كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

لَمْ تَدْخُلْ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى صِفَتُهُ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَلَوْ لَمْ يُرِدْ إذْنَ حَدِيثٍ أَصْلًا بِصَلَاةِ الرَّغَائِبِ بِعَيْنِهَا وَوَصْفِهَا لَكَانَ فِعْلُهَا مَشْرُوعًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي عُمُومِ الصَّلَاةِ ، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ ذَاتُهَا فَمَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى فَبَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ كَمَا ذَكَرَ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فَلَا يُنْكَرُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَقَوْلُهُ وَكَمْ مِنْ صَلَاةٍ مَقْبُولَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى وَصْفٍ خَاصٍّ لَمْ يَرِدْ بِوَصْفِهَا ذَلِكَ نَصٌّ خَاصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ثُمَّ لَا يُقَالُ إنَّهَا بِدْعَةٌ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهَا بِدْعَةٌ لَقَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ لِكَوْنِهَا رَاجِعَةً إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ بِوَاقِعٍ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا بَيَّنَهَا الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَبَيَّنَ أَوْقَاتَهَا وَأَسْمَاءَهَا وَجَمِيعَ صِفَاتِهَا حَتَّى الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَمَا زَادَ عَلَى بَيَانِهِ فَهُوَ حَدَثٌ فِي الدِّينِ فَإِذَا أَتَى الْمُصَلِّي بِذَلِكَ كُلِّهِ حَكَمَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْقَبُولِ أَوْ الرَّدِّ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمَا وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَشْرُوعَةُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الدِّينِ فَمَا بَالُك بِصَلَاةٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ فِيهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَالضَّلَالَةُ لَا تَكُونُ مُتَقَبَّلَةً .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا قَالَ لَهُ هَنِيئًا لَك يَا أَبَتِ تَصَدَّقْت الْيَوْمَ بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ : وَاَللَّهِ لَوْ عَلِمَ أَبُوك أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَقَبَّلَ مِنْهُ حَسَنَةً

وَاحِدَةً مَا كَانَ شَيْءٌ أَشْهَى لَهُ مِنْ الْمَوْتِ .
هَذَا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْقَبُولِ الْقَبُولَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مُرَادُهُ الْقَبُولَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَالْعُلَمَاءُ لَا يَقْبَلُونَ إلَّا مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَكَلَامُهُ مَرْدُودٌ وَالْبِدْعَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَا اخْتَرَعَهُ الْمَرْءُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ غَيْرُهُ فَإِذَا صَلَّى صَلَاةً لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ إلَّا مِنْ بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَنْ فَعَلَهَا وُصِفَ فِعْلُهُ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهَا بِدْعَةٌ لَقَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْغَفْلَةِ مَا أَشَدَّهَا ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ فَحَكَمَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } فَمَنْ زَادَ وَصْفًا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ فَقَدْ زَادَ عَلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالزِّيَادَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا وَالْمَكْرُوهُ ضِدُّ الْحَسَنِ فَكَيْفَ يَحْكُمُ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ يَصِفُهَا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً حَسَنَةً .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ الْبِدْعَةَ الْحَسَنَةَ مِثْلُ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَمَا أَشْبَهَهَا .
وَقَالُوا فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ إنَّهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَأَنْكَرُوهَا إنْكَارًا شَدِيدًا .
حَتَّى أَنَّ مَنْ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ هَذَا الْقَائِلِ ، وَهُوَ الْإِمَامُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْكَرَهَا إنْكَارًا شَدِيدًا فِي فَتَاوِيه ، وَهَذَا لَفْظُهَا .
قَالَ : مَسْأَلَةٌ

: صَلَاةُ الرَّغَائِبِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ أَوْ بِدْعَةٌ .
الْجَوَابُ هِيَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكَرَةٌ أَشَدَّ إنْكَارٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى مُنْكَرَاتٍ فَعُيِّنَ تَرْكُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا ، وَإِنْكَارُهَا عَلَى فَاعِلِهَا وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْعُ النَّاسِ مِنْ فِعْلِهَا فَإِنَّهُ رَاعٍ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ كُتُبًا فِي إنْكَارِهَا وَذَمِّهَا وَتَسْفِيهِ فَاعِلِهَا وَلَا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْفَاعِلِينَ لَهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْبُلْدَانِ وَلَا بِكَوْنِهَا مَذْكُورَةً فِي قُوتِ الْقُلُوبِ وَإِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ .
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مِنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرُّجُوعِ إلَى كِتَابِهِ فَقَالَ تَعَالَى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَلَمْ يَأْمُرْنَا بِاتِّبَاعِ الْجَاهِلِينَ وَلَا بِالِاغْتِرَارِ بِغَلَطَاتِ الْمُخْطِئِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِكَوْنِهَا رَاجِعَةً إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَوْقِيفِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْخُرُوجِ إلَيْهَا وَالتَّكْبِيرِ فِيهَا وَكَذَلِكَ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَصَلَاةَ الْخَوْفِ وَالرَّوَاتِبِ مَعَ الصَّلَوَاتِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالِاسْتِخَارَةِ وَالتَّهَجُّدِ وَصَلَاةَ الْمَرِيضِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَأَوْضَحَهَا بِالْفِعْلِ

وَالْقَوْلِ فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا وَلَا يُنْقِصَ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِدْعَةً مَمْنُوعَةً فَأَوْلَى بِالْمَنْعِ إذَا أُحْدِثَتْ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ تَسْمِيَةٌ وَوَقْتٌ خَاصٌّ هِيَ بِهَا وَصَارَتْ شِعَارًا ظَاهِرًا شَائِعًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا إلَّا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ يَفْتَقِرُ اسْتِحْبَابُهَا إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُسْتَقِلٍّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إقَامَتِهَا جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ .
وَقَوْلُهُ وَمِنْ أَمْثَالِ هَذَا مَا إذَا صَلَّى إنْسَانٌ فِي جُنْحِ اللَّيْلِ خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ آيَةً فَآيَةً مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً عَلَى التَّوَالِي وَخَصَّ كُلَّ رَكْعَةٍ مِنْهَا بِدُعَاءٍ خَاصٍّ فَهَذِهِ صَلَاةٌ مَقْبُولَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ صَلَاةٌ مُبْتَدَعَةٌ مَرْدُودَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَوْ وَضَعَ أَحَدٌ حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ رَوَاهَا بِهِ لَأَبْطَلْنَا الْحَدِيثَ وَأَنْكَرْنَاهُ وَلَمْ نُنْكِرْ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلِهَذَا شَوَاهِدُ وَنَظَائِرُ لَا تُحْصَى مِنْ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَقَالَ عَنْهَا إنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَكَفَى غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ : مُؤْنَةَ الرَّدِّ عَلَيْهِ إذْ أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَالْبِدْعَةُ مَكْرُوهَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَهَذِهِ صَلَاةٌ مَقْبُولَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ وَكَمْ مِنْ صَلَاةٍ مَقْبُولَةٍ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَيُحْسِنَ النِّيَّةَ مَا اسْتَطَاعَ وَيَتَّبِعَ السُّنَّةَ فِي عَمَلِهِ وَيَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ

الْقَبُولَ مِنْ فَضْلِ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ بِفَضْلِهِ أَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ وَاتَّبَعَ أَمْرَهُ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهُ تَقَبَّلَ مِنْهُ وَنَجَّاهُ ، وَأَمَّا إنْ فَعَلَ فِعْلًا لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ فِعْلَ هَذَا حَدَثٌ وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَتَوَضَّأْت كَذَلِكَ ، وَإِنْ كُنْت أَقْرَؤُهَا إلَى الْمَرَافِقِ .
وَعَلَى هَذَا دَرَجَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فَمَنْ ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَمْتَثِلُونَ السُّنَّةَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَيَخَافُونَ مَعَ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْخَوْفُ عَلَى الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَفْضَلُ مِنْ الْعَمَلِ ، وَهَذَا الْقَائِلُ قَدْ ذَكَرَ صُورَةً لَمْ تَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَجَعَلَهَا دَلِيلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَا رَامَهُ مِنْ صِحَّةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَقَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ آيَةً فَآيَةً مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً .
فَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مَكْرُوهًا فِي صَلَاتِهِ مُسْتَدِلًّا بِفِعْلِ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ إلَى قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ أَخَذَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُعْلَةٌ فَرَكَعَ وَلَمْ يَقْرَأْ بِبَعْضِ سُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ السُّورَةِ لِلْعُذْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ فَمَا بَالُك بِآيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخْتَارُهَا فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ وَأَيْنَ الِاتِّبَاعُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَلَوْ وَضَعَ لَهَا أَحَدٌ حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ رَوَاهَا بِهِ

لَأَبْطَلْنَا الْحَدِيثَ وَأَنْكَرْنَاهُ وَلَمْ نُنْكِرْ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ، وَهُوَ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي التَّنَفُّلِ الَّتِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ وَقَوْلُهُ وَأَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ زَادَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ سَهْوًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِلْجُلُوسِ مَا لَمْ يَرْكَعْ فَإِنْ رَكَعَ مَضَى فِي صَلَاتِهِ حَتَّى يُتِمَّهَا أَرْبَعًا وَيَسْجُدَ قَبْلَ السَّلَامِ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ وَقَامَ إلَى خَامِسَةٍ سَهْوًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مَتَى ذَكَرَ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَكْثَرَ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ فَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ { خَرَجَ مَعَ صَفِيَّةَ لَيْلًا فَمَرَّ بِهِ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيت أَنْ يَقْذِفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا أَوْ قَالَ شَيْئًا } .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ أَحَدُهُمَا عِصْمَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْأَصْلُ الثَّانِي قُوَّةُ إيمَانِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ حَتَّى بَيَّنَ لَهُمَا مَا الْحَالُ عَلَيْهِ ، فَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ كَافِيًا لَمْ يَحْتَجْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمَا ذَلِكَ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِهَذَا شَوَاهِدُ وَنَظَائِرُ لَا تُحْصَى مِنْ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ عَنْهَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الشَّوَاهِدِ وَالنَّظَائِرِ الَّتِي قَالَ عَنْهَا وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ أَعْنِي عَلَى مُقْتَضَى الِاتِّبَاعِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَنْقُولَةٌ مَحْفُوظَةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ وَلَا قِيَاسِيَّةٌ .
نَعَمْ الْفُقَهَاءُ يُعَلِّلُونَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَأَمَّا أَنْ يَخْتَرِعَ الْإِنْسَانُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ شَيْئًا وَيُعَلِّلَهُ بِعَقْلِهِ فَبَعِيدٌ عَنْ وَجْهِ الصَّوَابِ غَيْرُ مَعْقُولٍ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ .
عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيهِ فَتْحُ بَابٍ عَظِيمٍ لِاسْتِحْسَانِ الْبِدَعِ وَالزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ إذْ أَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا يَسْتَنِدُ لِهَذَا الْقَوْلِ فَيُعَلِّلُ مَا اسْتَحْسَنَهُ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَأَنْزَلْنَا إلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا وَإِنِّي قَدْ بَلَّغْت مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَأَكْثَرَ } عَلَى هَذَا فَالْأَصْلُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ بَيَّنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ ، فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ مُتَعَيِّنٌ وَلَا يُطَالَبُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ بِدَلِيلٍ غَيْرِهِ فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ صَلَاةً أَوْ شِعَارًا فَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهَا مَعَ ضَعْفِهِ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ صَدْرِ الْأُمَّةِ فَهِمَ أَنْ يُجْمَعَ لَهَا وَلَا أَنْ تُعْمَلَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ

وَكَذَلِكَ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ إلَى الْقَرْنِ الْخَامِسِ وَشَيْءٌ لَمْ يُوجَدْ مِنْ هَؤُلَاءِ فَاطِّرَاحُهُ مُتَعَيِّنٌ .
وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَكَيْفِيَّتَهَا وَوَقَّتَ لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَتَغَيَّرُ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ وَلَا يُنْقِصَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
وَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ كَافِيًا كَمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَمَا دَعَتْ حَاجَةٌ إلَى بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ صَلَاةٍ عَلَى حِدَتِهَا وَمَا تَخْتَصُّ بِهِ وَمَا يَنُوبُ الْمَرْءُ فِيهَا ، وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ، فَإِنَّ النَّفْسَ مِنْ طَبْعِهَا أَنَّهَا لَا تُرِيدُ الدُّخُولَ تَحْتَ الْأَحْكَامِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى تَمَرُّدِهِ فِي كُفْرِهِ لَا يُنَازِعُ الرُّبُوبِيَّةَ وَالنَّفْسَ تُنَازِعُهَا فَكُلُّ فِعْلٍ كَانَتْ بِهِ مَأْمُورَةً لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِمُجَاهِدَةٍ قَوِيَّةٍ بِخِلَافِ مَا تَبْتَدِعُهُ وَتُحْدِثُهُ مِنْ قِبَلِهَا ، فَإِنَّهَا تَنْشَطُ فِيهِ وَتَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ وَالْخَطَرَ لِكَوْنِهَا آمِرَةً غَيْرَ مَأْمُورَةٍ ، وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُهَا فِيهِ التَّعَبُ ، فَإِنَّهُ حُلْوٌ عِنْدَهَا بِسَبَبِ أَنَّهَا آمِرَةٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتْ الْعِبَادَةُ بِالْعَادَةِ ، وَلَا بِالِاسْتِحْسَانِ ، وَلَا بِالِاخْتِيَارِ ، وَإِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ بَيَانِ رَسُولِهِ الْمَعْصُومِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَحَيْثُ مَشَى مَشَيْنَا وَحَيْثُ وَقَفَ وَقَفْنَا ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إلَى مَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ وَأَفَادُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَدْخَلٌ .
اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بِكَرَمِك يَا كَرِيمُ وَأَيْضًا فَمَا حَدَثَ بَعْدَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوهُ

وَعَلِمُوا أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَنْقِيصُهُمْ وَتَفْضِيلُ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَشَدُّهُمْ اتِّبَاعًا .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ لَمْ يَتْرُكُوا إلَّا لِمُوجِبٍ أَوْجَبَ تَرْكَهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ فِعْلُهُ هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لَمْ يَعْلَمُوهُ فَيَكُونَ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ بَعْدَهُمْ أَعْلَمَ مِنْهُمْ وَأَفْضَلَ وَأَعْرَفَ بِوُجُوهِ الْبِرِّ وَأَحْرَصَ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَعَلِمُوهُ وَلَظَهَرَ لَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَعْقَلُ النَّاسِ وَأَعْلَمُهُمْ .
وَقَدْ قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ عُقُولُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ أَزْمِنَتِهِمْ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إشْكَالٌ فِي الدِّينِ ، وَلَا فِي الِاعْتِقَادَاتِ لِوُفُورِ عُقُولِهِمْ ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الشُّبَهُ بَعْدَهُمْ لَمَّا خَالَطَتْ الْعُجْمَةُ الْأَلْسُنَ فَلِنُقْصَانِ عُقُولِ مَنْ بَعْدَهُمْ عَنْ عُقُولِهِمْ وَقَعَ مَا وَقَعَ .
وَقَوْلُهُ وَاَلَّذِي يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ أَنَّهُ كَذَلِكَ أُمُورٌ نَذْكُرُهَا وَنُبَيِّنُ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ كَوْنَهَا سَالِمَةً مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَحَدُهَا : مَا فِيهَا مِنْ تَكْرَارِ السُّورَةِ وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ تَكْرَارُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ هِيَ فَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ نَعُدُّهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَوِيٍّ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنْ كَرَاهَةِ نَحْوِ ذَلِكَ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ قَدْ أُطْلِقَتْ عَلَى مَعَانٍ وَذَلِكَ أَحَدُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ وُقُوعِ التَّوَهُّمِ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هِيَ مَسَائِلُ عَدِيدَةٌ صَحِيحَةٌ خَالَفَ فِيهَا نَقْلَ الْعُلَمَاءِ

فَبَدَأَ بِتَكْرَارِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى فِعْلِهَا بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَكْرَارِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ يُكَرِّرُهَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْفَظُ غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا لَا يُكَرِّرُونَهَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِفَضِيلَتِهَا ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَكْرَارِ السُّورَةِ لِحَافِظِ الْقُرْآنِ .
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قِرَاءَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مِرَارًا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلَّذِي يَحْفَظُ الْقُرْآنَ أَنْ يُكَرِّرَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِرَارًا لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّ أَجْرَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَأَجْرِ مَنْ قَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَأْوِيلًا لِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ { أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ لَاقْتَصَرُوا عَلَى قِرَاءَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فِي الصَّلَوَاتِ بَدَلًا مِنْ قِرَاءَةِ السُّوَرِ الطِّوَالِ ، وَلَكَرَّرُوهَا فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ فَرَائِضِهِمْ وَنَوَافِلِهِمْ وَلَاقْتَصَرُوا عَلَى قِرَاءَتِهَا مِنْ دُونِ سَائِرِ الْقُرْآنِ فِي تِلَاوَتِهِمْ .
فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُسَاوِي أَجْرَ مَنْ أَحْيَا اللَّيْلَ وَقَامَ فِيهِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ تَكْرِيرَهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَرَأَى ذَلِكَ بِدْعَةً ، وَهُوَ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ تَكْرِيرَهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ

وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةٍ طَوِيلَةٍ تَزِيدُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ تَكْرِيرِهَا الْمَرَّاتِ الَّتِي كَرَّرَهَا فِيهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يُكَرِّرُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } إذْ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يُرَدِّدُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ سِوَاهَا وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ السُّوَرِ الطِّوَالِ ، وَإِنَّمَا أَعْلَمَ بِأَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَتَقَالُّهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ وِرْدِهِ الَّذِي اعْتَادَهُ وَيُسْتَحَبُّ تَرْجِيعُ الْقُرْآنِ لِلتَّفَهُّمِ وَالتَّدَبُّرِ .
هَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ إنْ كُنَّا صَالِحِينَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ لَمْ نَعُدَّهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَوِيٍّ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ السُّورَةِ لَا يُسْتَحَبُّ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تَكْرَارَهَا مَكْرُوهٌ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ إنَّمَا تُرَادُ لِلثَّوَابِ وَالْقِرَاءَةُ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّبَاعِ هِيَ أَكْثَرُ ثَوَابِهَا ، وَفِيهَا تَرْكُ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ ، وَهُوَ خَيْرٌ عَظِيمٌ وَالْمَكْرُوهُ الْمُنْكَرُ لَيْسَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِهَا بَلْ الْكَرَاهَةُ هُنَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَحَدُّ الْمَكْرُوهِ مَا فِي تَرْكِهِ ثَوَابٌ ، وَلَيْسَ

فِي فِعْلِهِ عِقَابٌ ، وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهِ فِيهِ ، فَتَرْكُهُ يَتَأَكَّدُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَحْفَظْ الْقُرْآنَ فَلَا بَأْسَ إذَنْ بِتَكْرَارِ السُّورَةِ فِي النَّافِلَةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنْ كَرَاهَةِ نَحْوِ ذَلِكَ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَوْلَى ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ قَدْ أُطْلِقَتْ عَلَى مَعَانٍ وَذَلِكَ أَحَدُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ تَرْكَ الْأَوْلَى فِي تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ يَتَأَكَّدُ تَرْكُهُ إذْ لَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ارْتِكَابِ مِثْلِ هَذَا فِي تِلَاوَةِ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .

قَوْلُهُ الثَّانِي السَّجْدَتَانِ الْمُفْرَدَتَانِ عَقِبَ هَذِهِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي كَرَاهَةِ مِثْلِ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُنَازِعُ يَخْتَارُ قَوْلَ مَنْ يَكْرَهُهُمَا فَسَبِيلُهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا فَحَسْبُ لَا أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مِنْ أَصْلِهَا .
وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي تَكْرَارِ السُّورَةِ سَوَاءٌ بَقِيَ عَلَى الصَّلَاةِ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ لِبَقَاءِ مُعْظَمِهَا أَوْ لَمْ يَبْقَ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ إبْقَاءَ النَّاسِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ مِنْ شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ وَصِيَانَتِهِمْ عَنْ التَّرْكِ لَا إلَى خَلَفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا يُرَادُ بِهَا التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقَرُّبُ إنَّمَا يَكُونُ بِالِامْتِثَالِ لَا بِالِابْتِدَاعِ وَلَا بِالْمَكْرُوهِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي كَرَاهَةِ مِثْلِ ذَلِكَ وَالْعُلَمَاءُ إنَّمَا أَجَازُوا السُّجُودَ الْمُنْفَرِدَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا : أَحَدُهُمَا : سُجُودُ التِّلَاوَةِ .
وَالثَّانِي : سُجُودُ الشُّكْرِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَاهُ .
وَلَيْسَتْ هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَبَطَلَ مَا حَكَاهُ مِنْ الْخِلَافِ فِي إجَازَةِ مِثْلِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ الْمُنَازِعُ يَخْتَارُ قَوْلَ مَنْ يَكْرَهُهُمَا فَسَبِيلُهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا فَحَسْبُ ، لَا أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مِنْ أَصْلِهَا فَهَذَا لَا يَنْهَضُ لَهُ أَيْضًا ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ السَّجْدَتَيْنِ الْمُفْرَدَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ عَلَى صِفَتِهَا بِكَمَالِهَا فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ رَغَائِبَ ، وَإِنْ سَجَدَهُمَا فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَمَا سَبَقَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي تَكْرَارِ السُّورَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ سَوَاءٌ بَقِيَ عَلَى الصَّلَاةِ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ لِبَقَاءِ مُعْظَمِهَا أَوْ لَمْ يَبْقَ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَخْلُو أَنْ

يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ أَوْ صَلَاةَ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ لِنُقْصَانِ السَّجْدَتَيْنِ الْمُفْرَدَتَيْنِ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ صَلَاةَ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ هُوَ صِفَةُ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ وَأَيْضًا فَهُوَ لَمْ يَنْوِهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ إبْقَاءَ النَّاسِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ مِنْ شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ .
لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ بِلَفْظَةِ الْمَقْصُودِ الْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنْ أَرَادَ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا هُوَ الِامْتِثَالُ .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ كَمَا سَبَقَ ، وَإِنْ أَرَادَ مَا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى لَفْظَةِ النَّاسِ ، وَمَاذَا أُرِيدَ بِهَا وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَا اعْتَادُوهُ الْعَادَةَ الْمُوَافِقَةَ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ أَوْ الْمُخَالِفَةَ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْمُوَافِقَةَ لِلشَّرْعِ فَلَيْسَ مَا أُحْدِثَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ بِمُوَافِقٍ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِمَا اعْتَادُوهُ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ فَالْكَلَامُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى كِلَا التَّقْرِيرَيْنِ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ كَيْفَ يُثْبِتُ صَلَاةً بِعَمَلِ أَهْلِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِعَمَلِ عُلَمَاءِ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهِمْ الْجَمَّ الْغَفِيرَ ، وَفِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ ذَهَابُ السُّنَنِ عَنْهُمْ وَلَا يُتَّهَمُونَ فِي تَرْكِ سُنَّةٍ وَلَا فِي إحْدَاثِ بِدْعَةٍ وَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا حُجَّةٍ وَهُمْ الَّذِينَ رَوَوْا الْحَدِيثَ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ مُعَارِضٌ لِعَمَلِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ الرَّاوِيَ

يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي فَهْمِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ لَهُ ، وَيَكُونُ تَرْجِيحًا مُقَدَّمًا عَلَى فَهْمِ مَنْ عَدَاهُ فَكَيْفَ يَحْكُمُ بِعَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ فَالْعِبَادَةُ إنَّمَا هِيَ بِالِاتِّبَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَشَغْلُ هَذَا الْوَقْتِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ مِنْ التَّنَفُّلِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ ، وَإِنْ شَغَرَ الْوَقْتَ عَنْ الْعَمَلِ .
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ أَفْضَلُ أَعْمَالِهِمْ النَّوْمَ وَأَفْضَلُ عُلُومِهِمْ الصَّمْتَ " يَعْنِي لِفَسَادِ الْأَعْمَالِ وَلِاشْتِبَاهِ الْعِلْمِ " وَأَفْضَلُ أَحْوَالِهِمْ الْجُوعَ لِانْتِشَارِ الْحَرَامِ وَغُمُوضِ الْحَلَالِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَصِيَانَتِهِمْ عَنْ التَّرْكِ لَا إلَى خَلَفٍ .
فَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ بَقِيَ بِدُونِ عَمَلٍ وَشُغُورُ هَذَا الْوَقْتِ عَنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ أَفْضَلُ وَأَعْلَى بَلْ نَوْمُهُ أَفْضَلُ إذَا تَوَقَّعَ بِدْعَةً فِي عَمَلِهِ أَوْ دَسِيسَةً فَمَا بَالُك بِهِ مَعَ تَحَقُّقِهَا .
فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا إلَى خَلَفٍ أَنَّهُمْ لَا يَشْتَغِلُونَ فِي وَقْتِهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ فَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ ، وَإِنْ أَرَادَ لَا إلَى خَلَفٍ عَنْهَا ، وَإِنْ اشْتَغَلُوا فِي وَقْتِهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ مِنْ طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ صَلَاةِ نَافِلَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ تَفَكُّرٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةِ مُسْلِمٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ ، فَهُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى ؛ لِأَنَّهُ فِي عَمَلٍ مَشْرُوعٍ يُثَابُ عَلَيْهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّوْمَ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ مَشْرُوعٍ كَانَتْ الْفَضِيلَةُ مِنْ بَابِ أَوْلَى

وَأَحْرَى .

وَقَوْلُهُ الثَّالِثُ مَا فِيهَا مِنْ التَّقْيِيدِ بِعَدَدٍ خَاصٍّ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ فَهَذَا قَرِيبٌ وَاضِحٌ رَاجِعٌ إلَى مَا سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ كَمَنْ يَتَقَيَّدُ بِقِرَاءَةِ سُبْعِ الْقُرْآنِ أَوْ رُبُعِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَكَتَقْيِيدِ الْعَابِدِينَ بِأَوْرَادِهِمْ الَّتِي يَخْتَارُونَهَا لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا وَلَا يَنْقُصُونَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ نَصٍّ فِي عَدَدِهَا بِعَيْنِهَا وَخُصُوصِهَا ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدْخُلُهَا إذْ أَنَّ أَفْرَادَهَا كُلَّهَا قَدْ بَيَّنَهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدِهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، فَهَذَا قَرِيبٌ ، وَهُوَ حُكْمٌ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَهُوَ كَمَنْ يَتَقَيَّدُ بِقِرَاءَةِ سُبْعِ الْقُرْآنِ أَوْ رُبُعِهِ كُلَّ يَوْمٍ .
فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَوْرَادِ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ الْمَرْءُ مِنْ الْأَوْرَادِ الشَّرْعِيَّةِ مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ ، وَإِنْ قَلَّ } فَتَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ حَضَّ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ كَيْفَمَا كَانَ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً .
الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي رَكْعَةِ الْوِتْرِ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِحَالِهِ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فَكَانَ إجْمَاعًا .
فَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ فِي تَقْدِيرِ الْأَوْرَادِ عَلَى مَا يَخْتَارُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَا تُقَاسُ الْبِدْعَةُ عَلَى هَذَا .

وَقَوْلُهُ الرَّابِعُ أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ عَدَدِ السُّوَرِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِمَا مَكْرُوهٌ لِشَغْلِ الْقَلْبِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَدُّ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ عَائِشَةَ وَطَاوُسٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ .
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَأْسَ بَعْدَ الْآيِ فِي الصَّلَاةِ نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي مَنْصُوصَاتِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرُهُمْ .
وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثُ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ فِعْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي عَدِّ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قُلْت كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسُّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً } .
وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ } ، فَهَذِهِ عَادَتُهُمْ بِخِلَافِ عَادَتِنَا الْيَوْمَ فَكَانَ الْحَافِظُ مِنْهُمْ لِلْقُرْآنِ إذَا أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ فَهُوَ يَعْلَمُ كَمْ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَ وَعَلَى أَيِّ آيَةٍ يَقِفُ كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ جَلِيٌّ لَا خَفَاءَ بِهِ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى حِسَابٍ وَلَا عَدٍّ ، وَإِنَّمَا تُرِكَ ذَلِكَ حِينَ أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ تَحْزِيبَ الْقُرْآنِ فَرَجَعُوا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى الْأَحْزَابِ وَالْأَنْصَافِ وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَثْمَانِ وَالْأَسْبَاعِ وَنَحْوِهَا وَمَنْ أَحْرَمَ فِي الصَّلَاةِ

