كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

 

فَإِنَّ لَهُ سَطْوَةً ، وَسُلْطَانًا يَزِيدُ الْكَاذِبَ كَذِبًا ، وَيُفْسِدُ عَلَى الصَّادِقِ صِدْقُهُ فَلَا تُظْهِرْ الْخَوْفَ مِنْ قَلْبِك ، وَلَا تُظْهِرْ قِلَّةَ الْخَوْفِ فَإِنَّ إظْهَارَ قِلَّةِ الْخَوْفِ هُوَ مِنْ قِلَّةِ الْخَوْفِ ، وَهَذَا بَابٌ فِيهِ فَسَادُ الْعَمَلِ كَبِيرٌ ، وَهُوَ رِيَاءٌ فِيهِ لُطْفٌ ، وَلَهُ حَلَاوَةٌ ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ ، وَاحُزْنَاه عَلَى الْحُزْنِ ، وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَخَافُ ، وَاحُزْنَاه عَلَى الْأَحْزَانِ فَإِنَّ هَذِهِ أَشْيَاءُ مِنْ دَقَائِقِ مَدَاخِلِ إبْلِيسَ ، وَاَللَّهُ سَائِلُكَ عَنْ بُكَائِكَ ، وَإِظْهَارِكَ الْخَوْفَ ، وَالْحُزْنَ ، وَإِظْهَارِكَ أَنَّك لَسْت بِحَزِينٍ ، وَإِظْهَارِك أَنَّك لَا تَخَافُ ، وَمَا تُظْهِرُ مِنْ الِانْكِسَارِ ، وَالتَّوَاضُعِ ، وَإِظْهَارِك الْهَمَّ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ ، وَذَمِّك نَفْسَك ، وَمَاذَا أَرَدْت بِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلِإِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ مَذَاهِبُ تَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرِ مِنْ النَّاسِ ، وَهِيَ تُنْسَبُ إلَى خُشُوعِ النِّفَاقِ فَإِنْ كُنْت صَادِقًا فِيهَا فَاحْذَرْ إبْلِيسَ عِنْدَهَا ، وَفِي وَقْتِهَا حَذَرًا شَدِيدًا ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَانْظُرْ كَيْفَ يَكُونُ احْتِمَالُك إذَا قَالَ لَك غَيْرُك : مَا تَقُولُهُ أَنْتَ لِنَفْسِك مِنْ الذَّمِّ ، وَالْوَقِيعَةِ فِيهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَك عِنْدَ ذَلِكَ أَصَادِقٌ أَنْتَ فِي فِعْلِك أَمْ كَاذِبٌ ؟ فَإِذَا كَانَ بَاطِنُك كَظَاهِرِك لَمْ تُبَالِ كَيْفَ كَانَ أَمْرُك ، وَقُمْ عَلَى بَاطِنِك أَشَدَّ مِنْ قِيَامِك عَلَى ظَاهِرِك فَإِنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ اللَّهُ مُطَّلِعٌ فَنَظِّفْهُ ، وَزَيِّنْهُ لِيَنْظُرَ اللَّهُ إلَيْهِ أَشَدَّ مَا تُزَيِّنُ ظَاهِرَك لِنَظَرِ غَيْرِهِ فَافْهَمْ مَا أَقُولُ لَك بِعِنَايَةٍ مِنْك ، وَقَبُولٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ فَرَائِضَ جَوَارِحِك إنَّمَا تَقُومُ بِفَرَائِض قَلْبِك ، وَاعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ ، وَالصِّدْقَ ، وَالْإِخْلَاصَ فَرِيضَةٌ تُقَامُ بِهَا الْفَرَائِضُ ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهَا الْأَعْمَالُ ، وَتَرْكُ الذُّنُوبِ فَرِيضَةٌ فَكُلُّ أَمْرٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ فَهُوَ مَرْدُودٌ ، وَمُحَالٌ أَنْ يُتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِمَعَاصِيهِ { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ

لُحُومُهَا ، وَلَا دِمَاؤُهَا ، وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الْإِرَادَةَ لَهُ بِالْإِيمَانِ ، وَالْأَعْمَالُ يُرَادُ بِهِمَا وَجْهُهُ فَأَصَابَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ بِنِيَّتِهِ الْفَرِيضَتَيْنِ جَمِيعًا الظَّاهِرَةَ ، وَالْبَاطِنَةَ ، وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ عَمِلْت بِمَا ، وَصَفْتُ لَك ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيْك الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا عَلَى أَنْ تُظْهِرَ حَسَنَاتِك أَوْ تُرَائِيَ بِهَا مَا فَعَلْت .
، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرِيدَ فِي تَرْكِ الْمَيْتَةِ يَخَافُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَشْبَعَ مِنْهَا ، وَيَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَنَالَ مِنْهَا ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا ، وَيَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَدَّخِرَ مِنْهَا ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَهُوَ يَخَافُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَعْصِيَهُ فِيمَا أَحَلَّهُ لَهُ ، وَيَخَافُ أَنْ يَشْبَعَ مِمَّا أَبَاحَهُ لَهُ .
فَمَنْ قَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ مِنْ الزُّهْدِ فِيهَا ، وَأَقَامَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا الَّتِي فِي الدُّنْيَا مَقَامَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّمَا يَنَالُ مِنْهَا الْبُلْغَةَ عِنْدَمَا اُضْطُرَّ إلَيْهَا ، وَيَخَافُ مِنْ اللَّهِ إنْ تَرَكَ أَخْذَ تِلْكَ الْبُلْغَةِ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ أَنْ يُعَذَّبَ عَلَى تَرْكِهَا كَمَا يَخَافُ أَنْ يُعَذَّبَ عَلَى أَخْذِ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَك اللَّهُ بِهِ ، وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَاك اللَّهُ عَنْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَقْلِك أَنْ تَأْخُذَ مَيْتَةً فَتُخَزِّنَهَا ، وَلَا إنْ فَاتَتْ حَزِنْت عَلَيْهَا ، وَلَا إنْ وَجَدْتهَا فَرِحْتَ بِهَا ؛ لِأَنَّك مِنْهَا عَلَى مَقْتٍ لَهَا بِمَا تَقَذَّرَ مِنْك لَهَا فَإِذَا خِفْتَ مِنْهَا أَنْ تَنَالَهَا نَفَيْتَ الْمَخَافَةَ الَّتِي حَلَّتْ بِقَلْبِك حَلَاوَتُهَا ، وَهِيَ الدُّنْيَا فَتَجْتَزِئُ مِنْهَا بِمَا أَقَامَ صُلْبَكَ ، وَأَدَّيْت بِهِ فَرْضَك ، وَدَعْ مَا سِوَى ذَلِكَ يُكَابِدُهُ غَيْرُك ، وَاَلَّذِي تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا يَسِيرُهَا ، وَهُوَ مَا تَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَك ، وَتُقِيمُ بِهِ صُلْبَك لِأَدَاءِ فَرَائِضِك ، وَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ

فَهُوَ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمُنْتَهَى طَلَبِ الْآخِرَةِ تَرْكُ الدُّنْيَا ، وَمُنْتَهَى طَلَبِ الدُّنْيَا جَمْعُ مَا أَحْبَبْت مِنْ الدُّنْيَا فَإِذَا رَأَيْت نَفْسَك تَأْنَسُ بِقُرْبِ الدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمِ ، وَتَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِمَا فَاعْلَمْ أَنَّك مُحِبٌّ لِلدُّنْيَا ، وَمَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلدُّنْيَا فَهُوَ قَالٍ لِلْآخِرَةِ .
انْتَهَى

فَصْلٌ فِي الصِّدْقِ ، وَالْعَقْلِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يُحْتَرَزُ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إنَّمَا هُوَ الصِّدْقُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالصِّدْقُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِشَأْنِهِمَا ، وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ غَيْرِهِ ، وَبَيَانٌ تَامٌّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَاعْلَمْ يَا أَخِي عِلْمًا يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الصَّادِقَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ ، وَلَا يَأْلُوهُمْ نُصْحًا فِي ارْتِيَادِهِ لَهُمْ فَإِنَّ أَخَاك مَنْ صَدَقَكَ ، وَنَصَحَك ، وَإِنْ خَالَفَ صِدْقُهُ ، وَنُصْحُهُ هَوَاك ، وَإِنَّ عَدُوَّك مَنْ كَذَبَك ، وَغَشَّك ، وَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ هَوَاكَ ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي لَمَّا أَطَلْتُ الْفِكْرَةَ ، وَصَحَّحْتُ فِي ذَلِكَ النَّظَرَ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - بَارِئُ النَّسَمِ ، وَوَلِيُّ النِّعَمِ ، وَمَالِكُ الْأُمَمِ لَمْ يَخْلُقْنِي ، وَإِيَّاكَ عَبَثًا ، وَلَا هُوَ تَارِكِي ، وَإِيَّاكَ سُدًى ، وَأَنَّ لِي ، وَلَك مَعَادًا نَقِفُ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ لِلْحُكْمِ بَيْنَنَا ، وَلِلْفَصْلِ فِينَا ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْنِي وَإِيَّاكَ حِينَ خَلَقَنَا لِهَزْلٍ ، وَلَا لِلَعِبٍ ، وَلَا لِفَنَاءٍ دَائِمٍ ، وَإِنَّمَا خَلَقَنَا لِبَقَاءِ الْأَبَدِ ، وَدَوَامِ النِّعَمِ فِي جِوَارِهِ ، وَجِوَارِ مَلَائِكَتِهِ ، وَأَنْبِيَائِهِ ، أَوْ فِي الشَّقَاءِ الدَّائِمِ لِلْأَبَدِ فَالْعَاقِلُ مُتَيَقِّظٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ مُسْتَعِدٌّ لِمَا هُوَ صَائِرٌ إلَيْهِ فَانْتَبَهَ مِنْ رَقْدَتِهِ ، وَأَفَاقَ مِنْ سَكْرَتِهِ فَعَمِلَ ، وَجَدَّ ، وَأَبْصَرَ فَزَجَرَ النَّفْسَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ الْخَاذِلَةِ الْخَادِعَةِ الزَّائِلَةِ الَّتِي قَدْ ، وَلَّتْ بِخُدْعَتِهَا ، وَفَتَنَتْ بِغُرُورِهَا ، وَشَوَّقَتْ بِحُطَامِهَا فَلَمَّا عَرَفَهَا الْعَاقِلُ الْكَيِّسُ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا زَهِدَ فِيهَا ، وَرَغِبَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ ، وَالسُّرُورِ ، وَتَقَرَّبَ إلَى مَالِكِ الدَّارِ بِجَمِيعِ مَا يُحِبُّ مِمَّا يُطِيقُ التَّقَرُّبَ بِهِ إلَيْهِ ، وَرَتَّبَ بِبَابِهِ ، وَأَمَّا الْمُغْتَرُّ

بِالدُّنْيَا الْمُؤْثِرُ لِهَوَاهُ فِيهَا فَهُوَ مُعْتَنِقُهَا .
أَيُّهَا الْمَيِّتُ عَنْ قَرِيبٍ ، وَالْمَبْعُوثُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى دَارِ الْمُقَامَةِ الْمَسْئُولُ عَنْ إقْبَالِهِ ، وَإِدْبَارِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا الْمَوْقُوفُ عَنْ قَلِيلٍ بَيْنَ يَدَيْ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الَّذِي لَا يَجُورُ هَلْ أَعْدَدْتَ لِذَلِكَ الْمَوْقِفِ حُجَّةً تُدَافِعُ عَنْك أَوْ أَعْدَدْتَ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } فَإِيَّاكَ يَا أَخِي ، وَالنُّزُولَ بِمَحَلَّةِ الْمَخْدُوعِينَ ، وَاعْلَمْ أَنَّ السَّيِّدَ الْكَرِيمَ نِعَمُهُ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى ، وَأَنَّ عَطَايَاهُ كَثِيرَةٌ لَا تُجَازَى ، وَأَنَّ مَوَاهِبَهُ كَثِيرَةٌ لَا تُكَافَأُ ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي لَمْ أَرَ نِعْمَةً مُتَقَدِّمَةً مِنْ اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ لِخَلْقِهِ أَفْضَلَ مِنْ نِعْمَةِ الْعَقْلِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ دَلَالَةً لِخَلْقِهِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَالْوُصُولَ بِهَا إلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ بِهِ ، وَاَلَّذِي أَطْلَعَهُمْ اللَّهُ بِهِ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمِهِ حَتَّى وَرِثُوا الْبَصَائِرَ ، وَنَفَوْا بِهِ خَاطَرَ الشَّكِّ ، وَكَابَدُوا ، وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ ، وَمَعَارِيضَ فِتْنَتِهِ ، وَاسْتَضَاءُوا بِنُورِ الْعُقُولِ فِي طَرِيقِ حَيْرَتِهِمْ فَتَجَنَّبُوهَا ، وَخَرَجُوا مِنْ ظُلْمِ الشَّكِّ ، وَاعْتَقَدُوا بِهَا مَعْرِفَةَ اللَّهِ ، وَالْإِيمَانَ بِهِ ، وَالْإِخْلَاصَ ، وَالتَّوْحِيدَ ، وَأَفْرَدُوا اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَالْعَظَمَةِ ، وَالْكِبْرِيَاءِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ اللُّبِّ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ ، وَعَلَى خَلْقِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ، وَأَنَّهُمْ مَوْسُومُونَ بِسِمَةِ الْفِطْرَةِ ، وَآثَارِ الصَّنْعَةِ ، وَالنَّقْصِ ، وَالزِّيَادَةِ مَعَ تَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ فَأَوَّلُ ابْتِدَاءِ اللَّهِ لَهُمْ أَنْ وَهَبَ لَهُمْ الْعُقُولَ الَّتِي بِهَا وَصَلُوا إلَى الْإِيمَانِ ، وَبِالْإِيمَانِ وَصَلُوا إلَى نُورِ الْيَقِينِ ، وَبِنُورِ الْيَقِينِ وَصَلُوا إلَى خَالِصِ التَّفَكُّرِ ، وَبِخَالِصِ

التَّفَكُّرِ وَصَلُوا إلَى اسْتِقَامَةِ الْقُلُوبِ ، وَبِاسْتِقَامَةِ الْقُلُوبِ وَصَلُوا إلَى الصِّدْقِ فِي الْأَعْمَالِ ، وَإِخْلَاصِهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَوَرَّثَهُمْ ذَلِكَ الْبَصَائِرَ فِي قُلُوبِهِمْ فَوَضَحَتْ الْحِكْمَةُ فِي صُدُورِهِمْ ، وَجَرَتْ يَنَابِيعُهَا عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فَهَجَمُوا بِفَطِنِ قُلُوبِهِمْ عَلَى غَوَامِضِ الْغُيُوبِ ، وَالْإِرَادَةِ ، وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي رُكِّبَ فِيهِمْ ، وَأَدْرَكُوا بِصَفَاءِ يَقِينِهِمْ غَائِصَ الْفَهْمِ ، وَأَدْرَكُوا بِغَائِصِ فَهْمِهِمْ الْعِلْمَ الْمَحْجُوبَ فَعَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، وَسَلَّمُوا إلَيْهِ الْخَلْقَ ، وَالْأَمْرَ فَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ مَعَادِنَ لِصَفَاءِ الْيَقِينِ ، وَبُيُوتًا لِلْحِكْمَةِ ، وَتَوَابِيتَ لِلْعَظَمَةِ ، وَخَزَائِنَ لِلْقُدْرَةِ ، وَيَنَابِيعَ لِلْحِكْمَةِ فَهُمْ بَيْنَ الْخَلَائِقِ مُقْبِلُونَ ، وَمُدْبِرُونَ ، وَقُلُوبُهُمْ تَجُولُ فِي الْمَلَكُوتِ ، وَتَتَلَذَّذُ فِي حُجُبِ الْغُيُوبِ ، وَتَخْطُرُ فِي طُرُقَاتِ الْجَنَّاتِ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْعَظِيمُ الَّذِي مَنْ وَالَاهُ نِعَمَهُ أَغْنَاهُ .
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ مَنْ صَدَقَ اللَّهَ أَوْصَلَهُ إلَى الْجَوَلَانِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ بِقَلْبِهِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِ بِطَرَفِ مَا قَدْ أَفَادَهُ السَّيِّدُ الْكَرِيمُ فَصَارَ قَلْبُهُ وِعَاءً لِخَيْرٍ لَا يَنْفَدُ ، وَعَجَائِبَ فِكْرٍ لَا تَنْقَضِي ، وَمَعَادِنَ جَوَاهِرَ لَا تَفْنَى ، وَبُحُورِ حِكْمَةٍ لَا تُنْزَحُ أَبَدًا ، وَمَعَ ذَلِكَ مَلَكُوا الْجَوَارِحَ ، وَالْأَبْدَانَ ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ فِي ابْنِ آدَمَ مُضْغَةً إنْ صَلُحَتْ صَلُحَ سَائِرُ جَسَدِهِ ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ جَسَدِهِ ، وَهِيَ الْقَلْبُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلِسَانُهُ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ مِلْكَيَّ الْبَدَنِ ، وَالْجَوَارِحِ ، وَالْقَلْبُ هُوَ الْمُسَلَّطُ عَلَى اسْتِخْدَامِهِمْ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَعْدِنُ الْعَقْلِ ، وَالْعِلْمِ ، وَالْعِنَايَةِ فَجَمِيعُ الْخَيْرِ ، وَالشَّرِّ مُسْتَوْدَعُ

الْقَلْبِ ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي ، وَجَدْتُ اللِّسَانَ مُتَرْجِمًا عَنْ الْقَلْبِ إرَادَتَهُ ، وَذَخَائِرَ بَصَائِرِهِ ، وَوَجَدْتُ الذِّكْرَ جَلَاءً لِصَدَأِ الْقُلُوبِ ، وَتَيَقُّظًا مِنْ وَسَنِ الْأَفْئِدَةِ ، وَاعْلَمْ أَنِّي ، وَجَدْتُ الشُّكْرَ عَلَى مَنْ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِنُورِ الْعَقْلِ أَكْثَرَ ، وَالْحُجَّةَ عَلَيْهِ آكَدَ فَمِنْ هَاهُنَا أُلْزِمَ الْحُجَّةَ ، وَانْقَطَعَتْ الْمَعَاذِيرُ مَعَ الْأَعْذَارِ ، وَالْإِنْذَارِ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْنَا ، وَعَلَى أَهْل الْعُقُولِ مِنْ خَلْقِهِ ، وَمَا أَعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا أُتِيَ إلَّا مِنْ قِبَلِ تَضْيِيعِ الشُّكْرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَحَدٌ إلَّا ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ إلَّا قَلِيلٌ .
فَمِنْهُمْ مِنْ حَثَى لَهُ مِنْ الشُّكْرِ ، وَحَثَى عَلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ مِنْ الْعَقْلِ دُونَ ذَلِكَ فَشَكَرَ اللَّهَ عَلَى قَلِيلِ مَا أُعْطِيَ فَزَادَهُ اللَّهُ حَتَّى عَلَا فِي دَرَجَةِ الْعَقْلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ النِّعْمَةَ فَلَمْ يَأْخُذْهَا بِشُكْرٍ فَنَقَصَ عَنْ دَرَجَةِ الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ فِي الْعَقْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شُكْرُهُ عَلَى قَدْرِ عَظِيمِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ ، وَالْهَوَى ضِدَّانِ مُرَكَّبَانِ فِي الْعَبْدِ كَتَرْكِيبِ الْجَوَارِحِ ، وَهُمَا يَعْتَرِكَانِ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ اسْتَعْلَى عَلَى صَاحِبِهِ ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فَكَانَتْ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا بِالْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ تَبَعًا فَشَكَرَ الْعَبْدُ إذَا كَانَ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ عَقْلِهِ أَنْ يَتْبَعَ دَلَالَةَ عَمَلِهِ ، وَعَقْلِهِ فَيُؤْثِرُ دَلَالَتَهُمَا ، وَمَا يَدْعُوَانِ إلَيْهِ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ عَظِيمٌ عَلَى قَدْرِ مَا نَرَى مِنْ غَلَبَةِ الْهَوَى عَلَيْنَا ، وَاسْتِمْكَانِ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِ عُلَمَائِنَا ، وَجُهَّالنَا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَّا كَذَلِكَ عَزَّ وُجُودُ الصِّدْقِ عَلَى كَثْرَةِ وُجُودِ مَعْرِفَتِهِ ، وَوَصْفِهِ ، وَقَلَّ الْعَمَلُ بِهِ ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ ، وَقَدْ

فَشَا الْكَذِبُ ، وَكَثُرَ الرِّيَاءُ ، وَالتَّزَيُّنُ لِلدُّنْيَا ، وَسُلُوكُ أَوْدِيَةِ الْهَوَى ، وَنُزُولُ أَوْدِيَةِ الْغَفْلَةِ .
وَلَا يُؤْمَنُ السَّبِيلُ أَنْ يَرْكَبَ عَلَى تِلْكَ الْغَفْلَةِ فَتَتْلَفُ النَّفْسُ ، وَأَنَّ الْهَوَى قَدْ قَامَ مَقَامَ الْحَقِّ يُعْمَلُ بِهِ ، وَيُقْضَى بِقَضَائِهِ ، وَيُحْكَمْ بِحُكْمِهِ وَقَامَ سُوءُ الْأَدَبِ ، وَالْمَكْرُ ، وَالْخَدِيعَةُ مَقَامَ الْعُقُولِ ، وَقَامَتْ الْمُدَاهَنَةُ مَقَامَ الْمُدَارَاةِ ، وَقَامَ الْغِشُّ مَقَامَ النُّصْحِ ، وَقَامَ الْكَذِبُ مَقَامَ الصِّدْقِ ، وَقَامَ الرِّيَاءُ مَقَامَ الْإِخْلَاصِ ، وَقَامَ الشَّكُّ مَقَامَ الْيَقِينِ ، وَقَامَتْ التُّهْمَةُ مَقَامَ الثِّقَةِ ، وَقَامَ الْأَمْنُ مَقَامَ الْخَوْفِ ، وَقَامَ الْجَزَعُ مَقَامَ الصَّبْرِ ، وَقَامَ السُّخْطُ مَقَامَ الرِّضَا ، وَقَامَ الْجَهْلُ مَقَامَ الْعِلْمِ ، وَقَامَتْ الْخِيَانَةُ مَقَامَ الْأَمَانَةِ فَصَارَ مِنْ قِلَّةِ الْأَكْيَاسِ لَا تُعْرَفُ الْحَمْقَى ، وَمِنْ قِلَّةِ أَهْلِ الصِّدْقِ لَا يُعْرَفُ أَهْلُ الْكَذِبِ إلَّا عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ ، وَالْعَقْلِ ، وَالْبَصِيرَةِ فَاعْتَدَلَ النَّاسُ فِي قُبْحِ السَّرِيرَةِ ، وَقِلَّةِ الِاسْتِقَامَةِ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَأَصْبَحْنَا وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا ، وَبَيْنَ النَّقْصِ الَّذِي نَكْرَهُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا ، وَحِيلَ بَيْنَنَا ، وَبَيْنَ أَنْ نَدْخُلَ فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي نُحِبُّهَا لِأَنْفُسِنَا عُقُوبَةً لِقُبْحِ أَسْرَارِنَا فَجَرَيْنَا فِي مَيْدَانِ الْجَهْلِ ، وَغَلَبَ عَلَيْنَا سُكْرُ حُبِّ الدُّنْيَا فَنَحْنُ نَسْتَبِقُ فِي هَذَيْنِ السَّبِيلَيْنِ ، وَنَتَنَافَسُ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُمَا فَصَحَّ عِنْدِي أَنَّ مِنْ الْجَهْلِ بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَالِاغْتِرَارِ بِهِ الْقِيَامَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا أَيْسَرُ ، وَأَقْرَبُ رُشْدًا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فِيهِ مَعَ التَّخَلُّصِ إلَى خُمُولِ الذِّكْرِ أَيْنَمَا كَانَ ، وَطُولِ الصَّمْتِ ، وَقِلَّةِ الْمُخَالَطَةِ لِلنَّاسِ ، وَالِاعْتِصَامِ بِاَللَّهِ ، وَالْعَضِّ عَلَى الْكِسَرِ الْيَابِسَةِ ، وَمَا دَنُؤَ مِنْ

اللِّبَاسِ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْقُرْآنِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ ، وَانْتِظَارِ الْفَرْجِ ، وَاعْلَمْ أَنِّي قَدْ نَظَرْتُ بِبَحْثِ النَّفْسِ ، وَالْعِنَايَةِ بِهَا فَوَجَدْتُ غَفْلَتَنَا عَظِيمَةً ، وَخَطَرَنَا عَظِيمًا ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الْخَطَرِ أَعْظَمُ مِنْ الْخَطَرِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْظُمُ الْخَطَرُ عِنْدَ أُولِي الْعُقُولِ فَكُلَّمَا عَظُمَ الْخَطَرُ ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ عَظِيمٌ ، وَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ حَرَّكَك عَظِيمُ الْخَطَرِ فَانْتَقَلْتَ مِنْ عَظِيمِ الْغَفْلَةِ إلَى حَالِ التَّيَقُّظِ ، وَلَا حَوْلَ ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الطَّمَعِ ، وَقُبْحِهِ .
وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي أَنْ لَا تَأْذَنَ لِقَلْبِك فِي اسْتِصْحَابِ مَا يَعْسُرُ عَلَيْك طَلَبُهُ ، وَتَخَافَ إطْفَاءَ نُورِ الْقَلْبِ مِنْ أَجْلِهِ ، وَكُنْ فِي تَأْلِيفِ مَا بَيْنَك ، وَبَيْنَ اللَّهِ مَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ ، وَاقْطَعْ أَسْبَابَ الطَّمَعِ فَيَسْتَرِيحَ قَلْبُكَ ، وَيَصِيرَ إلَى عِزِّ الْإِيَاسِ ، وَإِمَاتَةِ الطَّمَعِ فَيُسَدُّ عَلَيْك سَبِيلَ الْفَقْرِ ، وَيَسْكُنُ قَلْبُكَ عَنْ الْعَنَاءِ ، وَيَسْقُطُ عَنْك بِذَلِكَ الشُّغْلُ بِالْمَخْلُوقِينَ ، وَاسْتَجْلِبْ حَلَاوَةَ الزَّهَادَةِ بِقَصْرِ الْأَمَلِ ، وَقَطْعِهِ ، وَاطْلُبْ رَاحَةَ الْبَدَنِ بِإِجْمَاعِ الْقَلْبِ عَلَى عَدَمِ الشُّغْلِ بِرُؤْيَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِدَوَامِ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ ، وَالْمَعْرِفَةِ ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ التَّارِكِينَ لِفُضُولِ الْكَلَامِ فَإِنَّ بِمُجَالَسَةِ هَؤُلَاءِ يَصْفُو الْقَلْبُ ، وَيَرِقُّ ، وَيَقْدَحُ فِيهِ النُّورُ ، وَتَجْرِي فِيهِ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ ، وَافْتَحْ بَابَ دَوَاعِي الْحُزْنِ إلَى قَلْبِكَ ، وَاسْتَفْتِحْ بَابَهُ بِطُولِ الْفِكْرِ ، وَاسْتَجْلِبْ الْفِكْرَ بِالتَّوَحُّشِ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ أَبْوَابَهَا فِي مَوَاطِنِ الْخَلَوَاتِ ، وَتَحَرَّزْ مِنْ إبْلِيسَ بِالْخَوْفِ الصَّادِقِ ، وَاسْتَعِنْ عَلَى ذَلِكَ بِمُخَالَفَةِ هَوَاك ، وَإِيَّاكَ ، وَالرَّجَاءَ الْكَاذِبَ فَإِنَّ التَّوَسُّعَ فِيهِ يُنْزِلُك بِمَحَلَّةِ الْمُصِرِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمَكْرِ ، وَالِاسْتِدْرَاجِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لِلرَّجَاءِ طُرُقًا تُؤَدِّي إلَى الْأَمْنِ ، وَالْغَفْلَةِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَتَّخِذَهُ مَطِيَّةً لِسَفَرِك ، وَتَخَلَّصْ يَا أَخِي إلَى عَظِيمِ الشُّكْرِ بِاسْتِكْثَارِ قَلِيلِ الرِّزْقِ مَعَ كَثِيرِ الرِّضَا بِذَلِكَ ، وَاسْتَقْلِلْ كَثِيرَ الطَّاعَةِ ، وَاسْتَجْلِبْ النِّعَمَ بِعَظِيمِ الشُّكْرِ ، وَاسْتَدْمِ عَظِيمَ الشُّكْرِ بِخَوْفِ زَوَالِ النِّعَمِ ، وَاطْلُبْ لِنَفْسِك الْعِزَّ بِإِمَاتَةِ الطَّمَعِ ، وَادْفَعْ ذُلَّ الطَّمَعِ بِعِزِّ الْإِيَاسِ ، وَاسْتَجْلِبْ عِزَّ الْإِيَاسِ بِبُعْدِ الْهِمَّةِ ، وَاسْتَعِنْ

عَلَى بُعْدِ الْهِمَّةِ بِقَصْرِ الْأَمَلِ ، وَبَادِرْهُ بِانْتِهَازِ النِّعْمَةِ عِنْدَ إمْكَانِ الْفُرْصَةِ خَوْفَ فَوَاتِ الْإِمْكَانِ ، وَلَا إمْكَانَ كَالْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ مَعَ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ ، وَاحْذَرْ التَّسْوِيفَ فَإِنَّ دُونَهُ مَا يَقْطَعُ بِك عَنْ بُغْيَتِك ، وَإِيَّاكَ يَا أَخِي ، وَالتَّفْرِيطَ عِنْدَ إمْكَانِ الْفُرْصَةِ فَإِنَّهُ مَيْدَانٌ يَجْرِي بِأَهْلِهِ بِالْخُسْرَانِ ، وَإِيَّاكَ ، وَالثِّقَةَ بِغَيْرِ الْمَأْمُونِ فَإِنَّ لِلشَّرِّ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الذِّئَابِ ، وَلَا سَلَامَةَ كَسَلَامَةِ الْقَلْبِ ، وَلَا عَمَلَ كَمُخَالَفَةِ الْهَوَى ، وَلَا مُصِيبَةَ كَمُصِيبَةِ الْعَقْلِ ، وَلَا عَدَمَ كَقِلَّةِ الْيَقِينِ ، وَلَا جِهَادَ كَجِهَادِ النَّفْسِ ، وَلَا غَلَبَةَ كَغَلَبَةِ الْهَوَى ، وَلَا قُوَّةَ كَرَدِّك الْغَضَبَ ، وَلَا مَعْصِيَةَ كَحُبِّ النِّفَاقِ وَإِنَّ حُبَّ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّ النِّفَاقِ ، وَلَا طَاعَةَ كَقِصَرِ الْأَمَلِ ، وَلَا ذُلَّ كَالطَّمَعِ - وَفَّقْنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ لِمَا إلَيْهِ دَعَانَا ، وَأَعَانَنَا ، وَإِيَّاكَ عَلَى اجْتِنَابِ مَا عَنْهُ نَهَانَا ، وَلَا حَوْلَ ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ

فَصْلٌ فِي التَّزَيُّنِ .
وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْعُقُولُ مَعَادِنُ الدِّينِ ، وَالْعِلْمُ دَلَالَةٌ عَلَى أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ ، وَالْمَعْرِفَةُ دَلَالَةٌ عَلَى آفَاتِ الْأَعْمَالِ ، وَالْبَصَائِرُ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِبَارِ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ أَوْ اخْتِيَارِ مَوَارِدِهَا ، وَتَصْرِيفِ مَصَادِرِهَا ، وَالتَّزَيُّنُ اسْمٌ لِثَلَاثِ مَعَانٍ فَمُتَزَيِّنٌ بِعِلْمٍ ، وَمُتَزَيِّنٌ بِجَهْلٍ ، وَمُتَزَيِّنٌ بِتَرْكِ التَّزَيُّنِ ، وَهُوَ أَعْظَمُهَا فِتْنَةً ، وَأَحَبُّهَا إلَى إبْلِيسَ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسَاسَ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ دِينَهُ مَعْرِفَتُهُ نَفْسَهُ ، وَزَمَانَهُ ، وَأَهْلَ زَمَانِهِ فَإِذَا عَرَفَ عُيُوبَ نَفْسِهِ ، وَأَرَادَ مَأْخَذًا لِيَسْلَمَ بِهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلْوَةِ ، وَخُمُولِ نَفْسِهِ فَلَعَلَّهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُدْرِكَ بِذَلِكَ الْحُزْنَ فِي الْقَلْبِ ، وَالْخَوْفَ الَّذِي يُحْتَجَزُ بِهِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ، وَالشَّوْقَ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ أَمَلَهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَزَلْ مُتَحَيِّرًا مُتَلَذِّذًا مُتَزَيِّنًا بِالْكَلَامِ يَأْنَسُ بِمَجَالِسِ الْوَحْشَةِ ، وَيَثِقُ بِغَيْرِ الْمَأْمُونِ ، وَيَطْمَئِنُّ لِأَهْلِ الرَّيْبِ ، وَيَحْتَمِلُ أَهْلَ الْمَيْلِ إلَى الدُّنْيَا ، وَيَغْتَرُّ بِأَهْلِ الْحِرْصِ ، وَالرَّغْبَةِ ، وَيَتَأَسَّى بِأَهْلِ الضَّعْفِ ، وَيَسْتَرِيحُ إلَى أَهْلِ الْجَهْلِ مَيْلًا مِنْهُ إلَى هَوَاهُ إلَى أَنْ يَفْجَأَهُ الْمَوْتُ ، وَحُلُولُ النَّدَمِ .
وَإِذَا وَجَدْتَ الْمُرِيدَ الْمُدَّعِيَ لِلْعَمَلِ ، وَالْمَعْرِفَةِ يَأْنِسُ بِمَنْ يَعْرِفُ ، وَلَا يَهْرُبُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ ، وَيَنْبَسِطُ ، وَيُمَكِّنُ نَفْسَهُ مِنْ الْكَلَامِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مَنْ يَعْرِفُ فَاتَّهِمْ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ صَادِقًا فِي إرَادَتِهِ أَوْ يَكُونَ جَاهِلًا بِطَرِيقِ سَلَامَتِهِ أَوْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ ، وَعِلْمِهِ مُسْتَحْوِذًا عَلَيْهِ هَوَاهُ ، - وَمَا التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - وَاعْلَمْ

يَا أَخِي عِلْمًا يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّا لَمْ نَبْنِ أَسَاسَ الدِّينِ عَلَى طَلَبِ السَّلَامَةِ فِيهِ مِنْ الْخَطَأِ ، وَلَا عَلَى حُسْنِ السِّيرَةِ مُنَافِي لِلْأَخْلَاقِ ، وَالْآدَابِ ، وَلَكِنَّا ابْتَنَيْنَاهُ عَلَى أَسَاسِ الْهَوَى ، وَعَلَى مَا خَفَّ مَحْمَلُهُ عَلَى قُلُوبِنَا ، وَاسْتَخَفَّتْهُ أَنْفُسُنَا ، وَاسْتَحْلَتْهُ أَلْسِنَتُنَا فَأَمْضَيْنَا فِيهِ أَعْمَالَنَا طَمَعًا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ التَّقْوَى بِزَعْمِنَا ، وَدَرْكِنَا حُسْنَ السِّيرَةِ مِنَّا فِي الْأَخْلَاقِ ، وَالْآدَابِ فَنَظَرْنَا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِذَا قَدْ رَجَعَتْ عَلَيْنَا أَعْمَالُ إيثَارِ الْهَوَى بِالنَّقْصِ مِنْ الزِّيَادَة فِي الدِّينِ ، وَبِقُبْحِ السِّيرَةِ مِنَّا فِي الْأَخْلَاقِ ، وَالْآدَابِ بِنَظَرِنَا لِأُمُورِ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ فَوَرَّثَنَا ذَلِكَ الْخَبَّ ، وَالْغِشَّ ، وَالْمُدَاهَنَةَ فَصَيَّرْنَا الْغِشَّ ، وَالْمُدَاهَنَةَ مُدَارَاةً ، وَصَيَّرْنَا الْخَبَّ عُقُولًا ، وَآدَابًا ، وَمُرُوآتٍ يَحْتَمِلُ بَعْضُنَا بَعْضَنَا عَلَى ذَلِكَ فَأَعْقَبَنَا ذَلِكَ تَبَاغُضًا فِي الْقُلُوبِ ، وَتَحَاسُدًا ، وَتَقَاطُعًا ، وَتَدَابُرًا فَتَحَابَبْنَا بِالْأَلْسُنِ مَعَ الرُّؤْيَةِ ، وَتَبَاغَضْنَا بِالْقُلُوبِ مَعَ فَقْدِ الرُّؤْيَةِ نَذُمُّ الدُّنْيَا بِالْأَلْسُنِ ، وَنَمِيلُ إلَيْهَا بِالْقُلُوبِ ، وَنُدَافِعُهَا عَنَّا فِي الظَّاهِرِ بِالْقَوْلِ ، وَنَجُرُّهَا بِالْأَيْدِي ، وَالْأَرْجُلِ فِي الْبَاطِنِ فَأَصْبَحْنَا مَعَ قُبْحِ هَذَا الْوَصْفِ ، وَسَمَاجَتِهِ لَا نَسْتَأْهِلُ بِهِ خُرُوجًا عَنْ النَّقْصِ ، وَلَا دُخُولًا فِي الزِّيَادَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَأَصْحَابُنَا لَا نَجِدُ رَجُلًا صَادِقًا فَنَتَأَسَّى بِهِ ، وَلَا خَائِفًا فَنَلْزَمُهُ لِلُزُومِهِ لَهُ ، وَلَا مَحْزُونًا يَعْقِلُ الْحُزْنَ فَنُبَاكِيهِ فَقَدْ صِرْنَا نَتَلَاهَى بِفُضُولِ الْكَلَامِ ، وَنَأْنَسُ بِمَجَالِسِ الْوَحْشَةِ ، وَنَقْتَدِي بِغَيْرِ الْقُدْوَةِ مُصِرِّينَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مُقْلِعِينَ ، وَلَا تَائِبِينَ مِنْهُ ، وَلَا هَارِبِينَ مِنْ مَكْرِ الِاسْتِدْرَاجِ - فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ التَّوَلِّي عَنْ اللَّهِ

