كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ


النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ إذْ ذَاكَ مَفْتُوحَةٌ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ إذْ ذَاكَ فِي الصِّغَرِ بِحَيْثُ قَدْ عُلِمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إسْرَاعِهِ فِي الْمَشْيِ بِحَيْثُ قَدْ عُلِمَ فَلَا يُمْكِنُهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَسْتَوُوا قِيَامًا إلَّا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَخْرَجَ عَنْ بِشْرِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَجُلٍ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَافِحُكُمْ إذَا لَقِيتُمُوهُ ؟ قَالَ : مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إلَّا صَافَحَنِي ، وَبَعَثَ إلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيَّ فَأَتَيْته ، وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ فَالْتَزَمَنِي وَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ أَيُّ شَيْءٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمُصَافَحَةِ وَالِالْتِزَامِ وَبَيْنَ الْقِيَامِ بَلْ فِيهِ التَّعَرُّضُ لِتَرْكِ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَيْتِ عَلَى السَّرِيرِ وَالْتَزَمَهُ إذْ ذَاكَ وَلَمْ يَقُمْ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ ، وَلَوْ كَانَ مَنْدُوبًا إذْ ذَاكَ لَفَعَلَهُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَرْمَيَيْنِ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ ( عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ انْتَهَى .
اُنْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ إلَى هَذَا الدَّلِيلِ مَا أَعْجَبَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ فَفَتَحَهُ لَهُ وَاعْتَنَقَهُ فَأَخَذَ هُوَ مِنْهُ الدَّلِيلَ لِلْقِيَامِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْقِيَامِ إلَى فَتْحِ الْبَابِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ غَائِبٌ قَدْ قَدِمَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُجِيزُونَ ذَلِكَ لِلْقَادِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي التَّقْسِيمِ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ أَيُّوبَ فَجَاءَ يُونُسُ فَقَالَ حَمَّادٌ قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ أَوْ قَالَ لِسَيِّدِنَا ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَتَاهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيُّ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ لَمَّا رَآهُ أَحْمَدُ وَثَبَ إلَيْهِ قَائِمًا وَأَكْرَمَهُ فَلَمَّا مَضَى قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ : يَا أَبَتِ أَبُو إبْرَاهِيمَ شَابٌّ عَمِلَ بِهِ هَذَا الْعَمَلَ وَتَقُومُ إلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : يَا بُنَيَّ لَا تُعَارِضْنِي فِي مِثْلِ هَذَا أَلَا أَقُومُ لِابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ قَالَ : قَامَ وَكِيعٌ لِسُفْيَانَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قِيَامَهُ فَقَالَ أَتُنْكِرُ عَلَيَّ قِيَامِي وَأَنْتَ حَدَّثْتَنِي عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى إجْلَالَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَأَخَذَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ إلَى جَانِبِهِ .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ : كُنْت عِنْدَ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَعْنِي الْحَافِي الزَّاهِدَ فَجَاءَ رَجُلٌ يُسَلِّمُ عَلَى بِشْرٍ فَقَامَ إلَيْهِ بِشْرٌ فَقُمْتُ لِقِيَامِهِ فَمَنَعَنِي مِنْ الْقِيَامِ ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ قَالَ لِي بِشْرٌ يَا بُنَيَّ تَدْرِي لِمَ مَنَعْتُكَ مِنْ الْقِيَامِ لَهُ ؟ قُلْتُ : لَا قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ ، وَكَانَ قِيَامُكَ لِقِيَامِي فَأَرَدْتُ أَنْ لَا تَكُونَ لَكَ

حَرَكَةٌ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي كِتَابِ آدَابِ الصُّحْبَةِ قَالَ : وَيَقُومُ لِإِخْوَانِهِ إذَا أَبْصَرَهُمْ مُقْبِلِينَ ، وَلَا يَقْعُدُ إلَّا بِقُعُودِهِمْ وَأَنْشَدُوا فَلَمَّا بَصُرْنَا بِهِ مُقْبِلًا حَلَلْنَا الْحَبَا وَابْتَدَرْنَا الْقِيَامَ فَلَا تُنْكِرُنَّ قِيَامِي لَهُ ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ يُجِلُّ الْكِرَامَ انْتَهَى .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْجُلَّةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ الْجَائِزِ الْمَنْدُوبِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا تَقَدَّمَ لَا عَلَى قَصْدِ قِيَامٍ لَيْسَ إلَّا ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعَ أَنَّ هَذَا الْعَالِمَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآثَارِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ أَنْكَرُوا عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَخْذِهِ بِعَمَلِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّهُمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، وَعِنْدَهُمْ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الشَّرِيعَةِ وَبَانَ مَا اُسْتُنْسِخَ وَمَا بَقِيَ وَقَلَّ أَنْ تَذْهَبَ عَنْهُمْ السُّنَنُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ الْقَرِيبِ ، وَمَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ كُلِّهَا وَأَكْثَرَ مِنْهَا أَكْثَرُوا النَّكِيرَ عَلَيْهِ وَشَدَّدُوا ، ثُمَّ يَأْتِي هَذَا الْعَالِمُ بَعْدَ إنْكَارِهِ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَ يَشْرَعُ النَّدْبَ فِي الْقِيَامِ بِفِعْلِ آحَادِ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلَعَلَّهَا لِأَعْذَارٍ وَقَعَتْ لَهُمْ إذْ ذَاكَ كَامِنَةٍ عِنْدَهُمْ بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ مَوْجُودَةٌ كَمَا أَبْدَيْنَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْهَضُ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ : الْقَاعِدَةُ الْأُولَى : آيَةٌ مُحْكَمَةٌ .
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَاسِخٍ ، وَلَا مُعَارِضٍ .
الْقَاعِدَةُ

الثَّالِثَةُ : إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ إجْمَاعُ أَكْثَرِهِمْ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى آيَةٍ مُحْكَمَةٍ أَوْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَاسِخٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْهَضُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلِ ، بَلْ وَقَعَ لِلْآحَادِ مِنْ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلَا يَنْهَضُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلِ فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ هَذَا الْقَائِلُ لِجَوَازِ ذَلِكَ بِعَمَلِ آحَادٍ مِنْ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا وَقَعَ النَّكِيرُ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَوْنِهِ يَتَشَرَّعُ بِعَمَلِهِمْ ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَشْرِيعٍ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَشْرِيعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي بَابِ الْمَنْدُوبِ ، وَبَابُ الْمَنْدُوبِ مَشْرُوعٌ ، وَلَوْ جَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ لَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا أَوْ سَلِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي سَعِيدٍ الْقَفَّاصِ قَالَ : النُّبَلَاءُ مِنْ الرِّجَالِ وَالْعُلَمَاءِ يَكْرَهُونَ قِيَامَ الرَّجُلِ لَهُمْ لِكَرَاهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مُبَاحٌ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَقُومَ لِلنَّاسِ انْتَهَى ، وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْقِيَامَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِكَرَاهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ مُبَاحٌ لِبَعْضِ النَّاسِ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقِيَامِ الْمَنْدُوبِ أَوْ الْجَائِزِ مَا تَقَرَّرَ فَافْهَمْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاكَ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ

اللَّهُ هَذَا مَا تَيَسَّرَ نَاجِزًا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ مِنْ التَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَبِأَمْرِهِ بِذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ وَبِتَقْرِيرِهِ حِينَ فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ وَمِنْ فِعْلِ جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَوَاطِنَ وَجِهَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَمِنْ جِهَةِ أَئِمَّةِ النَّاسِ فِي أَعْصَارِهِمْ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالزُّهْدِ انْتَهَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ حِينَ أُتِيَ بِهِ وَمَا الْمُرَادُ بِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لِلْجَوَازِ بَلْ لِلْمَنْعِ أَقْرَبُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ .
وَقَدْ عَمِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي عَمِلَهُ فِي إبَاحَةِ الْقِيَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِيمَا وَرَدَ مِنْ التَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ .
الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْقِيَامِ وَالْجَوَابِ عَنْهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مُسْتَوْفًى وَبَقِيَ الْفَصْلَانِ اللَّذَانِ بَعْدَهُ .

فَقَالَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مُسْلِمٌ لَا يُنَازَعُ فِيهِ إلَّا أَنَّ تَعْظِيمَ الْحُرُمَاتِ وَالشَّعَائِرِ قَدْ عُرِفَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ لِلْقِيَامِ فِيهَا مَجَالٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا مُسْلِمٌ ( عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ التِّرْمِذِيُّ .
( عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً وَمَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ انْتَهَى .
حَاصِلُهُ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ ، وَفِي نَفْسِهِ أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ عَلَى مَا قُرِّرَ قَبْلُ فَأَخَذَ يَسْتَدِلُّ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَتْرُكَ بِرَّ وَالِدِيهِ وَإِكْرَامَهُمَا بِالْقِيَامِ .
وَانْظُرْ هَلْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَتَى بِهَا فِي

تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ أَنَّ أَحَدًا قَامَ لِأَحَدٍ بَلْ نَزَّلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ فِي إجْلَاسِهِمْ وَفِي إطْعَامِهِمْ زَائِدًا عَلَى غَيْرِهِمْ فَنَمْتَثِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا وَرَدَ عَنْهُمْ فَلَوْ وَرَدَ عَنْهُمْ الْقِيَامُ لِأَشْرَافِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ لَاقْتَفَيْنَاهُ وَقَبِلْنَاهُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمْ الْقُدْوَةُ وَنَحْنُ الْأَتْبَاعُ وَمَا يُخَالِفُهُمْ إلَّا جَاحِدٌ أَوْ مُعَانِدٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُوَسَّعُ الْمَجَالِسُ إلَّا لِثَلَاثٍ لِذِي عِلْمٍ وَلِذِي سِنٍّ وَلِذِي سُلْطَانٍ انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا كَيْفَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا تُوَسَّعُ الْمَجَالِسُ إلَّا لِثَلَاثٍ وَلَمْ يَقُلْ لَا يُقَامُ إلَّا لِثَلَاثٍ فَيُحْمَلُ إكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ ، وَإِجْلَالُهُ وَبِرُّهُ عَلَى مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا عَلَى مَا يَخْطُرُ لَنَا مِنْ عَوَائِدِنَا الَّتِي اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا ، فَهَلْ يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى فِي تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ مَا نَفْعَلُهُ نَحْنُ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْقِيَامِ ، وَاحِدٌ نَقُومُ إلَيْهِ وَنَمْشِي إلَيْهِ خُطُوَاتٍ ، وَآخَرُ نَقُومُ إلَيْهِ لَيْسَ إلَّا ، وَآخَرُ نَقُومُ إلَيْهِ نِصْفَ قَوْمَةٍ ، وَآخَرُ رُبْعَ قَوْمَةٍ ، وَآخَرُ التَّحَرُّكَ مِنْ الْأَرْضِ ، وَآخَرُ لَا نَتَحَرَّكُ لَهُ إلَّا بِالْبَشَاشَةِ ، وَآخَرُ لَا بَشَاشَةَ وَلَا غَيْرَهَا ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اعْتِزَائِهِ إلَى صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ أَصْلًا بَلْ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ لِأَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ بَلْ لِأَحَدٍ مِنْ تَابِعِ التَّابِعِينَ ، وَشَيْءٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الْقُرُونِ فَإِطْرَاحُهُ يَتَعَيَّنُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَغَوِيّ ( قَدْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَائِمًا عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُ

السَّيْفُ وَالْمِغْفَرُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى .
اُنْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ وَإِيَّانَا لِهَذَا الْعَجَبِ كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِأَنَّ الْقِيَامَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ كَانَ خَادِمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ ، وَهُوَ الَّذِي يُخَاطِبُ قَبَائِلَ الْعَرَبِ وَيَذُبُّ عَنْهُ مَنْ أَرَادَ أَذِيَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْمُتَمَرِّدِينَ مِنْهُمْ ، وَهَذَا لَا يُنْكَرُ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْقِيَامِ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ بَلْ هُوَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُغِيرَةِ أَنْ يَقْعُدَ إذْ ذَاكَ وَيَتْرُكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْعَدُوِّ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ أَحَدٌ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الْوَاجِبِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لِلدَّاخِلِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، فَلَوْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ لَكَانَ أَقْرَبَ إذْ أَنَّ قِيَامَ الْمُغِيرَةِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا بَانَ أَنَّ الْقِيَامَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ مَضَتْ أَرْبَعَةٌ وَبَقِيَ الْخَامِسُ الَّذِي هُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ مِثْلُ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ .
هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى الْفَصْلِ الثَّانِي الَّذِي قَرَّرَهُ ، وَهُوَ تَنْزِيلُ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ .

وَبَقِيَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ الْقِيَامِ وَمَا أَجَابَ عَنْهُ .
فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ التِّرْمِذِيُّ : ( عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَتَرْجَمَ التِّرْمِذِيُّ لِهَذَا بَابُ كَرَاهَةِ قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ .
أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ ( خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ صَفْوَانَ حِينَ رَأَيَاهُ فَقَالَ : اجْلِسَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلَيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَتَرْجَمَ لَهُ بَابُ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلنَّاسِ .
أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَا فَقُمْنَا إلَيْهِ فَقَالَ : لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَقُومُ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَهَذَا مَا بَلَغَنَا فِي النَّهْيِ .
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ الْفِتْنَةَ بِإِفْرَاطِهِمْ فِي تَعْظِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَكَرِهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَهُمْ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَمْ يَكْرَهْ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بَلْ قَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامُوا لِغَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ

ذَلِكَ بَلْ أَقَرَّهُ وَأَمَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ الْقِيَامِ لِسَعْدٍ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ ، وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْوُدِّ وَالصَّفَاءِ مَا لَا يَحْتَمِلُ زِيَادَةً بِالْإِكْرَامِ بِالْقِيَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقِيَامِ مَقْصُودٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ فُرِضَ صَاحِبُ الْإِنْسَانِ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِيَامِ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَقَدْ أُولِعَ أَكْثَرُ النَّاسِ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْجَوَابِ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ الْأَصَحُّ وَالْأَوْلَى وَالْأَحْسَنُ بَلْ الَّذِي لَا حَاجَةَ إلَى مَا سِوَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ .
وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ الصَّرِيحَ الظَّاهِرَ مِنْهُ الزَّجْرُ الْأَكْبَرُ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْقِيَامِ بِنَهْيٍ وَلَا غَيْرِهِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْآتِي أَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَحَبَّةُ الْقِيَامِ .
وَلَا يُشْتَرَطُ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَخُطُورُ ذَلِكَ بِبَالِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَخْطُرُ ذَلِكَ بِبَالِهِ وَقَامُوا إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقُومُوا فَلَا ذَمَّ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَحَبَّ فَقَدْ ارْتَكَبَ التَّحْرِيمَ سَوَاءٌ قِيمَ لَهُ أَوْ لَمْ يُقَمْ ، فَمَدَارُ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمَحَبَّةِ ، وَلَا تَأْثِيرَ لِقِيَامِ الْقَائِمِ ، وَلَا نَهْيِهِ فِي حَقِّهِ بِحَالٍ ، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، فَإِنْ قَالَ : مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ بِأَنَّ قِيَامَ الْقَائِمِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ هَذَا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قُلْنَا هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ لَا يَسْتَحِقُّ سَائِلُهُ جَوَابًا .
فَإِنْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ قِيلَ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَبَّةِ فَحَسْبُ انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِنَظَرِ

الْإِنْصَافِ كَيْفَ قَرَّرَ أَحَادِيثَ النَّهْيِ وَصَحَّحَهَا ، ثُمَّ أَجَابَ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ وَفِيهِ مَا فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَّرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَقَامُوا بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكْرَهْ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ قَالَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى مَا ظَهَرُوا لَهُ وَاسْتَقَرَّ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَلَمْ يَكُنْ لِضَرُورَةٍ أَدَّتْ إلَيْهِ كَمَا قَدْ أَبْدَيْنَاهُ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَقُمْنَا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَيُّ إطْرَاءٍ فِي ذَلِكَ إنْ جَعَلْنَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَوَاحِدٍ مِنَّا لَمْ نَزِدْ لَهُ شَيْئًا فِي الْإِكْرَامِ فَلَوْ عُكِسَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَمْرُ فَقَالَ : لَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يَقُومُونَ ، وَلَا قَامَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ ، ثُمَّ قَامُوا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَهَاهُمْ لَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا مُسْتَقِيمًا إذْ أَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَخَالَفْنَا الْعَادَةَ الَّتِي يُعَامِلُ بَعْضُنَا بَعْضًا بِهَا وَزِدْنَا لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْخَوْفُ مِنْ الْإِطْرَاءِ ، وَأَمَّا إذَا عَامَلْنَاهُ مُعَامَلَةَ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ وَمُعَامَلَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَنَا فَهَذَا لَا يُقَالُ أَنَّ فِيهِ إطْرَاءً إذْ أَنَّا نَزَّلْنَاهُ مَنْزِلَةَ وَاحِدٍ مِنَّا فِي مُعَامَلَةِ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ وَمُعَامَلَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَنَا ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لِهَذَا السَّيِّدِ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوَقَعَنَا فِي مُخَالَفَةِ نَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَوْقِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ فَإِذَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَكُنَّا نَفْعَلُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ بَعْضُنَا مَعَ بَعْضٍ ، وَلَا نَفْعَلُهُ مَعَهُ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَكُونُ قَدْ ارْتَكَبْنَا النَّهْيَ مُصَادَمَةً إذْ أَنَّا تَرَكْنَا تَوْقِيرَهُ فِي ذَلِكَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ نَظُنَّ بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَيْفَ يَتَّفِقُ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِهِ بَلْ فِي هَذَا الْقَوْلِ خَطَرٌ عَظِيمٌ لَوْ تَأَمَّلَهُ هَذَا الْقَائِلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ، وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ أَلَا تَرَى إلَى جَوَابِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَنْ سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَتْ : كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ مَحْسُوسًا ظَاهِرًا بَيِّنًا فِي عَوَائِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعَامَلَتِهِ الْجَمِيلَةِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ .
وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِالْأَمْرِ بِتَوْقِيرِهِ فَكَيْفَ يَنْهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ شَيْءٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هَذَا أَمْرٌ لَا يُتَعَقَّلُ وَإِنَّمَا هِيَ عَادَةٌ اسْتَمَرَّتْ فَوَقَعَ الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا لِمُرُورِهَا ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو مِنْ الْغَفْلَةِ فَوَقَعَ مَا وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ لِلسُّنَّةِ فَبَعِيدَةٌ عَنْ مَنْصِبِ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ بِالْأَخْيَارِ مِنْهُمْ ، وَقَدْ وَرَدَ مَنْ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، فَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَاَللَّهُ يَعْفُو عَنْ الْجَمِيعِ ، إذْ لَوْلَا الْعَفْوُ مَا اسْتَحَقَّ أَحَدٌ النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ إلَّا مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّنْ قَدْ عَلِمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يَكُونُ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْقِيَامِ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَوَاضِعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء ، وَأَمَّا بَعْدَ الْإِنْزَالِ فَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ أَمْرٌ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ

التَّوْقِيرِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَذَا بَابٌ ضَيِّقٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْغَلَطِ وَالْغَفَلَاتِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تُفَضِّلُوا الْأَنْبِيَاءَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ، وَلَا فَخْرَ وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ آدَم فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي فَهَذِهِ أَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ كَمَا تَرَى وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا هُوَ أَنَّ حَدِيثَ الْمُسَاوَاةِ وَعَدَمِ التَّفْضِيلِ كَانَ قَبْلَ الْإِنْزَالِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَالْإِخْبَارِ لَهُ بِالْأَمْرِ ، وَأَحَادِيثُ التَّفْضِيلِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ لَهُ بِذَلِكَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أَعْنِي بِالتَّفْضِيلِ مِنْ غَيْرِ تَنْقِيصٍ يَلْحَقُ الْمَفْضُولَ كَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ بَلْ مَسْأَلَتُنَا آكَدُ وَأَوْلَى .
لِأَنَّ فِيهَا الْقُرْآنَ يُتْلَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ، وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ، ثُمَّ مَنَعَهُ وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ مُتَنَاقِضٌ .
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَغْشَانَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَجَاءَ يَوْمًا فِي وَسَطِ الْقَائِلَةِ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدٌ عَلَى السُّرَرِ فَقَالَ : مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إلَّا أَمْرٌ حَدَثَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي قَاعِدٌ عَلَى السَّرِيرِ فَوَسَّعَ لَهُ فِي السَّرِيرِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَقَالَ الصُّحْبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصُّحْبَةُ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ كَيْفَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَسَّعَ لَهُ وَلَمْ يَقُمْ وَكَانَ أَكْثَرَ

النَّاسِ بِرًّا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا وَتَعْظِيمًا وَتَرْفِيعًا وَتَوْقِيرًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ انْتَهَى فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذَا اللَّفْظِ مِنْ هَذَا السَّيِّدِ مَا أَعْجَبَهُ .
وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ مَا هَذَا لَفْظُهُ : قِيلَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالرَّجُلُ يَقُومُ لِلرَّجُلِ لَهُ الْفِقْهُ وَالْفَضْلُ فَيُجْلِسُهُ فِي مَجْلِسِهِ قَالَ يُكْرَهُ ذَلِكَ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَسِّعَ لَهُ قِيلَ لَهُ : فَالْمَرْأَةُ تُبَالِغُ فِي بِرِّ زَوْجِهَا فَتَلْقَاهُ فَتَنْزِعُ ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ وَتَقِفُ حَتَّى يَجْلِسَ قَالَ : أَمَّا تَلَقِّيهَا وَنَزْعُهَا ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ فَلَا بَأْسَ ، وَأَمَّا قِيَامُهَا حَتَّى يَجْلِسَ فَلَا ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ رُبَّمَا يَكُونُ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ ، فَإِذَا طَلَعَ قَامُوا إلَيْهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَيُقَالُ : إنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ أَوَّلَ مَا وَلِيَ حِينَ خَرَجَ إلَى النَّاسِ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ : إنْ تَقُومُوا نَقُمْ وَإِنْ تَقْعُدُوا نَقْعُدْ وَإِنَّمَا يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَيْفَ يَقُولُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ وَعَدَالَةُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَقَدُّمُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَشْهُورَةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَوَابِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَالْوَاجِبُ الْعُدُولُ عَنْهُ لِمَا وَرَدَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِدَّةِ تَوْقِيرِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَيْبَتِهِمْ لَهُ حَتَّى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَتَأَمَّلُوهُ ، وَلَا

يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْهُ قَطُّ حَيَاءً مِنْهُ وَتَعْظِيمًا لَهُ ، وَلَوْ قِيلَ لِي صِفْهُ لَمَا كِدْت ) انْتَهَى .
هَذَا قَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ مِنْ جُلَّةِ أَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُبَاسِطُهُمْ وَيَتَوَاضَعُ لَهُمْ وَيُؤَانِسُهُمْ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ ، وَلَا أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوضِحُهُ مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ رُكُوعِهِ الْفَجْرَ قَالَتْ : إنْ كُنْت مُسْتَيْقِظَةً قَالَ حَدِّثِينِي يَا حُمَيْرَاءُ ، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ بِالْأَرْضِ ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الصَّلَاةِ .
وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ خَرَجَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَمَا تَحَصَّلَ لَهُ مِنْ الْخَلْعِ وَالْقُرْبِ وَالتَّدَانِي فِي مُنَاجَاتِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ وَتِلَاوَتِهِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَكِلُّ اللِّسَانُ أَنْ يَصِفَ بَعْضَهَا لَمَا اسْتَطَاعَ بَشَرٌ أَنْ يَتَلَقَّاهُ .
وَلَا يُبَاشِرُهُ ، وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ فَيَتَحَدَّثُ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ يَضْطَجِعُ بِالْأَرْضِ حَتَّى يَحْصُلُ التَّأْنِيسُ بِجِنْسِهِمْ ، وَهُوَ حَدِيثُهُ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ جِنْسُ أَصْلِ الْخِلْقَةِ الَّتِي هِيَ الْأَرْضُ ، فَإِذَا تَحَصَّلَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ مَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَيْهِمْ ، وَأَمَّا قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ مُقَابَلَةَ تِلْكَ الْأَنْوَارِ الْجَلِيلَةِ ، وَلَا سَمَاعَ تِلْكَ

الْأَلْفَاظِ الْعَذْبَةِ الْمَعْدُومَةِ فِي غَيْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَيَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رِفْقًا بِهِمْ وَلِكَيْ يَتَوَصَّلَ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ عَنْ اللَّهِ أَحْكَامَهُ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا فَهَذَا التَّوْقِيرُ وَالْمَهَابَةُ حَاصِلٌ فِيهِمْ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ مِنْهُمْ كَثِيرًا بَلْ ذَلِكَ فِي أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ أَعْظَمُ مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهُ وَأَكْثَرُ .
أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ هَابَا الْكَلَامَ مَعَ قُرْبِهِمَا وَذُو الْيَدَيْنِ تَكَلَّمَ فَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَأَكَّدَ أَمْرُهُ مَعَهُ كَانَ أَكْثَرَ هَيْبَةً لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَكْثَرَ تَوْقِيرًا وَأَعْظَمَ احْتِرَامًا وَأَكْبَرَ إجْلَالًا ، وَإِذَا قُلْنَا أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَيَكُونُونَ قَدْ تَرَكُوهُ لِأَجْلِ قُرْبِهِمْ مِنْهُ فَتُعْطِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ كَانَ أَقَلَّ تَوْقِيرًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَجْلِ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْمَوَدَّةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْقِيرِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ يَكُونَ الصَّالِحُونَ وَالْأَوْلِيَاءُ أَقَلَّ تَوْقِيرًا مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَجْلِ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْمَوَدَّةِ ، وَهَذَا عَكْسُ مَا ظَهَرَ فِي الْوُجُودِ وَمَا اسْتَقَرَّ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ وَنَقْلِ الْأُمَّةِ عَنْ الْأُمَّةِ فَيَأْتِي عَلَى هَذَا الْجَوَابِ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَلْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَدْنَا اسْتِعْمَالَ الْأَدَبِ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْبَعِيدِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي دُخُولِهِ عَلَى مَالِكٍ وَقِصَّتِهِ مَعَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ

النَّاسِ إلَيْهِ كَانُوا كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ لِشِدَّةِ هَيْبَتِهِمْ لَهُ وَتَوْقِيرِهِمْ لِجَنَابِهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لِحُرْمَتِهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لِأَجْلِ بُعْدِهِ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا كَانَ لَهُمْ ، فَلَوْ عُكِسَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَمْرُ .
وَقَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ الصَّاحِبُ تَأَكَّدَتْ صُحْبَتُهُ ، وَلَا لَزِمَ أَمْرُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِيَامِ لَكَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ الْقَبُولِ مِنْهُ لِأَجْلِ أَنَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ازْدَادَ قُرْبًا إلَى اللَّهِ ، وَمَنْ ازْدَادَ قُرْبًا إلَى اللَّهِ ازْدَادَ إلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيرًا وَتَعْزِيرًا وَتَبْجِيلًا وَهَيْبَةً وَإِعْظَامًا وَإِجْلَالًا ، وَهَذَا مَوْجُودٌ مَحْسُوسٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ أَمْرٌ نَافِذٌ وَيَرْجِعُ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُنَفِّذُ تَجِدُ أَخْوَفَ النَّاسِ مِنْهُ وَأَهْيَبَهُمْ لَهُ وَأَوْقَرَهُمْ لِدِينِهِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَهُمْ إلَيْهِ ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ مُطَالَبُونَ بِآدَابٍ لَا يُطَالَبُ بِهَا غَيْرُهُمْ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ لِزِيَادَةِ خُصُوصِيَّتِهِمْ وَمَزِيَّتِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ ، فَإِذَا تَرَكُوا مِنْهَا شَيْئًا عُوقِبُوا عَلَى تَرْكِهَا وَيَتْرُكُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ ، وَلَا يُبَالُونَ فَلَا يُعَاقَبُونَ وَمَا ذَاكَ إلَّا ؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ أَقْوَى ، وَالْآدَابُ تُطْلَبُ مِنْهُ أَكْثَرَ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَدَّ رِجْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِيَسْتَرِيحَ ، ثُمَّ ضَمَّهَا مِنْ سَاعَتِهِ وَجَعَلَ يَسْتَغْفِرُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ : أَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا مُبَاحًا فَقَالَ : أَمَّا لَكُمْ فَنَعَمْ .
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاوَرَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ مُدَّةً لَمْ يَبُلْ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ وَلَمْ يَسْتَنِدْ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلْهَيْبَةِ الْقَائِمَةِ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ لِأَجْلِ قُرْبِهِ ، وَكَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَنْظُرْ إلَى السَّمَاءِ لِأَجْلِ

الْهَيْبَةِ وَالْإِعْظَامِ ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ وَحِكَايَتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُكْتَبَ أَوْ تُحْصَرَ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَوَابِهِ عَنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ إلَى آخَرِ كَلَامِهِ وَعِبَارَتِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرُدُّ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأُصُولُ وَاسْتَقَرَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ قَدْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ انْتَهَى .
فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْك أَخُوك الْمُؤْمِنُ فَقُمْت إلَيْهِ وَسُرَّ بِذَلِكَ فَقَدْ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ قِيَامِك أَنْتَ وَحَرَكَتِك لَهُ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي جَوَابِهِ بِقَوْلِهِ : مَدَارُ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمَحَبَّةِ فَحَسْبُ سَوَاءٌ قِيمَ لَهُ أَوْ لَمْ يَقُمْ قَدْ ارْتَكَبَ التَّحْرِيمَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ إنَّمَا صَدَرَتْ مِنْهُ لِمُشَاهَدَتِهِ لِلْقِيَامِ فَلَوْ كَانَ لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ لَمْ تَتَشَوَّفْ نَفْسُهُ إلَيْهِ وَلَمْ تُحِبُّهُ وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ قَاعِدَتُهُ فِي تَصَرُّفِهِ كُلِّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ نَفْسِهِ وَمَعَ غَيْرِهِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى نَفْسِهِ لِسَانُ الْعِلْمِ وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ شَيْئَانِ هُمَا خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنْ عَمِلْت بِهِمَا أَتَكَفَّلُ لَك بِالْجَنَّةِ ، وَلَا أَطْوَلُ عَلَيْك قِيلَ وَمَا هُمَا قَالَ تَعْمَلُ مَا تَكْرَهُ إذَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَتَتْرُكُ مَا تُحِبُّ إذَا كَرِهَهُ اللَّهُ أَوْ قَالَ : فَلَيْسَ الْإِنْسَانُ مُكَلَّفًا بِأَنْ لَا يَقَعَ لَهُ مَحَبَّةُ الشَّيْءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِأَنْ لَا

