كتاب : زهر الأكم في الأمثال و الحكم
المؤلف : اليوسي

يلوى على زرد العذار دلاله: ... كم فتنةٍ بين اللوى وزرود!
وقال الآخر:
أهلا بطيفك زائراً أو عائد ... تفديك نفسي غائبا أو شاهدا!
يا من على طيف الخيال أحالني ... أتظن طرفي مثل طرفك راقدا؟
ما نمت لكن الخيال يلم بي ... فيجله طرفي فيطرق ساجداً
وقال الراضي بن عباد:
مروا بنا أصلا من غير ميعاد ... وأوقدوا نار قلبي أي إيقاد
لا غزو إنَّ زاد في قلبي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلة الصاد!
وقال الآخر:
قالوا: خسرت القلب حين علقته ... وربحت فيه شماتة الحساد
فأجابهم: لا تعذلوني إنني ... صانعته عن مهجتي بفؤاد!
وقال بعض المشارقة:
ألحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاحسبوا ذابذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود؟
وقال أبو العباس بن الفياض:
قم اسقني بين الناي والعود ... ولا تبع طيب مفقود بموجود
نحن الشهود وصوت العود خاطبنا ... فزوج أبن غمام بنت عنقود!
وقال أبو البركات في غرناطة:
رعى الله من غرناطة متبوءاً ... يسر كئيبا أو يجير طريدا!
تبرم منها صاحبي عندما رأى ... مسارحها بالبرد عدن جليدا
هي الثغر صان الله من أهله به ... وما خير ثغر لا يكون برودا
وقال أبن الحجاج في صاحب وليمة أبطأ بالطعام فيها.
يا جائيا في داره ذاهبا ... لغير معنى لا ولا فائدة
قد جن أصحابك من جوعهم ... فأقراً عليهم سورة المائدة!
و تقدم بعضه. وقال الآخر:
مال أبن دارة دونه لعفاته ... خرط القتاد والتماس الفرقد
مال لزوم الجيمع يمنع صرفه ... في راحةٍ مثل المنادى المفرد
وقال الآخر:
فأكثر من الإخوان للدهر عدة: ... فكثرة در العقد من شرف العقد
وعظم صغير القوم وأبدا بحقه: ... فمن خنصري كفيك تبدأ في العد!
وقال الآخر:
ألا! إنّه كلنا بائد ... وأي بني آدم خالد؟
وبدؤهم كان من وبهم ... وكل إلى ربه عائد
فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكةٍ ... وتسكينة أبداً شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على إنّه واحد
وقال البستاني:
أبوك حوى العليا وأنت مبرز ... عليه إذا نازعته قصب المجد
وللخمر معنى ليس في الكرم مثله ... وللنار نور ليس يوجد في الزند
وقال أبو القاسم الاصبهاني:
أصبحت صبا دنفا ... بين عناء وكمد
أعوذ من شر الهوى ... بقل هو الله أحد!
وقال ابن الجهم:
انفس حرة ونحن عبيد ... إنَّ رق الهوى لرق شديد
لي حبيب نأى الهجر عني ... وأشد الهوى القريب البعيد
وقال الآخر:
وكم ليلة بت من حبكم ... تطول على طرفي الساهد
كأن نجوم الدجى في الدجى ... صوار تفرقن عن صائد
وقال أبن الرومي:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلاّ فما يبكه منها وإنّها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد؟
وقال الآخر في التورية:
تقول سليمى إذ رأت شيب لمتي: ... لقد حال من ذلك الشباب سواده
وما تنر الحسناء من خط كاتب ... إذا ابيض من طول الكتاب مداده
وقال كثير:
فإنَّ تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد!
وكل خليل زارني فهو قائل: ... من أجلك هذا هامة اليوم أو غد!
و تقدم أنَّ بن عبد الملك تمثل به على قبر جاريته حبابة لمّا ماتت: وقال أبو جعفر المنصور العباسي، وله قصة ستأتي في اللام:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة: ... فإنَّ فساد الرأي إنَّ يترددا
ولا تمهل الأعداء يوما بقدرة ... وحاذرهم أنَّ يملكوا مثلها غدا!
و سبب ذلك أنَّ جارية له أهدت إليه تفاحة بعد إنَّ طيبتها، وكتبت عليها:
هدية مني إلى المهدي ... تفاحة تقطف من خدي
محمرة مصفرة طيبت ... كأنها من جنة الخلد!
وقال عروة بن أذينة، رضي الله عنه:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم ابترد

هبني بردت ببرد الماء ظاهرة ... فمن لنار على الأحشاء تتقد؟
وقال الإمام الشافعي، رضي الله عنه، فيما زعموا:
خذوا بدمي ذلك الغزال فانه ... رماني بسهمي مقلتيه على عمد
ولا تقتلوه أنني أنا عبيده ... وفي مذهبي لا يقتل الحر بالعبد!
وقال القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي، رحمه الله:
ونائمة قبلتها فتنبهت ... وقالت: تعالوا فاطلبوا اللص بالحد!
فقلت لها: إني لثمتك غاضبا ... وما حكموا في غاضب بسوى الرد
خذيها وكفي لي عن إثم ظلامتي ... وإنَّ أنتِ لم ترضي فألفا من العد
فقالت: قصاص يشهد العقل إنّه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد
فباتت يميني وهي هيمان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد
وقالت: ألم أخبر بأنك زاهد؟ ... فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد
وقال مسكين الدارمي:
قل للملحة في الخمار الأسود: ... ماذا فعلت بزاهد متعبد؟
قد كان شمر للصلاة إزاره ... حتى قعدت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه ... لا تفتنيه بحق جاه محمد!
و زعموا إنّه كان مشتهرا بالمجون، فنسك ولزم المسجد، وصار من العباد. فورد بعض تجار العراق على المدينة، على سكانها الصلاة والسلام، بسلة فيها خمر مختلفة الألوان. فباعها جميعا إلاّ الأسود من الخمر. فتحير في أمرها وجاء نحو المسجد وسلأل عن من به من أهل الخير. فدل على مسكن الدارمي المذكور. فجاء وشكا إليه أمره وسأله الدعاء بتيسير بيع اللون فدفعها له وقال له: غن بها حيثما أمكنك فإنّها لى! فذهب يغني بها في سكك المدينة فظن الناس إنّه ترك التنسك وعاد إلى المجون ولامه أصحابه في ذلك فقال: ولتعلمن نبأه بعد حين! وشاع في المدينه أنَّ الدارمي تعشق صاحبة الخمار الأسود فبيعت بذلك خمر التاجر وعاد الدارمي إلى نسكه.
وهو القائل:
وسميت مسكيناً وما بي حاجةٌ ... وإني لمسكين إلى الله راغبُ
وإني امرؤ لا اسأل الناس ما لهم ... بشعر ولا تعيي على المكاسبُ
و ينسب إلى القاضي التنوخي في معارضة أبيات الخمار المذكورة:
قل للمليحة في الخمار المذهب: ... أفسدت نسك أخي التقي المترهبِ
نور الخمار ونور خدك تحته ... عجباً لوجهك كيف لم يتلهب!
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن نهجيهما من مذهبِ
و إذا أتت عين اتسرق نظرة ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي!
وقال الفرزدق:
وخير الشعر أشرفه رجالا ... وشر الشعر ما قال العبيدُ
و سبب قوله ذلك إنّه اجتمع مع نصيب الشاعر الأسدي في مجلس سليمان بن عبد المكل فقال الفرزدق شعرا يفخر فيه بأبيه ومنه:
وركبٍ كأن الريح تطلب عندهم ... لهاترةً من جذبها بالعصائبِ
سروا يخبطون الريح وهي تلفهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائبِ
إذا آنسوا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالبِ!
فأعرض سليمان كالمغضب ففطن له نصيب فقال له: أيأذن أمير المؤمنين أن أقول؟ قال: قل! فقال نصيب:
أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قاربُ
قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودان طالبُ
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائبُ
وقالوا: تركناه وفي كل ليلةٍ ... يطوف به من طالب العرف راغبُ
فلو كان فوق الناس حيٌّ فعاله ... كفعلك أو في الفضل منك يقاربُ
لقلنا له شبهٌ ولكن تعذرت ... سواك على المستشفعين المطالبُ
هو البدر والناس الكواكب حوله ... وهل تسبه البدر المنير الكواكبُ
فطرب سليمان وأمر لنصيب بعسرة آلاف. ثم التفت إلى الفرزدق فقال: كيف ترى يا أبا فراس؟ فقال: هو أشعر أهل جلدته. فقال سليمان: وأهل جلدتك! فغضب الفرزدق وقال:
وخير الشعر أشرفه رجالاً ... وشر الشعر ما قال العبيد!
و عن دعبل قال: نودي بالنفير فخرجت مع الناس فإذا فتى يجر رمحه بين يدي فقال: يا دعبل اسمع مني! وأنشد:
أنا في أمري رشاد ... بين حب وجهادِ
بدني يغزو عدوي ... والهوى يغزو فؤادي!

ثم قال: كيف ترى؟ قلت: جيد والله! فقال: ما خرجت إلاّ هاربا من الحب! ثم قاتل حتى قتل.
وقالت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان تخاطب زوجها عمر بن عمر بن عبد العزيز حيث اشتغل بأمور الخلافة ولم يتفرغ لها:
ألا يا أيها الملك الذي قد ... سبى عقلي وهام به فؤادي
أراك وسعت كل الناس عدلاً ... وجرت علي من بين العبادِ
وأعطيت الرعية كل فضل ... وما أعطيتني غير السهادِ
وقال الآخر:
نحن قوم تذيبنا الأعين النجل ... على أننا نذيب الحديدا
نقتل الأسد ثم تقتلنا البيض ... المصروفات أوجهاً وخدودا
وتراني لدى الكريمة أحراراً ... وفي السلم للحسان عبيدا
و زعموا أنَّ العلوي قائل هذا الشعر حاصر قلعة حتى كاد يقتحمها. وكانت فيها امرأة ذات حسن وجمال فقالت لأهلها: أنا أكفيكم أمره! فتبرقعت وخرجت نحو العسكر وقالت: أبلغوني إلى الأمير! فأبلغوها إليه فقالت: أنت القائل:
نحن قوم تذيبنا الأعين
فقال: نعم! فنزعت البرقع عن وجهها وقالت: أحسنا ترى أم قبيحاً؟ فقال: والله ما أرى إلاّ حسنا! فقالت: ما حق المولى على عبده؟ فقال: السمع والطاعة. فقالت: فأرحل عنا وانصرف راشداً قال: نعم: وأمر بالرحيل. فقال له أهل العسكر:إنَّ المدينة بأيدينا. فقال: لا سبيل إلى الإقامة ساعة واحدة. ثم خطب تلك المرأة وتزوجها، فكانت عنده أحظى نسائه.
وقال الآخر في الثقلاء:
إلمام كل ثقيل قد أضر بنا ... نروم نقصهم والشيء يزداد
ومن يخف علينا لا يلم بنا ... وللثقيل على الساعات ترداد
وقال الآخر:
إذا هز الكريم يزيد خيراً ... وإنَّ هو اللئيم فلا يزيد
و روي أنَّ أعرابيا وقف على مروان بن الحكم، وهو يفرض العطاء بالمدينة، فقال له: أفرض لي! فقال: قد طوي الكتاب! فقال له الأعرابي: أما علمت إني القائل: إذا هز الكريم؟ فقال: نشدتك الله، وأنت القائل له؟ قال: نعم! فقال مروان: افرضوا عليه ما يرضيه! وقال الآخر:
لا يوجد الخير إلاّ في معادنه ... والشر حيث طلبت الشر موجود
و يحكى عن جعفر بن يحيى إنّه في بعض أسفاره عرض عليه مماليك رجل جفاه السلطان، وفيهم غلام جميل. قال: فقلت له: ما اسمك؟ قال: ماهر. قلت وما صنعتك؟ قال: الأدب والشعر والغناء، وما شئت من بعد. فسألت عن ثمنه فقيل خمسمائة دينار على الضرورة. فوزنت ثمنه وسألته إنَّ يسمعني شيئاً من غنائه. فأخذ العود واندفع يغني:
حملتم جبال الحب فوقي وإنني ... لأعجز عن حمل القميص وأضعف
ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم ... بكتمان عين دمعها الدهر يذرف؟
فأطربني غناؤه وشجاني، فأجرته وخلعت عليه، وأمرته بمعادلتي. فلما أجزت منزل مولاه بمقدار ميل أنشأ يقول:
وما كنت أخشى معبدا أنَّ يبيعني ... بشيء ولو أضحت أنامله صفراً
أخوهم ومولاهم وحامل سيرهم ... ومن قد ثوى فيهم وعاشرهم دهرا
أشوق ولمّا يمض لي غير ساعةٍ ... فكيف إذا سار المطي بنا شهرا؟
فقلت له: يا غلام، أتعرف منزل مولاك من هنا؟ فقال: وهل تخفى معالم الحب؟ فقالت: أذهب فأنت حر لوجه الله! ووهبت له ألف دينار. فقال لي زميلي: أمثل هذا يعتق؟ فقلت له ويحك! وهل مثله يملك؟ فأنطلق وهو يقول:
لا يوجد الخير إلاّ في معادنه
وقال محمد بن عبد الملك الزيات:
وأي امرئ سمى بها قط نفسه ... ففارقها حتى يغيب في اللحد؟
وكان سبب ذلك أنَّ إبراهيم بن المهدي اقترض من التجار أموالا كثيرة ببغداد. فيها لعبد الملك الزيات عشرة آلاف دينار. فلما لم يتم لها أمر الخلافة لوى التجار أموالهم. فصنع محمد أبن عبد الملك قصيدة يخاطب المأمون، وهذا صغير، منها:
تذكر أمير المؤمنين قيامة ... بإيمائه في الهزل منه وفي الجد
ووالله ما من توبةٍ نزعت به ... إليك ولا ميل إليك ولا ود
ومن صك تسليم الخلافة سمعه ... ينادي به بين السماطين عن بعد؟
وأي امرئ سمى بها قط نفسه
وعرضها على إبراهيم وقال له: إما أنصفت أبي، وإما أنشدتها المأمون! فأذى إلى أبيه ماله دون سائر التجار، واستحلفه على كتمانها، فحلف له، وهذا من فوائد الشعر. وقال أبن الرومي يمدح النرجس:

للنرجس الفضل المبين وإنَّ أبى ... آبٍ وحاد عن طريقة حائد
وللنرجس احتاز الملاحة كلها ... وله فضائل جمة وفوائد
ومنها:
شتان بين اصنين: هذا موعد ... بتسلب الدنيا وهذا واعد!
و سيأتي تتمة هذا الشعر وما عورض به وما قيل في ذلك، إن شاء الله.
وقال الآخر:
وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد خد ندي
وقال الآخر:
إذا أنت وليت الخؤون أمانة ... فأنك قد أسندتها شر مسند!
وقال الآخر يصف الكتب:
لنا جلساء لا يمل حديثهم ... ألباء مأمونون غيبا ومشهدا
ويفيدوننا من علمهم علم من مضى ... وعقلا وتأديبا ورأيا مسددا
فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ... ولا تتقي منهم لسانا ولا يداً
فإنَّ قلت: أموات فلست بكاذب ... وإنَّ قلت: أحياء فلست مفندا!
وقال الآخر:
علي لأخواني رقيب من الصفا ... تبيد الليالي وهو ليس يبيد
يذكرنيهم في مغيب ومشهد ... فسيان منهم غائب وشهيد
وإني لأستحيي أخي أنَّ أبره ... قريبا وأنَّ أجفوه وهو بعيد
وقال الآخر:
رأيت صلاح المرء يصلح حاله ... ويعيدهم داء الفساد إذا فسد
ويعظم في الدنيا بفضل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
وقال الآخر:
أرى صاحب النسوان يسحب أنها ... سواء، وبون بينهن بعيد
فمنهن جنات تفيء ظلالها ... ومنهن نيران لهن وقود !
و قريب من هذا قول الأعرابي:
وإنَّ من النسوان من هي روضة ... تهيج الرياض دونها وتصوح
غيره:
وكل أخس عند الهواينا ملاطف ... ولكنما الأخوان عند الشداد!
غيره:
ما خطب من حرم الإرادة وادعا ... مثل الذي حر الإرادة جاهدا
غيره:
ولقد أصرف الفؤاد عن الشيء ... حياء وحبة في السواد
غيره:
عود لسانك قول الصدق تحظ به ... إنَّ اللسان لمّا عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سننت له ... في الخير والشر فأنظر كيف ترتاد!
وقال أبو الفتح البستي:
تكلم وسدد ما استطعت فإنما ... كلامك حي والسكوت جماد!
فإنَّ لم تجد قولا سديداً تقوله ... فصمتك عن غير السداد سداد
وقال أبن الرومي. وقد سمع رجلا يثني عن آخر مبالغا:
إذا ما وصفت أمرءا لامرئٍ ... فلا تغل في وصفه وأقصد
فإنك إنَّ تغل تغل، الظنون ... فيه إلى الآمد الأبعد
غيره:
ألم تر أن الدهر من سوء فعله ... يكدر ما أعطى ويسلب ما أسدى
فمن سره ألا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا
غيره:
إنّما الدنيا هبات ... وعوار مستردة
شدة بعد رخاء ... ورخاء بعد شدة
غيره:
لو إنَّ ما انتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائما أبدا!
لكنني عالم إني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا
غيره:
صل من دنا وتناس من بعدا ... لا تكرهن على الهوى أحدا
قد أكثرت حواء إذ ولدت ... إذا جفا ولد فخذ ولدا!
غيره:
إذا اجتمع الناس في واحدٍس ... وخالقهم في الرضى واحدُ
فقد دل إجماعهم دونه ... على عقله أنه فاسدُ
غيره:
وإخوان اتخذتهم درعاً ... فكانوا ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صائباتٍ ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا: قد صفت منا قلوبٌ ... لقد صدقوا ولكن من ودادي
وقالوا: قد سعينا لك سعيٍ ... لقد صدقوا ولكن في فسادي!
وقال أبو محمد الحريري:
ولمّا تعامى الدهر وهو أبو الورى ... عن الرشد في أنحائه ومقاصده
تعامت حتى قيل إني أخو عمى ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده!
و له: والشبل في البخر مثل الأسد وله أيضاً:
من ضامه أو ضاره دهره ... فليقصد القاضي في صعده
سماحه أزرى بمن قبله ... وعدله أتعب من بعده
و له أيضاً:
خذها إليك وصيةً ... لم يوصها قبلي أحد
غراء حاويةً خلاصات ... المعاني والزبد
نقحتها تنقيح من ... محض النصيحة واجتهد
واعمل بما مثلته ... عمل اللبيب أخي الرشد
حتى يقول الناس هذا ... الشبل من ذاك الأسد

وقال أبن الساعاتي:
حددت بجفنيها على رشف ريقها ... ومن شرب الصهباء يلزم بالحدِّ
وقال شرف الدين الحموي:
ونحن معاشرٌ نأبى الدنيا ... ونلبس من صوان العرض بردا
نعانق من رماح الخط باناً ... وننشق من سيوف الهند وردا
وقال المتلمس:
إنَّ الهمان حمار الذل يألفه ... والحر ينكره والفيل والأسدُ
ولا يقيم بدار الذل يألفها ... إلاّ الأذلان: عير الحي والوتدُ
هذا على الخسف مربوطٌ برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحدُ
وقال أبن قلاقس:
إنَّ مقام المرء في بيته ... مثل مقام الميت في لحده
فواصل الرحلة نحو الغنى ... فالسيف لا يقطع في غمده
والنار لا يحرق مشبوبها ... إلاّ إذا ما طار عن زنده
غيره:
قد تعففت وارتضيت بترفيع ... زماني وقلت إني وحدي
لا لأني أنفت مع ذا من الكد ... ية أين الكرام حتى أكدي
وقال أبو دلف:
أطيب الطيبات قتل الأعادي ... واختيالي على متون الجيادِ
ورسولٌ يأتي بوعد حبيبٍ ... وحبيبٌ يأتي بلا ميعاديِ
و سببه أنه قد قيل لأعرابي: ما أمتع لذات الدنيا؟ فقال: بيضاء رعبوبة بالشحم مكروبة بالمسك مشبوبة. وسئل الأعشى فقال: صهباء صافية يمزجها ساقية من صوب غادية. وسئل طرفة عن ذلك فقال: مركب وطي وثوبٌ بهي وطعامٌ شهي. قال بعضهم: فحدثت بذلك أبا دلف فقال: أطيب الطيبات . . البيتين وقال: وحدثت بذلك حميدا الطوسي فقال:
فلولا ثلاثٌ هن من عيشة الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة ... كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف مجنباً ... كسيد الغضى نبهته المتوردِ
وتقصير يوم الدجن والدجن معجبٌ ... ببهكنةٍ تحت الطرف النعمدِ
قال: وحدثت بذلك الزبير بن عبد الله فقال: ما أدري ما أقول ولكني أقول:
فاقبل من الدهر ما أتاك به ... من قر عيناً بعيشه نفعه
قلت: والأبيات الأربعة التي أنشدها حميد ليست له وإنّما تمثل بها وهي لطرفة بن العبد من قصيدته الدالية المشهورة؛و كذا البيت الذي أنشده الزبير هو لشاعر قديم وسيأتي ذكره مع غيره في موضعه. وشيع طرفة في ذكر الثلاث جماعة من الفضلاء. فمن ذلك قول عز الدين بن هبة الله المعتزلي معارضا:
لولا ثلاث لم أخف صرعتي ... ليست كما قال فتى العبدِ
أن أنصر التوحيد والعدل في ... كل مكان باذلاً جهدي
وأن أناجي الله مستمتعاً ... بخلوة أحلى من الشهدِ
وإن أتيه الدهر كبراً على ... لئيم " بياض " الخدِّ
لذلك أهوى لا فتاة ولا ... خمراً ولا ذا ميعةٍ نهدِ
و قول الآخر:
لولا ثلاثٌ هن والله من ... أكبر آمالي في الدنيا
حجٌ لبيت الله أرجو به ... أن يقبل التوبة والسعيا
والعلم تحصيلا ونشراً لمّا ... رويت أو سعت الورى ريا
وأهل ود أسأل الله أن ... يمتع بالبقيا إلى اللقيا
ما كنت أخشى الموت أني أتى ... بل لم أكن التذ بالمحيا
وقال اثير الدين:
أما إنه لولا ثلاث أحبها ... تمنيت أني لا أعد من الأحيا
فمنهن صوني النفس عن كل جاهل ... لئيم فلا أمشي إلى بابه مشيا
ومنها رجائي أن أفوز بتوبةٍ ... تكفر لي ذنباً وتنجح لي سعيا
أتترك نصاً للرسول وتقتدي ... بشخصٍ لقد بدلت بالرشد الغيا؟
و قول الصفدي:
لولا ثلاث هن أقصى المنى ... لم أهب الموت الذي يردي
تكميل ذاتي بالعلوم التي ... تنفعني أن صرت في لحدي
والعي في رد الحقوق التي ... أصاحبي نلت بها قصدي
وأن أرى الأعداء في صرعةٍ ... لقيتها في جمعهم وحدي
فبعدها اليوم الذي حم لي ... عندي استوى في القرب والبعدِ
و قولي أنا من هذا الباب:
لولا ثلاث فوائدٍ ترجى لمّا ... أحببت تنفيس الحياة إلى مدا
قربٌ من المولى وعلم نافعٌ ... وأجٌ يؤازرني ويشفع لي غدا

و ذكر الجاحظ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشده رجل قول طرفة المذكور فقال: لولا أن أسير في سبيل الله وأضع جبهتي لله وأجالس أقواما ينتقون أطايب الحديث كما ينتقون أطايب الثمار لم أبال أن أكون قد مت. قال: عامر بن عبد الله القيسي: ما آسى من العراق إلاّ على ثلاث: على ظمأ الهواجر وتجاوب المؤذنين وإخوان لي منهم الأسود بن كلثوم. وقال إعرابي:
لولا ثلاث هن عيش الدهر: ... الماء والنوم وأم عمرو
لمّا خشيت من مضيق القبر وقال الآخر:
صنت نفسي عما يليق بمثلي ... وتحصنت بالجفاء الشديدِ
ما يساوي قضاء حقِّ الموالي ... ما يقاس من سوء خلق العبيدِ
وقال البحتري:
ولست ترى شوك القتادة خائفاً ... سموم الرياح الآخذات من الرندِ
ولا كلب محوماً وإن طال عمره ... ألا إنّما الحمى على الأسد الوردِ
غيره:
لقد كسدت سوق الفضائل كلها ... وللهزل أحظى في الزمان من الجدِّ
فلست أرى إلاّ كريماً يفر من ... لئيم وحراً يشتكي الضيم من عبدِ
غيره:
وما زال هذا الدهر يلحن في الورى: ... فيرفع مجروراً ويخفض مبتدا
وقال أبن سناء الملك:
أبى الدهر إلاّ ضد ما أنا طالبٌ ... فيا ليت مني مكن الله ضدهُ
يعد الفتى إخوانه لزمانه ... وأعدا له من خوفه من أعدهُ
غيره:
تحفظ من ثيابك ثم صنها ... ة إلاّ سوف تلبسها حدادا
وميز عن زمانك كل حينٍ ... ونافر أهله تسد العبادا
وضن بسائر الأجناس خيراً ... وأما جنس آدم فالبعادا
أرادوني بجمعهم فردوا ... على الأعقاب قد نكصوا فرادى
وعادوا بعد ذا إخوان صدقٍ ... كبعض عقاربٍ رجعوا جدادا
وقال الأرجواني:
أرى بين أيامي وشعري قد بدا ... لتعجيل أتلافى خلافاً يجددُ
فقد أصبحت سوداً وشعري أبيضاً ... وعهدي بها بيضاً وشعري اسودُ
وقال بعض أهل المجون:
تعشقته شيخاً كأن مشيبه ... على وجنتيه ياسمينٌ على وردِ
أخا العقل يدري ما يراد من النهى ... أمنت عليه من رقيبٍ ومن ضدِّ
غيره:
لام العواذل إذ عشقت فتى له ... سبعون عاماً غير عامٍ واحدِ
لا تعذلوني في هواه فإنني ... عاينت فيه لمحةً من والدي
قيل لبعض أهل المجون: لم لا تميل الذي النسوان؟ قال: أذكر أمي فاستحي. فقيل له: لم لا تذكر بالذكور أباك؟ وعكس هذا الشاعر ذلك المعنى. ومن هذا النمط قول بهاء الدين بن النحاس:
قالوا: حبيبك قد تبدى شيبه ... فإلام قلبك في هواه يهيم؟
قال: اقصروا فالآن تم جماله ... وبدا سفاه فتى عليه يلزمُ
الصبح عرته وشعر عذراه ... ليلٌ ونبت الشيب فيه نجومُ
و قول أبن الوكيل وهو لطيف لولا عيب القافية:
شب وجدي بشائبٍ ... من سنا البدر أوجهُ
كلما شاب ينحني ... بيض الله وجههُ
وقال الصفدي:
عشقت شيخاً بديع حسنٍ ... لام على حبه العذولُ
كأن ياقوت وجنتيه ... لا شيب فيها جبال لولوُ
أي لؤلؤ. وقال الآخر:
شمس الضحى يعشى العيون ضياؤها ... إلاّ إذا روقت بعينٍ واحدة
فلذاك تاه العور واحتقروا الورى ... فاعرف قضيتهم وخذها فائدة
نقصان جارحةٍ أعانت أختها ... فكأنها قويت بعينٍ زائدة
وقال أبو نواس:
إني وما جمعت من صفد ... وحويت من سبدٍ ومن لبدِ
هممٌ تصرفت الخطوب بها ... فنزعت من بلدٍ إلى بلدِ
يا ويح مذ حسمت قناعته ... سبب المطامع عن غدٍ فغدِ
لو لم يكن لله متهما ... لم يمس محتاجاً إلى أحدِ
وقال محمد بن كنانة الأسدي:
ومن عجب الدنيا تيقنك البلا ... وأنك فيها للبقاء مريدُ
إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى ... فإنَّ فطام النفس عنه شديدُ
وقال الإمام البوصيري رحمه الله تعالى يمدح الشيخ أبا العباس المرسي رحمه الله تعالى ونفع به:
قل للذين تكلفوا زي التقى ... وتخيروا للدرس ألف مجلدِ:
لا تحسبوا كحل الجفون بحيلةٍ ... إنَّ المهى لم تكتحل بالاثمدِ!

الكحل بفتحتين أن يعلو منابت الأشفار سوادٌ خلقةً أو أن تسود مواضع الكحل. يقال: كحلت بالكسر فهي حكلاء وهو أكحل. وهذا مثل قول الآخر: ليس التكحل في العينين كالكحل وسيأتي. وقال الآخر:
وكنا كزوجٍ من قطا في مفازةٍ ... لدى خفض عيش معجب مونق رغدِ
أصابها ريب الزمان فأفردا ... ولم نر شيئاً قط أوحش من فردِ
حكي عن أبي الموءل قال: دخلت منزل نخاس في شراء جارية فسمعت في بيت بإزاء البيت الذي فيه صوت جارية وهي تقول: وكنا كزوجٍ . . " البيتين " فقلت للنخاس: اعرض علي هذه المنشدة! فقال: إنها شعثة مرهاء حزينة. فقلت: ولم ذاك؟ قال: اشتريتها من ميراث فهي باكية على مولاها. ثم لم ألبث أن أنشدت:
وكنا كغصني بانةٍ وسط روضةٍ ... نشم جنى الرضات في عيشةٍ رغدِ
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطعٌ ... فيا فردةً باتت تحنُ إلى فردِ
قال أبو السموءل: فكتبت إلى عبد الله بن طاهر أخبره بخبرها فكتب إلي أن ألق هذا البيت عليها فإن أجابت فاشتريها ولو بخراج خراسان! والبيت هو:
قريبٌ صد بعيد وصلٍ ... جعلته منه لي ملاذا
قال: فألقيته فقالت في سرعة:
فعاتبوه فذاب شوقاً ... ومات عشقاً فكان ماذا؟
قال: فاشتريتها وحملتها إليه فماتت في الطريق فكانت إحدى الحسرات.
وقال عمرو بن معدي كرب:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مرادِ
و هذا مثل مشهور كان علي كرم الله وجهه فيما يروون يتمثل به عندما يرى ابن ملجم. وتمثل به غيره أيضاً كما في حرف الهمزة. والعذير: العاذر والحال التي تحاولها لتعذر عليها. والعرب يقولون: عذريك من فلان وينصبونه بعامل لا يظهر. والمعنى: هلم من يعذرك من فلان فيلومه ولا يلومك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : من يعذرني من أناس أبنو أهلي في حديث الافك. وقال زيد الخيل:
أمرتحلٌ قومي المشارق غدوةً ... وأترك في بيتٍ بفردة منجدِ؟
إلاّ رب يومٍ لو مرضت لعادني ... عوائد من لم يبر منهن يجهدِ
فليت اللواتي عدنني لم يعدنني ... وليت اللواتي غبن عني شهدي!
وقال أعرابي:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبتردُ
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقدُ
وقال الآخر:
ما لعيني كحلت بالسهاد ... ولجنبي نائيا عن وسادي؟
لا أذوق النوم إلاّ غراراً ... مثل حسو الطير ماء التمادِ
ابتغي إصلاح سعدى بجهدٍ ... وهي تسعى جهدها في فسادي
فتتاركنا على غير شيء ... ربما أفسد طول التمادي
وقال المعتد بن عباد في باب الغزل:
أباح لطيفي طيفها الخد والنهدا ... فعض به تفاحةً واجتنى وردا
ولو قدرت زارت على حال يقظةٍ ... ولكن حجاب البين ما بيننا مدا
أما وجدت عنا الشجون معرساً ... ولا وجدت منا خطوب النوى بدا؟
سقى الله صوب القطر أم عبيدةٍ ... كما قد سقت قلبي على حرة بردا
هي الظبي جيداً والغزالة مقلةً ... وروض الربا عرفاً وغصن النقى قدا
وقال الرئيس أبو مروان بن رزين:
وروضٍ كساه الطل وشياً مجددا ... فأضحى مقيماً للنفس ومقعدا
إذا صافحته الريح خلت غصونه ... رواقص في خضر من العشب ميدا
إذا ما انسكب الماء عاينت خلته ... وقد كسرته راحة الريح مبردا
وإن سكنت عنه حسبت صفاءه ... حساماً صقيلاً صافي المتن جردا
وغنت به ورق الحمائم بيننا ... غناءً ينسيك الغريض ومعبدا
فلا تجفون الدهر ما دام مستعداً ... ومد إلى ما قد حباك به يدا
وخذها مداماً من غزالٍ كأنه ... إذا ما سقى بدرٌ يحمل فرقدا
وقال أبو بكر بن عمار من قصيدة:
وما هذه الأشعار إلاّ مجامرٌ ... تضوع فيها للنوى قطع الند
وقال أيضاً:
تبرعت بالمعروف قبل سؤاله ... وعدت بما أوليت والعود أحمد
وقال أبو الحسن بن الحاج اللورقي يتغزل في معذر:
وقد كان ينبت زهر الرياض ... فأصبح ينبت شوك القتادِ
أين لي متى كان بدر التمام ... يدرك بالكون أو بالفسادِ
وهل كنت في الملك من عبد شمسٍ ... فأخفى عليك ظهور السوادِ؟

وقال أبو محمد بن عبد البر في مجذوم:
مات من كنا نراه أبداً ... سالم العقل سقيم الجسدِ
بحر سقمٍ ماج في أعضائه ... فرمي في جلده بالزبدِ
كان مثل السيف إلاّ أنه ... حسد الدهر عليه فصدي
وقال أبو بكر بن الملح:
والروض يبعث بالنسيم كأنما ... أهداه يضرب لاصطباحك موعدا
سكران من ماء النعيم فكلما ... غناه طائره وأطرب رددا
يأوي إلى زهر كأن عيونه ... رقباء تعقد للأحبة مرصدا
زهر يبوح به اخضرار ذباته ... كالزهر أسرجها الظلام وأوقدا
ويبيت في فنن توهم ظله ... بالصبح في عين القرارة مرودا
قد خف موقعه عليه وربما ... مسح النسيم بعطفه فتأودا
وقال الفقيه أبو الحسن بن زنباع:
ومن يطفي بنزر الماء ناراً ... فليس يزيدها إلاّ اتقادا
وقال أبو جعفر التطيلي:
تنافس الناس في الدنيا وقد علموا ... أن سوف تقتلهم لذاتها بددا
تبادروها وقد آذتهم فشلاً ... وكلثروها وقد أحصتهم عددا
قل للمحدث عن لقمان اة لبدٍ ... لم يترك الموت لقماناً ولا لبدا
ولا الذي همه البنيان يرفعه ... إنَّ الردى لم يغادر في الشرى اسدا
ما لابن آدم لا تفنى مطالبه ... يرجو غداً وعسى إلاّ يعيش غدا؟
وقال الآخر:
باح مجنون عامرٍ بهواه ... وكتمت الهوى فمت بوجدي
فإذا كان في القيامة نودي: ... من قتيل الهوى؟ تقدمت وحدي!
وقال الآخر:
يقولون: إنَّ الحب كالنار في الحشى ... لقد كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلاّ جذوة مس عودها ... تسعر قلبا للمشوق وتوقد!
وقال الآخر:
أمسك ملامك عني إنني كمد ... إذ لم تجد في الهوى يوما كما أجد
إنَّ لم تصدق دموعي في الذي شهدت ... فأنظر إلى جسدي إنَّ كان لي جسد
يا ويح أهل الهوى إني لأرحمهم ... تبلى الجسوم وأثواب الهوى جدد
لولا ترحمهم أيقنت انهم ... يشقون دهرهم أضعاف ما سعدوا!
وقال الآخر:
كفى حزنا إني مقيم بلذةٍ ... وأحباب قلبي نازحون بعيد
أقلب طرفي في الديار فلا أرى ... وجوها لأحبابي الذين أريد!
و قد قلت في غرض الباب قصيدة، فرأيت إنَّ أثبتها هنا، وإنَّ كان فيها بعض ول، وهي:
أبى الدهر إلاّ أنَّ يجوز على القصد ... وأنَّ يعكس الآمال في كل ما يبدي
ويبسط بين الفرقدين يد النوى ... ويدني الثريا من سهيل على بعد
ويسمو بالوهد الحضيض على الذرى ... ويسفل بالطود السمي على الوهد
ويستبدل البردي في الطعن بالقنا ... وغصن النفى الأملود بالصارم الهندي
وأنَّ يجعل العقبان في الجو طعمة ... لورقاء والضبعان مفترس الأسد
ويهدي بالضب القطاة ركية ... على العشر والسمع النتائف بالخلد
ويرفع أقدار اللئام على الألى ... لهم فدم في المجد والشرف العد
ويلوي تدبير الورى كل مائقٍ ... وفضل الغنى كل امرئ شكس نكد
أجل إنّها الأحداث تجري مدارة ... مقاليدها في قبضة الصمد الفرد!
مقادير منه أبرمت عن مشيئةٍ ... قديما وعن علم محيط وعن قصد
وعدل وأحكام مبين وحكمة ... تحار النهي في نيل فياضها المد
وليست بما تهوى النفوس صروفها ... ولا حذر المحتال في صرفها يجدي
ولا يحرم الوفر الفتى بجهالةٍ ... وعجز ولا يحظى بعقل ولا كد
ولكنها الأرزاق أعددن للفتى ... قديما على قدر الشقاوة والجد
فكائن رأينا من حليم مفتر ... عليه وغمر بات في عيشةٍ رغد
أراني عروفا بالزمان فمن يكن ... كمثلي لم يصبح على الدهر ذا نقد
ولم يبتئس إنَّ مسه بمضوفةٍ ... ولم يزه بالدنيا إذا فاز بالوجد
وقد قرعتني الحادثات فلم تلن ... قناتي لغمز من شابها ولا لهد
وما رسنني حتى نزعن عن امرئٍ ... بعيد الهوى ثبت الحشا حازم جلد
إذا ظفرت كفاه لو يزه فاخراً ... وإنَّ نيل لم يضرع ولم يمس ذا وجد
فأصبحت لا آسى على فقد هالكٍ ... ولا يعتريني بين غانية رأد
ولا أبتغي امرئ عن تكلف ... وإنَّ كان حسن العهد ديني لذي ود

