كتاب : زهر الأكم في الأمثال و الحكم
المؤلف : اليوسي

قوله: حار أراد يا حارث قوله: ترجوا النساء عواقب الأطهار يريد إنَّ النساء لا يأتين بمثله وفي عروض هذا البيت عيب القطع وهو لا يجوز إلاّ مع التصريع. والمنجبات: خيل يركبون الإبل فيقودونها هي لا يركبونها إلى موضع الغارة لتجم. ويقال ما ذقت عذوفا بالذال المعجمة وتهمل في لغة ربيعة وبالفاء أي شيء. ويقال عذوقا وعذوقة فإنَ كانت الرواية بغير هاء التأنيث ففي هذا العروض أيضاً عيب السابق. والمساعر جمع مسعر وهو الذي يسعر الحرب. قوله: قد قمن قبل تبلج الأسحار هكذا في الرواية. والجملة حال أي بجد النساء عند وصوله يندبنه وقد كن قمن إلى ذلك من الليل قبل تبلج الأسحار واستمررن على البكاء إلى وقت مجيئه. ويروى: يندبنه بالصبح قبل تبلج الأسحار. وقالوا يعني بالصبح هنا الحق والأمر الجلي وليس بظرف. ولا بد فيه مع ذلك من التقدير الذي في الرواية الأولى. ويصح إنَّ يكون الصبح أطلق على آخر الليل لقربه منه مجازا أو يكون على بابه. وقوله قبل تبلج الأسحار معمول لفعل مقدر كما في الرواية الأولى أو معمول ليندبه. ويكون بالصبح معمولا لحواسر على الألف والنشر مع تكلف. وأفاد بالبيتين انهم أدركوا ثأرهم لأن القتيل عند العرب لا يبكى حتى يؤخذ بثأره. وقال قيس بن زهير يرثي حمل بن بدر وهو أوّل من رثى مقتوله:
تعلم إنَّ خير الناس ميت ... على جفر الهباء لا يريم
ولو لا ظلمه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما بدت النجوم
ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغنى والبغي مرتعه وخيم
أظن الحلم دل علي قومي ... و قد يستجهل الرجل الحليم
ومارست الرجال ومارسوني: ... فمعوج علي ومستقيم
و في ذلك قال أيضاً:
شفيت النفس من حمل بن بدر ... و سيفي من حذيفة قد شفاني
قتلت باخوتي سادات قومي ... وهم كانوا لنا حلي الزمان
فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم اقطع بهم إلاّ بناني
فائدة: حمل بن بدر المذكور بفتح الحاء المهملة وفتح الميم على لفظ ولد الضان. وفيه قال الشاعر:
ليت شعري يلحق الهيجا حمل ... ما احسن الموت إذا حان الأجل
و تمثل بهذا الشعر فيما ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه يوم الخندق. قال البكري: وفي همدان حمل بن زياد بن حسان بفتح الحاء وضم الميم وقي مدحج جمل كنانة بفتح الجيم والميم كلفظ واحد الجمال وفي كنانة خمل بن شق يعني بالخاء المعجمة مضمومة وتسكين الميم والله اعلم.

وأما سبب الصلح بينهم على الحارث بن عوف فهو إنَّ الحارث قال يوما لخارجة بن سنان: أتراني اخطب إلى أحد من العرب فيردني؟ قال: ومن هو؟ أوس بن حارثة في بلاده. فلما رأى الحارث قال: مرحبا بك يا حار قال: ويك! قال: وما حاجتك؟ قال: جئتك خاطبا. قال: ليست هناك فانصرف ولم يكلمه. ودخل أوس إلى امرأته مغصبا وكانت من عبس فقالت: من الرجل الذي وقف عليك؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف. قالت: فما لك لم تستنزله؟ قال إنّه استمحق. قالت: وكيف؟ قال: جاءني خاطبا. قالت: أف تريد تزويج بناتك؟ قال: نعم! قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذاك. قالت: فتدرك ما كان منك! قال بماذا؟ قالت: بأن تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط مني ما فرط إليه؟ قالت: تقول انك لقيتني مغضبا بأمر. فانصرف ولك عندي ما تحب فانه سيفعل فركب حارة في أثره . قال خارجة: فو الله إنا لنسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته فأقبلت على الحارث وما يكلمني غنا. فقالت: هذا أوس بن حارثة قال: وما نصنع به؟ امض فلما رآنا لا نلتفت صاح: يا حار أربع علي فوقفنا له فكلمه بذاك الكلام فرجع مسرورا. ودخل أوس فقال لامرأته: ادعي لي فلانة كبرى بناته. فأتته فقال: يا بنية هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب وقد جاء خاطبا. فأردت إنَّ أزوجك منه فما تقولين؟ قالت: لا تفعل قال: ولم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردة وفي خلقي بعض الحدة ولست بابنة عمه فيرعى رحمي وليس بجارك في البلد فيستحي منك ولا آمن إنَّ يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي وصمة. قال: قومي بارك الله فيك ثم دعى الوسطى فأجابته بنحو ذلك ثم دعى الصغرى فقال لها قالت: أنت وذلك . قال: إني عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. قالت: لكني الجميلة وجها الصناع يدا الحسيبة أبا. فإنَ طلقني فلا أخاف الله عليه. قال: بارك الله عليك ثم خرج إلينا قال: قد زوجتك بهنسة بنت أوس. قال: قد قبلت. أمر أمها إنَّ تهيئها وتصلح من شأنها. ثم أمر ببيت فضرب له وادخله إياه. فلما أدخلت إليه لبث هنيئة ثم خرج ألي فقلت: أفرغت من شأنك؟ قال: لا والله لمّا مددت يدي إليها قالت مه اعند أبي واخوتي؟ هذا لا يكون قال: فأمر بالرحلة فارتحلنا بها معنا فسرنا ما شاء الله ثم قال لي: تقدم فتقدمت فعدل بها عن الطريق فما لبث إنَّ لحقني فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله قالت لي: اكما يفعل بالأمة الجليبة والسبية الأخيذة؟ لا والله حتى تنحر الجزور وتذبح الغنم وتدعو العرب وتعمل ما يعمل لمثلي. قال خارجة: فقلت: والله لأري هيئة عقل وإني لأرجو أن تكون المرأة النجيبة. ثم سرنا حتى دخلنا بلادنا. فأحضر الإبل والغنم ثم دخل إليه وخرج. فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله قلت: ولم ذلك؟ قال: دخلت عليها أريدها فقلت: قد أحضرنا من المال ما ترين. قالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف بما لا أراه فيك قلت: كيف؟ قالت: أتتفرغ لنكاح النساء والعرب يقتل بعضها بعضا؟ تعني عبسا وذبيان قلت: فتقولين ماذا؟ قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم فاصلح بينهم ثم ارجع إلى اهلك فلن يفوتك قلت: والله إني لأرى عقل وهمة ولقد قالت قولا فاخرج بنا فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح فاصطلحوا على إنَّ يحسبوا القتلى من الفريقين ثم يؤخذ الفضل ممن هو عليه. فحملنا عنهم الديات وكانت ثلاثة آلاف بعير. وفي هذا الصلح يقول زهير يمدحهما:
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
يموينا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبس وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
و عاش الحارث حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم رحمه الله تعالى.

تلك التجارة لا انتقاد الدرهم.
هذا في قول القائل:
وإذا شكا مهري الي حرارة ... عند اختلاف الطعن قلت له: اقدم
إنني بنفسي في الحروب لتاجر ... تلك التجارة لا انتقاد الدرهم
و معناه ظاهر.
تمرة خير من جرادة.

التمر بالمثناة الفوقانية وسكون الميم معروف وهو ما يبس من حمل النخيل. الواحدة تمرة والجمع تمرات وتمور وتمران والتمار بائع التمر والتمري من يحبه. وأما الثمر بالمثلثة وفتح الميم فهو حمل الأشجار كلها. والجراد معروف الواحدة جرادة والمثل ظاهر مشهور.

التمر في البئر على ظهر الجمل.
التمر تقدم والبئر معروف وكذا الجمل. وأصل المثل إنَّ المنادي كان يقوم في الجاهلية على اطم من اطام المدينة فينادي بذلك الكلام حتى يدرك التمر أي: من سقى نخيله بمياه الآبار على ظهور الجمال بالسواني وجد التمر وحمد عاقبة الأمر وأدرك غاية السقي ونجاح الرأي. وهذا كما تقول: الزرع في تحريك الأرض وتزبيلها والعنب في زبر الكرم وسقياه. وهذا كله تحضيض على أحكام الأسباب والاعتناء بالسوائل وتنبيه على إنَّ المقاصد منوطة بها ومرتبط صلاحها بصلاحها. وقريب منه المثل الآخر: وهو قولهم: عند الصبح يحمد القوم السرى وقول القائل:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن الزرع
اتميميا مرة وقيسيا أخرى
؟
يضرب لمن يتلون ويختلف كلامهم يقف على حال أي: أتنتسب إلى تميم مرة وإلى قيس مرة أخرى؟ وتميم وقيس قبيلتان عظيمتان من قبائل العرب.أما تميم فهو تميم بم مر بم آد بن طابخة بالباء الموحدة والخاء المعجمة بن الياس بن مضر بن نزار وأما قيس فهو قيس بن عيلان بفتح العين المهملة واسمه الياس بن مضر بن نزار وقيس لقب له. وقد قيل إنَّ عيلان هو أبو قيس. ويدل لصحته قول الحماسي:
لحى الله قيسا عيلان إنّها ... أضاعت ثغور المسلمين وولت
فشاول بقيس في الطعان ولا تكن ... أخاها إذا ما المشرفية سلت
إلاّ إنّما قيس بن عيلان بقة ... إذا شربت الماء العصير تغنت
فصرخ بأنه أبن عيلان. وبين القبيلتين أبداً منافرات ومكافحات ومقاتلات. ومن ثم اشتهر بينهما التقابل كما في هذا المثل وشاع عند البيانيين في باب القصر التمثيلي بقولهم: فلان تميمي مراعاة لهذا الأمر. وفي بعض الأخبار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا الدرداء إذا فاخرت ففاخر بقريش وإذا كاثر فكاثر بتميم وإذا حاربت فحارب بقيس إلاّ إنَّ مجوهها كنانة ولسانها أسد وفرسانها قيس إلاّ إنَّ لله فرسانا في سمائه وهم الملائكة وفرسان في الأرض وهم قيس وإنَّ آخر من يقاتل عن الإسلام حين لا يبقى إلاّ ذكره ومن القرآن إلاّ اسمه لرجل من قيس. قلت: يا رسول الله من أي قيس؟ قال: من سليم.
وسار معاوية يوما فإذا هو براكب فقال لبعض أصحابه: علي به من غير ترويع فاتاه وقال: اجب أمير المؤمنين فقال: إياه أدرت. فلما دنا حسر اللثام وانشد:
معاوية لم أزل آتيك تهوي ... برحلي نحو ساحتك الركاب
تجوب الأرض نحوك ما تأبى ... إذا ما الاكم قنعها السراب
وكنت المرتجى وبك استغثت ... لتنعشها إذا بخل السحاب
فإذا ليلى الاخيلية فهش لها معاوية وأمر لخها بخمسين بعيرا. ثم سألها عن مضر فقالت: فاخر بقريش وحارب بقيس وكاثر بتمبم وناطق بأسد وتقدم إنَّ هذا في الحديث وسيأتي تمام حديث ليلى في الأعيان. ويسمى أولاد الياس خندفا وهي اسم أمها ومضر كلها راجعة إلى خندف وقيس.

ومن اظرف من يتفق في هذا النسب ويزيد بصيرة في هذا المقام. ما ذكر أبو علي البغدادي يرفع إلى أبي عبيدة أن يزيد بن شيبان بن علقمة خرج حاجا فرأى حين شارف البلد شيخ يحفه ركب على ابل عتاق برحال ميس ملبسة ادما. قال: فعدلت فسلمت عليهم وبدأت به فقلت: من الرجل ومن القوم؟ فإنَ القوم ينظرون إلى الشيخ هيبة له فقال الشيخ: رجل من مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف من قضاضة. فقلت: حياكم الله وانصرفت. فقال الشيخ: قف أيّها الرجل استنسبتنا فانتسبنا لك ثم انصرفت ولم تكلمنا ويروى: شاممتنا مشامة الذئب للغنم ثم انصرفت قال. قلت: ما أنكرت سوءا ولكنني ظننتكم من عشيرتي فانسبكم فانتسبتم نسبا لا اعرفه ولا أراه يعرفني. قال: فامال الشيخ لثامه وحسر عمامته وقال: لعمري لئن كنت من جذم من اجذام العرب لاعرفنك. قلت: فاني من اكرم اجذامها. قال: فإذا العرب بنيت على أربعة أركان: مضر وربيعة واليمن وقضاعة فمن أيهم أنت؟ قلت: من مضر. قال: أمن الأرجاء أمن الفرسان؟ فعلمت إنَّ الأرجاء خندف وإنَّ الفرسان قيس. قلت: من الأرجاء. قال: أنت إذا من خندف؟ قلت: اجل قال: افمن الأرنبة أم الجمجمة؟ فعلمت إنَّ الأرنبة مدركة وإنَّ الجمجمة طابخة. فقلت: من الجمجمة. قال: فأنت إذن من طابخة؟ قلت: اجل قال: افمن الصميم أم من الشويط؟ فعلمت إنَّ الصميم تميم وإنَّ الشويط الرباب فقلت: من الصميم. قال: فأنت إذا من تميم؟ قلت: اجل قال: افمن الاكرمين أم من الاحلمين أم من الاقلين؟ علمت إنَّ الاكرمين زيد مناة وإنَّ الاحلمين عمرو بن تميم وإنَّ الاقلين الحارث بن تميم. قلت من الاكرمين. قال: فأنت إذا من زيد مناة؟ قلت: اجل قال: افمن الجدود أم من البحور أم من الثماد؟ فعلمت إنَّ الجدود مالك وإنَّ البحور سعد بن زيد مناة وإنَّ الثماد بنو امرئ القيس بن زيد بن مناة. قلت: من الجدود. قال: فأنت إذا من بني مالك؟ قلت: اجل قال: افمن الذرى أنت أم من الارداف؟ فعلمت إنَّ الذرى حنظلة وإنَّ الارداف ربيعة ومعاوية وهما الكرد وسان. قلت: من الذرى. قال: فأنت إذا من بني حنظلة؟ قلت: اجل قال: افمن البدور أم من الفرسان أم من الجراثيم؟ فعمت إنَّ البدور مالك وإنَّ الفرسان يربوع وإنَّ الجراثيم البراجم. قلت: من البدور. قال: فأنت إذا من بني مالك بن حنظلة؟ قلت: اجل قال: افمن الأرنبة أم من اللحيين أم من القفا؟ فعلمت إنَّ الأرنبة دارم وإنَّ اللحيين طهي والعدرية وإنَّ القفا ربيعة بن حنظلة قلت من الأرنبة قال: فأنت إذا من دارم؟ قلت اجل قال: افمن اللباب أم من الهضاب أم من الشهاب؟ علمت إنَّ اللباب عبد الله وإنَّ الهضاب مجاشع وإنَّ الشهاب نهشل. قلت: من اللباب. قال: فأنت إذا من عبد الله ؟ قلت اجل قال: افمن البيت أم من الزوافر؟ فعلمت إنَّ البيت بنو زرارة وإنَّ الزوافر الاحلاف. قلت: من البيت. قال: فأنت إذا من بني زرارة؟ قلت: اجل قال: فإنَ زرارة ولد عشرة: حاجيا ولقيطا وعلقمة ومعبدا وخزيمة ولبيد وأبا الحارث وعمرا وعبد مناة ومالك فمن أيهم أنت؟ قلت: من بني علقمة ولد شيبان لم يلد غيره فتزوج ثلاثة نسوة:مهدد بنت حمران بن بشر بن عمرو بن مرثد فولدت له يزيد وتزوج عكرشة بنت حاجب بن زرارة بن عدس فولدت له المأمور وتزوج عمرة بنت بشر بن عمرو بن عدس فولدت له المقعد. فلأيهم أنت؟ قلت: لمهدد. قال: يا أبن أخي ما افترقت فرقتان بعد مدركة إلاّ كنت في أفضلها حتى زاحمك أخزك فانهما إنَّ تلدني أما هما احب ألي من إنَّ تلدني أمك. يا أبن أخي أتراني عرفتك؟ قلت: أي وأبيك أتم معرفة قال: الميس ضرب من الشجر تعمل منه الرحال وارم القوم: سكنوا والوشيط الخسيس من الرجال والصميم الخالص. وفي معنى هذا المثل الذي نحن فيه قول زفر ابن الحارث لعمران بن حطان: ازدينا مرة واوزعيا أخرى؟ ومن التلون قول عمران المذكور:
فاعذر أخاك أبن زنباع فإنَ له ... في النائبات خطوبا ذات ألوان
يوما يمان إذا لا قيت ذا يمن ... و إنَّ لقيت معديا فعداني
و قول الآخر:
أفي الولائم أولاد لواحدة ... و في المفاخر أولاد لعلات؟

تيسي جعار.

تيسي بكسر التاء الفوقانية المثناة بعدها مثناة تحتانية ساكنة بعدها سين مهملة. وجعار على مثال حذام وهي الضبع ويقال لها جعار وأم جعار وأم جعور ويقال أيضاً: عيثي جعار. أما تيسي فهي من مادة التيس ولم يذكروا لها فعلا بل قالوا إنّها كلمة تقال في معنى إبطال الشيء وأما عيثي وهو الإفساد واصله عيثي يا جعار قال الشاعر:
فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلحم امرئ لم يحضر اليوم ناصره
و سيأتي تمامه في محله ومما يلتحق بهذا الباب قولهم:

تحت طريقتك عنداوة.
والطريقة على مثال السكينة الرخاوة واللين والعنداوة: الخديعة والمكر أي تحت إطراق مكر. وهو مثل المثل الآتي: مخرنبق لينباع وسيأتي قولهم:
تركته باست الأرض.
أي تركته عديما فقيرا. وقولهم:
تركته على أنقى من الراحة.
ومما يتمثل به تارة قوله صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
ومن أمثال العامة الحكيمة في هذا الباب قولهم: اترك الحب تحب أي لا تطمع فيما أيدي الناس يحبونك وإنَّ تكثر غشيانهم يملونك. قال زهير:
ومن لا يزل يستحمل الناس نفسه ... و لا يغنها يوما من الدهر يسام
و في الأثر المروي: أزهد في الدنيا يحبك الله، وأزهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس. ويشبه هذا المثل مسألة الطائر، إنَّ ترك الحبة المعلقة في الفخ نجا، وإنَّ وإنَّ اقتحمها هلك. ومن أمثالهم أيضاً قولهم:
اترك صاحب الغاسول يسكت!
زعموا إنَّ شخصين اصطحبا في طريق، لأحدهما حمل من حديد أو أشبه، وللأخر حمل من الغاسول، وهو طين يغتسل به الرؤوس، فأصابهما مطر في منزل، فجعل صاحب الحديد يتوجه ويتخوف على سلعته من البلل. فقال له صاحب الغاسول ما ذكر. ومعلوم أنَّ الحديد وشبهه لا يضره البلل، وأما الغاسول المذكور فأدنى شيء من البلل خلص إليه يحله ويفسده. فيضرب فيمن يتوجع ويتألم، أو يشتكي ويتظلم، أو يتأسف ويتندم، وثم من هو اجدر منه.
وقد حان أن نذكر من الشعر ما يتيسر. قال الشاعر:
كم من فتى تحمد أخلاقه ... و يسكن العافون في ذمته!
قد كثر الحاجب أعداءه ... و احقد الناس على نعمته
و سبب هذا الشعر أنَّ أعرابياً دخل البصرة، فسأل عن دار عبد الله بن عامر بن كريز، وكان عبد الله من فتيان قريش جوداً وسخاء، وكرماً وحياء، فدل على الدار، فأناخ راحلته بالباب. فاشتغل عنه الحاجب والعبيد وبات طاويا. فلما أصبح ركب راحلته ووقف على الحاجب فأنشأ يقول:
كأني ونضوي عند باب أبن عامرٍ ... من الجود ذئبا قفرة هلعان
وقفت وصنبور الشتاء يلفني ... و قد مس برد ساعدي وبناني
فلما أوقدوا ناراً ولا بذلوا قرى ... و لا اعتذروا عن عسرة بلسان
فقال بعض شعراء البصرة ما تقدم. فلما بلغ أبن عامر، عاقب الحاجب وأمر أنَّ لا يغلق بابه ليلا ولا نهاراً.
وقال الأخر:
لا تنظرن إلى عقلٍ ولا أدبٍ ... إنَّ الحدود قرنات الحماقات
واسترزق الله مما في خزائنه ... فكل ما هو آت مرة آت
و مثله قول الصابئ:
إذا جمعت بين أمراين صناعة ... فأحببت أن تدري الذي هو احذق
فلا تتأمل منهما غير ما به ... جرت لهما الأرزاق حين تفرق:
فحيث يكون النوك فالرزق واسع ... و حيث يكون الحذق فالرزق ضيق
و قال صالح ب عبد القدوس:
وليس رزق الفتى من حين حيلته ... و لكن جدود بأرزاق وأقسام
كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمى فيرزقه من ليس بالرامي
و قال الأخر:
متى ما يرى الناس الغني وجاره ... فقير يقولون: عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... و لكن أحاظٍ قسمت وجدود
و قولي، من قصيدة:
والحظ والمقدار ما حصرا ... في ذي الذكاء يبيت يستمري
بل قسمة أزلية نشأت ... بيدي مدبرها على قدر
وإذا نظرت رأيت في قرن ... عمر الغني وجهالة الغمر
وترى اللبيب يبيت في ضعف ... بهمومه متقسم الفكر
ليكون فضل حجى الفتى عوضا ... عن فضل مل الأنوك الكثر
وتكون أحكام الإله جرت ... في الخلق عن غلب وعن قسر
و سيأتي ذكر ما في هذا المعنى من الشعر عند ذكر الجد، إنَّ شاء الله تعالى.

وقال الحماسي عمرو بن معدي كرب:
وجاشت إلي نفسي أوّل مرة ... فردت على مكروهها فاستقرت
ومنه قول الآخر:
صبرت على اللذات حي تولت ... و ألزمت نفسي هجرها فاستقلت
وكانت مدى الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت صبري على الذل ذلت
و السادات الصوفية، رضوان الله عليهم، يتمثلون به كثيراً في نجح الرياضة.
وقول الحماسي أيضاً سيار بن قصير الطائي:
عشية أرمي جمعهم بلبانها ... و نفسي قد وطنتها فاطمأنت
و قول كثير:
فقلت لها: غز كل مصيبة ... إذا وطئت يوماً لها النفس ذلت
قال المبرد: وكان عبد الملك يقول: لو كان هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس.
وقوله أيضاً:
فيا عجب للقب كيف اعتزامه ... و النفس لمّا وطئت كيف ذلت!
و قول ضابئ بن الحارث:
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب!
و قال الأخر:
تمتع إذا ما أمكن الدهر واغتنم ... زمانك واعلم إنّه سيفوت!
و قال الأخر:
داء قديم وأمر غير مبتدع: ... جور الزمان على أهل المروآت
و قال الأخر:
سكت عن السفيه فظن إني ... عييت عن الجواب، وما عييت
و قال الأخر:
سروران ما لهما ثالث: حياة البنين وموت البنات
و هذا من قول الأعراب: موت البنات، من المكرمات. وقال الأخر:
كانت سليمى تنادي يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبت!
و قال الأخر:
كلام الناس أشتات ... و معنى كله: هاتوا!
و قال الأخر:
كم عائد رجلا وليس بعائد ... إلاّ ليعلم هل يراه يموت!
و قال الأخر:
كم مات قوم وما ماتت مكارمهم ... و عاش قوم وهم في الناس أموات!
و قال الأخر:
وأنطقت الدراهم بعد عي ... أناس بعد ما كانوا سكوتا!
و قال الأخر:
وما تنفع الآداب والحلم والحجى ... و صاحبها عند الكمال يموت!
و قال الأخر:
ويحسن إظهار التجلد للعدى ... و يقبح غير العجز عند الأحبة
و قال الأخر:
لا تتهم من شف فاك فانه ... أعطى الحياة وقدر الأقواتا
و قال أبو الطيب:
إنَّ الكرام بلا كرام منهم ... مثل القلوب بلا سويداواتها
و قال: أبو العلاء المعري:
فالأرض تعلم أنني من فوقها ... متصرف وكأنني من تحتها
غدرت بني الدنيا وكل مصاحب ... صاحبته غدر الشمال بأختها
شغفت بوامقها الحريص وأظفرت ... مقتي لمّا أظهرته من مقتها
لابد للحسناء من ذامٍ ولا ... ذام لنفسي سيئ بختها
و قال الأخر:
إنَّ الصروف كما علمت صوامت ... عنها وكل عبارة في صمتها
متفقه للدهر إنَّ تستفتيه ... نفس عن جرمه لم يفتها
وتكون كالورق الذنوب على الفتى ... و مصابه ريح تهب لحتها
و قال أيضاً:
رويدا عليها إنّها مهجات ... و في الدهر محيى لامرئ وممات
أرى غمرات ينجلن عن الفتى ... و لكن توافي بعدها غمرات
ولابد للإنسان من سكر ساعة ... تهون عله بعدها السكرات
إلاّ إنّما الأيام أبناء واحد ... و هذي الليالي كلها أخوات
فلا تطلب من عند يوم وليلة ... خلاف الذي مرت به السنوات
و قال أيضاً:
والموت احسن بالنفس التي الفت ... عز القناعة من إنَّ تسال القوتا
بت الزمان حبالي من حبالكم ... اعزز علي بكون الوصل مبتوتا
و قال:
أحسنت ما شئت في إيناس مغترب ... و لو بلغت المنى أحسنت ما شيتا
و قال القاضي التنوخي:
القرآن العدو بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
فأحزم الناس من يلقي أعاديه ... في جسم حقد وأثواب المودات
و قال الآخر:
إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت
و هو مثل قول الآخر:
أو كلما ظن الذباب طردته ... إنَّ الذباب إذا علي كريم
يحكى إنَّ رجلا اسمع أبن هبيرة وهو معرض عنه فقال له الرجل: إياك اعني فقال: وعنك أنا اعرض! وقال الآخر وينسب لعثمان بن عفان رضي الله عنه:
خليلي لا والله ما من ملمة ... تدوم على حي وإنَّ هي جلت

فإنَ نزلت يوما فلا تخضعن لها ... و لا تكثر الشكوى إذا النعل زلت
فكم من كريم قد بلى بنوائب ... فصابرها حتى انجلت واضمحلت
و قال أبو محمّد الحريري:
يا من تظن السراب ماء ... لمّا رويت الذي رويت
و قال:
فمهد العذر أو فسامح ... إنَّ كنت أجرمت أو جنيت
و قال أيضاً:
لا تحقرن أبيت اللعن ذا أدب ... لأن بدا خلق السربال سبروتا
ولا تضع لأخي التأميل حرمته ... أكان ذا لسن أم كان سكيتا
وانفح بعرفك من وافك مختطبا ... و أنعش بغوبك من ألفيت منكوتا
فخير مال الفتى مال اشد له ... ذكر تناقله الركبان أو صيتا
وما على المشتري حمدا بموهبة ... غبن ولو كان ما أعطاه ياقوتا
لولا المروءة ضاق العذر عن فطن ... إذا اشرأب إلى ما جاوز القوتا
لكنه لابتناء المجد جد ومن ... حب السماح ثنى نحو الغنى ليتا
وما تنشق نشر الشكر ذو كرم ... إلاّ وأزرى بنشر المسك مفتوتا
والحمد والبخل لم يقض اجتماعها ... حتى لقد ذا ضبا وذا حوتا
السمح في الناس محمود خلائقه ... و الجامد الكف ما ينفك ممقوتا
وللشحيح على أمواله علل ... يوسعنه أبداً ذما وتبكيتا
فجد بما جمعت كفاك من نشب ... حتى يرى مجتدي جدواك مبهوتا
وخذ نصيبك من قبل رائعة ... من الزمان تريك العود منحوتا
فالدهر أنكر من إنَّ تستمر به ... حال تكرهت تلك الحال أم شيتا
قوله: أشاد له ذكرا أي رفعه وهذا محمود مطلوب. ففي الحديث: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند الله فانظروا ما يتبعه من الذكر الحسن وقيل لبعض الحكماء: ما أحمد الأشياء؟ قال: أن يبقى للإنسان أحدوثة حسنة وقال اكثم بن صيفي: إنّما انتم خبر فطيبوا أخباركم وآخذه حبيب فقال:
وما أبن آدم الاذكر صالحة ... و ذكر سيئة تسري بها الكلم
أما سمعت بدهر ... جاءت بأخبارها من بعدها الأمم
و أبو بكر بن دريد حيث قال:
وإنّما المرء حديث بعده: ... فكن حديثا حسنا لمن وعى
و قال الأحنف بن قيس: وما ادخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الموتى للأحياء افضل من اصطناع المعروف عند ذوي الاحساب. وقيل لمعاوية: أي الناس احب إليك؟ فقال: من كانت له عندي يد صالحة. وقيل: إذا أقبلت عليك الدنيا فانفق منها فإنّها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنّها لا تبقى. واخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
ولا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف
فإنَ تولت فأحرى أن تجود بها ... و الحد منها إذا ما أدبرت خلف
و قال الآخر:
إذا جادت الدنيا عليك فجد بها ... على الناس طرا قبل أن تنقلت
فلا الجود يقنيها إذا هي أقبلت ... و لا البخل يبقيها إذا هي ولت
قوله: فكن البيت مثله قول الآخر:
لولا توقع معتر فأرضيه ... ما كنت أوثر أترابا على تربي
و قال الآخر:
لولا شماتة أعداء ذوي حسد ... و أن أنال بنفع من يرجيني
لمّا خطبته إلى الدنيا مطايبها ... و لا بذلت لها عرضي ولا ديني
قوله: وما تنشق نشر الشكر ذو كرم البيت نحوه ما يحكى عن بعضهم قال: رأيت رجلا من وجوه أهل مكة لا يزال دائبا في طلب حوائج الناس وادخل الرفق على الضعفاء. فقلت له: اخبرني عن الحال التي أوجبت لك هذا التعب. فقال: قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار من فروع الأشجار وسمعت خفوق أوتار العيدان وترجيع أصوات القيان فما طلابت من صوت قط طربي من ثناء حسن على رجل قد احسن ومن شكر حر لرجل حر ومن شفاعة محتسب لطالب شاكر وفي مدح الكرم وذم البخل قول الله تعالى: ومن يوق شح نفسه. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله يحب الجود ومكارم الأخلاق، ويكره سفسافها " . وقوله صلى الله عليه وسلم: أي داء أدوا من البخل؟ كما مر في قصته. وقيل لمحمود بن عياد: أنت متلاف! فقال: منع الجود، سوء الظن بالمعبود. أخذه محمود الوراق فقال:
من ظن بالله خيراً جاد مبتدياً ... و البخل من سوء ظن المرء بالله

و خوف بعض البخلاء بعض الأسخياء الإملاق، فرد عليه السخي وقال: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا. وقيل لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال. فقال: إنَّ الله تعالى عودني أنَّ يتفضل علي، ودعوته أنَّ أتفضل على عبيده؛ فأخاف أنَّ أقطع العادة، فيقطع عني عادته.
وقال أيضاً:
إنَّ الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت؟
لكنه ما يشين الحر موجعة: ... فالمسك يسحق والكافور مفتوت
وطالما أصلي الياقوت جمر غضا ... ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت
و قال أيضاً:
أستغفر الله من ذنوب ... أسرفت فيهن واعتديت
كم خضت بحر الضلال جهرا ... و رحت في الغي واغتديت!
وكم أطلعت الهوى اغتراراً ... و اختلت واغتلت وافتريت!
وكم خلعت العذار ركضا ... إلى المعاصي وما ونيت!
وكم تناهت في التخطي ... إلى الخطايا وما انتهيت!
فليتني كنت قبل هذا ... نسيا ولم أجد ما جنيت!
فالموت للمجرمين خير ... من المساعي التي سعيت
وقال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حينما أزلقت ... بنا رجلنا في الواطئين وزلت
أبوا أنَّ يلمونا ولو أنَّ أمنا ... تلاقي الذي يقولون منا لملت
وهم أسكنوا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت
و يروى أنَّ مالا جاء من البحرين فقسمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالسوية، فغضبت الأنصار وقالوا: لنا فضل. فقال: صدقتم! إنَّ أردتم أنَّ أفضلكم ذهب عملكم للدنيا، وإنَّ صبرتم كان ذلك لله. فقالوا: والله ما عملنا إلاّ لله! وانصرفوا. فخطب أبو بكر وقال أثناء خطبته: يا معشر الأنصار! لو شئتم لقلتم: أنا آويناكم في ظلالنا، ونشاطركم في أموالنا، ونصرناكم بأنفسنا. يا معشر الأنصار! لكم من الفضل ما لا يحصيه العدد، وإنَّ طال به الأمد. فنحن وأنتم كما قيل طفيل الغنوي وأنشد الأبيات، متمثلا. وقال كثير:
هنيئا مريئا غير داءٍ مخامرٍ ... لعزة من إعراضنا ما استحلت
حكي أنَّ الشعبي أتى المسجد يوما فصادف فيه قوما يغتابونه، فأخذ بعضادتي الباب وقال: هنيئا مريئا " البيت " . وهذا البيت من قصيدة كثير التائية المشهورة التي أولها:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قولوا صيكما ثم أبكيا حيث حلت!
و منها:
وكنت كذي رجلين: رجل صحيحة ... و رجل رمى فيها الزمان فشلت
وكانت كذات الضلع لمّا تحاملت ... على ضلعها بعد العثار استقلت
أريد الثواء عندها وظنها ... إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
و منها.
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت
لك المرتجي ظل الغمامة كلما ... تبوا منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها سحابه ممحل ... رجاها فلما جاوزته استهلت
و ذكر أبو علي البغدادي إنّه قيل لكثير: من أشعر؟ أنت أم جميل؟ قال: أنا. فقيل له: كيف، وأنت راويته؟ فقال جميل الذي يقول:
رمى الله في عيني بثينة بالقذا ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح!
و أنا أقول: هنيئا مريئا غير داءٍ مخامر، الخ.
قلت: وقد وقع له بعد هذا البيت نحو ما لجميل، حيث قال:
فإن تكن العتبي فأهلا ومرحبا ... و حقت لها التعبسي لدينا وقلت
وإنَّ تكن الأخرى فإن وراءنا ... منادح لو سارت بها العيس كلت
فقوله: وراءنا مناديح أضر على قلب عزة من القذى في العين، غير إنّه قال أيضاً:
أسيئي بنا أو احسني لا ملومة ... لدينا ولا ملقية إنَّ تقلت
و قال الأخر:
سقوني وقالوا لا تغن، ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت
ذكروا أنَّ فتى أتي به بعض الخلفاء ثملا، فسأله. فأنشد ذلك، وقال آخرون: أتي بفتى من قريش إلى عبد الملك بن مروان، فقال له: أين شربت؟ فقال:
شربت مع الجوزاء كأسا روية ... و أخرى مع الشعري إذا ما استقلت
معتقة كانت قريش تعافها ... فلما استحلت قتل عثمان حلت

فاستظرفه وأمر بإطلاقه، وأعطاه عشره آلاف درهم. والسادات الصوفية، أسبل الله رضوانه عليهم، وحشرنا إليهم، يتمثلون بالبيت السابق في شرابهم المستطاب، الذي كل شراب دونه سراب أو عذاب؛ وفي ذلك قال الإمام المقدسي، مضمنا للبيت المذكور:
أباحت دمي إذ باح قلبي بحبها ... و حل لها في حكمها ما استحلت
وما كنت ممن يظهر السر إنّما ... عروس هواها في ضميري تجلت
فشاهدتها فاستغرقتني فكرة ... أغيب بها عن كل كلي وجملتي
وحلت محل الكل مني بكلها ... فإياي إياها إذا ما تبدت
ونمت على سري فكانت هي التي ... عليها بها بين البرية نمت
إذا سألت من أنت؟ قلت أنا الذي ... بقائي إذا أفنيت قيل هويتي
أنا الحق في عشقي كما أن سيهي ... هو الحق في حسني لغير معية
فإن أك في سكري فإنني ... حكمت بتمزيق الفؤاد المفتت
ولا غرو إنَّ أصليت نار تحرقي ... و نار الهوى للعاشقين أعدت
ومن عجبي أنَّ الذين أحبهم ... و قد أعلقوا أيدي الهوى بأعنة
سقوني وقالوا لا تغن، ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني، لغنت
و قال الأخر:
لقد بخلت حتى لو إني سألتها ... قذى العين من ضاحي التراب لضنت
فإنَ بخلت فالبخل منها سجية ... و إنَّ بذلت أعطت قليلا وأكدت
و سيأتي في هذا المعنى ما فيه كفاية، إن شاء الله تعالى.
وقال أعرابي:
شر قرين للكبير بعلته ... تولغ كلبا سؤره أو تكفته
البعلة: الزوجة، والرجل بعل. والمعنى أن الرجل إذا كبر تقذرته امرأته: فلا تشرب فضلة شرابه، بل تسقيه كلبا أو تكفته على الأرض.
وقال الأخر:
أقول إذ حوقلت أو دنوت، ... و بعض حيقال الرجال الموت:
مالي إذا أنزعتها صأيت ... أكبر غيري أم بيت؟
و البيت: الزوجة أيضاً.
فائدة: الزوجة لها أسماء عدة: منه البعلة والبيت وتقدم ومنها الشهلة. قال الشاعر:
له شهلة شابت ومامس جيبها ... و لا راحتيها الشثنتين عبير
و تطلق الشهلة على العجوز كقول الآخر:
باتت تنزي دلوها تنزيا ... كما تنزي شهلة صبيا
و هذا أيضاً محتمل. ومنها الحليلة وجمعها حلائل. قال الله تعالى: وحلائل آبائكم. ومنها العرس بكسر العين. قال امرؤ القيس:
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه ... و امنع عرسي أن يزن بها الخالي
و يقال للرجل أيضاً عرس وكذا العروس يستويان فيه غير إنّه إنّما يوصفان به ما دام في إعراسهما بخلاف العرس. وأما العرس بضم العين فاسم الوليمة ومنها الحنة. قال الشاعر:
ما أنت بالحنة الودود ولا ... عندك خير يرجى لملتمس
و منها الطلة قال الشاعر:
وإنَّ امرؤا في الناس كنت أبن أمه ... تبدل مني طلة لغبين
دعتك إلى هجري فطاوعت أمرها ... فنفسك لا نفسي بذاك تهين
و منها الربض ويقال الربض أيضاً لكل ما أويت إليه. قال الشاعر:
جاء الشتاء ولمّا اتخذ ربضا ... يا ويح نفسي من حفر القراميص
و منها القعيدة. قال الحطيئة:
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى بيت قعيدة لكاع
ومنها الزوج ويطلق على الذكر والأنثى. وقد بقال الزوجة على قلة كقول الفرزدق:
وإنَّ الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
و قال سليمان العدوي أو الخزاعي في مرثيته للحسين رضي الله عنه:
إذا افتقرت قيس جبرنا فقيرها ... و قتلنا قيس إذا النعل زلت
وهو مثل قول اللحيص بيض:
ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم ابطح
و قرئ على قبر بالمدينة:
يا مفردا سكن الثرى وبقيت لو ... كنت اصدق إذ بليت بليت
الحي يكذب: لا صديق لميت ... لو صح ذاك ومت كنت أموت
و مثله قول الآخر:
ومن عجب أن بت مستشعر الثرا ... و بت بما زودتني متمتعا
ولم إنني أنصفتك الود لم أبت ... خلافك حتى تنطوي في الثر معا
و قول الآخر:
ما وفي العباد حي لميت ... بعد ياس منه له في الإياب
و قول الآخر:
نسيبك من أمسى يناجيك طرفه ... و ليس لمن وارى التراب نسيب
و قال أبو محمّد الحريري رحمه الله تعالى في غلام ابقل عذاره:

قال العواذل ما هذا الغلام به: ... أما ترى الشعر في خديه نبتا
فقلت والله لو إنَّ المفند لي ... تأمل الرشد في عينيه ما ثبتا
ومن أقام بأرض وهي مجدبة ... فكيف يرحل عنها والربيع أتى؟
و قال أبن زهر الاشبيلي إذ غلب عليه الشيب:
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
رأيت فيها شيوخا لست اعرفه ... و كنت اعهده من قبل ذاك فتى
فقلت: أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان متى؟
فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة ... أتى الذي أنكرته مقلتاه أتى
كانت سليمة تنادي: يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم: يا أبتا
و تقدم بعضه قبل هذا الباب. وقال الآخر:
الصبر محمود إلى غاية ... و هذه الغاية حتى متى؟
ما احسن الصبر ولكنه ... في ضمنه يذهب عمر الفتى
و هو مأخوذ من قول بعض الحكماء: ما احسن الصبر لولا إنَّ النفقة عليه من العمر.
وقال الآخر:
ألم تر إنَّ الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت؟
فقل لجديد العيش: لا بد من بلى ... و قل لاجتماع العيش: لابد من شت
وقال الآخر:
إذا لم يكن مني تصامم ... و في بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظما ... و إنَّ قلت إني صمت يوما فما صمت
و فيه الجناس التام. وقال الآخر وقد قدم على المواريث:
وما نلت من شغل المواريث غير إنَّ ... اسرح نعشا كلما مات ميت
واكتب بالأموات صك كأنهم ... يخاف عليهم من الحساب التفلت
كأني لعزرائيل صرت مناقضا: ... فهاهو يمحو كل يوم واثبت
و قال الفرزدق:
بنو دارم إكفاؤهم آل مسمع ... و تنكح في اكفائها الحبطات
و كان بلغه إنَّ رجلا من الحبطات يخطب امرأة من دارم فقال ذلك. ودارم هو مالك بن حنضلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وآل مسمع كمنبر من بني قيس بن ثعلبة وهم بيت بكر بن وائل في الإسلام. والحبطات بنو الحارث بن عمرو بن تميم وكان أبوهم الحارث يلقب بالحبط بكسر الباء الموحدة والحبط هو الذي يصبه الحبط بفتحتين وهو انتفاخ بطون الماشية من أكل النبات كما مر. وأصاب ذلك الحارث في بعض أسفاره فقيل له الحبط وقيل لأولاده الحبطات. ويضرب هذا البيت مثلا لمن طمح إلى فوق قدره في هذا المعنى.
وقال بعض الأعراب:
وسائلي عن خبري لويت ... فقلت: لا ادري وقد دريت
و قبله:
ومنهل في الغراب ميت ... كأنه من الأجوان زيت
سقيت منه القوم واستقيت ... و ليلة ذات ندى سريت
ولم يلتني عن سراها ليت ... و لم تضرني كنة وبيت
وجمة تسألني أعطيت ... و سائلي عن خبري لبيت
و البيت هنا أيضاً الزوجة والجمة القوم يسألون في الديات.
وقال الآخر:
خليلي هذي زفارة اليوم قد مضت ... فمن لغد من زفرة قد أظلت
ومن زفارات لو قصدن قتلنني ... تقص التي تبقى التي قد تولت
و قال الآخر:
القني في لظى: فإن أحرقتني ... فيقين أن لست بالياقوت
جمع النسيج كل من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت
وهذا الشعر معروف مشهور ولم يعرف قائله ويتمثل به على نحو قولهم: ما كل سوداء تمرة وقولهم: مرعى ولا كالسعدان. وتقدم معنى البيت الأول في قول الحريري:
وربما أصيل الياقوت جمر لطى ... ثم أنطفى الجمر والياقوت ياقوت
و قال بعضهم في مناقضة البيتين المذكورين:
أيّها المدعي الفخار دع الف ... خر لذي الكبرياء والجبروت
نسيج داود لم يفد ليلة ... الغار وكان الفخار للعنكبوت
وبقاء السمند في لهب ... النار مزيل فضيلة الياقوت
وكذاك النعمام يلتقم الجزيرة ... مر وما الجمر للنعام بقوت

وأراد إنَّ للعنكبوت شرف عظيما بنسيجها على فم الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وذلك مشهور. وقد قيل إنّها أيضاً نسجت على نبي الله داود عليه السلام حين طلبه طالوت وعلى عبد الله بن انس حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتل خالد الهذلي وعلى عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم حين صلب عريان والله اعلم. والسمند الذي ذكره هو السمندل بالام وهو طائر يكون في أرض الهند لا يحترق بالنار تصنع منه المناديل فإذا اتسخت ألقيت في النار فأكلت النار ما عليها من الأوساخ وبقيت نظيفة فكان ذلك لها غسلا وإذا غمس شيء منها في الزيت وجعل في المصباح اشتعل بما فيه من الزيت ولم يحترق منه شيء أصلا ولو بقي ما بقي. وبعد كتابي هذا وجدت في بعض الدواوين أصل هذا الشعر وهوان بعض الملوك كان له وزير فعتب عليه شيئاً وحلف ليستبدلنه بمن لقي. فلقي أعرابي رث الهيئة فاستوزره فقال الوزير الأول وكان اسمه ياقوت يعرض للثاني:
احكم النسيج كل من حاك لكن ... نسيج داود ليس كالعنكبوت
القني في لظا البيت.
فأجابه الثاني بقوله:
نسج داود ما حمى صاحب الغار ... و كان الغار للعنكبوت
وفراخ السمند في لهب النار ... أزالت فضيلة الياقوت
و قالت امامة العامرية من شعراء الحماسة:
وحرب يضج القوم من نفيانها ... ضجيج الجمال الجلة الدبرات
سيتركها قوم ويصلى بحرها ... بنو نسوة للثكل مصطبرات
و قال جحدر:
قد علمت والدتيي ما ضمت ... و لففت خرق وشمت
إذا الكماة بالكماة التفت ... امخدج اليدين أم أتمت
أي قد علمت مخائل الكرم في منذ ولدتني وعلمت إني تام الخلق غير ناقص لإقدامي وجراتي.
وقال سنان بن فحل الطائي:
وقالوا قد جننت فقلت كلا ... و ربي ما جننت ولا انتشيت
ولكني ظلمت فكدت ابكي ... من الظلم المبرح أو بكيت
فإنَ الماء ماء أبي وجدي ... و بئري ذو حفرة وذو طويت
وقبلك رب خصم قد تمالوا ... علي فما جزعت ولا نيت
ولكني نصبت لهم جبيني ... و ألة فارس حتى قريت
و قال تأبط شرا:
ألم تعلم بأني لا كبير ... فتهونه ولا ضرع شخيت
وإنَّ على وداعي كل خير ... و إنَّ قذافي الموت المميت
الضرع: الضعيف والشخيت: الضئيل الحقير والوداع: المودعة والمسالمة والقذاف: المقاذفة اللسان وقال المأمون العباسي:
وما أحد طالت له لحية ... فزادت اللحية في هيئته
إلاّ وما ينقص من عقله ... اكثر مما زاد في لحيته
و كان يوما جالسا مع ندمائه يذكرون أخبار الناس فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط إلاّ نقص من عقله بمقدار ما طال من لحيته وما رأيت عاقلا قط طويل اللحية فلم يسلم له جلساؤه ذلك. فبينما هم كذلك إذ اقبل رجل كبير اللحية حسن الهيئة حسن الثياب. فقال المأمون: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: هو رجل عاقل وقال آخر: يجب إنَّ يكون هذا قاضيا. فقال المأمون: علي به فلم يلبث أن صعد إليه فسلم وأجاد السلام واستنطقه بأحسن المنطق. فقال المأمون: أبو حمدوية. قال: ما الكنية؟ قال: علوية. فضحك المأمون واقبل على جلسائه فغمزهم عليه ثم قال: ما صنعتك؟ قال: أنا فقيه أجيد الشرح للسائل. فقال المأمون: نسألك عن مسألة؟ قال: سل عما بدا لك! فقال المأمون: ما تقول في رجل اشترى شاة من رجل فلما سلمها المشتري ومضى خرجت من أستها بعرة ففقأت عين رجل. على من تجب دية العين؟ قال: تجب على البائع دون المشتري. فقال المأمون: وما العلة التي أوجبت الدية على البائع دون المشتري؟ قال: لأنّه لمّا باعها لم يشترط إنَّ في أستها منجنيقا. قال: فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه وضحك كل من حضر من الندماء وأنشأ المأمون يقول: ما أحد طالت لحيته البيتين ومثله قول الآخر:
إذا عظمت للفتى لحية ... فطالت وصارت إلى سرته
فنقص عقل الفتى فاعلمن ... بمقدار ما زاد من لحيته
وقول الآخر:
لا تفخرن بلحية ... كثرت منابتها طويلة
تهوي بها هوج الرياح ... كأنها ذنب السحلية
قد يدرك الشرف الفتى ... يوما ولحيته قليلة
السحلية: ولد البقرة والجمع حسيل. وقول الآخر:

وكل امرئ ذي لحية عثولية ... يقوم عليها ظن إنَّ له فشلا
وما الفضل من طول السبال وعرضها ... إذا الله لم يجعل لصاحبها عقلا
و قال الحسن بن المثنى: إذا رأيت رجلا له لحية طويلة ولم يتخذ لحية بين لحيتين كان في عقله شيء. وسيأتي من هذا المعنى ما في الكفاية إن شاء الله تعالى. وقول الآخر:
إذا لم يكن فيك ظل ولا جنى ... فأبعدكن الله من شجرات
و قال الآخر:
يقوا أناس: لو نعت لنا الهوى ... و والله ما ادري لهم كيف انعت
فليس لشيء منه حدّثني أحده ... و ليس لشيء منه وقت موقت
إذا اشتد مابي كان آخر حيلتي ... له وضع كفي فوق خدي واصمت
وانضح وجه الأرض طورا بعبرتي ... و اقرعها طورا بظفري وانكت
وقد زعم الواشون إني سلوتها: ... فما لي أراها من بعيد فأهبت؟
و قال دعبل بن علي الخزعلي:
أحببت ومي ولم اعدل بحبهم ... قالوا: تعصب جهلا قول ذي بهت
دعني أصل رحمي إنَّ كانت قاطعها: ... لا بد للرحيم الدنيا من الصلة
فاحفظ عشيرتك الادنين إنَّ لهم ... حقا يفرق بين الزوج والمرة
و قال الأخر:ليس أعرابي من بالحارث:
رئمت لسلمى فضيم وإنني ... قديما لآبي الضيم وأبن أبات
فقد وقفتني بين شك وشبهة ... و ما كنت وقافا على الشبهات
و قال الحامسي:
إذا ما يد لم تعط مما تخولت ... من المال في المعروف يوم فشلت
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى ... وجدك لم احفل حتى متى ما أظلت
فمنهن أن ألقى الصليب وأهله ... و اقدم فوق القارح المتفلت
ومنهن أن أعطي الكريم بسؤله ... إذا شعب المعروف في الناس قلت
ومنهن إبراز الفتاة بنانها ... و قد أعطيت من صورة ما تمنت
اصاح تروح نترك الجهل والصبا ... و نمح بقيا فتنة قد أظلت
فما لك من ليلى ساء تحية ... تكون وداعا للفرق وقلت
وزفرة مجزون وذكر مصيبة ... سلوت ولو عزت علي وجلت
لم احفل: لم أبال وأظلت: أقبلت وغشيت وشعب المعروف: طرقه وأسبابه. وهذا التقسيم كأنه آخذه من قول طرفة بن العبد:
فلولا ثلاث هن من عيش الفتى ... وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة ... كميت متى ما تجعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف مجنبا ... كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ... ببهكنة تحت الطرف المعمد
و سيأتي مع بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
وقال الشيخ أبي الفارض رضي الله عنه:
كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي
و سيأتي إنشاد ما قيل في النحول إن شاء الله تعالى. وقال:
أروم وقد طال المدى منك نظرة ... و كم من دماء دون مرامي طلت
و قال:
وجنبني حبيبك وصل معاشري ... و حببني ما عشت قطع عشيرتي
وأبعدني عن أربعي بعد أربع ... شبابي وعقلي وارتياحي وصحتي
فلي بعد أوطاني سكون إلى الفلا ... و بالوحش أنسي إذ من الأنس وحشتي
وما ظفرت بالود روح مراحة ... و لا بالولا نفس صفا العيش ودت
وأين الصفا؟ هيهات من عيش عاشق ... وجنة عدن بالمكاره حفت
وحسن به تسبي النهى دلني على ... هوى حسنت فيه لعزك ذلتي
و قال أبو الفرج بن هند:
لا يرد الردى لزوم بيوت ... لا ولا يقتضيه جوب فلاة
مولد الدر حماة فإذا سا ... فر حل التيجان واللماتسة
و تقدم في هذا المعنى شعر كثير. ولنذكر هنا شيئا من غير ما مر من ذلك قول أبن الساعاتي:
اهلك والليل منضيا جملك ... شمر فخير البلاد ما حملك
لا خير في بقعة تروى من الأ ... رض إذا لم تنل بها املك
حتام لا تعمل الجياد ولا ... تعمل في كل غاية جملك
لقد تربص خيفة الأجل ... المحتوم لو كان دافعا أجلك
وحبذا ذاك لو وجدت فتى ... افضل يوما عليك أو فضلك
قال أبن قلاقس:
سافر إذا حاولت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا
والماء يسكب إن جرى ... طيبا ويخبث ما استقرا
وبنقلة الدرر النفيسة ... بدلت بالبحر نحرا
و له أيضاً:

شرفي جاوز الغنى ومن العا ... رضما انحط عن رؤوس الجبال
كيف لا أسرع التنقل والمشهر ... للبدر سرعة الانتقال
و قوله أيضاً:
إنَّ مقام المرء في بيته ... مثل مقام الميت في لحده
فواصل الرحلة نحو الغنى ... فالسيف لا يقطع في غمده
والنار لا يحرق مشبوبها ... إلاّ إذا ما طار عن زنده
و قول أبن الغنائم:
سر طالبا غاياتها: أما ترى ... فوق الثريا أو ترى تحت الثرى
لا تخلدن إلى المقام فإنما ... سير الهلال قضا له أن يقمرا
لا تبك دارا فالفتى من إن دعا ... دمعا عصاه وإن دعاه ما جرى
أين الكنائس من العرين وغزلا ... ن اللوى في المجد من أسد الشرى
لو ينتج الوطن العلا ما سار عن ... غمدان سيد حمير مستنصرا
والليث لو وجد الفريسة رابضا ... أو ناهضا في خيسة ما اصحرا
لا عار في بيع النفوس على الردى ... عندي إذا كان العلاء المشترى
حتام حظي في الوهاد وأصحاب ... الدناءة في الشواهق والذرى؟
ما الجبن يحميني الحمام ولا أرى ... الأقدام يجلب لي سوى ما قدرا
لا بد منها وثبة تسعى الظبى ... فيها وتكسو الجو فيها العيثرا
أشكو إلى الأيام ما ألقى لها ... وجها على تلوينها مستبشرا
ما عذر من لم يلق وجها ابيضا ... منهن إن لم يلق وجها احمرا
و قال أبو الفضل التميمي:
دعني اسر في البلاد متلمسا ... فضل مال إن لم يفر زانا
فبيدق الرخ وهو ايسر ما ... في الدست إن سار صار فرزانا
و قال أبن صردر:
قلقل ركابك في الفلا ... و دع الغواني للقصور
لولا التغرب ما ارتقى ... در البحور إلى النحور
و قول الآخر:
دعي عزمات المستضام تسير ... فتنجد في عرض الفلا وتغور
اللم تعلمي إنَّ الثواء هو التوى ... و إنَّ بيوت العاجزين قبور
و قول أبي إسحاق الغزي:
يا حليا عاطل البيد ... بوجه النجيبة الشملال
زحل اكبر الكواكب لا ... يحمل إلاّ من قلة الانتقال
وقول أبن قلاقس أيضاً:
إن كنت تبغي وطنا ... من العلى فاغترب
فالسمر في غاباتها ... معدودة في القصب
والشمس لا ترقب في ... المشرق لو لم تغرب
و قول أبن الساعاتي أيضاً:
وكن غنيا عن كل أرض بأختها ... و إنَّ حل مغناها كواعب عين
فلولا فراق الدر أصداف بحره ... لأنكره تاج وصد جبين
و قوله أيضاً:
ولا يصدنك عن شيء ترفعه ... فربما صار وردا نازح السحب
لم يشرق الدر لولا هجر موطنه ... و البدر ما تم حتى جد في الطلب
و قول الآخر:
فالتبر كالتراب ملقى في موطنه ... و العود في أرضه نوع من الحطب
و مثله قول الآخر:
أضيع في معشري وكم بلد ... يعود الكباء من حطبه
و قول أبن السكن:
قالوا نراك كثير السير مجتهداً ... في الأرض طوراً وترتحل
فقلت لو لم يكن في السير فائدة ... ما كانت السبع في الأبراج تنتقل
و قال الأخر:
أقول لجارتي والدمع جرٍ ... و لي عزم الرحيل من الديار
ذريني أنَّ أسير ولا تنوحي ... فإن الشهب أشرفها السواري
وقال أبن سناء الملك:
وأسعد الناس من لاقى بلا تعب ... مبدأ السعادة في مبدأ شبيبته
و هذا البيت من أبيات يمدح بها والده الرشيد، وهي:
إني لأرثي لدمعي من تزاحمه ... كما رثيت لشملي من تشتته
أنا القوي بعزمي والرشيد أبي ... هو الرئيس على الدنيا بهمته
أبني وأنشر بيت المجد مجتهداً ... في لم لمته أو رم رمته
أصبحت أحتال في حال ونضرتها ... به وارتع في عيشي وخضرته
و اسعد الناس " البيت " ومما مدحه به أيضاً قوله:
يكفيك أني بك يا سيدي ... قد طاب أصلي وزكا محتدي
جاوزت حدّثني البر بي صاعداً ... فقف: فما أبقيت من مصعد!
و قوله أيضاً من قصيدة:
أني لي النقص إنَّ مجد أبي ... سام كما أنَّ قدره سابق
هو الرشيد الذي رياسته ... سارت، فلا زاجر ولا سائق

يكنى أبا الفضل وهو يعشق ... نفس الفضل، والمرء لابنه عاشق
و أين هذا من أبن الرومي، حيث يقول في هجو أبيه، وبئس ما قال!:
لو كان مثلك في زمان محمّدً ... ما جاء في القرآن بر الوالد !
و أبن عنين في قوله:
وجبتني أن أفعل الخير والد ... قليل إذا عد أهل المناسب!
بعيد من الحسنى قريب من الخنا ... وضيع مساعي الخير جم المثالب
إذا رمت أنَّ أسمو صعوداً إلى العلا ... غدا عرقه نحو الدنية جاذبي
و مثل هذا البيت قول الآخر في خالد بن عبد الله القسري، أو في غيره:
إذا نبهته نخوة عربية ... إلى المجد قالت إرمنيته نم
و ممن هجا والده أبن بسام، حتى قال: فيه بعض الشعراء:
من شاء يهجو عليا ... فشعره قد كفاه
لو إنّه لأبيه ... ما كان يهجو أباه
و قال الأخر:
لا تخف للخطوب في كل وقتٍ ... لا ولا تخشاها وإنَّ هي جلت!
فحقيق دوامها ليس يبقى ... كثرت في الزمان أو هي قلت
واردع للهموم صبرا جميلاً ... فالرزايا إذا توالت تولت
و قال الأخر في هذا المعنى:
اصبر إذا نائبه حلت ... فهي سواء والتي ولت
واستنهض العزم فليس الظبا ... تربي وتفري كالتي كلت
وفي هذا المعنى شعر كثير تقدم بعضه، وسيأتي في محل أخر، إن شاء الله تعالى.
وقال الأخر:
القبر أخفى سترة للبنات ... و دفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله جل اسمه ... قد وضع النعش بجنب البنات؟
و سيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.
وقال الأخر:
اقنع بأسير شيء أنت نائله ... و اصبر ولا تتعرض للولايات!
فما صفا النيل إلاّ وهو منتقص ... و لا تكدر إلاّ في الزيادات
و مثله قول أبن طباطبا:
كن بما اوتيته مغتبطا ... تستدم عمر القنوع المكتفي!
إنَّ في النيل المنى وشك الردى ... و قياس عند السرف
كسراج دهنه قوته ... فإذا أغرقته فيه طفي
و قال الأخر:
خذ من العيش ما كفى
كسراج منور ... إن طفا دهنته انطفا
وسيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.
وقال البحتري:
إنَّ أبق أو اهلك فقد نلت التي ... ملأت صدور أقاربي وعداتي
وغنيت ندمان الخلائف نابها ... ذكري وناعمة بهم نشواتي
وشفعت في الأمر الجليل إليهم ... بعد الجليل فأنجحوا طلباتي
ووضعت في العرب الصنائع عندهم ... من رفد طلاب وفك عناة
و قال دعبل الخزاعي:
لا تعرضن بمزح لامرئ طبن ... ما راضه قلبه أجراه في الشفة
فرب قافية بالمزح جارية ... في محفل لم يرد إنماؤها نمت
إني إذا قلت بيتا ماتب قائله ... و من يقال له والبيت لم يمت
و نحوه قول الآخر:
فللشعراء ألسنه حداد ... على العورات موفية دليله
ومن عقل الكريم إذا اتقاهم ... و دارهم مدارة جميلة
إذا وضعوا مكاويهم عليه ... و إنَّ كذبوا فليس لهن حيله
و سيأتي هذا المعنى مستوفي، إن شاء الله تعالى.
وقال الأخر يتشوق إلى أهله:
ولي كبد مكلومة لفراقكم ... أطمئنها صبراً على ما أجنت
تمنتكم شوقا إليكم وصبوة ... عسى الله أنَّ يدني لها ما تمنت
وعين جفاها النوم واعتادها البكا ... إذا عن ذكر القيروان استهلت
و قال تميم بن جميل بين يدي المعتصم، وقد قدم السيف والنطع ليقتله:
أرى الموت بين النطع والسيف كامنا ... يلاحظني من حيث ما أتلفت
واكبر ظني أنك اليوم قاتلي ... و أي امرئٍ مما قضى الله يفلت؟
وأي امرئ يدلي بعذر وحجةٍ ... و سيف المنايا بين عينيه مصلت؟
يعز على الأوس بن تغلي موقف ... يهز علي السيف فيه وأسكت
فما حزني إني أموت وإنني ... لأعلم أنَّ لموت شيء موقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم ... و أكبادهم من حسرة تتفتت!
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... و قد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بنعمةٍ ... أذوذ الردى عنهم وإنَّ من موتوا
فكم قائل لا يعبد الله داره ... و آخر جذلان يسير ويشمت!

فعفا عنه المعتصم، واحسن إليه، وقلده عملا. ونحو البيت الأخير قول الأول:
إذا مت كان الناس صنفان شامت ... و آخر مثن بالذي كنت أصنع
وقال أبن رشيق:
أيّها الموحي إلينا ... نفثه الصل الصموت
ما سكتنا عنك عيا ... رب نطقٍ في السكوت
لك بيت في البيوت ... مثل بيت العنكبوت
إنَّ يهن وهنا ففيه ... حيلتا سكنى وقوت!
و مثل هذا قوله أيضاً:
واحرق أكال للحم صديقه ... و ليس لجاري ريقه بمسيغ
لست له ظنا بعرضي فلم أجب ... و رب جواب في السكوت بليغ
و قول الآخر:
واعلم بأن من السكوت إبانة ... و من التكلم ما يكون خبالا
و قول الآخر:
أيا رب إنَّ الناس لا ينصفوني ... و لم يحسنوا قرضي على حسنات
إذا ما رأوني في رخاء توددوا ... إلي وأعداء لدى الأزمات
ومهما أكن في نعمة حزنوا لها ... ذوو أنفس في شدتي جذلات
ثقاتي ما دامت صلاتي لديهم ... و إنَّ عنهم أخرتهم فعداتي
سأمنع قلبي إنَّ يحن إليهم ... و اصرف عن قاليا لحظاتي
والزم نفسي الصبر دائبا لعلني ... أعين ما أملت قبل مماتي
ألا إنّما الدنيا كفاف وصحة ... و أمن ثلاث طيب كل حياة
و قال الأخر:
وما النفس إلاّ حيث يجعلها الفتى: ... فإن توقت تاقت وإلاّ تسلت
و قال الأخر:
إذا ما مددت النفس التمس الغنى ... إلى غير من قال اسألوني فشلت
سأصبر جهدي إنَّ في الصبر عزة ... و أرضى بدنياي وإنَّ هي قلت
و قال الأخر:
من لي بذكري كلما أوحشته ... تمحو سلوي واشتياقي تثبت
وسحاب دمع كلما أمطرته ... غير القتاد بمضجعي لا ينبت؟
و قد كنت قلت معنى البيت الأخير، قبل إنَّ أراه، وهو مطلع قصيدة:
طرقت من بعد الهدو بلابل ... تمهى كما طرق الخميلة وابل
سحب متى تحلل بأكناف الحشى ... ينبت به منها القتاد الراعل
إلاّ إنّه جعله في مطر الدموع، وأنا جعلته في مطر الأحزان؛ وجعله في المضجع، وأنا جعلته في وسط الفؤاد، وإليك ارتياد الإبلاغ!
تقسم منك الترب قومي وجيرتي: ففي الظاهر إحيائي وفي البطن أمواتي
و تقدم كثير مما قيل في ذكر الوطن، وسيأتي مزيد فيه، إن شاء الله تعالى.
وقلت أنا في قوم غشوا لئيما فجعل جائزتهم الازدراء:
لأن تهملوا أو يزدرى بوجوهكم ... فذوا ورطات خاضها الطين بابته
ومن يستبل يوما حميراً ينلنه ... فلا يشجعه من بولهن إصابته
ولو كان حلم لأدري المرء إنّه ... من النوك أنَّ تمتد للصخر راحته
إلاّ إنَّ برقا خلبا غير ممطر ... و شائمة الحرمان والغم غايته!
و دخلت يوما عليه للتسليم عليه، فرأيت من لقياه ما أكره، فقلت في نفسي ارتجالا أو شبه ارتجال:
أتكبر يا أبن اللؤم بالكبر والخنا ... و لؤم لديه ما درى كرم الخلق؟
وتلتمس ركن المعالي براحة ... مغللة منها البنان إلى العنق؟
وتستقبلن وجه السيادة مسفراً ... بوجه كوجه الضفدع التف في سحق؟
وترقى سرير الملك يوما بأحمصٍ ... لو أعتسفت خضر الصوح بالمحق؟
ولو خاضت العذاب الفرات غدابها ... زعاقا يغص الشاربين وذا رنقِ
وتجري تصريف الرعايا جميعها ... على مسكة العصفور ذي الطيش الخرق
وتقدم في دفع الملمات عنهم ... بقلب هيوب يستفز من الوق
فهيهات منك المجد إنَّ كنت عاقلاً ... فدعه وإنَّ كنت المهوس فأسترق!
فلا خير فيه غير أن لقاءه ... يعلمك الهجو البليغ على صدق
وإن هجا الناس ليس يسوؤه ... و هل ساء من على العرض يستبقي؟
دخلت عليه زائرا فإذا أنا ... بكلب مطير عابس مائل الشدق
واحسن إذا أخطأت إن زرت مثله ... فيعاقبني بالتيه أو سيئ الخلق
و أنا أستغفر الله العظيم من هجو المسلمين، وثلب أعراض الغافلين. ولولا أن اغتياب البخيل، ورد فيه ترخيص وتسهيل، مع إبتناء الكتاب، على قصد الإمتاع من كل باب، ما مضمضت بالهجو لساني، و سطرته ببناني.
وهيهفاء يحكيها القضيب تأوداً ... إذا ما انثنت في الريط أو حبراتها

يضيق الإزار الرحب عن ردفها كما ... يضيق بها الأحشاء عن زفراتها
وما ظبية أدماء تألف وحدة ... تزيد ظلال الضال أو أثلاتها
بأحسن منها يوم أومت بلحظها ... إلينا ولم تنطق حذار وشاتها
و قال أبن النبيه:
من لي بسلمى وفي أجفان مقلتها ... للحرب بيض حداد قط ما صحفت
يهتز بين وشاحيها قضيب نقى ... حمائم في أفنانه صدحت
وأسود الخال في محمر وجنتها ... كمسكة نفحت في جمرة لفحت
و قال الحماسي في غير هذا المعنى:
لا تنكحن الدهر ما عشت أيما ... مجربة قد مل منها وملت
تحك قفاها من وراء خمارها ... إذا فقدت شيئاً من البيت جنت
تجود برجليها وتمنع درها ... و إنَّ طلبت منها المحبة هرت
و قوله تحك قفاها: يريد إنّها لا تحسن احتكاكا، فضلا عن غيره. وقوله تجود برجليها، الخ: يريد إنّها تتأتى لمن يريد غشيانها، ولا تصلح للولادة، لأنها قعدت عنها فلا در لها. وتقدم هذا المعنى. وقال الحماسي أيضاً في لتلميح:
إذا اجتمع الجوع المبرح والهوى ... على الرجل المسكين كاد يموت
وفي هذا القدر كفاية من هذا الباب، والله يقول الحق ويهدي السبيل.

بسم الله الرحمن الرحيم
باب الثاء
الثابت يكسر الوثبات.
الثابت: الرزانة والحلم، وهو ضد الخفة والطيش. والوثبات: جمع وثبة، وهي الصولة والانتقام. وهذا مثل ظاهر المعنى، وهو مصنوع فيما أظن.
أثقف من سنورٍ.
يقال ثقف الرجل، بضم القاف، يثقف ثقافة، فهو ثقف وثقيف؛ وثقف، بكسرها، يثقف ثقفا، فهو ثقف وثقف ، كندس وندسٍ، إذا كان حاذقا فطنا خفيفا. ومنه، حديث أنس: وكان غلاما ثقفا. والسنور، على وزن جردحل: الهر المعروف، والأنثى سنورة، وله أسماء كثيرة، حتى حكي أنَّ أعرابياً صاده ولم يعرفه. فلقيه إنسان، فقال له: ما هذا السنور؟ ثم لقيه أخر، فقال: ما هذا القط؟ ثم آخر، ثم آخر. فلما رأى كثرة أسمائه ظن أن ذلك لخير عظيم فيه، فقال: أبيعه، لعل الله تعالى يرزقني مالاً كثيراً. فلما وقفه في السوق قيل له: بكم تبيعه؟ قال: بمائة دينار. فقيل له إنّه لا يساوي إلا نصف درهم. فرمى به وقال: لعنه الله! ما اكثر أسمائه، وأقل بركته! وهو في الخفة وسرعة الاختطاف النهاية. فمن ثم ضرب به المثل.
أثقل رأساً من فهدٍ.
الفهد، بفتح الفاء وسكون الهاء بعدها دال مهملة، الحيوان المعروف الذي يتصيد به، وهو سبع، ويزعمون إنّه متولد من بين الأسد والنمر. وفهد الرجل، بالكسر تشبه بالفهد في نومه وتمدده، كما في حديث أم زرع: إنَّ دخل فهد وإنَّ خرج أسد. ويقال فهد أيضاً إذا نام وتغافل عما يجب تعهده. والفهد كثير النوم ثقيله، ومن ثم قالوا: أنوم من فهد، وأثقل رأساً من فهد.
مثقل استعان بذقنه.
المثقل، من الثقل المذكور، وهو ضد الخفة. ويقال: ثقل الشيء بالضم، يثقل، ثقلاً، على مقال عنب، فهو ثقيل؛ وثقله تثقيلا؛ وأثقله تثقيلا؛ وأثقله. والاستعانة: طلب العون. والذقن، بفتحتين والذال معجمة: معجم اللحيين من اسفل.
يضرب هذا المثل للذليل يستعين بمثله أو أذل منه. وأصله في البعير يحمل عليه الثقل فلا يستطيع إنَّ ينهض به، فيضرب بذقنه على الأرض، معتمدا عليه ليقوم.
أثقل من حديث معادٍ.
الثقل تقدم؛ والحديث: الخبر؛ والمعاد: الذي سمعته ثم أعيد عليك مرة أخرى فهو يثقل على السماع كثيرا لعدم الداعي إلى سماعه، مع الملل الحاصل للنفس من تكراره. والنفس للطافتها وروحانيتها اكثر من البدن تألما بالاذاية واقل صبرا واحتمالا، فلا تكاد ترتاح إلاّ إلى ما فيه غذاؤها، من علوم تستحصلها، أو غرائب ولطائف تتفكه بها. فإذا عمدت ذلك غلبها الضجر، ونفرت غاية النفر؛ ومن ثم تستثقل الكلام المعاد وتمل منه، ولو كان في نفسه بليغا عجيبا، إذ لم يبق لها حظ فيه. وكان عدم الملل في كتاب الله تعالى، مع معاودته على مرور الليلي والأيام، معجزة ظاهرة للعيان؛ ومن ثم قيل: كل مكرر مملول إلاّ القرآن. ومما قيل في ثقيل:
يا ثقيلاُ على القلوب إذا عن ... لها أيقنت بطول الجهاد!
يا قذى في العيون يا غلة بين ... تراقي حرارة في الفؤاد!
يا طلوع العذول يا بين ألف ... يا غريما أتى على الميعاد!

يا ركوما في يوم غيم وصيف ... يا وجوه التجار يوم الكساد!
خل عنا فإنما أنت فينا ... وأو عمرو وكالحديث المعاد!
وامض في غير صحبة الله ما عشت ... ملقى من كل فج وواد
يتخطى بك المهامه والبيد ... دليل أعمى كثير الرقاد
وقال بعضهم في صفة ثقيل: هو أثقل من دواء بلا علة، وأبغض من خراج بلا غلة؛ قد خرج عن حدّثني الاعتدال، وذهب من ذات اليمين إلى ذات الشمال؛ يحكي ثقل الحديث المعاد، ويمشي على القلوب والأكباد؛ إذا نظرت إلى مشيته أنشدت:
مشى فدعا من ثقله الحوت ربه ... وقال: إلاهي زيدت الأرض ثامنه!
وقد يستحسن إعادة الحديث، لا لذاته بل لأمر عارض فيه للنفس أرب أما رغبة في كلام المتكلم خصوصا، أو في نغمته، أو في النظر إليه، أو في دوام جلوسه، أو عدم قضاء الوطر من ذلك الكلام أو نحو ذلك، ومن ثم يستعدا حديث المحبين والمغنين، كما قيل:
وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
و لهذا الشعر حديث عجيب: ذكروا إنَّ رجلاً خرج في طلب إبل له أضلها. قال: فبينما أنا في واد إذ سمعت صوت منشد ينشد: وكنت إذا ما جئت سعدي أزورها " البيتين " . فدنوت من الصوت، فإذا أنا براعٍ قد ضم غنما له تحت شجرة وهو يترنم، فسلمت عليه، فرد علي السلام وقال: من الرجل؟ فقلت: منقطع مه المسالك، أتاك يستعين بك ويستجير. فقال: أهلاً ومرحبا، انزل على الرحب! فعندي وطاء وطي وطعام غير بطي. فنزلت فنزع شملته، فبسطها تحتي ثم أتاني بتمر وزبد ولبن وخبز، ثم قال: اعذرني في هذا الوقت! فقلت: والله إنَّ هذا لخير كثير! فمال إلى فرسي فربطه وساقه وعلق عليه. وفلما أكلت صليت واستندت فبينما أنا بين النائم واليقظان، إذ أقبلت من فوق الوادي جارية أطلعت الشمس في غير أوان طلوعها، فوثب الفتى إليها، وجعل يقبل الأرض حتى وصل إليها. فأخذ في حديث مستلذ، مع شكوى وزفرات، وأنا متناوم، وهما لا يهم أحدهما لصاحبه بقبيح. ولم يزالا كذلك حتى طلع الفجر، فعانقها وتنفس الصعداء وبكيا، ثم قال لها: يا ابنة العم، بالله لا تبطئي علي كما أبطأت الليلة! فقالت يا أبن العم، ما علمت أني أنتظر الرقباء والوشاة حتى يناموا؟ فودعها وافترقا، وكل منهما ينظر لصاحبه ويبكي. فبكيت رحمة لهما ثم قلت في نفسي: أستضيفه الليلة الأخرى حتى أنظر ما يكون من أمرهما. فلما أصبحنا قلت له: جعلني الله فداك الأعمال بخواتمها، وقد نالني أمس تعب، واحب إنَّ أستريح عندك اليوم. فقال: على الرحب والسعة! لو بقيت عندي بقية عمرك ما وجدتني إلاّ كما تحب. فعمد إلى شاه فذبحها وشواها، فقدمها إلي فأكلت وأكل معي إلاّ إنّه أكل، أكل من لا يريد أكلا. فلما أزل معه نهاري ذلك، ولم أر أشفق منه على غنمه ولا ألين جانبا ولا أحلى كلاما منه؛ إلاّ إنّه كالولهان، ولم أعلمه بشيء مما رأيت. فلما أقبل الليل وطأ وطائي، وصليت وأعلمته إني أريد الهجوع لتعبي. فقال: نم هنيئا! فتناومت فقام ينتظرها إلى هنيئة من الليل وأبطأت. فلما حان وقت مجيئها قلق قلقاً شديداً، فبكى ثم جاء فحركني فأوهمته إني كنت نائما، فقال: يا أخي، هل رأيت الجارية التي كانت تتعهدني ز جاءتني البارحة؟ قلت: قد رأيتها. قال تلك ابنة عمي واعز الناس علي، وإني لها محب وعاشق، وهي كذلك وأكثر. ومنعني أبوها من تزويجها لفقري وفاقتي، وتكبر علي، فصرت راعيا بسببها، فكانت تزورني كل ليلة. وقد حان وقت مجيئها، واشتغل قلبي عليها، وتحدثني نفسي إنَّ الأسد قد افترسها، ثم انشأ يقول:
ما بال مية لا تأتي لعادتها؟ ... أعاقها طرب أم شدها شغل؟
نفسي فداؤك قد أحللت بي سقما ... تكاد كم حره الأعضاء تنفصل!
ثم ذهب فغاب عني ساعة، ثم أتى بشيء فطرحة بين يدي، فإذا بالجارية قتلها الأسد وأكل أعضائها وشوه خلقتها. ثم اخذ السيف وانطلق. فغاب عني ساعة، فإذا هو قد جاء برأس الأسد، فطرحه ناحية ثم قال:
ألا أيها الليث المدل بنفسه ... هلكت لقد جريت حقا لك الشرا!
أخلفتني فرداً وقد كنت آنسا ... وقد عادت الأيام من بعدها صفرا

ثم قال: بالله يا أخي إلاّ ما سمعت مني، فإني ميت لا محالة! فإذا أنا مت فكفني في عباتي، وضم إلي ما بقي من أعضائها، وادفنا في قبر واحد. وخذ شويهاتي هؤلاء وعصاي وثيابي، فسوف تأتيك عجوز، فأعطها ذلك فهي والدتي. وقال لها: مات ولدك كمداً، فإنها تموت عند ذلك، فادفنها إلى جانب قبرنا، وعلى الدنيا منا السلام! فلم يكن إلاّ قليلا حتى صاح صيحة، ووضع يده على صدره فمات من ساعته. ففعلت به جميع ما أوصاني وبت حزينا باكيا فلما أصبحنا، أقبلت عجوز ولهى، فسألتني عنه، فأخبرته خبره، فجعلت تبكي حتى إذا أقبل الليل شهقت شهقة فارقت الدنيا. فدفنتها إليه وبت الليلة الرابعة. فلما أصبحت ركبت فرسي وسقت الغنم وإذا أنا بهاتف يقول:
كنا على ظهرها والدهر يجمعنا ... والشمل مجتمع والدار والوطن
ففرق الدهر بالتفريق ألفتنا ... فصار يجمعنا في بطنها الكفن
قال: فأتيت الحي ودفعت الغنم لبني عمهم وانصرفت.