يَرْضَى بِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَفْسُهُ تُحِبُّهُ فَيَكْرَهُهُ لِكَرَاهِيَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَقَدْ قِيلَ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ ، فَإِذَا أَحَبَّ وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى وُقُوعِ مَا أَحَبَّ فَقَدْ عُصِمَ مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الَّذِي يَكْرَهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ أَنْ يُعَافِيَهُ مِنْهُ ، وَلَا يَرْضَاهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُصَاةِ ، وَهُوَ تَبَوُّءُ مَقْعَدِهِ مِنْ النَّارِ لَا يَفْعَلُهُ بِهَذَا الْأَخِ الْمُؤْمِنِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ يُحِبُّ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا انْتَهَى ، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ ؛ لِأَنَّك تَكْرَهُ الشَّيْءَ لِنَفْسِك وَتُوقِعُ فِيهِ غَيْرَك بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْخَدِيعَةِ وَالْمَكْرِ ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ بُعَدَاءُ عَنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَكُلُّ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ كَانَتْ سَبَبًا إلَى نَجَاةِ أَخِيك مِنْ النَّارِ وَاجِبٌ أَنْ تُعَامِلَهُ بِهَا .
وَكَذَلِكَ فِي الْعَكْسِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، فَكُلُّ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ كَانَتْ سَبَبًا إلَى عِقَابِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَدُخُولِهِ دَارَ الْهَوَانِ وَالْغَضَبِ وَاجِبٌ عَلَيْكَ أَنْ تُعْفِيَهُ مِنْهَا ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الدِّينُ النَّصِيحَةُ فَإِذَا قُمْتَ إلَيْهِ ، فَإِنَّكَ لَمْ تَنْصَحْهُ بَلْ غَشَشْتَهُ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ بَلْ يَنْبَغِي أَوْ يَجِبُ أَنْ يَعْرِضَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا الْقِيَامَ ، فَإِنْ رَأَى نَفْسَهُ أَنَّهَا تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَشْتَهِيهِ وَتُؤْثِرُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْعَلَهُ مَعَ أَخِيهِ

الْمُؤْمِنِ لِئَلَّا يُوقِعَهُ فِي الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ ، وَإِنْ رَأَى نَفْسَهُ أَنَّهَا لَا تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَكْرَهُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَامِلَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ هُوَ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ فَيَنْظُرُ إلَى نَفْسِهِ فَمَا يُحِبُّ أَنْ يُفْعَلَ مَعَهُ فَعَلَهُ هُوَ مَعَ أَخِيهِ ، وَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُفْعَلَ مَعَهُ لَمْ يَفْعَلْهُ مَعَهُ أَلْبَتَّةَ ، وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ كُلُّهُ هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا السَّيِّدُ فِيهِ : هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ جَوَابًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ بِمَا يَسَّرَ اللَّهُ فِي الْوَقْتِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَفَهْمُهُمْ لِلْحَدِيثِ ، وَمَعْنَاهُ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِنَا وَفَهْمِنَا بَلْ أَوْجَبَ ؛ لِأَنَّهُمْ تَلْقَوْهُ مُشَافَهَةً مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى مُعَاوِيَةَ الَّذِي تَلَقَّى الْحَدِيثَ مِنْ فِي صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ كَيْفَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ ، وَذَلِكَ الَّذِي فَهِمَ فَكَانَ يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ فِي فَهْمِهِ وَفِقْهِهِ .
وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى رُوَاةِ الْحَدِيثِ كَيْفَ بَوَّبُوا عَلَيْهِ بَابَ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلنَّاسِ ، بَابَ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلرَّجُلِ ، وَلَمْ يَقُولُوا بَابُ مَا جَاءَ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ وَلَمْ يَقُولُوا مِثْلَ مَا قَالُوا فِي عَكْسِهِ .
حَيْثُ قَالُوا : بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ فَيُعْطِي ذَلِكَ أَوْ يُفِيدُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْكَرَاهَةِ ، وَلَا يَقُولُونَ بِالْجَوَازِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ لَمَّا أَنْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَامُوا إلَيْهِ : لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا جَمَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ شَيْئَيْنِ الْأَوَّلَ النَّهْيَ وَالثَّانِيَ التَّعْلِيلَ ، وَهُوَ كَوْنُ الْقِيَامِ إذَا وَقَعَ بِنَفْسِهِ يَكُونُ تَعْظِيمًا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْقِيَامِ الْجَائِزِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْقِيَامَ إذَا وَقَعَ وَلَمْ يَكُنْ بِنِيَّةِ التَّعْظِيمِ كَانَ جَائِزًا ، وَهَذَا وَقْتُ الْبَيَانِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ بَلْ لَوْ كَانَ يَجُوزُ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ مَا احْتَاجَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى نَهْيِهِمْ عَنْ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ مِنْهُمْ بِإِكْرَامِهِ وَتَبْجِيلِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَلِعِلْمِهِ مِنْهُ أَنَّهُمْ مُمْتَثِلُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ .
ثُمَّ اُنْظُرْ أَيْضًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَنَا مِنْ أَصْلِ الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ وَالْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ أَنَّ النَّفْسَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ غَالِبَةٌ مَكَّارَةٌ خَدَّاعَةٌ مُتَكَبِّرَةٌ مُتَجَبِّرَةٌ مُنَازِعَةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ ، فَالشَّيْطَانُ عَلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّيْطَنَةِ وَالتَّمَرُّدِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ لَا يُنَازِعُ الرُّبُوبِيَّةَ ، وَهِيَ تُنَازِعُهَا ، فَإِنْ شَعَرَتْ مِنْ صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ مِنْهَا مَا تُبْدِيهِ مِنْ أَحْوَالِهَا السَّيِّئَةِ رَمَتْهُ بِالْجَمِيعِ وَأَظْهَرَتْهُ لَدَيْهِ ، وَإِنْ شَعَرَتْ مِنْهُ أَنَّهُ يَرُدُّهَا عَنْ أَحْوَالِهَا الْمُسْتَهْجَنَةِ قَلَّ أَنْ تُظْهِرَ لَهُ شَيْئًا مِنْ خَبَايَاهَا وَبَقِيَتْ تُمَارِي عَلَيْهِ فِي حُظُوظِهَا وَتَزْعُمُ أَنَّهَا طَالِبَةٌ لِلثَّوَابِ وَالْخَيْرِ ، وَهِيَ طَالِبَةٌ لِشَهَوَاتِهَا وَحُظُوظِهَا خِيفَةً مِنْهَا إنْ أَظْهَرَتْ مَا أَكَنَّتْهُ أَنْ لَا يُمَكِّنَهَا

صَاحِبُهَا مِنْ مُرَادِهَا ، وَالْغَالِبُ مِنْهَا مَحَبَّةُ الْحُظْوَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأَقْرَانِ ، وَمَحَبَّةُ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ عَلَى النَّاسِ وَالْكِبْرِ عَلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي الْقِيَامِ إلَيْهَا فَأَيْنَ النَّفْسُ الَّتِي تَقِفُ لِذَلِكَ وَيَحْصُلُ لَهَا الِانْكِسَارُ وَالتَّذَلُّلُ وَتَرَاهُ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَتَنْوِيهِ عَلَى مَا زَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ ، وَالْعَجَبُ مِنْ هَذَا السَّيِّدِ كَيْفَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا النَّهْيَ الصَّرِيحَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَيْدٍ وَلَمْ يُخَصِّصْهُ بِحَالَةٍ فَقَالَ : هَذَا يَجُوزُ بِنِيَّةِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ .
فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ الْمُعَارِضَةِ فِي فِعْلِ الْقِيَامِ .
فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ عَنْ الْقِيَامِ الْمَذْكُورِ مَا كَانَ سَبَبُهُ وَمَا جَرَى فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَفِيمَا وَقَعَ مِنْ الْجَوَابِ مَقْنَعٌ مَعَ الْإِنْصَافِ ، وَقَدْ وَقَعَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ الْحَرِيصَةُ الْمُبَالِغَةُ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ فَإِذَا رَأَتْهُ دَاخِلًا تَلَقَّتْهُ فَأَخَذَتْ عَنْهُ ثِيَابَهُ وَنَزَعَتْ نَعْلَيْهِ وَلَمْ تَزَلْ قَائِمَةً حَتَّى يَجْلِسَ فَقَالَ : أَمَّا تَلَقِّيهَا إيَّاهُ وَنَزْعُهَا ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ فَلَا أَرَى فِي ذَلِكَ بَأْسًا ، وَأَمَّا قِيَامُهَا فَلَا أَرَى ذَلِكَ ، وَلَا أَرَى أَنْ تَفْعَلَهُ هَذَا مِنْ التَّجَبُّرِ وَالسُّلْطَانِ فَقُلْتُ وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ ، وَلَا يَشْتَهِي هَذِهِ الْحَالَةَ ، وَلَكِنَّهَا تُرِيدُ إكْرَامَهُ وَتَوْقِيرَهُ وَتَأْدِيَةَ حَقِّهِ وَأَنَّهُ لَيَنْهَاهَا عَنْ ذَلِكَ وَيَمْنَعُهَا مِنْهُ فَقَالَ لِي : كَيْفَ اسْتِقَامَتُهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ ؟ فَقُلْت لَهُ : مِنْ أَقْوَمِ النَّاسِ طَرِيقَةً فِي كُلِّ أَمْرِهَا ؟ فَقَالَ : تُؤَدِّي حَقَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا ، وَأَمَّا هَذَا فَلَا أَرَى أَنْ

تَفْعَلَهُ ، إنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ ، وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الْوُلَاةِ يَكُونُ النَّاسُ جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَهُ فَإِذَا طَلَعَ عَلَيْهِمْ قَامُوا لَهُ حَتَّى يَجْلِسَ فَلَا خَيْرَ فِي هَذَا ، وَلَا أُحِبُّهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ ، فَأَرَى أَنْ تَدَعَ هَذَا وَتُؤَدِّيَ حَقَّهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلدَّابَّةِ الَّتِي رَكِبَ مَا نَزَلْتُ عَنْهَا حَتَّى تَغَيَّرْت قَالَ : قَالَ مَالِكٌ وَلِعُمَرَ فَضْلُهُ .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا بِالسُّجُودِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا فَانْظُرْ مَعَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ وَالْحَقِّ الَّذِي لِلزَّوْجِ بِنَصِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ لَهَا مَالِكٌ الْقِيَامَ لَهُ لِفَهْمِهِ مَنْعَ الْقِيَامِ مُطْلَقًا ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقِيَامِ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ وَالتَّعْظِيمِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَذَا نَصُّ الْإِمَامِ .
وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الْعُظْمَى الَّتِي وَقَعَتْ بِسَبَبِ جَوَازِ هَذَا الْقِيَامِ كَيْفَ وَقَعَ بِسَبَبِهِ ارْتِكَابُ مَا نَهَيْنَا عَنْهُ ، وَهُوَ هَذَا الْقِيَامُ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْقِيَامِ إذْلَالًا لِلْقَائِمِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو ، وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ انْتَهَى ، وَقَدْ عَلَا هَذَا الْعَدُوُّ الْكَافِرُ عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْحَالِ بِسَبَبِ مَا أُجِيزَ مِنْ الْقِيَامِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْمُؤْمِنُ لَا يَذِلَّ نَفْسَهُ أَوْ كَمَا قَالَ فَهُوَ قَدْ نَهَى أَنْ يَذِلَّ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ مُسْلِمٍ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ مَعَ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ

أَوْ مُنَافِقٍ عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْقِيَامُ إلَيْهِ وَكَيْفَ يَكُونُ الذُّلُّ لَهُ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاءِ مِنْ الِارْتِكَابِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَجَازُوا ذَلِكَ إذَا خَافُوا الْفِتْنَةَ مِنْهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ خِيفَةَ الْفِتْنَةِ إنَّمَا سَبَبُهَا اسْتِعْمَالُنَا نَحْنُ الْقِيَامَ حَتَّى جَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ وَاحِدٌ مِنَّا لَوَجَدْنَا عَلَيْهِ الْوَجْدَ الشَّدِيدَ ، فَلَمَّا أَنْ ارْتَكَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ بَيْنَنَا وَاصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا طَلَبَهُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ مِنَّا ؛ لِأَنَّ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَالْحُظُوظَ ؛ النَّاسُ الْكُلُّ مُشْتَرَكُونَ فِي مَحَبَّتِهَا وَالْقَوْلِ بِهَا إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ سِيَّمَا مَنْ كَانَ شَارِدًا عَنْ بَابِ رَبِّهِ مُعْرِضًا عَنْ مَوْلَاهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ ثَمَّ شُرُودٌ وَإِعْرَاضٌ أَعْظَمُ وَأَدْهَى وَأَمَرُّ مِنْ الْمُخَالَفَةِ بِالْكُفْرِ وَجَحْدِ الْوَحْدَانِيَّةِ ، فَيَكُونُ مَحَبَّةُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ فَلَوْ وَقَفْنَا نَحْنُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَمْ نَزِدْ عَلَيْهَا شَيْئًا ، وَلَا نَسْتَحْسِنُهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا إلَّا مَا اسْتَحْسَنَهُ صَاحِبُ شَرِيعَتِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْضَاهُ لَنَا وَرَآهُ مَصْلَحَةً لَنَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ يُخَالِطُنَا فِيهِ ، وَلَا يَطْلُبُهُ مِنَّا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ عَلَى اتِّبَاعِهِ فِي أَمْرٍ مَا أَبَدًا لِكُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَامَ الْمَشْرُوعَ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنْ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حِسًّا وَمَعْنًى كَيْفَ يَتَحَامَاهُ أَهْلُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ عَنْ آخِرِهِمْ ، وَلَا يَفْعَلُونَهُ مَعَ أَنْفُسِهِمْ ، وَلَا مَعَ مَنْ يُعَامِلُونَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا

الْقِيَامُ مَشْرُوعًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَتَحَامَوْهُ كَمَا تَحَامَوْا السَّلَامَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا شَرَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَفَتْ مِنْهُ حُظُوظُ النَّفْسِ ، فَلَيْسَ لَهُمْ إلَيْهِ سَبِيلٌ ، وَمَا يُسْتَعْمَلُ لِحُظُوظِ النَّفْسِ هُوَ الَّذِي يُشَارِكُنَا فِيهِ أَهْلُ الْمِلَلِ ، فَلَوْ أَنْكَرْنَا الْقِيَامَ ابْتِدَاءً بَعْضُنَا لِبَعْضٍ مَا طَلَبَهُ أَهْلُ الْمِلَلِ مِنَّا ، وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُهُ ، وَلَا يُعَامِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهِ ، فَلَمَّا أَنْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ بَانَ أَمْرُهُ وَاتَّضَحَ وَزَالَ إشْكَالُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ نَهَى فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ ، وَقَدْ عَلَّلَهُ هَاهُنَا بِأَنَّهُ فِعْلُ الْأَعَاجِمِ حَتَّى نَهَى عَنْهُ ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ انْتَهَى .
وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا فِتْنَةً أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ الْفِتْنَةَ الْمَخُوفَةَ مَا هِيَ ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَوْ تَسَبَّبَ الذِّمِّيُّ فِي قَطْعِ رِيَاسَتِهِمْ أَوْ قَطْعِ مَنْصِبٍ لَهُمْ أَوْ قَطْعِ شَيْءٍ مِنْ جَامِكِيَّتِهِمْ أَوْ عَقَدَ وَجْهَهُ فِي وُجُوهِهِمْ أَوْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ بِأَمْرٍ مَا كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُمْ فِي جَوَازِ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الْمِلَلِ مَعَاذَ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ الْخَوْفُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَعْلُومٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ لَيْسَ عَلَى مَا تُسَوِّلُ لَنَا حُظُوظُ أَنْفُسِنَا وَيُزَيِّنُ لَنَا شَيْطَانُنَا وَيَحْمِلُنَا عَلَيْهِ قِلَّةُ يَقِينِنَا ، وَأَعْظَمُ فِتْنَةً

وَأَدْهَاهَا وَأَمَرُّهَا هَذَا الْأَمْرُ الْمُفْظِعُ الَّذِي وَقَعْنَا فِيهِ وَاصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّا نَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ مُعْضِلَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تُسْتَدْرَكُ ، وَلَا يُمْكِنُ تَلَافِيهَا لِتَعَذُّرِ وُقُوعِ التَّوْبَةِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَكُونُ مِنْ الْجَائِزِ ، وَلَا مِنْ الْمَنْدُوبِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْمَعَاصِي .
فَالْحَاصِلُ مِنْ أَحْوَالِنَا فِيهِ أَعْنِي فِي الْقِيَامِ أَنَّا ارْتَكَبْنَا بِهِ بِدْعَةً جَرَّتْ إلَى حَرَامٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْقِيَامُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى ارْتِكَابِ الْبِدَعِ ، وَالتَّسَامُحِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي ، وَمَعْذِرَةِ بَعْضِ عُلَمَائِنَا وَتَسَامُحِهِمْ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ حَتَّى اُرْتُكِبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكَثِيرُ الْكَبِيرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ وَالْعَفْوِ عَمَّا مَضَى ، وَالتَّدَارُكِ وَاللُّطْفِ وَالْإِقَامَةِ مِمَّا بَقِيَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ .
وَقَدْ وَقَعَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ هَذَا الْقِيَامَ يَتَعَيَّنُ الْيَوْمَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، وَقَدْ أَمَرَنَا بِتَرْكِ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا الْحَدِيثَ .
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إلَى مَا اُحْتُرِزَ مِنْهُ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ يَقُومَ لِكُلِّ دَاخِلٍ عَلَيْهِ أَوْ الْعَكْسِ ، وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مَذْهَبٌ لِحُرْمَةِ الْعِلْمِ وَالْمُرُوءَةِ وَقَلَّ أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَرَارٌ فِي مَجْلِسٍ وَيَشْتَغِلُ عَنْ كُلِّ ضَرُورَاتِهِ لِكُلِّ دَاخِلٍ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا .
وَهَذَا شَنِيعٌ وَمَعَ شَنَاعَتِهِ يَمْنَعُ مَا الْإِنْسَانُ قَاعِدٌ إلَيْهِ وَيَشْتَغِلُ عَنْهُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ .
وَإِنْ قَامَ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ

بَعْضٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْفِتْنَةِ وَالتَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَقُومَ لِأَحَدٍ فَيَسْلَمُ النَّاسُ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَتَنْحَسِمُ مَادَّةُ التَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَتَبْقَى حُرْمَةُ الْعِلْمِ قَائِمَةً ، وَالْمُرُوءَةُ مَوْجُودَةً ، وَبَرَكَةُ الِاتِّبَاعِ حَاصِلَةً ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَجَزْنَا ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا يَقَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ التَّغْيِيرِ لَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الشَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ كُلَّمَا أَحْدَثُوا حَدَثًا فِي الدِّينِ إنْ لَمْ نُوَافِقْهُمْ عَلَيْهِ حِفْظًا لِخَوَاطِرِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى مَا ذُكِرَ ، وَهَذَا عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ مَضَتْ أَنَّ الْعَوَامَّ يُحْدِثُونَ وَالْعُلَمَاءَ يُنْكِرُونَ وَيَزْجُرُونَ فَصَارَ الْيَوْمَ الْحَالُ بِالْعَكْسِ الْعَوَامُّ يُحْدِثُونَ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَتَّبِعُونَ وَبَعْضُهُمْ لَا يُنْكِرُونَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَهَذَا عَامٌّ فِي الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ .

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَجْلِسَ عَلَى حَائِلٍ مُرْتَفِعٍ دُونَ مَنْ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صُورَةَ التَّرَفُّعِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِ الْعُلَمَاءِ إذْ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُدَرِّسِ التَّوَاضُعَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى شَيْءٍ مِثْلِ فَرْوَةٍ ، أَوْ بِسَاطٍ ، أَوْ شَيْءٍ يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَعَابَهُ وَقَالَ : أَتُتَّخَذُ الْمَسَاجِدُ بُيُوتًا وَرَخَّصَ ذَلِكَ لِلْمَرِيضِ ، فَعَلَى هَذَا إنْ اضْطَرَّ الْمُدَرِّسُ ، أَوْ غَيْرُهُ إلَى شَيْءٍ يَجْعَلُهُ تَحْتَهُ فَلْيَكُنْ قَدْرَ الضَّرُورَةِ وَلْيُبَيِّنْ عُذْرَهُ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْمَاضِينَ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَصَابَهُ مَرَضٌ فَاِتَّخَذَ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ لِأَجْلِ مَرَضِهِ ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ خَرَجَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَقَعَدَ خَارِجًا عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ : هَلَّا تَقْعُدُ بِمَوْضِعِك بِالْأَمْسِ ؛ لِأَنَّهُ أَكَنُّ لَك لِأَجْلِ مَرَضِك فَقَالَ : إنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَوْقَ جُلَسَائِي وَكَانَ الْمَوْضِعُ عُلُوُّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ عَرْضُ أُصْبُعَيْنِ ، فَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي هَذَا شَيْءٌ يَسِيرٌ ، فَقَالَ : لَوْ وَجَدْت سَبِيلًا أَنْ أَحْفِرَ حُفْرَةً تَحْتَ الْأَرْضِ فَأَقْعُدَ تَحْتَ جُلَسَائِي لَفَعَلْت ذَلِكَ ، أَوْ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَمَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ وَفُضَلَائِهِمْ يَقْعُدُونَ عَلَى حَائِلٍ دُونَ جُلَسَائِهِمْ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْلِسُ إلَى أَخْذِ الدُّرُوسِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ ، ثُمَّ بَعَثَ لَهُ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ سَجَّادَةً مِنْ صُوفٍ فَبَقِيَ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِهِ فِي إرْسَالِهَا إذْ أَنَّ السَّجَّادَاتِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدْعَةٌ ، وَمِثْلُهُ بَعِيدٌ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِ هَذَا ، ثُمَّ قَالَ : مَا أَرْسَلَهَا إلَّا

لِحِكْمَةٍ فَتَرَكَهَا فِي بَيْتِهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا فَمَا كَانَ إلَّا قَلِيلٌ وَأَخَذَهُ مَغَصٌ فِي فُؤَادِهِ بِسَبَبِ بُرُودَةِ الْبَلَاطِ الَّتِي تَصْعَدُ مِنْ تَحْتِ الْحَصِيرِ فَبَقِيَ يَخْرُجُ بِهَا إلَى الْمَسْجِدِ وَيَطْوِيهَا حَتَّى تَكُونَ عَلَى قَدْرِ جُلُوسِهِ لَيْسَ إلَّا وَيَسْجُدُ عَلَى الْحَصِيرِ ، وَكَانَ يَقُولُ : هَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَرْسَلَهَا هَذَا السَّيِّدُ ، فَهَذَا دَأْبُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَالْعُلَمَاءُ أَوْلَى مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ وَيُقْتَفَى آثَارُهُمْ وَيُهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاوِحِ إنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ إذْ أَنَّهَا بِدْعَةٌ ، وَقَدْ أَنْكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُعْهَدُ فِي الْبُيُوتِ أَنْ تُعْمَلَ فِي الْمَسَاجِدِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي غَيْرِهِ ، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَدَارِسِ لِضَرُورَةِ الْحَرِّ وَالذُّبَابِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَنُهَا مِنْ رَيْعِ الْوَقْفِ ، أَوْ يُقْطَعُ بِهَا حُصْرُ الْوَقْفِ عِنْدَ الْبَحْثِ وَالِانْزِعَاجِ عِنْدَ إيرَادِ الْمَسَائِلِ ، وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَهُ الْمَرَاوِحَ الَّتِي فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ الَّتِي يَرُوحُ بِهَا النَّاسُ قَالَ : وَمَا كَانَ ذَلِكَ يُفْعَلُ فِيمَا مَضَى ، وَلَا أُجِيزُ لِلنَّاسِ أَنْ يَأْتُوا بِالْمَرَاوِحِ يَتَرَوَّحُونَ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْقَةِ الَّتِي تُعْمَلُ لَهُ فِي كَوْنِ الطَّلَبَةِ يَبْعُدُونَ عَنْهُ وَالسَّلَفُ كَانُوا لَا يَبْعُدُونَ بَلْ تَمَسُّ ثِيَابُ الطَّلَبَةِ ثِيَابَ الْمُدَرِّسِ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلرِّيَاسَةِ فَذَمُّهُ أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ

فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَجْلِسِهِ مَكَانٌ مُمَيَّزٌ لِآحَادِ النَّاسِ بَلْ كُلُّ مَنْ سَبَقَ لِمَوْضِعٍ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ كَمَا هُوَ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ ، وَلَا يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَوْضِعِهِ جَبْرًا وَيَجْلِسُ فِيهِ غَيْرُهُ لِلنَّهْيِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ قَامَ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْهُ لِضَرُورَةٍ وَعَادَ كَانَ بِهِ أَحَقَّ أَيْضًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مَعْلُومًا عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ فِيهِ إلَّا فُلَانٌ ، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي فَتْوَاهُ وَعِلْمِهِ ، فَإِنْ جَلَسَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ أَوْ يُعْلَمْ بِمَشَقَّةٍ فَهَذَا مُسْتَثْنًى مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ صَاحِبَ عِلْمٍ وَفَضِيلَةٍ فَحَيْثُمَا جَلَسَ كَانَ صَدْرًا ، وَلَيْسَتْ الْمَوَاضِعُ بِاَلَّتِي تُصَدِّرُ النَّاسَ ، وَلَا تَرْفَعُهُمْ وَإِنَّمَا يَرْفَعُ الْمَرْءُ مَا هُوَ حَامِلُهُ مِنْ عِلْمٍ وَفَضِيلَةٍ وَدِينٍ وَتَقْوَى ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّخْصِيصُ لِمَنْ ذُكِرَ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهِ فِي فَتْوَاهُ وَعِلْمِهِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ مُقْتَضَاهُ الْعُمُومُ فَالضَّرُورَةُ خَصَّصَتْ الدَّلِيلَ الْعَامَّ ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ دَلِيلٍ خُصَّ وَذَلِكَ كَثِيرٌ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إلَى الضَّرَرِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَنْزَعِجَ عَلَى مَنْ آذَاهُ وَيُجَاهِدَ نَفْسَهُ لِتَرْتَاضَ فَيُحْسِنَ لَهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ بِالْأَذِيَّةِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ وَيُوَاجِهُهُ بِمَا يُوَاجِهُ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الْمُحِبِّينَ وَالْمُعْتَقِدِينَ مِنْ طَيِّبِ الْقَوْلِ وَحُسْنِ الْعِبَارَةِ وَعَدَمِ الْجَفَاءِ تَقَرُّبًا بِذَلِكَ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا يُقَابِلُ الشَّرَّ بِمِثْلِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْعُلَمَاءِ ، وَإِنَّمَا شِيَمُهُمْ الْحِلْمُ وَالْإِقَالَةُ وَالصَّفْحُ وَالْعَفْوُ ، أَلَا تَرَى إلَى مُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ قَاضِي بِلَادِ إفْرِيقِيَّةَ فَكَانَ إذَا قَعَدَ لِأَخْذِ الدُّرُوسِ أَتَاهُ إنْسَانٌ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ فَيُحَدِّثُهُ فِي أُذُنِهِ سَاعَةً ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ مُدَّةً ، وَكَانَ إذَا أَقْبَلَ يَقُولُ الْقَاضِي لِجَمَاعَتِهِ أَفْسِحُوا لَهُ فَيَأْتِي وَيَفْعَلُ الْعَادَةَ ، ثُمَّ انْقَطَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُدَّةً فَسَأَلَ عَنْهُ مَنْ حَضَرَهُ فَقَالُوا لَا نَعْرِفُ خَبَرَهُ فَقَالَ اُطْلُبُوهُ فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ فَأْتُونِي بِهِ فَوَجَدُوهُ فَأَتَوْا بِهِ إلَيْهِ فَأَخَذَهُ وَخَلَا بِهِ وَقَالَ لَهُ مَا مَنَعَك مِنْ عَادَتِك فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدِي لِي بَنَاتٌ قَدْ كَبِرْنَ وَاحْتَجْنَ إلَى التَّزْوِيجِ وَأَنَا فَقِيرٌ فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ إنْ أَغْضَبْت فُلَانًا فَنَحْنُ نُزِيلُ فَقْرَك وَنُجَهِّزُ بَنَاتَك ، أَوْ كَمَا قَالُوا فَبَقِيتُ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَجِيءُ إلَيْك فَأَقْذِفُك وَأَشْتُمُك وَأَفْعَلُ مَا قَدْ رَأَيْت لَعَلَّك تَغْضَبُ يَوْمًا مَا لِيَحْصُلَ لِي مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَيِسْتُ مِنْ غَضَبِك تَرَكْت ذَلِكَ إذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ لَوْ أَخْبَرْتنِي كُنْت أَقُومُ لَك بِضَرُورَتِك أَعَلَيْكَ سَفَرٌ فَقَالَ يَا سَيِّدِي أَيُّ شَيْءٍ أَشَرْت بِهِ عَلَيَّ فَعَلْته ، فَأَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِالْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ إلَى نُوَّابِهِ بِالْبِلَادِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ، وَمِمَّنْ يَعْتَنِي بِهِ

الْقَاضِي فَسَافَرَ إلَى الْبِلَادِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَمَعَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا أَزَالَ فَقْرَهُ وَجَهَّزَ بَنَاتَه .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا مُعَامَلَتَهُ مَعَ مَنْ شَتَمَهُ وَقَذَفَهُ فَيَكُونُ الْعَالِمُ يَقْتَدِي بِهَذَا السَّيِّدِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ فِي الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالشِّيَمِ الْجَمِيلَةِ ، وَقُدْوَتُهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سُنَّةُ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ انْتَهَى .
فَمِنْ جُمْلَةِ أَخْلَاقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ وَالْمَغْفِرَةُ وَالثَّوَابُ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَرُتْبَتُهُ مُنِيفَةٌ وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى أَوَّلُهَا ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي يُؤْذِيكَ هُوَ الْمُحْسِنُ إلَيْك .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَنَّهُ قَالَ : جُبِلَتْ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا وَإِذَا نَظَرْت إلَى النَّاسِ وَجَدْتَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُحْسِنٌ وَمُسِيءٌ فَالْمُحْسِنُ جُبِلَ قَلْبُك عَلَى مَحَبَّتِهِ ، وَهَذَا الْمُحْسِنُ إنَّمَا أَحْسَنَ إلَيْك بِشَيْءٍ يَفْنَى ، وَإِذَا نَظَرْت إلَى الْمُسِيءِ بِعَيْنِ التَّحْقِيقِ فَهُوَ مُحْسِنٌ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيْك بِالْبَاقِي إذْ أَنَّك تَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَإِلَّا أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِك ، وَشَأْنُ أَهْلِ التَّوْفِيقِ اغْتِنَامُ الْبَاقِي فَيَنْبَغِي لَك أَنْ تُكَافِئَهُ عَلَى إحْسَانِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يُبَيِّنُ هَذَا وَيُوَضِّحُهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مَارًّا بِطَرِيقٍ فَلَقِيَهُ إنْسَانٌ فَصَفَعَهُ وَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ فَرَآهُ جَمَاعَةٌ عَلَى بُعْدٍ مِنْهُمْ ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ قَالُوا لَهُ : أَتَعْرِفُ مَنْ هَذَا الَّذِي صَفَعْتَهُ قَالَ لَا قَالُوا هُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فَرَجَعَ إلَيْهِ

فَطَأْطَأَ عَلَى قَدَمِهِ فَقَبَّلَهَا وَقَالَ وَاَللَّهِ يَا سَيِّدِي مَا عَرَفْتُك وَسَأَلَهُ الْمُحَالَلَةَ فَقَالَ لَهُ وَاَللَّهِ مَا ارْتَفَعَتْ يَدُك عَنِّي حَتَّى سَأَلْت اللَّهَ تَعَالَى لَك الْمَغْفِرَةَ فَقَالَ لَهُ وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ لِأَنَّك لَمَّا صَفَعْتنِي عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثِيبُنِي عَلَى ذَلِكَ وَمَا كُنْت بِاَلَّذِي تُوصِلُ إلَيَّ خَيْرًا فَأُوصِلُ إلَيْك شَرًّا .
وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ لَوْ كُنْت مُغْتَابًا لِأَحَدٍ لَاغْتَبْت وَالِدَيْ ؛ لِأَنَّهُمَا أَحَقُّ بِحَسَنَاتِي فَهُمْ أَبَدًا يَنْظُرُونَ إلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا ، وَغَيْرُهُمْ إلَى ضِدِّهَا .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذَا الْمَقَامِ الْأَسْنَى الَّذِي يَحْصُلُ لِكَاظِمِ الْغَيْظِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ يُدْخِلُهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَامَةُ الصَّدْرِ لَا تُبْلَغُ بِعَمَلٍ فَنَفْيُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ تُبْلَغَ سَلَامَةُ الصَّدْرِ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا مُتَحَصِّلٌ بِمَا ذَكَرَ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ أَنْ يَتَّكِئَ عَلَى الْيَدِ الْيُسْرَى إذَا جَعَلَهَا مِنْ خَلْفِهِ قَلِيلًا وَيَتَّكِئَ عَلَى شَحْمَتَيْ أَصْلِ كَفِّهِ تِلْكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ تِلْكَ الْهَيْئَةَ مِنْ فِعْلِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ .

( فَصْلٌ ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْمَعَ مَنْ يَنِمُّ عِنْدَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَنْقُلُ أَخْبَارَ النَّاسِ وَمَا جَرَى لَهُمْ مِمَّا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْبَابِ مَجَالًا كَبِيرًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي لِأَحَدٍ إلَّا مِنْ الْبَابِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ لِلْعَالِمِ ، أَوْ الْعَابِدِ فَيُوَسْوِسُ لَهُ بِالزِّنَا ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ يَأْتِي بِذِكْرِ شَخْصٍ غَائِبٍ فَيُذْكَرُ بِخَيْرٍ فَيَقُومُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ وَيَسْتَثْنِي بِقَوْلِهِ : إلَّا أَنَّ فِيهِ كَذَا وَأَنَّهُ كَذَا ، فَيَتَرَتَّبُ الْإِثْمُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ حَضَرَ ، فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا ، وَرَدَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَيَتَنَفَّسَ فَيَحْرِقُ بِنَفَسِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً ، أَوْ كَمَا وَرَدَ وَهَا هُوَ ذَا بَيِّنٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَثْنِي إذَا اسْتَثْنَى وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْحَاضِرِينَ فَقَدْ بَاءُوا جَمِيعًا بِالْإِثْمِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ .

( فَصْلٌ ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْغِيبَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُصِيبَةٌ عُظْمَى فِي الدِّينِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْذِيرِ عَنْ ذَلِكَ إلَّا قَوْله تَعَالَى وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْغِيبَةُ قَالَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ حَسْبُك مِنْ صَفِيَّةَ قِصَرُهَا قَالَ لَقَدْ قُلْت كَلِمَةً لَوْ مُزِجَ بِهَا مَاءُ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إنْسَانًا فَقَالَ : مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إنْسَانًا وَلِي كَذَا وَكَذَا وَمِنْ كِتَابِ ابْنِ رَزِينٍ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ وَلَا مُجَاهِرٍ وَكُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إلَّا الْمُجَاهِرُونَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ رَجُلًا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ ، أَوْ يَمْشِي بِالْحَدِيثِ إلَى الْأَمِيرِ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرَجَ إلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ وَالْأَدِلَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى هَذَا وَأَشْبَاهِهِ كَثِيرَةٌ .
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبَارَكِينَ بِتُونُسَ فَلَمَّا أَنْ أَرَادُوا الطَّعَامَ أَبْطَأَ

وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ مَا زَالَتْ عَادَتُهُ هَكَذَا ، فَقَامَ سَيِّدِي حَسَنٌ الزُّبَيْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ : إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ الْيَوْمَ لِي سَنَةٌ لَمْ أَسْمَعْ غِيبَةً فَسَمَّعْتُمُوهَا لِي الْيَوْمَ ، وَاَللَّهِ لَا أَقْعُدُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ وَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ شَيْئًا ، فَقِسْ عَلَى هَذَا وَانْظُرْ بِنَظَرِك أَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا رَخَّصَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ، وَذَلِكَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا : وَهِيَ غِيبَةُ الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ بِفِسْقِهِ ، وَصَاحِبِ بِدْعَةٍ يَدْعُو إلَيْهَا ، وَصَاحِبِ بِدْعَةٍ يُخْفِيهَا ، فَإِذَا ظَفِرَ بِأَحَدٍ أَلْقَاهَا إلَيْهِ ، وَالْغِيبَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِخَصْمِهِ ، وَإِذَا سَأَلَ الْحَاكِمُ عَنْ أَحَدٍ فَغِيبَتُهُ جَائِزَةٌ وَعِنْدَ الْعَالِمِ لِلْفَتْوَى ، وَعِنْدَ مَنْ يُرْجَى تَغْيِيرُ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ ، وَعِنْدَ الْخُطْبَةِ ، وَعِنْدَ الْمُرَافَقَةِ فِي السَّفَرِ ، وَكَذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ لِلشَّرِكَةِ ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ يَشْتَرِي دَارًا فَسَأَلَ عَنْ جَارِهَا أَوْ دُكَّانًا ، وَالتَّجْرِيحُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْمُشَاوَرَةُ فِي أَمْرٍ مَا مِنْ أُمُورِ الْمُخَالَطَةِ ، أَوْ الْمُجَاوِرَةِ ، أَوْ الْمُصَاهَرَةِ ، وَتَجْرِيحُ الْمُحَدِّثِينَ لِلرُّوَاةِ ، وَذِكْرُ الرَّجُلِ بِاسْمٍ قَبِيحٍ يَشْتَهِرُ بِهِ كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَخْفَشِ فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الْمُسْتَثْنَاةُ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَصْحَابُ الْمُكُوسِ وَالظَّلَمَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُنْتَصِبِينَ لِظُلْمِ الْعِبَادِ وَأَذِيَّتِهِمْ فِي الْعِرْضِ ، أَوْ الْمَالِ ، أَوْ الْبَدَنِ ، وَلَا يُعَيِّنُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ إذَا خَشِيَ الْفِتْنَةَ ، فَإِنْ أَمِنَ عَيَّنَ ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ الْمَذْكُورُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَيَحْذَرُونَهُ وَيَهْجُرُونَهُ ، وَلَا يَتَعَاطَوْنَ مِثْلَ فِعْلِهِ

( فَصْلٌ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَنْعُ مِنْ النُّعُوتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَذِبِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى الْكَذِبُ صُرَاحًا ، فَيَتَحَرَّزُ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ فِي مَجْلِسِهِ ، فَإِنْ وَقَعَ فَلْيَنْقِمْ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ ، أَوْ يَمْنَعْهُ مِنْ حُضُورِ الْمَجْلِسِ حَتَّى يَتُوبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْلِعَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ وَشُرُوطِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ إلَّا بِقَلْبِهِ قَامَ وَتَرَكَهُ ، وَلَا يَكُونُ مُنْكِرًا بِقَلْبِهِ إنْ قَعَدَ ، وَيَأْثَمُ إلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنْ الْخُرُوجِ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَلَيْسَ هِيَ الْحَيَاءُ وَتَعْبِيسُ وَجْهِ الْمُنْكَرِ بَلْ مَا يُعَدُّ إنْكَارًا شَرْعِيًّا .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ لَهُ : كُلُّ مَنْ شَاهَدَ مُنْكَرًا وَلَمْ يُنْكِرْ وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ ، فَالسَّامِعُ شَرِيكُ الْمُغْتَابِ وَيَجْرِي هَذَا فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي حَتَّى فِي مُجَالَسَةِ مَنْ يَلْبَسُ الدِّيبَاجَ وَيَتَخَتَّمُ بِالذَّهَبِ وَيَجْلِسُ عَلَى الْحَرِيرِ ، وَالْجُلُوسِ فِي دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ عَلَى حِيطَانِهَا صُوَرٌ ، أَوْ فِيهَا أَوَانٍ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَالْجُلُوسِ فِي مَسْجِدٍ يُسِيءُ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ فَلَا يُتِمُّونَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ، وَالْجُلُوسُ فِي مَجْلِسِ وَعْظٍ يَجْرِي فِيهِ ذِكْرُ الْبِدْعَةِ ، أَوْ فِي مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ ، أَوْ مُجَادَلَةٍ يَجْرِي فِيهَا الْأَذَى ، أَوْ الْأَبْحَاثُ بِالسَّفَهِ وَالشَّتْمِ .
وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ خَالَطَ النَّاسَ كَثُرَتْ مَعَاصِيه وَإِنْ كَانَ تَقِيًّا فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَتْرُكَ الْمُدَاهَنَةَ فَلَا تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَيَشْتَغِلُ بِالْحِسْبَةِ وَالْمَنْعِ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْوُجُوبُ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ وَلَمْ يُتْرَكْ الْمُنْكَرُ وَنَظَرَ إلَيْهِ بِعَيْنِ الِاسْتِهْزَاءِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي مُنْكَرَاتٍ يَرْتَكِبُهَا الْفُقَهَاءُ وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ فَهَا هُنَا يَجُوزُ

السُّكُوتُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الزَّجْرُ بِاللِّسَانِ ، وَيَجِبُ أَنْ يُفَارِقَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَلَيْسَ يَجُوزُ مُشَاهَدَةُ الْمَعْصِيَةِ بِالِاخْتِيَارِ ، فَمَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ الشُّرْبِ فَهُوَ فَاسِقٌ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ وَمَنْ جَالَسَ مُغْتَابًا ، أَوْ لَابِسَ حَرِيرٍ ، أَوْ آكِلَ رِبًا ، أَوْ حَرَامٍ فَهُوَ فَاسِقٌ وَلْيَقُمْ مِنْ مَوْضِعِهِ .
الثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ بِأَنْ يَرَى زُجَاجَةً فِيهَا خَمْرٌ فَيَكْسِرُهَا ، أَوْ يَسْلُبَ آلَةَ الْمَلَاهِي مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا وَيَضْرِبَ بِهَا عَلَى الْأَرْضِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُضْرَبُ ، أَوْ يُصَابُ بِمَكْرُوهٍ فَهَا هُنَا يُسْتَحَبُّ الْحِسْبَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ .
ثُمَّ قَالَ عُمْدَةُ الْحِسْبَةِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : اللُّطْفُ وَالرِّفْقُ وَالْبُدَاءَةُ بِالْوَعْظِ عَلَى سَبِيلِ اللِّينِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعُنْفِ وَالتَّرَفُّعِ وَالْإِدْلَالِ بِدَلَالَةِ الصَّلَاحِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَكِّدُ دَاعِيَةَ الْمَعْصِيَةِ وَيَحْمِلُ الْعَاصِي عَلَى الْمَنَاكِرِ وَعَلَى الْأَذَى ، ثُمَّ إذَا آذَاهُ وَلَمْ يَكُنْ حَسَنَ الْخُلُقِ غَضِبَ لِنَفْسِهِ وَتَرَكَ الْإِنْكَارَ لِلَّهِ وَاشْتَغَلَ بِشِفَاءِ غَلِيلِهِ مِنْهُ فَيَصِيرُ عَاصِيًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَارِهًا لِلْحِسْبَةِ يَوَدُّ لَوْ تُرِكَتْ الْمَعْصِيَةُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعْتَرِضُ كَانَ ذَلِكَ لَمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ دَلَالَةِ الِاحْتِسَابِ وَعِزَّتِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا رَفِيقٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ رَفِيقٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ حَلِيمٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَلِيمٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ فَقِيهٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَقِيهٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ وَوَعَظَ الْمَأْمُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاعِظٌ بِعُنْفٍ فَقَالَ يَا رَجُلُ : اُرْفُقْ فَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك إلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي وَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ فَقَالَ لَهُ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ غُلَامًا شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَتَأْذَنُ لِي فِي الزِّنَا فَصَاحَ النَّاسُ بِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقِرُّوهُ أَقِرُّوهُ اُدْنُ مِنِّي فَدَنَا مِنْهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَتُحِبُّهُ لِأُمِّك فَقَالَ لَا جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِك قَالَ لَا قَالَ كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ حَتَّى ذَكَرَ الْأُخْتَ وَالْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ وَهُوَ يَقُولُ كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبَهُ وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ الزِّنَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلْفُضَيْلِ إنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَبِلَ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ فَقَالَ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ إلَّا دُونَ حَقِّهِ ، ثُمَّ خَلَا بِهِ وَعَاتَبَهُ بِالرِّفْقِ فَقَالَ يَا أَبَا عَلِيٍّ : إنْ لَمْ نَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ فَإِنَّا نُحِبُّ الصَّالِحِينَ .
الْعُمْدَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ قَدْ بَدَأَ بِنَفْسِهِ فَهَذَّبَهَا وَتَرَكَ مَا يَنْهَى عَنْهُ أَوَّلًا .
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كُنْت تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ فَلْتَكُنْ مُرَاعِيًا لَهُ قَبْلَ أَخْذِ النَّاسِ بِهِ وَإِلَّا هَلَكْت فَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى حَتَّى يَنْفَعَ كَلَامُهُ وَإِلَّا اُسْتُهْزِئَ بِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا شَرْطًا بَلْ يَجُوزُ الِاحْتِسَابُ لِلْعَاصِي أَيْضًا .
قَالَ أَنَسٌ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى نَعْمَلَ بِهِ كُلَّهُ قَالَ بَلْ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلَّهُ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبُوهُ كُلَّهُ ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُرِيدُ أَنْ لَا يَظْفَرَ الشَّيْطَانُ مِنْكُمْ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ وَهُوَ أَنْ لَا تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى تَفْعَلُوا الْأَمْرَ كُلَّهُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا

يُؤَدِّي إلَى حَسْمِ بَابِ الْحِسْبَةِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُعْصَمُ مِنْ الْمَعَاصِي

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْمِزَاحِ الْمُخْرِجِ عَنْ حَدِّ الْوَقَارِ وَإِنْ كَانَ الْمِزَاحُ جَائِزًا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ وَإِبْقَاءِ هَيْبَةِ الْعِلْمِ وَوَقَارِهِ أَلَا تَرَى إلَى وَاصِفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ وَكَانَ يَمْزَحُ ، وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا مِثْلَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ لِلَّذِي سَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى جَمَلٍ فَقَالَ لَهُ لَا أَحْمِلُك إلَّا عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَخَرَجَ إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلَنِي عَلَى جَمَلٍ فَقَالَ لَا أَحْمِلُك إلَّا عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ فَقَالُوا لَهُ وَهَلْ الْجَمَلُ إلَّا وَلَدُ النَّاقَةِ .
وَمِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي شَكَتْ زَوْجَهَا فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا : هُوَ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ فَأَتَتْ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا فَوَجَدَتْهُ نَائِمًا فَجَعَلَتْ تَفْتَحُ عَيْنَيْهِ وَتَنْظُرُ الْبَيَاضَ فَاسْتَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ وَسَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَأَخْبَرَتْهُ بِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا أَمَّا عَلِمْت أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَرَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ تَخْفِيفًا لِأُمَّتِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَهَذَا هُوَ تَوْقِيرُ مَجَالِسِ الْعِلْمِ لَا بِالْقُمَاشِ وَحُسْنِ الْمَلْبَسِ بَلْ بِحُسْنِ السَّمْتِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذِكْرِ الْآدَابِ سَلَفٌ صَالِحٌ مِنْهُمْ الْإِمَامَانِ الْكَبِيرَانِ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرْت نُبَذًا مِمَّا احْتَاجَ إلَيْهِ الْوَقْتُ فِي الْأَمْرِ الظَّاهِرِ ، وَمَنْ طَلَبَ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فَلْيَلْتَمِسْهُ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

، ثُمَّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ حِينَ خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى الْمَسْجِدِ وَتَحِيَّتِهِ لَهُ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْفَرْضِ فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ مُشْتَغِلًا بِإِلْقَاءِ الْعِلْمِ إذْ ذَاكَ فَلْيَتْرُكْ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ هُوَ وَجُلَسَاؤُهُ وَيَشْتَغِلُونَ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ مَا هُوَ فَرْضٌ يُتْرَكُ لِفَرْضٍ فَيُقَالُ هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ يُتْرَكُ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ مَالِكٍ مَعَ ابْنِ وَهْبٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ لَهُ مَا الَّذِي قُمْت إلَيْهِ بِأَوْجَبَ عَلَيْك مِنْ الَّذِي قُمْت عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا فِي الْمَسْجِدِ إذْ ذَاكَ ، فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ لَهَا رُكُوعٌ قَبْلَهَا فَإِنْ كَانَتْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَهِيَ مِنْ السُّنَنِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُمَا فَرْضًا فَلَهُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنْ يَنْذِرَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِهِمَا فَتَصِيرُ فَرْضًا فِي سُنَّةٍ ، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِمَا ثُمَّ يُصَلِّي الْفَرْضَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُفْعَلُ فِيهِ مِنْ اسْتِحْضَارِ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَمِنْ الْآدَابِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا بَعْدَهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِيمَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ ، أَوْ يُسْتَحَبُّ وَفِيمَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ ، أَوْ يُسْتَحَبُّ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي تَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ ، أَوْ تَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ فَيُنْظَرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمَشْهُودِ وَهُوَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ الَّذِي يُتَكَلَّمُ فِيمَا يُفْعَلُ فِيهِ مَا هُوَ الْأَوْلَى بِهِ فِيهِ فَيُقَدَّمُ فِعْلُهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا جَاءَ أَحَدٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةِ عِلْمٍ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَقُولُ يَأْتِي أَحَدُهُمْ فِي صِفَةِ شَيْطَانٍ وَيَسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةِ عِلْمٍ إنْكَارًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ

فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اقْتِدَاءً مِنْهُ بِالسَّلَفِ السَّابِقِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِيثَارًا مِنْهُ اشْتِغَالَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالتَّوَجُّهِ وَالْعِبَادَةِ وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى زَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رَاغِبِينَ فِي الْعِلْمِ ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ انْتَشَرُوا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ ، وَأَمَّا الْيَوْمَ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ انْتَشَرُوا فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَالِانْهِمَاكِ عَلَيْهَا غَالِبًا فَقَلَّ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَأْتُوا الْمَسَاجِدَ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْعِلْمَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الصُّبْحِ ، وَسَيَأْتِي إذَا كَانَ فِي الْمَدْرَسَةِ ، أَوْ غَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا فَيَنْبَغِي ، أَوْ يَجِبُ إشْغَالُ هَذَا الْوَقْتِ بِالْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ ، وَآكَدُهَا الْفِقْهُ وَالْكَلَامُ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا يُمْنَعُ لَعَلَّهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ وَيَتَعَلَّمُونَ أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَدْعُوهُمْ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَالْإِصْغَاءِ إلَى فَوَائِدِهِ ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ، وَعَهْدِي مِنْ عَادَةِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ يَأْخُذُونَ الدُّرُوسَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَيَأْتِي الْعَوَامُّ إلَيْهِمْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ أَمْرَ دِينِهِمْ ، وَكَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الزَّيَّاتُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدُ شُيُوخِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَأْخُذُ الدَّرْسَ فِي رِسَالَةِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُلِينُ عِبَارَتَهُ لِيُوَصِّلَ إلَى الْعَوَامّ فَهْمَ الْعِلْمِ ، وَلَا يَسْمَعُ سُؤَالَ طَالِبٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَقُولُ لَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ دَرْسُ كِتَابِ التَّهْذِيبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنِّي إذَا اشْتَغَلْت بِالْبَحْثِ مَعَكُمْ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ إلَى أَسْبَابِهِمْ

وَدَكَاكِينِهِمْ فَهَذِهِ صِفَةُ الْعُلَمَاءِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِمْ وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا جَرَمَ أَنَّ الْعَوَامَّ صَارُوا فِي دَكَاكِينِهِمْ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِعِلْمِ مَا يُحَاوِلُونَهُ وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ، وَتَجِدُهُمْ يَبْحَثُونَ فِي دَكَاكِينِهِمْ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي الْمَسَائِلِ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لِيُوقِف بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَإِنْ كَانَ هُوَ عَلَى وُضُوءٍ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْ الْإِشْرَاقِ وَتُجْزِئُ عَنْ الضُّحَى إنْ نَوَاهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا فَرْضًا فَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فَرَغَ مِنْ مَجْلِسِ الْعِلْمِ عِنْدَ الْإِشْرَاقِ ، أَوْ قَبْلَهُ وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهِ فَلَا يَقْطَعُهُ حَتَّى يُتِمَّهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ فَلْيَرْكَعْ كَمَا سَبَقَ ، ثُمَّ يَنْصَرِفْ لِسَبِيلِهِ ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْآدَابُ فِي خُرُوجِهِ مِنْهُ وَيَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَنْوِيَ سُرْعَةَ الْعُودِ إلَى الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ وَعَدَّ مِنْهُمْ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ فَإِذَا ذَهَبَ مَارًّا إلَى بَيْتِهِ فَلَهُ فِي رُجُوعِهِ إلَيْهِ نِيَّاتٌ عَدِيدَةٌ تَارَةً تَكُونُ عَلَى الْوُجُوبِ وَتَارَةً تَكُونُ عَلَى النَّدْبِ ، فَأَمَّا الْوُجُوبُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ لِيَقُومَ بِالْحَقِّ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَنْ يُرْشِدَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُمْ وَمَا يَتَعَاطَوْنَهُ فِي فَرْضِهِمْ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ لِمَا وَرَدَ : كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَشْيِ النَّاسِ مَعَهُ وَمِنْ خَلْفِهِ وَمِنْ وَطْءِ عَقِبِهِ وَتَقْدِيمِهِمْ نَعْلَهُ وَاتِّكَائِهِ عَلَى أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَثَارُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ غَالِبًا ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُتَوَاضِعًا لَكِنْ ظَاهِرُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تُنَافِي ذَلِكَ وَتَجُرُّ إلَى الْمَذْمُومِ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَكَفَى بِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَضَرُّ مَا عَلَى الْإِنْسَانِ وَطْءُ عَقِبِهِ ، أَوْ كَمَا قَالَ وَوَطْءُ الْعَقِبِ هُوَ الْمَشْيُ خَلْفَهُ

( فَصْلٌ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، أَوْ يُنْدَبُ لَهُ فِي الطَّرِيقِ حِينَ خُرُوجِهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَهُ فِي رُجُوعِهِ

( فَصْلٌ ) فَإِذَا بَدَأَ بِدُخُولِ بَيْتِهِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَيُقَدِّمُ الْيَمِينَ وَيُؤَخِّرُ الشِّمَالَ كَمَا وَرَدَ فِي خُرُوجِهِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فَإِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ إنْ كَانُوا حُضُورًا وَإِنْ كَانُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ دُخُولِهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كَامِلَةً لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو فَيَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلِجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا لِمَا جَاءَ فِيهِ أَيْضًا

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْكَعَ فِي بَيْتِهِ قَبْلَ جُلُوسِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا فَرْضًا كَمَا تَقَدَّمَ

فَصْلٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَهْلَهُ بِمَسَائِلِ الْعِلْمِ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ تَعْلِيمِ غَيْرِهِمْ طَلَبًا لِثَوَابِ إرْشَادِهِمْ فَخَاصَّتُهُ وَمَنْ تَحْتَ نَظَرِهِ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُمْ رَعِيَّتُهُ وَمِنْ الْخَاصَّةِ بِهِ كَمَا سَبَقَ " كُلُّكُمْ رَاعٍ " الْحَدِيثَ ، فَيُعْطِيهِمْ نَصِيبَهُمْ فَيُبَادِرُ لِتَعْلِيمِهِمْ لِآكَدِ الْأَشْيَاءِ فِي الدِّينِ أَوَّلًا وَأَنْفَعِهَا وَأَعْظَمِهَا فَيُعَلِّمُهُمْ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَيُجَدِّدُ عَلَيْهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوهُ وَيُعَلِّمُهُمْ الْإِحْسَانَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْوُضُوءَ وَالِاغْتِسَالَ وَصِفَتَهُمَا وَالتَّيَمُّمَ وَالصَّلَاةَ وَمَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ ، وَكُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ سَمِعْتُ سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَمَّا أَنْ تَأَهَّلْت قُلْت لِلزَّوْجَةِ لَا تَتَحَرَّكِي ، وَلَا تَتَكَلَّمِي بِكَلِمَةٍ فِي غَيْبَتِي إلَّا وَتَعْرِضِيهَا عَلَيَّ حِينَ آتِي لِأَنِّي مَسْئُولٌ عَنْ تَصَرُّفِك كُلِّهِ ، كُنْت مَسْئُولًا عَنْ نَفْسِي لَيْسَ إلَّا وَأَنَا الْآنَ مَسْئُولٌ عَنْ نَفْسِي وَعَنْكِ فَأُسْأَلُ عَنْ عَشْرِ صَلَوَاتٍ ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ ، وَكُلُّ مَا أَنَا مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَغَيْرِهَا حَتَّى بَالَغَ مَعَهَا بِأَنْ قَالَ لَهَا إنْ نَقَلْتِ الْكُوزَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَأَخْبِرِينِي بِهِ قَالَ وَذَلِكَ خِيفَةً مِنْ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ تَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِ فَبَقِيَتْ تُخْبِرُنِي بِكُلِّ تَصَرُّفِهَا إلَى أَنْ طَالَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَبَقِيَتْ تُخْبِرُنِي بِمَا يَظْهَرُ لَهَا أَنَّ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ وَتَسْكُتُ عَنْ الْبَاقِي فَوَجَدْت نَفْسِي قَلِقًا خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً قَدْ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ فَبَقِيت إذَا دَخَلْت الْبَيْتَ يُنْطِقُ اللَّهُ لِي جِدَارَ الْبَيْتِ حِينَ أَدْخُلُ فَيَقُولُ لِي جَمِيعَ تَصَرُّفِهَا فَأَجْلِسُ فَتَعْرِضُ عَلَيَّ كُلَّ

مَا تُرِيدُهُ مِمَّا يَظْهَرُ لَهَا أَنَّ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَأَقُولُ لَهَا هَلْ بَقِيَ شَيْءٌ فَتَقُولُ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهَا هُوَ ذَاكَ ، فَأَقُولُ لَهَا وَفَعَلْت كَذَا وَكَذَا وَأَذْكُرُ لَهَا بَقِيَّةَ تَصَرُّفِهَا فَتَقُولُ : أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْبَابُ عَلَيَّ مُغْلَقًا ، وَلَا أَجِدُ مَعِي فِي الْبَيْتِ أَحَدًا ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلْته فَمَنْ أَخْبَرَك فَمَا بَقِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةٍ حَتَّى تُخْبِرَنِي فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا كَيْفِيَّةَ نَظَرِهِمْ إلَى تَخْلِيصِ ذِمَمِهِمْ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ فَهِمُوا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَعَمِلُوا بِهِ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ وَأَعَادَ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ

( فَصْلٌ ) وَمِنْ آكَدِ الْأَشْيَاءِ وَأَهَمِّهَا تَفَقُّدُ الْقِرَاءَةِ إذْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامِ وَاجِبَةٌ وَسُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ فَالْوَاجِبَةُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ بِجَمِيعِ حُرُوفِهَا وَحَرَكَاتِهَا وَشَدَّاتِهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحْكِمْ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا وَالسُّنَّةُ سُورَةٌ مَعَهَا وَالْفَضِيلَةُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَعْنِي فِي غَيْرِ الْفَرَائِضِ ؛ لِأَنَّ أَفْضَلَهَا طُولُ الْقِيَامِ فِيهَا .
أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَيْثُ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ ، ثُمَّ النِّسَاءِ ، ثُمَّ الْمَائِدَةِ حَتَّى سَمِعْت هَذَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ رَكَعَ .
وَحَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَةِ الْوِتْرِ الْخَتْمَةَ كُلَّهَا ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي وَلَدِهِ وَعَبْدِهِ وَأَمَتِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهِمْ عُجْمَةٌ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى النُّطْقِ فَلَا حَرَجَ ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالتَّصْرِيحِ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ وَمَا يَحْتَاجَانِ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِ هِمَا كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ إذْ لَا فَرْقَ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِ ، وَقَدْ كَثُرَ الْجَهْلُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ بِهَذَا الْمَعْنَى حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ لَا حَظَّ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَذْكُرُ شَيْئًا لَوْ اعْتَقَدَهُ لَكَانَ كُفْرًا لَا شَكَّ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ جَهْلٌ وَسَخَفٌ وَبِدْعَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ وَهُوَ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ

مِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ صَلَاةَ الْعَبْدِ وَصَوْمَهُ وَبَاقِيَ عِبَادَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ لِسَيِّدِهِ ، أَوْ لِسَيِّدَتِهِ ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .
وَكَذَلِكَ يُعَلِّمُهُنَّ مَا يَخُصُّهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي الْحَيْضِ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَرِّفَهُنَّ أَنَّ الْحَيْضَ عَلَى سِتِّ مَرَاتِبَ : أَوَّلُهُ أَسْوَدُ ، ثُمَّ حُمْرَةٌ ، ثُمَّ صُفْرَةٌ ، ثُمَّ غُبْرَةٌ ، ثُمَّ كُدْرَةٌ ، ثُمَّ قَصَّةٌ ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ فَتَصِيرُ جَافَّةً ، فَالْخَمْسَةُ الْأُوَلُ حَيْضٌ وَالْقَصَّةُ وَالْجُفُوفُ نَقَاءٌ وَكَثِيرًا مَا يُتَسَاهَلُ الْيَوْمَ فِي هَذَا الْبَابِ لِقِلَّةِ سُؤَالِهِنَّ وَمَنْ يُعَلِّمُهُنَّ ، فَمِنْهُنَّ مَنْ تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا يَحْرُمُ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَأَمَّا الصُّفْرَةُ وَالْغُبْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فَلَا بَأْسَ بِالْوَطْءِ فِيهَا عِنْدَهُمْ ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الْأُوَلِ وَبَعْدَهَا يَجُوزُ الْوَطْءُ وَمِنْهُنَّ مَنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فَإِنْ رَأَتْ الطُّهْرَ قَبْلَ مُضِيِّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ وَانْتَظَرَتْ تَمَامَهَا دُونَ غُسْلٍ وَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَوَطْءٍ ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَصَامَتْ وَوُطِئَتْ مَعَ وُجُودِ الْحَيْضِ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ انْتَهَى فَيَسْتَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَتَغَفُّلِ الْأَزْوَاجِ ، ثُمَّ يُعَلِّمُهُنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَقَلَّهَا وَمَا بَيْنَهُمَا وَيُعَرِّفُهُنَّ مَا إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ خَمْسِ رَكَعَاتٍ إلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَلْ يُقَدَّرُ لَهَا قَدْرَ زَمَنِ الْغَسْلِ بِلَا تَرَاخٍ ، أَوْ زَمَنِ الرَّكَعَاتِ ، وَكَذَا إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ

قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالصُّبْحُ إلَى أَنْ يَبْقَى لَهَا مِقْدَارُ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيُحَقِّقُ لَهُنَّ الطُّهْرَ بِمَاذَا يَكُونُ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ يَخْتَلِفْنَ فِي هَذَا فَوَاحِدَةٌ يَكُونُ طُهْرُهَا بِالْجُفُوفِ وَأُخْرَى يَكُونُ طُهْرُهَا بِالْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ ، وَيُعَلِّمُهُنَّ أَيْضًا مَوَانِعَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً مِنْهَا عَشَرَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ وَهِيَ : مَنْعُ رَفْعِ حَدَثِهَا مِنْ حَيْضَتِهَا .
وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ صِحَّةُ فِعْلِهَا .
صِحَّةُ فِعْلِ الصَّوْمِ دُونَ وُجُوبِهِ .
مَسُّ الْمُصْحَفِ .
دُخُولُ الْمَسْجِدِ .
الِاعْتِكَافُ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ .
الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ .
الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ .
وَمِنْهَا خَمْسَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَهِيَ : مَنْعُ وَطْئِهَا فِيمَا تَحْتَ الْإِزَارِ .
مَنْعُ وَطْئِهَا بَعْدَ النَّقَاءِ وَقَبْلَ الْغُسْلِ الْمَشْهُورُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ مَنْعُ رَفْعِ حَدَثِ غَيْرِهَا .
مَنْعُ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ مَائِهَا .
قِرَاءَتُهَا الْقُرْآنَ ظَاهِرًا الْمَشْهُورُ الْجَوَازُ ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَهِيَ أَنْ تَقْعُدَ الْمَرْأَةُ بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا فَتَطْلُبَ الصَّابُونَ فِي يَوْمٍ وَتَغْسِلَ ثِيَابَهَا فِي الثَّانِي وَتَغْتَسِلَ فِي الثَّالِثِ وَتُصَلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَتَقْعُدُ مُدَّةً بِغَيْرِ صَلَاةٍ فِي ذِمَّتِهَا ، ثُمَّ تَرْتَكِبُ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَهِيَ أَنَّهَا لَا تُصَلِّي إلَّا مَا أَدْرَكَتْهُ بَعْدَ غُسْلِهَا ، وَلَا تَقْضِي مَا فَوَّتَتْهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا .

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهَا حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا سَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُرْتَدٌّ ، أَوْ مُسْلِمٌ فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مُرْتَدٌّ قَالَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَيَعُودُ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ مُرْتَكِبٌ لِكَبِيرَةٍ عُظْمَى فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ وَيَقْضِيَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ تَظْهَرَ اسْتِقَامَتُهُ .

وَكَذَلِكَ يُنَبِّهُهُنَّ أَيْضًا عَلَى مَا إذَا تَمَادَى بِهَا الدَّمُ وَزَادَ عَلَى عَادَتِهَا وَانْقَطَعَ ، وَحُكْمُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَمَادَى بِهَا وَلَمْ يَنْقَطِعْ وَهِيَ الْمُسْتَحَاضَةُ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُنَبِّهَهُنَّ عَلَى مَا يَفْعَلُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّهُنَّ إذَا انْقَطَعَ الْحَيْضُ عَنْ إحْدَاهُنَّ خَرَجَتْ إلَى الْحَمَّامِ فَتَغْتَسِلُ فِيهِ ، وَهِيَ لَا تَدْرِي أَحْكَامَ الْغُسْلِ وَمَا يَلْزَمُهَا فِيهِ بَلْ تُنَظِّفُ جَسَدَهَا وَتَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ، فَلَوْ صَلَّتْ بِهَذَا الْغُسْلِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا ، وَلَا يَحِلُّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا إذْ أَنَّهَا لَمْ تَغْتَسِلْ بَعْدُ مِنْ حَيْضَتِهَا الْغُسْلَ الشَّرْعِيَّ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ تَغْتَسِلَ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ مِنْ حَيْضَتِهَا ، أَوْ جَنَابَتِهَا ، أَوْ هُمَا مَعًا ، فَإِذَا نَوَتْ النِّيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فَقَدْ صَحَّ غُسْلُهَا وَاسْتَبَاحَتْ الصَّلَاةَ وَالْوَطْءَ وَكُلَّ مَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْهُ فِي حَالِ حَيْضِهَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إزَالَةِ الْوَسَخِ ، أَوْ بَعْدَهُ ، بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّ الْغُسْلَ إنَّمَا هُوَ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ وَالتَّنَظُّفِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِجَهْلِهِنَّ بِالْحُكْمِ فِي ذَلِكَ وَيُنَبِّهُهُنَّ عَلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ النِّسَاءِ بَلْ الْمُحَرَّمَةِ وَهِيَ أَنَّهُنَّ يَعْتَقِدْنَ أَنَّ إحْدَاهُنَّ لَا تَطْهُرُ حَتَّى تُدْخِلَ يَدَهَا فِي فَرْجِهَا وَتَغْسِلَ دَاخِلَهُ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَا غُسْلَ لَهَا فَجَرَّتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ إلَى مُحَرَّمٍ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهَا إذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا وَلَمْ تَغْتَسِلْ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهِيَ لَمْ تَغْتَسِلْ فَتَتْرُكْ الْغُسْلَ نَهَارًا مُحَافَظَةً مِنْهَا عَلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ بِسَبَبِ أَنَّهَا تُفْطِرُ بِإِدْخَالِ يَدِهَا فِي فَرْجِهَا ، فَلَوْ أَنَّهَا لَمْ

تَفْعَلْ هَذَا الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ اغْتَسَلَتْ نَهَارًا وَحَصَلَ لَهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ مَعًا عَلَى أَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ نَهَارًا لَصَحَّ صَوْمُهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ فِعْلِهَا هَذَا الْمُحَرَّمَ الشَّنِيعَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْطِرُ بِذَلِكَ عِنْدَهُ وَيَنْتَقِضُ بِهِ وُضُوءُهَا دُونَ غُسْلِهَا ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَمَسُّ فَرْجَهَا هَلْ عَلَيْهَا وُضُوءٌ أَمْ لَا فَقَالَ : إنْ أَلْطَفَتْ فَعَلَيْهَا الْوُضُوءُ قِيلَ وَمَا مَعْنَى أَلْطَفَتْ قَالَ أَنْ تَفْعَلَ كَمَا يَفْعَلُ شِرَارُ النِّسَاءِ وَهِيَ أَنْ تُدْخِلَ أُصْبُعَهَا مَعَهَا انْتَهَى .
وَسَبَبُ هَذَا عَدَمُ الْعِلْمِ وَعَدَمُ الْفَهْمِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنْ الْحَيْضِ قَالَ : خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً وَتَوَضَّئِي ثَلَاثًا ، ثُمَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَى وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ ، أَوْ قَالَ تَوَضَّئِي بِهَا .
قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَخَذْتُهَا فَجَذَبْتُهَا فَأَخْبَرْتهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .
وَذَلِكَ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ لَهُ رَائِحَةٌ فَقَدْ يَشُمُّهَا الرَّجُلُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْفِرَاقِ ، وَالْوُضُوءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَضَاءَةِ يُقَالُ : وَجْهٌ وَضِيءٌ أَيْ حَسَنٌ نَظِيفٌ فَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ تَنْظِيفُ الْمَحَلِّ وَتَطْيِيبُهُ ، وَصِفَةُ مَا تَفْعَلُ أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُطْنِ ، أَوْ غَيْرِهِ فَتَجْعَلُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْمِسْكِ وَلَوْ قَلَّ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطِّيبِ إنْ تَعَذَّرَ الْمِسْكُ فَتُرْسِلَهُ مَعَهَا بِرِفْقٍ وَتَلْحِمُ عَلَيْهِ بِحَفَّاضٍ وَتَتْرُكُهُ حَتَّى تَظُنَّ أَنَّ مَا فِي الْمَحَلِّ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ هَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلَيْسَ هُوَ غَسْلُ بَاطِنِ الْفَرْجِ بِالْمَاءِ كَمَا يَزْعُمْنَ .
وَمَعَ ذَلِكَ

فَفِيهِ أَذِيَّةُ لَهَا وَلِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إذَا وَصَلَ إلَى بَاطِنِ الْفَرْجِ مَعَ الْأَصَابِعِ أَرْخَى الْمَحَلَّ وَبَرَّدَهُ وَوَسَّعَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَكَيْفَ مَعَ وُجُودِ الضَّرَرِ وَالْإِخْلَالِ بِالْفَرْضِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهَا أَنْ تَغْسِلَ الْمَحَلَّ كَمَا تَغْسِلُهُ الْبِكْرُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ لَا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُنَّ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهُنَّ بِمَا أَحْدَثَ بَعْضُ النِّسَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِمَّنْ لَهَا مَنْظَرٌ وَسِمَنٌ فَتَخَافُ إنْ صَامَتْ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُ جَمَالِهَا ، أَوْ سِمَنِهَا فَتُفْطِرُ خِيفَةً مِنْ ذَلِكَ ، وَهِيَ لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ اسْتِحْلَالًا فَتَكْفُرُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهَا عَلَى اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ فَهِيَ مُرْتَكِبَةٌ لِمَعْصِيَةٍ كُبْرَى يَجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : التَّوْبَةُ ، وَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَتُؤَدَّبُ إنْ عَثَرَ عَلَيْهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فَيَحْتَاجُ الْعَالِمُ أَنْ يَتَبَتَّلَ لِتَعْلِيمِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلَى قَوْلِهِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ فَسَوَّى بَيْنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ تَجِدُ أَوْلَادَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ وَإِمَاءَهُمْ فِي غَالِبِ أَمْرِهِمْ مُشْتَرَكِينَ فِي هَذِهِ الْفَضَائِلِ كُلِّهَا .
أَلَا تَرَى إلَى بِنْتِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَنْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا وَكَانَ مِنْ أَحَدِ طَلَبَةِ وَالِدِهَا فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ أَخَذَ رِدَاءَهُ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ : إلَى أَيْنَ تُرِيدُ

فَقَالَ : إلَى مَجْلِسِ سَعِيدٍ أَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ فَقَالَتْ : لَهُ اجْلِسْ أُعَلِّمُكَ عِلْمَ سَعِيدٍ .
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْمُوَطَّأَ فَإِنْ لَحَنَ الْقَارِئُ فِي حَرْفٍ ، أَوْ زَادَ ، أَوْ نَقَصَ تَدُقُّ ابْنَتُهُ الْبَابَ فَيَقُولُ أَبُوهَا لِلْقَارِئِ ارْجِعْ فَالْغَلَطُ مَعَك فَيَرْجِعُ الْقَارِئُ فَيَجِدُ الْغَلَطَ .
وَكَذَلِكَ مَا حُكِيَ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَأَنَّهُ اشْتَرَى خَضِرَةً مِنْ جَارِيَةٍ وَكَانُوا لَا يَبِيعُونَ الْخَضِرَةَ إلَّا بِالْخُبْزِ فَقَالَ لَهَا : إذَا كَانَ عَشِيَّةً حِينَ يَأْتِينَا الْخُبْزُ فَائْتِينَا نُعْطِيك الثَّمَنَ فَقَالَتْ : ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَقَالَ لَهَا : وَلِمَ فَقَالَتْ : لِأَنَّهُ بَيْعُ طَعَامٍ بِطَعَامٍ غَيْرُ يَدٍ بِيَدٍ فَسَأَلَ عَنْ الْجَارِيَةِ فَقِيلَ لَهُ إنَّهَا جَارِيَةُ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كَانَ حَالُهُمْ وَإِنَّمَا عَيَّنْت مَنْ عَيَّنْت تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ ، وَقَدْ كَانَ فِي زَمَانِنَا هَذَا سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَرَأَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ الْخَتْمَةَ فَحَفِظَتْهَا .
وَكَذَلِكَ رِسَالَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنِصْفُ الْمُوَطَّإِ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ ابْنَتَاهَا قَرِيبَانِ مِنْهَا فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي زَمَانِنَا فَمَا بَالُكَ بِزَمَانِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَحْمِلُ أَهْلَهُ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ فَيَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ جُهْدَهُ فَإِنَّهُمْ آكَدُ رَعِيَّتِهِ وَأَوْجَبُهُمْ عَلَيْهِ وَأَوْلَاهُمْ بِهِ فَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

فَصْلٌ فِي آدَابِ الْأَكْلِ وَيَتَحَرَّزُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ طَعَامٌ خَاصٌّ بِهِ وَزُبْدِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِهِ وَكُوزٌ خَاصٌّ بِهِ أَلَا تَرَى حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْت أَشْرَبُ مِنْ الْإِنَاءِ فَيَأْخُذُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشْرَبُ مِنْهُ فَيَضَعُ فَاهُ فِي مَوْضِعِ فِي انْتَهَى .
وَهَذَا تَشْرِيعٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِتَغْتَنِمَ أُمَّتُهُ بَرَكَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَتَكُونُ مَنْفَعَتُهُمْ عَامَّةً بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ .
وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُؤْرُ الْمُؤْمِنِ شِفَاءٌ فَيُحْرَمُ الْمِسْكِينُ هَذِهِ الْبَرَكَةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ انْتَهَى فَإِذَا كَانَ لَهُ طَعَامٌ خَاصٌّ بِهِ فَهُوَ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ نَفْسِهِ فَكَيْفَ بِالْعَالِمِ الَّذِي هُوَ إمَامُهُمْ وَقُدْوَتُهُمْ وَهَذِهِ دَسِيسَةٌ مِنْ دَسَائِسِ إبْلِيسَ دَسَّهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِوَاسِطَةِ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُنَّ يَجِدْنَ السَّبِيلَ إلَى إطْعَامِ الرَّجُلِ مَا يَخْتَرْنَ مِنْ السِّحْرِ وَغَيْرِهِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ وَدِينِهِنَّ إذْ أَنَّهُنَّ مَصَائِدُ الشَّيْطَانِ وَغَيْرَتُهُنَّ تَحْمِلُهُنَّ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ يُشَارِكُهُنَّ فِي الْأَكْلِ مَا وَجَدَ إبْلِيسُ لِفَتْحِ هَذَا الْبَابِ مِنْ سَبِيلٍ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى شَيْنِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ تَجُرُّ إلَى مُحَرَّمَاتٍ ، وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ فَاعِلَهُ مُتَّصِفٌ بِالْكِبْرِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى النَّاسِ بِالتَّوَاضُعِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَيْهَا وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْأَكْلِ وَحْدَهُ لِمَا وَرَدَ شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ وَضَرَبَ عَبْدَهُ وَمَنَعَ رِفْدَهُ انْتَهَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ حَمِيَّةٍ ، أَوْ مَرَضٍ ، أَوْ صَوْمٍ ، أَوْ وِصَالٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ

كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَدْ خَرَجَ هَذَا عَنْ هَذَا الْبَابِ إلَى بَابِ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُخَلَّى مَنْ أَتَاهُ بِطَعَامٍ أَنْ يُذِيقَهُ مِنْهُ شَيْئًا مَا وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامٍ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ ، أَوْ أَكْلَةً ، أَوْ أَكْلَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ انْتَهَى .
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِقُوَّةِ بَاعِثِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْخَادِمِ ، وَلَا فَرْقَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ بَيْنَ الْخَادِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ ، أَوْ يَرَاهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ وَالْعَيْنَانِ تَنْظُرَانِ حَتَّى لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ هِرٌّ ، أَوْ كَلْبٌ فَقَدْ جَعَلَهُ الْعُلَمَاءُ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ مَنْ عَمِلَ لَهُ الطَّعَامَ ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ فَلْيُنَاوِلْهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَكُونُ مَا يُنَاوِلُهُ مِنْ أَوَّلِهِ لَا مَنْ فَضْلَتِهِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْأَكْلِ وَأَحَدٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ إذْ ذَاكَ فَإِنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ قَلَّ إنْ سَلِمَ مِنْ وُجُودِ الْكِبْرِ ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَفْعَلُ الْيَوْمَ هَذَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الذُّبَابُ كَثِيرًا فَيَقُومُ شَخْصٌ عَلَى رُءُوسِ الْآكِلِينَ فَيَنُشُّ عَلَيْهِمْ وَيُرَوِّحُ وَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ ، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فَلْيَكُنْ فَاعِلُهُ جَالِسًا حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ وَمِنْ الْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ عَبْدَهُ ، أَوْ أَمَتَهُ ، أَوْ كَائِنًا مَنْ كَانَ

( فَصْلٌ ) فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ يَدُهُ نَظِيفَةً أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَتْ نَظِيفَةً فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْغَسْلِ ، أَوْ التَّرْكِ ، وَالْغَسْلُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْتِزَامَهُ أَعْنِي الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ فَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِهِ شَيْءٌ ، أَوْ حَكَّ بَدَنَهُ ، أَوْ مَسَّ عَرَقَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهَا .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْغَسْلُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ يَعْنِي الْجُنُونَ وَيَنْوِي بِغَسْلِهِ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ ، وَهَذَا فِيمَا كَانَ لَهُ مِنْ الطَّعَامِ دَسَمٌ ، فَإِنْ يَكُنْ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَنْدَلُونَ بِأَقْدَامِهِمْ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهَا وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَرْفِيعِهِمْ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ فِي الْيَدِ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ الطَّعَامِ مَا تَمَنْدَلُوا بِالْأَقْدَامِ ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِلَعْقِ الْيَدِ بَعْدَ الْأَكْلِ ، أَوْ يُلْعِقُهَا أَخَاهُ ، وَقَدْ أَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَصْعَةً بَقِيَ لُعَاقُهَا قَالَ فَلَعِقْتُهَا فَشَبِعْت ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ ، وَقَدْ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ سَاعَةً ، ثُمَّ دَعَا بِالطَّعَامِ وَدَعَا بِالْوَضُوءِ لِغَسْلِ يَدِهِ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ ابْدَءُوا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَغْسِلُ فَقَالَ مَالِكٌ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا يَغْسِلُ يَدَهُ فَاغْسِلْ أَنْتَ يَدَك فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ لِمَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَدْرَكْت عَلَيْهِ أَهْلَ بَلَدِنَا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْعَجَمِ

وَأُمُورَهَا ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إذَا أَكَلَ مَسَحَ يَدَهُ بِظَهْرِ قَدَمَيْهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ أَفَتَرَى لِي تَرْكَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : إيْ وَاَللَّهِ فَمَا عَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ إلَى ذَلِكَ انْتَهَى .

فَإِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى آدَابٍ مِنْهَا أَنْ يُشْعِرَ نَفْسَهُ فَيَنْظُرَ فِيمَا حَضَرَهُ كَمْ مِنْ عَالَمٍ عُلْوِيٍّ وَسُفْلِيٍّ خَدَمَهُ فِيهِ لِمَا قِيلَ : إنَّ الرَّغِيفَ لَا يَحْضُرُ بَيْنَ يَدَيْ آكِلِهِ حَتَّى يَخْدُمَ فِيهِ ثَلَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عَالِمًا عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ فَإِذَا أَشْعَرَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ فَيَعْلَمُ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي إحْضَارِ هَذَا الرَّغِيفِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُقَدِّرُ شُكْرَهَا بِأَنْ يَعْلَمَ مَا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ النِّعَمِ وَعَجْزَهُ عَنْ شُكْرِهَا .
ثُمَّ الْأَكْلُ فِي نَفْسِهِ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ : وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ ، فَالْوَاجِبُ مَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ لِأَدَاءِ فَرْضِ رَبِّهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، وَالْمَنْدُوبُ مَا يُعِينُهُ عَلَى تَحْصِيلِ النَّوَافِلِ وَعَلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ ، وَالْمُبَاحُ الشِّبَعُ الشَّرْعِيُّ وَالْمَكْرُوهُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ قَلِيلًا وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ ، وَالْمُحَرَّمُ الْبِطْنَةُ وَهُوَ الْأَكْلُ الْكَثِيرُ الْمُضِرُّ لِلْبَدَنِ وَرُتْبَةُ الْعَالِمِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَكْلِ الْمُبَاحِ وَالْمَنْدُوبِ ، وَقَدْ سَبَقَ حَدُّهُمَا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَلْيَقُلْ عِنْدَهُ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ أَوْ مَعَهَا كَيْفِيَّةَ السُّلُوكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَكْلِهِ فَيَنْوِيَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَكْلِهِ ذَلِكَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ انْتَهَى .
وَيُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ الِافْتِقَارِ وَالْحَاجَةِ وَالْإِضْرَارِ وَالْمَسْكَنَةِ مَعَ نِيَّةِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ الْمُتَقَدِّمِي الذِّكْرِ فِي التَّقْسِيمِ ، وَنَوْعٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالتَّعَلُّقِ بِمَوْلَاهُ

وَالشُّكْرِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ فِي أَكْلِهِ وَفِي تَخْلِيصِهِ مِنْ آفَةِ أَكْلِهِ فَإِنَّ لَهُ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالطَّعَامِ وَآخَرَ بِالشَّرَابِ فَإِذَا أَخَذَ لُقْمَةً سَوَّغَهَا لَهُ الْمَلَكُ وَمِثْلُهُ فِي الشَّرَابِ ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَشْرَقُ تَخَلَّى عَنْهُ الْمَلَكُ بِإِذْنِ رَبِّهِ حَتَّى يَنْفُذَ فِيهِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي تَسْوِيغِ هَذِهِ اللُّقْمَةِ وَالشَّرْبَةِ فَكَيْفَ بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُفَكِّرُ فِي حَالِهِ حِينَ الْأَكْلِ إذْ أَنَّهُ مُتَوَقَّعٌ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ وَفِي كُلِّ شَرْبَةٍ ، وَكَثِيرٌ مَنْ جَرَى لَهُ ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى فِي مَجْلِسِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ قَالَ : إنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ بِالنِّعَمِ قَتَلَ بِالنِّعَمِ وَلَوْ كَانَ مَا كَانَ ، أَوْ كَمَا قَالَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَيَقْتُلُ بِالزُّبْدِ فَقَالَ نَعَمْ فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ الْمَجْلِسِ قَالَ : مَا أَتَغَدَّى الْيَوْمَ إلَّا بِالزُّبْدِ حَتَّى أَرَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ أَأَحَدٌ يَمُوتُ بِالزُّبْدِ فَأَخَذَ خُبْزًا وَزُبْدًا وَجَاءَ إلَى بَيْتِهِ فَرَفَعَ لُقْمَةً فَأَكَلَهَا فَشَرِقَ بِهَا فَمَاتَ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ طَلَبَ أَهْلَ الْكِتَابِ لِلْمُبَاهَلَةِ فَامْتَنَعُوا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ فَعَلُوا لَمَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرِيقِهِ ، أَوْ كَمَا قَالَ : فَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ مُتَوَقَّعًا مَعَهُ فِي حَالِ بَلْعِهِ رِيقَهُ فَمَا بَالُكَ بِاللُّقْمَةِ ، أَوْ الشَّرْبَةِ ، وَالْمَوْتُ مُتَوَقَّعٌ مَعَهُ فِي حَالِ طَلَبِهِ لِلْحَيَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي غَالِبِ الْحَالِ لَا يَطْلُبُهُمَا النَّاسُ إلَّا لِلْحَيَاةِ ، وَقَدْ يَمُوتُ بِهِمَا فَنَفْسُ سَبَبِ الْحَيَاةِ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إنَّ الْمَلَكَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ اللُّقْمَةَ وَالْآخَرَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الشَّرْبَةَ

وَظِيفَتُهُمَا التَّسْوِيغُ لَيْسَ إلَّا وَلَهُ مَلَكٌ آخَرُ مُوَكَّلٌ بِالْغِذَاءِ فَيَقْسِمُ قُوتَهُ عَلَى الْبَدَنِ فَيُرْسِلُ لِكُلِّ عُضْوٍ وَجَارِحَةٍ وَعِرْقٍ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَيَحْتَمِلُهُ بَعْدَ تَصْفِيَتِهِ فَيُعْطَى اللَّطِيفُ لَطِيفًا وَالْكَثِيفُ كَثِيفًا قُدْرَةُ قَادِرٍ ، وَمَلَكٌ آخَرُ يَأْخُذُ مَا لَا قُوتَ فِيهِ وَهُوَ الْفَضْلَةُ فَيُرْسِلُهُ لَلْمُصْرَانِ فَلَوْ بَقِيَ مَعَهُ ذَلِكَ الثُّفْلُ لَمَاتَ بِهِ ، أَوْ زَادَ خُرُوجُهُ عَلَى الْعَادَةِ لَمَاتَ فَهُوَ عَبْدٌ مُفْتَقِرٌ مُضْطَرٌّ مُحْتَاجٌ إلَى شَيْءٍ يَأْكُلُهُ وَإِلَى مَنْ يُسَوِّغُهُ لَهُ وَإِلَى مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْهُ .
فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَرَقَّبَ الْمَوْتَ عِنْدَ كُلِّ نَفَسٍ ؛ لِأَنَّ أَنْفَاسَهُ عَلَيْهِ مَعْدُودَةٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَعُدُّ عَلَيْهِمْ الْأَنْفَاسَ فَتَصِيرُ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَى شَيْخِهِ لِيَزُورَهُ قَالَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَوَجَدْته يُصَلِّي فَأَوْجَزَ فِي صَلَاتِهِ وَقَالَ لِي مَا حَاجَتُك فَإِنِّي مَشْغُولٌ فَقُلْت لَهُ وَمَا شَغَلَك ؟ قَالَ أُبَادِرُ خُرُوجَ رُوحِي وَقَالَ غَيْرُهُ جِئْت إلَى شَيْخِي لِأُسَلِّمَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَرَأَى فِي كِسَائِي عُقْدَةً فَقَالَ مَا هَذِهِ فَقُلْت أَخِي فُلَانٌ أَعْطَانِي لُوَيْزَاتٍ عَزَمَ عَلَيَّ أَنْ أُفْطِرَ عَلَيْهَا فَقَالَ لِي وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّك تَعِيشُ إلَى الْمَغْرِبِ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُك بَعْدَهَا أَبَدًا ، أَوْ كَمَا قَالَ .
وَكَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ يَتَلَفَّتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالُوا لَهُ لِمَنْ أَنْتَ تَتَلَفَّتُ قَالَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَنْظُرُ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يَأْتِي لِقَبْضِ رُوحِي

وَلِمَصَالِحِ الْإِنْسَانِ مَلَائِكَةٌ عَدِيدَةٌ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِحِفْظِهِ وَحِرَاسَتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا نَامَ فَهُوَ مَحْرُوسٌ مِنْ الْخَشَاشِ وَالْجَانِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِحِرَاسَتِهِ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَمْرًا تَخَلَّوْا عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ دَلِيلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَمِنْ مُسْنَدِ ابْنِ قَانِعٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَكَّلَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ سِتِّينَ وَثَلَاثَمِائَةِ مَلَكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِالْبَصَرِ سَبْعَةُ أَمْلَاكٍ وَلَوْ وُكِلَ الْعَبْدُ إلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَاخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ انْتَهَى .
فَإِذَا نَظَرَ الْعَبْدُ إلَى هَذِهِ الْحِكَمِ تَبَيَّنَ لَهُ قَدْرُ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ إذْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْفَظُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَتَحْرُسُهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْحَفَظَةَ تَصْعَدُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَقُولُ يَا رَبَّنَا وَكَّلْتَنَا بِعَبْدِك فُلَانٍ ، وَقَدْ مَاتَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ ، أَوْ كَمَا قَالَ فَمَا نَفْعَلُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْزِلَا إلَى قَبْرِهِ وَاعْبُدَانِي وَاكْتُبَا لَهُ ذَلِكَ فِي صَحِيفَتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ الْمِنَّةِ الْعُظْمَى وَالْكَرْمِ الشَّامِلِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ يَا ذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فِي حَالِ أَكْلِهِ وَكَيْفِيَّةِ أَمْرِهِ فَيَكُونُ مَشْغُولًا بِذَلِكَ التَّفَكُّرِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِيءُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَقِيَ أَكْلُهُمْ أَكْلَ الْمَرْضَى وَنَوْمُهُمْ نَوْمَ الْغَرْقَى فَيَكُونُ مُشْعِرًا نَفْسَهُ بِذَلِكَ مُتَهَيِّئًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَغَيْرِهَا .

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا فَالِاتِّبَاعُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَلَا يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ إذْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُشَرِّعُونَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّبِعِينَ ، وَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِسْمِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَقُولُ فِي أَوَّلِ لُقْمَةٍ بِسْمِ اللَّهِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ وَفِي الثَّالِثَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ يُسَمِّي بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ وَهَذَا مِثْلُ مَا سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ قِيلَ لَهُ كَيْفَ نَقُولُ فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ، أَوْ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَقُولُ وَبِحَمْدِهِ تَحَفُّظًا مِنْهُ عَلَى الِاتِّبَاعِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إلَى مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ ذِكْرٌ حُسْنٌ لَكِنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ أَبَدًا ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ وَهُوَ قَائِمٌ ، أَوْ مَاشٍ بَلْ حَتَّى يَجْلِسَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ الْجُلُوسَ إلَى الطَّعَامِ عَلَى الْهَيْئَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى وَيَضَعَ الْيُسْرَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا وَالْهَيْئَةُ الثَّانِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ يُقِيمُهُمَا مَعًا وَالْهَيْئَةُ الثَّالِثَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ يَجْلِسَ كَجُلُوسِهِ لِلصَّلَاةِ ، وَأَمَّا جُلُوسُ الْمُتَرَبِّعِ وَالْجَالِسِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ الْكَابِّ رَأْسَهُ عَلَى الطَّعَامِ فَهَاتَانِ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَإِنَّمَا كُرِهَ أَنْ يَكُبَّ رَأْسَهُ لِئَلَّا يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ فَضَلَاتِ فَمِهِ فِي الطَّعَامِ سِيَّمَا إذَا كَانَ سُخْنًا فَيَعَافُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ وَيَعَافُهُ غَيْرُهُ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْعِمَامَةُ كَبِيرَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَنْعِ غَيْرِهِ

مِنْ مَدِّ يَدِهِ لِلْمَائِدَةِ ، أَوْ حَصْرِهَا وَكَفَى بِهَاتَيْنِ الْهَيْئَتَيْنِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ فِيهِمَا .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْسَبُ أَكْثَرُ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمُتَّكِئَ هُوَ الْمَائِلُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْبَدَنِ إذْ كَانَ مَعْلُومٌ أَنَّ الْآكِلَ مَاثِلًا عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ ضَغْطٍ يَنَالُهُ فِي مَجَارِي طَعَامِهِ ، وَلَا يُسِيغُهُ ، وَلَا يَسْهُلُ نُزُولُهُ إلَى مَعِدَتِهِ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْمُتَّكِئُ هَا هُنَا هُوَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى الْوِطَاءِ الَّذِي تَحْتَهُ وَكُلُّ مَنْ اسْتَوَى قَاعِدًا عَلَى وِطَاءٍ فَهُوَ مُتَّكِئٌ وَالِاتِّكَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوِكَاءِ وَوَزْنُهُ الِافْتِعَالُ وَمِنْهُ الْمُتَّكِئُ وَهُوَ الَّذِي أَوْكَأَ مُقْعَدَتَهُ وَشَدَّهَا بِالْقُعُودِ عَلَى الْوِطَاءِ الَّذِي تَحْتَهُ ، وَالْمَعْنَى إنِّي إذَا أَكَلْت لَمْ أَقْعُدْ مُتَّكِئًا عَلَى الْأَوْطِئَةِ وَالْوَسَائِدِ فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَيَتَوَسَّعَ فِي الْأَلْوَانِ وَلَكِنِّي آكُلُ عَلَقَةً وَآخُذُ مِنْ الطَّعَامِ بُلْغَةً فَيَكُونُ قُعُودِي مُتَوَفِّزًا لَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْعُدُ مُقْعِيًا وَيَقُولُ : أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ انْتَهَى .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ الْمُقْعِي هُوَ الَّذِي يُلْصِقُ أَلْيَتَهُ بِالْأَرْضِ وَيَنْصِبُ سَاقَيْهِ انْتَهَى ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ بِيَدِهِ ، وَلَا يُدْخِلَ أَصَابِعَهُ فِي فَمِهِ ، ثُمَّ يَرُدُّهَا إلَى الْقَصْعَةِ فَإِنَّهُ يُصِيبُهَا شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهِ فَيَعَافُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ ، أَوْ يَعَافُهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَرَاهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ

جَاهِلًا ، أَوْ نَاسِيًا فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ إنْ لَمْ يَكُنْ اكْتَفَى مِنْ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ لَعْقَ الْأَصَابِعِ إنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الطَّعَامِ خَوْفًا مِنْ الِاسْتِقْذَارِ وَحِفْظًا لِنَعَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تُمْتَهَنَ وَطَرَدُوا ذَلِكَ حَتَّى فِي التَّمْرِ قَالُوا : إنَّهُ إذَا أَكَلَ التَّمْرَ يَأْخُذُ نَوَاةَ التَّمْرِ عَلَى ظَهْرِ يَدِهِ فَيُلْقِيهَا ، أَوْ يُلْقِيهَا بِفِيهِ خِيفَةً مِنْ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ النَّوَاةَ مِنْ فِيهِ بِبَاطِنِ أَصَابِعِهِ أَنْ يَتَعَلَّقَ لُعَابُهُ بِالتَّمْرَةِ الَّتِي يَرْفَعُهَا ثَانِيًا ، وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَهُ نَوًى وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ حَتَّى يَمَسَّهُ الْجُوعُ ، وَلَا يَأْكُلَ بِالْعَادَةِ دُونَ أَنْ يَجِدَهُ ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَطِيبَ لَهُ الْخُبْزُ وَحْدَهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَذُمَّ طَعَامًا لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَمَّ طَعَامًا قَطُّ إنْ أَعْجَبَهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَعْجِلَ عَلَى الْأَكْلِ إذَا كَانَ الطَّعَامُ سُخْنًا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ رُفِعَتْ الْبَرَكَةُ مِنْ ثَلَاثٍ الْحَارِّ وَالْغَالِي وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُطْعِمْنَا نَارًا وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ بِهَذِهِ الْمَلَاعِقِ ، وَلَا بِغَيْرِهَا وَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مُخَالَفَةُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ فِي فَمِهِ ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الطَّعَامِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِلَّةُ الْمَنْعِ .
وَالثَّالِثُ : فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الرَّفَاهِيَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَأَرْبَابُ الْأَعْذَارِ لَهُمْ حُكْمٌ خَاصٌّ بِهِمْ مَعْلُومٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْحَدِيثَ عَلَى الطَّعَامِ فَإِنَّ تَرْكَهُ عَلَى الطَّعَامِ بِدْعَةٌ ، وَلَا يُكْثِرُ مِنْهُ فَإِنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ بِدْعَةٌ أَيْضًا وَلِأَنَّهُ قَدْ يَشْغَلُ غَيْرَهُ عَنْ الْأَكْلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدْعِيَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الْكَلَامَ ، فَإِنَّ الْأُنْسَ بِالْكَلَامِ جَانِبٌ قَوِيٌّ مِنْ الْقِرَى .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَمْزَحَ عَلَى الْأَكْلِ خِيفَةَ أَنْ يَشْرَقَ هُوَ ، أَوْ غَيْرُهُ ، أَوْ يَشْتَغِلَ عَنْ ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اسْتِحْضَارِ ذِكْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ النِّعَمِ وَذِكْرِ الْمَوْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ عَلَى تَكْثِيرِ الْأَيْدِي عَلَى الطَّعَامِ فَعَلَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ خَيْرَ الطَّعَامِ مَا كَثُرَتْ عَلَيْهِ الْأَيْدِي وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمِعُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكُ لَكُمْ فِيهِ وَلِمَا رُوِيَ مَنْ أَكَلَ مَعَ مَغْفُورٍ غُفِرَ لَهُ وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ مِنْ الْفَوَائِدِ : أَحَدُهُمَا : بَرَكَةُ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ .
وَالثَّانِي : كَثْرَةُ الْبَرَكَةِ لِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ تَحْصُلُ فِي الطَّعَامِ إذَا حَضَرَهُ

وَاحِدٌ مِنْ الْمُبَارَكِينَ ، أَوْ أَكَلَ مِنْهُ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ مَلَائِكَةٌ مَعَهُ فَبِقَدْرِ عَدَدِ الْجَمَاعَةِ تَتَضَاعَفُ الْمَلَائِكَةُ وَمَهْمَا كَثُرَ عَلَيْهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذُنُوبٌ كَانَتْ الْبَرَكَةُ فِيهِ أَكْمَلَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ مِنْ الطَّعَامِ ثُلُثَ بَطْنِهِ وَلِلْمَاءِ الثُّلُثُ وَلِلنَّفَسِ الثُّلُثُ فَهُوَ مِنْ الْآدَابِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْعَقَ الْإِنَاءَ إذَا فَرَغَ الطَّعَامُ مِنْهُ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْقَصْعَةَ تَسْتَغْفِرُ لِلَاعِقِهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ شَبِعَ الشِّبَعَ الشَّرْعِيَّ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَجُوعَ فَيَلْعَقَهَا ، أَوْ يَأْتِيَ غَيْرَهُ مُحْتَاجًا فَيَلْعَقَهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يُلْقِمَ زَوْجَتَهُ اللُّقْمَةَ وَاللُّقْمَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَخَدَمِهِ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ أَصْهَارًا كَانُوا ، أَوْ ضُيُوفًا ، أَوْ أَصْدِقَاءَ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى اللُّقْمَةُ يَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ مَعَ أَنَّ وَضْعَ اللُّقْمَةِ فِي فِي امْرَأَتِهِ لَهُ فِيهَا اسْتِمْتَاعٌ فَغَيْرُهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى الَّذِي هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ خَالِصًا ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَعْنِي إحْضَارَ الطَّعَامِ وَالْإِطْعَامِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الثَّوَابُ ابْتِدَاءً لَكِنْ لَمَّا أَنْ زَادَ هَذَا نِيَّةَ الِاحْتِسَابِ جَعَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاحْتِسَابِ صَدَقَةً ، فَإِنْ اسْتَحْضَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ كَانَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَغْفِرَةُ مَا تَقَدَّمَ كَمَا مَرَّ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَغِّرَ اللُّقْمَةَ وَيُكْثِرَ الْمَضْغَةَ لِلسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ فِي أَوَّلِ اللُّقْمَةِ أَنْ يَبْدَأَ فِي مَضْغِهَا بِنَاحِيَةِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ هِيَ السُّنَّةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَأْكُلُ كَيْفَ شَاءَ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ شَابًّا جَاءَ لِزِيَارَتِهِ فَقَدَّمَ لَهُ شَيْئًا لِلْأَكْلِ فَابْتَدَأَ الْأَكْلَ بِجِهَةِ الْيَسَارِ فَقَالَ لَهُ مَنْ شَيْخُك فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدِي إنَّ نَاحِيَةَ الْيَمِينِ تُوجِعُنِي فَقَالَ لَهُ كُلْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْك وَعَمَّنْ رَبَّاك ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ : إنَّ الشَّخْصَ إذَا وَرَدَ يُعْرَفُ فِي تَصَرُّفِهِ مَنْ هُوَ فَإِنْ كَانَتْ حَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ عَلَى السُّنَّةِ عُرِفَ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الْعَوَامّ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ فِي كَمْ يَعْرِفُ الشَّخْصَ قَالَ إنْ سَكَتَ فَمِنْ يَوْمِهِ وَإِنْ نَطَقَ فَمِنْ حِينِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا ذُكِرَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا مِمَّا يَلِيه اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ مَعَ أَهْلِهِ ، أَوْ هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ فَلَهُ أَنْ يَجُولَ بِيَدِهِ حَيْثُ شَاءَ .
وَكَذَلِكَ فِي الْفَاكِهَةِ وَالتَّمْرِ عُمُومًا مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ وَسَطِ الْقَصْعَةِ ، وَلَا أَعْلَاهَا بَلْ مِنْ جَانِبِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ اللُّقْمَةُ أَمَاطَ عَنْهَا الْأَذَى وَأَكَلَهَا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْرِنَ فِي التَّمْرِ وَمَا أَشْبَهَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ لُقْمَةً حَتَّى يَبْتَلِعَ مَا قَبْلَهَا فَإِنَّ أَخْذَهَا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ مِنْ الشَّرَهِ وَالْبِدْعَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى الْآكِلِينَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْثِرَ غَيْرَهُ وَيَتْرُكَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، فَلِهَذِهِ الْمُصْلِحَةِ يَتَفَقَّدُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَيَأْمُرُهُ بِالْأَكْلِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُصَوِّتَ بِالْمَضْغِ ، فَإِنْ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمَكْرُوهٌ كَمَا لَا يُصَوِّتُ بِمَجِّ الْمَاءِ مِنْ الْمَضْمَضَةِ حِينَ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ وَمَكْرُوهٌ أَيْضًا .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ عَدَمَ الرِّيَاءِ فِي الْأَكْلِ ؛ لِأَنَّ مَنْ رَاءَى فِي أَكْلِهِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَائِيَ فِي عَمَلِهِ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَصْحَابَهُ أَثْنَوْا عَلَى شَخْصٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مِرَارًا وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرُدُّ جَوَابًا فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ سُكُوتِهِ فَقَالَ : رَأَيْتُهُ يُرَائِي فِي أَكْلِهِ وَمَنْ رَاءَى فِي أَكْلِهِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَائِيَ فِي عَمَلِهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَخَذَ لُقْمَةً لَا يَرُدُّ بَعْضَهَا إلَى الصَّحْفَةِ خِيفَةً مِنْ إصَابَةِ لُعَابِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا وَلَكِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْعَالِمِ فِي الْأَكْلِ رُتْبَتَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا قَبْلُ فَإِذَا كَانَتْ الْأَلْوَانُ اسْتَدْعَى ذَلِكَ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى رُتْبَتَيْهِ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ لَوْنٍ شَهْوَةً بَاعِثَةً غَالِبًا فَإِنْ كَانَ عَمَلُ الْأَلْوَانِ لِأَجْلِ شَهْوَةِ عِيَالِهِ ، أَوْ غَيْرِهِمْ فَلَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَوْنًا وَاحِدًا مِنْ الطَّعَامِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَبَيْنَ شَهْوَةِ مَنْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدَّمَ إلَيْهِ أَلْوَانَ طَعَامٍ فَفَرَّغَ الْجَمِيعَ فِي صَحْفَةٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ خَلَطَهَا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَكَلَ تَحَفُّظًا مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَابِلَ الْأَطْعِمَةَ فَيَأْكُلُ ثَقِيلًا بِخَفِيفٍ وَرَطْبًا بِيَابِسٍ وَحَارًّا بِبَارِدٍ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْسِمَ الصَّائِمُ أَكْلَهُ بَيْنَ الْفُطُورِ وَالسُّحُورِ فَيَسْلَمُ مِنْ الشِّبَعِ وَيَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُتَابِعَ الشَّهَوَاتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسْرِفَ فِي الْأَكْلِ ، وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ وَهُوَ يَشْتَهِيهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنْهَشَ الْبِضْعَةَ وَيَرُدَّهَا فِي الْقَصْعَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُسْتَقْذَرٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْكُلَ عَلَى حَائِلٍ عَنْ الْأَرْضِ ، وَلَا يَأْكُلُ عَلَى هَذِهِ الْأَخْوِنَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ وَفِيهَا نَوْعٌ مِنْ الْكِبْرِ .
وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا حَدَثَ مِنْ الْبِدَعِ أَرْبَعٌ وَهِيَ الْمُنْخُلُ وَالْخُوَانُ وَالْأُشْنَانُ وَالشِّبَعُ انْتَهَى .
أَمَّا الْمُنْخُلُ فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَطْحُونُ بِالْيَدِ ، أَوْ بِرَحَى الْمَاءِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْخُلَ بِدْعَةٌ إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ إلَّا مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ ، وَإِنْ كَانَ الطَّحِينُ بِالدَّوَابِّ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْخُلَ يَتَعَيَّنُ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ رَوْثِ الدَّوَابِّ ، وَأَمَّا الْخُوَانُ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَفِي بَعْضِهَا يَأْكُلُ عَلَى سُفْرَةٍ .
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخُوَانَ مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَهُوَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ جِنْسُهُ مِنْ نُحَاسٍ ، أَوْ خَشَبٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمُتَّبِعِينَ إذَا جَاءَتْهُ زُبْدِيَّةٌ لَهَا قَعْرٌ مُرْتَفِعٌ يَكْسِرُ قَعْرَهَا وَحِينَئِذٍ يَأْكُلُ مِنْهَا وَيَقُولُ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خُوَانًا لِعُلُوِّهَا عَنْ الْأَرْضِ فَنَقَعُ فِي التَّشَبُّهِ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَأَمَّا الْأُشْنَانُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي أَرْضِ مِصْرَ ، أَوْ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّ لُحُومَهَا لَيْسَتْ فِيهَا ذَفْرَةٌ

بَلْ لَهَا رَائِحَةٌ عِطْرِيَّةٌ كَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ فِي دِيَارِ مِصْرَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَظِّفَ يَدَيْهِ مِنْ ذَفَرِ لُحُومِهَا ، وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الْأُشْنَانُ فَيَسْتَغْنِي بِغَيْرِهِ مَا اسْتَطَاعَ تَحَفُّظًا عَلَى السُّنَّةِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى غَسْلِهِ بِهِ فَعَلَ ، وَأَمَّا الشِّبَعُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَرَاتِبُ الْأَكْلِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْعَالِمُ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ

، فَإِذَا أَكَلَ مَعَ الضَّيْفِ فَلَهُ زِيَادَةُ آدَابٍ مِنْهَا أَنْ يَخْدُمَ الضَّيْفَ بِنَفْسِهِ إنْ اسْتَطَاعَ وَيَنْوِيَ بِذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَلَّى أَمْرَ أَصْحَابِ النَّجَاشِيِّ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ فَقِيلَ لَهُ أَلَا نَكْفِيكَ فَقَالَ خَدَمُوا أَصْحَابِي فَأُرِيدُ أَنْ أُكَافِئَهُمْ فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ صَبَّ الْمَاءِ عَلَى يَدِ الضَّيْفِ حِينَ غَسْلِ يَدَيْهِ ، وَيُقَدِّمَ لَهُ مَا حَضَرَ وَلْيَحْذَرْ التَّكَلُّفَ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ إلَى التَّبَرُّمِ بِالضَّيْفِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ بَلْ هُوَ قَبِيحٌ مِنْ الْفِعْلِ ، وَيَنْبَغِي إذَا حَضَرَ مَنْ دَعَا أَنْ يُقَدِّمَ لَهُمْ مَا عِنْدَهُ مُعَجِّلًا ، وَلَا يُبْطِئُ لِيَتَكَثَّرَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَخَيَّرَ الْمَدْعُوُّ عَلَى الدَّاعِي إنَّمَا يَأْكُلُ مَا حَضَرَ وَيَنْبَغِي إنْ خُيِّرَ الْمَدْعُوُّ أَنْ لَا يَتَشَطَّطَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَكَلُّفٌ وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى مَنْ خَيَّرَهُ ، وَالتَّكَلُّفُ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا بِالدَّيْنِ ، وَلَيْسَ لَهُ جِهَةٌ يُعَوِّضُ مِنْهَا ، أَوْ يَكُونُ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الدَّيْنَ مُتَكَرِّهًا لِمَا يَبْذُلُ لَهُ ، أَوْ يَكُونُ الْمُتَدَايِنُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ وَجْهَهُ فِي أَخْذِ الدَّيْنِ ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ هُوَ التَّكَلُّفُ الْمَمْنُوعُ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الدَّيْنُ يُسَرُّ بِذَلِكَ وَالْآخَرُ يُدْخِلُ عَلَيْهِ السُّرُورَ مَعَ كَوْنِ الْوَفَاءِ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ التَّكَلُّفِ فِي شَيْءٍ ، وَمَا أَعَزَّهُ إذَا كَانَ لِلَّهِ خَالِصًا بَلْ هَذَا النَّوْعُ مَفْقُودٌ فِي زَمَانِنَا هَذَا .

وَيَنْبَغِي لِلْمَدْعُوِّ أَنْ لَا يُعْطِيَ مِنْ الطَّعَامِ لِأَحَدٍ شَيْئًا إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ مَا تَيَسَّرَ لَهُمْ أَخْذُهُ فَيَخْتَلِسُونَهُ وَيَجْعَلُونَهُ تَحْتَهُمْ حَتَّى إذَا رَجَعُوا إلَى بُيُوتِهِمْ أَخْرَجُوهُ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ السَّرِقَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .
وَيَنْبَغِي إذَا حَضَرَ مَنْ دُعِيَ وَأُحْضِرَ الطَّعَامُ فَلَا يُنْتَظَرُ مَنْ غَابَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْضِرَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْحِفَ بِأَهْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَلْوَانًا ؛ لِأَنَّ الضَّيْفَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ حُكْمِ أَهْلِ الْبَيْتِ إذْ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا الْأَلْوَانَ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ بِخِلَافِ الضُّيُوفِ فَقَدْ لَا يُقِيمُونَ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ شَهْوَةُ بَعْضِ الضُّيُوفِ فِي لَوْنٍ ، وَآخَرُ شَهْوَتُهُ فِي آخَرَ ، فَإِذَا كَانَتْ الْأَلْوَانُ لِهَذَا الْغَرَضِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَلَهُ فِي ذَلِكَ جَزِيلُ الثَّوَابِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْجَمِيعِ وَفِي إدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَدْ عُلِمَ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذَا جَاءَهُ الْأَضْيَافُ يُقَدِّمُ لَهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَا يَقُومُ بِنَفَقَتِهِ شَهْرًا ، أَوْ نَحْوَهُ فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ : قَدْ وَرَدَ أَنَّ بَقِيَّةَ الضَّيْفِ لَا حِسَابَ عَلَى الْمَرْءِ فِيهَا فَكَانَ لَا يَأْكُلُ إلَّا فَضْلَةَ الضُّيُوفِ لِأَجْلِ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَرُوحَ عَلَيْهِمْ صَاحِبُ الْبَيْتِ ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَكَذَلِكَ يَنُشُّ ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ قَائِمًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِنْ الْكَرَاهَةِ .

وَيَنْبَغِي لِمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ أَنْ لَا يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ لِمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ أَرْبَعَةً لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا .
الْآكِلُ وَالْجَالِسُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَالْمُؤَذِّنُ وَالْمُلَبِّي وَزَادَ بَعْضُ النَّاسِ قَارِئَ الْقُرْآنِ .

وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْبَيْتِ ، أَوْ مَنْ يُقِيمُهُ مَقَامَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَكْلِ إينَاسًا لِلضُّيُوفِ فَيُؤَاكِلُهُمْ ، وَلَا يُمْعِنُ فِي الْأَكْلِ حَتَّى إذَا شَبِعَ الْأَضْيَافُ ، أَوْ قَارَبُوا حِينَئِذٍ يَأْكُلُ بِانْشِرَاحٍ وَيَعْزِمُ عَلَيْهِمْ بِالْأَكْلِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ بَقِيَ بَعْضُهُمْ بِدُونِ شِبَعٍ ، وَقَدْ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ رَجُلٌ مِنْ التُّجَّارِ فَكَانَ يَعْمَلُ الطَّعَامَ الشَّهِيَّ فِي بَيْتِهِ وَيَجْمَعُ الْفُقَرَاءَ فَيَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى غَسْلِهَا ، وَيُقَدِّمُ لَهُمْ الطَّعَامَ ، فَإِذَا شَبِعُوا قَعَدَ يَأْكُلُ وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ اشْتَهَتْ نَفْسِي هَذَا الطَّعَامَ فَجَعَلْت كَفَّارَةَ شَهْوَتِهَا أَنْ تَأْكُلُوهُ قَبْلِي فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غَسْلِ أَيْدِيهِمْ وَقَفَ لَهُمْ عَلَى الْبَابِ وَدَفَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْئًا مِنْ الْفِضَّةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْخُبْزَ قَبْلَ الْأُدْمِ ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْأُدْمِ بَعْدَهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ غَيْرَ مُتَطَلِّعَةٍ لِشَيْءٍ يَبْقَى بَعْدَ الْأَضْيَافِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ النَّاسِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَصِفَ طَعَامًا لِلْحَاضِرَيْنِ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ التَّشْوِيشُ بِذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ .
وَيَنْبَغِي لِلْمَدْعُوِّ إنْ كَانَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ بِالدَّعْوَةِ أَنْ يُصْبِحَ مُفْطِرًا فَهُوَ أَفْضَلُ وَذَلِكَ فِقْهٌ حَالٌّ ، فَإِذَا حَضَرَ الْمَدْعُوُّ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عِنْدَهُ الْخَبَرُ وَكَانَ صَائِمًا فَلْيَدَعْ .
وَيَنْبَغِي لِلْمَدْعُوِّ أَنْ لَا يَسْتَحْقِرَ مَا دُعِيَ إلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْت وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ الضَّيْفَ فِي أَثْنَاءِ أَكْلِهِ وَيَجْعَلَ خِيَارَ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَا يُحْوِجُهُ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحْيِ مِنْ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الضَّيْفُ فِيهِ مِنْ الْإِدْلَالِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ

فَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَفَرْقَدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَضَرَا عَلَى طَعَامٍ فَكَانَ فَرْقَدٌ يَلْتَقِطُ اللُّبَابَ مِنْ الْأَرْضِ وَيَأْكُلُهُ ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ الصَّحْفَةِ شَيْئًا ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَنْظُرُ إلَى أَطْيَبِ الطَّعَامِ فَيَأْكُلُهُ ، فَلَمَّا أَنْ خَرَجَا جَاءَ إنْسَانٌ مِنْ الْحَاضِرِينَ إلَى فَرْقَدٍ فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ مَا رَأَى مِنْهُ فَقَالَ : لَهُ أَغْتَنِمُ بَرَكَةَ سُؤْرِ الْإِخْوَانِ وَلِأُكْرِمَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنِّي إنْ لَمْ أَلْتَقِطْ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ فَتَدُوسُهُ الْأَقْدَامُ ، ثُمَّ رَاحَ إلَى الْحَسَنِ فَسَأَلَهُ كَمَا سَأَلَ فَرْقَدًا فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي مَا أَجَبْتُهُ حِينَ دَعَانِي إلَّا لِأُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَيْهِ وَكَيْفَمَا بَالَغْت فِي الْأَكْلِ وَتَنَاوَلْت أَطَايِبَ الطَّعَامِ الَّذِي انْتَخَبَهُ فَفِيهِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ مَنْ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ فَرْقَدٍ فِي أَكْلِهِ فَيُؤَكِّدُ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ الْحَسَنِ فِي ذَلِكَ فَيُسَرُّ بِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَى ذَلِكَ .

وَيَنْبَغِي إذَا حَضَرَ الْخُبْزُ بَيْنَ يَدَيْ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَنْتَظِرُونَ غَيْرَهُ مِنْ الْأُدْمِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَدَمَ احْتِرَامٍ لِلْخُبْزِ ، وَاحْتِرَامُهُ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، فَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ كَثِيرًا أَبْقَاهُ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَسَّرَهُ ، وَإِنْ كَسَّرَهُ مَعَ كَثْرَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ سَتْرًا عَلَى الْآكِلِينَ كُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ وَتَكْسِيرُ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَفِيهِ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْخُبْزِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَعَضُّ فِي الْخُبْزِ حِينَ الْأَكْلِ ، وَلَا يَنْهَشُهُ بِخِلَافِ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَتْ الْعَضَّ وَالنَّهْشَ فِي اللَّحْمِ دُونَ الْخُبْزِ ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَتَسَاهَلُونَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ فَيَقْطَعُونَ اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ إذَا أَرَادُوا أَكْلَهُ وَمِثْلُهُ الْخُبْزُ ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كُسِّرَ الْخُبْزُ يَجْعَلُ النَّاحِيَةَ الْمَكْسُورَةَ مِنْ جِهَةِ الْآكِلِينَ ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَهُ لِنَاحِيَةِ الزَّبَادِيِّ فَإِنَّ تَعَمُّدَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ بَلْ يَضَعُ الْخُبْزَ كَيْفَ تَيَسَّرَ ، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَنْفُخُ فِي الطَّعَامِ ، وَلَا فِي الشَّرَابِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ رِيقِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بُصَاقًا فِيهِ وَهُوَ مُسْتَقْذَرٌ وَفِيهِ امْتِهَانٌ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ اللُّقْمَةَ بِشِمَالِهِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ يَدِهِ الْيَمِينِ ، وَهِيَ الْمُسَبِّحَةُ وَالْإِبْهَامُ وَالْوُسْطَى إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَرِيدًا وَمَا أَشْبَهَهُ فَيَأْكُلُ بِالْخَمْسَةِ مِنْهَا كَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَمَضَى عَمَلُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْدَؤُنَّ بِأَكْلِ

اللَّحْمِ قَبْلَ الطَّعَامِ ، وَلَا يَأْكُلُ مُضْطَجِعًا إلَّا الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالْبَقْلِ وَغَيْرِهِ لَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَنَاوَلَ تَمَرَاتٍ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ ، وَكَذَلِكَ لَا يَشْرَبُ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ خِيفَةَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي شُرْبِهِ وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يُخْلِيَ الْمَائِدَةَ مِنْ شَيْءٍ أَخْضَرَ بَقْلٍ ، أَوْ غَيْرِهِ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ : إنَّهُ يَنْفِي الْجَانَّ ، أَوْ الشَّيَاطِينَ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَإِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ فَلَا يَجْعَلُ عَلَيْهِ الْخُبْزَ خِيفَةَ أَنْ يَتَلَوَّثَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الطَّعَامَ وَيَجْعَلُهُ عَلَى الْخُبْزِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَأْكُلُ ذَلِكَ الْخُبْزَ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُلَوَّثُ فَلَا يُجْعَلُ الْخُبْزُ عَلَيْهِ احْتِرَامًا لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَأْكُلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمْسَحَ يَدَهُ فِي الْخُبْزِ فَإِنَّ فِيهِ امْتِهَانًا لَهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّي أَضْيَافَهُ مِنْ شَيْءٍ حُلْوٍ وَإِنْ قَلَّ ، بَلْ هُوَ آكَدُ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ ، فَلَوْ أَطْعَمَهُمْ لَوْنًا وَاحِدًا مَعَ شَيْءٍ حُلْوٍ بَعْدَهُ كَانَ أَوْلَى مِنْ عَمَلِ الْأَلْوَانِ ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حُلْوٌ فَإِنْ جَمَعَهُمَا فَيَا حَبَّذَا ، وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ أَلْوَانًا وَقَدَّمَ لَهُمْ بَعْضَهَا ، وَقَدْ بَقِيَ بَعْضُهَا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَلْوَانِ كَذَا وَكَذَا حَتَّى لَا يَكْتَفُوا مِنْ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ لَوْ عَلِمَ بِالطَّعَامِ الثَّانِي لَانْتَظَرَهُ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَأَتَى بِهِ وَحْدَهُ عَلَى كِفَايَةٍ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَحْرِمُهُ شَهْوَتَهُ وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ سُرُورِهِ بِأَكْلِ الْمَدْعُوِّ فَيَكُونُ قَدْ بَخَسَ نَفْسَهُ حَظَّهَا ، وَكَذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ بِالْحَلَاوَةِ إنْ كَانَ مَا أَحْضَرَهَا مَعَ الطَّعَامِ ، وَكَذَلِكَ الْفَاكِهَةُ وَالنَّقْلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي إنْ كَانَتْ أَلْوَانًا أَنْ يُقَدِّمَ خَفِيفَهَا قَبْلَ ثَقِيلِهَا فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأَكْلِ الْتَقَطَ

مَا سَقَطَ مِنْ اللُّبَابِ .