ولو ملني من الدهر معصمي ... لفارقته طوعا ولم يشكه عضدي
ورب غبي يزدريني إنَّ رأى ... شحوبي من حادث آونةٍ لد
ولم يدر أنَّ الأجرد النهد فضله ... بإحضاره لا باللجام ولا اللبد
وأنَّ الحسام الهندواني إنّما ... بمضربه يعتام لا جده الغمد
وأنَّ وراء الوهم لن يبق عزة ... عليه إذا ما قاده أصغر الولد
الوهم: الجمل العظيم الذلول، ورواؤه: منظره.
وإنَّ براٍ الهدهد التاج وهو لم ... يفز بالذي للباز والنسر من مجد
وإنَّ بهار الدفل كالورد منظراً ... وحسنا وبعد الخبر محمدة الورد
وغمر جهول يرتجي نيل منصبي ... رجاء حضيض أنَّ سيرقي إلى النجد
يصبو إلى ما نلته مثل ما صبا ... حصور إلى ما نيل من عذر الخرد
ويسعى إلى إدراك شأوي كما سعت ... أتان خريع خلف صافنةٍ جرد
وغرته مني لينة وبشاشةٍ ... كما غر غمراً كشرة الأسد الورد
ومن مد للبدر المنير يمينه ... ليمسكه فيلبسن ضيعة المد!
وذي ثروة يستأمني بلعاعةٍ ... ليقتادني قود الوديق إلى الورد
ولم يدر إني أجتوي الأري شابه ... هوان وأستحلي بعز جنى الهبد
وأنَّ لست للباغي ضيما بمصحب ... ولا باذل ماء وجهي على شكدِ
وإني لو أرتاد ما ضاق مذهبي ... بحول ولم يصلد لمفلقة زندي
ولكن صون النفس عن كل موردٍ ... تهان به أحظى بعزته عندي
وإني لفضاض السجايا دميثها ... لالفي ونشاب إذا شئت اللغد
وأنَّ لساني الصبر ما لم أزمه ... وإنَّ كان أحلى للودود من الشهد
وإني لو هاجيت دان أبن غالبٍ ... لأمري ولم يعرض لسيلي فتى العبد
ولو ثلاث هن أجررن مقولي ... عن الشر وائتمت به جدد الجد:
فمنها تحاشى أنَّ يمر به الخنا ... فإن الخنا من شيمة الدانيء الهد
ومنها تجافي أنَّ أناصب معشرا ... لئاما فمن لؤم مناصبة الوغد
ومنها التحامي عن وعيد التي إلى ... مداها جميع العالمين على وخد
وما المرء إلاّ حيث حل برحله ... فكن نازلا بالنفس في يفع الحمد
وكن رابئا عن كل ورد دنيةٍ ... بنفسك تغشاه مع الشرع الورد
وحم بجانب الورد إنَّ كنت صاديا ... فإنَّ تسرب فلتوله صفحة الصد
كما أعرضت كدر عن الماء عندما ... توجسن ذعرا فانثنين على جهد
ولا تك كالعير الوديق يؤمه ... فيحلأ عنه بالهراوى وباللكد!
فإنَّ حايض العز تغشى سخينة ... وإنَّ حايض الذل تقلى على برد
وما ضيم غير الفقع يوطأ بمنسمٍ ... على قرقر من غير نكر ولا رد
وغير تريك بيضة بلدية ... وغير أتان الحي تعصى أو الود
وكن حافظا بالغيب والسخط والرضى ... لعهد مصافيك الهوى دائم الود!
ألم بنا إلمامة بعد هداةٍ ... من الليل طيف من أميمة أو هند
سرى ورواق من دجى الليل منطب ... بما لو سرته الريح ضلت من البعد
فلم أر مثل الطيف جواب لاحبٍ ... بلا سائق يحدو ولا سابق يهدي
ولا والجا لا يغلق الباب دونه ... ولا يتلقى منه بسرور ولا سد
وأمن من لحظ الرقيب وريبه ... إذا زار ونه الرقيب على رصد!
فهيج أشجانا من القلب وانثنى بلا طائل منها عتيد ولا وعد
بأسرع من لحظ الجفون إذا رنا ... إليك وبالبرق والوميض من الرعد
فيا ليت شعري والحوادث جمة ... وعهد الغواني كالسراب على صلد!
أقامت على ما بيننا من صبابةٍ ... أميمة أم غيت مودتها بعدي؟
فخال من الأخدان كل مساعدٍ ... على أي حالٍ خضته صادق العهد
حليم غضيض الطرف عما يربيه ... سليم الحشا من هاجس الضغن والحقد!
فإنَّ وداد المرء كالظل زائل ... إذا لم يكن بين الجوانح عن عقد
وإنَّ حبال الوصل منقوضة العرى ... إذا لم تكن في القلب محكمة المسد
وإنَّ بناء شدته وأشتده ... لواهٍ إذا لم يرس عن ثابت العمد
وإنَّ ركيا ردته ووردته ... لغور إذا لم يزك من باطن المد
فهل تستوي عادية بخميلةٍ ... بها الماء عد دائم بحسى ثمد؟

وإنَّ أليف المرء إلف مشاكل ... وأحسن شيء ضمك الند للند
ولا تطمعن من غير شكل مودة ... تودم ويجني الود فيها على الود!
فإنَّ السجايا في الأنام سوية ... وشتى وبدع صحبة الضد للضد
وانك ما أبصرت أسداً أليفة ... لحمر وغربانا تحن إلى العفد
وما المرء إلاّ أبن الثرى فمراحه ... وإنَّ عاش أزمانا إلى ذلك المهد
وعمر الفتى المضمار بينا جواده ... يباري مداه إذ هوى في هوى اللحد
وبينا الفتى يزهو بمال وأسرةٍ ... إذا هو يشجى بالرزايا وبالفقد
إذا ما سمعت الدهر عولة حائر ... فكن حائر فكن راصد أمثالها إنّها تعدي
و قلت أيضاً:
أستغفر الله قد ضيعت نحوكم ... خطا وذلك من أخطائي السددا
سلكت فيها خباراً بل وطئت بها ... شوك القتاد ولم أسلك بها جددا
لو كنت أعلم ما ألقى ببابكم ... جعلت تصفيد رجلي دونكم صفدا
وقال الآخر:
إنَّ وصفوني فناحل الجسد ... أو فتشوني فأبيض الكبد
أضعف وجدي وزاد في سقمي ... أنا لست أشكو الهوى إلى أحد
أهٍ من الحب أهٍ من كبدي ... إنَّ لم أمت في غد فبعد غد
جعلت كفي على فؤادي من ... حر الهوى وانطويت فوق يدي
كأن قلبي إذا ذكرتكم ... فريسة بين ساعدي أسد!
وقال الآخر:
تغرب أمري فانفردت بغربة ... فصرت فريدا في البرية أوحدا
تسرمد وقتي فكيف فهو مسرمد ... وأفنيت عني فصرت مجددا
وقال الآخر:
لو كنت املك طرفي ما نظرت به ... من بعد فرقتكم يوما إلى أحد
ولست أعتده من بعدكم نظراً ... لأنه نظر من ناظري رمد
وقال الآخر:
تزود من الدنيا النقاخ ولن ترى ... بوادي الغضا ماء نقاخا ولا وردا
ونل من نسيم ألبان والرند نفحة ... وهيهات وادٍ ينبت ألبان والرندا!
وكرر إلى تجدٍ بطرفك أنه ... متى تغد لا تنظر عقيقا ولا نجدا!
وقال الآخر:
أكلف القلب أنَّ يهوى وألزمه ... صبرا وذلك جمع بين أضداد
وأكتم الركب أوطاري وأسأله ... حاجات نفسي لقد أتعبت روادي
هل مخبر عنده من منكر خبر ... وكيف يعلم حال الرائح الغادي؟
فإنَّ رويت أحاديث الذين مضوا ... فعن نسيم الصبا والبرق إسنادي
وقال الآخر:
زعموا أنَّ من تباعد يسلو ... ولقد زادني التباعد وجدا
إنَّ وجدي بكم وإنَّ طال عهدي ... وجد يعقوب حين فارق عهدا
خليلي إنَّ الجزع أضحى ترابه ... من الطيب كافورا وأغصانه رندا
وأصبح ماء البحر خمراً وأصبحت ... حجارة دراً وأوراقه وردا
وما ذاك إلاّ إنَّ مشت بجانبه ... أميمة أو جرت بتربته بردا
و هذا الشعر يتمثل به السادات في انخراق العوائد واستحالة الأشياء ببركة من جاورها ومسها أو استدعاها من الصالحين.
وذكر صاحب التشوف رحمه الله تعالى عن بعض الناس قال: كنت أتوضأ في البحر على قرب من الشيخ أبي عبد الله الصنهاجي، المعروف بابن أمغار. قال: وكان أبو عبد الله شرع في الوضوء من البحر، فتطعمت ماء البحر فوجدته حلوا، فقلت له: يا أبا عبد الله، إنَّ ماء هذا البحر حلو! فقال لي: هو كما قلت! وقال بعض الناس: كنت بالحرم الشريف مكة، فخرجت وقت السحر لأشرب من زمزم، فوجدت شيخا قد أخذ الدلو فشرب وأفضل، فوجدت الماء أحلى من العسل والسكر. فلما كان الغد، خرجت في ذلك الوقت أيضا إلى زمزم، فوجدت صاحبي. فلما شرب، أخذت الفضلة، فتعلقت به وقلت: سألتك بالله إلاّ أخبرتني من أنت! قال: أنا سفيان الثوري، واستر علي!

وحدث صاحب التشوف أيضاً عن بعضهم قال: مررت بالشيخ أبي موسى الدكالي السلاوي المشهور، وهو يأكل عسلوجا من عسالج الكلخ. فناولنيه فأكلته فوجدته طيبا. وعن أبي الحسن الأنصاري، المعروف بابن الصائغ، قال: زرت الشيخ أبا يعزى، فلما كان غروب الشمس خرجت للضوء مع جماعة، فبعدنا عن القرية، فحال الأسد بيننا وبين القرية. فقيل للشيخ أبي عز: حال الأسد بين أصحابك وبين القرية. فأخذ الشيخ عصاه بيده وجعل يضرب الأسد، ففر أمامه وقربنا منه، فجعل يأكل عيون الدفلى، فقال لترجمانه: قل لأبي الحسن: ما تقولون انتم معشر الفقهاء فيمن يأكل الدفلى؟ فقلت له: قل له: يقولون: من أكل الدفلى طرد الأسد! فأعلمه الترجمان بقولي، فرأيته يبتسم.
ومن هذا ما حدثني به بعض الثقات، وإنَّ بساحل حاحة، عند ضريح الشيخ أبي العباس أحمد الهشتوكي، المعروف بالسائح، تلميذ الشيخ سيدي سعيد بن عبد المنعم المناني. قال: حدثني فلان وكان أصحاب أبي العباس قال: جئت مع أبي العباس عند هبوطه إلى هذا الساحل، فأتينا على مصلى الشيخ محمد بن سليمان الجزولي، وكان مصلاه معروفا هناك بشاطئ البحر يزار. قال: فأقمنا في المصلى يومين أوقال ثلاثة. واحسبه قال - قال: لا نطعم شيئاً حتى أحسست بجوع شديد. فقال لي أبو العباس: قم إلى الضرو فخذ لنا من أوراقه! والضرو شجر معروف أوراقه أمر شيء. قال فقمت إلى الشجرة منها، فملأت حجري من الورق، وجئت به إليه فطرحته أمامه وأحسبه قال - قال: فحركه، فعاد زبيبا ولوز. قال: فأكلنا حتى اكتفينا. فلما قمنا من ذلك الموضع ومررنا على قرب من موضع الشجرة، تركت الشيخ حتى أدبر، فانسللت منه وأتيت الشجرة، فاقتطفت قبضة من أوراقها وجعلتها في فمي ومضغتها، فوجدتها أمر شيء، فمججتها، واتبعت الشيخ فأدركته يتوضأ في شعب هنالك. فلما رآني جعل يبتسم وقال لي: أفعلت كيت وكيت؟ قلت نعم! فقال لي ما معناه: أفتحسب أنَّ لا اله إلاّ الله في أفواه الرجل سواء؟ وقد وقع مثل هذا لإبراهيم بن أدهم. وحكايات الصالحين في نحو هذا لا تنحصر، وإنّما أردنا أنَّ نتبرك ببعض ذلك، نفعنا الله بمحبتهم وحشرنا في زمرتهم! وهذا القدر يكفي، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الذال المعجمة
الذئب يغبط بذي بطنه.
الذئب معروف، مهموز، ويترك همزه تخفيفا؛ والأنثى ذيبة. والغبطة: المسرة، وتكون للحسد تارة، وهو أن يتمنى إنَّ يعطى ما للغير من النعمة مع زوالها عن الغير وهو مذموم، وتارة لا مع محبة زوالها عن الغير وهو المحمود. والغبطة بهذا المعنى خلاف الحسد. ويقال: غبطة يغبطه كضربة يضربه، وغبطة يغبطه كسمعة يسمعة؛ غبطة. والبطن معروف وذو البطن: صاحب البطن، وهو ما فيه.
ومعنى المثل إنَّ الذئب يضن به أبدا الشبع والبطنة لمّا يروى من عدوه على الناس والمواشي، ولا يظن به الجوع، وإنَّ كان مجهودا من الجوع. فيضرب للرجل يتهم بالمال ولا مال له.
ومثل هذا قول الشاعر:
ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ... و يغبط بما في بطنه وهو جائع
و نحو هذا في أمثال العامة قولهم: من رأى الجمل الأبيض ظنه كله شحما.
ذياب في ثيابٍ.
الثياب جمع ثوب. وهذا المثل مشهور في ذم الناس وانهم كالذياب مكراً وخداعا وإنَّ كانوا في الصورة خلافها.
وروي إنّه لمّا ولد عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهن نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: هو، هو! فلما سمعت بذلك أمه أسماء، رضي الله عنها، أمسكت عن إرضاعه. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذياب، وذياب عليها ثياب، ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه! انتهى. وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم علماء السوء إنّه أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء: قل للذين يتفقهون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة يلبسون الكباش وقلوبهم كقلوب الذياب، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، إياي يخدعون، وبي يستهزئون، لأتيحن لهم فتنة تدع الحليم فيهم حيران. انتهى.
قال الشاعر:
وأنت كجرو الذيب ليس بآلف ... أبى الذيب إلاّ إنَّ يخون ويظلما!
الذيب يكنى أبا جعدة.

الذيب مر، والكنية والكنوة بضم الكاف وكسرها فيهما: الاسم. وكنيت الرجل أبا فلان، وكنيته بالتضعيف، وأكنيته، كنيته بالكسر والضم سميته به. وكنيته بابي فلان أيضاً. وأبو جعدة: كنية الذيب. ويقال: أبو جعادة أيضاً. قال الشاعر:
فقالت له: يا أبا جعادة إنَّ تمت ... تمت سيئ الأخلاق لا تتنقل
و كني الذيب أبا جعدة، وإنَّ لم تكن له بنت تسمى بذلك. ومن ثم قال الكميت يصفه:
ومستطعم يكنى بغير بناته ... جعلت له حظا من الزاد أوفرا
و الجعدة يكون وصفا للمؤنث، من الجعودة في الشعر، ضد البسوطة، والمذكر جعد. والجعد أيضاً الثرى الندي. وقول امرئ القيس:
ويأكلن بهمى جعدة حبشية ... و يشربن برد الماء في السبرات
أراد به الندية، أي بهمى ندية حبشية، أي شديدة الخضرة تضرب إلى السواد. ورجل جعد: كريم أو بخيل. وجعد اليدين: بخيل. والجعدة أيضاً نبت ينبت على شاطئ الأنهار، وهو المراد في المثل. ويقال إنّه نبت طيب الريح، ينبت في الربيع ويجف سريعا. والجعدة أيضاً: الشاة. فقيل كني الذئب بها لكثرة افتراسه إياها، وقيل: كني أبا جعدة لأنه بخيل يقال له الجعد كما مر. وانشدوا: أخشى أبا جعد وأم العمر يعني الذيب. وقيل من النبت السابق.
ومعنى المثل أنَّ الذيب كنيته حسنة وفعله خبيث منكر. يضرب للرجل يظهر لك إكراما وهو يريد بك غائلة.
ويروى هذا المثل أيضاً: هي الخمر تكنى الطلاء كما الذيب بكنى أبا جعدة.
ويحكى إنّه لعبيد بن الأبرص لمّا هم المنذر بن ماء السماء بقتله قال له عبيد: وقالوا:
هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذيب يكنى أبا جعدة
ويروى:
هي الخمر يكنوها بالطلا ... كما الذيب يكنى أبا جعدة
أي إنّه يظهر لي الإكرام وهو يريد قتلي، كما إنَّ الخمر وإنَّ سموها الطلاء وحسنوا أسمها ففعلها قبيح. وكذا الذئب وإنَّ كان اسمه حسنا فإنَّ فعله قبيح. ويحكى عن أبن الزبير سئل عن المتعة فقال: الذيب يكنى أبا جعدة. والمعنى أنَّ المتعة حسنة الاسم قبيحة المعنى، لأنها طلاق، كما أن الذئب حسن الاسم قبيح المعنى.

ذكرتني الطعن وكنت ناسيا.
الذكر والتذاكر: الحفظ للشيء، وذكره وتذكره إياه بالتضعيف، وأذكرته. وما زال مني على ذكر بالضم والكسر أي تذكر. والطعن: الضرب بالرمح أو نحوه، والوخز به، طعنه بالفتح يطعنه بالفتح والضم طعنا: ضربه، فهو مطعون وطعين، والنسيان ضد الحفظ، نسي الأمر بالكسر ينساه، نسيا ونسيانا ونساوة بكسر الثلاثة ونسوة بالفتح: ضد حفظه؟ وهذا المثل يضرب في ذكر الشيء بغيره، وفي الرجل يسمع كلمة فيتذكر بها شيئاً. وأصله فيما يقال إنَّ رجلا حمل على آخر ليقتله، وكان مع المحمول عليه الرمح، فنسيه دهشا، فقال له الحامل: ألق الرمح! فقال عند ذاك: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا أي ذكرتني ما اطعن به: أو ذكرتني الطعن بتذكير الرمح الذي أطعن به فذهبت مثلا. ثم كر عليه فهزمه.
ويقال إنَّ الحامل في هذا القصة هو صخر لن عمرو بن الشريد، والمحمول عليه هو يزيد أبن الصعق. وقد ذكر ذلك أبو عبيد، إلاّ إنّه قال: فكر عليه فقتله أو هزمه على الشك فوهمه البكري بما ثبت من أنَّ صخرا إنّما مات بطعنة ربيعة بن ثور الأسدي. وسيأتي لنا ذكر قصته، إن شاء الله تعالى.
ويروى أيضاً إنَّ رهيم بن حزم الهلالي عرج بأهله وماله يريد النقلة في بلاد من أرض إلى أرض. فبينما هو يسير إذ لقيه ثلاثون رجلا من تغلب، فقال لهم: يا بني تغلب، شأنكم بالمال وخلوا الظعينة! فقالوا: قد رضينا إنَّ ألقيت الرمح! فقال: وإنَّ لرمحي لمعي! فقتل رجلا وصرع آخر وقال ذلك.
ذكر ما فات يكدر الأوقات.
وهذا مثل مصنوع فيما أظن، وهو ظاهر المعنى، وقريب من قولهم: ذكر أيام الجفاء في أيام الصفاء جفاء.
مذكية تقاس بالجذاع.
المذكي من الخيل: المسن الذي جاوز القراح بعام، كما مر في الجيم. والجذاع جمع جذعة وهو الصغير السن، والقياس: اعتبار الشيء بالشيء وإلحاقه به في أمر. وهذا المثل يضرب عند الخطأ في التشبيه وقياس الكبير بالصغير. واشتهر في هذا المعنى على ألسنه الناس قولهم:
قياس البيض على الباذنجان.

وزعموا إنَّ أصله رجلا كان ساق إلى آخر باذنجانا أو نحوه، فوجد مسكنه مغلقا ولم يجد صاحبه هناك، فلم يمكنه إنَّ يدخل إلى المسكن ما أتى به. فلما جاء صاحبه قال له: إذا جئت بشيء من ذلك فأرمه من الخوخة إلى البيت قم إنّه يوما اتفق لهذا أنَّ جاء ببيض فرماه من الخوخة، عملا بوصية صاحبه وظن إنَّ البيض والباذنجان سوء. فوقع البيض وانكسر وفسد، وذهب ذلك مثلا.

أذكى من إياس.
الذكاء سرعة الفطنة: يقال ذكي الرجل يذكى كرضي يرضى، وذكى يذكى كسعى يسعى، وذكو يذكو ككرم يكرم ذكاء بالمد فهو ذكي.و إياس بوزن كتاب هو إياس بن معاوية بن قرة، قاضي البصرة. كان أعجوبة الزمان في الذكاء وسرعة الجواب. ومن ثم قال أبو تمام.
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
ولذكاء إياس وفراسته وفطنته أخبار عجيبة وحكايات غريبة. ومن أوّل ما كان يعرف به من ذكائه إنّه دخل الشام وهو صغير ونازع رجلا في أمر وقدمه إلى القاضي عبد الملك بن مروان، وكان القاضي يعرف الرجل فقال لإياس: أما تستحي إنَّ تقود شيخا كبيرا؟ فقال: الحق اكبر منه! قال القاضي: اسكت! قال إياس: فمن يتكلم بحجتي إذا سكت؟ فقال له القاضي ما أظنك تتكلم بحق حتى تقوم. قال إياس: أشهد أن لا إله إلاّ الله وإنَّ محمّد رسول الله! فوثب القاضي قائما ودخل على عبد الملك فأخبره خبره. فقال له عبد الملك أقض حاجته! وأصرفه عن الشام لا يفسد علينا الناس! ثم ولي القضاء في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وكان سبب ذلك إنَّ عمر بعث رجلا من أهل الشام فقال له: اجمع بين القاسم وربيعة وإياس، فول القضاء أيهما انفذ! فجمع بينهما وتمنع كل منهما. فقال إياس للشامي وعن القاسم فقيهي المصر:الحسن وأبن سيرين! فعلم القاسم إنّه إنَّ سألهما أشارا به. فقال للشامي: لا تسل! فوالله الذي لا إله إلاّ هو إنَّ إياس لأفضل مني وأعلم بالقضاء. فإنَّ كنت ممن يصدق فينبغي لك إنَّ تصدق قولي، وإنَّ كنت كاذبا فما يحل لك أنَّ توليني القضاء وأنا كاذب! فقال إياس للشامي: إنك جئت رجل فأقمته على شفير جهنم، فافتدى نفسه من النار بيمين كاذب سيستغفر الله غز وجل منها وينجو من النار. فقال الشامي: أما إذ فطنت لها فأنا أوليك القضاء. فاستقضاه. وكان إياس قيل له: إنَّ فيك عيبين: إعجابا بقولك وعجلة في الجواب. فقال: أما الإعجاب، أليس يعجبكم ما أقول؟ قالوا: بلى! قال: فأنا أحق بالإعجاب بقولي، وأما العجلة، فكم هذه؟ وأمد أصابع يده فقالوا: خمس قال: عجلتم الجواب ولم تعدوها إصبعاً، إصبعاً. قالوا: وكيف نعد ما نعلم؟ قال: كذلك أنا في الحكم! وسيأتي شيء من أخباره وفراسته بعد، إن شاء الله تعالى.
ذليل عاذ بقرملةٍ.
الذل ضد العز، ذل الرجل يذل فهو ذليل، والعياذ: الالتجاء، ويقول: عاذ به يعوذ بذال معجمة عوذا وعياذا ومعاذا ومعاذة. والقرملة شجرة ضعيفة لا شوك لها، تنفتح إذا وطئت، والجمع قرمل. قال الشاعر:
قتيلان لا تبكي المخاض عليهما: ... إذا شبعت من قرمل وأفان
و هذا المثل يضرب في الضعيف يلتجئ إلى أضعف منه أو مثله، والذليل يأوى إلى أذل منه. قال جرير:
كان الفرزدق إذ يعوذ بخاله ... مثل الذليل يعوذ تحت القرمل
و يقال أيضاً في المثل:
ضعيف عاد بقرملةٍ.
ومثله قول العامة: أستند المريض إلى المريض.
أذل من بيضة البلد.
الذل مر، والبيضة معروفة واحدة البيض؛ والبلد بفتحتين أدحي النعام، وهو حفرة يتخذها في الأرض لبيضه. قال علقمة يصف الظليم:
حتى توافى وقرن الشمس مرتفع ... أدحي عريسين في البيض مركوم
و بيضة البلد يقال بيضته التي يتركها فيه، ضرب بها المثل في الذلة لأنها لا تمتنع من كل من ظفر بها، كما قيل: فقع القرقر، على ما يأتي. قال الشاعر:
لو كنت من أحد يهجى هجوتكم ... يا بن الرقاع ولكن لست من أحد
تأبى قضاعة أنَّ تدري لكم نسبا ... و ابنا نزار فأنتم بيضة البلد
و جوز أبو عبيدة في قولهم: كان فلان بيضة البلد أنَّ يراد به المدح على ما قيل في بيضة القعر، كما سيأتي. وزعم البكري إنّه قد ضرب هذا ثلا للمنفرد عن أهله وأسرته، فلا يكون مدحا ولا ذما، وانشده:
لو كان حوض حمار ما شربت به ... إلاّ بأذن حمار أخر الأبد

لكنه حوض من أودى بأخوته ... ريب الزمان فأضحى بيضة البلد!
و فيه نظر: لأنَّ الشاعر يخبر بأنه قد هان وذل بذهاب اخوته وأنصاره، لا بمجرد فقد الأنصار وإنّه منفرد.
أذل من حمارٍ.
الحمار معروف، وهو يوصف بالذلة والهوان، كما يوصف بالجهل والبلادة. قال الشاعر:
ولا يقيم على الضيم يراد به ... إلاّ الأذلان: عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمته ... و ذا يشج فلا يرثي له أحد
و الخسف: الهوان، كما قيل:
حراجيح ما تنفك إلاّ مناخة ... على النفس أو نرمي بها بلدا قفرا
و الزمة: القطعة من الحبل. وقوله في الوتد، يشج أي يضرب على رأسه، فلا يرثي له أحد، أي لا يرق له أحد ولا يحمه، ومثله قول عبد الرحمان بن حسان بن ثابت الأنصاري يهاجي عبد الرحمن بن الحكم بن العاصي الأموي:
فأما قولك: الخلفاء منا ... فهم منعوا وريدك من وداج
ولولاهم لكنت كركب بحرٍ ... هوى في مظلم الغمرات داج
وكنت أذل من وتد بقاع ... يشج رأسه بالفهر واج
و لمّا وقع هذا بينهم كتب معاوية، رضي الله عنه، إلى مروان بن الحكم إنَّ يؤد بهما، وكانا قد تقاذفا. فضرب عبد الرحمن بن حسان ثمانين، وضرب أخاه عشرين. فقيل لعبد الرحمن بن حسان: قد أمكنك في مروان ما تريد، فشنع أمره وارفعه إلى معاوية! فقال: إذا، والله، لا أفعل، وقد حدني كما يحد الرجال الأحرار، وجعل أخاه كنصف عبد، فأوجعه بهذا الكلام.

أذل من حمار قبان.
ويقال: عير قبان دويبة صغيرة من دواب الأرض؛ وقبان بفتح القاف والباء المشددة، على وزن فعلان، من قب، وكأنه من القبب وهو ضمور البطن. قال الشاعر:
يمشين مشي قطا البطاح تأود ... قب البطون رواجح الأكفال
و ذلك لضمور بطنه. والدليل على إنّه فعلان منع الصرف فيه. قال الشاعر:
يا عجبا لقد رأيت عجبا: ... حمار قبان يسوق أرنبا
خالطها يمنعها أن تذهبا ... فقال: أردفيني! قالت: مرحبا!
و لو كان فعلا لصرفه إلاّ أن يلاحظ فيه تركيبا.
أذل من السقبان بين الحلائب.
السقبان بالضم جمع سقب بفتح فسكون، وهو ولد الناقة مطلقا أو ساعة يولد. قال علقمة:
رغا فوقهم سقب السماء فداحص ... بشكته لم يستلب وسليبُ
أراد أبن ناقة ثمود والأنثى سقبة. وقيل: السقب مخصوص بالذكر ولا يقال للأنثى سقبة وإنّما يقال لها حائل وأمها أم حائل كما مر. وجمع السقب: أسقب وسقوب وسقاب وسقبان. وناقة مسقاب إذا كانت عادتها أن تلد السقبان. قال الراجز: غراء مسقاب لفحل أسقب.
والحلائب جمع حلوبة والحلوبة من النوق المحلبة. قال الشاعر يرثي رجلا:
يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه ... إذا لم يكن في المنقيات حلوبُ
و جمع الحلوب والحلوبة الحلائب. وضربوا المثل بالسقبان بين الحلائب أي بين النوق التي تحلب لأنها تقبض وتردد وتدفع وتشدد فينالها الهوان والصغار.
أذل من فراشٍ.
الفراش بفتح الفاء وتقدم في حرف الخاء.
أذل من فقع بقرقرةٍ.
الفقع بفتح فسكون الكمأة البضاء الرخوة وتكسر الفاء. وجمع الكل فقعة كعنبة قاله الجوهري. والقرقرة والقرقر:الأرض المطمئنة اللينة فيقال للذليل أذل من فقع بقرقرة وهو فقع بقرقرلأنه لا يتمنع على من يجتنبه أو لأنه يوطأ بارجل الناس والبهائم ويمتهن. وينسب للنابغة بهجو النعمان بن المنذر:
حدثوني بني الشقيقة ما ... يمنع فقعاً بقرقر أن يزولا؟
وقال بعض العرب لقوم: ما أنتم إلى ريف فتأكلوه، ولا إلى فلاة فتعصموه ولا إلى وزر فينجيكم! فأنتم نهزة لمن رامكم ولعقة لمن قصدكم وغرض لمن رماكم كالفقعة الشرباخ يشدخها الواطئ ويذريها السافي. الشراخ الفاسدة المسترخية.
ذهبوا أيادي سبأ.

الذهاب معروف يقال: ذهب بالفتح يذهب ذهابا والأيادي جمع أيد والأيدي جمع يد وهو بمعنى الجارحة وبمعنى النعمة وبمعنى الطريق. وسبأ قيل أبو قبائل اليمن وهو لقب وأسمه عبد شمس بن يشجب بن يعرب وسمي سبأ قيل لأنه أول من سبى السبي. وقيل سبأ اسم أمهم وتسمى البلدة سبأ باسم سكانها وكانت أخصب بلاد الله كما الله تعالى: )جنتانِ عن يمينٍ وشمال(. قيل: وكانت مسافة شهر في شهر للراكب المجد يسير الماشي في الجنان من أولها إلى آخرها لا يفارقه الظل، مع تدفق الماء وصفاء الهواء واتساع الفضاء. فمكثوا مدة في أمن لا يعاني ملك إلاّ قصموه. وكانت في بدء الأمر تركبها السيول فجمع ملك حمير أهل مملكته وشاورهم فاتخذوا سدا في بدء جريان الماء ورصفوه بالحجارة والحديد وجعلوا فيه مخارق للماء. فإذا جاءت السيول انقسمت على وجه يعمهم نفعه في الجنات والمزروعات. ويقال بانيه لقمان بن عاد ووقع في شعر الأعشى أنَّ حميرا هو بناه حيث قال:
رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء ماؤها لم يرم
فلما كفرو نعم الله تعالى ورأوا ملكهم لا يبيده شيء وعبدوا الشمس سلط الله على سدهم فأرة فخرقته وأرسل عليهم السيل فمزقهم الله كل ممزق وأباد خضراءهم كما قال في القرآن.
فحكي أنه لمّا انتهى الملك إلى عمرو بن عامر المعروف بمزيقياء وسمي بذلك لأنه كان يلبس حلة حتى إذا أمسى مزقها أنفة من أن تعاد عليه أو يلبسها غيره أو لأنه مزق الأزد في البلاد. وكان أخوه عمران كاهنا فأتته كاهنة وأخبرته بدنو فساد السد وفيض السيل وأنذرته فقال لها: وما آية ذلك: فقالت: إذا رأيت جرذا يكثر بيده الحفر ويقلب برجليه الصخر فاعلم أنه قد اقترب الأمر. قال: وما الأمر؟ قالت: وعد من الله ينزل فيغيرك يا عمرو! ثم إنَّ عمرا يوما نظر في السد فرأى جرذا يقلب صخرة ما يقلبها خمسون رجلا. فرجع وهو يقول:
أبصرت أمرا هاج لي برح السقم ... من جرذ كفحل خنزير أجم
له مخاليب وأنياب قضم
فأجمع على الخروج منها. واحتال في بيع ماله وإنَّ لا ينكر الناس عليه. فقال لابنه: إني صانع طعاما وداع إليه أهل مأرب، فأردد على كلامي إذا تكلمت! ففعل ورد عليه ابنه أقبح الرد، فتغاضب عمرو وصاح: واذلاه! يجيبني صبي! وحلف ألا يقيم ببلد فيه ضيم فيه. فجعل يبيع أمواله وقومه يقولون بعضهم لبعض: اغتنموا غضبة عمرو قبل إنَّ يرضى! واشتروا منه. فلما باع واجتمعت له أمواله أخبرهم خبر السد والسيل، وأجمعوا على الجلاء، فقال لهم عمران: إني أصف لكم بلدانا، فاختاروا أيّها شئتم، من كان منكم ذا غنم بعيد، وجمل غير شرود، فليلحق بالشرود، فليلحق بالشعب من كؤود! فلحق به همدان. ثم قال: ومن كان منكم ذا سياسة وصبر، على أزمات الدهر، فليلحق ببطن مر! فلحق به خزاعة. قال: ومن منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل! فنزلها الاوس والخزرج. قال: ومن كان يريد الخمر والخمير، والأمر والتأمير، فليلحق ببصرى وسدير! وهي أرض الشام. فلحق بها غسان. قال: ومن كان منكم يريد الثياب والرقاق والخيل العتاق، والذهب والأوراق، فليلحق بالعراق فلق بها ملك بن فهم الأزدي. وتخلف مالك اليماني في قومه حتى أخرجهم السيل منها، فنزلوا نجران وانتسبوا في مذحج، ودخلت جماعة منهم على معد، فأخرجتهم معد بعد حروب، ونزلوا بجبل السراة، على تخوم الشام. فلما تفرقت قبائل سبأ هذا التفرق، وتمزقوا هذا التمزق، ضربت العرب بهم المثل فقالوا: ذهب القوم أيدي سبأ وأيادي سبأ، أي تفرقوا في كل طريق ووجهة، إما على أنَّ اليد بمعنى الجارحة، لأنهم كانوا، إذ كانوا مجتمعين، يدا واحدة. فلما تفرقوا صارت اليد أيادي كثيرة؛ أو بمعنى النعمة، أي تفرقوا تفرق نعم سبأ، أو كائنين كنعم أهل سبأ، أو بمعنى الطريق، أي تفرقوا في كل طريق أهل سبا، حيث تمزقوا، وأيدي سبأ جعل اسما مركبا كمعدي كرب وسكنت الياء تخفيفا وإنَّ انتصب.
ذهبوا تحت كوكبٍ.
هذا كالذي قبله في المعنى أيضاً، وهو التفرق، وألفاظه ظاهرة.

ذهب دمه أدراج الرياح.

الذهاب مر، وكذلك الدم، والأدراج جمع درج بفتحتين وهو الطريق تقول رجعت أدراجي أي في الطريق الذي جئت فيه. والرياح جمع ريح، قلبت الواو ياء في المفرد والجمع لانكسار ما قبلها. وهذا المثل يقال في بطلان الشيء. فإذا قيل:ذهب دمه أدراج الرياح، أريد إنّه ذهب هدراً. والمعنى إنّه مسالك الرياح الذاهبة أو كان في مسالكها فنسفته وأذهبته. وكذا في غير الدم.

ذهبت هيف لأديانها.
الذهاب مر، والهيف بالفتح ريح حارة تهب من نحو اليمن نكباء بين الجنوب والدبورز قال ذو الرمة: هيف اليمانية في مرها نكب وهي تيبس ما مرت به وتعطش الحيوان. الهيف أيضاً شدة العطش، والأول المراد والأديان جمع دين بكسر الدال وله معان كثيرة: منها العادة، وهو المراد هنا. قال امرؤ القيس:
كدينك من أم الحويرث قبلها ... و جارتها أم الرباب بمأسل
أي كعادتك. ويروي كدابك، بمعناه. وقال الآخر:
تقول إذا درأت لها وضيني: ... أهذا دينه أبدا وديني؟
و معنى ذهبت هيف لأديانها: ذهبت لعدتها، لأنها تجفف كل شيء. فيضرب عند تفرق القوم ليس لشأنه، أو لمن يلزم عادته. وقال أبو عبيد: يضرب في نظر الرجل لنفسه وإقباله على شهوته وهواه. وقيل إنّه يضرب الشيء إذا انقضى.
الذود إلى الذود ابل.
الذود بفتح الذال وسكون الواو بعدها دال مهملة، من الإبل ما بين الثلاث والعشر، مؤنث ولا واحد له، والجمع أذواد. قال النابغة:
لعمرك ما خشيت على يزيدٍ ... من الفخر المضلل ما أتاني
كأنَّ التاج معصوبا عليه ... لأذواد أصبن بذي أبان
وقال امرؤ القيس:
أرى المرء ذا الأذواد محرضا ... كإحراض بكر في الديار مريض
و الإبل معروف، لا واحد له، وقد تسكن الباء. قال:
ألبان إبل تعله بن مسافرٍ ... ما دام يملكها علي حرام
و الجمع آبال.
والمعنى أنَّ الذود وهي القليلة العدد مجموعة إلى ذود أخرى تكون إبلا. أو إلى بمعنى مع، أي الذود مع الذود. يضرب عند اجتماع القليل إلى القليل، وإنّه يكون كثيرا. وتقدم مثله.
ذلك الفحل لا يقدح انفه.
ذلك: إشارة إلى البعيد، شخصا كان أو مكانا. وأصله ذوي، أو ذيي، وعلى الخلاف المعروف في علم النحو؛ والفحل من الإبل معروف، ويكون في غيرها، والجمع فحول وفحال وفحالة. قال: فحالة تطرد عن شوالها والقدع بالدال المهملة: الكف والضرب. تقول: قدعت الفرس إذا كبحته؛ وقدعتالفحل إذا ضربت أنفه بالرمح حتى يرجع وذلك إذا كان غير كريم فيريد أن يطرق الناقة الكريمة فيضرب حتى يرجع. قال الشماخ:
إذا ما استافهن ضربن منه ... مكان الرمح من أنف القدوعِ
يصف حمارا يستاف أتنا أي يشمهن لأنَّ الاستياف والسوف هو الشم كما قال امرؤ القيس:
على لاحبٍ لا يهتدي بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
ومن ذلك سميت المسافة من الأرض لأنَّ الدليل يشم التراب ليعرف أين هو. وقوله: وكان الرمح أي المكان الذي يصيبه الرمح من أنف القدوع. والقدوع: المقدوع وهذا البناء يكون بمعنى مفعول أو بمعنى فاعل أيضاً. فمن الأول قولهم: دابة ركوب وناقة حلوب وحوار رغوث وفحل قدوع أي مركوبة ومحلوبة ومرغث ومقدوع؛ ومن الثاني قولهم: قدوع وركوب للدوابو ناقة رغوث أي قادع وراكب ومرغث. وقال الحجاج في خطبة له: أيها الناس اقدعوا هذه الأنفس فإنّها أسأل شيء إذا أعطيت وأمنع شيء إذا سئلت. فرحم الله امرءاً جعل لنفسه خطاماً وزماما فقادها إلى طاعة الله وعطفها بزمامها عن معصية الله! فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.
وهذا المثل قاله ورقة بن نوفل بن خويلد لمّا قيل له إنَّ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خطب خديجة بنت خويلد فقال ورقة: ذلك الفحل لا يقدع أنفه أي كريم يروم كريمة فلا سبيل إلى التعرض له دونها وصده عنها وهو أشرف أكفائها. ويقال إنّه تمثل به فقط. ويقال: تمثل به أبو سفيان ن حرب لمّا خطب النبي صلى الله عليه وسلم ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان. فقيل له إنَّ محمدا تزوج ابنتك وأبو سفيان يومئذ مشرك فقال ذلك؛ غير أنَّ اللفظ المروي من كلام أبي سفيان هو: الفحل لا يقدع أنفه والله أعلم.
ومن هذا الباب قولهم:
ذهب دمه خضراً مضراً.
بكسرها وسكون الضاد المعجمة أي هدراً.