أثقل من حمل الدهيم.
الثقل تقدم؛ والحمل معروف والدهيم على وزن زبير: اسم ناقة عمرو بن الريان الهذلي قتل هو واخوته فحملت رؤوسهم عليها. وتقدمت هذه القصة في حرف الهمزة فقالوا: أشأم من دهيم، وأثقل من حمل دهيم.
وظهر كلام الصحاح أنَّ قولهم للداهية الدهيم وأم الدهيم مأخوذ من هذا.
أثقل من الزواقي.
الثقل مر؛ والزقاء: الصياح. ثقال: زقا الصدا، ويزقو ويزقي زقاء وزقيا إذا صاح. قال:
ولو أنَّ ليلى الأخيلية سلمت ... علي وفوقي جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقى ... إليها الصدى من جانب القبر صائح
الزواقي في المثل: الديكة وجمع زاق وزاقية. وكانوا يسمرون بالليل، فإذا صاحت الديكة تفرقوا، فيستثقلونها بذلك فقالوا: أثقل من الزواقي.
أثقل من مغن وسطٍ.
الثقل مر، والمغني اسم فاعل من الغناء، وبالمد، وهو الصوت. والوسط يكون تارة اسماً غير وصف. فإن كان بالتحريك، فاسم صريح لمّا بين طرفي الشيء، وإنَّ كان بالسكون فظرف، كقول عنترة:
ما راعني إلاّ حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم
و يقال: كل موضع صلح فيه بين فهو بالتسكين، وإلاّ فبالفتح. وقيل: هما جاريان فيما كان مصمتا كالحلقة؛ فإنَ كان متبادلين الأجزاء فبالسكون فقط. قال صاحب الفصيح فيما يثقل ويخفف باختلاف المعنى: تقول جلس وسط القوم يعني بينهم أي بالتسكين وجلس وسط الدار، وأحتجم وسط رأسه، أي بالتحريك وهذا الذي قلنا أولاً. وقد يكون الوسط وصفا، أما بمعنى الأعدال كقوله تعالى: )و كذلك جعلناكم أمة وسطا(. وأما بمعنى التوسط بين أمرين، ومنه المثل. قال السهيلي: الوسط من أوصاف المدح والتفضيل، ولكن في موضعين: في ذكر النسب وفي ذكر الشهادة. أما النسب فلأن أوسط القبيلة أعرقها وأولاها بالصميم وأبعدها عن الأطراف وأجدر ألا تضاف إليه الدعوة، لأن الآباء والأمهات قد أحاطوا به من كل جانب، فكان الوسط، من أجل هذا، مدحا في النسب بهذا السبب. وأما الشهادة فنحو قوله سبحانه قال: )أوسطهم. وجعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس( فكان هذا مدحا في الشهادة، لأنها غاية العدالة في الشاهد أن يكون وسطا كالميزان لا يميل مع أحد، بل يصمم على الحق تصميما، لا يجذبه هوى ولا تميل به الرغبة ولا رهبة من هاهنا ولا من هاهنا، فكان وصفه بالوسط غاية في التزكية والتعديل. وظن كثير من الناس أنَّ معنى الأوساط الأفضل على الإطلاق، وقالوا: معنى الصلاة الوسطى الفضلى. وليس كذلك، بل هو في جميع الأوصاف لا مدح ولا ذم، كما يقتضيه لفظ التوسط. فإذا كان وسطا في السمن فهو بين الممخة والعجفاء، والوسط في الجمال بين الحسناء والشوهاء إلى غير ذلك من الأوصاف، لا تعطي مدحا ولا ذما. غير انهم قالوا في المثل: أثقل من مغن وسط على الذم، لأنه إنَّ كان مجيداً جدا أمتع وأطرب؛ وإنَّ كان بارد جداً أضحك وألهى، وذلك أيضاً مما يمتع. قال الجاحظ: " وإنّما الكرب الذي يجثم على القلوب ويأخذ بالأنفاس الغناء البارد الذي لا يمتع لحسن ولا يضحك بلهو " انتهى. وقال أبن رشيق: " قال بعضهم: الشعر شعران: جيد محكك، ورديء مضحك. ولا شيء أثقل من الشعر الوسط والغناء الوسط " . وقد قال أبن الرومي يهجو أبن طيفور:
عدمتك يا أبي الطاهر ... وأطعمت ثكلك من شاعر

فما أنت سخن ولا بارد ... وما بين هذا سوى الفاتر
وأنت كذاك تغثي النفوس ... تغثية الفاتر الخاثر
و نحو هذا قول الآخر:
مسيخ مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مر!
وسيأتي هذا المعنى بعد إن شاء الله تعالى.

أثقل من الفيل.
الثقل مر؛ والفيل بالكسر الحيوان المعروف وثقله معروف. ومما قال بعض الثقلاء يخاطب ثقيلا:
أنت يا هذا ثقيل ... وثقيل وثقيل
أنت في المنظر إنسان ... وفي المخبر فيل
ولو تعرضت لظل ... فسد الظل الظليل!
وقال الأخر:
فما الفيل تحمله ميتا ... بأثقل من بعض جلاسنا!
ويحكى إنَّ الأعمش كان ينشد هذا البيت عندما يستثقل جليسا، وزعموا إنّه قال: من فاتته ركعتا الفجر فليلعن الثقلاء! وإنّه نقش على خاتمه: يا مقيت، أبرمت فقم!، فإذا أستثقل جليسا ناوله إياه؛ وإنّه قال له رجل يوما: مم عمشت عيناك؟ فقال: من النظر إلى الثقلاء!.
وفي حق الثقلاء قال: جالينوس: لكل شيء حمى، وحمى الروح النظر إلى الثقيل. وقيل له: لم صار الرجل ثقيل أثقل من الحمل الثقيل؟ فقال: لأن ثقله على القلب دون الجوارح، والحمل الثقيل يستعين القلب عليه بالجوارح. وقال زياد بن عبد الله: قيل للشافعي: هل يمرض الروح؟ قال: نعم، من ظل الثقلاء. قال: فمررت به يوما وهو بين ثقلين، فقلت له: كيف الروح؟ فقال: في النزع! كان بعضهم إذا رأى ثقيلاً يقول: قد جاءكم جبل. فإذا جلس قال: قد وقع عليكم! قيل لبعض الظرفاء، وكان له ثلاثة بنين ثقلاء: أي بنيك أثقل؟ فقال: ليس بعد الكبير أثقل من الصغير إلاّ الوسط. وكان بشار يأتيه ثقيل يقال له أبو سفيان. فسئل عنه بشار يوما فقال: لا ادري لم لا تحمل الأمانة أرض حملته، ولا كيف احتاجت إلى الجبال بعدما أقلته! كأن قربه أيام المصائب وليالي النوائب؛ وكأن عشرته فقد الحبائب، وسوء العواقب. ثم أنشد:
ربما يثقل الجليس وإنَّ كان ... خفيفا في كفة الميزان
ولقد قلت حين وتد في البيت ... ثقيل أربى على ثهلان
كيف لا تحمل الأمانة ارضٌ ... حملت فوقها أبا سفيان؟
و كان لبشار أيضاً صديق يقال له هلال، فقال لبشار يوما: يا أبا معاذ! إنَّ الله لم يذهب بصر أحد إلاّ عوضه منه شيئاً، فما عوضك؟ قال: الطويل العريض. قال: وما هو؟ قال: إلاّ أراك ولا أرى الثقلاء أمثالك! ثم قال: يا هلال، أتطيعني في نصيحة أخصك بها؟ قال: نعم! قال: انك كنت تسرق الحمير زمانا، ثم تبت وصرت رافضيا؛ فعد إلى سرقة الحمير، فهي والله خير لك من الرفض! وفي هلال ه يقول بشار:
وكيف يحق لي بصري وسمعي ... وحولي عسكران من الثقال
قعودا عند دسكرتي وداري ... كأن لهم علي فضول مال؟
إذا ما شئت صبحني هلال ... وأي الناس أثقل من هلال؟
و استأذن بعض الثقلاء على أبن المبارك، فلم يأذن له. فكتب إليه ذلك الثقيل:
هل لذي حاجة إليك سبيل؟ ... لا طويل قعوده بل قليل!
فأجابه أبن مبارك:
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل! ... وقليل من الثقيل طويل!
و وصف بعض الأذكياء ثقيلاً فقال: هو ثقيل السكون بغيض الحركة، كثير الشؤم قليل البركة، كأنه ثقل الدين، ووجع العين. وما أحقه بقول القائل:
ثقيل يطالعنا من أمم ... إذا سره رغم انفي ألم
لنظرته وخزة في القلوب ... كوخز المحاجم في الملتزم
أقول له إذ أتى: لا أتى ... ولا حملته إلينا قدم
عدمت خيالك لا من عمى ... وسمع كلامك لا من صمم!
و وصف أخر ثقيلاً فقال: هو بين الجفن والعين قذاة، وبين القدم والنعل حصاة. ما أشبه طلعته إلاّ بغداة الفراق أو كتاب طلاق أو طلعة الرقيب أو موت الحبيب!
مشتمل بالبغض لا تنثني ... إليه طوعا لحظة الرامق
يظل في مجلسنا مبرما ... أثقل من واشٍ علىالعاشق
و ذكر عند العباس بن الحسن العلوي ثقيل يقال له أبو عمار، فقال: ما الحمام على الأصرار، وحول الدين على الأقدار، وشدة السقم في الأسفار، بأثقل على النفس من طلعة أبي عمار. وانشد:
تحمل منه الأرض أضعاف ما ... يحمله الحوت من الأرض
وقال الأخر:
إلمام كل ثقيل قد أضر بنا ... نروم نقصهم والشيء يزداد

ومن يخف علينا لا يلم بنا ... وللثقيل مع الساعات تزداد
وقال الأخر:
وثقيل أشد من ثقل الموت ... ومن شدة العذاب الأليم
ولو عصت ربها الجحيم لمّا كان ... سواه عقوبة للجحيم
وقال جحظة البرمكي في صفة ثقيل:
يا لفظة النعي بموت الخليل ... يا وقفة التوديع بين الحمول
يا شربة اليارج يا أجرة المنزل ... يا وجه العدو الثقيل
يا طلعة النعش ويا منزلا ... أقفر من بعد الأنيس الحلول
يا نهضة المحبوب من غضبةٍ ... يا نعمة قد آذنت بالرحيل
ويا كتابا جاء من مخلف ... للوعد مملوء بعذر طويل
يا بكرة الثكلى إلى حفرة ... مستودع فيها عزيز الثكول
يا وثبة الحافظ مستعجلا ... بصرفه القينات عند الأصيل
ويا طبيب قد أتى باكراً ... على أخي سقم بماء البقول
يا شوكة في قدم رخصةٍ ... ليس إلى إخراجها من سبيل
يا عشرة المجذوم في رحله ... ويا صعود السعر عند المعيل
يا ردة الحاجب عن قسوة ... يا نكسة بعد برء العليل!
وقال آخر في ثقيل:
ليس من الناس ولكنه ... يحسبه الناس من الناس
أثقل في انفس أصحابه ... من جبل رأسي على رأسِ
وقال أخر:
يا من تبرمت الدنيا بطلعته ... كما تبرمت الأجفان بالسهدِ
إني لأذكره حينا فأحسبه ... من ثقله جالسا مني على كبدي
وقال الآخر:
نظر العين نحوه ... علم الله يمرض
فإذا ما أردتم ... أن تروه فغمضوا
لا تصبكم ملمة ... والملمات تعرض
وقال الآخر:
شخصك من مقلة النديم ... أوحش من نحسة النجوم
يا رجلا وجهه علينا ... أثقل من منة اللئيم
إني لأرجو بما أقاسي ... منك خلاصي من الجحيم
و الشعر في هذا المعنى كثير. وقد قال المفسرون نزلت آية في الثقلاء: فإذا طعمتم فانتشروا. أد بهم الله بذلك. وكان حماد بن سلمة إذا رأى ثقيلا قال: ربنا اكشف عنا العذاب أنا مؤمنون. وذكر الأعمش ثقيلا كان يجلس إلى جانبه فقال: والله إني لأبغض شقي الذي يليه مني. وقال سهل بن هارون: من ثقل عليك بنفسه وأغمك بحديثه أو سؤاله فأعره عينا عمياء أذنا صماء. وأنشد أيضاً في ذلك:
هذا فتى أثقل من أحد ... يصبح من يلقاه في جهد
علامة البغض على وجهه ... بينة مذ كان في المهد
لو دخل النار طفا حرها ... ومات من فيها من برد
و في الاستبراد قال آخر في قينة:
ولو مازج النار في حرها ... حديثك اخمد منها اللهب
وقال كشاجم:
غناء بريح بأرض الحجاز ... يطيب وأما بحمص فلا
لبرد الغناء وبرد الهواء ... فإنَ جمعا خفت أن يقتلا
و لقي برد الخيار المغنى أبا العباس المبرد على الجسر في يوم ثلج فقال له: أنت المبرد وأنا برد الخيار واليوم كما ترى اعتزلنا لا يهلك الناس الفالج بسببنا. وأذكرني هذا قول أبن الخطيب: بياض بمقدار نصف صفحة في النسخ كلها.

ثكل أرأمها ولدا.
الثكل بضم الثاء: الهلاك والموت وفقد الأحبة وفقد الأولاد وهذا هو الكثير الاستعمال. يقال: ثكله بكسر الكاف ثكلا فهو ثكلان وهي ثكلى مثل سكرى. قالت الحماسية:
سيتركها قوم ويصلى بحرها ... بنو نسوة للثكل مصطبرات
و يحكى إنَّ عمير بن جندب مات قبيل الإسلام. فجهزوه ثم كشف القناع عن رأسه فقال: أين القصل؟ والقصل بالقاف على الصحيح وبالصاد المهملة واللام على مثال صرد وهو أحد بني عمه. فقالوا: سبحان الله مر آنفا فما حاجتك إليه؟ فقال: أتيت فقيل لي: لامك الهبل إلاّ ترى إلى حفرتك تنثل وقد كادت أمك تثكل؟ أنَّ رأيت إنَّ حولناك إلى محول ثم غيب في حفرتك القصل الذي مشى فاحزأل ثم ملأناها من الجندل؟ أنَّ تعبد ربك وتصل وتترك سبيل من أشرك وضل؟ فقلت: نعم فأفاق عمير وتزوج وولد له الأولاد. ولبث القصل ثلاثا ثم مات ودفن في قبر عمير.
وقال أسماء المرية:
أيا جبلي وادي عريعرة التي ... نأت عن ثوى قومي وحق قدومها
ألا خليا مجرى الجنوب لعله ... يداوي فؤادي من جواه نسيمها
وكيف تداوي الريح شوقا مماطلا ... وعينا طويلا بالدموع سجومها

وقولا لركبان تميمية غدت ... إلى البيت ترجو أن تحط جرومها
بأن بأكناف الرغام غريبة ... مولهة ثكلى طويلا نئيمها
مفجعة أحشاؤها من جوى الهوى ... وتبريح شوق عاكف ما يريمها
و الإرآم: التحبيب والتعطيف. يقال: رئم فلان كذا بالكسر يرأمه: احبه وألفه ورئمت الناقة ولدها رئما: عطفت عليه وأرأمتها: عطفتها على غير ولدها أو على البو وهو الجلد يحشى لها لتدر عليه. قال:
رئمت لسلمى بوضيم وإنني ... قديما لآبي الضيم وأبن أباة
وقال الحماسي:
ومولى جلت عنه الموالي كأنه ... من البؤس مطلي به القار أجرب
رئمت إذا لم ترأم البازل ابنها ... ولم يك فيها للمبسين محلب
وقال الآخر:
أنى جزوا عامرا سوءا بفعلهم ... أم كيف يجزونني السوأى من الحسن
أم كيف ينفع ما تعطى العلوق به ... رئمان أنف إذا ما ضن باللبن
و الولد معروف. والمثل لبيهس المعروف بنعامة. وكان من حديثه أنه خرج مع أخوة له سبعة فلقيهم قوم في موضع يقال له الأثلاث فقتلوهم إلاّ بيهسا وكان أصغرهم. فاستحقروه واستبقوه ثم احتملوه معهم حتى إذا قام قائم الظهيرة نزلوا فنحروا ناقة من وسيقتهم فأكلوا منها ثم قال قائلهم: ظلموا لحم جزوركم فقال بيهس: لكن على الأثلاث لحم لا يظلل يعني لحوم إخوانه المقتولين فأرسلها مثلا. فقال أحدهم: إني لأسمع من هذا الإنسان أمر يوشك أن يكون وراءه شر: فاقتلوه فقال زعيمهم: أيعد علينا هذا بقتيل؟ خلوه لصغر سنه فهو أحقر من ذلك فاحتملوه حتى إذا بلغوا به سمت الحي قالوا له: ائت أهلك وانع إخوانك فانطلق حتى دخل على أمه فقالت له: أين اخوتك؟ قال: قتلوا. فقالت: وما الذي أتى بك دونهم؟ فقال لها: لو خيرتك القوم لاخترت! فأرسلها مثلا. وكانت تبغضه لكثرة شره، وتحب اخوته. فلما فقدتهم أحبته ورئمته. فقال حينئذ: ثكل أرأمها ولداً، أي عطفها على هذا الولد - يعني نفسه - ولا رققها عليه ولا آلفها إياه إلاّ ثكلها أولادها الباقين، وفقدها أولادها المحبوبين. ومضرب المثل من هذا المعنى ظاهر. ثم جمعت له أمه تراث اخوته وأعطته إياه. فجعل يدير فيه وكان يقول: يا حبذا التراث لولا الذلة! فسارت مثلا. وصنع بعض أهل الحواء عرسا وحضره صبيان الحي، فلما رآهم بيهس يلعبون تجرد عن ثيابه وجعل يرقص معهم. فأتته أمه فقال له: ما هذا يا بيهس؟ فقال:
البس لكل حالةٍ لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها!
فذهبت مثلا. فبينما هو ذات يوم يرعى غنما له إذ ألجأه الحر إلى غار يستظل فيه. فرأى قتلة اخوته وهم عشرة قد عقلوا إبلهم على طرف الغار وقالوا. فخلى غنمه وبادر إلى الحي فأخذ سلاحه وأتى خالاً له يقال له أبو حنش وكان جبانا. فقال له: أبا حنش هل لك في ظباء تصطادهن ألجئهن الحر إلى عار؟ قال: نعم. فتنكب قوسك وحيهلاً ورائي! فأقبل به حتى هجم على فم الغار. وخاف بيهس أن يهرب خاله،فصاح على القوم حتى ثاروا. فتقدم بيهس وتبعه خاله علماً منه إنّه غير ناج إن فر وقتلا القوم ورجعا بسلاحهم إلى الحي، وقد ثأر بيهس باخوته. فكان من لقي خاله يقول له: ما اشجعك أبا حنش! فيقول له: مكره أخاك لا بطل! فذهبت مثلا. ويقال إنَّ مدركي الأوتار في الجاهلية ثلاثة: قيصر بن سعد - تقدم أمره - وسيف بن ذي يزن الحميري - و سنذكره - وبيهس هذا. قال الشاعر:
من يطلب الأوتار ما أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهسُ
و إنّما لقب بنعامة لطول رجليه فرأته أمه يوما فقالت: نعامة والله! فقال: نعامة عرفتني، نسأها الله! أي أخر في أجلها. وقيل لصممه، وكان أصم أصلع، والعرب ، والعرب تصف النعامة بذلك، يزعمون إنّه مصلمٌ لا أذن له ولا يسمع الأصوات أما حقيقة أو إنّه لا يلتفت إليها. قال علقمة يصف الظليم:
فوهٌ كشف العصا لأياً تبينه ... أسك ما يسمع الأصوات مصلومُ
وقال زهير:
كأن الرجل منها فوق صعلٍ ... من الظلماء جؤجؤهُ هواءُ
أسكن مصلمُ الأذنين أجنى ... له بالسيِّ تنومٌ وآء
وقال عنترة: ؟فكأنني أطس الإكام عشيةً بقريب بين المنسمين مصلمِ
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

الثور يحمي أنفه بروقه.

الثور بفتح الثاء وسون الواو، معروف يطلق على الانسي والوحشي. والحماية: المنع والحفظ، يقال: حماه من كذا يحميه منعه وحفظه. والروق بالفتح القرن.
والمعنى أنَّ الثور يدافع عن نفسه بقرنه، فيضرب فقط الحث على حفظ الحريم، والدب بما أمكن. وتقدم في كلام عمرو بن أمامة حيث قال:
لقد عرفت الموت قبل ذوقه: ... إنَّ الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مقاتلٌ عن طوفه ... كالثور يحمي أنفه بروقه
و في خبر أبن إسحاق عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوباً أرض الله من الحمى. فأصاب أصحابه منها بلاء، وصرف ذلك عن نبيه. قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبي بكر في بيت واحد فأصابتهم الحمى. فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلاّ الله من شدة الوعك. فدنوت من أبي بكر فقالت له: كيف تجدك يا أبتِ؟ قال:
كل امرئ مصبحٌ في أهله ... والموت أدنى من شراك نعلهِ
قالت: فقلت والله ما يدري أبي ما يقول! قالت: ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إنَّ الجبان حتفه من فوقهِ
كل امرئ مجاهٌ بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقهِ
قالت: فقلت والله ما يدري عامر ما يقول! قال: وكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادٍ وحولي أذخرٌ وجليلُ؟
وهل أردن يوما مياه مجنةٍ ... وهل يبدون لي شامةٌ وطفيلُ؟
قالت: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم وقلت. إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة. ومهيعة الجحفة.
والظاهر أنَّ عامرا رضي الله عنه تمثل بالشعر وإن كان فيه بعض مخالفة. وبعد كتبي هذا رأيت السهيلي قال: يذكر قول عامر: لقد وجدت الموت قبل ذوقه أنه لعمرو بن أمامة. انتهى. وهو ما استظهرناه قبل. وقول بلال: بوادٍ يروى بفخٍّ أيضاً وفخ موضع بمكة فيه ماء وفيه اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم لدخول مكة وفيه قال الشاعر:
ماذا بفخ من الإشراق والطيبِ ... ومن جوار نقياتٍ رعابيبِ
و مجنة سوق من أسواق العرب؛ وشامة وطفيل عينان من الماء وقيل جبلان. قال السهيلي: وفي هذا الخبر وما ذكر من حنينهم إلى مكة ما جبلت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إلية وما كانوا عليه من الحنين إلى الاوطان الذي هو جبلة في البشر كما روي في حديث أصيل الغفاري ويقال فيه الهذلي حين قدم مكة فسألته عائشة: كيف تركت مكة يا أصيل؟ فقال: تركتها د ابيضت أباطحها وأحجر ثمامها وأعذق إذخرها وأمشر سلمها فاغرورقت عين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا تشوقنا يا أصيل! ويروى أيضاً أنه قال له: دع القلوب تقر! وفي هذا المعنى قول الآخر::
إلاّ ليت شعري هل أبيتن ليلهٌ ... بوادي الخزامي حيث ربتني أهلي
بلادٌ بها نيطت علي تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي
انتهى كلام السهيلي. وهذا المعنى مستوفي في هذا الكتاب في غير هذا الموضع.
ثار حَابِلُهُم على نَابِلِهِم
الثور: الهيجان والوثب: ثار يثور ثوراً فهو ثائر وأثرته وثورته واستثرته.
والحابل يطلق على من شد الشيء بحبل، ومنه المثل الآتي: يا حابل اذكر حلاًّ! وعلى من نصب الحبالة للصيد أو أخذه فيها. يقال: حبل الصيد واحتبله: إذا أخذه أو نصب له. والنابل والنبل: صاحب النبل وصانعه. والنبل: السهم قال امرؤ القيس:
نطعتهم سلكي ومخلوجة ... كرك لأمين على نابلِ
أي نطعنهم طعنا مستقيما وطعنا معوجا من كل وجه. كرك لأمين أي كردك لأمين أي سهمين على نابل أي على رامٍ في السرعة. وقال أيضاً:
وليس بذي رمحٍ فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال
و يقال إنَّ الحابل في هذا المثل السدى والنابل الطعمة: فإذا قيل في القوم إنهم

ثار حابلهم على نابلهم
كان معناه أنهم أشتجروا وأوقدوا الشر فيما بينهم.

ومما يلتحق بهذا الباب قولك: أثقل من الحديد ومن الرصاص ومن حلول الدين مع الاقتار، ونحو ذلك وهو مطرد. وقولهم: ثل عرش فلان إذا هوى أمره وتضعضع عزه وذهب ملكه. قال زهير:
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشهم ... وذبيان قد زلت بأقدامهم النعلُ
و ثلَّ اللهُ عرشه: فعل به ذلك. وقال الأخر:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
و العرش سرير الملك، وسقف البيت، والعز وقوام الأمر ومنه ما ذكر.
ولنذكر بعض ما تيسر من الشعر. قال أبن الرومي:
يا مادح الحقد محتالا له شبه ... لقد سلكت إليه مسلكا وعثا
يا دافن الحقد في ضعفي حنوانحه ... ساء الدفين الذي أضحت له جدثا
الحقد داء دوي لا دواء له ... يدوي الصدور إذا ما جمره حرثا
فأستشفينه بصفح أو معاتبة ... فإنما يبرئ المصدور ما نفثا
إنَّ القبيح وإنَّ ضيعت ظاهره ... يعود ما لم منه مرة شعثا
كم زخرف القول ذو زور ولبسه ... على القلوب ولكن قل ما لبثا
و إنّما قال ذلك لأنّه قال: أيضاً في مدح الحقد:
لئن كنت في حفظي لمّا أنا مودع ... من الخير والشر انتحيت على عرضي
لمّا عبتني إلاّ بفضل أمانة ... ورب امرئ يزري على خلقٍ محض
ولولا الحقود المستكنات لم يكن ... لينقض وتراً آخر الدهر ذو نقض
وما الحقد إلاّ توأم الشكر في الفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
فحيث ترى حقدا على ذي إساءة ... فثم ترى شكرا على حسن القرض
و اخذ ذلك من قول أبن صالح، حين أتي به الرشيد وهو في قيوده، فقال له يحيى بن خالد وأراد أنَّ يسكته: بلغني انك حقود! فقال له: أيها الوزير، إنَّ كان الحقد هو بقاء الخير والشر، انهما لباقيان في قلبي! ويروى إنّه قال له: إنّما صدري خزانة لحفظ ما استودعت من خير وشر. فقال الرشيد: تالله ما رأيت أحداً احتج للحقد بمثل ما احتج به! وقال الأخر:
ما طلب فرع أصله خبيث ... ولا زكا من مجده حديث
وقال الأخر:
إنَّ قوما يلحون في حب سعدي ... لا يكادون يفقهون حديثاً
سمعوا وصفها فلاموا عليها ... وأخذوا طيبا وأعطوا خبيثا
و تقدم هذا المعنى قبل مستوفي.
وقال أبو دلامة:
إنَّ الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإنَّ بحثوا عني ففيهم مباحث
و كانت لرجل عنده شهادة في الحق، فلما طلبه بالأداء قال له: إنَّ شهادتي لا تنفعك عند القاضي. فقال له الرجل: لابد من شهادتك! فشهد أبو دلامة وانصرف وهو يقول الشعر المذكور. فحكم القاضي بشهادته وغرم المشهود عليه المال حتى قبضه المشهود له، فغرمه القاضي للمشهود عليه خوفا من ظلمه ليجمع المصلحتين. وقيل إنَّ أبا دلامة استأجر طبيبا ليعالج ابناً له مبلغ من الأجرة، فلما داواه قال للطبيب: إنّه ليس عندي ما أعطيك، ولكن أذهب وادع بهذا المبلغ على من شئت! وقيل إنّه قال له ادع على فلان اليهودي به، وإني وأبني نشهد لك! فأدعى الطبيب على اليهودي، فجاء أبو دلامة وابنه يشهدان له عند القاضي أبن أبي ليلى أو أبن أبي شبرقة فلما علم أبو دلامة أن القاضي لا يجيز شهادتهما أنشد بحيث يسمعه القاضي ما مر. فلما سمع القاضي ذلك حكم بشهادتهما خوفا من أذاه، وغرم ذلك المبلغ للمحكوم عليه، والله اعلم.
ومن هذا المعنى ما ذكر أبن رشيق عن العتبي من أن رجلا من أهل المدينة ادعى حقاً على رجل، فدعاه إلى أبن حنظب، القاضي المدينة، فقال: من يشهد بما تقول؟ فقال: زنقطة فلما ولى قال القاضي: ما شهادته له إلاّ كشهادته عليه. فلما جاء زنقطة أقبل على القاضي وقال له: فداك أبي وأمي! أحسن والله الشاعر حيث يقول:
من الحنظبيين الذين وجوههم ... دنانير مما شيف في أرض قيصرا
فأقبل القاضي على الكاتب وقال: كبير ورب السماء! ما أحسبه شهد إلاّ بالحق. أجز شهادته! وقال الصفدي:
صبري الذي اقتسمته غربة ونوى ... كأنما لهما في ذاك ميراث
وكل يومٍ على ما فيه من هرمٍ ... يلقى صروف الليالي وهي أحداث
وقال أبن الحداد يرثي:
شمس الظهيرة هل تدرين ما حدثا؟ ... شمس العشيرة حلت مغربا حدثا
انظر ثبيراً هل أنهدت جوانبه ... لحادث في ثبير الحلم قد حدثا

و من المستحسن في باب الرثاء قول أبي الفرج الجوزي، وقد ليم على اكتحاله يوم عاشوراء:
ولائم لي على اكتحالي ... يوم أراقوا دم الحسين
فقلت: كفوا! أحق شيءٍ ... فيه بلبس السواد عبني
وقال الأخر يرثي بعض الأمراء:
كان الأمير نظام الدين لؤلؤة ... قد صاغها الله من مجد ومن شرف
عزت فلم تقدر الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف
و قمل الآخر في غلام له يلقب بالسيف:
ستذرف أجفاني عليك دموعها ... ولا غرو أن تبكي على السيف أجفان
بكتك عيون الشهب إذ كنت بدرها ... وغالك من قبل التتمة نقصان
وشقت يمين الصبح فيك عن الدجا ... قميصا فأضحى وهو للحزن عريان
وقال الزمخشري يرثي شيخه:
وقائلةٍ: ما هذه الدرر التي ... تناثر من عينيك سمطين سمطين؟
فقلت: هو الدر الذي قد حشا به ... أبو مضر أذني تساقط من عيني
و قول أبن الحداد:
شقيقك غيب في لحده ... وتشرق يا بدر من بعده !
فهلا خسفت فكان الخسوف ... حداداً لبست على فقده؟
و قول أبن المعتز:
لم تمت أنت إنّما مات من لم ... يبق للمجد والسماحة ذكرا
لست مستسقيا لقبرك غيثا ... كيف يسقى وقد تضمن بحرا؟
وقول العطوي في رجل كان يعول أناسا كثيرين فمات:
وليس صرير النعش ما تسمونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف
وليس فتيت المسك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف
وقال أبن عبدون الوراق:
قبرٌ بسوسة قد قبرت به الفتى ... أدرجت قلبي في مدارج لحده
أسكنته سكنى ورحت كأنني ... في الأرض لا بشراً أرى من بعده
صمت عليَّ مسامعي في وجهه ... ز صعقت من صعق الصراخ ورعده
وجهدت أن أبكي فلم أجد البكا ... فسكت سكتة صارمٍ في غمده
هبني بكيت له وما يجدي البكا؟ ... ماءٌ بخدي والتراب بخده!
و هذا الباب كثير لا يأتي عليه الحصر.
ومن أشهر المراثي وأحسنها مرثية أبي الحسن الأنباري في أبي بقية حين قتله عضد الدولة وصلبه وأولها:
علوٌّفي الحياة وفي الممات: ... لحقٌ أنت إحدى المعجزاتِ!
و هي مشهورة معروفة. ولمّا اشتهرت ووصلت إلى عضد الدولة وأنشدت بين يديه تمنى أن يكون هو المصلوب! وقال أبن نباتة في النسيب:
يا رب خالٍ على خدِّ الحبيب له ... في العاشقين كما شاء الهوى عبثُ
أورثته حبة القلب القتيل به ... وكان عندي أنَّ الخال لا يرثُ!
و في الخال قول الحاجري:
عجبت لخالٍ يعبد النار دائماً ... بخدك لم يحق بها وهو كافرُ
وأعجب من ذا الله تعالى طرفك منذرٌ ... يصدق في آياته وهو ساحرُ
وما أخضر ذاك الخد نبتاً وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائرُ
ومذ أخبروني أنَّ قدك بانةٌ ... تيقنت أنَّ القلب مني طائرُ
و في القد قول الآخر::
بروحي معشوق الجمال فما له ... شبيه ولا في حبه لي لائمُ
تثنى فمات الغصن من حسد من حسدٍ له ... ألم تره ناحت عليه الحمائمُ؟
وقول الآخر:
قلت للأهيف الذي فضح الغصن ... كلام الوشاة ما ينبغي لك
قال: قول الوشاة عندي ريحٌ ... قلت: أخشى على غصن أن يستميلك
و يشبه هذا ما حكي أنَّ رجلا دخل دارا ينظرها ليشتريها فسمع في بعض خشبها صوتا فقال: ما هذا؟ فقال صاحب الدار: أعزك الله! هذا السقف يسبح لله عز وجل. فقال: أخشى أن يلحقه الخشوع فيسجد.
وقال لبن خفاجة:
وعشيِّ أنسٍ أضجعتني نشوةٌ ... فيه تمهد مضجعي وتدمثُ
خلعت عليَّ بها الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدثُ
والشمس تجنح للغروب مريضةً ... والرعد يرقي والغمامة تنفثُ
و مما يستلذ في هذا المعنى قول الآخر:
عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثرِ
ولتغتبقها قهوةٌ ذهبيةٌ ... من راحتي أحوى المدامع أحوارِ
وعشية كم كنت أرقب وقتها ... سمحت بها الأيام بعد يعذرِ
نلنا بها آمالنا في روضةٍ ... تهدي لناشقها نسيم العنبرِ
والورق يشدو والأراكة تنثني ... والشمس ترفل في قميصٍ أصفرِ

والروض بين مفضض ومذهبٍ ... والزهور بين مدرهم ومدنرِ
والنهر مصقول الأبطاح والربا ... والشط بين مزعفرٍ ومعصفرِ
وكأنه وكأن خضرة شطه ... سيف يسل على بساط أخضرِ
وكأنما ذاك الحباب فرنده ... مهما طفا في صفحة كالجوهرِ
وكأنه وجهاته محفوفةٌ ... بالورد والريحان خد معذرِ
نهرٌ اصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلاّ لفرقة حسن هذا المنظرِ
وقول مالك بن المرحل:
وعشيةٍ سبق الصباح عشاءها ... قصراً فما أمست حتى أسفرا
مسكينةٍ لبست خلى ذهبيةً ... وجلا تبسمها نقاباً أحمرا
وكأن شهب الجم بعض حليها ... عثرت به من سعةٍ فتكسرا
وقال أبو النصر عبد الجبار:
عليك بأغباب الوصال فضده ... يعيد حبال الوصل منك رثاثا
فلو كلف الإنسان رؤية وجهه ... لطلقه بعد الثلاث ثلاثا
ومثله قول الآخر:
عليك بإغباب الزيارة إنها ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا
و سيأتي هذا المعنى إن شاء الله تعالى وقال الحموي:
أنَّ قوماً يلحون في حب سعدى ... لا يكادون يفقهون حديثا
سمعوا وصفها ولاموا عليها ... أخذوا طيباً وأعطوا خبيثا
و هذا من الاقتباس وهو أن يؤتى في الكلام المنثور أو المنظوم بلفظ يشبه لفظ القرآن أو الحديث غير منوي به إنّه قرآن أو حديث. ولا بد من هذا القيد الآخر: ولذلك ساغ سوق اللفظ مع تغيير فيه أو في معناه ولا يلزم فيه كفر تبديل القرآن ولا خلاف نقل الحديث بالمعنى. ولنذكر طرفا من ذلك هاهنا: فمن الاقتباس من القرآن في النثر قول الحريري: فلم يكن إلاّ كلمح البصر أو هو أقرب حتى أنشد فأغرب. وهو في الشعر أكثر. ثم إنّه قد يكون اللفظ المقتبس بيتا كاملا كقول أبي محمد بن السيد البطليوسي في بعض مواضعه:
خففوا ثقل الخطايا ... أفلح القوم المخففون!
كيف تعطون من الباقي ... وبالفاني تضنون؟
لن ينالوا البر حتى ... تنفقوا مما تحبون!
و قول أبن العفيف:
يا عاشقين حاذروا ... مبتسما من ثغره!
فطرفه الساحر قد ... شككتم في أمره
يريد أن يخرجكم ... من أرضكم بسحره
و قد يكون شطر البيت كقول أبي فراس:
قد كان بدر السماء حسناً ... والناس في حبه سواءُ
لا تعجبوا!ربما قديرٌ ... يزيد في الخلق ما يشاءُ
و قول محيي الدين البغدادي:
إن لا مني من رلا رآه فقد ... جار على الغائب في الحكمِ
وإن لحاني من رآه فقد ... أضله الله على علمِ
و قول أبن الدماميني وقد رأى جرة خمر كسرت فساحت الخمر على الأرض:
كسروا الجرة عمداً ... ملؤوا الأرض شرابا
قلت والإسلام ديني: ... ليتني كنت ترابا!
و قلت أنا في نحو هذا أخذا منه:
عثرت هيفاء تحكي ... بدر تمٍّ حين غابا
قبَّلَ التراب لماها ... ونضا عنها النقابا
وجنى ورداً ونداً ... وارتوى منها رضابا
قلت لمّا عانقته: ليتني كنت ترابا!
و قد يكون أقل من الشطر الثاني كقول أبن النبيه:
قل لراسي الجفون إنَّ لجفني ... في بحار الدموع سبحا طويلا
و هي قصيدة على هذا النمط، أخذ قوافيها من سورة المزمل.
ولابن سهل الإسرائيلي قصيدة أخرى مثلها، اخذ قوافيها من سورة مريم، وكلتاهما مشورة. ومن ذلك قول بعضهم:
إذا رمت عنها سلوة قال شافع ... من الحب: ميعاد السلو المقابر
سيبقى لها في مضمر القلب والحشى ... سرائر ود يوم تبلى السرائر
و قولنا:
في ظيبة هيفاء من أجفانها ... سحر الجفون البابلي تواتراً
فإذا انتضت من جفنها غضبين من ... جفنين قلنا: ساحران تظاهراً
و في التورية في الجفنين. وهذا الاقتباس هنا مما اختلف فيه الأصل والفرع معنى من جهة الحقيقة والمجاز. ومثله قول أبن الرومي يخاطب رجلا مدحه ولم يثبه:
لئن أخطأت في مدحك ... ما أخطأت في منعي:
لقد أنزلت حاجتي ... بوادٍ غير ذي زرعٍ
فأنه جعل مجازا عن الرجل الذي لا خير فيه وهو في الآية حقيقة.
ومن الاقتباس في الحديث قول بعضهم:
قال لي إنَّ رقيبي ... سيئ الخلق فداره

