيلان العرق. يقال: انباع العرق إذا سال ويقال: انباعت الحية إذا بسطت نفسها بعد تحويها لتساور.
ومعنى مخرنبق لينباع: مطرق وساكت ليثب إذا أصاب فرصة. والمعنى إنّه ساكت لداهية يريدها. ويضرب في الرجل يطيل الصمت حتى يسحب مغفلا وهو ذو نكراء. والمخرنبق: اللاصق بالأرض لينباع ليثب. أو المخرنبق: الساكت على ريبة لينباع ليظهر ما طوله من الشر. والمقصد واحد. ويروى: مخرنبق لينباع ومعناه ليندفع. وقيل ليأتي بالبائقة أي الداهية. ويروى لينباغ بالمعجمة أي ليتحرك بالشر الذي في طيه فيظهره كأنه من تبوغ الدم بمعنى هاج أو من تبوغ زيد إذا غلب.
وفي معنى هذا المثل قول النابغة الذبياني:
لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... وعن ترفعهم في كل أصفار
وقلت يا قوم إنَّ الليث منقبض ... على براثينه لوثبة الضاري

قوله: عن اقر هو موضع. وقوله: في كل أصفار هو جمع صفر بالتحريك اسم الشهر، وكان صفر يومئذ في زمن الربيع، وقيل غير ذلك. وأراد بالليث النعمان بن حارث الأكبر الغساني أو أخاه عمرو بن الحارث. وقوله: لوثبة الضاري - بالإضافة أي لوثبه الأسد الضاري، ويروى للوثبة الضار، فيكون الضاري وصفا لليث.
ومثل ذلك أيضاً قول أبن الرومي:
سكت سكوتا كان رهنا بوثبة ... عموسٍ كذاك الليث للوثب يلبد
و سيأتي أمثال من هذا المعنى كثيرة، وتقدم بعضها.

تخرسي يا نفس لا مخرس لك.
الخرس بالضم طعام الولادة. قال الراجز:
كل طعام تشتهي ربيعة ... الخرس والأعذار والنقيعه
و الخرسة بالضم أيضاً طعام النفاس نفسها. وتقول: خرست على المرأة تخريساً إذا أطعمت في ولادتها، وتخرست هي اتخذت ذلك لنفسها، وخرست جعل لها الخرسة. قال الهذلي:
إذا النفساء لم تخرس ببكرها ... غلاما ولم يسكت بحتر فطيمها
الحتر: الشيء القليل الحقير، أي لهم شيء يسكتون به الصبي من الطعام ولو قليلا لشدة المجاعة. وكانت امرأة ولدت ولم يكن لها من يهتم بأمره فقالت: تخرسي يا نفس لا مخرس لك! فذهب مثلا يضرب عند اعتناء المرء بنفسه.
خرقاء ذات نيقةٍ.
الخرق بالضم عدم الرفق في الأمور، وعدم إتقان الصنعة والحمق. خرق الرجل بالكسر والضم فهو اخرق وهي خرقاء. قال:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ... سهيل أذاعت غزلها في القرائب
و يريد أنَّ المرأة الخرقاء لا تشتغل بالغزل في الصيف بل تتمادى على التسويق والتفريط، حتى إذا طلع سهيل وذلك حين يقبل البرد قامت إلى قرائبها ليعنها، وجعلت تفرق بينهن غزلها. فيسما سهيلا بكوكب الخرقاء لهذه العلاقة. وذات بمعنى صاحبة. والنيقة بكسر الأول اسم من التنوق. يقال: تنوق الرجل في الشيء يتنوق إذا تأنق فيه، أي تخير.
والمعنى إنّها خرقاء، ومع ذلك تتأنق. فيضرب في الجاهل بالشيء يدعي فيه المعرفة ويتخير في الإرادة.
الخرق شؤم.
تقدم أنَّ الخرق يكون عدم الرفق في الأمور بتناولها على غير وجهها، مع عجلة وإفراط تجاوز مقدار. والشؤم بضم الشين وسكون الهمزة ضد اليمن.
والمعنى أنَّ من خرق في أمر فلا بد أنَّ يعود عليه شؤمه. وهذا الكلام يروى حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنّه قال: " الرفق يمن والخرق شؤم " . وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله يحب الرفق في الأمر كله " . وقال: " ما كان الرفق في شيء قط إلاّ زانه، وما كان الخرق في شيء إلاّ شانه " . وقال: " يا عائشة، من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق حرم حظه من خير الدنيا والآخرة " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا أحب الله تعالى أهل بيت أدخل عليهم الرفق " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله تعالى ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا احب الله تعالى عبدا أعطاه الرفق، وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلاّ قد حرموا " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف " . وقال صلى الله عليه وسلم: " يا عائشة ارفقي فإنَّ الله تعالى إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم علي باب الرفق " .وقال صلى الله عليه وسلم: " من يحرم الرفق يحرم الخير كله " . وقال صلى الله عليه وسلم: " التأني من الله والعجلة من الشيطان " . وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإنَّ المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " .
وما أحسن قول أبي الفضل بن النحوي في هذا:
والرفق يدوم لصاحبه ... والخرق يصير إلى الهرج
خرقاء عيابة.
العيابة: التي تعيب الناس كثيرا. وهذا مثل للأحمق وذي العيوب، يعيب غيره وينسى عيوبه. قال إسماعيل بن القاسم:
يا من يعيب وعيبه متشعب ... كم فيك من عيب وأنت تعيب!
لله درك كيف أنت وغاية ... يدعوك ربك عندها فتجيب؟
و في الحديث: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس!
أخرق من حمامةٍ.
الخرق مر، والحمام أيضاً تقدم ما فيه، ووصف بالخرق لأن الحمامة تبيض على أعواد ولا تحكم عشها، فربما وقع بيضها فتكسر. وقد تأتي إلى غصن شجرة فتبني عليه عشها في الموضع الذي يحركه الريح، فلا يكاد يسلم بيضها. قال عبيد بن الأبرص:

عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضها الحمامة
جعلت لها عودين من ... نش وآخر من ثمامة
و يقال أيضاً: أحمق من حمامةٍ.
خرقاء وجدت صوفاً.
تقدم أنَّ الخرق يكون بمعنى عدم الإتقان؛ والمرأة الخرقاء من هذا المعنى ضد الصناع؛ والصوف معروف، البعض منه صوفة.
ومعنى المثل أنَّ المرأة غير الصناع إذا وجدت صوفا عاثت فيه وودرته. يضرب مثلا للأحمق يجد مالا فيضيعه ويتلفه، أو لمن يخرق في كل ما وجده وتمكن منه.يحكى إنَّ الحسن رضي الله عنه لقي سباج وهو يسرع، فجل الحسن يومئ إليه بإصبعه كفعل الغازلة ويقول:

خرقاء وجدت صوفا.
وهذا المثل كالمثل الآخر الآتي: عبد وخلى في يديه.
أخسر صفة من أبي غبشان.
الخسارة ضد الربح. خسر الرجل بالكسر يخسر خسراً وخسارة: وأبو غبشان هو الخزاعي. وتقدم هذا المثل وما كان من قصته في حرف الحاء المهملة.
خش ذؤالة بالحبالة.
الخشية: الخوف، خشي بالكسر يخسى خشية؛ وخشية أنا تخشية: خوفة؛ وخشى فلانا تخشية: خوفه؛و ذؤالة بذال معجمة، على مثال ثمامة الذئب، مأخوذ من الذالان، وهو مشية فيها إسراع أو خفة وميس. يقال: ذال يذال ذال وذالانا إذا مشي تلك المشية؛ والحبالة: التي يصاد بها.
والمعنى: خوف الذئب بالحبالة. ويضرب عند الأمر بالتهديد والتبريق.
خشية خير من ملء وادٍ حباً.
أي: أن تخاف أرفع لمقدارك وأسمى لجانبك من أن تحب.
وهذا كقولهم: رهبوتى، خير من رحموتى؛ وقول الغضبان بن القبعثري للحجاج: أو فرق خير من حبين، وسيأتي.
أخطأت اسكت الحفرة.
الخطأ ضد الصواب. ويقال: أخطأ يخطئ إخطاء فهو مخطئ؛ ويقال خطئ بالكسر يخطأ إذا سلك سبيل الخطأ، عامدا أو غير عامد، فهو خاطئ. وقيل: الخاطئ هو المتعمد؛ والاست بهمزة الوصل والسته: الدبر أو حلقته؛ والحفرة بضم الحاء معروفة. وهذا المثل يضرب لمن يحيد عن الصواب في مقصده، ويضع الشيء في غير موضعه. ومعناه ظاهر.
أخطأ من ذبابٍ.
الخطأ مر، وكذا الذباب، ووصف بالخطأ لأنه يقع في الهلاك بنفسه: فقد يسقط في الماء الحار فيموت، أو في الشيء الذي يلتزق به ولا يخلص منه.
أخطأ من فراشٍ.
الفراش بفتح الفاء بوزن سحاب هو الذي يتهافت على السراج، واحده فراشة. ووصف بالخطأ أيضاً كما ذكر في الذباب، لأنه يلقي نفسه على السراج والنار كلها فيحترق. وقال الشاعر:
جهالة سنور وخطأ فراشةٍ ... وانك من كلب التهارش أجهل
و في الحديث: إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وما احسن من قول الأدباء:
لهيب الخدين بدا لطرفي ... هوى قلبي عليه كالفراش
فأحرقه فصار عليه خالا ... وها أثر الدخان على الحواشي
و قول الآخر:
جلت محاسنه عن كل تشبيه ... وجل عن واصف في الحسن يحكيه
أنظر إلى حسنه واستغن عن صفةٍ ... سبحان خالق سبحان باريه!
النرجس الغض والورد الجني له ... والأقحوان النضير الضوء في فيه
دعا بألحاظه قلبي إلى عطبي ... فجاءه مسرعا طوعا يلبيه
مثل الفراشة تأتي إذ ترى لهبا ... إلى السراج فتلقي نفسها فيه
الخنفساء إذا مست نتنت.
الخنفساء:الدويبة السوداء المعروفة. يقال إنها خنفساء وخنفس وخنفسة ونونها زائدة. والنتن قبح الرائحة. يقال: نتن الشيء بالضم وأنتن فهو منتن. والخنفساء معروفة بالنتن فيضرب ذلك مثلا للرجل المشتمل على الخبث والعيب وإنّه يترك ويجتنب. والمعنى: لا تفتش ما عنده فانه يؤذيك بنتن معايبه!
أخف حلماً من بعير.
الخف ضد الثقل. خف الشيء يخف خفة فهو خفيف. والقياس خافٌ كدب يدب فهو داب. ولكن حملوا الخفة على ضدها وهو الثقل خفيف كما قالوا: ثقيل. والحلم تقدم. والبعير معروف. وهذا كما قال الحماسي:
لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعيرُ
يصرفه الصبي بكل وحهٍ ... ويحسبه على الخسف الجريرُ
أخف حلما من عصفورٍ.
الحلم مر، والعصفور: الطائر الصغير المعروف وهو على أنواع كثيرة. والأنثى عصفورة. قال الشاعر:
كعصفورة في كف طفلٍ يسومها ... حياض المنايا وهو يلهو ويلعبُ

و يضرب المثل في خفة الحلم بالعصفور ولا خفاء بذلك. قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
لا باس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير!
وقال الآخر:
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا ... عني وما سمعوا من صالح دفنوا
مثل العصافير أحلاماً ومقدرةً ... لو يوزنون بزف الريش ما وزنوا
أخف رأساً من ذئبٍ.
الذئب معروف ويوصف بخفة الرأس ويعنون في النوم لمّا يزعمون من أنه لا ينام إلاّ بإحدى مقلتيه كما قيل:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجعُ
وقالوا أيضاً: أخف رأسا من الذباب ومن الطائر.
أخف من لا على اللسانِ.
الخفة مرت ولا: حرف نفي وهي خفيفة على اللسان. فيضرب المثل بذلك في الخفة وهو يحتمل أن تكون الخفة من جهة اللفظ لقلته وهو ظاهر، أو من جهة المعنى لملائمة الإنكار للطبع غالبا وخفة التبري والتنصل على النفس في أكثر الأمور أو منهما معا. ويقال أيضاً: كلا ولا في التعبير عن السرعة والخفة. قال:
يكون نزول القوم فيها كلا ولا ... غشاشاً ولا يدنون رحلاً إلى رحلِ
غشاشا: أي على عجل. وقال الآخر:
وأروع أهداه لي الليل والفلا ... وحس بمس الأرض لكن كلا ولا
أخف من يراعةٍ.
اليراعة بفتح الياء المثناة من تحت ثم راء ثم ألف ثم عين مهملة واحد اليراع وهو يطلق على طائر يطير بالليل كأنه نار. وهو في هذا المثل يجوز أن يراد به القصبة وأن يراد به الطائر.
والمعنى الأول هو مراد البلغاء والأدباء عند وصف أحد بالكتابة. وقولهم مثلا: إنَّ فلان من أرباب اليراعة وفرسان اليراعة وهذا في الشعر والنثر لا يحصى.
تخلصت قائبةٌ من قوبٍ.
التخلص: النجاة. خلص الرجل تخلصا فتخلص هو: نجا؛ والقابية: البيضه؛ والقوب: الفرخ ؛ وأما بالفتح فمصدر. يقال: قاب الطائر بيضته إذا فلقها ، قوبا، فانقابت هي وتقوبت.
ومعنى تخلصت قابية من قوب على هذا: تخلصت البيضة من الفرخ. يضرب لمن انفصل من صاحبه. وعليه ففي المثل قلب لأن الذي يتخلص هو الفرخ لا البيضة؛ غير أنه يصح إسناده إلى البيضة باعتبار كما تقول: تخلصت الحامل من ذي بطنها. وقيل إنَّ القائبة الفرخ والقوب البيضة؛ فلا قلب والأول أنسب.
ولفظ المثل عند الجوهري: برئت قائبة من قوبٍ. وهذا اللفظ لا يكون معه قلب على كلا التفسيرين لأن نسبة البراءة إليها معا صحيحة.
وحكي أنَّ أعرابيا استخفر أحداً فقال له: إذا بلغت بكل مكان كذا فبرئت قائبة من قوب أي فقد تخلصت من خفارتك.

اختلط الحابل بالنابل.
الاختلاط معروف؛ والحابل الذي يصيد بالحبل؛ والنابل الذي يصيد بالنبل فيضرب ذلك في اختلاط الرأي ويقال الحابل هنا هو السدى والنابل الطعمة وهذا كما مر في قولهم: حول حابله على نابله.
اختلط الخاثر بالزباد.
هذا المثل كالذي قبله. والخاثر ضد القيق. يقال: خثر اللبن بالضم والكسر فهو حاثر. والزباد على مثال رمان نبت والزباد أيضاً من اللبن ما لا خير فيه. فكأن المعنى أنه اختلط الجيد بالرديء والصحيح بالسقيم.
وقال البكري في شرح الأمثال: الزباد نبت كانوا يضعون ورقه على ظرف اللبن. ويقال أيضاً: زبدت المرأة الصوف والشعر إذا نفسته. فيحتمل أن يريد في المثل أنَّ خاثر اللبن اختلط بمنفوش الصوف فلا يؤكل. انتهى. وما ذكرناه أوّلاً أظهر والله أعلم.
خلع الدرع بيد الزوج.
هذا مثل يضرب عند الخطأ في وضع الأشياء غير موضعها وتقدمت قصته ومن قاله في حرف الجيم عند قولهم: التجريد لغير نكاح مثله، فأنظره هنالك.
أخلف من صقرٍ.
يقال: خلف فم الصائم بفتح الآم يخلف خلوفا وخلوفة بضمهما؛ وأخلف إذا تغير رائحته. ومنه: نومة الضحى مخلفة للفم.
وفي الحديث أيضاً: لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. والصقر: الطائر المعروف وتقدم. ضربوا المثل بخبث رائحة فمه.
أخلف من عرقوبٍ.
أخلف اسم تفضيل من الإخلاف في الوعد. لكن المعروف فيه الرباعي. يقال: أخلفني فلان ما وعدني وهو أن يثول شيئا ولا يفعله على الاستقبال. وقد يقال: أخلفه إذا وجد وعده خلفا. قال الأعشى:
أثوى وفصر ليلة ليزودا ... فمضت وأخلف من قتيلة موعدا
أي مضت الليلة.

نعم يجوز بناء اسم التفضيل من الرباعي على أفعل عند بعض المحققين كأعطى. وعرقوب رجل من العمالقة وعد أخاه تمرا فأخلفه وسيأتي. قال علقمة:
وقد وعتك موعداً لو وفت به ... مواعيد عرقوبٍ أخاه بيثربِ
وقال كعب بن زهير رضي الله عنه:
كانت مواعيد عرقوبٍ لها مثلا ... وما مواعيدها إلاّ الأباطيلُ
و قلت أنا من قصيدة:
فسيحتبيك بوعدٍ غانيةٍ ... أو وعد عرقوب جنى التمر

خله درج الضب!
التخلية: الترك والدرج بفتحتين الطريق؛ والضب معروف.
والمثل يضرب في الأنفة من مصاحبة من يرغب عن صحبته.
والمعنى: خله يذهب حيث شاء وقيل معناه الذهاب ، كأنه قيل: يذهب ذهاب الضب! أي خله كخلال الضب! لأن الضب أسوأ الحيوان هداية ولذلك يضرب به المثل فيقال. أضل من ضب. ويقال أيضاً: خل درج الضب! أي خل طريقه لئلا يمر بين يديك فتنتفخ! وهذا قريب في المعنى مما تقدم من قولهم: الخنفساء إذا مست نتنت، كما مر ذلك.
خلي سبيل من وهى سقاؤه!
التخلية مرت، وتقول: خليت سبيل الرجل إذا تركته ولم تتعرض له. ووهى السقاء بالفتح يهي وهياً: تمزق. والسقاء بالكسر والمد القربة.
قال الشاعر:
أقول لعبد الله لمّا سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهي: شم!
أي أقول له حين وهى سقاؤنا ونحن بوادي عبد شمس: شم البرق! أي انظر إليه! فشم، في آخر البيت فعل أمر وهو معمول القول. وهذا المثل قد يروى رجزاً فيقال:
خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه
يقال: أرقت وهرقت بقلب الهمزة هاء فأنا مريق ومهريق بفتح الهاء وكان القياس حذف الهاء لأنها في مكان همزة أفعل وهي تحذف في المضارع لكنها لمّا صارت هاء ذهب الثقل فبقيت. قال الشاعر:
فظللت كالمهريق فضلة مائه ... في ظل هاجرةٍ للمع سرابِ
و قد يقال: أهرقته بتسكين الهاء والجمع بين الهمزة وبدلها تناسيا لأصل فأنا مهريق بالسكون أيضاً. قال:
فصرت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فرق رابية صلدِ
و الفلاة: القفرة والجمع فلى وفلوات.
وهذا المثل كالذي قبله مضربا. وقد قيل إنّه يضرب في الرجل لا يستقيم في أمره وإنّه لا ينبغي أن يعاني. وقيل إنه يضرب في اقتناء السر بمعنى إنّه إذا باح صاحبك بسرك ونضح به كما ينضح هذا السقاء الواهي بالماء فدعه عنك ولا تؤاخه ولا تصاحبه فلا خير لك فيه! وهذا مناسب لتشبيههم من لا يكتم السر بالغربال كما قال الحطيئة:
أ غربالاً إذا استودعت سراً ... وكانونا على المتحدثينا؟
خلاؤك أقنى لحيائك.
الخلاء بفتح الخاء والمد يطلق مصدرا من قولك: خلا المكان وغيره يخلو خلاء وخلوا. ومكان حالٍ وخلاء: لا أحد به. قال حسان رضي الله عنه:
عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء
و قد يطلق على المتوضأ كما في الحديث ويطلق على المكان القفر لا شيء به وهو المراد. قال زهير:
فأما ما فريق العقد منها ... فمن أدماء مرتعها الخلاءُ
و الحياء بالمد معروف وقني الرجل الحياء وقناه بالكسر والفتح وأقناه واقتناه: لزمه وحفظه. قال عنترة:
قامت تخوفني الختوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزلِ
فأجبتها: إنَّ المنية منهل ... لا بد أن أسقى بكأس المنهلِ
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتلِ!
أي: الزمي حياءك واحفظيه ولا تضيعيه! وقال العطوي:
أيقني جميل الصبر من هد ركنه ... وهيض جناحاه وجد الأنامل؟
و معنى المثل أنَّ منزلك إذا خلوت به هو ألزم وأحفظ لحيائك.
الخلة تدعو إلى السلة.
الخلة بفتح الخاء الحاجة والخصاصة والفقر. قال:
رأى خلتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلتِ
و يقال للرجل إذا مات: اللهم أخلف على أهله بخير واسدد خلته! أي فرجته التي تركها. قال أوس بن حجر:
لهلك فضالة لا تستوي ... الفقود ولا خلة الذاهب
يقول: إنّه كان سيدا فلما مات ترك ثلمة لم تسد. تقول: خل الرجل وأخل به بالضم إذا احتاج. ورجل مخل ومختل وخليل أي فقير. قال زهير:
وإن أتاه خليلٌ يوم مسألة ... يقول: لا غائبٌ مالي ولا حرم

و اختل إليه: احتجاج. وفي كلام أبن مسعود: عليكم بالعلم! فإنَّ أحدكم لا يدري متى يختل، أي متى يحتاج الناس إلى ما عنده، وما أخلك إليه، أي ما أحوجك! والأخل الأفقر. ويقولون: " الأخل فالأخل، أي الأفقر فالأفقر " . والسلة بفتح السين: السرقة وكذا الاسلال. ويقال في بني سلة أي سرقة. والمعنى أنَّ الحاجة والخصاصة تدعوا إلى السرقة وتلجئ إليها، عياذاً بالله تعالى! وأما الخلة بضم الخاء فهي الصداقة. والصديق أيضاً للذكر والأنثى، ورجل خلة لي وامرأة خلة. وقال امرؤ القيس:
وكان لها في سالف الدهر خلة ... يسارق بالطرف الخباء المسترا
أي خليل. وقال الآخر:
ألا أبلغها خلتي جابراً ... بأن خليك لم يقتل!
وقال الآخر:
شبعت من نوم وزاحت علتي ... وطرفي في المنام خلتي
ما علمت إنّها ألمت ... حتى قضت حاجتها وولت
أي خليلتي.