، وَالسُّقُوطِ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ ، وَالشُّغْلِ بِغَيْرِ اللَّهِ - إنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ لِلطَّاعَةِ ثَوَابًا أَيْ مَا وَعَدَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ التَّفَضُّلِ ، وَالْإِحْسَانِ ، وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ عِقَابًا فَالثَّوَابُ لَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ إلَّا مِنْ بَعْدِ تَصْحِيحِ الْعَمَلِ ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ الْآفَاتِ ، وَتَصْحِيحُ ذَلِكَ ، وَتَخْلِيصُهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ ، وَالِاعْتِزَامِ ، وَاحْتِمَالِ مُؤْنَتِهِ ، وَتَصْحِيحُ الْعَمَلِ ، وَالِاعْتِزَامُ ، وَالِاحْتِمَالُ ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَعْدِ ثَبَاتِ الْخَوْفِ فِي الْقَلْبِ ، وَالْخَوْفُ لَا يُوجَدُ إلَّا مِنْ بَعْدِ ثَبَاتِ الْيَقِينِ فِي الْقَلْبِ ، وَثَبَاتُ الْيَقِينِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَعْدِ صِحَّةِ تَرْكِيبِ الْعَقْلِ فِي الْعَبْدِ فَإِذَا صَحَّ تَرْكِيبُ الْعَقْلِ فِي الْعَبْدِ ، وَثَبَتَ وَقَعَ الْخَوْفُ مِمَّا قَدْ أَيْقَنَ بِهِ فَجَاءَتْ عَزِيمَةُ الصَّبْرِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَاحْتَمَلَتْ النَّفْسُ حِينَئِذٍ مُؤْنَةَ الْعَمَلِ طَمَعًا فِي ثَوَابِ مَا قَدْ أَيْقَنَتْ بِهِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ ، وَرَهْبَةِ عِقَابِ مَا قَدْ أَيْقَنَتْ بِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فَتَرَكَتْ الْمَعْصِيَةَ ، وَالشَّهْوَةَ هَرَبًا مِنْ عُقُوبَتِهِمَا ، وَاحْتَمَلَتْ الطَّاعَةَ بِالْإِخْلَاصِ رَجَاءَ ثَوَابِهَا فَكُلِّفَ الْأَحْمَقُ الْكَيْسَ ، وَلَمْ يُعْذَرْ عَلَى لُزُومِ الْحُمْقِ ، وَكُلِّفَ الْجَاهِلُ التَّعْلِيمَ ، وَلَمْ يُعْذَرْ عَلَى غَلَبَةِ الْهَوَى ، وَكُلِّفَ الْعَامِلُ الصِّدْقَ ، وَالْإِخْلَاصَ ، وَالتَّيَقُّظَ فِي عَمَلِهِ ، وَلَمْ يُعْذَرْ عَلَى الشَّهَوَاتِ ، وَالْغَفْلَةِ ، وَتَرْكِ الْإِخْلَاصِ فِيهِ .
وَكُلِّفَ الْعَاقِلُ الصِّدْقَ فِي قَوْلِهِ ، وَلَمْ يُعْذَرْ بِالْمَيْلِ إلَى الْكَذِبِ ، وَكُلِّفَ الصَّادِقُ الْمُخْلِصُ الصَّبْرَ عَنْ ابْتِغَاءِ تَعْجِيلِ ثَوَابِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا ، وَالتَّكْرِمَةِ ، وَالتَّعْظِيمِ ، وَعِنْدَهَا انْقَطَعَ الْعُمَّالُ خَاصَّةً ، وَحَلَّ بِهِمْ الْجَزَعُ ، وَتَرَكُوا عَزِيمَةَ الصَّبْرِ فِي طَلَبِهِمْ تَعْجِيلَ

ثَوَابِ عَمَلِهِمْ ، وَلَمْ يُؤَخِّرُوا ثَوَابَ الْأَعْمَالِ لِيَوْمٍ يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَخَدَعَتْهُمْ الْأَنْفُسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ عِنْدَ سَتْرِ سَرَائِرِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى أَبْدَوْهَا لِلْمَخْلُوقِينَ بِالْمَعَانِي ، وَالْمَعَارِيضِ ، وَأَظْهَرُوا الْأَعْمَالَ لِيُعْرَفُوا بِفَضِيلَةِ الْعَمَلِ لِيَزْدَادُوا عِنْدَ النَّاسِ فَضِيلَةً ، وَرِفْعَةً فَتَعَجَّلَتْ أَنْفُسُهُمْ ذَخَائِرَ أَعْمَالِهِمْ ، وَحَلَاوَةَ سَرَائِرِهِمْ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ ، وَالتَّكْرِمَةِ ، وَالتَّعْظِيمِ ، وَوَطْءِ الْأَعْقَابِ ، وَالرِّيَاسَةِ ، وَالتَّوْسِعَةِ لَهُمْ فِي الْمَجَالِسِ ، وَأَغْفَلُوا سُؤَالَ اللَّه لَهُمْ فِي عَقَدِهِمْ لِمَنْ عَمِلُوا ، وَمَاذَا طَلَبُوا فَخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَأَعْمَالَهُمْ ، وَخَسَارَةُ مَا هُنَالِكَ بَاقِيَةٌ ، وَنَدَامَةُ مَا هُنَالِكَ طَوِيلَةٌ لَمَّا وَرَدُوا عَلَى اللَّهِ فَوَجَدُوا عَظِيمَ مَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ مِنْ ثَوَابِ سَرَائِرِ أَعْمَالِهِمْ الَّتِي عَاجَلُوا فِيهَا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَمُنِعُوهَا هُنَالِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا تَعَجَّلُوا ثَوَابَهَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَخَرَجُوا مِنْ خَيْرِ أَعْمَالِهِمْ صِفْرَ الْيَدَيْنِ - فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ - .
مَا أَقْبَحَ الْفَضِيحَةَ بِالْعَالِمِ الْعَامِلِ الْبَصِيرِ النَّاقِدِ الْعَارِفِ غِبَّ قِلَّةِ الصَّبْرِ ، وَابْتِغَاءَ تَعْجِيلِ الثَّوَابِ ، وَالْمَيْلِ إلَى الدُّنْيَا ، وَإِيثَارِ شَهَوَاتِهَا ، وَلَذَّاتِهَا فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ الْحَازِمِ اللَّبِيبِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْعَارِفِ الْبَصِيرِ النَّاقِدِ أَنْ يَحْذَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَيَتَّخِذَ الصَّبْرَ مَطِيَّةً ، وَلَا يَبْغِيَ تَعْجِيلَ الثَّوَابِ هَاهُنَا ، - وَمَا التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ

فَصْلٌ فِي الْغِيبَةِ ، وَالنَّمِيمَةِ وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنَّ مَخْرَجَ الْغِيبَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ ، وَالرِّضَى عَنْهَا ؛ لِأَنَّك إنَّمَا تَنَقَّصْتَ غَيْرَك بِفَضِيلَةٍ ، وَجَدْتهَا عِنْدَك ، وَإِنَّمَا اغْتَبْته بِمَا تَرَى أَنَّك مِنْهُ بَرِيءٌ ، وَلَمْ تَغْتَبْهُ بِشَيْءٍ إلَّا احْتَمَلْتَ فِي نَفْسِك مِنْ الْعَيْبِ أَكْثَرَ ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ مِنْك مِثْلُك فَلَوْ عَقَلْتَ أَنَّ فِيك مِنْ النَّقْصِ أَكْثَرَ لَحَجَزَك ذَلِكَ عَنْ غِيبَتِهِ ، وَلَاسْتَحْيَيْتَ أَنْ تَغْتَابَهُ بِمَا فِيك أَكْثَرُ مِنْهُ ، وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّ جُرْمَك عَظِيمٌ بِغِيبَتِك غَيْرَك ، وَظَنُّكَ أَنَّك مُبَرَّأٌ مِنْ الْعُيُوبِ لَحَجَزَكَ ذَلِكَ ، وَلَشَغَلَك عَنْ ذَلِكَ ، وَكَيْفَ ، وَإِنَّمَا يَلْقَى الْأَمْوَاتُ الْأَمْوَاتَ ، وَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءَ إذًا مَا احْتَمَلُوا ذَلِكَ مِنْك ، وَلَتَنَاهَوْا ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَيِّتَ الْأَمْوَاتِ أَحْمَدُ فِي الْعَاقِبَةِ مِنْ مَيِّتِ الْأَحْيَاءِ ، وَتَفْسِيرُ مَيِّتِ الْأَحْيَاءِ ، أَمْوَاتُ الْقُلُوبِ ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الدُّنْيَا فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ كَثُرَتْ أَوْزَارُهُ ، وَعَظُمَتْ بَلِيَّتُهُ فَاحْذَرْ يَا أَخِي الْغِيبَةَ كَحَذَرِك عَظِيمَ الْبَلَاءِ أَنْ يَنْزِلَ بِك فَإِنَّ الْغِيبَةَ إذَا نَزَلَتْ ، وَثَبَتَتْ فِي الْقَلْبِ ، وَأَذِنَ صَاحِبُهَا لِنَفْسِهِ فِي احْتِمَالِهَا لَمْ تَرْضَ بِسُكْنَاهَا حَتَّى تُوَسِّعَ لِأَخَوَاتِهَا ، وَهِيَ النَّمِيمَةُ ، وَالْبَغْيُ ، وَسُوءُ الظَّنِّ ، وَالْبُهْتَانُ ، وَالْكِبْرُ ، وَمَا احْتَمَلَهَا لَبِيبٌ ، وَلَا رَضِيَ بِهَا حَكِيمٌ ، وَلَا اسْتَصْحَبَهَا وَلِيُّ اللَّهِ قَطُّ - فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

فَصْلٌ فِي الِاسْتِدْرَاجِ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِدْرَاجُ اسْمٌ لِمَعْنَيَيْنِ فَأَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ : اسْتِدْرَاجُ عُقُوبَةٍ لِلسَّيِّئَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِنَابَةِ ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي اسْتِدْرَاجٌ لَا إنَابَةَ فِيهِ ، وَلَا رُجُوعَ - فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ - ، وَإِنَّمَا يَسْتَدْرِجُ الْعَبْدُ عَلَى قَدْرِ بُغْيَتِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ بِالْمُلْكِ ، وَالسُّلْطَانِ ، وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَسْتَدْرِجُ بِالدُّنُوِّ مِنْ الْمُلُوكِ ، وَالسَّلَاطِينِ ، وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُمْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ بِالتَّوْسِعَةِ فِي تِجَارَتِهِ وَبِالتَّوْسِعَةِ فِي الْمَالِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ بِالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ ، وَالْحَاشِيَةِ ، وَالتَّبَعِ ، وَوَطْءِ الْأَعْقَابِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ بِعِلْمِهِ بِأَنْ يُكْرَمَ بِسَبَبِهِ ، وَيُحْمَدَ ، وَيُعَظَّمَ ، وَيُسْمَعَ قَوْلُهُ فَهُوَ مُسْتَدْرِجٌ بِنَيْلِ حَظِّهِ مِنْ عِلْمِهِ ، وَمِنْهُمْ الْعَابِدُ يَسْتَدْرِجُ مِنْ طَرِيقِ الْعُجْبِ فِي عَمَلِهِ ، وَالْقُوَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ ، وَمِنْهُمْ ذُو الْبَصِيرَةِ يَسْتَدْرِجُ بِالزِّيَادَةِ فِي بَصِيرَتِهِ فَجَمِيعُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْمُسْتَدْرِجِينَ كُلِّهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ الرِّيَاءِ ، وَالْعُجْبِ ، وَكُلُّ مُزَيَّنٍ لَهُ مَا هُوَ فِيهِ لَا يَرَى إلَّا أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ مَقْبُولٌ مِنْهُ إحْسَانُهُ ، وَقَدْ عَمِيَ عَنْ فِتْنَةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَبَّهُ فَيَنْتَبِهُ فَيَرْجِعُ إلَى الْإِنَابَةِ ، وَيَفْزَعُ إلَى الِاسْتِكَانَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُهْمَلُ فَيُهْمِلُ نَفْسَهُ إلَى حُضُورِ أَجَلِهِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ ، وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } فَهَذِهِ فِتْنَةُ الِاسْتِدْرَاجِ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَالْمُسْتَدْرِجُ مَفْتُونٌ فَلَا يَعْلَمُ بِفِتْنَتِهِ مُزَيَّنٌ لَهُ عَمَلُهُ مُسْتَحْسِنٌ مَا هُوَ فِيهِ طَالِبٌ

لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مُقِيمٌ فَاحْذَرْ فِتْنَةَ الِاسْتِدْرَاجِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْرَاجَ عُقُوبَةٌ لِلْمُضَيِّعِينَ شُكْرَ النِّعَمِ

، فَصْلٌ فِي الْيَقِينِ وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُوقِنِ عَلَامَةً وَاضِحَةً تَعْرِفُهَا مِنْ نَفْسِكَ ، وَمِنْ غَيْرِكَ ، وَهِيَ : أَنَّ الْمُوقِنَ يَعْظُمُ عِنْدَهُ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤَاخَذٍ بِهِ لِغَفْلَتِهِ عَنْهَا ، وَرُكُونِهِ إلَيْهَا بِالشَّهَوَاتِ ، وَهُجُومِ إبْلِيسَ عَلَى قَلْبِهِ ، وَطَمَعِ نَفْسِهِ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا إذَا عَمِلَ مِنْهَا شَيْئًا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ ، وَأَنَّهُ مَسْلُوبٌ بِهَا مَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِهِ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ كَانَ مُوقِنًا ، وَهُوَ يَعْلَمُ إنْ قُلْت : مَا بَالُ أَقْوَامٍ عَارِفِينَ يُذْنِبُونَ قُلْت : لِيُعَرِّفَهُمْ اللَّهُ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِحْسَانَهُ إلَيْهِمْ عِنْدَ إسَاءَتِهِمْ إلَى أَنْفُسِهِمْ فَتُجَدَّدُ عِنْدَهُمْ النِّعَمُ ، وَيَسْتَقْبِلُونَ الشُّكْرَ فَيَصِيرُونَ بِذَلِكَ إلَى أَعْلَى دَرَجَاتِهِمْ انْتَهَى .

فَصْلٌ فِي الْعُجْبِ ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ أَعْنِي اسْتِدْرَاجَ الْمُلُوكِ ، وَغَيْرِهِمْ لَكِنْ بَقِيَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةٌ يُحْتَاجُ إلَى ذَكَرِهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْعَامَّةُ مُعْجَبُونَ بِمَا أُوتُوا مِنْ الْأَهْلِ ، وَالْوَلَدِ ، وَالْأَمْوَالِ ، وَالْأَرْبَاحِ ، وَالْمَسَاكِنِ ، وَالْعُلَمَاءُ مُعْجَبُونَ بِعِلْمِهِمْ ، وَمَا بُسِطَ لَهُمْ فِيهِ مِنْ الذِّكْرِ ، وَالْقُرَّاءُ مُعْجَبُونَ بِمَا نَالُوا مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّزَمُّتِ بِقِرَاءَتِهِمْ ، وَالْعُبَّادُ مُعْجَبُونَ بِمَا نَالُوا مِنْ الْقُوَّةِ عَلَى إظْهَارِ الزُّهْدِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، فَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ صِنْفٌ إلَّا ، وَهُوَ يُحِبُّ التَّعْظِيمَ ، وَالْمَحْمَدَةَ عِنْدَ مَنْ هُوَ دُونَهُ ، وَعِنْدَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ التَّجَبُّرِ ، وَهَذِهِ فُنُونُهُ فَإِذَا ثَبَتَ التَّجَبُّرُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ ثَبَتَتْ فُنُونُهُ جَمِيعًا ، وَالتَّجَبُّرُ أَصْلٌ مِنْهُ يَتَفَرَّعُ جَمِيعُ الشَّرِّ مِنْ الْغَضَبِ ، وَالطَّمَعِ ، وَالرِّيَاءِ ، وَحُبِّ التَّعْظِيمِ ، وَالرِّيَاسَةِ ، وَالْمَنْزِلَةِ ، وَالسُّمْعَةِ ، وَالتَّزَيُّنِ ، وَالطَّيْشِ ، وَالْعَجَلَةِ ، وَسُوءِ الْخُلُقِ ، وَالْحِرْصِ ، وَالشَّرِّ ، وَالْمَكْرِ ، وَالْخَدِيعَةِ ، وَالْجَرِيرَةِ ، وَالْغِشِّ ، وَالْخِلَابَةِ ، وَالْكَذِبِ ، وَالْغِيبَةِ ، وَالنَّمِيمَةِ ، وَالْحَسَدِ ، وَالْقَسَاوَةِ ، وَالْجَفَاءِ ، وَالشُّحِّ ، وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مَعَ فُنُونِ جَمِيعِ الشَّرِّ - فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ

فَصْلٌ فِي التَّوَاضُعِ وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا ثَبَتَ التَّوَاضُعُ فِي الْقَلْبِ ثَبَتَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَيْرِ مِنْ الرَّأْفَةِ ، وَالرِّقَّةِ ، وَالرَّحْمَةِ ، وَالِاسْتِكَانَةِ ، وَالْقَنُوعِ ، وَالرِّضَى ، وَالتَّوَكُّلِ ، وَحُسْنِ الظَّنِّ ، وَشِدَّةِ الْحَيَاءِ ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ ، وَنَفْيِ الطَّمَعِ ، وَجِهَادِ النَّفْسِ ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ ، وَالتَّشَاغُلِ عَنْ النَّفْسِ ، وَالْمُبَادَرَةِ فِي الْعَمَلِ بِالْخَيْرِ ، وَالْبِطَاءِ عَنْ الشَّرِّ .
كُلُّ امْرِئٍ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْبِرِّ يَكُونُ فِعْلُهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ ، وَيَكُونُ حَذَرُهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ فَإِنْ كُنْت تَسْأَلُ عَنْ الْعُجْبِ الَّذِي دَخَلَ أَصْحَابَ الْأَعْمَالِ مِنْ الْعُبَّادِ فَسَأُخْبِرُك بِفِتْنَتِهِمْ ، وَشِدَّةِ بَلِيَّتِهِمْ فَتَوَقَّهَا ، وَاحْذَرْهَا ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَبَ إلَى إبْلِيسَ الْخَبِيثِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَابِدِ ؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ أَهْلِ الدُّنْيَا مَكْشُوفَةٌ بِطَلَبِهِمْ الدُّنْيَا ، وَالنَّاسُ قَدْ عَرَفُوهُمْ بِطَلَبِهَا ، وَفِتْنَتِهَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَمِلُهَا ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَفْتُونٌ فِيهَا ، وَأَمَّا فِتْنَةُ الْعَابِدِ فَهِيَ أَعْظَمُهَا فِتْنَةً ، وَأَعْظَمُهَا بَلِيَّةً ، وَأَعْظَمُهَا صَرْعًا ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ تَرَكُوا عِبَادَةَ الدُّنْيَا ، وَجَدُّوا فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ ، وَكَابَدُوا الْمَفَاوِزَ ، وَالْقِفَارَ ، وَجَاهَدُوا صُعُودَ الْعِقَابِ ، وَجَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالنَّفْسِ ، وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِالدُّنْيَا ، وَمَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ ، وَأَقْبَلُوا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ ، وَإِيثَارِهَا بِالصِّدْقِ مِنْهُمْ ، وَحُسْنِ الْإِرَادَةِ .
غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ امْتَحَنَ هَذَا الْخَلْقَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِالدُّنْيَا ، وَفِي تَرْكِهِمْ لَهَا ، وَفِي طَلَبِهِمْ الْآخِرَةَ ، وَإِيثَارِهِمْ لَهَا بِالْجِدِّ ، وَالِاجْتِهَادِ ، وَجَعَلَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ مُؤْنَةً لَا تُدْفَعُ إلَّا بِالصَّبْرِ ، وَوَعَدَ إبْلِيسَ وَعْدًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ

لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَنْ أَسْكَنَهُ هُوَ ، وَذُرِّيَّتَهُ صُدُورَ بَنِي آدَمَ يَجْرِي مِنْهُمْ مَجْرَى الدَّمِ ، وَذَلِكَ لِمَنْ أَطَاعَ مِنْهُمْ ، وَلِمَنْ عَصَى ، وَلِأَوْلِيَائِهِ ، وَأَعْدَائِهِ فَلَيْسَ لِلْعَابِدِ فِي عِبَادَتِهِ أَنْ يَنْفِيَ الشَّيْطَانَ عَنْ قَرَارِهِ أَوْ يُزْعِجَهُ عَنْ الْمَسْكَنِ الَّذِي أَسْكَنَهُ اللَّهُ فِيهِ ، وَمَكَّنَهُ مِنْهُ ، وَهَذِهِ مِنْ الْمِحَنِ الَّتِي امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا خَلْقَهُ لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ غَيْرَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَيَقَّظَ بِقَلْبِهِ خَنَسَ الْخَبِيثَ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ إلَّا مَعَ غَفْلَتِهِ ، وَطَبَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَلَى الْغَفْلَةِ ، وَالتَّيَقُّظِ ، وَأَيَّدَ اللَّهُ الْعَابِدَ بِمُكَايَدَتِهِ إبْلِيسَ فَلَيْسَ أَحَدٌ أَحْوَجُ إلَى صِحَّةِ تَرْكِيبِ الْعَقْلِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَابِدِ الَّذِي قَدْ قَصَدَ خِلَافَهُ ، وَقَوِيَ عَلَى احْتِمَالِ تَرْكِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَصِلُ بِهَا إبْلِيسُ إلَى ابْنِ آدَمَ مِنْ فُنُونِ الشَّهَوَاتِ فَحَذَفَ ذَلِكَ أَجْمَعَ ، وَخَلَّفَهُ خَلْفَهُ ، ثُمَّ قَرُبَ مِنْ الْعَقَبَةِ الَّتِي إنْ جَاوَزَهَا كَانَ مُنْحَدِرًا إلَى الْجَنَّةِ بِإِذْنِ اللَّه فَتَجَرَّدَ لَهُ إبْلِيسُ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إلَّا هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي إنْ سَلِمَ مِنْهَا نَجَا فَلَا يَسْلَمُ فِي مِثْلِ زَمَانِك مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا وَصَفْت لَك

فَصْلٌ فِي النِّيَّةِ ، وَالْعِبَادَةِ .
وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُصَحِّحَ نِيَّتَهُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ عَمَلِهِ ، وَيَجْمَعَ لِذَلِكَ قَلْبَهُ ، وَذِهْنَهُ ، وَعِنَايَتَهُ ، وَيُقَرِّرَ عَمَلَهُ فِيمَا يَأْتِي ، وَيَتَبَصَّرَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَيَقْصِدَ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ ، وَمُكَايَدَةَ عَدُوِّهِ ، وَمُجَاهَدَةَ نَفْسِهِ ، وَإِيَاسَهُ إيَّاهَا مِنْ عَمَلِهَا لِطَلَبِ الثَّوَابِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ انْقَطَعَتْ عَنْ عِبَادَتِهَا لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الْعَفْوِ لِعَظِيمِ مَا جَنَتْ مِنْ الْإِسَاءَةِ .
وَلَوْ أَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ ، وَالْإِحْسَانَ بِإِزَاءِ ذَنْبٍ مِنْ ذُنُوبِهَا لَاسْتَأْهَلَتْ بِذَلِكَ الذَّنْبِ الْعِقَابَ إلَّا أَنْ يُغْفَرَ فَكَيْفَ بِجَمِيعِ إسَاءَتِهَا مَعَ قِلَّةِ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ صِمَادِ التَّوْبَةِ ، وَالْمُرَاجَعَةِ ؟ ، ثُمَّ يَحْمِلُهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مَا اسْتَطَاعَتْ فَإِنْ عَارَضَهُ إبْلِيسُ بِشَيْءٍ أَوْ رَفَعَتْ نَفْسُهُ رَأْسَهَا لِتُذَكِّرَهُ شَيْئًا مِنْ إحْسَانِهَا مَنَعَهَا بِمَا قَدْ عَرَّفَهُ اللَّهُ مِنْ قَدِيمِ إسَاءَتِهَا ، وَيُذَكِّرُهَا عُيُوبَهَا فَتَنْقَمِعُ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ زَاجِرًا لِعَدُوِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَمَا يُرِيدُ مِنْ خَدِيعَتِهِ لِيُوقِعَهُ فِي الْعُجْبِ بِالْبَاطِلِ فَلَوْ كَانَ عُجْبُهُ عُجْبَ حَقِيقَةٍ مِنْ احْتِمَالِ نَفْسِهِ طَاعَةَ رَبِّهَا بِهَشَاشَةٍ مِنْهَا وَسُرُورٍ ، وَزُهْدٍ فِيمَا يَكْرَهُ اللَّهُ لَكَانَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْيَقِينِ مَعَ صِدْقِهَا فِي الطَّاعَاتِ الرُّجُوعَ إلَى الشُّكْرِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا يَسَّرَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْ الشُّكْرِ فِي الْعَمَلِ كَانَ جَاهِلًا بِرَبِّهِ جَاهِلًا بِالْعَمَلِ جَاهِلًا بِالنِّعَمِ ، وَمَنْ عَقَلَ الشُّكْرَ ، وَذَكَّرَ نَفْسَهُ إحْسَانَ اللَّهِ رَجَعَ الشَّيْطَانُ - بِعَوْنِ اللَّهِ - صَاغِرًا نَاكِصًا عَلَى عَقِبِهِ فَأَلْزِمْ نَفْسَك النَّدَمَ ، وَارْجِعْ إلَى مَا عَرَّفَك رَبُّك مِنْ مَعْرِفَةِ نَفْسِك ، وَعَدُوِّك ، وَارْغَبْ إلَى اللَّهِ فِي الْعِصْمَةِ مِنْ شَرِّ نَفْسِك ،

وَشَرِّ عَدُوِّك ، وَأَسْأَلْهُ الْكِفَايَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يَلْجَأْ إلَيْهِ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا ، وَجَدَهُ قَرِيبًا مُجِيبًا فَإِذَا صَارَ الْعَبْدُ إلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ أُعْطِيَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ فَلَا يَكُونُ لَهُ هِمَّةٌ ، وَلَا بُغْيَةٌ ، وَلَا مَسْأَلَةٌ إلَّا النَّقْلَةُ مِنْ ضَيِّقِ الدُّنْيَا ، وَغَمِّهَا مَخَافَةَ أَنْ تُعَارِضَهُ فِتْنَةٌ مِنْ فِتَنِهَا تَحُولُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ ، وَيَرْتَجِي أَنْ يَصِيرَ إلَى الْآخِرَةِ ، وَرَوَحِهَا لِيَأْمَنَ فِيهَا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ رَوْعَاتِ إبْلِيسَ ، وَجُنُودِهِ ، وَأَنَا أُوصِيك أَنْ تُطِيلَ النَّظَرَ فِي مِرْآةِ الْفِكْرَةِ مَعَ كَثْرَةِ الْخَلَوَاتِ حَتَّى يُرِيَك شَيْنَ الْمَعْصِيَةِ ، وَقُبْحَهَا فَيَدْعُوك ذَلِكَ النَّظَرُ إلَى تَرْكِهَا .

فَصْلٌ فِي الْعِلْمِ .
وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنَّ لِدَوَاعِي الْخَيْرِ عَلَامَاتٍ يُسْتَجْلَبُ بِهَا دَوَاعِي الْحُزْنِ ، وَالتَّفَكُّرِ فَهُوَ بَيْنَ ذَلِكَ مَسْرُورٌ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بُغْيَتَهُ وَأَمَلَهُ ، وَإِذَا أَدْرَكَ أَمَلَهُ ، وَوَجَدَ بُغْيَتَهُ طَابَ عَيْشُهُ كَمَا أَنَّ طَالِبِي الدُّنْيَا إذَا أَدْرَكُوا آمَالَهُمْ مِنْ نَعِيمِهَا ، وَزَهْرَتِهَا أَحَاطَ بِهِمْ السُّرُورُ فَكَذَلِكَ طَالِبُ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ بَعْد ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَعَدُوِّهِ ، وَزَوْجَتِهِ ، وَوَلَدِهِ ، وَأَهْلِ زَمَانِهِ خَائِفٌ وَجِلٌ لَا يَأْمَنُ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا مَعَ اسْتِذْكَارِهِ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { : وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } .
فَحِينَئِذٍ يَقْوَى قَلْبُهُ ، وَيَسْتَصْغِرُ كَيْدَ مَنْ كَايَدَهُ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَصِمٌ بِرَبِّهِ ، وَاثِقٌ بِهِ فَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ فَلَا يَغْفُلْ ، وَلْيَبْنِ أَمْرَهُ عَلَى طَلَبِ السَّلَامَةِ مِنْ الْخَطَأِ ، وَعَلَى أَسَاسِ الصِّدْقِ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ رَبِّهِ ، وَلَا يَخَافُ عَلَى قَلِيلِ عَمَلِهِ إذَا خَلَّصَهُ لِلَّهِ مِنْ الْآفَاتِ كُلِّهَا أَنْ لَا يُنَمِّيَهُ اللَّهُ لَهُ ، وَيُكَثِّرَهُ ، وَلَا سِيَّمَا إذَا كُنْت فِي زَمَانٍ قَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ ، وَالِاخْتِلَافُ فَإِنَّ تَخْلِيصَك قَلِيلُ عَمَلِك مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الشُّبْهَةِ ، وَالِاخْتِلَافِ حَتَّى تَكُونَ عَامِلًا عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - عِنْدَ اللَّهِ - كَثِيرٌ فَكُنْ فِي زَمَانِك أَشَدَّ تَيَقُّظًا لِلتَّخَلُّصِ إلَى مَعْرِفَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الْمَاضُونَ مِنْ اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا اسْتَحْكَمَتْ فِيكَ لَمْ تَدَعْكَ مَعَ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ بَلْ تَنْقُلُك مِنْ دَرَجَةٍ إلَى دَرَجَةٍ حَتَّى تُبَلِّغَك غَايَاتِ مَا عَمِلْت مِنْ الْخَيْرِ أَوْ يَأْتِيَك الْمَوْتُ ، وَأَنْتَ طَالِبٌ لِغَايَاتِهَا ، وَكَمَا أَنَّ الْأَرْضَ لَا تُنْبِتُ بِغَيْرِ مَاءٍ فَكَذَلِكَ الْعَمَلُ لَا يَصْلُحُ بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ بِاَللَّهِ مَعْرِفَةً ازْدَادَ يَقِينًا

، وَكُلَّمَا ازْدَادَ يَقِينًا ازْدَادَ لِلَّهِ خَوْفًا ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لِلَّهِ خَوْفًا ازْدَادَ لِرَبِّهِ طَاعَةً ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لِرَبِّهِ طَاعَةً ازْدَادَ لَهُ حُبًّا ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ حُبًّا ازْدَادَ إلَيْهِ شَوْقًا ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ إلَيْهِ شَوْقًا ازْدَادَ لِلْمَوْتِ حُبًّا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَغْمُومًا فِي حَالَةِ مَسْرُورٍ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَغْمُومَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يَتَأَسَّى بِأَهْلِ السُّرُورِ فِي الدُّنْيَا ، وَلَا يَجْرِي مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَغْمُومَ جَمَعَ هُمُومَهُ كُلَّهَا فَنَصَبَهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، ثُمَّ جَعَلَهَا هَمًّا وَاحِدًا فَقَصُرَ بِهِ أَجَلُهُ ، وَهَجَمَ بِهِ عَلَى مُعَايَنَةِ أَحْوَالِ آخِرَتِهِ ، وَأَهْوَالِهَا ، وَالْمَغْمُومُ بِالْحَقِيقَةِ نَبَّهَهُ الْغَمُّ عَلَى التَّسْوِيفِ فَعَمِلَ لِلنَّقْلَةِ مِنْ دَارِ الْغُمُومِ إلَى دَارِ السُّرُورِ ، وَسَأَصِفُ لَك حَالَ الْمَغْمُومِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : اعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا تَدَبَّرُوا فَعَرَفُوا ، فَلَمَّا عَرَفُوا أَيْقَنُوا ، فَلَمَّا أَيْقَنُوا خَافُوا ، فَلَمَّا خَافُوا عَلِمُوا ، فَلَمَّا عَلِمُوا صَمَتُوا ، فَلَمَّا صَمَتُوا عَمِلُوا ، فَلَمَّا عَمِلُوا أَشْفَقُوا ، فَلَمَّا أَشْفَقُوا جَاهَدُوا ، فَلَمَّا جَاهَدُوا رَغِبُوا ، فَلَمَّا رَغِبُوا صَبَرُوا ، فَلَمَّا صَبَرُوا أَبْصَرُوا مَسَاوِئَ أَنْفُسِهِمْ ، فَلَمَّا أَبْصَرُوا مَسَاوِئَ أَنْفُسِهِمْ قَصَدُوا مُجَاهَدَتَهَا بِالْقُلُوبِ فَارْتَفَعُوا عَنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ إلَى تَصْحِيحِ الْقُلُوبِ فَنَقَلُوا طِبَاعَهُمْ عَنْ الرَّيْبِ ، وَالدَّنَاءَةِ ، وَجَانَبُوا فِي أَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا ، وَمُعَامَلَاتِهِمْ أَحْوَالَ أَهْلِ الْمَكْرِ ، وَالْخَدِيعَةِ ، وَالْخِبِّ ، وَأَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ مَحَجَّةَ الطَّرِيقِ فِي أَفْعَالِهِمْ كُلِّهَا ، وَمَنْطِقِهِمْ كُلِّهِ فَاسْتَخْلَصُوا بَاطِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَظْهَرُ لِلْمَخْلُوقِينَ ، وَأَرَاحُوا أَبْدَانَهُمْ مِنْ ظَاهِرِ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا لَزِمَهُمْ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْمَحْتُومَةِ فَصَارَتْ أَعْمَالُهُمْ سِرًّا بَيْنَ قُلُوبِهِمْ الَّتِي هِيَ أَرْجَحُ

وَزْنًا ، وَأَحْمَدُ ذِكْرًا عِنْدَ اللَّهِ ، وَعَلَّقُوا قُلُوبَهُمْ بِحُبِّ لِقَاءِ اللَّهِ فَصَغُرَتْ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ فَإِذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ خَافُوا ، وَحَزِنُوا خَوْفًا مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ ، وَالْمَكْرِ ، وَإِنْ أَدْبَرَتْ عَنْهُمْ سُرُّوا ، وَفَرِحُوا ، وَدَافَعُوا الْأَيَّامَ مُدَافَعَةً جَمِيلَةً مُسْتَتِرِينَ عَنْ الْأَهْلِ ، وَالْوَلَدِ ، وَالْإِخْوَانِ ، وَالْجِيرَانِ فَهِمَّتُهُمْ فِي بَاطِنِ أُمُورِهِمْ كَالدِّيبَاجِ حُسْنًا ، وَفِي الظَّاهِرِ مَنَادِيلُ مَبْذُولُونَ لِمَنْ أَرَادَهُمْ مَغْمُومُونَ يُكَاشِرُونَ النَّاسَ بِوُجُوهِهِمْ ، وَقُلُوبُهُمْ بَاكِيَةٌ ، وَصِفَاتُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ الْوَاصِفُ بِهَا فِي الْكُتُبِ ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَكْثُرُ فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمَغْمُومِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَسْرُورِينَ بِاَللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ الْفَرِحِينَ بِهِ الْمُنْقَطِعِينَ إلَيْهِ ، - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

فَصْلٌ فِي عُيُوبِ النَّفْسِ .
وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ إخْوَانِي : إنَّهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ نَفْسَهُ ، وَعُيُوبَهَا فَهُوَ مِنْ اسْتِقَامَةِ دِينِهِ عَلَى اعْوِجَاجٍ ، وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ حُسْنِ سِيرَةِ الْعَارِفِ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ أَنْ لَا يَبْنِيَ دِينَهُ عَلَى قُبْحٍ ، وَلَا فَسَادٍ ، وَأَصْلُ الْعِلْمِ الْغَرِيبِ يُدْرَكُ بِفِطَنِ الْعُقُولِ الْمَرْضِيَّةِ ، وَبِنُورِ الْحِكْمَةِ الثَّاقِبَةِ ، وَبِمُخَالَفَةِ الْأَهْوَاءِ ، وَبِفَوَائِدِ الْمَعْرِفَةِ الشَّافِيَةِ ، وَبِإِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْقَوْلِ ، وَالْعَمَلِ بِالْبَصِيرَةِ ، وَلَا يَبْلُغُ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ إلَّا مَنْ تَقَلَّدَ حُبَّ الْآخِرَةِ مُوقِنًا بِهَا ، وَرَاغِبًا فِيهَا ، وَمُؤْثِرًا لَهَا عَلَى مَا سِوَاهَا ، وَخَلَعَ عَنْ قَلْبِهِ حُبَّ الدُّنْيَا ، وَزَهِدَ فِيهَا بِالْحَقِيقَةِ ، وَاسْتَشْعَرَ التَّوَاضُعَ ، وَهَجَرَ الْهَوَى فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ الْحَازِمِ اللَّبِيبِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْعَارِفِ الْبَصِيرِ أَنْ يَحْذَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَيَتَّخِذَ الصَّبْرَ مَطِيَّةً ، وَلَا يَبْتَغِيَ تَعْجِيلَ الثَّوَابِ ، وَيَتَحَرَّكَ لِعَزِيمَةِ الصَّبْرِ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ

فَصْلٌ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ عُيُوبِ النَّفْسِ وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنِّي وَجَدْتُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ عُيُوبِ النَّفْسِ ، وَالْعَمَلِ فِي مُجَاهَدَتِهَا مُخَالَفَةَ الْهَوَى - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - يَا أَخِي إنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ عَدُوِّك خَاطِرُ الشَّرِّ فِي الْقَلْبِ لِلْمَعْصِيَةِ فَادْفَعْهُ عَنْك بِحَاكِمِ الْعِلْمِ مِنْ الْقَلْبِ لِلطَّاعَةِ ، وَإِنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ نَفْسِك سُرْعَةُ الْقَبُولِ لِمُوَافَقَةِ الْهَوَى فَادْرَأْهُ عَنْك بِقِلَّةِ الْمُسَاعَدَةِ لِخِلَافِ الْهَوَى ، وَأَنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ عَدُوِّك التَّثَبُّطُ عَنْ الْعَمَلِ فَادْفَعْهُ عَنْك بِتَعْجِيلِ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْعَمَلِ ، وَإِنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ نَفْسِك التَّشَبُّثُ بِالْكَسَلِ فَادْفَعْهُ عَنْك بِاغْتِنَامِ الصِّحَّةِ ، وَأَعْلَمْ يَا أَخِي : أَنَّ الْقَلْبَ إذَا تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ أَقْذَارُ الذُّنُوبِ ، وَأَطْفَاسُ الشَّهَوَاتِ عَمِيَ وَاسْوَدَّ ، وَنَكَسَ ، وَطُفِئَ نُورُهُ فَلَمْ يُبْصِرْ عُيُوبَ نَفْسِهِ ، وَأَبْصَرَ بِعَيْنِهِ عُيُوبَ غَيْرِهِ فَشُغِلَ بِهِ عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَوْلَى بِالْمُدَّعِينَ لِلْإِرَادَةِ مِنْ أَنْ يَتَوَسَّلُوا إلَى اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ بِطَلَبِهِمْ مِنْهُ صَلَاحَ قُلُوبِهِمْ لِيَسْلَمُوا مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِهِمْ ، وَغَلَبَةِ أَهْوَائِهِمْ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الْحُزْنُ خَرِبَ كَمَا أَنَّ الْبَيْتَ إذَا لَمْ يُسْكَنْ خَرِبَ