قلت: دعني وجهك ... الجنة حفت بالمكاره
أخذ من الحديث: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. وقول بعضهم في غلام اسمه بدر فيه تورية:
يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري
وقبحوا لك وصلي ... وحسنوا لك هجري
فليفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهل بدر!
اخذ من الحديث: لعل الله أطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم! وقول بعضهم:
ومهفهفٍ يزري على القمر ... وجناته روض في الزهر
خالسته نوار وجنته ... وأخذ منها على حذر
فأخافني قوم فقلت لهم: ... لا قطع في ثمر ولا كثر
فقوله: لا قطعتم في ثمر ولا كثر هو لفظ حديث. والكثر جمار النخل. وقد زاد بعضهم الاقتباس من الفقه، وزاد أخرون الاقتباس من سائر العلوم. فمن الاقتباس من علم الفقه قول أبي تمام:
إنَّ حراما قبول مدحتنا ... وترك ما نرتجي من الصفد
مثل الدنانير بالدراهم في ... الصرف حرام إلاّ يدا بيدِ
شرطت عليهم عند تسليم مهجتي ... وعند انعقاد البيع قربا يواصل
فلما أردت الأخذ بالشرط عرضوا ... وقالوا يصح البيع والشرط باطل
و قول مالك بن المرحل موريا:
مذهبي تقبيل خد مذهبٍ ... صاحبي ماذا ترى في مذهبي؟
لا تخالف مالكا في رأيه ... فيه يأخذ أهل المغرب!
و قول أبن العفيف:
قضاة الحسن ما صنعي بطرف ... تمنى مثله الرشا الربيب؟
رمى فأصاب قلبي باجتهادٍ ... صدقتم: كل مجتهد مصيب!
وقول أبي عبد الله الشران، وقد كان عند أبن جماعة إعذار، فدعا البلد، ولم يدع الشران فكتب إليه الشران:
ماذا أعد المجد من أعذاره ... في ترك دعوتنا إلى إعذاره؟
إنَّ كان رسم دون محضرنا اكتفى ... لا بد إنَّ يبقى على إعذاره
و من الاقتباس من علم قول أبي بكر بن حجة الحموي:
أيا عرب الوادي المنيع حجابه ... وأعني به قلبي الذي به خيموا
رفعتم قبابا نصب عيني نحوها ... تجر ذيول النوق والقلب يجزم
منعتم تحيات السلام لموتنا ... غراما وقد متنا فصلوا وسلموا!
و قول البوصيري:
خفضت كل مقام بالإضافة إذ ... نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
و قول بهاء الدين زهير:
يقولون لي أنت الذي طار ذكره ... فمن صادر يثنى عليك ووارد
هبوني كما قد تزعمون أنا الذي ... فأين صلاتي منكم وعوائدي؟
و مرض شرف الدين بن عنين، فكتب إلى الملك المعظم بن المكل العادل:
انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلاف
أنا كالذي يحتاج ما يحتاجه ... فاغنم دعائي والثناء الوافي
فلما بلغه البيتان، نهض إلى زيارته واستصحب ألف دينار. فلما دخل عليه وعاينه قال له: أنت كالذي هو موصول، يحتاج إلى صلة وعائد، فهذه الصلة وأنا العائد.
وقول السليماني:
وإني الذي أقصيته وهجرته ... فهل صلة أو عائد منك للذي؟
و قولنا من أبيات:
فلم يكن عن ذلك فعلي معربا ... تغنيت بالماضي من الحال والأمر
و فولنا من أخرى:
قصر الهناء أسى لغير ضرورةٍ ... لولا نواكم، والهوى ممدود
و من أظرف ما وقع في ذلك قول أبن جابر يخاطب معزولا عن ولاية:
فلا تغضبن إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفه!
ومن الاقتباس من علم الحديث قول أبن جابر:
نقل المسواك فيما قد روى ... أنَّ ذاك الريق مسك وعسل
قلت: عن من؟ قال: عن مبسمها ... قلت: هذا خبر صح وجل
مذ تبدى جوهر الثغر لنا ... صح في حسن لدينا ما نقل
و قولنا في هذا المعنى:
نقل النسيم عن الأرائك محدثا ... عن ثغر سلمى الأشنب الواضح
وحديثه المروي أنَّ رضابه ... عسل ومسك شوبا بالراح
يفتر العقدين من برد صفا ... ولآلئٍ منضودة وأقاح
صدقا أحاديث الصحيحين اعتلت ... عن ريبة تغزى لها من لاح
و من الاقتباس من علم أصول الفقه قول أبن جابر:
جئتها طالبا لسالف وعد ... فأجابت: لقد جهلت الطريقه
إنّما موعدي مجاز فقلت: الأصل ... في سائر الكلام الحقيقه
و قوله أيضاً:

لا تعجبوا من عموم الحب في الرشإٍ ... كل الجمال له في الناس مخصوص
بدر ولكن إلى الغزلان منتسب ... قد نص ذلك جيد منه منصوص!
و قول آخر:
كيف لي بالسلو عنها وقلبي ... قد هوى حمله بمهوى الخرص؟
ما تعصيت ظاهر الصبر إلاّ ... ردني جيدها بأوضح نص
و قول أبي بكر بن حجة، رحمه الله تعالى، وهو في الفنين معاً.
بوادي حماة الشام أيمن الشط ... وحقك تطوى شقة الهم بالبسط
بلاد إذا ما ذقت كوثر مائها ... أهيم كأني قد ثملت بإسفنط
فمن يجتهد في أنَّ بالأرض بقعة ... تماثلها قل: أنت مجتهد مخطي
وصوب حديثي مائها وهوائها ... فإن أحاديث الصحيحين ما تخطي
ومن الاقتباس من علم الكلام قول أبن جابر:
عرض الحب دون جوهر ذاك ... الثغر من أكبر المحال بجود:
أجمع الناظرون في ذاك أنَّ لا ... عرض دون جوهر في الوجود
و قولنا من أبيات:
فالجسم بالٍ ذو وبالٍ بعدكم ... أبدا به عرض الشحوب جديد
و في هذا البيت الجناس بين بالٍ وبالٍ، والاقتباس في الجسم والعرض، ومراعاة النظير بذلك الاعتبار، والطباق بين البلى والجدة.
ومن الاقتباس من علم المنطق قول أبن جابر:
مقدمات الرقيب كيف غدت ... عند لقاء الحبيب متصله
تمنعا الجمع والخلو معا ... وإنّما ذاك حكم منفصله
و قول أبن الخطيب:
حتى إذا فرض الجلاد جداله ... ورأيت ريح النصر ذات هبوب
قدمت سالبة العدو وبعدها ... أخرى بعز النصر ذات وجوب
وإذا توسط حد سيفك عندها ... جزئي قياسك فزت بالمطلوب
و قول الآخر:
يا دمع أجفاني أطرد يا حر ... أضلاعي أتقد يا قرح اكبادي أنتك
ويقل إتلاف النفوس تلفها ... لفوات حظ منك لم يستدرك
أملي يشك وعفوكم متواطئ ... فأصار من متواطئ لمشكك
مالي سواك لمن أمد يد الرجا ... متمسكا يا ملجأ المتمسك!
و من الاقتباس من علم العروض قول الآخر:
له جيش نصر قد نضى السعد دونه ... صوارم روع لا تلقيها القوانس
إذا ما قوافي الخيل فيه تداركت ... فأبشر بنصر بحره متكاوس!
و قولنا من قصيدة:
سلام طويل الحب فيكم مديده ... فليس بذي نهك وليس بذي شطر
و قولنا أيضاً في التغزل:
يا شادنا يصيد أساد غيل ... بقوس صدغين وسهم كحيل
بم استبحت دمي الحرم في ... قتلي وحرمت وصالي الحليل؟
وقطع سببي من ودا ... دك وذا لا يرضينه الخليل
و في الخليل التورية وفي الأبيات أنواع أخرى من البديع ظاهرة.
ومن الاقتباس من علم الهيئة قول الغزالي:
يا حسن ليلتنا التي قد زارنا ... فيها فأنجز ما مضى من وعده!
قومت شمس جماله فوجدتها ... في عقرب الصدغ الذي في خده
و قوله أيضاً:
حلت عقارب صدغه من خده ... قمرا يجل به عن التشبيه
ولقد عهدناه يحل ببرجها ... ومن العجائب كيف حلت فيه!
و من الاقتباس من علم الهندسة قول أبن جابر:
محيط بشكل الملاحة حسنه ... كأن به أقليدسا يتحدث
فعارضه خط استواءٍ وخاله ... به نقطة والشكل شكل مثلث
و من الاقتباس من علم الخط قول أبن جابر أيضاً:
فوق خديه للعذار طريق ... قد بدا تحته بياض وحمره
قيل ماذا؟ فقلت: أشكال حسنٍ ... تقتضني أنَّ أبيع قلبي بنظره
و اعلم أنَّ معظم ما نشدنا، لك إنَّ تجعله من باب الإيهام تورية أو توجهها لا من باب الاقتباس والخطب سهل.
ومما جمع ثلاثة فنون مما مر قول بعضهم:
دارست قلبي الصبر أعتده ... عن عاصم لي منك أو نافع
فلم يكن يرفع ما حل بي ... ورب فعل ليس بالرافع
ضل بي المذهب يا مالكي ... فهل لذلك الوجه من شافع؟
و مثل هذا قول الآخر:
من شافع لي عند مالك مهجتي؟ ... مالي سوى حبي وليس بنافعي
فمن المحقق أن مذهب مالكٍ ... لا تستقيم لديه حجه شافعي
و هذا الباب أكثر من أن يأتي عليه الحصر.
وقال أبن العربي، وقد وقف عليه مليح وهو في مجلس فهز ومحا بيده، ارتجالا:
يهز علي الرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث

فلو كان رمحا واحدا لا تقينه ... ولكنه رمح وثان وثالث!
و هذا غاية في القوة العارضة أنسجاما وحسن سبك وصحة معنى، الارتجال وصعوبة القافية. وقد وقع إشكال لجماعة من الأدباء في الشعر وما أريد فيه، وذلك من حيث لم يعتد استعمال الرمح في العيون؛ وإلاّ فهو بين واضح.
وقلت أنا:
لا يلهينك من فتى سرباله ... وبهاء منظره ورونق نفثه
أو تقتحمه من رثاثة زيه ... فتجول في إطرائه أو مغثه
حتى تبين قدره عن فره ... ولجينه عن بحثه
وتميز عن طول الزمان هشيمه ... من غضه وسمينه من غثه
ونفاذه غرض النوائب إنَّ دجت ... من طيشه ووفاء من ملثه
ومقام ما أستودعه من كامن ... الأسرار في كتمانه أو نثه
وترى إذا ما شمت بارق وعده ... أن قد مطرت بوبله أو دثه
وترى جلية قوله إما روى ... نبا لدى تهذيبه أو مقثه
وترى بمرجاس البصيرة غوره ... في وده للأصدقاء ودعثه
فهناك إن احمدته فلتصفه ... ودا وإلاّ فلتحد عن وعثه
فلرب ذي ورم يروق رواؤه ... حسنا وسوف تمجه في دأثه
ولرب مرعى مونق في دمنة ... وإذا شممت صددت عنه لخبثه
ولرب حسي ترتوي من عذبه ... عفوا وتكدي أو تشوب بنبثه
ومهند ذكر حسام باتر ... خلق الجفير من الحوادث رثه
أزرت به مرآته وإذا انتضي ... أرضاك مشهده ومرأى جثه
هذا وإنَّ المرء ليس بحاصد ... أبدا سوى ما قد أتى من حرثه
ولسوف يجني كل ما هو غارس ... في دهره من كرمه أو رمثه
ويرى مغبة سعيه مذخورة ... لمآبه من رمثه أو عيثه
النفث: المراد به الكلام. والإطراء: المبالغ في المدح والمغث ضده واللجين مصغرا: الفضة واللجين مثل أمير زبد أفواه الإبل وما سقط من الورق عند الخبط. وأطلق اللجين واللجين على محمود الأخلاق ومذمومها كما يقولون: إنَّ فلان لا يفرق بين لجين الكلام ولجينه أي بين جيده ورديئه؟ والنفاذ والطيش أصلها في السهام وذكرهما مع ذكر الغرض في النوائب استعارة وفي الغرض مع ذلك توجيه. والملث: الوعد بلا نية الوفاء. والدث: المطر الضعيف. والمرجاس: حجر يرمى في البئر ليعلم به عمقها وفيه أقوال أخرى. واحمدت الرجل: وجدته محمودا وكذا اذممته: فإنَ قلته بلا همزة كان بمعنى الثناء والمناسب هنا الأول. والدأث بفتح الدال المهملة وسكون الهمزة: الأكل والحسي: بئر غير غارقة بمستنقع فيها الماء وينبع منها واكدى الحافر: بلغ كديه في حفره. والرمث بكسر الراء: شجرة معروفة من أشجار البادية وليس لها من الثمرة ما للكرم وهو ضجر العنب فكني بالكرم والرمث عن السعي الذي يجدى نفعا والذي لا نفع فيه كغارس الرمث المذكور. والمث بفتح الراء: الأصلاح وضده العيث وهو الإفساد.
وقول الآخر:
ليل البراغيث داء لا دواء له ... لا بارك الله في ليل البراغيث
كأنهن بجسمي إذ علقن به ... أيدي الشهود على مال المواريث
وقال أبن شرف في معناه:
لك منزل كملت ستارته ... للهو لكن تحت ذاك حديث
غنى الذباب وظل يزهو حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث
و مثله قول الآخر:
ليل البراغيث والبعوض ... ليل طويل بلا غموض
فذاك ينزو بغير رقص ... وذا يغني بلا عروض
و قول أعرابي بات بمصر فآذاه البرغوث:
تطاول بالفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الغضا ليلي علي يطول
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث علي سبيل
و قول الكناني ملغزا فيه:
ومعشر يستحل الناس قتلهم ... كما استحلوا دم الحجاج في الحرم
إذا سفكت دما منهم فما سفكت ... يداي من دمه المسفوك غير دمي
و قول أبن سكرة في مليح يعرف بابن برغوث:
بليت ولا أقول بمن لأني ... متى ما قلت من هو يعشقوه
حبيبي قد نفى عني رقادي ... فإنَ غمضت أيقضني أبوه
وقال البستي:
لا در در نوازل الأحداث ... نقلت احبتنا إلى الأجداث
فغدت مآنسنا وهن مقابر ... وغدت مدائحنا وهن مراث
و في هذا القدر من الباب كفاية. والله يقول الحق وهذا يهدي السبيل.

باب الجيم
أجبن من صافر.

الجبن: الخور وهيبة الأقدام على الأمور. يقال: جبن بالضم يجبن جبنا بالضم وبضمتين وجبانة بالفتح فهو جبان بوزن سحاب وجبان كشداد وجبين كأمير والجمع جبناء. وهي جبان وجبانة وجبين. والصافر: المصوت يقال: صفر يصفر صفيرا إذا صوت فهو صافر وصفار. قال:
خلا لكِ الجو فبيضي واصفري
ويقال الصافر للخشاش والبغاث من الطير وهو ما يصيد منها. واختلف في المراد من الصافر في هذا المثل فقيل أريد كل صافر من الطير ولا يكون الصفير إلاّ في ضعافها وجشاشها ويوصف بالجبن لكثرة ما يتقي من جوارح الجو ومصايد الأرض. وقيل الصافر طائر بعينه إذ أمسى تعلق بالشجرة برجليه ونكس رأسه خوفا من أن ينام فيؤخذ فيبيت منكوسا ولا يزال يصيح حتى يصبح. وقيل: الصافر هنا بمعنى المصفور به وهو الذي ينذر بالصفير فيفزع ويهرب كما قالوا: ما بالدار صافر أي مصفور به قال الشاعر:
خلت الديار فما بها ... ممن عهدت بهن صافر
و عليه يكون فاعلا بمعنى مفعول كما في دافق أي مدفوق وراحلة أي مرحولة وذلك في المثال المذكور. والبيت محتمل غير متعين. وقيل: الصافر هو الذي يصفر للمرأة بالريبة وهو موصف بالجبن ساعتئذ لوجله وحذره أن يطلع عليه. قال الكميت:
أرجو لكم أن تكونوا في مودتكم ... كلبا كورهاء تقلى كل صفار
لمّا أجابت صفيرا كان آتيها ... من قابس شيط الوجعاء بالنار
و هذه المرأة التي ذكرها الكميت وضرب بها المثل امرأة من العرب كان من حديثها إنَّ رجلا كان يعتادها فكان يأتيها وهي جالسة مع زوجها وبنيها فيصفر لها فإذا سمعت صفيره أخرجت إليه عجيزتها من وراء البيت وهي تحدث ولدها فيقضي منها وطره ويرجع. ثم إنَّ بعض بنيها فطن للأمر فلما جاء صاحبها وصفر بها فأخرجت عجيزتها على العادة فأخذ مسمارا محمى كان معه فكوى به صدغها حتى أحست بالموت وتجلدت. فلما جاء الخدن بعد ذلك وصفر بها قالت: لقد قلينا صفيركم فضرب بها الكميت المثل.

أجبن من الكروان.
الجبن تقدم. والكروان بفتحتين طائر يشبه البط لا ينام الليل. وقيل هو الحجل. وانشد الجوهري:
يا كروان صك فاكبأنا ... فشن بالسلح فلما شنا
بل الذنابي عبسا مبنا
ويقال: أراد به الحبارى يصكه النازي فيتقيه بسلحه ويقال هو الكركي. ويقال للأنثى كروانة. ويقال للذكر الكرا ومنه المثل الآتي: أطرق كرا. وثقال إنّه سمي بالكرا وبالنعاس ضد ما كان عليه لمّا مر من إنّه لا ينام وهو أيضاً موصف بالجبن الكثير والفزع من سباع الطير كما قال الشاعر في خالد بن صوفان:
ترى خطباء الناس يوم ارتجاله ... كأنهم الكروان عاين اجدلا
والكروان بالكسر فالسكون جمع الكروان السابق. وقال الآخر:
أمير أبو موسى ترى الناس حوله ... كأنهم الكروان ابصرن بازيا
و سيأتي الكلام عن قولهم: أطرق كرا إن شاء الله تعالى.
أجبن من المنزوف ضرطا.
الجبن مر والنزف: النزح. يقال نزفت ماء العين انزفه أي نزحته كله ونزفت البئر فهي منزوفة. ويقال: نزفة عبرة الرجل بكسر الزاي إذا فنيت وانزفها الشوق. ويقال: نزف فلان دمه بالبناء للمجهول إذا سال عليه سيلانا مفرطا ونزف الدم فهو منزوف فيها. والضرط بالفتح والضراط بالضم صوت الريح. يقال: ضرط بالكسر ضراطا وضرطا فهو ضراط كشداد وضروط كصبور وضروط كسنور. واختلف في المنزوف ضرطا فقيل إنَّ نسوة كن لم يكن لهن أزواج فزوج إحداهن رجلا فكان ينام الصبحة فإذا آتيته بالصبوح ونبهنه قال: لو نبهتني لعادية أي الخيل فلما اكثر من ذلك قلن بينهن: إنَّ صاحبنا لشجاع فتعالين فآتينه بالصبوح على العادة فقال: لو لعادية نبهتنني كما كان يقول. فقلن له: هذا نواصي الخيل فجعل يقول: الخيل الخيل ويضرط حتى مات. وقيل إنَّ المنزوف ضرطا دابة بالبادية إذا صيح عليها وقع عليها الضراط فلا تزال تضرط حتى تموت. وقيل إنّه رجل خرج مع رفيق له. فبينما هما في فلاة إذ لاحت لهما شجرة فقال: أرى قوما رصدونا. فقال رفيقه: إنّما هي عشرة أي شجرة والعشر بضم العين وفتح الشين شجر يحشى في المخاد وهو أجود ما يقتدح به. فظنه يقول عشرة بالفتح. فجعل يقول: وما غناء اثنين عن عشرة ويضرط حتى مات.
أجبن من النعامة.

الجبن مر والنعامة: واحدة النعام وهو معروف اسم جنس مثل حمام وحمامة وجراد وجرادة والذكر منه يقال له ظليم. والنعام يوصف بالجبن كثيرا. ويقال إنَّ النعامة إذا خافت من موضع لا ترجع إليه أبداً. وقال الشاعر في الحجاج:
أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى؟ ... بل كان قلبك في جناحي طائر
و للشعر قصة تذكر بعد إن شاء الله تعالى.
الجحش لمّا بذك الأعيار!
الجحش ولد الحمار اهليا كان أو وحشيا والأنثى جحشة والجمع جحاش. قال زهير يصف حمار وحش:
وقد خرم الطراد عنه جحاشه ... فلم يبق إلاّ نفسه وحلاله
و البذ بالذال المعجمة الغلبة. يقال بذك هذا الأمر أي غلبك. قال علقمة يصف بقرة وحشية:
تعفق بالأرطى لها وأرادها ... رجال فبذت نبلهم وكليب
و الأعيار جمع عير بفتح العين وهو الحمار أهليا كان أو وحشيا. قال امرؤ القيس في الوحشي:
كأني وردفي والقراب ونمرقي ... على ظهر عير وادر الخبرات
وقال الآخر في الأهلي:
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلاّ الأذلان عير الحي والوتد
و يجمع أيضاً على معيورات.
ومعنى المثل إنّه إذا غلبتك الاعيار ولم تدركها فعليك بالجحاش. وذلك إنَّ الصائد إذا أثار طريدة من الوحش فإنَ الكبار القوية منها تسبق وتتأخر الصغار. فإذا اعجزته الكبار السوابق فمن حقه إنَّ يظفر بالصغار ولا يفرط فيها. فيضرب في الرجل يطلب الأمر العظيم الخطير فيفوته فيقال له: اطلب ما دون ذلك أمالا وترجع خائب كما قيل:
إذا حاجة ولتك لا تستطيعها ... فخذ طرفا من غيرها حين تسبق
و لفظ الجحش في المثل يكون منصوبا على الأغراء أي: عليك بالجحش ويجوز أن يرفع على الابتداء أو الخبر أي: الجحش حسبك أو حسبك الجحش.

جدك كدك.
الجد بالفتح: الرزق والحظ. ورجل مجدود: ذو حظ. والكد بالفتح: الشدة والإلحاح. ومعنى المثل انك إنّما تعيش وتنال بمالك من الحظوة والبخت لا بتعبك وكدك فإنَ الكد لا ينفع مع الحرمان كما قيل:
عش بجد ولا يضرنك نوك ... إنّما عيش من ترى بالجدود
و كما قلت أنا:
كم لبيب ذي نجدة مالت هزلا ... وغبي تحتفه ألف هان
و تقدم في هذا المعنى مستوفى وسيأتي أيضاً.
قيل: وأول من قال في هذا المثل حاتم بن عميرة الهمداني. وكان بعث ابنيه: الحسل وعاجية في تجارة لوجهتين مختلفتين. فذهب الحسل حتى لقيه قوم من بني أسد فأسروه واخذوا ماله. وسار أخوه أياما حتى وقع على مال الحسل فاتبعه حتى بلغ نجران فنادى في قومه همدان فأخذه من أيدي سالبيه قبل إنَّ يبلغ إلى موضع متجره. وكانت الإبل موسومة بسمة ابيهما وعرفوا إنَّ ما كان من المتاع له فأخذه ورجع إلى أهله. وقال في ذلك:
كفاني الله بعد السير إني ... رأيت الخير في السفر القريب
وهذا القرب نلنا خيرا ... ولم نلق الخسارة في الدؤوب
فلما رجع تباشر به أهله وانتظروا الحسل. فلما ابطأ عنهم بعث أبوه أخا له يقال له شاكر في طلبه والبحث عنه. فلما دنا شاكر من الأرض التي فيها الحسل وكان الحسل علئفا يجزر الطير فقال الحسل:
تبشرني بالنجاة القطاة ... وقول الغراب لها شاهد
تقول: أل قد دنا نارح ... فداء له الطارف التالد
أخا لم تكن أمنا أمه ... ولكن أبونا أب واحد
تداركني زلفة حاتم ... فنعم المرب الوالد
تداركني بك يا شاكر ... ومن بك الملك الماجد
فسأل عنه شاكر حتى عرف مكانه فاشتراه منهم بأربعين بازلا. فلما رجع به واخبر بما لقي من بلاء قال أبوه: اسع بجدك لا بكدك وهذا المثل قولهم: عارك بجد أودع وسيأتي:
جدع مازن انفه بكفه.
يأتي هذا في الكاف وهو هناك البق.
أجرأ من خاصي خصاف.
الجراة على وزن الجرعة الشجاعة والأقدام. تقول: جرؤ بالضم، جرأة وجراءة، فهو جريء. وجرأته على الأمر تجرئة، فأتجر عليه. وتقول: خصيت الفحل أخصيه خصاء، وبالكسر والمد إذا سللت خصييه، فهو خصي. وخصاف على وزن كتاب أو وزن قطام: اسم فرس كان لحمل بن بدر بن عوف بن بكر بن وائل، طلبه منه المنذر بن امرئ القيس ليستحلفه، فخصاه بين يديه لجرأته ومنعه منه، فسمي خاصي خصاف وقيل من خاصي خصافٍ.

أجرأ من خاصي الأسد.
الأسد معروف. وخاصي الأسد تزعم العرب إنّه رجل مر به الاسد، فوجده يحرث بثورين بادنين، فقال له: يا حراث ما اسمن ثوريك! فبم أسمنتهما وما أطعمتهما؟ فقال له الحارث: إني خصيتهما فسمنا لأجل ذلك. فقال الأسد: فهل لك إنَّ تخصيني عسى إنَّ اسمن سمنهما؟ فقال له: نعم! وأمكنه الأسد من نفسه، فخصاه الحراث وزعموا إنّه مر عنه الأسد ودمه يسيل، حتى رقى ربوة فأقعى فيها حزينا ينظر إلى الحراث. فبينما هو كذلك إذا بثعلب مر به، قال له: مالي أراك حزينا يا أبا الحارث؟ فذكر له ما فعل به الحراث، وما دهمه من المثل الخصاء. فقال له الثعلب: هل لك في أنَّ آتي الحراث واستدبره، عسى أن تمكنني منه فرصة فأثئر لك؟ قال: نعم! فداك أبي وأمي. فمضى الثعلب وجعل يراوغ الحراث ويطيف به. فتناول الحراث حجرا وقذفه به فدق فخذه. فأتى الأسد وهو على ثلاث قوائم، فأقعى معه على الرابية يشكوان بثهما وما دهيا به من ذلك الحراث حتى مرت بهما نغرة فقالت لهما: ما لكما على هذه الحال؟ فأخبراها خبرهما، فقال لهما: أنا أتيه، فأستدبره حتى أدخل في أنفه. فجاءت إليه، وتغافل الحراث عنها حتى دنت منه قبص عليها واخذ عودا فدسه في آستها وأرسلها، فجاءت إلى الأسد والثعلب وهي شر من حالهما، قد سد العود دبرها ومنعها وأثقلها عن الطيران، فبينما الثلاثة جلوس على الربوة يتشاكون، جاءت امرأة الحراث بغذائه. فتقدم إليها، ورفع رجليها، وجعل يطؤها، وهي بمرأى من تلك الحيوانات. فقال الأسد: ما ترون هذا المشؤوم يفعل بهذه المرأة المسكينة، والله إني لأظنه يخصيها. فقال الثعلب: ما أظنه إلا يكسر فخذها، فقالت لا والله! بل يدخل في آستها عودا. فكانت النغرة أقربهن إلى الصدق ظنا. وقيل إنَّ خاصي الأسد هو الإصبع التي يفرس بها من براثينه. حكاه البكري عن القاسم بن ثابت، والله اعلم.
أجرأ من فارس خصاف.
خصاف، بفتح الخاء على مثال قطام، وهي كانت لملك بن عمرو الغساني. وخصاف بوزن كتاب: حصان كان لشهير بن ربيعة الباهلي
جرب ثم باعد أو قرب.
هذا مثل مصنوع فيما أظن، وهو ظاهر المعنى. ومثله قول الشاعر:
ابل الرجال إذا أردت إخاءهم ... وتوسمن فعالهم وتفقد
فإذا ظفرت بذي اللبابة والعلى ... فبه اليدين قرير عين فاشدد
يجري بليق ويذم.
الجريان: العدو، وهو معروف؛ وبليق مصغر اسم فرس كان سباقا، وكان مع ذلك يذم، فيضرب به المثل في المحسن يذم.
جري المذكي حسرات عنه الحمر.
الجري تقدم؛ والمذكي من الخيل المسن. يقال: ذكى الفرس، تذكية بذال معجمة إذا أسن. والمذاكي من الخيل: التي أتى على قروحها سنة أو سنتان. والحمر جمع حمار. والمعنى أنَّ الحمار لا يستطيع أنَّ يسابق القارح من الخيل، بل والبرذون، كما قال زهير يمدح هرم بن سنان:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... مضارب حتى إذا ما ضربوا اعتنقا
فضل الجياد على الخيل البطاء فلا ... يعطي بذلك ممنوقا ولا نزقا
يضرب هذا المثل في الرجل البارع المبرز على غيره في الفضل.
جري المذكيات غلاب.
المثل من معنى ما قبله. والجري تقدم؛ وكذا المذكيات من الخيل. والغلاب: المغالبة، كأنها تغالب الجري. ويروى غلاء أي مغالاة في السير. والغلاء، بكسر الغين أيضاً، جمع غلوة، وقد روي المثل بذلك. والغلوة من كل غاية مقدار رمية السهم. وهذا المثل قاله قيس بن زهير، وذلك إنّه لمّا تراهن هو وحمل بن بدر على ما مر في هذه القصة، فأرسلا فرسيهما: فرس قيس وهو داحس، وفرس حمل وهو الغبراء، على ما في ذلك من الاضطراب، ظهرت الغبراء على داحس. فقال حمل بن بدر: سبقتك يا قيس! فقال قيس: رويدا! يعدوان الجدد، فأرسلها مثلا. فلما خرجا عن الجدد وصار في الوعث، برز على الغبراء. فقال قيس حينئذ: جري المذكيات غلاب أو غلاء كما مر فذهبت مثلا.
جروا له الخطير ما أنجز لكم!

الجر: السحب على الأرض مثلا. وجرت الفرس بمقوده، والجمل بزمامه، فانجر؛ والخطير، بالخاء المعجمة والطاء المهملة على مثال أمير زمام الناقة وجديلها. يسمى بذلك لأنّه يخطر أي يهتز عند مشيها. وبذلك يمس الرمح خطارا. والجديل ما كان من جلود، وقد يقال لغيره. والحبل إذا كان من خوص سمي شريطاٍ، وإذا كان من كتان سمي مرسا، كما قال امروء القيس:
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
و إذا كان من ليف فهو مسد. وهذا المثل يروى عن عمار بن ياسر، رضي الله عنه إنّه قاله في عثمان، رضي الله عنه، حين أنكر عليه الناس ما أنكروا، أي أتبعوه ما كان فيه موضع متبع.

اجر الأمور على إذلالها!
الأمور جمع أمر؛ والإذلال، بالذال المعجمة، جمع ذال بالكسر وذل الطريق: محجته. والمعنى: أجر الأمور على مجاريها ومسالكها. ويضرب في الأمر بحسن التدبير ويقال أيضاً: إنَّ أمور الله جارية إذلالها وعلى إذلالها، أي على مجاريها. ويقال: دعه على إذلاله أي حاله؛ وجاء على إذلاله، أي على وجهه.
؟التجريد لغير نكاح مثله.
التجريد معروف. تقول: جردت زيدا من ثيابه، وتجرد هو من ثيابه؛ وكذا النكاح. ومثله: النقص والمثلة: النقص والعيب والشين. والمعنى أنَّ تجريد العورة لغير النكاح عيب. ويضرب في وضع الأشياء في غير موضعها. وذكروا أن المثل لرقاش بنت عمرو بن ثعلب بن وائل وكانت شريفة عاقلة. فتزوجها كعب بن مالك بن تيم الله، فقال لها: اخلعي درعك؟ فقالت: خلع الدرع بيد الزوجز فقال: اخلعي درعك لأنظر إليك؟! فقالت: يا أبن عم: إنَّ التجريد لغير نكاح مثلةٌ! فأرسلها مثلا. فطلقها مكانها، فحملت إلى أهلها، فمرت بذهل أبن شيبان بن ثعلبة، فسلم عليها وخطبها إلى نفسها، فقالت لخادمها: انظري أيبعثر أم يقعر إذا بال؟ فنظرت الأمة فقالت لمولاتها: يقعر. فتزوجته.
ويحكى أيضاً إنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه، لمّا تزوج نائلة بنت الفرافصة بن الاحوص الكلبية، وساقها إليه أخوها، فأدخلت عليه، وخلا بها وقال لها: تقومين إلي أم أقوم إليك؟ فقالت: ما قطعت إليك عرض السمواة وأنا احب إنَّ تقطع إلي عرض البساط. فقامت وجلست إليه، فقال لها: لا يسؤنك ما ترين من شيبي، فإن وراءه ما تحبين. قالت: إني لمن نسوة أحب رجالهن السيد الكهل. إلى أن قال لها: ضعي الخمار! فوضعته. فقال لها: اخلعي الدرع! فخلعته. فقال لها: اخلعي الإزار! قالت: ذلك إليك! فلما دخل على عثمان، رضي الله عنه، يوم الدار، أكبت عليه وجعلت تنافحح بيدها حتى أصيبت بجراحات. فلما قتل رحمه الله، رثته فقالت:
إلاّ إنَّ خير الناس بعد ثلاثةٍ ... قتيل التحبي الذي جاء من مصر
ومالي لا تبكين وتبكي قرابتي ... وقد حجبت عنا فضول أبي عمر؟
و يروى هذا الشعر أيضاً للوليد بن عقبة، وللكميت. والتحبي هو كنانة أبن بشر قاتل عثمان، رضي الله عنه. وهو منسوب إلى تجيب، بضم التاء وفتحها، بطن من كندة. فلما انقضت عدتها خطبها معاوية، فقالت لنسائها: ما يعجب الرجال مني؟ قلن لها: ثناياك. فعمدت إلى فهرٍ فدقت به ثنيتها وبعثت بهما إلى معاوية، فكف. ولم تزل محداً بعد قتل عثمان حتى لحقت به.
أجرى من ذبابٍ.
الجريان مر، والذباب معروف، والواحدة ذبابة، وجمع القلة أذبةٌ. قال الشاعر: ضرابة بالمشفر الأذبة وجمع الكثرة ذبان، بالكسر كغربان قال امرؤ القيس:
عصافير وذبان ودودٌ ... وأجرا من مجلحة الذئاب
و لا يخفى ماله من الجريان وسرعة الدوران وخفة الطيران.
جزاه جزاء سنمار.
الجزاء: المكافأة. وثقول: جزيت فلانا، أجزيه؛ وجازيته مجازاة وسنمار بكسر السين المهملة والنون، وشد والميم بعدها ألف فراء: اسم رجل، وهو إسكاف كان النعمان الأكبر، لمّا أراد أن يبني الخورنق لسابور، ليكون ولده فيها معه، اتخذ هذا الإسكاف، فبناه له وأحسن رصفه، وأبدع وصفها، وأكملها في عشرين حولا. فلما أتم بنائها، وأعجب الناس بحسنها، قال الأسكاف: إني لو شئت جعلت القصر يدور مع الشمس حيثما دارت. فقال الملك: انك لتحسن أنَّ تبني أجمل منه؟ فطرحه من أعلاه. فضرب به المثل لمن يجزي الإحسان بالإساءة. قال الشاعر:
جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب

سوى رصفه البنيان عشرين حجة ... يعل عليه بالقرامد والسكب
فلما انتهى البنيان يوم تمامه ... وأض كمثل الطود والباذخ الصعب
رمى بسنمار على حق رأسه ... وذاك لعمر الله من أعظم الذنب!
وقال الأخر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ ... وحسن فعلٍ كما يجزى سنمار
و قيل إنَّ سنمار هو غلام لأحيحة بنى أطما فلما فرغ قال: أحكمته! فقال: إني لأعرف حجرا لو انتزع لتقوض من آخره. فسأله عن الحجر، فأراه إياه، فدفعه احيحة من الأطم فخر ميتا. وفي النوادر إنّه إنسان عمل أطما لبعض الملوك، فقال له إنَّ نزع هذا الحجر تداعى البناء كله. فرمي من فوقه لئلا يعلم به أحد غيره وأنشد: جزاء سنمار بما كان يفعل.
تجشى لقيم من غير شبعٍ.
التجشي: تنفس المعدة، ويكون عند الشبع. ولقيم اسم رجل؛ والشبع بوزن عنب معروف. والمثل ظاهر المعنى، يضرب في التشبع بما لم يعط. وهو كقولهم: عاطٍ بغير نوطٍ وقولهم: كالحادي وليس له بعير؛ وسيأتيان.