خلا لك الجو فبيضي واصفري!
الجو معروف، وباضت الدجاجة ونحوها، تبيض؛ وصفر الطائر، يصفر، صفيراً: صوت.
وهذا المثل يضرب للأمر يقدر عليه الإنسان متمكنا. وأوّل من قاله كليب بن ربيعة التغلبي الوائلي في شعر له، وذلك إنّه كان له حمي لا يقرب، فباضت فيه قبرة؛ والقبرة بضم القاف وفتح الباء المشددة الطائر المعروف؛ فأجاره وقال يخاطبها:
يالك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري!
وانقري ما شئت أنَّ تنقري!
و ذلك إنّه إنّما يصفر الطائر ويتغنى في الخصب. فدخلت ناقة البسوس الحمى، فوطئت بيض القبرة، فرمى كليب ضرعها، فقتل جساس كليبا، وهاجت من ذلك حرب البسوس بين بني وائل أربعين سنة. وفي ذلك يقول الشاعر:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وايسر جرما منك ضرج بالدم
رمى ضرع ناب فأسمر بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليماني المسهم
و سيأتي تتمة هذا الحديث.
وقيل إنَّ أوّل من قاله طرفة بن العبد وذلك إنّه قال لأمه وهو غلام: إني أريد صيد القنابر، فابعثي أمتك مع البهم! القنابر جمع قنبرة وهي القبرة، فقالت له أمه: يا بني إنَّ المضيع من وكل ماله وأضاع عياله. ثم إنّها أرسلت أمتها مع البهم. وخرج طرفة وصاحب له معهما فخ، حتى أتيا مكانا كانا يعهدان به القنابر كثيرة. فنصب الفخ، وتنحيا غير بعيدين. فجعلت قبرة تحوم حول الفخ، ثم فقرته فأخطأها. فأقبل طرفة نحو فخه وهو يقول: قد يعثر الجواد، وتمحل البلاد، ويذهب التلاد، ويضعف الجلاد. ثم نصب فخه، فوقعت القنابر حول الفخ، وهي تحيد عنه وتلقط ما أصابت. فلما طال ذلك به، ضجر وانتزع فخه وهو يقول:
قاتلكن الله من قنابر ... مهتديات بالفلا نوافر
ولا سقيتن معين الماطر ... ولا رعيتن جنوب الحاجر!
و انصرف هو وصاحبه راجعين. ثم التفت فإذا القنابر قد سقطن بالموضع الذي نصب فيه فخه يلتقطن، فقال: يا لك من قبرة . . الأبيات المذكورة. فلما أتى منزله، ورأته أمه لم شيئاً، فقالت له: حدك اليوم حاد، وصدك صاد! فقال لها طرفة:
ما كنت محدوداً إذا غدوت ... وما رأيت مثل ما لقيت
من طائر ظل بنا يحوت ... ينصب في اللوح فما يفوت
يكاد من رهبتنا يموت!
فقالت أمه: إني لأرجو أنَّ تكون شاعرا، وأنَّ تشبه خالك! وحات، ويحوت: أسرع. ورد أنَّ أبن عباس رضي الله عنهما، تمثل بهذا المثل، وذلك حين خرج الحسين، رضي الله عنه، إلى العراق، فلقي أبن عباس أبن الزبير، فقال له: خلا لك الجو فبيضي وأصفري. وهذا حسين يخرج إلى العراق ويخلي لك الحجاز!
خامري أم عامر!
خامري: معناه تستري وتغطي، كأنه من التخمير وهو التغطية والستر. ومنه الخمرو الخمار؛ وأم عام: الضبع. قال:
ومن يجعل المعروف من دون أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
و سيأتي. وللضبع كنى كثيرة: يقال لها أم عامر وأم عمرو، وأم الهنبر وأم خنور؛ ويقال لها أيضاً: حضاجر بفتح الحاء على وزن الجمع، وجعار، وجيال؛ ويقال لها الموقفة. قال معاوية بن زهير:
فدونكم بني لأيٍ أخاكم ... ودوني مالكا يا أم عمر
فلولا مشهدي قامت عليه ... موقفة القوائم أم أجر!

أردنا موقفة القوائم أنَّ في قوائمها الأوقاف، وهي الخلاخل، جمع وقف، ويعني السواد الذي في قوائمها. ويقال: الجارية موقفة: لبست الوقف. والاجري جمع حرو، وهب أولادها. ومثلها قول الهذلي:
وغودر ثاويا وتأوبته ... موقفت أميم، لها فليل
وقال لها عرفاء والخامعة أي العرجاء قال الشنفري:
ولي دونكم أهلون: سيد عملس ... وأرقط زهول وعرفاء جيئل
وقال الآخر:
يا لهف من عرفاء ذات فليلةٍ ... جاءت إلي على ثلاث تخمع
وتظل تنشطني وتلحم أجريا ... وسط العرين وليس حي يدفع!
لو كان سيفي باليمين دفعتها ... عني ولم أوكل وجنبي الأضيع
وقال عنترة:
إنَّ يعقرا مهري فإنَّ أباهما ... جزر لخامعة ونسر قشعم
و لذلك قال أبن المهلب: الضبعة العرجاء، فلحن في قوله الضبعة، إذ لا قال كما مر.
ويقال إنَّ الذي بها من العرج ليس عرجا حقيقة، وإنّما يتخيل كذلك للناظر من إفراط الرطوبة في أحد جانبيها. الضبع أحمق الحيوان، كما مر ذلك في الحاء. وهي أفسقها أيضاً وأشبقها. ويزعمون إنّها لا يمر بها حيوان من نوعها إلاّ علاها، وإنّها تقلب الميت على قفاه وتستعمل كمرته، ولذلك يقال لها حين تصطاد: أبشري أم عامر بجراد عضال، كمر الرجال! ويخدعونها بذلك. وقال الشاعر:
فلو مات منهم جرحنا لأصبحت ... ضباع بأكناف الشريب عرائسا
و قولهم في هذا المثل: خامري أم عامر، تقدم انهم يقولونه للضبع عند الاصطياد يخدعونها به. فبقي مثلا للمغرور ومن عرف الدنيا وتقلبها ونقضها ما أبرمت وسلبها ما وهبت، ثم يسكن إليها مع ذلك ويغتر بها كما تغتر الضبع بقول القائل: خامري أم عامر. وقال البهاء زهير يشير إليه:
يا هذه لا تغطي ... والله مالي فيك خاطر
خدعوك بالقول المحا ... ل فصح انك أم عامر

الخنق يخرج الورق.
الخنق بفتح الخاء وكسر النون، كالكذب مصدر. يقال: خنقته بفتح النون خنقا، فهو خنق أيضاً وخنيق ومخنوق؛ وخنقته فاختنق.
والخناق بالكسر الحبل يختنق به وبالضم: داء يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرئة والقلب. والورق بوزن كتف: الدراهم المضروبة، ويقال لها الرقة بحذف الواو على مثال عدة، والورق بفتحتين والورق بسكون وتثليث الواو.
والمعنى انك إذا اشتدت على الرجل وضيق عليه أعطاك وهذا دأب الدنيء لا يسمح إلاّ رهبة أو رغبة، كما قيل:
رأيتك مثل الجوز يمنع لبه ... صحيحا ويعطا لبه حين يكسر
خير الأمور أوساطها.
الخير هنا اسم تفضيل. يقال: فلان أخير من فلان. وتحذف الهمزة غالبا فيقال: خيرٌ منه. فإن أطلق تناول جميع أوصاف المدح، وإن قيد بشيء تقيد؛ والأمور جمع أمر وهو عام؛ والأوساط جمع وسط بمعنى متوسط بين طرفين.
وهذا الكلام يروى حديثا وهو من جوامع كلمه التي أعطيها صلى الله عليه وسلم وهو متناول لأمور من الديانات والأخلاق والآداب والسياسات والمعاشرات والمعاملات تعجز عقول الخلق عن إحصائها. وقد صنف ذوو البصائر من أهل العلم في تفاصيل ذلك دواوين. وهو بحر لا ساحل له، جمع له صلى الله عليه وسلم في جملة واحدة كما قال صلى الله عليه وسلم : أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا.
قال الجاحظ: ينبغي للرجل أن يكون سخيا لا يبلغ التبذير حائطا لا يبلغ البخل شجاعا لا يبلغ الهوج محترسا لا يبلغ الجبن حييا لا يبلغ العجز ماضيا لا يبلغ القحة قوالا لا يبلغ الهذر صموتا لا يبلغ العي حليما لا يبلغ الذل منتصرا لا يبلغ الظلم وقورا لا يبلغ البلادة نافذا لا يبلغ الطيش. قال: ثم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع ذلك في كلمة واحدة وهي قوله عليه السلام: خير الأمور أوساطها وما ذلك إلاّ لأنّه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم. انتهى. وإلى هذا أشار بعض الشعراء بقوله:
عليك بأوساط الأمور فإنها ... نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا!
و الآخر بقوله:
لا تذهبن في الأمور فرطا ... وكن من الناس جميعاً وسطا!
و المعري في قوله:
فإن كنت تهوى العيش فبالغ توسطا ... فعند التناهي يقصر المتطاولُ
توقى البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كواملُ
خير العشاء سوافره.

خير: تقدم؛ والعشاء بالفتح والمد طعام العشي. ولا يخرجه التأخير عن كونه عشاء كما قال الحطيئة:
وآنيت العشاء إلى سهيلٍ ... أو الشعرى فطال بي الإناء
و آنيته: جعلت أناه أي وقته ذلك الزمان المتأخر. ويروى: وأكريت العشاء . . الخ فطال بي الكراء أي أخرت؛ والسوافر جمع سافرة يقال أسفرت الشمس وسفرت إذا أضاءت وسفرت المرأة عن وجهها: كشفت عنه. والمراد أنَّ خير العشاء ما أكل منه بضوء النهار وكأن اللقمة حينئذ تسفر للظلام عن وجهها.
وهذا المثل يكلم به الأصمعي للرشيد. ذكر بعض الأدباء عن أبي بكر بن شقير النحوي قال: دخلنا على محمد اليزيدي وهو يتغدى فقال: يا أبا بكر خير الغداء بواكره فما خير العشاء؟ فقلت: لا أدري. فقال: دخلت على عبيد الله بن سليمان وهو يتغدى فقال: خير الغداء بواكره فخير العشاء ماذا؟ فقلت لا أدري. فقال: دخلت على حسين الخادم وهو يتغدى فقال: يا أبا القاسم خير الغداء بواكره فخير العشاء ماذا؟ فقلت: لا أدري. فقال: كنت بحضرة الرشيد وهو يتغدى فدخل الأصمعي فقال: يا أصمعي خير الغداء بواكره فخير العشاء مادا؟ فقال: بواصره ومعناه ما يبصر من الطعام. انتهى.
وزعما أنَّ تأخير العشاء يورث ضعفا بالبصر. ومن ثم قال أبو بكر بن دريد:
وأرى العشا في العين ... أكثر ما يكون من العشاءِ
العشا الأول بألف مقصورة وهو ضعف البصر وبالمد الطعام. وقال كشجام:
ونديم مخالفٍ ... لا يشاء الذي أشا
هو في الصحو لي أخ ... وعدوٌ إذا انتشا
اقترحت العشاء يو ... ماً عليه فاندهشا
ساعة ثم قال لي: ... العشا يورث العشا!
و ورد في بعض الأحاديث نهيا عن ترك العشاء: لا تدعوا العشاء ولو بكف من حشف فإن تركه مهرمةٌ.

خير العلم ما حوضر به
المحاضرة: المذاكرة. والمعنى أنَّ خير العلم ما حصل الإنسان في صدره فوجده عند المحاضرة وكان عدة له عند المذاكرة. ويقال حرف في قلبك خير من ألف في كتبك. ويقال: لا خير في علم لا تعبر به الأودية ولا تعمر به الأندية. ويقال: حفظ سطرين خير من حمل وقرين ومذاكرة اثنين خير من هذين. وينسب للشافعي:
علمي معي حيثما مشيت يتبعني ... وعاؤه القلب لا بيتي وصندوقي
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي ... أو كنت في السوق كان العلم في السوق
وقال الآخر:
عليك بالحفظ دون الكتب تجمعها ... فإن للكتب آفات تفرقها
الماء يغرقها والنار تحرقها ... والفأر يخرقها واللص يسرقه
لكن قد يولع المرء بالحفظ حتى يفوته تصور المعاني فيكون كالحمار يحمل أسفارا. ولذلك روي في الخبر: همة السفهاء الرواية وهمة العلماء الدراية. وقال أبن مسعود: كونوا للعلم وعاة ولا تكونوا له رواة فقد يروى ما لا يدرى ويدرى ما لا يروى. وحدث الحسن البصري بحديث. فقال له رجل: عمن؟ فقال: وما تصنع بعمن؟ قد نالتك عطيته وقامت عليك حجته. وربما وثق بصدره ولم يقيد فيطرأ عليه النسيان ويضيع علمه ولذلك ورد في الخبر: قيدوا العلم بالكتاب.
وورد أنَّ رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كثرة النسيان فقال له استعمل يدك أي اكتب! وشاع في أمثال الناس: ينسى الرأس ولا ينسى الكراس.
خير الغداء بواكره.
الغداء بالفتح والمد والدال مهملة ضد العشاء وتقدم هذا. والمراد أنَّ خير الغداء أيضاً ما ابتك به. ولهذا علة وتحقيق يذكر في الطب. ومنهم من رأى في الغداء التأخير. ويروى قول علي كرم الله وجهه أو غيره من الحكماء: من أراد النساء ولا نساء فليكر الغداء وليبكر العشاء وليخفف الرداء وليقلل غشيان النساء. انتهى. قوله فليكر الغداء: أي يؤخره كما في بيت الحطيئة. وأراد بتخفيف الرداء أن يجنب نفسه ثقل الدين: فإن هم الدين يهرم كما قال: لا هم إلاّ هم الدين ولا وجع إلاّ وجع العين.
خير الغنى القنوع وشر الفقر الخضوع.
الغنى بكسر الغين وألف مقصورة ضد الفقر. قال:
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلتِ
و قد يمد للضرورة. قال:
سيغنيني الذي أغناك عني ... فلا فقر يدوم ولا غناءُ
و القنوع: السؤال والتذلل للمسؤول. وقد قنع الجل بالفتح قنوعا فهو قانع وقنيع. قال:

لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أخف من القنوع
و المفاقر جمع فقر على غير قياس مثل مذاكير لذكر ومحاسن لحسن على ما في ذلك من كلام عند النحويين. ومنه قول النابغة:
فأهلي فداء لامرئ إن أتيته ... تقبل معروفي وسد المفاقرا
وقال عدي بن زيد العبادي:
وما خنت ذا عهد وأنت بعهده ... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا
أي سائلا. وفي كلامهم: نسال الله القناعة ونعوذ به من القنوع.
وقلت في هذه المادة من قصيدة:
إن دعا القنوع ليس بشافيه ... هذا المرء نيل اقصى الأماني
ومن اعتز بالقناعة أمسى ... في نعيم وعزة وأمانِ
و قد يكون القنوع بمعنى القناعة وهو الرضى بالقسم على الضد وهذا هو المراد في المثل. قال الشاعر:
وقالوا قد ذهبت فقلت كلا ... ولكني أعزني القنوعُ
و القانع: الراضي. قال لبيد:
فمهم سعيد آخذٌ بنصيبه ... ومنهم شقى بالمعيشة قانعُ
و يقال إنما سمي السائل قانعا لنه يرضى بما أعطي وإ، كان قليلا. فيكون معنى القنوع والقناعة واحد أبدا؛ غير أنَّ فعل القناعة هو بالكسر يقال قنع بالكسر يقنع قناعة فهو قنع وقانع وقنوع وقنيع. ة الفقر بفتح الفاء الحاجة: والخضوع: التذلل.
ومعنى المثل واضح في صيانة الحر نفسه عن خسيس المكاسب. وهو من كلام أوس بن حارثة.
روي أنه عاش دهرا وليس له إلاّ ابنه مالك. وكان لأخيه الخزرج خمسة أولاد: عمرو وعوف وجشم والحارث وكعب. فلما احتضر أوس قال له قومه: كنا نأمرك بالزواج في شببك فلم تتزوج حتى حضرك الموت. فقال: الأوس: لم يهلك هالك ترك مثل مالك يعني مالك بن أوس ولده وإن كان الخزرج ذا عدد وليس لمالك ولد. فلعل الذي استخرج العذف من الجريمة والنار من الوثيمة أن يجعل لمالك مسلا ورجالا بسلا يا مالك المنية ولا الدنية والعتاب قبل العقاب والتجلد لا التبلد!و أعلم أنَّ القبر خير من الفقر؛ وشر شارب المشتف وأقبح طاعم المقتف؛ وذهاب البصر خير من كثير من النظر؛ ومن كرم الكريم الدفاع عن الحريم ومن قل ذل ومن أمر فل. وخير الغنى القناعة وشر الفقر الضراعة؛ والدهر يومان: فيوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصبر فكلاهما سينحسر.فإنما تعز من ترى ويعزك من لا ترى. ولو كان الموت يشترى لسلم منه أهل الدنيا ولكن الناس فيه مستوون: الشريف الأبلج واللئيم المعلهج؛و الموت المفيت خير من أن يقال لك هبيت. وكيف بسلامة من ليست له إقامة؟ وشر من المصيبة سوء الخلف وكل مجموع إلى تلف. حياك إلاهك! انتهى.
فنشر الله من مالك بعدد بني الخزرج. والعذق بالفتح النخلة نفسها وبالكسر كباستها كما مر في الهمزة؛ والجريمة النواة؛ والوثيمة الموطوءة من الحجارة بحوافر الخيل ونحوها من الوثم وهو الكسر كما قال عنترة:
خطارة غب السرى موارة ... تطس الاكام بذات خف ميثمِ
و هذا الكلام يحلف به العرب يقولون: لا والذي أخرج العذق من الجريمة والنار من الوثيمة! ومن أيمانهم أيضاً: لا والذي شقهن خمسا من واحد! أي الأصابع ولا والذي أخرج قابية من قوب! أي فرخا من بيضة كما مر؛ و: لا والذي وجهي زمم بيته! بفتحتيناي تلقاءه وتجاهه؛ والبسل: الشجعان وأحدهم باسل والبسالة: الشجاعة؛ والمشتف هو المستقصي ما في إنائه ومنه حديث أم زرع: إن شرب اشتف. والمقتف: الآخذ للشيء بعجلة؛ وأمر الرجل: كثر عدده؛ وتعز: تغلب؛ والمعلهج: المتناهي في الدناءة واللؤم، وقيل هو العريق فيه اللئيم بن اللئيم، والهبيت: الأحمق الضعيف، ويقال له الجبان المخلوع القلب. وضده الثبيت. قال طرفة:
فالهبيت لا فؤاد له ... والثبيت قلبه قيمه
و يروى: فهمه قيمه.
وقد علمت أنَّ لفظ المثل في هذه الوصية التي سردنا من كلام أوس: خير الغنى والقناعة، وشر الفقر الضراعة. ورواية المثل على هذا الوجه هو رأي من لا يرى أنَّ القنوع يكون بمعنى القناعة، وبذلك اعترض البكري على أبي عبيد في إيراده المثل على الالفظ السابق، وقد علمت مما مر إنّه صحيح ومثل هذا المثل قول الفارعة بنت طريف ترثي أخاها:
فتى لا يعد الزاد إلاّ من التقى ... ولا مال إلاّ من قنى وسيوف
و قول الأبيرد اليربوعي:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر

و قول إبراهيم بن العباس الصولي:
أسد ضار إذا استنجدته ... وأب بر إذا ما قدرا
يعرف الأبعد إنَّ أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
و قوله أيضاً:
ولكن الجواد أبا هشام ... نقي الجيب مأمون المغيب
بطي عنك ما استغنيت عنه ... وطلاع عليك مع الخطوب
و قول الآخر:
إذا أعطشتك اكف اللئام ... كفتك القناعة شبعا وريا
فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا
فإنَّ إراقة ماء الحيا ... ة دون إراقة ما المحيا!
و تقدم ما في ذكر القناعة من الشعر وسيأتي أيضاً كثيرا، إن شاء الله تعالى! ووصية أوس المذكورة مشتملة على أمثال عدة، وقد نبهنا على غريبها، والباقي واضح
خير ما رد في أهلٍ ومالٍ
هذا يستعمل في الدعاء بالخير للقادم من سفر. والمعنى: جعل الله ما جئت به خير ما رجع به الغائب! وقيل: المعنى أنَّ مجيئك بنفسك خير مارد في أهلك ومالك.

خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة.
المال معروف؛و السكة بالكسر: الحديد التي تضرب عليها الدراهم، والتي يحرث بها. وتطلق أيضاً على السطر من الأشجار؛ والمأبورة: المصلحة، يقال: أبر نخلة، يأبره، أبارا وغبارة ككتب كتبا وكتابا وكتابة؛و أبرة تأبير: ألقحه وأصلحه؛ وأئتبر الرجل: طلب غيره أنَّ يأبره له. فقال طرفة:
ولي الأصل الذي في مثله ... يصلح الآبر زرع المؤتبر
و تأبرت النخل: قبلت الإبار. قال الراجز:
تأبري يا خير فسيل ... إذ ضن أهل النخل بالفحول!
و المهرة معروف، والمأمورة: كثيرة النسل والنتاج. تقول: آمرته بالمد: كثرته. فكان القيلس أنَّ يقال مؤمرة، كما تقول أعمرتها فهي معمرة؛ ولكنه قيل مأمورة إتباعا لمأبورة، كما قيل لا دريت ولا تليت أي تلوت وأرجعن مازورات، غير ما جورات أي مزورات. على إنّه قد يقال أمرته كنصرته فهو مامور، كثرته، وهو لغية. وقد قيل بذلك في قوله تعالى: ) وإذا أردنا أنَّ نهلك قرية أمرنا مترفيها(. أي كثرنا. ويقال:أمر القوم بالكسر أي كثروا ومنه قول أوس بن حارثة السابق: من أمر فل، وقول الآخر:
نعلهم كلما يبني لهم سلف ... بالمشرفي ولولا ذاك قد أمروا
و قول أبي وجرة: أمرون لا يرثون سهم القعدد أي كثيرون اسم فاعل أمر. وقول الآخر: أم جوار ضنؤها غير أمر أي نسلها. وقول الآخر:
والإثم من شر ما يصال به ... والبر كالغيث نسله أمر
و السكة هنا أريد بها الأشجار. والمعنى أنَّ خير المال نخيل قمت عليه وأصلحته، أو فرس ولود. وقيل: أريد بالسكة الحديدة التي يحرث بها. ومعنى مأبورة: مصلحة. والمعنى أنَّ خير المال الحرث والبطن. وأعلم أن هذا الكلام ذكره اللغويون، وظاهر كلامهم إنّه من كلام العرب. وفي الصحاح إنّه حديث، والله أعلم! ووري في الحديث أيضاً من هذا المعنى: خير المال عين ساهرة لعين نائمة. وروي: تسعة أعشار الرزق في التجارة.و وري إنّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر الأغنياء باتخاذ الغنم، ويأمر الفقراء باتخاذ الدجاج. وقات ابنه الخس: مائة من المعز قني، ومائة من الضأن غنى، ومائة من الإبل مني.
الخيل تجري على مساويها.
الخيل جماعة الأفراس. قال عنترة:
والخيل تقحم الخبار عوابسا ... ما بين شيظمة وأجرد شيظم
و لا واحد لها. وحكى بعض اللغويين في واحده خائل من الختيال وهو التبختر. والخيل أيضاً جماعة الفرسان. قال امرؤ القيس:
فيا رب مكروب كررت وراءه ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
وقال الآخر:
علام تقول الرمح يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت؟
و الجري معروف والمساوي: المعائب قيل لا واحد لها وقيل جمع مسوء على غير قايس والإظهار إنّه جمع مساءة كما تقول في منارة منائر قال الشاعر في المفرد:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالك
و قول الآخر في الجمع:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا

يقال ساء يسوؤه سوءا بالفتح وسوءا وسوائية كعلانية وسواية بحذف الهمزة ومساء ومساءة ومسائية ومساية إذا فعل به ما يكره. وهذا المثل يضرب في حماية الحريم والدفاع عنه مع الضرر والخوف. والمعنى أن الخيل وإن كانت بها أواصب وعيوب فإنَّ كرمها مع ذلك يحملها على الجري. فذلك الحر من الرجال يحمي حريمه على ما فيه من علة. وقيل إنَّ المراد بالمثل إنَّ الرجل يستمع به وفيه الخصال المكروهة وهو ظاهر.