وقولهم:
لأذهبن فإما هلك وإما ملكٌ.
ومعناه قول امرئ القيس:
بكى صاحبي لمّا رأى الدرب دونه ... و أيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنّما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا!
و قولك:
أذهل من صبٍّ.
والذهول: الغفلة والنسيان والصب: العاشق ذو الصبابة وهو لمّا به يغلب عليه ذلك.
ومما يجري على ألسنة القراء تمثلا قول الله تعالى إخبارا عن نبيه موسى عليه السلام:
ذلك ما كنا نبغِ.
وينبغي أن يكون المتمثل بشيء نحو هذا أن يلاحظ فيه ما يلاحظ عند الاقتباس ليكون أحفظ للأدب وأبعد عن الإسفاف والتبذل وترك كله أحوط وأسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم :
ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً.
ويحكى أنه لمّا نصب معاوية رضي الله عنه ابنه يزيد لولاية العهد أقعده في قبة حمراء. فجعل الناس يسلمون على معاوية ويميلون إلى يزيد حتى جاء رجل ففعل ذلك. ثم رجع إلى معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين اعلم أنك لو لم تول هذا أمر المسلمين لأضعتها. وكان الأحنف بن قيس جالسا فقال له معاوية: مالك لا تقول يا أبا بحر؟ وهي كنية الأحنف. فقال الأحنف: أخاف الله إن كذبت وأخافكم إن صدقت. فقال معاوية: جزاك الله عن الطاعة خيرا! وأمر له بألوف. فلما خرج الأحنف لقيه ذلك الرجل بالباب فقال له: يا أبا بحر إني لأعلم إنَّ شر من خلق الله هذا وابنه ولكنهم استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال. فلسنا نطمع في استرجاعها إلاّ بما سمعت! فقال له الأحنف: يا هذا أمسك! فإنَّ المجهين خليق أن لا يكون عند الله وجسها.
وقول عمر رضي الله عنه:

ذلك الظن بك يا أبا إسحاق!
وهو سعد بن أبي وقاص أحد العشرة رضي الله عنه لمّا شكاه أهل الكوفة فقال له عمر رضي الله عنه: إنهم شكوك في كل شيء حتى الصلاة! فقال: إني أفعل ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل أركد في الأولين وأحذف في الأخيرين. فقال عمر: ذلك الظن بك! وأما الشعر، فقال ضابئ:
لكل جديد لذة غير إنني ... وجدت جديد الموت غير لذيذ!
وقال الآخر:
طلبت الجميع ففات الجميع ... فمن طول حرصك لا ذا وذا!
غيره:
ما زال جيش الحب يغزو قلبه ... حتى وهى وتقطعت أفلاذه!
وقال الصابئ:
والعمر مثل الكأس ير ... سب في أواخره القذا
و منه قول أبن النبيه:
خذ من زمانك ما أعطاك مغتبطا ... و أنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره!
و يقال إنّه لمّا سمع أبن التعاويذي قول الصابئ، قال:
من شبه العمر كأسا يقر ... قذاه ويرسب في أسفله
فإني رأيت القذى طافيا ... على صفحة الكأس من أوله!
و من ذلك قول الفاضل:
إليك بعد انقضاء اللهو واللعب ... عني فلم أربي ما يقتضي أربي
فالعمر كالكأس والأيام تمزجه ... و الشيب فيه موضع الحبب
أقول إذ فاض فيض فضته: ... يا وحشة لشباب ذاهب الذهبِ!
و قول الخالدي:
لقد فرحت بما عاينت من عدم ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر
وربما الأعمى بحالته ... لأنه قد نجا من طيرة العور
ولست أبكي على شيء منيت به ... يبكي على الشيب من يأسى على العمر
وما بكيت زماني وهو يصعدني ... فكيف أشكره في حال منحدر؟
وقال الشيخ أبن فارض، رحمه الله:
أهوى رشا هواه للروح غذا ... ما أحسن فعله ولو كان أذى
لم أنس وقد قلت له الوصل متى ... مولاي إذا مت أسى قال إذا
وقال أبو نواس في مجونه، عفا الله عنا وعنه!
وقائل: هل تريد الحج قلت له: ... نعم إذا فنيت لذات بغداد
وكيف بالحج لي ما دمت منغمسا ... في بيت قوادةٍ أو بيت نباذ؟
و مثله قول الآخر:
ألم ترني وبشار حججنا ... و كان الحج من خير التجارة؟
خرجنا طالبي سفر بعيد ... فمال بنا الطريق إلى زرارة
فآب الناس قد حجوا وبروا ... و أبنا موقرين من الخسارة!
و نحوه ما يحكى أنَّ موسى بن داود الهاشمي عزم على الحج، فقال لأبي دلامة:

احجج معي ولك عشرة آلاف درهم! فقال له: هاتها! فدفعها إليه فقبضها وهرب إلى السواد، فجعل ينفقها هنالك في شرب الخمر. فطلبه موسى فلم يجده وخشي فوت الحج فخرج. فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجا من قرية إلى أخرى سكران. فأمر به فأخذوه وقيد وطرح في محمل بين يديه. فلما سار غير بعيد اقبل على موسى وقال:
يا أيها الناس قولوا أجمعون معا: ... صلى الإله على موسى بن داود
كأنَّ ديباجتي خديه من ذهبٍ ... إذا بذلك في أثوابه السود
إني أعوذ بداود وأعظمه ... من أنَّ أكلف حجا يا أبن داود
خبرت أنَّ طريق الحج معطشة ... من الشراب وما بتصريد
والله ما في من أجر فتطلبه ... و لا الثناء على ديني بمحمود!
فقال موسى: ألقوه على المحمل، لعنه الله! فألقي به إلى قصفة بالسواد حتى أنفق المال. وقد قلت أنا قصيدة أكثرها يتعلق بالباب، فأثبت هنا، وهي:
هام الفؤاد بسعدي بعدما نزحت ... و أصبح الصبر عنها وهو مجذوذ
والعين منها سوابق الدموع على ... ميدان خد رديات مهابيذ
وأصبحت في الحشى من بينها حرق ... يصلى بها لن جراحات مغاذيذ
كأنما القلب إذ بانت ركائبها ... من الجوى صلب في النار محنوذ
وكنت قدما بها في روضة أنف ... من الوداد ثراها الدهر مرذوذ
أيام ورد المنى عذب مشاربه ... و غصن الود مهصور ومجبوذ
وإذ غفت مقل الأحداث وابتسمت ... سن المنى ولنا في الدهر تلميد
فلم يدم والغواني عهد وصلتها ... آل: من أغتر منه فهو موقوذ
لو إنّها أحكمت حبل الوصال مسا ... لم يأته الصبح إلاّ وهو مهذوذ
وما يمنين من جدوى ومن صلةٍ ... خضراء في الحزن مرعاها معاويذ
إنَّ الهوى لجة سهل مشارعها ... لكن يعز بها ناجٍ ومنقوذ
وما الفتى غير خلو عن عمايته ... ذو همة ذيله للجد مشموذ
عاط كؤوس رشاد لا كؤوس الهوى ... فالغي مطرح والرشاد مأخوذ
سام إلى كل ما يعلى مزاوله ... كما سما عن حضيض الأرض خنذيذ
فالعون مورده مر مذاقته ... و إنَّ حلا وأجاج العز ملذوذ
وما المنى بالهوى يجرين بل بمنى ... ما أحد كل ما يرجوه مفلوذ
والدهر مخلوجة أحداثه تركت ... فكر اللبيب لديها وهو مبذوذ
دجى حوالك لا يجلو مغالقها ... إلاّ فطين ذكي القلب خنذيذ
وللمفكر آيات تبصره ... لا يقطع السيف إلاّ وهو مشحوذ
والناس في الحب أخياف وأكثرهم ... و إنَّ بدا منهم ود ملاويذ
بور مناكيس لا يزكوا معاشرهم ... جريب يعادون عرا كلما حوذوا
فلا منوح نوالا إنَّ هم سئلوا ... في الجهل عندهم التحقيق منبوذ
سبحان إنَّ ليس يحز وفر الغنى حصير ... و باقل عندهم إنَّ جد خنذيذ
فلا تثق إنَّ هم ذموا وإنَّ مدحوا: ... فهم عن الرشد عمي أو مماليذ
والصدق أشرف خيم أنت لابسه ... و خير ما يحتلي الصيد المشاويذ
وخير ذخر الفتى دهر قناعته ... فذاك أوثق ما عض النواجيذ
وعفة وندى يحمي مسارحه ... إنَّ تتحاماه ألسن ملاجيذ
والمرء يمضي ويبقي بعده نبأ ... مدح يخلد أو نيل منافيذ
والموت حتم لديه الكل مرتهن ... إذا أتى الحتم لم تجد التعاويذ
و قلت أيضاً:
تحل بسبط الخلق واحتمل الأذى ... من الناس إنَّ عاشرتهم ودع البذا
وكن مغضيا عما يريبك باذلاً ... نداك ولا تغلل يديك فتنبذا
فإنَّ بني الدنيا بنو الحاج ما أجتنوا ... من العود إلاّ مثمرا غصنه غذا
وإني رأيت الحوض يغشى إذا صفا ... و يلقى إذا كان المشوب أو الوذا
وللنحل فضلا دون كل ذبابةٍ ... و للمسك والكافور عم كل ذي شذا
على أنَّ هذا الجيل آساد بيشة ... ملاذك منهم للحسام مشحذا
متى تعتلق أظفارهم كاهل أمرئ ... أصاروه رهنا للبلايا وللأذا
وإنَّ يعلقوا قلبا أعاروه حيرة ... و إنَّ يركبوا ظهرا تفتا أو ارتذا
فمن يستطع عنهم نوى فليجافهم ... بعاد ومن ألفى معاذاً تعوذا
فإنَّ البحار الخضر تحمى ظهورها ... زخورا وتعلوها مع الركدة الشذا

وتعدوا على الشاء الذياب بلا حمى ... و أكبادها من مربض الليث تهتذا
وما ذل إلاّ الفقع يوطأ بقرقر ... و إلاّ حمار الحي إنَّ رمته خذا
وذو الهمة العلياء من ليس جاعلا ... مقادته للجاهل النذل مأخذا
ولا تارك الأقذار تعلوا ذيولته ... إليه ولا في عرضه الناس لجذا
و لنكتف بهذا المقدار. من هذا المضمار، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل!

باب الراء
أراك بشرا، ما أحار مشفر.
الرؤية: الإبصار. تقول: رأيت الشيء أراه. وأصله أرءاه، فألقيت حركة الهمزة على الراء وحذفت الهمزة. والعرب يلتزمون النقل في هذه الكلمة إلاّ تيم اللات. قال شاعرهم:
أري عيني ما لم ترءياه: ... كلانا عالم بالترهات
و البشر بفتحتين: الإنسان، وظاهر الجلد كالبشرة، وهو المراد. والحور. الرجوع، وأحارة: رده، وتقول: طحنت فمما أحارت شيئاً، أي فما ردت شيئاً من الدقيق. والمشفر بوزن منبر، ويفتح للبعير بمنزلة الشفة للإنسان.
ومعنى المثل أنَّ رؤية الظاهر تغنيك عن رؤية الباطن. وأصله في البعير، وانك إذا رأيت بشرته وجسمه دلك ما به من سمن أو هزال، على ما احار مشفره، أي على كيفية أكله.
أريها السهى وتريني القمر!
الرؤية مرث، والسهى بالضم والقصر نجم خفي في بنات نعش الصغرى. والقمر معروف وجمع بينه وبين السهى لمّا بين وصفيهما من المقابلة بالتضاد، لأنَّ القمر غاية الظهور، والسهى في غاية الخفاء. فضرب بهما المثل في الأمر الجلي والخفي.
وهذا المثل يصح لك إنَّ تضربه من ترمز له وتشير وهو يفصح، أو في من تنحو به منحى اللطائف والدقائق وهو يتبع الظواهر، أو من تأتيه بالأمر المستغرب العزيز ويأتيك بالأمر المبتذل المطروق، ونحو ذلك، والله اعلم!
رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.
الرأي: الاعتقاد، والجمع آراء ورئى. والشيخ والغلام معروفان. وهذا الكلام يحكي عن علي، كرم الله وجهه، وهو تفضيل للسن، في ملاقاة الخطوب، على الشباب.
وللعرب في هذا مذهبان: تارة يمتدحون بالسن والتجريب، وتارة بالشباب والقوة. فمن الأول كلام علي المذكور، وقول الشاعر وهو زهير بن مسعود:
فلم أرقه إنَّ ينج منها، وإنَّ يمت ... فطعنة لاغس ولا بمغمر
الغس: اللئيم والمغمر: الذي لا تجريب له ولا سن. وقول إلي الطيب:
سأطلب حقي بالقنا ومشائخٍ ... كأنهم من طول ما التمثوا مرد
و من ذلك قول حارثة بن سراقة الكندي، حين منعوه الزكاة أيام الردة: يمنعها شيخ بخديه شيب، لا يحذر الريب. ومن الثاني قول عامر بن الطفيل يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأمنعنها عليك خيلا جردا ورجالا مردا! وذلك لحالتين مختلفتين: فأنهم إذا أرادوا الحزم وحسن الذي رأي والتدبير والتأني والثبات إذا اشتدت الخطوب، فالشيوخ أولى؛ وإذا أرادوا الجلادة والقوة، فالشباب أولى، مع أنَّ كلا من الأمرين قد يوجد في كل من الطرفين: فانه كما لا خير في رأي الشباب الغمر الجاهل، لا خير في رأي الشيخ الخرف. ومن ثم قيل في الحكمة: إياك ومشاورة شاب معجب برأيه، أو كبير قد أخذ الدهر من عقله كما أخذ من جسمه! وأما قول قطري بن الفجاءة:
ولقد أراني للرمح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أحناء سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الأقدام
فقد فسر بمعنين: أحدهما وهو الظاهر من العبارة إنّه يقول: انصرفت وقد أصبت من أعدائي ما أحب من القتل والفتك والكناية، ولم أصب أنا منهم، بل انصرفت سالما وأنا جذع البصيرة، أي قويها، كامل المريرة، لم يضعف عزمي ولا هنت بنيتي بما أصاب جسمي من الجراحة، وأنا أيضاً قارح الأقداح أي كامله شديده لأنَّ القارح من الخيل الذي تناهت سنه وكملت قوته.
والثاني هي الخفي أنه يقول: أصبت من الأعداء وانصرفت عنهم وأنا لم أصب أي لم أوجد جذع البصيرة قارح الأقدام بل وجدت قارح البصيرة جذع الأقدام؛ لأنَّ بصيرة القارح المجرب هي التي لا تضطرب ولا تستحيل وبصيرة الجذع أي الصغير لا تثبت ولا تدوم وإقدام الجذع قوي ماض لأنّه لا ينثني ولا يردعه شيء.

واستظهار هذا التفسير الثاني الذي امتدح فيه بالسن على الأول الجلي إنّه يستحيل أن يقول: انصرفت ولم أصب من أعدائي بشيء. وكيف وهو يقول قبله: حتى خصبت بما تحذر من دمي: أحناء سرجي؟ فهذا اعتراف بأنه أصيب بالجرح. فكيف ينقض كلاوه؟ وأجيب من قبل أهل المذهب الأول بأنه أراد بقوله: لم اصب لم أقتل. يقال: فلان أصيب أي قتل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أمرئه: أميركم زيد: فإنَّ أصيب فجعفر فإنَّ أصيب فعبد الله بن رواحة. فقتلوا كلهم.
وقال أصحاب الرأي الثاني: كيف يحسن منه أن يقول: أقتل وهو ينشدهم الشعر والمصيبة تطلق على أعم من القتل؟ قال تعالى: )الذين أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنَّا لله وإنَّ إليه راجعون(.
قلت: وهذا الكلام ضعيف إذ لا مانع من أن يقول افتخارا: قتلتهم وأهلكتهم ولم يقتلوني. وأما عموم المصيبة فغير مانع من التخصيص بقرينة المقام وسياق الكلام مع أن استنكافه من يكون إقدامه قارح ورضاه بإقدام الجذع مخول فإنَّ العرب ما زالت تفضل القارح على الجذع كما قال زهير:
يفضله إذا اجتهدا عليها ... تمام السن منه والذكاء
و لذلك قيل في المثل: مذكية تقاس بالجذاع. وقيل أيضاً: جري المذكيات غلابٌ، ة قد تقدم في هذا الكتاب معاً.
وقول زهير بن مسعود السابق: فلم أرقه إن ينج منها يريد الطعنة التي طعن.
وقبل البيت:
عشية غادرت الجليس كأنما ... على النحر منه لون بردٍ محبرِ
جمعت له كفي بلدنٍ يزينه ... سنان كمصباح الدجى المستعرِ
فلم أرقه " البيت " وإنّما قال هذا لأنَّ العرب كانت تزعم أنَّ المطعون يبرأ إذا نفث عليه الطاعن ورقاه. قال عنترة:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... و إن يفقد فحق له الفقدُ
وقال عمرو بن ثعلب الشيباني:
أتبعته طعنة مرةً ... يسيل على النحر منها صبيبُ
فإن ينجُ منها فلم أرقه ... و إن قتلته فجرحٌ رعيبُ

ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل
؟
الفتيان جمع فتى. ودخل الرجل بالفتح والكسر: نيته ومذهبه من جميع أمره. وكذا دخيله ودخلله ودخيلاؤه.
ومعنى المثل أنك قد ترى الرجال حسان الظواهر والزي ولا تعرف حقيقة أمرهم وحال باطنهم. يضرب لمن له منظر حسن ولا خير عنده.

قيل: وأوّل من نطق به غنمة أو عثمة بنت مطرود البجلية وكانت امرأة عاقلة ذات رأي مسموع في قومها. وكانت لها أخت يقال لها خود ذات جمال وكمال. فقدم عليهم ذات مرة خمسة أخوة من غامد بطن من أزد يخطبون أختها خودا وهم في زي مونق لابسو الحلل اليمانية على النجائب المهرية والرحال العلافية مكسوة بالثياب العبقرية. فأنزلهم أبوها وأكرمهم. ثم غدوا عليه خاطبين معهم الشعثاء كاهنة لهم. فقال لهم مطرود: أقيموا حتى نرى رأينا. ثم دخل على بنته فقال: ما ترين؟ فقالت: أنكحني على قدري ولا تشطط في وهري: فإن تخط أحلامهم لا تخط أحسابهم. لعلي أصيب ولدا وأكثر عددا! فخرج إليهم وقال لهم: اخبروني عن أفضلكم؟ فقالت له الشعثاء: اسمع أخبرك عنهم! هم أخوة كلهم أسوة. أما الكبير فعمرو بحر غمر، سيد صقر يقصر دونه الفخر؛ وأما الذي يليه فعاصم صلد صارم أبي حازم جيشه غانم وجاره سالم؛ وأما الذي يليه فوثاب ليث غاب سريع الجواب عتيد الصواب كريم النصاب؛ وأما الذي يليه فمدرك بذول لمّا يملك عزوف عما يترك يغني ويهلك؛ وأما الذي يليه فجندل مقل لمّا يحمل يعطي ويبذل لا يخيم ولا ينكل. فأبلغها أباها ذلك فشاورت أختها غنمة فيهم فقالت: ترى الفتيان كالنخل وما يدريك ما الدخل؟ اسمعي كلمة ناصحة: إنَّ شر الغريبة يعلن وخيرها يدفن فأنكحي في القرباء ولا تغررك أجسام الغرباء! فلم تقبل منها وأرسلت إلى أبيها: أنكحني مدركا. فأنكحها منه على مائة بعير برعاتها. فحملها مدرك فلم يلبث معها إلاّ قليلا حتى أغار على غامد فوارس من بني كنانة فاقتتلوا ساعة ثم انكشف زوجها وقومه فسباها بنو مالك أبن كنانة فيمن سبوا وجعلت تبكي. فقيل لها: وما يبكيك؟ أعلى فراق زوجك؟ قالت: قبحه الله! قالوا: لقد كان جميلا. قالت: قبح الله جماله لا منعة معه! إنّما أبكي على عصياني أختي. وأخبرتهم خبرها. فقال رجل منهم يقال له أبو نواي وكان أسود أفوه مضطرب الخلق: أترضين بي على أن أمنعك من ذؤبان العرب؟ فقالت لأصحابه: أنَّ كذلك هو؟ قالوا: نعم! إنه مع ما ترين ليمنع الخليلة وينقب القبيلة. قالت: هذا أجمل جمالا وأكمل كمالا قد رضيت إياه. وقال الشاعر:
ترى الفتيان كالنخل ... و ما يدريك ما الدخلُ؟
وكلٌ في الهوى ليثٌ ... و ما في نلبه فسلُ
وليس الشأن في الوصل ... و لكن أن يرى الفضلُ!
وقالت الأخرى:
وقالت قولةً أخني ... و حجوا لها عقلُ
ترى الفتيان كالنخل ... و ما يدرك ما الدخل؟

أرى القدر، سابق الحذر
هذا المثل ظاهر المعنى وهو من كلام جذيمة الأبرش وسبق في شرح قصته مع الزباء.
أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى.
يضرب عند التردد في الأمر. وأصله أنَّ الرجل مثلا إذا قام ليذهب إلى جهة ثم يبدو له ويتحير فتارة يريد الذهاب فيقدم وتارة لا يريد فيؤخر. وهذا ظاهر في المقصود لكن قولهم: يقدم رجلاً ويؤخر أخرى يحتمل باعتبار دلالة عبارته في أصلها أربعة أمور: إحداها أن يكون المعنى أنه يقف في مكانه ويحرك إحدى رجليه: فتارة يقدمها لأرادة الذهاب وتارة يؤخرها رجوعا عن الذهاب حتى توازي أختها مكا كانت أولا. وعلى هذا فلفظ الأخرى فيه تجوز بأن يجعل الشخص الواحد متعددا حالتيه ولفظ التأخير أيضاً لم يصح فيه إلاّ بالنسبة.
الثاني أن يكون المعنى أنه يقدم رجلا لأرادة الذهاب ثم يبدو له أن لا يذهب فيبقى واقفا على تلك الحال إحدى رجليه متقدمة والأخرى متأخرة عنها. وعلى هذا ففي لفظ التأخير تجوز إذ معناه إبقاؤها متأخرة نحو: يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا على وجه.
الثالث أن يكون المعنى أنه يقدم إحدى رجليه إلى القدام ويؤخر الخرى إلى الوراء. وهذا ظاهر اللفظ ولكن لا وجه له ولا وجود من خارج.
الرابع أن يكون المعنى أنه يقدم إحدى رجليه وتبقى الأخرى متأخرة ثم يقدم هذه وتبقى الأخرى وهكذا. وهذا أيضاً ظاهر من اللفظ لكن لا يصح أيضاً هنا لأنّه حالة الماشي لا الوقوف المتردد. فقد علمت أنَّ في العبارة عند تفتيشها تجوزا وخفاء مع وضوح المراد.
أراك الكواكب بالنهار.
الكواكب: النجوم. وهي لا ترى عادة بالنهار لغلبة ضوء الشمس عليها فضرب المثل برؤيتها نهارا عند اشتداد الأمر وملاقاة ما لم يعتد ويضن أو غلبة الهم والحزن.

وأصل ذلك أنَّ الحرب إذا اشتدت ارتفع النقع وتراكم في الجو وسد الأفق واستحدث الظلام فربما ستر ضوء الشمس إذا كانت في أحد الجانبين فتظهر النجوم من الجانب البعيد عنها.
وزعموا أنَّ النجوم ظهرت يوم حليمة فضرب ذلك مثلا. قال طرفة بن العبد:
إن تنوله فقد تمنعه ... و تريه النجم يجري في الظهر
وقال الأعشى:
رجعت بما رمت مستحسراً ... ترى للكواكب ظهراً وميضا
و للفرزدق:
لعمري لقد سار أبن شيبة سيرةً ... أرتك نجوم الليل واضحةً تجري
فأصبحت قد صبحت على ظهر خالدٍ ... شآبيب لم يرسلن من سبل القطرِ
و هذا المثل باق اليوم في ألسنة العوام يقولون: أراني فلان النجوم في السماء أو النجوم في النهار إذا أراه شدة ومكرا وأناله من المكروه ما لم يعهد به ذكراً.
لأرينك لمحاً باصراً!
ويقال أيضاً: دون ذلك لمح باصر. يضرب في التهدد والايعاد. واللمح: النظر. فقيل: المعنى نظر مفزع وقيل هو النظر بتحديق شديد. وقيل: المعنى لأرينك نظراً صادقاً! وقال البكري: معنى المثل: لأرينك من أعادي لك أمرا واضحا جليا. وباصر في تأويل عيشة راضية أي مرضية وماء دافق أي مدفوق. وكذلك سر كاتم. انتهى.
وهو ظاهر لكن إذا تؤول الباصر فلا بد أن يتناول اللمح أيضاً. وكأنه لذلك فسر بالأمر الجلي الواضح ولا إشكال أنه يبصر.

الرأي مع الجماعة.
هذا أيضاً من كلام جذيمة في قصته السابقة كما مر وهو ظاهر.
أرى الموت في الغرائر السود.
الغرائر جمع غرارة بكسر الغين وهي الجوالق. والسود جمع سوداء.
وهذا الكلام للزباء حين رأت إبل قصير وعمرو موقرة بالرجال في الجوالق.
وتقدمت القصة مشروحة فلتراجع! وأطلقت الموت على سببه الفاعلي وهم الرجال القاتلون مجازاً.
أرنيها نَمِرَة أُرِكها مَطِرَة.
يقال: نمر السحاب بالكسر ينمر كفرح يفرح إذا صار أرقط على لون النمر وقولهم نمرة وصف للسحاب. وقياسه نمراء والمذكر أنمر كحمراء وأحمر كما قالوا للفرس أنمر إذا صار على لون النمر. وبكنهم جاءوا به على فعل نحو قوله تعالى: )فأخرجنا منه خضراً( أي أخضر. والمطر: ماء السحاب؛ ومطرتهم السحاب: أصابتهم بمطر؛ ويوم ممطر ومطر بوزن كتف: ذو مطر. ومعنى المثل: تكفل لي بوجود السحاب الأرقط وأنا أتكفل لك بالمطر حينئذ. يضرب لمّا يتيقن وقوعه إذا ظهرت مخائله ولاحت إمارته.
رُبَّ أخٍ لم تلدهُ أمك!
رب حرفٌ جار يدل على الكثرة والقلة معا أو على إحداهما فقط أو أكثر أو لا يدل على شيء منهما إلاّ بالقرائن خلاف شهير في النحو لا نطيل بذكره ولا بشواهده، والأخ معروف وفيه لغات معروفة.
وأصل المثل أنَّ لقمان بن عاد رأى مع امرأة رجلا يلاعبها وتلاعبهٍ خاليين ومعهما صبي صغير يبكي وهما مقبلان على شأنهما لا يكترثان به. فقال لها: من الرجل؟ قالت: أخي فقال حينئذ: رُبَّ أخٍ لم تلده أمك! تكذيبا لها في دعواها. يقال: إنه أخوك في الصداقة والمودة لا بالقرابة والنسب.
وقريب من هذه الحكاية ما حكي عن بعضهم أنه دخل عليه رجل نصراني ومعه فتى وسيم من أهل ملته فقال له: من هذا الفتى؟ فقال: بعض إخواني. فأنشد حينئذ:
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبانِ
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يصنع الأخوانِ
وقال أيضاً في معنى هذا المثل:رُبَّ بعيدٍ أقرب من قريبِ. وقالوا: القريب من قرب نفعه. وقالوا: القريب من تقرب لا من تنسب. وقال حبيب:
ولقد سبرت الناس ثم خبرتهم ... وبلوت ما وصفوا من الأسبابِ
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... و إذا المودة أقرب الأنسابِ
وقال أبن هرمة في نحو هذا:
هش إذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدب الخدامِ
فإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحامِ
غيره:
ذو الود مني وذو القربى بمنزلةٍ ... و إخواني أسوة عندي لخلاني
أحبة جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرقوا في الأرض جيراني
أرواحنا في مكان واحدٍ وغدت ... أجسامنا بعراقٍ أو خراسانِ
وقال حبيب أيضاً:
أو نفترق نسباً يؤلف بيننا ... أدبٌ أقمناه مقام الوالدِ

و تقدم هذا وما يشبه وسيأتي أيضاً منه إن شاء الله تعالى
رُبَّ أكلةٍ منعت أكلاتٍ
الأكل معروف؛ والأكلة بالفتح: المرة منه وبالضم: شيء يؤكل وما يجعله الأكل في فيه.
والمعنى أنَّ الإنسان ربما أكل شيئاً فأداه إلى ترك الأكل مدة بهيضة وتخمة أو مرض مثلا. قال أبي هرمة:
وربت أكلة منعت أخاها ... بلذة ساعةٍ أكلات دهرِ
وكم من طالبٍ يسعى لشيء ... و فيه هلاكه لو كان يدري!
و يضرب في كل من اقتحم شيئا يفوت عليه بسببه ما هو أكثر منه أو أشرف كمن رضي من عرض الدنيا الفاني بما فوت عليه من الآخرة ونعيمها المقيم عياذاً بالله!
رُبَّ رميةٍ من غير رامٍ.
الرمية فعلة من الرمي. يقال: رمى يرمي رميا ورمية ورمى السهم عن القوي وعلى القوس أيضاً رميا ورمية بالكسر ولا تقل: رميت بالقوس. ورماه مراماة ورماء؛ وارتمى القوم وتراموا.
ومعنى المثل أنَّ الغرض قد يصيبه من ليس من أهل الرماية. فيضرب عندما يتفق الشيء لمن ليس من شأنه أن يصدر منه. وقد يحذف رُبَّ فيقال: رمية من غير رامٍ.
ويذكر أنَّ المثل لحكيم بن عبد يغوث المنقري وكان من أرمى الناس. فحلف يوما ليعقرن الصيد حتما. فخرج بقوسه فرمى فلم يعقر شيئاً فبات ليله بأسوأ حال وفعل في اليوم الثاني كذلك فلم يعقر شيئاً فلما أصبح قال لقومه: ما أنتم صانعون؟ فإني قاتل اليوم نفسي إن لم أعقر مهاة! فقال له ابنه: يا أبت احملني معك أرفدك! فانطلقا فإذا هما بمهاة فرماها فأخطئها. ثم تعرضت له أخرى فقال له ابنه: يا أبت ناولني القوس! فغضب حكيم وهم أن يعلوه بها. فقال له ابنه: أحمد بحمدك فإنَّ سهمي سهمك! فناوله القوس فرماها الابن فلم يخطئ. فقال عند ذلك حكيم:رُبَّ رمية من غير رامٍ! وإلى هذه القصة أشار بعضهم بقوله:
رماها مطعمٌ من غير علمٍ ... بمس القوس لم يخطئ صلاها
وكان أبوه قد آلي عليها ... فلم يبرر أليته مهاها
و مطعم هو أبن حكيم المذكور. وقال أبن ظفر: هذا مثل عامي وأصله قولهم: مع الخواطئ سهمٌ صائبٌ.
رُبَّ ساعٍ لقاعدٍ.
الساعي: الكاسب سعى يسعى سعياً والقاعد ضده مجازاً من القعود الذي لزوم الأرض. ومعنى المثل أنَّ المرء ربما سعى في جمع المال أو إدراك الحاجة حتى إذا تهيأ ذلك رزقه بعض من لم يسعى فيه دون الساعي. فيضرب في اكتساب المرء ما لغيره من المال ونحوه.
وأوّل من قاله النابغة الذبياني وكان وفد على النعمان بن المنذر في وفود العرب ومنهم رجل من عبس يقال له شقيق فمات عنده. فلما حبا الوفود بعث إلى أهل شقيق مثل ما حبا به الوفود فقال النابغة:رُبَّ ساعٍ لقاعدٍ. وقال في يخاطب النعمان:
أبقيت للعبسي فضلا ونعمة ... و محمدة من باقيات المحامدِ
أنى أهله منه حباءٌ ونعمةٌ ... ورُبَّ امرئ يسعى لآخر قاعدِ
و قيل: أوّل من قاله معاوية وذلك أنه قال يوماص لابنه يزيد بن معاوية: هل بقى في نفسك. من الدنيا؟ قال: نعم أم خالد! وهي امرأة عبد الله بن عامر بن كريز عامل معاوية على البصرة. فأمر عمرو بن العاصي أن يكتب إليه يشير عليه بالوفادة على أمير المؤمنين معاوية لعله يعمل له في تزويج بنته هند بنت معاوية. فخف لذلك أبن عامر حتى وصل إليه فأزلفه معاوية وقربه ثم غفل عنه. فساء ذلك عبد الله واشتكى إلى عمرو بن العاصي فقال عمرو إنّه كره أن يدخل بنته على ضرة فطلق أم خالد وأقام أياماً. فقال معاوية: إنَّ أهل البصرة تواترت كتبهم يذكرون اضطراباً في البلد! وأمره بالعود إلى عمله ووعده بإنفاذ ما ابتدأه فانصرف أبن عامر. فلما انقضت عدة أم خالد بعث معاوية أبا هريرة إلى المدينة يخطبها على يزيد. فلما دخل المدينة بدأ بالمسجد فصلى وألم بالقبر فسلم ودعا ثم مال إلى حلقة الحسن والحسين فسلم وقعد فسألوه فأخبرهم فقال له الحسن: اذكرني لها! فذهب حتى استأذن على أم خالد وخبرها بما بعث له وبما أوصاه به الحسن. فقالت: بأيهما تشير يا عماه؟ قال: أرددت الأمر إلي؟ قالت: نعم! قال: فأرى إلاّ تؤثري أحدا على من رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فاه ويلثم ثناياه يعني الحسن رضي الله عنه وبلغ الخبر معاوية فقال:رُبَّ ساعٍ لقاعدٍ واعلمي أم خالد. وكأنه شعر من مجزر الخفيف. ونحوه قول الشاعر:

وما الناس إلاّ جامع لمضيعٍ ... و ذو تعبٍ يسعى لآخر نائمِ!
رُبَّ سامعٍ خبري لم يسمع عذري
يضرب في العذر يكون لك ولا يمكنك أن تبديه. وهو ظاهر مادة وصورة. ومثل ذلك في المعنى قول منصور النمري:
لعل له عذراً وأنت تلوم: ... و كم من ملومٍ وهو غير مليمِ
يقال ألام يليم فهو مليم إذا أتى بما يلام عليه وليم فهو ملوم إذا عتب وعذل.
رُبَّ سامعٍ عذري لم يسمع قفوتي.
العذر بالكسر العذر كما مر في الهمزة. والقفوة: القذف. يقال: قفاه يقفوه قفواً إذا رماه بفجور. وفي الحديث: لا حدّثني إلاّ في القفو البين قاله في الصحاح. وقفاه أيضاً: رماه بقبيح. والاسم من ذلك كله قفوة بالكسر كما في المثل.
يضرب عند اعتذار المرء من شيء لم يعلم منه بعد فيكون ذلك الاعتذار تسميعا بنفسه. ويمكن أن يرد أحد المثلين إلى الآخر فيكون واحداً.
رُبَّ شدٍّ في الكرز!
الشد بالفتح: العدو وكذا الاشتداد. قال الراجز:
هذا أوان الشد ... فاشتدي زيم!
و الكرز على مثل قفل: خرج الراعي ويسمى الكبش الذي يحمله الراعي علية الكراز. قال الراجز:
يا ليت أني وسبيعاً في غنم ... و الخروج منها فوق كراز أجم!
و لا يكون الكراز فيما يزعمون إلاّ أجم لأنَّ الأقرن يشتغل بالنطاح عن حمله.
وذكر ابن علي القالي في النوادر أنَّ الكرز الجوالق والأول هو المعروف.
وأصل المثل أنَّ رجلا خرج يركض فرسا فألقت مهراً فأخذه وجعله في كرز بين يديه. فقال له رجل: لم تحمله؟ وما تصنع به؟ فقال: رُبَّ شد في الكرز! أي رُبَّ عدو وسبق واشتداد في هذا المهر الذي في الكرز كما قد كان ذلك في أمه! فذهبت مثلا يضرب في الرجل ونحوه يحتقر عندك وله مخبر تعلم به أنت. وإنّما جعل الشد في الكرز على طريق الكنانة لأنَّ ذا الشد فيه كما قال الأول:
إنَّ السماحة والمروءة والندى ... في قبةٍ ضربت على أبن الحشرجِ
و الآخر:
إن السماحة والمروءة ضمنا ... قبراً بمرؤ على الطريق الواضحِ
رُبَّ صلفٍ تحت الراعدةِ.
الصلف: قلة النزل في الطعام وقلة الماء. يقال: سحاب صلف على مثل كتف: كثير الرعد قليل الماء؛ والراعدة: السحاب ذات الرعد.
والمعنى أنَّ السحاب ربما رعدت ولم يكن منها خير. يضرب للبخيل مع سعة ذات اليد. وقيل للرجل يكثر الكلام والمدح لنفسه ولا خير عنده. وقيل لمن يتوعد ثم لا يقوم به وهو صالح للكل. وقد اعترض على قائل الأول بان السحاب إذا كثر فيها الماء لم يقل لها صلف.
قلت: يعني فلا يشبه بها الرجل الكثير المال لبخله. ويجاب بأن قلة الماء المسمى بالصلف إنّما هو باعتبار النزول إلى الأرض. فصح تشبيه البخيل بذلك وإن مثر ماله باعتبار قلة ما يخرج من يده. وإن أريد بالصلف أن لا يكون ماء في السحابة نفسها أصلا فالمراد حينئذ التشبيه باعتبار ما فيها من أصوات الرعد والبرق فإنه مظنة السقي؛ كما أنَّ كثرة المال مظنة النفع. وضمن هذا المثل أبن الشبل البغدادي ذا يقول:
صحة المرء للسقام طريقٌ ... و طريق الفنا هو البقاءُ
بالذي نغتذي نموت ونحيى ... أقتل الداء للنفس الدواءُ
ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاءُ
صلفٌ تحت راعدٍ وسحابٌ ... كرعت منه مومسٌ خرقاءُ
راجعٌ جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يسترد المساءُ
ليت شعري حلمٌ تمر به الأيام ... أم ليس تعقل الأشياءُ
من فساد يكون في عالم الكون ... فما للنفوس منها اتقاءُ
وقليلاً ما تصحب المهجة الجسم ... ففيم الشقا وفيم العناءُ
قبح اله لذة لشقانا ... نالها الأمهات والآباءُ
نحن لولا المجود لم نألم الفقد ... فإجادها علينا بلاءُ
و ضمنته أنا أيضاً في قصيدة يأتي في هذا الباب فقلت:
ولربَّ ذي رعدٍ على صلفٍ ... و مهدرٍ في العنة الحجرِ
رُبَّ طمع يهدي إلى طبع.
الطمع: الحرص طمع فيه بالكسر طمعا وطماعا وطماعية، والطبع بفتحتين: الدنس والوسخ الشديد والشين والعيب.
والمعنى أنَّ الطمع لا يزال بصاحبه حتى يتلطخ بكل ريب ويتلوث بكل عيب. قال: الشاعر:
لا خير في طمع يهدي إلى طبع ... و غفةٌ من قوام العيش تكفيني

الغفة بضم الغين المعجمة بعدها فاء: البلغة من العيش. ويقال للفأر أيضاً لأنّه بلغة للسنور. وأما العفة بالعين المهملة المضمومة فهي بقية اللبن في الضرع ومعناه صحيح في البيت أيضاً. وسيأتي ما في ذم الطمع والحرص مستوفي إن شاء الله تعالى.
رُبَّ عجلةٍ تهبُ ريثاً.
العجلة معروفة. يقال: عجل بالكسر يعجل عجلاً وعجلة فهو عجل بالكسر وعجلان؛ والهبة: العطية. وهب الشيء يهبه بالفتح فيهما هبة. والريث بالمثلثة: البطء. يقال: راث ريثاً. أي رُبَّ عجلة منك تعطيك ريثا وتهب لك بطئاً.
والمعنى أنَّ الرجل ربما عجل في أمر ليفعله سريعا فأداه عجله إلى البطء وذلك بسبب تضييع ما ينبغي أن يحافظ عليه فيضطر إلى العودة إليه ثانيا. وعبر بلفظ الهبة مجازا لمّا كان ذلك سببا لذلك.
ويقال في المثل: رُبَّ عجلة وهبت ريثا وتهب ريثا بلفظ الماضي والمضارع والمعنى واحد.
ورأيت في نسخة عتيقة من نوادر أبي علي القالي: تهب ريثا مضموم الهاء مشدد الباء بضبط القلم على إنّه من الهبوب. وهو يفيد المعنى غير أنَّ الأول أوضح في المقصد وكأنَّ هذا تصحيف والله اعلم. وهذا المثل في ألسنة العوام اليوم موجود معناة يقولون: من عجل أبطأ.
رُبَّ قول أشد من صول.
القول معروف والصول: القهر والسطوة والاستطالة. صال عليه يصول صولا. والمعنى إنّه رُبَّ كلام يعاب به الإنسان هو أشد عليه من الصولة. وهذا من كلام أكثم بن صيفي.
ويحكى في مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم إنّه لمّا هجاه المشركون قال لحسان رضي الله عنه: اهجهم، فهجاؤك اشد عليهم من وقع السهام في غبش الظلام! ومثله قول الشاعر: القول ينفذ من مالا تنفذ الإبر وقول الآخر:
وقد يرجى لجرح السيف برء ... و جرح الدهر ما جرح اللسان
وقالوا: اللسان، أجرح جوارح الإنسان.
وقال الصاحب: حفظ اللسان، راحة الإنسان، فحفظه حفظ الشكر للإحسان، فآفة الإنسان في اللسان! وقال امرؤ القيس:
إذا المرء لم يحزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان

رب مملول لا يستطيع فراقه.
الملل معروف. وهذا من كلام أبي الأسود، وكان دخل في ثوب خلق على بعض أصدقائه. فلما رآه قال له: يا أبا الأسود آن لهذا الثوب أنَّ يبدل؟ فقال أبو الأسود: رب مملولٍ . . الخ. ثم أرسل إليه بعد ذلك أثوابا. فقال أبو الأسود يمدحه:
كساك ولم تستكسه فشكرته ... أخ لك يعطيك الجزيل وياصر
وإنَّ أحق الناس إنَّ كنت شاكرا ... بشكرك من أعطاك والوجه وافر
الرباح، مع السماح.
الرباح والربح واحد. قال الشاعر:
رأيت التقى والجود خير تجارةٍ ... رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا
و السماح والسماحة: والجود والكرم.
والمعنى إنَّ السماح يربح. ويأتي إن شاء الله ما في هذا المعنى.
أربع على ظلعك!
يقال: ربع يربع إذا وقف وتحبس. ويقال أربع على نفسك، أي ارفق. وفي الحديث: أربعوا على أنفسهم! والظلع بالظاء المشالة في البعير ونحوه: غمزة برجله في مشيته. يقال: ظلع البير بالفتح يظلع.
قال أبو ذؤيب يذكر فرسا:
يعدوا به نهش المشاش كأنه ... صدع سليم رجعه لا يظلع
فهو ظالع والأنثى ظالعة.
وقول النابغة الذبياني:
أتوعد عبدا لم يخنك أمانة ... و تترك عبدا ظالما وهو ظالع
يروى بالمشالة وفسر بالجائر المذنب، من الظالع في البعير، وهو غمز برجله لداءٍ يصيبه، وبالضاد المعجمة، وهو الجائر المائل عن الحق.
ومعنى المثل انك ظالع، فأرفق بنفسك في مشيتك لأجل ما بك من الظلع! فيضرب للضعيف، وإنّه ينبغي له أنَّ ينتهي عما لا يطيق.