أجلسته عندي فاتكأ.
الجلوس معروف، وكذا الاتكاء. هذا المثل يضرب في عادة السوء يعتادها صاحبها. وهو كقولهم: أعطي العبد كراعا فطلب ذراعا.
جلى محباً نظره.
التجلية: الإبداء والإظهار؛ والمحب خلاف المبغض؛ والنظر البصر. والمعنى إنّ نظر الإنسان يظهر ما انطوى عليه من محبة أو بغض. ومثله قولهم: شاهد البغض اللحظ؛ وقول الشاعر:
فإنَ تك في عدو أو صديقٍ ... تخبرك العيون عن القلوب
و قول الآخر:
خذ من العيش ما كفى ... ومن الدهر ما صفا
عين من لا يريد وصلك ... تبدي لك الجفا
و قول الآخر:
تخفي العداوة وهي غير خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح
وقالوا: إنَّ يعبر عن الإنسان اللسان، وعن المودة والبغض العيان
جمع بين الأروى والنعام.
الجمع ضد التفريق؛ وتقدم تفسير كل من الأروى والنعام في هذا الكتاب. وهذا المثل يضرب في الجمع بين أمرين متنافيين، والتأليف بين شيئين متخالفين. يقال: تكلم زيد فجمع بين الأروى والنعام، وذلك لأن الأروى مسكنها قنن الجبال، كما قال امرؤ القيس:
تلاعب أولاد الوعول رباعها ... دوين السماء في رؤوس المجادل
و النعام مسكنها السهل من الأرض، فلا يجتمعان؛ وكذا الأروى والبقر.
وسئل أعرابي عن صفة مطر فقال: استقل سد مع انتشار الطفل فشط واحزال؛ ثم أكفهرت أرجاؤه، واحمومت أرحاؤه، وابذعرت فوارقه، وتضاحكت بوارقه، واستطار وادقه، وارتقت حؤبه، وارتعن هيدبه، وحشكت أخلاقه، واستقلت أردافه، وانتشرت أكنافه؛ مرتجس، والبرق مختلس، والماء منبجس فأترع الغدر وانتبث الوجر وخلط الأوعال وبالآجال، وقرن الصيران بالرئال: فالأودية هدير والشراج خرير، والتلاع زفير؛ وحط النبع العتم، والقلل الشم، إلى القيعان الصحم. فلم يبق في القلل إلا معصم مجرنثم، أو داحص مجرجم، وذلك من فضل رب العالمين، على عباده المذنبين!

قوله استقل سد: السد بضم السين: السحاب المظلم؛ وكذا الجراد لأنّه يسد الأفق. واستقل: ارتفع؛ والطفل بفتحتين، والعشي إلى المغرب؛ وشصا ارتفاع، يقال: شصا الزق إذا امتلأ فارتفعت قوائمه؛ واحزأل: ارتفع أيضاً، وهو بالحاء المهملة والزاي؛ واكفهرت تراكم؛ أرجاؤه: نواحيه، وأحموت: اسودت؛ أرحاؤه: جمع رحى، وهي الوسيط. وابذعرت بذال معجمة: تفرقت؛ فوارقه: جمع فارق، وهي القطعة من السحاب الخارجة عن معظمه. والفارق في الأصل: الناقة تند عن الإبل عند نتاجها. واستطار: انتشر؛ وادقه: الوادق الذي كثر ماؤه، أو الذي دنا من الأرض. وارتتقت: التأمت؛ حؤبه: فرجه. وارتعن: استرخى؛ هيدبه: ما تدلى منه إلى الأرض، كهدب القيظفة. وحشكت: امتلأت؛ أخلاقه: ضروعه، جمع خلف وهو ما يقبض عليه الحالب من ضرع الناقة والبقرة. واستقلت: ارتفعت؛ أردافه: مآخره. هذه كلها استعارات. وأكنافه: نواحيه. ومرتجس: مصوت ومختلس: كأنه لشدة لمعانه يختلس الأبصار، ومنحبس: منفجر واترع: ملأ والغدر، بضمتين، جمع غدير والواجر، بضمتين جمع وجار وهو الحجر يلجه الثعلب والضبع وانتبثها بالثاء المثلثة، اخرج نباتها وأصل النبيثة تراب البئر؛ والأوعال جمع وعل وهو التيس الجبلي، والآجال جمع أجل، بكسر فسكون وهو القطيع من بقر الوحش. يقول: أن هذا المطر لشدته جمع بين الأوعال التي مساكنها قنن الجبال، وبين البقر التي مساكنها القيعان. والصيران جمع صوار، وهو القطيع من بفر الوحش، والرئال: فراخ النعام، جمع رأل، بفتح فسكون، وهي تسكن الجلد من الأرض، والصيران تسكن الرمال والقيعان فجمع بينهما أيضا لشدته والهدير: الصوت؛ والشراج مجاري الماء من الحرار، واحدها شرج، والتلاع: الشعاب التي يجري بها الماء من الجبال، وأحدها تلعة بفتح السكون والنبع شجر تتخذ منه القسي؛ والعتم بعين مهملة وتاء مثناة على مثال جرف: الزيتون الجبلي؛ والقلل أعالي الجبال، والشم المرتفعة؛ والقيعان جمع قاع وهو الأرض المطمئنة والصحم: التي تعلوها حمرة، جمع أصحم والمعصم: الذي استمسك بالجبال وتمنع فيها من الأوعال. يقال: فارس معتصم إذا أخذ بعرف فرسه، والمجرنثم: المنقبض، والداحص الذي يفحص برجليه عند الموت. قال علقمة:
رغا فوقهم سقب السماء فداحص ... بشكته لم يستلب وسليب
و المجرم مصدوع.

جمع بين الضب والنون.
الضب حيوان معروف، وجمعه ضباب وأضب، وكنيته أبو حسل، والحسل ولده، كما سيأتي، والنون: الحوت، وجمعه نينان. وهذا المثل كالذي قبله في المعنى، لأن الضب حيوان بري، ولا يرد الماء ويلازم الصحراء، واكثر ما يكون في الكدى، كما قال خالد أبن علقمة:
ترى الشر قد أفنى دواءر وهجه ... كضب الكدى أفنى براثنيه الحفر
وقال الأخر:
فلله أرض يعلم الضب إنّها ... بعيد من الآفات طيبة البقل
بنى بيته فيها على رأس كدية ... وكل امرئٍ في حرفة العيش ذو عقل
و من عجيب أمره إنّه يعيش سبعمائة سنة ولا تسقط له سن، وهو لا يشرب الماء. ويقال إنّه يبول في كل أربعين يوماً مرة. ومن كلام العرب: لا أفعل ذلك حتى يرد الضب، كما يقولون: حتى يشيب الغراب. ومن الكلام الموضوع على ألسنة العجماوات، قالت السمكة: رد يا ضب! فقال:
أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي إنَّ يردا
و النون حيوان بحري لا يفارق الماء أبداً، فلا يجتمعان. قال الصابئ:
الضب والنون قد يرجى اجتماعهما ... وليس يرجى اجتماع المال والأدب
وقال الأخر:
ولو انهم جاءوا بشيء مقارب ... لقلت: هو الشكل الموافق للشكل
ولكنهم جاءوا بحيتان لجة ... تقامس والمدعو فينا أبا الحسل
و لمّا بين الضب والنون من التنافي والتقابل، قال حاتم الأصم أو غيره:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ... ورازق هذا الخلق في العسر واليسر؟
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم ... وللضب في البيدا وللحوت في البحر
و لوضوح ذلك يقال، عند التجهيل: فلان لا يفترق بين الضب والنون.
أجمل من المذهب.
الجمال: الحسن؛ حمل الشخص، بالضم، ويجمل فهو جميل، والمذهب هو أبن عدنان، كان فائقا في الجمال والبهاء. فضربت العرب بجماله المثل.
الجمل من جوفه يجتز.

الجمل بفتحتين من الإبل معروف، والجرة بكسر الجيم وتفتح، ما يخرجه البعير من جوفه، فيأكله ثانية. ويقال: اجتر الجمل فعل ذلك، يجتر اجترارا. وهذا المثل يضرب لمن يأكل من كسبه، أو ينتفع بشيء يعود منه الضرر.

تجنب روضة وأحال يعدو.
التجنب معروف، والإحالة هنا الإقبال. يقال: أحال عليه بالسوط، أي أقبل عليه. قال الشاعر:
وكنت كذئب السوء لمّا رأى دماً ... يصاحبه يوما أحال على الدم
و معناه: تجنب الخصب واختار الضيق. يضرب في الرجل تعرض عليه الكرامة فيختار الهوان.
أجن من دقة.
الجنون معروف. يقال: جن الرجل، بالبناء للمفعول، فهو مجنون، وأجن من كذا، بنوه من فعل المفعول شذوذاً، كما قالوا: أشغل من ذات النحيين، وأزهى من ديك، وسيأتيان، ودقة، بضم الدال المهملة وتشديد القاف، اسم رجل، وهو دقة بن عبابة يضرب بجنونه المثل.
أجود من لافظة.
الجود معروف، ضد البخل. ويقال أيضاً: أسمح من لافظة؛ والسماح هو الجود. واختلف في اللافظة، فقيل: البحر لأنها تلفظ بالدرة الجليلة التي لا قيمة لها والهاء للمبالغة. قال الشاعر:
يداك يد خيرها يرتجى ... وأخرها لأعدائها غائظه
فأما التي خيرها يرتجى ... فأجود جوداً من اللافظه
وأما التي شرها يتقى ... فنفس العدو بها فائظه
وقال الأخر:
تجود فتجزل قبل السؤال ... وكفك اسمح من لافظه
و قيل: اللافظة الرحى، لأنها تلفظ ما تطحنه ولا تبقي. وقيل إنّها العنز، وجودها إنّها تدعى إلى الحلب، وهي تعلف، فتلقي ما فيها. وتقبل إلى الحالب. وقيل إنّها الحمامة لأنها تخرج ما في بطنها لفرخها. وقيل هي الديك، لأنّه يأخذ الحبة بمنقاره، فلا يأكلها، ولكن يلقيها إلى الدجاجة، إلاّ المسن منها، فإنه لاستغنائه عن الدجاج يأكل الحب دونها ويمنعها منه.
الجواد يكبو.
الجواد هو الكريم من الخيل يجود بما في طاقته من الجري. والكبو: العثار. يقال: كبا، يكبو كبوا وكبوا. ويقال في هذا المثل أيضاً: لكل جواد كبوة، وهو إنَّ الكامل لا ينبغي إنَّ بذم إذا وقعت منه هفوة، كقولهم في المثل الآخر: لا تدعم الحسناء ذاما. وسيأتي جميع ذلك. وقال أبو بكر بن دريد رحمه الله تعالى:
والطرف يجتاز المدى وربما ... عن لمعداه عثار فكبا
و قلت أنا:
وكريم الجياد يكبو وما في ... كبوة للجواد من نقصان
أجناؤها أبناؤها.
الأجناء جمع جان. يقال: جنى فلان على فلان، يجني عليه فهو جان وهو جناء وأجناء. وهذا الثاني نادر إذ لا يجمع فاعل على أفعال والبناء جمع بان وهو نادر والمعنى أنَّ الذي جنوا على هذه الدار مثلا بالهدم هم الذين كانوا بنوها. ومضرب المثل من هذا واضح. قال الجوهري: وأنا أضن أنَّ أصل المثل: جناتها بناتها لأن فاعلا لا يجمع على أفعال؛ أما الأشهاد والأصحاب فإنما هو جمع شهد وصحب إلاّ أن يكون هذا من النوادر لأنّه يجيء في الأمثال ما لا يجيء في غيرها. انتهى. وهو ظاهر.
يجني من الشوك الثمر.
تقدم تفسير هذه الألفاظ في الباب الأول. والمعنى أنك إذا ظلمت فأحذر الانتصار والانتقام!
تجمع الحرة ولا تأكل بثدييها.
الجوع ضد الشبع. والحرة ضد الأمة والأكل معروف؛ وكذا الثدي وجمعه ثديّ. قال الشاعر:
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورها
و يحكى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل:أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. ومعناه أنَّ الحرة قد يصيبها ألم الجوع وشدة الاضطراب ولا تؤجر نفسها على الإرضاع لتأكل أجر رضاعتها، فتلزم نفسها الاصطبار صونا لنفسها عن الهوان ة الابتذال. فيضرب في الحر يصون نفسه عن قبيح المكاسب ولا تمنعه شدة فقره وحاجته أن يلزم صيانته ويحفظ مروءته.

وأصل المثل للحارث الأزدي أو الأسدي وكان خطب إلى علقمة بن حفص الطائي بنته ريا بنت علقمة وكان الحارث شيخا. فقال علقمة لامرأته: اختبري ما عند ابنتك! فقالت لابنتها: أي بنية أي الرجال أحب إليك: الكهل الجحجاح الواصل المياح أم الفتى الوضاح الذهول الطماح؟ قالت: بل الفتى. قالت: إنَّ الفتى يغريك وإنَّ الشيخ يمريك. قالت: يا أمتاه إنَّ الفتاة يحب الفتى كحب الرعاء أنق الكلا. قالت: يا بنية إنَّ الفتى شديد الحجاب كثير العتاب. قالت: يا أمتاه أخاف من الشيخ أن يدنس ثيابي ويبلي شبابي ويشمت بي أترابي! فلم تزل بها أمها حتى غلبتها على رأيها فتزوجها الحارث وأرتحل إلى أهله. فبينما هو ذات يوم بفنائه وهي إلى جنبه إذ أقبل شاب من بني أسد. فتنفست الصعداء ثم بكت. فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: مالي وللشيوخ الناهضين كالفروخ من كل حقول فنيخ؟ فقال: ثكلتك أمك! تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. ثم قال: وأبيك! لرب غارة شهدتها وسبيئة أرفدتها وخمرة شربتها فلحقي بأهلك فلا حاجة لي فيك! وقال أبو عبيد في هذا المثل إنّه من أمثال أكثم بن صيفي. قال: وهو مثل قديم لكن العامة ابتذلته وحولته فقالت: ولا تأكل ثدييها يعني بإسقاط حرف الجر. قال بعض العلماء: ليس هذا بشيء إنّما بثدييها ومعناه عندهم الرضاع. يقال لا تكون ظئر القوم على جعل تأخذه منهم. انتهى.
وقال بعض الأمة: إنَّ العرب كانوا يعدون أخذ الأجر على الرضاع سبة ولذلك قيل:تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها. وقال العلماء: بثدييها. والقولان صحيحان لأنها إذا أكلت ثمن لبنها فكأنها قد أكلت ثدييها. قال الراجز:
إنَّ لنا أحمرة عجافاً ... يأكلن كل ليلةٍ أكافا
أي: نبيع كل ليلة أكافاً من أكفتها ونعلفها ثمنه. قال: وكذلك قول الآخر في وصف إبل: نطعمها إذا شتت أولادها أي أثمان أولادها. انتهى.
وقال السهيلي في الروض: والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودا عند أكثر نساء العرب حتى جرى المثل: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها. وكان عند بعضهم لا بأس به فكانت حليمة وسيطة في بني سعد كريمة من كرائم قومها بدليل اختارها الله إياها لرضاع نبيه صلى الله عليه وسلم كما اختار أشرف البطون والأصلاب. والرضاع كالنسب لأنّه يغير الطباع. وفي المسند عن عائشة ترفعه: لا تسترضعوا الحمى فإنَ اللبن يورث! ويحتمل أن تكون حليمة وقومها طلبن الرضعاء للأزمة التي أصابتهم والسند الشهباء التي أقحمتهم اضطرارا. قال: وأما دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أولادهم إلى المراضع فقد يكون ذلك لوجوه: أحدها تفريغ النساء إلى الأزواج كما قال عمار بن ياسر لأم سلمة وكان أخاها من الرضاعة حين انتزع من حجرها زينب بنت لبي سليمة فقال: دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي آذيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ! وقد يكون ذلك منهم أيضاً لينشأ الطفل في الأعراب فيكون أفصح للسانه، وأجلد لجسده وأجدر أن لا يفارق الهئة المعدية كما قال عمر: تمعددوا وتمعززوا واخشوشنوا! وقد قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر حين قال له: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله فقال: وما يمنعني وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد؟ فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى الأعرابيات. وقد ذكر أنَّ عبد الملك بن مروان كان يقل: أضر بنا حب الوليد! لأن الوليد كان لحانا وكان سليمان فصيحا لأن الوليد أقام مع أمه وسليمان وغيره من أخوته أسكنوا البادية فتعربوا ثم أدبوا فتأدبوا. انتهى. وقد قلت في نظم المثل المذكور من قصيدة:
يعرى الفتى ويجوع وهو يرى ... متجملاً بالصبر والبشرِ
والحرة الشماء ربتما ... جاعت ولم ترضع على أحرِ

جوع كلبك يتبعك!

الجوع تقدم. وجوعت فلانا وأجوعته: تركته بلا طعام حتى جاع؛ والكلب معروف؛ وكذا الاتباع. والمثل ظاهر المعنى. قيل: وأوّل من قاله ملك من ملوك حمير كان جبارا عنيفا على أهل مملكته يغصبهم أموالهم وما في أيديهم. وكانت الكهنة تخبره أنهم سيقتلونه وهو لا يبالي بذلك. وسمعت امرأة له أصوات السؤال فقالت له: إني لأرحم هؤلاء لمّا يلقون من الجهد ونحن في العيش الرغد وإني أخاف أن يكونوا عليك سباعاً بعد أم كانوا لك أتباعا! فرد عليها: جوع كلبك يتبعك! فأرسلها مثلا. ثم إنّه لبث كذلك زمانا ثم أغزاهم مع أخيه فغنموا ولم يقسم فيهم شيئا. فقالوا لأخي: قد ترى ما نحن فيه من الجهد ونحن نكره خروج الملك منكم إلى غيركم فساعدنا على قتل أخيك وأجلس مكانه! وعرف أخوه بغيه واعتداءه فأجابهم إلى ذلك فوثبوا عليه وقتلوه. فيقال إنّه مر به رجل يقال له عامر بن جذيمة وهو مقتول وقد سمع قوله: جوع كلبك يتبعك! فقال: ربما أكل الكلب مجوعه إذا لم ينل شبعه! وقال لبو جعفر المنصور يوما لقواده: صدق الإعرابي حيث يقول: أجع كلبك يتبعك! فقال له أبو العباس الطوسي منهم: يا أمير المؤمنين أخشى أن يلوح له رجل برغيف فيتبعه ويدعك!

أجوع من ذئب.
الذئب معروف يهمز ويخفف والأنثى ذئبية. قال الشاعر:
فصرت كنعجة تضحي وتمسي ... تردد بين أخبث ذئبين
و الذئب يوصفل بالجوع المفرط ومن ثم يقال للجوع داء الذئب. يقال: رماه الله بداء الذئب أي الجوع. وهو مع ذلك شديد الصبر عليه وربما اكتفى بالنسيم. ويقال إنّه إذا ألح عليه الجوع عوى فتجتمع عليه الذئاب فتحمل على إنسان حملة واحدة وكل منها حريص عليه؛ إلاّ إنّه إذا أدمي منها واحد وثبت عليه البواقي وتركت الإنسان. ومن ثم قال الشاعر يعاتب صديقا له أعان عليه في أمر نزل به:
وكنت كذئب السوء لمّا رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدمِ
وقال العجير السلولي:
تركنا أبا الأضياف في ليلة الدجى ... بمر ومردى كل خصمٍ يجادله
تركنا فتى قد أيقن الجوع أنه ... إذا ما ثوى في أرحل القوم قاتله
فتى قُدَّ قَدَّ السيف لا متضائلٌ ... ولا رهلٌ لماته وبآدله
إذا القوم أموا بيته فهو عامرٌ ... لأحسن ما ظنوا به فهو فاعله
جوادٌ بدنياه بخيلٌ بعرضه ... عطوفٌ على المولى قليلٌ غوائله
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوما دماً فهو آكله
إذا جد عند الجد أرضاك جده ... وذو باطل إن شئت أرضاك باطله
يسرك مظلوما ويرضيك ظالما ... وكل الذي حملته فهو حامله
أجوع من كلبة حومل.
الكلبة الأنثى من الكلاب معروفة؛ وحوامله بالحاء المهملة على مثل جوهر امرأة من العرب كانت لها كلبة تجوعها بالنهار وهي تحرسها بالليل. فكانت تربطها بالليل للحراسة وتطردها بالنهار وتقول: التمسي لا ملتمس لك! حتى طال عليها الأمر فأكلت ذنبها جوعا. قال الشاعر:
كما رضيت جوعا وسوء ولاية ... لكلبتها في أول الدهر حومل
أجوع من لقوةٍ.
اللقوة بفتح اللام: الكلبة. وفيها يقال: أجوع من لقوة قاله بعض الناس. والمعروف في كتب اللغة أنَّ اللقوة بالفتح وتكسر المرأة السريعة اللقاح كالناقة. ومنه المثل الآتي: لقوة صادقت قبيساً؛ وكذا العقاب الأنثى. قال امرؤ القيس:
كأني بفتخاء الجناحين لقوة ... صيود من العقبان طأطأت شملالي
وقال أبو عبيدة: سميت العقاب لشدة لسعة أشداقها. وكأنه عنده مأخوذ من اللقوة، وهو الداء المعروف الذي يصيب في الجه. يقال لقي الرجل بالبناء للمفعول، فهو ملقو.
أجول من قطربٍ.
يقال: جال جولانا فهو جائل وجوال؛و القطرب طائر يبيت سائراً لا ينام الليل كله. ويقال دويبة. ويقال إنّه دويبة لا تستريح نهارها سعيا. وكان محمد بن المستنير النحوي يبكر إلى مجلس سيبويه فلا يفتح الباب إلاّ وجده فقال له: ما أنت إلاّ قطرب ليل! فبقي عليه قطرب لقبا. ويطلق القطرب أيضاً على الذئب الأمعط وعلى الفأر وعلى اللص وعلى ذكر الغيلان وغير ذلك من المعاني.

وذكر أبن ظفر أنَّ القطرب حيوان يكون بالصعيد من أرض مصر يظهر للمنفرد من الناس فربما صده عن نفسه إن كان شجاعا وإلاّ لم يزل به حتى ينكحه فإذا نكحه داد دبره فهلك. وهو إذا رأوا من ظهر له قطرب قالوا: امنكوح أم مروع؟ فإن قال منكوح أيسوا وإن قال مروع عالجوه والله اعلم. وسيأتي ذكر نحو هذا الحيوان في قولهم ألوط من عدار في حرف اللام، إن شاء الله تعالى.

الجار قبل الدار.
روي هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق. ويروى: الجار والرفيق مرفوعين والنصب فيهما حسن، أي: التمس الجار قبل الدار والتمس الرفيق قبل الطريق. وقال أبو تمام في هذا المعنى:
من مبلغ أبناء يعرب كلها ... أني أبتنيت الجار قبل المنزلِ؟
و وقال الأخر:
يقولون: قبل الدار جارٌ موافقٌ ... وقبل الطريق النهج أنس طريق
فقالت: وندمان الفتى قبل كأسه ... فما حث كأس الخمر مثل صديق
وقال الأخر في المعنى:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ... ولم يعلموا جاراً هناك ينغصُ
فقالت لهم: بعض الملام! فإنما ... بجيرانها تغلو الديار وترخصُ
جاء بالضح والريح
المجيء معروف والضح بكسر الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة مشددة يطلق على الشمس وما طلعت عليه الشمس. وفي الحديث: لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل فانه مقعد الشيطان. ذكره في الصحاح وأنشد لذي الرمة:
غدا أكهب الأعلى وراح :إنّه ... من الضح واستقباله الشمس أخضرُ
أي استقباله عين الشمس. وقال علقمة: أبيض أبرزه للضحى راقبه.
والريح معروفة. ومعنى جاء بالضح والريح: جاء بما طلعت عليه الشمس وما جرت عليه الريح. يقال ذلك عندما يجيء بالشيء الكثير. قال في الصحاح: والعامة تقول: جاء بالضيح والريح يعني الضيح بالياء المثناة من تحت. قال: وليس بشيء. انتهى. ومثله لصاحب القاموس.
جاء بالحظر الرطب.
الحظر بالظاء المشالة على مثال كتف الشجر المحتظر به والشوك الرطب. والرطب خلاف اليابس فيقال: جاء فلان بالحظر الرطب أي بكثرة من المال والناس وقيل بالكذب المستبشع. ويقال أيضاً: أوقد فلان في الحظر الرطب إذا بم ووقع في الحظر الرطب إذا وقع فيما لا طاقة له به. وذلك كله ظاهر.
جاء بالطم والرم.
الطم بكسر الطاء المهملة قيل الماء وقيل ما على وجه الماء وقيل ما ساقه من الغثاء ويطلق أيضاً على البحر وعلى العدد الكثير وعلى العجب وغير ذلك من المعاني. والرم بكسر الراء: ما يحمله من الغثاء أو ما على وجه الأرض من فتات الحشيش. ومعنى جاء بالطم والرم: جاء بالمال الكثير. وقيل: بالرطب واليابس أو بالتراب والماء أو بالبحر والثرى. وقال بعض الناس: الطم بالكسر إذا كان مع الرم؛ فإذا أفرد فتح فقيل: جاء بالطم مفتوحا كما قالوا: هنأني بالطعام ومراني؛ فإذا أفردوا لم يقولوا إلاّ أمراني.
جاء بما صأى وصمت.
يقال: صأى الفرخ وغيره يصأى كسعى يسعى صئيا على مثل فعيل إذا صوَّت. قال:
مالي إذا أنزعها صأيت؟ ... أكبرٌ غيرني أم بيتُ؟
و صمت يصمت ككتب يكتب صكتا وصموتا إذا سكت. فيقال: جاء بما صأى وبما صمت بحذف الموصول الثاني اختصارا كقول حسان رضي الله عنه:
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء؟
أي: من يهجوه ومن يمدحه لاستحالة اجتماع الوصفين في موصوف واحد، وكذا الصئي والصمت لا يجتمعان. والصامت من المال: الذهب والفضة، والناطق: الإبل مثلا. ومنه قولهم: حصل الناطق والصامت، وهلك الحاسد والشامت. وقد يقال: جاء بما صاء وصمت. وصاء مقلوب صأي، كما قالوا: راء في رأي. ومنه قولهم في المثل الآخر في العقرب: تلدغ وتضيء.
جاء صريم سحر
ٍ
أي خائبا آيسا.
جاء يضرب أسدريه.
ويقال أيضاً: جاء يضرب اصدريه بالصاد وازدريه بالزاي والمعنى في الجميع واحد. والإصدران عرقان تحت الصدغين، وقيل المنكبان، وقيل العطفان، ويقال: جاء يضرب اصدريه، أو اسدريه، أي يضرب عطفيه ومنكبيه. ومعناه: جاء فارغا ليس بيديه شيء ولم يقض حاجة. فإذا قضاها قيل: جاء ثانياً من عنانه.

ويروى أنَّ الحسن البصري، رضي الله عنه، رأى الناس يوم عيد يضحكون فقال: تلقى أحدكم أبيض بضا، يلمح في الباطل ملخاً، ينفض مذرويه، ويضرب أصدريه، يقول: هاأنا ذا فاعرفوني! قد عرفناك، فمقتك الله ومقت الصالحون! ومعنى يلمح في الباطل يلج فيه؛ وقيل يتثنى.

جاء يفري ويقد.
الفري: القطع. تقول: فريت الشيء، أفريه، فريا إذا قطعته على وجه الإصلاح. وأفريته إذا قطعته على وجه الإفساد. قال زهير:
ولانت تفري ما خلقت، وبعض ... القوم يخلف ثم لا يفري
أصله أنَّ الرجل يخلق الأديم أي يتهيأ لإصلاحه ويقدره، ثم يفري أي يقطعه. لذلك يقول: انك إذا تهيأت لأمر أنفذته وأمضيته، وكثير من الناس يهم ولا يفعل. وقيل: إنَّ فرى وأفرى، بمعنى واحد، وكل ذلك يكون في القطع للإصلاح والإفساد وتقول: فريت المزادة إذا خلقتها وصنعتها. قال الراجز:
شلت يدا فارية فرتها ... مسك شبوب ثم وفرتها
لو كانت الساقي صغرتها
و القد: القطع طولاً. يقال الأديم إذا شقه طولا. ومعنى: جاء يفري ويقد: جاء يعمل عملا محكما. ويقال أيضاً: هو يفري ويقد. ويقال: يفري الفري، بمعناه.
جاء بأم الربيق، على أريق.
أم الربيق: الداهية؛ والأريق أصله وريق بالواو فقبلت همزة. والوريق تصغير أورق، تصغير الترخيم، كما يقال في أسود سويد، وفي أحمر حمير، وفي أدرد دريد. والأورق من الأبل ما في لونه بياض إلى سواد. وقيل: كان أصله أن يقول أوريق على أصله، فحذفت الواو ليزدوج الكلام. ويقال إنّه من أطيب لحما لا حملاً وسيراً. وقيل لابنه الخس: أي الجمال شر؟ فقالت: الأورق. وزعموا أن رجلا رأى غولا على جمل أورق فقال: جاء بأم الربيق على أريق، أي الغول على جمل أورق، فضرب مثلا في جناية عظيم الدواهي.
جاءوا مخلين فلاقوا حمضاً.
يقال: أخل الرجل إذا رعى إبلى في الخلة والخلة، بضم الخاء المعجمة: كل ما فيه حلاوة من النبات. مقابله الحمض، بفتح الحاء المهملة. ويقال: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها أو لحمها. وجاءوا مخلين: جاءوا وقد أكلت إبلهم الخلة. وهذا المثل يضرب لكل من جاء متهددا فصادف ما يقمع تهدده. وسنزيده بيانا بعد في محلة من الشعر إن شاء الله تعالى.
جاءوا على بكرة أبيهم.
البكرة بالفتح فالسكون: الفتية من الإبل والفتى منها بكر. وكان يقال البكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس؛ والبكرة بمنزلة الفتاة؛ والقلوص بمنزلة الجارية الشابة؛ والبعير بمنزلة الإنسان؛ والجمل بمنزلة الرجل؛ والناقة بمنزلة المرأة. والبكرة أيضا بكرة الدلو التي يستقى منها. واختلف في معنى هذا المثل فقيل: معنى جاءوا على بكرة ابيهم: جاءوا مجتمعين لم يتخلف منهم أحد. وليس هناك بكرة على الحقيقة. وفي الحديث جاءت هوازن على بكرة أبيها. وقيل هو وصف بالقلة والذلة أي جاءوا بحيث تكفيهم واحدة يركبون عليها وذكر الأب احتقارا.
وقيل إنَّ أصل هذا المثل أنَّ قوما قتلوا فحملوا على بكرة أبيهم فقيل فيهم ذلك ثم صار مثلا للقوم يجيئون معا. وقيل إنَّ البكرة هاهنا هي بكرة الدلو والمعنى: جاءوا بعضهم في اثر بعض كدوران البكرة على نسق واحد. وقيل: لأريد بالبكرة الطريقة أي: جاءوا على طريقة أبيهم يقتفون أثره.
جاء ينفض مذرويه.
النفض معروف؛و المذرى الخشبة التي ينقى بها الزرع؛و المذروان جانبا الرأس، وما يقع عليه الوتر في القوس من أعلى وأسفل. قال بعض هذيل:
على كل هتافة المذروين ... صفراء مضجعة في الشمالِ
و المذروان أيضاً طرفا الأليتين. قال عنترة لعمار بن زياد:
أحولي تنفض أستك مذريها؟ ... لتقتلي فها أنذا عمارا!
أي: يا عمارة! ولا واحد للمذروين في شيء من من هذه المعاني. وقيل إنَّ واحده مذرى ورد بأنه لو كان كذلك لقيل في التثنية مذريان بالياء لا بالواو. وهذا بحسب الظهور والرجحان؛ وإلاّ فلا مانع من أن يكون هذا من الشواذ.
ومعنى جاء ينفض مذرويه: جاء ينفض طرفيه. ويقال ذلك إذا وصف بالخيلاء. وأكثر أهل اللغة يقولون: معناه إنّه جاء متهددا، وهذا المفهوم من قول عنترة السابق؛ والخيلاء هو المفهوم من كلام البصري السابق.
جاء على غبيراء الظهر.

الغبيراء تصغير الغبراء مؤنث الأغبر. والمراد هنا الأرض ذات الغبرة. والظهر جلاف البطن. ويقال أيضاً: ترك فلان أباه على غبيراء الظهر. ومعناه أنه لم ينجح سعيه ولا ظفر بحاجته بمنزلة الرجل الطالب المرعى فصادف أرضا مغبرة الظهر مجدبة لا كلأ فيها ولا ماء. والتصغير في المثل للتعظيم كقوله:
وكأنَّ أناس سوف تدخل بينهم ... دويهيةٌ تصفر منها الأناملُ

جاء وقد لفظ لجامه.
اللفظ الرمي؛ واللجام معروف. فقيل: جاء فلان من حاجته وقد لفظ لجامه إذا رجع منها وهو مجهود من الأعياء والعطش. ويقال أيضاً: جاء وقد دلق لجامه.
جاء وقد قرض رباطه.
هذا كالذي قبله قاله أبو غبيد. وقال غيره: اكثر ما يقال ذلك في الموت. يقال: فلان قد قرض رباطه ولعق إصبعه وعطست به اللجم وضحا ظله. كل ذلك يقال إذا مات.
جاءوا قضهم بقضيهم.
معناه جاءوا جميعا. يقال بنصب قضهم على نية المصدر أو الحال؛ وبرفعه.
ويقال أيضاً بفتح القاف وكسرها. قال حصين بن الحمام المري:
وجاءت جحاش قضها بقضيضها ... وجمع عوال ما أدق والأما
و جحاش على مثل كتاب أبو حي من غطفان وهو جحاش بن ثعلبة بن سع بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان رهط الشماخ. وقال الآخر:
أتتني سليم قضها بقضيضها ... تمسح حواي بالبقيع سبالها
و يقال أيضاً جاءوا قضهم وقضيضهم بالواو وقد قيل: القض: هو الصغير من الحصان، والقضيض: الكبير منه. والمعنى: جاءوا صغيرهم وكبيرهم. وقيل القض بمعنى القاض، والقضيض بمعنى المقضوض.
ومما يلتحق بهذا الباب قولهم في الرجل: جحيش وحده وهو ذم؛ والجحيش تصغير جحش، وقد تقدم. وقولهم أجد فلان بها أمراً! أي أجد أمره بها، بنصب أمر على التمييز كما قالوا: قررت بها عينا أي قرت بها عيني. وقولهم:
أجدك تقول هذا
؟
بنصب جد أي أيجد منك؟ فانتصب على طرح الباء؛ أو أتجد جدك؟ فانتصب على المصدر. قال الشاعر:
أجدك ما لعينك لا تنام؟ ... كأن جفونها فيها كلامُ!
و قولهم:
أجدت من هذا الأمر قروني
أي تركته. وقولهم: جعلوا الأرض عليه حيص بيص، وحيصا بيصا. أي ضيقوا عليه ومنعوه من التصرف. وقولهم للرجل: جعد القفا.
أي لئيم الحسب وجعد البنان، أي بخيل، وقولهم: جاء بالأمر على قناديده، أي من وجهه. وقولهم: جاء بذات الرعد والصليل، أي جاء بالحرب لأن هديرها يشبه الرعد، وفيها صليل السلاح كما قال مهلهل:
فلو لا الريح أسمع من بنجدٍ ... صليل البيض تقرع بالذكور
و قولهم: جاء بالصقر والبقر على مثال زفر فيها وبالصقارى والبقارى بفتح الراء فيها مع ضم الأول أي بالكذب الصراح وهو اسم لمّا لا يعرف. وقولهم: جاء به من حسه وبسه، مثلثي الأول أي من جهده وطاقته. وقولهم: جاء مضطرب العنان، أي منهزما منفرداً. وقولهم:
جاء ولكن لم يجيء لعصره.
بضم العين أي لم يجيء حين المجيء.
ومن الأمثال المحدثة:
الجواب ما ترى لا ما تسمع!
واصله إنَّ أبا يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن أحد الملوك الموحدين بمراكش كان بينه وبين الادفونش النصراني صاحب طليطلة لعنه الله مكاتبات. فكان منها رسالة كتب بها الادفونش إلى الأمير يعقوب يتوعده ويتهدده ويطلب منه بعض الحصون من إنشاء وزيره أبن النجار وهي:

" باسمك اللهم فاطر السماوات والأرض وصلى الله على السيد المسيح وروح الله وكلمته الفصيح. أما بعد فانه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب وعقل لازب انك أمير الملة الحنيفة كما أنا أمير الملة النصرانية. وقد علمت ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل والتواكل والتكاسل وإهمالهم أمر الرعية وإخلادهم إلى الأمنية. وأنا أسموهم بحكم القهر إخلاء الديار وإسباء الذراري وأمثل بالرجال وأذيقهم عذاب الهون وشديد النكال. ولا عذر في لك في التخلف عن نصرتهم إذا أمكنتك يد القدرة وساعدك وعسا كرك وجنودك رأي وخبرة. وانتم تزعمون إنَّ الله تعالى قد رفض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم الآن خفف الله عنكم وعلم إنَّ فيكم ضعفا رحمة منه ومنا ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا إذ لا تستطيعون دفاعا ولا تملكون امتناعا. وقد حكي عنك انك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال وتماطل نفسك سنة بعد أخرى وتقدم رجلا وتؤخر أخرى. فلا ادري أكان الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعدك به ربك إلى آخر الرسالة وفيها طول فلما وصل الكتاب إلى أمير المسلمين مزقه وكتب على قطعة منه: ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم أذلة وهم صاغرون. الجواب ما ترى لا ما تسمع وتمثل ببيت أبي الطيب في مدح سيف الدولة:
ولا كتب إلاّ المشرفية عنده ... ولا رسل إلاّ الخميس العرمرم
ثم ضرب السرادقات من يومه بظاهر البلد وأمر باستنفار الجيوش من الأمصار وعبر من زقاق سبتة ودخل بلاد الإفرج فكسرهم كسرة شنيعة وعاد بغنائمهم رحمه الله تعالى ثم رأيت الحصري ذكر هذا الكلام عن المعتصم العباسي قال: كتب إليه ملك الروم كتابا يتهدده فيه فأمر بجوابه. فلما قرء عليه لم يرض بما فيه فقال لبعض الكتاب: اكتب: أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما تضمنه خطابك والجواب ما ترى لا ما تسمع. وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار. قال: وهذا نظير قول قطري بن الفجاءة إلى الحجاج وقد كتب إليه كتابا يتهدده فيه فأجاب: أما بعد، فالحمد لله الذي لو شاء لجمع بين شخصينا فعلمت مثاقفة الرجال، من تسطير المقال والسلام. انتهى.
ومن معنى هذا المثل قول عنترة:
ومكروب كشفت الكرب عنه ... بطعنة فيصل لمّا دعاني
دعاني دعوة والخيل تردي ... فما أدري أباسمي أم كناني؟
فلم أمسك بسمعي إذ دعاني ... ولكن قد أبان له لساني
فكان إجابتي إياه أني ... عطفت عليه خوار العنانِ
بأسمر من الخط لدن ... وأبيض صارم ذكر يمانِ
أي: كان جوابه له حين دعاني واستغاث بي أن عطفت عليه فرسا خوارا العنان أي سهل العنان يعني مرتاضا قد اعتاد الخول في الحرب والولوج في المضايق وذلك بأسمر ألخ . .، أي برمح وسيف صفتهما ما ذكر. ومنه قول الحماسي:
وتجهل أيدينا ويحلم رأينا ... ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
و قول الآخر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيبِ
أي الاجتهاد في نصرته. وقرع الظنبوب كناية عن ذلك وقد تقدم. ومن أمثال العامة قولهم: جزاؤه على حماره.
وقولهم: جاء يعينه في قبر أمه فهرب بالفارس.
ومعناه ظاهر.
ولنذكر في هذا الباب ما تيسر من الشعر. قال الحماسي محمد بن بشير:
كم من فتى قصرت في الرزق خطوته ... ألفيته بسهام الرزق قد فلجا!
إنَّ الأمر إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا!
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأباب أن يلجا!
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها: ... فمن علا زلقا عن غرة زلجا!
وقال عبد الله بن الزبير الأسدي:
لا أحسب الشر جاراً لا يفارقني ... ولا أحز على ما فاتني الودجا
ولا نزلت من المكروه منزلة ... إلاّ وثقت بأن ألقى لها فرجا
و حز الودج: قطعه. وضربه مثلا للغم على ما فات من عرض الدنيا.
وقال أبو تمام الطائي:
اصبري أيتها النفس: ... فإنَ الصبر أحجا
نهنهي الحزن فإنَ ... الحزن إن لم ينه لجا
والبسي اليأس من الناس ... فإنَ اليأس ملجا
ربما خاب رجاء ... وأتى ما ليس يرجى
وقال أيضاً يهجو يوسف السراج:

ووجه البحر يعرف من بعيد ... إذا يسجو، فكيف إذا يموجُ؟
وقال الأخر:
وإني لأغضي مقلتي على الأذى ... وألبس ثوب الصبر أبيض أبلجا
وإني لادعوا الله والأمر ضيق ... علي فما ينفك إنَّ يتفرجا
وكم من فتى ضاقت عليه وجوهه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا!
وقال الأخر:
إذا تضايق أمر فأنتظر فرجا: ... فأضيق الأمر أدناه إلى الفرج!
وقال الأخر:
رب أمر عز مطالبه ... قربته ساعة الفرج
وقال الأخر:
ديار عليها من بشاشة أهلها ... جمال تسر الناظرين وتبهج
وقال الأخر:
رأى البيت يدعى بالحرام فحجه ... ولو كان يدعى بالحلال لمّا حجا
وقال الأخر:
علي إني وإنَّ لاقيت شرا ... لخيرك بعد ذاك الشر راج
وقال الأخر:
كم عالم لم يلج بالعام باب غنى ... وجاهل قبل طرق الباب ولجا!
وقال الأخر:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
و مثله قول الآخر:
من راقب الناس مات عما ... وفاز باللذة الجسور
وقال الأخر:
يا نفس صبراً فعقبى الصبر صالحة ... لابد إنَّ يأتي الرحمان بالفرج!
وقال الأخر:
ولي فرس بالحلم للحلم ملجم ... ولي فرس بالجهل للجهل مسرج
فمن رام تقويمي فإني مقوم ... ومن رام تعويجي فإني معوج
و ينسب هذا لصالح بن جناح. وقبله:
لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنني ... إلى الجاهل في بعض الأحايين أحوج
وما كنت أرضى الجاهل خدنا وصاحبا ... ولكني أرضى به حين أحرج
ولي فرس بالخير للخير ملجم ... وإلي فرس بالشر للشر مسرج
وبعده:
فإن قال بعض الناس في سماجة ... فقد صدقوا، والذل بالحر أسمج
ونحوه قول النابغة الجعدي:
ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوة إنَّ يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... أريب إذا ما أورد الأمر أصدرا
و قول الآخر:
إذا أغضبت ذا كرم تخطى ... إليك ببعض أفعال اللئيم
و قول الآخر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
و قول الآخر:
ولا خير في حلم إذا ذل جانبه
و قول الآخر:
والعاقل النحرير محتاج إلى ... أن يستعين بجاهل معتوه
و قول الآخر:
ولربما أعتضد الحليم بجاهل: ... لا خير في يمنى بغير يسار!
وقال الإمام أبو الفضل يوسف بن النحوي، قدس الله سره!:
والرفق يدوم لصاحبه ... والخرق يصير إلى الهرج
وقال:
خيار الخلق هداتهم ... وسواهم من همج الهمج
و من أظرف ما يحكى فيما يناسب هذا المعنى ما حدث به عن الزهري قال: دخلت على عبد الملك بن مروان، فقال: من أين أقبلت يا زهري؟ قال قلت: من مكة. قال: فمن خلفت بها يسود أهلها؟ قلت؟ عطاء بن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي قال: وبم سادهم؟ قلت بالديانة والرواية. فقال أن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا الناس. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء. قال: من كان كذلك ينبغي أنَّ يسود الناس. قال: فمن يسود أهل مصر؟قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال فمن العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي. فقال كما قال في الأولين. قال فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول الدمشقي. قال فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبد نبوي أعتقته امرأة من هذيل. فقال كما قال: قمن يسود أهل لجزيرة؟ قلت ميمون بن مهران. قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي. فقال كما قال. ثم قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن البصري. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت من الموالي قال: ويلك! فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب. فقال: ويلك يا زهري! فرجت عني الله! : تسودون الموالي على العرب حتى يخطب بها على المنابر وإن العرب تحتها! قال قلت: يا أمير المؤمنين، أمر الله ودينه. فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط! وقالت جارية من العرب ماتت أمها وأضرت بها زوجة أبيها:

ولو يأتي رسولي أم سعدٍ ... أتى أمي ومن يعينه حاج
ولكن قد أتى من بيني ودي ... وبين وداده غلق الرتاج
ومن لا يؤذه ألم برأسي ... وما الرئمان إلاّ بالنتاج
وقال أم الضحاك المحاربية:
حديث لو أنَّ اللحم يصلى بحره ... طريا، إذا أضحى به وهو منضج
و كانت تحت رجل من الضباب وهي تحبه حبا شديدا، ثم طلقها فقالت:
هل القلب إنَّ لاقى الضبابي خاليا ... لدى الركن أو عند الصفا متحرج؟
وأعجلنا قرب المزار وبيننا ... حديث كتشنيج المريض مزعج
وقال الأخر:
لقد علمت أم الصبيين إنني ... إلى الضيف قوام السنان خروج
إذا المرغث العوجاء بات يعزها ... على ضرعها ذو توءمين لوهج
وإني لأغلي اللحم نيا وإنني ... لممن يهين اللحم وهو نضيج
يريد: إني آخذها جيدة غالية الثمن، فأنحرها وأخلي بينها وبين الناس تهاونا بها، كما قال الآخر:
وإني لأغلي لحما وهي نية ... ويرخص عندي لحمها حين تذبح
وقال الحارث اليشكري:
قلت لعمرو حين أرسلته ... وقد حبا من دونها عالج:
لا تكسع الشول بأغبارها: ... إنك لا تدري من الناتج
وأصيب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج!
يقول: لا يبق اللبن في الضروع هذه النوق! والأغبار جمع غبر وهو بقية اللبن في الضرع، كانت العرب تفعل ذلك لسمن الأولاد التي في بطونها. وأصببه للناس، فإنك لا تدري من ينتجها، ولعلك تموت فيبقى ذلك للوارث! ومثله قول الآخر:
وإن درت نياقك فاحتلبها ... فما تدري الفصيل لمن يكون
و هذا كما في الحديث: يقول أبن آدم مالي مالي، ومالك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت. ومنه قول النمر أبن تولب:
أ عاذل إنَّ يصبح صداي بقفرة ... بعيد نآني صاحبي وقريبي
تري أن ما أبقيت لم أك ربه ... وإنَّ الذي أنفقت كان نصيبي
وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب في رعيها ودؤوب
غدت وغد رب سواه يقودها ... وبدل أحجارا وجال قليب
قوله: جال قليب، جال: الناحية، كما قال مهلهل:
كأن رماحه أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور
و منه قول الآخر أيضاً:
قأثنوا علينا لا أبا لأبيكم ... بأفعال إنَّ الثناء هو الخلد!
و قول حاتم:
أماوي إنَّ يصبح صداي بقفرةٍ ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر
ترى أن ما أبقيت لم أك ربه ... وأن يدي مما بخلت به صفر
وقال أبن فارس اللغوي:
وقالوا: كيف أنت؟ فقلت خير: ... تقضى حاجة وتفوت حاج
إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا: ... عسى يوما يكون لها انفراج
نديمي هرتي وسروور قلبي ... دفاتري ومعشوقي السراج
وقال أبو محمّد الحريري:
تعارجت لا رغبة في العرج ... ولكن لأقرع باب الفرج
وألقي حبلي على غاربي ... وأسلكت مسلك من قد مرج
فإن لامني القوم قلت: أعذروا ... فليس على أعرج من حرج!
وقال أيضاً:
ما الحج سيرك تأويبا وإدلاجا ... ولا اعتيامك اجمالا واحداجا
الحج إنَّ تقصد البيت الحرام على ... تجريد الحج لا تقضي به حاجا
وتمتطي كاهل الإنصاف متخذاً ... ردع الهوى هاديا والحق منهاجا
وإنَّ تواسي ما أوتيت مقدرة ... من مد كفا إلى جدواك محتاجا
فهذه إنَّ حوتها حجه كملت ... وإنَّ خلا الحج منها كان إخداجا
حسب المرائين غبنا غرسوا ... وما جنوا ولقوا كدا وإزعاجا
وإنهم حرموا أجرا ومحمدة ... وألحموا عرضهم من عاب أو هاجى
أخي فأبغ بما تبديه من قربٍ ... وجه المهيمن ولاجا وخراجا
فليس تخفى على الرحمان خافية ... إنَّ اخلص العبد في الطاعات أو داجى
وبادر الموت بالحسنى تقدمها: ... فما ينهه داعي الموت إن فاجا
واقن التواضع خلقا لا تزايله ... عنك الليالي ولو ألبسنك التاجا
ولا تشم كل خال لاح بارقه ... ولو تراءى هتون السكب ثجاجا
ما كل داع بأهل أن يصاخ له ... كم قد أصم بنعي بعض من ناجى
وما اللبيب سوى من بات مقتنعا ... ببلغة تدرج الأيام إدراجا

فكل كثرة إلى قل مغبته ... وكل ناز إلى لين وإن هاجا
وقال أيضاً في وصف سروج:
بلدة يوجد فيها ... كل شيء ويروج
ووردها من سلسبيل ... وصحاريها مروج
وبنوها ومغانيهم ... نجوم وبروج
حبذا نفحة ريا ... ها ومرآها البهيج
وأزاهير رباها ... حين تنجاب الثلوج
وقال الآخر:
لو ركبت البحور صارت فجاجا ... لا ترى في متونها أمواجا
ولو إني وضعت ياقوتة حمراء ... في راحتي صارت زجاجا
ولو إني ردت عذبا فراتا ... عاد لا شك فيه ملحا أجاجا
و مثله قول الآخر:
لو وردت البحار أطلب ماء ... جف قبل الورود ماء البحار
أو لمست العود النضير بكفي ... لذوى بعد نضرة واخضرار
أو رمى باسمي النجوم الدراري ... لا نزوى ضوؤها عن الأبصار
ولو إني بعت القناديل يوما ... لبدا الليل في ضياء النهار
وقال الآخر:
ولمل التمست الرزق فانجذ حبله ... ولم يصف لي من بحره العذب مشرب
خطبت إلى الإعدام إحدى بناته ... فزوجنيها الفقر إذ جئت أخطب
فلو تهت في البيداء والليل مسبل ... علي جنا حيه لمّا لاح كوكب
ولو جفت شرا فاستترت بظلمة ... لأقبل ضوء الشمس من حيث يغرب
ولو جاد إنسان علي بدرهم ... لعدت إلى رحلي وفي الكف عقرب
ولو يمطر الناس الدنانير لم يكن ... بشيء سوى الحصباء رأسي يحصب
وأن يقترف ذنبا ببرقة مذهب ... فإنَ برأسي ذلك الذنب يعصب
وإن أر خيرا في المنام فنازح ... وإن أر شرا فهو مني مقرب
أمامي من الحرمان جيش عرمرم ... ومنه ورائي جحفل حين أركب
و قول الآخر:
أحمد الله لو أقل قط يابدر ... ويا موسى ويا كافور
لا ولا قيل قد أتاك من ... الضيعة بر موفر وشعير
أنا خلو من الممالك والأملاك ... جلد على البلايا صبور
ليس إلاّ كسيرة وقديح ... وقميص أتت عليه الدهور
وقول الآخر:
سل عن الرزق يا أبا العباس ... وجماح الزمن بالأكياس
لو من الناس ساعدتي الدهر ... ولكنني من النسناس
لو هوت صخرة من الجو جاءت ... تتخطى الأنام تطلب رأسي
لا وحق الإله ما ابصر الشمس ... بعيني من شدة الإفلاس
و قول الآخر:
برزت من المنازل والقباب ... فلم يعسر على أحد طلابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي ... سماء الله أو قطع سحاب
فأنت إذا أردت دخلت بيتي ... علي مسلما من غير باب
لأني لم أجد مصراع باب ... يكون من السماء إلى التراب
ولا انشق الثرى عن عود تخت ... أؤمل أن اشد به ثيابي
ولا خفت الأباق على عبدي ... ولا خفت الهلاك على دوابي
وفي ذا راحة وفراغ بال ... فدأب الدهر ذا أبداً ودابي
وقول الآخر:
قد أراح الله من هم ... طويل وعذاب
فاسترحنا من عيال ... وعبيد ودواب
وغدو ورواح ... وهجاء وعتاب
و قول الآخر:
كسدت شواشينا وقل معاشنا ... فسعودنا مقرونة بنحوس
فكأنما قطعت رؤوس الناس أو ... خلقوا لشقوتنا بغير رؤوس
و قول الآخر:
أنا في حال تعالى الله ... ربي أي حال:
ليس لي شيء إذا قيل ... لمن ذا قلت: ذالي
فأرضي الله فرشي ... والسماوات ظلالي
ولقد اهزلت حتى ... محت الشمس خيالي
ولقد أفلست حتى ... حل أكلي بعيالي
من رأى شيئاً محالا ... فأنا نفس المحال
لو بقي في الناس حر ... لم اكن في مثل حالي
و قول الآخر:
ليس إغلاقي لبابي إنَّ لي ... فيه ما أخشى عليه السرقا
إنّما أغلقه كي لا يرى ... سوء حالي من يمر الطرقا
منزل أوطنه الفقر فلو ... يدخل السارق فيه سرقا
و قيل لبعض أجلاف المشايم: كيف المعاش؟ فقال: يوما يرزق ويوما لا يرزق. وليته هو مضروب ألف سوط وإنَّ الله لم يخلقه وقيل له: فلعل الله قد ذخر لك بهذا أجرا في الآخرة. فقال: أيهما اكرم على الله الدنيا أم الآخرة؟ فقيل له: الآخرة. فقال: هو لم يعطني الهينة عليه فيعطيني تلك الكريمة عليه!

وقيل لآخر: أتعرف ربك؟ فقال: وكيف لا اعرف من أجاعني واعراني؟ وقيل لآخر وقد رئي مغتنما: ما غمك؟ فقال: سوء الحال وكثرة العيال. فقال له: لا تغتنم فإنهم عيال الله. فقال: صدقتم ولكن كنت أحب أن يكون الوكيل عليهم غيري! وقال بعضهم: كان لآدم عليه السلام غلام يخدمه فنحن معاشر المحارفين من نسل ذلك الغلام ولا نسب بيننا وبين آدم فإنَ الله يقول: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات. وليس فينا ولا عندنا شيء من هذه الخصال فلو كنا بني آدم لكان لنا حظ من هذه الأشياء! واستقى قوم يوم الخميس فمطروا. فنظر إليهم بعض المشائيم وهم منصرفون فرحين بالسقايا فقال: والله ما بي إلاّ انهم يظنون إنَّ الله استجاب لهم. والله ما مطروا إلاّ أني غسلت ثيابي اليوم والله ما غسلتها قط إلاّ تغيمت السماء ومطرة ولا بأس فليرجعوا إلى خميس آخر: فإنَ مطروا فليحلقوا لحيتي! وقال أبو العباس أحمد المقري الفاسي يخاطب التاج التونسي:
والله ما انصفتنا يا تاج: ... فسقامنا لدوائكم مجتاج
فقضية قد ركبت بشروطها ... أفممكن أن يخلف الإنتاج
وقال الآخر:
ولم أر شيئاً بعد ليلى ألذه ... ولا منهلا أروى به فأعيج
يقال: ما عجت بالدواء أي لم انتفع به. ويزعم كثير من اللغويين والنحويين إنّه لا يستعمل إلاّ في النفي كما مثلنا وكما في قول كثير:
قلما نفعت نفسي بما أمروا به ... ولا عجبت من أقاويلهم بفتيل
و البيت المذكور يرده إلاّ إنَّ يتأول إنّه لمّا كان الموصوف منفيا كانت الصفة وما عطف عليها أيضاً في معنى النفي والله اعلم.
وقال الآخر في الأوصاف:
في ليلة أكل المحاق هلالها ... حتى تبدى مثل وقوف العاج
والصبح يتلو المشتري فكأنه ... عريان يمشي في الدجا بسراج
ومثله قول الآخر:
يا رب ليل رقبناه وقد طلعت ... بقية البدر في أولى بشائره
كأنما ادهم الإظلام حين نجا ... من أشهب الصبح خلى نعل حافره
و قول الآخر:
فكأن الليل حين لوى ... هاربا والصبح قد لاحا
كلة سوداء احرقها ... عامد أوقد مصباحا
و قول الآخر:
سرى والصبح تحت الليل باد ... كطرف أبلق تحت الجلال
بكأس من زجاج فيه أسد ... فرائسهن الباب الرجال
و قول الآخر:
وفتيان سروا والليل داج ... وضوء الصبح مهتم الطلوع
كأن بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدروع
وقال الآخر:
لفتاة تسرنا في المثاني ... وعجوز تسرنا في المزاج
أخذت من رؤوس قوم كرام ... ثأرها بين أرجل الأعلاج
و مثله قول أبي بكر بن زهير:
وموسدين على الأكتاف خدودهم ... قد غالهم ضوء الصباح وغالني
ما زلت اسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالي
وخمر تحسن كيف تأخذ ثأرها: ... إني أملت إناءها فأمالني
وقال الآخر:
ولرب حان قد أدرت بديره ... خمر الصبا مزجت بصفو خموره
في فتية جعلوا الزقاق وكاءهم ... متضارعين تخشعا لكثيره
يهدي إلينا الراح كل مصفق ... كالخشف خفرة التماح خفيره
وإلى علي بطرفه وبكفه ... فأمال من رأسي لعب كبيره
وتزنم الناقوس عند صلاتهم ... ففتحت من عيني لرجع هديره
و الشعر في أوصاف الخمر كثيرة وأكثره يتنزه عن ذكره وسيأتي كثير منه.
وقال أبو الفرج جعفر اليماني:
عارض أقبل في ليل الدجى ... يتهادى كتهادي ذي الوجا
بددت ريح الصبا لؤلؤه ... فانبرى بوقد عنه سرجا
و مثله قول أبن الخطيب:
أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها كي تهتدي مصباحا
وكأنَّ صوت الرعد خلف سحابها ... حادٍ إذا ونت الركائب صاحا
و تقدم استيفاء هذا المعنى في الباب الأول. وقال الأخر:
قالوا: تبدى شعره فأجبتهم: ... لابد من علم على الديباج!
والبدر أبهر ما يكون ضياؤه ... إن كان ملتحفا بليلٍ داجِ
و من هذا المعنى قول الآخر:
ومهفهفٍ علق السقام بطرفه ... وسرى فعرس في معاقد خصره
مزقت أستار الظلام بثغره ... ثم أنثنيت أحوكها من شعره
وقال أبن صارة:

ومهفهفٍ أبصرت في أطرافه ... قمرا بآفاق الملاحة يشرقُ
يقضي على المهجات منه صعدة ... متألق فيها سنان أزرقُ
و قول الآخر:
ومعذرٍ عبث العذار بخده ... ظلماً فشان ضياءه بظلامه
كسفت محاسنه لأربع عشرة ... وكذا كسوف البدر عند تمامه
وقال أبن رشيق:
همت عذاراه بتقبيله ... فاستل من عينيه سيفينِ
وقامت الحرب على ساقها ... بين أميرين قتولين:
فذلك المحمر من خده ... دماءُ ما بين الفريقينِ
وقال الأخر:
وأغيد من أبناء لمطة شادنٍ ... ينوء كما يعطو بخطوته البانُ
ذؤابته مهراقةٌ خلف ظهره ... كما التف بالغصن المنعم ثعبانُ
و قول الآخر:
ومهفهفٍ كالغصن إلاّ أنه ... سلب التثني النوم عن أثنائه
أضحى ينام وقد تورد خده ... عرقا فقلت: الورد رش بمائه!
و قول الآخر:
غزال إنسٍ كم استدنيته فنأى ... عني وأعرض مزوراً بجانبه!
طالت علي ليلٍ من هواه كما ... طالت عليه ليالٍ من ذوائبه
وقال الصنوبري:
ما أخطأت نوناته من صدغه ... شيئاً ولا ألفاته من قده
فكأنما أنقاسه من شعره ... وكأنما قرطاسه من خده
و هذا المعنى كثير. وقال الأخر:
كأنَّ الثريا راحةٌ تشبر الدجى ... لتخبر طال الليل أم قد تعرضا
عجبت لليلٍ بين شرقٍ ومغربٍ ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا
و قول الآخر:
كأنَّ بهرام وقد عارضت ... منه الثريا نظر المشتري
ياقوتةٌ يعرضها بائعٌ ... في كفه والمشتري مشتري
و قول الآخر:
وقد لاح من الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا
وقال الأخر:
وغريبتة الإنشاء صرنا فوقها ... والبحر يسكن تارة ويموجُ
عجبا تؤم بها معاهدنا التي ... كرمت فعاج الأنس حيث نعوجُ!
وقد استطال النور فوق الماء من ... شمس الأصيل فلاح وهو بهيجُ
فكأنَّ متن البحر ذائب فضةٍ ... قد سال فيه من النضار خليجُ
و مثله قول الآخر:
لو أبصرت عيناك زورق فتيةٍ ... يبدي لهم لمح السرور مراحه
وقد استداروا تحت ظل شعاعه ... كلٌ يمد بكأس راحٍ راحهُ
لحسبته خوف العواصف طائراً ... مد الحنان على بنيه جناحهُ
وقال أبن الخطيب:
إنَّ الهوى لشكايةٌ معروفة ... صبر التصبر من أجل علاجها
والنفس إن ألفت مرارة طعمه ... يوما ضمنت لها صلاح خراجها
وقال السبتي:
يا ساءلاً عن مذهبي عامداً ... ليقتدي فيه بمنهاجي
منهاجي العدل وقمع الهوى: ... فهل لمنهاجي من هاجِ؟
وقال أبو الحسن بن رشيق:
ولقد ذكرتك في السفينة والردى ... متوقع بتلاطم الأمواجِ
والجو يهطل والرياح عواصفٌ ... والليل مسود الذوائب داجِ
وعلى السواحل للأعادي غارةٌ ... يتوقفون لغارة وهياجِ
وعلت لأصحاب السفينة ضجةٌ ... وأنا وذكرك في أل تناجِ
و مثله وهو أصله قول عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ ... مني وبيض الهند تقطر بالدمِ
و قول الأرجاني:
وإني لأرعاكم على القرب والنوى ... وأذكركم بين القنا والقنابلِ
و قول الآخر:
إلاّ من مبلغ المحبوب أني ... وقفت وللظبا حولي صليلُ
وأني جلت في جيش الأعادي ... برمح وهو في ذكري يجولُ؟
و قول الآخر:
أرسلتها والعوالي في الطلا ترد ... في موقفٍ فيه ينسى الوالد الولدُ
وما نسيتك والأرواح سائلةٌ ... على السيف ونار الحرب تتقدُ
و قوله:
ولقد ذكرتك والصوارم لمع ... من حولنا والسمهرية شرع
وعلى مكفاحة والعدو ففي الحشا ... شوق إليك تضيق عنه الأضلع
ومن الصبا وهلم جرا شيمتي ... حفظ الوداد فيف عنه أرجع؟
و قول الصفي الحلي:
ولقد ذكرتك والعجاج كأنه ... منا وبين معفر في معفر
والشمس بين مجدل في جندلٍ ... منا وبين وجهك أو مساء مقمر
وتعطرت أرض الكفاح كأنما ... فتقت لنا ريح الجلاد بعنبر
و قوله أيضاً:
ولقد ذكرتك والسيوف مواطر ... كالسحب من وبل النجيع وطله

فوجدت أنسا عند ذكرك كاملا ... في موقف يخشى الفتى من ظله
و قلوه أيضاً:
ولقد ذكرتك والجماجم وقع ... تحت السنابك والأكف تطير
والهام في أفق العجاجة حوم ... فكأنها فوق النسور نسور
فأعتادتني من طيب ذكرك نشوة ... وبدت علي بشاشة وسرور
فظننت أني في مجالس لذتي ... والراح تجلى والكؤوس تدور
و قول أثير الدين بن حيان:
لقد ذكرتك والبحر الخضم طغت ... أمواجه والورى منه على سفر
في ليلة أسدلت جلباب ظلمتها ... وغار كوكبها عن أعين البشر
والماء تحت وفوق المزن وأكفه ... والبرق يستل أسيافا من الشرر
والروح من حزن راحت وقد وردت ... صدري فيالك من ورد بلا صدر!
هذا وشخصك لا ينفك في خلدي ... ولا في فؤادي وفي سمعي وفي بصري
و يقرب من هذا قولي:
إلاّ ليت شعري هل أرى من ثنية ... عضها كموصوف الكتائب تشرف؟
وهل أردن من سلسبيل مواردٍ ... هناك كالمعسول المباسم تشرف؟
وهل أرين مغنى الدلاء عيشة ... كأن بنياه بجاد مفوف؟
ذكرتكم وهنا وإني لمدلج ... بأجواز أقطار الصحاري أطوف
فقلت وقلبي ضمن شجو ولوعة ... وجفني بمنثور الجمان يكفكف:
أدار سقيك الوبل غير مبرحٍ ... ولا برحت عنك الحوادث تصرف
لقد هجت للقلب العميد صبابة ... تكاد لها صم الجبال تقصف!
و قول الصفدي:
ولقد ذكرتكم بحرب ينثني ... عن بأسها الليث الهزبر الأغلب
والصافنات بركضها قد أنشأت ... ليلا وكل سنا سنان كوكب
والبيض تنثر كل ما نظم القنا ... والنبل يترب والعجاج يترب
وحشاشة الأبطال قد تلفت ظما ... ودم الفوارس مستهل صيب
والنفس قد سالت على حد الظبا ... وأنا بذكركم أميل وأطرب
وقول الآخر يصف الشمس في الغيم:
وتنقبت بخفيف غيم أبيضٍ ... هي فيه بين تخفر وتغنج
كتنفس الحسناء في المرأة إذ ... كلمت ولم تتزوج
و من هذا المعنى قول أبن طباطبا العلوي:
متى أبصرت شمسا تحت غيمٍ ... ترى المرآة في كف الحسود
تقابلها فتلبسها غشاء ... بأنفاس تزايد في الصعود
وقال الوزير المهلبي:
أما ترى الشمس وهي طالعة ... تمنع منا إدامة النظر؟
حمراء صفراء في تلونها ... كأنها تشتكي من السهر
مثل عروس غداة ليلتها ... تمسك مرآتها من القمر
و قوله:
والشمس خيراً خلف غيم عارض ... فكأنها في ضوء ليل مقمر
و قوله:
الشمس من مشرقها قد بدت ... نيرة ليس لها حاجب
كأنها فوهية أحميت ... يجول فيها ذهب ذائب
و قول أبن المعتز:
والشمس كالمرآة في كف الأشل
و قول أبي حفص بن برد، ومنه أخذ:
كأن شعاع الشمس في كل غدوةٍ ... على ورق الأشجار أوّل طالع
دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض فتهوي من فروج الأصابع
و نحو هذا قول الآخر في الخمر:
كانت سراج أناس يهتدون بها ... في سالف الدهر قبل النار والنور
تهتز في الكأس من ضعف ومن هرمٍ ... كأنها قبس في كف مقرور
و قول أبن الرومي في الشمس:
كأن جنوح الشمس عند غروبها ... وقد جنحت في مجنح الليل تمرض
محاجر عين مس أجفانا الكرى ... ترنق فيها النوم وهي تغمض
وقال أبن خفاجة:
والنقع يكسر من سنى شمس الضح: ... فكأنه صدا على دينار
وقال إبراهيم بن العباس الصولي:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج
كملت فلما استكملت حلقاتها ... فخرجت وكان يضنها لا تفرج
و كان يقال: ما رددهما من نزلت به نازلة به إلاّ فرج الله عنه.
وقال الأخر:
رويدك! فالهموم لها رتاج ... وعن كثب يكون لها انفراج
ألم تر أنَّ طول الليل لمّا ... تناهى حان للصبح انبلاج؟
وقال أبو فراس:
ألا، ربما ضاق بأهله ... وأمكن من بيت الأسنة مخرج
و مثله قوله أيضاً:
خفض عليك ولا تكن قلق الحشا ... مما يكون وعله وعساه!
فالدهر أقصر مدة مما ترى ... وعساك أنَّ تكفى الذي تخشاه
و قول الآخر:

تربص بيومك ما في غدٍ ... فإن العواقيب قد تعقب
لعل غدا من أخيه حمى ... يلم لك الصداع أو يرأب
وقال الحجاج:
دعها سماوية تجري على قدرٍ ... لا تفسد برأي منك أرضي
و قول أبن حميدس:
ما أغفل الفيلسوف عن طرقٍ ... ليس لأهل العقول منسلكه!
من سلم الأمر للإله نجا ... ومن عدا القصد واقع الهلكه
و قول الآخر:
لا تضف في الأمور ذرعا فقد ... يكشف عنها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال
و قصة أبي عمرو بن لعلاء في هذا الشعر، حيث ألزمه الحجاج أنَّ يأتي بشاهد على قراءته غرفة فسمع هذا الشعر مقرونا بنعي الحجاج، معروفة.
وقال الأخر:
إذا دجا خطب وأيقنت من ... صعب بأن الأمر يأتي عسير
ينعكس الأمر ويأتي كما ... شئت: فسبحان اللطيف الخبير!
و قول الآخر:
لا تشك! فالأيام حبلى ربما ... جاءتك من أعجوبة بجنين
فكذا تصاريف الزمان: مشقة ... في راحةٍ وخشونة في اللين!
ما ضاع يونس بالعراء مجرداً ... في ظل نابتة من اليقطين
و قول الآخر:
والليالي كما علمت حبالى ... مقربات يلدن كل عجيب
و قول الآخر:
الدهر لا ينفك عن حدثانه ... والمرء منقاد لحكم زمانه
فدع الزمان فانه لم يعتمد ... لجلالة أحد ولا لهوانه!
كالمزن لم يخصص بنافع صوبه ... أفقا ولم يخش أذى طوفانه
لكن لباريه بواطن حكمةٍ ... في ظاهر الأضداد من أكوانه
و قول الآخر:
دع المنى! ربما نيلت بلا طلبٍ ... وربما وقع الحرمان من المهن!
و قول الآخر:
الدهر كالطيف بؤساه وأنعمه ... من غير قصد: فلا تمدح ولا تذم
لا تسأل الدهر في غماء يكشفها: ... فلو سألت دوام البؤس لم يدم!
و قوله: ولا تذم، إنَّ كان بكسر الذال من قولك ذامه يذمه ذيما وذاما أي عابه فهو صحيح؛ وإنَّ كان بضمها من قولك ذمه يذمه فهو مذموم فلحن أو ضرورة بشيعة.
وقول أبي بكر الخوارزمي:
ما أثقل الدهر على من ركبه ... حدثني عنه لسان التجربه!
لا تحمدن الدهر لشيء سببه ... فانه لم يعتمد بالهبه
وإنّما أخطأ فيك مذهبه ... كالسيل إذ يسقي مكاناً أخربه!
والسم يستشفي به من شربه
قلت: وشعر هذين الشاعرين ينحو منحى زهير إذ يقول:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
لا سيما الشاعر الأول. ولا شك إنَّ ما ذكره زهير خطأ وجهل بالتدبير الرباني، والتصريف الاختياري، وأنَّ كل ذلك واقع عن علم وسبق مشيئة. وإنَّ كان يمكن أنَّ يتأول الكلام لو صدر من موحد بأن ذلك بحسب الصورة الظاهرة. ومثل المنايا صروف الدهر وحوادثه سواء.
ويشبه قول الخوارزمي:
لا تمدحن أبن عباد وإن هطلت ... كفاه بالجود حتى أخجل الديما!
فإنها خطراتٌ من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
و كتب البيتين فوضعهما حيث يجلس الصاحب ثم ارتحل من وقته. فلما وقف الصاحب عليهما فال:
أقول لركبٍ من خراسان أقبلوا ... أمات خوارزميكم؟ قيل لي نعم!
فقلت: اكتبوا بالجص من فوق قبره: ... إلاّ لعن الرحمن من يكفر النعم!
و مثل ما تقدم قول الآخر:
من يصحب الدهر لا يعدم تقلبه ... والشوك ينبت فيه الورد والآسُ
تمر حينا وتحلو لي حوادثه ... فقلما جرحت إلاّ انثنت تأسو
و قول الآخر:
لا تجزعن لعسرةٍ من بعدها ... يسران وعد ليس فيه خلافُ!
كم عسرة ضاق الفتى لنزولها ... لله في أعطافها ألطف!
و قول الآخر:
تصبر للعواقب واحتسبها ... فأنت من العواقب قافي اثنتينِ
تريحك بالمنى أو بالمنايا ... فإنَ الموت إحدى الراحتين!
وقول الأبيوردي:
تنكر لي دهري ولم يدر إنني ... أعز وأنَّ الحادثات تهونُ
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبت أريه الصبر كيف يكونُ
و قولنا من قصيدة:
فإذا عرتك الحادثات فثق ... بمليكها ذي الخلق والأمرِ
واصبر لروح الله مرتجيا ... فلتحمدن عواقب الصبرِ

إنَّ اصطبار المرء مفتتحٌ ... متغلق البأساء والعسرُ
ومنفس عنه الكروب إذا ... ضاقت بهن جوانح الصدرِ
كم من حزين بات مكتئباً ... متعسر الأحشاء ذا زفرِ
ما يرتجى جلباب ليلته ... أن ينزوي طرفاه بالسفرِ
فاتته ألطافٌ منفسةٌ ... لفؤاده من حيث لا يدري
ولكم بعيد الضيق من سعةٍ ... ولكم بعيد العسر من يسرِ!
هل بعد معتكر الظلام سوى ... بلج الصباح وطلعة الفجرِ
أو بعد ظمأة هجمةٍ وردت ... إلاّ ارتواء جانب الغدرِ
أو بعد خانقة التلاع سوى ... فيح الفجاج وفسحة البهرِ؟
و قول الآخر:
أ مقتولة الأجفان مالك والهاً ... ألم ترك الأيام نجما هوى قبلي؟
أقلي بكاءً: لستِ أول حرةٍ ... طوت بالأسى كشحا على مضض الثكلِ
وفي أم موسى عبرةٌ إذ رمت به ... إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي
ولله فينا علم غيبٍ وحسبنا ... به عند جور الدهر من حكم عدلِ
و الشعر في هذا المعنى اكثر من أن يحصى.
وقال الغري:
قالوا: بعدت ولم تقرب فقلت لهم: ... بعدي عن الناس في هذا الزمان حجا
لولا التباعد بين الحاجبين به ... بان افتراقهما لم نعرف البلجا
و مثله قول الارجاني:
أسفت على عمرٍ تصرم ضائعاً ... وجدت بدمعٍ يستهل هتونِ
وآنسني بعدي من الناس جانباً ... وإن هم على أحداقهو حملوني
ولمّا غدا عنا على جفن ناظري ... لقاء الورى من صاحبٍ وخدينِ
ألفت الفضا مستوطناً ظهر ناقةٍ ... تلف سهولاً دائماً بحزونِ
وما سرت إلاّ في الهواجر وحدها ... كراهة ظل أن يكون قريني
و قول أبي العلاء المعري:
فظم بسائر الإخوان شراً ... ولا تأمن على سرٍ فؤادا:
فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لمّا طلعت مخافة أن تكادا!
و قوله أيضاً:
جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ودِّ امرئ غرضا
و قول أبن القلاقس:
اعلق بأطراف الوداد فانه ... من دافع الأمواج مات غريقا
وإذا انتهى الإخلاص أوجب 1ده:إنَّ التجمع ينتج التفريقا!
وقول أبن الرومي، وهو المثل المشهور في هذا:
عدوك من صديقك مستفادٌ: ... فلا تستكثرن من الصحابِ
فإنَ الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشرابِ!
و قول الآخر:
جزى الله خيراً كل من ليس بيننا ... ولا بينه ودٌ ولا متعارفُ
فما نالني ضيمٌ ولا مسني أذى ... من الناس إلاّ من فتى كنت آلفُ!
و قول الآخر:
أحذر عدوك مرةً ... وأحذر صديقك ألف مرة
فلربما انقلب الزمان ... فكان أعرف بالمضرة!
و قول أبن سناء الملك:
أبى الهر إلاّ ضد ما أنا طالبٌ: ... فيا ليت مني مكن الله ضده!
يعد الفتى إخوانه لزمانه ... وأعدى له من خوفه من أعده
و قولي من قصيدة:
وبنو دهرك العضال من الداء ... العديم الأساة ذو الأزمانِ
وأضر الأدواء من تتولاه ... وتحجوه أقرب الإخوانِ
إنما الأقرباء في الناس جساسٌ ... عليك في السر والإعلانِ
يخبرون العورات حفظاً وإعداداً ... ليوم البأساء والشنآنِ
و قول الأنصاري الأول:
ألا رب من تحجو صديقاً ولو ترى ... مقاتله بالغيب ساءك ما يفري:
لسانٌ له كالشهد ما دمت حاضراً ... وبالغيب مطرورٌ على ثعرة النحرِ
و قولي من قصيدة:
فتوخ في الناس الوفي إذا ... عاشرتهم وحذار الله تعالى الغدرِ!
واسبرهم قبل الإخاء ولا ... تغتر في الإخوان بالسبرِ!
كم من أخٍ مذق الوداد على ... ما فيه من إجنٍ ومن سبرِ
إن تلقه فالشهد مقولته ... وإذا تعيب يكون كالصبرِ
يسمى بوجهك تستميل وإن ... أدبرت عنه فكية الظهرِ
وإذا الزمان دعاك نائبه ... العازي إليه ترجى البرِ
فسيحتبيك بوعد غانيةٍ ... أو وعد عرقوبٍ جنى التمرِ
وإذا تعود يظل مكتلحاً ... متغيظاً ينزو ويستشري
وإذا تصادف ذا الصفا فكن ... منه ولو صافحك ذا حذرِ
وأسم سوائم سمعه طرقاً ... مطروقةً من مسرح السرِ