الخيل اعلم بفرسانها.
الخيل تقدم والفرسان جمع فارس والفارس صاحب الفرس كما قالوا لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر. ويجمع على فوارس. قال عنترة:
فإنَّ يك عبد الله لاقى فوارس ... يردون خال العارض المتوقد
و الفراسة بالفتح والفروسة والفروسية الحذق بركوب الخيل وأمورها. وقد فرس الرجل بالضم يفرس. قال أبن ظفر: وليس من ركب الفرس له حكم الفراسة عند العرب ولكن الفارس عندهم من أحسن الجلاد على الفرس واشتهر بالشجاعة كعمرو بن معدي كرب وربيعة بن مكدم وملاعب الأسنة وعنترة العبسي وأضرابهم. فهؤلاء فرسان العرب. قال الشاعر:
لعمر أبيك الخير إني لخادم ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس
فلم يمتدح بنفس الركوب. انتهى.
والمثل يضرب لمن يظن إنَّ عنده غنى ولا غنى عنده.
الخيل أعلم من فرسانها.
هذا المثل يضرب لمن تظن به ظنا فتجده على ما ظننت هكذا قال بعض العلماء. ويحتمل إنَّ هذين المثلين واحد وإنّما وقع التحريف في أحدهما. والتفسير الثاني انسب بالأول كما لا يخفى.
أخيل من مذالة.
يقال: خال الرجل يخال واختال إذا تكبر وتبختر عجبا فهو خال وخائل وخال كقاص مقلوبا ومختال. والإذالة بالذال المعجمة: الإهانة. يقال: أذلت الرجل فهو مذال. قال زيد الخيل يخاطب بني الصيداء وكان غزا غزوة فطلع بعض خيله فأدركوه فأخذوه:
يا بني الصيداء ردوا فرسي ... إنّما يصنع هذا بالذليل
لا تذيلوه فإني لم أكن ... يا بني الصيدا لمهري بالمذيل
عودوه كالذي عودته ... دلج الليل وإطاء القتيل
و يحكى إنَّ أبا تمام الطائي خرج قاصدا البصرة وفيها عبد الصمد بن المعذل. فلما سمع عبد المد بقدومه إليه كتب إليه:
أنت بين اثنتين تبرز للناس ... وكلتاهما بوجه مذال
لست تنفك راجيا لوصال ... من حبيب أو طالبا لنوال
أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل الهوى وذل السؤال؟
فلما وقف أبو تمام على الأبيات رجع وقال: شغل هذا ما وراءه ولا حاجة لنا فيه. وقريب من هذا قول بعضهم في هجو أبي الطيب المتنبي:
أي فضل لشاعر يطلب الفضل ... من الناس بكرة وعشيا؟
عاش حينا يبيع في الكوفة الماء ... وحينا يبيع ماء المحيا
و إنّما قال: ذلك لمِا يحكى إنَّ أبا الطيب المتنبي كان سقاء بالكوفة والله اعلم.
ونحو الأول قول الإسعري في مجونه الهجوية:
أنت بين اثنين يا نجل يعقوب ... وكلتاهما مقر السيادة
لست تنفك راغبا عرد عبد ... مستبطرا أو حاملا خف عادة
أي ماء لحر وجهك يبقى ... بين ذل البغا وذل القيادة
و المذالة في هذا المثل أرادوا بها الأمة لأنها تذال أي تمتهن بالخدمة ويرها وهي أكثر خلق الله اختيالا وتبخترا وعجبا وذلك من ضعف عقلها وسقاطة نفسها ونقصان همتها فإنَّ الهموم بقدر الهمم.
ومما يلتحق بهذا الباب قولهم:
أخرجت له حريشتي
أي ملك يدي. وقولك مثلا:
أخشن من ليفة.
والخشونة ضد اللين والليف بالكسر ليف النخل وهو معروف والواحدة ليفة بالهاء وهذا المعنى مطرد كما مر في نظائره.
ومن هذا الباب قولهم:
خفة الظهر أحد اليسارين.

جعلوا خفة الظهر كنية عن عدم أو قلة الحقوق اللازمة والنفقات الواجبة فإنّها للزومها كالشيء المحمول على الظهر يخف ويثقل. ولا فرق في إنَّ الأحمال المحسوسة يحملها البدن المحسوس والحقوق تحملها اللطيفة الروحانية من البدن وهي القلب وهذه أقل صبرا على الثقل للطافتها. واليسار: الغنى. وثنى بحسب حقيقته ومجازه لا تفاق اللفظ. وقد قالوا من هذا النحو: الغربة أحد السباءين واللبن أحد اللحمين وتعجيل اليأس أحد اليسرين والشعر أحد الوجهين أي النظر إلى الشعر كالنظر إلى الوجه والحمية إحدى الموتتين أي امتتاع الطعام والقلم أحد اللسانين والخال أحد الأبوين والراوية أحد الهاجيين أي رواية الهجو كقائله. وهذا كله من تثنية الحقيقة والمجاز. وفي ذلك خلاف عند النحويين والمشهور المنع والصحيح جوازه وإنّه لا يشترط اتفاق معنى المثنيين بل اللفظ فقط.
ومما يشهد لصحته هذا الذي ذكرناه من الأمثلة فإنّها أمثال من كلام العرب ودليله من الشعر قول الشاعر:
كم ليث اعتنى لي أشبل غرثت ... فكأنني أعظم الليثين إقداما
أي كان أعظم الليثين إقداما إياي. وقول الآخر:
يداك كفت إحداهما كل بائس ... وأخراهما كفت أذى كل معتد
و إن كان في هذا المثل ضعيف. ومما يدل عليه قول جحدر: ليث وليث في محل ضنك إذ لا فرق بين نحو هذا العطف وبين التثنية فانه أصلها. وليس هذا محل تحرير المسألة والاحتجاج لها.
وقولهم أيضاً:

خفيف الحاذ.
الحاذ بالذال المعجمة الظهر. وألفه عن واو والذال لام الكلمة ومحل الأعراب وليس بعدها ياء كما يصحف. ومعنى خفيف الحاذ: قليل الماء والعيال. وفي الحديث: مؤمن خفيف الحاذ. وقولهم:
خفيف الرداء.
أي قليل العيال والدين. والرداء بالكسر والمد يطلق على الملحفة المعروفة وعلى السيف والقوس وعلى الجهل وعلى ما زان وما شان وعلى الضد وعلى الوشاح وعلى الدين. ومما يحسن أن يتمثل به في هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد:
خلط عليك الأمر.
والقصة مشهورة وقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
هو يخبأ وأبوه يكنز.
وذلك إنَّ خبيئة بن كناز ولي في خلافته الابلة فقال عمر رضي الله عنه: لا حاجة لنا وهو يخبأ وأبوه يكنز.
ومن الأمثال المولدة قولهم:
اخط الحسن يزيد من الحق وضوحا.
بمعنى إنّه إذا أجيد الخط وبينت الحروف تبينت الألفاظ المؤدية للمعاني وانشرحت النفس وانبسطت إليها وأقبلت عليها فكان قبولها للمعاني أتم وفهمها لها أكثر. وقد قالوا: الخط الحسن أحد اللسانين. وقالوا حسن الخط إحدى الفصاحتين. وقال جعفر بن يحيى: الخط بسط الحكم: به تفصل شذورها وينتظم منثورها. وقال المبرد: رداءة الخط زمانة الأدب. وقال الإمام الماوردي: خطوط العلماء في الأغلب رديئة لاشتغالهم بالعلم حتى قال الفضل أبن سهل: من سعادة المرء رداءة خطه أي لئلا يشغله تعلم الخط عن تعلم العلم. قيل: والأسباب المخلة بالخط ثمانية: إسقاط ألفاظ منه أو زيادة ألفاظ فيه أو إسقاط بعض حروف الكلم أو زيادة حروف أثناءها أو وصل المفصول أو فصل الموصول أو تغيير الحرف حتى يشتبه حرف بغيره أو ضعف الخط جملة أو إهمال النقط أو الشكل.
قيل: وقد استقبح الكتاب النقط والشكل في مكاتبهم ورأوا ذلك من تقصير الكتاب وسوء نظرتهم في فهم المكتوب لا سيما مكاتبات الرؤساء. كما حكي إنَّ بعض كتاب الديوان حاسب عاملا فشكاه في رقعته إلى عبيد الله بن سليمان فوقع فيها: هذا هذاء. فظن العامل إنَّ عبيد الله أراد: هذا هذا إثباتا لذلك القول كما تقول في إثبات الشيء هو هو. فحمل الرقعة للذي يحاسبه فخفي عليه ما يقتضي التوقيع فطيف به على الكتاب فلم يفهموه. فرد إلى عبيد الله. فشدد الثانية وكتب تحتها: والله المستعان استعظاما لقصور نظرهم.
واستحسن آخرون لنقط والشكل، وقالوا: المعجمة كالبرود المعلمة. وقالوا: إعجام الخط يمنع استعجامه، وشكله يمنع من إشكاله. وقيل، رب علم لم تعجم فصوله فاستعجم محصوله.
آلات الكتابة وأصناف الكتب.

وإذ أنجز بنا الكلام في الخط فلنكمل الغرض بذكر ما تيسر من آلات الكتابة، ومعنى الكتاب، والبراءة، والطبع، والتوقيع، والعنوان، وأصناف الكتاب، وجملة من شعر الأدباء في ذلك، وهذا باب واسع ألف فيه الناس. لكن نشير نحن إلى جملة يسيرة على وجه الاختصار وينتفع بها.
فمن الآلات الدواة ووزنها فعلة كالشجرة، ثم قلبت الياء ألفا فصارت كفتاة وقناة، ز الجمع دويات كقنوات ودوي كقنى. قال الشاعر:
لمن الدار كخط باللدوى؟ ... أنكر المعروف منها وأمحى
و دوي بضم الأول على فعول كما يقال قني وعصي في الجمع. قال الشاعر
عرفت الديار كرقم الدوي ... حبره الكتاب الحميري
وقال الآخر:
وكم تركت ديار الشرك تحسبها ... تلقى الدوي على أطلالها ليقا
واشتقاقها من الدواء، لأن بها صلاح أمر الكاتب. واشتقها بعض الأدباء من قولك: دوي الرجل بالكسر دوي إذا مرض فقال:
أما الدواة فأدوى حملها جسدي ... وحرف الحظ تحريف من القلم
أي أمرضه. ونحو هذا الاشتقاق لا يعتمد عليه. ويقال لصانعها مدو، كما يقال لصانع القني مقني، ولبائعها دواء كحناط لبائع الحنطة، ولحاملها داوٍ كسائف لصاحب السيف ولمتخذها مدو، وقد أدوى دواة. ولمّا تصان به صوان وغشاء وغلاف وما تسد به صمام وسداد وعفاص، وكذا غيرها يقال لصفوتها إذ أنفشت لتعمل فيها قبل أنَّ تبلّ، البوهة بالضم، وإذا بلت فهي الليقة، وقد تسمى به قبل ذلك مجازاً. ولقت الدواة فهي ملقية، وألقتها فهي ملاقة. فإنَّ كانت من قطن فهي العطبة والكرسفة، والقطن كله يقال له ذلك. ولمدادها نقس بكسر الأول، ويفتح. والمداد يذكر ويؤنث. ومددت الدواة مداً: جعلته فيها؛ وأمددتها: زدتها منه؛ واستمددت: أخذت بالقلم من المداد؛ وأمددت فلانا من دواتي: أعطيته. ويقال للدواة محبرة بالفتح لأنها محل الحبر بالكسر وهو النقس؛ ويقال لها النون والجمع أنوان ونينان؛ ويقال لها الرقيم أيضا. وأمهت الدواة وموهتها جعلت فيها ماء.
ومنها القلم، والجمع قلام وأقلام كجبال وأجبال. ويقال له المزبر والمذبر بالذال المعجمة لأنه يزبر به ويذر أي يتب وقيل الذبر، بمعنى القراءة. ويقال للقصبة يراعة وأباءة والجمع يراع واباء؛ ويقال لعقدة الكعوب: فإنَّ كانت فيه عقدة تشينه فهي الابنة؛ ولمّا بين العقد الأنابيب، وكذا في الرماح. ويقال لطرفي القلم اللذين يكتب بهما السنان والشعيرتان، والواحد سن وشعيرة. فإنَّ سويا في القطع فهو قلم مبسوط، وإنَّ جعل أحدهما أطول فهو محرف.
ومنها السكين والمقص. قال أبن عبد ربه: ينبغي للكتاب أنَّ يصلح آلته التي لا بد له منها، وأداته التي لا تتم صناعته إلاّ بها، وهي دواته. فلينعم ربها وإصلاحها، وثم يتخير من أنابيب القصب أقله عقدة، وأكتافه لحما، وأصلبه قشرا، وأعد له استواء. ويجعل لقرطاسه سكينا ليكون عونا على بري أقلامه، ويبريها من ناحية نبات القصب. انتهى.
ويقال السكين والمدية والمجزاة والمبراة والفالية والشلقاء بالكسر والمد، وغير ذلك ويقال المقص والمقراض والمقطع بكسر أوائلها والجلم، وأكثر ما يقال بالتثنية. قال الشاعر:
ولولا نوال من يزيد بن مزيد ... لصوت في حافاتها الجلمان
يعني لحيته. وجاء فيه الأفراد. قال سالم بن وابصة:
داويت صدرا طويلا غمرة حقداً ... منه وقلمت أظفارا بلا جلم
وقال أعرابي:
فعليك ما استطعت الظهور بلمتي ... وعلي أنَّ ألقاك بالمقراض
و أما الكتاب فهو مكتوب ويقال له الزبور والزبير والذبير. قال امرؤ القيس:
... كخط زبور في مصاحف رهبانِ
وقيل: الزبور في هذا البيت هو الكتاب وهو الظاهر. فإن كان ما يكتب فيه من جلود فهو رق وقرطاس بكسر القاف وضمها؛ وإن كان من خرق فهو كاغد بدال مهملة وروي بمعجمة. وقد يستعمل القرطاس في الكل. ويقال لمّا يكتب الصحيفة والمهرق على وزن مكرم والجمع مهارق. قال الأعشى:
ربي كريم لا يغير نعمة ... وإذا تنوشد بالمهارق أنشدا
و القضيمة. قال امرؤ القيس:
... وبين شبوبٍ كالقضيمة قرهبِ
والسجل والصك والقط. وكذا كتب الجوائز والصلات والجمع صكوك وقطوط. قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفقُ
وقال المتلمس:

ألقيتها بالثني من جنب كافر ... كذلك أقنو كل قط مضللِ
فإن كتب فيها بعد محو فهي طرس. ونمقت الكتاب نمقا ونمقته تنميقا، وحبرته ورقشته وزورته تحبيرا وترقيشا وتزويرا؛ وكذا زبرجته وزخرفته زبرجة وزخرفة أي كتبته كتابة حسنة. فإذا نقطه قلت وشمه وشما، وأعجمته إعجاما ورقشته ترقيشا. قال طرفة:
كسطور الرق رقشه ... بالضحى مرقش يشيمه
فاا أفسد الخط قلت مجمجه وشرمجه وهلهله ولهلهه مجمجة وشرمجة وهلهلة ولهلهة وثبجه تثبيجا. وإذا لم يبينه قلت دحمسه دحمسة ومجمجه وعقمه عقما وعقله عقلا. فإذا أدق الحرف وقارب بعضها بعض قلت قرمط وقرصع قرمطة وقرصعة. فإذا مد الحروف قلت مشق مشقا وقيل المشق سرعة الكتابة وخفتها. فإن نقص شيئا فألحقه فهو لحق وجمعه إلحاق. قال الشاعر:
عورٌ وحولٌ وثالثٌ لهم ... كأنه بين أسطر لحقُ
فإن وضعت عليه بعد الكتب ترابا قلت تربته تتريبا وأتربته إترابا؛ أو نشارة قلت نشرته تنشيرا.
وأما البراءة فهي في الأصل مصدر قولك: برئت من الأمر بالكسر براءة أي تبرأت؛ وأما هذه البراءة المستعملة في صناعة الكتاب فقال أبو محمد بن السيد رحمه الله: سميت بذلك لمعنيين: أحدهما أن يكون من قولهم برئت إليه من الدين براءة إذا أعطيته ما كان له عندك وبرئت إليه من الأمر براءة إذا تخلف عنه فكأن المرغوب إليه يتبرأ إلى الراغب مما أمله لديه ويتخلى له عما رغب فيه إليه. وقيل إنّما كان الأصل في ذلك أنَّ الجاني كان إذا جنى جناية يستحق عليها العقاب ثم عفا عنه الملك كتب له أمانا مما كان يتوقعه ويخافه فكان يقال: كتبت لفلان براءة أي أمانا ثم ضار مثلا واستعار في غير ذلك. قال: وقد جرت عادة الكتاب ألا يكتبوا في صدر البراءة: بسم الله الحمن الرحيم اقتداء بسورة براءة التي كتبت في المصحف من غير بسملة.
وأما الطبع فهو طبع الكتاب. تقول: طبعت الكتاب طبعا وختمته ختما وأفقته أفقا ومن ذلك قول الأعشى السابق: يعطي القطوط ويأفق أي يختم ويقال لمّا يطبع به طابع. قيل: وأول من طبع الكتب عمرو بن هند وذلك أنه لمّا أعطى المتلمس الصحيفة ليقتل ثم استقرأها فهرب كما سيأتي حديثه أمر عمرو بعد ذلك بالكتب تختم. فكان يؤتى بالكتاب مطبوعا فقيل من عني به فلذلك سمي العنوان عنوانا. ثم لمّا كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى ملك الروم ولم يختمه قيل له إنه لا يقرؤه إن لم يكن مختوما. فأمر أن يعمل له خاتم وينقش على فصه: محمد رسول الله فصار الختم سنة في الإسلام. وقيل أول من ختم الكتاب سليمان أبن داود عليه السلام. وقيل في تأويل قوله تعالى: إني ألقي إلي كتاب كريم أي مختوم. وأكرمت الكتاب ختمته وهو أول من افتتح كتابه بالبسملة. قيل: وكانت العرب تقول في افتتاح كتبها وكلامها. باسمك اللهم! فجري الأمر على ذلك في صدر الإسلام حتى نزلت: بسم الله مجراها ومرساها فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله حتى نزلت قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فكتب: بسم الله الرحمن. ثم نزلت: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم فصارت سنة إلى يومنا هذا.
وأوّل من كتب من فلان إلى فلان رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار ذلك سنة يكتب الكتاب ويبدأ باسمه قبل اسم من يخاطبه ولا يكتب لقبا ولا كنية حتى ولي عمر بن الخطاب وتسمى بأمير المؤمنين فكتب من أمير المؤمنين عمر. فجرت السنة بذلك إلى أيام الوليد بن عبد الملك فكان الوليد أوّل من اكتنى في كتبه وأوّل من عظم الخط والكتب وجود القراطيس. ولذلك قال أبو نواس:
سبط مشارفها رقيق جطمها ... وكأن سائر خلفها بنيانُ
واحتازها لون جرى في جلدها ... يقف كقرطاس الوليد هجانُ
فجرت سنة الوليد بذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز ويزيد الكامل فإنهما لمّا وليا ردا الأمر إلى ما كان عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن أحابه رضوان الله عليهم. فلما ولي مروان رجع إلى أمر الوليد فجرى الأمر عليه. ذكر ذلك أبو محمد بن السيد رحمه الله تعالى.
وأما التوقيع فهو ما يلحق بالكتاب بعد الفراغ منه ممن رفع إليه كالسلطان ونحوه من ولاة الأمر كما إذا رفعت إلى السلطان أو إلى الوالي شكاة فكتب تحت الكتاب أو على ظهره: ينظر في أمر هذا أو: يستوفى لهذا حقه أو نحو ذلك. فهذا توقيع.

ورفع إلى جعفر بن يحيى كتاب يشتكى فيه بعامل فكتب على ظهره: يا هذا قد قل شاكروك وكثر شاكوك فإما اعتدلت وإما اعتزلت! ورفع إلى الصاحب بن عباد كتاب فيه: إنَّ إنسانا هلك وترك يتيما وأموالا جليلة لا تصلح لليتيم وقصد الكاتب إغراء الصاحب. فأخذها فوقع الصاحب فيها: الهالك رحمه الله وو اليتيم أصلحه الله والمال ثمرة الله والساعي لعنه الله! ونحو هذا من التوقيعات. والتوقيع في الأصل التأثر في الشيء. يقال: حمار موقع الظهر أي أصابته في ظهره دبرة فسمي هذا توقيعا لنه تأثر في الكتاب حسنا أو في الأمر معنى؛ أو في الوقوع لأنه سبب لوقوع الأمر المذكور أو لأنه إقاع لذلك المكتوب: فتوقيع كذا بمعنى إيقاعه. وأما العنوان فهو ما يجعل عليه ليستدل به عليه ويقال قيه: عنوان وعنيان بضم الأول فيهما وكسره. وأصله عنان على مثل رمان لأنّه مشتق من قولك: عن لي الأمر يعن إذا عرض لأنّه هو يعرض للكتاب من ناحية وعننه وعنونه وعناه: كتب عنوانه. ويقال فيه أيضاً علوان باللام وعلون الكتاب وعلاه تعلية: كتب عنوانه وكل ظاهر شيء استدلت به على باطنه فهو عنوان له. قال الشاعر:
رأيت لسان المرء رائد عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون!
وقال الآخر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
و ما أصناف الكتب فكثيرة منها: كاتب التدبير وهو أجلها وأعلاها درجة وهو كاتب السلطان الذي يكتب سره؛ ومنها كاتب أرباب الأحكام وأجلها كاتب القاضي ثم كاتب صاحب المظالم ثم كاتب صاحب الديوان وهو الخراج ثم كاتب صاحب الشرطة؛ ومنها كاتب العامل وكاتب المجلس إلى غير وكل واحد منها له أحكام وآداب ذكرت في محلها.
ولهم أقلام مختلفة اصطلحوا عليها في الكتابة. انتهى. مجموعها بحسب ما ذكروا إلى أحد وعشرين وهي الجليل والسجلى ويسمى قلم الثلثين والقلم الرئاسي والنصف وخفيف النصف والثلث وخفيف الثلث والمسلسل وغبار الحلبة وصغير الغبار وهو قلم المؤامرات وقلم القصص والحوائجي والمحدث والمدمج وثقيل الطومار وخفيف الطومار والشامي ومفتح الشامي والمنثور وخفيف المنثور وقلم الجزم.
واختلف في أوّل من كتب: فقيل آدم عليه السلام كتب الصحف قبل موته بثلاثمائة سنة في طين ثم طبخه. فلما كان بعد الطوفان أصاب كل قوم كتابهم؛ وقيل أوّل من كتب إدريس عليه السلام؛ وقيل أوّل من وضع الكتابة إسماعيل عليه السلام وضعها بلفظه ومنطقه؛ وقيل أوّل من كتب قوم من الأوائل أسمائهم أبجد هوز حطي إلى آخرها. وكانوا ملوك مدين وقيل هم أبجد هوز إلى قرست ملوك مدين فوضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم وكان سيدهم كلمن فهلكوا يوم الظلة فقالت ابنة كلمن ترثيه:
كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه ... الحتف نارٌ وسط ظله
جعلت نارٌ عليهم ... دراهم كالمضمحله
و يروى أيضاً:
ألا يا شعيب قد نطقت مقالةً ... سبقت بها عمراً وحي بني عمرِ
ملوك بني حطي هوز منهم ... وسعفص أهل للمكارم والفخرِ
و قيل هم ملوك الجن الذين سكنوا الأرض قبل آدم عليه السلام فألقيت إلى العرب؛ وقيل أسماء ملوك الجبابرة.
وقيل أوّل من وضع الخط العربي نفر من طيء من بولان وهم: مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن حدرة. فساروا إلى مكة فتعلمه منهم شيبة بن ربيعة بن حرب بن عبد شمس وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهشام بن المغيرة المخزومي. ثم أتوا الأنبار فتعلمه نفر منهم. ثم أتوا الحيرة فتعلمه منهم جماعة منهم: سفيان بن مجاشع بن عبد الله بن دارم وولده يسموه بالكوفة بني الكاتب. ثم أتوا الشام فعلموه جماعة فانتهت الكتابة إلى رجلين من أهل الشام يقال لهما الضحاك وإسحاق بن حماد واخترع منه خطا أخف فسماه الثلثين السابق. ثم جعل الناس يختصرون ويغيرون حتى انتهى إلى ما مر. وليس هذا محل تفصيل هذا.
وأما ما قيل من الشعر في وصف الكتاب أو الأقلام أو المحابر أو تفضيل القلم على السيف أو العكس فأكثر من أن يحصى. وقد وضعت في ذلك موضوعات مستقلة. فمن مستحسن ذلك قول أبي الفتح البستي:
إن هز أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كل كمي هز عاملهُ
وإن أقر على رقٍّ أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام لهُ
وقال الآخر:

يمسك الفرس رمحا بيدٍ ... وأنا أمسك فيه قصبه
فكلانا فارسٌفي شأنه: ... إنَّ الأقلام رماحُ الكتبه
و قول الآخر:
وما روض الربيع وقد زهاه ... ندى الأشجار يأرج بالغداةِ
بأوضاع أو بأبسط من نسيمٍ ... توديه الأفاوه من دواةِ
و قول الآخر في خلاف هذا:
دعي في الكتابة لا رويٌ ... له فيما يعد ولا بديهُ
كأن دواته من ريق فيه ... تلاق فريحها أبداً كريهُ!
و قول بعضهم وقد نظر إلى فتى عليه أثر المداد وهو يستره:
لا تجزعن من المداد فإنه ... عطر الرجال وحلية الكتاب!
و يقال: أثر المداد دليل على الفضل حتى إنَّ عبيد الله بن سليمان رأى صفرة زعفران في ثوبه فطلاها بالحبر وقال: المداد أحسن بنا من الزعفران! وأنشد:
إنما الزعفران عطر العذارى ... ومداد الدوات عطر الرجالِ
و قول الآخر يهجو كاتبا:
حمارٌ في الكتابة يدعيها ... كدعوى آل حربٍ في زيادِ
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو غرقت ثوبك في المدادِ!
وقال بعضهم: كنت عند إبراهيم بن العباس وهو يكتب كتابا فوقعت من القلم نقطة مفسدة فمسحها بكمه فتعجبت فقال: لا تعجب! المال فرع والقلم أصل والأصل أحوج من الفرع إلى المراعات وبهذا السواد جاءت الثياب. ثم أطرق قليلا فأنشد:
إذا ما الفكر ولد حسن لفظٍ ... وأسلمه الوجود إلى العيانِ
ووشاه فنمنمه مشدٍ ... فصيحٌ في المقال بلا لسانِ
ترى حلل البيان منشراتٍ ... تجلى بينها صور المعاني
و كتب سليمان بن وهب بقلم صلب واعتمد عليه فصر تحت يده فقال:
إذا ما التقينا وانتضينا صوارماً ... يكاد يصم السامعين صريرها
تساقط في القرطاس منها بدائعٌ ... كمثل اللآلي نظمها ونثرها
تقود أبيات البيان بفطنةٍ ... يكشف عن وجه البلاغة نورها
تظل المنايا والعطايا شوارعاً ... تدور بما شئنا وتمضي أمورها
إذا ما خطوب الدهر أرخت ستورها ... تجلت بنا عما تسر ستورها
و قول أبي تمام يمدح محمد بن عبد الملك الزيات من قصيدة:
لك القلم الأعلى الذي بشباته ... يصاب من الأمر الكلى والمفاصلُ
له الخلوات اللاء لولا نجيها ... لمّا اختلفت للملك تلك المحافلُ
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأرى الجنا اشتارته أيدٍ عواسلُ
له ريقٌ طل ولكن وقعها ... بآثاره في الشرق والغرب وابلُ
فصيحٌ إذا استنطقته وهو راكبٌ ... وأعجم إن خاطبته وهو راجلُ
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت ... عليه شعاب الفكر وهي حوافلُ
اطاعته أطراف القنى وتقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافلُ
إذا استغزر الذهن الذكي وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافلُ
وقد رفدته الخنصران وسددت ... ثلاث نواحيه الثلاث الأناملُ
رأيت جليلاً شأنه وهو مرهقٌ ... ضنى وسميناً خطبه وهو ناحلُ
و قول أبي الفتح البستي:
إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب مجداً ورفعةً ... مدى الدهر أنَّ الله أقسم بالقلم
و قول البحتري:
تعنو له وزراء الملك قاطبةً ... وعادة السيف أن يستخدم القلما
و قول الآخر:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأممُ
فالموت والموت لا شيء يقابله ... ما زال يتبلع ما يجري به القلمُ
بذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أنَّ السيوف لها مذ أرهفت خدمُ
و قول أبي الطيب مناقضا لهذا:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي: ... المجد للسيف ليس المجد للقلمِ
اكتب بذا أبداً بعد الكتاب لها ... فإنما نحن للأسياف كالخدمِ
و قول سليمان بن جرير النمري في نحوه:
جهابذةٌ وكتابٌ وليسوا ... بفرسان الكريهة والطعانِ
ستذكرني وتعرفني إذا ما ... تلاقى الحلقان من الباطنِ
و قول كشاجم:
هنيئاً لأصحاب السيف بطالةً ... تقضى بها أيامهم في التنعمِ!
وكم فيهم من دائم الأمن لم يرع ... بحربٍ ولم ينهد لقرن مصممِ

وكل ذوي الأقلام في كل ساعةٍ ... سيوفهم ايست تجف من الدمِ
و قول الآخر في مدح القلم وأهله:
قومٌ إذا أدخلوا الأقلام من قصبٍ ... ثم استمدوا بها ماء المنياتِ
نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ... ما لا ينال بحد المشرفياتِ
و قول البحتري يمدح الحسن بن وهب ويصف أقلامه:
وإذا تألق في الني كلامه ... المصقول خلت لسانه من عضبهِ
وإذا دجت أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدجى في كتبهِ
فاللفظ يقرب فهمه في بعده ... منا ويبعد نيله في قربهِ
حكمٌ فسائحها خلال بنانه ... متدفق وقليلها من قلبهِ
فكأنها والسمع معقودٌ بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبهِ
و قوله أيضاً في أبن الزيات:
لتصرفت في الكتابة حتى ... عطل الناس فن عبد الحميدِ
في نظام من البلاغة ما شك ... امرؤ أنه نظام فريدِ
وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديدِ
ما أعيرت منه بطون القراطيس ... وما حملت طهور البريدِ
حزن مستعمل الكلام أخباراً ... وتجنبن ظلمة التعقيدِ
كالعذارى غدون في الحلل الصفر ... إذا رحن في الخطوب السودِ
و من أمثال الأدباء قولهم:

أخف من دينار يحيى.
وهو يحيى بن علي أعطى بعض الأدباء دينار خفيفا فقال فيه عدة مقاطع منها:
دينار يحيى زائد النقصان ... فيه علامة سكة الحرمانِ
قد راق منظره ورق خياله ... فكأنه روح بلا جثمان
أهداه مكتتما إلي برقعةٍ ... فوجدته أخفى من الكتمان!
و من أمثال العامة قولهم:
خالف تعرف!
ونحوه قول الشاعر:
خلافا لرأي من فيالة رأيه ... كما قيل قبل اليوم: خالف فتذكر!
و يظهر من هذا البيت إنَّ المثل قديم، والبيت انشده الجاحظ.
ولنلم الآن بشيء في هذا الباب. قال الشاعر:
تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وأصبحت أشرب ماء نقاخا
شراب النبيئين والمرسلين ... ومن لا يحاول منه اطباخا
رأيت النبيذ يدل العزيز ... ويكسو التقي النقي اتساخا
فهبني عذرت الفتى جاهلا ... فما العذر فيه إذا المرء شاخا؟
قوله ماء نقاخا، أي بارداً عذبا صافيا، وهو بضم النون وبالقاف على مثال غراب. وقال الآخر:
نعوذ بالله من أناسٍ ... تشيخوا قبل إنَّ يشيخوا
تقوسوا وانحنوا رياء ... فأحذرهم: انهم فخوخ!
و أشار بهذا التمثل في الرياء إلى نحو ما حكي في الإسرائيليات إنَّ عصفورة على فخ فقالت له: مالي اراك منحنيا؟ قال:: لكثرة صلاتي انحنيت. قالت: فمالي أراك بادية عظامك؟ قال: لكثرة صيامي، بدت عظامي! قالت: فما هذا الصوف عليك؟ قال: لزهادتي لبست الصوف. قالت: فما هذه العصا عندك؟ قال: أتوكؤ عليها وأقضي بها حوائجي. قالت: فما هذه الحبة في يدك؟ قال: قربان إنَّ مر بي مسكين أناوله إياها. قالت: فإني مسكينة. قال: خذيها! فقبضت على الحبة فإذا الفخ في عنقها، فصاحت: قعى! قعى! وتفسيره: لا غرني مراءٍ بعدك أبداً! ومما جاء في الرياء، أعاذنا الله منه!، قوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " . قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: " الرياء " . يقول عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم في الدنيا، فانظروا كيف تجدون عندهم الجزاء. وقوله صلى الله عليه وسلم: " من راأى، راأى الله به، ومن سمع، سمع الله به " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " من أسر سريرة ألبسه الله رداءها، خيرا فخير وإنَّ شرا فشر. والآيات والأحاديث والآثار في ذم الرياء والتنفير عنه لا تحصى وهي مشهورة. وفي معنى ذلك قول الشاعر:
وإذا أظهرت شيئاً حسنا ... فليكن أحسن منه ما تسر
فمسر الخير موسم به ... ومسر الشر موسوم بشر
و قول الآخر في المتشابهين:
أهل الرياء لبستهم ناموسكم ... كالذئب يدلج في الظلام العاتم
فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقستم الأموال بابن القاسم
وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم
و قول الآخر:
قل للأمام سنا الأئمة مالكٍ ... نور العيون ونزهة الأسماع:

لله درك من همام ماجد ... قد كنت راعينا فنعم الراعي!
فمضيت محمود النقيبة طاهرا ... وتركتنا قنصا لشر سباع
أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزلٍ ... طاوي الحشا متكفت الأضلاع
تشكوك دنيا لم تزل بك برة ... ماذا رفعت بها من الأوضاع
وقال محمود الوراق لابن أخته:
تصوف كي يقال له أمين ... وما معنى التصوف والأمانة؟
ولم يرد الإله به ولكن ... أراد به الطريق إلى الخيانة
و قول الآخر:
صلى وصام لأمر كان يطلبه ... ومذ حواه فما صلى ولا صاما!
و قول الآخر:
شمر ثيابك واستعد لقابل ... واحكك جبينك للقضاء بثوم
وعليك بالغنوي فاجلس عنده ... حتى تصيب وديعة ليتيمِ!
و قول الآخر:
لا شيء أخسر صفقة من عالمٍ ... لعبت به الدنيا مع الجهالِ
فغدا يفرق دينه أيدي سبا ... ويديه حرصاً بجمع المالِ
لا خير في كسب الحرام وقلما ... يرجى الخلاص لكاسب الحلالِ
فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلةٍ ... فالفضل تسأل عنه أي سؤالِ!
و قول بعضهم وقد رأى ثم افتضح نعوذ بالله!:
بينا أنا في توبتي مفبلاً ... قد شبهوني بابن روادِ
وقد حملت العلم مستظهراً ... وحدوثوا عني بإسنادِ
الله تعالى خطر الشيطان بي جطوة ... نكست منها في أبي جادِ
وقال آخر يخاطب معزولا:
ولوك إذ علموا بجهلك منصباً ... علموا بأنك عن قليل تبرحُ
طبخوا بنار العزل قلبك بعد ذا ... وكذا القلوب على المناصب تطبخُ
وقال الآخر في حمام:
حمامكم قيمته أسود ... هربت منه وأنا صارخُ
قد سلخت جسمي أظافره ... يا قوم هذا الأسود السالخُ
و في هذين الشعرين التورية وهي إن يذكر الشاعر لفظاله مهنيان: قريب وبعيد. ويريد البعيد نحو قوله تعالى: الرحمن على العرشِ استوى فإنَّ المراد أحد معنيي الاستواء وهو الاستيلاء قهرا وغلبة وهو المعنى الأبعد لأنّه مجاز وتسمى التورية إيهاما. فإن كان المعنيان مستويين سمي ذلك توجيها. وقد تقدم في ذلك جملة من الشعر في الأبواب السابقة ونحن نريد هنا من مستحسن ذلك قول بعضهم يهنيءبعيد النحو:
تهن بعيد النحو وابق ممتعاً ... بأمثاله سامي العلى نافذ الأمرِ!
تقلدنا فيه قلائد أنعمٍ ... واحسن ما تبدو القلائد في النحرِ
و قول الآخر:
بروحي أفدي خاله فوق خده ... وما أنا في الدنيا فأفديه بالمالِ
تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخالِ
و قول الآخر:
مهفهف القد إذا ما انثنى ... قال ولا يخشى من الود
ما أنت كفلي يا كثيب اللوى ... ولست يا غصن النقا قدي!
لو نلت من خده تقبيلةً ... تزين الريحان بالوردِ
و قول الآخر:
قلت للأهيف الذي فضح الغصن ... كلام الوشاة ما ينبغي لك
قال: قول الوشاة عندي ريحٌ ... قلت: أخشى يا غصن أن تستميلك!
و قول الآخر:
تهاون شمس الين بي وهو صاحبٌ ... وأظهر لي أضعاف ما يظهر العدا
نزلت به أبغي النا وهو طالعٌ ... وعند طلوع الشمس يرتفع الندا!
و قول الآخر في حق النبي صلى الله عليه وسلم :
يا عين إن بعد الحبيب وداده ... ونأت مرابعه وشط مزارهُ
فلقد ظفرت من الزمان بطائلٍ ... إن لم تريه فهذه آثارهُ
و قول الآخر:
عاينته ودموعي غير جاريةٍ ... لأن دمعي من طول البكا نشفا
فقال: لم أدر وكف الدمع قلت له: ... حسيبك الله يا بدر الجا وكفا!
و قول الصفدي مع حسن التضمين:
ملكت كتابا أخلق الدهر جلده ... وما أحدٌ في دهره بمخلدُ
إذا عاينت كتبي الصحيحة حاله ... يقولون: لا تهلك أسى وتجلد!
و قول أبي بكر بن حجة:
عزمت على السلو لطول هجري ... فجاءتني عوارضه تعارض
وكان العذر يقبل في سلوي ... ولكن ما سلمت من العوارض
وقول البدر الدماميني:
وبي وجنةٌ حمراء زاد صفاؤها ... فأبدت صفات أبع الحسن كونها
فدع لائمي فيها عن الحب جهده ... فما أنا بالسالي صفاها ولونها
و قول أبن جعفر العسقلاني:

قد جئت في علم الأصول لنا وفي ... علم الفروع بخالص الابريز
برزت في هذا وفي هذا على ... الرازي بالإحسان والتبريزي
و قوله:
خليلي ولى العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا
فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنا؟
و قول المعمار:
إنَّ قام يتلو سورة الشمس المنيرة في ضحاها
يا حسنه فكأنه القمر المنير إذا تلاها
وقوله:
تملك قلبي صارم قد هويته ... من الهند معسول اللمى أهيف القد
أقول لصاحبي حين يرنو بلحظه: ... خذوا حذركم قد سل صارمه الهندي
و قول الآخر:
يا من تولى قاضيا ... هذا قضاء أم قدر؟
عذرك في نسياننا ... أنَّ القضا يعمي البصر!
و قول أبن العفيف:
ليس خليليا ولكنه ... يضرم في الأحشاء نار الخليل
يا ردفه جرت على خصره ... وفقا به ما أنت إلاّ ثقيل!
و قوله مما يكتب على كأس:
أدور لتقبيل الندامى ولم أزل ... أجود للندامى وأنفاسي
وأكسو أكف الشرب ثوبا مذهب ... فمن أجل هذا لقبوني بالكأس
و قوله في مليح خيالي:
خيالي أخاف الهجر منه ... وليس أراه يرغب في وصالي
وكنت عهدتني قدما شجاعا ... فمالي صرت أفزع من خيالي؟
و ما قيل في التورية والتوجيه أكثر من إنَّ يحصى. ولولا خوف الإطالة لأوردنا من مستحسن ذلك ما يكون جزءا مستقلا، وليس ذلك من غرضنا. وأنا أذكر هنا بعض ما اتفق لي نظمه في باب التورية أو التوجيه من غير تعبئة لنزول هذا الميدان، ومطاردة هؤلاء الفرسان. فمن ذلك قولي:
بنفسي من أضحى فؤادي طائرا ... على غصن من قده اللدن ميال
على روضة من خده الخال عارض ... وأبهج روض ما علا عارض الخال
و فيه التورية بالطائر من حيث إنّه اسم فاعل أو اسم ذي الجناح على التشبيه وحرف الجر بعده للتعليل على الأول والاستعلاء على الثاني، والتوريه بالخال من حيث إنّه النقطة أو الغيم المخيل بالمطر مع الجناس بين على وعلا والعكس.
وقولي:
مررت على بالٍ من الربع دارس ... بكل ربابٍ عارض اسحم خال
ففاضت شؤون الجفن من ذكر حيرتي ... وثار هواهم إذ مررت على البال
و فيه التورية بالخال من حيث إنّه وصف للدارس من الخلو أو وصف للرباب بمعنى المخيل كما مر. والتورية بالبال آخراً من حيث إنّه راجع إلى الربع من البلى أو إنّه الفكر والخاطر ومعمول مررت عليهن محذوف عي عليه.
وقولي:
وعاذل عن الهوى عادل ... يدعو لأمر في الهوى إمر
قال أسلهم واصبر فكم ذائق ... أمر في الهجر من الصبر
وزع عنان القلب عما جرى ... عليه من بلواء أو يجري
فأي عذر في اتباع الصبا؟ ... قلت له إنَّ الهوى عذري
و فيه التورية بالصبر من حيث إنّه معناه أو إنّه المر المعروف. وأصله صبر ثم خفف بالتسكين والتورية يجري من حيث إنّه من الجريان بقرينة العنان أو إنّه من الوقوع. والمعنى عليهما واضح. والتورية بالعذر من حيث إنّه الاعتذار أضيف إلى ياء المتكلم أونسوب إلى بني عذرة، وهو الهوى الشديد، والمعيان ظاهران وقولي:
قال العذول إذ بدا ... بعارض معذر:
الوجه الاعتزال عن ... هذا الوجيه الأشعر
فقلت: ذلك الوجه ... يبقى فيه فضل نظر
و فيه التورية في الاشعر مع الاعتزال من حيث إنّه وصف كأحمر أي ذو شعر أو بياء النسبة، والتورية في النظر والوجه من حيث إنّه نظر البصر أو نظر البصيرة، والوجه وجه الحبيب أو وجه الدليل.
وقولي من قصيدة زمن الصبا أخاطب شيخنا الإمام الهمام أمتعني الله به:
وفينا معان بينت قدم الهوى ... فليس لعمري بالبديع إلى الصدر
وقد أعربت جزما بنصب أدلة ... فيرفع ما بينى على الظن من هجر
فإنَّ لم يكن عن ذلك فعلي معربا ... تغنيت بالماضي من الحال والأمر
و هذه التوريات واضحة كلها، وقد وقع لي مثل هذا النوع كثيرا ولم أذكره.
وقولي من قصيدة أخرى موريا بالعباب و " الجوهري " من كتب اللغة:
وعبرت من لجج العلوم عبابها ... حتى أنثنيت بمنفسات الجوهر

و هذه القصيدة خاطبت بها بعض فضلاء العصر. فلما وقف عليها استحسنها هو وجماعة من الفضلاء الواقفين عليها غاية. وكان من أغبياء الطلبة بعضهم من لم يرتق فهمه إلى ألفاظها، فضلاً عن معاينتها، فتعلل لنفسه القاصرة بأنها مشتملة على الوحشي من اللغة. فلما بلغني ذلك قلت:
تسامى لأذيالي مذال ولم أكن ... لكل ذليل بالذلول ولا السهل
ورام مرامات امرئ طالما علا ... على الحزن من فيح البلاغة والسهل
وأرسلتها غراء ليس يذيمها ... سوى العمي عن شمس الظهيرة والجهل
فأنكر جهلا ما حوته رسالتي ... ولا غرو فالتكذيب شان أبي جهل!
و فيه التورية بابي جهل مع الجناسات الكثيرة. والجهل بضم فسكون جمع جاهل. وتخلف بعض أصحابي عن مجلس الدرس في اليوم المسمى بالعجوز، وآخر ينير، حبسه البرد، فكتبت إليه على سبيل المطايبة:
أعجزت عنا العجوز ولم يكن ... رجل لتمنعه عجوز عائده؟
وعدلت عن أبكار فكري بكرة ... اتباع بكر بالعجوز الباردة؟
و فيه التورية بالعائدة من حيث إنّه وصف للعجوز أي صارفة وعائقة وإنّه معمول المنع بمعنى العطية والصلة، وفي العجوز أيضاً بين اليوم والمرأة بقرينة ذكر الرجل. وينشد أيضاً عجوز جالدة أو فائدة، وفي كليهما التورية: فالجالدة إما بمعنى ذات الجليد، من قولك جلدت الأرض بالكسر، تجلد فهمي جلدة والجالدة، اعتباراً للعجوز بمعنى اليوم على قصد الليلة أو الصبيحة أو البكرة؛ وإما بمعنى المدافعة والمقاتلة، من قولك جلدته بالعصا: ضربته، اعتبارا للعجوز بمعنى المرأة؛ والفائدة إما بمعنى الإفادة وهو معمول المنع، أو بمعنى الهالكة، من قولك: فاد يفيد، فيدا، إذا هلك ومات، اعتبارا للعجوز بمعنى المرأة وإنّها هرمة فانية، فكيف تغلب الرجل؟ والتورية في العجوز الباردة واضحة؟ وأعلم أنَّ التورية والتوجيه أعلى فنون البديع وأجلها وأدقها، وهو أحد معاريض البلغاء الذي يرفلون به في الحلل الرقائق، وينجون بفسحتها من المضائق. فمن أظرف ما وقع من ذلك ما روي عن خالد بن الوليد، رضي الله عنه، إنّه لمّا نزل على الحيرة أتاه عبد المسيح الغساني، وهو أبن ثلاثمائة وخمسين سنة. فلما مثل بين يديه قال له: انعم صباحا أيها الأمير! فقال له خالد: قد أغنى الله عن تحيتكم بسلام عليكم. ثم قال له خالد: من أين أقصى أثرك أيّها الشيخ؟ قال: من ظهر أبي. قال: من أين خرجت؟ قال من بطن أمي. قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض. قال: فيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل؟ قال: أي والله، وأقيد. قال: أبن كم أنت؟ قال: أبن رجل وامرأة. قال: كم سنك؟ قال: اثنان وثلاثون بيض ضرس وغضيض. قال: كم لك من السنين؟ قال: السنون كلها لله. قال: كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لقتلني. قال: كم عمرك؟ قال: لا يعلمه إلا الله. فقال خالد: ما رأيت كاليوم إنسانا أسأله عن شيء وهو ينحوا في غيره. فقال: ما أجبتك إلا عن مسألتك. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له الأعرابي: من أنتم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء، والقصة مشهورة.
وما روي من أنَّ رجلا وقف بباب المأمون ليشكو فلم يجد من يدخله فصاح: أنا أحمد المصطفى النبي المبعوث! فأخذ وأدخل على المأمون وقيل له إنّه تنبأ عن أمره فذكر شكواه فقال له: ما هذا الذي حكي عنك؟ قال: ما هو؟ قال: انهم قالوا إنك تنبأت. قال: معاذ الله! إنّما قلت: أنا أحمد المصطفى النبي المبعوث، وأنت يا أمير المؤمنين تحمده، وكذلك هؤلاء. فاستظرفه المأمون وأمر بأنصافه.
وما روي عن بشار بن برد من أنه خاط له رجل أعور يعرف بعمرو بردا فلم يعجبه فقال له: ما هذه الخياطة؟ قال له: خطته لك كذلك لتلبسه إنَّ شئت على وجهه، وإنَّ شئت من باطنه. فقال له بشار: وأنا قد قلت فيك شعرا، إنَّ شئت جعلته مدحا وإنَّ شئت جعلته هجوا، ثم انشد:
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
فأحاجي الناس طرا ... أمديح أم هجاء!
و يروى:
خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء
فسل الناس جميعا ... أمديح أم هجاء!
و هو على نصب الجزأين بليت.