وَيَنْبَغِي لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَتْرُكُوا فَضْلَةً مِنْ الطَّعَامِ وَإِنْ قَلَّ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ ، وَقَدْ تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فِي بَقِيَّةِ سُؤْرِهِ ، وَيُقَدِّمُ لَهُمْ مَا يَغْسِلُونَ بِهِ أَيْدِيَهُمْ فَيَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ كَمَا فَعَلَ قَبْلَ الْأَكْلِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِالْغَسْلِ أَفْضَلُهُمْ ، ثُمَّ يَدُورُ عَلَى يَمِينِ مَنْ يَصُبُّ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ لِلْغَسْلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ آخِرَهُمْ غَسْلَ يَدٍ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصُبُّ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ لِلْغَسْلِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْصُقَ أَحَدٌ فِي الْمَاءِ ، وَلَا يَغْسِلُ بِالْأُشْنَانِ ، وَلَا بِالتُّرَابِ فَإِذَا غَسَلُوا بِالْمَاءِ مَسَحُوا أَيْدِيَهُمْ بَعْدَ الْغَسْلِ بِأَخْمَصِ أَقْدَامِهِمْ إنْ كَانَتْ نَظِيفَةً ، أَوْ بِخِرْقَةِ صُوفٍ مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ شَيْءٍ خَشِنٍ عَدَا الْمُحَرَّمِ شَرْعًا لِيُزِيلُوا بِذَلِكَ بَقِيَّةَ الدَّسَمِ عَنْ أَيْدِيهِمْ مُحَافَظَةً عَلَى النَّظَافَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ الْغَسْلِ بِالْأُشْنَانِ وَالتُّرَابِ خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَ هَذَا الْمَاءَ إذْ أَنَّ شُرْبَهُ شِفَاءٌ وَمَا زَالَ السَّلَفُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ بِالْأُشْنَانِ وَالتُّرَابِ يَحْرِمُ بَرَكَةَ ذَلِكَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَشْرَبَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فَيَدْخُلُ فِي جَوْفِهِ التُّرَابُ وَالْأُشْنَانُ وَالْبُصَاقُ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَشْرَبُ هَذَا الْمَاءَ فَيَغْسِلُ بِمَا شَاءَ مِنْ تُرَابٍ وَغَيْرِهِ .
وَالْغَسْلُ بِالْأُشْنَانِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَعَ تَعَذُّرِ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَشْفُونَ بِهَذَا الْمَاءِ وَيَتَشَاحُّونَ عَلَيْهِ وَيَتَنَافَسُونَ فِيهِ حَتَّى أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ النِّدَاءَ عَلَيْهِ وَيَبِيعُونَهُ بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ بَرَكَةُ ذَلِكَ اغْتِنَامًا مِنْهُمْ لِلْبَرَكَةِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَقَعَ فِي

قِصَّةِ هِرَقْلَ لَمَّا أَنْ سَأَلَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ حَالُهُمْ فِي تَصَرُّفِهِمْ مَعَهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُمْ يَتَبَرَّكُونَ بِالْمَاءِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ وَبِبُصَاقِهِ وَمَا شَاكَلَهُمَا فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَكَذَلِكَ الْمُتَّبِعُونَ لَهُ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ هَذِهِ الْبَرَكَةُ حَاصِلَةٌ لَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مِثْلَهَا لَكِنْ بِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ وَرِثُوا مِنْهَا أَوْفَرَ نَصِيبٍ .
وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَنَا بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ الْقَاضِيَ الْأَعْظَمَ بِهَا وَكَانَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْمَغِيلِيِّ وَكَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّلَحَاءِ الْكِبَارِ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا إلَى أَنْ أَشْرَفَ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ ، وَكَانَ بِالْبَلَدِ طَبِيبٌ حَاذِقٌ فِي وَقْتِهِ عَارِفٌ بِالطِّبِّ فَأَيِسَ مِنْهُ ، وَقَالَ لَهُمْ اُتْرُكُوهُ يَأْكُلُ كُلَّ مَا شَاءَ وَاخْتَارَ فَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الصَّنْعَةِ ، فَأَرْسَلَتْ زَوْجَةُ الْقَاضِي إلَى الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي عُثْمَانَ الْوَرْكَالِيِّ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا جَرَى مِنْ الطَّبِيبِ فَأَخَذَ الشَّيْخُ الْمَاءَ وَتَوَضَّأَ فِي إنَاءٍ ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِمَاءِ وُضُوئِهِ إلَى زَوْجَةِ الْقَاضِي وَقَالَ لَهَا اسْقِيهِ هَذَا الْمَاءَ فَسَقَتْهُ ذَلِكَ ، ثُمَّ بَقِيَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَامَ يُرِيدُ قَضَاءَ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَأُتِىَ لَهُ بِإِنَاءٍ فَقَضَى حَاجَتَهُ فِيهِ فَوَجَدْت فِيهِ كُبَّةً عَظِيمَةً سَوْدَاءَ فَتَعَجَّبَ كُلُّ مَنْ رَآهَا فَأَرْسَلَتْ زَوْجَةُ الْقَاضِي إلَى الطَّبِيبِ الَّذِي مَا شَكَّ أَنَّهُ يَمُوتُ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَرَتْهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ فَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا وَقَالَ : هَذَا أَمْرٌ إلَهِيٌّ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَمَّا الْبَشَرُ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُخْرِجَ هَذَا مِنْ فُؤَادِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَوْ بَقِيَ مَعَهُ لَقَتَلَهُ ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِ فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ

تَعَالَى إلَى هَذِهِ الْبَرَكَةِ كَيْفَ هِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْمُتَّبِعِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ الْعِصَابَةُ فِيهِمْ مَنْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مَعْرُوفٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْفَاهُ فَلَا يُعْرَفُ فَيَغْتَنِمُ بَرَكَةَ الْجَمِيعِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَبِّهَ مَنْ حَضَرَهُ وَغَيْرَهُمْ عَلَى مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ بَلْ الْمُحَرَّمِ لِلسَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَهِيَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ غَسْلِ الْأَيْدِي بِمَاءِ الْوَرْدِ وَتَنْشِيفِهَا بِالْمَنَادِيلِ وَالْفُوَطِ الْحَرِيرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَظِيفَةَ الْعَالِمِ فِي التَّغْيِيرِ الْكَلَامُ بِاللِّسَانِ فَيَبُثُّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ إذَا قَدَرَ بِشَرْطِهِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ أَحَدٌ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَاءُ ، فَإِنَّ الْأَكْلَ بِغَيْرِ حُضُورِهِ بِدْعَةٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ وَفِيهِ خَطَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْرَقُ بِاللُّقْمَةِ فَلَا يَجِدُ مَا يُسِيغُهَا بِهِ فَيَكُونُ قَدْ تَسَبَّبَ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا فَرَغَ مِنْ أَكْلِهِ انْتَشَرَ وَخَرَجَ ، وَلَا يَلْبَثُ ، وَلَا يَتَحَدَّثُ بَعْدَ تَمَامِ الطَّعَامِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَعْجِلَ بِرَفْعِ السُّفْرَةِ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : الْأَوَّلُ : بَسْطُ الْجَمَاعَةِ بِزِيَادَةِ الْأُنْسِ لَهُمْ .
الثَّانِي : لَعَلَّ أَنْ يَأْتِيَ وَارِدٌ فَيَحْصُلُ لِمَنْ حَضَرَ بَرَكَتُهُ ، أَوْ أَجْرُهُ ، أَوْ هُمَا مَعًا .
الثَّالِثُ : لِمَا وَرَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ مَا دَامَ الْمَأْكُولُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهَذَا عَامٌّ وَلَوْ فَرَغُوا مِنْ الْأَكْلِ فَتُتْرَكُ لِأَجْلِ ذَلِكَ .
الرَّابِعُ : أَنَّ فِي تَرْكِهَا التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ ، وَالتَّشَبُّهُ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ .
وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَمْتَثِلُوا السُّنَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ الْحَمْدُ لِلَّهِ اللَّهُمَّ أَبْدِلْنَا خَيْرًا مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَبَنًا فَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اللَّهُمَّ زِدْنَا مِنْهُ .
وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ طَلَبُ الزِّيَادَةِ مِنْ الْفِطْرَةِ أَعْنِي فِطْرَةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي قُبِضَ عَلَيْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أُتِيَ لَهُ بِطَسْتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَمْلُوءٌ لَبَنًا ، وَالْآخَرُ خَمْرًا ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى طَسْتِ اللَّبَنِ فَوَقَعَ النِّدَاءُ قَبَضَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْفِطْرَةِ فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسْتَزِيدُ مِنْهَا فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَقَعَ الْإِشْكَالُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُيِّرَ أَنْ تُسَيَّرَ مَعَهُ جِبَالُ تِهَامَةَ ذَهَبًا وَفِضَّةً تُسَيَّرُ لِسَيْرِهِ وَتَقِفُ لِوُقُوفِهِ فَأَبَى فَكَيْفَ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ مِنْ هَذَا الشَّيْءِ

الْيَسِيرِ ؟ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ ، فَأَيُّ ذَلِكَ قَالَ : فَقَدْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ وَإِنْ أَتَى بِالْجَمِيعِ فَيَا حَبَّذَا ، وَيَزِيدُ الضَّيْفُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ انْتَهَى زَادَ بَعْضُهُمْ وَذَكَرَكُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِشُرْبِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالْبَدَنِ عَلَى مُقْتَضَى صِنَاعَةِ الطِّبِّ سِيَّمَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ سُخْنًا فَإِنَّهُ يُبَخِّرُ الْفَمَ وَيُتْلِفُ الْأَسْنَانَ وَيُفَجِّجُ الطَّعَامَ وَيُنْزِلُهُ مِنْ الْمَعِدَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْضَجُ وَذَلِكَ ضَرَرٌ كَبِيرٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ

، فَإِذَا شَرِبَ شَيْئًا نَوَى بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي الْأَكْلِ ، ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ فَقَطْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ إذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ عِنْدَ الْأَكْلِ فَفِي الشُّرْبِ هُنَا كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ فِي الْأَكْلِ لَا يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ وَفِي الشُّرْبِ يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فَإِنَّ السُّنَّةَ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَتْ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْأَكْلِ مَرَّةً وَالتَّحْمِيدَ فِي آخِرِهِ كَمَا سَبَقَ وَجَعَلَتْ فِي الشُّرْبِ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُصَّ الْمَاءَ مَصًّا ، ثُمَّ يَقْطَعَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى ، ثُمَّ يُسَمِّيَ ، ثُمَّ يَشْرَبَ الثَّانِيَةَ ، ثُمَّ يَحْمَدَ اللَّهَ عَقِبَهَا ، ثُمَّ يُسَمِّيَ ، ثُمَّ يَشْرَبَ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَحْمَدَ اللَّهَ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَيُدْرِجَ شُرْبَ الْمَاءِ فَتَكُونُ الْأُولَى هِيَ الْأَقَلُّ وَالثَّانِيَةُ أَكْثَرَ مِنْهَا وَالثَّالِثَةُ يَبْلُغُ بِهَا كِفَايَتَهُ .
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِنِيَاطِ الْقَلْبِ مَوْضِعًا رَقِيقًا لَطِيفًا فَإِذَا جَاءَ الْمَاءُ دَفْعَةً وَاحِدَةً قَطَعَهُ ، وَقَدْ يَمُوتُ بِسَبَبِهِ فَيُؤْنِسُ الْأُولَى بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ وَرَدَ فِيمَنْ شَرِبَ الْمَاءَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ الْمَاءَ يُسَبِّحُ فِي جَوْفِهِ مَا بَقِيَ فِي جَوْفِهِ فَيَبْقَى فِي عِبَادَةٍ وَإِنْ كَانَ نَائِمًا ، أَوْ غَافِلًا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ لِمَعَالِمِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد : رَحِمَهُ اللَّهُ

وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الشُّرْبِ نَفَسًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ نَهْيُ تَأْدِيبٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَرَعَهُ جَرْعًا وَاسْتَوْفَى رِيَّهُ مِنْهُ نَفَسًا وَاحِدًا تَكَاثَرَ الْمَاءُ فِي مَوَارِدِ حَلْقِهِ وَأَثْقَلَ مَعِدَتَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ ( ثَلَاثَةٍ كَانَ أَنْفَعَ لِرِيِّهِ وَأَخَفَّ لِمَعِدَتِهِ وَأَحْسَنَ فِي الْأَدَبِ وَأَبْعَدَ مِنْ فِعْلِ ذِي الشَّرَهِ انْتَهَى .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ فِي شُرْبِ الْمَاءِ ، وَأَمَّا اللَّبَنُ فَيَعُبُّهُ عَبًّا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَيُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ الْعَبِّ وَالْمَصِّ وَيَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ وَيُسِرُّ بِالتَّحْمِيدِ ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَخْذِ فِي الْأَكْلِ ، بِخِلَافِ التَّحْمِيدِ جَهْرًا فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بَعْدُ ، وَأَمَّا فِي شُرْبِ الْمَاءِ فَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ لَكِنَّ الْعَالِمَ الْجَهْرُ فِي حَقِّهِ أَوْلَى لِيُقْتَدَى بِهِ .

وَيَنْبَغِي لِلْجَمَاعَةِ أَنْ لَا يَرْفَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَدَهُ قَبْلَ أَصْحَابِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْمَدُ جَهْرًا كَمَا تَقَدَّمَ إذْ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَمَّا هُمْ بِصَدَدِهِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِ الشَّارِعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ وَكَفَى بِهِ .
وَالثَّانِي : خَشْيَةَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْإِنَاءِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ فَيَتَأَذَّى بِهَا الشَّارِبُ وَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ قَائِمًا لِحَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ لَهُ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَشَرِبَ قَائِمًا ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ أَحَدَكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَشْرَبَ قَائِمًا ، وَقَدْ { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ } .

وَيَنْبَغِي إنْ كَانَ فِي كُوزٍ ثُلْمَةٌ أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِمَاعِ الْوَسَخِ ، وَقَدْ نَصَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْ نَاحِيَةِ أُذُنِ الْكُوزِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَشْرَبُ مِنْهَا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ فِي السَّقْيِ بِأَفْضَلِهِمْ ، ثُمَّ يَدُورُ عَلَى يَمِينِهِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا شَرِبَ بَعْضُ مَنْ يَحْتَرِمُونَهُ قَامُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ شُرْبِهِ فَيَنْحَنُونَ لَهُ وَيُقَبِّلُونَ أَيْدِيَهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَقُومُونَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الشُّرْبِ وَيَفْعَلُونَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَبَعْضُهُمْ يَقُومُونَ نِصْفَ قَوْمَةٍ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا ، أَوْ أَكْثَرَ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَى الْأَرْضِ بِالتَّقْبِيلِ وَقَوْلِهِمْ صِحَّةٌ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَفِيهِ التَّشَبُّهُ بِالْأَعَاجِمِ وَبَعْضُهُمْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لِمَنْ يَفْرُغُ مِنْ الشُّرْبِ صِحَّةٌ وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ دُعَاءً حَسَنًا فَاِتِّخَاذُهُ عَادَةً عِنْدَ الشُّرْبِ بِدْعَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُمِّ أَيْمَنَ لَمَّا أَنْ شَرِبَتْ بَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صِحَّةٌ يَا أُمَّ أَيْمَنَ لَنْ تَلِجَ النَّارُ بَطْنَك } .
فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَاءٌ يُشْرَبُ وَإِنَّمَا هُوَ الْبَوْلُ ، وَهُوَ إذَا شُرِبَ عَادَ بِالضَّرَرِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : صِحَّةٌ لِيَنْفِيَ عَنْهَا مَا تَتَوَقَّعُهُ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ بَوْلِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ دُعَاءً وَإِخْبَارًا وَذَلِكَ بِخِلَافِ شُرْبِ الْمَاءِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا اللَّفْظُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا

أَنْ يَكُونَ بِدْعَةً ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْمِلَ الْآدَابَ مَعَهُمْ حَتَّى يَحُوزَ فَضِيلَةَ الِاتِّبَاعِ وَالسَّبَقِ فَيُقَدِّمُ لَهُمْ نِعَالَهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ وَيَمْشِي مَعَهُمْ خُطُوَاتٍ لِتَوْدِيعِهِمْ ، وَقَدْ وَرَدَ { ثَلَاثٌ مُحَقَّرَاتٌ أَجْرُهُنَّ كَبِيرٌ صَبُّ الْمَاءِ عَلَى يَدِ أَخِيكَ حَتَّى يَغْسِلَهَا وَتَقْدِيمُ نَعْلِهِ إذَا خَرَجَ وَإِمْسَاكُ الدَّابَّةِ لَهُ حَتَّى يَرْكَبَهَا } فَيَحْصُلُ لَهُ فِي هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ فَيَكُونُ مُتَّصِفًا بِالِاتِّبَاعِ مَعَ حُصُولِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْإِخْوَانِ ، وَهَذِهِ مِنْ أَكْمَلِ الْحَالَاتِ .
هَذَا حَالُ الْعَالِمِ مَعَ الضَّيْفِ .

وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا دُعِيَ الْعَالِمُ إلَى دَعْوَةٍ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَارِعَ إلَى الدَّعَوَاتِ كُلِّهَا مَا خَلَا دَعْوَةَ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُنْكَرٌ بَيِّنٌ وَهُوَ فِي الْأَكْلِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ ، فَإِنْ أُهْدِيَ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَنْظُرْ فِي ذَلِكَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ ، فَلِسَانُ الْعِلْمِ مَعْرُوفٌ ، وَكَذَلِكَ الْوَرَعُ ، وَالْوَرَعُ أَعْلَى وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّهِمَا يَسْلُكُ ، وَلَهُ فِي الْعِلْمِ سَعَةٌ إنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْوَرَعُ ، وَيَنْظُرُ فِي سَبَبِ صَاحِبِ الطَّعَامِ ، فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا بِلِسَانِ الْعِلْمِ عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا قَامَ عَلَيْهِ بِسَطْوَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَزَجَرَهُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا فِيهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ فَيَتَلَطَّفُ لَهُ فِي الْجَوَابِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ وَهِيَ أَنْ يُهْدِيَ أَحَدُ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ طَعَامًا فَلَا يُمْكِنُ الْمُهْدَى إلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْوِعَاءَ فَارِغًا حَتَّى يَرُدَّهُ بِطَعَامٍ ، وَكَذَلِكَ الْمُهْدِي إنْ رَجَعَ إلَيْهِ الْوِعَاءُ فَارِغًا وَجَدَ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ وَكَانَ سَبَبًا لِتَرْكِ الْمُهَادَاةِ بَيْنَهُمَا ، وَلِسَانُ الْعِلْمِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ غَيْرَ يَدٍ بِيَدٍ ، وَيَدْخُلُهُ أَيْضًا بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُتَفَاضِلًا وَيَدْخُلُهُ الْجَهَالَةُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْبِيَاعَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْهَدَايَا ، وَقَدْ سُومِحَ فِي ذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مُسَلَّمٌ لَوْ مَشَوْا فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى الْهَدَايَا الشَّرْعِيَّةِ لَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ لِطَلَبِهِمْ الْعِوَضَ ، فَإِنَّ الدَّافِعَ يَتَشَوَّفُ لَهُ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يَحْرِصُ عَلَى الْمُكَافَأَةِ ، فَخَرَجَ بِالْمُشَاحَّةِ مِنْ بَابِ الْهَدَايَا إلَى بَابِ الْبِيَاعَاتِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُنَبِّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ

فَصْلٌ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَفِي غَيْرِهِ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَ طَبِيبًا لِمَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ فَمَرِضَ الْمَلِكُ مَرَضًا شَدِيدًا وَكَانَ الْيَهُودِيُّ لَا يُفَارِقُ عِيدَهُ ، فَجَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَأَرَادَ الْيَهُودِيُّ أَنْ يَمْضِيَ إلَى سَبْتِهِ فَمَنَعَهُ الْمَلِكُ فَمَا قَدَرَ الْيَهُودِيُّ أَنْ يَسْتَحِلَّ سَبْتَهُ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ سَفْكَ دَمِهِ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ إنَّ الْمَرِيضَ لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ يَوْمَ السَّبْتِ فَتَرَكَهُ الْمَلِكُ وَمَضَى لَسَبْتِهِ ، ثُمَّ شَاعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْبِدْعَةُ ، وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَمِدُونَهَا حَتَّى أَنِّي رَأَيْت بَعْضَ الْفُضَلَاءِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ يَنْسِبُهَا إلَى السُّنَّةِ وَيَسْتَدِلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ الْقُبُورَ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَأَخَذَ مِنْ هَذَا بِزَعْمِهِ أَنَّ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ يَوْمَ السَّبْتِ تَفَاؤُلًا عَلَى مَوْتِ الْمَرِيضِ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّشَاؤُمِ وَالطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا ، وَالْمُسْلِمُونَ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَفِي غَيْرِهِ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ أَيْضًا وَهِيَ أَنَّ مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ مَعَهُ بِشَيْءٍ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَإِلَّا وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهِ بِمَا لَا يَنْبَغِي ، وَلَمْ تَرِدْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ بَلْ الْمَطْلُوبُ الْعِيَادَةُ لَيْسَ إلَّا فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْهَدَايَا وَالصَّدَقَاتِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي هَدَايَا الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ فِي الطَّعَامِ وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى تَرْكِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ إذَا اشْتَكَى صَاحِبُهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِ تَرَكَ عِيَادَتَهُ وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْقَطِيعَةِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْعَمَى وَالضَّلَالِ .

هَذَا حَالُ الْعَالِمِ فِي مُنَاوَلَةِ غِذَائِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَأَضْيَافِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ بَقِيَّةِ تَصَرُّفِهِ فِي بَيْتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ بِدْعَةِ هَذِهِ الْأَسَامِي الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي نُعُوتِ الرِّجَالِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الْحَافِظُ الْقُدْوَةُ الْمَعْرُوفُ بِالنَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ فَكَفَى غَيْرَهُ مُؤْنَةَ ذَلِكَ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَلْتَمِسْهُ فِي كِتَابِهِ .
لَكِنْ بَقِيَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ النُّعُوتَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : شَنِيعٌ قَبِيحٌ وَهُوَ النَّعْتُ بِسِتِّ الْخَلْقِ وَسِتِّ الْإِسْلَامِ وَسِتِّ الْحُكَّامِ وَسِتِّ الْقُضَاةِ وَسِتِّ الْعُلَمَاءِ وَسِتِّ الْفُقَهَاءِ وَسِتِّ النَّاسِ وَسِتِّ النِّسَاءِ وَسِتِّ الْكُلِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصُّلَحَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْيَارِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ وَالْمُتَلَفِّظُ بِهِ لَا يَعْتَقِدُونَ دُخُولَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ تَحْتَ الْعُمُومِ ، وَإِذَا لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ فَهُوَ تَعَمُّدُ كَذِبٍ مَحْضٍ بِلَا ضَرُورَةٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالتَّزْكِيَةِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ .
وَأَمَّا مَا سِوَاهَا كَسِتِّ الْعِرَاقِ وَسِتِّ الْيَمَنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّزْكِيَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهُنَّ بِأُمِّ فُلَانِ الدِّينِ وَفُلَانُ الدِّينِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّزْكِيَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ نُعُوتِ الرِّجَالِ لَكِنْ نَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّاتِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِنَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَعَظَّمَ فِيهِ قَدْرَهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ

النِّسَاءِ } الْآيَةَ مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي لَا يُشَكُّ فِيهَا ، وَلَا يُرْتَابُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى تَعْظِيمِ الْحُرُمَاتِ وَالشَّعَائِرِ ، مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُسَمِّ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ الطَّاهِرَاتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النُّعُوتِ الْمُحْدَثَةِ وَكَفَى بِهَا ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ ابْنَتِهِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي قَالَ فِي حَقِّهَا { فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي } فَإِذَا كَانَتْ بَضْعَةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاهِيكَ بِهَا مَنْزِلَةً رَفِيعَةً فَيَجِبُ تَعْظِيمُهَا مَا أَمْكَنَ ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَزِدْ عَلَى اسْمِهَا الْمَعْلُومِ شَيْئًا وَوَاجِبٌ الِاعْتِقَادُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَّى لَهَا حَقَّهَا وَلِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَتُكْرَمُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ لَهُنَّ فِيهَا شَيْءٌ مَا مِنْ الْخَيْرِيَّةِ لَمْ يَتْرُكْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَبَيَّنَ الْجَوَازَ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً لِتَعْظِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّعَائِرِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَعْظِيمَهُنَّ مِنْ الشَّعَائِرِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ النُّعُوتُ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ أَعْنِي أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سَالِمَةً مِنْ التَّزْكِيَةِ وَالْكَذِبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا بِالنُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَكَانَ أَمْرُهَا أَقْرَبَ ، وَلَكِنْ وَضَعُوا النُّعُوتَ فِي بَابِ الْمَكْرُوهِ ، أَوْ الْمُحَرَّمِ بِحَسَبِ حَالِ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَهَؤُلَاءِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُنَاتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَسْمَاؤُهُنَّ مَعْلُومَةٌ وَهُنَّ اللَّاتِي أُمِرْنَا بِأَخْذِ شَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُنَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { تَرَكْتُ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي } انْتَهَى .
فَهَذِهِ عِتْرَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الرَّاوِي عَنْهُنَّ عَنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ زِيَادَةً عَلَى أَسْمَائِهِنَّ الْمَعْرُوفَةِ هَذَا مَعَ عِلْمِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُنَّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ تَعْظِيمِ حُقُوقِهِنَّ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَظُنَّ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الَّتِي وَصَفَهُمْ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْخَيْرِيَّةِ أَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ فَاتَهُمْ تَعْظِيمُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْخَيْرِيَّةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِهِمْ لَكِنَّهُ عَلَى أُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ فَنَعَمْ ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى بَابِ الْمَكْرُوهِ ، أَوْ الْمُحَرَّمِ وَهَذِهِ النُّعُوتُ الْمُحْدَثَةُ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحَدِهِمَا ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ مَثَلًا أُمُّ شَمْسِ الدِّينِ وَأُمُّ ضِيَاءِ الدِّينِ وَنَحْوُهُمَا فَلَا خَفَاءَ أَنَّهَا احْتَوَتْ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّزْكِيَةِ وَهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا ، فَأَمَّا الْكَذِبُ فَحَرَامٌ ، وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ مَا ذُكِرَ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الشَّخْصِ فَمَكْرُوهٌ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِينَ أَثْنَوْا عَلَى الرَّجُلِ بِحَضْرَتِهِ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ

، أَوْ ظَهْرَ أَخِيكُمْ } فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّنَا نُنْكِرُ الْكُنَى الشَّرْعِيَّةَ فَإِنَّ مَا وَرَدَ مِنْهَا لَيْسَ فِيهِ تَزْكِيَةٌ .
وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ } فَهَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ التَّزْكِيَةِ ، وَكَذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ رُومَانَ وَأُمُّ مَعْبَدٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَقِسْ عَلَى هَذَا تُصِبْ ، فَالْكُنَى الْمَشْرُوعَةُ أَنْ يُكَنَّى الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ ، أَوْ بِوَلَدِ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُكَنَّى بِوَلَدِهَا ، أَوْ بِوَلَدِ غَيْرِهَا كَمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ وَجَدَتْ عَلَى كَوْنِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ تَتَكَنَّى بِهِ فَقَالَ لَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : تَكَنِّي بِابْنِ أُخْتِك يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا } ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِالْحَالَةِ الَّتِي الشَّخْصُ مُتَّصِفٌ بِهَا كَأَبِي تُرَابٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيُكَنَّى الصَّبِيُّ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ كَنَّيْت ابْنَك أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ أَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُهُ وَلَكِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يُكَنُّونَهُ فَمَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ فِي تَكْنِيَةِ الصَّبِيِّ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ أَحْسَنُ عِنْدَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي كُنْيَةِ ابْنِهِ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُهُ وَلَكِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يُكَنُّونَهُ وَإِنَّمَا كَانَ تَرْكُهُ أَحْسَنَ لِمَا فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْكَذِبِ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا وَلَدَ لَهُ يُكَنَّى بِذَلِكَ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ وَالِدُ الْمُكَنَّى بِاسْمِهِ ، وَإِنَّمَا تُجْعَلُ الْكُنْيَةُ الَّتِي يُكَنَّى بِهَا عَلَمًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .

فَصْلٌ فِي لُبْسِ النِّسَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَك اللَّهُ نِيَّةُ الْعَالِمِ وَهَدْيُهُ فِي لُبْسِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَبَقِيَ الْكَلَامُ هُنَا عَلَى لُبْسِ أَهْلِهِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ فِي لِبَاسِهِنَّ ، وَهُنَّ كَمَا وَرَدَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ فَلُبْسُهُنَّ كَذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، فَالذِّكْرُ لِلنِّسَاءِ وَالْكَلَامُ مَعَ مَنْ سَامَحَهُنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأَزْوَاجِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَأْخُذُ عَلَى أَهْلِهِ وَبِرَدِّهِنَّ لِلِاتِّبَاعِ مَهْمَا اسْتَطَاعَ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلْبَسْنَ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الضَّيِّقَةِ الْقَصِيرَةِ وَهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ بِضِدِّهِمَا ؛ لِأَنَّ الضَّيِّقَ مِنْ الثِّيَابِ يَصِفُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَكْتَافَهَا وَثَدْيَيْهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ ، هَذَا فِي الضَّيِّقِ ، وَأَمَّا الْقَصِيرُ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْهُنَّ أَنْ يَجْعَلْنَ الْقَمِيصَ إلَى الرُّكْبَةِ ، فَإِنْ انْحَنَتْ أَوْ جَلَسَتْ أَوْ قَامَتْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهَا ، وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ أَنَّ ثَوْبَ الْمَرْأَةِ تَجُرُّهُ خَلْفَهَا وَيَكُونُ فِيهِ وُسْعٌ بِحَيْثُ إنَّهُ لَا يَصِفُهَا ، فَإِنْ قُلْنَ إنَّ السَّرَاوِيلَ يُغْنِي مِنْ الثَّوْبِ الطَّوِيلِ فَصَحِيحٌ أَنَّ فِيهِ سُتْرَةً لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ السُّرَّةِ وَهُنَّ يَعْمَلْنَهُ تَحْتَهَا بِكَثِيرٍ .
وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَحُكْمِ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ وَحُكْمُهُمَا أَنَّ مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ لَا يَكْشِفُهُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبَدَنِ ، فَتَكُونُ قَدْ ارْتَكَبَتْ النَّهْيَ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى حَدِّ السَّرَاوِيلِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ كَثِيفًا لَا يَصِفُ وَلَا يَشِفُّ وَقَدْ اتَّخَذَ بَعْضُهُنَّ هَذَا السَّرَاوِيلَ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَيْسَ إلَّا ، وَأَمَّا فِي الْبَيْتِ فَتَقْعُدُ بِدُونِهِ وَهِيَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ لَا يَدْخُلُهُ غَيْرُ زَوْجِهَا أَوْ هُوَ وَغَيْرُهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ

الثَّوْبُ الرَّفِيعُ وَالضَّيِّقُ الَّذِي يَصِفُ كُلَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا جَارِيَةٌ فِي الْبَيْتِ أَوْ عَبْدٌ أَوْ أَخٌ أَوْ وِلْدَانٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ ظُهُورِ أَطْرَافِهَا لِذِي الْمَحَارِمِ ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَقْعُدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ بِهَذِهِ الثِّيَابِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ بِغَيْرِ سَرَاوِيلَ بَيْنَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ، وَلَا يَلْبَسْنَ السَّرَاوِيلَ إلَّا عِنْدَ الْخُرُوجِ فَيَكُونُ الْعَالِمُ يَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَيَذُمُّهَا وَيُعَلِّمُهُنَّ أَمْرَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ .
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ لُبْسِ الْقَبَاطِيِّ قَالَ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَشِفُّ فَإِنَّهَا تَصِفُ .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَبَاطِيُّ ثِيَابٌ ضَيِّقَةٌ مُلْتَصِقَةٌ بِالْجَسَدِ لِضِيقِهَا فَتُبْدِي ثَخَانَةَ جِسْمِ لَابِسِهَا مِنْ نَحَافَتِهِ وَتَصِفُ مَحَاسِنَهُ وَتُبْدِي مَا يُسْتَحْسَنُ مِمَّا لَا يُسْتَحْسَنُ فَنَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَلْبَسْنَهَا النِّسَاءُ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } .

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ عَنْ هَذِهِ الْعَمَائِمِ الَّتِي يَعْمَلْنَهَا عَلَى رُؤْسِهِنَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ } قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مَا هَذَا نَصُّهُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ } يَعْنِي أَنَّهُنَّ كَاسِيَاتٌ بِالثِّيَابِ عَارِيَّاتٌ مِنْ الدِّينِ لِانْكِشَافِهِنَّ وَإِبْدَاءِ بَعْضِ مَحَاسِنِهِنَّ ، وَقِيلَ كَاسِيَاتٌ ثِيَابًا رِقَاقًا يَظْهَرُ مَا تَحْتَهَا وَمَا خَلْفَهَا فَهُنَّ كَاسِيَاتٌ فِي الظَّاهِرِ عَارِيَّاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَقِيلَ كَاسِيَاتٌ فِي الدُّنْيَا بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنْ الْحَرَامِ وَمِمَّا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ ، عَارِيَّاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ } قِيلَ مَعْنَاهُ زَائِغَاتٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ طَاعَةِ الْأَزْوَاجِ وَمَا يَلْزَمُهُنَّ مِنْ صِيَانَةِ الْفُرُوجِ وَالتَّسَتُّرِ عَنْ الْأَجَانِبِ وَمُمِيلَاتٌ يُعَلِّمْنَ غَيْرَهُنَّ الدُّخُولَ فِي مِثْلِ فِعْلِهِنَّ ، وَقِيلَ مَائِلَاتٌ مُتَبَخْتِرَاتٌ يُمِلْنَ رُءُوسَهُنَّ وَأَعْطَافَهُنَّ لِلْخُيَلَاءِ وَالتَّبَخْتُرِ وَمُمِيلَاتٌ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يُبْدِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَطِيبِ رَائِحَتِهِنَّ ، وَقِيلَ يَتَمَشَّطْنَ الْمَيْلَاءَ يَهِيَ مِشْطَةُ الْبَغَايَا ، وَالْمُمِيلَاتُ اللَّوَاتِي يُمَشِّطْنَ غَيْرَهُنَّ مِشْطَةَ الْمَيْلَاءِ ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ } مَعْنَاهُ يُعَظِّمْنَ رُءُوسَهُنَّ بِالْخُمُرِ وَالْمَقَانِعِ وَيَجْعَلْنَ عَلَى رُءُوسِهِنَّ شَيْئًا يُسَمَّى عِنْدَهُنَّ النَّاهِرَةَ لَا عَقْصُ الشَّعْرِ وَالذَّوَائِبُ الْمُبَاحَةُ لِلنِّسَاءِ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى

رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ } فَهَذَا مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ ، إذْ أَنَّ فِي عِمَامَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَنَامَيْنِ ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ أَنَّ رَأْسَهَا يَعْتَلُّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعِمَامَةِ ؛ لِأَنَّهُنَّ اتَّخَذْنَهَا عَادَةً مِنْ فَوْقِ الْحَاجِبَيْنِ وَفِي ذَلِكَ مَفَاسِدُ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحِلٌّ لِاسْتِمْتَاعِ الرَّجُلِ وَأَعْظَمُ جَمَالٍ فِيهَا وَجْهُهَا وَهِيَ تُغَطِّي أَكْثَرَهُ فَتَقَعُ بِذَلِكَ فِي الْإِثْمِ ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ زَوْجَهَا حَقَّهُ وَلَوْ رَضِيَ زَوْجُهَا بِذَلِكَ فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْهُ لِمُخَالَفَتِهَا لِلسُّنَّةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ مَسْتُورَةً ، فَإِذَا احْتَاجَتْ إلَى الْوُضُوءِ تَحْتَاجُ إلَى كَشْفِهَا حَتَّى تَغْسِلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا ، فَإِذَا غَسَلَتْهُ فَقَدْ تُسْتَهْوَى ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ قَدْ اعْتَادَ التَّغْطِيَةَ فَإِذَا كَشَفَتْهُ عِنْدَ الْغَسْلِ قَدْ تَتَضَرَّرُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ فَرْضَيْنِ : أَحَدُهُمَا : غَسْلُ الْوَجْهِ .
وَالثَّانِي : مَسْحُ الرَّأْسِ .
وَالثَّالِثُ : الزِّينَةُ الَّتِي جَمَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي وَجْهِهَا سَتَرَتْهَا عَنْ زَوْجِهَا ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ لِلْفِرَاقِ ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بَشِعَةَ الْمَنْظَرِ ، فَإِنْ قِيلَ : إنَّ فِيهِ بَعْضَ جَمَالٍ لَهَا فَهَذَا نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ ، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ جَمَالٌ لَهَا فَتُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُخَالَفَتِهَا لِلسُّنَّةِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ

فَصْلٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ تَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ الَّتِي أَحْدَثْنَهَا مَعَ قِصَرِ الْكُمِّ فَإِنَّهَا إذَا رَفَعَتْ يَدَهَا ظَهَرَتْ أَعْكَانُهَا وَنُهُودُهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْ الْمُتَبَرِّجَاتِ ، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْقَصِيرِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَتَرْكِ السَّرَاوِيلِ وَتَقِفُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فِي بَابِ الرِّيحِ عَلَى هَذِهِ السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا ، فَمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ أَوْ الْتَفَتَ رَأَى عَوْرَتَهَا ، وَالشَّرْعُ أَمَرَهَا بِالتَّسَتُّرِ الْبَالِغِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ .

فَصْلٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُنَّ السُّنَّةَ فِي الْخُرُوجِ إنْ اضْطَرَّتْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ فِي حَفْشِ ثِيَابِهَا وَهُوَ أَدْنَاهُ وَأَغْلَظُهُ ، وَتَجُرُّ مِرْطَهَا خَلْفَهَا شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا وَيُعَلِّمُهُنَّ السُّنَّةَ فِي مَشْيِهِنَّ فِي الطَّرِيقِ ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ حَكَمَتْ أَنْ يَكُونَ مَشْيُهُنَّ مَعَ الْجُدَرَانِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ الطَّرِيقَ } وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ وَقَدْ اخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ : اسْتَأْخِرْنَ فَلَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تُضَيِّقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ } فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْصَقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى أَنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا انْتَهَى .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي طَرِيقٍ وَأَمَامَهُ امْرَأَةٌ فَقَالَ لَهَا : تَنَحِّي عَنْ الطَّرِيقِ فَقَالَتْ : الطَّرِيقُ وَاسِعٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ } انْتَهَى .
وَلَمَّا كَانَ مَشْيُهُنَّ مَعَ الْجُدْرَانِ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْبَوْلِ هُنَاكَ لِئَلَّا يَنْجَسَ مِرْطُ مَنْ مَرَّتْ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَفَوَائِدُهَا مُتَعَدِّدَةٌ ، وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ السُّنَنِ كَيْفَ انْدَرَسَتْ فِي زَمَانِنَا هَذَا حَتَّى بَقِيَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تُعْرَفْ لِمَا ارْتَكَبْنَ مِنْ ضِدِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَتَقْعُدُ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِنَّ بِحَفْشِ ثِيَابِهَا وَتَرْكِ زِينَتِهَا وَبِحَمْلِهَا ، وَبَعْضُ شَعْرِهَا نَازِلٌ عَلَى جَبْهَتِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْسَاخِهَا وَعَرَقِهَا حَتَّى لَوْ

رَآهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ لَنَفَرَ بِطَبْعِهِ مِنْهَا غَالِبًا فَكَيْفَ بِالزَّوْجِ الْمُلَاصِقِ لَهَا ، فَإِذَا أَرَادَتْ إحْدَاهُنَّ الْخُرُوجَ تَنَظَّفَتْ وَتَزَيَّنَتْ وَنَظَرَتْ إلَى أَحْسَنِ مَا عِنْدَهَا مِنْ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ فَلَبِسَتْهُ ، وَتَخْرُجُ إلَى الطَّرِيقِ كَأَنَّهَا عَرُوسٌ تُجَلِّي ، وَتَمْشِي فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ وَتُزَاحِمُ الرِّجَالَ وَلَهُنَّ صَنْعَةٌ فِي مَشْيِهِنَّ حَتَّى أَنَّ الرِّجَالَ لَيَرْجِعُونَ مَعَ الْحِيطَانِ حَتَّى يُوَسِّعُوا لَهُنَّ فِي الطَّرِيقِ أَعْنِي الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ ، وَغَيْرُهُمْ يُخَالِطُوهُنَّ وَيُزَاحِمُوهُنَّ وَيُمَازِحُوهُنَّ قَصْدًا ، كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ عَدَمُ النَّظَرِ إلَى السُّنَّةِ وَقَوَاعِدِهَا وَمَا مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِذَا نَبَّهَ الْعَالِمُ عَلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ انْسَدَّتْ هَذِهِ الْمَثَالِمُ وَرُجِيَ لِلْجَمِيعِ بَرَكَةُ ذَلِكَ فَمَنْ رَجَعَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي فَهُوَ الْقَصْدُ الْحَسَنُ وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ عُلِمَ أَنَّهُ مُكْتَسِبٌ لِلذُّنُوبِ فَيَبْقَى مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ لِأَجْلِ ذَلِكَ ، وَفِي الْكَسْرِ مِنْ الْخَيْرِ مَا قَدْ عُلِمَ ، وَمَنْ انْكَسَرَ رُجِيَ لَهُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ

فَصْلٌ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى شِرَاءِ حَوَائِجِهِنَّ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ لِأَهْلِهِ حَاجَةٌ مِنْ شِرَاءِ ثَوْبٍ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلْيَتَوَلَّ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ إنْ كَانَتْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ أَوْ بِمَنْ يَقُومُ عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَعْلُومٌ ، وَلَا يُمَكِّنْهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ أَلْبَتَّةَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْمُنْكَرِ الْبَيِّنِ الَّذِي يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْهُنَّ الْيَوْمَ جِهَارًا أَعْنِي فِي جُلُوسِهِنَّ عِنْدَ الْبَزَّازِينَ وَالصَّوَّاغِينَ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهَا تُنَاجِيهِ وَتُبَاسِطُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمَا ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { بَاعِدُوا بَيْنَ أَنْفَاسِ النِّسَاءِ وَأَنْفَاسِ الرِّجَالِ } ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ { لَوْ كَانَ عِرْقٌ مِنْ الْمَرْأَةِ بِالْمَشْرِقِ وَعِرْقٌ مِنْ الرَّجُلِ بِالْمَغْرِبِ لَحَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ } ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَكَيْفَ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْكَلَامِ وَالْمُزَاحِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ لِلْمَرْأَةِ فِي عُمْرِهَا ثَلَاثَ خَرَجَاتٍ : خَرْجَةٌ لِبَيْتِ زَوْجِهَا حِينَ تُهْدَى إلَيْهِ ، وَخَرْجَةٌ لِمَوْتِ أَبَوَيْهَا ، وَخَرْجَةٌ لِقَبْرِهَا ، فَأَيْنَ هَذَا الْخُرُوجُ مِنْ هَذَا الْخُرُوجِ ، وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا حَاصِلَةٌ فِي خُرُوجِهِنَّ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِنَّ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فِيمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أَمْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالصَّرْفِ وَكَيْفِيَّةِ حُكْمِ الرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِهِنَّ مَعَ الْجَهْلِ بِذَلِكَ كُلِّهِ ، بَلْ أَكْثَرُ الرِّجَالِ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { الْغَيْرَةُ مِنْ الْإِيمَانِ } أَوْ كَمَا قَالَ وَمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ شَبَهٌ ؛ فَإِنَّ نِسَاءَهُنَّ

يَبِعْنَ وَيَشْتَرِينَ وَيَجْلِسْنَ فِي الدَّكَاكِينِ وَالرِّجَالُ فِي الْبُيُوتِ ، وَالشَّرْعُ قَدْ مَنَعَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ .

فَصْلٌ فِي السُّكْنَى عَلَى الْبَحْرِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ السُّكْنَى عَلَى الْبَحْرِ مَهْمَا اسْتَطَاعَ جَهْدَهُ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الطُّرُقَاتِ ، وَمَنْ كَانَ فِي دَارٍ عَلَى الْبَحْرِ فَهُوَ كَالْجَالِسِ عَلَى الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ طَرِيقٌ لِلْمُرُورِ فِيهِ بِالْمَرَاكِبِ ، فَإِذَا نَظَرَ كَشَفَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ يَشْتَمِلُ عَلَى عَوْرَاتٍ كَثِيرَةٍ : مِنْهَا : كَشْفُ عَوْرَاتِ النَّوَاتِيَّةِ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ مَرْئِيٌّ ، وَكَذَلِكَ كَشْفُ عَوْرَاتِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُغْتَسِلِينَ فِيهِ ، وَالْكَلَامُ الْفَاحِشُ الَّذِي يُمْنَعُ لِلرِّجَالِ سَمَاعُهُ فَكَيْفَ بِالْمَرْأَةِ ؟ وَمِنْهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَكُونُ مَعَهُمْ الْمَغَانِي فِي الشَّخَاتِيرِ ، وَغَيْرِهَا فَإِحْدَاهُنَّ تَضْرِبُ بِالطَّارِ ، وَأُخْرَى بِالشَّبَّابَةِ ، وَمَعَهُنَّ مَنْ يُصَوِّتُ بِالْمِزْمَارِ مَعَ رَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ بِالْغِنَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ظُهُورِ هَذِهِ الْعَوْرَاتِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهَا .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ أَهْلَهُ يَنْكَشِفْنَ بِجُلُوسِهِنَّ فِي الطُّرُقَاتِ وَغَيْرِهَا وَيُشَاهِدْنَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَغَيْرُهُ ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ بَنَاتٌ أَوْ إمَاءٌ أَوْ غَيْرُهُنَّ فَتَزِيدُ الْمَفَاسِدُ بِحَسَبِ ذَلِكَ الثَّالِثُ : أَنَّ شَاطِئَ الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ لِلسُّكْنَى وَلَا لِغَيْرِهَا إلَّا الْقَنَاطِرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ الْبِرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، وَالظِّلِّ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهَا مَرَافِقُ لِلْمُسْلِمِينَ فَمَنْ جَاءَ يَرْتَفِقُ بِهَا يَجِدُ هُنَاكَ نَجَاسَةً فَيَقُولُ لَعَنْ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَإِذَنْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ اللَّعْنَ بِهَذَا الْفِعْلِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَنَهَاهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُلْعَنُونَ

بِسَبَبِهِ ، هَذَا وَهُوَ مِمَّا يَذْهَبُ بِالشَّمْسِ ، وَالرِّيحِ وَغَيْرِهِمَا فَكَيْفَ بِالْبِنَاءِ عَلَى النَّهْرِ الْمُتَّخَذِ لِلدَّوَامِ غَالِبًا ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ اتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَاخْتِلَافِهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ لَا يَجُوزُ تَضْيِيقُهَا انْتَهَى .
وَالْبِنَاءُ عَلَى النَّهْرِ أَكْثَرُ ضَرَرًا وَأَشَدُّ مِنْ تَضْيِيقِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ يُمْكِنُ الْمُرُورُ فِيهَا مَعَ تَضْيِيقِهَا بِخِلَافِ النَّهْرِ فَمَنْ بَنَى عَلَيْهِ كَانَ غَاصِبًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْرِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ يَرِدُ الْمَاءَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَدُورَ مِنْ نَاحِيَةٍ بَعِيدَةٍ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَكَانَ مَنْ أَحْوَجَهُ إلَى ذَلِكَ غَاصِبًا ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَنْ أَرْسَلَ سَجَّادَتَهُ إلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ إتْيَانِهِ فَوُضِعَتْ هُنَاكَ لِيَحْصُلَ بِهَا الْمَكَانُ ، أَوْ كَانَ فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَصْبٌ ، هَذَا وَهُوَ مِمَّا لَا يَدُومُ فَكَيْفَ بِالْبِنَاءِ عَلَى النَّهْرِ كَمَا تَقَدَّمَ ؟ ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ حَرِيمَ الْعُيُونِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمَ الْأَنْهَارِ أَلْفُ ذِرَاعٍ وَاخْتَلَفُوا فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ فَقِيلَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا ، وَقِيلَ خَمْسُونَ ، وَقِيلَ ثَلَثُمِائَةٍ ، وَقِيلَ خَمْسُمِائَةٍ ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَوْضِعِ الْبِئْرِ وَلِأَيِّ شَيْءٍ هِيَ هَلْ هِيَ لِلزَّرْعِ أَوْ لِلْمَاشِيَةِ أَوْ فِي الْبَادِيَةِ أَوْ فِي الْبَلَدِ ، نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ فِي تَبْصِرَتِهِ وَابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يَحُدَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ حَدًّا إلَّا مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ فَعَلَى هَذَا وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ ذِرَاعٍ إذَا أَضَرَّ بِهِمْ يُمْنَعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَعَكْسُهُ إنْ كَانَ أَقَلَّ وَلَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ لَمْ يُمْنَعْ ، ثُمَّ أَفْضَى الْأَمْرُ مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ امْتَنَعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَخْذُ الْمَاءِ مِنْهُ لِلشُّرْبِ وَغَيْرِهِ إلَّا مَوَاضِعَ قَلِيلَةً ، وَمَعَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فِتَنٌ لِمَنْعِ أَصْحَابِ الدُّورِ مَنْ يَرِدُ الْمَاءَ مِنْ السَّقَّائِينَ الَّذِينَ يَبِيعُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ جَرَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ إلَى أَنْ وَصَلَتْ إلَى عِمَادِ الدِّينِ وَأَصْلِهِ ، وَهُوَ الصَّلَاةُ بِإِفْسَادِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَلَّى أَحَدٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ فِي الصِّحَّةِ ، وَالْفَسَادِ وَهَذَا مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ كَمَوْضِعِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ } انْتَهَى .
فَإِذَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعُظْمَى فَكَيْفَ يَرْضَى لَبِيبٌ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي مَوْضِعٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْبَحْرِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْضُلَ شَيْءٌ مِنْ آلَةِ الْعِمَارَةِ أَوْ يَنْهَدَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ الدُّورِ فَيَقَعُ ذَلِكَ فِي الْبَحْرِ غَالِبًا فَتَجِيءُ الْمَرَاكِبُ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ فَتَمُرُّ عَلَى ذَلِكَ فَيَكْسِرُهَا غَالِبًا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ الْحِجَارَةُ مَبْنِيَّةً بَارِزَةً مَعَ الزَّرَابِيِّ الْخَارِجَةِ عَنْ الْبُيُوتِ فِي دَاخِلِ الْبَحْرِ ، ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَذِبَّةِ يَمْنَعُونَ أَصْحَابَ الْمَرَاكِبِ مِنْ أَنْ يَلْتَصِقُوا إلَيْهَا ، وَالْمَوْضِعُ مُبَاحٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ اخْتِصَاصٌ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَرَاكِبَ قَدْ تَأْتِي فِي وَقْتِ هَوْلِ الْبَحْرِ مَعَ ثِقَلِهَا بِالْوَسْقِ فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُرْسِيَ فِي الْمَوْضِعِ الْقَرِيبِ مِنْهُ لِيَسْلَمَ مِنْ آفَاتِ الْبَحْرِ فَلَا يَجِدُ لِذَلِكَ سَبِيلًا مِنْ كَثْرَةِ الدُّورِ الَّتِي هُنَاكَ فَيَمْضِي لِسَبِيلِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ الدُّورَ ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَرَقِهِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي

ذِمَّةِ الْبَانِي هُنَاكَ .
السَّادِسُ : مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يَلْبَسْنَ وَيَتَحَلَّيْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ الَّتِي عَلَى الْبَحْرِ عَلَى مَا اعْتَدْنَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي الْخُرُوجِ إلَى الطُّرُقَاتِ وَعَلَيْهِنَّ مِنْ جَمَالِ الزِّينَةِ ، وَالتَّحَلِّي مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّهُنَّ يُبَالِغْنَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا شَعَرْنَ أَنَّ الْعُيُونَ تَنْظُرُ إلَيْهِنَّ ، فَقَدْ يَرَاهَا مِنْ يَشْغَفُ قَلْبُهُ بِصُورَتِهَا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهَا فَيَحْتَالُ الْحِيَلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى الْوُصُولِ إلَيْهَا إمَّا بِالطَّوَاعِيَةِ مِنْهَا إنْ قَدَرَ أَوْ يَأْتِي بِاللَّيْلِ قَهْرًا ، فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا وَقَعَتْ الْفَاحِشَةُ الْكُبْرَى ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ ، وَقَدْ يَشْغَفُ آخَرُ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الْحُلِيِّ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُزُولِ الْمَنَاسِرِ عَلَيْهِمْ بِاللَّيْلِ وَمَا يُقَارِبُهُ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَالْخِلْسَةِ ، وَقَدْ تَشْغَفُ هِيَ بِبَعْضِ مَنْ تَرَاهُ مِنْ الشَّبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الرَّجُلِ ، وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقُلُوبَ تَتَعَلَّقُ غَالِبًا بِمَا رَأَتْ ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ الْعِلْمِ عِنْدَهُمَا ، فَإِذَا قَرُبَ زَوْجَتَهُ قَدْ يَجْعَلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ الصُّورَةَ الَّتِي تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ هِيَ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ شَرِبَ الْمَاءَ يَعُدُّ أَنَّهُ خَمْرٌ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يَصِيرُ فِي حَقِّهِ حَرَامًا ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
السَّابِعُ : أَنَّ فِي ذَلِكَ سَرَفًا وَإِضَاعَةَ مَالٍ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا ، إذْ لَا يَخْلُو السَّاكِنُ هُنَاكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَسْكُنَ فِي مِلْكِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَسْكُنَ بِأُجْرَةٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ ، فَقَدْ أَضَاعَ مَالَهُ لِمَا يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ كَمَا قَدْ عَلِمَ مِنْ

مُجَاوِرَةِ الْبَحْرِ فَفِي ذَلِكَ تَغْرِيرٌ بِمَالِهِ وَبِأَهْلِهِ وَبِوَلَدِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَهَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَدْ أَلْقَى بِنَفْسِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَسْكُنُ بِالْأُجْرَةِ فَلَا يُثَابُ عَلَى مَا دَفَعَ مِنْهَا لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي مِنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِمِصْرَ قَبْلَ هَذَا الزَّمَنِ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ الْمِلْكُ لِلْبَيْعِ صَعِدُوا عَلَى سَطْحِهِ ، فَإِذَا رَأَوْا الْبَحْرَ لَا يُعْطُونَ فِيهِ شَيْئًا وَيَقُولُونَ عَنْهُ : إنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِمَا يَخَافُونَ عَلَيْهِ مِنْ وُصُولِ الْبَحْرِ إلَيْهِ فَيُتْلِفَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْا الْبَحْرَ حِينَئِذٍ يَتَسَاوَمُونَ فِيهِ ، وَهُمْ الْيَوْمَ بِضِدِّ ذَلِكَ يُرِيدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَبْنِيَ فِي قَلْبِ الْبَحْرِ وَمَنْ بَنَى فِي قَلْبِ الْبَحْرِ ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ رَمَى مَالَهُ فِيهِ إلَّا أَنَّ الَّذِي رَمَى مَالَهُ فِيهِ هُوَ الَّذِي عَجَّلَ إتْلَافَهُ ، وَاَلَّذِي بَنَى فِيهِ أَجَّلَ إتْلَافَهُ ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَعَلَى هَذَا فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى بِنَاءِ الْمَسْكَنِ عَلَيْهِ فَلْيَكُنْ بِمَوْضِعٍ يَرَاهُ مِنْهُ إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ فِي الْبُعْدِ بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى ؛ لِأَنَّهُ إذْ كَانَ كَذَلِكَ انْزَاحَتْ تِلْكَ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا وَسَقَطَ عَنْهُ التَّغْيِيرُ وَغَيْرُهُ .
وَهَذَا طَرِيقٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلُ كَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ أَحْدَثَ مِئْذَنَةً عَلَى دُورٍ سَبَقَتْهَا أَنَّهُ إذَا صَعِدَ الْمُؤَذِّنُ عَلَيْهَا وَرَأَى النَّاسَ فِي بُيُوتِهِمْ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ مَيَّزَ ذَلِكَ مُنِعَ إحْدَاثُهَا ، وَالصُّعُودُ عَلَيْهَا

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُكْمَ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهِ ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : بَعِيدٌ مِنْ الْعُمْرَانِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِي إحْيَائِهِ ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي إحْيَائِهِ ضَرَرٌ عَلَى مَنْ يَخْتَصُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، فَأَمَّا الْبَعِيدُ مِنْ الْعُمْرَانِ فَلَا يَحْتَاجُ فِي إحْيَائِهِ إلَى اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ عَلَى مَا حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ ، وَأَمَّا الْقَرِيبُ مِنْهُ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِي إحْيَائِهِ عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَأَمَّا الْقَرِيبُ مِنْهُ الَّذِي فِي إحْيَائِهِ ضَرَرٌ كَالْأَفْنِيَةِ الَّتِي يَكُونُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا ضَرَرًا بِالطَّرِيقِ وَشِبْهُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ بِحَالٍ ، وَلَا يُبِيحُ ذَلِكَ الْإِمَامُ ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ

فَصْلٌ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْقُبُورِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُنَّ مَيِّتٌ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ حَكَمَتْ بِعَدَمِ خُرُوجِهِنَّ { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِنِسَاءٍ خَرَجْنَ فِي جِنَازَةٍ أَتَحْمِلْنَهُ فِيمَنْ يَحْمِلُهُ قُلْنَ لَا قَالَ : أَفَتُنْزِلْنَهُ قَبَرَهُ فِيمَنْ يُنْزِلُهُ قُلْنَ : لَا قَالَ : أَفَتَحْثِينَ عَلَيْهِ التُّرَابَ فِيمَنْ يَحْثِي قُلْنَ : لَا قَالَ : فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ } { وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ لَقِيَهَا فِي طَرِيقٍ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت فَقَالَتْ مِنْ عِنْدِ جِيرَانٍ لَنَا عَزَّيْتُهُمْ فِي مَيِّتِهِمْ فَقَالَ لَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَعَلَّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكَدَاءَ يَعْنِي الْقُبُورَ فَقَالَتْ : لَا وَاَللَّهِ سَمِعْتُك تَنْهَى عَنْهَا فَقَالَ : لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكَدَاءَ وَذَكَرَ وَعِيدًا شَدِيدًا } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَعَنْ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ ، وَالسُّرُجَ } أَخْرَجَهُ أَبُو دؤاد فِي سُنَنِهِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَقَدْ رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِسَاءً فِي جِنَازَةٍ فَطَرَدَهُنَّ وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَأَرْجِعُ إنْ لَمْ تَرْجِعْنَ ، وَحَصَبَهُنَّ بِالْحِجَارَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي حُضُورِ الْجِنَازَةِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِهِنَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قَوْلٌ بِالْمَنْعِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي بِالْجَوَازِ عَلَى مَا يُعْلَمُ فِي الشَّرْعِ مِنْ السَّتْرِ ، وَالتَّحَفُّظِ عَكْسُ مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ .
وَالثَّالِثُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَجَالَّةِ ، وَالشَّابَّةِ فَيَجُوزُ لِلْمُتَجَالَّةِ وَيُمْنَعُ لِلشَّابَّةِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي نِسَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَكُنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ فِي الِاتِّبَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا خُرُوجَهُنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَمَعَاذَ

اللَّهِ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، أَوْ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ ، أَوْ غَيْرَةٌ فِي الدِّينِ بِجَوَازِ ذَلِكَ ، فَإِنْ وَقَعَتْ ضَرُورَةٌ لِلْخُرُوجِ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْلَمُ فِي الشَّرْعِ مِنْ السَّتْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ الذَّمِيمَةِ فِي هَذَا

وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ لِبَعْضِهِمْ فِي بِنَاءِ هَذِهِ الدُّورِ فِي الْقُبُورِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَرَعَ دَفْنَ الْأَمْوَاتِ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْإِيمَانَ بُنِيَ عَلَى النَّظَافَةِ ، فَإِذَا دُفِنَ الْمُؤْمِنُ فِي الصَّحْرَاءِ ، فَالصَّحْرَاءُ عَطْشَانَةٌ فَأَيُّ فَضْلَةٍ خَرَجَتْ مِنْ الْمَيِّتِ شَرِبَتْهَا الْأَرْضُ فَيَبْقَى الْمُؤْمِنُ نَظِيفًا فِي قَبْرِهِ .
فَلَمَّا أَنْ رَأَى الشَّيْطَانُ هَذِهِ السُّنَّةَ الْمُبَارَكَةُ ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ سَوَّلَ لَهُمْ ضِدَّهَا ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ مَيِّتٌ خَرَجُوا بِأَهْلِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ إلَى قَبْرِهِ فَيَسْكُنُونَ فِي دَارٍ إلَى جَانِبِهِ وَلَا بُدَّ لِلدَّارِ مِنْ بَيْتِ الْخَلَاءِ وَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمِيَاهِ ، فَإِذَا أَقَامُوا هُنَاكَ نَزَلَتْ تِلْكَ الْفَضَلَاتُ وَهِيَ سَرِيعَةُ السَّرَيَانِ فِي الْأَرْضِ فَتَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ فَتُنَجِّسُهُ ، وَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِالْفَضَلَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ ، وَالنَّجَاسَاتُ الَّتِي انْجَذَبَتْ إلَيْهِ عَكْسُ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، وَهُمْ يُقِيمُونَ عَلَى مَيِّتِهِمْ هُنَاكَ بِقَدْرِ عِزَّتِهِ عِنْدَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقِيمُ الشَّهْرَ ، وَالشَّهْرَيْنِ ، وَالثَّلَاثَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَمَا جَرَّتْ إلَيْهِ ، فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ الْمَبِيتِ فِي الْقُبُورِ لِمَا يُخْشَى مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ الْمَوْتَى ، وَقَدْ سَتَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ عَنَّا رَحْمَةً بِنَا فَمَنْ يَبِتْ هُنَاكَ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ إلَى زَوَالِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى شَيْئًا يَذْهَبُ بِهِ عَقْلُهُ .
وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ حِين تَشْيِيعِهِ إلَى قَبْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَفَاؤُلٌ رَدِيءٌ وَهَؤُلَاءِ يُوقِدُونَ الشُّمُوعَ وَغَيْرِهَا عِنْدَهُ مَعَ مَا يُوقِدُونَهُ مِنْ الْأَحْطَابِ لِطَعَامِهِمْ اللَّهُمَّ