فَصْلٌ فِي الْحُزْنِ ، وَالْخَوْفِ وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ ، وَالْعَمَلَ بِالْعِلْمِ لَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ إلَّا بِاسْتِقَامَةِ قَلْبِهِ ، وَإِلَّا عَادَ الْعِلْمُ عَلَيْهِ فَصَارَ جَهْلًا ، وَعَادَ الْعَمَلُ فَصَارَ ضَرَرًا مَعَ أَنَّ فَسَادَ قُلُوبِنَا هُوَ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَنَا ، وَبَيْنَ سُلُوكِ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ ، وَالِاتِّبَاعِ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ ، وَهُمْ الَّذِينَ لَمْ يَتْرُكُوا مِنْ الْفَرَائِضِ شَيْئًا إلَّا أَدَّوْهُ لَمْ يَتْرُكُوا الصَّلَاةَ ، وَالزَّكَاةَ ، وَالْحَجَّ ، وَالْجِهَادَ ، وَالصِّيَامَ ، وَالْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ ، وَالطَّهُورَ لِلصَّلَاةِ كُلُّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ لَمْ يُزَدْ فِيهِ ، وَلَمْ يُنْقَصْ مِنْهُ فَمَا بَالُ الْفَسَادِ وَاقِعٌ عَلَيْنَا ، وَنَحْنُ لَمْ نُنْكِرْ هَذِهِ الْفَرَائِضَ كَمَا لَمْ يُنْكِرُوهَا ، وَإِنَّا لَنَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ بِأَكْثَرِهَا غَيْرَ أَنَّ الْقُلُوبَ مِنَّا مَائِلَةٌ إلَى حُبِّ مَا زَهِدَ الْقَوْمُ فِيهِ ، وَالْأَنْفُسَ مِنَّا قَابِلَةٌ لِحُبِّ هَوَاهَا مُسْتَثْقِلَةٌ لِمَا فِي الْحَقِّ مِنْ الصَّبْرِ وَالْمَكْرُوهِ ، وَسَأُعْطِيك دَوَاءً لِفَسَادِ قَلْبِك يَنْفَعُك اللَّهُ بِهِ إذَا كَانَتْ لَك حَيَاةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْقَوْمَ صَبَرُوا عَلَى مَكْرُوهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَصَبَرُوا فِي الْغَضَبِ ، وَالرِّضَا ، وَالشِّدَّةِ ، وَالرَّخَاءِ ، وَالْعُسْرِ ، وَالْيُسْرِ ، وَالْعَافِيَةِ ، وَالْبَلَاءِ فَكَانَتْ أَهْوَاؤُهُمْ تَابِعَةً لِلْحَقِّ عَلَى مَا أَحَبَّتْ الْأَنْفُسُ ، وَكَرِهَتْ فَكَانَ الْحَقُّ لَهُمْ قَائِدًا ، وَالْهَوَى لِعُقُولِهِمْ تَابِعًا فَاسْتَقَامَتْ مِنْهُمْ السِّيرَةُ بِلُزُومِهِمْ مَحَجَّةَ الْحَقِّ فِي مَوَاطِنِ غَضَبِهِمْ وَرِضَاهُمْ وَطَمَعِهِمْ ، وَتَقْوَاهُمْ ، وَكَانُوا إذَا اُمْتُحِنُوا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ ظَهَرَ مِنْهُمْ قَوْلُ الْحَقِّ فِي مَوَاطِنِ غَضَبِهِمْ ، وَهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَلْزَمُ ، وَأَشَدُّ تَمَسُّكًا مِنْهُمْ فِي مَوَاطِنِ الرِّضَا فَإِنْ عَارَضَهُمْ طَمَعُ دُنْيَا ظَهَرَ مِنْهُمْ

التَّنَزُّهُ ، وَالْوَرَعُ ، وَالتَّقْوَى ، وَالتَّأَنِّي ، وَفُقِدَ مِنْهُمْ الْحِرْصُ ، وَالرَّغْبَةُ خَوْفًا مِنْهُمْ ، وَكَانَ مِنْهُمْ كَالطِّبَاعِ لَمْ يَتَصَنَّعُوا فِيهِ ، وَطِبَاعُنَا الْيَوْمَ بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَكَانُوا أَخْوَفَ لِلَّهِ ، وَلَهُ أَحْذَرَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَمَلًا فَلَا تَفْرَحَنَّ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ مَعَ قِلَّةِ الْخَوْفِ ، وَاغْتَنِمْ قَلِيلَ الْعَمَلِ مَعَ الْخَوْفِ فَإِنَّ قَلِيلَ حُزْنِ الْآخِرَةِ الدَّائِمِ فِي الْقَلْبِ يَنْفِي كُلَّ سُرُورٍ سُرِرْت بِهِ ، وَأَلِفْتَهُ مِنْ سُرُورِ الدُّنْيَا ، وَقَلِيلُ سُرُورِ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ يَنْفِي عَنْك جَمِيعَ حُزْنِ الْآخِرَةِ ، وَالْحُزْنُ لَا يَصِلُ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَعَ تَيَقُّظِهِ ، وَتَيَقُّظُهُ حَيَاتُهُ ، وَسُرُورُ الدُّنْيَا لِغَيْرِ الْآخِرَةِ لَا يَصِلُ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَعَ غَفْلَتِهِ ، وَغَفْلَةُ الْقَلْبِ مَوْتُهُ ، وَالْحُزْنُ يُوقِظُهُ ، وَيَسْتَنْبِطُ لَهُ الْيَقَظَةَ مِنْ خَالِصِ عَيْنِ الْيَقِينِ ، وَبِخَطِرَاتِ غَامِضِ الْفَهْمِ تَكُونُ خَطَرَاتُ الْيَقِينِ ، وَعَلَامَةُ ثَبَاتِ الْيَقِينِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ اسْتِدَامَةُ الْحُزْنِ فِيهِ

فَصْلٌ فِي الزُّهْدِ وَالْخَلْوَةِ وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْلَمْ أَنِّي لَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَبْلَغَ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا مِنْ ثَبَاتِ حُزْنِ الْآخِرَةِ فِي الْقَلْبِ ، وَعَلَامَةُ ثَبَاتِ حُزْنِ الْآخِرَةِ فِي الْقَلْبِ أُنْسُ الْعَبْدِ بِالْوِحْدَةِ ، وَمَوْضِعُ هِيَاجِ الْحُزْنِ السُّرُورُ ، وَمَعْدِنُهُ ، وَمِفْتَاحُهُ الْعَقْلُ ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَحْزُونًا مَسْرُورًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَجَمِيعُ الطَّاعَاتِ تُوجَدُ بِالتَّكَلُّفِ ، وَالْحُزْنُ لَا يُوجَدُ بِالتَّكَلُّفِ إلَّا أَنْ يَصِلَ إلَى الْقَلْبِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْحُزْنُ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ الْأَعْمَالِ لَطِيفَ مَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَسْتَدِيمُونَ صَالِحَ الْأَعْمَالِ ، وَيَسْهُلُ عَلَيْهِمْ مَأْخَذُهَا تَوْطِينًا مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَاسْتِصْحَابَ نِيَّتِهِمْ إلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ فَصَيَّرُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا ، وَلَيْلَةً وَاحِدَةً ، وَكُلَّمَا مَضَتْ لَيْلَةٌ اسْتَأْنَفُوا الثَّانِيَةَ ، وَطَلَبُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ حُسْنَ الصُّحْبَةِ لِيَوْمِهِمْ ، وَلَيْلَتِهِمْ ، وَكُلَّمَا مَضَى عَنْهُمْ يَوْمٌ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ مِنْهُمْ أَوْ لَيْلَةٌ رَاقَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ غَنِيمَةً ، وَذَكَرُوا الْيَوْمَ الْمَاضِي فَسُرُّوا بِهِ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ لِخَوْفِ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فِيهِ أَوْ فِي لَيْلَتِهِ ، وَطَرَحُوا شُغْلَ الْقَلْبِ بِذِكْرِ غَدٍ ، وَاسْتَعْمَلُوا أَبْدَانَهُمْ ، وَجَوَارِحَهُمْ فِيهِ ، وَتَفَرَّغُوا لَهُ فَقَصُرَتْ عَنْهُمْ الْآمَالُ ، وَقَرُبَتْ عِنْدَهُمْ الْآجَالُ ، وَتَبَاعَدَتْ عَنْهُمْ أَسْبَابُ وَسَاوِسِ الدُّنْيَا ، وَعَظُمَ شُغْلُ الْآخِرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ فَنَظَرُوا إلَيْهَا بِعَيْنٍ صَحِيحَةِ النَّظَرِ نَافِذَةِ الْبَصَرِ ، وَتَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ فَاسْتَقَامَتْ لَهُمْ السِّيرَةُ حِينَ وَجَدُوا حَلَاوَةَ الطَّاعَةِ وَطَاوَعَتْهُمْ الزِّيَادَةُ فِي التَّقْوَى فَقَرَّتْ بِالْخَوْفِ أَعْيُنُهُمْ ، وَتَنَعَّمُوا بِالْحُزْنِ

فِي عِبَادَتِهِمْ حَتَّى نَحَلَتْ أَجْسَامُهُمْ ، وَبَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ ، وَقَلَّ مَعَ الْمَخْلُوقِينَ كَلَامُهُمْ ، وَتَلَذَّذُوا بِمُنَاجَاةِ خَالِقِهِمْ فَقُلُوبُهُمْ بِمَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ مُتَعَلِّقَةٌ ، وَفِكْرُهُمْ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ مُقْبِلَةٌ مُدْبِرَةٌ ، وَأَبْدَانُهُمْ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ عَارِيَّةٌ فَعَمُوا عَنْ الدُّنْيَا ، وَصَمُّوا عَنْهَا ، وَعَمَّا فِيهَا ، وَوَضُحَ لَهُمْ أَمْرُ الْآخِرَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ إلَيْهَا يَنْظُرُونَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - ثُمَّ نَظَرْت فِي ذَلِكَ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَقْرَبَ وَلَا أَجْمَعَ لِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ حَمِيَّةِ الْأَنْفُسِ عَنْ إلْفِهَا ، وَقَطْعِ مُجَاوَرَةِ الْمَخْلُوقِينَ بِمَنْعِ الْقُلُوبِ عَنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي بِهَا تَهِيجُ الْقُلُوبُ مِنْ الْأَشْغَالِ الْقَوَاطِعِ عَنْ التَّفَرُّغِ لِلْحُزْنِ أَوْ الْبَحْثِ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ ، وَالتَّرْكِ لِلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، فَوَرَّثَهُ ذَلِكَ حُبَّ الْخَلَوَاتِ فَأَحَبَّهَا ، وَلَزِمَهَا ، وَأَنِسَ بِهَا ، وَاسْتَوْحَشَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَذَلِكَ حِينَ جَرَتْ عُذُوبَةُ الْخَلْوَةِ فِي أَعْضَائِهِ كَمَا يَجْرِي الْمَاءُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَأَوْرَقَتْ أَغْصَانُهَا ، وَأَثْمَرَتْ عِيدَانُهَا ، وَلَزِمَ خَوْفُ مَا يَجِيءُ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ سُوَيْدَاءَ قَلْبِهِ فَهَاجَ لَهُ مِنْ الْخَلْوَةِ فُنُونٌ مِنْ أُصُولِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اجْتَهَدَ فِي فَنٍّ مِنْهَا عَلَى أَنْ يَسْتَحْكِمَ لَهُ لَعَظُمَتْ عَلَيْهِ الْمُؤْنَةُ ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فِيهِ الصَّلَاحُ فَإِذَا بَلَّغَ اللَّهُ الْعَبْدَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ حُبِّبَتْ إلَيْهِ الْخَلْوَةُ فَأَوَّلُ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْ حُبِّ الْخَلْوَةِ الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ ، وَالصِّدْقُ فِي الْقَوْلِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي حُبِّ الْخَلْوَةِ رَاحَةٌ لِلْقَلْبِ مِنْ غُمُومِ الدُّنْيَا ، وَتَرْكُ مُعَامَلَةِ الْمَخْلُوقِينَ فِي الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ ، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْلِ فَأَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْخَلْوَةِ وُجُوبَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَمُدَاهَنَةِ

الْمَخْلُوقِينَ ، وَيُحَبَّبُ إلَيْهِ بِالْخَلْوَةِ خُمُولُ النَّفْسِ ، وَإِخْمَادُ الذِّكْرِ فِي النَّاسِ ، وَهُوَ طَرِيقُ الصِّدْقِ ، وَمِنْهُ يَكُونُ الْإِخْلَاصُ ، وَيُحَبَّبُ إلَيْهِ بِالْخَلْوَةِ الزُّهْدُ فِي مَعْرِفَةِ النَّاسِ ، وَالْأُنْسُ بِاَللَّهِ ، وَيُوهَبُ لَهُ اسْتِثْقَالُ الْمَخْلُوقِينَ حَتَّى يَفِرَّ مِنْهُمْ فِرَارَهُ مِنْ الْأَسَدِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُفَارِقٍ لِجَمَاعَتِهِمْ ، وَيُعْطَى مِنْ حُبِّ الْخَلْوَةِ طُولَ الصَّمْتِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ ، وَغَلَبَةَ الْهَوَى بِالصَّبْرِ ، وَمِنْ الصَّمْتِ وَالصَّبْرِ غَلَبَةَ الْهَوَى ، وَيُعْطَى مِنْ حُبِّ الْخَلْوَةِ الِاشْتِغَالَ بِأَمْرِ نَفْسِهِ ، وَقِلَّةَ اشْتِغَالِهِ بِذِكْرِ غَيْرِهِ ، وَطَلَبَ السَّلَامَةِ مِمَّا فِيهِ النَّاسُ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ كَثْرَةَ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْفِكْرِ ، وَهَذِهِ الْخِصَالُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ ، وَمَخْرَجُهَا مِنْ خَالِصِ الذِّكْرِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَغِيبُ عَنْ أَعْيُنِ الْعِبَادِ ، وَتَظْهَرُ لِرَبِّ الْعِبَادِ ، وَالْبِلَادِ ، وَقَلِيلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ ، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ الصِّدْقِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ التَّيَقُّظَ مِنْ غَفْلَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَمَا يَذْكُرُهُ مِنْهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ تَرْكَ الرِّيَاءِ ، وَالتَّزَيُّنَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ دَوَاعِي الْإِخْلَاصِ ، وَهُوَ مَحْضُ الصِّدْقِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ تَرْكَ الْمِرَاءِ ، وَتَرْكَ الْخُصُومَاتِ ، وَالْجِدَالِ ، وَذَلِكَ يَنْفِي الرِّيَاسَةَ مِنْ الْقَلْبِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ قِلَّةَ الْخُلْفِ فِي الْوَعْدِ ، وَالتَّوَقِّي مِنْ الْكَذِبِ ، وَالْأَيْمَانِ ، وَالْحِنْثِ فِيهَا ، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ الصِّدْقِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ قِلَّةَ الْغَضَبِ ، وَالْقُوَّةَ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ ، وَتَرْكَ الْحِقْدِ وَالشَّحْنَاءِ ، وَمُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِسَلَامَةِ الصُّدُورِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ رِقَّةَ الْقَلْبِ ، وَالرَّحْمَةَ ، وَهُمَا يَنْفِيَانِ الْغِلْظَةَ ، وَالْقَسَاوَةَ ، وَهُمَا مِنْ دَوَاعِي الْخَوْفِ ، وَبِالْخَوْفِ الثَّابِتِ فِي الْقَلْبِ يَخْشَعُ الْعَبْدُ ، وَيَبْكِي مِنْ

خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ ، وَهِيَ مِنْ غَايَاتِ الْعِبَادَةِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ تَذَكُّرَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ ، وَطَلَبَ الشُّكْرِ ، وَالزِّيَادَةِ مِنْ الطَّاعَةِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ وُجُودَ حَلَاوَةِ الْعَمَلِ ، وَالنَّشَاطَ فِي الدُّعَاءِ ، وَيَجْرِي ذَلِكَ مِنْ الْقَلْبِ مَعَ تَضَرُّعٍ ، وَاسْتِكَانَةٍ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ الْقَنَاعَةَ ، وَالتَّوَكُّلَ ، وَالرِّضَا بِالْكَفَافِ لِلْعَفَافِ ، وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ عُزُوبَ النَّفْسِ عَنْ الدُّنْيَا ، وَشَهَوَاتِهَا ، وَفِتْنَتِهَا ، وَالشَّوْقَ إلَى لِقَاءِ اللَّهِ ، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ ، وَخَوْفِ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ حَيَاةَ الْقَلْبِ ، وَضِيَاءَ نُورِهِ ، وَنَفَاذَ بَصَرِهِ فِي عُيُوبِ الدُّنْيَا ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالنَّقْصِ ، وَالزِّيَادَةِ فِي دِينِهِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ الْإِنْصَافَ لِلنَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ خَوْفَ وُرُودِ الْفِتَنِ الَّتِي فِيهَا ذَهَابُ الدِّينِ ، وَالِاشْتِيَاقَ إلَى الْمَوْتِ ، وَالْأُنْسَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ لِمَا قَدْ وَجَدَ مِنْ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ نُورًا ، وَشِفَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا الْتَبَسَ عَلَيْك هَذَا الطَّرِيقُ ، وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْك الْأُمُورُ فَقِفْ نَفْسَك عَلَى الْإِرَادَةِ مِنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ ، وَالتَّشْوِيقِ إلَى مَا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّك تَرْجِعُ بَصِيرًا مِنْ حِيرَتِك ، وَعَالِمًا مِنْ جَهَالَتِك - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - وَانْظُرْ إلَى كُلِّ مَوْطِنٍ يَضْطَرُّك إلَى الصَّبْرِ فَاهْرَبْ مِنْهُ فَإِنَّك تَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَك قَدَمٌ عَلَى مَحَجَّةِ دِينِ اللَّهِ ، وَفِيك خَوْفَانِ : خَوْفُ الْفَقْرِ ، وَخَوْفُ الْغِنَى ، وَالثَّرْوَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِفْتَاحُ فَقْرِ الْأَبَدِ ، وَخَوْفُك مِنْ السُّقُوطِ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يُسْقِطُك مِنْ

عَيْنِ اللَّهِ ، وَيُنْسِيك حَظَّك مِنْهَا فَادْرَأْ ذَلِكَ عَنْك ، وَاطْلُبْ التَّخَلُّصَ ، وَهَيِّئْ لِذَلِكَ خَوْفَيْنِ : خَوْفَ أَنَّ مِثْلَك لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَبْلُغَ مَا يُؤَمِّلُ مِنْ الْآخِرَةِ فَإِنْ تَفَضَّلَ عَلَيْك رَبُّك بِبُلُوغِ أَمَلِك فَأَتْبِعْهُ الشُّكْرَ ، وَلْتُحْضِرْهُ خَوْفًا شَدِيدًا ؛ لِأَنَّك لَا تَقُومُ بِالشُّكْرِ لِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْك كَمَا يَنْبَغِي فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ خِفْت عَلَيْك أَنَّ تُسْلَبَ النِّعْمَةَ فَتَرْجِعَ إلَى أَسْوَأِ حَالِكَ فَإِذَا أَلْزَمَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ هَذَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ، وَتَمَسَّك بِهِمَا رَجَوْت أَنْ يُؤَمِّنَهُ اللَّهُ - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : لَسْت آمَنُ عَلَى نَفْسِي الْفِتْنَةَ ، وَأَنْ يُحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ فَهَؤُلَاءِ يَخَافُونَ هَذَا ، وَهُمْ الصَّفْوَةُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافُوا مَعَ سَابِقَتِهِمْ ، وَطَاعَتِهِمْ ، وَجِهَادِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ أَقَلُّ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ فَيَحُولُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ بِك يَا مِسْكِينُ ، وَلَا سَابِقَةَ لَك إلَّا فِي الشَّرِّ ، وَلَا حَلَاوَةَ عَرَفْتهَا قَدِيمًا مِنْ الْإِسْلَامِ إلَّا حَلَاوَةَ الْمَعَاصِي ؟ وَأَنْتَ بَارِكٌ فِي دَوْلَةِ الْفِتْنَةِ ، وَزَمَانِ الشَّرِّ تُحِبُّ الْبَقَاءَ طَمَعًا فِي الزِّيَادَةِ ، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ لَا تَنْقِمُ عَلَيْهَا حُبَّهَا فَخَدَعَتْك ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ أَنَّك مَخْدُوعٌ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُطِيعَ إذَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الطَّاعَةِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَلَا عَارِفٍ بِمُكَايَدَةِ عَدُوِّهِ هَانَتْ عَلَى إبْلِيسَ صَرْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ نَوْعٌ مِنْ الْعِبَادَةِ إلَّا وَلَهَا ضِدٌّ مِنْ الْفِتْنَةِ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخَيْرَ ، وَضِدَّهُ مِنْ الشَّرِّ ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْعِبَادَةِ خَاصَّةً ، ثُمَّ اجْتَهَدَ خَلَّاهُ

إبْلِيسُ وَإِيَّاهَا ؛ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ بِعِبَادَتِهِ ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي نَفْسِ عِبَادَتِهِ بِشَيْءٍ ، وَيَقْصِدُ لَهُ جِهَةَ آفَاتِهَا الَّتِي تُبْطِلُ عِبَادَتَهُ مِنْ شَهْوَةِ النُّفُوسِ الَّتِي تُسَارِعُ فِي قَبُولِ ذَلِكَ فَيَتَزَيَّنُ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ عِنْدِهَا ، وَأَنَّهُ سَيُجْزَى ، وَيُثَابُ فَيُصَدِّقُهَا بِمَا تُلْقِي إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَتَزْهُو النَّفْسُ لِرِضَى صَاحِبِهَا عَنْهَا ، وَيُحَقِّقُ إبْلِيسُ ظَنَّهُ بِهِ ، وَبِالْخُدَعِ لَهُ فَإِذَنْ قَدْ صُرِعَ وَخُذِلَ ، وَلَجَأَ إلَى نَفْسِهِ بِمَيْلِهِ عَنْ طَرِيقِ الشُّكْرِ ، وَيَظْهَرُ لَهُ مِنْ فِتْنَةِ عَدُوِّهِ مَا يَسْتَصْغِرُ بِهِ الْمَخْلُوقِينَ ، وَتَكُونُ نَفْسُهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا عَدْلَ لَهَا زَكَاءً وَطِيبًا ، وَهِيَ أَخْبَثُ الْأَنْفُسِ وَأَنْتَنُهَا وَأَسْقَطُهَا مِنْ عَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكُلَّمَا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ عَمَلٍ احْتَمَلَ فِيهِ الْأَذَى مَعَ مُسَاعَدَتِهِ إيَّاهَا ، وَشِدَّةِ رِضَاهُ عَنْهَا مِنْ تَحَمُّلِ لُبْسِ الْخَشِنِ ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ الْجَشِيمِ ، وَطُولِ السَّهَرِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَادَةِ بِمَا يُفْتَتَنُ بِهِ ، وَيَسْتَمِيلُ بِهِ إبْلِيسُ قُلُوبَ الْجُهَّالِ ، وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنِّي لَأَعُدُّ كَلَامِي فِيمَا لَا بُدَّ لِي مِنْهُ مُصِيبَةً وَاقِعَةً أَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى السَّلَامَةِ مِنْهَا ، وَإِنِّي لَأُعِدُّ صَمْتِي عَمَّا لَا يَعْنِينِي غَنِيمَةً وَإِحْدَاثَ نِعْمَةٍ أَلْتَمِسُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا إذْ عَلِمْت أَنَّ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ كَلِمَةٍ رَقِيبًا عَتِيدًا ، وَأُنْزِلُ مَا اُضْطُرِرْت إلَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ مُصِيبَةً نَازِلَةً ، وَمَا كُفِيتُ مِنْ الْكَلَامِ غَنِيمَةً بَارِدَةً .
وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ مِنْ شَرِّ كَسْبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا تَنْقِيصُ الْعَبْدِ غَيْرَهُ ، وَالْوَقِيعَةَ فِيهِ ، وَهِيَ الْغِيبَةُ ، وَيُقَالُ : إنَّهَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ ، وَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَتُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ، وَيَسْتَوْجِبُ بِهَا صَاحِبُهَا الْمَقْتَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْغِيبَةُ

وَالنَّمِيمَةُ مَخْرَجُهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْبَغْيِ ، وَالنَّمَّامُ قَاتِلٌ ، وَالْمُغْتَابُ آكِلُ مَيْتَةٍ ، وَالْمُبَاهِي مُتَكَبِّرٌ ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ بَعْضُهَا مِفْتَاحٌ لِبَعْضٍ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُجَانِبٌ لِأَحْوَالِ الْمُتَّقِينَ .

فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ أَصْلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَفَرَّعُ مِنْهَا فُنُونُ الْخَيْرِ .
وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ سَأَلَ سَائِلٌ حَكِيمًا فَقَالَ : أَخْبِرْنِي بِأَصْلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْهَا تَتَفَرَّعُ فُنُونُ الْخَيْرِ ، وَتَجْرِي بِهَا الْمَنَافِعُ ، وَتَصِحُّ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
فَقَالَ لَهُ الْحَكِيمُ : اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَفَرَّعُ مِنْهَا فُنُونُ الْخَيْرِ ، وَتَجْرِي بِهَا الْمَنَافِعُ ، وَتَصِحُّ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ بَعْدَ الْيَقِينِ بِمَعْرِفَةِ النِّعَمِ ، وَالْقِيَامِ بِأَدَاءِ الشُّكْرِ ، وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَأَنْ يَصِحَّ عِنْدَك أَنَّ جَمِيعَ الْخَيْرِ مَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا عُقُوبَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهِيَ مِنْ طَرِيقِ الْخِذْلَانِ ، وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ السُّخْطِ فَإِذَا اعْتَرَفْت بِذَلِكَ كَثُرَتْ حَسَنَاتُك ، وَقَلَّتْ سَيِّئَاتُك ؛ لِأَنَّك إذَا عَلِمْت أَنَّ الْإِحْسَانَ نِعَمٌ وَمَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ازْدَدْت فِي الشُّكْرِ ، وَاسْتَقْلَلْت كَثِيرَ شُكْرِك عِنْدَ صَغِيرِ نِعْمَةٍ عَلَيْك ؛ لِأَنَّ الْجَبَّارَ الْعَظِيمَ مَنَّ بِهَا عَلَيْك ، وَسَاقَهَا إلَيْك فَقَلَّ عِنْدَك كَثِيرُ الشُّكْرِ ، وَكَبُرَ عِنْدَك صَغِيرُ النِّعَمِ فَجَرَيْت حِينَئِذٍ فِي مَيْدَانِ الزِّيَادَةِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ ، وَعَلِمْت مَعْرِفَةَ الرِّضَا ، وَطَمِعْت فِي الْعَفْوِ ، وَإِذَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسَاءَةَ الَّتِي اكْتَسَبْتهَا إنَّمَا هِيَ خِذْلَانٌ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّهَا مِنْ طَرِيقِ السُّخْطِ فَزِعْت إلَى التَّضَرُّعِ فَنَزَلْتَ بِسَاحَتِهِ ، وَإِلَى الِاسْتِكَانَةِ فَصَحِبْتهَا ، وَإِلَى التَّوَاضُعِ فَاِتَّخَذْته خِدْنًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَجَأْت إلَى التَّوْبَةِ فَاسْتَجَرْت بِهَا ، وَلَبِسْت جِلْبَابَ الْحَيَاءِ مِمَّا سَلَفَ مِنْك ، وَشَهِدَ اللَّهُ عَلَيْك بِهِ ، وَشَاهَدَهُ مِنْك مِنْ الْإِسَاءَةِ مَعَ مَا تَعْرِفُ مِنْ كَثْرَةِ إحْسَانِهِ فَلَمْ تَتَعَرَّضْ بَعْدَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُ ، وَعَمَدْت إلَى الْمَعَاصِي فَعَادَيْتهَا مِنْك ، وَمِنْ

غَيْرِك فَتَكْرَهُ أَنْ يَعْصِيَهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ بِصَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ فَرَاجَعْت الْإِحْسَانَ مُجْتَهِدًا ، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ عَارِفٌ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْك فِي التَّنْبِيهِ وَالرُّجُوعِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَيْك فَالْتَمَسْت لَطِيفَ الشُّكْرِ بَعْدَ إقْلَاعِك عَنْ الْإِسَاءَةِ بِشِدَّةِ الْمُضَادَّةِ لَهَا فَعَظُمَ شُكْرُك عِنْدَ التَّحْوِيلِ إلَى الْإِحْسَانِ بَعْدَ الْإِسَاءَةِ فَإِذْ ذَاكَ قَدْ صِرْت فِي جَمِيعِ أَحْوَالِك شَاكِرًا ذَاكِرًا ، وَلَمْ يُعْجِزْك مَعْرِفَةُ الْإِحْسَانِ فَشَكَرْت حِينَئِذٍ الشَّاكِرَ الْمَشْكُورَ الَّذِي وَعَدَ عَلَى الشُّكْرِ الزِّيَادَةَ ، وَوَعْدُهُ لَا خُلْفَ فِيهِ ، وَعَرَفْت الْإِسَاءَةَ مِنْ أَيْنَ كَانَ مَخْرَجُهَا فَرَاجَعْت الْإِحْسَانَ بِالْعِتَابِ مِنْك لِنَفْسِك ، وَلِمَنْ زَيَّنَ الْإِسَاءَةَ لَك ، وَدَعَاك إلَيْهَا فَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ فُنُونُ الْخَيْرِ ، وَبِهِ تُغْلَقُ أَبْوَابُ الشَّرِّ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ تَهْوِينِ سُلُوكِ الطَّرِيقِ ، وَالْوُصُولِ إلَيْهِ - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى - وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُ : أَوْضِحْ لَنَا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي يَنَالُ الْعِبَادُ بِهَا الْقُرْبَ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَيَقْوُونَ بِهَا عَلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَيَبْلُغُونَ بِهَا رِضْوَانَهُ ، وَالْأَمْرَ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ إلَيْهِ ، وَيُقَصِّرُ بِهِمْ عَنْهُ إيضَاحًا شَافِيًا حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بَيِّنًا .
فَقَالَ : سَأُوضِحُ لَك ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَافْهَمْ قَوْلِي بِفَهْمٍ لَا يُخَالِطُهُ سَهْوٌ ، وَتَذَكَّرْ فِيهِ بِتَذَكُّرٍ لَا يُخَالِطُهُ غَفْلَةٌ ، وَاصْبِرْ عَلَيْهِ صَبْرًا لَا يُخَالِطُهُ جَزَعٌ فَإِنَّك إنْ تَفْعَلْ ذَلِكَ يُنْهَج لَك مِنْهَاجُ الطَّرِيقِ ، وَتَسْلَمْ مِنْ تَقْصِيرِ طَرِيقِ الْهَلَكَةِ ، وَالتَّوْفِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
اعْلَمْ أَنَّ مُبْتَدَأَ الْأُمُورِ ، وَاَلَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إلَّا بِهِ : الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ ، وَنُورًا لَهُمْ فَبِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْعِبَادُ خَالِقَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ ، وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ ، وَهُمْ الْمُدَبَّرُونَ ، وَهُوَ الْبَاقِي ، وَهُمْ الْفَانُونَ فَاسْتَدَلُّوا بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ ، وَسَمَائِهِ ، وَشَمْسِهِ ، وَقَمَرِهِ ، وَلَيْلِهِ ، وَنَهَارِهِ ، وَعَلِمُوا أَنَّ لَهُمْ وَلِهَذَا الْخَلْقِ خَالِقًا ، وَأَنَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ مُدَبِّرًا ، وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ ، وَلَا يَزَالُ ، وَعَرَفُوا بِهِ الْحَسَنَ مِنْ الْقَبِيحِ ، وَعَلِمُوا أَنَّ الظُّلْمَةَ فِي الْجَهْلِ ، وَالنُّورَ فِي الْعِلْمِ هَذَا مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْعَقْلُ .
فَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ يَكْتَفِي الْعِبَادُ بِالْعَقْلِ دُونَ غَيْرِهِ ؟ فَقَالَ : إنَّ الْعَاقِلَ دَلَّهُ عَقْلُهُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ قِوَامَهُ ، وَزِينَتَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ رَبًّا ، وَعَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ عَبَثًا ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ لَعِبًا ، وَعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِهِ مَحَبَّةً ، وَكَرَاهِيَةً ، وَأَنَّ لَهُ طَاعَةً ، وَمَعْصِيَةً فَلَمْ يَجِدْ

عَقْلَهُ يَدُلُّهُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْعِلْمِ وَطَلَبِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ إنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ ، وَيَعْلَمْهُ فَوَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ ، وَهُوَ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِهِ ، فَقِيلَ لَهُ : صِفْ لَنَا مَا هَذَا الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ إلَّا طَلَبُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْصِيرُ بِنَفْسِهِ عَنْهُ ؟ فَقَالَ : طَلَبُ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ ، وَأَنْبِيَاؤُهُ عَنْهُ : مِنْ أَمْرِهِ ، وَنَهْيِهِ ، وَوَعْدِهِ ، وَوَعِيدِهِ ، وَمَلَائِكَتِهِ ، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَجَنَّتِهِ ، وَنَارِهِ ، وَبَعْثِهِ ، وَحِسَابِهِ ، وَحَلَالِهِ ، وَحَرَامِهِ ، وَطَاعَتِهِ ، وَمَعْصِيَتِهِ ، وَمَحَبَّتِهِ ، وَكَرَاهَتِهِ .
فَقِيلَ لَهُ : هَلْ يَكْتَفِي الْعَالِمُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ ؟ فَقَالَ : لَا يَنْتَفِعُ الْعَالِمُ بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْإِيمَانِ بِهِ ، وَأَنْ يُقِرَّ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ لَهُ نَفْعًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ لَهُ ، وَلَا ضُرًّا لَمْ يَكْتُبْهُ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ يُكْتَفَى بِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ ، وَالْعَمَلِ بِهَا ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَرُكُوبِهَا ، فَمَنْ آمَنَ ، وَلَمْ يَعْمَلْ كَانَ مُتَهَاوِنًا ، وَتَصْدِيقُ الْإِيمَانِ الْعَمَلُ بِهِ .
فَقِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ الْعِلْمُ ، وَكَيْفَ الْعَمَلُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْمَلَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنْ خَالَفَ هَوَاك ، وَأَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَإِنْ أَسْخَطَك ، وَأَنْ تَجْتَنِبَ سَخَطَ اللَّهِ ، وَإِنْ سَرَّك ، وَأَنْ تَدَعَ كَرَاهِيَتَهُ ، وَإِنْ أَعْجَبَتْك ، وَأَنْ تُؤْثِرَ مَا هُوَ لَهُ ، وَإِنْ سَاءَك ، وَأَنْ تَرْغَبَ فِيمَا رَغَّبَك ، وَتَزْهَدَ فِيمَا زَهَّدَك ، وَأَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ إمَامَك وَدَلِيلَك .
فَقَالَ لَهُ

السَّائِلُ : قَدْ دَلَلْتنِي عَلَى الْعَمَلِ فَعَرَفْت ، وَعَرَفْت فَآمَنْت فَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ مُؤْنَةٍ ، وَلَا عَظِيمُ مَشَقَّةٍ بَلْ خِفَّةٌ ، وَرَاحَةٌ مَعَ مَا اسْتَزَدْت بِهِ هِدَايَةً ، وَبَصِيرَةً ، وَمَعْرِفَةً ، فَلَمَّا صِرْت إلَى الْعَمَلِ بِهِ لِزَمَنِي فِي ذَلِكَ مُؤْنَةٌ شَدِيدَةٌ ، وَثُقْلٌ كَبِيرٌ حَتَّى حَالَ بَيْنِي ، وَبَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ لَذِيذِ عِيشَتِي ، وَنَعِيمِ دُنْيَايَ ، وَحَمَلَنِي عَلَى الْمَكْرُوهِ ، وَصَرَفَنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السُّرُورِ فَصِفْ لِي أَمْرًا أَقْوَى بِهِ عَلَى الْعَمَلِ فِيمَا آمَنْت بِهِ فَقَدْ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ مُؤْنَتُهُ ، وَثَقُلَ عَلَيَّ احْتِمَالُهُ .
فَقَالَ : الْأُمُورُ الَّتِي تَقْوَى بِهَا عَلَى الْعَمَلِ وَالْأَدَبِ : الصَّبْرُ الَّذِي هُوَ تَمَامُهُ وَقِوَامُهُ فَإِنَّك إنْ صَبَرْت انْتَفَعْت بِعِلْمِك ، وَبَلَغْت مِنْهُ رِضْوَانَ اللَّهِ ، وَقَوِيت فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ ، وَلَيْسَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الْخَيْرِ إلَّا ، وَلِلصَّبْرِ فِيهِ عَمَلٌ ، وَبِهِ تَمَامُهُ فَبِالصَّبْرِ قَوِيَ الْعِبَادُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، وَالْحَلَالِ ، وَالْحَرَامِ ، وَبِالصَّبْرِ قَوُوا عَلَى اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ ، وَبِالصَّبْرِ بَلَغُوا الْغَايَةَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ ، فَإِذَا صَبَرْت عَلَى الْعَمَلِ انْتَفَعْت بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ ، وَإِنَّك إنْ لَمْ تَصْبِرْ لَمْ تَعْمَلْ ، وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْ لَمْ تَنْتَفِعْ بِالْإِيمَانِ بِمَا عَلِمْت ، وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْعَمَلُ ، وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْعَمَلِ لَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْعَقْلُ فَرَأْسُ أَمْرِ الْعِبَادِ الْعَقْلُ ، وَدَلِيلُهُمْ الْعِلْمُ ، وَنُورُهُمْ الْإِيمَانُ ، وَسَائِقُهُمْ الْعَمَلُ ، وَمُقَرِّبُهُمْ الصَّبْرُ فَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الصَّبْرِ ضَعُفَ ، وَمَنْ ضَعُفَ لَمْ يَعْمَلْ ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ لَمْ يَتِمَّ لَهُ أَمْرُهُ وَنُورُهُ ، وَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ ، وَمَنْ ذَهَبَ عَنْهُ النُّورُ عَمِيَ ، وَحَادَ عَنْ الطَّرِيقِ ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ فَلْيَتَّبِعْ الدَّلِيلَ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ ، وَمَنْ اتَّبَعَ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ النَّجَاةُ مِنْ