وحكى أبو علي إنّه اجتمع طريف بن العاصي الدوسي والحارث بن ذبيان عند بعض مقاول حمير فتفاخر، فقال الملك للحارث: يا حار، ألا تخبرني بالسبب الذي أخرجكم من قومكم حتى لحقتم بالنمر بن عثمان؟ فقال: أخبرك أيّها الملك: خرج هيجان منا يرعيان غنما لهما، فتشاولا بسيفهما، فأصاب صاحبهم عقب صاحبنا، فعاث فيه السيف فنزف فمات. فسألونا أخذ دية صاحبنا دية الهجين، وهي نصف دية الصريح، فأبى قومي، وكان لنا رباء عليهم، فأبينا إلاّ دية الصريح، وأبوا إلاّ دية الهجين. وكان اسم هجيننا بن زبراء صاحبهم عنقش بن مهيرة، وهي سوداء أيضاً. فتفاقم الأمرين الحيين، فقال رجل منا:
حلومكم يا قوم لا تعزبنها ... و لا تقطعوا أرحامكم بالتدابر
وأودى إلى الأقوام عقل أبن عمهم ... و لا ترهقونهم سبة في العشائر
فإنَّ أبن زبراء الذي فاد لم يكن ... بدون حليف أو أسيد بن جابر
فإنَّ لم تعطوا الحق فالسيف بيننا ... و بينكم والسيف أجور جائر
فتضافروا علينا حسدا، فأجمع ذوو الحجا منا أن نلحق بطن من الأزد، فلحقنا بالنمر بن عثمان. فوالله ما فت في أعضادنا نأينا عنهم، ولقد أثارنا بصاحبنا وهم رأغمون، فوثب طريف بن العاصي من مجلسه، فجلس بازاء الحارث ثم قال: تالله ما سمعت كاليوم قولا أبعد من الصواب، ولا اقرب من خطل، ولا أجلب لقذع، من قول هذا. والله، أيها الملك، ما قتلوا بهجينهم بذجا، ولا رموا ودجا، ولا أنطوا به عقلا، ولا اجتفروا به خشلا. ولقد أخرجهم الحق عن أصلهم، وأجلاهم عن محلهم، حتى الإزعاج، ولجئوا إلى ضيق الولاج، قلا وذلا! فقال الحارث: أتسمع يا طريف؟ وإني والله ما أخالك كافا غرب لسانك، ولا منهنها شرة نزوانك، حتى أسطو بك سطوة تكف طماحك، وترد جماحك، وتكبت تترعك، وتقمع تسرعك! فقال طريف: مهلا يا حار، لا تعرض لطمحة استناني، وذرب سناني شبابي، وميسم سبابي، فتكون كالأظل الموطوء، والعجب الموجوء! فقال الحارث: إياي تخاطب بهذا القول؟ فوالله لو وطئتك لأسختك، ولو وهطتك لآوهطك، ولو نفحتك لأفدتك! فقال طريف متمثلا:
وإنَّ كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها!
أما والأصنام المحجوبة، والأنصاب المنصوبة، لئن لم تربع على ظلع وتقف عند قدرك، لأدعن حزنك سهلا، وغمرك ضحلا، وصفاك وحلا! فقال الحارث: أما والله لورمت ذلك لمرغت بالحضيض، وأعصصت بالجريض، وضاقت عليك الرحاب، وتقطعت بك الأسباب، ولألفيت لقنى تهاداه الروامس، بالسهب الطامس فقال طريف: دون ما ناجتك به نفسك مقارعة أبطال، وحياض أهوال، وحفز إعجال، يمنع معه تطأ من الإمهال! فقال الملك: أيّها عنكما، فما رأيت كاليوم نقال رجلين لم يقصبا ولم يثلبا، ولم يلصوا ولم يقفوا! انتهى.
قوله: مقاول، والمقاول: الملوك دون الملك الأعظم؛ وكذا الأقيال والأقوال. وقال امرؤ القيس:
وماذا عليه إنَّ ذكرت أوانسا ... كغزلان رمل في محاريب أقوال؟
و تشاولا: تضاربا؛ وعاث السيف: افسد: ونزف: سال دمه حتى ضعف. والهجين من الناس: الذي أبوه عربي وأمه غير عربية؛ والمقرف عكسه؛ والصريح: الخالص الطرفين، والرباء: زيادة العقل: الدية وأرهقه: كلفته، وفاد: مات. قال لبيد:
رعى خزرات المكل عشرين حجة ... و عشرين حتى فاد والشيب شامل
و فت: أوهى وأضعف، وأثارنا: افتعلنا، من الثأر، والخطل: الخطأ، والقذع: الكلام القبيح، والبذج: الخروف، الفارسي معرب، وأنطوا: أعطوا. قال الأعشى:
جياد في الصيف في نعمةٍ ... تصان الجلال وتنطى الشعيرا

و اجتفؤوا: صرعوا، يقال: جفاه إذا صرعه، والخشل مسكنا ومحركا شجر المقل الواحد خشلة، والقل: القلة والذل: الذلة، والنزوالن: الوثوب: والتترع: التسرع إلى الشر، يقال: تترع تترعا إذا كان سريعا إلى الشر، وطمحة السيل: دفعته، والذرب: الحدة، والأظل: اسفل خف البعير، والعجب: أصل الذئب، وهصته: كسرته؛ وأوهطته: صرعته؛ وتربع: تكف وترفق، كما مر، والظلع: الغمز؛ والضحل: الماء القليل، والضيض: القرار الأسفل، والروامس: الرياح، ترمس، أي تدفن. والحفر: الدفع. وقول الملك: يقصبا، أي يشتما، والقصب: القطع ويلصوا: يقذا، يقال: لصا إليه إذا أنضم إليه لريبة، ولصا المرأة يلصوها: قذفها، ويقفوا: يرميا بالقبيح، قفوته أقفوه: رميته بالقبيح أو قذفته.
وذكر الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الأحياء إنَّ عمر بن هبيرة دعا بفقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها، فجعل يسألهم، وكلهم عامراص الشعبي، فجعل لا يسأله عن شيء إلاّ وجد عنده فيه علما. ثم أقبل على الحسن البصري، فسأله ثم قال: هما هذان: هذا رجل أهل الكوفة يعني الشعبي وهذا رجل أهل البصرة يعني الحسن. فأمر الحاجب، فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن. فأقبل على الشعبي وقال: يا أبا عمرو، إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم، فأنا احب حفظهم وتعهد ما يصلحهم من النصيحة لهم. وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أخذ عليهم فأقبض طائفة فأضعه في بيت المال ومن نيتي إني رد عليهم، فيبلغ أمير المؤمنين إني قبضته على ذلك من النحو، فيكتب إلي أنَّ لا ترده، فلا أستطيع رد أمره ولا إنفاذ كتابه، وإنّما أنا رجل مأمور على الطاعة، فهل علي في هذا تبعة وفي أشباهه من الأمور، والنية فيها على ما ذكرت؟ قال الشعبي: فقلت، أصلح الله الأمير، إنّما السلطان والدي يخطئ ويصيب. قال: فسر بقولي وأعجب له ورأيت البشر في وجهه، قال: فلله الحمد! ثم أقبل على الحسن فقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ قد سمعت قول الأمير يقول إنَّه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليه ورجل مأمور على الطاعة أبتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لمّا يصلحهم، وحق الرعية لازم لك وحق أنَّ تحوطهم بالنصيحة. وإني سمعت عبد الرحمان ب سمرة القرشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من استرعي رعية فلم يحفظها بالنصيحة حرم عليه الجنة. وتقول إنّما قبضت من عطاياهم إرادة صلاحهم واستبطالهم وإنَّ يرجعوا إلى طاعتهم، فيبلغ أمير المؤمنين إني قبضتها على ذلك النحوا فيكتب إلي إنَّ لا ترده، فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه، وحق الله ألزم من حق أمير المؤمنين، والله أحق أنَّ تطيع ولا طاعة في معصية الله. فاعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله غز وجل، فإنَّ وجدته موافقا لكتاب الله عز وجل فأنفذه! يا أبن هبيرة، واتق الله، فأنه يوشك إنَّ يأتيك رسول من رب العلمين يزيلك عن سريرك، ويخرجك عن سعة قصرك إلى مضيق فبرك، فتدع سلطانك ودينك خلف ظهرك، وتقدم على ربك وتنزل على عملك! يا أبن هبيرة وإنَّ الله يمنعك من يزيد، وإنَّ يزيد لا يمنعك من الله، وإنَّ أمر الله فوق كل أمر، وإنّه لا طاعة في معصية الله، وإني أحذرك بأس الله الذي لا يرده عن القوم المجرمين. فقال أبن هبيرة: أربع على ظلعك أيّها الشيخ عن ذكر أمير المؤمنين! فإنَّ أمير المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحلم وصاحب الفضل؛ وإنّما ولاه الله ولاية هذه الأمة لعلمه به وما يعلم من فضله ونيته. قال الحسن، يا أبن هبيرة، الحساب من ورائك سوطا بسوط، وعصا بعصا، والله بالمرصاد. يا أبن هبيرة انك أنَّ تلقى من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر أخرتك خير من أنَّ تلفى رجلا يغرك ويمنيك!

فقام أبن هبيرة وقد بسر وجهه وتغير لونه. قال الشعبي: فقلت: يا أبا سعيد، أغضبت الأمير وأوغرت صدره وحرمتنا معروفه وصلته. قال: إليك عني يا عامر! قال: فخرجت إلى الحسن الطرف والتحف، وكانت له المنزلة، واستخف بنا وجفينا، فكان أهلا لمّا أدى إليه، وكنا أهلا أنَّ يفعل ذلك بنا. فما رأيت مثل الحسن فما رأيت من العلماء إلاّ مثال الفرس العربي بين المقاريف، وما شهدنا مشهدا إلاّ برز علينا، وقال لله عز وجل وقلنا مقاربة. قال عامر الشعبي: وأنا أعاهد الله أنَّ أشهد سلطانا بعد هذا المجلس فأجابه!

يرتع وسطا ويربض حجرة.
الترع معروف، وكذا الوسط. وتقدم ما فيه من الفرق: والرابض بفتحتين ما حول المدينة والجمع أرباض. قال:
حتى أقام على أرباض خرشنة ... تشقى به الروم والصلبان والبيع
و الربض أيضاً مأوى الغنم. قال العجاج يصف ثورا وحشيا: واعتاد أرباضا لها آري والربض أيضاً كان ما يأوي إليه الإنسان من أهل ومسكن ونحوه. قال:
جاء الشتاء ولمّا تخذ ربضاً ... يا ويح نفسي من حفر القراميص!
وربضت الشاة بالفتح تربض ربضا وربضة وربوضا، وهو في الشاة كالبروك في الإبل؛ والحجرة بالفتح فسكون: الناحية والجمع حجر وحجرات. وأما الحجرة بالضم فحظيرة الإبل والغرفة.
وهذا المثل يضرب في المرء يشاركك عند النعمة والرخاء والفرح، ويجنبك عند البلاء والكربة والاحتياج، تشبيها بالشاة تدخل الوسط عند الأكل، وعند الفراغ تعتزل إلى ناحية.
رجع بخفي حنينٍ.
الرجوع معروف. والخف بالضم: الذي يلبس، والجمع خفاف؛ والحنين كزبير إسكاف من أهل الحيرة، ساومه أعرابي خفين حتى أحرجه ولم يشترهما. فغضب الأسكاف ورجع بخفيه إلى طريق الأعرابي، فوضع أحد الخفين على الطريق، ثم مر ساعة فوضع الآخر، وكمن فجاء الأعرابي وقف على الخف الأول في الطريق فقال: ما أشبه هذا الخف بخفي حنين! لو كان معه الآخر لأخذتهما. ثم سار حتى وجد الآخر، فندم على أنَّ فرط في الأول، فأناخ راحلته وأخذ هذا وعقل راحلته ورجع إلى الأول ليأخذه، فخرج حنين إلى الراحلة فأخذها وما معها ومضى لوجهه. فجاء الأعرابي بالخفين إلى أهله، فإذا قيل له: بم جئت؟ قال: بخفي حنين، فضربوه مثلا لمن رجع بالخيبة وآب بالخسران.
وقيل: حنين هو رجل أدعى إلى أسد بن هاشم بن عبد مناف، فأتى عبد المطلب وعليه خفان أحمران، فقال: يا عم: أنا أبن أسد بن هاشم بن عبد مناف. فقال عبد المطلب: لا، وثياب هاشم! ما أعرف شمائل هاشم فيك، فارجع! فقالوا: رجع حنين بخفيه، فذهب مثلا.
وقيل هو لص إنَّ أخذ فصلب. فجاءت أمه نحوه وعليه خفان، فنزعتهما ورجعت فقبل: رجعت بخفي حنين، أي رضيت منه بذلك.
رجع بصحيفة الملتمس.
الصحيفة بفتح الصاد المهملة: الكتاب والجمع صحائف وصحف، على غير قياس؛ والملتمس: شاعر معروف، وهو جرير لن عبد المسيح. ولقب بالملتمس لقوله:
وذلك أوان العرض طن ذبابه ... زنابيره والأزرق الملتمس
و صحيفته: كتاب كتب له عمرو بن هند يذهب إلى عامله بالبحرين ليقتل، وأوهمه أنَّ المكتوب فيها الحباء يأخذه من العامل. فضرب المثل بهذه الصحيفة لمن يستحصب هلاكه وهو يضنه نفعا.
وشرح هذه القصة أنَّ طرفة بن العبد الشاعر المشهور البكري الوائلي، هجا عمرو بن هند مضرط الحجارة لمتقدم ذكره قوله:
فليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثا حول قبتنا تخور
من زمرات أسبل قادمها ... و ضرتها مركنة درور
يشاركنا لها رحلان فيها ... تعلوها الكباش فما تنور
لعمرك إنَّ قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثير
قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الدهر يقصد أو يجور
لنا يوم وللكروان يوم ... تطر المائسات وما نطير
فما يومنا فنظل ركبنا ... و قوفا ما نحل وما نسير
وما يومهن فيوم سوءٍ ... يطاردهن بالحدب الصقور
و تقدم بعض هذه الأبيات، وقوله قسمت الدهر، الخ . . إشارة إلى ما يحكى أنَّ عمرو بن هند كان دأبه أنه يصطاد يوما ويوما يقف الناس ببابه: فإنَّ اشتهى حديث رجل منهم أذن له. فلبث على ذلك دهره. وكان لطرفة أخت تزوجها عبد عمرو، وعبد عمرو هذا كان أقرب الناس إلى عمرو بن هند منزلة. فجاءت أخت طرفة يوما تشكو زوجها هذا، فهجاه طرفة بقوله:

يا عجبا من عبد عمرو وبغيه ... لقد رام ظلمي عبد عمرو فأنعما
ولا خير فيه غير أنَّ قيل واجد ... و إنَّ له كشحا إذا قام أهضما
وإنَّ نساء الحي يركضن حوله ... يقلن: عسيب من سرارة ملهما
له شربتان بالنهار وأربع ... من الليل حتى آض سخدا مورما
ويشرب جزيرة يغمر المحض قلبه ... و إنَّ أعطه أترك لقلبي مجثما
كأنَّ السلاح فوق شعبة بانة ... ترى نفخا ورد لأسرة أصحما
و كان عبد عمرو أجمل أهل زمانه جسما وكشحا، وذلك وصفه بالكشح الأهضم، أي الضامر العسيب: عسيب النخل. وملهم :موضع باليمن ذو نخل، وسرارته أكرم موضع فيه، وكذا سرارة كل واد. والسخد: الورم وقيل السلا. شبه جسده في نعمته ورجرجته بالورم أو السلا المنتفخ؛ والنفخ: انتفاخ البطن، وقوله: ورد الأسرة، أي أسرته مرودة بالطيب والزعفران حتى صار أصحم، وهو الأحمر المائل إلى السواد. وهذا كله من أوصاف النساء، لا الرجال، وهو هجو خبيث. ثم إنَّ عمرو بن هند خرج يوما إلى الصيد ومعه عبد عمرو، فرمى عمرو حماراً فقعره، فقال لعبد عمرو: أنزل فاذبحه! فنزل وعالجه فأعياه الحمار وضحك منه عمرو بن هند وقال: لقد أبصرك طرفة حين قال: ولا خير فيه . . " البيت " . فيروى إنّه لمّا قال له ذلك، قال عبد عمرو، أبيت اللعن! ما قال لك أشد مما قال لي. قال: وما قال؟ فأنشده الأبيات السابقة. فغضب عمرو وقال: قد بلغ من أمره أن يقول! فأرسل إليه ليكتب له إلى رجل من عبد القيس بالبحرين، وهو المعلى، وكان عامله عليها،ليقتله. فقال بعض جلسائه: إنّه حليف المتلمس، فإنَّ أوقعت بطرفة هجاك المتلمس. فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمس، فأرسل عمرو إلى طرفة والمتلمس معا، فأتياه، وهو بالبقة، قريبا من الحيرة، فكتب إلى عاملة بالبحرين ليقتلهما، وأخفي ذلك عنهما أنَّ ارتياح عمرو لي ولك لأمر مريب، وإنَّ انطلاقي بصحيفة لا أدري ما فيها لغرور فقال طرفة :أنك لمسيء الظن. وما تخشى من صحيفة إنَّ كان فيها الذي وعدناه، وإلاّ رجعنا إليه، فأبى المتلمس، وأبى طرفة أنَّ يجيبه، ففض المتلمس خاتم صحيفته وقام إلى من أهل الحيرة يستقي فدفعها إليه، فقرأها الغلام فقال: أنت المتلمس؟ قال: نعم! قال: النجاء! النجاء! قد أمر بقتلك. فجاء بالصحيفة حتى قذفها في نهر الحيرة، ثم قال:
ألقيتها بالثنى من جنب كافر ... كذلك أقنوا كل قط مضلل
رضيت لمّا بالماء لمّا رأيتها ... يجور بها التيار في كل جدول
و قيل انهما مرا في طريقهما ذلك على رجل يتغدى وهو يقضي حاجة الإنسان ويلفي ثوبه. فقال المتلمس: ما رأيت أحمق من هذا. فقال وما رأيت من حمقي؟ إنّما آكل غذائي وأخرج دائي وأقتل أعدائي. وهل الأحمق إلاّ من يحمل حتفه على كتفه؟ أو كلاما نحو هذا. فحينئذ إستراب المتلمس أمر الصحيفة فاستقرأها كما مر، ثم قال لطرفة: تعلم أن في كتابك مثل ما في كتابي؟ فقال طرفة: لئن اجترأ عليك، ما كان ليقدم علي. فلما أعياه طرفة وأبى أن يطيعه، وخرج الملتمس من فوره ذلك إلى الشام هاربا وقال:
من مبلغ الشعراء عن إخوانهم ... نبأ فتصدقهم بذلك الأنفس
أودى الذي علق الصحيفة منهما ... و نجا حذار حياته المتلمس
ولقد نصحت له فرد نصيحتي ... و جرت له بعد السعادة أنحس
وفي ذلك قيل:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... و الزاد حتى نعله ألقاها
وخرج طرفة حتى أتى صاحب البحرين بكتابه، فدفعه إليه، فقال صاحب البحرين: إني رجل في حسن وبيني وبين أهلك إخاء قديم، فأهرب إذا خرجت من عندي، فقد أمرت بقتلك! فإن كتابك إنَّ قرئ لم أجد بدا من قتلك! فأبى وطن إنّه لا يجترئ على قتله. فحبسه حتى قتله. وفيه يقول طرفة، يخاطب العامل:
أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... و لم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي
آيا منذر أفنيت فأستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض!

رجع فلان إلى قرواه.
وروي: القروي بألف مقصورة. يقال: رجع فلان على قرواه، أي رجع إلى خلق كان يعتاده. يضرب في عادة السوء يتركها صاحبها ثم يرجع إليها. والمعروف في اللغة: القرواء بالمد وهو العادة.
ويروى هذا حديثا: لا ترجع هذه الأمة على قروائها أي على أمرها الأول والله أعلم.
رزمةٌ ولا درة فيها.

الرزمة بفتحتين صوت الناقة عندما ترأم ولدها تخرجه من حلقها ولا تفتح به فاها؛ والدرة فعلة من درت الناقة باللبن تدر.
يضرب هذا المثل لمن يعد ولا يفي كالناقة تروم وتحن ولا تدر ولا خير في ذلك ورزمة خبر مبتدأ يقدر بحسب المقام.

الرشف أنقع.
الرشف: المص. يقال: رشف الماء يرشفه كنصر ينصر ورشف يرشف كسمع يسمع رشفا وارتشافه وترشه إذا مصه ونقع الرجل بالشراب ينقع بالفتح فيها: استقى به وأنقعه الماء: أرواه. والمعنى أنَّ امتصاص الماء وترشفه شيئا فشيئا هو أنقع للنفس وأقطع للعطش ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمص وقال إنّه أهنى وامرئ ونهى عن العب.
فيضرب في ترك العجلة في الأمر.
ارضَ من المركب بالتعليق!
الرضى ضد السخط رضي بالكسر يرضى. والمركب هنا إما أن يراد به الركوب ومن للبدل كقوله:
لو أنَّ لي بهم قوماً إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرساناً وركباناً
والمعنى: ارضَ بدل ركوبك بأن تعلق أمتعتك. وأما أن يراد به المركوب ومن على بابها أي: ارضَ من هذا المركوب بان تعلق أمتعتك عليك أو بان تتعلق به في عقبتك ونوبتك. فيضرب عند الأمر بالقناعة بادراك اليسر من الحاجة والرضى بصغير الأمر دون عظيمه.
مرعى ولا أكولة.
المرعى: مفعل من الرعي يقال رعت الماشية بالفتح رعيا ومرعى ويطلق المرعى أيضاً على المكان وعلى النبات المرعي؛ وهو الرعي أيضاً بكسر الراء.
قال زهير:
تربع بالقنان وكل فج ... طباه الرعي منه والخلاءُ
أي دعاه إليه ما فيه من الرعي أبي الكلأ والخلوة. والأكل معروف وهو أكول وهي أكولة فإنَّ علم الموصوف من الكلام كان القياس حذف الهاء كغيره من نظائره.
والمعنى أنَّ هذا مرعى أي نبات كثير ولم توجد ماشية ترعاه أو مكان ذو رعي ولا راعية له. يضرب في المال الكثير يجده الرجل ولم يجد من ينفقه عليه.
وقال الشاعر في معنى المثل الأصلي:
أرعت الأرض لو أنَّ مالاً ... لو أنَّ نوقاً لك أو جمالا
أو ثلة من غنمٍ إمالا
أي: إن كنت لا تجد غيرها.
ومن اللطائف في هذا ما أنشده أبو علي البغدادي من قول الشاعر:
فجنبت الجيوش أبا زينبٍ ... و جاد على مسارحك السحابُ
فإنَّ البيت يحتمل أن يريد فيه الدعاء للمذكور على ما يبدو في بادئ الرأي بان يرزق العافية والأمن والخصب والدعة؛ ويحتمل أن يريد به الدعاء عليه بأن يفقر ويسلب المال حتى لا يكون له شيء تقصده الجيوش عليه وتتوجه بسببه الغارات إليه ويخصب مع ذلك حواليه حتى يكثر أسفه وحزنه إذ لا راعية له. وهذا الوجه هو الأصح وهو من أحسن معاريض البلغاء.
مرعى ولا كالسعدان.
المرعى تقدم: والسعدان بوزن سكران: نبت شديد الشوك.
وفي الحديث في وصف جهنم أعاذنا الله منها: إنَّ فيها كلاليب مثل شوك السعدان.
وقيل لرجل من أهل البادية خرج عنها: أترجع إلى البادية؟ فقال: أما ما دام شوك السعدان مستلقيا فلا! يعني: لا ارجع إليها أبدا لأنَّ شوك السعدان لا يفارقها.
ويحكى عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وذكره أبو العباس المبرد إنّه قال: دخلت على أبي بكر رضي الله عنه في علته التي مات منها فقلت: إني أراك بارئا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أما إني على ذلك لشديد الوجع ولمّا لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد علي من وجعي. إني وليت أموركم خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه والله لتتخذن نضائد الديباج وستور الحرير وأتألمن النوم على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم على حسك السعدان! والذي نفسي بيده لأنَّ يقوم أحدكم فتضرب عنقه في غير حق خير له من أن يخوض في غمرات الدنيا! يا هادي الطريق جرت إنما هو والله الفجر أو البحر! فقلت: خفض عليك يا خليفة رسول الله فإنَّ هذا يهيضك إلى ما بك. فو الله ما زلت صالحا مصلحا لا تأسى على شيء فاتك من الدنيا ولقد تخليت بالأمر وحدك فما رأيت إلاّ خيرا! قوله: نضائد الديباج هو الوسائد جمع نضيدة أي المنضودة المجموع بعضها إلى بعض. قال الراجز:
وقربت خدامها الوسائدا ... حتى إذا ما علوا النضائدا
سبحتُ ربي قائماً وقاعدا

والصوف الأذربي منسوب إلى أذربيجان؛ وقوله: إنّما هو الفجر أو البحر يريد: إن تربصت حتى يضيء لك الفجر الطريق عرفت قصدك وإن خبطت الظلماء وركبت متن عشواء ضللت. وضرب ذلك مثلا للدنيا وتحييرها أربابها.
ويذكر في بعض الأخبار إنّه يؤمر بالكافر يوم القيامة فيسحب على حسك السعدان. وهذا النبت من أفضل مراعي الإبل يسمنها ويغذيها غذاء حسنا. قال النابغة:
الوهاب المائة الأبكار زينها ... سعدان يوضح في أوبارها اللبد
و لذلك ضربت به العرب المثل.
وقال أبو علي البصير يمدح عبيد الله بن خاقان وله:
يا وزراء السلطان ... أنتم وآل خافان
كبعض ما روينا ... في سالفات الأزمان
ماء ولا كصدى ... مرعى ولا كالسعدان
و هذان مثلان: ومثلهما:
فتى ولا كمالكٍ.
وهي كلها تضرب في الشيء يكون الفضل وغيره أفضل منه. وسيأتي بقيتها إن شاء الله تعالى.
قيل: وأوّل من قال: مرعى ولا كالسعدان امرأة من طيء تزوجها امرؤ القيس بن حجر الكندي وكان القيس مفركا. فقال لها يوما: أين أنا من زوجك الأول؟ فقالت: مرعى ولا كالسعدان! وكانت هذه المرأة تزوجها قبل ذلك رجل آخر ففضلته على امرئ القيس. قيل: وهذا الرجل هو قيس بن مسعود بن قيس بن خالد وهو الذي يقال له ذو الجدين لأنّه كان له جد عند الملوك وجد في الحروب. وقيل لأنّه أسر أسرين شريفين كان لهما فداء كثير ولم يؤسر أحد في زمانه أشرف منها ولا أكثر فداء فسمي ذا الجدين. وإياه يعني الحماسي بقوله:
أيا بنت عبد الله وابنة مالكِ ... و يا أبنت ذي الجدين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فلتمسي له ... أكيلاً فإني لست أكله وحدي!
رعى فأقصبَ.
الرعي تقدم؛ والقصب: القطع ومنه قيل للجزار قصاب لأنّه يقطع اللحم. وتقول: قصبت البعير وغيره إذا قطعت عليه شربه قبل أن يروي؛ وقصب البعير أيضاً شربه إذا امتنع منه قبل أن يروي فهو بعير قاصب. قال الراجز: وهن مثل القاصبات القمحِ وأقصب الرجل إذا فعلت إبله ذلك فيقال: رعى فأقصب مثلا للراعي المسيء الرعي وذلك أنه إذا أساء رعيها فخلت أجوافها من الكلأ امتنعت من الشرب إذ لا تشرب على جوع فكان امتناعها من الماء كناية عن تجويعه إياها.
الرغبُ شؤمٌ والرفقُ يمنٌ.
تقدم معنى هذا المثل عند الكلام على ضده وهو قولهم:
الخرق شؤمٌ.
وتقدم ذلك في الحديث.
ارقَ على ظلعك!
يقال: ارقِ بفتح القاف وكسرها وبالهمزة. أما على الأول فمن الرقي وهو الصعود.
والمعنى: تكلف ما تطيق لأنَّ الرقي في السلم إذا كان يظلع يرفق بنسه. ويقال عند أمر الإنسان أن يبصر ما فيه من العيب والنقص ولا يتجاوز الحد في وعيده ويتخطى المقدار في تهديده.
وأما على الثاني فهو من الرقية وكأنك تقول له: لا ظلع بي أنا أداويه ولكن ارق أنت ما فيك من الظلع! وأما على الثالث فمن القوء. يقال: رقأ الدمع يرقأ إذا سكن ورقأ بين القوم: أصلح.
فيحتمل أن يكون من الأول أي: ارفق بنفسك واعمل على فيك من ضعف! أو الثاني أي: اصلح ما فيك من العيب أولاً!
ارقَ على ظلعك أن يهاضَ!
هذا كالذي قبله؛ والهيض أن يكون العظم قد جبر من كسر ثم يكسر ثانيا. قال امرؤ القيس:
ويهدأ تاراتٍ سناه وتارةً ... ينوء كعتاب الكسير المهيضِ
وقال الآخر:
ومولى كمولى الزبر قان دملته ... كما دملت ساقٌ تهاض بها وقرُ

يرقم الماء.
الرقم: الكتب. فيضرب في الاستقامة والحذق. ويقال: فلان يرقم يرقم الماء أي إذا بلغ من حذقه إنّه يرقم حيث لا يثبت الرقم. قال أوس بن حجر:
سأرقم في الماء القراح إليكم ... على نأيكم إن كان للماء راقمُ
وقد يقال: يرقم على الماء لإرادة أنه لا يثبت من عمله على شيء.
رقةٌ ينتجها ذنب خيرٌ من حسنةٍ يتبعها عجب.
هذا فيما أظن مثل مصنوع وهو نحو قول الشيخ تاج الدين أبن عطاء الله في حكمه: معصية أورثتك ذلا وانكسارا خيرٌ من طاعة أورثتك عزا واستكبارا.
وليس هذا محل تقرير هذا المعنى.
ركب جناحي النعامة.
الركوب معروف ركب بالكسر ركوبا الجناح للطائر معروف. والنعامة تقدم ما فيها. وهذا المثل يقال لمن جد في أمر كانهزام أو غيره. قال الشماخ:

فمن يسع أو يركب جناحي نعامةٍ ... ليدرك ما قد قدمت بالأمس يسبق
و هذا الشعر مرثي به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبيات معروفة.

ركب ذنب البعير.
ذنب كأنَّ شيء بفتحتين: مؤخره والجمع أذناب والبعير معروف وتقدم ذكر مرتبته في أسنان الإبل.
ويقال هذا المثل للإنسان يرضى بالهوان ويقنع بالنقص كالذي لم يجد مستقرا على ظهر البعير وإنّما ارتدف على الذنب. وقول النابغة:
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرامُ
ونأخذ بعده بذناب عيشٍ ... أجب الظهر الله تعالى له سنامُ
يحتمل أي يريد أنه تعلق بعيش صفته ما ذكر ويحتمل أن يريد مع ذلك أنه ما تمسك منه إلاّ بالذنب فيكون من هذا النمط.
ركب ذنب الريح.
يقال للذي يسبق فلا يدرك.
ركب متن عشواء.
العشواء: الضعيفة البصر وهي مؤنث الأعشى. ومن ركب متنها خبط وخلط.
وتقدم هذا في قولهم: خبط خبطَ عشواء.
رمتني بدائها وانسلت.
كان سعد بن زيد مناة بن تميم تزوج رهم بنت الخزرج بن تيم الله بن رفيدة بن كلب بن وبرة. وكانت من أجمل النساء فولدت له مالك بن سعد. وكان ضرائرها إذا ساببنها يقلن لها: يا عفلاء! فشكت ذلك إلى أمها فقالت: ابدئيهن بعفلك إذا سببت فأرسلتها مثلا. ثم إنها سابتها واحدة من ضرائرها يوما بعد ذلك فقالت لها رهم: يا عفلاء! كما وصتها أمها. فقالت الضرة حينئذ: رمتني بدائها وانسلت! فذهب مثلا يضرب في تعييرك صاحبك بعيب هو فيك.
ونحو هذا قول العامة اليوم: قولي لها قبل أن تقول لك! وكان أصله فيما زعموا أنَّ امرأة عوراء سابت امرأة فقامت بنية للعوراء فقالت لأمها: يا أم قولي لها: يا عوراء قبل أن تقوله لك! وكان يقال لبني مالك بن سعد بنو العفلاء وبهم عرض النقري في قوله:
ما في الدوائر من رجلي من عتل ... عند الرهان ولا اكوى من العفلِ!
رماه الله بداء الذيب.
داء الذيب هو الجوع والذيب أصبر السباع على الجوع.
رماه الله بأفعى حاريةٍ!
الأفعى معروفة. والحارية: الناقصة. تقول: حرى الشيء يحري حريا: نقص وأحواه الزمان والحاوية: الأفعى التي نقص جسمها من الكبر فلم يبق إلاّ رأسها ونفسها وسمها وذلك أخبث ما تكون فدعي بها.
رعاه بأقحاف رأسه.
الأقحاف جمع قحف بكسر القاف وسكون الحاء المهملة وهو العظم فوق الدماغ.و يقال هو ما انفلق من الجمجمة فبان ولا يقال لجميع الجمجمة قحف إلاّ أن يتكسر فيقال للمتكسر قحف إذا بان. والجمع أقحاف وقحوف. والمعنى: رماه بالدواهي المهلكة. يقال للرجل تسكته بداهية توردها عليه.
وقيل المعنى: رماه بنفسه ونطحه عما يحاوله.
فعلى الأول يكون المعنى إنّه لمّا رماه بالداهي فكأنه رماه بأفلاق رأسه إذ رماه بما يؤول إلى ذلك. ويكون الضمير المضاف إليه للرمي. فتقول مثلا: رميت زيدا بأفلاق رأسه.
وعلى الثاني يكون المعنى إنّه باشر دفاعه بنفسه فشبه نفسه بالكبش الناطح برأسه والتعبير بالأقحاف حينئذ للمبالغة بأن كل جزء باشر النطح. والضمير يكون على هذا للرامي فتقول: رميت زيدا بأقحاف رأسي والله أعلم.
ومثله قولهم: رماه بثالثة الأثافي.
قال خفاف بن ندبة:
وإنَّ قصيدة شنعاء مني ... إذا حضرت كثالثة الأثافي
أرمى من أبن تقن.
أبن تقن بكسر التاء المثناة وسكون القاف بعدها نون رجل كان جيد الرمي يضرب به المثل. قال الراجز:
يرمي بها أرمى من أبن تقنِ
وأبن تقن هذا هو عمرو بن تقن الذي قيل فيه: لا فتى إلاّ عمرو! وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه مشروحاً.
ووقع في الصحاح والقاموس أنَّ التقن هو رجل كان راميا جيد الرمي وكأنه مسامحة.ثم رأيت للشنتمري في شرح قول الحماسي:
أهلك عاداً وقبله ... أهلك طسماً وذا جدونِ
وأهل جاش ومأربٍ ... و حتى لقمان والتقونِ
قال: التقون جمع تقن وهو رجل من عاد وفيه قيل: أرمى من أبن تقن.
الأرواح جنود مجندةٌ.
هذا يروى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

وهذا إخبار بأنَّ بين الأرواح تارة تناسبا باطنيا يوجب الالتئام والتوافق وتارة تباينا يوجب الوحشة والاختلاف بإذن الله تعالى وهو مشاهد مجرب. ومن ثم قال أبو الطيب:
أصدق نفس المرء من قبل جسمه ... و أعرفها في فعله والتكلم
وقال الآخر:
وقائل لي: لم تفارقتما؟ ... فقلت قولاً فيه إنصافُ
لم يك من شكلي ففارقته ... و الناس أشكالٌ وآلافُ
وقال طرفة في أبيات:
وأنت امرؤ منا ولست بخيرنا ... جوادٌ على الأقصى وأنت بخيلُ
وأنت على الأدنى شمالٌ عريةٌ ... شآميةٌ تزوي الوجوه بليل
وأنت على الأقصى صبا غير قرةٍ ... تذاءب منها ومرزغٌ ومسيلُ
وأعلم علماً ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليلُ
وأنَّ لسان المرء ما لم يكن له ... حصاةٌ على عوراته لدليلُ
وأنَّ امرءاً لم يعف يوما فكاهةً ... لمن لم يرد سوءاً بها لجهولُ
تعارف أرواح الرجال إذا التقت: فمنهم عدوٌ يتقى وخليلُ
وقال المجنون:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... و من بعدها كنا نطافاً وفي المهدِ
وقال أبن الرومي:
ذو الود مني وذو القربى بمنزلةٍ ... و أخوتي أسوةٌ عندي لخلانُ
أحبةٌ جاورت آدابهم أدبي ... فهم وإن فرقوا في الأرض جيراني
أرواحنا في مكانٍ واحدٍ وغدت ... أجسامنا بعاقٍ أو خراسانِ
و الشعر في هذا المعنى لا يحصى. ومثله المثل الآتي: وافق شنٌ طبقة.