عَلِمَ كَمْ مِنْ حِزْبٍ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَهُ وَعَرَفَ مَا يَقِفُ عَلَيْهِ مِنْهَا كَمَا كَانَ أُولَئِكَ يَعْلَمُونَ بِالْآيَاتِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ شَغْلٌ عَنْ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدِّ التَّسْبِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ فِي أَيِّ وَقْتٍ يُتِمُّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ إلَّا بِحِسَابِ وَعَدٍّ عَلَى أَنَامِلِهِ ، وَذَلِكَ شَغْلٌ فِي الصَّلَاةِ مُتَحَقِّقٌ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ فِيهَا وَالْمَطْلُوبُ فِي الصَّلَاةِ الْخُشُوعُ لَا عَدَدُ الرَّكَعَاتِ وَالْأَذْكَارِ فَافْتَرَقَا .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ .
وَصَلَاةُ الرَّغَائِبِ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ فَلَا يُقَاسَ مَا هُوَ بِدْعَةٌ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ .
فَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ شَغْلُ الْقَلْبِ بِمَا يُعَدُّ وَيُحْسَبُ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { سِيرُوا بِسَيْرِ ضُعَفَائِكُمْ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُرَاعَى أَحْوَالُ الْقُلُوبِ وَالنَّاسِ بَلْ حَالُ الضَّعِيفِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ فَلَا يَسِيرُ الْقَوِيُّ إلَّا بِسَيْرِ الضَّعِيفِ .
فَعَلَى هَذَا فَقَدْ صَارَتْ الْحَالَةُ وَاحِدَةً .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثُ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ .
فَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ التَّسَابِيحِ قَدْ وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا فِيهِ ، فَهِيَ إذَنْ مِنْ الصَّلَاةِ الْمُبَيَّنَةِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا يُقَاسُ مَا هُوَ مُحْدَثٌ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُدَاوَمُ عَلَيْهَا وَلَا يُجْمَعُ لَهُمَا فِي مَسْجِدٍ وَلَا فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ حَدِيثِ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ .
فَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو

مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَظِيمِ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ لَهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فِي صَلَاةِ التَّسَابِيحِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ كَبِيرُ شَيْءٍ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْعُقَيْلِيُّ الْحَافِظُ لَيْسَ فِي صَلَاةِ التَّسَابِيحِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ .
وَقَوْلُهُ الْخَامِسُ فِعْلُهَا فِي جُمْلَةٍ مَعَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي النَّوَافِلِ مَخْصُوصَةٌ بِالْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَوِتْرِهَا .
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تُسَنُّ إلَّا فِي هَذِهِ السِّتَّةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ النَّوَافِلِ .
وَفِي مُخْتَصَرِ الرَّبِيعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِالْإِمَامَةِ فِي النَّوَافِلِ .
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَوَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ فَأَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ { بِأَنَّهُ قَامَ يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا مِنْ اللَّيْلِ } .
وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي دَارِهِمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَصَلَّى بِهِ وَبِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأُمِّ حَرَامٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد { فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا .
} .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ نَحْوُهُ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فِيهِ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَوَاتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا لَيْلًا كَانَتْ أَوْ نَهَارًا فَذًّا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ مَوْقُوفٌ عَلَى بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَحَيْثُ جَمَعَ جَمَعْنَا وَمَا لَا فَلَا .
وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلُّوا كَمَا

رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } ، وَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَصِفَاتِهَا وَأَوْقَاتِهَا عَلَى مَا سَبَقَ .
وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ أَتَمَّ بَيَانٍ فَمَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَذًّا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ فَلْيَفْعَلْهُ الْمُكَلَّفُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } فَدَلَّ عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّافِلَةِ أَنْ تُصَلَّى فِي الْبُيُوتِ فَشَرَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَمَاعَةَ فِي مَوَاضِعَ مَخْصُوصَةٍ ، فَلَا يَتَعَدَّى بِهَا غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالتَّجْمِيعُ فِي النَّوَافِلِ جَائِزٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ فِي النَّافِلَةِ فِي بَيْتِهِ وَفِي بَيْتِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا يَتَعَدَّى مَا شَرَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ دَلِيلٌ حَتَّى يُقَاسَ عَلَى النَّوَافِلِ الْمَشْرُوعَةِ ، وَإِذَا بَطَلَتْ فِي نَفْسِهَا فَكَيْفَ تُقَاسُ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ .

وَقَوْلُهُ السَّادِسُ إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَارَتْ شِعَارًا ظَاهِرًا حَادِثًا ، وَيُمْنَعُ إحْدَاثُ شِعَارٍ ظَاهِرٍ وَجَوَابُهُ أَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ ظَهَرَتْ وَكَثُرَتْ الرَّغَائِبُ فِيهَا ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يُعَكَّرَ عَلَيْهَا بِاجْتِثَاثِهَا مِنْ أَصْلِهَا فَإِنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ مِنْ التَّأْصِيلِ وَالتَّفْصِيلِ وَالتَّفْرِيعِ وَالتَّصْنِيفِ وَالتَّدْرِيسِ شِعَارٌ ظَاهِرٌ حَدَثٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَلِمَ لَا يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ مُبْتَدَعٌ يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ وَشِعَارٌ ظَاهِرٌ مُحْدَثٌ يُعَيَّنُ اجْتِنَابُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ ، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَمْرِ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ ، وَأَنَّ أَنْوَاعَ الصَّلَاةِ كُلَّهَا وَصِفَاتِهَا لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَقَدْ بَيَّنَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأُخِذَتْ عَنْهُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا أَصْلَ لَهَا كَمَا ادَّعَاهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ظَهَرَتْ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ظُهُورِ مَا حَدَثَ أَنْ يُلْحَقَ بِالْمَشْرُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَكَثُرَتْ الرَّغَائِبُ فِيهَا .
فَالرَّغَبَاتُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا رَغَبَاتِ الْعُلَمَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ ، فَإِنْ أَرَادَ الْعُلَمَاءَ ، فَهُوَ بَاطِلٌ إذْ الْعُلَمَاءُ قَدْ أَنْكَرُوهَا كَمَا سَبَقَ ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُمْ فَلَا عِبْرَةَ بِرَغَبَاتِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ اخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْعَصْرِ لَانْحَلَّ نِظَامُ الشَّرِيعَةِ .
وَكَيْفَ تُعْتَبَرُ رَغَبَاتُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ فِيمَا يُحْدِثُونَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَأَوَانٍ وَقَدْ حَفِظَ اللَّهُ الشَّرِيعَةَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يُعَكَّرَ عَلَيْهَا بِاجْتِثَاثِهَا مِنْ

أَصْلِهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ إلَخْ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا رَامَهُ مِنْ تَقْرِيرِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَإِظْهَارِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَعُمْدَتَهُ إنَّمَا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ فَهُوَ مَنْبَعُ الْعُلُومِ وَكُلُّ الْعُلُومِ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ وَمِنْ بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُونَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الصُّحُفِ وَفِي الْجَرِيدِ وَفِي غَيْرِهِمَا عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ وَذَلِكَ خِيفَةً مِنْهُمْ مِنْ طُرُوِّ النِّسْيَانِ عَلَيْهِمْ أَوْ الْوَهْمِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ .
وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ { كُنْت أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا قَالَ فَأَمْسَكْت عَنْ الْكِتَابَةِ حَتَّى ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إلَى فِيهِ وَقَالَ اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا حَقٌّ } فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا عَظِيمًا لِكَتْبِ الْعِلْمِ وَالتَّحَفُّظِ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَدْخُلَهُ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ وَسَبَبًا قَوِيًّا لِحِفْظِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانِهَا وَصِيَانَتِهَا مِنْ أَنْ يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْهَا .
فَجَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ مَا فَعَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَنِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى كَتْبِهِ وَأَخَذَ النَّاسُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِالْكَتْبِ

وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَكَانَ مِنْ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ الْمُتَعَيِّنِ عَلَى الْأُمَّةِ كَافَّةً بِدْعَةً .
فَأَلْزَمَ هَذَا الْقَائِلُ الْعُلَمَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا عَنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ إنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ هَذَا الْإِلْزَامُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا صَلَاةَ الرَّغَائِبِ .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكُتُبِ } فَإِذَا لَمْ يُقَيِّدُوهُ فَقَدْ تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَكَانَتْ الشَّرِيعَةُ تَضِيعُ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ أَمْرٌ خَطَرٌ لَوْ عَلِمَ مَا فِيهِ مَا قَالَهُ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ ، وَهُوَ أَنَّهُ رَامَ إثْبَاتَ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فَوَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمَهُولِ ، وَهُوَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ بِدْعَةٌ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَاَلَّتِي حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ أَثْبَتَهَا وَقَالَ عَنْهَا إنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ وَقَوْلُهُ وَقَدْ احْتَجَّ الْمُنَازِعُ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ لَا تُسَاوِي الذِّكْرَ وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ عَنْهَا أَنْ يُقَالَ لَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَتَجَنَّبْ وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت أَنَّهُ مَحْذُورٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِيمَا سَبَقَ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا اللَّفْظِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ مَا أَعْجَبَهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعُلَمَاءِ إذَا عَارَضَهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي شَيْءٍ مِمَّا قَامَ لَهُمْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ بِأَدَبٍ وَاحْتِرَامٍ وَتَلَطُّفٍ وَاحْتِجَاجٍ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهِمْ يُعَظِّمُونَهُ وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَالَ عَنْهَا إنَّهَا لَا تُسَاوِي الذِّكْرَ وَهِيَ مِمَّا وَجَبَ

عَلَى الْمُسْلِمِينَ اجْتِنَابُهُ وَيَفْسُقُ مَنْ فَعَلَهُ أَوْ حَضَرَهُ أَوْ رَضِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، وَهِيَ اجْتِمَاعُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مُخْتَلِطِينَ بِسَبَبِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فَوَجَدُوا الْوَسِيلَةَ فِيهَا إلَى أَغْرَاضِهِمْ الْخَسِيسَةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَمَا يَجْرِي فِيهَا وَفِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَغَيْرِهِمَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَرْضَاهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ عَنْهَا أَنْ يُقَالَ لَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَتَجَنَّبْ وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت أَنَّهُ مَحْذُورٌ وَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ ، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا : تَكْرَارُ السُّورَةِ .
ثَانِيهَا : السَّجْدَتَانِ الْمُفْرَدَتَانِ عَقِبَ هَذِهِ الصَّلَاةِ .
ثَالِثُهَا : مَا فِيهَا مِنْ التَّقَيُّدِ بِعَدَدٍ خَاصٍّ بِغَيْرِ نَصٍّ .
رَابِعُهَا : مَا فِيهَا مِنْ أَنَّ عَدَّ السُّوَرِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِمَا مَكْرُوهٌ لِشَغْلِ الْقَلْبِ .
خَامِسُهَا : فِعْلُهَا جَمَاعَةً .
سَادِسُهَا : كَوْنُهَا صَارَتْ شِعَارًا ظَاهِرًا حَادِثًا وَيُمْنَعُ إحْدَاثُ شِعَارٍ ظَاهِرٍ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا كَمَا سَبَقَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ لَكِنْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَأَمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً أَوْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَإِذَا تَجَنَّبَهَا بِمَا فِيهَا لَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ جَمَاعَةً بِمَا فِيهَا ، وَلَا تُصَلِّهَا وَهِيَ كَذَلِكَ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَمْرٌ مِنْهُ لَهُ بِفِعْلِهَا وَقَوْلُهُ وَتَجَنَّبْ وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت أَنَّهُ مَحْذُورٌ نَهْيٌ مِنْهُ عَنْ إيقَاعِهَا ؛ لِأَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ خَالِيَةً عَنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ ، فَلَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي يُنَازَعُ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ، وَهُوَ مُعْتَدٌّ مِنْهَا

بِقَوْلِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ اخْتِصَاصَ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ حَالِ مَنْ يُصَلِّي صَلَاةَ الرَّغَائِبِ أَنْ يَدَعَ فِي بَاقِي لَيَالِيِهِ صَلَاةَ اللَّيْلِ ، وَمَنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ يَكُنْ مُخَصِّصًا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ ، وَهَذَا وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْجَوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّهُ إذَا قَامَ لَيْلَةً غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ مُخَصِّصًا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ فَتِلْكَ الْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ فَقَدْ صَحَّ بِمَا بَيَّنَّاهُ وَأَصَّلْنَاهُ أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ غَيْرُ مُلْحَقَةٍ بِالْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ ذَوَاتُ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَبِهَةٍ فَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ كَانَ بِصَدَدِ إلْحَاقِ الشَّيْءِ مِنْهَا بِغَيْرِ نَظِيرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا رَامَهُ مِنْ فِعْلِهَا وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ عَلَى مَا ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَأَنَّ الْحَوَادِثَ ذَوَاتُ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَبِهَةٍ .
فَقَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْ الْعُلَمَاءِ فِي إنْكَارِهَا ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْحَوَادِثِ ، وَوُجُوهِهَا ، وَمِنْ أَيِّ قِسْمٍ هُوَ مَا حَدَثَ وَقَدْ عَدُّوهَا مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُنْكَرَةِ لَا مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُسْتَحَبَّةِ أَوْ الْجَائِزَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ كَانَ بِصَدَدِ إلْحَاقِ الشَّيْءِ مِنْهَا بِغَيْرِ نَظِيرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَعِبَارَتُهُ هَذِهِ تُفْهِمُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُمَيِّزُوا أَنَّهُمْ أَلْحَقُوا الشَّيْءَ بِغَيْرِ نَظِيرِهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ مَا لَمْ يُمَيِّزُوا ، وَأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِمْ مَا وَهَمُوا فِيهِ وَغَلِطُوا وَأَلْحَقَ الشَّيْءَ بِنَظِيرِهِ فَأَصَابَ دُونَهُمْ عَلَى زَعْمِهِ وَقَوْلُهُ ،

فَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ يَتَضَاءَلُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ الْعَظِيمُ خِلَافُ الْمُخَالِفِ ، وَيَتَبَدَّلُ بِهِ وَصْفُهُ إذَا لَمْ يُعَانِدْ بِوَصْفِ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالِفِ يَعْنِي أَنَّهُ بَيَانٌ شَافٍ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِي إنْكَارِهَا ، وَالْجَوَابُ عَمَّا أَتَى بِهِ كُلِّهِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى إعَادَتِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إذَا لَمْ يُعَانِدْ إلَخْ فِيهِ مَا فِيهِ إذْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُبَرَّءُونَ عَنْ الْعِنَادِ ؛ لِأَنَّ الْعِنَادَ هُوَ رَدُّ الْحَقِّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ .
وَقَوْلُهُ وَلَا تَبْقَى لَهُ إلَّا جَعْجَعَةٌ لَا طَائِلَ وَرَاءَهَا وَقَعْقَعَةٌ وَإِيهَامَاتٌ لَا يَغْتَرُّ بِهَا إلَّا شِرْذِمَةٌ أَفْسَدَتْ أَهْوَاؤُهَا آرَاءَهَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَعِيدٌ مِنْ أَوْصَافِ الْعُلَمَاءِ إذْ أَنَّ الْعَالِمَ يُنَزِّهُ لِسَانَهُ عَنْ أَنْ يَصِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الذَّمِيمَةِ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ ، فَكَيْفَ يَصِفُ بِهَا الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ سِيَّمَا الْمُتَّبِعِينَ مِنْهُمْ الْمُحَافِظِينَ عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّابِّينَ عَنْهَا ، وَأَظُنُّ هَذَا الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ مُرْتَجَلٌ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ وَلَا قَدْرَ الْوَعِيدِ لِمَنْ وَقَعَ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ تَنَقَّصَهُ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
مَعَ أَنَّ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُغْنِي عَنْ كُلِّ مَا ذَكَرَ قَبْلُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهُ كَانَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَالْآنَ قَدْ ظَهَرَ لِي أَنَّهَا تُبَاعُ فَقَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ : رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ عِنْدَنَا أَوْلَى مِنْ رَأْيِك وَحْدَك فَسَكَتَ عَلِيٌّ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا .
فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِثْلُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ فَالرُّجُوعُ إلَى رَأْيِ

الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ أَوْجَبُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى رَأْيِ هَذَا الْقَائِلِ وَحْدَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَقُومُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى سَاقٍ سِيَّمَا مَعَ إثْبَاتِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِيهَا مَوْضُوعٌ .
، وَإِنَّمَا طَالَتْ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى الْجَوَابَ عَنْ كَلَامِهِ كُلِّهِ ، وَلَعَلَّ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَا ادَّعَاهُ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى نَقْلِ كَلَامِهِ بِعَيْنِهِ .
وَوَقَعَ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَقْتِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدَ السَّلَامِ بْنَ أَبِي الْقَاسِمِ السُّلَمِيَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْ فَعَلَهَا لَكِنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُطْلَقٍ ، وَلَمْ يَتَّبِعْ أَلْفَاظَ الْقَائِلِ بِهَا .
فَقَالَ مَا هَذَا لَفْظُهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ .
الْآخَرِ الَّذِي لَا تَحْوِيهِ مَعْرِفَةُ عَارِفٍ .
جَلَّ رَبُّنَا عَنْ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِهِ ، وَكُلُّ خَلْقِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ ، أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي سُلْطَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثَ بِحُجَّتِهِ وَبُرْهَانِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْبِدَعَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ مُبَاحًا كَالتَّوَسُّعِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ فَلَا بَأْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ حَسَنًا ، وَهُوَ كُلُّ مُبْتَدَعٍ مُوَافِقٍ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا كَبِنَاءِ الرُّبُطِ وَالْخَانْقَاهْ وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ

الَّتِي لَمْ تُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَكَذَلِكَ الِاشْتِغَالُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ مُبْتَدَعٌ ، وَلَكِنْ لَا يَتَأَتَّى تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَفَهْمُ مَعَانِيهِ إلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ كَانَ ابْتِدَاعُهُ مُوَافِقًا لِمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِ مَعَانِيهِ ، وَكَذَلِكَ تَدْوِينُ الْأَحَادِيثِ وَتَقْسِيمُهَا إلَى الْحَسَنِ وَالصَّحِيحِ وَالْمَوْضُوعِ وَالضَّعِيفِ مُبْتَدَعٌ حَسَنٌ لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ تَأْسِيسُ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ كُلُّ ذَلِكَ مُبْتَدَعٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
فَمِنْ ذَلِكَ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ ، فَإِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذِبٌ عَلَيْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ الطُّرْطُوشِيُّ إنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَّا بَعْدَ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ مِنْ وُجُوهٍ يَخْتَصُّ الْعَالِمُ بِبَعْضِهَا وَبَعْضُهَا يَعُمُّ الْعَالِمَ وَالْجَاهِلَ .
فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْعَالِمُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَالِمَ إذَا صَلَّاهَا كَانَ مُوهِمًا لِلْعَامَّةِ أَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ فَيَكُونُ كَاذِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَلِسَانُ الْحَالِ قَدْ يُقَدَّمُ عَلَى لِسَانِ الْمَقَالِ الثَّانِي : أَنَّ الْعَالِمَ إذَا فَعَلَهَا كَانَ مُتَسَبِّبًا فِي أَنْ تَكْذِبَ الْعَامَّةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ : هَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ السُّنَنِ وَالتَّسَبُّبُ فِي

الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ ، وَأَمَّا مَا يَعُمُّ الْعَالِمَ وَالْجَاهِلَ فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِعْلَ الْبِدَعِ مِمَّا يُغْرِي الْمُبْتَدَعِينَ الْوَاضِعِينَ عَلَى وَضْعِهَا وَافْتِرَائِهَا وَالْإِغْرَاءُ بِالْبَاطِلِ ، وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ وَإِطْرَاحُ الْبِدَعِ وَالْمَوْضُوعَاتِ زَاجِرٌ عَنْ وَضْعِهَا وَابْتِدَاعِهَا وَالزَّجْرُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ أَعْلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ السُّكُونِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا تَعْدَادَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً وَتَعْدَادَ سُورَةِ الْقَدْرِ وَلَا يَتَأَتَّى عَدُّهُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِتَحْرِيكِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَيُخَالِفُ السُّنَّةَ فِي تَسْكِينِ أَعْضَائِهِ .
الثَّالِثُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ خُشُوعِ الْقَلْبِ وَخُضُوعِهِ وَحُضُورِهِ فِي الصَّلَاةِ وَتَفْرِيغِهِ لِلَّهِ وَمُلَاحَظَةِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِي الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ فَإِنَّهُ إذَا لَاحَظَ عَدَدَ السُّوَرِ بِقَلْبِهِ كَانَ مُلْتَفِتًا عَنْ اللَّهِ مُعْرِضًا عَنْهُ بِأَمْرٍ لَمْ يُشْرَعْ فِي الصَّلَاةِ وَالِالْتِفَاتُ بِالْوَجْهِ قَبِيحٌ شَرْعًا ، فَمَا الظَّنُّ بِالِالْتِفَاتِ عَنْهُ بِالْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ النَّوَافِلِ ، فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسَاجِدِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ ، وَقَدْ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ الِانْفِرَادِ بِالنَّوَافِلِ فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الِانْفِرَادُ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ الْمُخْتَلَقَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ السُّنَّةَ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ إذْ