الْهَوْلِ الْعَظِيمِ ، وَعَمِلَ لَهُ ، وَصَبَرَ عَلَيْهِ صَارَ إلَى غَايَةِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ ، فَقَالَ لَهُ : قَدْ بَصَّرْتَنِي مِنْ فَضْلِ الصَّبْرِ قُوَّتَهُ ، وَعَلَّمْتَنِي مَا رَغَّبَنِي فِيهِ ، وَقَوَّانِي عَلَى الْعَمَلِ بِهِ مَعَ ثِقَلِهِ عَلَيَّ فَصِفْ لِي أَمْرًا أَزْدَادُ بِالصَّبْرِ تَبَصُّرًا ، وَفِيهِ رَغْبَةً ، وَعَلَيْهِ حِرْصًا فَقَالَ : صَبْرُك عَلَى الطَّاعَةِ ، وَطَلَبُك لَهَا ، وَهَرَبُك مِنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَبَلِيَّتِهَا هُوَ الَّذِي يُرَغِّبُك فِي الطَّاعَةِ وَيُبَيِّنُ لَك فَضْلَهَا قَالَ : قَدْ شَرَحْت لِي أَمْرَ الصَّبْرِ ، وَفَضْلَهُ فَزِدْنِي بِهِ تَبَصُّرًا فَقَالَ لَهُ : هَذَا الدَّلِيلُ ، وَالْإِمَامُ كِتَابُ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لَك فَضْلَ الصَّبْرِ ، وَيُرَغِّبُك فِي لُزُومِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى وَصَفَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ ، وَذَكَرَ ثَوَابَهُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ ثَوَابًا يَعْدِلُ ثَوَابَ الصَّبْرِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُوَفَّوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابِ فَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى فَضْلِ الصَّبْرِ مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ ثَوَابِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ لَهُ : صَاحِبُهُ قَدْ دَلَّنِي الْعِلْمُ وَكِتَابُ رَبِّي عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ فَضْلِ الصَّبْرِ وَثَوَابِهِ ؛ فَزَادَنِي بِفَضْلِهِ تَبَصُّرًا ، وَازْدَدْت عَلَيْهِ حِرْصًا ، وَفِيهِ رَغْبَةً ، وَبِهِ تَمَسُّكًا ، وَعَلَيْهِ اعْتِمَادًا مَعَ شِدَّةٍ مِنْهُ عَلَيَّ ، وَثِقَلٍ ، وَصَبْرٍ عَلَى خِلَافِ مَا أَشْتَهِي ، وَحَمْلِ نَفْسِي عَلَى مَا أَكْرَهُ لِطَلَبِي فِيهِ الْأَجْرَ ، وَالْفَضْلَ ، وَابْتِغَاءَ الْعَمَلِ وَالْأَدَبِ .
فَصِفْ لِي أَمْرًا يَخِفُّ بِهِ عَلَيَّ مُؤْنَةُ الصَّبْرِ ، وَيَسْهُلُ عَلَيَّ لُزُومُهُ ، وَيَخِفُّ عَلَيَّ احْتِمَالُهُ ، وَتَذِلُّ صُعُوبَتُهُ فَقَالَ لَهُ : أَرَاك لِلْخَيْرِ مُرِيدًا ، وَلِلْفَضْلِ طَالِبًا ، وَعَلَيْهِ حَرِيصًا ، وَتُحِبُّ أَنْ تَكُونَ قَدْ قَوِيت عَلَى مَا دَلَّكَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِنَفَاذٍ مِنْ الصَّبْرِ ، وَقُوَّةٍ مِنْ الْعَمَلِ ، وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ السَّعَادَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمًا ، وَفِيهِ تَفَهُّمًا ازْدَادَ لِلْخَيْرِ طَلَبًا ، وَعَلَيْهِ

حِرْصًا فَخَفَّ عَلَيْهِ الثَّقِيلُ ، وَقَرُبَ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ ، وَلَهَا فِي الدُّنْيَا عَمَّا يُرِيدُ .
وَإِنَّمَا الثِّقَلُ وَالْعُسْرُ تِمْثَالُ الدُّنْيَا فِي قَلْبِ الْعَبْدِ ، وَهِيَ مَرْصَدُ إبْلِيسَ ، وَسِلَاحُهُ فَإِذَا قَطَعَ عَنْهُ ذَلِكَ اسْتَنَارَ الْقَلْبُ ، وَخَرَجَتْ الظُّلْمَةُ مِنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ بِهِ احْتِمَالُ قُوَّةٍ ، وَلَا لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ ، وَوَصَلَ مِنْ الْأَمْرِ إلَى مَا يُرِيدُ فَقَالَ لَهُ : زِدْنِي مَا يُسَهِّلُ بِهِ عَلَيَّ ثِقَلَ احْتِمَالِ الصَّبْرِ ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ : الْأَمْرُ الَّذِي يُسَهِّلُ عَلَيْك ثِقَلَ احْتِمَالِ الصَّبْرِ ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيْك الرِّضَا عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى بِكُلِّ مَا صَنَعَ بِك ، وَاخْتَارَهُ لَك ، وَسَاقَهُ إلَيْك فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : فَأَوْضِحْ لِي كَيْفَ يَهُونُ عَلَيَّ مُؤْنَةُ الصَّبْرِ بِرِضَائِي عَنْ اللَّهِ ، وَيُخَفَّفُ عَلَيَّ احْتِمَالُهُ ؟ فَقَالَ : أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّك إنَّمَا انْتَسَبْت إلَى الرِّضَا ، وَسَمَّيْته صَبْرًا ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي نَزَلَ بِك مَكْرُوهٌ عَلَيْك وَإِنَّ هَوَاك ، وَنَفْسَك يُنَازِعَانِك إلَى غَيْرِهِ فَاحْتَجْتَ إلَى الصَّبْرِ فَتَدَبَّرْت ، وَاعْتَبَرْتَ فَصِرْت مِنْ ذَلِكَ إلَى مَوْضِعِ رِضَاهُ .
ثُمَّ يَتَجَاوَزُ بِك الْأَمْرُ حَتَّى تَصِيرَ إلَى مَوْضِعِ السُّرُورِ حَتَّى تَرَى لَوْ صُرِفَ ذَلِكَ الْأَمْرُ عَنْك لَصِرْت مِنْهُ إلَى تَقْوِيَةِ نَفْسِك ، وَعَلِمْت أَنَّ مَا صُرِفَ عَنْك عُقُوبَةٌ لِبَعْضِ مَا أَحْدَثْت مِنْ ذُنُوبِك أَوْ قَصَّرْت فِيهِ عَنْ شُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْك فَصِرْت مِنْهُ إلَى الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ ، وَمَنَازِلِ أَهْلِ الرِّضَا ، وَإِنَّمَا يُوصَلُ إلَى ذَلِكَ بِالْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ ، وَبِمَعْرِفَتِهِ يَنْظُرُ إلَيْك فَتَعْلَمُ أَنَّك لَا نَظَرَ لَك مِنْ نَفْسِك فَتَرْضَى بِمَا رَضِيَ بِهِ ، وَتَرْغَبُ فِيمَا رَغِبَهُ ، وَتَزْهَدُ فِيمَا زَهِدَهُ ، وَالزُّهْدُ مِنْ الرِّضَا قَالَ : قَدْ عَلِمْت فَضْلَ الرِّضَا ، وَوَضَحَ لِي أَمْرُهُ ، فَصِفْ لِي كَيْفَ يُهَوَّنُ عَلَيَّ أَمْرَ الصَّبْرِ فِي الزُّهْدِ ؟ وَكَيْفَ مَأْخَذُهُ فَقَدْ أَرَانِي مَعَ مَا

أَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الزُّهْدِ مُقِيمًا عَلَى الصَّبْرِ ، وَأَزْدَادُ أَيْضًا مَعَ زُهْدِي فِي الدُّنْيَا أُمُورًا أَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الصَّبْرِ مُخَالَفَةً لِهَوَائِي ، وَرَفْضًا لِشَهَوَاتِي ، وَمَا تُنَازِعنِي نَفْسِي مِنْ لَذَّاتِي فَقَدْ أَرَانِي ازْدَدْت ثِقَلًا ، وَضَجَرًا قَالَ : أَرَاك لَا تَقْبَلُ مِنْ الْأُمُورِ إلَّا أَصْلَحَهَا ، وَلَا تَرْضَى لِنَفْسِك إلَّا بِوَاضِحِهَا ، وَلَا تَخْتَارُ مِنْهَا إلَّا أَرْشَدَهَا ، وَذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي أَرْجُو لَك بِهَا الْقُوَّةَ ، وَالنَّجَاحَ لِحَاجَتِك ، وَالظَّفَرَ بِطَلَبَتِك ، وَبُلُوغِك أَقْصَى الْغَايَةِ مِنْ إرَادَتِك فَافْهَمْ قَوْلِي ، وَتَدَبَّرْ نُصْحِي فَإِنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ وَاضِحَةٌ ، وَالْأَمْرَ فِيهِ بَيِّنٌ أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ بَاقِيَةً فِي قَلْبِك ، وَأَنَّ حُبَّهَا غَالِبٌ عَلَيْك ، وَأَنَّ سُرُورَهَا فَرَحٌ لَك وَأَنَّ مَكْرُوهَهَا شَدِيدٌ عَلَيْك فَحَمَلْت نَفْسَك عَلَى قَطْعِ ذَلِكَ مَعَ حُبِّك لَهَا ، وَإِيثَارِكَ لَهَا ، وَنُزُلِهَا مِنْك مَعَ طَلَبِك الْفَضْلَ مِنْ احْتِمَالِ الصَّبْرِ ، وَحَمَلْت نَفْسَك عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاك ، وَصَبَرْت عَلَيْهَا لِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَيْك ؛ لِأَنَّ مَكْرُوهَهَا عِنْدَك مَكْرُوهٌ ، وَلِأَنَّ سُرُورَهَا عِنْدَك سُرُورٌ فَثَقُلَ عَلَيْك الصَّوْمُ لِقَطْعِك الشَّهْوَةَ عَنْ نَفْسِك مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَثَقُلَتْ عَلَيْك الصَّلَاةُ .
وَالِاشْتِغَالُ بِهَا لِمَا تُسِرُّهُ إلَيْك نَفْسُك مِنْ اللَّهْوِ ، وَالْحَدِيثِ فِي الْبَاطِلِ ، وَثَقُلَتْ عَلَيْك الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ لِمَا تُحِبُّ أَنْ تَصْرِفَهُ فِيهِ مِنْ لَذَّاتِك ، وَثَقُلَ عَلَيْك التَّوَاضُعُ لِمَا تَرَى مِنْ تَصْغِيرِ شَأْنِك ، وَدَنَاءَةِ مَنْزِلَتِك عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَثَقُلَ عَلَيْك الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ لِئَلَّا يُعَادِيَك النَّاسُ أَوْ يَنْقَطِعَ رَجَاؤُك مِنْهُمْ أَوْ يُسْمِعُونَك مَا تَكْرَهُ فَيَدْخُلُ عَلَيْك التَّنْغِيصُ فِي سُرُورِك ، وَثَقُلَ عَلَيْك الْقُنُوعُ وَالرِّضَا لِعَظِيمِ مَوْقِعِ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِك ، وَحُبِّك الْإِكْثَارَ مِنْهَا ، وَحِرْصُك عَلَيْهَا ،

وَكَرَاهِيَتُك لِلْمَوْتِ وَنَعِيمِ مَا بَعْدَهُ مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ وَصْفُهَا ، وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا صَارَ شِدَّتُهُ عَلَيْك لِحُبِّ الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا ثَقُلَ عَلَيْك الصَّبْرُ وَمَلِلْته ، وَضَيَّقَ الشَّيْطَانُ عَلَيْك الْمَذَاهِبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لِأَنَّ سِلَاحَهُ الَّذِي بِهِ يَقْوَى ، وَكَيْدَهُ الَّذِي يَصِلُ بِهِ إلَى أَهْلِ الدُّنْيَا الرَّغْبَةُ فِيهَا وَطَلَبُهَا ، فَإِذَا أَنْتَ زَهِدْت فِي الدُّنْيَا ، وَرَفَضْتهَا ، وَرَغِبْت فِي الْآخِرَةِ ، وَطَلَبْتهَا سَهُلَ عَلَيْك الْأَمْرُ فَآثَرْت الْآخِرَةَ ، وَطَلَبْتهَا ، وَرَغِبْت فِيهَا ، وَأَدْبَرَتْ عَنْك الدُّنْيَا وَثِقَلُهَا ، وَتَوَلَّتْ عَنْك هَارِبَةً بِبَلَائِهَا ، وَأَتَتْك بِمَنَافِعِهَا ، وَصَرَفَتْ عَنْك شُرُورَهَا بِرَغْمٍ مِنْهَا ، وَانْقَطَعَ رَجَاءُ الشَّيْطَانِ ، وَصَغُرَ كَيْدُهُ وَوَلَّى ، وَقَلَّ سِلَاحُهُ فَلَا قُوَّةَ لَهُ بِك ، وَنَجَوْت بِعِصْمَةِ اللَّهِ ، وَتَوْفِيقِهِ مِنْ الضِّيقِ ، وَالتَّعْسِيرِ ، وَالْهَلَكَةِ ، وَصِرْت إلَى النِّعْمَةِ ، وَالسُّرُورِ ، وَالرَّاحَةِ ، وَخَرَجَ حُبُّ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِك فَلَزِمْت الصِّيَامَ ، وَخَفَّ عَلَيْك ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ نَفْسُك تَنْشَرِحُ إلَى الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الشَّهَوَاتِ ، وَلَزِمْت الصَّلَاةَ ، وَاشْتَغَلْت بِهَا ؛ لِأَنَّ نَفْسَك لَمْ تَكُنْ تُنَازِعُك إلَى اللَّهْوِ أَوْ الْخَلْوَةِ إلَى حَدِيثٍ فِي بَاطِلٍ ، وَخَفَّتْ عَلَيْك الزَّكَاةُ وَالصَّدَقَةُ ؛ لِأَنَّك أَعْدَدْت مَا قَدَّمْته أَمَامَك ، وَلَا تُرِيدُ مِنْهُ شَيْئًا يَبْقَى خَلْفَك .
وَخَفَّ عَلَيْك التَّوَاضُعُ لِأَنَّ الْإِيَاسَ قَدْ خَرَجَ مِنْ قَلْبِك ، وَهَانَ عَلَيْك الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَوَوْا عِنْدَك فَلَمْ تَرْجُ أَحَدًا غَيْرَ رَبِّك ، وَلَمْ تَخَفْ شَيْئًا غَيْرَهُ ، وَخَفَّ عَلَيْك الْقُنُوعُ ؛ لِأَنَّك رَضِيت مِنْ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ ، وَلَمْ تُنَازِعْك نَفْسُكَ إلَى غَيْرِ الْبَلَاغِ وَالْكِفَايَةِ ، وَخَفَّ عَلَيْك الْجِهَادُ ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَخْرَجْتهَا مِنْ قَلْبِك ، وَكَرِهْت الْبَقَاءَ فِيهَا ، وَأَحْبَبْت الْمَوْتَ

لِمَا تَرْجُو مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ وَالْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ الَّتِي أَمَامَك ، فَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا رَاحَةٌ لِلْقَلْبِ ، وَالْبَدَنِ ، وَهُوَ جِمَاعُ الْخَيْرِ ، وَتَمَامُهُ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ إلَّا وَلَهُ ضِدٌّ مِنْ غَيْرِهِ فَمَا قَصُرَ بِك عَنْهُ فَارْفُضْهُ ، وَازْهَدْ فِيهِ يَسْلَمُ لَك عَمَلُك ، وَيَخِفُّ عَلَيْك .
ثِقَلُهُ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : أَوْضَحْت فَبَيَّنْت ، وَأَرْشَدْت فَهَدَيْت ، وَكَشَفْت فَأَرَيْت .
فَصِفْ لِي كَيْفَ الزُّهْدُ ؟ وَمَا حَدُّهُ ؟ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِي الْعَمَلُ بِهِ ؟ فَقَدْ اسْتَبَانَ لِي فَضْلُهُ ، وَوَضَحَ لِي رُشْدُهُ .
فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : إنَّ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا وَاجِبٌ عَلَيْك ، وَهُوَ الْوَرَعُ لَا يَجُوزُ لَك التَّقْصِيرُ فِيهِ ، وَلَا الرَّغْبَةُ عَنْهُ ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك ، وَنَهَاك عَنْهُ فَهَذَا الْأَمْرُ لَازِمٌ لَك لَا عُذْرَ لَك فِي التَّقْصِيرِ عَنْ الزُّهْدِ ، وَالْقُرْبِ إلَى رَبِّك طَلَبًا لِلْفَضْلِ ، وَنَفْيًا لِكُلِّ أَمْرٍ قَصُرَ بِك عَنْهُ مِنْ الْمُسَارَعَةِ فِي طَاعَتِهِ ، وَالْمُسَابِقَةِ إلَى رِضْوَانِهِ ، فَهَذَا مَا يَنْبَغِي لَك الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِدَارَةُ صَلَاحِ نَفْسِك عَلَيْهِ فَقَالَ : أَمَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ ، وَنَهَانِي عَنْهُ فَقَدْ دَلَّنِي عَلَيْهِ الْعِلْمُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لَا يَنْبَغِي لِي الْمَقَامُ عَلَيْهِ ، وَلَا الْعَمَلُ بِهِ فَزَهِدْت فِيهِ ، وَرَفَضْته فَصِفْ لِي الزُّهْدَ الَّذِي أَرْجُو أَنْ أَنَالَ بِهِ كَرَامَةَ سَيِّدِي ، وَأَنْ أَبْلُغَ مِنْ ذَلِكَ مَحَبَّتَهُ ، وَأَنْ أَدْفَعَ بِهِ عَنِّي كَيْدَ الشَّيْطَانِ وَمَكْرَهُ .
فَقَالَ لَهُ : ذَلِكَ الزُّهْدُ فِي فُضُولِ الدُّنْيَا ، وَالرِّضَا مِنْهَا بِيَسِيرِهَا ، وَالْأَخْذُ مِنْهَا بِقَدْرِ الْبَلَاغِ إلَى غَيْرِهَا ، وَرَفْضُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ فُضُولِهَا وَأُمُورِهَا ، بِإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنْ قَلْبِك فَلَا تَخَفْ أَحَدًا فِي اللَّهِ ، وَلَا تَرُدَّ حَمْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، وَيَسْتَوِي النَّاسُ عِنْدَك فَلَا تَرْجُ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ ، وَلَا تَطْلُبْ إلَّا فَضْلَهُ ، وَتَنْصَحُ فِي اللَّهِ فِي السِّرِّ ،

وَالْعَلَانِيَةِ ، وَلَا تَخَفْ لَوْمَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، وَلَا عَذْلَهُ ، وَتُحِبُّ فِي اللَّهِ ، وَتَبْغُضُ فِي اللَّهِ ، وَلَا تُشْغِلُ قَلْبَك بِشَيْءٍ غَيْرَهُ ، وَتَلْزَمُ التَّوَاضُعَ ، وَالتَّذَلُّلَ لِرَبِّك ، وَتُخْمِلُ ذِكْرَكَ ، وَتُغَيِّبُ اسْمَكَ ، وَلَا تُرِدْ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ غَيْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَتُحِبُّ الْمَوْتَ ، وَتَكُونُ مُمْتَثِلًا لَهُ بَيْنَ عَيْنَيْك لِرَجَاءِ مَا بَعْدَهُ .
وَتَزْهَدُ فِي الْحَيَاةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ ، وَالْبَلِيَّةِ فَهَذَا أَصْلُ الزُّهْدِ فَإِذَا أَنْتَ وَصَلْت إلَى ذَلِكَ نِلْت شَرَفَ الْآخِرَةِ ، وَنَجَوْت بِعَوْنِ اللَّهِ مِنْ بَلِيَّةِ عَاجِلَتِك فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : لَقَدْ ذَكَرْت لِي مِنْ أَمْرِ الزُّهْدِ شَيْئًا ضَاقَ بِهِ ذَرْعِي ، وَاشْتَدَّ لَهُ غَمِّي ، وَاعْتَصَرَ لَهُ قَلْبِي ، وَاسْتَصْعَبَ بِهِ عَلَيَّ أَمْرِي ، وَتَفَرَّقَ لَهُ رَأْيِي ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيَّ الْمُؤْنَةُ فِيهِ ، وَقَدْ كَانَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِمَالُ لَهُ أَيْسَرَ عَلَيَّ مُؤْنَةً مِنْهُ ، وَأَخَفَّ عَلَيَّ حِمْلًا مِنْ الزُّهْدِ ، وَخَشِيت أَنْ لَا أَقْوَى عَلَى احْتِمَالِهِ ، وَلَا تُطِيقُ نَفْسِي الْعَمَلَ بِكَمَالِهِ ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِتَمَامِهِ ، وَأَنْ تَمَلَّهُ نَفْسِي وَتَرْفُضَهُ ، وَتَرْجِعَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهَا ، وَعَطَبُهَا ، وَقَدْ عَرَفْت فَضْلَ الزُّهْدِ ، وَعَظِيمَ قَدْرِهِ ، فَصِفْ إلَيَّ أَمْرًا أَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الزُّهْدِ ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيَّ ؟ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : قَدْ فَهِمْت قَوْلَك ، وَلَقَدْ صَعُبَ عَلَيْك الذَّلُولُ ، وَاشْتَدَّ عَلَيْك الْيَسِيرُ ، وَثَقُلَ عَلَيْك الْخَفِيفُ ، وَعُمِّيَتْ عَلَيْك الْمَدَاخِلُ ، وَمَا أَلُومُك حَيْثُ اشْتَدَّ عَلَيْك مِنْ أَمْرِك مَا ذَكَرْت حِينَ لَمْ تَعْلَمْ الْأَمْرَ الَّذِي لَهُ فِي الدُّنْيَا زَهِدْت ، وَاَلَّذِي بِهِ عَلَيْهِ قَوِيت .
وَلَوْ عَلِمْته لَهَانَ عَلَيْك مِنْ أَمْرِك الشَّدِيدُ ، وَخَفَّ عَلَيْك الثَّقِيلُ ، وَسَهُلَتْ عَلَيْك مَوَارِدُهُ ، وَسَهُلَتْ عَلَيْك فِيهِ الْمَذَاهِبُ ، وَخَفَّتْ عَلَيْك فِيهِ الْمُؤْنَةُ فَافْهَمْ قَوْلِي بِعَقْلٍ ،

وَتَدَبَّرْهُ بِحِكَمٍ ، وَخُذْ فِيهِ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا ، وَدَعَاهُمْ إلَى الزُّهْدِ فِيهَا وَرَفْضِهَا خِصَالٌ شَتَّى بَعْضُهَا أَرْفَعُ وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنْ بَعْضٍ ، وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إلَى الزُّهْدِ فِيهَا ، فَأَوَّلُ دَرَجَاتِ الزُّهْدِ : أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الْعِبَادَ فِي الدُّنْيَا ، وَجَعَلَ مَا فِيهَا زِينَةً لَهَا ، وَزَهَّدَهُمْ فِيهَا ، وَخَلَقَ الْآخِرَةَ ، وَنَعِيمَهَا ، وَنَدَبَهُمْ إلَيْهَا ، وَرَغَّبَهُمْ فِيهَا ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ عَنْ الدُّنْيَا مُرْتَحِلُونَ ، وَأَنَّهُمْ إلَى الْآخِرَةِ صَائِرُونَ فَرَغَّبَ الْعِبَادَ فِي الْبَاقِي ، وَزَهَّدَهُمْ فِي الْفَانِي فَآثِرْ الْآخِرَةَ ، وَاطْلُبْهَا ، وَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا ، وَارْفُضْهَا لِكَيْ لَا يُنْتَقَصَ مِنْ حَظِّك فِي الْآخِرَةِ بِمَا نِلْت مِنْ نَعِيمِ دُنْيَاك : وَأَمَّا الْمَنْزِلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعِبَادَ فِي الدُّنْيَا فَأَوْجَبَ الْمَوْتَ عَلَيْهِمْ ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ ، وَضَرَبَ لَهُمْ فِيهَا أَجَلًا فَلَمْ يَعْلَمُوا فِي أَيِّ الْأَوْقَاتِ ، وَالسَّاعَاتِ تَأْتِيهِمْ مَنِيَّتُهُمْ فَتَحُولُ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ دُنْيَاهُمْ ، وَنَعِيمِ عَيْشِهِمْ ، وَمُفَارَقَةِ أَحْبَابِهِمْ ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمَوْتُ فِي قُلُوبِهِمْ أَسْهَرُوا فِي اللَّيْلِ أَعْيُنَهُمْ ، وَاشْتَغَلُوا بِهُمُومِهِمْ عَنْ أَهْلِيهِمْ ، وَأَوْلَادِهِمْ ، وَدَامَ حُزْنُهُمْ ، وَبُكَاؤُهُمْ ، وَزَهِدُوا فِي الدُّنْيَا ، وَأَهْلِهَا وَنَعِيمِهَا ، فَصَارَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الضِّيفَانِ ، وَكَانَ الْمُقَوِّي لَهُمْ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ذِكْرُ الْمَوْتِ وَقَصْرُ الْأَمَلِ فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ شَرِيفَةٌ مِنْ خِصَالِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ، وَأَمَّا الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الزُّهْدِ : فَتَصْدِيقُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ ، وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِ النَّارِ وَعَذَابِهَا ، وَمَا حَذَّرَهُ مِنْهُ مِنْ الدُّنْيَا ، وَالِاغْتِرَارِ بِهَا فَزَهِدَ فِيهَا ،

وَأَحَبَّ بِالْمَوْتِ مُفَارَقَتَهَا ، وَالتَّبَاعُدَ عَنْهَا ، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا إلَى دَارِهِ وَقَرَارِهِ تَبَصُّرًا مِنْهُ بِالدُّنْيَا ، وَحَالِهَا فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ مِنْ خِصَالِ الزُّهْدِ أَشْرَفُ مِمَّا قَبْلَهَا ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : مَا تَرَكْت لِي إلَى الدُّنْيَا ، وَالرُّكُونِ إلَيْهَا سَبِيلًا ، وَلَقَدْ اسْتَبَانَ لِي مِنْ قَوْلِك الْبِرُّ وَالْحَقُّ ، وَوَضَحَ لِي مِنْ وَصْفِك الصِّدْقُ ، وَقَوِيت - بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ - عَلَى الزُّهْدِ فِيهَا ، وَرَفْضِهَا ؛ فَصِفْ لِي بِصِفَتِك الشَّافِيَةِ ، وَنَعْتِك النَّافِعِ دَوَاءً لِدَاءِ قَلْبِي تُخْبِرنِي فِيهِ عَنْ الْأَمْرِ الَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ ، وَيُقَوِّينِي عَلَيْهَا .
فَقَالَ : الْأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّك عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ ، وَيُقَوِّيك عَلَيْهَا ، وَيُنَوِّرُهَا فِي قَلْبِك هُوَ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَكٌّ ، وَالتَّصْدِيقُ بِرَبِّك الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ لَبْسٌ فَإِنَّهُ مَنْ صَدَقَ رَبَّهُ أَيْقَنَ ، وَمَنْ أَيْقَنَ أَبْصَرَ ، وَمَنْ أَبْصَرَ زَهِدَ ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْيَقِينِ ، وَأَفْضَلُ الْيَقِينِ التَّوَكُّلُ ، قَالَ : فَصِفْ لِي الْيَقِينَ لِأَعْرِفَهُ .
فَقَالَ : أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، وَأَنَّهُ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي قُدْرَتِهِ ، وَسُلْطَانِهِ ، وَخَلْقِهِ ، وَأَنَّ وَعَدَهُ حَقٌّ ، وَقَوْلَهُ صِدْقٌ ، وَكَذَا وَعِيدَهُ ، وَكُتُبَهُ ، وَرَسُولَهُ حَتَّى تُقِرَّ بِذَلِكَ فِي قَلْبِك ، وَتَتَّبِعَ كِتَابَ رَبِّك فَهَذَا الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ ، قَالَ : صِفْ لِي التَّوَكُّلَ لِأَعْرِفَهُ ، فَقَالَ : التَّوَكُّلُ هُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ ، وَتَصْدِيقُ الْيَقِينِ دَلَالَتَهُ ، فَمَنْ أَيْقَنَ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ ، وَالْمُقْتَدِرُ عَلَيْهَا ، وَالْمَالِكُ لَهَا ، وَالْمُنْفَرِدُ بِهَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ ، وَقَطَعَ رَجَاءَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ ، وَلَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ ، وَلَمْ يَأْنَسْ إلَّا بِهِ فَانْقَطِعْ إلَى اللَّهِ ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتك

فَهَذِهِ صِفَةُ الْعَمَلِ وَالتَّوَكُّلِ وَمَأْخَذِهِ ، قَالَ : مَا الَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى الْفِكْرَةِ ، وَيُقَوِّينِي عَلَيْهَا فَإِنِّي كُلَّمَا أَرَدْت الْفِكْرَةَ لَمْ أَصِلْ إلَيْهَا ، وَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا فَقَالَ : أَجَلْ لَا تَصِلُ إلَى مَا تُرِيدُ مِنْ الْفِكْرَةِ مَعَ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا فَسَبِيلُ الْوُصُولِ إلَى الْفِكْرَةِ : الصِّيَامُ ، وَتَرْكُ الْإِكْثَارِ مِنْ الطَّعَامِ ، وَالشَّرَابِ ، وَاعْتِزَالُ الشَّهَوَاتِ ، وَلُزُومُ الصَّمْتِ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَالْخَيْرُ فِي الْخَلْوَةِ ، وَالِاعْتِزَالُ ، وَرَفْضُ الِاشْتِغَالِ بِالْفُضُولِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَلَا حَوْلَ ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ

فَصْلٌ فِي السَّمَاعِ ، وَكَيْفِيَّتِهِ ، وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَمَا يَجُوزُ فَانْظُرْ - رَحِمنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ - إلَى مَا قَرَّرَ هَذَا السَّيِّدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَيْفِيَّةِ السُّلُوكِ ، وَالْأَخْذِ أَوَّلًا بِالصِّيَامِ ، وَتَرْكِ الْإِكْثَارِ مِنْ الطَّعَامِ ، وَالشَّرَابِ ، وَاعْتِزَالِ الشَّهَوَاتِ ، وَلُزُومِ الصَّمْتِ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَالْخَيْرِ فِي الْخَلْوَةِ ، وَالِاعْتِزَالِ ، وَرَفْضِ الِاشْتِغَالِ بِالْفُضُولِ فَلَمْ يَكْتَفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْخَلْوَةِ لَيْسَ إلَّا حَتَّى ذَكَرَ الِاعْتِزَالَ مَعَ الْخَلْوَةِ فَلَوْ كَانَتْ خَلْوَةً دُونَ اعْتِزَالٍ لَقَلَّ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ الِاعْتِزَالَ ، فَأَيْنَ هَذَا الْحَالُ مِنْ حَالِنَا الْيَوْمَ ؟ إذْ إنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْخِرْقَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إنَّمَا شَأْنُهُ كَثْرَةُ الِاجْتِمَاعِ ، وَحُضُورُ السَّمَاعِ ، وَالرَّقْصِ فِيهِ حَتَّى كَأَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ فِي السُّلُوكِ - نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ - فَمَنْ أَرَادَ الْخَيْرَ فَلْيَعْتَزِلْ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَإِلَّا فَالْفَتْحُ عَلَيْهِ بَعِيدٌ أَعْنِي الْفَتْحَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي يَقْرُبُ بِهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ دُونَ ادِّعَاءٍ ، وَإِلَّا فَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ الْأَحْوَالَ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ رَقْصِهِمْ ، وَتَأْخُذُهُمْ الْأَحْوَالُ إذْ ذَاكَ ، وَيُخْبِرُونَ بِأَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ .
وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لَكَانَ مُصَادَفَةً ، ثُمَّ إنَّهُمْ يُوَلُّونَ ، وَيَعْزِلُونَ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ ، وَيُخْبِرُونَ بِمَنَازِلِ أَصْحَابِهِمْ فَيَقُولُونَ مَثَلًا : فُلَانٌ أَحَدُ السَّبْعَةِ ، وَفُلَانٌ أَحَدُ الْعَشَرَةِ ، وَفُلَانٌ أَحَدُ السَّبْعِينَ ، وَفُلَانٌ أَحَدُ الثَّلَاثمِائَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَحْوَالٌ نَفْسَانِيَّةٌ أَوْ شَيْطَانِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ مَعَ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَهَذَا السَّمَاعُ عَلَى مَا يَعْلَمُونَهُ مُحَرَّمٌ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو

عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْله تَعَالَى { : إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
هَؤُلَاءِ قَامُوا فَذَكَرُوا اللَّهَ عَلَى هِدَايَتِهِ شُكْرًا لِمَا أَوْلَاهُمْ مِنْ نِعْمَتِهِ ثُمَّ هَامُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ مُنْقَطِعِينَ إلَى رَبِّهِمْ ، وَخَائِفِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ ، وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الرُّسُلِ ، وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَالْفُضَلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ أَيْنَ هَذَا مِنْ ضَرْبِ الْأَرْضِ بِالْأَقْدَامِ ، ؟ وَالرَّقْصِ بِالْأَكْمَامِ خُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْحِسَانِ مِنْ الْمُرْدِ وَالنِّسْوَانِ ، هَيْهَاتَ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهِ مِثْلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، ثُمَّ إنَّ هَذَا حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّ الْفَقِيرَ الْمُنْقَطِعَ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِي وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ ، وَأَنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ كَالْمُحَرَّمِ لَا سَبِيلَ إلَى ذِكْرِهِ فَضْلًا عَنْ فِعْلِهِ .

، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي ضَرْبِ الطَّارِ عَلَى حِدَتِهِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّبَّابَةِ عَلَى حِدَتِهَا ، وَقَاعِدَةُ أَهْلِ الطَّرِيقِ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ فَكَيْفَ يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى مَنْعِهِ ؟ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ ، ثُمَّ مَعَ ارْتِكَابِ بَعْضِهِمْ مَا ذُكِرَ يَدَّعُونَ الْأَحْوَالَ الرَّفِيعَةَ ، وَيُشِيرُونَ إلَى مَقَامَاتٍ ، وَمُنَازَلَاتٍ تُسْتَعْظَمُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّخْلِيطِ ، وَارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي ؟ ذَلِكَ مُحَالٌ ، ، وَمِنْ أَشَدِّ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي السُّجُودِ لِلشَّيْخِ حِينَ قِيَامِ الْفَقِيرِ لِلرَّقْصِ ، وَبَعْدَهُ ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ : رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ ، وَالنَّسَائِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ قَالَ { : لَمَّا قَدِمَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِمْتُ الشَّامَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ وَأَسَاقِفَتِهِمْ ، فَرَأَيْت أَنَّكَ أَوْلَى بِذَلِكَ ، فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي لَوْ أَمَرْت أَحَدًا يَسْجُدُ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ، لَا تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا حَتَّى لَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا ، وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ } هَذَا لَفْظُ النَّسَائِيّ ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ مُعَاذٍ { وَنَهَى عَنْ السُّجُودِ لِلْبَشَرِ ، وَأَمَرَنَا بِالْمُصَافَحَةِ } قُلْت : وَهَذَا السُّجُودُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَدْ اتَّخَذَهُ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ عَادَةً فِي سَمَاعِهِمْ ، وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى مَشَايِخِهِمْ ، وَاسْتِغْفَارِهِمْ فَتَرَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إذَا أَخَذَهُ الْحَالُ بِزَعْمِهِ يَسْجُدُ لِلْأَقْدَامِ

سَوَاءً كَانَ لِلْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِهَا جَهَالَةً مِنْهُ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ، وَخَابَ عَمَلُهُمْ ( فَصْلٌ ) فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ - وَإِيَّاكَ إلَى قِصَّةِ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَقَوْلِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك أَوْلَى بِذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهَا مِنْ الْفَوَائِدِ النَّفِيسَةِ : التَّحَرُّزُ عَنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَالْبُعْدُ مِنْهُمْ إذْ أَنَّ النُّفُوسَ تَمِيلُ غَالِبًا إلَى مَا يَكْثُرُ تَرْدَادُهُ عَلَيْهَا ، وَمِنْ هَاهُنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - كَثُرَ التَّخْلِيطُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِمُجَاوَرَتِهِمْ ، وَمُخَالَطَتِهِمْ لِقِبْطِ النَّصَارَى مَعَ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ فِي الْغَالِبِ فَأَنِسَتْ نُفُوسُهُمْ بِعَوَائِدِ مَنْ خَالَطُوهُ فَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادُ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ ، وَضَعُوا تِلْكَ الْعَوَائِدَ الَّتِي أَنِسَتْ بِهَا نُفُوسُهُمْ مَوْضِعَ السُّنَنِ حَتَّى أَنَّك إذَا قُلْت لِبَعْضِهِمْ : الْيَوْمَ السُّنَّةُ كَذَا يَكُونُ جَوَابُهُ لَك عَلَى الْفَوْرِ عَادَةُ النَّاسِ كَذَا ، وَطَرِيقَةُ الْمَشَايِخِ كَذَا ، فَإِنْ طَالَبْتَهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ : نَشَأْت عَلَى هَذَا ، وَكَانَ وَالِدِي ، وَجَدِّي ، وَشَيْخِي ، وَكُلُّ مَنْ أَعْرِفَهُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ ، وَلَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يَرْتَكِبُوا الْبَاطِلَ أَوْ يُخَالِفُوا السُّنَّةَ فَيُشَنِّعُ عَلَى مَنْ يَأْمُرُهُ بِالسُّنَّةِ ، وَيَقُولُ لَهُ : مَا أَنْتَ أَعْرَفُ بِالسُّنَّةِ مِمَّنْ أَدْرَكْتُهُمْ مِنْ هَذَا الْجَمِّ الْغَفِيرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إنْكَارُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَخْذِهِ بِعَمَلِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّ هَذَا الْمِسْكِينُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ مَعَ مُخَالَطَتِهِمْ لِغَيْرِ جِنْسِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقِبْطِ ، وَالْأَعَاجِمِ ، وَغَيْرِهِمَا ؟ ، - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ - مَعَ أَنَّ السَّمَاعَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ لَيْسَ إلَّا ،

فَإِذَا فَعَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ قَالُوا أَهْمَلَ السَّمَاعَ ، وَهُوَ الْيَوْمَ عَلَى مَا يُعْهَدُ ، وَيُعْلَمُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْإِمَامُ الشَّيْخُ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا أُتِيَ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا لِوَضْعِهِمْ الْأَسْمَاءَ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتٍ وَهَا هُوَ ذَا بَيِّنٌ .
أَلَا تَرَى السَّمَاعَ كَانَ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهُوَ الْيَوْمَ عَلَى مَا نُعَايِنُهُ ، وَهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِمَا ارْتَكَبُوهُ حَتَّى وَقَعُوا فِي حَقِّ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَنَسَبُوا إلَيْهِمْ اللَّعِبَ ، وَاللَّهْوَ فِي كَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ السَّمَاعَ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَفْعَلُونَهُ ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ هَذَا ، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ ، وَيَرْجِعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِلَّا فَهُوَ هَالِكٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ السُّهْرَوَرْدِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى السَّمَاعِ قَالَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ : وَلَا شَكَّ أَنَّك إذَا خَيَّلْت بَيْنَ عَيْنَيْك جُلُوسَ هَؤُلَاءِ لِلسَّمَاعِ ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ فَإِنَّ نَفْسَك تُنَزِّهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ، وَعَنْ حُضُورِهِ انْتَهَى .
وَلَقَدْ أَنْصَفَ فِيمَا وَصَفَ ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فِي حَقِّ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَقَدْ قِيلَ عَنْ الْجُنَيْدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهُ قَالَ : إنَّ السَّمَاعَ لَا يَرْجِعُ مُبَاحًا إلَّا بِعَشَرَةِ شُرُوطٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَان لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ إلَّا ذُو مَحْرَمٍ أَعْنِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ، وَإِمْكَانٍ ، وَإِخْوَانٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَنْ يَكُونَ الْقَوَّالُ هُوَ الَّذِي يَمُدُّهُمْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ

الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ يَحْضُرُهُ شَنَآنُ ، وَأَنْ لَا يَحْضُرَهُ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَأَنْ لَا يَحْضُرَهُ شَابٌّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ .
وَحَيْثُ كَانَ مُبَاحًا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَإِنْ اتَّفَقَ اجْتِمَاعُهَا كَانَ السَّمَاعُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَهُوَ إنْشَادُ الشِّعْرِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ إلَى خَلَوَاتِهِمْ فَمَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ عَنْ تَمَامِ الْمُدَّةِ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا خَرَجَ فَحَضَرَ السَّمَاعَ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى خَلْوَتِهِ نَشِطًا ؛ لِأَنَّ الْقَوَّالَ كَانَ يَمُدُّهُمْ فِي بَوَاطِنِهِمْ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُنْشِدُ لَهُمْ مِنْ دُرَرِ الشِّعْرِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ وَتَقْوَى بِهِ قُلُوبُهُمْ عَلَى السَّيْرِ إلَى الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ ، وَالنُّهُوضِ إلَيْهَا ، وَتَرْكِ التَّرَاخِي ، وَالتَّسْوِيفِ الشَّاغِلِ عَنْهَا ، وَمِثْلُ ذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَنْ تَمَامِ الْمُدَّةِ الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا إلَى الْخَلْوَةِ خَرَجَ إلَى مَجْلِسِ عَالِمٍ فَحَضَرَهُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَلْوَتِهِ قَوِيًّا ؛ لِأَنَّ حُضُورَ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ يُحْيِي الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ كَمَا يُحْيِي الْمَطَرُ الْوَابِلُ النَّبَاتَ بَلْ النَّظَرُ إلَيْهِمْ تَقْتَاتُ بِهِ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ ، وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهَا ، وَيَحْدُثُ لَهَا عِنْدَ تِلْكَ الرُّؤْيَةِ انْزِعَاجٌ ، وَقُوَّةٌ بَاعِثَةٌ عَلَى مَا تُؤَمِّلُهُ مِنْ الْخَيْرِ كَيْفَ لَا ، وَهُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ، وَخُلَفَاؤُهُ فِي خَلْقِهِ .
وَقَدْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَحْمَةً ، وَكَهْفًا لِمَنْ يَأْوِي إلَيْهِمْ ، وَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهِمْ ، نَصَبَهُمْ هُدَاةً لِلْمُتَحَيِّرِينَ ، وَنُورًا لِلسَّالِكِينَ - اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمَنَا بَرَكَتَهُمْ ، وَلَا تُخَالِفْ بِنَا عَنْ سُنَّتِهِمْ فَأَنْتَ

وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ حَالِهِمْ ، وَعُلِمَ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا السَّمَاعِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ النَّاسِ مُخَالِفٌ لِجَمَاعَتِهِمْ إذْ إنَّهُ احْتَوَى عَلَى أَشْيَاءَ مُحَرَّمَاتٍ أَوْ مَكْرُوهَاتٍ أَوْ هُمَا مَعًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْحِكَايَةُ عَنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ إذْ إنَّهُمْ جَمَعُوا فِيهِ بَيْنَ الدُّفِّ ، وَالشَّبَّابَةِ ، وَالتَّصْفِيقِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ التَّصْفِيقَ إنَّمَا هُوَ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ كَمَا مُنِعَتْ الْآلَاتُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا ، وَبَعْضُهُمْ يَنْسِبُ جَوَازَ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو إبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ : مَا تَقُولُ فِي الرَّقْصِ عَلَى الطَّارِ وَالشَّبَّابَةِ ؟ فَقَالَ : هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ .
فَقَالُوا : أَمَا جَوَّزَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَأَنْشَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : حَاشَا الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ النَّبِيهْ أَنْ يَرْتَقِي غَيْرَ مَعَانِي نَبِيهْ أَوْ يَتْرُكَ السُّنَّةَ فِي نُسْكِهِ أَوْ يَبْتَدِعَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَوْ يَبْتَدِعَ طَارًا وَشَبَّابَةً لِنَاسِكٍ فِي دِينِهِ يَقْتَدِيهْ الضَّرْبُ بِالطَّارَاتِ فِي لَيْلَةٍ وَالرَّقْصُ وَالتَّصْفِيقُ فِعْلُ السَّفِيهْ هَذَا ابْتِدَاعٌ وَضَلَالٌ فِي الْوَرَى وَلَيْسَ فِي التَّنْزِيلِ مَا يَقْتَضِيهْ وَلَا حَدِيثٍ عَنْ نَبِيِّ الْهُدَى وَلَا صَحَابِيٍّ وَلَا تَابِعِيهْ بَلْ جَاهِلٌ يَلْعَبُ فِي دِينِهِ قَدْ ضَيَّعَ الْعُمْرَ بِلَهْوٍ وَتِيهْ وَرَاحَ فِي اللَّهْوِ عَلَى رِسْلِهِ وَلَيْسَ يَخْشَى الْمَوْتَ إذْ يَعْتَرِيهْ إنَّ وَلِيَّ اللَّهِ لَا يَرْتَضِي إلَّا بِمَا اللَّهُ لَهُ يَرْتَضِيهْ وَلَيْسَ يَرْضَى اللَّهُ لَهْوَ الْوَرَى بَلْ يَمْقُتُ اللَّهُ بِهِ فَاعِلِيهْ بَلْ بِصِيَامٍ وَقِيَامٍ فِي الدُّجَى وَآخِرِ اللَّيْلِ لِمُسْتَغْفِرِيهِ إيَّاكَ تَغْتَرُّ بِأَفْعَالِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ وَلَا يَبْتَغِيهْ قَدْ

أَكَلُوا الدُّنْيَا بِدِينٍ لَهُمْ وَلَبَّسُوا الْأَمْرَ عَلَى جَاهِلِيهْ جَهْلٌ وَطَيْشٌ فِعْلُهُمْ كُلُّهُ ، وَكُلُّ مَنْ دَانَ بِهِ تَزْدَرِيهْ شِبْهُ نِسَاءٍ جَمَعُوا مَأْتَمًا فَقُمْنَ فِي النَّدْبِ عَلَى مَيِّتِيهْ وَالضَّرْبُ فِي الصَّدْرِ كَمَا قَدْ تَرَى لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُ النَّسَا مِنْ شَبِيهْ أَنْكِرْ عَلَيْهِمْ إنْ تَكُنْ قَادِرًا فَهُمْ رِجَالُ إبْلِيسَ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَخَفْ فِي اللَّهِ مِنْ لَائِمٍ وَفَّقَك اللَّهُ لِمَا يَرْتَضِيهْ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ إلَّا مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَبِطَرِيقَتِهِ ، مِنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فَمَنْ ذَكَرَ عَنْهُ غَيْرَ مَا يُنَاسِبُهُ كُذِّبَ فِيمَا ادَّعَاهُ ، وَأُنْكِرَ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُزَنِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ بَاشَرَ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ جَوَازَ السَّمَاعِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ

( فَصْلٌ ) : وَأَشَدُّ مِنْ فِعْلِهِمْ السَّمَاعَ كَوْنُ بَعْضِهِمْ يَتَعَاطَوْنَهُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْقِيرُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِلْمَسَاجِدِ كَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ فِيهِ ذِكْرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ إنْشَادِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَشَدَ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَهُ : لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك } ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ { مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْرِمُوهُ } ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ ، وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ ، وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } ، وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَفْعَلُونَ السَّمَاعَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَيَرْقُصُونَ فِيهَا ، وَعَلَى حُصُرِ الْوَقْفِ الَّتِي فِيهَا ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الرُّبُطِ ، وَالْمَدَارِسِ ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ عَمِلَ فَتْوَى ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ إحْدَى وَسِتِّينَ ، وَسِتِّمِائَةٍ ، وَمَشَى بِهَا عَلَى الْأَرْبَعِ مَذَاهِبَ ، وَلَفْظُهَا : مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ ، وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ - وَفَّقَهُمْ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى مَرْضَاتِهِ - فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَرَدُوا إلَى بَلَدٍ فَقَصَدُوا إلَى الْمَسْجِدِ ، وَشَرَعُوا يُصَفِّقُونَ ، وَيُغَنُّونَ ، وَيَرْقُصُونَ تَارَةً بِالْكَفِّ ، وَتَارَةً بِالدُّفُوفِ ، وَالشَّبَّابَةِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ شَرْعًا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ تَعَالَى .
فَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ : السَّمَاعُ لَهْوٌ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ مَنْ قَالَ بِهِ : تُرَدُّ شَهَادَتُهُ - وَاَللَّهُ

أَعْلَمُ - وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ زَجْرُهُمْ وَرَدْعُهُمْ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ الْمَسَاجِدِ حَتَّى يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ : فَاعِلُ ذَلِكَ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَلَا يُقْبَلُ حُكْمُهُ ، وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا ، وَإِنْ عُقِدَ النِّكَاحُ عَلَى يَدِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ : الْحُصُرُ الَّتِي يُرْقَصُ عَلَيْهَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى تُغْسَلَ ، وَالْأَرْضُ الَّتِي يُرْقَصُ عَلَيْهَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى يُحْفَرَ تُرَابُهَا وَيُرْمَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى قِصَّةِ السَّامِرِيِّ فِي سُورَةِ طَهَ سُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا الْفَقِيهُ فِي مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ حَرَسَ اللَّهُ مُدَّتَهُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ يُكْثِرُونَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ إنَّهُمْ يُوقِعُونَ أَشْعَارًا مَعَ الطَّقْطَقَةِ بِالْقَضِيبِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَدِيمِ ، وَيَقُومُ بَعْضُهُمْ يَرْقُصُ ، وَيَتَوَاجَدُ حَتَّى يَخِرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ، وَيُحْضِرُونَ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ هَلْ الْحُضُورُ مَعَهُمْ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ يَا شَيْخُ كُفَّ عَنْ الذُّنُوبِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَالزَّلَلْ ، وَاعْمَلْ لِنَفْسِك صَالِحًا مَا دَامَ يَنْفَعُكَ الْعَمَلْ أَمَّا الشَّبَابُ فَقَدْ مَضَى ، وَمَشِيبُ رَأْسِك قَدْ نَزَلْ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ مَذْهَبُ هَؤُلَاءِ بَطَالَةٌ ، وَجَهَالَةٌ ، وَضَلَالَةٌ ، وَمَا الْإِسْلَامُ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَمَّا الرَّقْصُ ، وَالتَّوَاجُدُ فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ أَصْحَابُ السَّامِرِيِّ لَمَّا اتَّخَذَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ قَامُوا يَرْقُصُونَ حَوَالَيْهِ ، وَيَتَوَاجَدُونَ

فَهُوَ دِينُ الْكُفَّارِ ، وَعُبَّادِ الْعِجْلِ ، وَأَمَّا الْقَضِيبُ فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ لِيُشْغِلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِسُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ مِنْ الْوَقَارِ فَيَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ الْحُضُورِ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُمْ ، وَلَا يُعِينَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ .
هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِكِتَابِ النَّهْيِ عَنْ الْأَغَانِي : وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى يَسْتَتِرُ أَحَدُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ إذَا وَاقَعَهَا ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْهَا ، ثُمَّ كَثُرَ الْجَهْلُ ، وَقَلَّ الْعِلْمُ ، وَتَنَاقَصَ الْأَمْرُ حَتَّى صَارَ أَحَدُهُمْ يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ جِهَارًا ثُمَّ ازْدَادَ الْأَمْرُ إدْبَارًا حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ ، وَفَّقَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاهُمْ اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ ، وَاسْتَهْوَى عُقُولَهُمْ فِي حُبِّ الْأَغَانِي ، وَاللَّهْوِ ، وَسَمَاعِ الطَّقْطَقَةِ ، وَاعْتَقَدَتْهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَجَاهَرَتْ بِهِ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ ، وَشَاقَّتْ بِهِ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَخَالَفَتْ الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَهَاءَ وَحَمَلَةَ الدِّينِ { : وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا رَخَّصَ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ الْغِنَاءِ فَقَالَ : إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ ، وَنَهَى عَنْ الْغِنَاءِ ، وَاسْتِمَاعِهِ ، وَأَمَّا أَبُو

حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ الْغِنَاءَ ، وَيَجْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ سُفْيَانَ وَحَمَّادٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَلَا نَعْلَمُ أَيْضًا بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ خِلَافًا فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ ، وَالْمَنْعِ مِنْهُ ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ : إنَّ الْغِنَاءَ لَهُمْ مَكْرُوهٌ ، وَيُشْبِهُ الْبَاطِلَ ، وَالْمُحَالَ ، أَمَّا سَمَاعُهُ مِنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ لَهُ فَإِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مَكْشُوفَةً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ إذَا جَمَعَ النَّاسَ لِسَمَاعِهَا فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ ، وَغَلَّظَ الْقَوْلَ فِيهِ قَالَ : هُوَ دِيَاثَةٌ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ دَيُّوثًا ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَكْرَهُ الطَّقْطَقَةَ بِالْقَضِيبِ ، وَيَقُولُ وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ لِيُشْغِلُوا بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْقُرْآنِ ، وَأَمَّا الْعُودُ ، وَالطُّنْبُورُ ، وَسَائِرُ الْمَلَاهِي فَحَرَامٌ ، وَمُسْتَمِعُهُ فَاسِقٌ ، وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ مَاتَ مِيتَةَ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مُخَالِفَةٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْغِنَاءَ دِينًا ، وَطَاعَةً ، وَرَأَتْ إعْلَانَهُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَالْجَوَامِعِ ، وَقَدْ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالِاحْتِيَاطِ لِدِينِهِمْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَإِنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالدِّينِ ، وَمُدَّعُونَ الْوَرَعَ وَالزُّهْدَ حَتَّى تُوَافِقَ بَوَاطِنُهُمْ ظَوَاهِرَهُمْ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةَ قَالَ : الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ : هُوَ الْغِنَاءُ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَهْوُ الْحَدِيثِ الْغِنَاءُ ، وَالِاسْتِمَاعُ إلَيْهِ ، وقَوْله تَعَالَى { : وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ

مِنْهُمْ بِصَوْتِك } قَالَ مُجَاهِدٌ : بِالْغِنَاءِ ، وَالْمَزَامِيرِ { ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك وَرَجْلِكَ } قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : كُلُّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ خَيْلِ إبْلِيسَ وَرَجْلِهِ { ، وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } قَالَ قَوْمٌ : كُلُّ مَالٍ أُصِيبَ مِنْ حَرَامٍ ، وَأُنْفِقَ فِي حَرَامٍ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مُشَارَكَتُهُ لَنَا فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ مَا يُزَيِّنُهُ لَنَا مِنْ الْأَيْمَانِ ، ثُمَّ يُزَيِّنُ لَنَا الْحِنْثَ فِيهَا فَنَطَأُ الْفُرُوجَ بَعْدَ الْحِنْثِ ، وَنَكْتَسِبُ الْأَمْوَالَ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى { : أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ، وَتَضْحَكُونَ ، وَلَا تَبْكُونَ ، وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ .
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : سَامِدُونَ هُوَ الْغِنَاءُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ الْغِنَاءُ لِقَوْلِ أَهْلِ الْيَمَنِ سَمَدَ فُلَانٌ إذَا غَنَّى ، وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِهِ الزَّاهِي بِإِسْنَادِهِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ ، وَلَا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ } زَادَ التِّرْمِذِيُّ : وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ ، وَأَكْلُ أَثْمَانِهِنَّ حَرَامٌ ، وَفِيهِنَّ نَزَلَتْ { : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } زَادَ غَيْرُهُ { وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا رَفَعَ رَجُلٌ عَقِيرَتَهُ أَيْ صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ إلَّا بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ شَيْطَانَيْنِ يَرْتَدِفَانِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ لَا يَزَالَانِ يَضْرِبَانِ بِأَرْجُلِهِمَا عَلَى صَدْرِهِ ، وَأَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى صَدْرِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْكُتُ } ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : كَانَ إبْلِيسُ أَوَّلَ مَنْ نَاحَ ، وَأَوَّلَ مَنْ غَنَّى } ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

{ يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي آخِرَ الزَّمَانِ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : مُسْلِمُونَ هُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، وَيُصَلُّونَ ، وَيَصُومُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَمَا بَالُهُمْ ؟ قَالَ اتَّخَذُوا الْمَعَازِفَ ، وَالْقَيْنَاتِ ، وَالدُّفُوفَ ، وَشَرِبُوا هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ فَبَاتُوا عَلَى شَرَابِهِمْ فَأَصْبَحُوا ، وَقَدْ مُسِخُوا } ، وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ : إذَا كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا ، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا ، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا ، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ ، وَعَقَّ أُمَّهُ ، وَجَفَا أَبَاهُ ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ ، وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ ، وَلُبِسَ الْحَرِيرُ ، وَاُتُّخِذَتْ الْقَيْنَاتُ ، وَالْمَعَازِفُ ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا } ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَوْ الْقِيَامَةِ إضَاعَةُ الصَّلَوَاتِ ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ ، وَتَكُونُ أُمَرَاءُ خَوَنَةٌ ، وَوُزَرَاءُ فَسَقَةٌ فَقَالَ سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَبِي ، وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا كَائِنٌ قَالَ : نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَهَا يُكَذَّبُ الصَّادِقُ ، وَيُصَدَّقُ الْكَاذِبُ ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ ، وَيُخَوَّنُ الْمُؤْتَمَنُ يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْكَذِبُ ظَرْفًا ، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا ، إنَّ أَذَلَّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْمُؤْتَمَنُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِالْمَخَافَةِ يَذُوبُ قَلْبُهُ فِي جَوْفِهِ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ هَمًّا ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ ، عِنْدَهَا يَا سَلْمَانُ يَكُونُ الْمَطَرُ قَيْظًا ، وَالْوَلَدُ

غَيْظًا ، وَالْفَيْءُ مَغْرَمًا ، وَالْمَالُ دُوَلًا ، يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكْتَفِي الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ ، وَتَرْكَبُ ذَوَاتُ الْفُرُوجِ السُّرُوجَ فَعَلَيْهِمْ مِنْ أُمَّتِي لَعْنَةُ اللَّهِ ، يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَجْفُو الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ، وَيَبَرُّ صَدِيقَهُ ، وَيَحْتَقِرُ السَّيِّئَةَ قَالَ : أَوَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ تُزَخْرَفُ الْمَسَاجِدُ كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ ، وَالْبِيَعُ ، وَتُطَوَّلُ الْمَنَابِرُ ، وَتَكْثُرُ الصُّفُوفُ ، وَالْقُلُوبُ مُتَبَاغِضَةٌ ، وَالْأَلْسُنُ مُخْتَلِفَةٌ دِينُ أَحَدِهِمْ لَعْقَةٌ عَلَى لِسَانِهِ إنْ أُعْطِيَ شَكَرَ ، وَإِنْ مُنِعَ كَفَرَ قَالَ : أَوَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَهَا يُغَارُ عَلَى الْغُلَامِ كَمَا يُغَارُ عَلَى الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ ، وَيُخْطَبُ كَمَا تُخْطَبُ النِّسَاءُ قَالَ : أَوَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ تَحَلَّى ذُكُورُ أُمَّتِي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، عِنْدَ ذَلِكَ يَأْتِي مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قَوْمٌ يَلُونَ أُمَّتِي ، فَوَيْلٌ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ قَوِيِّهِمْ ، وَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ تُحَلَّى الْمَصَاحِفُ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَيَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ بِأَصْوَاتِهِمْ ، وَيُنْبَذُ كِتَابُ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكْثُرُ الرِّبَا ، وَيَظْهَرُ الزِّنَا ، وَيَتَهَاوَنُ النَّاسُ بِالدِّمَاءِ ، وَلَا يُقَامُ يَوْمَئِذٍ بِنَصْرِ اللَّهِ يَا سَلْمَانُ تَكْثُرُ الْقَيْنَاتُ ، وَتُشَارِكُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي التِّجَارَةِ ، عِنْدَ ذَلِكَ يُرْفَعُ الْحَجُّ فَلَا حَجَّ ، تَحُجُّ أُمَرَاءُ النَّاسِ تَنَزُّهًا وَلَهْوًا ، وَأَوَاسِطُهُمْ لِلتِّجَارَةِ ، وَقُرَّاؤُهُمْ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ، وَفُقَرَاؤُهُمْ لِلْمَسْأَلَةِ } ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَسْبُ الْمُغَنِّي ،

وَالْمُغَنِّيَةِ حَرَامٌ ، وَكَسْبُ الزَّانِيَةِ سُحْتٌ ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَ الْجَنَّةَ لَحْمًا نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ } قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رَأَيْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَجَابِرَ بْنَ عُمَيْرٍ يَرْتَمِيَانِ ، فَمَلَّ أَحَدُهُمَا فَجَلَسَ فَقَالَ الْآخَرُ أَجْلَسْت سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ لَهْوٌ ، وَسَهْوٌ إلَّا أَرْبَعُ خِصَالٍ : مَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ ، وَتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتُهُ زَوْجَتَهُ ، وَتَعْلِيمُهُ السِّبَاحَةَ } قَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أُهْبِطَ إبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ قَالَ يَا رَبِّ : لَعَنَتْنِي فَمَا عِلْمِي ؟ قَالَ : السِّحْرُ قَالَ : فَمَا قِرَاءَتِي ؟ قَالَ : الشِّعْرُ قَالَ : فَمَا كِتَابَتِي ؟ قَالَ : الْوَشْمُ قَالَ : فَمَا طَعَامِي قَالَ : كُلُّ مَيْتَةٍ ، وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : فَمَا شَرَابِي ؟ قَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ قَالَ : فَأَيْنَ مَسْكَنِي ؟ قَالَ الْأَسْوَاقُ قَالَ : فَمَا صَوْتِي ؟ قَالَ الْمَزَامِيرُ قَالَ : فَمَا مَصَائِدِي ؟ قَالَ : النِّسَاءُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ ضَرْبِ الدُّفِّ ، وَلَعِبِ الطَّبْلِ ، وَصَوْتِ الْمِزْمَارِ } ، وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ ، وَالنَّوْمُ مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ ، وَالضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ ، وَالرَّنَّةُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ، وَالْمِزْمَارُ .
} .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا شَرِبَ الْعَبْدُ الْمَاءَ عَلَى شِبْهِ الْمُسْكِرِ كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ حَرَامًا ، وَلَعَنَ اللَّهُ بَيْتًا فِيهِ دُفٌّ أَوْ طُنْبُورٌ أَوْ عُودٌ ، وَأَخْشَى عَلَيْهِمْ الْعُقُوبَةَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ } ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ قَالَ : { لَسْتُ مِنْ دَدٍ ، وَلَا دَدٌ مِنِّي } قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الدَّدُ اللَّعِبُ وَاللَّهْوُ ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ الدَّدُ النَّقْرُ بِالْأَنَامِلِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرَّأَ مِمَّا يُنْقَرُ فِي الْأَرْضِ بِالْأَنَامِلِ فَمَا بَالُك بِطَقْطَقَةِ الْقَضِيبِ قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ الدُّفُّ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ إنْسَانٌ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْغِنَاءِ قَالَ أَنْهَاك عَنْهُ ، وَأَكْرَهُهُ لَك قَالَ : أَحَرَامٌ هُوَ ؟ قَالَ اُنْظُرْ يَا ابْنَ أَخِي إذَا مَيَّزَ اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، مِنْ أَيِّهِمَا يَحْصُلُ الْغِنَاءُ ؟ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُغَنِّيَ ، وَالْمُغَنَّى لَهُ ، وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : حُبُّ السَّمَاعِ يُورِثُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ ، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ : الْغِنَاءُ مَفْسَدَةٌ لِلْقَلْبِ مَسْخَطَةٌ لِلرَّبِّ ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى مُؤَدِّبِ وَلَدِهِ : لِيَكُنْ أَوَّلُ مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَدَبِك بُغْضَ الْمَلَاهِي الَّتِي بَدْؤُهَا مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَعَاقِبَتُهَا سُخْطُ الرَّحْمَنِ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ الثِّقَاتِ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ أَنَّ صَوْتَ الْمَعَازِفِ ، وَاسْتِمَاعَ الْأَغَانِي وَاللَّهْوَ بِهَا ، يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَنْبُتُ الْعُشْبُ عَلَى الْمَاءِ ، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ : يَا بَنِي أُمَيَّةَ إيَّاكُمْ وَالْغِنَاءَ فَإِنَّهُ يَزِيدُ الشَّهْوَةَ ، وَيَهْدِمُ الْمُرُوءَةَ ، وَإِنَّهُ لَيَنُوبُ عَنْ الْخَمْرِ ، وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ الْمُسْكِرُ ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَجَنِّبُوهُ النِّسَاءَ فَإِنَّ الْغِنَاءَ دَاعِيَةُ الزِّنَا ، وَقَالَ ابْنُ الْكَاتِبِ : إيَّاكَ وَالْغِنَاءَ ، وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ فِي رِسَالَةِ الْإِرْشَادِ الْغِنَاءُ حَرَامٌ كَالْمَيْتَةِ ، وَقَالَ

أَبُو حُصَيْنٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : اُخْتُصِمَ إلَى شُرَيْحٍ فِي رَجُلٍ كَسَرَ طُنْبُورًا فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ ( فَصْلٌ ) وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ فَهُوَ جَاسُوسُ الْقَلْبِ ، وَسَارِقُ الْمُرُوءَةِ وَالْعُقُولِ ، يَتَغَلْغَلُ فِي مَكَامِنِ الْقُلُوبِ ، وَيَطَّلِعُ عَلَى سَرَائِرِ الْأَفْئِدَةِ ، وَيَدِبُّ إلَى بَيْتِ التَّخْيِيلِ فَيُثِيرُ كُلَّ مَا غُرِسَ فِيهَا مِنْ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالسَّخَاطَةِ وَالرُّعُونَةِ ، بَيْنَمَا تَرَى الرَّجُلَ وَعَلَيْهِ سَمْتُ الْوَقَارِ ، وَبَهَاءُ الْعَقْلِ ، وَبَهْجَةُ الْإِيمَانِ ، وَوَقَارُ الْعِلْمِ كَلَامُهُ حِكْمَةٌ ، وَسُكُوتُهُ عِبْرَةٌ فَإِذَا سَمِعَ اللَّهْوَ نَقَصَ عَقْلُهُ ، وَحَيَاؤُهُ ، وَذَهَبَتْ مُرُوءَتُهُ وَبَهَاؤُهُ فَيَسْتَحْسِنُ مَا كَانَ قَبْلَ السَّمَاعِ يَسْتَقْبِحُهُ ، وَيُبْدِي مِنْ أَسْرَارِهِ مَا كَانَ يَكْتُمُهُ ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ بِهَاءِ السُّكُوتِ إلَى كَثْرَةِ الْكَلَامِ ، وَالْكَذِبِ ، وَالِازْدِهَاءِ ، وَالْفَرْقَعَةِ بِالْأَصَابِعِ ، وَيُمِيلُ رَأْسَهُ ، وَيَهُزُّ مَنْكِبَيْهِ ، وَيَدُقُّ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهِ ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ الْخَمْرَةُ إذَا مَالَتْ بِشَارِبِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَخَلَتْ الْحَاضِرَةَ فَسُقِيَتْ نَبِيذًا ، فَلَمَّا خَامَرَهَا ، وَصَحَّتْ قَالَتْ : أَوَ يَشْرَبُ هَذَا نِسَاؤُكُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَتْ : لَئِنْ صَدَقْتُمْ فَمَا يَعْرِفُ أَحَدُكُمْ مَنْ أَبُوهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ اللَّهْوِ ، وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ أَسْكِنُوهُمْ رِيَاضَ الْمِسْكِ ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي ، وَثَنَائِي ، وَأَعْلِمُوهُمْ أَنْ لَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَقَالَ بَعْضُ الزُّهَّادِ : الْغِنَاءُ يُورِثُ الْعِنَادَ فِي قَوْمٍ ، وَيُورِثُ التَّكْذِيبَ فِي قَوْمٍ ، وَيُورِثُ الْفَسَادَ فِي قَوْمٍ ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى إبَاحَةِ الْغِنَاءِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ ، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَفَاءَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنْ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا ، وَهَذَا عِيدُنَا } ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ تَعْرِفَ أَوَّلًا : حَقِيقَةَ الْغِنَاءِ ، وَذَلِكَ أَنَّ لِلَفْظِ الْغِنَاءِ مَعْنَيَيْنِ : لُغَوِيٌّ ، وَعُرْفِيٌّ فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى اللُّغَوِيِّ فَقَوْلُهَا تُغَنِّيَانِ أَيْ تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَهُمَا بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ ، وَنَحْنُ لَا نَذُمُّ إنْشَادَ الشِّعْرِ ، وَلَا نُحَرِّمُهُ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الشِّعْرُ غِنَاءً مَذْمُومًا إذَا لُحِّنَ ، وَصُنِعَ صَنْعَةً تُورِثُ الطَّرَبَ ، وَتُزْعِجُ الْقَلْبَ ، وَهِيَ الشَّهْوَةُ الطَّبِيعِيَّةُ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ لَحَّنَ ، وَأَلَذَّ ، وَأَطْرَبَ ، فَالْمَمْنُوعُ ، وَالْمَكْرُوهُ إنَّمَا هُوَ اللَّذِيذُ الْمُطْرِبُ ، وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ صَوْتَهُمَا كَانَ لَذِيذًا مُطْرِبًا ، وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْمَسْأَلَةِ فَافْهَمْهُ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ فِي آخِرِهِ ، وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ فَنَفَتْ الْغِنَاءَ عَنْهُمَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ مَا نُقِلَ عَنْهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا إلَّا ذَمُّ الْغِنَاءِ وَالْمَعَازِفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَخِيهَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ يَذُمُّ الْغِنَاءَ ، وَقَدْ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْهَا ، وَتَأَدَّبَ بِهَا فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ قَدْ أُنْشِدَ الشِّعْرُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ ؟ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُنْكِرُ إنْشَادَ الشِّعْرِ ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ إذَا لُحِّنَ ، وَصُنِعَ صَنْعَةً تُورِثُ الطَّرَبَ ، وَتُزْعِجُ الْقَلْبَ ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ قَدْ

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا ، وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا ، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا ، وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا } فَالْجَوَابُ أَنَّ صَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ : قَوْلُهُ إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَذَهَبَ بِالْحَقِّ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا فَهِيَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ ، وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا فَيَتَكَلَّفُ الْعَالِمُ عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُ فَيَجْهَلُ ذَلِكَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا فَعَرْضُك حَدِيثَك عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ ، وَلَا يُرِيدُهُ .

( فَصْلٌ ) وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : نَحْنُ لَا نَسْمَعُ الْغِنَاءَ بِالطَّبْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ ، وَإِنَّمَا نَسْمَعُ بِحَقٍّ فَنَسْمَعُ بِاَللَّهِ ، وَفِي اللَّهِ ، وَلَا نَتَّصِفُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَمْزُوجَةٌ بِحُظُوظِ الْبَشَرِيَّةِ قُلْنَا : إنْ زَعَمْتَ أَنَّك فَارَقْتَ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ ، وَصِرْت مَطْبُوعًا عَلَى الْعَقْلِ وَالْبَصِيرَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَدْ كَذَبْت عَلَى طَبْعِك ، وَكَذَبْت عَلَى اللَّهِ فِي تَرْكِيبِك وَمَا وَصَفَك بِهِ مِنْ حُبِّ الشَّهَوَاتِ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ فَارَقَ إلْفَهُ وَادَّعَى الْعِصْمَةَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ مُجَاهِدًا لِنَفْسِك ، وَلَا مُخَالِفًا لِهَوَاك ، وَلَا يَكُونَ لَك ثَوَابٌ عَلَى تَرْكِ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ وَأَصْحَابُك تُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ ، وَالنَّهَارَ لَا تَفْتُرُونَ ، وَتَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تُبِيحَ سَمَاعَ الْعُودِ وَالطُّنْبُورِ وَسَائِرِ الْمَلَاهِي بِهَذَا الطَّبْعِ الَّذِي لَا يُشَارِكُك فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ ( فَصْلٌ ) فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّالِحِينَ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ قُلْنَا ؟ مَا بَلَغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ سَمِعَهُ ، وَلَا فَعَلَهُ ، وَهَذِهِ مُصَنَّفَاتُ أَئِمَّةِ الدِّينِ ، وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ مُصَنَّفِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، وَمُسْلِمٍ ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد ، وَكِتَابِ النَّسَائِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى غَيْرِهَا خَالِيَةً مِنْ دَعْوَاكُمْ ، وَهَذِهِ تَصَانِيفُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَدُورُ عَلَيْهِمْ الْفَتْوَى قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي شَرْقِ الْبِلَادِ وَغَرْبِهَا فَقَدْ صَنَّفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ تَصَانِيفَ لَا تُحْصَى ، وَكَذَلِكَ مُصَنَّفَاتُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكُلُّهَا

مَشْحُونَةٌ بِالذَّبِّ عَنْ الْغِنَاءِ ، وَتَفْسِيقِ أَهْلِهِ فَإِنْ كَانَ فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَدْ أَخْطَأَ ، وَلَا يَلْزَمُنَا الِاقْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ ، وَنَتْرُكُ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ ، وَمِنْ هَاهُنَا زَلَّ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ .
نَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِالْمُتَأَخِّرِينَ سِيَّمَا وَكُلُّ مَنْ يَرَى هَذَا الرَّأْيَ الْفَاسِدَ عَارٍ مِنْ الْفِقْهِ عَاطِلٌ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَعْرِفُ مَأْخَذَ الْأَحْكَامِ ، وَلَا يَفْصِلُ الْحَلَالَ مِنْ الْحَرَامِ ، وَلَا يَدْرُسُ الْعِلْمَ ، وَلَا يَصْحَبُ أَهْلَهُ ، وَلَا يَقْرَأُ مُصَنَّفَاتِهِ ، وَدَوَاوِينَهُ ، وَقَدْ قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ } ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا إلَّا حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ } فَمَنْ هَجَرَ أَهْلَ الْفِقْهِ ، وَالْحِكْمَةِ ، وَانْقَضَى عُمْرُهُ فِي مُخَالَطَةِ أَهْلِ اللَّهْوِ وَالْبَطَالَةِ كَيْفَ يُؤْمَنُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا ؟ ، { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } فَيَا مَنْ رَضِيَ لِدِينِهِ ، وَدُنْيَاهُ ، وَتَوَثَّقَ لِآخِرَتِهِ وَمَثْوَاهُ بِاخْتِيَارِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَفَتْوَاهُ إنْ كُنْت عَلَى مَذْهَبِهِ ، وَبِاخْتِيَارِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إنْ كُنْت تَرَى رَأْيَهُمْ كَيْفَ هَجَرْت اخْتِيَارَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَجَعَلْت إمَامَك فِيهَا شَهَوَاتِك وَبُلُوغَ أَوْطَارِك وَلَذَّاتِك { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ( فَصْلٌ ) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ قَالَ : رَأَيْت فِي الْمَنَامِ أَنَّ الْحَقَّ أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ : يَا أَحْمَدُ حَمَلْتَ وَصْفِي عَلَى لَيْلَى وَسُعْدَى لَوْلَا أَنِّي نَظَرْتُ إلَيْك فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ أَرَدْتنِي خَالِصًا لَعَذَّبْتُك قَالَ فَأَقَامَنِي مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الْخَوْفِ فَأَرْعَدْت ، وَفَزِعْت مَا شَاءَ اللَّهُ ،

ثُمَّ أَقَامَنِي مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الرِّضَا فَقُلْت يَا سَيِّدِي لَمْ أَجِدْ مَنْ يَحْمِلُنِي غَيْرَك فَطَرَحْت نَفْسِي عَلَيْك فَقَالَ : صَدَقْت مِنْ أَيْنَ تَجِدُ مَنْ يَحْمِلُك غَيْرِي ؟ وَأَمَرَ بِي إلَى الْجَنَّةِ ، وَقَالَ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : رَأَيْت إبْلِيسَ فِي النَّوْمِ فَقُلْت لَهُ : هَلْ تَظْفَرُ مِنْ أَصْحَابِنَا بِشَيْءٍ أَوْ تَنَالُ مِنْهُمْ نَصِيبًا ؟ فَقَالَ إنَّهُ لَيَعْسُرُ عَلَيَّ شَأْنُهُمْ ، وَيَعْظُمُ عَلَيَّ أَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ شَيْئًا إلَّا فِي وَقْتَيْنِ وَقْتِ السَّمَاعِ ، وَعِنْدَ النَّظَرِ فَإِنِّي أَنَالُ مِنْهُمْ فِتْنَةً ، وَأَدْخُلُ عَلَيْهِمْ بِهِ ، وَسُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيُّ عَنْ السَّمَاعِ ، وَكَانَ مِنْ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ فَقَالَ : لَيْتَنَا تَخَلَّصْنَا مِنْهُ رَأْسًا بِرَأْسٍ ، وَقَالَ الْجُنَيْدُ : إذَا رَأَيْتَ الْمُرِيدَ يُحِبُّ السَّمَاعَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِيهِ بَقِيَّةً مِنْ الْبِطَالَةِ ، وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ الْأَوْلَاسِيُّ ، وَكَانَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ : رَأَيْت إبْلِيسَ فِي الْمَنَامِ ، وَكَانَ عَلَى بَعْضِ سُطُوحِ أُولَاسَ ، وَعَنْ يَمِينه جَمَاعَةٌ ، وَعَنْ يَسَارِهِ جَمَاعَةٌ ، وَعَلَيْهِمْ ثِيَابٌ نَظِيفَةٌ فَقَالَ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ : قُومُوا ، وَغَنُّوا فَقَامُوا ، وَغَنَّوْا فَاسْتَفْزَعَنِي طِيبُهُ حَتَّى هَمَمْت أَنْ أَطْرَحَ نَفْسِي مِنْ السَّطْحِ ، ثُمَّ قَالَ : اُرْقُصُوا فَرَقَصُوا بِأَطْيَبِ مَا يَكُونُ ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا الْحَارِثِ مَا أُصِيبُ شَيْئًا أَدْخُلُ بِهِ عَلَيْكُمْ إلَّا هَذَا ، وَقَالَ الْجَرِيرِيُّ رَأَيْت الْجُنَيْدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّوْمِ فَقُلْت كَيْفَ حَالُك يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ : طَاحَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ ، وَبَادَتْ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ ، وَمَا نَفَعَنَا إلَّا تَسْبِيحَاتٌ كُنَّا نَقُولُهَا بِالْغَدَوَاتِ ، فَأَيْنَ هَذَا يَرْحَمُك اللَّهِ مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْعُلَمَاءَ فَقَالَ { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } .
(