استراح من لا عقل له.
الاستراحة ضد التعب. تقول: أرحت الرجل فاستراح؛ وإنّما استرا الذي لا عقل له لأنَّ النفس إذا خليت أخلدت إلى الشهوات الحاضرة ولا تبالي بعزمة وتستنكف عن منقصة كالبهيمة والعقل ينزع بها إلى طلب الكمال والتحلي بالحمد والتخلي عما يذم. وفي ذلك أتعابهاً لجسمها عن مألوفها المستذل واقتحام الأخطاء بها لاكتساب الثناء والفضل وإطالة الهموم والأفكار عليها نظراً في عواقب الأمور واحترازا عما يشين ويضير. وليس قال الحماسي:
يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا!
وقال الآخر:
وقائلةٍ: لم عركت الهموم ... و أمرك ممتثل في الأمم؟
فقلت: ذريني على حالتي ... فإنَّ الهموم بقدر الهمم!
و سمع الأحنف رجلا يقول: ما أبالي أمدحت أم هجيت! فقال: استرحت من حيث تعب الكرام! و مما ورد في العقل وفضله أنَّ أدم لمّا أهبط إلى الأرض خير في ثلاث: الحياء والدين والعقل. فاختار العقل: الحياء والدين أمران أن لا تفارق العقل.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ثلاث من حرمهن فقد حرم خير الدنيا والآخرة: عقل يداري به الناس وحلم يداري به السفيه وورع يحجزه عن المحارم.
وفي حكمة داود عليه السلام: على العقل أن يكون عارفا بزمانه مالكا للسانه مقبلا على شأنه.
وقال علي رضي الله عنه: لا مال أعود من العقل ولا فقر أشد من الجهل ولا وحدة أوحش من الجهل ولا مظاهر أحسن من المشاورة ولا حسب كحسب الخلق.
وقال مطرف بن الشخير: عقول الناس على قدر أزمانهم.
ويقول: ثلاثة تدل على عقول أهلها: الكتاب والرسول والهدية.
وذكر المغيرة يوما عمر فقال: كان والله أفضل من أن يخدع وأعقل من أن يخدع.
وفي كتاب كلية ودمنة: رأس العقل التمييز بين الكائن والممتنع.
وقال الحجاج يوما: العاقل من يعرف عيبه. فقال له عبد الملك بن مروان: فما عيبك يا حجاج؟ قال: حسود حقود. فقال عبد الملك: ما في إبليس شر من هاتين! ويقال: لا دين لمن لا عقل له.
وقال علي رضي الله عنه: لا تؤاخ الأحمق ولا الفاجر. أما الأحمق فدخوله عليك وخروجه من عندك شين، وأما الفاجر فيزين لك فعله ويود أنَّ تكون مثله.
وقال أيوب بن القرية إنَّ نطق أصاب، وإنَّ سئل أجاب؛ والأحمق إنَّ تكلم عجل، وإنَّ سئل ذهل. والفاجر إنَّ ائتمنته خانك، وإنَّ صحبته شانك.
وقال عمر بن عبد العزيز: لا يعدم الأحمق خصلتين: كثرة الالتفات وسرعة الجواب. وقال الحسن: هجر الأحمق قربة. وقال: لا يتم دين امرئ حتى يتم عقله. وفي الحكمة: ينبغي للعاقل أنَّ يتمسك بست خصال: أن يحوط دينه، ويصون عرضه، ويصل رحمه، ويحفظ جاره، ويرعى إخوانه، ويخزن عن البذاء لسانه. ويقال: الفقر بالعقل، والرزق بالجهل.

ويحكى إنّه قيل لعيسى عليه السلام: يا روح الله، تبرئ ألاكمه والأبرص وتحيي الموتى، فما دواء الأحمق؟ قال: ذلك أعياني! وكان كسرى إذا غضب على عاقل سجنه مع جاهل.
وقال سهل بن هارون: ثلاثة من المجانين، وإنَّ كانوا عقلاء: الغضبان، والغرثان والسكران. وفي الخبر: العاقل إنَّ تكلم غنم، وإنَّ سكت سلم.
ومما ينسب لعلي رضي الله عنه:
يقاس المرء بالمرء ... إذا المرء ما شانه
فلا تصحب أخا الجاهل ... و إياك وإياه
فكم من جاهلٍ أردى ... حليما حين أخاه
وللشيء على الشيء ... نظائر وأشباه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
وصالح بن عبد القدوس:
ولأنَّ يعادي عاقلا خير له ... من إنَّ يكون صديق أحمق
فآربا بنفسك أنَّ تصادق أحمق ... إنَّ الصديق على الصديق مصدق
و لغيره:
عدوك ذو العقل أبقى عليك ... و أجدى من الصاحب الأحمق
ولغيره:
قد عرفناك باختيارك إذ كان ... دليلا على اللبيب اختياره
ولآخر:
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... و لا تلقهم بالعقل إنَّ كنت ذا عقل!
ولآخر:
إنَّ جئت أرضاً أهلها كلهم ... عور فغمض عينك الواحده!
وقال هشام بن عبد الملك: يعرف الأحمق بأربع: طول اللحية، وشناعة الكنية، ونقش الخاتم، وإفراط الشهوة.
ودخل عليه يوما رجل طويل اللحية فقال: انظروا فيه غيرها! فسئل عن كنيته فقال: أبو الياقوت. فقيل: وما نقش خاتمك؟ قال: وجاءوا على قميصه بدم كذبٍ.
ويحكى مثل هذه القصة عن معاوية وإنّها وقعت له مع رجل إلاّ إنّه قال في الكنية: أبو الكوكب الدري، ونقش الخاتم: وتفقد الطير. وتقدم شبه هذا للمأمون العباسي مع آخر، في حرف التاء.
وقيل:
ألا إنَّ عقل المرء عينا فؤاده ... فإنَّ لم يكن عقل فلن يبصر القلب
آخر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلاّ صورة اللحم والدم!
وسيأتي في أجوبه الحمقى ومضحكاتهم شيء كثير.

أراد بيض الأنوق!
يضرب عند إرادة الممتنع. وتقدم في الباء وما فيه.
أردت عمراً وأراد الله خارجة!
كثيراً ما يتمثل به عندما تقصد إيقاع شيء ثم لم يتفق لك وأوقعت شيئاً آخر مكانه. وهو من كلام أحد الخوارج الذي أرسلوه إلى مصر ليقتل عمرو بن العاصي، حيث اتفقوا على قتله وقتل أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ومعاوية رضي الله عنه. فذهب إلى كل واحد من الثلاثة من يقتله. فأما على كرم الله وجهه فقتل وفاز؛ وما معاوية فأصيب ونجا وقال في ذلك:
نجوت وقد بل المرادي سيفه ... من أبن أبي شيخ الأبطاح طالب
و أما عمرو فاستخلف خارجة المذكور، فنجا وقتل خارجة. فقال القاتل: أردت عمراً وأراد الله خارجة، أي أردت قتل عمر فلم يتفق إذ لم يرده الله تعالى، وأراد الله إنَّ أقتل خارجة، فوقع ما أراد الله تعالى:
فما شئت كان وإنَّ لم أشأ ... و ما شئت أم لم تشأ لم يكن
و القصة مشهورة فلا نطيل بها.
وما احسن قول أبن عبودن في قصيدته:
وليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ ... فدت عليا بما شاءت من البشر!
رويد الغزو ينمرق!
رويدا: مهلاً، وهو مصغر رود. يقال: أورد الرجل إرواد ومورداً ورويداً إذا رفق. ويكون لفظ رويداً على أوجه: اسم فعل أمر بمعنى أمهل، وتدخل عليه الكاف، نحو: رويدا زيداً، ورويد كني؛ وصفة، نحو سار سيراُ رويدا؛ وحالا، نحو: سار القوم رويدا، وهو محتمل لمّا قبله؛ ومصدرا، نحو: رويد زيد، بالإضافة. والغزو معروف. وهو أما منصوب إنَّ جعل رويد اسم فعل مجرور إنَّ جعل مصدرا. والمروق: الخروج. يقال: مرق السهم وغيره، أي خرج. وفي الحديث: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
والمراد هنا خروج الولد. كانت امرأة تغزو، فحلبت فذكر لها الغزو فقالت: رويد الغزو ينمرق! أي أمهل الغزو حتى يخرج الولد!
رويداً يعدوان الجدد!
العداء: المجاوزة. والجدد من الأرض خلاف الوعث. وتقدم هذا المثل من كلام قيس بن زهير في رهان بينه وبين بني بدر. والضمير في يعدوان للفرسين المجريين.
روغي جعار.

الروغان: الحيودة. يقال:راغ الرجل، وراغ الرجل، وراغ الثعلب بالعين المعجمة يروغ رواغا إذا مال وحاد عن الشيء، وجعار علم على الضبع، وتقدم ما فيه. وقد يقال روغي جعار وانظر أين المفر. ويضرب في فرار الجبان، أو للذي يهرب ولا يقدر إنَّ ينفلت.

أروغ من ثعالة.
ثعالة بالضم اسم لجنس الثعلب، معروفة، وروغان الثعلب في غاية الخفة والسرعة. فضرب به المثل. يقال: أروغ من ثعالة، اورغ من ثعلب، وراغ روغان الثعلب. قال الشاعر:
فأحتلت حين صرفتني ... و المرء يعجز لا محاله
والدهر يلعب بالفتى ... و الدهر أروغ من ثعاله
والمرء يكسب ماله ... و الشح يورثه الكساله
والعبد يقرع بالعصا ... و الحر تكفيه المقاله
وقال الآخر في الثعلب:
وكل خل لي خاللته ... لا ترك الله له واضحه
كلهم أروغ من ثعلبٍ ... ما أشبه الليلة بالبارحة!
يحكى أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال يوما وهو على المنبر: إنَّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ولم يروغوا روغان الثعلب.
ولمّا هزم المهلب بن أبي صفرة عبد ربه الأصغر وأجلى قطريا حتى أخرجه من كرمان نحو أرض خرسان، وأوفد على الحجاج كعب بن معدان الأشقري. فقال له الحجاج:كيف كان محاربة المهلب للقوم؟ قال: كان إذا وجد الفرصة سار كما يسور الليث، وإذا دهمته الطمحة راغ كما يروغ الثعلب، وإذا ماده القوم صبر صبر، الدهر قال: وكيف كان فيكم؟ قال: كان لنا منه إشفاق الوالد الحدب، وله مناطاعة الوالد البر. قال: فكيف أفلتكم قطري؟ قال: كدنا ببعضنا ما كدناه به، والأجل أحصن جنة وأنقذ عدة. قال: فكيف أتبعتم عبد ربه وتركتموه؟ قال: آثرنا الحد على الفل، وكانت سلامة الجند أجب الينا من شجب العدو. فقال له الحجاج: أكنت أعددت هذا الجواب قبل لقائي؟ قال: لا يعلم الغيب إلا الله! قوله: شجب العدو، أي هلاكه. يقال شجب الرجل يشجب شجبا. قال امرؤ القيس:
وقالت: بنفسي شباب له ... و لمته قبل أنَّ يشجب
الراوية أحد الهاجين.
يقال: روي الشعر بالفتح يرويه، فهو راوٍ، ورواية بزيادة الهاء للمبالغة، كما في مدركة وعلامة، ورويته أنا تروية. والهجو والهجاء معروف. ويعنون بهذا الكلام إنَّ من روى الهجو في الناس فهو كمن قاله أوّلاً، فيمون أحد الهاجين، كما يقال في الغيبة إنَّ المستمع شريك القائل إذا لم ينكر ولا عذر، فكيف يمن يحكي ويأثره؟ كما قيل:
لعمرك ما سب الأمير عدوه ... و لكنما سب الأمير المبالغ!
و لأجل ما وقع للنابغة الذبياني في بني سيار، وكان النابغة قد نهى قومه إنَّ يرتعبوا حمى نعمان بن الحارث الغساني، فعصوه، وترعبوه، فأغار عليهم. وقال النابغة في ذلك:
لقد نهيت بني ذبيان عن أقر ... و عن تربعهم في كل أصفار
وقلت: يا قوم إنَّ الليث منقبض ... على براثنه لوثبة الضاري
و هي قطعة مشهورة، منها:
أما عصيت فأني غير منفلتٍ ... مني اللصاب فجنبا حرة النار
أو أضع البيت في سوداء مظلمةٍ ... تقيد العير لا يسري بها الساري
يريد إنّه يلج الشعاب الضيفة أو المهامه الفيح حتى لا يصل إليه الجيش، ثم إنّه لم يفعل ذلك حتى أصابه الغارة مع قومه وأسر بعض أهله فيمن أسر. فقال في ذلك بدر بن حزاز الفزاري يعير النابغة:
أبلغ زياداً وحين المرء مردكه ... و إنَّ تكيس أو كان أبن احذار
اضطرك الحرز من ليلى إلى بردس ... تختاره معقلا عن شج أعيار
حتى لقيت أبن كهف اللؤم في لجيبٍ ... ينفي العصافير والغربان جرار
فالآن فاسع بأقوام غررتهم ... بني ضباب ودع عنك أبن سيار
قد كان وافد أقوام فجاء بهم ... و انتاش عانيه من أهل ذي قار!
ثم إنَّ النابغة بلغه إنَّ زبان وخزيمة أبني سيار أعانا بدرا ورويا شعره، فقال في ذلك:
إلاّ من مبلغ عني خزيما ... وزبان الذي لم يرع صهري؟
فأياكم وعورا داميات ... كأنَّ صلاءهن صلاء جمر!
فإني قد أتاني ما صنعتم ... و ما رشحتم من شعر بدر
فلم يك نولكم إنَّ تشقذوني ... و دوني عازب بلاد حجر
فإن جوابها في كل يومٍ ... ألم بأنفس منكم ووفر

ومن يتربص الحدثان تنزل ... بمولاه عوان غير بكر

روت حزم، فإذا استوضحت فأعزم!
يقال: رويت في الأمر بالتضعيف: نظرت فيه وتفكرت، والحزم والحزامة: ضبط الأمر والأخذ فيه بالقوة والجد. يقال: حزام الرجل بالضم يحزم حزامة فهو حازم. واستيضاح الشيء: استكشافه أو جعله واضحا. والعزم معروف.
ومعنى المثل أنَّ من حزم الإنسان إنَّ يتروى في الأمر ويتفكر في مجاريه وعواقبه إذا أراد أنَّ يأتيه، حتى إذا تبين له إنّه محمود فليقدم عليه بعزم ولا يتوان فيه حتى يدرك فتور فيتعطل.
أروى من نملةٍ.
يقال: روي من الماء بالكسر يروى ريا، فهو ريان، والنملة واحدة النمل، وهو معروف. وإنّما وصفت بالري لأنها تكون في الفلوت فلا ترد الفلوات، وهذا من المجاز.
أروى من نعامةٍ.
النعامة معروفة، وتقدم الكلام عليها. ووصفت بالري أيضاً لمّا يزعمون من إنّها لا تشرب الماء ولا تطلبه، وإنَّ رأته شربته عبثاً.
رهبوتى خير من رحموتى.
الرهب: الخوف. يقال: رهب بالكسر وهبة ورهبا بالضم والفتح ورهبا بفتحتين والاسم منه رهباء بالمد وبالقصر مضموما ومفتوحا. ويقال رهبوت بزيادة تاء للمبالغة كملكوت، ورهبوتى بألف مقصورة، والرحمة: العطف والرقة رحمة بالكسر رحمة، ورحما بالضم وبضمتين ومرحمة؛ والرحموت من الرحمة استعمل للازدواج.
والمعنى انك أنَّ ترهب خير لك من إنَّ ترحم، لأن المرهوب عزيز ممتنع، والمرحوم بمحل عدوان العادين.
تربع وتدسع
ومما يلتحق بهذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يروى عن ربه تعالى يقول لعبده: المثل أوتك مالا وأفضل عليك، فماذا قدمت؟ وفي رواية: ألم أوتك مالا وجعلتك تربع وتدسع؟ فقوله: تربع وتدسع تمثيل. وأصله في الرئيس من العرب كان يربع قومه، أي يأخذ المرباع وهو ربع المغنم إذا غزوا؛ ويدسع، أي يعطي الدسيعة وهي العطية. ومنه قولهم: فلان ضخم الدسيعة.
وقولهم:
رجع عوده على بدئه.
أي رجع في طريق الذي جاء منه. ويقال أيضاً: رجع في عوده وبدئه، وفي عودته وبدئته، عودا وبدءاً.
وقولهم:
مرحبا وسهلاً.
أي صادفت سعة. ويقال أيضا: مرحبك الله ومسهلك! ومرحبا بك الله ومسهلاً! وقولهم في الايعاد والتهديد:
رعد فلان وابرق.
وتقدم ما فيه.
وقولهم:
أرقع ما أوهيت!
أي أصلح ما أفسدت. وأصله في السقاء ونحوه إذا أوهاه أي خرقه رقعه.
وقولهم:
ركب فلان عرعره
،
أي ساء خلقه، والعرعر ما بين المنخرين، وعرعرة الأنف: أعلاه. وكذا عرعرة الجبل وعرعرة السنام. كل ذلك بضم العين. وهذا مثل قولهم:
ركب رأسه.
وقولهم:
رماه بالذربين
أي بالشر والخلاف.
وقولهم:
رويد الشعر يغب!
يقال: غب الرجل وأغب إذا بات.
ومن الأمثال الجارية على الألسن قولهم:
رب حليةٍ، انفع من قبيلة.
ولنذكر في هذا الباب من الأمثال الشعرية ما تيسر وما جرى على مثالها، وأنتسج على منوالها قال البارقي:
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافرُ
و قبله:
وحلت سليمى في هضاب وأيكةٍ ... فليس عليها يوم ذلك قادرُ
قيل: كان يزيد بن عبد الملك يقول: ما يقر عيني بما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة وحبابة جاريتان لبعض أهل الحجاز حتى اشتريتا له. فلما اجتمعتا في ملكه قال: أنا اليوم كما قال الشاعر: فألقت عصاها . . " البيت " . ثم قال: ما يشاء بعد من أمور الدنيا فليفتني.
ويقال لمّا بويع لأبي العباس السفاح قام خطيبا فسقط القضيب من يده فتطير من ذلك. فقام رجل وأخذ القضيب ومسحه إليه وأنشد: فألقت عصاها . . " البيت " .
وقيل إنَّ قتيبة بن مسلم لمّا قدم واليا على خراسان رقي المنبر ليخطب فسقطت المخصرة من يده فتطير من ذلك. فقام بعض الأعراب فمسحها وناوله إياها وقال: أيّها الأمير ليس كما ظن العدو وساء الصديق ولكنه كما قال الشاعر: وألقت عصاها . . " البيت " ! فسري عنه. وقيل هو القائل ذلك.
ومثل هذا ما روي أنَّ خالد بن يزيد لمّا دخل الموصل واليا عليها اندق منه اللواء في بعض أبوابها فتطير من ذلك فبادره أبو الشمقمق وكان معه قائلا:
ما كان مندق اللواء لطيرة ... تخشى ولا سوء يكون معجلا

لكن هذا الرمح أضعف متنه ... خطر الولاية واستقل الموصلا
فسرى عن خالد وكتب صاحب البريد بذلك الذي المأمون فزاده ديار ربيعة فأعطى أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم. ومثل ذلك ما يحكى أنَّ طاهر بن الحسين لمّا خرج لقتال علي بن عيسى بن ماهان وفي كمه دراهم يفرقها على الضعفاء وغفل عنها فأسبل كمه فتبددت فتطير بذلك. فأنشده شاعر كان معه:
هذا تفرق جمعهم لا عيره ... و ذهابها منه ذهاب الهمِ
شيء يكون الهم نصف حروفه ... لا خير في إمساكه في كمِ
و العرب ضربت المثل بإلقاء العصى في الاستقرار والراحة من الأسفار ولذلك قال حبيب:
كريمٌ إذا ألقى عصاه مخيماً ... بأرضٍ فقد ألقى بها رحله المجدُ
وقال أبن عنين:
ولمّا استقرت في ذراه بي النوى ... و ألقت عصاها بين مزدحم الوفد
تنصل دهري واستراح من الوجى ... قلوصي ونامت مقلتي وعلا جدي
وقال عمارة اليمني:
إنَّ الكفالة والوزارة لم تزل ... يومي إليك بفعلها وتشارُ
كانت مسافرة إليك وتبعد ... الأخطار ما لم تركب الأخطارُ
حتى إذا نزلت عليك وشاهدت ... ملكاً يزين الملك منه سوارُ
ألقت عصاها في ذراه وعريت ... عنها السروج محطة الأكوارُ
وقال صردر:
على رسلكم في الهجر إنَّ عصابةً ... إذا ظفرت بالحب ضل ضميرها
سواءٌ على المشتاق والهجر حظها ... أ ألقت عصاها أم أجد بكورها
وقال أيضاً:
أنعمت في نعماء مطمئنة ... تحكم الفؤاد في أطرافهِ
ألقت عصاها وارتمت ركابها ... في سرر الوادي وفي شعافه
قال الحسين بن إبراهيم:
ألا ليت شعري هل أقولن مرة ... و قد سكنت مما أجن الضمائرُ
ومالي إلى باب المحجب حاجةٌ ... وما بي عما يخفض العرض زاجرُ
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافرُ
وقال الآخر:
إذا لم ير الإنسان عند قدومه ... محياك مثل البدر والبدر سافرُ
فأقسم ما ألقت عصاها يد النوى ... و لا قر عيناً بالإياب المسافرُ
وقال كليب بن ربيعة أو طرفة:
يا لك من قبرةٍ بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري!
وتقدم ذكر هذا وما فيه.
وقال المجنون:
أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي ... و لكن حب من سكن الديارا
وتقدم ما يشبه في حرف الباء.
ومثله أيضاً قول الآخر:
فإن تدعي نجداً أدعه ومن به ... و إن نسكني نجداً فيا حبذا نجدُ!
وقبل هذا البيت:
سقى دمنتين ليس لي بها عهد ... بحيث التقي الدارات والجرع الكبدُ
فيا ربوة الربعين حييت ربوةً ... على النأى منا واستهل بك الرعدُ
قضيت الغواني غير أنَّ مودةً ... لذلفاء ما قضيت آخرها بعدُ
إذا ورد المسواك ضمآن بالضحى ... عوارض منها ظل يخصره البدُ
وألين من مس الرخامات يلتقي ... بمارنه الجادي والعنبر الوردُ
جرى نائبات الدهر بيني وبينها ... وصرف الليالي مثل ما جرت البردُ
فإن تدعي نجداً . . " البيت " وبعده:
وإن كان يوم الوعد أدنى لقائنا ... فلا تعذلني أن أقول متى الوعدُ
وقال تأبط شراً:
وأبت إلى بهمٍ وما كدت آئباً ... و كم مثلها غادرتها وهي تصفرُ!
و الشطر الثاني مثل سائر في عدم الاكتراث بالشيء.
ومن لطائف شرف الدين الحلاوي أنه أنشد بين يديه لغز في الشبابة وهو:
وناطقةٍ خرساء بادٍ شحوبها ... تكنفها عشرٌ وعنهن تخبرُ
يلذ إلى الأسماع رجع حديثها ... إذا سد منها منخر جاش منخرُ
و هذا الشطر الأخير لتأبط شرا أيضاً ضمنه فأجاب في الحال:
نهاني النهى والشيب عن وصل مثلها ... و كم مثلها فارقتها وهي تصفرُ!
ضمن تضمينا حسنا ونقل المعنى إلى الشبابة فوقعت لفظة تصفر أحسن موقع.
وقال الآخر:

كم ترك الأول للآخر!
وهو مثل مشهور ضمنه أبو تمام في قوله:
يقول من تقرع أسماعه ... كم ترك الأول للآخر!
أو هو المخترع.
وضده قول الآخر:
لم يدع من مضى ... للذي قد غبر

فضل علم سوى ... أخذه بالأثر
وقال الآخر:
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أ فرسٌ تحتك أم حمارُ
غيره:
فيا عطشى والماء الزلال أخوضه ... و يا وحشتي والمؤنسون كثيرُ!
وقال بعض الأعراب:
دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا
وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم ... و عانق المجد من وافى ومن صبرا
لا تحسب المج تمراً أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا!
وقال الأخطل:
قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء وإن باتت بأطهارِ
حكى أبو العباس المبرد في الكامل أنَّ صاحب اليمن بعث إلى عبد الملك بن مروان بجارية وكتب معها: إني وجهت إلى أمير المؤمنين بجارية اشتريتها بمال عظيم ولم ير مثلها. وكان ذلك وقت محاربتهم لابن الأشعث. فلما دخل بالجارية على عبد الملك رأى وجها جميلا وخلقا نبيلا. فألقى إليها قضيبا كان في يده فنكست لتأخذه فرأى من جسمها ما بهره. فلما هم بها أعلمه الآذن أنَّ رسول الحجاج بالباب. فأذن له ونحى الجارية فأعطاه كتابا من عبد الرحمن بن الأشعث فيه سطور أربعة:
سائل مجاور هل جنيت لهم ... حربا تزيل بين الجيرة الخلط؟
وهل سموت بجرار له لجبٌ ... جم الصواهل بين الحم والفرط؟
وهل تركت نساء الحي ضاحيةً ... في ساحة الدار يستوفدن بالقنطِ
وتحته:
قتل الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر الأقوامِ
فكتب إليه عبد الملك كتابا وجعل في طيه جوابا لابن الأشعث:
ما بال من أسعى لأجبر كسره ... حفاظاً وينوي من سفاهته كسري؟
أظن خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركبٍ وعرِ
وإني وإياهم كمن نبة القطا ... و لو لم تنبه باتت الطير لا تسري
أناة وحلما وانتظارا بهم غداً ... و ما أنا بالواني ولا الضارع الغمرِ
قال: ثم بات يقلب كف الجارية ويقول: ما أفدت فائدة أحب إلي منك! فتقول: ما بالك يا أمير المؤمنين وما يمنعك؟ فقال: ما قاله الأخطل لأني إن خرجت منه كنت ألأم العرب: قومٌ إذا حاربوا . . " البيت " فما إليك سبيل أو يحكم الله بيني وبين عدو الرحمن بن الأشعث. فلم يقربها حتى قُتل عبد الرحمن.
وقال الآخر:
الله يشكر ما مننت به ... إذ كان يقصر دونه شكري
غيره:
إلهي زد في عمره من حياتنا ... و أعمرنا حتى يطول له العمرُ!
غيره:
أبى الله تدبير أبن آدم نفسه ... و أن يكون المرء إلاّ مدبرا
غيره:
أخاف عليك من سيف ورمح ... طميل العمر بينهما قصرُ
غيره:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التفريط في زمن البذر
غيره:
إذا صح عون الله للمرء لم يكن عسيرٌ من الآمال إلاّ تيسرا
غيره:
إذا لم تكن في منزل المرء حرةٌ ... تدبره ضاعت مصالح داره
غيره:
تبقى المنابر بعد القوم باقية ... و يذهب المال والأيام والعمرُ
غيره:
تشتاقكم كل أرض تنزلون بها ... كأنكم لبقاع الأرض أمطارُ
غيره:
تعب المنجم حيث أفنى عمره ... في علم ما لا يدرك الأفكارُ
غيره:
تميز البعض في الألفاظ إن نطقوا ... و تعرف الحذق في الألفاظ إن نظروا
غيره:
تنسى مرارة كل نازلة ... بحلاوة في النهي والأمرِ
غيره:
ثقة الفتى بزمانه ... ثقة محللة العرى
غيره:
ثلاثةٌ موصوفةٌ تجلو البصر: ... الماء والوجه المليح والخضر
غيره:
جار الزمان علينا في تقلبه ... و أي دهر على الأحرار لم يجرِ؟
غيره:
جاء البشير مبشراً بقدومكم ... فملئت من قول البشير سرورا
غيره:
جاور إذا جاورت بحراً يا فتى ... فالجار يشرف قدرة بالجارِ!
غيره:
حبي لكم طبعٌ بغير تكلفٍ ... و الطبع في الإنسان لا يتغيرُ
غيره:
خاطر بنفسك لا تقعد بمعجزةٍ ... فليس حرٌ على عجزٍ بمعذورِ!
غيره:
خذ ما صفا لك فالحياة غرور ... و الدهر يعدل تارة ويجورُ
غيره:
خير ما ساعد الرجال نساءٌ ... صالحات يكن خلف الستورِ
غيره:

دخولك من باب الهمى إن أردته ... يسير ولكن الخروج عسيرُ
غيره:
دع النوم للنوام إنك إن تنم ... فإنك نصف العمر تغبن خاسرا
غيره:
ذروني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرهم الفقيرُ
غيره:
رأيت بلاد الله وهي عريضةٌ ... على الخائف المذعور أضيق من القبر
غيره:
رأيتك مثل الجوز يمنع لبه ... صحيحا ويعطي لبه حين يكسرُ
غيره:
رُبَّ فقير غني نفسٍ ... و ذي غنى بائس فقيرُ
غيره:
ردك الله إلينا سالماً ... بعد غنمٍ ونجاحٍ وظفر
غيره:
زرتني قبل أن أزورك شوقاً ... فلك الفضل زائراً ومزورا!
غيره:
زعمتم بأن الصبر أكرم صاحبٍ ... صدقتم ولكن قد تقضى به العمرُ
غيره:
سأكتم حاجتي عن الناس كلهم ... و لكنها للناس تبدو وتظهرُ
غيره:
سرور شهرٍ وغم دهرٍ ... و وزن وهرٍ ودق ظهرِ
غيره:
سيصرف الله ما تخشى وتحذره ... فاصبر قليلاً فعقبى صبرك الظفرُ
غيره:
شباب المرء ثوبٌ مستعارٌ ... و أيام الصبا أبداً قصارُ
غيره:
صفقةٌ غير خاسرة ... بيع دنيا بآخره
غيره:
ضيعت وقت في المحال ... فلا تضيع وقت غيرك!
غيره:
عبارتنا شتى وحسنك واحدٌ ... و كلٌ إلى ذاك الجمال يسيرُ
غيره:
عتبت على عمرو فلما فقدته ... و جربت أقواماً بكيت على عمرو
غيره:
على المرء أن يسعى لمّا فيه نفعه ... و ليس عليه أن يساعده الدهرُ!
غيره:
قبحت مناظرهم فحين خبرتهم ... حسنت مناظرهم لقبح المخبرِ
غيره:
قد كنت أبكي وداري منك دانيةٌ ... فكيف صبري وقد شطت بي الدار؟
غيره:
قد كنت أسمع ما أرى فيروعني ... و اليوم ليس بروعي ما أنظر!
غيره:
قد كنت أحذر من دهري وأحذره ... حتى قدمت فزال الروع والحذرُ
غيره:
قضى الله في بعض المكارم للفتى ... بخيرٍ وفي بعض الهوى ما يحذرُ
غيره:
قف أنا في الطريق إن لم تزرنا ... وقفةٌ في الطريق نصف الزيارة!
غيره:
قومٌ إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... و استوثقوا من رتاج الباب والدار
غيره:
كأن العام ليس بعام حجٍّ ... تغيرت المواسم والدهورُ
غيره:
كفا حسودي جهلاً أنه رجلٌ ... معاندٌ لقضاء الله والقدرُ
غيره:
كل امرئٌ حسن في عين والده ... و الخنفساء تسمي بنتها القمرُ
غيره:
كل عيبٍ تراه في الغير بالظن ... له فيك باليقين نظيرُ
غيره:
كنت من كربتي أفر إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار
غيره:
لا تستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلاّ لصابرِ
غيره:
لقد طال هذا القيل والقال بيننا ... و ما طال قول الشرح إلاّ ليقصرا
غيره:
لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... و لكن قرين السوء باقٍ معمرُ
غيره:
لكم الأرض كلها فأعيروا ... عبدكم ما احتوى عليه جداره!
غيره:
لي النقاب على القباح فريضةٌ ... و على الملاح خطيئة لا تغفرُ
غيره:
ليس ارتحالك في كسب العلا سفراً ... بل المقام على ذل هو السفرُ
غيره:
ليس التفضل منك أمراً نادراً ... لكن مثلك في التفضل نادرُ
غيره:
ليس السعيد الذي دنياه مسعدة ... إنَّ السعيد الذي ينجو من النار
غيره:
ليس ما ليست له حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصبرِ
غيره:
ما العمر ما طالت به الدهور ... العمر ما تم به السرورُ
غيره:
ما بال دارك حين تدخل جنة ... و بباب دارك منكرٌ ونكيرُ؟
غيره:
ما حك جسمك غير ظفرك ... فتول أنت جميع أمرك!
غيره:
ما ذاق طعم الغنى فلا قناع له ... و لا ترى قانعاً في الناس مفتقرا
غيره:
ما كان ذاك العيش إلا سكرة ... لذاتها ذهبت وحل خمارها
غيره:
ما كل من زار الحمى سمع الندا ... من أهله: أهلاً بهذا الزائر!
غيره:
ما يضر البحر أمسى زاجراً ... إن رمى فيه سفينةٌ بحجر!
غيره:

متى تقضي حاجات من ليس واصلاً ... إلى حاجة حتى تكون له أخرى
غيره:
محن الفتى يخبرن على فضل الفتى ... و النار مخبرةٌ بفضل العنبر
غيره:
مفتاح باب الفج الصبر ... و كل عسر بعده يسرُ
غيره:
من أبرم الأمر بلا تدبير ... صيره الدهر إلى تدميرِ
غيره:
من كان يهوى منظراً بلا خبر ... فما له أوفق من عشق القمر
غيره:
نزلوا والخدود بيضٌ فلما ... أزف البين عدن بالدمع حمرا
غيره:
وأحمق خلق الله من جرب أمراً ... و عاد إلى تجربته مرة أخرى
غيره:
وإذا أتتك مصيبةٌ فاصبر فقد ... عظمت مصيبة مبتلى لا يصبرُ
غيره:
وإذا بغى باغٍ عليك بجهله ... فاقتله بالمعروف لا بالمنكر!
غيره:
وإذا ظلمت ولي بكم متعلقٌ ... فعلى علاكم لا علي العارُ
غيره:
وإذا عتبت على الصديق شكوته ... سراً إليه وفي المحافل أشكرُ
غيره:
وإذا لم يكن من الذل بدٌ ... فالق بالذل إن لقيت الكبارا!
غيره:
وأفرح كلما يزداد مالٌ ... و لا أبكي على نقصان عمرِ!
غيره:
والمعروف من يأته يحمد عواقبه: ما ضل عرفٌ وإن أوليته حجرا!
غيره:
والعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره
غيره:
والنجم تستصغر الأبصار صورته ... و الذنب للعين لا للنجم في الصغر
غيره:
ورُبَّ جوادٍ امسك الله دوده ... كما يمسك الله السحاب من القطر
غيره:
وقى الله مولانا جميع المكاره ... و لا دار صرف الدهر يوماً بداره
غيره:
وقد زعمت ليلى بأني فاجرٌ ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها!
غيره:
وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ... و ينجو بأمن الله من حيث يحذرُ
غيره:
وكل من أعيتك أخلاقه ... دواؤه الصبر أو الهجرُ
غيره:
وكل أذى فمصبورٌ عليه ... وليس على قرين السوء صبرُ!
غيره:
وكم من أكلة منعت أخاها ... بلذة ساعة أكلات دهر!
غيره:
وكم من طالبٍ يسعى لرزقٍ ... و فيه هلاكه لو كان يدري
غيره:
وكنت أمشي على ثنتين معتدلاً ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر
غيره:
وكيف يذهب عن سمعي وعن بصري ... من كان مثل سواد القلب والبصر؟
غيره:
ولازم الصمت إن سئلت وقل: ... لا علم عندي بالجهل مستترا
غيره:
ولست أخاف الفقر ما عشت في غدٍ ... لكل غدٍ رزق من الله باكر
غيره:
ولم أر بعد الدين خيراً من الغنى ... و لم ار بعد الكفر شراً من الفقر
غيره:
وما الزين في لبس الثياب وإنما ... يزين الفتى مخبره حين يخبر
غيره:
وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها ... بباقية إلاّ سيعقبها يسرُ
غيره:
وما كنت أرضى أن أعيش ببلدة ... و تنأى ولكن لا يغالب مقدار
غيره:
وما من نعمة شملت كريماً ... كنعمة عورةٍ سترت بقيرِ
غيره:
ومن كان ذا عذرٍ قبلت أعذاره ... و إن لم يكن عذرٌ فعندي له عذرُ
غيره:
ومن يكن الغراب له دليلا ... فما غير الغراب له مصير
غيره:
ونعلم أنَّ المال غادٍ ورائح ... و خير من المال الأحاديث والذكر
غيره:
وهون عندي ما ألاقي من الأذى ... بأنك أنت المبتلى والمقدر!
غيره:
ويخبرني عن غائب الأمر هديه ... كفى الهدي عما غيب المرء مخبر!
غيره:
ويعرف فضل عقول الرجال ... بتدريبها وبآثارها
غيره:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إنَّ تقويم الضلوع انكسارها
غيره:
هي المقادير فلمني أو فزد ... إنَّ كنت أخطأت فما أخطأ القدر
غيره:
لا تعاشر إلاّ الأكابر واعلم ... أنَّ في عشرة الصغار صغارا
غيره:
يا ليل طل يا شوق دم: ... إني على الحالين صابر!
غيره:
يفر من المنية كل حينٍ ... و ما يغنى عن الموت الفرار!
غيره:
يلقى الحسود تجلدي فيسوءه ... إني على ريب الحوادث أصبر
غيره:
يمينك منها اليمن واليسر في اليسرى ... فبشرى لمن يرجو الندى منهما بشرى!
غيره:

ينال الفتى ما لم يؤمل وربما ... أتاحت له الأيام ما لم يحاذر
غيره:
ينسى صنائعه وعده ... و يبيت في إنجازه يتفكر
وقال أبو الأسود:
وإنَّ أحق الناس إنَّ كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والوجه وافر
و تقدم تمام هذا الشعر وسببه.
ومثله قول الآخر:
وفتى خلا من ماله ... و من المروءة غير خالِ
أعطاك قبل سؤاله ... كفاك مكروه السؤال
و قول أبي تمام:
وما أبالي وخير القول أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي!
و قول أبي نواس:
إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار: ... فقد ضاق الزمان على الصغار!
يضربه الواعظ السادة الصوفية عندما يدبر الشباب ويقبل المشيب، ويكاد يذوي الغصن الرطيب، في الإكثار من القربات، والجد في العمل، وتلافي الخير قبل فوات الأجل، وكذا ما يشبه من كل ما يطلب اغتنام الفرصة فيه قبل فواته.
وقال أيضاً:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... و لا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى: ... فلا خير في اللذات من دونها ستر!
و إنّما قال: وقل لي هي الخمر، لأنه إذا سمعها عندما نظر إليها التذ مسمعه باسمها، ومنظره بشخصها، وأشرابت نفسه إليها، فتلقتها بأعظم لذة.
وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من قصيدة:
لا شيء ضائر عاشق، فإذا نأى ... عنه الحبيب فكل شيء ضائره
و منها:
أبكر فقد بكرت عليك بمدحه ... غرر القصائد: خير أمرٍ باكره
و منها:
وإذا الفتى المامول انجح عقله ... في نفسه ونداه أنجح شاعره
وقال أيضاً:
عفت آياتهن وأي ربعٍ ... يكون له على الزمن الخيار
و منها:
كذاك لكل سائلةٍ قرار
و بعده:
مضى الأملاك وانقرضوا وأضحت ... سراة ملوكنا وهم تجار
وقوف في الظلام الذم تحمى ... دراهمهم ولا يحمي الذمار
فلو ذهبت سنات الدهر عنه وألقي عن مناكبه الدثار
لعدل قسمة الأيام فينا ... و لكن دهرنا هذا حمار!
و منها:
و أي النار ليس له شرار؟
ومنها:
وكان المطل في بدءٍ وعودٍ ... دخلنا للصنيعة وهي نار
نسيب البخل مذ كان وإلاّ ... يكن نسب فبينهما جوار
لذلك قيل بعض المنع أدنى ... إلى مجدٍ وبعض الجود عار
وقال أيضاً:
شر الأوائل والأواخر ذمة ... لم تصطنع وصنيعة لم تشكر
وقال أيضاً:
إنَّ الكرام كثير في البلاد وإنَّ ... قلوا كما غيرهم قلو وإنَّ كثروا
لا يدهمنك من دهمائهم عدد ... فإنَّ جلهم أو كلهم بقر
وكلما أمست الأخطار بينهم ... هلكى تبين من أمسى له خطر
لو لم تصادف شيات البهم أكثر ما ... في الخيال لم تحمد الأوضاح والغرر
و منها:
بالشعر طول إذا أصطكت مصادره ... في معشر وبه قصر
وقال أيضاً:
والبخل حلو ولكن غبه مضر ... فاكظم فلا إلاّ وزنبرو!
وقال أيضاً يرثي بن حميد:
فاثبت في مستنقع الموت رجله ... وقال لها: من تحتك أخمص الحشر
غدا غدوة والحمد نسج ردائه ... فلم ينصرف إلاّ وأكفانه الأجر
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى ... لها الليل إلاّ وهي من سندس خضر!
وقال أيضاً من أخرى:
سيأكلنا الدهر الذي غال من مضى ... و لا تنقضي الأشياء أو يوكل الدهر
وأكثر حالات أبن آدم خلفة ... يضل إذا فكرت في كنهها الفكر
فيفرح بالشيء المعار بقاؤه ... و يحزن لمّا صار وهو له ذخر
عليك بثوب الصبر إذ فيه ملبس ... فإنَّ ابنك المحمود بعد ابنك الصبر
وما أوحش الرحمان ساحة عبده ... إذا عاشر الجلى ومؤنسه الأجر!
وقال أيضاً:
إنّما البشر روضة فإذا كان ... ببذل فروضة وغدير
فاقسم اللحظ بيننا إنَّ في اللحظ ... لعنوان ما يجن الضمير!
وقال أيضاً:
فلا تمكن المطل من ذمة الندى ... فبئس أخو الأيدي الغزار وجارها
فإنَّ الأيادي الصالحات كبارها ... إذا وقعت تحت المطال صغارها

وما نفع من قد مات بالأمس صاديا ... إذا ما سماء اليوم طال انهمارها
وما العرف بالتسويف إلاّ كنخلة ... تسليت عنها حين شط قرارها
وخير عادات الحر مختصراتها ... كما إنَّ خيرات الليالي قصارها
وقال أيضاً:
وما القفر بالبيد الخواء بل التي ... نأت بي وفيها ساكنوها هي القفر
ومن قامر الأيام على ثمراتها ... فأحجم بها أن تنجلي ولها القمر
فإن كان ذنبي أن أحسن مطلبي ... أساء ففي سوء القضاء لي العذر
و منها:
هل المجد إلاّ الجود والبأس والشعر
وقال أبو الطيب:
وما في سطوة الأرباب عيبٌ ... و لا في ذلة العبدان عار
وقال أيضاً:
إني لأعلم واللبيب خبير ... أنَّ الحياة وإن حرصت غرورُ
ورأيت كلاً ما يعلل نفسه ... بتعلة وإلى الفناء يصير
و منها:
إنَّ المحب على البعاد يزور
وبعده:
وقنعت باللقيا وأوّل نظرةٍ ... إنَّ القليل من الحبيب كثيرُ
وقال أيضاً:
فلو كنت امرءاً تهجى هجونا ... و لكن ضاق فترٌ عن مسيرِ
الفتر بالكسر: ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة إذا فتحتها. وضربه مثلا.
وقال أيضاً:
ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... مفترق جاران دارهما عمرُ
ولا تحسبن المجد زقاً وقينةً ... فما المجد إلاّ السيف والفتكة البكرُ
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجرُ
وتركك في الدنيا دوياً كأنما ... تداول سمع المرء أنمله العشرُ
إذا الفضل لم يرفعك عن شكر ناقصٍ ... بلاهبةٍ فالفضل فيمن له الشكرُ
ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقرٍ فالذي فعل الفقرُ
و منها:
وإني مثل قول الحكيم: أعظم ما على الإنسان إعظام ذوي الدناءة. ونحو البيت الأول قول الحكيم: من قصر عن أخذ لذاته عدمها وعدم صحة جسمه. ونحو السادس قول الحكيم: من أفنى مدته في جمع المال خوف العدم فقد اسلم نفسه إلى العدم.
ونظم أبن شرف معنى البيت الأخير فقال:
ومنفق العمر في الأموال يجمعها ... مستعجل فقره لوما وتسفيلا
غيره:
ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى
وقال فيه أبن شرف:
وكل من ليس يدري كنه قيمته ... فالناس فيه يحقون الأقاويلا
غيره:
طوى الدهر ما بيني وبين محمدٍ ... و ليس لمّا تطوي المنية ناشر
وقال أبن شرف:
قد يوصل الشيء مقطوعا وما قطعت ... يد المنون فلن تلقاه موصولا
غيره:
من عاش أخلقت الأيام جدته ... و خانه ثقاته: السمع والبصر
وقال أبن شرف:
ومثال يطل عمره يفقد أحبته ... حتى الجوارح والصبر الذي عيلا
غيره:
عليَّ نحت المعاني من معادنها ... و ما عليَّ إذا لم تفهم البقر!
و ينشد:
عليَّ نحت القوافي من مقاطعها ... و ما عليَّ لهم أن تفهم البقرُ!
وقال أبن شرف:
وناطقٍ بصوابٍ ما عليه سوى ... ما قال إن أخطئوا ظناً وتأويلا

لطيفة:
ذكر العلامة محمد بن مرزوق في صدر شرح الجمل أنَّ العلامة أبا القاسم الشيرازي شارح لبن الحاجب الأصلي والعلامة الكاتبي شارح المحصل أرادا ذات مرة أن يحضرا مجلس أبي عبد الله الخنوجي بحيث يخفي مكانهما. فغيرا حالتهما وحضرا عنده وأرادا أبحاثا. فكان من ملح ما صار بينهما أنهما لم ينصفاه في بعض أبحاثه وادعيا عدم بيان قوله وجعلا يستعيدان كلامه بزعمهما. فأنشد لهما:
عليَّ نحت المعاني من معادنها ... و ما عليَّ إذا لم تفهم البقرُ!
بفتح تاء " تفهم " مبنيا للفاعل. فقلا له: ضم التاء! يعني ليبني للمفعول.
فقال: حينئذ يكون أحدكما شيرازيا والآخر كاتبيا! فقلا: نعم! فتناصفا.
وقال أبو العلاء المعري في قصيدة:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... و العذب يهجر للإفراط في الخصر

و هذا المعنى وقع لعلي بن جبلة قال: زرت أبا دلف في الجبل. فلما حللت الكرخ أظهر من بري وإكرامي أمرا مفرطا حتى تأخرت عنه تأخرا كثيرا. فوصل معقل بن عيسى فقال: يقول لك الأمير: انقطعت عني وأحسبك استقللت بري فلا يغضبنك ذلك فسأزيد فيه حتى ترضى! فقلت: والله ما قطعي عنه إلاّ إفراطه! وكتبت له:
هجرتك لو أهجرك من كفر نعمةٍ ... و هل يرجى نيلي الزيادة في الكفرِ!
ولكنني لمّا أتيتك زائراً ... فأفرطت في بري عجزت عن الشكرِ
فما لآن لا أتيك إلاّ مسلما ... أزورك في الشهرين يوما أو الشهرِ
فإن زدتني برا تزيدني جفوة ... و لم تلقني طول الحياة إلى الحشرِ
فلما وصلت إليه قال: قاتله الله ما أشعره وأدق معانيه! فأجابني لوقته وكان حسن البديهة:
ألا رُبَّ ضيفٍ طارقٍ بسطته ... و أنسته قبل الضيافة بالبشرِ
أتاني يرجيني فما حال دونه ... و دون القرى والعرف من نيله ستري
وجدت له فضلاً عليَّ بقصده ... إليَّ وبراً زاد فيه على برِ
فزودته مالاً يقل بقاؤه ... و زودني مدحاً يدوم مدى الدهرِ
و بعث إليَّ بها وبألف دينار مع وصيفة فقلت حينئذ:
إنما الدنيا أبو دلفٍ ... بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلفٍ ... ولت الدنيا على أثره
ملكٌ تندى أنامله ... كانبلاج النوء عن مطره
مستهل عن مواهبه ... كابتسام الروض عن زهره
جبلٌ عزت مناكبه ... أمنت عدنان في ثغره
كل من في الأرض من عربٍ ... بين باديه ومحتضره
مستعيرٌ منه مكرمةً ... يكتسبها مفتخره
و يقال إنَّ البيت الثاني هو الذي أحفظ المأمون على أبن جبلة حتى سل لسانه من قفاه وقوله: وجدت له فضلا عليَّ . . " البيت " . أوّل من رأينا استعمل هذا المعنى في الشعر الحارث أبن عوف المري صاحب الحملات بين عبس وذبيان حيث يقول:
كم من يدٍ لا أودي حق نعمتها ... عندي لمختبطٍ طار ومن منن
إذا جاء يسعى إلى رحلي لأسعفه ... أليس قد ظن بي خيراً ولم يرني؟
و قوله: فزودته مالاً يقل بقائه . . " البيت " هو معنى ما حكي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّه قال لإحدى بنات هرم بن سنان المري: ما أعطى أبوك زهيرا إذا امتدحه؟ فقالت: أعطاه مالا وأثاثا أفناه الدهر. فقال أمير المؤمنين: لكن ما أعطاكم زهير لا يفنيه الدهر أو كلاما نحو هذا. وتقدم شيء منه وسيأتي.
ومنها:
حسنت نظم كلامٍ توصفين به ... و منزلا بك معمورا من الخفر
فالحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشَّعر
و منها:
والخل كالماء يبدى لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدرِ
و منها:
فلا يغرنك بشرٌ من سواه بدا ... و إن أنار فكم نورٍ بلا ثمر
و منها:
وافقتهم في اختلاف من زمانكم ... و البدر في الوهن مثل البدر في السحر
المرقدون بنجدٍ نار بالديةٍ ... لا يحضرون وفقد العز في الحضر
و منها:
فالعين يسلم منها ما رأت فنبت ... عنه وتلحق ما تهوى من الصور
و منها:
هاجت نميرٌ فهاجت منكم ذا لبد ... و الليث أفتك أفعالا من النمرِ
هموا فأموا فلما شارفوا وقفوا ... كوقفة العير بين الورد والصدر
و منها:
والنجم تستصغر الأبصار صورته ... و الذنب للطرف لا للنجم في الصغر
و منها:
والمرء ما لم تفد نفعا إقامته ... غيمٌ حمى الشمس لم يمطر ولم يسر
و منها:
والكبر والحمد ضدان اتفاقهما ... مثل اتفاق فتاء السن والكبر
يجني تزايد هذا من تناقص ذا ... و الليل إن طال غال اليوم بالقصر
خف الورى وأقرتكم حلومكم ... و الجمر تعدم فيه خفة الشرر
وقال أيضاً:
جمال المجد أن يثنى عليه ... و لولا الشمس ما عرف النهار
وللماء فضيلة كل حينٍ ... و لا سيما إذا اشتد الأوار
و منها:
وليس يزيد في جري المذاكي ... ركابٌ فوقه ذهبٌ ممارُ
ورُبَّ مطوقٍ بالتبر يكبو ... بفارسه وللنقع اعتكارُ
وزندٍ عاطلٍ يحظى بمدحٍ ... و يحرمه الذي فيه سوارُ
وقال إبراهيم بن نصر القاضي:

جود الكريم إذا ما كان عن عدةٍ ... و قد تأخر من لم يسلم عن الكدر
إنَّ السحائب لا تجدي بوارقها ... نفعا إذا هي لم تمطر على الأثر
وماطل الموعد مذمومٌو إن سمحت ... يداه من بعد طول المظل بالبدر
يا دوحة الجود لا عتب على رجلٍ ... يهزها وهو محتاج إلى الثمر!
وقال إبراهيم الصولي:
دنت باناسٍ عن تناء زيارةٌ ... و شط بليلى عن دنو مزارها
وإنَّ مقيمات بمنعرج اللوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها
وقال أبن دارج القسطلي من قصيدة:
ألم تعلمي أنَّ الثواء هو النوى ... و أنَّ بيوت العاجزين قبور
وقال أبو نواس في الخصيب يمدحه في قصيدة:
فما فاته جودٌ ولا حلَّ دونه ... و لكن يصير الجود حيث يصيرُ
وإني جديرٌ إذ بلغتك بالمنى ... و أنت بما أملتُ منك جديرُ
فإن تواني منك الجميل فأهله ... و إلا فإني عادرٌ وشكورُ
وقال الصاحب إسماعيل بن عباد:
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابهتا فتشاكل الأمرُ
فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ ... و كأنما قدحٌ ولا خمرُ
وقال أبو الفضل بن الحنزابة:
من أحمل النفس أحياها وروحها ... و لم يبت طاوياً منها على ضجرِ
إنَّ الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العلي من الشجرِ
وقال أبو نواس:
تكثر ما استطعت من الخطايا ... فانك بالغٌ رباً غفورا
ستبصر إن وردت عليه عفوا ... و تلقى سيداً ملكاً كبيرا
تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار السرورا!
وقال الطغراني لمّا ولد له مولود بعدما بلغ سبعا وخمسين من عمره:
هذا الصغير الذي وافى على كبر ... أقر عيني ولكن زاد في فكري
سبعٌ وخمسون لو مرت على حجرٍ ... لبان تأثيرها في صفحة الحجرِ
وقال عروة بن اذينة:
قالت وأبثتها سري فبحت به ... قد كنت عندي تحت الستر فاستتر!
ألست تبصر من حولي؟ فقالت لها: ... غطي هواك وما ألقى على بصري!
و هذا مثل مشهور عند الصوفية وأهل المحبة والمشاهدة والفناء رضي الله عنهم.
يحكى أنَّ السيدة سكينة بنت الحسين رضي الله عنها وعن أسلافها مرت يوما بعروة هذا وكان من أعيان العلماء وكبار الصالحين فقالت له: أنت القائل: قالت وأبثتها سري . . " البيت " ؟ فقال: نعم! فالتفتت إلى جوار لها كن معها فقالت: هنَّ هن حرائر إن كان خرج هذا عن قلب سليم قط! ومن ملح ما جرى بينها وبينه أيضاً إنّه مات لعروة أخ يقال له بكر فرثاه عروة بقوله:
سرى همي وهو المرء يسري ... و غاب النجم إلاّ قيد فترِ
أرقب في المجرة لك نجمٍ ... تعرص أو على المجرات يجري
لهم ما أراك له قريباً ... كأن القلب أبطن حر جمرِ
على بكر أخي فارقت بكراً ... و أي العيش يصلح بعد بكر؟
فلما سمعت سكينة هذا الشعر قالت: ومن بكر هذا؟ فوصف لها. قالت: أهو ذلك الأسيد الذي كان يمر بنا؟ قالوا: نعم! قالت: لقد طاب بعده كل شيء حتى الخبز والزيت! والأسيد تصغير أسد.
ويحكى أنَّ بعض المغنين غنى بهذا الشعر عند الوليد بن يزيد بن عبد الله الملك الأموي في مجلس أنسه فقال: من يقول هذا؟ قيل: عروة بن أذينة. فقال: وأي عيش بعد بكر هذا العيش الذي نحن فيه؟ واله لقد حجز واسعاً.
وقال عبد الله بن المعتز:
فكان ما كان مما لست اذكره ... فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر!
و هذا مثل مشهور. وقبله قوله:
سقى المطيرة ذات الظل والشجر ... و دير عبدون هطال من مطر
فطالما نبهتني للصبوح بها ... في غرة الفجر والعصفور لم يطر
أصوات رهبان دير في صلاتهم ... سود المدامع نعارون بالسحر
مزنرين على الأوساط قد جعلوا ... على الرؤوس أكاليلاً من الشعر
كم فيهم من مليح الوجه مكتحل ... بالسحر يكسر جفنيه على حور
لاحظته بالهوى حتى استعاد له ... طوعاً وأسلمني الميعاد بالنظر
وجاءني في قميص الليل مستتراً ... يستعجل الخطو من خوفٍ ومن حذر
فقمت أفرش خدي في الطريق له ... ذلاً وأسحب أذيالي على الأثر
ولاح ضوء هلالٍ كاد يفضحها ... مثل القلامة قد قصت من الظفر

فكان ما كان . . " البيت " وقال عبد الله بن طاهر:
اغتفر زلتي لتحرز فضل ... الشكر مني ولا يفوتك أحري
لا تكلني إلى التوسل بالعذر ... لعلي ألا أقوم بعذرِ!
وقال أبو نواس في مدح أهل البيت:
مطهرون نقياتٌ جيوبهم ... تجري الصلاة عليهم إنما ذكروا
من لم يكن علويا حين تنسبه ... فما له في قديم الدهر مفتخرُ
الله لمّا برا خلقاً فأتفنهم ... صفاكم واصطفاكم أيها البشرُ
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم ... علم الكتاب وما جاء به السورُ
وقال القاضي الجرجاني:
وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى! ... و ما علموا أنَّ الخضوع هو الفقرُ
وبيني وبين المال شيئان حرما ... عليَّ الغنى: نفسي الأبية والدهرُ
وإن قيل هذا أليس أبصرت دونه ... مواقف خيرٌ من وقفي بها العسرُ
وقال الفضل بن الربيع:
عسى وعسى يثني الزمان عنانه ... بتصريف حالٍ والزمان عثورُ
فتقضي لباناتٌ وتشفى حسائفٌ ... و تحدث من بعد الأمور أمرُ!
وقال الأمير قابوس:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا: ... هل حارب الدهر إلاّ من له خطرُ؟
أما ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ ... و تستقر بأقصى قعره الدررُ؟
فإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... و نالنا من تمادي بؤسه ضررُ
ففي السماء بجوم مالها عددٌ ... و ليس يكسف إلاّ الشمس والقمرُ
و حدثني بعض الأصحاب أنَّ ملك مراكش كتب إلى المعتمد بن عباد حين اعتقله بمدينة أغمات بقول الآخر:
حسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدرُ
وساعدتك الليالي فاغتررت بها ... و عند صفو الليالي يحدث الكدرُ
فأجابه المعتمد من سجنه:
من ذا الذي بصروف الدهر عيرنا؟ ... لا ينكر الدهر إلاّ من له القدرُ
وفي البساتين أفانٌ منوعةٌ ... و ليس يقطف إلاّ الورد والزهرُ
وفي السماء نجومٌ مالها عددٌ ... و ليس يخسف إلاّ الشمس والقمرُ
و الله أعلم بالمخترع! وقال الآخر وينسب لعثمان رضي الله عنه:
غنى النفس يغني النفس حتى يكفها ... و إن عضها حتى يضر بها الفقرُ
وما عسرةٌ فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنةٍ إلاّ ويتبعها اليسرُ
وقال أيضاً:
تفنى اللذات ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعرُ
تبقى عواقب سوءٍ من معقبها ... لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ
وقال أبن رفاعة وكان عبد الملك بن مروان لمّا قتل المصعب بن الزبير ودخل الكوفة فصعد المنبر وقال: أيها الناس إنَّ الحرب صعبة وإنَّ السلم أمن ومسرة: فاستقيموا على سبيل الهدى ودعوا الأهواء الموجبة للردى وتجنبوا فراق جماعة المسلمين ولا تكلفونا أفعال المهاجرين الأولين وأنتم لم تعملوا عملهم ولم تسلكوا سبيلهم ولا اظنكو تزدادون بعد الموعظة إلاّ صعوبة ولن تزداد وابعد الأعذار إليكم إلاّ عقوبة. فمن عاد عدنا وإن زاد زدنا وإنَّا معكم كما قال أبو قيس بن رفاعة:
من يصل ناري بلا ذنبٍ ولا ترةٍ ... يصل بنار كريمٍ غير غدارِ
أنا النذير لكم مني مجاهرة ... كي لا ألام على نهيٍ وإنذارِ
فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفوا ... أن سوف تلقون خزياً ظاهر العارِ
لا ترجعن أحاديثاً ملفقةً ... لهو المقيم ولهو المدلج الساري
من كان في نفسها حوجاء يطلبها ... عندي فإني له رهنٌ بإضمارِ
أقيم عوجته إن كان ذا عوجٍ ... كما يقوم قدح النبعة الباري
وصاحب الوتر ليس الدهر يدركه ... عندي وإني لدراكٌ بأوتارِ
وقال الآخر:
رأيتك إن أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أعجبتك المناظرُ
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
و هذا مثل مشهور.
وعن الأصمعي قال: كنت في بعض مياه العرب فسمعت الناس يقولون: جاءت! جاءت! فنظر فإذا جارية وردت الماء ما رأى الراؤون مثلها. فلما رأت إلحاح الناس بالنظر إليها أرسلت برقعا كأنه غمامة غطت شمسا. فقالت لها: تمنعين الناس من النظر إلى هذا الوجه الحسن؟ فقالت: رايتك إن أرسلت طرفك . . " البيتين "

فنظر إليها أعرابي فقال: أنا والله ممن ولى صبره! ثم أنشد:
أ وحشية العينين أين لك الأهل؟ ... أب الحزن حلوا أم محلهم السهلُ؟
وأية أرض أخرجتك فإنني ... أراك من الفردوس أنسأك الأصلُ
أم البدر أنشأك المنير فإن يكن ... لبدر الدجى نسلٌ فأنت له نسلُ
حسنت فأما الوجه منك فمشرقٌ ... و عينان كحلاوان زينهما كحلُ
قفي خبرينا ما طعمت وما الذي ... شربت ومن أين استقل بك الرحلُ
فإنَّ علامات الجنان مبنيةٌ ... عليك وإنَّ الشك يشبهه الشكلُ
وقال:
فإنا ومن يهدي القصائد نحونا ... كمستبضعٍ تمرا إلى أرض خيبرا
وقال يحيى بن طالب الحنفي:
تعزيت عنها كارها فتركتها ... و كان فريقها أمرَّ من الصبرِ
و كان يحيى هذا سخيا جوادا. ثم إنّه ركبه دين فادح فجلا عن اليمامة إلى بغداد يسأل السلطان في قضاء دينه. فأراد رجل من أهل اليمامة الشخوص إليها من بغداد فشيعه يحيى. فلما جلس الرجل في الزورق ذرفت عينا يحيى فأنشأ يقول:
أحقاً عباد الله أن لست ناظراً ... إلى قرقرا يوماً وأعلامها الخضر؟
إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقةٌ ... دعاك الهوى واهتاج قلبك للذكرِ
أقول لموسى والدموع كأنها ... جداول ماء في مساربها تجري:
ألا هل لشيخٍ وأبن ستين حجةً ... بكى طرباً نحو اليمامة من عذر؟
كأن فؤادي كلما مر راكبٌ ... جناح غرابٍ رام نهضاً إلى وكرِ
يزهدني في كل خيرٍ صنعته ... إلى الناس ما جربت من قلة الشكرِ
فيا حزناً ماذا أجن من الهوى ... و من مضمر الشوق الدخيل إلى حجر؟
تعزيت عنها كارها . . " البيت " وحجر بالفتح قصبة اليمامة.
ثم إنَّ الرشيد غني بشعر ليحيى هذا وهو:
أيا أثلات القاع من بطن توضحٍ ... حنيني إلى أطلالكن ويلُ
ويا أثلات القاع قد مل صحبتي ... مسيري فهل في ظلكن مقيلُ؟
ويا أثلات القاع قلبي موكلٌ ... بكن وجدوى نيلكن قليلُ
ألا هل إلى شم الخزامى ونظرةٍ ... إلى قرقرا قبل الممات سبيلُ؟
فأشرب من ماء الحجيلاء شربةً ... يداوي بها قبل الممات عليلُ
أحدث عنك النفس أن لست راجعاً ... إليك فحزني في الفؤادي دخيلُ
أريد هبوطا نحوكم فيردني ... إذا رمته دينٌ عليَّ ثقيلُ
فقال الرشيد: يقضى دينه! فلتمس فإذا هو مات قبل ذلك بشهر.
وقالت جارية تخاطب نفسها:
إذا لم يكن للأمر عند حيلةٌ ... ولم يجدي بداً من الصبر فاصبري!
و كانت هذه الجارية لرجل من قيس عيلان فكان بها كلفا. ثم أصابته حاجة وجهد فقالت له: لو بعتني فلو نلت طائلا عدت به عليك! فأخرجها للبيع وعرضت على أبن معمر المذحجي فأعجبته فاشتراها بمائة ألف درهم. فلما مضت لتدخل القصر ودعت مولاها وأنشدته:
هنيئاً لك المال الذي قد أصبته ... و لم يبق في كفي إلاّ تفكري
أقول لنفسي وهي في كرب عيشةٍ ... أقلي فقد بان الحبيب أو اكثري!
إذا لم يكن للأمر عندك . . " البيت " فأجابها مولاها:
فلولا نبو الدهر عني لم يكن ... لفرقتنا شيء سوى الموت فاعذري
أؤوب بحزن من فراقك موجع ... أناجي به قلباً طويل التفكرِ؟
عليك سلامٌ لا زيارة بيننا ... و لا وصل إلاّ أن يشاء أبن معمرِ
فقال له: خذ بيدها فهي لك وثمنها! وقال الخليل بن أحمد:
إن منت لست معي فالذكر منك معي ... يرعاك قلبي وإن غيبت عن بصري
العين تفقد من تهوى وتبصره ... و ناظر القرب لا يخلو من النظر
و هو مثل مشهور للصوفية:
أما والذي لو شاء لم يخلف الهوى ... لئن غبت عن عيني لمّا غبت عن قلبي
يوهمنيك الشوق حتى كأنما ... أناجيك من قربٍ وإن لم يكن قربي
وقال الآخر:
أبلغ أخانا تولى الله صحبته ... أني وإن كنت لا ألقاه ألقاه
وإنَّ قلبي موصولٌ برؤيته ... و إن تباعد عن مثواي مثواه
وقال الآخر:
إذا اشتاقت العينان منك بنظرةٍ ... تمثلت لي في القلب من كل جانبِ

و حكي عن الإمام الشبلي رضي الله عنه أنه رأى يوما مجنونا والصبيان خلفة يرمونه بالحجارة وقد أدموا وجهه وشجوا رأسه. فأخذ الشبلي يزجرهم عنه فقالوا له: يا شيخ دعنا نقتله فإنه كافر! فقال لهم: وما الذي بان لكم من كفره؟ فقالوا: يزعم أنه يرى ربه ويحادثه. فقال: أمسكوا عليَّ قليلا! فتقدم الشبلي فوجده يتحدث ويضحك ويقول في أثناء ذلك: هذا جميل منك تسلط عليَّ الصبيان ليشغلوني عنك! فقال: يا شبلي وما الذي قالوا؟ قال: تقول إنك ترى ربك وتحدثه. فصاح صيحة عظيمة ثم قال: يا شبلي نعم وحق من تيمني بحبه وهيمني بين بعده وقربه! لو احتجب عني طرفة عين لتقطعت من البين. ثم ولى وهو يقول:
لئن غبت عن عيني وشط بك النوى ... فأنت بقلبي حاضرٌ وقريبُ
أراك بعين الوهم في مضمر الحشا ... و ليس على عين الفؤاد رقيبُ
خيالك في وهمي وذكرك في فمي ... و مثواك في قلبي فأين تغيبُ؟
وقال سويد بن الصامت:
ألا ربما تدعوا صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري
لسانٌ له كالشهد ما دمت حاضراً ... و بالغيب مطرورٌ على ثغرة النحر
قوله " مطرور " أي محدود تقول: طررت السكين. والثغرة بضم المثلثة وسكون الغين المعجمة نقرة النحر بين الترقوتين.
غيره:
كم من أخً لك لست نكره ... ما دمت من دنياك في سترِ
متصنعٍ لك في مودته ... يلقاك بالترحيب والبشرِ
يطري الوفاء وذا الوفاء ويلحي ... الغدر مجتهداً وذا الغدرِ
فإذا عدا والدهر ذو غيرٍ ... دهر عليك عدا مع الدهرِ
فارفض بإجمال مودة من ... يقلي المقل ويعشق المثري
وعليك من حاله واحدٌ ... في العسر إما كنت واليسرِ
لا تخلطنهم بغيرهم ... من يخلط العقبان بالصقرِ
غيره:
اخط مع الهر إذا ما خطا ... و اجر مع الهر كما يجري
من سابق الدهر كبا كبوة ... لم يستقلها آخر الهرِ
ليس لما ليست له حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصبرِ
و يروى:
حيلةٌ ما ليست حيلةٌ ... حسن عزاء النفس والصبرِ
وقال المخزومي:
العيب في الجاهل المغمور مغمور ... و عيب ذي الشرف المذكور مذكور
كفوفةِ الظفر تخفي من حقارتها ... و مثلها في سواد العين مشهور
و نحوه قول إبراهيم بن المهدي:
لولا الحياء وأنني مشهور ... و العيب بالرجل الكبير كبير
لحللت منزله الذي يحتله ... و لكان منزلنا هو المهجورُ
وقال أبو سليمان الخطابي:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السرورُ
وأدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزورُ
ولست بسائل ما دمت حياً ... أسار الجيش أم ركب الأميرُ
غيره:
لصيد اللخم في البحر ... و صيد الأسد في البرِ
وقضم الثلج في القر ... و نقل الصخر في الحرِ
وإقدام على الموت ... و تحويل إلى القبرِ
لأشهى في طلاب العز ... ممن عاش في الفقرِ
اللخم بالخاء المعجمة حيوان بحري يصعب المنال.
غيره:
خاطر بنفسك لا تقعد بمعجزة ... فليس حرٌ على عجزٍ بمعذورِ
إن لم تنل في مقام ما تحاوله ... فأبل عذراً بإدلاج وتهجيرِ
لن يبلغ المرء بالإحجام حاجته ... حتى يباشرها منه بتغريرِ
حتى يواصل في أنحاء مطلبها ... سهلا بحزن وأنجاداً بتغويرِ
غيره:
لعمرك ما الزية فقد مال ... و لا شاة تموت ولا بعيرُ
ولكن الرزية موت نفس ... يموت بموتها بشر كثيرُ
و نحوه قول الآخر في قيس بن عاصم المنقري رضي الله عنه:
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحد ... و لكنه بنيان قومٍ تهدما
غيره:
ومن يجعل المعروف من دون أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر
و سيأتي تتميم هذا الشعر وشرح قصته في الكاف إن شاء الله تعالى.
وقال شيخ من الأعراب نظر إلى امرأته تتصنع وهي عجوز:
عجوزٌ ترجى أن يكون فتيةً ... و قد لحب الجنبان واحد ودب الظهرُ
تدس إلى العطار سلعة بيتها ... و هل يصلح العطار ما أفسد الدهرُ؟
و زيد فيه:
وما غرني إلاّ خضابٌ بكفها ... و نجلٌ بعينيها وأثوابها الطهرُ

وجاؤوا بها قبل المحاق بليلةٍ ... فكان محاقها كله ذلك الشهرُ!
فقالت امرأته مجيبة:
ألم تر أنَّ الناب تحلب علبةً ... و يترك ثلبٌ لاضرابٌ ولا ظهرُ؟
ثم استغاثت بالنساء واستغاث بالرجال فإذا هم خلوف فاجتمع عليه النساء فضربنه.
قوله: لحب الجنبان أي قل لحمهما يقال لحب الرجل بالكسر إذا أنحله الكبر.
قوله: سلعة بيتها يريد السويق والدقيق ونحوهما والعرب تقول لكل عرض سلعة والناب: الناقة المسنة. والعلبة بالضم: القدح العظيم من الخشب أو من جلود الإبل يحلب فيه والثلب بالثاء المثلثة على مثال قرد: الجمل إذا سقطت أسنانه هرما وتناثر شعر ذنبه تقول : إنَّ الأنثى فيها نفع وإن أسنت بخلاف الذكر إذا أسن.
وقال بعض الأدباء:
وأتم الأشياء حسناً ونوراً ... بكر شكر زفت إلى صهر بر
ما قرآن السعدين في الحوت أبهى ... منظراً من قرآن بر وشكر!
وقال سعد بن ناشب:
تفدني فيما ترى من شراستي ... و شدة نفسي أم سعدٍ وما تدري
فقلت لها: إنَّ الكريم وإن حلا ... ليلفى على حالٍ أمر من الصبرِ
وفي اللين ضعفٌ والشراسة هيبةٌ ... و من لا يهب يحمل على مركب وعرِ
وما بي على من لأنَّ لي من فظاظةٍ ... و لكنني فظ أبي على القسرِ
أقيم صغى ذي الميل حتى أرده ... و أخطمه حتى يعود إلى القدرِ
فإن تعذليني تعذلي بي مرزءاً ... كريم نثا الإعسار مشترك اليسرِ
إذا هم ألقى بين عينيه همه ... و صمم تصميم الريجي ذي الأثرِ
قوله: كريم نثا الإعسار بتقديم النون: ذكر الرجل بجميل أو قبيح فهو مشترك. يقول إنه يثني عليه في الإعسار بخير وكرم وعفة والأثر بفتح الهمزة وكسرها: فرند السيف وهو رونقه وماؤه.
وقال سالم بن وابصة:
أحب الفتى ينفي الفواحش سمعه ... كأنَّ به عن كل فاحشةٍ وقرا
سليم دواعي الصدر لا باسطاً آذى ... و لا مانعاً خيراً ولا ناطقاً هجرا
إذا ما أتت من صاحبٍ لك زلةٌ ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا
غني النفس ما يكفيك من سد خلةٍ ... و إن زاد شيئاً عاد ذاك الغنى فقرا
وقال كثير وكان قد دخل على عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى فقال له: أ أنت كثير؟ قال: نعم! قال: أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه! قال: يا أمير المؤمنين كل عند محله رحب الفناء شامخ البناء عالي السناء. ثم أنشأ يقول:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... و في أثوابه أسد عصورُ
ويعجبك الطرير إذا تراه ... فيخيل ظنك الرجل الطريرُ
بغاث الطير أطولها رقاباً ... و لم تطل البزاة ولا الصقورُ
خشاش الطير أكثرها فراخاً ... و أم الصقر مقلات نزورُ
ضعاف الأسد أكثرها زئيراً ... و أصرمها اللواتي لا تزيرُ
وقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعيرُ
ينوخ ثم يضرب بالهراوى ... فلا عرفٌ لديه ولا نكيرُ
يقوده الصبي بكل أرضٍ ... و ينحه على الترب الصغيرُ
فما عظم الرجال لهم بزينٍ ... و لكن زينتهم كرمٌ وخيرُ
فقال عبد الملك: لله دره ما أفصح لسانه! وأضبط جنانه! وأطول عنانه! والله إني لأظنه كما وصف نفسه! قوله: أسدٌ هصور الهصر بالصاد المهملة: الكسر والجذب. والمقلات: التي لا يعيش لها الأولاد. والنزور: القليلة الولد كما مر. والطرير من الرجال: ذو المنظر والرواء الحسن. والخير بالكسر: الكرم والشرف والأصل ونسب هذا الشعر أيضاً لغير كثير وهو في الحماسة.
وقال الزبرقان من بدر:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... و تتقي مربض المستأسد الضاري
يحكى أنَّ عمر بن أبي ربيعة بينما هو يطوف إذ بصر بامرأة في الطواف فأعجبته فكلمها فنفرت وقالت: إليك عني فإني في حرم الله وفي موضع عظيم الحرمة! فلما ألح عليها وشغلها عن الطواف ذهبت إلى بعض محارمها فقالت له: احضر معي تريني المناسك! فجاء معها فلما رآه عمر تباعد عنها فتمثلت حينئذ بهذا البيت. فبلغ المنصور خبرها فقال: وددت لو لم تبق بنت في خدرها إلاّ سمعته.
وقال الحماسي:
ومن أنتم آنا نسينا من أنتم ... و ريحكم من أي ريح الأعاصير؟