عَافِنَا مِنْ قَلْبِ الْحَقَائِقِ ، وَقَدْ قَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ إنَّهُ بَنَى دَارًا حَوْلَ الْقُبُورِ فَسَكَنَ هُنَاكَ فَأَصْبَحَتْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيهِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا رَأَتْ فِي النَّوْمِ شَيْخًا كَبِيرًا ذَا شَيْبَةٍ وَجَمَالٍ ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ وَهُوَ يَقُولُ نَحْنُ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ سُكَّانٌ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنْتُمْ تَدُقُّونَ عَلَى رُؤْسِنَا بِالْهَاوُنِ بِاللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ ، وَقَدْ شَوَّشْتُمْ عَلَيْنَا قَالَ فَأَخْلَيْت ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَأَمَرْت بِهَدْمِهِ عَنْ آخِرِهِ فَالْبِنَاءُ فِي الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إذَا كَانَتْ فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَلَا يَحِلُّ الْبِنَاءُ فِيهَا ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ تَارِيخَ مِصْرَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْ فَتْحَ مِصْرَ وَأَخَذَ الْبِلَادَ مِنْ الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ مِصْرَ أَعْطَاهُ الْمُقَوْقِسُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ الْقَرَافَةِ مَالًا جَزِيلًا فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كِتَابًا يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ الْمُقَوْقِسَ أَعْطَاهُ فِي أَرْضٍ مِنْ الْأَمْوَالِ كَذَا وَكَذَا ، وَهِيَ لَا تَنْفَعُ لِشَيْءٍ وَرَأَيْت أَنَّ هَذَا الْمَالَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَأْخُذُ هُوَ أَرْضًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا لَكِنِّي وَقَفْت فِي ذَلِكَ لِأَمْرِك فَانْظُرْ مَا تَرَى فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا بَعْدُ فَاسْأَلْهُ لِمَاذَا بَذَلَ هَذَا الْمَالَ فِيهَا ، وَهِيَ لَا تَنْفَعُ لِشَيْءٍ فَسَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ : إنَّا نَجِدُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّى لَا أَعْرِفُ تُرْبَةَ

الْجَنَّةِ إلَّا لِأَجْسَادِ الْمُؤْمِنِينَ فَاجْعَلْهَا لِمَوْتَاهُمْ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَإِذَا جَعَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِدَفْنِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ مُنِعَ الْبِنَاءُ فِيهَا .
وَقَدْ قَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ وَأَسْكُنُ إلَى قَوْلِهِ : إنَّ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَدْمِ كُلِّ مَا فِي الْقَرَافَةِ مِنْ الْبِنَاءِ كَيْفَ كَانَ فَوَافَقَهُ الْوَزِيرُ فِي ذَلِكَ وَفَنَّدَهُ وَاحْتَالَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ لَهُ : إنَّ فِيهَا مَوَاضِعَ لِلْأُمَرَاءِ وَأَخَافُ أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ بِسَبَبٍ ذَلِكَ ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَعْمَلَ فَتَاوَى فِي ذَلِكَ فَيَسْتَفْتِي فِيهَا الْفُقَهَاءَ : هَلْ يَجُوزُ هَدْمُهَا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا بِالْجَوَازِ فَعَلَ الْمَلِكُ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إلَى فَتَاوِيهِمْ فَلَا يَقَعُ تَشْوِيشٌ عَلَى أَحَدٍ .
فَاسْتَحْسَنَ الْمَلِكُ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَشَارَ بِهِ قَالَ : فَأَخَذَ الْفَتَاوَى وَأَعْطَاهَا إلَيَّ وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْشِيَ بِهَا عَلَى مَنْ وُجِدَ فِي الْوَقْتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَمَشَيْت بِهَا عَلَيْهِمْ مِثْلُ الظَّهِيرِ التَّزْمَنْتِيِّ وَابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ وَنَظَائِرِهِمَا فِي الْوَقْتِ ، فَالْكُلُّ كَتَبُوا خُطُوطَهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ : إنَّهُ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَهْدِمَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَلِّفَ أَصْحَابَهَا رَمْيَ تُرَابِهَا فِي الْكِيمَانِ ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ .
قَالَ فَأَعْطَيْت الْفَتَاوَى لِلْوَزِيرِ فَمَا أَعْرِفُ مَا صَنَعَ فِيهَا وَسَكَتَ عَلَى ذَلِكَ وَسَافَرَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ إلَى الشَّامِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ فَلَمْ يَرْجِعْ وَمَاتَ بِهِ ، فَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِيهَا فَعَلَى هَذَا ، فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَقَدْ خَالَفَهُمْ وَمِنْ كِتَابِ ابْنِ بَشِيرٍ : وَلَيْسَتْ الْقُبُورُ مَوْضِعَ زِينَةٍ وَلَا مُبَاهَاةٍ ؛ وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ بِنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي الْمُبَاهَاةَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ

يَحْرُمُ مَعَ هَذَا الْقَصْدِ وَوَقَعَ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ فِيمَنْ أَوْصَى أَنْ يُبْنَى عَلَى قَبْرِهِ بَيْتٌ أَنَّهُ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ وَقَالَ : لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ وَلَا كَرَامَةَ ، وَظَاهِرُ هَذَا التَّحْرِيمِ ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَنَفَّذَ وَصِيَّتَهُ ، وَنَهَى عَنْهَا ابْتِدَاءً انْتَهَى .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ فَيَأْتِي عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّلَاةِ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ ، بَلْ هَذَا الْغَصْبُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا غَصْبٌ لِحَقِّ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ ، وَالْأَوَّلُ لِلْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ ، فَالْأَحْيَاءُ قَدْ يُمْكِنُ التَّحَلُّلُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْأَمْوَاتِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ قَبْرًا لِيُدْفَنَ فِيهِ إذَا مَاتَ ؛ لِأَنَّهُ تَحْجِيرٌ عَلَى غَيْرِهِ ، وَمَنْ سَبَقَ كَانَ أَوْلَى بِالْمَوْضِعِ مِنْهُ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا غَصْبَ فِي ذَلِكَ .
وَفِيهِ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ حَفَرَ لَهُ ، وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ مِنْ هَتْكِ الْحَرِيمِ ، وَالْمَخَاوِفِ الَّتِي تَقَعُ لَهُمْ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَلَامٍ وَلَا بَيَانٍ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَذُبُّ عَنْ الدِّينِ وَيَذْكُرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَغَيْرَهَا ، وَيُعَظِّمُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَيَنْشُرُهَا حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا مِنْ الْقَبَائِحِ ، وَيُبَيِّنَ السُّنَّةَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَلَّ مَنْ يَعْلَمُ آدَابَهَا فِي الْوَقْتِ أَعْنِي فِي الْغَالِبِ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ، ثُمَّ أَبَاحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ } فَجَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَائِدَةَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ تَذْكِرَةَ الْمَوْتِ

وَصِفَةُ السَّلَامِ عَلَى الْأَمْوَاتِ أَنْ يَقُولَ ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وَالْمُسْلِمِينَ ، وَالْمُسْلِمَاتِ رَحِمَ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ ) انْتَهَى .
ثُمَّ يَقُولُ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ ) وَمَا زِدْت ، أَوْ نَقَصْت فَوَاسِعٌ ، وَالْمَقْصُودُ الِاجْتِهَادُ لَهُمْ فِي الدُّعَاءِ ، فَإِنَّهُمْ أَحْوَجُ النَّاسِ لِذَلِكَ لِانْقِطَاعِ أَعْمَالِهِمْ ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِي قِبْلَةِ الْمَيِّتِ وَيَسْتَقْبِلُهُ بِوَجْهِهِ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَجْلِسَ فِي نَاحِيَةِ رِجْلَيْهِ إلَى رَأْسِهِ ، أَوْ قُبَالَةِ وَجْهِهِ ، ثُمَّ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا حَضَرَهُ مِنْ الثَّنَاءِ ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ الْمَشْرُوعَةَ ، ثُمَّ يَدْعُو لِلْمَيِّتِ بِمَا أَمْكَنَهُ ، وَكَذَلِكَ يَدْعُو عِنْدَ هَذِهِ الْقُبُورِ عِنْدَ نَازِلَةٍ نَزَلَتْ بِهِ ، أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي زَوَالِهَا وَكَشْفِهَا عَنْهُ وَعَنْهُمْ ، وَهَذِهِ صِفَةُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ عُمُومًا .
فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْمُزَارُ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ فَيَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ ، وَكَذَلِكَ يَتَوَسَّلُ الزَّائِرُ بِمَنْ يَرَاهُ الْمَيِّتُ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَبْدَأُ بِالتَّوَسُّلِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إذْ هُوَ الْعُمْدَةُ فِي التَّوَسُّلِ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ ، وَالْمُشَرَّعُ لَهُ فَيَتَوَسَّلُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا قُحِطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ

إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّك فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ ) انْتَهَى .
ثُمَّ يَتَوَسَّلُ بِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ أَعْنِي بِالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ ، ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدِيهِ وَلِمَشَايِخِهِ وَلِأَقَارِبِهِ وَلِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ وَلِأَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَحْيَائِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلِمَنْ غَابَ عَنْهُ مِنْ إخْوَانِهِ وَيَجْأَرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ وَيُكْثِرُ التَّوَسُّلَ بِهِمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اجْتَبَاهُمْ وَشَرَّفَهُمْ وَكَرَّمَهُمْ فَكَمَا نَفَعَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَفِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ ، فَمَنْ أَرَادَ حَاجَةً فَلْيَذْهَبْ إلَيْهِمْ وَيَتَوَسَّلُ بِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقِهِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ وَعُلِمَ مَا لِلَّهِ تَعَالَى بِهِمْ مِنْ الِاعْتِنَاءِ ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ ، وَمَا زَالَ النَّاسُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَالْأَكَابِرِ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا يَتَبَرَّكُونَ بِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ وَيَجِدُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ حِسًّا وَمَعْنًى ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِسَفِينَةِ النَّجَاءِ لِأَهْلِ الِالْتِجَاءِ فِي كَرَامَاتِ الشَّيْخِ أَبِي النَّجَاءِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ مَا هَذَا لَفْظُهُ : تَحَقَّقَ لِذَوِي الْبَصَائِرِ ، وَالِاعْتِبَارِ أَنَّ زِيَارَةَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ مَحْبُوبَةٌ لِأَجْلِ التَّبَرُّكِ مَعَ الِاعْتِبَارِ ، فَإِنَّ بَرَكَةَ الصَّالِحِينَ جَارِيَةٌ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ كَمَا كَانَتْ فِي حَيَاتِهِمْ

وَالدُّعَاءُ عِنْدَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ ، وَالتَّشَفُّعُ بِهِمْ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ انْتَهَى ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَلْيَذْهَبْ إلَيْهِمْ وَلْيَتَوَسَّلْ بِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } انْتَهَى .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ آدَابِ السَّفَرِ مِنْ كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ مَا هَذَا نَصُّهُ : الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُسَافِرَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ إمَّا لِجِهَادٍ ، أَوْ حَجٍّ إلَى أَنْ قَالَ : وَيَدْخُلُ فِي جُمْلَتِهِ زِيَارَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَقُبُورِ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ ، وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَكُلُّ مَنْ يُتَبَرَّكُ بِمُشَاهَدَتِهِ فِي حَيَاتِهِ يُتَبَرَّكُ بِزِيَارَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَيَجُوزُ شَدُّ الرِّحَالِ لِهَذَا الْغَرَضِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } .
لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ ؛ لِأَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ زِيَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَالْعُلَمَاءِ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَفَاوَتُ فِي الدَّرَجَاتِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَذَكَرَ الْعَبْدَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا هَذَا لَفْظُهُ : وَأَمَّا النَّذْرُ لِلْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ فَلَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْحَجُّ ، وَالْعُمْرَةُ وَإِلَى الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنْ الْكَعْبَةِ وَمِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ حَجٌّ

وَلَا عُمْرَةٌ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُسْلِمٌ صَحِيحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا مُشْرِكٌ ، أَوْ مُعَانِدٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي كِتَابِ اتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ قَالَ : اتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَنَقَلَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي تَهْذِيبِ الطَّالِبِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبَةٌ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ يُرِيدُ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ .
وَالْحَاصِلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّهَا قُرْبَةٌ مَطْلُوبَةٌ لِنَفْسِهَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِغَيْرِهَا فَتَنْفَرِدُ بِالْقَصْدِ وَشَدِّ الرَّحَّالِ إلَيْهَا ، وَمَنْ خَرَجَ قَاصِدًا إلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا فَهُوَ فِي أَجَلِّ الطَّاعَاتِ وَأَعْلَاهَا فَهَنِيئًا لَهُ ، ثُمَّ هَنِيئًا لَهُ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّك يَا كَرِيمُ .
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : اُنْظُرْ إلَى سِرِّ مَا وَقَعَ مِنْ هِجْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْمَدِينَةِ وَإِقَامَتِهِ بِهَا حَتَّى انْتَقَلَ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَذَلِكَ أَنَّ حِكْمَةَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ مَضَتْ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَتَشَرَّفُ الْأَشْيَاءُ بِهِ لَا هُوَ يَتَشَرَّفُ بِهَا فَلَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَكَّةَ إلَى انْتِقَالِهِ إلَى رَبِّهِ تَعَالَى لَكَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدْ تَشَرَّفَ بِمَكَّةَ ، إذْ أَنَّ شَرَفَهَا قَدْ سَبَقَ بِآدَمَ ، وَالْخَلِيلِ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ هِجْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْمَدِينَةِ فَتَشَرَّفَتْ الْمَدِينَةُ بِهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا وَقَعَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْبِقَاعِ

الْمَوْضِعُ الَّذِي ضَمَّ أَعْضَاءَهُ الْكَرِيمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ الْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا وَانْظُرْ إلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي بَاشَرَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَجِدْهَا أَبَدًا تَتَشَرَّفُ بِحَسَبِ مُبَاشَرَتِهِ لَهَا وَبِقَدْرِ ذَلِكَ يَكُونُ التَّشْرِيفُ أَلَا تَرَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي الْمَدِينَةِ : تُرَابُهَا شِفَاءٌ } .
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِتَرَدُّدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتِلْكَ الْخُطَى الْكَرِيمَةِ فِي أَرْجَائِهَا لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ ، أَوْ إغَاثَةِ مَلْهُوفٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمَّا أَنْ كَانَ مَشْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِهِ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَرَدُّدِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَظُمَ شَرَفُهُ بِذَلِكَ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَلَمَّا أَنْ كَانَ تَرَدُّدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ بَيْتِهِ وَمِنْبَرِهِ أَكْثَرَ مِنْ تَرَدُّدِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ الشَّرِيفَةُ بِنَفْسِهَا رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ } انْتَهَى .
وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا يُحَصِّلُ لِصَاحِبِهِ رَوْضَةً فِي الْجَنَّةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا بِنَفْسِهَا تُنْقَلُ إلَى الْجَنَّةِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ

، ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْآدَابِ ، وَهُوَ فِي زِيَارَةِ الْعُلَمَاءِ ، وَالصُّلَحَاءِ وَمَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِمْ .
وَأَمَّا عَظِيمُ جَنَابِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ فَيَأْتِي إلَيْهِمْ الزَّائِرُ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ قَصْدُهُمْ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ ، فَإِذَا جَاءَ إلَيْهِمْ فَلْيَتَّصِفْ بِالذُّلِّ ، وَالِانْكِسَارِ ، وَالْمَسْكَنَةِ ، وَالْفَقْرِ ، وَالْفَاقَةِ ، وَالْحَاجَةِ ، وَالِاضْطِرَارِ ، وَالْخُضُوعِ وَيُحْضِرْ قَلْبَهُ وَخَاطِرَهُ إلَيْهِمْ ، وَإِلَى مُشَاهَدَتِهِمْ بِعَيْنِ قَلْبِهِ لَا بِعَيْنِ بَصَرِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَبْلَوْنَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ ، ثُمَّ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَتَرَضَّى عَنْ أَصْحَابِهِمْ ، ثُمَّ يَتَرَحَّمُ عَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ، ثُمَّ يَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ فِي قَضَاءِ مَآرِبِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِمْ وَيَطْلُبُ حَوَائِجَهُ مِنْهُمْ وَيَجْزِمُ بِالْإِجَابَةِ بِبَرَكَتِهِمْ وَيُقَوِّي حُسْنَ ظَنِّهِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ بَابُ اللَّهِ الْمَفْتُوحِ ، وَجَرَتْ سُنَّتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَبِسَبَبِهِمْ وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِمْ فَلْيُرْسِلْ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَذِكْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ حَوَائِجِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ وَسَتْرِ عُيُوبِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ السَّادَةُ الْكِرَامُ ، وَالْكِرَامُ لَا يَرُدُّونَ مَنْ سَأَلَهُمْ وَلَا مَنْ تَوَسَّلَ بِهِمْ ، وَلَا مَنْ قَصَدَهُمْ وَلَا مَنْ لَجَأَ إلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامُ فِي زِيَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عُمُومًا .

فَصْلٌ وَأَمَّا فِي زِيَارَةِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخِرِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَكُلُّ مَا ذُكِرَ يَزِيدُ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ أَعْنِي فِي الِانْكِسَارِ ، وَالذُّلِّ ، وَالْمَسْكَنَةِ ؛ لِأَنَّهُ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ الَّذِي لَا تُرَدُّ شَفَاعَتُهُ وَلَا يَخِيبُ مَنْ قَصْدَهُ وَلَا مَنْ نَزَلَ بِسَاحَتِهِ وَلَا مَنْ اسْتَعَانَ ، أَوْ اسْتَغَاثَ بِهِ ، إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قُطْبُ دَائِرَةِ الْكَمَالِ وَعَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ رَأَى صُورَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِذَا هُوَ عَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ فَمَنْ تَوَسَّلَ بِهِ ، أَوْ اسْتَغَاثَ بِهِ ، أَوْ طَلَبَ حَوَائِجَهُ مِنْهُ فَلَا يُرَدُّ وَلَا يَخِيبُ لِمَا شَهِدَتْ بِهِ الْمُعَايَنَةُ ، وَالْآثَارُ وَيَحْتَاجُ إلَى الْأَدَبِ الْكُلِّيِّ فِي زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ الزَّائِرَ يُشْعِرُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا هُوَ فِي حَيَاتِهِ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ أَعْنِي فِي مُشَاهَدَتِهِ لِأُمَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ وَعَزَائِمِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ جَلِيٌّ لَا خَفَاءَ فِيهِ .
فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : هَذِهِ الصِّفَاتُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ مَنْ انْتَقَلَ إلَى الْآخِرَةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَحْوَالَ الْأَحْيَاءِ غَالِبًا ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى مِنْ حِكَايَاتٍ وَقَعَتْ مِنْهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ حِينَ عَرْضِ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ عَلَيْهِمْ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مَغِيبَةٌ عَنَّا .
وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعَرْضِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ ، وَالْكَيْفِيَّةُ فِيهِ غَيْرُ

مَعْلُومَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا وَكَفَى فِي هَذَا بَيَانًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } انْتَهَى .
وَنُورُ اللَّهِ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ هَذَا فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ؟ ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ : ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ : لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَتُعْرَضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْمَالُ أُمَّتِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ ؛ فَلِذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِك عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } ، قَالَ : وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْآبَاءِ ، وَالْأُمَّهَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا تَعَارُضَ ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَصَّ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْعَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى .
فَالتَّوَسُّلُ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ مَحَلُّ حَطِّ أَحْمَالِ الْأَوْزَارِ وَأَثْقَالِ الذُّنُوبِ ، وَالْخَطَايَا ؛ لِأَنَّ بَرَكَةَ شَفَاعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعِظَمَهَا عِنْدَ رَبِّهِ لَا يَتَعَاظَمُهَا ذَنْبٌ ، إذْ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَمِيعِ فَلْيَسْتَبْشِرْ مَنْ زَارَهُ وَيَلْجَأْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ لَمْ يَزُرْهُ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا مِنْ شَفَاعَتِهِ بِحُرْمَتِهِ عِنْدَك آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ .
وَمَنْ اعْتَقَدَ خِلَافَ هَذَا فَهُوَ الْمَحْرُومُ أَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا

اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } فَمَنْ جَاءَهُ وَوَقَفَ بِبَابِهِ وَتَوَسَّلَ بِهِ وَجَدَ اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُنَزَّهٌ عَنْ خُلْفِ الْمِيعَادِ ، وَقَدْ وَعَدَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالتَّوْبَةِ لِمَنْ جَاءَهُ وَوَقَفَ بِبَابِهِ وَسَأَلَهُ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ، فَهَذَا لَا يَشُكُّ فِيهِ وَلَا يَرْتَابُ إلَّا جَاحِدٌ لِلدِّينِ مُعَانِدٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْحِرْمَانِ ، وَقَدْ جَاءَ بَعْضُهُمْ إلَى زِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَدْخُلْ الْمَدِينَةَ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ، بَلْ زَارَ مِنْ خَارِجِهَا أَدَبًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَدْخُلُ فَقَالَ : أَمِثْلِي يَدْخُلُ بَلَدَ سَيِّدِ الْكَوْنَيْنِ لَا أَجِدُ نَفْسِي تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِ الْخَلِيفَةِ لَمَّا أَنْ أَتَى إلَيْهِ بِالْبَغْلَةِ لِيَرْكَبَهَا حَتَّى يَأْتِيَ إلَيْهِ لِعُذْرِهِ فِي كَوْنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ انْخَلَعَتْ يَدَاهُ وَرُكْبَتَاهُ مِنْ الضَّرْبِ الَّذِي قَدْ وَقَعَ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ فَأَبَى أَنْ يَرْكَبَ ، وَقَالَ : مَوْضِعٌ وَطِئَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْدَامِهِ الْكَرِيمَةِ مَا كَانَ لِي أَنْ أَطَأَهُ بِحَافِرِ بَغْلَةٍ وَمَشَى إلَيْهِ مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إلَى الْخَلِيفَةِ فِي خَارِجِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَجَرَى لَهُ مَعَهُ مَا جَرَى .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْخَلِيفَةِ لَمَّا أَنْ سَأَلَهُ إذَا دَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَتَوَجَّهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ إلَى الْقِبْلَةِ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَيْفَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ

الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ لَهُ : وَزِيَارَةٌ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْمُسْلِمِينَ مَجْمَعٌ عَلَيْهَا وَفَضِيلَةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ زَارَنِي فِي الْمَدِينَةِ مُحْتَسِبًا كَانَ فِي جِوَارِي وَكُنْت لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمِمَّا لَمْ يَزَلْ مِنْ شَأْنِ مَنْ حَجَّ الْمُرُورُ بِالْمَدِينَةِ ، وَالْقَصْدُ إلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالتَّبَرُّكُ بِرُؤْيَةِ رَوْضَتِهِ وَمِنْبَرِهِ وَقَبْرِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَلَامِسِ يَدَيْهِ وَمَوَاطِئِ قَدَمَيْهِ ، وَالْعَمُودِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَيَنْزِلُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ فِيهِ عَلَيْهِ وَبِمَنْ عَمَّرَهُ وَقَصَدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالِاعْتِبَارُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ سَمِعْت بَعْضَ مَنْ أَدْرَكْته يَقُولُ : بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك يَا مُحَمَّدٌ يَقُولُهَا سَبْعِينَ مَرَّةً نَادَاهُ مَلَكٌ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك يَا فُلَانُ وَلَمْ تَسْقُطْ لَهُ حَاجَةٌ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَهْدِيِّ قَالَ : قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمَّا وَدَّعْته قَالَ لِي أَلَك حَاجَةٌ إذَا أَتَيْت الْمَدِينَةَ سَتَرَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ قَالَ غَيْرُهُ وَكَانَ يُبْرِدُ إلَيْهِ

الْبَرِيدَ مِنْ الشَّامِ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ : إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا يَقِفُ وَوَجْهُهُ إلَى الْقَبْرِ لَا إلَى الْقِبْلَةِ ، وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ بِيَدِهِ ، وَقَالَ نَافِعٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَبْرِ رَأَيْته مِائَةَ مَرَّةٍ ، وَأَكْثَرُ مَا يَفْعَلُ يَجِيءُ إلَى الْقَبْرِ فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَى أَبِي حَفْصٍ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَيَقُولُ إذَا دَخَلَ مَسْجِدَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : بِسْمِ اللَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَالسَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَصَلَّى اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَجَنَّتِك وَاحْفَظْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، ثُمَّ اقْصِدْ إلَى الرَّوْضَةِ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ ، وَالْمِنْبَرِ فَارْكَعْ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ وُقُوفِك بِالْقَبْرِ تَحْمَدُ اللَّهَ فِيهِمَا وَتَسْأَلُهُ تَمَامَ مَا خَرَجْت إلَيْهِ ، وَالْعَوْنَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَتْ رَكْعَتَاك فِي غَيْرِ الرَّوْضَةِ أَجْزَأْتُك ، وَفِي الرَّوْضَةِ أَفْضَلُ ، ثُمَّ تَقِفُ بِالْقَبْرِ مُتَوَاضِعًا مُتَوَقِّرًا فَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا يَحْضُرُك وَتُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَتَدْعُو لَهُمَا قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ وَخَرَجَ قَالَ مُحَمَّدٌ وَإِذَا خَرَجَ جَعَلَ آخِرَ عَهْدِهِ الْوُقُوفَ بِالْقَبْرِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مُسَافِرًا ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطَةِ : وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَخَرَجَ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْوُقُوفُ بِالْقَبْرِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ فَقِيلَ لَهُ إنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَقْدِمُونَ مِنْ سَفَرٍ وَلَا يُرِيدُونَهُ إلَّا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ

فِي الْيَوْمِ مَرَّةً ، أَوْ أَكْثَرَ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً فَقَالَ : لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلَدِنَا ، وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ ، أَوْ أَرَادَهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرَأَيْت أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا خَرَجُوا مِنْهَا ، أَوْ دَخَلُوهَا أَتَوْا الْقَبْرَ فَسَلَّمُوا قَالَ ، وَذَلِكَ دَأْبِي قَالَ الْبَاجِيُّ : فَفَرْقٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالْغُرَبَاءِ ؛ لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ قَاصِدُونَ إلَى ذَلِكَ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ مُقِيمُونَ بِهَا لَمْ يَقْصِدُوهَا مِنْ أَجْلِ الْقَبْرِ ، وَالتَّسْلِيمِ .
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ يَبْدَأُ بِالرُّكُوعِ قَبْلَ السَّلَامِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ كِتَابِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْهِنْدِيِّ وَمَنْ وَقَفَ بِالْقَبْرِ لَا يَلْتَصِقْ بِهِ وَلَا يَمَسَّهُ وَلَا يَقِفْ عِنْدَهُ طَوِيلًا انْتَهَى .
يَعْنِي بِالْوُقُوفِ طَوِيلًا أَنَّ الْحُجْرَةَ الشَّرِيفَةَ دَاخِلُ الدَّرَابِيزِ ، فَإِذَا وَقَفَ طَوِيلًا ضَيَّقَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَأَمَّا لَوْ وَقَفَ خَارِجَ الدَّرَابِيزِ فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقَّ الصَّلَاةِ وَانْتِظَارَهَا ، وَالِاعْتِكَافَ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ مِنْ دَاخِلِ الدَّرَابِيزِ الَّتِي هُنَاكَ ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ مَحَلُّ احْتِرَامٍ وَتَعْظِيمٍ فَيُنَبِّهُ الْعَالِمُ غَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ هُنَاكَ فَتَرَى مِنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَطُوفُ بِالْقَبْرِ الشَّرِيفِ كَمَا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ الْحَرَامِ وَيَتَمَسَّحُ بِهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ مَنَادِيلَهُمْ وَثِيَابَهُمْ يَقْصِدُونَ بِهِ التَّبَرُّكَ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاتِّبَاعِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا كَانَ سَبَبُ عِبَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ لِلْأَصْنَامِ

إلَّا مِنْ هَذَا الْبَابِ

وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ التَّمَسُّحَ بِجِدَارِ الْكَعْبَةِ ، أَوْ بِجُدْرَانِ الْمَسْجِدِ ، أَوْ بِالْمُصْحَفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَبَرَّكُ بِهِ سَدًّا لِهَذَا الْبَابِ وَلِمُخَالِفَةِ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ التَّعْظِيمِ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكُلُّ مَا عَظَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعَظِّمُهُ وَنَتَّبِعُهُ فِيهِ ، فَتَعْظِيمُ الْمُصْحَفِ قِرَاءَتُهُ ، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ لَا تَقْبِيلُهُ وَلَا الْقِيَامُ إلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ تَعْظِيمُهُ الصَّلَاةُ فِيهِ لَا التَّمَسُّحُ بِجُدْرَانِهِ .
وَكَذَلِكَ الْوَرَقَةُ يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ فِي الطَّرِيقِ فِيهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى ، أَوْ اسْمُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
تَرْفِيعُهُ إزَالَةُ الْوَرَقَةِ مِنْ مَوْضِعِ الْمَهَانَةِ إلَى مَوْضِعٍ تُرْفَعُ فِيهِ لَا بِتَقْبِيلِهَا ، وَكَذَلِكَ الْخُبْزُ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مُلْقًى بَيْنَ الْأَرْجُلِ ؛ تَعْظِيمُهُ أَكْلُهُ لَا تَقْبِيلُهُ ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ تَعْظِيمُهُ اتِّبَاعُهُ لَا تَقْبِيلُ يَدِهِ وَقَدَمِهِ ، وَلَا التَّمَسُّحُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ تَعْظِيمُهُ بِاتِّبَاعِهِ لَا بِالِابْتِدَاعِ عِنْدَهُ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي الْمُصْحَفِ مُصَيْحِفٌ ، وَفِي الْكِتَابِ كُتَيِّبٌ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ حِينَ مُنَاوَلَتِهِمْ الْمُصْحَفَ ، وَالْكِتَابَ لَفْظَةَ حَاشَاك ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ مُسَيْجِدٌ وَفِي الدُّعَاءِ اُدْعُ لِي دُعَيْوَةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ شَنِيعَةٌ قَبِيحَةٌ لَوْ عَلِمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْخَطَرِ مَا تَكَلَّمُوا بِهَا ، إذْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَعْظِيمُهُ مَطْلُوبٌ ، وَالتَّصْغِيرُ ضِدُّهُ ، وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنْ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } انْتَهَى ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الذَّمُّ الْعَظِيمُ فِيمَنْ اتَّخَذَ الْمَوْضِعَ مَسْجِدًا فَكَيْف بِالطَّوَافِ

عِنْدَهُ

، وَأَمَّا أَكْلُ التَّمْرِ عِنْدَهُ فِي الرَّوْضَةِ الْمُشَرَّفَةِ فَمَمْنُوعٌ ، إذْ أَنَّ فِيهِ قِلَّةُ أَدَبٍ وَاحْتِرَامٍ مَعَهُ وَمَعَ مَسْجِدِهِ وَمَعَ رَوْضَتِهِ الَّتِي عَظَّمَهَا وَرَفَعَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عَامَّتَهُمْ يُلْقُونَ النَّوَى هُنَاكَ وَهُوَ أَذًى فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الذُّبَابُ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْأَذَى لِلْمَوْضِعِ الشَّرِيفِ مَا فِيهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُعَامِلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي عَظَّمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالنَّقِيضِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَكَلَ التَّمْرَ حَصَلَ لُعَابُهُ فِي النَّوَاةِ ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا وَيُلْقِيهَا فِي الْمَسْجِدِ وَلُعَابُهُ عَلَيْهَا ، وَهَذَا بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ ، وَفِيهِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ وَقِلَّةِ الِاحْتِرَامِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15