وما روي إنّه نشأ ببغداد غلامان أحدهما أبن حجام والآخر أبن مراق، فبرعا في الأدب. فخرجا ليلة وهما ثملان من نبيذ. فأخذهما العسس فأتوا بهما إلى صاحبهما. فلما مثلا بين يديه قال لهما: ما أخرجكما جوف الليل؟ فقالا: القدر والقضاء. فقال من أنتما؟ فقال أبن المراق:
أنا أبن الذي لا تنزل الدهر قدره ... وإنَّ نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره ... فمنهم قيام حولها وقعود
وقال أبن الحجام:
أنا أبن من ذلت الرقاب له ... ما بين مخزومها وهاشمها
تأتيه طوعا إليه خاضعة ... يأخذ من مالها ومن دمها
فقال في نفسه: الأول من أبناء الكرام، والثاني من أبناء الملوك. فقال لأعوانه: خلوا عنهما، فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه قال: اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. فلما انصرفا أخبر بأمرهما، فاسترجعهما بالغد وقال لهما: ويحكما! خدعتماني. فقالا: ما خدعناك إلاّ بما هو صفة والدينا. فلما تأمل كلامهما وجده صدقا وقال: انطلقا! من لم ين منكما شريف فلقد كان ظريفا. وما روي عن أبي الفرج الجوزي، رضي الله عنه، إنّه كان في مجلسه في السنية والشيعة، فسأله سائل، أي الناس كان احب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر أم علي؟ فتغافل، فقيل ما عندك! فقال: أحبهما إليه من كانت ابنته تحته. ويروى: أفضلهما من كانت ابنته تحته على إنَّ السؤال كان على الأفضلية. ففهم السنية أبا بكر وفهم الشيعة عليا ورضي الفريقان. ومحاسن هذا النوع أكثر من أن تحصى. وقد خرجنا عن الغرض فلنعد إلى المقصود. وقال أبو محمّد الحريري:
يقولون إنَّ جمال الفتى ... وزينته أدب راسخ
وما أن يزين سوى المكثرين ... ومن طود سودده شامخ
فأما الفقير فخير له ... من الأدب القرص والكامخ
وأي جمال له أن يقال ... أديب يعلم أو ناسخ
الكامخ: شيء يؤتدم به أو طعام يتخذ من الحنطة واللبن على أنواع والعرب كانت لا تعرفه. وقدم لأعرابي فقال: ما هذا؟ فقيل له: كامخ. فقال: مم صنع؟ فقيل: من الحنطة واللبن. فقال: أبوان كريمان وما أنجبا وقلت:
إذا المرء إن أرضيته كان لي أخا ... وإن أس عادني فما هولي بأخ
فلا خير في ود امرئ ليس صافيا ... تراه بأدران المساوي قد اتسخ
ولا خير في ود يكون تكلفا ... ولا في ودود حيث لنت له شمخ
وما الود إلاّ ما تكنفه الحشا ... متى تهزز الأحداث أغصانه رسخ
و قلت أيضاً في هذا المعنى:
ولا تبت من فتى على ثقة ... ولا يغرن حجاك من آخى
حتى تراه لدى النوائب إن ... قاضيه في الحاجات هل ساخى
وعند سعي الوشى هل ثبتت ... رجلا حشاة في الود أم ساخا
سخى الأول فاعل من السخاء وهو الكرم وساخ الثاني من ساخ يسوخ ويسيخ إذا هوى في الطين ونحوه وفيهما يكون الجناس التام.
ولنكتف بهذا القدر من هذا الباب والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الدال المهملة
دردب لمّا عضه الثقاف.
الدردبة عدو على الخوف وهو أن يجري ويلتفت وراءه من الخوف. وعضضت الشيء بالكسر كعلمت وبالفتح كمعت: أمسكته بأسناني أو بلساني ثم يستعمل العض فيما يشبه هذا من إلمام الحوادث ووقع الخطوب: والثقاف بالكسر الخصام والمجادلة. ويقال: ثقفة كعلمه إذا صادفه أو أخذه أو أدركه وظفر به. قال الشاعر:
من يثقفن منهم فليس بآئب ... أبداً وقتل بني قتيبة شاف
وقال ذو الكلب الهذلي:
فإما تثقفوني فاقتلوني ... فإنَّ أثقف فسوف ترون بالي
و الثقاف أيضاً بالكسر الخشبة تسوى بها الرماح وهو المقصود في هذا المثل. فمعنى دردب لمّا عضه الثقاف: خضع وذل. ومضربه واضح. وقال عمرو بن كلثوم:
إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولتهم عشوزنة زبونا
و ثقف الرمح بالثقاف تثقيفا: سويته وقومته فهو مثقف ومقوم.
دفعت إليه الشيء برمته.
الدفع هنا الإعطاء. والرمة بالضم القطعة من الحبل البالية. ودفع رجل لآخر بعيرا في رقبته حبل فقيل: دفعه إليه برمته وذهب مثلا لكل من أعطى الشيء أو أخذه بأجمعه. قال الأعشى يخاطب خمارا:
فقلت له: هذه هاتها ... بأدماء في حبل مقدادها
دع بنيات الطريق.

دع: معناه اترك أصله الودع وهو الترك لكن لم يستعمل هذا المصدر إلاّ قليلا كقوله صلى الله عليه وسلم : لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعة الحديث. ولم يستعمل منه أيضاً الماضي إلاّ قليلا كقوله صلى الله عليه وسلم :دعوا الحبشة ما ودعوكم. وقرئ: ما ودعك ربك وما قلى، بالتخفيف من هذا وإنّما المستعمل منه كثيراً المضارع والأمر وهما بفتح عين الكلمة لمكان حرف الحلق نحو قع ويقع. وقد علمت من هذا إنَّ حق هذا الحرف أن يذكر في باب الواو ولكن كتبناه في هذا الباب تقريبا لمّا أن الواو مستهلكة لا تظهر كما مر نظيره في حرف التاء. وبنيات الطريق الطرق الصغار المتشعبة عن الطريق الكبيرة وكأنها بنات لها من حيث إنها تنشأت عنها وخرجت منها. ثم أطلقوا بنيات الطريق على الأباطيل فضرب المثل عند أمر الرجل أن يقصد معظم الشأن ويدع سفساف الأمور. قال أبن منادر في قاضي البصرة:
أي قاض أنت للنقض ... وتعطيل الحقوق؟
يدع الحق ويهوي ... في بنيات الطريق

دعوا دما ضيعه أهله!
الدم معروف وفيه لغات: يقال دم وهي الفصحاء وأصله دمو ودمي فحذفت اللام. ويقال دم بالتضعيف كقوله:
أهان دمك فرغا بعد عزته ... يا عمرو بغيك إصرار على الحسد؟
قد شقيت شقاء لا انقضاء له ... وسعد مرديك موفور على الابد
و يقال دمى بالقصر مثل فتى وعصى كقوله:
كأطوم فقدت برزغها ... أعقبتها الغبس منها عدما
غفلت ثم أتت تطلبه ... فإذا هي بعظام ودما
الأطوام بوزن صبور البقرة والبرزغ ولدها والتضييع معروف. وهذا المثل من كلام جذيمة الأبرش المتقدم ذكره.
وكانت الزباء لمّا احتالت على قتلته كما مر قيل لها: احتفظي بدمه فإنه إن يضع وتقع منه قطرة بالأرض طلبت بثأره. فلما قبضت على جذيمة وأجلس على النطع وجعل الخدم يقطعن رواشيه قالت الزباء: لا تضيعن دم الملك! فقال جذيمة: دعوا دما ضيعه أهله! والمعنى: اتركوا دما أراقه أهله! أي مستحقوه وهم الزباء أي فلا يهولنكم ضياعه ولا يهمكم حفظه ولا تتخوفوا إذا ضاع أن تطالبوا به لأنكم لم تريقوه ظلما. وهذا كما في الرواية الآخرى: لا يحزنك دم أرقه أهله! يخاطب الزباء. وتقدمت القصة مستوفاة. وجذيمة يحتمل أن يكون في هذه الرواية عبر بتضييع الدم عن إراقته مجازا ليشاكل لفظ الزباء؛ ويحتمل أن يريد معناه لصحته في المعنى ؛ وقد يكون جذيمة أراد أهله هو وأنهم ضيعوا دمه فيقول: إنَّ دما جمعه وواليه ز خانه ناصره وحاميه جدير أن يحتفظ عليه وأن يضيع ولا يلتفت إليه.
دعوا دعوةً كوكبيةً.
الدعاء: الرغبة إلى الله تعالى دعا له وعليه يدعو دعاء والمرة منه دعوة. والكوكبية: قرية كان أهلها ظلمهم عامل فدعوا عليه دعوة فمات عقبها فضرب المثل بذلك.
ومما يشبه هذا ما حكاه صاحب المدخل أنَّ قرية من أعمال السودان كان أهلها إذا ولى عليهم سلطان عاملا فانبسط عليهم دعوا فهلك. فلما أعيا السلطان أمرهم وتحير قام إليه بعض الحاضرين فقال: أنا ألي عليهم! فولاه السلطان بعد أن عرفه بكنه الأمر. فذهب ذلك الوالي فغصب ملحا واستصحبه معه ولم يكن في بلد السودان الملح. فلما بلغ موضع عمله قعد في المسجد ولم يصعد إلى موضع الأمير. فقالوا له: ألا تصعد إلى موضعك؟ فقال: إنما جئت على أن أكون واحدا منكم وأباشركم ولا أصدر إلاّ عن رأيكم أو كما قال. وبقى على ذلك حتى أعجبهم وحسنوا به الظن. فتمارض حينئذ فسألوه عن موجب مرضه فقال لهم: موجب المرض فقد الملح. فقالوا: نأتيك بالملح. فقال: لا أعرف أصله وإنَّ عندي ملحا بالبلد أعرف جهته وأصله فلعله يكون فيه الشفاء. فإن أردتم أن أرسل من يأتي به وإلاّ فلا. فأذنوا له فأرسل إليه حتى بلغه ففرقه عليهم على وجه التبرك. فلما علم أنهم قد أكلوه قام إليهم ومد اليد إليهم وطلع إلى موضع الولاية حينئذ. وكان قبل يخشى من دعائهم لاقتياتهم الحلال الصرف. فلما دخل أجوافهم ذلك الملح علم أنَّ دعاءهم لا يسمع عليه وكان في القوم رجلان تفطنا لذلك فلم يأكلا ملحهما. فلما ظهر أمره أتياه بما عندهما لم يفسد شيئا منه. فلما علم أنهما قد بقيا هرب خوفا منهما.

ومثل هذا حكي عن الحجاج لمّا دخل العراق واليا وكانوا لا يلي عليهم أحد ويظلمهم إلاّ دعوا فهلك. فلما خاف الحجاج من دعائهم طلب منهم أن يأتوه كلهم ببيضة بيضة لحاجة ذكرها وقعد على الصحن. فكل من أتى ببيضة أمره أن يطرحها في الصحن. فاستخفوا البيض منه وفعلوا ما أمرهم. فلما اجتمع البيض واختلط أمرهم أن يأخذ كل واحد بيضة وأراهم أنه قد بدا له في ذلك ورجع عما أراد. فأخذ كل واحد بيضة من البيض ولا يدري عين بيضته. فلما علم الحجاج أنهم تصرفوا في ذلك مد يده إليهم فدعوا عليه فمنعوا الإجابة. قال رحمه الله تعالى: ولأجل هذا كثرت المظالم وكثر الدعاء على فاعلها وقلت الإجابة أو عدمت.

دفن البنات من المكرمات.
الدفن معروف؛ والبنات جمع بنت؛ والمكرمة فعل الكرم.
وهذا المثل مشهور ومثله المثل الآخر: نعم الصهر القبر! وقال الشاعر مضمنا المثل:
القبر أخفى سترةٍ للبنات ... ودفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله عز اسمه ... قد وضع النعش بجنب البنات!
و قول الآخر:
أحب بنيتي وأود أني ... دفنت بنيتي في قعر لحدِ
و شبه هذا قول الأمير أبن أبي حفصة:
وفي الدار خافي صبيةٌ قد تركتهم ... يطلبون إطلال الفراخ من الوكرِ
جنيت على روحي بروحي جنايةً ... فأثقلت ظهري بالذي خف من ظهرِ
و الشعر في هذا المعنى كثير.
دقك بالمنحاز حبَّ القلقلِ.
الدق معروف. والمحاز بالحاء المهملة وبالزاي الهاون وهو المهراس. ونحزت الشيء: دققته. والقلقل بقافين مكسورين على مثل زبرج: نبن له حب اسود اصلب ما يكون من الحبوب حسن الشم. قال أبو النجم:
وآضتِ البهمى كنبل الصقيل ... وطارت الريح يبيس القلقلِ
و قد يقال في هذا المثل بفائين مضمومتين وهو الفلفل المعروف من الأبزار وجعله الأصمعي تصحيفا من العامة. ومن الناس من ادعى أنَّ هذا هو الصواب وأنَّ الأول هو التصحيف لأن حب القلقل بالقاف لا يدق. وهذا المثل يضرب في الإلحاح على الشحيح والحمل عليه وكأنه شطر بيت من الرجز.
دقوا بينهم عطر منشمٍ.
الدق مر؛ والعطر بالكسر معروف؛ ومنشم على مثال مجلس وعلى مثال مقعد قيل ويروى أيضاً مشئم بالهمز؛ ومن شم مفصولة. واختلف في معناه: فقيل منشم اسم الشر؛ وقيل المنشم يكون في سنبل العطر يسمى قرون السنان وهو سم ساعة. وقيل منشم اسم امرأة. واختلف في اشتقاقه أيضاً: فقيل منشم وضِع وضع الأعلام؛ وقيل مشتق من قولهم: نشم في الشيء إذا بدأ وأخذ فيه ويستعمل في الشر. وقيل هو مركب من اسم وفعل والأصل من شم على أنَّ شم فعل ماض من شم الرائحة وهو صلة من. ثم وصل وحذف الميم الثانية من الفعل وجعل الأعراب على الأولى. وعلى رواية مشأم فهو من الشؤم. واختلف أيضاً في سبب المثل ومعناه: فقيل إنَّ منشم اسم امرأة وهي بنت الوجيه وكانت عطارة بمكة. وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا الحرب تطيبوا من طيبها فكثرت القتلى فجعلوا يقولون: أشئم من عطر منشم.
وقيل كانوا إذا أرادوا الحرب غمسوا أيديهم في طيبها وتحالفوا أن يستميتوا في الحرب ولا يولوا. فكانوا إذا دخلوا الحرب بطيب تلك المرأة يقول الناس:
دقوا بينهم عطر منشم.
فلما كثر منهم هذا القول صار مثلا للشر العظيم. قال زهير:
تداركتما عبسا وذبيان بعد ما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشمِ
و قيل إنَّ منشم امرأة كانت تبيع الحنوط فسموا حنوطها عطرا في قولهم عطر منشم لأنهم أرادوا عطر الموتى. وأما من ذهب إلى أنه مركب فزعم أنَّ امرأة من العرب كانت تبيع العطر فورد عليها بعض أحياء العرب فأخذوا عطرها وفضحوها. فلحقها قومها ووضعوا السيف فيهم وجعلوا يقولون: اقتلوا من شم منطيبها! فبقي من شم اسما مركبا من هذا.
وقيل إنَّ سبب المثل قتال يوم حليمة الذي قيل فيه: ما يوم حليمة بس. وكانت فيه الحرب بين الحارث بن أبي شمر ملك الشام وبين المنذر بن المنذر بن امرئ القيس ملك العراق. وأخرجت حليمة إلى المعركة مراكن الطيب فكانت تطيب الداخلين في الحرب فقاتلوا من أجل ذلك حتى تفانوا. وسيأتي شرح هذه القصة.
دمث لنفسك قبل النوم مضطجعاً!

التدميث: التسهيل. يقال: مكان دمث كفرح أي لين سهل. ودمث الشيء بالكسر يدمث دماثة فهو دمث. ودمثته أنا تدميثا: سهلته ولينته؛ والمضطجع بالفتح مكان الاضطجاع.
والمعنى أنك إذا أردت أن تنام فسو المكان ولينه وأزل ما فيه من الخشونة قبل اضطجاعك!يضرب في الاستعداد للنوائب قبل نزولها. ومثله قول تأبط شرا:
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلاً ... به الأمر إلاّ وهو للقصد مبصرُ
و قول الآخر:
ولكن من لا يلق أمراً ينوبه ... بعدته ينزل به وهو أعزلُ
و قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في عمر رضي الله عنه: كان والله أحوذيا نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها. ويروى إنَّ من رأى عمر أبن الخطاب علم أنه خلق غناءً للاسلام. كان والله أحوذياً . . الخ

الدم لا ينام.
هذا المثل من كلام قصير بن سعد لجذامة حيث شاورهم على الخروج إلى الزباء فقال له قصير: إنَّ الزباء قتلت أباها والدم لا ينام وتقدم ذلك مشروحا. والمراد أنَّ من كان له قبلك ثأرٌ وثبت له عندك دم لا يغفل عنك وعن أخذ ثأره منك ليلا ولا نهارا ولا يكن منه سلم صحيح ولا مصافحة خالصة أبدا.
دهدرين، سعد القين.
دهدرين بضم الدالين وفتح الراء المشددة، وقد اختلف فيه: فقيل هو اسم مبنى بصيغة المثنى؛ وقيل هو تثنية دهدر وهو الباطل. ويقال أيضاً دهدن بالنون على وزنه. قال الراجز:
لأجعلن لابنه عمرو فنا ... حتى يعود مهرها دهدنا
و هو في هذا المثل منصوب بفعل مضمر وسعد منادى وهو قين كان ادعى أنَّ اسمه سعد زمانا ثم تبين كذبه والقين وصف له فقيل له ذلك أي جمعت كذبا إلى كذب يا سعد الحداد! وقيل إنَّ دهدرين اسم فعل مبني بمعنى بطل كما بني شتان وهيهان وسعد فاعله والقين وصف له. والمعنى: بطل سعد القين. والمراد بطلان استعماله لتشاغل الناس عنه بالقحط. وحذف تنوين سعد في هذا الوجه تخفيفا لكثرة الاستعمال نحو: ولا ذاكر الله إلاّ قليلا. وقيل إنَّ دهدرين موضعه رفع على الابتداء كأنه قيل: كلامك باطل أو فعلك باطل. وكذلك سعد أي أنت سعد القين أي مثله. وقيل إنّه مركب وأصله ده أمر من الدهاء وكان الأصل دهى ثم قلب فقيل داه بجعل اللام موضع العين كما قيل: لاع ولائع ودرين من قولك: در الشيء إذا تتابع. والمعنى: بالغ في الكذب يا سعد! وقد قيل إنه حداد عجمي يدور في اليمن. وكان إذا كسد في مخلاف قال بالفارسية: ده بدرود أي بالوداع يخبرهم إنّه يخرج غدا ليستعملوه، فعرفوا به المثل في الكذب والباطل. وقالوا: إذا سمعت بسرى القين فانه مصبح،و قد تقدم ورواه بعضهم: دهدرين وسعد اليقين بالواو ونصب سعد. وروى آخرون: دهدرى مقصود بغير نون التثنية، وقالوا موضعه في ضرب المثل إذا رد على مخبر خبره، أو على فعله، أو حمق أحمق. وروى آخرون: دهدرين ساعد اليقين.
والمقصود من ذلك كله واحد وهو الباطل باللغو. فيضرب عند التكذيب للحديث وادعاء بطلان الأمر. وقال أبو زيد: يقال للرجل يهزأ به: طرطبين ودهدرين ودهدرا وسعد القين.
وللنا في هذا اللفظ أقاويل هذا حاصلها، والله اعلم.
الدهر حبلى لا يدرى ما تلد.
الدهر بفتح فسكون، وتحرك الهاء الزمان الطويل، والزمان الممدود، أو ألف سنة: هذا قول اللغويين. وللفلاسفة فيه كلام بيناه في علم الكلام؛ والحبلى: الحامل. قال امرؤ القيس:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعا ... وألهيتها عن ذي تمائم محول
حبلت المرأة بالكسر، حبلاً، فهي حابلة، والجمع حبلة؛ وحبلى، والجمع حبليات وحبلى، والولادة معروفة. والمعنى أنَّ الدهر، لا نبهام الأقدار الجارية فيه، وخفاء التصاريف الواقعة بذويه، شيبه الحلبى المنبهم أمر ذي بطنها، لا تعرف له ذكروة ولا أنوثة، ولا كمال ولا نقص، ولا حسن ولا قبح، حتى تلد فيتبين ذلك. وكذا الدهر لا يعرف فيما يأتي به من الأقدار والحوادث، أخير أم شر، وزيادة أم نقص، وسعة أم ضيق، حتى يقع ذلك فيظهر.
أدهى من ثعلبٍ.

الدهاء والدهي: المكر وجودة الرأي. ورجل داهٍ ودهٍ وداهية، والجمع دهاة ودهون. وقد دهي الرجل بالكسر، دهيا ودهاء ودهاءة، وتدهى: فَعَلَ فِعْلَ الدهاء؛ والثعلب: الحيوان المعروف، وتقدم فيه كلام. وهو موصوف بالمكر والاحتيال مشهور بذلك، ومن مكره إنّه إذا رأى الغلبة عليه تماوت حتى لا يشك في موته فإذا غفل عنه وثب هاربا.
ومن مكره المحكي في الخرافات عند العرب انهم قالوا: إنَّ الضبع صادت ثعلبا فقالت: أخيرك يا ثعلب بين خصلتين، فاختر أيهما شئت. قال: ماهما؟ قالت: أما أنَّ أكلك، وأما أنَّ أنكحك. فقال الثعلب: أما تذكرين يوم نكحتك؟ فقالت: متى؟ وانفتح فوها. فأفلت الثعلب وهرب. فضربوا به المثل بذلك وقالوا: عرض عليك خصلتي الثعلب. وقالوا أيضاً: إنَّ الثعلب اطلع على بئر وهو عطشان، وعليها رشاء ودلوان، فقعد في الدلو العليا، فانحدرت به إلى البئر حتى شرب وبقي هناك، فإذا بضبع اطلعت على البئر، فرأت بياض القمر انتصف الماء، والذئب قاعد في ضوئه، فقالت له: ما تصنع هنا؟ فقال لها: إني أكلت نصف هذه الجيفة وبقي نصفها وبقي نصفها، فانزلي تأكليها! قالت: وكيف انزل؟ قال: تقعدين في الدلو الآخرى. فلما التقيا في وسط البئر قالت له ما هذا؟ قال: كذا التجارب تختلف! فضربوا ذلك المختلفين في الأمور. ومثل هذه الحكايات كثير.