فأنتم إلى جئتم مع البقل والدبا ... فطار وهذا شخصكم غير طائرِ
الدبا بالدال المهملة وبالباء الموحدة المفتوحتين: أصغر الجرد والنمل الواحد دباة. قال الراجز:
كأنَّ خرق قرصها المعقوب ... على دباة أو على يعسوب
وقال الآخر:
يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكيرُ؟
حتى متى أنت منها مدنف ولهٌ ... لا يستبيك سواها البدن الحور؟
تأتي أمور فما تدري أعاجلها ... خيرٌ لنفسك أم ما فيه تأخيرُ
فاستقدر الله خيراً وارضينَّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسيرُ
وبينما المرء في الأحياء مغتبطٌ ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصيرُ
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... و ذو قرابة في الحي مسرور
حتى كأن لم يكن إلاّ تذكره ... و الدهر أينما حالٍ دهاريرُ
فذاك آخر عمر من أخيك إذا ... ما ضمنت شلوه اللحد الحناشيرُ
وقال الآخر:
نصبرت مغلوباً وإني لصابرٌ ... كما صبر الضمآن في البلد القفرُ
و قبله:
يا عمرو لم اصبر ولي فيك حيلةٌ ... و لكن دعاني اليأس منك إلى الصبرِ!
غيره:
وإنَّ سعيد الجد من بات ليلةً ... و اصبح لم يشوب ببعض الكبائر
فمولاك لا يهضم لديك وإنّما ... هضيمة مولى المرء جدع المناخرِ
وجارك لا يذممك الله تعالى مسبةً ... على المرء في الأدنين ذم المجاورِ
فإن قلت فاعلم ما تقول فإنه ... إلى سامع ممن تعادي وآثرِ
فإنك لا تستطيع رد مقالةٍ ... شأتك وزلت عن فكاهة فاغرِ
كما ليس رامٍ بعد إرسال سهمه ... على رده قبل الوقوع بقادرِ
إذا أنت عاديت الرجال فلا تزل ... على حذر لا خير في غير حاذرِ
ومن لا يصانع في أمور كثيرةٍ ... يضرس بأنيابٍ ويوطأ بحافرِ
ترى المرء مخلوقا وللعين حظها ... و ليس بإحناء الأمور بحابرِ
فذلك كماء البحر لست مسيغه ... و يعجب منه ساجياً كل ناظرِ
وتلقى الأصيل الفاضل الراي جسمه ... إذا ما مشى في القوم ليس بقاهرِ
كذلك جفن رث عن طول مكثه ... على حدّثني مفترق الغرارين باترِ
وعاش بعينيه لمّا لا يناله ... كساع برجليه لأدراك طائرِ
ومستنزل حرباع غير ثروةٍ ... كمقتحم في البحر ليس بماهرِ
وملتمس وداً لمن لا يوده ... كمعتذر يوماً إلى غير عاذرِ
ومتخذ عذراً فعاد ملالة ... كوالي اليتامى ما لهم غير وافرِ
فسارع إذا سافرت في الحمد واعلمن ... بأن ثناء الركب حظ المسافرِ
وطاوعهم فيما أرادوا وقل لهم: ... فداً للذي رمتم كلال الأباعرِ
وإن كنت ذا حظ من المال فالتمس ... به الأجر وأرفع ذكر أهل المقابرِ
فإني رأيت المال يفنى وذكره ... كظل يقيك حر الهواجرِ
وقال عروة بن المرد المعروف بعروة الصعاليك العبسي:
لحى الله صعلوكاً إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاً كل مجزرِ
ينام ثقيلاً ثم يصبح قاعداً ... يحت الحصى عن جنبه المتعفرِ
يعين نساء الحي ما يستعنه ... فيمضي طليحاً كالبعير المحسرِ
ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ... كضوء سراج القابس المتنورِ
مطلاً على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهرِ
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المنتظرِ
فذلك إن يلق المنية يلقاها ... حميداً وإن يستغن يوما فأجدرِ
وقال الشريف الرضي:
أودى وما أودت مناقبه ... و من الرجال معمر الذكرِ
غيره:
طربت إلى الأصيبية الصغار ... و هاجك منهم قرب المزارِ
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديارِ
وقال كثير:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... و من ذا الذي يا عز لا يتغيرُ؟
تغير جسمي والخليقة مثلما ... عهدت ولم يخبر بسرك مخبرُ
دخلت عزة هذه على عبد الملك بن مروان رحمه الله تعالى فقال: أنت عزة كثير؟ قالت: أنا أم بكر الضمرية. فقال لها: أتروين قول كثير: وقد زعمت . . " البيتين " ؟ فقالت: لا اروي هذا ولكني أروي قوله:

صفوحاً فما تلقاك إلاّ بخيلةً ... فمن مل منها ذلك الوصل ملتِ
و هذا البيت من تائية كثير المشهورة التي مطلعها:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلتِ!
وقال الآخر:
ما للكواعب يا عيساء قد جعلت ... تزور عني وتطوي دوني الحجرُ
قد كنت فتاح أبوابٍ مغلقةٍ ... ذب الرياد إذا ما خولس النظرُ
فقد جعلت أرى الشخصين أربعة ... والواحد اثنين مما بورك البصرُ
وكنت أمشي على رجلين معتدلاً ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر
غيره:
خبروها بأنني قد تزوجت ... فظلت تكاتم الغيظ سرا
و بعده:
ثم قالت لأختها ولأخرى ... جزعاً: ليته تزوج عشرا
وأشارت إلى نساء لديها ... لا ترى دونهن للسر سترا
ما لقلبي كأنه ليس مني ... و عظامي أخال فيهن فترا
من حديث نكى إلي فظيعٍ ... خلت في القلب من تلظيه جمرا؟
غيره:
شربنا من الرازي حتى كأننا ... ملوك لهم بر العراقين والنحرُ
فلما انجلت شمس النهار رأينا ... تولى الغنى عنا وعاودنا الفقرُ!
و مثله قول الأعرابي:
ولقد شربت الراح حتى خلتني ... لمّا خرجت أجر فضل المئزرِ
قابوس أو عمرو بن هند ما تلا ... يجبني له ما دون دارة قيصرِ
وقال لقيط بن زرارة:
شربت الخمر حتى خلت أني ... أبو قابوس أو عبد المدانِ
أمشي في بني عدس بن بدر ... رخي البال منطلق اللسانِ
غيره:
إني هزئت من أم الغمر إذ هزئت ... من شيب رأسي وما بالشيب من عارِ
ما شقوة المرء بالإقتار يقتره ... و لا سعادته يوما بإكثارِ
إنَّ الشقي الذي في النار منزله ... و الفوز فوز الذي ينجو من النارِ
أعوذ بالله من أمر يزين لي ... لوم العشيرة أو يدني من العارِ
وخير دنيا تنسي شر آخرةٍ ... و سوف ينبئني الجبار أخباري
لا أقرب البيت أحبو من مؤخره ... و لا أكسر في أبن العم أظافري
إن يحجب الله أبصاراً أراقبها ... فقد يرى الله حال المدلج الساري
قوله: لا أقرب البيت . . الخ أي لا آتي لرؤيته كقول الآخر:
ولست بصادر من بيت جارٍ ... كفعل الغير غمره الورود
يقال: تغمره الشارب إذا لم يرو فهو يلتفت وراءه وكذا المريب وتقدم هذا قوله: ولا أكسر في أبن العم أظفاري أي لا أغتابه كقول الحطيئة:
ملوا قراه وهرته كلابهم ... و جرحوه بأنيابٍ وأضراسِ
وقال جرير:
فلا تبوسوا بيني وبينكم الثرى ... فإنَّ الذي بيني وبينكم مثر
وقال عبد الحميد بن يحيى الكاتب:
أسر وفاء ثم أظهر غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره؟
و سيأتي سبب هذا الشعر في الأعيان إن شاء الله تعالى.
غيره:
إذا كنت في نجد وطيب نعمة ... تذكرت أهلي باللوى فمحسر
وإن كنت فيهم زدت شوقاً ولوزعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري
لقد طال ما بين الفريقين موقفي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري؟
غيره:
أوليتني نعيما أبوح بشكرها ... و كفيتني كل الأمور بأسها
فلأشكرنك ما حييت وإن أمت ... فلتشكرنك أعظمي في قبرها
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
إذا المشكلات تصدين لي ... كشفت حقائقها بالنظر
وإن برقت من فخيل الصواب ... عمياء لا تجتليها الفكر
مقنعةٌ بغروب الأمر ... وضعت عليها ضحيح الفقر
لساناً كشقشقة الأرحبي ... أو كالحسام اليماني الذكر
وقلباً إذا استنطقته الغيوب ... ابر عليها بود درر
ولست بإمعةٍ في الرجال ... يسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مذرن الأصغرين ... يبين مع ما مضى ما غبر
يروى إنّه سئل عن نازلة فدخل مبادرا ثم خرج في حداء ورداء وهو متبسم. فقيل له: يا أمير المؤمنين إنك كنت إذا سئلت عن المسألة تكون فيها كالسكة المحماة. قال: إني كنت حاقنا ولا رأي لحاقن! ثم أنشأ يقول: إذا المشكلات تصدين . . " الأبيات " .
وقال أبو العباس التطيلي:
والناس كالناس إلاّ أن تجربهم ... و للبصيرة حكم ليس للبصر

كالأيك مشتبهات في منابتها ... و إنما يع التفضيل بالثمر
وقال التهامي في مثله:
ومن الرجال مجاهلٌ ومعالم ... ومن النجوم غوامض ودراري
والناس مشتبهون في إرادهم ... و تفاضل الأقوام في الإصدار
ولربما اعتضد الحليم بجاهل ... لا خير في يمنى بغير يسار
وقال القاضي الجليس المصري:
ومن عجب أنَّ السيوف لديهم ... تحيض دماء والسيوف ذكور
وأعجب من ذا أنها بأكفالهم ... تؤجج ناراً والكف بجور
وقال أبن المعتز في التعزية:
لم تمت أنت مات من لم ... يبق للمجد والمكارم ذكرا
لست مستسقيا لقبرك غيثا ... كيف يسقى وقد تضمن بحرا؟
وقال الآخر:
وأصبر حتى يحسب الناس إنني ... بي الهجر لا والله ما بي لكم هجر!
ولكن أروض النفس أخبر هل لها ... على فرقة من بعد أحبابها صبر
وقال الآخر:
لا غرو أنَّ يصلى بهجركم ... ناراً تؤججها يد التذكار
قبلي إذا غبتم يصور شخصكم ... فيه وكل مصور في النار
وقال أبن الخطيب:
بلد يحف به الرياض كأنه ... وجه جميل والرياض عذاره
وكأنما واديه معصم فضة ... و من الجسور المحكمات سواره
وقال أبو الربيع:
فتح الشقاق جراحها ومغنمها ... و شي الربيع، وقتلاها من الثمر
لأجل هذا إذا هبت طلائه ... تدرع النهر واهتزت قنى الشجر
وقال القاضي الشريف:
واحور وسنان الجفون مرابط ... سبى حسنه لب الحبيب وصبره
حمى ثغره عني بسيف لحاظه ... و لا غرو أنَّ يحمي المرابط ثغره!
وقال إبراهيم أبن المهدي:
إذا كلمتني بالعيون الفواتر ... رددت عليها بالدموع البوادر
فلم يعلم الواشون ما دار بيننا ... و قد قضيت حاجتنا بالضمائر
وقال الخوارزمي:
عليك بإظهار التجلد للعدا ... و لا تظهرن منك الذبول فتحقرا!
ألست ترى الريحان يشع يانعا ... و يطرح في الميضات مهما تغيرا؟
وقال الآخر:
تواضع إذا نلت المعالي علا ... و تكتسب الشكر الجميل من الورى
فلن يشكر الغيث الربيع محله ... قرين الثريا أو يعود إلى الثرى
وقال صالح بن شرف:
الدهر لا يبقى على حالةٍ ... لكنه يقبل أو يدبر
فإنَّ تلقاك بمكروهه ... فأصبر فإنَّ الدهر لا يصبر!
وقال الرصافي:
صون الفتى وجهه أوقى لهمته ... و الرزق جارٍ على حد ومقدار
قنعت، وامتد مالي فالسماء يدي ... و بدرها درهمي والشمس ديناري
وقال أبن طباطبا العلوي:
قالت: أراك خضبت الشيب، قلت لها: ... سترته عنك يا سمعي ويا بصري
فاستضحكت ثم قالت من تعجبها: ... تكاثر الغش حتى صار في الشعر!
وقال الآخر:
إنَّ الليالي الأنام مناهل ... تطوي وتنشر بينها الأغمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... و طوالهن مع السرور قصار
وقال الآخر:
النار آخر دينار نطقت به ... و الهم آخر هذا الدرهم الجاري
والمرء بينهما ما لم يكن ورعا ... مقلب القلب بين الهم والنار
وقال عبد الله بن طاهر:
إلى كم يكون الهجر في كل ساعةٍ ... و كم لا تملين القطيعة والهجرا!
رويدك إنَّ الدهر فيه كفاية: ... بتفريق ذات البين، فانتظر الدهرا!
وقال قيس بن الذريح:
لو إنَّ امرءاً أخفى الهوى عن ضميره ... لمت ولم يشعر بذاك ضمير
ولكن سألقى الله والقلب لم يبح ... بسرك والمستخبرون كثير!
وقال أبن خفاجة:
أرى الناس يولون الغني كرامةً ... و إنَّ لم يكن أهلا لرفعة مقدار
ويولون عن وجه الفقير وجوههم ... و إنَّ كان أهلا أم يلاقى باكبار
بنو الدهر جاءتهم أحاديث جمة ... فما صححوا إلاّ حديث أبن دينار!
وقال أبن معروف:
أحذر عدوك مرة ... وأحذر صديقك ألف مرة
فلربما أنقلب الصديق ... فكان أعلم بالضمرة!
وقال البستي:
إذا حيوان كان طعمة ضده ... توقاه كالفأر الذي يحذر الهرا
ولا شك أنَّ المرء دهره ... فما باله يا ويحه يا من الدهرا؟
وقال الآخر:

إذا ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار!
لطيفة: حكي عن الجاحظ قال: عبر يوما على معلم الكتاب، فرأيت هيئة حسنة. وقام إلي وأجلسني معه، ففاتحته القرآن هو فيه ماهر. ففاتحته النحو فوجدته ماهرا، ثم في أشعار العرب واللغة كاملا في كل ما يراد منه، فقلت: قوى والله هذا عزمي الكتاب مغلقا. فسألت عنه فقيل: مات له ميت. فسرت إليه لأعزيه، فدققت الباب عليه، فخرجت جارية وقالت: ما تريد؟ فقلت: أريد مولاك. فقالت: هو جالس وحده في العزا، ما يعطي الطريق لأحد. فقلت: قولي له: صديقك فلان. فدخلت وخرجت وقالت: ادخل! فدخلت وقلت له: أعظم الله أجرك! لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وهذا سبيل لابد منه، فعليك بالصبر! ثم قلت له: هذا الميت ولدك؟ قال: لا. قلت: والدك؟ قال: لا. قلت: أخوك؟ قال: لا. قلت: فمن؟ قال: صفيتي. فقلت في نفسي: هذا أول المناحس! ثم قلت: سبحان الله! النساء كثير، وتجد أحسن منها. فقال لي وكأني رأيتها؟ فقلت: وهذه منحسة ثانية! ثم قلت: وكيف عشقت من لم تره؟ فقال: كنت في الطارمة فسمعت مفنيا يقول:
يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ... دري علي فؤادي أينما كانا!
فقلت في نفسي: لولا إنَّ أم عمرو هذا ما في الدنيا مثلها، ما قيل فيها هذا الشعر! فعلق قلبي بها.
فلما كان بعد أيام، مر بي ذلك الرجل وهو يقول:
إذا ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار!
فعلمت إنّها ماتت. فحزنت ليها وجلست للعزاء منذ ثلاثة أيام. قال الجاحظ: فعادت عزيمتي وقويت على إبقاء الدفتر بأم عمرو.
وقال النابغة الجعدي:
ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوة إنَّ يكدرا
ولا خير في رأي إذا لم تكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
يروى إنّه لمّا انشد قصيدته هذه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبلغ هذا الموضع قال له صلى الله عليه وسلم: لا يفضض الله فاك! فعاش مائة وعشرين سنة، لم تنفض له ثنية ببركة عليه الصلاة والسلام. وقال المكيالي:
إنَّ كنت تأنس بالحبيب وقربه ... فأصبر على حكم الرقيب وداره!
إنَّ الرقيب إذا صبرت لذله ... بواك في ربع الحبيب وداره
وقال التغري رحمه الله:
من لي بزوره أحمد الهادي الذي ... من زاره غفرت له أوزاره؟
وأحط رحلي في جوار محمّد ... لمقام عز لا يضام جواره
حوم عظيم عظمت حرامته ... و اختال في خلع الرضى زواره
وقال أيضاً:
يا خير خلق الله دعوة نازح ... بانت حبته وشط مزاره
وتقسمته يد النوى فبمغرب ... أوطانه وبمشرق أوطاره
وقال:
لأولي الحجي رفع الحجاب فشاهدوا ... قمر الحجاز تلألأت أنواره
واستنقشوا أرج النسيم فساقهم ... شوقا لنجد شيحه وعراره
وقال آخر يهجو قاضي بلده:
لا مثل قاضي رأيناه ببلدتنا ... في الجهل منه وفي الجور الورى حاورا
فهو من النفر الأدين منزلةٍ ... من حاكم منه وفي الجور الورى حاورا
مسذوم بذال معجمة بلد بحمص، أو هو قرية قوم لوط. وقاضي سذوم المشهور هو الذي زعموا إنّه شكا إليه رجل مر بقوم ومعه امرأته على حمار. فضربوا الحمار وقطعوا ذنبه، فتخبط وطرح المرأة فأسقطت جنينا. فقال له: ادفع إليهم امرأتك يطؤونها حتى تحل ويردونها إليك: وأعطهم الحمار يستخدمونه حتى ينبت ذنبه ويردونه إليك! فيقال إنَّ الرجل دعا عليهم، فسخف بهم ولم يبق من أهل سذوم أحد.
وقال محي الدين الاسكندراني:
ومقعد أنَّ الرئاسة في الكبر ... فأصبح ممقوتا به وهو لا يدري
يجر ذيول العجب طالب رفعة ... ألا فأعجبوا من طالب الرفع بالجر!
وقال العرجي العثماني:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر!
و يحكى إنّه كان فتى يجاور الأمام أبا حنيفة، رضي الله عنه، وكان يشرب كل ليلة، فإذا دب فيه الشراب جعل يغني. فكان أبو حنيفة يقوم من الليل ويسهر على النظر ويانس بغنائه. وكان أكثر ما يغني بقول العرجي هذا: أضاعوني وأي فتى أضاعوا . . الخ.
وبعده:
كأني لم اكن فيهم وسيطا ... و لم تك نسبتي في آب عمر

ثم ن الفتى خرج ليلة فأخذ العسس وحبس، فقد أبو حنيفة صوته في تلك الليلة. فلما أصبح سأل عنه فقيل إنّه محبوس، فدعا بدابته وركب إلى الأمير عيسى بن موسى. فلما استأذن عليه قال: أئذنوا له وأدخلوه راكبا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ بساطي! ففعلوا، فوسع له الأمير في مجلسه وأجلسه معه وقال: ما حاجتك؟ قال: جار لي أخذه العسس، فأمر بتخليته! قال: نعم، وكل من أخذ معه في تلك الليلة! فأطلقوا جميعا، وقيل إنّه بعد ثلاث ليال من حبسه. فقال الأمير: وكل من أخذ من تلك الليلة إلى وقتنا. وأطلق الجميع. فلما خرجوا دعا أبو حنيفة بالفتى فقال له: ألست كنت تغني أضاعوني وأي فتى أضاعوا، فهل أضعناك؟ قال: لا والله! بل حفظت وز رعيت جزاك الله خيرا، وعلي عهد الله ألا اشرب الخمر أبداً! وتاب إلى الله تعالى. وقال إسحاق الموصلي:
لاح بالمفرق منك القتير ... و ذوى غصن الشباب النضير
هزئت أسماء مني وقالت: ... أنت يا أبن المصلي كبير!
ورأت شيبا علاني فأنت ... و أبن ستين بشيب جدير
إنَّ تري شيباً علاني فإنني ... مع ذاك الشيب حلو مزير
قد يفل السيف وهو جراز ... و يصول الليث وهو عقير
و قوله: حلو مزير، المزير: المعظم المكرم، وقيل الظريف؛ والسيف الجراز: القاطع. وقال الربيع بن ضبع الفزاري:
فارقنا قبل أنَّ نارقه ... لمّا قضى من جماعنا وطرا
و الضمير للشباب.
وقبله:
أقفر من مية الحديب إلى ... الرحبين إلاّ الظباء والبقرا؟
كأنها درة منعمة ... من نسوة كن قبلها درراً
أصبح مني الشباب مبتكرا ... إنَّ ينأ عني فقد ثوى عصرا
و بعده:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إنَّ نفرا
والذيب أخشاه إنَّ مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدركت عمري ومولدي حجرا
أبا امرئ القيس قد سمعت به ... هيهات هيهات طال ذا عمرا
وقال أعرابي من ضبة، قدم البصرة وخطب امرأة فاشترطوا عليه الصداق:
خطبت فقالوا: هات عشرين بكرة ... و درعا وجلبابا فهذا هو المهر
وثوبين مرويين في كل شتوةٍ ... فقلت: الزنى خير من الحرب القسر!
وقال خنافر بن التوأم الحميري:
وكان مضلي من هديت برشده ... فلله مغو عاد بالرشد آمرا!
و قصته في إسلامه مشهورة في السير، فلا نطيل بسردها.
غيره:
إني رأيتك كالورقاء يستوحشها ... قرب الأليف إذا نحرا
غيره:
فإنَّ تبك للبرق الذي هيج الهوى ... أعنك وإنَّ تصبر فلست بصابر
و قبله:
سقى الله حيا بين صارة والحمى ... حمى فيد صوب المدجنات المواطر
أمين فادى الله ركبا إليهم ... بخير ووقاهم حمام المقادر
كأني طريف العين يوم تطاولت ... بنا الرمل سلاف القلاص الضوافر
حذار على القلب الذي لا يضره ... احاذر وشك البين أم لم يحاذر
أقول لقمقام بن زيد: أما ترى ... سنا البرق يبدو للعيون النواظر؟
فإنَّ تبك . . " البيت "
غيره:
وما تعرف الأعراب مشيا بأرضها ... فكيف ببيت من رخام ومرمر؟
و هذا القائل أعرابي دخل البصرة على أبن عم له. فلما كان يوم الجمعة رآه البصري أشعث، فقال له: إنَّ الناس يتطهرون للجمعة ويتنظفون ويلبسون أحسن الملابس، فتعال ادخلك الحمام لتتنظف من شظف البادية وتتطهر للصلاة! فدخل معه الحمام، فعندما وطئ الأعرابي فرش أوّل بين الحمام لم يحشن المشي عليها لملاستها، فزلق وسقط وصدف حرف مدخل البيت وشجه الحرف في وجهه شجة منكرة، فخرج مذعور ودمه يسيل وهو ينشد:
وقالوا: تطهر إنّه يوم جمعة! ... فأبت من الحمام غير مطهر
تزودت منه شجة فوق حاجبي ... بغير جهاد بئس ما كان مجتري!
يقول لي الأعراب حين رأينني: ... به لا بظبي بالصريمة أعفر
وما تعرف الأعراب . . " البيت "
غيره:
تمنع من شميم عرار نجد ... فما بعد العيشة من عرار!
و قبله:
أقول لصاحبي والعيس تحذى ... بنابين المنيفة فالضمار
و بعده:
ألا يا حبذا نفحات نجد ... و ريا روضه بعد القطار

وهلك إذ يحل الحي نجداً ... و أنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين وما شعرنا ... بإنصاف لهن ولا سرار
و إنّما نسوق مثل هذا لأنه ما من موضع أو أمر إلاّ ولك إنَّ تعتبره لنفسك نجدا، وما من طيب بل وما من خير إلاّ ولك أنَّ تعتبره عراراً، وتعتبر اغتنامه شميما، فتضرب هذا في انتهاز الفرصة من الشيء قبل فواته. وكثير ما نورد مثل هذا أو أغمض منه في هذا الكتاب، والذكي السديد يفقهه، والغبي البليد ينجهه.
وقال أبو صخر الهذلي:
إلاّ أيّها الركب النخبون هل لكم ... بساكن أجزاع الحمى لعدنا خبر؟
و قبله:
لليلى بذات الجيش دار عرفتها ... و أخرى بذات البين آياتها سطر
كأنهما ملآن لم يتغيرا ... و قد مر للدارين من بعدنا عصر
وقفت برسميها فعي جوابها فقلت وعيني دمعها سرب همر:
ألا أيّها الركب . . " البيت "
فقالوا طوينا ذاك ليلا وإن يكن ... به بعض من تهوى فما شعر السفر
وفي النوادر لأبي على عن أبي العباس: قال عبد الله بن شبيب: حدثني أم المغوار الباهلية قالت: كنت بفناء بيتي في السحر، فمر بنا ركب، فتمثلت بهذا البيت: إلاّ أيّها الركب . . " البيت " ، فأجابني غلام من صدر راحته:
فقالوا: طوينا ذلك ليلا وإن يكن ... به بعض من تهوى فما شعر السفر
خليلي هل يستخبر المرث والغضا ... و طلح الكدى من بطن مران السدر؟
وقال المعتمد بن عباد، وقد رأى قمرية تنوح بين يديها وكر فيه طائرتان يترنمن:
بكت أنَّ رأت إلفين ضمهما وكر ... مساء وقد أخنى على إلفها الدهر
ناحت وباحت واستراحت بسرها ... و ما نطقت حرفا بيوم به سر
فمالي لا أبكي أم القلب صخرة ... و كم صخرة في الأرض يجري بها نهر!
بكت واحداً لم يشجها غير فقده ... و أبكي لآلاف عديدهم كثر
بني صغير أو خليل موافق ... يمزق ذا قفر ويغرق ذا بحر
وقال أيضا يخاطب نفسه من أبيات مشهورة:
قد كان إنَّ تأمره ممتثلا ... فردك الدهر منهيا ومأموراً
من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بأحلام مغروراً
وقال الراضي بالله لأبنه يخاطبه:
لا يكرثنك خطب الحادث الجاري ... فما عليك بذاك الخطب من عار
ماذا على ضيغم أمضى عزيمته ... إنَّ خانه حد أنياب وأظفار؟
لئن أتوك فمن جبن ومن خور ... قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري
وقال الوزير أبو محمد بن عبدون يرثي بيني المظفر مشهورة:
ما لليالي أقال الله عثرتنا ... من الليالي وخانتها يد الغير
تسر بالشيء لكن كي تغر به ... كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر؟
كم دوله وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها وسل ذكراك بالخبر!
هوت بدار وفلت غرب قاتله ... و كان عضبا على الأيام ذا أثر
واسترجعت من بني ساسن ما وهبت ... و لم تدع لبني يونان من أثر
وأتبعت أختها طسما وعاد على ... عادٍ وجرهم منها ناقص المرر
وما أقالت ذوي الهيئات من يمن ... و لا أجارت ذوي الغايات من مضر
ومزقت سبئا في كل قاصية ... فما التقى رائح منها بمبتكر
وأنفذ في كليب حكمها ورمت ... مهلهلا بين سمع الأرض والبصر
ولم ثرد على الضليل صحته ... و لا ثنت أسدا عن ربها حجر
ودوخت آل ذبيان وجيرتهم ... لخما وعضت بني بدر على النهر
وألحقت بعدي بالعراق على ... يد ابنه أحمر العينين والشعر
وبلغت يزد جرد الصين وأختزلت ... عنه سوى الفرس جمع الترك والخزر
ومزقت جعفرا بالبيض واختلست ... من غيله حمزة الظلام للجرز
وأشرفت بخيب فوق فارغة ... و ألصقت طلحة الفياض بالعفر
وأجزرت سيف أشقاها أبا حسنٍ ... و أمكنت من حسين راحتي شمر
وليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ ... فدت عيها بما شاءت من البشر!
وما رعت لأبي اليقظان صحبته ... و لم تزود إلاّ الضيح في الغمر
وفي أبن هند وفي أبن المصطفى حسن ... أتت بمعضلة الألباب والفكر
فبعضنا قائل ما أغتاله أحد ... و بعضنا ساكت لم يموت من حصر
وعممت بالردى أبي انس ... و لم ترد الردى عنه قنا زفر

وأنزلت معصما من رأس شاهقةٍ ... كانت به مهجة المختار في وزر
ولم تراقب مكان الزبير ولا ... رعت عياذته بالبيت والحجر
ولم تدع لآبي الذبان قاضبة ... ليس لها عمرو بمنتصر
وأظفرت بالوليد ين اليزيد ولم ... تبق الخلافة بين الكأس والوتر
ولم تعد قضب السفاح نابية ... عن رأس مروان أو أشياعة الفخر
وأسبلت دمعه الروح الأمين على ... دم هريق لآل المصطفى هدر
وأشرقت جعفر والفضل ينظره ... و الشيخ يحيى بريق الصارم الذكر
ولا وفت بمعهود المستعين ولا ... بما تأكد للمعتز من مرر
وأوثقت في عراها كل معتمدٍ ... و أشرقت بقذاها كل مقتدر
وروعت كل مأمون ومؤتمن ... و أسلمت كل منصور ومنتصر
وقال الحاجب أبو مروان بن رزين، وقد سقط عن الفرس:
إني سقطت ولا جبن ولا خور ... و ليس يدفع ما قد شاءه الذكر
لا يمشين عدوي إنَّ سقطت فقد ... تكبوا الجياد وينبو الصارم الذكر
هذا الكسوف يرى تأثيره أبدا ... و لا يعاب به شمس ولا قمر!
وقال أبو بكر بن عمار:
قالوا: اضر بك الهوى فأجبتهم: ... يا حبذاه وحبذا إضراره!
قلبي هو أختار السقام لنفسه ... زيا فخلوه وما يختاره!
عيرتموني بالنحول وإنّما ... شرف المهند وما ترق شفاره!
وقال الوزير أبو القاسم بن الجد:
عجبت لمن يهوى من الدر تومة ... و قد سال في أرجاء معدنه التبر!
وقال الوزير الفقيه أبن سراج:
بث الصنائع لا تحفل بموقعها ... فيمن نأى أو دنا ما كنت مقتدرا
كالغيث ليس يبالي حيثما انسكبت ... منه الغمام تربا كان أو حجرا
وقال الحماسي:
ولا يكشف الغماء إلاّ أبن حرةٍ ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
وقال تأبط شراً:
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلاّ وهو للخطب مبصر
فذاك قريع الدهر ما عشت حول ... إذا سد منه منخر جاش منخر
و منها:
هما خطنا أما إسار ومنة ... و أما دم والقتل بالحر أجدر
وقال القطامي:
وما يعلم الغيب أمرؤ قبل إنَّ يرى ... و الأمر حتى تستبين دوابره
دوابر الأمر: أواخره، جمع دابرة، كالعواقب.
وقال عبد الله بن سبرة:
إذا شالت الجوزاء والنجم طالع ... فكل مخاضات الفرات معابر
وإني إذا ضن الأمير ببابه ... على الإذن من نفسي إذا شئت قادر
وقال أبن حبناء التميمي:
إذا المرء اولاك الهوان فأوله ... هوانا وإنَّ كانت قريبا أواصره
إذا أنت عاديت أمرءاً فاطفر له ... على عثرة إنَّ امكنتك عواثره
فان أنت لن تقدر على إنَّ تهينه ... فذره إلى يوم الذي أنت قادره
وقارب إذا ما لم تك لك حيلة ... و صمم إذا أيقنت انك عاقره
وقال جميل بن عبد الله:
بنو الصالحين الصالحون ومن يكن ... لآباء صدق يلقهم حيث سيرا
أرى كل عود نابتا في أرومة ... أبى منبت العيدان إنَّ يتغيروا
وكل كسير يعلم الناس إنّه ... سوى عظم سوء لا ترى فيه مجبرا
فلا تأمن النوكى وإنَّ كان أهلهم ... وراء عدولات وكنت بقيصر!
و قوله: يعلم الناس إنّه، أي إنّه لا ينجبر سوى عظم سوء، بحذف خبر إنَّ للعلم به.
وقال التميمي يرثي منصور بن زياد:
يثني عليك لسان من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير
وقال سلمة الجعدي يرثي أخاه:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
وقال مسافع العبسي:
وليس وراء الشيء شيء يرده ... عليك إذا ولى سوى الصبر فاصبر
وقال منقذ الكلابي:
الدهر لاءم بين ألفتنا ... و كذلك فرق بيننا الدهر
وكذاك يفعل في تصرفه ... و الدهر ليس يناله وتر
كنت الضنين بمن فجعت به ... و سلوت حين تقادم الأمر
ولخير حظك في المصيبة إنَّ ... يلقاك عند نزولها الصبر
غيره:
إياك والأمر الذي إنَّ توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر

فما حسن إنَّ يعذر المرء نفسه ... و ليس له من سائر الناس عاذر!
وقال أبن البرصاء المري:
تبين أعقاب الأمور إذا مضت ... و تقبل أشبها عليك صدورها
وقال الآخر:
رأيت أخا الدنيا وإنَّ كان خافضا ... على سفر يسري به وهو لا يدري
مقيمين في دار نروح ونغتدي ... بلا أهبة الثاوي المقيم ولا سفر
وقال الرقاشي:
إلاّ ليقل من شاء ما شاء إنّما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر!
وقال الآخر، من الحماسيين:
فإنك واستبضاعك الشعر نحوها ... كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا
و تقدم إنشاده، على غير هذا الوجه، لغير هذا الحماسي.
غيره:
وجاءت للقتال بنو هليكٍ ... فسحي يا أسماء بغير قطر!
و هذا الشاعر استعظم مجيء هؤلاء للقتال، لصغر شأنهم وهوانهم وحقارتهم عنده، فقال: سحي يا أسماء بغير قطر، أي بدم لا يقطر، استهزاء بهم وسخرية.
غيره:
ومن عجب إنَّ الصوارم في الوغى ... تحيض بأيدي القوم وهي ذكور
وأعجب منه إنّها بأكفهم ... تسعر ناراً والأكف بحور!
وقال يزيد بن مفرع الحميري
سقى الله دارا لي وأرضا تركتها ... إلى جنب دار معقل بن يسار
أبو ملك جار لها وأبن برثن ... فيالك جاري ذلة وصغار!
وذكر أبو العباس المربرد في الكامل أن سليمان بن على سأل خالد بن صفوان عن ابنيه جعفر ومحمد فقال: كيف إحمادك جوارهما يا أبا صفوان؟ فقال خالد متمثلا بهذا البيت:
أبو ملك جار لها وأبن برثن ... فيالك جاري ذلة وصغار!
قال: فأعرض عنه سليمان. وكان هذا من احلم الناس وأكرمهم وهو في ذلك الوقت والي البصرة وعم الخليفة المنصور. قال: وكان خالد بن صفوان ممن إذا عرض له القول قال: وكان الحسن رحمه الله تعالى يقال : لسان العاقل من وراء قلبه فإن عرض له القول نظر فإن كان له أن يقول قال وإن كان عليه القول أمسك. ولسان الأحمق إمام قلبه فإذا عرض له القول فال عليه أو له.
وقال الآخر:
نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... عيناً لغيرك دمعها مدرارُ
من ذا يعيرك عينه تبكي بها ... أ رأيت عيناً للبكاء تعار؟
وقال حجية بن مضر يمدح يعفر بن زرعة أحد الملوك، ملوك ردمان:
شكرت لكم آلاءكم وبلاءكم ... و ما ضاع معروف يكافئه شكرُ
و قبله:
إذا كنت سئَّالاً عن المجد والعلا ... و أين العطاء الجزل والنائل الغمرُ
فنقب عن الملوك وأهتف بيعفر ... و عش جار ظل لا يغالبه الدهرُ
أولئك قومٌ شيد الله فخرهم ... فما فوقه فخرٌ وإن عظم الفخرُ
أناس إذا ما الدهر أظلم وجهه ... فأيديهم بيض وأوجههم زهرُ
يصونون أحساباً ومجداً مؤثلاً ... ببذل أكف دونها المزن والبحرُ
سموا في المعاليرتبة فوق رتبةٍ ... أحلتهم حيث النعائم والنسرُ
أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت ... لنورهم الشمس المضيئة والبدرُ
فلو لامس الصخر الأصم أكفهم ... لفاضت ينابيع الندى ذلك الصخرُ
ولو كان في الأرض البسيطة منهم ... لمختبط عافٍ لمّا عرف الفقرُ
شكرت لكم . . " البيت " وقلت أنا معرضاً بقوم يغشون طغاما ليصيبوا منهم طعاما:
إنَّا أناس لست تبصرنا ... نتحين الطعام التي تزري
يعري الفتى ويجوع وهو يرى ... متجملاً بالصبر والبشرِ
والحرة الشماء ربما ... جاعت ولم ترضع على أجرِ
والمورد العذب الفرات إذا ... راثته حمرٌ سيم بالهجرِ
وإذا ترى طيراً بمزبلةٍ ... فالطير غير الباز والصقرِ
وإذا رأيت المرء محتسياً ... كأس الهوان فليس بالحرِ
ووقف عليها جماعة من فضلاء العصر فاستحسنوها غاية فحاولت أن أزيد عليها شيئا من هذا النمط يتم به الغرض فانجر الأمر بها حتى كانت قصيدة رأيت أن أثبتها هنا على طولها لأنها كلها أمثال وحكم وهي:
والحر حياته بسوى ... عز الجناب ورفعة القدر
لا بالطعام ولا الشرب ولا ... استلقائه بأرائك وثر
وإذا تزايلك الحياة فما ... من عيشة تبقى ولا عمر
وسؤال ذي لؤم وذي بخل ... و رجاء نعشته من العثر
أنكى لقلب أخي المروءة من ... إصلائه بلوافح الجمر