وصن السرارة واللباب ولا ... تبذل له منه سوى القشرِ
فلربما يلوي الزمان به ... فيكون أبص فيك بالضرِ
و قول الآخر:
فاقت بيوسفها الدنيا وفاح لها ... طيب طوى المسك في نشر لها أرجِ
فإنَ يشاركه في اسم الملك طائفةٌ ... فإنَ شمس الضحى من جملة السرجِ
و يتمثل بالبيت الثاني. ومثله في المعنى قول الآخر:
وفي البساتين أفنانٌ منوعةٌ ... وليس يقطف إلاّ الورد والزهرُ
وفي السماء نجومٌ ما لها عددٌ ... وليس يخسف إلاّ الشمس والقمرُ
و قول أبي الطيب:
فإنَ تفق الأنام وأنت منهم ... فأن المسك بعض دم الغزال
و قول الآخر:
وقد يسمى سماء كل مرتفعٍ ... وإنّما الفضل حيث الشمس والقمرُ
و قول الآخر:
الناس كالناس إلاّ تجربهم ... وللبصيرة حكم ليس للبصرِ
والأيك مشتبهاتٌ في منابتها ... وإنّما يقع التفضل في الثمرِ
و قول الآخر:
وقد يتقارب الوصفان جداً ... وموصوفاهما متباعدانِ
و قول الآخر:
قد يبعد الشيء من شيء يناسبه ... إنَّ السماء نظير الماء في الزرقِ
و قول الآخر:
دع ما تناسب في الأبصار ظاهره ... ولا تقل بقياس غير مطردِ
فصدمه المتنافي لا اعتداد بها ... شتان ما بين مهتزٍّ ومرتعدِ
و قول الآخر:
قد تشبه الحالة الأخرى وبينهما ... إذا تأملت فرقٌ عن سواك خفي
فربما صفق المسرور من طربٍ ... وربما صفق المحزون من أسفِ
و قول الآخر:
لقد عرض الحمام لنا بسجعٍ ... إذا أصغى له ركبٌ تلاحى
شجا قلب الخلي فقال غني ... وبرَّحَ بالشجي فقال ناحا
وقال الشيخ عمر بن الفارض:
لا كان وجدٌ به الأماق جامدةٌ ... ولا غرامٌ به الأشواق لم تهجِ
وقال الراعي:
ومرسلٍ ورسولٍ غير متهمٍ ... وحاجةٍ غير مزجاةٍ من الحاجِ
طاوعته بعدما طال النجي بنا ... وظن أني عليه غير منعاجِ
ما زال يفتح أبواباً ويغلقها ... دوني وأفتح باباً بعد إرتاجِ
حتى أضاء سراجٌ دونه بقرٌ ... حمر الأنامل عين طرفها ساجِ
يا نعمها ليلةٌ حتى تخونها ... داعٍ دعا في فروع الصبح سحاجِ
لمّا دعا الدعوة الأولى فأسمعني ... أخذت بردي وأستمررت أدراجي
وقال الأخر:
ما زلت ابغي الحي أتبع ظلهم ... حتى دفعت إلى ربيبة هودجِ
قالت: وعيش أبي وحرمة أخوتي ... لأنبهن الحي إن أم تخرجِ
فخرجت خيفة قولها فتبسمت ... فعلمت أنَّ يمينها لم تحرجِ
فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرجِ
قوله ماء الحشرج أي الماء الجاري على الحجارة.
وقال عمر بن أبي ربيعة:
قد كنت حملتني عيظا أعالجه ... فإنَ تقدني فقد عنيتني حججا
حتى لو اسطيع مما قد فعلت بنا ... أكلت لحمك من غيظٍ وما نضجا
و قبل هذين البيتين:
يا ربة البغلة الشهباء هل لكم ... أن ترحمي عمراً لا ترهقي حرجا؟
قلت: بدائك مت أو عش تعالجه ... فما نرى لك فيما عندنا فرجل!
و بعدهما:
فقلت: لا والذي حج الحجيج له ... ما مج قلبك من قلبي وما مهجا
ولا رأى القلب من شيء يسر به ... مذبان منزلكم منا وما ثلجا
كالشمس صورتها غراء واضحةٌ ... تعشي إذا برزت من حسنها السرجا
ضنت بنائلها عنه فقد تركت ... من غير جرم أبا الخطاب مختلجا
وقال بعض المجان:
إذا مررت بوادٍ لا أنس به ... فاضرب عميرة لا عارٌ ولا حرجُ
ضرب العميرة هي الخضخضة وهي الاستمناء باليد وشبهه. وكذب هذا القائل: فإنَ في الخضخضة لحرجا وعاراً وإنما محرمة عند جماهير الناس وفيها قول بعض الأعراب:
إن تبخلي بالركب المحلوق ... فإنَ عندي راحتي وريقي
و الركب بفتحتين وتقدم تفسيره.
وقول الآخر:
كفي ورجلي لا عدمت كليهما ... أصبحت أغنى من يروح ويغتدي
أمشي على هذه وأنكح هذه ... فمطيتي رجلي وجاريتي يدي!
و قول الآخر:
خطبت إلى ساعدي راحتي ... وما كنت من شر خاطفيها
وما إن تكلفت من مهرها ... سوى ريقةٍ أجتزي بها

فإن شئت أوتى بها ثيباً ... وبكراً إذا شئت أوتى بها
وقال بعضهم: مررت على برذعة الموسوس، وقد أدخل رأسه في جيبه يتخضض. فضربته برجلي، فانكشف فإذا هم منعض، فقلت: ما هذا؟ فقال: أما ترى في ذلك الروشن؟ وأشار إلى باب في علية فإذا جارية جميلة تتطلع. فقال: إني دعوتها فلما لم تجبني أجبتها. فقلت: قبحك الله! ووليت عنه. فلم ألبث أن لحق فقال: قضيت الحاجة على رغم أنفك وأنشد:
أ أنكرت ما عاينت من كف دالك ... وهل ينكر التداليك في قول مالك؟
لقد أمن الدلاك من أن تنالهم ... حدود الزنى في واضحات المسالك
وأني قد سكنت غربة غلمتي ... بحسن العيون والثدي الفوالك
و كذب هذا الأحمق على مالك رضي الله عنه: فإنَ حرمة الاستمناء هي مذهبه وكذا مذهب الشافعي وغيره. وإنّما رويت رخصة عن عمر بن دينار إن صحت الحكاية عنه. وروى عن أبن عباس إنّه فال في الخضخضة: هي خير من الزنا.
قلت: وليس في هذا الكلام ما يقضي حليتها، إذ ليست المحرمات كلها في درجة واحدة بل مقطوع بتفاوت ما بينها: فإنَ الزنى نفسه وهو محرم إجماعا على درجات بعضها أشد من بعض. ألا ترى إنَّ الزنا بحرة مطاوعة لا زوج لها ولا أهل يسبون بفعلها ة لا ترجو ولدا أخف من الزنى بغيرها وإن كان الكل حراما لأن الحق إذا انفرد وتمحض لله تعالى أخف مما إذا انضم إليه حق المزني بها المكره أو حق الزوج أو حق الأهل أو حق السيد في الأضرار بهم، ونحو ذلك من الحقوق. وهو أيضاً في الآيسة أخف منه في الولود، لمّا في الثانية من مزيد المفسدة باختلاط الأنساب وهو الحكمة الأصلية في التحريم. والمعلوم أنَّ الخضخضة ليست بمحل لهذه المفسدة لا تحقيقا ولا مظنة؛ ولكن فيها تضييع البذر وهو ماء النسل في وجهه فلتكن هي أخف. ولهذا المبحث محل يليق به وليس من غرضنا الآن التعرض له.
وقلت أنا:
إذا لحظتك عين المرء يوماً ... بدا منه صفاءٌ أو ضجاجُ
وأنبت فيه عن حبٍّ ورغضٍ ... كما ينبي عن الماء الزجاجُ
الصفاء بالكسر: المصفاة؛ والضجاج بالكسر: المضاجة، وهي المشاوره.
وقلت أيضاً:
لكل أخي داء دواءٌ يعده ... وأعيت دواء الضغن كل معالجِ
إذا آنس النعمى تضاعفت داؤه ... وآض بغيظ للجوانح زامجِ
وإن آنس البأساء اصبح شامتاً ... بقلبٍ من الشحناء والهزء رامجِ
تقول: زمجت القربة إذا ملأتها وزمج الغيظ للجوانح مجاز. والمراج: الممتلئ الريان وهو هنا مجاز أيضاً.
وقلت أيضاً:
أرى الورى وصروف الدهر تخضمها ... مثل السفين تداعت فوقها اللججُ
وهم رمايا مناياها فلا وزرٌ ... عنها ولا ملجأٌ منها ولا وحجُ
كأنما هي حوض والورى وردٌ ... عطشى أناخوا عليه دائما وحجوا
أو مثل هيمٍ لخمسٍ تغتشيه فلم ... يعن الياد لها عنه ولا العنجُ
الخضم: الأكل ويستعمل في ملء الفم بالمأكول وهو مجاز هنا عن الاستئصال والوحج: الملجأ وهو عطف تفسير. والورد بضمتين جمع ورود؛ وحجوا: أقاموا. يقال: حجي به أي أولع به ولزمه. وبينه وبين الوحج الأول جناس تام بين الاسم والفعل. والهيم: الإبل يصيبها الهيام. والخمس بالكسر: زمان ورودها. والذياد: الطرد؛ والهنج بالتحريك: اسم من العنج بالسكون وهو أن يشد الراكب خطام البعير فيرده على رجليه.

باب الحاء المهملة
أحب الحديث أصدقه.
الحب معروف. تقول: أحببت الرجل فهو محبوب على غير قياس. وقد يقال محب وهو قليل. قال عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرمِ
وقد يقال حببته ثلاثيا أحبه بالكسر فهو محبوب. أنشد الجوهري في الصحاح:
أحب أبا مروان من أجل تمره ... وأعلم أنَّ الرفق بالمرء أرفقُ
ووالله لولا تمره ما حببته ... ولو كان أدنى من عبيدٍ ومشرقِ

و ليس عندهم مضعف متعد يتمحض فيه الكسر غير هذا. والحديث معروف أيضاً. والصدق ضد الكذب. وهذا كلام يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا جاءته هوازن تطلب منه أن يرد إليها ما أخذ منها من السبايا والأموال يوم حنين. فقال: أحب الحديث إلى الله أصدقه، أو: خير الحديث، إنَّ معي من يرون فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال. فاختاروا السبي وقالوا: لا نعدل بالأحساب شيئا. والقصة مشهورة في المغازي.
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه:
أبلغ قريشاً وخير القول أصدقه ... والصدق عند ذوي الألباب مقبولُ

حبك الشيء يعمي ويصم.
الحب مر؛و العمى معروف وأعميته: فعلت به ذلك. وكذا الصمم وأصممته. وهذا أيضاً يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم . والعمى هنا يحتمل أن يكون عمى البصر وهو ظاهر أو عمى البصيرة وهو أدق وأليق.
والمعنى أنَّ المرء إذا أحب شيئا غلبت محبته على قلبه فلا يرى رشده ولا ينظر عاقبته ولا يسمع عاذله. والصمم هنا مجاز أيضاً عن عدم الإصغاء إلى المسموع وعدم الاهتبال به والانتفاع به. فكأنه أصم لا يسمع كما قال تعالى: )صمٌ بكمٌ عميٌ(. وقال الشاغر:
صمٌ إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بشرٍّ عنهم أذنوا
وقال الأخر:
فأصممت عمراً وأعميته ... عن الجود والفخر يوم الفخار
و في معنى المثل قال الإمام البوصيري رحمه الله تعالى:
محضتني النصح لكن لست أسمعه ... إنَّ المحب عن العذال في صممِ
و هذا المثل يضرب في الحذر من اتباع الهوى وما يؤمر به من اجتنابه.
وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم : جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم! وقال الشاعر:
إذا طالبتك النفس يوماً بشهوةٍ ... وكان عليها للخلاف طريقُ
فخالف هواها ما استطعت فإنما ... هواها عدوٌ والخلاف صديقُ
وقال الأخر:
وفي الحلم والإسلام للمرء وازعٌ ... وفي ترك طاعات الفؤاد المتيمِ
بصائر رشدٍ للفتى مستبينةٌ ... وأخلاق صدق علمها في التعلمِ
و في هذا المعنى ما لا يحصى من الشعر والنثر يأتي في الحكم إن شاء الله تعالى
حبل فلان يفتل.
الحبل بالفتح فالسكون: الرباط وهو معروف.و جمعه حبال وأحبال. قال الشاعر:
أمن أجل حبلٍ لا أباك ضربته ... بمنسأةٍ؟قد جر حبلك أحبالا
و فتل الحبل معروف. قال امرؤ القيس:
فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل!
أي بكل حبل أحكم فتله. ويقال: حبله يفتل إذا كان مقبلا على أمر.
حتفها تحمل ضأنٌ بأظلافها.
الحتف: الموت. والأظلاف جمع ظلف بالكسر وتقدم تفسيره. وهذا المثل يضرب في الهلاك يجتلبه القدر غمدان الإنسان أو يجره على نفسه. وأصله أنَّ النعمان بن المنذر عمد إلى كبش فعلق في عنقه مدية وأرسله يرعى ونذر أن يقتل من تعرض له. فكان الكبش يخرج ولا يمس. ثم مر على أرقم بن علباء اليشكري وقيل على علباء بن أرقم اليشكري فقال: كبش يحمل حتفه بأظلافه! ووثب عليه فذبحه وأشتواه. فقال في ذلك شعرا طويلا منه:
أخوف بالنعمان حتى كأنني ... ذبحت له خالاً كريما أو أبن عمُ
وقال أبو عبيد إنَّ هذا المثل تمثل به حريث بن حسان الشيباني بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لقيلة التميمية وكان قدم بها الذي النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قصة طويلة حتى قالت قيلة: فقدمنا تعني مع حريث على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصليت معه الغداة حتى إذا طلعت الشمس دنوت. فقال رجل: السلام عليك يا رسول الله! فقال رسول الله: وعليك السلام! وهو قاعد القرفصاء. فقالت: فتقدم صاحبي فبايعه على الإسلام فقال: يا رسول الله اكتب لي بالدهناء. فقال: يا غلام اكتب له. قالت: فشخص بي وكانت وطني وداري. فقلت: يا رسول الله الدهناء مقيد الجمل ومرعى الغنم وهذه نساء بني تميم وراء ذلك. قال: صدقت المسكينة! المسلم أخو المسلم يسمعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيلام أبن هذه أن يفصل الخطة وينتصر من وراء الحجر؟ انتهى.
وهذا المثل هم مثل قولهم: بحث عن حتفه بظلفه وتقدم.
حتَّام تكرع ولا تنفع؟

حتى هنا حرف جر دخلت على ما الأستفهامية. ويقال كرع في الماء وفي الإناء بفتح الراء وكسرها كروعا وكرعا إذا تناول بفيه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء. والكرع بفتحتين: الماء يكرع فيه يجتمع من ماء السماء في غدير أو نحوه. قال عدي أبن الرقاع يصف راعي الإبل:
يسنها ابلٌ ما إن يجزئها ... جزءاً شديداً وما أن ترتوي كرعا
و يقال: نقع الرجل بالشراب وبالخبز بفتح القاف إذا استشفى به من غليله. قال كثير:
فما نقعت نفسي بما أمروا به ... ولا عجت من أقوالهم بفتيلِ
و المثل ظاهر معنى ومضرباً.

المحاجزة قبل المنازلة.
ويقال أيضاً : أن أردت المحاجزة فقبل النازلة. يقال حجزه عن الأمر إذا كفه عنه وصرفه فأنحجز هو. وحجز بين الناس فصل بينهم. وتحاجز القوم كف بعضهم عن بعضا. والحجز بفتحتين الذين يمنعون بعض الناس عن بعض ويفصلون بينهم جمع حاجز. ويقال : نجز حاجته وأنجزها: قضاها. والمناجزة المقابلة. وتناجز القوم تلاحموا وتقاتلوا. والمعنى إنَّ المحاجزة والمسالمة إنّما تكون قبل المناجزة والوقوع. فيضرب عند الحزم والفرار ممن لا يطاق أو عند طلب الصلح بعد القتال.
حدأ حدأ وراءك بندقةٌ.
الحداأة بكسر الحاء وفتح الدال المهملة بعدها همزة: الطائر المعروف جمعه حدأٌ مثل عنبة وعنب. قال الراجز: كما تدانى الحدأ الأوي.
وقال الأخر:
وتباىالألى يستلئمون على الألى ... تراهن يوم الروع كالحدأ القبلِ
و ضمير تبلي للمنون في البيت قبله. يقول: إنَّ المنية تبلي الين يستلئمون أي يلبسون اللأمات للقتال على الألى أي على النساء اللأئي تراهن يوم الروع أي يوم الفزع كالحدأ القبل جمع قبلاء وهي الناظرة بمقدمة العين. يصفهن بالإشفاق على أزواجهن فهن ينظرن إليهم هل سلموا. والبندقة بالضم هي التي يرمى بها. وحدأ في المثل أصله: يا حدأة وراءك بندقة! أي أحذري بندقة الرامي تصبك! وقيل إنَّ حدأ هي حدأ بن نمرة وبندقة هي بندقة بن مظلة وهما قبيلتان من سعد العشيرة. وكانت حدأ تنزل الكوفة فأغاروا على بندقة وكانوا ينزلون باليمن فنالوا منهم ثم كرت بندقة على حدأة فانحوا عليهم فصار يضرب لمن يفزع بعدوه أو يبلى بنظيره. ومن الناس من يرويه: حدا حدا بفتح الحاء غير مهموز على مثل عصا ويقول هو اسم القبيلة.
ويروى: حدث حديثين المرأة فإنَ أبت فعشرة. والحديثان والأربعة والعشرة أعداد معروفة. والمرأة فيها أربع لغات. يقال امرأة ومرأة ومرة ومراة. ويروى: حدث المرأة حديثين فإن لم تفهم فأربع. يقال: يربع إذا وقف وحبس.و المعنى: حدث حتى إذا كررت الحديث فلم يفهم عنك فأمسك ولا تتعب نفسك! يضرب في سوء السمع والإجابة. وهذا المعنى ظاهر في الرواية الأخيرة. وأما الروايتان الأوليتان فأولهما رواية أبي عبيد. قال البكري: وتصح على حذف يريد حدث حديثين المرأة فإن لم تفهم فأربعة لا تفهمها. وعلى الرواية الأخرى: فعشرة لا تفهمها. انتهى.
قلت: وهذا المثل من الأمثال الموضوعة على ألسنة العجماوات. زعموا أنَّ الأرنب التقطت ثمرة فاختلسها الثعلب فأكلها فانطلقا إلى الضب يختصمان. فقالت الأرنب: يا أبا الحسل! فقال: سميعا دعوت. قالت: أتيناك انختصم إليك فأخرج إلينا. قال: في بيته يؤتى الحكم. قالت: إني وجدت ثمرة. قال: حلوة فكليها. فقالت: فاختلسها مني الثعلب. قال: لنفسه سعى. قالت: فلطمته. قال: حقك أخذت. قالت فلطمني. قال: حر انتصر. قالت: فاقض بيننا! قال: حدث امرأة حديثين فإن لم تفهم فأربعة! وهذه المقالة المنسوبة إلى الضب كلها أمثال سائرة.
حديث خرافة يا أم عمرو!
الحديث معروف. وخرافة على مثل أسامة، رجل من عذرة استهوته الجن ثم نجا. فكان يخبر بأمور غريبة فكذبوه وقالوا: حديث خرافة ثم ضربوا به المثل وجعلوه لكل حديث مستملح أو لكل حديث لا حقيقة له. وهو مثل سائر قديما وحديثا. وقيل إنَّ خرافة كان له تابع من الجن فكان يخبره بأشياء عجيبة فيتحدث بها فتكون كما ذكر فنسبوه إليه الأحاديث الصادقة المعجبة الصادقة. قال الجوهري: ويروى عنه صلى الله عليه وسلم إنّه قال: وخرافة حق. انتهى.

وذكر بعض الأدباء إنّه روي بسند متصل إلى عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : حدثني بحديث خرافة!فقال: رحم الله خرافة! كان رجلا صالحا فأخبرني أنه خرج ذات ليلة فلقي ثلاثة نفر من الجن فأسروه فقال أحدهم: نعفو عنه. وقال آخر: نقتله. وقال آخر: نستعبده. فبينما هم يتشاورون في أمره ورد عليهم رجل فقال: السلام عليكم! فقالوا وعليكم السلام! قال: وما أنتم عليه؟ قالوا: نفر من الجن أسرنا هذا فنحن نتآمر في أمره. قال: إن حدثتكم حديثا عجبا أنَّ تشركوني فيه؟ قالوا: نعم! قال: إني كنت ذا نعمة فزالت وركبني دين فخرجت هاربا. فأصابني عطش شديد فصرت إلى بئر فسبرت لأشرب فصاح بي صائح منها ولم أشرب. فغلبني العطش فعدت فصاح بي ثم عدت الثالثة فصاح بي فشربت ولم ألتفته.فقال: اللهم إن كان رجلا فحوله امرأة وإن كان امرأة فحولها رجلا. فإذا أنا امرأة فأتيت مدينة فتزوجني رجل فولدت منه ولدين. ثم تقت إلى بلدي فمررت بالبئر التي شربت منها فصاح بي كما صاح أولا. فشربت ولم ألتفت. فدعا كالأول فعدت رجلا كما كنت. فأتيت بلدي فتزوجت امرأة فولدت لي منها ولدان: فلي اثنان من ظهري واثنان من بطني. فقالوا: إنَّ هذا لعجب! أنت شريكنا فيه. فبينما هم يتشاورون ورد عليهم ثور يطير. فلما جاوزهم إذا برجل بيده خشبة يحضر في أثره. فوقف عليهم فسألهم فردوا عليه مثل مردهم على صاحبهم فقال: إن حدثتكم بحديث أعجب من هذا أنَّ تشركوني فيه؟ قالوا: نعم! قال: كان لي عم وكان لعمي عجل يربيه فأفلت فقال: أيكم رده فابنتي له. فأخذت خشبتي هذه وائتزرت ثم أحضرت في أثره وأنا غلام. وقد شبت فلا أنا ألحقه ولا هو ينكل. فقالوا: إنَّ هذا لعجب! أنت شريكنا فيه. فبينما هم كذلك ورد عليهم رجل على فرس له أنثى وغلام له على فرس. فسلم كما سلم صاحباه فردوا عليه كردهم على صاحبيه. فسألهم فأخبروه فقال: إن حدثتكم بحديث أعجب من هذا أنَّ تشركوني فيه؟ قالوا نعم! قال: كانت لي أم خبيثة. ثم قال للفرس الأنثى التي تحته: أنَّ كذلك؟ فقالت: نعم! وكنا نتهمها بهذا العبد وأشار إلى الفرس تحت غلامه: أنَّ هكذا؟ فقال برأسه نعم! فوجهت غلامي هذا الراكب على هذا الفرس في بعض حاجاتي فحبسه عندها فأغفى فرأى في منامه كأنها صاحت صائحة فإذا هو بجرذ قد خرج فقالت: أسجد! فسجد. ثم قالت: اكرب! فكرب. ثم قالت: ازرع! فزرع. ثم قالت: ادرس! فدرس. ثم دعت برحى فطحنت قدح سويق فأتت به الغلام وقالت له: ائت به مولاك! فأتاني به. فاحتلت عليها حتى سقيتها القدح فإذا هي فرس أنثى وإذا هو فرس ذكر. أكذلك؟ فقالت الفرس الأنثى برأسها: نعم! وقال الفرس برأسه: نعم! فقالوا: إنَّ هذا أعجب شيء سمعناه أنت شريكنا! فاجتمع رأيهم فأعتقوا خرافة. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بهذا الحديث. فما جاء من الأحاديث المحالية نسب إلى خرافة صاحب الحديث. انتهى.
وقال في الصحاح: الراء في خرافة خفيفة ولا يدخله الألف واللام لأنه معرفة علم؛ إلاّ أن تريد به الخرافات الموضوعة من حديث الليل. انتهى.
وقد استعمل اليوم في عرفنا اسما للحديث المستملح. يقول الرجل لصاحبه: اذكر لي خرافة أي حديثا من ذلك النوع ويحلى بالألف واللام لذلك.

الحديث شجون.
ويقال أيضاً ذو شجون. والشجون بضم الشين جمع شجن بفتح فسكون وهو الطريق في الوادي. والشواجن والشجون أيضاً: الأودية الكثيرة الشجر. قال:
لمّا رأيت عدي القوم يسلبهم ... طلح الشواجن والطرفاء والسلم
أو جمع شجنة بكسر الشين وهي الصدع في الجبل. والشجن بفتحتين غصن الشجرة المشتبك والشعبة في كل شيء والحاجة حيثما كانت. يقال لي بموضع كذا شجن. قال الراجز:
إني سأبدي لك فيما ابدي ... لي شجنان: شجن بنجد
وشجن لي في بلاد السند
والجمع أيضاً شجون. والشجنة أيضاً مثلثة الشين والعروق المشتبكة. يقال: بيني وبين فلان شجنة رحم أي قرابة مشتبكة.
وفي الحديث: الرحم شجنة من الله أي مشتبكة اشتباك العروق.
ومعنى المثل إنَّ الحديث ذو فنون وأغراض وطرق يدخل بعضها في بعض ويتشعب بعضها من بعض كالطرق المشتبكة المتقاطعة أو الأغصان والعروق. يضرب في الحديث سيذكر به حديث غيره. ومن ثم يضربه القصاص والأئمة عند استطراد المسائل والخروج من غرض إلى آخر. وقال الفرزدق:

وإن كنت قد سألت دوني فلا تقم ... بأرض بها بنت الهوى تكون
فلا تأمنن الحرب إذا استعارها ... كضبة إذ قال: الحديث شجون
و الاستعارة بالسين والعين المهملتين من استعار النار. وروي اشتغار بالشين والغين المعجمتين أي هيجانها وثورانها وانتشارها ومن قولك: شغر برجله. يقول: إنَّ الحرب سببها الكلام كما قال الآخر:
فإنَّ النار بالزندين تورى ... وإنَّ الحرب أولها كلام
و يقال الحرب أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى.
وقلت مضمنا لهذا المثل في غرض:
تمنى بأوباش فتوح مدائن ... وذاك لعمري ضلة وجنون
فأضحى كعمر إذ ترجى مراده ... بجيش مراد والحديث شجون
و تقدم خبر عمرو بن أمامة مع مراد في الباب الأول.

حدث عن البحر ولا حرج!
البحر معروف والحرج بفتحتين الضيق والاثم. وهذا يروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنّه قال: حدثوا عن البحر ولا حرج أي حديث لا حرج عليكم في التحديث عنه فتكون الجملة حالية. وقد جعل هذا مثلا في الشيء الكثير الذي لا ينحصر أو لا يكاد بمعنى إنَّ المحدث عنه لا يضيق عليه المجال ولا يعزوه مقال.
وورد من هذا النحو أيضاً حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج وفي ذلك تأويلات ذكرها المحدثون ولا حاجة إلى التعرض لها. والمقصود من التمثيل واضح.
وقال أبن اللبانة:
وألغوا حديث البحر عند حديثه ... فكم بين ذي مد وكم بين ذي جزر
حدث عن معن ولا حرج!
وهو معن بن زائدة الشيباني الجواد المعورف.
الحديد بالحديد يفل.
الحديد معروف وكذا الفل. وهذا المثل يضرب في الرجل القوي يلقى قرينه في البسالة والنجدة. وكان الوليد بن طريف الشيباني لمّا خرج على الرشيد اشتدت شوكته فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فقتله. فقال بكر بن النطاح:
وائل بعضها يقتل بعضا ... لا يفل الحديد إلاّ الحديد
لو تلقى الوليد غير يزيد ... لغدا ظاهرا عليه الوليد
ولمّا قتل الوليد رثته أخته الفارعة بنت طريف بشعرها المعروف منه:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على أبن دريف؟
فتى لا يعد الزاد إلاّ من التقى ... ولا المال إلاّ من قنى وسيوف
و هي قصيد معروفة.
الحذر قبل إرسال السهم.
الحذر بفتحتين والحذر بكسر فسكون الاحتراز. يقال حذر بالكسر يحذر فهو حذر والإرسال: الإطلاق والمراد هنا الرمي والسهم معروف. وهذا من الأمثال العجماوية أيضاً.
زعموا إنَّ غرابا رأى رجلا فوق سهما ليضرب به. فأراد ابنه أن يطير فقال له: يا بني اثبت حتى تعلم ما يريد الرجل. فقال له ابنه: يا أبت الحذر قبل إرسال السهم فذهبت مثلا. وهو يحسن أن يضرب عند الأمر بالاحتراز والاستعداد للمحذور قبل وقوعه وقبل فوات محل الحذر. وذلك ظاهر.
أحذر من ضب حرشته.
الحذر مر والضب الحيوان المعروف والحرش صيادته. يقال: حرش الضب يحرشه حرشا فهو حارش وذلك أن يحرك يده في فم جحره ليظنه حية فيخرج ذنبه ليضرب بها فيقبض على ذنبه ويمتلخه من الجحر قال الشاعر:
وأخدع من ضب إذا جاء حارش ... أعد له عند الذنابة عقربا
و من هذا المثل الآتي: هذا اجل من الحرش.
أحذر من غراب.
الحذر تقدم والغراب معروف وتقدم أيضاً ويضرب به المثل في شدة الحذر وذلك معروف مشهور.
وقد قال بعض الحكماء: أخذت من كل شيء أحسنه حتى انتهى بي الأمر إلى الكلب والهرة والخنزير والغراب. فقيل له: ما أخذت من الكلب؟ قال: إلفه لأهله وذبه عن صاحبه. فقيل له: ما أخذت من الهرة؟ قال: حسن تأنيها وتملقاها عن المسألة. فقيل: ما أخذت من الخنزير؟ قال: بكوره من حوائجه. فقيل: ما أخذت من الغراب؟ قال: شدة حذره.
حذو النعل بالنعل.
تقول: حذوت النعل أحذوها حذوا إذا قطعتها وقدرتها وحذوت النعل بالنعل إذا قدرتها وقطعتها عليها. والنعل معروفة. والمثل يضرب في التساوي والتشابه. تقول في الشيئين يستويان: هما حذو النعل وذلك لأن كلا من النعلين تقدر بالأخرى وتقاس بقالبها. ومن ذلك قول الهذلي:
وتأملت السبت الذي أحذوله ... فأنظر بمثل حذائه أخذولي
و يقال أيضاً: احتذيت حذو فلان أي فعلت فعله.
الحرب خدعة.

الحرب معروف مؤنث وقد يذكر. ويقال رجل حرب ومحرب أي شديد الحرب شجاع ورجل حرب أي عدو للواحد والجميع وللأنثى أيضاً. قال نصيب:
وقولا لها: يا أم عثمان خلتي ... اسلم لنا في حبنا أنت أم حرب؟
و الخدع الختل. يقال: خدعه يخدعه أي ختله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم. ولفظ خدعة هاهنا روي مثلثا والذي في الصحاح الفتح والضم مع سكون الدال. قال والفتح افصح. وروي أيضاً خدعة على مثال همزة. والمعنى إنّها تنقضي بخدعة. والذي يقتضيه الاتقاق لغة في هذا الضبط إنَّ الخدعة بضم الخاء وصف. فإن كان بفتح الدال كهمزة فهو وصف للرجل يكون كثير الخدع للناس. وإن كان بسكونها فهو وصف للذي يخدع. والخدعة بفتح فسكون مصدر وهو المرة من الخدع وبالكسر للهيئة من ذلك. وهذا الكلام يروى حديثا.

الحرب سجال.
الحرب مر والسجال يكون جمع سجل بفتح السين وسكون المعجمة وهو الدلو فيها ماء. ولا يقال لها سجل إلاّ وفيها ماء والمساجلة: المفاخرة والمباراة في السقي بالسجال. قال الفضل بن عباس بن عتيبة بن أبي لهب وقد وقف على زمزم:
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ثم استعملت المساجلة في المعارضة والمباراة في كل شيء من سبق أو رمي أو غير ذلك. وتساجلا: تباريا.
ومعنى المثل إنَّ الحوب دول بين الناس: سجل منها على هؤلاء وسجل على هؤلاء كما قال أبو سفيان لهرقل لمّا قال له: كيف الحرب بينكم وبينه؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه جال: يدال علينا مرة وندال عليهم أخرى. وقال زهير:
تهامون نجديون كيدا ونجعة لك ... ليس أناس من وقائعهم سجل
و قد يضرب في غير الحروب من كل ما يشبهها من نزاع وجدال مثلا. ولفظ السجال في المثل جمع كما فسرنا أوّلاً. ولا يصح أن يكون مصدرا أي الحرب هو مساجلة. وحاصل الأمر واحد.
حرب عوان.
اعلم إنَّ العرب ضربوا للحرب المثل بأوصاف شتى: فمن السائر من ذلك العوان واللأقح والرباعية. يقولون: حرب عوان وحرب لاقح وحرب رباعية. أما العوان فاصلها في النساء وهي النصف في سنها وكذا في سائر الحيوانات. قال تعالى: لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك. ويقال العوان التي لها زوج. قال النابغة:
ومن يتربص الحدثان تنزل ... بمولاه عوان غير بكر
و هذا أيضاً نحتمل. والجمع عون بالضم. واشتقاق العوان من العون وهو القوة لأنها عرضة للأعانة إن استعينت. وأما العوان من الحروب فهي التي كانت قوتل فيها مأخوذ من عوان النساء كأنهم جعلوها في المرة الأولى بكرا ثم تصير ثيبا. قال أبو جهل يرتجز يوم بدر:
ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سن
لمثل هذا ولدتني أمي
وقال زهير:
إذا لقحت حرب عوان مضرة ... ضروس تهر الناس أنيابها عصل
وقال الحماسي موسى بن جابر:
وإن رفعوا الحرب العوان التي ترى ... فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي
و معلوم انهم ما وصفوها بالعوان إلاّ للمبالغة وإرادة إنّها شديدة لا مجرد إنّها قوتل فيها مرة. وكان ذلك لأجل إنَّ المبتكرة يخف أمرها لعدم استحكام الضغائن فيها بعد بخلاف التي تقدمها قتلا غرس في القلوب الضغائن وأحفظها وأكثر الأوتار. فذلك مظنة الاشتداد مع عظم العود إلى الحروب على النفس ونفور النفوس منه وكراهيتها له كما قال الآخر:
الحرب أوّل ما تكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ... عادت عجوز غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت ... مكروهة للشم والتقبيل
و أما تشبيه الأولى بالبكر والثانية بالعوان فذلك يكون لثلاثة اوجه: الوجه الأول إنَّ البكر من النساء هي التي لم تتقدم ممارستها ومخالطتها بخلاف العوان. وهذا بين وإليه أشار حبيب في التعبير عنها بالثيب حيث قال:
ولا اجتلبت بكر من الحرب ناهد ... ولا ثيب إلاّ منهم لها خطب
الثاني إنَّ البكر لصغر سنها وجسمها في الحملة تشبه المرة الأولى لخفتها والعوان لعظم جسمها في الجملة وسنها تشبه الثانية لقوتها واشتدادها. وهذا من التوهم الخيالي.