دار الفسوق جدث، وحديثه حدث.
هذا مثل مصنوع فيما أظن وهو ظاهر المعنى؛ والجدث بالجيم القبر. قال الشاعر:
جدث يكون مقامه ... أبداً بمختلف الرياح
و الجمع أجداث واجدث. قال الآخر: أنشده الجوهري:
عرفت بأجدث فنعاف عرق ... علامات كتحبير النماط
دون ذلك خرط القتاد
دون نقيض فوق وبمعنى أمام. ويكون ظرفا للمكان عن الغاية فيما يضاف اليه، ثم يطلق على كل رتبة أدنى من أخرى في الأمكنة والأزمنة والمعاني؛ والخرط النزع، وتقول: خرطت الشجرة خرطا إذا انتزعت الورق منها اجتذابا؛ والقتاد على مثال سحاب شجر صلب شوكه كالإبر شديد، يضرب به المثل كما قال أبو تمام:
نثا خبر كأن القلب أمسى ... يجر به على شوك القتاد
وقال أيضاً:
غدت تستجير الدمع حوف نوى غد ... وعاد قتاد عندها كل مرقد
و خرطه أشد شيء، فضرب المثل به. وتقدم مثله في حرف الهمزة. قال أبو المظفر:
يا كم يساجلني وليس بمدرك ... شأوي وأين له جلالة منصبي
لا تتعبن فدون ما حلولته ... خرط القتاد وامتطاء الكوكب!
جدي معاوية الأغر سمت به ... جرثومة من طينها خلق النبي
وروثته شرفا رفعت مناره ... فبنو أمية يفخرون به وبي
وقال الآخر:
مال أبن دارة دونه لعفاته ... خرط القتاد والتمس الفرقد
مال لزوم الجميع يمنع صرفه ... في راحة مثل المنادى المفرد
دون ذا وينفق الحمار!
دون تقدم معناه، والنفاق: الروجان، تقول، نفق البيع بالفتح ينفق، نفاقا على مثال سحاب إذا راج؛ ونفقت الدابة أو الرجل: مات؛ والحمار معروف. ودخل رحل السوق بحمار له يبيعه. فقام رجل يقال له أبو يار يمدح الحمار، وجعل يقول: إنَّ حافره جلمود، وإنَّ ظهره حديد. فقال صاحبه: شاكه أبا يسار، دون ذا وينفق الحمار! فذهب مثلا يضرب للمفرط في الثناء والمدح. ومعنى شاكه: شابه وقارب في المدح ولا تفرط من المشاكهة وهي المشابهة. وسيأتي المثل في الشبن. إن شاء الله.
ومن أمثال العامة في هذا الباب قولهم:
دجاجة وتركل.
يضرب لاستبعاد الصولة من الضعيف، والدجاجة معروفة مثلة الأول والجمع دجاج، والركل ضرب الأرض برجل واحدة، وركض الفرس بالرجل، والأرض المركلة المكدود بحوافر الدواب. قال امرؤ القيس يصف فرسا:
مسح إذا ما السحابات على الونى ... أثرن غبارا بالكديد المركل
و يستعمل الركل، في لسان العرب، في الضرب بالرجل مطلقا، وهو المراد.
ثم نذكر من الشعر في هذا الباب ما تيسر، والله المستعان.
قال طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
و إلى معنى هذا البيت أشار أبن شرف في لاميته بقوله:
لا تسأل الناس والأيام عن خبر ... هما يبثانك الأخبار تطفيلا!
وقال دريد بن الصمة:

وهل أنا إلاّ من غزية إنَّ غوت ... غويت وإنَّ ترشد غزية أرشد
و غزية قبيلة، وهي فيما أظن بفتح المعجمة وكسر الزاي. وهكذا رأيته في نسخة من الصحاح مضبوطا بالقلم، ويؤيده ما في القاموس من انهم يسمون غازية وغزية كغنية ولم يثبت في أسمائهم غزية. بلفظ التصغير. وقال من هذه القصيدة أيضاً:
أمرتهم أمري بمنزعج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلاّ ضحى الغد
و تمثل بهذا البيت أمير المؤمنين على كرم الله وجهه على المنبر، في قصة التحكيم حين وقع ما وقع من الحكمين يعاتب أهل العراق ويوبخهم على سفاهة رأيهم في ذلك وتوجيههم أبا موسى الأشعر، والقصة مشهورة. وعلى هذا البيت نبه أبن شرف بقوله في لاميته:
يرى البليد البلايا بعد ما نزلت ... وذو الذكاء يرى الأشياء تبخيلا وقال الأسود بن يعفر:
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
و نظمه أبن شرف في لاميته بقوله:
بادوا كأنهم للفرقة اتعدوا ... فلم يكن ذلك الميعاد ممطولا
وقال الآخر:
أجل إذا طالبت في طلب ... فالجد يغني عنك لا الكد!
و نظمه أبن شرف بقوله:
والجد يغني الفتى عم كد مهجته ... فليغتد تكثير حرص المرء تقيلا!
وقال الشاعر:
السيف يقطع وهو ذو صدإٍ ... والحد يفري الهام لا الغمد
ونظمه أبن شرف بقوله:
والنفس جوهرة ملبوسها صدف ... والسيف يقطع رذل الغمد مفلولا
وقال:
هل تنفعن السيف حليته ... يوم الجلاد إذا نبا الحد
و نظمه أبن شرف بقوله:
ورب سيف كهامٍ لا مضاء له ... وقد تراه محلى المد مصقولا
وقال الآخر:
وإنَّ أمرءاً يمسي ويصبح سالما ... من الناس إلاّ ما جنى لسعيد
و نظمه أبن شرف بقوله:
ومن يعاقب بما تجني يداه بلا ... ظلم التجني فقد نال اليد الطولى
وقال الآخر:
وغيظ على الأيام كالنار في الحشى ... ولكنه غيظ الأسير على القد
و نظمه أبن شرف بقوله:
لنا على الدهر غيظ ليس ينفعنا ... غيظ الأسير أسير القد مغلولا
وقال الآخر:
ماذا لقيت من الدنيا وأجبه ... إني بما أنا باك منه محسودا!
و نظمه أبن شرف بقوله:
قل للحسود على أشياء تحزنني: ... خذها احتقاراً وتهويناً وترذيلا!
وقال بعض العرب:
إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبرٍ أعضادها
وجعلت أوصابها تعتادها ... فهن زروع قد دنا حصادها
وقال الآخر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي!
و ما أحسن قول عز الدين المقدسي في كتابه كلام الطيور والأزهار على لسان الغراب:
أنوح على ذهاب العمر مني ... وحق أن أنوح وأن أنادي
وأندب كلما عاينت ربعا ... حدا بهم لوشك البين حادِ
يعنفني الجهول إذا رآني ... وقد ألبست أثواب الحدادِ
فقلت له: اتعظ بلسان حالي ... فإني قد نصحتك باجتهادِ!
وها أنا كالخطيب وليس عيباً ... على الخطباء أثواب السوادِ
ألم ترني إذا عاينت ركباً ... أنادي بالنوى في كل نادِ
أنوح على الطول فلم يجبني ... بساحتها سوى خرس الجمادِ
فأكثر في نواحيها نواحي ... من البين المفتت للفؤادِ
فما من شاهدٍ في الكون إلاّ ... عليه من شهود الغيب نادِ
فكم من رائحٍ فيها وغادٍ ... ينادي من دنوٍّ أو بعادِ
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي!
وقال الحطيئة: وما قلت إلاّ بالذي علمت سعدُ وهذا مثل مشهور وصدر البيت:
وتعذلني أبناء سعدٍ عليهم
وهذا البيت من جملة أبيات له وهي من جيد شعره. يقول فيها:
وإنَّ التي نكبتها عن معاشرٍ ... عليَّ غضابٍ أن صددت كما صدوا
أتت آل شماش بن لأيٍ وإنّما ... أتاهم بها الأحلام والحسب العدُ
فإنَّ الشقي من تعادي صدورهم ... وذو الجد من لانوا إليه ومن ودوا
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدُ
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا!

أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
وإن قال مولاهم على جل حادثٍ ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا
فكيف ولم أعلمهم خذلوك ... على معظمٍ ولا أديمكم قدوا؟
مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجى ... بنى لهم آبائهم وبنى الجدُ
فمن مبلغ أبناء سعدٍ فقد سعى ... إلى السورة العليا لهم حازمٌ جلدُ
رأى مجد أقوامٍ أضيع فحثهم ... على مجدهم لمّا رأى أنه الجهدُ
وتعذلني أبناء سعدٍ " البيت "
وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي:
ما لامرئٍ خاض في بحر الهوى عمر ... إلاّ وللبين فيه السهل والجدُ
كما نما البين من إلحاحه أبداً ... على النفوس أخ للموت أو ولدُ
وقال يخاطب محمد بن يوسف:
واعذر حسودك فيما قد خصصت به ... إنَّ العلى حسنٌ في مثلها الحسدُ!
وقال أيضاً في وداعه لعلي بن الجهم يمدحه:
هي فرقةٌ من صاحب لك ماجدٍ ... فغداً إذابة كل دمعٍ جامدِ
فافزع إلى ذخر الشؤون وغربه: فالدمع يذهب بعض جهد الجاهدِ
فإذا فقدت أخاً فلم تفقد له ... دمعاً ولا صبراً فلست بفاقدِ
ومنها:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاءٍ تالدِ
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذبٌ تحدر من غمامٍ واحدِ
أو نفترق نسباً يؤلف بيننا ... أدبٌ أقمناه مقام الوالدِ
وقال أيضاً من قصيدة أخرى:
سقته ذعافاً غارة الدهر فيهم ... وسم الليلي فوق سم الأساودِ
ومنها:
غدا قاصدا للحمد حتى أصابه ... وكم من مصيبٍ قصده غير قاصد!
ومنها:
يصد عن الدنيا إذا عنَّ سؤددٌ ... ولو برزت في زي عذراء ناهد
إذا المرء لم يزهد وقد صبغت له ... بعصفرها الدنيا فليس بزاهد
وقال أيضاً من أخرى:
إذا انصرف المحزون قد فل صبره ... سؤال المغاني فالبكاء له ردُ
ومنها:
نوى كانقضاض النجم كانت نتيجة ... من الهزل يوماً إنَّ هزل الهوى جدُ
فلا تحسبا هندا لها العذر وحدها ... سجية نفسٍ كل غانيةٍ هندُ
ومنها:
وقدٌ من الأيام وهي قديرةٌ ... وشر السجايا قدرةٌ حازها حقدُ
إساءة دهرٍ أذكرت حسن فعاله ... إلي ولولا الشري لم يعرف الشهدُ
وقال أيضاً:
ومن يأذن إلى الساعين يسلق ... مسامعه بألسنةٍ حدادِ
وقال أيضاً:
ولكم عدوقال لي متمثلاً: ... كم من ودودٍ ليس بالمودودِ!
ومنها:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسودِ
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العودِ
لولا التخوف للعواقب لم تزل ... للحاسد النعمى على المحسودِ
يعطي لها البشرى الكريم ويحتبي ... بردائها في المحفل المشهودِ
بشرى الغنى أبي البنات تتابعت ... بشراه بالفارس المولودِ
وقال أيضاً:
وإني رأيت الوسم في خلق الفتى ... هو الوسم لا ما كان في الشعر والجلدِ
وقال أيضاً:
ولكنني لم أحو وفراً مجمعاً ... ففزت به إلاّ بشملٍ مبددِ
ولم تعطني الأيام نوما مسكناً ... ألذ به إلاّ بنوم مشردِ
وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ ... لديباجته فاغترب تتجددِ!
فإني رأيت الشمس زيدت محبةً ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمدِ
ومنها:
وليس يجلي الكرب رأي مسددٌ ... إذا هو لم يؤنس برمح مسددِ
ومنها:
محاسن أصناف المغنين جمةٌ ... وما قصبات السيف إلاّ لمعبدِ
وقال ابيضا:
أحلى الرجال من النساء مواقعاً ... من كان أشبههم بهن خدودا
حتى إذا ما الشعر سود وجهه ... كان المسود بينهن مسودا
و منه:
ما إن ترى الأحساب بيضاً وضحاً ... إلاّ بحيث ترى المنايا سودا
ومنها:
أيقنت أنَّ من السماح شجاعةٌ ... تدمي وأنَّ من الشجاعة جودا؟
ومنها:
إنَّ القوافي والمساعي لم تزل ... مثل النظام إذا أصاب فريدا
هي جوهرٌ نثرٌ فإن ألفته ... بالشعر صار قلائداً وعقودا

في كل معتركٍ وكل مقامٍ ... يأخذن منه ذمةً وعقودا
وقال أيضاً:
شاب رأسي وما رأيت مشيب ... الرأس من فضل شيب الفؤادِ
وكذاك الرؤوس في كل بؤسٍ ... ونعيمٍ طلائع الأجسادِ
طال إنكاري البياض وإن عمر ... ت شيئا أنكرت لون السوادِ!
ومنها:
وضياء الأمور أفسح في الطرف ... وفي القلب من ضياء البلادِ
ومنها:
غير أنَّ الربى إلى سبل الأنواء ... أدنى والحظ حظ الوهادِ!
ومنها:
كأنَّ شيء غثٌ إذا عاد والمعروف ... غث ما كان غير معادِ
وقال أيضاً:
وما شيء من الأشياء أمضى ... على المهجات من رأي سديدِ
وقال أيضاً:
لم تنكرين مع الفراق تبلدي ... وبراعة المشتاق أن يتبلدا؟
وقال أيضاً:
والسيف أعمى غير أنَّ غراره ... يقظٌ إذا هادٍ نحاه لهادِ
ومنها:
ومن العجائب شاعرٌ قعدت به ... هماته أوضاع عند جوادِ
وقال أيضاً:
ما كل من شاء استمرت بالندى ... يده ولا استوطا فراش الجودِ
وقال أيضاً:
وكذا المنايا يطأن بمنسمٍ ... إلاّ على أعناق أهل الؤددِ
وقال أيضاً:
لو يعلم الناس علمي بالزمان وما ... عاثت يداه لمّا ربوا ولا ولدوا!
وقال أبو الطيب أحمد بن الحسن المتنبي:
فما ترجي النفوس من زمن ... أحمد حاليه غير محمودِ
إنَّ نيوب الزمان تعرفني ... أنا الذي طال عجمها عودي
وفي ما قارع الخطوب وما ... آنسني بالمصائب السودِ
وقال أيضاً من قصيدة:
إذا كنت تخشى العار في كل خلوةٍ ... فلم تتصباك الحسان الخرائدُ
ومنها:
أهم بشيءٍ والليالي كأنها ... تطاردني عن كونه وأطاردِ
وحيدٌ من الخلان في كل بلدةٍ ... إذا عظم المطلوب قل المساعدُ
ومنها:
ولكن إذا يحمل القلب كفه ... على حالةٍ لم يحمل الكف ساعدُ
ومنها:
أحقهم بالسيف من ضرب الطلا ... وبالأمن من هانت عليه الشدائدِ
ومنها:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ
و نظمه أبن شرف بقوله:
وموت قومٍ حياةٌ عند غيرهم ... وقد أبى الدهر بين الناس تعديلا
ومنها:
وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائدُ
ومنها:
فإنَّ قليل الحب بالعقل صالحٌ ... وإنَّ كثير الحب بالجهل فاسدُ
وقال أيضاً من أخرى:
لكل امرئ من دهره ما تعمدا
ومنها:
ومن يجعل الضرغام في الصيد بازه ... تصيده الضرغام فيمن تصيدا
و نظمه أبن شرف بقوله:
ولا تضمن ليثاً كي تصيد به ... فتغتدي خاتلاً للصيد مختولا
ومنها:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع النى في موضع السيف بالعلى ... مضر كوضع السيف في موضع الندا
ومنها:
ودع كل صوتٍ غير صوتي فإنني ... أنا الصئح المحكي والآخر الصدا
ومنها:
وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا
وقال أيضاً:
يا عاذل العاشقين دع فئةً ... أضلها الله كيف ترشدها
ومنها:
فعد بها لا عدمتها أبداً: ... خير صلات الكريم أعودها
وقال أيضاً:
عش عزيزا أو من وأنت كريمٌ ... بين طعن القنا وخفق البنودِ!
فرؤوس الرماح أذهب للغيظ ... وأشفى لغل صدر الحقودِ
لا كما قد حييت غير حميدٍ ... وإذا مت، مت غير فقيدِ
فاطلب العز في لظى ودر الذل ... ولو كان في جنان الخلدِ!
يقتل العاجز الجبان وقد يعجز ... عن قطعٍ بخنق المولودِ
ويوقى الفتى المخش وقد خوَّ ... ض في ماء لبه الصنديدِ
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفسي فخرت لا بجدودِ
وقال أيضاً:
يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم ... أيحيط ما يفنى بما لا ينفذُ؟
وقال أيضاً:
وكم للهوى من فتى مندف ... وكم للنوى من قتيل شهيدِ!
ومنها:
فما لك تقبل زور الكلام ... وقدر الشهادة قدر الشهودِ؟
وقال أيضاً:

وما ماضي الشباب بمسترد ... ولا يومٌ يمر بمستعادِ
ومنها:
فإنَّ الجرح ينفر بعد حينٍ ... إذا كان البناء على فسادِ
وإنَّ الماء يخرج من جمادٍ ... وإنَّ النار تخرج من زنادِ
وقال أيضاً:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخٍ ... كأنهم من طول ما التثموا مردُ
ثقالٍ إذا لاقوا خفافٍ إذا دعوا ... كثيرٍ إذا شدوا قليلٍ إذا عدوا
ومنها:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صدلقته بدُ
يروح ويغدو كارها بوصاله ... وتضطره الأيام والزمان النكدُ
وزعموا أنه قد قيل له إذ تنبأ: لكل نبي معجزة فما معجزتك؟ فقال: هذا البيت.
وقال أيضاً:
من خص بالذم الفراق فإنني ... من لا يرى في الهر شيئاً يحمدُ
وقال أيضاً:
إذا غدرت حسناء أوفت بعدها ... ومن عهدها أن لا يدوم لها عهدُ
وإن عشقت كانت أشد صبابةً ... وإن فركت فاذهب فما فركها قصدُ
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضى ... وإن رضيت لم يبق في قلبها حقدُ
كذلك أخلاق النساء وربما ... يصل بها الهدي ويخفى بها الرشدُ
ومنها:
يرمون شأوي في الكلام وإنما ... يحاكي الفتى فيما سوى المنطق القردُ
ومنها:
وأصبح شعري منهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقدُ
وقال أيضاً:
أبى خلق الدنيا تدميه ... فما طلبي منها حبيبا تردهُ
وأسرع مفعولٍ فعلت تغيراً ... تكلف شيء في طباعك ضدهُ
ونظم الأول أبن شرف بقوله:
قد يحتني الدهر من كفيك ما اجتنتا ... فكيف ما كان عن كفيك معزولا؟
ومنها:
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده
ومثله قول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
وأحق خلق الله بالهم امرؤٌ ... ذو همة يبلى بعيشٍ ضيقِ
و بعده:
فلا ينحلل في المجد مالك كله ... فينحل نجدٌ كان بالمل عقدهُ
ودبره تدبير الذي المجد كفه ... إذا حارب الأعداء والمال زندهُ
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجدهُ
و نظم هذا أبن شرف بقوله:
لا مال إلاّ بمجدٍ فالتمسه ولا ... مالٌاذا لم يكن بالمجد مشمولا
هكذا وجدته وكأنه تحريف وإنّما قال هكذا:
لا مال إلاّ بمجدٍ فالتمسه ولا ... مجدٌ إذا لم يكن بالمال مشمولا
أو هكذا:
لا مجد إلاّ بمالٍ فالتمسه ولا ... مالٌ إذا لم يكن بالمج مشمولا
ومنها:
إذا كنت في شك من السيف فابله: ... فإنما تنفيه وإما تعدهُ
وما الصارم الهني إلاّ كغيره ... إذا لم يفارقه النجاد وغمدهُ
وقال أيضاً:
حسم الصلح ما اشتهته الأعادي ... وأذاعته ألسن الحسادِ
ومنها:
وكلام الوشاة ليس على الأحباب ... سلطانه على الأضدادِ
إنما تنجح المقالة في المرء ... إذا وافقت هوى في القادِ
ومنها:
قد يصيب الفتى المشير ولم يجهد ... ويشوي الصاب بعد اجتهادِ
ومنها:
وإذا الحلم لم يكن في طباعٍ ... لم يحلم تقادم الميلادِ
ومنها:
إنما أنت والد والأب القا ... طع أحنى من واصل الأولادِ
ومنها:
هذه دولة المكارم والرأ ... فة والمجد والندى والأيادي
ومنها:
كيف لا يطرق الطريق لسيلٍ ... ضيقٍ عن أتيه كل وادِ
وقال أيضاً:
إذا أردت كميت اللون صافيةً ... وجتها وحبيب النفس مفقودُ
ماذا لقيت من الدنيا وأجبه؟ ... أني بما أنا باكٍ منه محسودُ
ومنها:
العبد ليس لحر صالح بأخٍ ... لو أنه في ثياب الحر مولودُ
لا تشتري العبد إلاّ والعصا معه ... إنَّ العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ!
ما كنت أحسبني أحيى إلى زمنٍ ... يسيء بي فيه كلبٌ وهو محمودُ
ومنها:
إنَّ امرءاً أمه حبلى تدبره ... لمستضامٌ سخين العين مفؤودُ
وعندها لذلك طعم الموت شاربه ... إنَّ المنية عند الذل قنديدُ
وقال أيضاً:
إنَّ في الموج للغريق لعذراً ... واضحا أن يفوقه تعداده
وقال أيضاً:
وغيظٌ على الأيام كالنار في الحشا ... ولكنه غيظ الأسير على القدِّ

ومنها:
وليس حياء الوجه في الذئب شيمةً ... ولكنه من شيمة الأسد الوردِ
وقال أيضاً:
رأوك لمّا بلوك نابتةً ... يأكلها قبل أهله الرائدُ
وخل زياً لمن يحققه: ... ما كل دامٍ جبينه عابدُ
ومنها:
فالأمر لله رب مجتهدٍ ... ما خاب إلاّ لأنه جاهدُ
وقال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نوح باكٍ ولا ترنم شادِ
وشبيهٌ صوت النعي إذا قيس ... بصوت البسير في كل نادِ
ومنها:
تعبٌ كلها الحياة فما أعجب ... إلاّ من راغبٍ في ازديادِ!
إنَّ حزناً في ساعة الموت أضعا ... فقط سرور في ساعة الميلادِ
خلق الناس للبقاء فضلت ... أمةٌ يحسبونهم للنفادِ
إنّما ينقلون من دار أعما ... لٍ إلى دار شقوةٍ أو رشادِ
ضجعة الموت رقدةٌ يستريح ... الجسم فيها والعيش مثل السهادِ
ومنها:
زحلٌ أشرف الكواكب داراً ... من لقاء الردى على ميعادِ
والنار المريخ من حدثان ... الدهر مطفٍ وإن علت في اتقادِ
ومنها:
وإذا البحر غاض عني ولم أرو ... فلا ري بادخار الثمادِ
كل بيتٍ للهدم ما تبنتني الور ... قاء والسيد الرفيع العمادِ
والفتى ظاعنٌ ويكفيه ظل ... السدر ضرب الأطناب والأوتادِ
بان أمر الإله واختاف النا ... سُ فداعٍ إلى الضلال وهادِ
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدثٌ من جمادِ
واللبيب اللبيب من ليس يغتر ... بكونٍ مصيره للفساديِ
وقال أيضاً:
أحسن بالأحد من وجده ... صبرٌ يعين النار في زنده
ومن أبى في الرزء إلاّ الأسى ... كان أساه منتهى جهدهِ
ومنها:
والشيء لا يكثر مداحه ... إلاّ إذا قيس إلى ضدهِ
لولا عضى نجدٍ وقلامه ... لم يثن بالطيب على رندهِ
ليس الذي يبكي على وصله ... مثل الذي يبكي على فقدهِ
والطرف يرتاح إلى غمضه ... وليس يرتاح إلى سهدهِ
ومنها:
إن لم يكن رشد الفتى نافعاً ... فغيه أنفع من رشدهِ
ومنها:
لو عرف الإنسان مقداره ... لم يفخر المولى على عبدهِ
أمس الذي مر على قربه ... يعجز أهل الأرض عن ردهِ
ومنها:
سلم إلى الله فكل الذي ... ساءك أو سرك من عندهِ
لا يعدم الأسمر في غابه ... حتفاً ولا الأبيض في غمدهِ
وقال أيضاً:
أفوق البدر يوضع لي مهاد ... أم الجوزاء تحت يدي وسادُ؟
قنعت فخلت أنَّ النجم دوني ... وسيان التقنع والجهادِ
وأطربني الشباب غداة ولى ... فليت سنيه صوتٌ يستعادُ!
وليس صباً يعاد وراء شيبٍ ... بأعوز من أخي ثقةٍ يفادُ
ومنها:
سفاهٌ ذاد عنك الناس حلمٌ ... وغيٌ فيه منفعةٌ ورشادُ
وقال أيضاً:
ثلاثة أيامٍ هي الدهر كله ... وما هو غير الأمس واليوم والغدِ
ومنها:
وقد يجتدى نيل الغمام وإنّما ... من البحر فيما يزعم الناس يجتدي
ويهدي الدليل القوم والليل مظلمٌ ... ولكنه بالنجوم يهدي ويهتدي
ومنها:
وليس قضيب الهند إلاّ كنابتٍ ... من القصب في كف الهدان المعردِ
الهدان على مثال كتاب: الجبان ويقال هو الأحمق الثقيل.
ومنها:
أرى المجد سيفاً والقريض نجاده ... ولولا نجاد السيف لم يتقلدِ
وخير حمالات السيوف حمالٌ ... تحلت بأبكار الثناء المخلدِ
وقال أيضاً:
كذاك الليالي ما يجدن بمطلبٍ ... لخلقٍ ولا يبقين شيئاً على عهدِ
وقال أيضاً:
أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا!
وما نهنهت في طلبٍ ولكن ... هي الأيام لا تعطي قيادا
فلا تلم السوابق والمطايا ... إذا غرضٌ من الأغراض حادا
ومنها:
إذا ما النار لم تطعم ضراما ... فأوشك أن تمر بها رمادا
فظن بسائر الأخوانشراً ... ولا تأمن على سرٍّ فؤادا
فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لمّا طلعت مخافة أن تكادا
تجنبت الأنام فما أواخي ... وزدت عن العدو فما أعادى