فَصْلٌ ) وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَظِيمٌ مِنْ شُيُوخهمْ عَلَى إبَاحَةِ الْغِنَاءِ فَقَالَ : إنَّ الطِّفْلَ يَسْكُنُ إلَى الصَّوْتِ الطَّيِّبِ ، وَالْجَمَلَ يُقَاسِي تَعَبَ السَّيْرِ ، وَمَشَقَّةَ الْحُمُولِ إذَا سَمِعَ الْحِدَاءَ ، قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْعَجَمِ مَاتَ ، وَخَلَفَ ابْنًا صَغِيرًا فَأَرَادُوا أَنْ يُبَايِعُوهُ فَقَالُوا : كَيْفَ نَصِلُ إلَى عَقْلِهِ ، وَذَكَائِهِ ؟ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِقَوَّالٍ فَإِنْ أَحْسَنَ الْإِصْغَاءَ عَلِمُوا كِيَاسَتَهُ ، فَلَمَّا أَسْمَعُوهُ الْقَوَّالَ ضَحِكَ الرَّضِيعُ فَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَبَايَعُوهُ ، فَالْجَوَابُ اُنْظُرُوا يَا ذَوِي الْأَلْبَابِ كَيْفَ قَادَهُمْ رُكُوبُ الْهَوَى ، وَعِشْقُ الْبَاطِلِ ، وَقِلَّةُ الْحِيلَةِ إلَى هَذِهِ السَّخَافَةِ وَحَسْبُك مِنْ مَذْهَبٍ إمَامُهُمْ فِيهِ - الْأَنْعَامُ ، وَالصِّبْيَانُ فِي الْمَهْدِ ، وَهَكَذَا يَفْضَحُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ ، وَحَسْبُك مِنْ عُقُولٍ لَا تَقْتَدِي بِأَحْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ ، وَتَقْتَدِي بِالْإِبِلِ فَلَئِنْ كَانَ كُلُّ مَا طَرِبَتْ بِهِ الْبَهَائِمُ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا فَإِنَّا نَرَى الْبَهِيمَةَ تَدُورُ عَلَى أَمِّهَا ، وَأُخْتِهَا ، وَتَرْكَبُ بِنْتَهَا فَيَلْزَمُ الِاقْتِدَاءُ بِالْبَهِيمَةِ فِي مِثْلِ هَذَا

( فَصْلٌ ) فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ : فَالْجَوَابُ أَنَّ مَالِكًا قَالَ : وَلَا تُعْجِبُنِي الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ ، وَلَا أُحِبُّهُ فِي رَمَضَانَ ، وَلَا غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْغِنَاءَ ، وَيُضْحَكُ بِالْقُرْآنِ ، فَيُقَالُ : فُلَانٌ أَقْرَأُ مِنْ فُلَانٍ قَالَ : وَبَلَغَنِي أَنَّ الْجَوَارِيَ يُعَلَّمْنَ ذَلِكَ كَمَا يُعَلَّمْنَ الْغِنَاءَ أَيْنَ هَذَا مِنْ الْقِرَاءَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا ؟ ، قَالَ : وَلَا يُعْجِبُنِي النَّبْرُ ، وَالْهَمْزُ يَقُولُ لَا يُرَجَّعُ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَا يُقْطَعُ بِالْأَلْحَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِزِيَادَةِ هَمَزَاتٍ فِي الْقُرْآنِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْقُرْآنِ لَا تَجُوزُ ، وَقِيلَ لِمَالِكٍ : هَلْ يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِي الطُّرُقَاتِ ؟ قَالَ : لَا إلَّا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ ، وَأَمَّا الَّذِي يُدِيمُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ قِيلَ لَهُ فَالرَّجُلُ يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ أَيَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ مَاشِيًا ؟ فَقَالَ : أَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي السُّوقِ ، وَسُئِلَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ قَالَ : لَيْسَ مَوْضِعَ قِرَاءَةٍ ، وَإِنْ قَرَأَ الْإِنْسَانُ الْآيَةَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ قِيلَ لَهُ فَالرَّجُلُ يَخْرُجُ إلَى قَرْيَتِهِ فَيَقْرَأُ مَاشِيًا قَالَ : نَعَمْ قَالَ : سَحْنُونَ لَا بَأْسَ أَنْ يَقْرَأَ الرَّاكِبُ ، وَالْمُضْطَجِعُ ، وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ قَالَ : مَا أَجْوَدُ ذَلِكَ لِمَنْ أَطَاقَهُ قَالَ مَالِكٌ وَلَمْ تَكُنْ الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ قَالَ : وَأَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْمُصْحَفِ فِي الْمَسْجِدِ .
فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ } فَالْمَعْنَى مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ لِشَيْءٍ كَاسْتِمَاعِهِ لِنَبِيِّ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْغِنَاءِ رَفْعُ الصَّوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ فِي آخِرِ

الْخَبَرِ فَقَالَ : يُجْهَرُ بِهِ قَالَ : مُجَاهِدٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا ، وَحُقَّتْ } أَيْ سَمِعَتْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : لَا يَجُوزُ تَلْحِينُ الْقُرْآنِ ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ التَّحْبِيرُ وَالتَّحْزِينُ .
قَالَ : عِيسَى الْغِفَارِيُّ { : ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ فَقَالَ : بَيْعُ الْحُكْمِ ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالذِّمَمِ ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ ، وَأَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لَيْسَ بِأَقْرَئِهِمْ ، وَلَا بِأَفْضَلِهِمْ إلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ غِنَاءً } فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّحْزِينُ قَالَ شُعْبَةُ : نَهَانِي أَيُّوبُ أَنْ أَتَحَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَخَافَةَ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ { رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ فَقَالَ : لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْنَا لَحَكَيْتُ تِلْكَ الْقِرَاءَةِ } ، وَقَدْ رَجَعَ ، وَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } قَالَ : سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ يَعْنِي بِالْقُرْآنِ .
وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَالَ : مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَرَى أَحَدًا ( مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَغْنَى مِنْهُ ، وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا كُلَّهَا ، وَقَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأَى أَنَّ أَحَدًا أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيرًا أَوْ صَغَّرَ عَظِيمًا } ، وَقَالَ : ابْنُ مَسْعُودٍ : نِعْمَ كَنْزُ الصُّعْلُوكِ آلُ عِمْرَانَ يَقُومُ بِهَا مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّغَنِّيَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ دُونَ الصَّوْتِ قَوْلُ الْأَعْشَى : وَكُنْت امْرَأً زَمِنًا

بِالْعِرَاقِ عَفِيفَ الْمَنَامِ طَوِيلَ التَّغَنِّي قَالَ : أَبُو عُبَيْدٍ يُرِيدُ الِاسْتِغْنَاءَ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : تَغَنَّيْت تَغَنِّيًا ، وَتَغَانَيْت تَغَانِيًا بِمَعْنَى اسْتَغْنَيْت قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ يُعَاتِبُ أَخَاهُ : كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ ، وَنَحْنُ إذَا مِتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيًا ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ : مَرَرْت عَلَى عَجُوزٍ مِنْ الْعَرَبِ قَدْ اعْتَقَلَتْ شَاةً فِي بَيْتِهَا فَقُلْت لَهَا : مَا تُرِيدِينَ بِهَذِهِ الشَّاةِ قَالَتْ : نَتَغَنَّى بِهَا يَا هَذَا ، تُرِيدُ نَسْتَغْنِي ، وَقَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ : مَنْ تَلَذَّذَ بِأَلْحَانِ الْقُرْآنِ حُرِمَ فَهْمَ الْقُرْآنِ ، وَقَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَنْتُمْ أَقْرَأُ أَلْسِنَةً ، وَنَحْنُ أَقْرَأُ قُلُوبًا ، وَقَالَ : ابْنُ مَسْعُودٍ نَحْنُ قَوْمٌ ثَقُلَتْ عَلَيْنَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ، وَخَفَّ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ ، وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ، وَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِهِ ، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ : لَيَقْرَأَنَّ رِجَالٌ الْقُرْآنَ هُمْ أَحْسَنُ أَصْوَاتًا مِنْ الْمَعَازِفِ ، وَمِنْ حُدَاةِ الْإِبِلِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَقَدْ أَمْعَنَ ، وَأَجَادَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْجَلِيلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَبَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ ، وَأَحْسَنَهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ هُنَاكَ إذْ إنَّ هَذَا الْكِتَابِ يَضِيقُ عَمَّا أَتَى بِهِ ، وَمَا ذَكَرَ إنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّق لِلصَّوَابِ

( فَصْلٌ ) ، ثُمَّ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمِمَّا اُشْتُهِرَتْ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ ، وَالتَّنَافُسُ فِي أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ : فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ } قَالَ : أَبُو جُحَيْفَةَ أَكَلْت ثَرِيدًا بِلَحْمٍ سَمِينٍ فَتَجَشَّيْت عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { اُكْفُفْ عَنَّا جُشَاءَك فَإِنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا } ، وَرُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { جَاءَتْ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ ؟ قَالَتْ : قُرْصٌ خَبَزْتُهُ ، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُك بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ فَقَالَ : أَمَا إنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيك مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } ، وَقَالَ : يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ لَوْ أَنَّ الْجُوعَ يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ لَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِطُلَّابِ الْآخِرَةِ أَنْ يَشْتَرُوا غَيْرَهُ .
وَقَالَ : الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا شَبِعْت مُنْذُ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا إلَّا شُبْعَةً فَطَرَحْتهَا ؛ لِأَنَّ الشِّبَعَ يُثْقِلُ الْبَدَنَ ، وَيُقْسِي الْقَلْبَ ، وَيُزِيلُ الْفَطِنَةَ ، وَيَجْلِبُ النَّوْمَ ، وَيُضْعِفُ صَاحِبَهُ عَنْ الْعِبَادَةِ ، وَقَالَ : سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا خَلْقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الدُّنْيَا جَعَلَ فِي الشِّبَعِ الْقَسْوَةَ وَالْجَهْلَ ، وَجَعَلَ فِي الْجُوعِ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ ، وَقَالَ : بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ - - الْجُوعُ يُصَفِّي الْفُؤَادَ ، وَيُمِيتُ الْهَوَى ، وَيُوَرِّثُ الْعِلْمَ الدَّقِيقَ ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْجُوعُ لِلْمُرِيدِينَ رِيَاضَةٌ ، وَلِلتَّائِبِينَ تَجْرِبَةٌ ، وَلِلزُّهَّادِ سِيَاسَةٌ ، وَلِلْعَارِفِينَ مَكْرُمَةٌ ، وَسُئِلَ

الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ صِفَةِ الصُّوفِيَّةِ فَقَالَ : طَعَامُهُمْ طَعَامُ الْمَرْضَى ، وَنَوْمُهُمْ نَوْمُ الْغَرْقَى ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ زَاهِدٍ قَدْ أَفْسَدَتْ مَعِدَتَهُ أَلْوَانُ الْأَغْنِيَاءِ ، وَقَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنِّي جَائِعٌ فَقَالَ : كَذَبْت قَالَ : وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت ؟ قَالَ : لِأَنَّ الْجُوعَ فِي خَزَائِنِهِ الْوَثِيقَةِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا مَنْ يُفْشِي سِرَّهُ ، وَلَا يُعْطَاهُ مَنْ لَا يَشْكُرُهُ ، وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ اشْتَكَى إلَى شَيْخِهِ الْجُوعَ ، ثُمَّ ذَهَبَ فَرَأَى دِرْهَمًا مَطْرُوحًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ أَمَا كَانَ اللَّهُ عَالِمًا بِجُوعِك حَتَّى قُلْت إنِّي جَائِعٌ ، وَقَالَ : فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْصَانِي ثَلَاثُونَ شَيْخًا عِنْدَ فِرَاقِي لَهُمْ بِتَرْكِ عِشْرَةِ الْأَحْدَاثِ ، وَقِلَّةِ الْأَكْلِ ، وَيُرْوَى عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ابْنِ عَوْنٍ فِي الْحَبْسِ ، وَإِذَا عُمَّالُ بَنِي أُمَيَّةَ مُقَيَّدُونَ فِي الْحَدِيدِ فَحَضَرَ غَدَاؤُهُمْ فَجَعَلَ الْخَدَمُ يَنْقُلُونَ الْأَلْوَانَ فَقَالُوا هَلُمَّ يَا أَبَا يَحْيَى فَقَالَ : مَا أُحِبُّ أَنْ آكُلَ مِثْلَ هَذَا الطَّعَامِ ، وَأَنْ يُوضَعَ فِي رِجْلِي مِثْلُ هَذَا الْحَدِيدِ ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ : مَا أَخْرَجَكُمَا ؟ فَقَالَا : الْجُوعُ ، فَقَالَ : وَأَنَا ، وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجَنِي إلَّا الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا فَأَتَوْا بَيْتًا مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَإِذَا الرَّجُلُ غَائِبٌ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ : مَرْحَبًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيْنَ فُلَانٌ ؟ قَالَتْ خَرَجَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ ، وَإِذَا بِالرَّجُلِ ، وَعَلَيْهِ قِرْبَةُ مَاءٍ ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا أَجِدُ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي

فَأَتَاهُمْ بِعِذْقٍ مِنْ رُطَبٍ ، وَبُسْرٍ وَتَمْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا اجْتَنَيْته فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَخَيَّرُوا عَلَى أَعْيُنِكُمْ ، ثُمَّ أَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاكَ وَالْحَلُوبَ فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً فَأَكَلُوا ، وَشَرِبُوا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ ، وَفِي لَفْظٍ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ .
}

( فَصْلٌ ) وَيُقَالُ : إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تُضِيفُ إلَى مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ اسْتِحْضَارَ الْمُرْدِ فِي مَجَالِسِهِمْ ، وَالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ ، وَرُبَّمَا زَيَّنُوهُمْ بِالْحُلِيِّ ، وَالْمُصَبَّغَاتِ مِنْ الثِّيَابِ ، وَتَزْعُمَ أَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ بِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُوَ مِنْ رُؤَسَاءِ وَطَائِفَتِهِمْ قَوْلًا عَظِيمًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ ، وَكَشْفِ فَضَائِحِهِمْ : مَنْ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَبْدٌ أَهَانَهُ اللَّهِ ، وَخَذَلَهُ ، وَكَشَفَ عَوْرَتَهُ ، وَأَبْدَى سَوْأَتَهُ فِي الْعَاجِلِ ، وَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ سُوءُ الْمُنْقَلَبِ فِي الْآجِلِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا } خَبَّبَ أَيْ أَفْسَدَ ، وَخَدَعَ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْخِبِّ ، وَهُوَ الْخُدْعُ ، وَيُقَالُ : فُلَانٌ خِبٌّ هَبٌّ إذَا كَانَ فَاسِدًا مُفْسِدًا قَالَ الْوَاسِطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ : إذَا أَرَادَ اللَّهُ هَوَانَ عَبْدٍ أَلْقَاهُ إلَى هَؤُلَاءِ الْأَنْتَانِ الْجِيَفِ أَوَ لَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } ؟ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى ، وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ } ، وَقَالَ : بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : بَعْضُ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُحَدِّقَ الرَّجُلُ النَّظَرَ إلَى الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ الْجَمِيلِ الْوَجْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لِلشَّيْطَانِ مِنْ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ مَنَازِلَ فِي نَظَرِهِ وَقَلْبِهِ وَذَكَرِهِ ، وَقَالَ عَطَاءٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّ نَظْرَةٍ يَهْوَاهَا الْقَلْبُ لَا خَيْرَ فِيهَا ، وَقَالَ : سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا

عَبَثَ بِغُلَامٍ بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ يُرِيدُ الشَّهْوَةَ لَكَانَ لِوَاطًا ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُجَالِسُوا أَبْنَاءَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ النِّسَاءِ ، وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنْ الْعَذَارَى ، وَقَالَ : بَعْضُ التَّابِعِينَ مَا أَخَافُ عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ سَبُعٍ ضَارٍ كَخَوْفِي عَلَيْهِ مِنْ الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ يَقْعُدُ إلَيْهِ ، وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : اللُّوطِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَصْنَافٍ : صِنْفٍ يَنْظُرُونَ ، وَصِنْفٍ يُصَافِحُونَ ، وَصِنْفٍ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ ، وَرُوِيَ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ ، وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ : لَا تَجِئْنِي بِهِ مَرَّةً أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ ابْنُهُ ، وَهُمَا مَسْتُورَانِ فَقَالَ : عَلِمْت ، وَلَكِنْ عَلَى رَأْيِ أَشْيَاخِنَا ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبُ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَجَاءَهُ غُلَامٌ حَدَثٌ لِيَجْلِسَ إلَيْهِ فَأَجْلَسَهُ مِنْ خَلْفِهِ فَأَمَّا إتْيَانُ الذُّكُورِ فَهِيَ الْفَاحِشَةُ الْعُظْمَى ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ مُغَلَّظُ التَّحْرِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ } قَالَ مَالِكٌ : وَيُرْجَمُ الْفَاعِلُ ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ أُحْصِنَا أَوْ لَمْ يُحْصَنَا ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ كَالزِّنَا إنْ كَانَ بِكْرًا يُحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا يُرْجَمُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ غُلَامٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ، وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ ، وَالْمَفْعُولَ بِهِ } ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَجَمَهُمْ بِالْحِجَارَةِ قَالَ تَعَالَى { :

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } الْآيَةَ ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي رَجُلٍ كَانَ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ فَقَالَ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَى أَنْ يُحَرَّقَ فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : يُرْجَمُ اللُّوطِيُّ ، وَقَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : يُرْمَى مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ أَعْلَى مَا فِي الْبَلَدِ مُنَكَّسًا ، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يُهْدَمُ عَلَيْهِ الْبَيْتُ ، وَقَالَ : عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقْتَلُ .
وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ كَانَتْ فِيهِمْ عَشْرُ خِصَالٍ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا : كَانُوا يَتَغَوَّطُونَ فِي الطُّرُقَاتِ ، وَتَحْتَ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ ، وَفِي الْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ ، وَفِي شُطُوطِ الْأَنْهَارِ ، وَكَانُوا يَحْذِفُونَ النَّاسَ بِالْحَصْبَاءِ فَيُعْوِرُونَهُمْ ، وَإِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْمَجَالِسِ أَظْهَرُوا الْمُنْكَرَ ، وَإِخْرَاجُ الرِّيحِ مِنْهُمْ ، وَاللَّطْمُ عَلَى رِقَابِهِمْ ، وَكَانُوا يَرْفَعُونَ ثِيَابَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَغَوَّطُوا ، وَيَأْتُونَ بِالطَّامَّةِ الْكُبْرَى ، وَهِيَ اللِّوَاطُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنْكَرَ } ، وَالنَّادِي الْمَجَالِسُ وَالْمَحَافِلُ ، وَمَنْ ارْتَقَى فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ حَالَةِ الْفُسُوقِ ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ بَلَاءِ الزَّوَاجِ ، وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ فَهَذِهِ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ ، وَادِّعَاءُ الْعِصْمَةِ ، وَهُوَ الْكُفْرُ ، وَنَظِيرُ الشِّرْكِ فَاحْذَرْ مُجَالَسَتَهُمْ فَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ فَتْحُ بَابِ الْخِذْلَانِ ، وَإِدْخَالُ الْهِجْرَانِ بَيْنَك وَبَيْنَ الْحَقِّ ، ثُمَّ يُقَالُ : وَهَبْكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ قَدْ بَلَغْت رُتْبَةَ

الشُّهَدَاءِ أَلَيْسَ قَدْ شَغَلْت ذَلِكَ الْقَلْبَ بِمَخْلُوقٍ ، وَفِي الْحَدِيثِ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : حَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ سَكَنَهُ حُبُّ غَيْرِي أَنْ أُسْكِنَهُ حُبِّي } ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ فَنِهَايَةٌ فِي سِعَايَةِ الْهَوَى ، وَمُخَادَعَةِ الْعَقْلِ ، وَمُخَالَفَةِ الْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } قَالَ : ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْهَوَى شَرُّ إلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الِاعْتِبَارِ { : أَفَلَا يَنْظُرُونَ إلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } ، وَقَالَ تَعَالَى { : أَوَلَمْ يَرَوْا إلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّا الرَّحْمَنُ } ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { : إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ } الْآيَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى { : الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جَنُوبِهِمْ } الْآيَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } فَعَدَلُوا عَمَّا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ إلَى مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ بِقَوْلِهِ { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } الْآيَةَ

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الدُّفُّ ، وَالرَّقْصُ بِالرِّجْلِ ، وَكَشْفُ الرَّأْسِ ، وَتَخْرِيقُ الثِّيَابِ فَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ أَنَّهُ لَعِبٌ ، وَسُخْفٌ ، وَنَبْذٌ لِلْمُرُوءَةِ ، وَالْوَقَارِ ، وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ ، وَالصَّالِحُونَ رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ ، وَصَبْرٍ ، وَأَمَانَةٍ لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ ، وَلَا تُؤَبَّنُ فِيهِ الْحُرُمُ ، يَتَوَاصَوْنَ فِيهِ بِالتَّقْوَى مُتَوَاضِعِينَ يُوَقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ ، وَيَرْحَمُونَ فِيهِ الصَّغِيرَ ، وَيُؤْثِرُونَ ذَا الْحَاجَةِ ، وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ قَالَ : وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيِّنَ الْجَانِبِ سَهْلَ الْخُلُقِ دَائِمَ الْبِشْرِ لَيْسَ بِفَظٍّ ، وَلَا غَلِيظٍ ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا فَحَّاشٍ ، وَلَا عَيَّابٍ ، وَلَا مَزَّاحٍ يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ : الْمِرَاءِ ، وَالْإِكْثَارِ ، وَمَا لَا يَعْنِيهِ ، وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلَاثٍ : كَانَ لَا يَذُمُّ أَحَدًا ، وَلَا يُعَيِّرُهُ ، وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ فَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لَا يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ ، وَمَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ يَعْنِي يَسْكُتُونَ ، وَيَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ ، وَالطَّيْرُ لَا يَسْقُطُ إلَّا عَلَى سَاكِنٍ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي السَّمَاعِ وَالرَّقْصِ شَيْءٌ يُذَمُّ إلَّا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى فَجَعَلُوا يُغَنُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَيُصَفِّقُونَ ، وَيَرْقُصُونَ فَبَقِيَ حَالُهُمْ كَذَلِكَ إلَى أَنْ جَاءَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَوَقَعَ مِنْ قِصَّتِهِمْ مَا قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَهُمْ أَصْلٌ لِمَا ذُكِرَ ، وَمَا كَانَ هَذَا أَصْلُهُ

فَيَنْبَغِي بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهُ ، وَيُوَلِّي الظَّهْرَ عَنْهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَغْيِيرِهِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ : النِّسَاءُ ، وَالطِّيبُ ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } قَالَ : الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ قُرَّةَ أَعْيُنِهِمْ فِي الْغِنَاءِ ، وَاللَّهْوِ ، وَالنَّظَرِ فِي وُجُوهِ الْمُرْدِ .
( فَصْلٌ ) وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا تَمْزِيقُ الثِّيَابِ فَهُوَ يَجْمَعُ إلَى مَا فِيهِ مِنْ السَّخَافَةِ - إفْسَادَ الْمَالِ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ } ، وَقَالَ : عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ : هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا فَقَالُوا : إنَّهَا مَيِّتَةٌ قَالَ : إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَيُحْجَرُ عَلَى السُّفَهَاءِ ، وَهُمْ الْمُبَذِّرُونَ لِأَمْوَالِهِمْ ، وَمَا فِي السَّفَهِ أَعْظَمُ مِنْ تَمْزِيقِ الثِّيَابِ ، وَقَالَ : أَنَسٌ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً ، وَاحِدَةٌ مِنْهَا مِنْ أَدِيمٍ أَحْمَرَ ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِهِ فَقَالَ : إنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ مَنْ أَصْلَحَ مَالَهُ فَقَدْ صَانَ الْأَكْرَمَيْنِ دِينَهُ ، وَعِرْضَهُ ، وَتَمْزِيقُ الثِّيَابِ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى لَإِبْلِيسَ { : وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } ، وَإِذَا كَانَ الْكَسْبُ خَبِيثًا كَانَ مَآلُهُ إلَى مِثْلِهِ انْتَهَى كَلَامُ الطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

( فَصْلٌ ) وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } فَقَالَ : الْغِنَاءُ ، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ هُوَ الْغِنَاءُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَمَكْحُولٌ ، وَرَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ عَنْ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : وَالْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ ، وَزَادَ أَنَّ لَهْوَ الْحَدِيثِ الْمَعَازِفُ وَالْغِنَاءُ .
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغِنَاءُ بَاطِلٌ ، وَالْبَاطِلُ فِي النَّارِ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَأَلْت عَنْهُ مَالِكًا فَقَالَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } أَفَحَقٌّ هُوَ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ فَاجِرَانِ أَنْهَى عَنْهُمَا : صَوْتُ مِزْمَارٍ ، وَرَنَّةُ شَيْطَانٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ وَفَرَحٍ ، وَرَنَّةٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ لَطْمُ خُدُودٍ ، وَشَقُّ جُيُوبٍ } .
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُعِثْت بِكَسْرِ الْمَزَامِيرِ } خَرَّجَهُ أَبُو طَالِبٍ الْغَيْلَانِيُّ .
وَخَرَّجَ ابْنُ بَشْرَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : بُعِثْت بِهَدْمِ الْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ } ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ جَلَسَ إلَى قَيْنَةٍ يَسْمَعُ مِنْهَا صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ

أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ اسْتَمَعَ إلَى صَوْتِ غِنَاءٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الرُّوحَانِيِّينَ فَقِيلَ : وَمَا الرُّوحَانِيُّونَ ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : قُرَّاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ } خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ .
، وَمِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِ } ؛ وَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَغَيْرِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ بِتَحْرِيمِ الْغِنَاءِ ، وَهُوَ الْغِنَاءُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْمُشْتَهِرِينَ بِهِ الَّذِي يُحَرِّكُ النُّفُوسَ ، وَيَبْعَثُهَا عَلَى الْهَوَى وَالْغَزَلِ وَالْمُجُونِ الَّذِي يُحَرِّكُ السَّاكِنَ ، وَيَبْعَثُ الْكَامِنَ ، فَهَذَا النَّوْعُ إذَا كَانَ فِي شِعْرٍ يُشَبَّبُ فِيهِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ ، وَوَصْفِ مَحَاسِنِهِنَّ ، وَذِكْرِ الْخُمُورِ ، وَالْمُحَرَّمَاتِ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ ؛ لِأَنَّهُ اللَّهْوُ ، وَالْغِنَاءُ الْمَذْمُومُ بِاتِّفَاقٍ فَأَمَّا مَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَرَحِ كَالْعُرْسِ وَالْعِيدِ ، وَعِنْدَ النَّشَاطِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ كَمَا كَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ .
فَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ الصُّوفِيَّةُ الْيَوْمَ مِنْ الْإِدْمَانِ عَلَى سَمَاعِ الْأَغَانِي بِالْآلَاتِ الْمُطْرِبَةِ مِنْ الشَّبَّابَةِ وَالطَّارِ وَالْمَعَازِفِ وَالْأَوْتَارِ فَحَرَامٌ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : فَأَمَّا طَبْلُ الْحَرْبِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ النُّفُوسَ ، وَيُرْهِبُ الْعَدُوَّ .
، وَذَكَرَ أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ قَالَ : أَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْغِنَاءِ وَعَنْ اسْتِمَاعِهِ ، وَقَالَ : إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَوَجَدَهَا مُغَنِّيَةً كَانَ لَهُ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
قَالَ النَّحَّاسُ : وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ

الْأَمْصَارِ عَلَى كَرَاهَةِ الْغِنَاءِ ، وَالْمَنْعِ مِنْهُ .
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ ، وَقَدْ قَالَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُغَنِّي وَالرَّقَّاصِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَجُوزُ فَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ ادَّعَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ ، ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا } قَالَ : اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَمِّ الرَّقْصِ وَتَعَاطِيهِ .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ : قَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الرَّقْصِ فَقَالَ { : وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا } ، وَذَمُّ الْمُخْتَالِ وَالرَّاقِصِ أَشَدُّ ، وَالْمَرَحُ الْفَرَحُ أَوَلَسْنَا قِسْنَا النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الطَّرَبِ وَالسُّكْرِ فَمَا بَالُنَا لَا نَقِيسُ الْقَضِيبَ وَتَلْحِينَ الشِّعْرِ مَعَهُ عَلَى الطُّنْبُورِ وَالطَّبْلِ لِاجْتِمَاعِهِمَا ؟ ، فَمَا أَقْبَحُ ذَا لِحْيَةٍ سِيَّمَا إذَا كَانَ ذَا شَيْبَةٍ يَرْقُصُ وَيُصَفِّقُ عَلَى تَوْقِيعِ الْأَلْحَانِ وَالْقُضْبَانِ خُصُوصًا إذَا كَانَتْ أَصْوَاتَ نِسْوَانٍ وَوِلْدَانٍ ، وَهَلْ يَحْسُنُ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَوْتُ وَالسُّؤَالُ وَالْحَشْرُ وَالصِّرَاطُ ، ثُمَّ مَآلُهُ إلَى إحْدَى الدَّارَيْنِ يَشْمُسُ بِالرَّقْصِ شُمُوسَ الْبَهَائِمِ ، وَيُصَفِّقُ تَصْفِيقَ النِّسْوَةِ ؟ وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْت مَشَايِخَ فِي عُمْرِي مَا بَانَ لَهُمْ سِنٌّ مِنْ التَّبَسُّمِ فَضْلًا عَنْ الضِّحْكِ مَعَ إدْمَانِ مُخَالَطَتِي لَهُمْ .
، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ : وَلَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَنْ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ : حَمَاقَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِاللَّعِبِ ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِك } قَالَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَزَامِيرِ ، وَالْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ لِقَوْلِهِ

تَعَالَى { ، وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْت مِنْهُمْ بِصَوْتِك } عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ ، وَمَا كَانَ مِنْ صَوْتِ الشَّيْطَانِ أَوْ فِعْلِهِ ، وَمَا يَسْتَحْسِنُهُ فَوَاجِبٌ التَّنَزُّهُ عَنْهُ .
( فَصْلٌ ) وَقَدْ حُكِيَ عَنْ إمَامِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ لِحُضُورِ السَّمَاعِ فَأَبَى ، ثُمَّ سُئِلَ فَأَبَى فَقِيلَ : لَهُ أَلَسْت كُنْت تَحْضُرُهُ قَالَ : مَعَ مَنْ ، وَمِمَّنْ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَكَابِرِ أَنَّهُ سُئِلَ لِحُضُورِ السَّمَاعِ فَأَبَى فَقِيلَ : لَهُ أَتُنْكِرُ السَّمَاعَ قَالَ : وَمِثْلِي يُنْكِرُهُ ، وَقَدْ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ، وَمِنْكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الطَّيَّارُ ، وَإِنَّمَا أُنْكِرُ مَا أُحْدِثَ فِيهِ .
وَهَذَا كَمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْغِنَاءَ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ فَحَضَرَهُ هَذَا السَّيِّدُ لَمَّا أَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ حَدَثَ فِيهِ مَا حَدَثَ تَرَكَهُ ، وَهَذَا أَيْضًا مُوَافِقٌ لِكَلَامِ الْجُنَيْدِ فِي قَوْلِهِ مَعَ مَنْ ، وَمِمَّنْ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَوَّالَ هُوَ شَيْخُ الْجَمَاعَةِ الَّذِي مِنْهُ يَسْتَمِدُّونَ ، وَبِهِ يَقْتَدُونَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بَعِيدَةٌ مِنْ سَمَاعِ هَذَا الزَّمَانِ لِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ لِبَعْضِهِ ، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ حُضُورِ النِّسَاءِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُشْرِفَةِ عَلَيْهِ مِنْ سَطْحٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَسَمَاعِهِنَّ الْأَشْعَارَ الْمُهَيِّجَةَ لِلْفِتْنَةِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْمَلْذُوذَاتِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ عَلَيْهِنَّ سَاكِنًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْغِنَاءَ رُقْيَةُ الزِّنَا ، وَهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ ، سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ طَرِيقٌ إلَى التَّوَصُّلِ إلَى الرِّجَالِ أَوْ الرِّجَالِ إلَيْهِنَّ فَأَعْظَمُ فِتْنَةً وَبَلِيَّةً سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُغَنِّي شَابًّا حَسَنَ الصُّورَةِ وَالصَّوْتِ ، وَيَسْلُكُ مَسْلَكَ

الْمُغَنِّيَاتِ فِي تَكْسِيرِهِمْ ، وَسُوءِ تَقَلُّبَاتِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْمَذْمُومَةِ مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الزِّينَةِ بِلِبَاسِ الْحَرِيرِ وَالرَّفِيعِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَبَعْضُهُمْ يُبَالِغُ فِي أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ فَيَتَقَلَّدُ بِالْعَنْبَرِ بَيْنَ ثِيَابِهِ لِتُشَمَّ رَائِحَتُهُ مِنْهُ ، وَيَجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فُوطَةً مِنْ حَرِيرٍ لَهَا حَوَاشٍ عَرِيضَةٌ مُلَوَّنَةٌ يُصَفِّفُهَا عَلَى جَبْهَتِهِ ، وَلَهُمْ فِي اسْتِجْلَابِ الْفِتَنِ بِمِثْلِ هَذَا أُمُورٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ هَذَا الْمِسْكِينِ الَّذِي عَمِلَ السَّمَاعَ لَهُمْ ، وَجَمَعَهُمْ لَهُ كَيْفَ يَطِيبُ خَاطِرُهُ أَوْ يَسْكُنُ بَاطِنُهُ بِرُؤْيَةِ أَهْلِهِ لِمَا ذُكِرَ إذْ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ عِنْدَ سَمَاعِهَا أَوْ رُؤْيَتِهَا فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أَيْنَ غِيرَةُ الْإِسْلَامِ أَيْنَ نَجْدَةُ الرِّجَالِ السَّادَةِ الْكِرَامِ ؟ أَيْنَ الْهِمَمُ الْعَالِيَةُ الْعَفِيفَةُ عَنْ الْحَرَامِ ؟ أَيْنَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الْأَعْلَامِ ؟ فَتَحَصَّلَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ السَّمَاعَ مِنْ الرِّجَالِ ، وَالشُّبَّانِ ، وَمَنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ سَمِعَهُمْ اُفْتُتِنَ ، وَقَلَّ أَنْ يَرْضَى بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْحَلَالِ غَالِبًا فَتَتَشَوَّفُ نُفُوسُهُمْ إلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَصِلُ إلَى غَرَضِهِ الْخَسِيسِ ، وَهِيَ الْبَلِيَّةُ الْعُظْمَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَوَائِقِ الْمَانِعَةِ لَهُ فَيَكُونُ آثِمًا فِي قَصْدِهِ .
وَلَوْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ لَرُجِيَتْ لَهُمْ التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَالْإِقَالَةُ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ ، لَكِنَّ الْبَلِيَّةَ الْعُظْمَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِذَلِكَ ، وَيَعْتَقِدُونَ بِهِ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سِيَّمَا إنْ عَمِلُوهُ بِسَبَبِ الْمَوْلِدِ فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْفِتْنَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فِي أَكْبَرِ الطَّاعَاتِ ، وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الدِّينِ ، وَتُعْطِي هَذِهِ

الْقَاعِدَةُ الَّتِي انْتَحَلُوهَا أَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالشَّعَائِرِ مِنْ سَلَفِهِمْ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْمِحَنِ ، وَالْفِتَنِ ، وَمِنْ الِابْتِدَاعِ ، وَتَرْكِ الِاتِّبَاعِ - ، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِتْنَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ ، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَالرِّيَاءِ ، وَالسُّمْعَةِ لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ : تَصَدَّقْ بِبَعْضِ مَا تُنْفِقُهُ فِيهِ عَلَى الْمُضْطَرِّينَ الْمُحْتَاجِينَ سَرَى الشُّحُّ بِذَلِكَ وَبَخِلَ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِوُجُوهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : خُبْثُ الْكَسْبِ غَالِبًا ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ وَجْهٍ خَبِيثٍ لَا يَخْرُجُ إلَّا فِي وَجْهٍ خَبِيثٍ مِثْلِهِ بِذَلِكَ جَرَتْ الْحِكْمَةُ .
الثَّانِي : إيثَارُ الشَّهَوَاتِ ، وَالْمَلَذَّاتِ .
الثَّالِثُ : الرِّيَاءُ ، وَالسُّمْعَةُ .
الرَّابِعُ : مَحَبَّةُ الثَّنَاءِ ، وَالْمَحْمَدَةِ ، وَالْقِيلِ وَالْقَالِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْخَامِسُ : مَحَبَّةُ النُّفُوسِ فِي الظُّهُورِ عَلَى الْأَقْرَانِ .
السَّادِسَةُ : أَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ خَالِصَةٌ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا ذُو حَزْمٍ ، وَمُرُوءَةٍ ، وَإِخْلَاصٍ ، فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ تَمَسَّكَ بِنُورِ الشَّرِيعَةِ ، وَسَلَكَ مِنْهَاجَهَا ، وَشَدَّ يَدَهُ عَلَيْهَا ، وَتَرَكَ كُلَّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ ، وَعَمِلَ عَلَى خَلَاصِ مُهْجَتِهِ ، وَأَهْلِهِ ، وَوَلَدِهِ ، وَلَا خَلَاصَ إلَّا بِالِاتِّبَاعِ ، وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ - سَلَكَ اللَّهُ بِنَا الطَّرِيقَ الْأَرْشَدَ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - بِمُحَمَّدٍ ، وَآلِهِ ( فَصْلٌ ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَبْقَ إلَّا فِي قِسْمَيْنِ : وَهُمَا الْوُجُوبُ ، وَالنَّدْبُ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ فَمَا بَالُك بِالْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ الْمُتَوَجِّه إلَى رَبِّهِ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا ، وَشَهَوَاتِهَا ، وَمَلْذُوذَاتِهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَوْجَبُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالسَّمَاعُ إذَا سَلِمَ

مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْجُنَيْدِ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ : لَا يَصِيرُ السَّمَاعُ مُبَاحًا إلَّا بِعَشْرَةِ شُرُوطٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا ، وَالْفَقِيرُ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ أَنْ يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ ، وَيَتَّقِيَ مَوَاضِعَ الرَّيْبِ ، وَيَسُدَّ عَنْ نَفْسِهِ أَبْوَابَ الْمَفَاسِدِ كُلَّهَا فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَصَلَاحُهُ يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ ، وَفَسَادُهُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ مُهْجَتَهُ ، وَمُهْجَةَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالنُّهُوضِ إلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْدَبُ إلَيْهِ ، وَيَتْرُكُ مَا عَدَا ذَلِكَ ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ

( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصُونَ حُرْمَةَ الْخِرْقَةِ الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا بِتَرْكِ الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَمُخَالَطَتِهِمْ ، وَالتَّعَرُّفِ بِهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ فَفِي حَقِّ الْفَقِيرِ أَوْلَى وَأَحْرَى ؛ إذْ إنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى طَرِيقِ الْآخِرَةِ ، وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَأَهْلَهَا ، فَوُقُوفُهُ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ نَقِيضُ طَرِيقِهِ وَمَقْصِدِهِ ، بَلْ يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَعْنِي أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فِي خَلْوَتِهِ ، وَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ فَإِنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَمْ يُكْثِرْهُمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا : إذَا رَأَيْت الْأَمِيرَ عَلَى بَابِ الْفَقِيرِ فَاتَّهِمْ الْفَقِيرَ ؛ لِأَنَّهُ مَا جَاءَ إلَّا لِنِسْبَةٍ حَصَلَتْ فِي الْفَقِيرِ مِنْ أَجْلِ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ الْأَمِيرُ لِحُصُولِ الْجِنْسِيَّةِ أَوْ كَمَا قَالُوا ، وَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ لَا يَشْعُرُ بِمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ .
حَتَّى لَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَمُرُّ لَهُ خَاطِرٌ فِي الدُّنْيَا ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ الْتِفَاتٌ إلَيْهَا ، وَإِذَا بِجُنْدِيٍّ يَدُقُّ الْبَابَ فَدَخَلَ إلَيْهِ ، وَجَلَسَ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ فِي الدُّنْيَا فَرَجَعَ الشَّيْخُ إلَى نَفْسِهِ ، وَقَالَ هَذِهِ عُقُوبَةٌ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ أَتَيْت ، وَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْخَاطِرَ الَّذِي مَرَّ بِهِ فَتَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَقْلَعَ عَنْهُ ، وَإِذَا بِالْجُنْدِيِّ قَدْ قَامَ وَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ .
فَهَذِهِ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَسِيرَتُهُمْ الْحَسَنَةُ ، وَهُمْ قُدْوَةٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَتَمَسَّكُ بِطَرِيقِهِمْ - أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يُخَالِفَ بِنَا عَنْ حَالِهِمْ - وَمَعَ هَذَا فَلَا نُنْكِرُ الِاجْتِمَاعَ بِهِمْ أَعْنِي إذَا جَاءُوا إلَى الْفَقِيرِ رَاغِبِينَ فَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِحُسْنِ الْبَشَاشَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ ،

وَالْأَخْذِ مَعَ الْمُضْطَرِّينَ ، وَالْمَسَاكِينِ فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ احْتِيَاجَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِلْمُرِيدِ ، وَخَطَرَهُ أَعْظَمُ مِنْ احْتِيَاجِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ ، وَالْمَسَاكِينِ إلَى الْمُرِيدِ الْمُنْقَطِعِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ الْمِسْكِينَ أَقْرَبُ إلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؛ إذْ هُوَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ ، وَالْمَسْكَنَةُ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ بِخِلَافِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ الشُّرُودُ عَنْ بَابِ رَبِّهِمْ لِأَجْلِ تَعَلُّقِهِمْ بِمَنْ هُوَ فَوْقَهُمْ أَوْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدَ إذَا أَتَوْا إلَيْهِ أَنْ يُبَاسِطَهُمْ لِكَيْ يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى مَوْعِظَتِهِمْ وَسِيَاسَةِ أَخْلَاقِهِمْ لِيَسْرِقَ طِبَاعَهُمْ بِالرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ قَاصِدًا بِذَلِكَ وُقُوفَهُمْ بِبَابِ رَبِّهِمْ ، وَإِرْشَادَهُمْ إلَيْهِ لَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ ؛ لِأَنَّ نَجَاةَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ ، فَإِذَا خَلَّصَ وَاحِدًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْجِهَادِ ، وَفِي الْجِهَادِ مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا فِيهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَغْتَنِمَ مَا سِيقَ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ ، وَيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى مَقَامِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ تَدْنِيسِهِ بِالتَّشَوُّفِ إلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ التَّعَزُّزِ بِعِزِّهِمْ الْفَانِي أَوْ الرُّكُونِ إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الزَّائِلَةِ فَإِذَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُنَافِي قَضَاءَ حَوَائِجِ الْمُضْطَرِّينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَيْدِيهِمْ ؛ لِأَنَّ لَهُ بِذَلِكَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ سَاقَ إلَيْهِمْ خَيْرًا عَظِيمًا ، وَمَعْرُوفًا جَسِيمًا لَكِنْ بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ يُرِيهِمْ أَنَّ الْحَظَّ وَالْمَنْفَعَةَ وَالْحَاجَةَ الْكُبْرَى لَهُمْ فِي اسْتِقْضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَنْ يُحَقِّقَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَاجَاتِ إلَيْهِمْ ،

وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ فَكَيْفَ مَعَ اطِّلَاعِهِ وَاطِّلَاعِهِمْ ، وَهَذَا بَابٌ كَبِيرٌ مُتَّسِعٌ فَيَكْفِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفُقَرَاءُ السَّالِكُونَ مِمَّنْ مَضَى مِنْهُمْ - نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ - قَدْ انْقَسَمُوا فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَإِنْ وَقَعَ لِأَحَدِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اسْتَعْمَلَ التَّحَيُّلَ فِي التَّخَلُّصِ مِنْهُ .
كَمَا حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ هَرَبَ مِنْهُ إلَى الْبِلَادِ ، وَسَافَرَ إلَى مَوَاضِعَ لَا يُعْرَفُ فِيهَا فَبَقِيَ الْخَلِيفَةُ يَسْأَلُ عَنْهُ ، وَيَبْحَثُ عَنْ أَمْرِهِ إلَى أَنْ اجْتَمَعَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يَعْرِفُهُ فَتَكَلَّمَ مَعَهُ فِي أَنَّ اجْتِمَاعَهُ بِالْخَلِيفَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ جَوَابُهُ أَنْ قَالَ : يُصْلِحُ مَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَتَيْته ، وَجَلَسْت مَعَهُ ، وَعَلَّمْته مَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَظْهَرَ التَّوَلُّهَ حِينَ إتْيَانِ السُّلْطَانِ إلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَ عَلَى بَابِهِ أَحْمَالًا مِنْ الْخُبْزِ فَوَضَعَهَا ، وَجَلَسَ هُنَاكَ فَلَمَّا أَنْ رَأَى السُّلْطَانَ مُقْبِلًا أَخَذَ رَغِيفًا ، وَجَعَلَ يَعَضُّ فِيهِ ، وَيَأْكُلُ بِنَهِمَةٍ فَجَاءَ السُّلْطَانُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ : هُوَ ذَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ فَكَلَّمَهُ فَأَبَى عَنْ جَوَابِهِ فَسَأَلَهُ لِمَ لَا تَرُدُّ عَلَيَّ الْجَوَابَ فَقَالَ أَخَافُ أَنْ تَشْغَلَنِي عَنْ أَكْلِي أَوْ أَنْ تَأْكُلَ مَعِي فَيَذْهَبَ هَذَا الْخُبْزُ ، وَأَنَا لَا أَشْبَعُ أَوْ كَمَا قَالَ فَرَجَعَ السُّلْطَانُ عَنْهُ ، وَهَذَا بَابُ السَّلَامَةِ ، وَلَا يُعْدَلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْءٌ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ بِهِمْ إذَا أَتَوْا إلَيْهِمْ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : الْإِتْيَانُ إلَيْهِمْ ، وَفِيهِ خَطَرٌ مِنْ أَجْلِ

مُخَالَطَتِهِمْ وَالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِهِمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ أَحَدُهُمَا حَسَنٌ ، وَهُوَ قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالتَّفْرِيجُ عَنْهُمْ وَالثَّانِي ضِدُّهُ ، وَهُوَ إهَانَةُ خِرْقَةِ الْفَقِيرِ بِالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ لَا يَنْبَغِي ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : مَا أَقْبَحَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الْعَالِمِ فَيُقَالُ : هُوَ بِبَابِ الْأَمِيرِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقُبْحُ فِي حَقِّ الْعَالِمِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي الْمُرِيدِ الَّذِي خَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ يَطْلُبُهَا ، وَتَوَجَّهَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالِانْقِطَاعِ إلَيْهِ ؟ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ إلَّا أَنَّا مَأْمُورُونَ بِالتَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ ، وَالْوُقُوفُ بِبَابِهِمْ يُنَافِي ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَخْتَارُ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ لَا يَقِفُ بِبَابِهِمْ ، وَلَا يَنْفِرُ مِنْهُمْ ، بَلْ يَسْتَقْضِي حَوَائِجَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْهُمْ إذَا أَتَوْا إلَيْهِ ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُرْسِلُ إلَيْهِ أَصْلًا ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ ضَرُورَةٌ ، وَأَتَى إلَيْهِ يُحِيلُهُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالتَّوْبَةِ مِمَّا جَنَى ، وَأَمَّا الْإِرْسَالُ إلَيْهِمْ فَكَانَ لَا يُرْسِلُ لِمَنْ يَعْرِفُ ، وَلَا لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَمَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ مِنْهُمْ إذَا جَاءَ ذِكْرٌ لَهُ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَأَزَالَهَا ، وَهَذَا الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ هُوَ حَالُ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَعْنِي الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ هَذَا حَالُهُ مَعَ زِيَارَةِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الدُّنْيَا .

وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ يَأْتِي إلَى زِيَارَةِ الْمُرِيدِ يَنْقَسِمُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ - إتْيَانُ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لَهُ .
وَالثَّانِي - زِيَارَةُ الْمُرِيدِينَ وَالصُّلَحَاءِ .
وَالثَّالِثُ - زِيَارَةُ مَنْ شَارَكَهُ فِي الْخِرْقَةِ مِنْ جِهَةِ شَيْخِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعَالِمِ الَّذِي اهْتَدَى بِهَدْيِهِ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْقَى مَنْ أَتَاهُ بِرَحَبٍ ، وَسَعَةِ صَدْرٍ ، وَأَنْ يُكْثِرَ التَّوَاضُعَ لَهُمْ ، وَيَرَى الْفَضْلَ لَهُمْ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلُوهُ ، وَيَرَى نَفْسَهُ أَنَّهَا مُقَصِّرَةٌ فِي حَقِّهِمْ إذْ إنَّهُ قَعَدَ عَنْ زِيَارَتِهِمْ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى زِيَارَتِهِ فَيُعَوِّضُ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَثْرَةَ الْأُنْسِ ، وَإِظْهَارَ الْوُدِّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ بَاطِنًا كَمَا فَعَلَهُ ظَاهِرًا ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْأَدَبِ مَعَهُمْ بِتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ ، وَاحْتِرَامِهِ ، وَاللُّطْفِ بِصَغِيرِهِمْ فِي إرْشَادِهِ ، وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ وَتَهْيِئِ أَمْرِهِ لِلسُّلُوكِ وَالتَّرَقِّي ، وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُخْرِجَ عَنْهُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إلَّا عَنْ أَكْلٍ فَلْيَفْعَلْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَنْصَرِفُونَ إلَّا عَنْ ذَوَاقٍ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إلَّا بِتَكَلُّفٍ مِثْلِ أَخْذِ دَيْنٍ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فَالتَّرْكُ أَوْلَى بِهِ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَهُ أَضْيَافٌ فَقَدَّمَ لَهُمْ خُبْزًا وَمِلْحًا ، وَقَالَ : لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ لَتَكَلَّفْت لَكُمْ لَكِنْ يُعَوِّضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إمْدَادُهُمْ فِي بَوَاطِنِهِمْ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِمْدَادِ فَيَدْعُو لَهُمْ بِظَاهِرِ الْغَيْبِ ، وَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ - وَهُوَ الْغَالِبُ - مَنْ هُوَ أَرْفَعُ مِنْهُ قَدْرًا ، وَأَعْظَمُ شَأْنًا فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ إذْ ذَاكَ يَعُودُ عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ { الْمَرْءَ إذَا دَعَا لِأَخِيهِ فِي ظَاهِرِ الْغَيْبِ فَإِنَّ

الْمَلَكَ يَقُولُ لَهُ : وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ } أَوْ كَمَا وَرَدَ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كُلُّ حَاجَةٍ أَحْتَاجُهَا ، وَأُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ بِهَا لِنَفْسِي أَدْعُو بِهَا لِأَخِي فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ لِأَنِّي إذَا دَعَوْت لِنَفْسِي كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمَلًا لِلْقَبُولِ أَوْ ضِدِّهِ ، وَإِذَا دَعَوْت لِأَخِي فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ فَالْمَلَكُ يَقُولُ : وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ ، وَدُعَاءُ الْمَلَكِ مُسْتَجَابٌ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَى زِيَارَةِ أَخِيهِ فَقَالَ لَهُ الْمَزُورُ : يَا أَخِي أَمَا كَانَ لَك شُغْلٌ بِاَللَّهِ عَنْ زِيَارَتِي فَقَالَ لَهُ الزَّائِرُ شُغْلِي بِاَللَّهِ أَخْرَجَنِي إلَى زِيَارَتِك .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ إذَا سَأَلَهُ أَحَدٌ مِنْ إخْوَانِهِ فِي حَاجَةٍ يَبْكِي ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ بُكَائِهِ فَقَالَ : أَبْكِي لِغَفْلَتِي عَنْ حَاجَةِ أَخِي حَتَّى احْتَاجَ أَنْ يُبْدِيَهَا لِي ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ هُوَ جَارٍ عَلَى جَادَّةِ غَالِبِ حَالِ النَّاسِ ، وَبَعْضُ الْأَكَابِرِ يُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ فِي الْإِيثَارِ أَكْثَرُ وَأَعَمُّ ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ اقْتِدَاءٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
كَمَا حَكَى لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ الْفَقِيهَ الْإِمَامَ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ جَاءَ إلَى زِيَارَةِ الْفَقِيهِ الْإِمَامِ الْمُحَدِّثِ الْمَعْرُوفِ بِالظَّهِيرِ التَّزْمَنْتِيِّ ، وَكَانَ إذْ ذَاكَ مُنْبَسِطًا مَعَ مَنْ حَضَرَهُ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِمَجِيءِ الْفَقِيهِ ابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ إلَى زِيَارَتِهِ انْقَبَضَ عَنْ ذَلِكَ ، وَزَالَ بَسْطُهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُنْقَبِضٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا ، وَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ لَهُ إلَّا جَوَابًا فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَسْطِ مَعَ مَنْ حَضَرَهُ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ : اسْتَصْغَرْت نَفْسِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا السَّيِّدِ يَزُورُ مِثْلِي فَأَرَدْت أَنْ أُكَافِئَهُ بِبَعْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ فَوَجَدْتُ نَفْسِي عَاجِزَةً عَنْ مُكَافَأَتِهِ فَآثَرْته بِالْأَجْرِ كُلِّهِ حَتَّى

يَكُونَ فِي صَحِيفَتِهِ دُونِي لِمَا وَرَدَ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَأَكْثَرُهُمَا ثَوَابًا أَبَشُّهُمَا لِصَاحِبِهِ } فَآثَرْته بِذَلِكَ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ ، وَهَذَا لَهُ أَصْلٌ فِي الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْت إذَا لَقِيتُ عَلِيًّا ابْتَدَأَنِي بِالسَّلَامِ فَلَقِيتُهُ الْيَوْمَ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيَّ حَتَّى ابْتَدَأْته بِالسَّلَامِ فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فَجَلَسَ ، وَإِذَا بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَدْ جَاءَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِمَ لَمْ تَبْتَدِئْ أَبَا بَكْرٍ الْيَوْمَ بِالسَّلَامِ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ فَقُلْت لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ فَقِيلَ : لِمَنْ يَبْتَدِئُ أَخَاهُ بِالسَّلَامِ فَأَرَدْت أَنْ أُوثِرَ الْيَوْمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى نَفْسِي } أَوْ كَمَا قَالَ .
، وَهَذَا أَعْظَمُ فِي الْإِكْرَامِ ، وَأَبَرُّ فِي الِاحْتِرَامِ فَمَنْ كَانَتْ لَهُ اسْتِطَاعَةٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِيثَارِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لَكِنْ يُخَافُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُنَفِّرَ النَّاسَ غَالِبًا عَنْ بَابِ رَبِّهِمْ ، وَيُوقِعَهُمْ فِيمَا لَا يَنْبَغِي فَارْتِكَابُ الطَّرِيقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مَعَ مَنْ لَهُ رُسُوخٌ فِي السُّلُوكِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) اعْلَمْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ لِقَبُولِ الدُّعَاءِ مَوَاضِعَ عَدِيدَةً يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهَا لِيَعْرِفَ الْمُكَلَّفُ أَمَاكِنَهَا فَيَتَعَرَّضَ لَهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللَّهِ } فَمِنْ جُمْلَةِ النَّفَحَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ .
وَالثَّانِي الْمُضْطَرُّ ، وَهُوَ الْأَصْلُ لِعُمُومِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ } ، وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ دُونَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةٍ دُونَ أُخْرَى ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَقَعُ لَهُ الْغَلَطُ وَالْوَهْمُ فِي هَذَا الْقِسْمِ فَيَرَى أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فَيَدْعُو فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُ فَيَقُولُ : أَنَّى هَذَا ؟ فَيَقَعُ لَهُ الْجَوَابُ بِلِسَانِ الْحَالِ { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } إذْ إنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ حَالَةُ الِاضْطِرَارِ مَا رُدَّ ، وَمَا خُيِّبَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ .
وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الْحُسْنِ مَا كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مِثْلُهُ مِثْلُ مَنْ رَكِبَ فِي السَّفِينَةِ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى رِيحٍ يَمْشِي بِهَا ، وَإِلَى بَحْرٍ هَادٍ قَلِيلِ الْآفَاتِ لَكِنَّهُمْ مُطْمَئِنُّونَ بِسَفِينَتِهِمْ رَاكِنُونَ إلَيْهَا ، وَفِي هَذَا السُّكُونِ مِنْ عَدَمِ الِاضْطِرَارِ مَا فِيهِ فَلَوْ جَاءَ الرِّيحُ الْعَاصِفُ ، وَتَحَرَّكَ عَلَيْهِمْ هَوْلُ الْبَحْرِ لَكَانَ اضْطِرَارُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُمْ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالسَّفِينَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ السَّلَامَةِ غَالِبًا فَلَوْ انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ مَثَلًا ، وَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ جَمَاعَةٍ عَلَى لَوْحٍ لَاشْتَدَّ اضْطِرَارُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ الثَّانِي - لَكِنَّهُمْ يَرْجُونَ السَّلَامَةَ لِمَا تَحْتَهُمْ مِنْ الْأَلْوَاحِ ، وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي حَقِيقَةِ اضْطِرَارِهِمْ فَلَوْ ذَهَبَتْ الْأَلْوَاحُ ، وَبَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ لَا بَرٌّ يُرَى ، وَلَا جِهَةٌ تُقْصَدُ ، وَلَا لَوْحٌ يُرَامُ أَنْ يُصْعَدَ عَلَيْهِ فَهَذِهِ

الصِّفَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الِاضْطِرَارِ أَوْ كَمَا قَالَ .
فَمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَهُوَ فِي حَالَةِ الِاتِّسَاعِ مِنْ أَمْرِهِ كَانَ مُضْطَرًّا حَقِيقَةً فَلَا يَشُكُّ ، وَلَا يَرْتَابُ فِي إجَابَتِهِ ، وَمَا وَقَعَ الْغَلَطُ إلَّا فِي صِفَةِ التَّحْصِيلِ لِهَذِهِ الصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الثَّالِثُ - مِنْ مَوَاطِنِ الْإِجَابَةِ عِنْدَ نُزُولِ الْغَيْثِ .
الرَّابِعُ - عِنْدَ الْآذَانِ .
الْخَامِسُ : عِنْدَ اصْطِفَافِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ .
السَّادِسَةُ - عِنْدَ اصْطِفَافِهِمْ لِلْجِهَادِ .
السَّابِعُ - الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ .
الثَّامِنُ - الدُّعَاءُ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ حُضُورٌ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ الدَّاعِي .
التَّاسِعُ - الدُّعَاءُ مِنْ الصَّائِمِ عِنْدَ إفْطَارِهِ .
الْعَاشِرُ - الدُّعَاءُ مِنْ الْمُسَافِرِ عِنْدَ سَفَرِهِ .
الْحَادِيَ عَشَرَ - وَهُوَ آكَدُهَا السَّاعَةُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا .
الثَّانِيَ عَشَرَ - يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَلَيْلَتُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ الثَّالِثَ عَشَرَ - لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، وَهِيَ أُمُّ الْبَابِ ، وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ الرَّابِعَ عَشَرَ - الدُّعَاءُ مِنْ الْوَالِدَيْنِ لِوَلَدِهِمَا .
الْخَامِسَ عَشَرَ - الدُّعَاءُ عِنْدَ حُدُوثِ الْخُشُوعِ ، وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ ، وَالْخَوْفِ ، وَالْقَلِقِ ، وَغَلَبَةِ الرَّجَاءِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا مَحَلٌّ لِلْإِجَابَةِ .
السَّادِسَ عَشَرَ - وَهُوَ أَعْظَمُهَا ، وَأَوْلَاهَا الدُّعَاءُ بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى الِاتِّصَافِ بِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْله تَعَالَى { وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وَ { الم اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ

الْقَيُّومُ } { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ } ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : آخِرَ سُورَةِ الْحَشْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ .
السَّابِعَ عَشَرَ - يَوْمُ عَرَفَةَ .
الثَّامِنَ عَشَرَ - شَهْرُ رَمَضَانَ .
التَّاسِعَ عَشَرَ - فِي السُّجُودِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالدُّعَاءُ لَهُ أَرْكَانٌ ، وَأَجْنِحَةٌ ، وَأَسْبَابٌ ، وَأَوْقَاتٌ فَإِنْ صَادَفَ أَرْكَانَهُ قَوِيَ ، وَإِنْ صَادَفَ أَجْنِحَتَهُ طَارَ فِي السَّمَاءِ ، وَإِنْ صَادَفَ أَسْبَابَهُ نَجَحَ ، وَإِنْ صَادَفَ أَوْقَاتَهُ فَازَ فَمِنْ أَرْكَانِهِ الِاضْطِرَارُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَأَجْنِحَتُهُ قُوَّةُ الصِّدْقِ مَعَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا يَرْجُوهُ ، وَيُؤَمِّلُهُ مِنْهُ وَيَخَافُهُ ، وَأَسْبَابُهُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَوْقَاتُهُ الْأَسْحَارُ .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ هُوَ عَلَى جَادَّةِ التَّكْلِيفِ ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ فِي مَقَامِ الرِّضَى أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ فِي حَقِّهِ ذَنْبًا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ ، وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ .
كَمَا قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ تَجَاسَرْت الْبَارِحَةَ ، وَسَأَلْت رَبِّي الْمُعَافَاةَ مِنْ النَّارِ ، وَكَمَا حَكَى الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ الْمَقَامَاتِ نِلْت مِنْهَا شَيْئًا إلَّا هَذَا الرِّضَا فَإِنِّي مَا نِلْت مِنْهُ إلَّا مِقْدَارَ سَمِّ الْخِيَاطِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ أَهْلَ جَهَنَّمَ أَجْمَعِينَ ، وَأَدْخَلَهُ جَهَنَّمَ ، وَمَلَأَهَا بِجَسَدِهِ ، وَعَذَّبَهُ بِعَذَابِهِمْ أَجْمَعِينَ لَكَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا جَرَى لِلْكَلِيمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ الْعَابِد ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَمْرُ رَاجِعٌ إلَى حَالِ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ الرِّضَا فِي حَقِّهِ أَوْلَى ، وَأَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِهِ ، وَمَا

اخْتَصَّ بِهِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي وَقْتٍ آخَرَ الدُّعَاءُ ، وَالتَّمَلُّقُ ، وَإِظْهَارُ الْفَاقَةِ ، وَالِاضْطِرَارُ ، وَالْحَاجَةُ أَوْلَى ، وَأَفْضَلَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَعَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ أَقْسَامِ الزَّائِرِ وَالْمَزُورِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ - الِاشْتِرَاكُ فِي الرَّضَاعَةِ فِي مَجَالِسِ الْعِلْمِ ، وَمَجَالِسِ الشُّيُوخِ فَمَنْ جَاءَهُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَهُوَ مِنْ الْخَاصَّةِ بِهِ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَرْضًا فَلْيَفْعَلْ إذْ إنَّ احْتِرَامَهُمْ احْتِرَامٌ لِشَيْخِهِ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ .
وَآدَابُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ لَا تَنْحَصِرُ ، وَلَا تَرْجِعُ إلَى قَانُونٍ ، وَلَا يَقْدِرُ الْمُرِيدُ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّهِ فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِ الشَّيْخِ أَنَّهُ وَجَدَهُ فِي بِحَارِ الذُّنُوبِ ، وَالْغَفَلَاتِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُجَازِي عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى

( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَهَمُّ الْأُمُورِ عِنْدَهُ وَآكَدُهَا الْخَلْوَةَ عَنْ النَّاسِ ، وَالِانْفِرَادَ بِنَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ سَبَبٌ لِلْفَتْحِ غَالِبًا ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَقْبَلَ مَا تُلْقِيهِ إلَيْهِ نَفْسُهُ أَوْ الشَّيْطَانُ مِنْ مَحَبَّةِ الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ أَوْ الْمَيْلِ إلَيْهِمْ أَوْ الْمَيْلِ إلَى رُؤْيَتِهِمْ فَإِنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ غَالِبًا عَلَى حُبِّ الرَّاحَةِ ، وَالْبَطَالَةِ ، وَهِيَ لَا تَجِدُ لِذَلِكَ سَبِيلًا مَعَ دَءُوبِ الْخَلْوَةِ ، وَلَا تَجِدُ السَّبِيلَ إلَى أَنْ تَسْرِقَهُ أَوْ تَمِيلَ بِهِ عَمَّا هُوَ بِسَبِيلِهِ إلَّا بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ غَالِبًا إذْ بِالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ تَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الزِّيَادَةِ ، وَالنُّقْصَانِ فِيمَا يُرِيدُهُ ، وَيَخْتَارُهُ ، وَفِيهِ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِيهِ أَوْ عَكْسُهُ ، وَهُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَالتَّحَلُّلُ ، وَكَانَ فِي غُنْيَةٍ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَهَذِهِ دَسِيسَةٌ قَلَّ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا إلَّا مِنْ نَوَّرَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَالَاتِ لَهُ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ قَالَ : كُنْت أَخْلُو لِأَسْلَمَ مِنْ ضَرَرِي لِلنَّاسِ فَصِرْت أَخْلُو لِأَغْنَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَفْهَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَعْلَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَتَنَعَّمَ .
فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي انْتَقَلَ مِنْهَا ، وَإِلَيْهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ .
فَأَوَّلُهَا : طَلَبُ سَلَامَةِ النَّاسِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ إذْ إنَّ طَلَبَ السَّلَامَةِ مِنْ النَّاسِ فِيهِ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ ، وَوُقُوعٌ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا خَلَا بِنَفْسِهِ لِكَيْ يَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ ، وَبَصَرِهِ ، وَسَمْعِهِ ، وَبَطْشِهِ ، وَسَعْيِهِ ، وَحَسَدِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَوِرُهُ فِي خُلْطَتِهِ لَهُمْ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ

عَلَيْهِ ، وَسَلَامُهُ بِالْإِسْلَامِ حَيْثُ يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَمَّا أَنْ حَصَلَ هَذَا الْمَقَامُ السَّنِيُّ تَرَقَّى بَعْدَهُ إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهُ ، وَهُوَ حُصُولُ الْغَنِيمَةِ فَهُوَ فِي أَعْمَالِ الْآخِرَةِ يَنْتَهِبُهَا إذْ إنَّ الْخَلْوَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَعَانَتْهُ عَلَى افْتِرَاسِ ذَلِكَ ، وَالنُّهُوضِ إلَيْهِ لِعَدَمِ الْعَائِقِ ، ثُمَّ بَعْدَ حُصُولِ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ تَرَقَّى إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهُ ، وَهُوَ الْفَهْمُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَاتِهِ ، وَفِي أَحْكَامِهِ ، وَفِي تَدْبِيرِهِ فِي خَلْقِهِ ، وَإِحْسَانِهِ إلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَقُرْبِهِ مِنْهُمْ ، وَعِلْمِهِ بِحَالِهِمْ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكَرِيمُ الَّذِي مَنَّ بِذَلِكَ ، وَسَهَّلَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَالْفَهْمُ عَنْ اللَّهِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ مَا لِمَا عَدَا مَا ذُكِرَ ، ثُمَّ انْتَقَلَ بَعْدَ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهُ ، وَهُوَ الْعِلْمُ ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الْفَهْمِ إذْ إنَّهُ إذَا فَهِمَ عَلِمَ ، وَهَذَا الْعِلْمُ عَامٌّ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَالْعِلْمِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ إذْ إنَّهُ لَا يُوجَدُ جَاهِلٌ بِأَحْكَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ عَالِمًا بِاَللَّهِ ، وَالْعِلْمُ بِاَللَّهِ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَنْتَهِي إلَيْهِ بِخِلَافِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ لَهَا نِهَايَةً عَلَى مَا قَدْ عَلِمَ فَلَمَّا أَنْ حَصَّلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ السَّنِيَّةَ انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهَا ، وَهُوَ التَّنَعُّمُ فِي خَلْوَته ، وَالتَّلَذُّذُ بِالطَّاعَاتِ الَّتِي يُحَاوِلُهَا إذْ إنَّهُ عَبْدٌ قَدْ خُلِعَتْ عَلَيْهِ خُلَعُ الْقُرْبِ فَاتَّصَفَ بِالْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا ، وَلَا بَعْضَهَا إلَّا بِفَضْلِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَرَمِهِ وَامْتِنَانِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَوْنُهُ خَلَعَ عَلَيْهِ دُونَهُمْ هَذَا فَضْلٌ

عَمِيمٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ بِشُكْرِ بَعْضِهِ - اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ فَإِنَّك وَلِيُّهُ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَصَلَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ انْتَفَعَ بِنَفْسِهِ ، وَانْتَفَعَ بِهِ مَنْ عَرَفَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ .
فَإِذَا حَصَلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ جَاءَتْهُ الْأَلْطَافُ تَتْرَى إذْ إنَّهُ تَشَبَّهَ فِيهِ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الَّذِينَ لَا يَأْكُلُونَ ، وَلَا يَشْرَبُونَ ، وَبِذِكْرِ رَبِّهِمْ يَتَنَعَّمُونَ إذْ إنَّ الذِّكْرَ لَهُمْ كَالنَّفَسِ لَنَا ، وَمَنْ هَذَا حَالُهُ تَكُونُ الْعِبَادَةُ لَهُ كَالْغِذَاءِ ؛ لِأَنَّ الْغِذَاءَ جَمْعُ أَشْيَاءَ مِنْهَا شَهْوَةُ النَّفْسِ لِلْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَقَوَامِ الْبَدَنِ ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَمَنْ حَصَلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَقَدْ تَمَّ لَهُ النَّعِيمُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَأْكُلُ أَكْلَةً فِي الشَّهْرِ ، وَبَعْضَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَبَعْضَهُمْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَبَعْضَهُمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِ التَّنَعُّمِ فِي الْخَلْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ انْقَطَعَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُرِيدِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوا الْآدَابَ فِي الْوُصُولِ إلَى هَذَا الْمَقَامِ فَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِمَنْ هُوَ فِيهِ فَيَنْقَطِعُونَ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ هَذَا غِذَاؤُهُ بِالتَّنَعُّمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، وَقَدْ مَضَتْ حِكْمَةُ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ هَذَا الْبَدَنَ لَا قَوَامَ لَهُ إلَّا بِقُوتٍ ، فَالْقُوتُ الْمَعْنَوِيُّ الَّذِي حَصَّلَهُ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَغْنَاهُ عَنْ الْقُوتِ الْحِسِّيِّ ، وَهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوهُ ، وَتَرَكُوا الْقُوتَ الْحِسِّيَّ ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَكَفَّلَ لِهَذَا الْهَيْكَلِ بِرِزْقٍ لَا قَوَامَ لَهُ إلَّا بِهِ قَالَ : وَهَذَا الرِّزْقُ الَّذِي تَكَفَّلَ بِهِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ

مَحْسُوسًا فَتَارَةً يَكُونُ مَحْسُوسًا وَتَارَةً يَكُونُ مَعْنَوِيًّا أَوْ كَمَا قَالَ ، وَلِأَجْلِ الْجَهْلِ بِتَحْصِيلِ هَذَا الْقُوتِ الْمَعْنَوِيِّ حَصَلَ لِبَعْضِ مَنْ يَتَعَانَى كَثْرَةَ الْمُجَاهَدَةِ أَشْيَاءُ رَدِيئَةٌ مِثْلُ الْعَرْبَدَةِ أَوْ الْجُنُونِ أَوْ النَّشَّافِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَمَنْ تَأَدَّبَ بِهَذِهِ الْآدَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَلْوَةِ يَغْلِبُ الرَّجَاءُ أَنَّهُ مِنْ النَّاجِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ قَدْ كَانَ دَخَلَ فِي مُجَاهَدَةٍ بِنِيَّةِ أَمَدٍ مَعْلُومٍ فَلَمْ تَقْدِرْ نَفْسُهُ عَلَى إتْمَامِ الْمُدَّةِ ، وَضَاقَ ذَرْعُهُ بِذَلِكَ قَالَ : فَأَرَدْت أَنْ أُفْطِرَ ثُمَّ حَصَلَتْ لِي عَزِيمَةٌ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ شَعَرَتْ نَفْسِي بِهَذِهِ الْعَزِيمَةِ غُشِيَ عَلَيْهَا فَرَأَيْت فِي تِلْكَ الْغَشْوَةِ كَأَنَّ إنْسَانًا يُطْعِمُنِي فَأَكَلْت حَتَّى شَبِعْت ، ثُمَّ سَقَانِي فَشَرِبْت حَتَّى رُوِيت ، ثُمَّ اسْتَفَقْت ، وَأَنَا شَبْعَانُ رَيَّانُ فَقُمْت أَغْتَنِمُ الطَّاعَةَ مُبْتَدِرًا بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ فَفَرَغَتْ الْمُدَّةُ ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ ، ثُمَّ بَقِيت بَعْدُ مُدَّةً أُخْرَى كَذَلِكَ ، وَلَوْ بَقِيت عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةَ الْعُمْرِ لَرَأَيْت أَنِّي لَا أَحْتَاجُ إلَى غِذَاءٍ بَعْدَهَا لَكِنْ رَجَعْت إلَى الْغِذَاءِ خَوْفًا مِنِّي عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ إذْ إنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِالْغِذَاءِ .
هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ ، وَعَرَفَهُ النَّاسُ بِذَلِكَ ، وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَبَرَكَةُ الْخَلْوَةِ لَا تَنْحَصِرُ ، وَلَا تَقِفُ عَلَى حَدٍّ يُنْتَهَى إلَيْهِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَمَرْتَبَتِهِ ، وَأَقَلُّ فَوَائِدِهَا ، بَلْ أَعْظَمُهَا وَزُبْدَتُهَا مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ الْخُشُوعِ وَتَصَاغُرِ النَّفْسِ وَالِاحْتِقَارِ بِهَا وَذَاتِهَا ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَسْكَنَتِهَا ، وَقِلَّةِ حِيلَتِهَا ، وَفَقْرِهَا ، وَاضْطِرَارِهَا

إلَى سَيِّدِهَا ، وَمُدَبِّرِهَا ، وَقَدْ سَأَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْأَعْمَشَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ الْخُشُوعِ فَقَالَ : يَا ثَوْرِيُّ أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ إمَامًا لِلنَّاسِ ، وَلَا تَعْرِفُ الْخُشُوعَ سَأَلْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ عَنْ الْخُشُوعِ فَقَالَ : يَا أُعَيْمِشٌ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ إمَامًا لِلنَّاسِ ، وَلَا تَعْرِفُ الْخُشُوعَ لَيْسَ الْخُشُوعُ بِأَكْلِ الْجَشِيمِ ، وَلَا بِلُبْسِ الْخَشِنِ ، وَتَطَأْطُؤِ الرَّأْسِ لَكِنَّ الْخُشُوعَ أَنْ تَرَى الشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ سَوَاءً ، وَأَنْ تَخْشَعَ لِلَّهِ فِي كُلِّ فَرْضٍ اُفْتُرِضَ عَلَيْك .
وَالْغَالِبُ أَنَّ هَذَا قَلَّ أَنْ يَحْصُلَ إلَّا مَعَ كَثْرَةِ الْخَلْوَاتِ فَالْخَلْوَةُ نُورُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَبَهَاؤُهُ ، وَعَلَيْهَا تُقَرَّرُ الْأَحْوَالُ السَّنِيَّةُ ، وَالْمَرَاتِبُ الْعَلِيَّةُ فَلْيَشُدَّ الْمُرِيدُ يَدَهُ لِيَحْصُلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْبَرَكَاتِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ

( فَصْلٌ ) : وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ النَّظَرُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي يَقْتَاتُ مِنْهَا فَلْيَحْتَفِظْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا إذْ إنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ وُجُوهٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ أَصْلَهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ أَوْ مِيرَاثًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ وُجُوهِ الْحِلِّ ، فَهَذَا قَدْ لَطَفَ اللَّهُ بِهِ إذْ يَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ ، وَانْقَطَعَ بِسَبَبِهِ إلَى الْخَلَوَاتِ وَبَرَكَاتِهَا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْغَيْبِ فَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ ، وَالْآخَرُ بِوَاسِطَةٍ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مِثْلُ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ مَلْطُوفٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَخْشَى عَلَى بَعْضِ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الدَّسَائِسِ الْوَارِدَةِ عَلَى النُّفُوسِ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ لَا تَنْحَصِرُ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ تَيْسِيرُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ مَخْلُوقٍ فَهَاهُنَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ .
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ .
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ - يَسُرُّ وَيَضُرُّ .
الْقِسْمُ الثَّانِي - عَكْسُهُ لَا يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ - يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ - عَكْسُهُ يَضُرُّ وَلَا يَسُرُّ .
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الَّذِي يَسُرُّ وَيَضُرُّ هُوَ الْفُتُوحُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ جِهَةِ فَقِيرٍ مُحْتَاجٍ مُعْتَقِدٍ فَإِنْ أَنْتَ قَبِلْته مِنْهُ سُرَّ بِذَلِكَ ، وَيَتَضَرَّرُ فِي نَفْسِهِ لِأَجْلِ فَقْرِهِ فَهَذَا يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْزَأَهُ فِي شَيْءٍ ، وَيَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِسِيَاسَةٍ حَتَّى لَا يَنْكَسِرَ خَاطِرُهُ أَوْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ ، وَيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ بِمَا تَيَسَّرَ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُشَوِّشَ عَلَيْهِ بِدَفْعِ الْعِوَضِ لَهُ ، بَلْ يُعَوِّضُهُ دُونَ إشْعَارٍ لَهُ بِذَلِكَ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ عَكْسُ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ فَهُوَ الْفُتُوحُ

الَّذِي يَأْتِي مِنْ عِنْدِ مَنْ لَهُ جِدَةٌ وَاتِّسَاعٌ ، وَهُوَ مَسْتُورٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ ، وَصَاحِبُهُ لَيْسَ بِمُعْتَقِدٍ فَإِنْ هُوَ أَخَذَهُ مِنْهُ لَمْ يُسَرَّ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَضُرَّهُ أَخْذُهُ مِنْهُ فَالْمُرِيدُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَخَذَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي الْوَقْتِ .
وَلَوْ قَدَرَ عَلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا لَكَانَ أَوْلَى بِهِ ، وَأَرْفَعَ لِمَقَامِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ يَدُهُمْ هِيَ الْعُلْيَا .
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ : الْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ ، وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْعُلْيَا وَالسُّفْلَى : السَّائِلَةُ وَالْمَسْئُولَةُ .
فَإِنْ كُنْت سَائِلًا فِي قَبُولِ مَعْرُوفِك فَيَدُك سُفْلَى ، وَإِنْ كُنْت مَسْئُولًا فَيَدُك هِيَ الْعُلْيَا .
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُخْرِجُ صَدَقَةً حَتَّى يَفُكَّ فِيهَا لَحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا فَإِذَا هَمَّ الْمُكَلَّفُ بِإِعْطَاءِ صَدَقَةٍ ، وَاعْتَوَرَتْهُ هَذِهِ الشَّيَاطِينُ وَغَلَبَهُمْ ، وَأَتَاكَ بِمَعْرُوفِهِ فَإِنْ أَنْتَ رَدَدْته عَلَيْهِ فَقَدْ أَعَنْت الشَّيَاطِينَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِك فَيُحْرَمُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ ، وَتَجِدُ الشَّيَاطِينُ السَّبِيلَ إلَى تَقْصِيرِ يَدِهِ عَنْ الصَّدَقَةِ ، وَإِنْ أَنْتَ قَبِلْتَ مِنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ أَعَنْتَهُ عَلَيْهِمْ ، وَيَئِسُوا مِنْهُ فَقَدْ حَصَلَ لَك بِذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَدُ الْآخِذِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ .
ثُمَّ مَعَ مَا تَقَدَّمَ يَحْصُلُ لِأَخِيك الْمُؤْمِنِ مِنْ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مَا يَعْجِزُ عَنْ وَصْفِهِ .
يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا

حُكِيَ أَنَّ شَابًّا جَاءَ إلَى شَيْخِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ وَإِمَامِهَا الْجُنَيْدِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : لَهُ أَنَا جَائِعٌ فَهَلْ مَنْ يُطْعِمُنِي ؟ فَقَامَ إنْسَانٌ مِمَّنْ لَهُ اتِّسَاعٌ فَقَالَ : عِنْدِي فَأَخَذَ الشَّابَّ ، وَمَضَى مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ ، وَقَدَّمَ لَهُ طَعَامًا كَانَ الشَّابُّ يَشْتَهِيهِ فَمَدَّ يَدَهُ فَرَفَعَ لُقْمَةً ، وَبَقِيَ بِهَا فِي يَدِهِ لَحْظَةً فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ كُلْ فَاللُّقْمَةُ إذَا أَكَلْتهَا عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا فَوَضَعَ الْفَقِيرُ اللُّقْمَةَ مِنْ يَدِهِ ، وَخَرَجَ وَلَمْ يَأْكُلْ عِنْدَهُ شَيْئًا ، وَأَتَى إلَى الْجُنَيْدِ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى فَقَامَ فَقِيرٌ فَقَالَ عِنْدِي فَذَهَبَ مَعَهُ فَقَدَّمَ لَهُ خُبْزًا وَبَصَلًا فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ ، ثُمَّ رَجَعَ فَجَاءَ الْأَوَّلُ إلَى الْجُنَيْدِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى .
فَقَالَ لَهُ : اجْلِسْ ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الشَّابُّ سَأَلَهُ الْجُنَيْدُ هَلْ أَكَلْت ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ لَهُ : وَمَا أَكَلْت ؟ قَالَ : خُبْزًا وَبَصَلًا فَقَالَ لَهُ ، وَمَا قَدَّمَ لَك هَذَا قَالَ لَهُ : قَدَّمَ لِي طَعَامًا مُفْتَخَرًا فَقَالَ لَهُ : مَا مَنَعَك مِنْ أَكْلِهِ ؟ فَقَالَ لَهُ كُنْت جَائِعًا فَرَفَعْت اللُّقْمَةَ ، وَأَنَا أَتَخَيَّرُ أَيَّ قَصْرٍ آخُذُهُ فِي الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ ، وَإِذَا هُوَ قَدْ قَالَ : اللُّقْمَةُ إذَا أَكَلْتهَا عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا فَاسْتَحْيَيْت مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ آكُلَ طَعَامَ رَجُلٍ خَسِيسِ الْهِمَّةِ لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إلَّا فِي الدُّنْيَا فَتَرَكْتُهُ وَمَضَيْت ، وَأَمَّا هَذَا فَنِيَّتُهُ أَنْ لَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا فَهُوَ يَسْتَقِلُّهَا تَقْدِيمًا أَوْ كَمَا قَالَ .
فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تُشْعِرُك بِأَنَّ الْآخِذَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ يَدُهُ هِيَ الْعُلْيَا إذْ إنَّهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ يُعْطِي مَا يَبْقَى ، وَيَأْخُذُ مَا يَفْنَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدْهُ صَوَابًا ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَسْتُورٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ ، وَأَمَّا لِسَانُ الْوَرَعِ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ ، وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ فِي هَذَا

الزَّمَانِ غَالِبًا فَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنَّهُ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَيُقِيمُ فِي الْبَرَارِي ، وَالْقِفَارِ أَوْ يَكُونُ خَرَقَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْعَادَةَ فَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ - وَهُوَ الَّذِي يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ فَهُوَ الْفُتُوحُ الَّذِي يَأْتِي عَلَى يَدِ بَعْضِ الْإِخْوَانِ الْمُعْتَقِدِينَ الَّذِي يَعْرِفُ سَبَبَهُمْ ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَسَارِ فَإِنْ أُخِذَتْ مِنْهُمْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ السُّرُورُ بِذَلِكَ ، وَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ .
فَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْسَامِ كُلِّهَا وَأَسْلَمُهَا مِنْ الْآفَاتِ الْمُتَوَقَّعَةِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ - وَهُوَ الَّذِي يَضُرُّ وَلَا يَسُرُّ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ ، وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِوَصْفَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا لِمَا يُعْطِيهِ .
وَالثَّانِي - عَدَمُ اعْتِقَادِ الدَّافِعِ لِلْمَدْفُوعِ لَهُ فَإِنْ أَنْتَ قَبِلْت مِنْهُ مَا أَتَاك بِهِ تَضَرَّرَ بِذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ ، وَلَا تُدْخِلُ عَلَيْهِ سُرُورًا لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ لَك ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْتَزَمَ فِي نَفْسِهِ طَرِيقَةً غَرِيبَةً قَلَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ صَدَقَةً وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا ، وَلَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنْ أَرْبَابِ الْخَدَمِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا ، وَإِنْ قَلَّتْ خِدْمَتُهُ ، وَإِنْ تَحَرَّزَ مَا أَمْكَنَهُ ، وَمَنْ أَهْدَى لَهُ مِنْ الْإِخْوَانِ الْمُعْتَقِدِينَ فَيَخْتَلِفُ حَالُهُ فِي ذَلِكَ فَبَعْضُهُمْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَتَى بِهِ ، وَبَعْضُهُمْ يَقْبَلُ مِنْهُ ، ثُمَّ يُعَوِّضُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ بِلُطْفٍ وَسِيَاسَةٍ ، وَمَا أَتَاهُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْوَانِ الْمُتَسَبِّبِينَ الْمُعْتَقِدِينَ نَظَرَ إلَى اكْتِسَابِهِمْ .
فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا بِلِسَانِ الْعِلْمِ نَظَرَ فِي حَالِ صَاحِبِهِ هَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ سُرُورٌ بِالْأَخْذِ مِنْهُ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ سَوَاءٌ عِنْدَهُ أَخَذَ مِنْهُ أَوْ

رَدَّ عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا ، وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ يَنْكَسِرُ خَاطِرُهُ عِنْدَ الرَّدِّ عَلَيْهِ ، وَيَنْجَبِرُ خَاطِرُهُ ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ السُّرُورُ حِينَ الْأَخْذِ مِنْهُ أَخَذَهُ مِنْهُ فَمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ الَّذِي يُقْبَلُ مِنْهُ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ غَرِيبَةٌ عَزِيزَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا مَنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ يُقَارِبُهُ لَا جَرَمَ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَهْلُهُ ، وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى فَلَقَدْ كَانَ يَأْخُذُ بِفَلْسٍ لَيْمُونًا فَيَأْتَدِمُ بِهِ غَدْوَةً ، وَعَشِيَّةً هُوَ وَأَهْلُهُ .
وَقَدْ بَقِيَ أَهْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ يَتَقَوَّتُونَ بِهِ فَأَخَذَ ثَوْبًا ، وَدَخَلَ بِهِ إلَى الْبَلَدِ لِيَبِيعَهُ فَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ فِيهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ زِيِّ الْمَغَارِبَةِ فَرَدَّهُ ، وَجَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ الْبَيْتَ خَشْيَةً مِنْ الْأَوْلَادِ أَنْ يَنْقَطِعَ رَجَاؤُهُمْ مِنْ الْقُوتِ إذْ ذَاكَ فَيَزِيدَ قَلَقُهُمْ فَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَادُ قَدْ نَامُوا فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ ، وَجَدَهُمْ مَسْرُورِينَ يُكْثِرُونَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا : كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا أَكَلَ خَرُوفًا ، وَهُمْ فِي الشِّبَعِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى زِيَادَةٍ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ .
وَبَقِيَ أَمْرُهُمْ كَذَلِكَ مُدَّةً حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَنْوَاعُ هَذَا كَثِيرَةٌ ، وَهُوَ بَابٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا الْأَفْرَادُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَبَرَ فِي نَفْسِهِ فَالْأَهْلُ وَالْأَوْلَادُ لَا يَصْبِرُونَ فِي الْغَالِبِ فَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْعَارِفُ مَنْ أَخَذَ نَفْسَهُ بِالْوَرَعِ ، وَأَطْلَقَ غَيْرَهُ فِي مَيْدَانِ الْعِلْمِ ، وَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ - نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ ، وَرَزَقَنَا التَّصْدِيقَ بِأَحْوَالِهِمْ - إذْ لَمْ

نَكُنْ أَهْلًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ .
اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّك بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا

( فَصْلٌ ) : فِي ذِكْرِ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى طَرِيقِ الْقَوْمِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَعَلَّقَتْ خَوَاطِرُهُمْ بِفِعْلِ الْكِيمْيَاءِ ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَدْفُونَةِ فِيهَا ، وَهِيَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَى تَسْمِيَتِهَا بِالْمَطَالِبِ ، وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْض النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ تَعَانِيهِمْ اسْتِخْرَاجَ مَا فِي الْأَرْضِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا قَبِيحٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُرِيدِ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ إذْ إنَّهُ خَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ بِكُلِّيَّتِهِ لَا مَطْلَبَ لَهُ سِوَاهَا ، وَتَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَشْهَدُ بِكَذِبِهِ فِي طَرِيقِهِ مِنْ دَعْوَاهُ الِانْقِطَاعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِهَذَا فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ فِيمَا يَظْهَرُ الْفَقْرُ الْمُدْقِعُ ، وَالدُّيُونُ الْكَثِيرَةُ ، وَمُخَالَطَةُ مَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ فِي دِينِهِ ، وَدُنْيَاهُ ، وَذَلِكَ سَبَبٌ كَبِيرٌ إلَى وُقُوعِ النَّاسِ فِي عِرْضِ مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ بِسَبَبِ تَعَاطِيه مَا يُوقِعُ النَّاسَ فِيهِ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي إثْمِ وَقِيعَتِهِمْ فِيهِ ، وَقَدْ يَئُولُ أَمْرُ فَاعِلِ ذَلِكَ إلَى الْحَبْسِ وَالْإِهَانَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ إلَّا أَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِحُبِّ الدُّنْيَا ، وَمَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا فَهُوَ قَالٍ لِلْآخِرَةِ إذْ إنَّهُمَا ضَرَّتَانِ مُتَنَافِرَتَانِ فَمَهْمَا أَقْبَلَ الْإِنْسَانُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَضَرَّ بِالْأُخْرَى ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ إلَّا مَا وَرَدَ { مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا يُنَادَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا أَحَبَّ مَا أَبْغَضَ اللَّهُ } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِعْلُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَرَبِهِمْ مِنْ الدُّنْيَا خِيفَةً مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا ، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ

مُسْتَشْرِفٌ لِطَلَبِهَا ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ يَذْهَبُ بِجَمِيعِ خَاطِرِهِ ، وَاشْتِغَالِهِ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ ، وَدُنْيَاهُ بَلْ كَانُوا يَعُدُّونَ الدُّنْيَا إذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً نَزَلَتْ بِهِمْ .
وَقَدْ مَضَتْ حِكَايَةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا جَرَى لَهُ فِي الْعَطَاءِ الَّذِي أَتَاهُ ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَقَدْ حُكِيَ فِي الْإِسْرَائِيلِيَّات أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّ فِي سِيَاحَتِهِ وَمَعَهُ الْحَوَارِيُّونَ بِمَوْضِعٍ فِيهِ ذَهَبٌ كَثِيرٌ فَنَظَرَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَيْهِ ، وَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ : اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْقَاتُولِ ، وَمَرَّ فِي سِيَاحَتِهِ فَتَخَلَّفَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ ، وَقَالُوا : إلَى أَيْنَ هَذَا الْمَقْصُودُ ؟ أَوْ كَمَا قَالُوا .
فَقَسَمُوا ذَلِكَ أَثْلَاثًا فَجَلَسَ اثْنَانِ يَحْرُسَانِ ذَلِكَ ، وَأَرْسَلَا ثَالِثَهُمَا إلَى الْبَلَدِ لِيَأْتِيَ بِالدَّوَابِّ وَالْأَعْدَالِ وَمَا يَأْكُلُونَهُ فَلَمَّا أَنْ مَضَى لِذَلِكَ تَحَدَّثَ الِاثْنَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَقَالَا : لَوْ كَانَ هَذَا الْمَالُ بَيْنَنَا لَكَانَ أَوْلَى ، ثُمَّ قَالَا : وَكَيْفَ الْحِيلَةُ ؟ فَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ يَقُومَانِ إلَيْهِ ، وَيَقْتُلَانِهِ ، وَيَبْقَى الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَقَالَ الثَّالِثُ الَّذِي ذَهَبَ إلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ : مِثْلَ قَوْلِهِمَا فَقَالَ : لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ كُلُّهُ لِي لَكَانَ أَوْلَى ، ثُمَّ قَالَ : وَكَيْفَ الْحِيلَةُ ؟ فَخَطَرَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ سُمًّا فِي الْغِذَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ فَيَأْكُلَانِهِ فَيَمُوتَا فَيَأْخُذُ الْمَالَ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ فَفَعَلَ فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَ عَلَى صَاحِبَيْهِ ، وَثَبَا إلَيْهِ فَقَتَلَاهُ ، ثُمَّ أَكَلَا مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْغِذَاءِ فَمَاتَا فَبَقِيَ الثَّلَاثَةُ هُنَاكَ مَطْرُوحِينَ فَلَمَّا أَنْ رَجَعَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ سِيَاحَتِهِ ، وَمَرَّ بِهِمْ فَوَجَدَهُمْ هُنَاكَ طَرْحَى فَقَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ هَذَا الْقَاتُولُ ، .
وَقَدْ

تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَرْبُو عَلَى الْمُسْتَشْرِفِ فَتَرْتَفِعُ الْبَرَكَةُ مِنْهُ فَطَلَبُ الْمُرِيدِ وَغَيْرِهِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهَا يُذْهِبُ الْبَرَكَةَ مِنْهَا ، وَالْمَقْصُودُ حُصُولُ الْبَرَكَةِ ، وَأَنَّهَا إذَا عُدِمَتْ مِنْ الشَّيْءِ لَوْ كَانَ مِلْءَ الْأَرْضِ مَا أَغْنَى صَاحِبَهُ لِعَدَمِهَا مِنْهُ ، وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْحِلْيَةِ لَهُ فِي تَرْجَمَةِ طَاوُسِ بْنِ كَيْسَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ بَنِينَ فَمَرِضَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ : إمَّا أَنْ تُمَرِّضُوهُ ، وَلَيْسَ لَكُمْ فِي مِيرَاثِهِ شَيْءٌ : وَإِمَّا أَنْ أُمَرِّضَهُ ، وَلَيْسَ لِي فِي مِيرَاثِهِ شَيْءٌ قَالُوا : مَرِّضْهُ ، وَلَيْسَ لَك فِي مِيرَاثِهِ شَيْءٌ قَالَ : فَمَرَّضَهُ حَتَّى مَاتَ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْئًا قَالَ فَأُتِيَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ : لَهُ ائْتِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهُ مِائَةَ دِينَارٍ فَقَالَ فِي نَوْمِهِ أَفِيهَا بَرَكَةٌ ؟ قَالُوا : لَا فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ ، فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ : خُذْهَا فَإِنَّ مِنْ بَرَكَتِهَا أَنْ نَكْتَسِي بِهَا وَنَعِيشَ مِنْهَا فَأَبَى فَلَمَّا أَمْسَى أُتِيَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ : لَهُ ائْتِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهُ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَقَالَ : أَفِيهَا بَرَكَةٌ ؟ قَالُوا : لَا فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ فَقَالَتْ لَهُ : مِثْلَ مَقَالَتِهَا الْأُولَى فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا فَأُتِيَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَقِيلَ : لَهُ ائْتِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهُ دِينَارًا قَالَ أَفِيهِ بَرَكَةٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ فَذَهَبَ فَأَخَذَ الدِّينَارَ ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إلَى السُّوقِ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ يَحْمِلُ حُوتَيْنِ

فَقَالَ : بِكَمْ هُمَا ؟ قَالَ : بِدِينَارٍ قَالَ : فَأَخَذَهُمَا مِنْهُ بِدِينَارٍ ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمَا إلَى بَيْتِهِ فَلَمَّا دَخَلَ بَيْتَهُ شَقَّ بَطْنَهُمَا فَوَجَدَ فِي بَطْنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دُرَّةً لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا قَالَ فَبَعَثَ الْمَلِكُ يَطْلُبُ دُرَّةً لِيَشْتَرِيَهَا فَلَمْ تُوجَدْ إلَّا عِنْدَهُ فَبَاعَهَا بِوَقْرِ ثَلَاثِينَ بَغْلًا ذَهَبًا فَلَمَّا رَآهَا الْمَلِكُ قَالَ مَا تَصْلُحُ هَذِهِ إلَّا بِأُخْتِهَا فَاطْلُبُوا أُخْتَهَا ، وَإِنْ أَضْعَفْتُمْ قَالَ فَجَاءُوهُ فَقَالُوا : أَعِنْدَك أُخْتُهَا ، وَنُعْطِيك ضِعْفَ مَا أَعْطَيْنَاك قَالَ : وَتَفْعَلُونَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ فَأَعْطَاهُمْ إيَّاهَا بِضِعْفِ مَا أَخَذُوا بِهِ الْأُولَى ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى هَذِهِ الْبَرَكَةِ مَا أَعْظَمُهَا أَيْنَ هَذَا مِنْ الْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِ أَوَّلًا .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْبَرَكَةَ كَامِنَةٌ فِي امْتِثَالِ السُّنَّةِ حَيْثُ كَانَتْ ؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فَالِاسْتِشْرَافُ مِنْهُ بَعِيدٌ ، وَإِذَا عُدِمَ الِاسْتِشْرَافُ حَلَّتْ الْبَرَكَةُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ الْغَالِبِ عَلَيْهِمْ شَظَفُ الْعَيْشِ ، وَقِلَّةُ ذَاتِ الْيَدِ ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْبِقُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِوُجُودِ الْبَرَكَةِ الْحَاصِلَةِ مَعَهُمْ فِيمَا يَتَنَاوَلُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِعَدَمِ اسْتِشْرَافِهِمْ لِدُنْيَاهُمْ ، وَاهْتِمَامِهِمْ بِأَمْرِ دِينِهِمْ ، وَالْوُقُوفِ بِبَابِ رَبِّهِمْ ، وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ ، وَلُزُومِ الِامْتِثَالِ لِأَوَامِرِهِ ، وَالِاجْتِنَابِ لِنَوَاهِيهِ ، وَالنُّزُولِ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ .
وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ ، وَكَانَ يَصْحَبُ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ فَرَآهُ مَرَّةً وَهُوَ يَبْكِي وَيَتَضَرَّعُ ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِ فَسَأَلْته عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَأَبَى عَنْ

إجَابَتِهِ فَبَقِيَ كَذَلِكَ أَيَّامًا ، ثُمَّ سَرَى عَنْهُ فَرَجَعَ إلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ قَالَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ مُوجِبِ بُكَائِهِ ، وَسُرُورِهِ فَقَالَ : إنِّي كُنْت أَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ ، وَالْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَابْتُلِيت بِأَنِّي إذَا أَخَذْت حَجَرًا أَسْتَجْمِرُ بِهِ أَجِدُهُ ذَهَبًا فَأَرْمِيهِ ، وَآخُذُ غَيْرَهُ فَأَجِدُهُ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ فَضَاقَ ذَرْعِي مِنْ ذَلِكَ ؛ لِمَا نَزَلَ بِي فَبَقِيت أَتَضَرَّعُ اللَّهَ تَعَالَى فِي دَفْعِهِ حَتَّى أَزَالَهُ عَنِّي فَصِرْت آخُذُ الْحَجَرَ فَأَجِدُهُ حَجَرًا كَمَا هُوَ .
وَقَدْ حَكَى لِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ قَالَ : فَكُنْت أَخْرُجُ مِنْ الْبَلَدِ فَأَرَى عِنْدَ السُّورِ صُنْدُوقًا مَفْتُوحًا مَمْلُوءًا ذَهَبًا قَالَ : فَكُنْت أُوَلِّي وَجْهِي عَنْهُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ الْتَفَتُّ إلَيْهِ ، وَإِذَا بِيَدٍ مِنْ الْهَوَاءِ لَطَمَتْ وَجْهِي فَرَدَّتْهُ إلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فَتُبْتُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا أَلْتَفِتَ إلَيْهِ بَعْدُ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ لَا يَبِيتُ عَلَى مَعْلُومٍ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهُ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرَى فِي الْمَنَامِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ : إنَّك لَبَخِيلٌ ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِرَارًا فَلَمَّا أَنْ كَانَ لَيْلَةً ، وَقِيلَ لَهُ : مَا قِيلَ آلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا فُتِحَ لَهُ مِنْ الْغَدِ بِشَيْءٍ يُعْطِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَلْقَاهُ كَائِنًا مَا كَانَ فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ فُتِحَ لَهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ فَأَوَّلُ مَنْ لَقِيَهُ مِنْ الْغَدِ شَابٌّ ، وَهُوَ عِنْدَ مُزَيِّنٍ يَحْلِقُ لَهُ رَأْسَهُ فَأَعْطَاهُ الصُّرَّةَ فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ : لَا حَاجَةَ لِي بِهَا عِنْدِي قُوتُ يَوْمِي فَقَالَ لَهُ أَعْطِهَا فِي أُجْرَةِ الْمُزَيِّنِ فَقَالَ لَهُ الْمُزَيِّنُ قَدْ دَخَلْت عَلَى هَذَا الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا آخُذُ عَنْهُ عِوَضًا فَقَالَ لَهُ : خُذْهَا لَك دُونَ أُجْرَةٍ فَقَالَ لَهُ لَا حَاجَةَ لِي بِهَا فَقَالَ لَهُ هِيَ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ لَهُ الْمُزَيِّنُ ، أَمَا قَدْ قِيلَ لَك :

إنَّك لَبَخِيلٌ فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ وَجْدًا شَدِيدًا ، وَأَخَذَ الصُّرَّةَ فَرَمَى بِهَا فِي الْفُرَاتِ .
فَإِذَا قِيلَ لِمِثْلِ هَذَا : بَخِيلٌ فَمَا بَالُك بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى الطَّرِيقِ ، وَيَطْلُبُ الْمَطَالِبَ ، ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ لِآرَائِنَا ، وَلَا لِمَا اصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ مِنْ عَوَائِدِنَا ، وَلَا لِمَا يَخْطِرُ مِنْ الْهَوَاجِسِ فِي أَنْفُسِنَا ، بَلْ الْمَشْيُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي وَقَعَ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الزَّمَانِ لِغَلَبَةِ الْبُخْلِ فِيهِ ، وَقِلَّةِ الْبَرَكَاتِ بِخِلَافِ زَمَانِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ إذْ أَنَّ الزَّمَانَيْنِ سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالنُّزُولِ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ مَعَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيِّ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَقَعَ مِثْلُهُ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ الْمُسْتَشْرِفِ فَتَرْتَفِعُ الْبَرَكَةُ عَنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى .
ثُمَّ اُنْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَكْثَرَ قُبْحَهَا ، وَبَشَاعَتَهَا .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَقَعَ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَقَدْ جَرَّ ذَلِكَ إلَى تَسْلِيطِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى هَدْمِ كَثِيرٍ مِنْ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاجِدِهِمْ بِسَبَبِ حَفْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ كَانَتْ لَهُ شَوْكَةٌ فَعَلَهُ جِهَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَمْلَاك الْمُسْلِمِينَ ، وَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شَوْكَةٌ عَمِلَ الْحِيَلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَخْرَبَ ، وَتُهْدَمَ ، وَهَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ حَتَّى صَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ

الْبَاطِلَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُخَرِّبَ مَسْجِدًا أَوْ دَارَ مُسْلِمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ أَنَّ مَوْضِعَ كَذَا فِيهِ كَذَا وَكَذَا ، وَيَكْتُبُ تَارِيخَهَا قَدِيمًا ، وَيُبَخِّرُهَا حَتَّى تَبْقَى كَأَنَّهَا وَرَقَةٌ عَتِيقَةٌ ، ثُمَّ يُعَلِّقُهَا فِي مَوْضِعِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِسَبَبِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ إمَّا بِيَدِهِ الْبَاطِشَةِ أَوْ كَثْرَةِ التَّحَيُّلِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَخْرِيبِ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ ، وَدُورِهِمْ يَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى قَلَّ أَنْ تُحْفَرَ لَهُمْ دَارٌ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بِيعَةٌ ، وَالْكُلُّ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ ، وَمَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ إذَا عَجَزُوا عَنْ تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ وَالدُّورِ تَسَلَّطُوا عَلَى تَعَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَبْدَانِهِمْ وَخَسَارَتِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَيَكْتُبُونَ أَوْرَاقًا فِي ذُرْوَةِ الْجَبَلِ الْفُلَانِيِّ مِنْ النَّاحِيَةِ الْفُلَانِيَّةِ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا إذَا حَفَرْت فِيهِ كَذَا وَكَذَا ، وَقِسْت كَذَا وَكَذَا تَجِدُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا ، وَفِي وَرَقَةٍ أُخْرَى الْغَارُ الْفُلَانِيُّ فِي جِهَةِ كَذَا ، وَكَذَا مِنْهُ تَحْفِرُ قَدْرَ كَذَا وَكَذَا فَتَجِدُ كَذَا وَكَذَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَحِيحًا فَعَلَيْهِ الْمَهَالِكُ الْكَثِيرَةُ ؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَلَمْ يَضَعُوا شَيْئًا إلَّا ، وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ مَهَالِكَ عَظِيمَةً فَقَلَّ أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِعَطَبِهِ ، وَعَطَبِ غَيْرِهِ ، ثُمَّ إنَّ مَا يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي فَيَافِي الْأَرْضِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ فَذَلِكَ فِيهِ الْخُمُسُ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِهِ ، وَبَاقِيهِ لِوَاجِدِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ لُؤْلُؤًا أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا أَوْ رَصَاصًا كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِيهِ الْخُمُسُ ، وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ ثَلَاثَةٌ هَذَا وَاحِدٌ مِنْهَا .
وَالثَّانِي -

النُّدْرَةُ تُوجَدُ فِي الْمَعْدِنِ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ أَوْ بِمُؤْنَةٍ يَسِيرَةٍ .
وَالثَّالِثُ - الْغَنِيمَةُ .
وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ أَرْضِ الْعَرَبِ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أُخِذَ عَنْوَةً .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أُخِذَ صُلْحًا فَإِنْ كَانَ عَنْوَةً فَهُوَ لِتِلْكَ الْجُيُوشِ الَّذِينَ فَتَحُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ثُمَّ لِأَوْلَادِهِمْ ، ثُمَّ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّ أَوْلَادَ الصَّحَابَةِ مَوْجُودُونَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ صُلْحًا فَمَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ لِأَهْلِ الصُّلْحِ فَإِنْ عُدِمُوا فَلِأَوْلَادِهِمْ ثُمَّ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ ، وَهُمْ أَيْضًا مَوْجُودُونَ ، وَهَلُمَّ جَرًّا ، وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا : أَنَّ وَاجِدَهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ إلَّا التَّعَبَ وَإِشْغَالَ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ كَانَتْ عَنْهُ فِي غِنًى وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ هَلَاكِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْفِرَارُ مِنْ هَذَا ، وَمَا شَاكَلَهُ إذْ إنَّ غَنِيمَةَ الْمُسْلِمِ إنَّمَا هِيَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، وَمَنْ اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ قَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ فَالسَّعِيدُ مَنْ لَجَأَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ اللَّطِيفُ الرَّحْمَنُ

( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِتَحْصِيلِ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ فَهُوَ مِنْ الْبَاطِلِ الْبَيِّنِ ، وَالْغِشِّ الْمُتَعَدِّي ضَرَرُهُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا فَقَدْ خَلَطَ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ ، وَبَخَسَهَا عَلَيْهِمْ إذْ إنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي فِعْلِهَا .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهَا ، وَلَا عِلْمَ عِنْدَهُ أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ بَعْدَ زَمَانٍ ، وَذَلِكَ الزَّمَانُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ ، وَيَغِشُّ النَّاسَ بِهَا فَيُشْغِلُونِ ذِمَّتَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ سُحْتٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ ، وَهُوَ بَعِيدٌ .
وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ تَغْيِيرِهَا فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الذَّهَبَ الْمَعْدِنِيَّ ، وَالْفِضَّةَ الْمَعْدِنِيَّةَ يَنْفَعَانِ لِأَمْرَاضٍ ، وَلَهُمَا خَاصِّيَّةٌ فِي الْأَدْوِيَةِ ، وَغَيْرُهُمَا يَعُودُ بِالضَّرَرِ عَلَى الْمَرِيضِ فَيَزِيدُهُ مَرَضًا أَوْ يَمُوتُ بِسَبَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْمَعْدِنِيِّ عَقَاقِيرُ قَدْ يُسْقِمُ بَعْضُهَا ، وَقَدْ يَقْتُلُ بَعْضُهَا فَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ تَعَاطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ شَغَلَ ذِمَّتَهُ بِأَمْوَالِ النَّاسِ ، وَدِمَائِهِمْ ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ صَرْفَهَا لَا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَلَيْسَتْ بِمَعْدِنِيَّةٍ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ إجَازَةِ ذَلِكَ بَعْدَ الْبَيَانِ لَا يَسُوغُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ هُوَ فَمَنْ صَارَتْ إلَيْهِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يُبَيِّنُ ، وَالِاحْتِرَازُ مِنْ هَذَا مُتَعَذِّرٌ .
هَذَا وَجْهٌ وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ صَنْعَةِ يَدِهِ تَمَزَّقَ عِرْضُهُ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَئُولُ إلَى سَفْكِ دَمِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُعْدَلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْءٌ .
فَإِذَا سَلِمَ مِنْ الِاتِّصَافِ بِطَلَبِ الْمَطَالِبِ ، وَالْكِيمْيَاءِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ خَلْطَةِ مَنْ يَتَعَانَى

ذَلِكَ أَوْ يُشَارُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مَا فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِاسْتِشْرَافِ نَفْسِهِ بِسَبَبِ سَمَاعِهِ مِنْهُمْ مَا يَخُوضُونَ فِيهِ ، وَذَلِكَ يَذْهَبُ بِبَهَاءِ عِزَّةِ الْفَقْرِ ، وَعِزَّةِ الْإِيَاسِ إذْ لَا بُدَّ لِمَنْ خَالَطَهُمْ أَنْ يَشْغَفَ بِشَيْءٍ مَا مِنْ حَالِهِمْ ، وَلَوْ قَلَّ ، وَذَلِكَ شُغْلٌ لِلْقَلْبِ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ التَّوَجُّهِ ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْمَوْلَى الْكَرِيمِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ بِالْإِرَادَةِ الْهَرَبُ الْكُلِّيُّ مِمَّنْ يُشَارُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُرِيدِ نَظِيفٌ جِدًّا ، وَالتَّنْظِيفَ أَقَلُّ شَيْءٍ يُقَابِلُهُ مِنْ الْوَسَخِ يُؤَثِّرُ فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ فِي الْغَالِبِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا وَقَعَ فِيهِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ الرَّفِيعِ الْأَبْيَضِ النَّظِيفِ فَإِنَّ أَقَلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يُدَنِّسُهُ .
، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ فِي صِفَتِهِمْ : قَلَّتْ ذُنُوبُهُمْ لِمَعْرِفَتِهِمْ مِنْ أَيْنَ أُصِيبُوا ، وَكَثُرَتْ ذُنُوبُ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْ أَيْنَ أُصِيبُوا ، وَالْكِيمْيَاءُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ الرُّجُوعُ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَالنُّزُولُ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ ، وَطَلَبُ الْعَبْدِ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ ، وَجَلَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ يَسْتَحْيِ أَنْ يَرُدَّ يَدَيْ سَائِلِهِ صِفْرًا ، وَقَدْ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ فِي صَلَاتِي لِحَوَائِجِي كُلِّهَا حَتَّى الْمِلْحَ لِعَجِينِي ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَا مُوسَى سَلْنِي حَتَّى الْمِلْحَ لِعَجِينِك فَوَعِزَّتِي ، وَجَلَالِي لَئِنْ مَنَعْتُك فَلَا أَحَدَ يُعْطِيك إيَّاهُ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ ، وَحَتَّى يَسْأَلَهُ شِسْعَهُ إذَا انْقَطَعَ } .
فَسَبِيلُ الْعَبْدِ طَلَبُ حَوَائِجِهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ جَاعَ يَقُولُ : يَا رَبِّ

أَنَا جَائِعٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ عَطِشَ أَوْ تَعَرَّى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ كُلِّهَا فِي جَلْبِ النَّفْعِ ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } ، وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا } ، وَقَالَ { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا } .
فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدَيْهِ ، وَتَوَكَّلَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى رَبِّهِ ، وَأَنَابَ إلَيْهِ .
فَإِذَا حَصَلَ لِلْمُرِيدِ هَذَا الْحَالُ فَلَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا مَا قَبِلَهَا ، وَلَا أَقْبَلَ عَلَيْهَا ؛ لِمَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَحُسْنِ نَظَرِهِ لَهُ إذْ إنَّ مَفَاتِيحَ هَدَايَاهُ لَا تَنْحَصِرُ ، وَلَا تَرْجِعُ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ ، وَلَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ أَيْنَ ، وَلَا كَيْفَ فَكَذَلِكَ مَا سَتَرَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ مِنْ عَطَايَاهُ الْجَمَّةِ ، وَهَدَايَاهُ الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ ضَرُورَةٌ ، وَجُوعٌ شَدِيدٌ فَتَضَرَّعَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي خَلْوَتِهِ ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْعَطَاءَ فَسَمِعَ هَاتِفًا ، وَهُوَ يَقُولُ : أَتُرِيدُ طَعَامًا أَوْ فِضَّةً فَقَالَ ، بَلْ فِضَّةً ، وَإِذَا بِصُرَّةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ ، وَأَخْرَجَ مَا طُلِبَ مِنْهُ ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَنْظُرُونَ إلَى جَيْبِهِ ، وَيَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ إذَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْحَالِ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا طُلِبَ مِنْهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْخَضِرَ يَأْتِيهِ بِكُلِّ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ يَصْحَبُهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ يُعْرَفُ بِأَبِي
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15