الثالث إنَّ البكر اسهل لغرتها وقناعتها بما تجد ولا كذلك العوان: فإنّها لاحتكاكها وتجربتها وطموح عينها اصعب محاورة واشد معاشرة وأدهى نكرا واعظم مكرا وهذا واضح. وقد يوصف بالعوان الأرض التي أصيبت بالمطر مرة بعد أخرى تشبيها كالذي مر. قال الحميد بن ثور الهلالي:
ولقد نظرت إلى أغر مشهر ... بكر توسن بالخميلة عونا
متسنم سنمتها متفجس ... بالدهر يملأ أنفسا وعيونا
لقح العجاف له لخامس خمسة ... وشربن بعد تحلئ فروينا
أراد بالأعر سحابا أبيض وبكونه بكرا أنه لم يمطر قبل ذلك وأراد بالخميلة الرمل ذات الشجر والعون جمع عوان وهي الأرض التي أصابها المطر مرة. ومعنى توسنها طرقها هذا السحاب ليلا عند الوسن أي النوم تقول: توسنت الرجل إذ أتيته وهو وسنان. والسنمات العظام الأسنمة من الإبل وأطلقها هنا على التلال والأكم. وقوله متنسم يريد يتسنمها أي يعلوها كالفحل الذي يتسنم الاينق. وقوله: متفجس أي متبكر بالدهر، أي رعده، تشبيها بهدر البعير؛ والعجاف أراد بها الأرضين المجدبة مجازاً؛ ومعنى لقحت حملت؛ أي أنبت عشبها. وقوله بعد تجلئ أي شربت بعد امتناع من الماء زمانا، من قولك: حلأته، أي دفعته وطردته. وأما اللاقح فأصلها في الحيوان أيضاً. يقال: لقحت الناقة بالكسر إذا حملت وألقحها الفحل، فهي لاقح ولقوح ولقحة بالكسرو يفتح. وحمع اللاقح لواقح ويجمع اللقوح لقح، وجمع اللقحة لقح، كقربة وقرب ولقح. وثم ضربوها مثلاً للحرب إذا عظمت واشتدت تشبيها لها بالناقة إذا جملت فعظم بطنها. قالت الفارغة بنت طريف:
ولم تسع يوم الحرب والحرب لاقح ... وسمر القنا ينكزنها بأنوف
و منه قول زهير السابق: إذا لقحت حرب عوان مضرة.
ومن أبلغ ما ورد في هذا المعنى قوله أيضاً في ميميته، حيث وصف الحرب فقال:
وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعكرتم عرك الرحا بثفالها ... وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشام كلهم ... كأحمر عادٍ ثم ترضع فتفطم
فتغلغل لكم مالا تغل لأهلها ... قرى بالعراق من قفيز ودرهم
قوله تبعثوها ذميمة أي مذمومة، وكان الأفصح أن يقول ذميما، بغير هاء. ويروى بالدال المهملة، أي حقيرة، إشارة إلى معنى ما تقدم في قول الآخر: الحرب أول ما تكون فتية. وقوله عرك الرحا بثفالها، أي وهي على ثفالها. والثفال بالثاء المثلثة مكسورة ما يجعل تحت الرحا حال الطحن، يريد: تعرككم عرك الرحا إذا كانت طاحنة. وقوله تلقح كشافا: الكشاف إنَّ يحمل الفحل على الناقة سنتين ولاء أو كل سنة، أو أن تلقح حين تنتج، أو أن يضربها وهي حامل. وهي ناقة كشوفة، وقد كشفت تكشف، كشفا. وأراد أن هذه الحرب كلما خمدت عاجت. وقوله فتتئم، أي تأتي من حملها بتوءمين، وهذا تهويل وتعظيم لامر الحرب، وإيهام أنَّ شرها متكرر وهولها متضاعف. وشبهها بالناقة لما تقدم، ولأنها أيضاً يطول أمرها فتكون بمنزلة الناقة التي تضرب، ثم تحمل، ثم تنتج، ثم تفطم. وقيل لأنها يتحلب منها من الدماء مثل ما يتحلب من الناقة من اللبن. وقوله فتنتج لكم غلمان أشأم، فوضع أشأم موضع المصدر، أو غلمان شؤم أشأم على المبالغة، ونحو شغل شاغل، وليل أليل؛ أو غلمان امرئ أشأم. وقوله كلهم كأحمر عاد يعني عاقر الناقة، وهو يضرب به المثل في الشؤم، وأراد أحمر ثمود، فأضافه إلى عاد غلطا، كما قال الآخر: مثل النصارى قتلوا المسيحا وقيل ليس بغلط، لأن ثمود يقال لها عاد الآخرة، وهو دهم عاد الأولى. قال: تعالى: ) وإنّه أهلك عاداً الأولى(. وأما الرباعية بياء مخففة فهي أيضاً في الإبل ، وهي في السن التي بين الناب والثنية. ويقال للذي ألقى رباعية ربع، وجمعه ربع، كقذال وقذل. ويقال للغنم في السنة الرابعة أربعت، وللبقر وذات الحافر في الخامسة، ولذات الخف في السابعة. وتقدم ذكر أسنان الإبل إنَّ الرباعي منها والرباعية بين الثني والسدس. ويقال: جمل وفرس رباع ورباع، ونظيره ثمانٍ وثمانٌ، ونشاحٍ وناشحٌ، وجوارٍ وجوارٌ؛ والأنثى رباعية، وتوصف الحرب بالرباعية لشدتها وقوتها. قال الشاعر:
إنها حرب رباعية ... مثلها آتي الفتى عبره
وقيل لأمرأة من العرب

الحر إذا خودع تخادع، وإذا عظم تواضع.
هذا مثل مصنوع، فيما أظن، وهو ظاهر المعنى. ومثله قول الشاعر:
إذا مدح الكريم يزيد خيراً ... وإنَّ مدح اللئيم فلا يزيد
حرة تحت قرة.
يقال: حر الرجل يحر، كظل يظل، حراراً وحرة، فهو حران وهي حرى، إذا عطش. الحرة في المثل مكسورة للازدواج. والقر بضم القاف البرد، أو برد الشتاء خاصة؛ والقرة بالكسر ما أصابك منه. وهذا المثل يضرب للأمر يظهر وبعده أمر خفي. وأصل الحرة تحت القرة إنّها العطش مع البرد وهو إذ ذاك ينحاز إلى الجوف فيكون سعيرا ومع ذلك لا يظهر من حال صاحبه لمّا هو فيه من البرد إنّه عطشان. ويقال: اشد العطش حرة تحتب قرة ويقال أجد حرة تحت قرة ورماه الله بالحيرة تحت القرة.
وفي الأمثال العامة قولهم: الشتاء على قرني والعطش قتلني. وهذا يضرب لأمر آخر.
احر من دمع المقلات.
الحرارة ضد البرد كالحر والحرورة. يقال: حر اليوم يحر كمل يمل وحر يحر كفر يفر حرارة فهو حار والدمع معروف والمقلات من النساء التي لا يعيش لها ولد ومن النوق التي تضع ولدا تم لا تحمل مشتق من القلت بفتحتين وهو الهلاك. يقال قلت يقلت كفرح يفرح قلتا إذا هلك. وفي الخبر: المسافر ومتاعه على قلت إلاّ ما وقى الله تعالى. والمقلتة: المهلكة والقلات على وزن مفعال والجمع مقاليت كمقياس ومقاييس ومصباح ومصابيح قال طرفة:
لا تلمني إنّها من نسوة ... رقد الصيف مقاليت نزر
الرقد جمع رقود يعني أنهن مكفيات فهن يرقدن ولا يخدمن ولا يسعين وهن مقاليت لا تعيش أولادهن فيتحملن مؤنتهم وهن نزر أي قلائل الأولاد بالأصلة جمع نزور: فهن بذلك نعمات الأجسام نظائف الأذيال فائقات الكمال. وقال جرير في المفرد:
خشاش الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزور
و وصف دمعه المقلات بالحرارة لأنها تبكي حزنا على أولادها وهم يصفون دمعة الحزن بالحرارة ومن ثم يقولون في الدعاء على الرجل اسخن الله عينه ويصفون دمعة الفرح بالبرد ومن ثم يقولون: قرت عين فلان في السرور والفرح وأقر الله عينه!
أحر من القرع
الحرارة تقدمت والقرع بفتحتين بثر أبيض يخرج من أعناق الفصلان وقوائمها ودواؤه الملح وحباب ألبان الإبل. فإذا لم يجدوا ملحا نتفوا أوبارها ونضحوا جلودها بالماء ومنه المثل. قال في الصحاح: وربما قالوا أحر من القرع بالتسكين يعنون به قرع الميسم وهو المكواة. قال:
كأن على كبدي قرعة ... حذارا من البين ما تبرد
قال: والعامة تريد به هذا القرع الذي يؤكل. انتهى.
قلت: وإنّما توهموا المأكول لأنّه تشتد حرارته إذا طبخ وتطول ولا يبرد بعد زمن حتى قالوا في زعاماتهم وأمثالهم: قال الذئب: لا آمنك يا قرع ولو كنت في الماء.
حر انتصر.
الحر بالضم خلاف العبد وحر كل شيء خياره والحر الجيد. يقال: ما هذا من فلان بحر أي جيد. قال طرفة بن العبد:
لا يكن حبك حبا قاتلا: ... ليس هذا منك ماوي بجر
وقال امرؤ القيس:
لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر ... ولا مقصر يوما فيأتيني بقر
و النصر الإعانة نصره على عدوه ينصره نصرا: أعانه وأستنصر: طلب النصر وانتصر منه: انتقم. وتقدم هذا المثل وإنّه من الأمثال التي نسبت إلى الضب في تحاكم الثعلب والأرنب إليه. يضرب للرجل يظلم فينتقم.
أحرس من الكركي.
يقال: حرس الشيء بالفتح يحرسه حراسة حفظه والكركي على مثال الجندي طائر معروف جمعه كراكي يوصف بالحذر والحراسة.
ويزعمون إنَّ الكركي تحرس مداولة فيبقى الذي يحرس منها لا ينام. ويهتف بصوت خفي ينذر إنّه حارس حتى إذ قضى نوبته قام الذي كان نائما. ويقال إنّه لا يطأ الأرض أبداً إلاّ بأحدى رجليه ويعلق الأخرى ولا يضعها على الأرض وإن وضعها وضعها وضعا خفيفا مخافة أن تخسف به.
محترس من مثله وهو حارس.
الحرس والحراسة تقدم. وتقول: احترست منه وتحرست إذا تحفظت. وهذا المثل يضرب لمن يعيب الخبيث وهذا أخبث منه.
واصله شعر عبد الله بن همام يقول لرجل كان على شرط الكوفة للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي يقال له الحمارس وهو:
أقلي علي اللوم يا ابنة مالك ... وذمي زمانا ساد فيه الحمارس
فساع من السلطان يسعى عليهم ... ومحترس ومن مثله وهو حارس

وكم قائل: ما بال مثلك راجلا؟ ... فقلت له: من أجل أنك فارس
إذا لم يكن صدر المجالس سيد ... فلا خير فيمن صدرته المجالس
و يروى: وذمي زمانا ساد فيه الفلاقس وهو جمع فلنقس. والفلنقس من أمة عربية وأبوه مولى. وقيل من أبواه عربيان وجدتاه أمتان. وقيل من أبواه موليان معا.

أحرص من نملة.
الحرص: الجشع يقال حرص يحرص كضرب يضرب وحرص يحرص كسمع يسمع حرصا. والنملة واحدة النمل وهو معروف. يقال إنّه ليس في الحيوانات من يحتكر الإنسان والعقعق والنمل والفأر. والنمل عظيم الاحتياط في الاحتكار. يقال إنّه إذا احتكر ما يخاف عليه أن ينبت قسمه نصفين وإذا خاف العفن على الحبوب أخرجه إلى ظاهر الأرض فنشره. وأكثر ما يفعل ذلك ليلا بضوء القمر.
حرق عليه الأرم.
الحرق: البرد. يقال: حرق الشيء يحرقه كقتله يقتله إذ برده وحك بعضه ببعض وحرق نابه يحرقه: حكه بأسنانه حتى سمع له صريف والأرم بضم الهمزة وفتح الراء المشدد على مثال ركع الأسنان أو أطراف الأصابع. والأرم أيضاً الحصا فيقال: فلان يحرق عليك الأرم أي تغيظ وأشتد غيظه. قال الراجز:
نبئت أحماء سليمى إنّما ... باتوا غضابا يحرقون الأرما
وقال زهير في معناه:
أبى الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله
وقال الآخر:
يلوك من حرد عليك الأرما
أي يعلك أسنانه أو أصابعه. وقد قيل: الأرم هنا الشفاه ويحتمل الحصى وكل ذلك صحيح لأنّه يكون من شأن المتغيظ كما كان عد الحصى شأن الهموم في قول امرئ القيس:
ظلت ردائي فوق رأسي قاعدا ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي
و سميت الاسنان أرما من الأرم وهو الأكل إذ بها يكون. يقال: أرم ما على المائدة إذا اكله فلم يبق منه شيئاً. وهذا المثل هو مثل المثل الآتي: فلان يكسر عليك الفوق والأرعاظ.
حرك خشاشه.
التحريك معروف والخشاش بكسر الخاء المعجمة ما يدخل في عظم أنف البعير من خشب وهو إذا حرك تضرر البعير بذلك فيقال: حركت خشاش فلان أي فعلت به فعلا يؤذيه ويغضبه. ويطلق الخشاش أيضاً على الغضب نفسه وعلى معان أخرى لا تناسب المحل.
وأما الخشاش بمعنى الحشرات فمثلث الأول.
حرك لها حوارها تحن.
الحوار بضم الحاء على وزن أوار ولد الناقة قبل أن يفصل وتقدم الحنين الشوق. يقال: حن إليه يحن بالكسر فهو حان وحنان إذا تاقت إليه نفسه. وهذا المثل قاله عمرو بن العاصي لمعاوية رحمهما الله حين أراد أن يستنصر بأهل الشام. وهو مثل المثل السابق: الإيناس قبل الابساس. وفي كلام أبي الوليد بن زيدون يخاطب أبن جهور: فما أبسست بك إلاّ لتدر وحركت لك الحور إلاّ لتحن.
حزت حازة من كوعها.
يضرب في اشتغال القوم بأمرهم عن غيره. ولم اقف له على أصل.
أحزم من الحرباء.
الحزم ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة. حزم الرجل بالضم يحزم حرامة فهو حازم وهم حزمة وحزماء والحرباء على مثال علباء والأنثى حرباءة والألف للإلحاق بالقرطاس: دويبة برية لها سنام يشبه سنام البعير وهي تستقبل الشمس أبداً بعينها وتدور معها كيف ما دارت قال كعب بن زهير رضي الله عنه:
يوم يظل به الحرباء مصطخدا ... كأن ضاحية بالشمس مملول
وقال أبن الرومي:
ما ذاك إلاّ إنّها شمس الضحى ... أبداً يكون رقيبها الحرباء
قيل: ويتلون بألوان من صفرة وحمرة وخضرة كما قال الشاعر:
وقد جعل الحرباء يصفر لونه ... ويخضر من لفح الهجير غباغبه
و يوصف بالحزم والتحفظ، وذلك إنّه لا يزال متمسكا بأصل الشجرة، فلا يرسله حتى يستمسك بآخر.
قال الشاعر:
إني أتيح له حرباء تنضبةٍ ... لا يرسل الساق إلاّ ممسكا ساقا
أي لا يرسل ساقا من شجرة إلاّ في حالة إمساكه ساقاً آخر. والتنضبة شجر يتعلق به الحرباء. فهو مضاف إليه، كما تقول ذئب غضا.
ويروى أنَّ رجلا خاصم أبن عمه إلى معاوية، رضي الله عنه، فلما سمع حججه قال له: أنت كما قال الشاعر، وانشد البيت المذكور، وضربه مثلا لمّا هو فيه من اللدد والاحتجاج، بحيث لا يرسل حجة إلاّ متمسك بأخرى.
أحزم من عقابٍ.

الحزم مر؛ والعقاب تقدم في حرب الباء أيضاً، وهو يوصف بالحزم. وقالوا: من حزمه إنّه يخرج من بيضته على جبل عال، ولا يتحرك من مكانه ذلك حتى ينبت ريشه جميعا ويتكامل ولو تحرك قبل ذلك سقط.
أذكر في هذا المعنى ما أخبر صاحب التشوف في ترجمة الشيخ أبي مهدي الدغوغي، رحمهما الله ونفعنا بهما، قال: حدثني داود بن الخالق حدثني وين الخير قال: كنت بمسجد أبي مهدي ادرس القرآن. فكان يقعد عندي ويدلني على طريق الآخرة. فجاءه ليلة بعض إخوانه. فلما صلينا العتمة تأخرا في المسجد إلى إنَّ انصرف الناس.فخرجنا من أحد أبواب المسجد، فشدا على أنفسهما أثوابهما وتلثما. فرأيتهما وثبا من الأرض كهيئة الغرانيق الثقيلة تطير على وجه الأرض. ومازالا يعلوان في الهواء إلى أنَّ غابا عني، فانكسرت انكسارا عظيما ونالتني حسرة القصور عن أحوال الرجال، وتكاسلت عن القرآن، وبقيت مفكرا طول ليلتي. فلما كان وقت صلاة الصبح صلى معنا أبو مهدي مع صاحبه صلاة الصبح. ثم جاء وقعد عندي على عادته، فرآني منكسرا متكاسلا عن القرآن، فقال: مالك لا تقرأ؟ فسكت. فقال: لعلك رأيتني البارحة؟ فهملت عيناي بالدموع، فقلت له: رأيتكما وأريد أن أصحبكما إذا ذهبتما. فقال لي: يا بني إنَّ الفرخ إذا نبت رغبه لم يطر مع الطير حتى يكمل نبات ريشه! قال. فلما كان ذات ليلة قال لي: اذهب إلى فلان في بلد تانوريت وهو بلد بني سمائل وقل له يأتيني لأصلي معه الصبح الآن، وبينهما مسيرة يومين، وقد قرب طلوع الفجر! قال. قلت في نفسي: كيف يمكن هذا؟ ثم تذكرت أحواله، فمشيت وتبعني ووادعني ورجع. فمشيت قليلا وأدركني شبه السنة، فما شعرت إلاّ وأنا أعاين مسجد تانوريت. فخرج إلي منه رجل فقال: بعثك إلي شيخ أبو مهدي؟ فقلت له نعم: وامرني أن أعلمك أن تصلي معه بمسجده الآن صلاة الصبح. فقال لي: تقدم! ودار حول المسجد، وغاب عني، وانقلبت راجعا. فأصابني أيضاً شبه السنة، فإذا أنا على قرب من مسجد أبي مهدي. فدخلت المسجد، فوجدت أبا مهدي وصاحبه يتحدثان وقد صليا صلاة الصبح. فصليت وظننت أني قد لحقت بالشيخ فأتيته. فقال لي: يا بني! أرأيت بعض ما يرى الرجال؟ فقلت له: يا سيدي، عسى أنَّ أصحبك في مسيرك إذ سرت طار الطائر الصغير قبل استكمال نبات ريشه مع الطائر الوافر الريش، فإنما يسير ميلين ويسقط في القفر، فيلتقطه الرعيان. وإنَّ جاء الرجال ليصلون إلى موضع لو طار الطائر إلى إنَّ يسقط ريشه وينبت آخر فطار حتى يسقط فينبت آخر، فطار حتى يسقط فينبت آخر، وما وصل موصل عباد الله الصالحين في طرفة عين.

أحزم من قرلى.
ويقال أيضاً: أحذر من قرلى؛ ويقال أيضاً: احزم أو أحذر من قرلى، إنَّ رأى خيرا تدلى، وإنَّ رأى شراً تولى أو تعلى.
الحزم تقدم، وكذا الحذر. والقرلى بكسر القاف والراء، وبعد اللام ألف مقصورة، ويحكى أيضاً في القاف التثليث، طائر شديد الحذر، ولا يرى إلاّ على وجه الماء على جانب يهوي بإحدى عينيه إلى الماء طعماً ويرفع الأخرى حذراً. فإنَّ رأى في الماء ما يصاد من السمك، أنقض عليه انقضاض السهم؛ وإنَّ رأى جارحا ذهب. ومن ثم: يقال: إنَّ رأى خيراً تدلى أي إلى الماء، وإنَّ رأى شرا أي ما يخافه تولى فراراً منه. وقيل: إنَّ قرلى في هذا المثل رجل من العرب كان لا يفوته طعام أحد، فحيثما كان الطعام في ناحية توجه إليه؛ غير إنّه إنَّ صادف في طريقه خصوما مثلا ترك ذلك الطريق ولم يمر به. ومن ثم قالوا: اطمع من قرلي،و المراد به هذا الرجل. قيل: ويمكن إنَّ يكون هذا الرجل شبه بهذا الطائر، وسمي باسمه.
حسبك من شر سماعه.
يقال: احسبني الشيء يحسبني إحسابا، فهو محسب، أي كفاني. قال الشاعر:
إذا ما رأى في الناس حسنا يفوقها ... وفيهن حسن لو تأملت محسب
وقال الأخر:
وتقفي وليد الحي إنَّ كان جائعا ... وتحسبه إنَّ كان ليس بجائع
وقالت الخنساء:
يكبون العشار لمن أتاهم ... إذا لم تحسب المائة الوليدا
و هذا الشيء حساب، أي كافٍ. قال تعالى: )عطاء حسابنا(. وحسبك درهم، أي يكفيك. قال تعالى: )حسبك الله(. وقال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء واشتقت العصا ... فحسبك والضحك سيف مهند!
أي يكفيك ويكفي الضحاك.
وقال امرؤ القيس:
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وري

و هذا الشعر ينسبه الناس لامرئ القيس، وهو في ديوانه وقبله:
ألا إلاّ تكن ابل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي
وجاد لها الربيع بواقصاتٍ ... فآرام وجاد لها الولي
إذا مشت حوالبها أرنت ... كأن القوم صبحهم نعي
فتوسع أهلها أقطا وسمنا ... وحسبك من غنى وشبع وري
و سبب قوله ذلك أنَّ بني النبهان، لمّا لم يقدروا أنَّ يفتكوا له إبله التي أخذتها جذيلة وأخذت منهم رواحله التي ركبوها في رد الإبل، استحيوا من ذلك فوهبوا له المعزى التي وصفها. وكان الأصمعي ينكر نسبة هذا الشعر لامرئ القيس ويقول: امرؤ القيس لا يقول مثل هذا، واحسبه للحطيئة. وسبب إنكاره قوله: وحسبك من غنى شبع وري، فإن هذا مناف لحال امرئ القيس ولمّا كان يقول في شعره من أنَّ مطلوبه الملك، لا ما دونه، كقوله:
ولو إنّما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
قلت: وأنت خبير بأنه، مع حالته هذه، لا بعد في أنَّ يقول لوجهين: أحدهما أنَّ يقوله استهزاء ببني نبهان، حيث أغير عليه في جوارهم، ثم ركبوا رواحله في رد إبله، فانتزعت منهم زيادة على ما ذهب من الإبل ، فوقعوا في هوان عظيم وذله وصغار. ثم لم ينتصروا وجعلوا يعطونه معزى عن الإبل العكر والرواحل النجب، فعظم أمر المعزى ضحكا منهم، وذلك هجاهم حيث يقول:
فدع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديثا ما حديث الرواحل!
كأن دثار حلقت بلبونه ... عقاب تنوفى لا عقاب القواعل
وأعجبني مشي الخزقة خالدٍ ... كمشي أتان حلئت في المناهل
خالد هذا هو الذي مشى في ردها فانتزعت منه الرواحل.
الثاني إنَّ يريد ظاهره، وهو إنّها كافية، قائمة مقام الإبل الذاهبة شبعا وريا. ولا يعني إنَّ ذلك منيته وبغيته من الدنيا، وإنَّ ذلك كاف من يطلب العيش، ولا يعني نفسه.
وقال نصيب:
وقال رجال: حسبه من طلابها ... فقلت: كذبتم ليس لي دونها حسب!
و قبل هذا البيت قوله:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إنَّ تمثيلنا ملك القلب
وقل: إنَّ ننل بالود منك محبة ... فلا مثل ما لاقيت في حبكم حب
وقل في تجنيها: لك الذنب إنّما ... عتابك من عاتبت فيما له عتب
فمن شاء رام الصرم أوقال ظالما ... لذي وده ذنب وليس له ذنب
خليلي من كعب ألما هيتما ... بزينب لا تفقدكما أبدا كعب
من اليوم زوارها فإن ركبنا ... غداة غدٍ عنها وعن أهلها نكب
وقولا لها: يا أم عثمان خلتي ... أسلم لنا في حبنا أنت أم حرب؟
وقال رجال: حسبه من طلابها " البيت " وكان جرير يقول: " وددت أني سبقت أبن السوداء إلى هذه الأبيات! " يعني نصيبا.
وقال الأعرابي:
وحسبك من خمر يفوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمر!
و لهذا الشعر حطاية ظريفة عن بعض أصحاب الأصمعي قال: ما رأيت كأعرابي وقف علينا وسلم وقال: أيكم الأصمعي؟ فقال له: هاأنا ذا! قال: أنت الذي يزعم هؤلاء انك أعرفهم بالشعر؟ قال: فمن هو اعلم مني؟ قال: أنشدوني من شعر أهل الحضر حتى أريه من شعرنا، فأنشده شعراً قيل في مسلمة بن عبد الملك:
أمسلم أنت البحر إنَّ جاء واردٌ ... وليث إذا ما الحرب طار عقابها
وأنت كسيف الهندواني إنَّ غدت ... حوادث من حرب يعب عبابها
ولا خلقت أكرومة في امرئ له ... ولا غاية إلاّ إليك مآبها
كأنك ديدان عليها موكل ... بها وعلى كفيك يجري حسابها
إليك رحلنا العيس إذ لم نجد لها ... أخاثقةٍ يجرى لديه ثوابها
فتبسم الأعرابي وهز رأسه، فظننا إنّه استحسن الشعر، ثم قال: هذا شعر مهلهل النسج، خطؤه من صوابه: تشبهون الملك بالأسد، والأسد أبخر قبيح المنظر، وبالبحر، والبحر مر صعب، وبالسيف، وربما خان ونبا. هلا أنشدتموني كما قال صبي منا؟ فقال له الأصمعي: ما قال؟ فأنشد:
إذا سألت الورى عن كل مكرمةٍ ... لم يعز أكرمها إلاّ إلى الهول
فتى جواد أذاب المال نائله ... فالنيل يشكوا لديه كثرة النيل
والموت يكره إنَّ يلقى منيته ... في كره عند لف الخيل بالخيل

لو زاحم الشمس أبقى كاسفة ... أو زاحم الصم ألجاها إلى الميل
أمضى من النجم إنَّ نابته نائبةٌ ... وعند أعدائه أجرى من السيلِ
يقصر المجد عنه في مكارمه ... كما يقصر عن أفعاله قولي
قال اللراوي: فبهتنا والله بما رأينا. فتأنى قليلا ثم قال: ألا تنشدني يا أصمعي شعرا ترتاح إليه النفس؟ فأنشدته قول عدي بن الرقاع:
وناعمةٍ تجلو بعود أراكةٍ ... مؤشرةٍ يسبي المعانق طيبها
كأن بها خمراً بماء غمامةٍ ... إذا ارتشفت بعد المنام غروبها
أراك إلى نجد تحن وإنما ... هوى كل نفسٍ حيث كان حبيبها
فتبسم الأعرابي وقال: هذا قريب من الأول. ألا أنشدتني كما قلت:
تعلقتها بكراً وعلقت حبها ... وقلبي من كل الورى فارغٌ بكرُ
إذا احتجبت لم يكفك البدر فقدها ... وتكفيك فقد البدر إن حجب البدرُ
وما الصبر عنها إن صبرت وجدته ... جميلاً ولا في مثلها يحسن الصبرُ
وحسبك من خمر يفوتك ريقها ... ووالله ما من ريقها حسبك الخمرُ
ولو أنَّ جلد الذر لامس جلدها ... لكان للمس الذر في جلها أثرُ
ولو لم يكن للبدر ضداً جمالها ... وتفضله في حسنها لصفا البدرُ
قال: الراوي: فقال لنا الأصمعي: اكتبوا ما سمعتم ولو بأطراف المدى في رقاق الأكباد! انتهى.
ويقال أيضاً: حسبك بكذا. قال أبو تمام:
نامت همومي عني حين قات لها: ... حسبي أبو دلفٍ حبي به وكفى!
وقال العباس بن الأحنف:
إن كان يرضيكم عذابي وأن ... أموت بالهجران والكربِ
فالسمع والطاعة مني لكم ... حسبي بما ترضون لي حسبي
و الشر ضد الخير؛أنَّ الشر يكفيك منه سماعه وإن لم تعاينه إما على معنى أنَّ الشر من شناعته وقبحه يتبين بسماعه وإن لم تعانيه؛ أو أنه يحصل لك اتهام ما به من مجرد سماعه وإن لم تقدم عليه ولا انتسبت إليه؛ أو يكفي فيما انتسب إليك من الشر سماع الناس له وإن لم يعانوه. وهذا ما ذكر أبو عبيد أنَّ هذا المثل يضرب فيما يحذر من العار والعيب والمقالة السوء وإن كانت باطلا كقول الآخر:
قد فيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟
و إما على معنى الأمر أي: اكتف من الشر بسماعه ولا تعانيه والله أعلم.
والمثل لأم الربيع بن زياد العبسي وكان ابنها الربيع أخذ من قيس بن زهير درعا فعرض قيس لأم الربيع وهي على راحلتها في طريق فأراد أن يقبضها في الدرع فقالت: أين عزب عنك عقلك يا قيس؟ أترى بني زياد مصالحيك وقد ذهبت بأمهم يمينا وشمالا وقال الناس ما قالوا؟ إنَّ حسبك من شر سماعه. فذهبت كلمتها مثلا.
وقالت عاتكة بنت عبد المطلب من شعراء الحماسة:
سائل بنا في قومنا ... وليكف من شر سماعه
قيساً وما جمعوا لنا ... في مجمع باقٍ شناعه
و بعده:
فيه السنور والقنا ... والكبش ملتمع قناعه
بعكاظ يعيش الناظر ... ين إذا هم لمحوا شعاعه
فيه قتلنا مالكاً ... قسراً وأسلمه رعاعه
ومجندلاً غادرنه ... بالقاع تنهشه ضباعه
تصف بهذا الكلام حرب الفجار بين قريش بعكاظ. وأرادت بقولها: وليكف من شر سماعه: أنا أوقعنا بهم من الشر ما ظاهر غني عن السؤال عنه والأخبار به.
تحسبها حمقاء وهي باخسٌ.
تقول: حسبت زيدا عالما بالكسر أحسبه وأحسبه محسبة ومحسبه وحسباناً بالكسر إذا ظننته؛ والحمقاء مؤنث الأحمق؛ والباخس من البخس وهو النقص والظلم. يقال: بخسه حقه يبخسه بخسا فهو باخس وهي باخسة وباخس أيضاً. وورد به المثل وهو جائز كما قالوا: ناقة بازل ومغذ في السير وحائل. ومن شاء أن يؤنث في المثل أنث وهو الأصل.
و أصل هذا المثل أنَّ رجلا خلط بماله مال امرأة يظنها حمقاء فطمع فيها. فلما تقاسما أخذت جميع حقها ثم لم ترض بذلك فشكته حتى افتدى منها من المال بما أحبت. ثم إنَّ الناس ظنوا إنّه يغبنها فلاموه وقالوا له: كيف تخدع امرأة؟ فقال عند ذلك: تحسبها حمقاء وهي باخس أي ظالمة فذهبت مثلا يضرب في الرجل يتباله أو يطيل الصمت حتى يظن به التغفل وهو ذو دهاء ومكر. ونحوه قولهم: مخرنبق لينباع كما يأتي:

أحس وذق!

الحسو الشربي. تقول: حسا الرجل المرق يحسوه إذا شربه شيئا بعد شيء. وكذا تحساه. وحسا الطائر الماء يحسوه. قيل: ولا يقال شربه؛ والذوق معروف. والمثل يقال لمن تعرض للمكروه فوقع فيه ومعناه ظاهر.

الحسن أحمر.
الحسن: الجمال وهو معروف؛ والحمرة معروفة. ويريد بهذا المثل أنَّ من أراد الحسن صبر على أشياء يكرهها.
محسنةٌ فهيلي!
الإحسان في الفعل ونحوه ضد الإساءة؛ والهيل التفريغ والصب. يقال: هال عليه التراب يهيله هيلا وأهاله إهالة إذا صبه. وكل شيء صبه من غير كيل فقد هاله.
قيل: وأصل المثل أنَّ الهائلة بنت منقذ من بني عمرو بن سعد بن زيد مناة أم جساس بن مرة وهي أخت البسوس بنت منقذ التي كانت الحرب عليها بين وائل أربعين سنة ورد عليها ضيف ومعه جراب فيه دقيق. فقامت الهائلة وأخذت وعاء عندها كان فيه دقيق لتأخذ من وعاء الضيف دقيقا. فجاء الضيف فلما بصرت به جعلت تأخذ من وعائها فتهيل في وعاء الضيف. فقال: ما تصنعين؟ فقالت: أهيل من هذا في هذا. فقال:
محسنة فهيلي!
فسميت الهائلة بذلك وذهب قوله مثلا يضرب في استقامة الأمر قاله أبو عبيد. وقال غيره: يضرب للرجل يسيء في فعل فعله فيؤمر بذلك على سبيل الهزء به وهذا أظهر وأنسب بالأصل المذكور. نعم! يمكن أن ينقل إلى الجد حتى يقال للرجل يحسن حقيقة على وجه الاستزادة من فعله.
أحسن من طاووس.
الحسن مر؛ والطاووس على وزن قابوس طائر معروف بديع الشكل رائق الحسن وفي طبعه مع ذلك الزهو والخيلاء والإعجاب بريشه. وكان يقال: إنَّ الطاووس في الطير كالفرس في الدواب عزا وحسنا. وقال بعض الرجاز في وصفه:
سبحان من مِن خلقه الطاووس ... طير على أشكاله رئيسُ!
كأنه في نفسه عروس ... في الريش منه ركبت فلوسُ
تشرق في داراتها شموس ... في الرأس منه شجر مغروسُ
كأنه بنفسج يميس ... أو هو زهر جرم ينوسُ
أحشك وتروثني!
الحشيش ما يبس من الكلأ؛ وحششته أنا: قطعته؛ وحششت الفرس: ألقيت إليه الحشيش؛ والروث معروف. يقال: راثت الدابة تروث روثا. وهذا المثل يضرب لمن أحسنت إليه فأساء إليك. فانه قد صار بمنزلة الفرس إذا ألقيت إليه الحشيش فلطخك بروثه. وهذا ظاهر.
أحشفاً وسوء كيلةٍ؟
الحشف بفتحتين أردأ التمر. قال امرؤ القيس:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
و كليلة بكسر الكاف الهيئة من الكيل. يقال: كال له الطعام، وكاله إياه كيلا؛ وكال كيلة واحدة بالفتح وكيلة حسنة أو قبيحة بالكسر ومعنى المثل: أتجمع على أنَّ تعطيني حشفا وتكيل لي سيئة؟ ويضرب للأمر يكره من جهتين. وكان أصله إنَّ رجلاص اشترى تمرا من عند آخر فأتاه بتمر رديء، ثم أساء له الكيل مع ذلك، فقال له ذلك.
احطط عن راحلتك فقد بلغت!
الحفائظ تحلل الأحقاد.
الحفائظ جمع حفيظة، وهو الغضب والحمية، والأحقاد جمع حقود والمعنى انك إذا رأيت حميك وقريب يظلم، وفي قلبك عليه ضغن، دعتك الحمية إلى نصره وزال عن قلبك ما فيه من بغضه، كما قال الشاعر:
أخوك الذي لا تملك الحس نفسه ... وترفض عند المحفظات الكتائف
و سيأتي زيادة في هذا المعنى.
الحق أبلج، والباطل لجلج.
الحق خلاف الباطل؛ والأبلج الواضح، ويقال الصبح بالفتح يبلج بالضم بلوجاء، وبلجت الشيء فتحته وأوضحته؛ وصبح أبلج: مشرق ومضيء. قال الراجز: حتى بدت أعناق صبح أبلجا.
وكذا الحق أبلج أي واضح ظاهر لا التباس به؛ واللجلجة والتلجيج: التردد في الكلام. ويقال: تلجلجت اللقمة في حلقه، أي ترددت ولم تنسغ. قال زهير:
تلجلج مضغة فيها أنيض ... أصلت فهي تحت الكشح داء
و المعنى إنَّ الباطل يردد من غير إنَّ ينفذ، وهو ظاهر.
تحقره وينتأ!
الحقر: الإذلال تقول: حقرت الرجل حقرا كضربته ضربا وحقرته تحقيرا، واحتقرته واستحقرته؛ وتقول: حقر الرجل كجلس وحقر يحقر ككرم إذا ذل والنتوء: الارتفاع، وتقول: نتأ الشيء ينتأ وتنوءاً إذا انتفخ وارتفع وقد تقول: نتأ ينتو، بغير همز. ومعنى المثل انك تحقره وتزدريه لسكونه، وهو يرتفع ويخادعك. وهذا مثل المثل السابق: تحسبها حمقاء وهي باخس.
حقك أخذت.
تقدم في كلام الضب مع الأرنب والثعلب وهو ظاهر المعنى.

تحككت العقرب بالأفعى.
الحك معروف، حككت الشيء، وحككن الشيء بالشيء، وتحاك الشيئان: حك كل منهما صاحبه، واحتككت بهذا الشيء: حككت نفسي عليه، وفلان يتحكك بي: يتعرض لشري؛ والعقرب معروف، يذكر ويؤنث، والأنثى منه عقرباء بالمد غير مصروف وعقربة والذكر عقربان. قال الشاعر:
كأن مرعى أمكم إذ غدت ... عقربة يكومها عقربان
و مرعى اسم الأم ويكومها ينزو عليها. والأفعى حية خبيثة. قال الراجز:
كأن صوت شخبها المرفض ... كشيش أفعى أجمعت لعض
و الذكر افعوان بضم الهمزة والعين قال الراجز:
قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما
و مغنى تحكك العقرب بالأفعى لصقت بها وحلقت حواليها أو تعرضت لشرها. يضرب لمن يصارع أو ينازع أو يخاصم من هو أقوى منه أو يتشبه بغيره ويحكي فعله ولا يقوى قوته.
احتك حكم الصبي على أهله!
الحكم: القضاء، ويقال: حكمت عليه بكذا حكما. وتقول: حكمته تحكيما إذا أذنت له أنَّ يحكم، فتحتم هو واحتكم. ولما كان الصبي مقبولا ما حكم به على أهله، ومسموعا ما طلب منهم، ومغتفرا ما تحامل به عليهم، ضرب الناس بحمه المثل في الناس كل من تسمع مقالته، ويتحمل انبساطه عليك، وتغفر دالته. كان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له: انك قد اخترتني جاراً، واخترت داري داراً، فجناية يدك على دونك، فإن جنت يد فأحتكم علي حكم الصبي على أهله! وقال الشاعر:
ولا تحكما حكم الصبي فأنه ... كثير على ظهر الطريق مجاهله
و من كلام أبي بكر بن القبرطانة يحق لي أنَّ أذهب شططا، وأتكلم منبسطا، وأبين غرضي كله ومذهبي، وأحتكم على مكارمه تحكم الصبي، وأبلغ بك كل أمل وأرب، وأملأ دلوي في رجائك إلى عقد الكرب. وأشار بهذا الأخير إلى قول القائل:
من يساجلني ماجداً ... يملا الدلو إلى عقد الكرب
أحكى من قردٍ.
يقال: حكيت الحديث وحكوته بالياء والواو ذكرته وحكيته عن فلان: نقلته عنه، وحاكيت قلانا وفعلت مثل فعله؛ والقرد بكسر القاف وسكون الراء معروف جمعه أقراد وقرود وقرد. وهذا الحيوان مع قبحه في الغاية من الإلهام والحذق بمحاكاة غيره وبالحرف وغيرها: فهو يعلم الخياطة والصياغة وغير ذلك؛ ويعلم حفظ الأمتعة وحراسة الحوانيت ونحوها؛ ويحاكي الإنسان في جميع أفعاله ما خلا النطق كما قال أبو الطيب:
يريدون شأوي في كلام وإنّما ... يحاكي الفتى في ما خلا المنطق القرد
حلأت حالئه عن كوعها.
يقال: خلا الجلد، بالفتح يحلؤه إذا قشرته أو إذا نزع تحليئه، والتحليء ما أفسده السكين من الجلد أو ما يبقى من الصفاق على باطنه عند السلخ؛ والكوع: رأس الزند الذي يلي الإبهام؛ والكرسوع: رأس الزند الذي يلي الخنصر.
ومعنى المثل أنَّ المرأة إذا حلأت الأديم، فإنَّ رفقت سلمت وإنَّ خرقت قطعت بالشفرة كوعها. فيضرب غي حذر الإنسان على نفسه.
أحلبت أم أجلبت
؟
يقال: أحلب الرجل بالحاء المهملة إذا ولدت إبله إناثا لأنها تحلب، وأجلب بالجيم إذا ولدت ابله ذكوراً لأن أولادها تجلب إلى السوق فتباع.
حلبت صرام.
الحلب بالتسكين استخراج ما في الضرع من اللبن حلب الشاة بالفتح يحلبها حلبا؛ وصرام على مثال غراب آخر اللبن بعد التغريز يحتاج إليه الرجل فيحلبه ضرورة. فضرب ذلك مثلا لاستخراج آخر ما في النفس، فإذا قيل: حلبت صرام، فكأنه قيل: بلغ العر آخره. قال الشاعر:
ألا أبلغ بني سعد رسولا ... ومولاهم فقد حلبت صرام
و الصرام أيضاً اسم من أسماء الحرب والداهية.
لتحلبنها مصرا!
الحلب تقدم؛ والمصر بالفتح والسكون حلب جميع ما في الضرع حتى لا يبقى شيء. والتمضر حلب بقايا اللبن. وشاة أو الناقة مصور بطيئة خروج اللبن. وهذا المثل يضرب في توعد العدو، وكأنك تقول له: انك لا تنال مني شيئاً، وإنّما أنت بمنزله من يحلب الشاه الممصورة فوضعت المصدر موضع المفعول أي: لتحلبنها ممصورة لا لبن فيها كما يقال: ضرب الأمير.
حلف له بالمحرجات.
الحلف معروف يقال: حلف بالفتح يحلف حلفا بالكسر ككذب؛ والمحرجات: الأيمان الموقعة في الحرج وهو الإثم والضيق. ويقال: المحرجات الثلاث وهي الطلاق والعتاق والمشي إلى مكةز وقيل: هي الطلاق ثلاثا.
حلم الأديم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6