ولمّا أن تجهمني زماني ... جريت مع الزمان كما أرادا
وقال أيضاً يخاطب خاله وقد سافر إلى المغرب:
ظعنت لتستفيد أخاً وفياً ... وضيعت القديم المستفادا
وقال طرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى أشد وضاضةً ... على الحر من وقع الحسام المهندِ
وقال عدي بن زيد:
إذا كنت في قومٍ فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه: ... فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي
إذا ما رأيت الشر يبعث أهله ... وقام جنلت الشر للشر فاقعدِ
وقال الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للموت الذي كان أرصدا
وقال المهلبي:
وكيف جحود القلب والعين تشهدُ؟
وقال أيضاً:
ولا خير فيمن لا يدم له عهدُ
وقال الخريمي:
وحسبك مني أن أود فأجهدا
وقال الخوارزمي:
لا تصحب الكسلان في حاجاته ... كم صالحٍ بفساد آخر يفسدُ!
عدوى البليد إلى الجليد سريعةٌ ... والجمر يوضع في الرماد فيخمدُ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
حسنٌ في كل عينٍ من تود
وقال أيضاً:
وكل ريحٍ لها هبوبٌ ... يوما فلا بد من ركودِ
وقال الآخر:
إذا أكل الأحباب لحمي بغيبةٍ ... فأهون منه ما ستأكله الدودُ!
وقال الآخر:
إذا قل عقل المرء قلت همومه ... ومن لم يكن ذا مقلةٍ كيف يرمدُ؟
وقال الآخر:
إذا كان غير الله للمرء عدةً ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد
وقال الآخر:
تخونون عهدي في الهوى وأحبكم ... كذا الورد محبوبٌ وليس له عهد
وقال الآخر:
تشكى المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي!
وقال الآخر:
تصافحت الأكف وكان أشهى ... إلينا لو تصافحت الخدودُ
وقال الآخر:
تعدون ذنباً واحداً إن جنيته ... عليكم ولا أحصي ذنوبكم عدا
وقال أبو الطيب:
تفضلت الأيام بالجمع بيننا ... فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد
وقال الآخر:
ثوبي على من كسوت في نظري ... أزين من كونه على جسدي
وقال الآخر:
جامل عدوك ما استطعت فإنما ... بالرفق يطمع في صلاح الفاسد!
وقال الآخر:
جدلي يعفوك يا من دأبه الجود ... فالجود عندك مأمول ومعهود
وقال الآخر:
جعلت إليك يا ربي انقطاعي ... إذا انقطع العباد إلى العبادِ
وقال الآخر:
حاشاك أن يقبض الزمان يدي ... عن نيل سؤالٍ وأنت لي عضدُ
و مثله:
حاشاك يا قوتي ويا سندي ... يضعف ركني وأنت لي سندُ
وقال الآخر:
حسبي بقلبي شاهدٌ لك في الهوى ... والقلب أعدل شاهدٍ يشهدُ
وقال الآخر:
ذو العقل يسخو بعيش ساعته ... وبالذي بعدها تشح يده
غيره:
رأيت دنو الدار ليس بنافعٍ ... إذا كان ما بين الفؤاد بعيدا
غيره:
رسول الله كذبه الأعادي ... فلا تجزع لتكذيب الجحودِ!
غيره:
رينك الله في القلوب كما ... زين في قلب والدٍ ولدا
غيره:
سقى الله أياماً تقضت بقربكم ... كأني بها قد كنت في جنة الخلدِ!
غيره:
سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلةً ... من العمر إلاّ من حبيبٍ على وعدِ!
غيره:
صحح لنا والدةً أولاً ... وأنت في حل من الوالدِ
غيره:
صل من دنا وتناس من بعدا: ... لا تكرهن على الهوى أحدا!
غيره:
طعم عيشي مرٌ إذا لم تزرني أبداً ... قصير عمر الأعادي والمواعيدِ
غيره:
قد جن أصحابك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائدة!
غيره:
قد حفظوا القرآن واستعملوا ... ما فيه إلاّ سورة المائدة!
غيره:
قد يصاد القطا ويغدو سليما ... ويحل البلاء بالصيادِ
غيره:
قلَّ الثقات فإن ظفرت بواحدٍ ... فاشدد يديك وأين ذاك الواحدُ؟
غيره:
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفسادِ
غيره:
كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحسادِ
غيره:

كلما زادت الذبالة ضوءاً ... كان أدنى لها إلى الإخمادِ
غيره:
كلما قلت أعتق الشكر رقي ... صيرتني لك المكارم عبدا
غيره:
كلوا اليوم من رزق الإله وابشروا: ... فإنَّ على الرحمن رزقكم غدا!
غيره:
كم تائه بولايةٍ ... وبعزله يغدو البريد!
غيره:
لأخرجن من الدنيا وحبكم ... بين الجوانح لم يشعر به أحد
غيره:
لمائدةٍ موضوعةٍ ألف عائبٍ ... وعيب التي لم توضع الدهر واحدُ
غيره:
لم أبك من زمن أشكو مساءته ... إلاّ بكيت عليه حين أفقده
غيره:
لو علمنا مجيئكم لفرشنا ... تحت أقدامكم بساط الخدودِ
غيره:
ليس في العلمين أفقنع مني ... أنا أرضى بنظرةٍ من بعيدِ
غيره:
ما كلف الله نفسا فوق طاقتها ... ولا تجود يدٌ إلاّ بما تجدُ
غيره:
معاتبة الأحباب تحسن مرةً ... فإن أكثروا منها تؤول إلى الصدِّ
غيره:
من لم يبت والحب حشو فؤاده ... لم يدر كيف تفتت الأكبادِ
غيره:
نعم الإله على العباد كثيرةٌ ... وأجلهن نجابة الأولادِ
غيره:
وأحسن من وجه الصنيعة شكرها ... وأقبح من حرمان نعمى جحودها
غيره:
وإذا صفا لك من زمانك واحدٌ ... فهو المراد وأين ذاك الواحدُ؟
غيره:
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... شجوناً فزدني من حديثك يا سعدُ!
غيره:
ودع ظلم العباد فليس شيءٌ ... أضر عليك من ظلم العبادِ!
غيره:
وكل أخٍ عند الهوينا ملاطفٌ ... ولكنما الإخوان عند الشدائدِ
غيره:
وكنت من الناس في محفلٍ ... فقد صرت في محفلٍ من قرودِ!
غيره:
ولا بدلي من خفةٍ في وصاله ... فمن لي بخلٍّ أودع العقل عندهُ؟
غيره:
ولرب عودٍ قد يشق لمسجدٍ ... نصفاً وآخره لبيت يهودي!
غيره:
ولربما نال المراد مرفهٌ ... لم يسع فيه وخاب سعي الجاهدِ
غيره:
وليس قريباً من تخاف بعاده ... ولا من يرجى قربه ببعيدِ
غيره:
وما الدهر إلاّ ما ترى: فتى علت ... يداك بدنيا فاصطنع بهما يدا!
غيره:
وما الشعر إلاّ روضةٌ راق زهرها ... ولا سيما إن كان قد وقع الندا
غيره:
وما المال والأيام إلاّ معرةٌ: ... فما استطعت من معروفها فتزودِ
غيره:
وما حملت من ناقةٍ فوق راحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمدِ
و هذا أصدق بيت قاله شاعر بعد قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل!
غيره:
وما كان طرفي بالسهاد معودا ... ولكنه لمّا هجرتم تعودا
غيره:
وما ماضي الشباب بمسترد ... ولا يومٌ يسر بمستعادِ
غيره:
ويفسد بالإكثار ما هو صالحٌ ... ويصلح بالإقلال ما هو فاسدُ
غيره:
لا تحقرن صغيراً في تقلبه ... إنَّ البعوضة تدمي مقلة الأسد!
غيره:
وللشرارة نارٌ حين تضرمها ... وربما أضرمت ناراً على بلدِ
غيره:
لا تلق إلا بليلٍ من تواعده: فالشمس نمامةٌ والبدر قوادُ
غيره:
لا يحسد المرء إلاّ من فضائله ... لا عاش من عاش يوماً غير محسودِ!
غيره:
يا أخلاي هل يعود التداني ... منكم بالحمى يعود رقادُ؟
غيره:
يا رب من أسخطنا بجهده ... قد سرنا جهلاً بغير قصدهِ
غيره:
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرك لنا عوداً وحرق عودا!
غيره:
يا من يعد الميتين تعجباً ... عما قليل سوف تدخل في العدد
غيره:
يجود بالنفس إذ ضن الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ
غيره:
يدبر بالنجوم وليس يدري ... ورب النجم يفعل ما يريدُ
غيره:
يرى عاقبات الرأي والأمر عازبٌ ... كأن له في اليوم عينا على غدِ
و مثله:
يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأن أفكاره بالغيب كهانُ
غيره:
يشرون مثل ثيابه وعبيده ... أفيقدرون على شراء أسوده؟
غيره:
إلهي على كل الأمور لك الحمد ... فليس لمّا أوليت من نعمٍ حدُ!
وقال ابن أبي عيينة:

كل المصائب قد تمر على الفتى ... فتهون غير شماتة الحسادِ
و مثله قول حبيب:
أجرؤ لكني نظرت فلم أجد ... أجرأ يفي بشماتة الأعداءِ
وقال الآخر:
لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلةٌ إنسانها باهتُ
ومدنفٌ تصرم أحشاؤه ... بالنار إلاّ أنه ساكتُ
رق له الشامت مما به: ... يا ويح من يرثي له الشامتُ!
و يروى أنه قيل لأيوب عليه السلام: أي شيء كان في بلائك أشد عليك؟ فقال: شماتة الأعداء! وقال علقمة الفحل:
ويلم لذات الشباب معيشته ... مع تاكثر يعطاه الفتى المتلف الندي
وقد يقصر القل الفتى دون همه ... وقد كان لولا القل طلاع أنجدِ
القل بالضم: الإقلال؛ وهمه: ما يهم بفعله من المكارم والعطايا فيمنعه الفقر من ذلك كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه:
أرى نفسي تتوق إلى أمورٍ ... يقصر دون مبلغها مالي
فنفسي لا تطاوعني لبخلٍ ... ومالي لا يبلغني فعالي
وقال أيضاً:
يا لهف نفسي على ملٍ أفرقه ... على المقلين من أهل المروءاتِ
إنَّ اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي من إحدى المصيباتِ
و فلان طلاع أنجد أي ذو أفعال كريمة ومآثر عظيمة؛ والأنجد جمع نجد وهو ما ارتفع من الأرض جعل طلوعه كناية عن البروز والاستعلاء وعدم الاستتار كقول الآخر:
أنا أبن جلا وطلاع الثنايا
وقول دريد بن الصمة:
كميش الازار خارجٌ نصف ساقه ... بعيدٌ من السوءات طلاع أنجدِ
وقال الآخر:
لعمري ما يدري الفتى أي يومه ... وإن كان محروساً على الرشد أرشدُ
أفي عاجلات الأمر أم آجلاته ... أم اليوم أدنى للسعادة أم غدُ؟
وقال المثقب:
وللموت خيرٌ للفتى من حياته ... إذا لم يثب للأمر إلاّ بقائدِ
و يروى:
إذا لم يطق علياء إلاّ بقائدِ
وبعده:
فعالج جسيمات الأمور ولا تكن ... هبيت الفؤاد همه للوسائدِ
إذا الريح جاءت بالحمام تشله ... هذاليله شل القلاص الطرائدِ
وأعقب نوء المرزمين بغبرةٍ ... وقطر قليل الماء بالليل باردِ
كفى حاجة الأضياف حتى يريحها ... على الحي منا كل أروع ماجدِ
تراه لتفريج الأمور ولفها ... لمّا نال من معروفها غير زاهدِ
وليس أخونا عند شيء يخافه ... ولا عند خيرٍ إن رجاه بواحدِ
إذا قيل من للمعضلات أجابه ... عظام اللهى منا طوال السواعدِ
الهبيت الفؤاد: الضعيف،و الهذاليل جمع هذلول وهو ما طال من الرمال. وهذاليل الريح: ما امتد منها؛ والمرزمان نجمان مع الشعريين.
وقال حارث بن عمرو:
إذا هتف العصفور طار فؤاده ... وليثٌ حديد الناب عند الثرائدِ
و هذا الشعر هجا به أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فقال عبد الملك بن مروان يوما لأمية هذا: مالك ولحرثان بن عمرو إذ يقول فيك: إذا هتف العصفور " البيت " ؟ فقال: يا أمير المؤمنين وجب عليه حدّثني فأقمته عليه. فقال: هلا درأت بالشبهات عنه؟ فقال: كان حده أبين وكان زعمه علي أهون. فقال عبد الملك: يا بني أمية! أحسابكم أنسابكم لا تعرضوها للجهال: فإنه باق ما بقي الدهر والله ما يسرني أني هجيت بهذا البيت وأن لي ما طلعت عليه الشمس:
تبيتون في المشتى ملئ بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
و ما يبالي من مدح بهذين البيتين إلاّ يمدح بغيرهما:
هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا ... وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذلُ
قلت: وهذان البيتان لزهير وقبلهما:
إذا السنة الشهباء بالناس أجحفت ... ونال كرام المال في الجحرة الأكلُ
رأيت ذوي الحاجات حول بيتهم ... قطينا بها حتى إذا نبت البقلُ
هنالك " البيت "
وبعده
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم ... وأنديةٌ ينتابها القول والفعلُ
على مكثريهم " البيت " قوله: إن يستخبلوا، الاستخبال أن يستعير الرجل من آخر إبلا يحلبها ويشرب ألبانها فإذا أخصب ردها. وأنكر بعضهم هذا اللفظ وقال: لعله قال يستخولوا والاستخوال يملكها إياه.

وقوله: أن ييسروا يغلوا، يريد أنهم إذا يسروا بالقداح أعطوا سمان الإبل وأغلاها ثمنا. وتقدم هذا المعنى. وقال أعرابي كان يمنعه أبوه من الضرب في الأرض وطلب المعيشة شفقة عليه فكتب إلى أبيه:
ألا خلني أذهب لشأني ولا أكن ... على الناس كلا إنَّ ذا لشديدُ
أرى الضرب في البلاد يغني معاشرا ... ولم أر من يجدي عليه قعودُ
أتمنعني خوف المنايا ولم أكن ... لأهرب مما ليس عنه محيدُ؟
فدعني أجول في البلاد لعلني ... أسر صديقاً أو يساء حسودُ
فلو كنت ذا مالٍ لقرب مجلسي ... وقيل إذا أخطأت أنت سديدُ
و سياتي ما قيل في هذا المعنى بعد إن شاء الله تعالى وقال كلثوم بن عمرو:
إنَّ الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهودُ
وللبخيل على أمواله عللٌ ... زرق العيون عليها أوجهٌ سودُ
و كان كلثوم هذا كتب إلى صديق له: أما بعد أطال الله بقاءك وجعله يمتد بك إلى رضوانه والجنة! فإنك كنت عندنا روضة من رياض الكرم تبتهج النفوس لها وتستريح القلوب إليها. وكنا نعفيها من النجعة استتماما لزهرتها وشفقة على خضرتها وادخارا لثمرتها حتى اصابها سنة كانت عندي قطعة من سني يوسف واشتد علينا كدها وغابت عنا فضلها وكذبتنا غيومها وأخلفتنا بروقها وفقدنا صالح الإخوان فيها فانتجعتك وأنا بانتجاعي إياك شديد الشفقة عليك مع علمي بأنك نعم موضع الزاد وأنك نغطي عين الحاسد. والله يعلم أني ما أعدك إلاّ في حومة الأهل. وأعلم أنَّ الكريم إذا استحيا من إعطاء القليل ولم يحضره الكثير لم يعرف جوده ولم تظهر همته. وأنا أقول في ذلك:
ظل اليسار إلى العباس ممدود ... وقلبه أبداً بالمحل ممدودُ
إن الكريم . . الخ قيل: فشاطره ماله حتى أعطاه إحدى نعليه ونصف قيمة خاتمه.
واجتمع جماعة بباب دار عدي بن الرقاع فخرجت إليهم بنية له صغيرة فقالت لهم: ما تريدون؟ فقالوا لها: نريد أباك. فقالت: وما حاجتكم به؟ فقالوا: جئنا إليه نهاجيه. فقالت على الفور:
تجمعتم من كل أوب ووجهةٍ ... على واحدٍ لا زلتم قرن واحدِ
وقال أبو مسلم الخرساني:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى بجدي في دمارهم ... والقوم في غفلة الأيام قد رقدوا
حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومةٍ لم ينمها قبلهم أحدِ
ومن رعى غنما في أرض مسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسدُ
وقال الآخر:
وأكرم نفسي إن أهنها لأنها ... وحقك لم تكرم على أحدٍ بعدي
حدث الأصمعي قال: مررت في بعض سكك الكوفة فإذا رجل خرج من حش على كتفه جرة وهو يقول: وأكرم نفسي " البيت " . قال: فقلت له: أبمثل هذا تكرمها؟ قال: نعم! وأستغني عن مسألة مثلك. فصاح: يا أصمعي! فالتفت فقال:
لنقل الصخر من قلل الجبال ... أحب إلي من منن الرجال
يقول الناس كسب فيه عارٌ ... وكل العار في ذل السؤال!
وقال الآخر:
يا أيها الأخوان أوصيكم ... وصية الوالد والوالدة
لا تنقلوا الأقدام إلاّ إلى ... من ترتجي من عنده فائدة
إما لعلم تستفيدونه ... أو لكريم عنده مائدة!
وروي عن الأصمعي قال: لقيني أبو عمرو بن العلاء وأنا ماشٍ في بعض أزقة البصرة فقال: إلى أين يا أصمعي؟ قلت: لزيارة بعض إخواني. فقال: يا أصمعي إن كان لفائدة أو لمائدة وإلاّ فلا! وقال الآخر:
ولمّا رأيت الدهر أنحت صروفه ... علي وأوهت بالذخائر والعقد
حذفت فصول العيش حتى رددتها ... إلى القوت خوفاً أن أجاء إلى أحد
وقلت لنفسي: أبشري وتوكلي ... على قاسم الأرزاق والواحد الصمد
فإلا تكن عندي دراهم جمةٌ ... فعندي بحول الله ما شئت من جلد
وقال الآخر:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم: ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا عيطاً بما يجدُ
أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرا منها ولا أردُ
وقال أبو نواس:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا أشتد الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته ... والماء يشرق بالزلال الباردِ

وقال أبن الضرير النهرواني:
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعدِ
كم دخلت لقمةٌ حشى شرهٍ ... فأخرجت روحه من الجسدِ
وقال الوزير المهلبي في غلام قدمه معز الدولة على سرية من أبيات:
جعلوه قائد عسكرٍ: ... ضاع الرعيل ومن يقوده
وقال أبو الفتح أبن جني النحوي وقيل أبو منصور الديلمي:
صدودك عني ولا ذنب لي ... يدل على نيةٍ فاسدة
فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحدة
وقال الإمام السهروردي لمّا ضعف وكبر:
يا رب لا تحيني إلى زمنٍ ... أكون فيه كلأ على أحدِ
خذني قبل أن أقول لمن ... ألقاه عند القيام: خذ بيدي!
وقال أبو محمد اليزيدي:
عش بجد ولا يضرنك نوكٌ: ... إنما عيش من ترى بالجدودِ
رب ذي إربةٍ مقل من الما ... لِو ذي عنجهيةٍ مجدودِ
عش بجدٍّ وكن هبنقة القيس ... أو مثل شيبة بن الوليدِ
و سبب قوله ذلك أنه تناظر هو والكسائي في مجلس المهدي وكان شيبة بن الوليد حاضرا فتعصب للكسائي وتحامل على اليزيدي فهجاه بذلك والله اعلم. وقال السلامي يصف الدرع:
يا رب سابغة حبتني نعمةً ... كافأتها بالسوء غير منفندِ
أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذل لكل مهندِ
وقال الآخر:
أخٌلك ما مودته بمذقٍ ... إذا ما عاد فقر أخيك عادا
سألناه الجزل فما تلكى ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
فعدنا ثم عدنا ثم عدنا ... فأعطى ثم عدت له فجادا
مرارا ما نعود إليه إلاّ ... تبسم ضاحكا وثنى الوسادا
وقال الآخر:
هجرتك لا قلي مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدودِ
كهجر الحائمات الورد لمّا ... رأت أنَّ المنية في الورود
تغيظ نفسها ظلماً وتخشى ... حماماً فهي تنظر من بعدِ
تصد بوجه ذي البغضاء عنه ... وترمقه بألحاظ الورودِ
وقال أبو نواس:
ليس من الله بمستنكرٍ ... أن يجمع العالم في واحدِ
و هذا المعنى سبق إليه جرير فقال:
إذا غضبت عليك بنو تميمٍ ... رأيت الناس كلهم غضابا
إلاّ إنَّ قول أبي نواس أشمل. ومن هذا المعنى قول السلامي:
فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهرُ
و أخذه الأرجاني فقال:
قد زرته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار
و منه أيضاً قول أبي الطيب:
هي الغرض الاقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق
و بيتا السلامي والارجاني أساس وأفخم مع انتقاض الزمن من بيت أبي الطيب إلاّ إنَّ قوله: وأنت الخلائق إن لم يقصره العرف ويقوم مقام قول أبي نواس في الشمول. وهذا المعنى موجود في بعض أبيات البوصيري في البردة في حق النبي صلى الله عليه وسلم . وقول الأفوه الأودي:
بني معاشر لم يبنوا لقومهم ... وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
لا يرشدون ولن يرعوا لمرشدهم ... فالجهل منهم معا والغي ميعاد
أضحوا كقيل بن عمرو في عشيرته ... إذ أهلكت بالذي قد قدمت عاد
و يروى: كانوا كمثل لقيم في عشيرته إذ أهلكت............. البيت.
أو بعده كقدار حين تابعه ... على الغواية أقوام فقد بادوا
والبيت لا يبنى إلاّ له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وسكان بلغوا الأمر الذي كادوا
وإن تجمع أقوام ذوو حسب ... اصطاد أمرهم بالرشد مصطاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جالهم سادوا
و نظمه أبن شرف بقوله:
إذا تساوى الورى ضاعوا وحفظهم ... أن يجعلوا فاضلا منهم ومفضولا
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالأشرار تنقاد
و نظمه أبن شرف بقوله:
فإن هم سودوا جهالهم هلكوا ... هلك الدليل إذا ما ضل مدلولا
و قد علمت إنَّ ما يطابق آخر شطر البيت قبله:
إذا تولى سراة القوم أمرهم ... نما على ذاك أمر القوم فازدادوا
أمارة الغني أن تلقى الجميع لدى ... الابرام للأمر والأذناب اكتاد
و بعده:

حان الرحيل إلى قوم وإن بعدوا ... فهم صلاح لمرتاد وإرشاد
فسوف أجعل بعد الأرض دونكم ... وإن دنت رحم منكم وميلاد
إنَّ النجاة إذا ما كنت في تفر ... من لجة الغم أبعاد فأبعاد
والخير تزداد منه ما لقيت به ... والشر يكفيك منه قلما زاد
وقال بشار:
فخير منك ما لا خير فيه ... وخير من زيارتكم قعودي
و سبب قوله ذلك إنّه تعشق امرأة فراسها مرارا. فلما ألح عليها شكته إلى زوجها فقال لها: أجيبيه وعديه أن يأتي هنا فوجهت إليه فجاء وزوجها معها ويشار لا يشعر فجعلا يتحدثان ثم قال لها بشار: ما اسمك بأبي أنت؟ فقالت: أمامة. فقال:
أمامة قد وصفت لنا بحسن ... وإنا نراك فالمسينا
فأخذت يده ووضعتها على أير زوجها وقد أنعط من حسن ما سمع من حديثهما. ففزع ووثب قائما وقال:
علي ألية ما دمت حيا ... أمسك طائعا إلاّ بعود
ولا اهدي لأرض أنت فيها ... سلام الله إلاّ من بعيد
طلبت غنيمة فوضعت كفي ... على أير أشد من الحديد
فخير منك............... البيت.
ومثل هذا البيت في المعنى قول طرفة:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور
من الزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنة درور
يشاركنا لنا رخلان فيها ... وتعلوها الكباش فما تنور
يقول: ليت لنا بدل هذا الملك وهو عمرو بن هند رغوثا أي شاة ترضع من الزمرات أي القليلات الصوف وضرتها أي لحم ضرعها مركنة مجتمعة ويعني إنّها قليلة الصوف صغيرة الجسم ومع ذلك يرضعها رخلان أي ولدان لها وهي هزيلة تعلوها الكباش للسفاد فما تنور أي ما تستطيع أن تنفر لهزلها. ومعلوم أنها إذا كانت على هذه الأوصاف لم يكن بها خير من صوف ولا لبن ولا لحم ومع ذلك فهي خير لنا من هذا الملك. وهذا الشعر كان سبب قتل عمرو بن هند طرفة، وسنشرح قصته بعد إن شاء الله تعالى. وقال عبيد بن الأبرص:
لأعرفنك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي!
و هو مثل سائر يضرب للرجل يضيع حق أخيه في حياته ثم يبكيه بعد الموت.
يروى عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في بعض أسفاره فإذا بركب على الطريق فقال: ما وراءك؟ قال: أمر جليل. قال: ويحك ما هو؟ قال: مات خالد بن الوليد! فاسترجع عمر استرجاعاً طويلا فقالت له: يا أمير المؤمنين:
ألا أراك بعيد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي؟
فقال: يا طلحة لا تؤنبني! وقال من شعراء الحماسة عمرو بن معدي كرب الزبيدي:
ليس الجمال بمئزرٍ ... فاعلم وإن رديت بردا!
إنَّ الجمال معادنٌ ... ومناقبٌ أورثن مجدا
ومنها:
كل امرئٍ يجري إلى ... يوم الهياج بما استعدا
ومنها:
كم من أخٍ لي ماجدٍ ... بوأته بيدي لحدا
ما إن جزعت ولا هلعت ... ولا يرد بكاي زندا
ألبسته أثوابه ... وخلقت يوم خلقت جلدا
أغني غناء الميتين ... أعد للأعداء عدا
ذهب الذين أحبهم ... وبقي مثل السيف فردا
وقال العباس بن مرداس السلمي:
إذا طالت النجوى بغير أولى النهى ... أضاعت وأصغت خد من هو فاردُ
فحارب فإنَّ مولاك حارد نصره ... ففي السيف مولى نصره لا يحارد
الفارد: المنفرد؛ وحارد نصره: قل من قولك: حاردت الإبل إذا قل درها.
وقال العباب العجلي:
لعل الذي قاد النوى أنيردها ... إلينا وقد يدني البعيد من البعد
وعل النوى في الدار تجمع بيننا ... وهل يجمع السيفان ويحكفي غمد؟
ومنها:
فكنت كمهريق الذي في سقائه ... لرقراق آل فوق رابيةٍ صلدِ
كمرضعةً أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال عن القصدِ!
وقال عقيل بن علفة المري:
وأبغض من وضعت إلي فيه ... لساني معشر عنهم أذودُ
ولست بسائل جارات بيتي ... أغياب رجالك أم شهودُ
ولا ملق لذي الودعات سوطي ... ألاعبه وريبته أريدُ
ولست بصادر عن بيت جاري ... صدور العير غمره الورود