وأشد من عد الرمال ومن ... نقل الجبال ومحمل الصخر
واضر من كل النوائب إن ... عظمت عليك وكل ما شر
وتقلد للمن من يده ... غل على هاديك في الأسر
بل وخزة في القلب ناكئة ... بل طعنة في لبة النحر
وغناك عنه بالقناعة في ... حاليك من يسر ومن عسر
أجدى من الملك الذي جمعت ... أبناء هرمز غابر الهر
وألذ من سنة الشباب على ... جدة ومن وثرٍ على وثر
ولباس صونك عن تملقه ... أبهى من الأستبرق الخضر
وحلى الوقار عليك أجمل من ... أن تحتلي بقلائد النصر
وصبابة من ماء وجهك أنفس ... من رحيق سلسل غمر
فإذا عرتك الحادثات فثق ... بمليكها ذي الخلق والأمر
واصبر لروح الله مرتجياً ... فلتحمدن عواقب الصبر
إنَّ اصطبار المرء مفتتح ... متغلق البأساء والعسر
ومنفس عنه الكروب إذا ... ضاقت بهن جوانح الصدر
كم من حزين بات مكتئباً ... متسعر الأحشاء ذا أفر
لا يرتجي جلباب ليلته ... أن ينثني طرفاه بالسفر
فأتته ألطاف منفسة ... لفؤاده من حيث لا يدري
ولكم بعيد الضيق من سعة ... و لكم بعيد العسر من يسر
هل بعد معترك الظلام سوى ... بلج الصباح وطلعة الفجر
أو بعد ظمأة هجمة وردت ... غير ارتواء جانب الغدرِ
أو بعد خانقة التلاع سوى ... فيح الفجاج وفسحة البهر
وإذا تحاول نيل مكرمة ... فانهض إليها نهضة الشمر
وأركب جواد الجد مكتفيا ... ذيل الملالة منك والفتر
فلربَّ ذي أمل على ملل ... و مهدر في العنة الحجر
والربَّ ذي رعد على صلف ... فتراه يخلق ثم لا يفري
ومخاطراً بالنفس فيه فما ... يرجى الخطير بغير ذي خطر
وأعلم بأنَّ الغوص في لجج ... خضر يخف لجالب الدر
وتعسف القنن الصعاب علي ... خصب يخف لحالب الدَّر
ولدى الرياح الكثر بحمد ما ... جاب المفاوز صاحب التجر
ولدى الصباح يكون مغتبطا ... و ينال بغيته الذي يسري
وتسنمن ذرى الأمور ولا ... تخلد إلى سفسافها الخضر
واعلم بأنك ما استطبت جنى ... إلاّ لطيب الجذر والبذر
والكرم يجدي المجتني عنباً ... و الشوك لا يجدي سوى الشصر
ولكم ترى مرعى ولست ترى ... كرعاية السعدان والثغر
والناس كالغوغاء هائمة ... لو كان يبلو الناس ذو خبر
والمرء كل المرء بينهم ... ذو الملبس الزاهي وذو الوفر
لا ينظرون إلى الوفاء ولا ... فصل الذكاء وثاقب الفكر
لو أقبلت دغة لهش لها ... كل إذا راحت إلى دثر
أو جاء قيس يستغيث صدى ... لم يسق إن أمسى أخا فقر
لم يدروا أنَّ الكمال لذي ... فضل الندى والحلم والحجر
لا ذي الحلى المسبور مائله ... أعطافه بالزهو والكبر
فالعجب بالملبوس من سخف ... في اللب وهو لربة الخدر
والسيف ليس يشينه خلق ... في الجفن وهو العضب ذو الأثر
وكذا ذبول المتن ليس يرى ... عيبا على الخطية السمر
والطرف ليس يعاب من ضمر ... يعشاه بعد تداول الحصر
ولكم ترى نبتاً يلد على ... شحبٍ وكم من ناعم مر
ولكم ترى دمناً تعاف إذا ... تشتم وهي أنيقة الزهر
فتوخ في الناس الوفى إذا ... عاشرتهم وحذار ذا الغدر
واسبرهم قبل الإخاء ولا ... تغتر في الأخوان بالسبر
كم من أخ مذق الوداد على ... ما فيه من إحن ومن سبر
إن تلقه فالشهد مقوله ... و إذا تغيب يكون كالصبر
سيمى بوجهك تستميل وأن ... أدبرت عنه فكية الظهر
وإذا الزمان دعاك نائبه ... العاري إليه ترجى البر
فسيحتبيك بوعد غانيةٍ ... أو وعد عرقوب جنى التمر
وإذا تعود يظل مكتلحاً ... متغيظاً ينزو ويستشري
وإذا تصادف ذا الصفاء فكن ... منه ولو صافاك ذا حذر
وأسم سوائم سرحه طرراً ... مطروقةً من مسرح السر
وصن السرارة واللباب ولا ... تبذل له منه سوى القشر
فلربما يلوي الزمان به ... فيكون أبصر فيك بالضر

وإذا تصاحب أو تجالس أو ... تستب فالتمس ذوي القدر
فصداقة النبهاء مفخرة ... و كذا نواؤهم من الفخر
وصداقة اللؤماء معقبةٌ ... لؤما كمثل حكاك ذي العر
والساقط الداني مشاتمه ... كالبائع العقيان بالصفر
والحظ والمقدار ما حصرا ... في ذي الذكاء يبيت يستمري
بل قسمة أزلية نشأت ... بيدي مدبرها على قدر
وإذا نظرت وجدت في قرنٍ ... غمر الغنى وجهالة الغمر
وترى اللبيب يبيت في ضففٍ ... بهمومه متقسم الفكر
ليكون فضل حجى الفتى عوضاً ... عن فضل مال الأنوك الكثر
وتكون أحكام الإله جرت ... في الخلق عن غلبٍ وعن قسر
والمرء ممدودٌ له أجلٌ ... فسح مداه نصائب القبر
يسدي ويلحم في مزاولة ... ما ليس يدركه مدى العمر
ويبيع بالآل المعين وبالخزف ... الكسير نضائد التبر
وأمن تبدل زائلا صدرا ... من دائم قد باء بالخسر
فأعد لليوم الذي خضعت ... فيه الطلا لرواجف الذعر
وتحولت فيه الذين هم ... قنن الذرى شمما إلى الذر
وتدوسهم أقدام طائفةٍ ... كانت لديهم موقع السخر
وازمم ركابك للرحيل غداً ... إنَّ الخليط غدوا على ظهر
وتسل عن ليلى فقد أزفت ... عنها النوى ومضاضة الهجر!
وتخل عن كل الآلاف إلى ... ألفا ألف واصل بر!
وتسوغن بجميل صبرك ما ... تسقى بغيرهم من الصبر
وف بالعهود ولا تكن ألفا ... نقضا ولو قبضا على جمر!
واعلم بان الوجه ذو شحط ... و مخاوف ومجاهل غبر!
فارتد خفير إنابة ولجا ... و العلم خريتا إذا تسري!
وتزودن وخير زادك من ... تقوى المهيمين سامع الأمر!
وأجعل مزاد الصدق محكمة ... و تخيرين نجائب الصبر!
وتخير الرفقاء مجتنبا ... قرب الددان وصحبة المزري
وإذا ارتحلت فلا تشذ وسر ... وسط الخليط ومعظم السفر!
وحذار رحلك يقتفي سبلا ... عن نهجهم فيضل في القفر!
وارع البطاح إذا مرعن ولا ... تترقين بحالق وعر!
وإذا الرياح عصفن في شرفٍ ... فلتسهلن أو غل في جحر!
وإذا ظمئت ففي الأصيل فرد ... فردا عن الضوضاء والكدر!
وإذا رأيت سفينة خرقت ... فتأن لا تجعل إلى النكر!
وإذا تكون نزيل ذي كرم س ... رحب الذرى متفضل غمر
لا يعدم العافي نداه ولا ... يعتل عن ذهل ولا فقر
فأرح فؤادك أنَّ يكون به ... هم إلى زاد على ذكر!
وحذار أنَّ يلقاك مرتجيا ... ما يجتنيه سواه من جبر
وكن الخلي وأنت ضائفه ... عار النزيل على الذي يقري!
وإذا الهوى ناواك محتفلا ... و مجمعا بمعسكر مجر
فلتعددن ما استطعت من وجل ... و ضارعة فتدال بالنصر
واستمددن من واهب رؤوفٍ ... نورا يقيك مداحض الحكر
وكل الأمور إليه ملتجئا ... متبريا ملحول والارز!
وإذا حللت بساطه فغدا ... يسقيك صرف عتيقة الخمر
فلترعين أدب الجليس ولا ... تغتل حجاك غوائل السكر!
وإذا مليك الدار في طرفٍ ... منها أناخ مطاك أو عقر
فالزم مناخك أو يحوله ... برضى الجنان وغاية السكر
ولتعتزز بحماه معتصما ... ناهيك من سند ومن حظر!
وثقن بما أولاك من عدة ... فالنقد موعد مفضل مثري!
وتجلى في ثوبي عبودته ... ناهيك من شمم ومن ذكر!
وتحل بالخلق الجميل على ... لقيا الورى وحوادث العصر!
ولتلقهم وحشاك مشربه ... صاف من الشحناء والغمر!
وبليغ نصحك للقصي وللأدنى ... سوي السر والهجر
واجعل معاقرة المنون على ... بالٍ فيا ناهيك من ذخر!
وقال الآخر:
إلى كم يكون الصد في كل ساعةٍ ... و كم لا تملين القطيعة والهجرا؟
رويدك إنَّ الدهر فيه كفاية ... لتفريق ذات البين فأنظر الدهرا!
وقال الآخر:
هب النسيم فأهدى نشرهم سحرا ... وأزهر الروض من أنفاسهم عطرا
إني وإنَّ أبعدت عني منازلهم ... فلا أزال أروي عنهم الخبرا

قل للسعيد الذي يحظى برؤيتهم: ... أني لتحسد عيني فيكم النظرا
غيره:
وحقكم مالي على فقدكم صبر ... و ما طاب لي عيش ولم يصف لي سر
وكيف يسر القلب يوما بلذةٍ ... و منزلكم يا سادتي منزل قفر
فما الدار دار مذ نأيتم ولا الكرى ... لذيذ وحلو العيش بعدكم مر
غيره:
لو كان لي مسعد بالراح يسعدني ... لمّا انتظرت بشرب الراح إفطارا
الراح أشرف شيء أنت شاربه ... فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا
يا من يلوم على صهباء صافيةٍ ... دع الجنان ودعني أسكن النارا!
و في لطائف المنن للتاج أبن عطاء الله أنَّ هذا الشعر أنشده منشد بين يدي الشيخ. فأنكر عنك هذا. فإنه محجوب! انتهى بالمعنى وهو بين، فإنَّ الخمر خمران، والنار ناران، والجنان جنانان. فكل يشرب بحسب ذوقه، ويقهم بمقتضى قصده.
وقال الآخر:
هلا رأيت وقائع الدهر ... أفلا تسئ الظن بالعمر؟
بينا الفتى كالطرود تمنعه ... هضباته والعضب ذو الأثر
يأبى الدنية في عشيرته ... و يجاذب الأيدي على الفخر
زل الزمان بوطء أخمصه ... و مواطئ الأقدام للعثر
غيره:
أين الملوك وما بنوه وشيدوا؟ ... ماتوا جميعا في التراب وساروا
آثارهم تنبيك عن أخبارهم ... هذي هي الأطلال والأخبار
إنَّ سلت عنهم قل لنفسك بعدهم ... لم يبق إلاّ الواحد القهار!
غيره:
يا راقد الليل مسرور بأوله ... إنَّ الحوادث قد يطرقن إسحارا
!و له:
لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء أعتصار
غيره:
الناس شتى إذا ما أنت ذقتهم ... لا يستوون كما لا يستوي الشجر
هذا له ثمر حلو مذاقته ... و ذاك ليس له طعم ولا ثمر
وقال النمر بن تولب:
فيوم علينا ويوم لنا ... و يوم نساء ويوم نسر
سلم الخاسر:
من راقب الناس مات غما ... و فاز باللذة الجسور
أبن المعتز:
لا تأمنوا من بعد خير شرا ... كم غصن أخضر صار جمرا!
الصنوبري:
محن الفتى يخبرن عن فضل الفتى ... كالنار تخبرنا بفض العنبر
غيره:
كم كافر بالله أمواله ... تزداد أضعافا على كفره
والمؤمن ليس له درهم ... يزداد أيمانا على فقره!
غيره:
يا صاح إنَّ من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصر
فطنا بكل مصيبة حاله ... و إذا أصيب بدينه لم يشعر!
وقال الآخر:
عتبت على الدنيا لتقيد جاهل ... و تأخير ذي علم فقالت خذ العذرا
بنو الجهل أبنائي وكل فضيلة ... فأبناؤها أبناء ضرتي والأخرى
وقال الآخر:
غائظ صديقك تكشف عن ضمائره ... و تهتك السر عن محجوب أستار
فالعود يبنيك عن مكنون باطنه ... دخانه حين تدنيه من النار!
و هكذا كقول الحكيم: إذا أردت إنَّ تعرف صديقك فأغضبه! وذلك لأن الرضى يصلح معه كل أحد، ولا يصلح على الغضب إلاّ الأصفياء الصادقون، وقليل ما هم.
غيره:
سقى الله أياما لنا لسن رجعا ... و سقيا لعصر العامرية من عصر
ليالي أعطيت البطالة مقودي ... تمر الليالي والشهور وما ندري!
حكى أبو علي البغدادي في نوادره عن أبي بكر بن دريد عن حاتم قال: كان فتى من أهل البصرة يختلف معنا إلى الأصمعي فافتقده، فلقيت أباه فسألته عنه فقال: سألني عن بيتين كان الأصمعي يرددهما:
سقى الله أياما " البيتين "
فقلت له: يا بني، انك لست بعاشق، ولولا ذلك لعرفت ما يفعله الذكر بصاحبه! قال: فبعثته عشق لجاجا.
ولنكتف بهذا القدر من الباب مخافة السآمة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

باب الزاي الموحدة
زبيب وأنت حصرم.
هذا مثل مشهور، غير إنّه مولد. وهو من كلام أبي علي الفارسي، قاله لأبي الفتح عثمان بن جني لمّا مر به وهو في حلقته. فلما قال له ذلك قام أبو فتح فترك حلقته وتبعه حتى تمهر. ذكر ذلك شمس الدين بن خلكان، رحمه الله تعالى. ويضرب فيمن يتعاطى رتبة قبل إنَّ يصل إليها.
ومنه قول أبن النقيب:
إذا صرصر البازي فلا ديك يصرخ ... و لا فاخت في أيكة يترنم

وما الموت إلاّ طيب طعمه إذا ... تدايك فروج وزبب حصرم
زاحم بعودٍ أو دع!
المزاحمة معروفة. يقال زحمته على كذا، زحمته، وزاحمته، وازدحم القوم على هذا الأمر وتزاحموا عليه، ازدحاما وزحاما ومزاحمة. والعود بفتح العين المهملة وسكون الواو: المسن من الذي جاور البازل والمخلف سنا. قال امرؤ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
و الجمع عودة كزوجة، والأنثى عودة، والجمع عود البعير تعويدا: بلغ ذلك. والعود أيضا: الطريق القديم. قال الراجز:
عود على عود لأقوام أوّل ... يموت بالترك ويحيا بالعمل
أي جمل مسن على طريق قديم. وفي الصحاح: وبما قالوا: سؤدد عود أي قديم وانشد للطرماح:
هل المجد إلاّ العود والندى ... و رأب الثأي والصبر عند المواطن؟
و المراد من المثل المعنى الأول، وهو التمثيل والتشبيه. والمعنى انك إذا حاولت أمرا أو زاولت حربا، ينبغي لك أنَّ تستعين عليه بأهل السن والمعرفة والتجريب. فإنَّ رأي المشايخ كثيرا ما كان أنفع من مشاهد الشباب، على إنَّ مشهد الشيوخ وأهل البصيرة والصدق أيضاً هو المشهد، كما قال أبو الطيب:
سأطلب حقي بالقنى ومشايخٍ ... كأنهم من طول ما ألتثموا مرد
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا ... كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا
و على أسلوب هذا المثل ما يقال: قائل بسعد أو بجد وإلاّ فلا!

زعموا مطية الكذب.
الزعم: الظن، يقال: زعم كذا وكذا واقعا، يزعمه. قال: زعمتني شيخا وليس بشيخ . .
وقال كثير
وقد زعمت إني تغيرت بعدها ... و من ذا الذي يا عز لا يتغير؟
و لها معان أخرى مراده هنا. والمطية: الناقة التي يركب مطاها أي ظهرها. قال امرؤ القيس:
ويوم عقرب للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من رحلها المتحمل!
ويحك إنَّ أبن عمر، رضي الله عنهما، قال: رأيت رجلا يطوف بالبيت حاملا أمه على ظهره وهو يقول:
إني لها مطية لا تذعر ... إذا الركاب نفرت لا تنفر
ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال أكبر!
و ذكر في الصحاح أنَّ المطية تؤنث وتذكر، وانشد على التذكير لربيعة بن مقروم الضبي جاهلي
ومطية ملث الظلام بعثته ... يشكو الكلال إلي دامي الأظلل
و كان المطية على هذا هو المركوب، جملا كان أو ناقة. وجمع المطية مطي ومطايا. قال امرؤ القيس:
سريت بهم حتى تكل مطيهم ... و حتى الجياد ما يفدن بأرسان
و في الحديث رواية يشكو إنَّ يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم فلا يجدون عالما من عالم المدينة.
وقال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... و أندى العالمبن بطون راح؟
و منه قول إلي نؤاس:
وإذا المطي بنا بلغن محمّداً ... فظهورهن على الرجال حرام
و منه قول أبي دلامة:
إنَّ المطايا تشكيك إذا أراد إنَّ يتحدث قال: زعموا كذا وكذا، وزعموا إنَّ الأمر كذا وإنَّ كذا واقع. فلما كان هذا اللفظ يقدمه إمام كلامه ويتوصل به إلى حاجته، جعل مطية تشبيها بالمطية المركوبة، بالجمع التواصل بهما إلى الغرض. ثم انهم قالوا: إنّما يقال هكذا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه، وإنّما يجري على الألسن، وأكثر ما يكون ذلك كذب.
وفي الحديث: حسب الرجل من الكذب أنَّ يتحدث بكل ما سمع. فجعل زعموا مطية للكذب، أي للتحديث به من اجل هذا. وقد يعتبر به من يعتمد الكذب لسهولته إذ ذاك وتستره حيث لم يتعين المكذوب عليه ولا المنقول عنه حتى يفتضح الناقل عند سؤاله.
فائدتان. الأولى قال الجلال السيوطي في كتابه الهمع: قولهم زعموا مطية الكذب لم أقف عليه شيء من كتب الأمثال. وذكر بعضهم إنّه روى: مظنة الكذب بالظاء المعجمة والنون. وإخراج أبن أبي حاتم في تفيسره، عن صفوان بن عمرو الكلابي، قال: بئس مطية المسلم زعموا مطية الشيطان. واخرج أبن سعد في الطبقات، من طريق الأعمش عن شريح القاضي قال: زعموا كنية الكذب. انتهى.
وذكر بعضهم: زعموا مطية الكذب حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال بعضهم: لا يوجد زعم فصيح الكلام إلاّ عبارة عن الكذب، أو قول انفرد به قائله، أو تبقى عهدته على الزاعم. ففي ذلك ما ينجوا إلى تضعيف وقول سيبويه: زعم الخليل كذا، وإنّما يجيء فيما تفرد الخليل به. انتهى.
قلت: ولم يكن يأتي به سيبويه على إنَّ ذلك كذب، بل من اجل ذلك التفرد وبقاء العهدة فقط. وقد يأتي زعم مع القطع بصدق الزاعم، كما في السير من قول سعد، رضي الله عنه، للقريشي بمكة إنَّ محمّد يزعم إنّه قاتلك، ولم يكن المخبر يش في صدق محمّد صلى الله عليه وسلم، بل أيقن القريشي مع كفره بذلك فقال: أنا لا نكذب محمّد في خبره. والقصة مشهورة.
الثانية: قول جرير السابق. قالوا: هو امدح بيت قالته العرب. وكان امتدح به عبد الملك بن مروان من قصيدة، وكان أولها أنَّ قال: أتصحو أم فؤادك غير صاح فقال عبد الملك: بل فؤادك! ثم تمادى في الإنشاد إلى إنَّ قال:
تعزت أم حزرة ثم قالت: ... رأيت الواردين ذوي امتياح
ثقي بالله ليس له شريك ... و من عند الخليفة بالجناح
ألستم خير من ركب المطايا ... و أندى العالمين بطون راح؟
فطرب الملك وأخذته الأريحية وكان متكئا فجلس وقال: من مدحنا فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت! ثم قال: يا جرير، أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة سود الحدق؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ الإبل إباق ونحن مشايخ ليس بأحدنا فضل على راحلته. فلو أمرت بالرعاة؟ فأمر له بثمانية أعبد وكنت بين يدي عبد الملك صحاف فضة يقرعها بقضيب بيده. فقال جرير: والمحالب، يا أمير المؤمنين؟ وأشار إلى صفحة منها. فنبذها إليه بالقضيب. وفي ذلك قال جرير:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم منٌّ ولا سرف!
قلت: وما ذكر في بيت جرير هو بحسب ما فيه من شمول بذكر العالمين، وإلاّ فلزهير أبيات هي الغرر في جبهات المديح، كقوله:
بل اذكرن خير قيس كلها حسبا ... و خيرها نائلا وخيرها خلقا
فانه يجمع أوصافا من المديح مع السبك العجيب والاتساق البديع. إلاّ إنّه خصصه بقيس وهو لا يوجب كبير قصور، لأنَّ العناية بتفضيل الممدوح وتعليته إنّما هي بحسب أقرانه ومزاحميه في الشرف، مع إنَّ هذا اقرب إلى الصدق، وليس الكذب البشع بممدوح في الشعر. إلاّ إنَّ يريد جرير رهط الممدوح جميعا حتى يدخل النبي صلى الله عليه وسلم فيكون كلامة صدقا. وقوله:
إنَّ تلق يوما على علاته هرما ... تلق السماحة منه والندى خلقا
فإنَّه ترك إثبات السماحة والندى للممدوح إلى إثبات كونهما من سجايا وخلائقه،إيهاما لكون ثبوتهما ليس متوقف العقول، لاتضاحه كالنهار، واشتهاره غاية الاشتهار. ووقع لزهير غير هذا ولغيره أيضاً مما يطول تتبعه.
قالوا: وأهجى بيت قالته العرب قول الأخطل يهجو جريرا:
قوم إذا أستنبح الضيفان كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار!
و بعده:
فتمسك البول بخلا إنَّ تجود به ... فما تبول لهم إلاّ بمقدار!
و تقدم هذا: واحكم بيت قالته العرب قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... و يأتيك بالأخبار ما لم تزود
و أحمق بيت قول أبي محجن:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ ... تروي عظامي عند عروقها!
ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا مت ألا أذوقها
و أغزل بيت قالته العرب قول جرير:
إنَّ العيون التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
و بعده:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... و هن اضعف خلق الله أركانا
قلت: وأصدق بيت قالته العرب قبل النبي صلى الله عليه وسلم قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وبعده قول الآخر:
وما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمدِ

عجيبة. أبو العتاهية في شعره السابق امتدح عمر بن علاء فأمر له بسبعين ألف درهم وأمر من حضره من خدمه وغلمانه أن يخلعوا عليه حتى لم يقدر على القيام لمّا عليه من الثياب. ثم إنَّ جماعة من الشعراء كانوا بباب عمر فقال بعضهم: يا عجبا للأمير! يعطي أبا العتاهية سبعين ألفا. فبلغ ذلك عمر فقال: غليَّ بهم! فأدخلوا عليه. فقال:ما أحسد بعضكم لبعض يا معشر الشعراء! إنَّ أحدكم يأتينا يريد مدحنا فيشبب بصديقه في قصيدته بخمسين بيتا فما يبلغنا حتى يذهب لذاذة مدحه ورونق شعره. وقد أتانا أبو العتاهية فشبب ببيتين ثم قال:
إني أمنت من الزمان وريبته ... لمّا علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إجلاله ... لحذوا له حر الوجوه نعلا
ما كان هذا الجود حتى كنت يا ... عمراً ولو يوماً تزول لزالا
إنَّ المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا
فإذا أتيت بنا أتيت مخفة ... و إذا رجعن بنا رجعن ثقالا
ويذكر إنّه لمّا امتدحه قال له: أقم حتى أنظر في أمرك! فأقام أياما فلم ير شيئا. وكان عمر ينتظر مالا من وجه فأبطأ عليه. فكتب إليه أبو العتاهية:
يا أبن العلاء ويا أبن القرم مرداس ... إني امتدحتك في صحبي وجلاسي
أثنيت عليك ولي حال تكذبني ... فيما أقول فاستحيي من الناس
حتى إذا قيل ما أعطاك من صفدٍ ... طأطأت من سوء حالٍ عندها رأسي
فقال عمر لحاجبه: اكفيه أياما! فقال له الحاجب كلاما دفعه به وقال: تنتظر! فكتب إليه:
أصابت علينا جودك العين يا عمر ... فنحن لها نبغي التمائم والنشر
أصابتك عين في سخائك صلبةٌ ... و يا رُبَّ عين صلبة تفلق الحجر
سنرقيك بالأشعار حتى تملها ... فإن لم تفق منها رقيناك بالسور
فضحك عمر وقال لصاحب بيت ماله: كم عندك؟ قال: سبعون ألف درهم. فقال: ادفعها إليه! ويقال إنّه قال له: اعذرني عنده ولا تدخله عليَّ فإني أستحي منه!
زندان في وعاءٍ.
الزند بفتح الأول العود الذي يقدح به . والوعاء معروف. يضرب هذا في تساوي الرجلين فيقال: هما زندان في وعاء وكزندين في وعاء.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: ولا يكاد يوضع في المدح. إنما هو في موضع الخساسة والدناءة.
فقال البكري: لا أعلم لم جعل في موضع الدناءة إلا أن يتناولوا فيه قولهم اللئيم مزند والتزنيد: التضييق.
قلت: ولا يخفى بعده. والمزند بصيغة اسم المفعول وهو البخل الضيق. قال الحماسي:
ومن الرجال أسنة مثال ذروبة ... و مزندون شهودهم كالغائب
و قد أتى الحريري في مقامته البغدادية بهذا المثل في مطلق الاستواء أو في الاستواء في المدح بالحذق والذكاء. فقال أبن ظفر: المشهور استعماله يعني هذا المثل في الحقارة والخساسة.
أزكن من إياسٍ.
الزكن: العلم تقول: زكنته بالكسر أزكنته زكنا إذا علمته. قال أبن أم صاحب: ويروى: زنكنت منهم على مثل الذي علموا.
والزكن أيضاً: التفرس وهو علم خاص. وإياس هو أبن معاوية قاضي البصرة. وضرب به المثل في الفراسة والذكاء وله في ذلك أخبار كثيرة تقدمت جملة منها في ذكائه من حرف الذال. وكان يحكى أنه قال: تعلمت الزكن من أمي وكانت خرسانية وأهل بيتها يزكنون أي يتفرسون. قيل: وقد ألف في أخباره كتاب يسمى " زكن إياس " .

أزنى من قرد.
الزنى بالزاي المكسورة والنون معروف يمد ويقصر. قيل: والقصر لغة الحجاز لقوله تعالى: )و لا تقربوا الزنى( والمد لغة نجد كقول الفرزدق:
أبا حاضر من يزن يعرف زناؤه ... و من يشرب الخرطوم يصبح مسكر
و زنى الرجل بالفتح يزني زنى وزاني مزاناة وزناء. وفي عد الكبائر:و أن تزاني حليلة جارك. والقرد بكسر القاف معروف وتقدم في الحاء وهو يوصف بالزنى. وقد وقع في السيرة إنّه زنى قرد في الجاهلية فرجمته القردة. وزعموا أنَّ القرد أزنى الحيوان.
وقيل إنَّ المعنى في هذا المثل ليس القرد المعروف بل رجلا من هذيل يقال له قرد بن معاوية وبه ضرب المثل والله تعالى أعلم!
أزهى من طاووس.

الزهو: الإعجاب والتكبر. يقال: زهي بالبناء للمفعول يزهى فهو مزهو.و يقال أيضاً: زهى بالفتح يزهو زهوا. وهي لغة حكمها أبن دريد. والطاووس: الطائر المعروف وتقدم في الحاء. وإنّما وصف بالزهو لمّا مر من أنَّ طبعه حب الزهو لنفسه والخيلاء والإعجاب بريشه: ثم إنهم بنوا اسم التفضيل هنا من فعل المفعول وعلى الشذوذ كما قالوا: أشغل من ذات النحويين وأجن من دغة وأولع من قرد. وتعجبوا منه أيضاً فقالوا: ما أزهاه! وما أشغله! وما أجنه! وهو مسموع في هذه الألفاظ ونحوها. ولا يقال في المضروب والمجروح ونحوهما: أضرب من كذا ولا أجرح ولا: ما اضربه! وأجرحه! ومن الشاذ قول سبويه رحمه الله تعالى : واعلم أنَّ العرب يقدمون ما هم به أهم وهم ببيانه أعنى وهو من عناهم وعنوا به فهم معنيين به.
قال الإمام السهيلي رحمه الله تعالى : وسبب جوازه يعني في الأفعال المذكورة دون غيرها أنَّ المفعول فيها فاعل في المعنى: فالمزهو متكبر في المعنى. وكذلك المنحو والمشغول مشتغل وفاعل لشغله والمعني بالأمر كذلك والمجنون كالأحمق فيقال: ما أجنه! كما يقال ما أحمقه! وليس كذلك وضروب ولا مركوب ولا مشتوم ولا ممدوح فلا يقال في شيء منه: ما أفعله ولا: هو أفعل من كذا.
قال: فإنَّ قلت: فعلى هذا القياس كان ينبغي أيضاً أن يؤمر فيه بغير اللام كمأمور الفاعل إذ قلتم إنه فاعل في المعنى يعني وليس الأمر كذلك لأنك إنما تقول في أمر المخاطب من عني وزهي وشغل: لتعن ولتزه ولتشغل! كما يؤمر الغائب في سائر الأفعال.
قال: فالجواب أنَّ الأمر إنّما هو بلفظ المستقبل وهو: تضرب وتخرج. فإذا أمرت حذفت حرف المضارعة وبقيت حروف الفعل على بنيتها. وليس كذلك زهيت فأنت تزهى ولا شغلت فأنت تشغل. لأنك لو حذفت منه حرف المضارع لبقي لفظ الفعل على بنية لست للغائب ولا للمخاطب لأنَّ بنية الأمر للمخاطب: أفعل وبنيته للغائب: فليفعل. والبنية التي قدرناها لا تصلح لواحد منها لأنك كنت تقول: أزه من زهت ومنت تقول من شغلت: أشغلت فتخرج من باب شغلت فأنت مشغول إلى باب شغلت غيرك فلم يستقم فيه الأمر بالام. انتهى. وهو حسن وهذا في زهي إنّما هو على أنَّ التفضيل جاء فيه على اللغة المشهورة. وإنّما على أنه على اللغة الثانية التي ذكرها أبن دريد فلا شذوذ فيه.
قال الجوهي بعد ذكره هذه اللغة: ومنه قولهم ما أزهاه وليس هذا من زهي لأنَّ اسم المفعول لا يتعجب منه. انتهى.
أزهى من ديكٍ.
تقدم الزهو. والديك بكسر الدال المهملة معروف جمعه ديكة وديوك. وهو موصوف بالزهو والتبختر والتمايل في مشيته وذلك معروف فيه.
أزهى من غرابٍ.
الزهو مر وكذا الغراب وهو أيضاً موصوف بالزهو. قال الشاعر:
لذا صاحبٌ مولع بالخلاف ... كثير الخطاء قليل الصواب
ألج لجاجاً من الخنفساء ... و أزهى إذا ما مشى من غراب
زوجٌ من عود، خيرٌ من قعود.
الزوج ضد الفرد. والزوج أيضاً بعل المرأة وهي أيضاً زوجة. فالزوج للذكر والأنثى هذا هو الفصيح. قال تعالى: )أسكن أنتَ وزوجكَ الجنة( وقد يقال زوجة. قال الفرزدق:
وإنَّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساعٍ إلى أسد الشرا يستبيلها!
وتقدم هذا. والعود بضم العين المهملة: معروف جمعه عيدان وأعواد والقعود: الجلوس وقد يفرق بينهما فيقال: القعود ضد القيام. فإذا كان أحد واقفا قيل له: أقعد! ولا يقال: اجلس! وإذا كان مضطجعا ثم استوى جالسا قيل: إنّه قد جلس.
ومعنى المثل أنَّ التزوج ولو بأدنى زوج خير من البقاء بلا زوج. قالته بنت همام بن مرة الوائلي البكري. وكان له فيما زعموا أربع بنات. فكان يخطبن إليه فيستأمرهن فيمنعهن الحياء أن يأذن فلا يزوجن. وكانت أمهن تأمره بتزويجهن فلا يفعل. فخرج ذات ليلة إلى متحدث لهن فجعل يستمع حديثهن وهن لا يعلمن. فقلن: تعالين نتمن ولنصدق! فقالت الكبرى:
إلاّ ليت زوجي من أناس ذوي غنى ... حديث الشباب طيب النشر والعطرِ
طبيبٌ بأدواء النساء كأنه ... خليفة جانٍ لا يبيت على وترِ!
فقلن لها: انك تحبين رجلا ليس في قومك. وقالت الثانية:
ألا هل أرها مرة وضجيعها ... أشم كماضي الشفرتين مهندِ
لصوقٌ بأكباد النساء واصله ... إذا ما انتهى من أهل سري ومحتدي؟
وقالت الثالثة:

ألا ليته على الجفان مدلب ... له جفنةٌ تشفى بها النيب والجزرُ
به محكمات الشيب من غير كبرةٍ ... تشين فلا العاني ولا الضرع الغمرُ!
فقلن لها: تحبين رجلا شريفا. فقلن للصغرى: تمني أنت! فقالت: ما أريد شيئا. فقلن: والله لا تبرحين حتى نعلم ما في نفسك! فقالت: زوجٌ من عودٍ خيرٌ من قعودٍ. فلما سمع أبوهن ذلك زوجهن.
وهكذا حكي عن بعضهم هذه القصة. والذي ذكر صاحب القاموس في اللغة أنَّ همام بن مرة له ثلاث بنات وآلا على نفسه ألا يزوجهن. فلما عنسن قالت إحداهن بيتا وأسمعته إياه متجاهلة. فقالت:
أ همام بن مرة إنَّ همي ... لفي الآئي يكون مع الرجالِ
فأعطاها سيفا وقال: هذا يكون مع الرجال! فقالت أخرى: ما صنعت شيئا ولكني أقول:
أ همام بن مرة إنَّ همي ... لفي قنفاء مشرفة القذال
و القنفاء تطلق عند العرب على الغليظة من آذان المعزى كأنها نعل مخصوف. وتطلق على الكمرة العظيمة وهو مراد القافية. فقال أبوها: وما قنفاء؟ تريدين معزى. فقالت الصغرى: ما صنعتما شيئا ولكني أقول:
أ همام بن مرة إنَّ همي ... لفي عردٍ أسد به مبالي
فقال: أخزاكن الله! وزوجهن. والعرد بفتح العين وسكون الراء: الذكر.
ويحكى أيضاً في نحو هذه القصة أنَّ رجلا من العرب كان له ثلاث بنات قد عضلهن ومنعهن الأكفاء. فقالت إحداهن: إن أقام أبونا على هذا الرأي فارقنا وقد ذهب حظ الرجال منا فينبغي لنا أن نعرض له بما في نفوسنا وكان يدخل إلى كل واحدة منهن يوما. فلما دخل على الكبرى تحادثا ساعة. فلما أراد الانصراف أنشدت:
أ يزجر لاهينا ويحلى على الصبا ... و ما نحن والفتيان إلاّ شقائقُ؟
يؤبن حييَّاتٍ مراراً كثيرةً ... و تنباق أحياناً بهن البوائقُ
فلما سمع الشعر ساءه. ثم دخل على الوسطى فتحادثا. فلما أراد الانصراف أنشدت:
ألا أيها افتيان إنَّ فتاتكم ... دهاها سماع العاشقين فخنت
فدونكم أبغوها فتى غير زملٍ ... و إلاّ صبت تلك الفتاة وجنت!
فلما سمع الشعر ساءه. ثم دخل على الصغرى في يومها. فلما أراد الانصراف أنشدت:
أما كان في ثنتين ما يزع الفتى ... و يعقل هذا الشيخ إن كان يعقلُ
فما هو إلاّ الحل أو طلب الصبا ... و لابد منه فائتمر كيف تفعلُ!
زر غباً، تزدد حباً!
الزيارة معروفه والغب في الماء أن ترد الإبل يوما وتدع يوما. فهي إبل غابة وغواب وغب كل شيء : عاقبته.
وأما في الزيارة فقال الجوهري: قال الحسن: الغب في الزيارة كل أسبوع. يقال: زر غبا تزدد حبا. انتهى. وهذا الكلام قد يروى حديثا مرفوعا وهو أمر بأوسط الأمور وأفضلها في الزيارة المحبة للمحبة ودوام الوصل. ووراء ذلك طرفان كلاهما مذموم: أحدهما الإكثار من الزيارة والإفراط فيها وهو يوجب السأم والملل والضجر. والثاني الإقلال منها جدا والإفراط في الغيبة والقطيعة. وهو يوجب الوحشة والتقاطع والتباعد. ونظم بعض الشعراء الكلام المذكور فقال:
إذا شئت أن تلقى فزر متتابعاً ... و إن شئت أن تزدد حباً فزر غبا
وقال الثعالبي:
عليك بإقلال الزيارة إنما ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا
فإني رأيت القطر يسأم دائماً ... و يطلب بالأيدي إذا هو أمسكا!
وقال أبو العتاهية:
أقلل زيارتك الصديق ولا تطل ... إتيانه فيلح في هجرانه!
إنَّ الصديق يلج في غشيانه ... لصديقه فيمل في غشيانه
حتى تراه بعد طول سروره ... و كأنه متبرم بمكانه
وإذا تولى عن صيانة نفسه ... رجلٌ تنقص واستخف بشانه
وقالوا: قلة الزيارة أمان من الملالة. وقالوا في الطرف الآخر يرك الزيارة سبب القطيعة. وينسب لعلي كرم الله وجهه:
الصبر من كرم الطبيعة ... و المن مفسدة الصنيعة
ترك التعاهد للصديق ... يكون داعية القطيعة

زيادة الأمل تقتضي نقصان العمل.
هذا مثل مصنوع فيما أظن وهو ظاهر المعنى.
زدهم عنزا
ً
الزيد والزيادة معروف. يقال: زدته الشيء أزيده زيادة وزيدا وأزددت كذا أزديادا. والعنز بفتح العين وسكون النون الأنثى من المعز ومن الظباء والأوعال. والعنز أيضاً اسم فرس وهي التي في قول الشاعر:

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6