العير: الحمار؛ والتغمير: أن يشرب دون ري. يقول: لست بخارج من بيت جاري مريبا ألتفت وأتحير خشية أن أرى كالعير المزعج عن الماء قبل أن يروي أوّ لا أخرج متلفتا عاملا على العود إلى الريبة مرة أخرى كالعير المتلفت إلى الماء لبقاء العطش. وقال قيس بن كلثوم:
قد يخطم الفحل قسراً بعد عزته ... وقد يرد على مكروهه الأسد
الخطم: أن يشد على البعير خطامه فيملك بذلك. وقال تأبط شرا:
وإنك لو أصلحت ما أنت مفسدٌ ... توددت الأقصى الذي تتوددُ
وكان لك أبن العم يحمي ذمامه ... ويمنعه حين الفرائص ترعد
أخوك الذي إن تدعه لملمة ... يجبك لها والمستعدون رقدُ
وقال الفرزدق:
وفي الأرض عن ذي الجود منأى ومبعدٌ ... وكل بلاد أوطنت كبلادِ
وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن خلفنا حفير زياد؟
وقال غسان بن وعلة:
إذا كنت في سعد وأمك منهم ... غريبا فلا يغررك خالك من سعدِ
فإنَّ أبن أخت القوم مصغى إناؤه ... إذا لم يزاحم خاله بأبٍ جلدِ
وقال شبيل الفزاري:
وما عن ذلةٍ غلبوا ولكن ... كذلك الأسد تفرسها الأسود
وقال دريد بن الصمة:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل: ابعد
و كان الأصمعي يقول: هذا أحسن بيت قالته العرب! ومنها:
وهون وجدي إنما هو فارط ... أمامي وأني هامة اليوم أو غد
وقال عبد الله بن ثعلبة:
لكل أناس مقبر بفنائهم ... فهم ينقصون والقبور تزيد
وما إن يزال رسم دار قد أخلقت ... وعهد لميت بالفناء جديد
فهم جيرة الأحياء أما محلهم ... فدان وأما الملتقى فبعيد
وقال الآخر في أبن له:
ألام على تبكيه ... وألمسه فلا أجده
وكيف يلام محزون ... كبير فاته ولده؟
وقال رجل من خثعم:
خلت الديار فسدت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
و هذا مثل مشهور. روي أنَّ حارثة بن الغداني خرج ومعه كعب مولاه. فجعل لا يمر بمجلس من بني تميم إلاّ قالوا: مرحبا بسيدنا! فقال كعب: ما سمعت قط كلاما أقر لعيني من هذا! فقال حارثة: ما سمعت كلاما أكره إلي منه! وتمثل بالبيت.
ويروى أيضاً أنَّ أمة مرت بابن جريج أحد علماء المدينة وهو يصلي وقد خط خطا بين يديه. فقالت: وا عجبا لهذا الشيخ وجهله بالسنة! فأشار إليها أن قفي! فلما أن قضى صلاته قال: ما رأيت من جهلي؟ فقالت: إنك تخط خطا تصلي عليه وقد حدثتني مولاتي عن أمها عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إنّه قال: الخط الباطل لأن العبد إذا كبر تكبيرة الاحرام سدت ما بين السماء والأرض. فسألها أن تقفوه لمولاتها. ففعلت فحدثته بذلك وقالت: أتجهل وأنت من علماء المدينة؟ فقال عند ذلك: خلت الديار فسدت غير مسود .......البيت وقال الآخر:
إنَّ المساءة للمسرة موعد ... أختان رهن للعشية أو غد
فإذا سمعت بهالك فيتقنن ... إنَّ السبيل سبيله فتزود
وقال رجل من بني قريع:
متى ما ير الناس الغني وجاره ... فقير يقولوا: عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاط قسمت وجدود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد
وكائن رأينا من غني مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد
وقال المقنع الكندي:
يعاتبني في الدين قومي وإنّما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
ألم ير قومي كيف أوسر مرة ... وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا
فما زادني الاقتدار منهم تقربا ... ولا زادني فضل الغنى منهم بعدا
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ... ثغور حقوق ما أطلقوا لها سدا
ومنها:
وإنَّ الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا
أراهم إلى نصري بطاء وإن هم ... دعوني إلى نصر أتيت لهم شدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن يهدوموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا
وإن رجزوا طيرا بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وإني لعبد الضعيف ما دام نازلا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
وقال محمّد بن أبي شحاذ الضبي:
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد ... بفضل الغنى ألفيت مالك حامد
إذا أنت لم تعرك بجنبك بعض ما ... يريب من الأدنى رماك الأباعد
إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل ... عليك بروق جمة ورواعد
إذا العزم لم يفرج لك الشك لم تزل ... جنيبا كما استتلى الجنيبة قائد
وقل غناء عنك مال جمعته ... إذا صار ميراثا وواراك لاحد
إذا أنت لم تترك طعاما تحبه ... ولا مجلس تدعى إليه الولائد
تجللت عارا لا يزال يشبه ... سباب الرجال نثرهم والقصائد
وقال أعرابي قتل أخوه ابنا له فقرب إليه ليقتنص منه فألقى السيف من يده وقال:
أقول للنفس تأساء وتعزية: ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد
كلاهما خلف من فقد صاحبه: ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
وقال أحد بني فقعس:
وذوي ضباب مظهرين عداوة ... قرحى القلوب معاودي الأفناد
ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم ... وهم إذا ذكر الصديق أعادي
كيما أعدهم لأبعد منهم ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد
الضباب: جمع ضب هو الحقد.
وقال الآخر:
تمنى لي الموت المعجل خالد ... ولا خير فيمن ليس يعرف حاسده
وقال الآخر:
وانك لا تدري إذا جاء سائل ... أ أنت بما تعطيه أم هو أسعد؟
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلا أن يكون له غد
وفي كثرة الأيدي على الجهل زاجر ... وللحلم أبقى للرجال وأعود
وقال شبيب بن البرصاء:
إذا المرء أعراه الصديق بدا له ... بأرض الأعادي بعض ألوانه الربد
أعراه: انفرد به وأفضى به العراء. يقول: إذا أنفرد الرجل بمن يعتده صديقا وصار معه في بلاد العدو فاحتاج إلى نصرته ومشورته أنكشف له أمره وبان له حينئذ أنه عدو له أم صديق. والربد الغبر المظلمة. ضربه مثلا لمّا يخى من الصداقة والعداوة. وقال الحسن بن المطير:
كنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها
خليلي ما بالعيش عتب لو أننا ... وجدنا لأيام الحمى من يعيدها
وقال الآخر:
هل الحب إلاّ زفرة بعد زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد؟
غيره:
وما كل ما في النفس للناس مظهر ... ولا كل مالا تستطيع تذود
وقال آخر من الحارث بن كعب:
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلاّ فقد عشنا بها زمنا رغدا
وقال حطائط أخو الأسود بن يعفر:
أريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وقال يزيد الحارثي:
وإذا الفتى لاقى الحمام رأيته ... لولا الثناء كأنه لم يولد
وقال آخر وتروى لقيس بن عاصم رضي الله عنه:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني ... أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وكيف يسيغ المرء زادا وجاره ... خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد؟
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وإني بعد الضيف ما دمت ثاويا ... وما في إلاّ تلك من شيمة العبد
وقال الآخر:
ونبئت ركبان الطريق تناذروا ... عقيلا إذا حلوا الذناب فصر خدا
فتى يجعل المحض الصريح لبطنه ... شعارا ويقري الضيف عضبا مهندا
وقال الآخر:
وأنا لنجفو الضيف من غير علة ... مخافة أن يغري بنا فيعود
غري: كلف.
وقال الأسود بن يعفر:
ولقد علمت لو إنَّ علمي نافع ... إنَّ السبيل سبيل ذي الأعواد
ماذا أؤمل بعد آل محرق؟ ... تركوا منازلهم وبعد إياد
أرض الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذو الشرفات من سنداد
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأكرم غنية ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى ونفاذ

و تقدم بعض هذا الشعر. وذو الأعواد رجل أسمه غوي بن سلامة أو سلامة بن غوي وقيل غير ذلك. وكان له خراج على مضر. فلما شاخ وضعف كان يحمل على سرير ويطاف به على مياه العرب فيجيبها. وقيل هو جد لأكثم بن صيفي الحكيم المعروف. وكان أعز أهل زمانه فكان لا يأتي سريره خائف إلاّ أمن وجائع إلاّ شبع. ومثل هذا الشعر ما روي إنّه وجد في حفير رجل عليه خفان وعند رأسه لوح فيه مكتوب: أنا عبد المسيح بن حيان بن نفيلة:
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى فوق المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني ... ولم أخضع لمعضلة كؤود
وكدت أنال بالشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
و دخل أرطأة بن سهيل على عبد الملك: كيف حالك؟ وكان قد أسن فقال: ضعف حالي وقل مالي وكثر مني ما كنت أحب أن يقل وقل مني ما كنت أحب أن يكثر قال: فكيف أنت في شعرك؟ قال: والله ما أغضب ولا أطرب ولا أرهب. وما الشعر إلاّ من نتائج هذه على إنني القائل:
رأيت المرء تأكله الليالي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد
وما تبقى المية حين تأتي ... على نفس أبن آدم من مزيد
وأعلم أنها عمال قليل ... ستوفي نذراها بأبي الوليد
فارتاع عبد الملك ثم قال: بل توفي نذرها بك ويلك مالي ولك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا ترع والله ما عنيت إلاّ نفسي فقال: أما والله لتلمن بي وأبو الوليد كنية لعبد الملك وكنية لأرطأ أيضاً. وقال الآخر:
لنا عز ومرمانا قريب ... ومولى لا يدب مع القراد
و قوله لا يدب مع القراد أشار به إلى رجل من العرب كان يخرج ومعه شنة فيها قردان فيشدهما في ذنب بعير من الإبل فإذا قرصته القردان نفر فنفرت الإبل لقعقة الشن. فإذا نفرت أستل منها بعيرا فذهب به.
وقال الآخر:
ستبكي المخاض الجرب إن مات هيثم ... وكل البواكي غيرهن جمود
يقول إنّه كان بخيلا يستبقينه وينحرهن: فهن يبكين عليه إن مات لمّا أحسن إليهن ولا يبكي عليه أحد من الناس لعدم خيره وإحسانه. وهذا من أقبح الهجو غير أنَّ في قوله جمود مغمزا. وضد هذا من المدح قول الآخر:
قتيلان لا تبكي المخاض عليهما ... إذا شعبت من قرمل وأفان
و الأفاني جمع افانية والأفانية والقرمل نبتان يرعيان. وقال الآخر:
إذا جاوزت من ذات عرق ثنية ... فقل لأبي قابوس ما شئت فارعد
و نحوه قول الفرزدق السابق:
وماذا عسى الحجاج يبلغ جهده ... إذا نحن جاوزنا حفير زياد؟
و تقدم تفسير رعد وبرق بما أغنى عن إعادته. ونحوه قال الآخر:
يا جل ما بعدت عليك بلدنا ... فابرق بأرضك ما بدا لك وأرعد
وقال الآخر:
ما قام عمرو في الولاية ... قائما حتى قعد
و سبب هذا أنَّ بعض الوزراء قلد أبن حجاج ولاة فخرج إليها يوم الخميس وتبعه عزله يوم الأحد فقال فيه:
يا من إذا نظر الهلال ... إلى محاسنه سجد
وإذا رأته الشمس كادت ... أن تموت من الحسد
يوم الخميس بعثتني ... وصرفتني يوم الأحد
والناس قد غنوا علي ... كما خرجت من البلد
ما قام عمرو........ البيت وقال جميل:
فأقسم طرفي بينهن فيسوى ... وفي الصدر بينهن بعيد
وقال أيضاً:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيى إذا فارقتها فيعود
وهذان البيتان من قصيدة لجميل يقول فيها:
إلاّ ليت أيام الصفاء جديد ... ودهراً تولى يا بثين يعود
فتغنى كما كنا نكون وأنتم ... صديق وإذ ما تبذلين زهيد!
وما أنس من أشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد؟
ولا قولها: لولا العيون التي ترى ... أتيتك فاعذرني فدتك جدود!
خليلي ما أخفي من الوجد ظاهر ... ودمعي بما أخفي الغداة شهيد
ألا قد رأى الله أنَّ رب عبرةٍ ... إذا الدار شطت بيننا ستزيد
إذا قلت: ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت: ثابت ويزيد
وإنَّ قلت: ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت: ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالبا ... ولا حبها فيما يبيد يبيد،
جزتك الجوازي يا بثين ملامة ... إذا ما خليل بان وهو حميد

وقلت لها: بيني وبينك فأعلمي ... من الله ميثاق له وعهود
وقد كان حبيكم طريفا وتالداً ... وما الحب إلاّ طارف وتليد
وإنَّ عروض الوصل بيني وبينها ... وإنَّ سهلته بالمنى لصعود
فأفنيت عيشي بانتظاري نوالها ... وأبلت بذاك الدهر وهو جديد
فليت وشاة الناس بيني وبينها ... يدوف لهم سما طماطم سود
وليت لهم في كل ممسىً وشارقٍ ... تصاعق أكباد لهم وقيود!
ويحسب نسوان من الجهل أنني ... إذا جئت إياهن كنت أريد
وبعده:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادِ القرى إني إذا لسعيد!
وهل أهبطن أرضا تظل رياحها ... لها بالثنايا القاويات وئيد
وهل ألقين سعدي من الدهر مرة ... ومارث من حبل الصفاء جديد؟
وهل تلتقي الأهواء من بعد يأسةٍ ... وقد تطلب الحاجات وهي بعيد؟
وهل أزجرن حرفا علاة شملة ... بخرق تباريها سواهم سود
على ظهر مرهوب كأن ستوره ... إذا جاز هلاك الطريق رقود
سبتني بعيني جؤذر وسط ربربٍ ... وصدر كفاثور اللجين وجيد
تزيف كما زافت إلى سلفاتها ... مباهية طي الوشاح ميود
إذا جئتها يوما من الدهر زائراً ... تعرض منقوصا اليدين صدود
يصد ويغضي عن هواي ويجتني ... ذنوبا علينا إنّه لعنود
فأصرمها خوفا كأني مجانب ... ويغفل عنا مرة فنعود
فمن يعط في الدنيا قرينا كمثلها ... فذاك في عيش الحياة رشيد!
وبعده:
يقولون: جاهد يا جميل بغزوة! ... وأي جهاد غيرهن أريد؟
لكل حديث بينهن بشاشة ... وكل قتيل بينهن شهيد
فمن كان في حبي بثينة يمتري ... فبرقاء ذي ضالٍ علي شهيد
ألم تعلمي يا أم ذي الودع أنني ... أضاحك ذكراكم وأنت صلود؟
وقال الآخر:
إذا كنت تهوي الحمد والمجد مولعا ... بأفعال ذي غي فلست براشد
ولست وإنَّ أغيى أباك مجادة ... إذا لم ترم ما أسلفاه بماجد
و قوله: اباك، أي أبواك، فثني لفظ الأب من غير إنَّ يرد لأمه. وقال الآخر:
شريت برداً ولولا ما تكنفني ... من الحوادث ما فارقته أبداً!
وقال الآخر:
أتعجب أن رأيت علي دنيا؟
وقال الأشهب بن رحيلة:
أسود شرى لاقت أسود خيفة ... تساقت على حرد دماء الأساود
وقال الآخر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند!
وقال أعرابي في السجن:
أيا واليي سجن اليمامة أشرفا ... بي القصر أنظر نظرة هل أري ونجدا!
فقال اليمانيان لمّا تبينا ... سوابق دمع ما ملكت لها رداً:
أمن أجل أعرابية ذات بردة ... تبكي على نجد وتبلى كذا وجدا؟
لعمري لأعرابية في عباءةٍ ... تحل دماثا من سوقية أو فردا
أحب إلى القلب الذي لج في الهوى ... من اللأبسات الريط يظهرن كيدا
وقال الآخر، ويقال الشافعي، رضي الله عنه:
تمنى رجال أنَّ أموت فأن أمت ... فتلك طريق لست فيها بأوحد!
يقال: لست في هذا الأمر بأوحد، أي لا أخص به: وقال الآخر، ويقال هو هاتف سمع لمّا ولي عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه:
من الآن قد طابت وقر قرارها ... على عمد المهدي قام عمودها
وقال يزيد بن الصقيل العقيلي، وكان يسرق الإبل ثم تاب:
ألا قل لأرباب المخائض أهملوا ... فقد تاب عما تعلمون يزيد
وإنَّ أمرءاً ينجو من النار بعدما ... تزود من أعمالها لسعيد!
و تقدم هذا الثاني. والإهمال ترك الإبل بلا راع. وقال الآخر:
تمنيتم مائتي فارسٍ ... فردكم فارس واحد
و قبلها:
فليت لها بارتباط الخيول ... ضأناً لها حالب قاعد!
ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد؟
وغامد أبو قبيلة، وهو غامد بين نصر بن الأزد بن الغوث، فهاجم هذا الشاعر. وقال حاتم:
وإنَّ الكريم من تلفت حوله ... وإنَّ اللئيم دائم الطرف أقود
وقال نبهان العبشمي:
يقر بعيني إنَّ أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأبرق المتقاود
وأنَّ أرد الماء الذي شربت به ... سليمى وقد مل السرى كل واخد

وأخلط أحشائي ببرد ترابه ... وإنَّ كان مخلوطا بسم الأساود!
و العقدات واحد العقدة - بكسر القاف وفتحها وهو ما تراكم من الرمل وانعقد؛ والأبرق حجارة يخالطها رمل أو طين؛ والنتقاود: المنقاد المستقيم؛ الأساود جمع أسود، وهو الأسود السالخ. وقال أبو الحسن بن أبي الطيب:
لا تنكري يا عز إنَّ ذل الفتى ... ذو الأصل واستعلى خسيس المتحد
إنَّ البزاة رؤوسهن عواطل ... والتاج معقود برأس الهدهد
وقال الحارث بن كلدة:
ولقد رأيت معاشرا ... جمعوا لهم مالا وولدا
وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا
الناس وجهالهم الحائرين. وقوله: لا تسمع الآذان رعدا، أي لا تسمع آذانهم صوت الرعد لصممهم، فأقام الألف واللام مقام ضمير وقال الآخر:
فأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأفعالنا إنَّ الثناء هو الخلد!
و مثله قول الآخر:
فإذا باغتم أرضكم فتحدثوا ... ومن الحديث مثالب وخلود!
و تقدم ذكر هذا المعنى. وقال: أبن اللبانة يمدح المعتمد:
لقد ضم أمر الملك حتى كأنه ... نطاق بخصر أو سوار على زند
وحسن طعم العيش حتى أعاده ... ألذ من الإغفاء في عقب السهد
وحسب الليالي إنّها في زمانه ... بمنزله الخيلان في صفحة الخد
توقد عن نارين للحرب والقرى ... وقام على طودين للحلم والمجد
وجاءت به الأيام تاجر سؤددٍ ... يبيع نفيسات المواهب بالحمد
يغيث في محل يعينك في ردى ... يروعك في درع يروق في برد
جمال وإجمال وسبق وصولة ... كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد!
وقال أيضاً:
إليه وإلاّ قيودا قدم السرى ... وفيه وإلاّ أخرسوا ألسن الحمد
وعنه أفيضوا، إنّه مشعر الهدى ... وحوليه طوفوا: إنّه كعبة القصد
وألغوا حديث البحر عند حديثه: ... فكم بين ذي جزر وكم بين ذي مد!
وقال الآخر:
قلدتني منك الجميل قلائد ... ورحمتي حتى سبتك والدا
والله لو جاز السجود لمحسنٍ ... ما كنت إلاّ راكعا لك ساجدا!
وقال أبو جعفر البطروني:
وما زلت أجني منك والدهر ممحل ... ولا ثمر يجنى ولا زرع يحصد
ثمار أيادٍ دانيات قطوفها ... لأغصانها ظل علينا ممدد
ترى جاريا ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري لا تزال تغرد
وقال أبن اللبانة أيضاً:
وهو صبح وربيع وحيا ... ويجتلى أو يجتنى أو يجتدى
وهو طود وشهاب ولظى ... مارسا أو ماسرى أو ماعدا
وقال بكر بن النطاح:
ملأت يدي من الدنيا مراراً ... فما طمع العواذل في قيادي
وما وجبت علي زكاة مالٍ ... وهل تجب الزكاة على الجواد؟
وقال الآخر:
بفعالي عرفت لا بمقالي ... وبذاتي شرفت لا بجدود
إنَّ رأيي ورأيت بلغاني ... غايتي هذه بحكم السعود
وقال أبن الخطيب:
تعجلت وخط الشيب في زمن الصبا ... لخوضي غمار الهم في طلب المجد
فمهما رأيتهم شيبة فوق مفرقي ... فلا تنكروها إنّها شيبة الحمد!
وقال أبن الحداد، وللشعر حكاية:
شقيقك غيب في لحده ... وتطلع يا بدر من بعده
فهلا خسفت فكان الخسوف ... حداداً لبست على فقده؟
وقال آخر في التعزية:
لابد من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد
كن المعزي لا المعزى به ... إنَّ كان لابد من الواحد!
وقال الوزير المهلبي:
خليلي إني للثريا لحاسد ... وإني على ريب الزمان لواجد
أيبقى جميعا شملها وهي سبعة ... وأفقد من أحببته وهو واحد؟
وقال الآخر:
دهى الله مصرا وسكانها ... وفتت أكبادهم وبالحسد!
متى يرتجي مفلس عندهم ... غنى وعلى كل فلس أسد؟
وقال الآخر:
ما للمعيل وللسفار وإنما ... يجلى بوصل البيد من هو فارد
فالشمس تجتاب السماء فريدة ... وأبو بنات النعش فيها راكد
وقال أبن سكرة:
قيل: ما أعددت للبرد ... وقد جاء بشده؟
قلت: دراعة عري ... تحتها جبة رعده
وقال الآخر:
بين اللثام وصدغه المعقود ... خمران: من ريق ومن عنقود

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6