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ } .
السَّابِعُ : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ فِي تَفْرِيغِ الْقَلْبِ عَنْ الشَّوَاغِلِ الْمُقْلِقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ يَدْخُلُ فِيهَا ، وَهُوَ جَوْعَانُ ظَمْآنُ وَلَا سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْحَرِّ الشَّدِيدِ .
وَالصَّلَوَاتُ الْمَشْرُوعَةُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَعَ وُجُودِ شَاغِلٍ يُمْكِنُ دَفْعُهُ .
الثَّامِنُ : أَنَّ سَجْدَتَيْهَا مَكْرُوهَتَانِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَرِدْ بِسَجْدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ لَا سَبَبَ لَهَا ، فَإِنَّ الْقُرَبَ لَهَا أَسْبَابٌ وَشَرَائِطُ وَأَوْقَاتٌ وَأَرْكَانٌ لَا تَصِحُّ بِدُونِهَا فَكَمَا لَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ نُسُكٍ وَاقِعٍ فِي وَقْتِهِ بِأَسْبَابِهِ وَشَرَائِطِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ قُرْبَةً إلَّا إذَا كَانَ لَهَا سَبَبٌ صَحِيحٌ ؛ وَلِذَلِكَ يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ وَرُبَّمَا تَقَرَّبَ الْجَاهِلُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ مُبْعِدٌ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ .
التَّاسِعُ : لَوْ كَانَتْ السَّجْدَتَانِ مَشْرُوعَتَيْنِ لَكَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ فِي خُشُوعِهِمَا وَخُضُوعِهِمَا بِمَا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ عَدِّ التَّسْبِيحِ فِيهِمَا بِبَاطِنِهِ أَوْ بِظَاهِرِهِ أَوْ بِبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ .
الْعَاشِرُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِيِ وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ } ، وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ فِيمَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَذْكَارِ السُّجُودِ فَإِنَّهُ { لَمَّا

نَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } قَالَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } .
وَقَوْلُ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ إنْ صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ أَفْرَدَهَا بِدُونِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ، وَلَا أَنَّهُ وَظَّفَهَا عَلَى أُمَّتِهِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُوَظِّفُ إلَّا الْأَوْلَى مِنْ الذِّكْرَيْنِ .
وَفِي قَوْلِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى مِنْ الثَّنَاءِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاعِ هَذِهِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ دَوَّنَ الْكُتُبَ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَلَا دَوَّنَهَا فِي كِتَابِهِ وَلَا تَعَرَّضَ لَهَا فِي مَجْلِسِهِ وَالْعَادَةُ تُحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا سُنَّةً وَتَغِيبُ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَقُدْوَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ الَّذِينَ إلَيْهِمْ الرُّجُوعُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ .
وَهَذِهِ الصَّلَاةُ لَا يُصَلِّيهَا أَهْلُ الْمَغْرِبِ الَّذِينَ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ .
وَكَذَلِكَ لَا تُفْعَلُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَلَمَّا صَحَّ عِنْدَ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُفْتَرَيَاتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْطَلَهَا مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَطُوبَى لِمَنْ تَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَأَعَانَ عَلَى إمَاتَةِ الْبِدَعِ وَإِحْيَاءِ السُّنَنِ .
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ }

فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِصَلَاةٍ لَا تُخَالِفُ الشَّرْعَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَأَيُّ خَيْرٍ فِي مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَفَّقْنَا اللَّهُ لِلْإِجَابَةِ وَالِاتِّبَاعِ وَجَنَّبَنَا الزَّيْغَ وَالِابْتِدَاعَ .
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ تَصَدَّيَا لِلْفُتْيَا مَعَ بُعْدِهِمَا عَنْهَا سَعَيَا فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَأَفْتَيَا بِتَحْسِينِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِمَّا عُهِدَ مِنْ خَطَئِهِمَا وَزَلَلِهِمَا فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا فَمَا حَمَلَهُمَا عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمَا قَدْ صَلَّيَاهَا مَعَ النَّاسِ مِنْ جَهْلِهِمَا بِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ فَخَافَا وَفَرَّقَا إنْ نَأَيَا عَنْهَا أَنْ يُقَالَ لَهُمَا فَلِمَ صَلَّيْتُمَاهَا فَحَمَلَهُمَا اتِّبَاعُ الْهَوَى عَلَى أَنْ حَسَّنَا مَا لَمْ تُحَسِّنْهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ نُصْرَةً لِهَوَاهُمَا عَلَى الْحَقِّ وَلَوْ أَنَّهُمَا رَجَعَا إلَى الْحَقِّ وَآثَرَاهُ عَلَى هَوَاهُمَا وَأَفْتَيَا بِالصَّوَابِ لَكَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَيُفْتِي بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُسَوِّغُ مُوَافَقَةَ وُضَّاعِهَا عَلَيْهَا وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا إعَانَةٌ لِلْكَذَّابِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ اتَّبَعَ الْهَوَى ضَلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ثُمَّ أَفْتَيَا بِصِحَّتِهَا مَعَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِحَّةِ مِثْلِهَا ، فَإِنَّ مَنْ نَوَى صَلَاةً وَوَصَفَهَا فِي نِيَّتِهِ بِصِفَةٍ فَاخْتَلَفَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ تَنْعَقِدُ نَفْلًا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ،

فَإِنَّ مَنْ يُصَلِّيهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ الْمُوَظَّفَةِ الرَّاتِبَةِ .
وَهَذِهِ الصِّفَةُ مُتَخَلِّفَةٌ عَنْهَا ، فَأَقَلُّ مَرَاتِبِهَا أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الْخِلَافِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
هَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَالْكَلَامُ عَلَيْهَا كَالْكَلَامِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي الْمَنْعِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَحْدَثُوهُ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قَبْلُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَبِيرًا

اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ النِّيَّةَ النَّافِعَةَ هِيَ أَنْ يَقْصِدَ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَتْ النَّفْسُ تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَشْتَهِيهِ أَوْ تَبْغَضُهُ وَتَقْلِيهِ فَإِنَّ السُّنَّةَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ تَرِدْ بِمُخَالَفَةِ النَّفْسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ بِاتِّبَاعِهَا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَنَّهَا مَحْكُومٌ عَلَيْهَا لَا حَاكِمَةٌ مَأْمُورَةٌ لَا آمِرَةٌ .
فَإِنْ صَادَفَ الِامْتِثَالُ غَرَضَهَا وَاخْتِيَارَهَا وَشَهْوَتَهَا لَمْ يَضُرَّ الْعَامِلَ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } فَإِذَا تَزَوَّجَ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ وَالْمُمْتَثِلُ فِي أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ } فَقَدْ سَوَّى رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ النَّاكِحِ الْمُتَعَفِّفِ وَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي إعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يُؤْجَرُ أَحَدُكُمْ حَتَّى فِي بُضْعِهِ لِامْرَأَتِهِ .
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ مَأْجُورًا قَالَ أَرَأَيْتُمْ إنْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ مَأْثُومًا .
قَالُوا نَعَمْ .
قَالَ كَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ يَكُونُ مَأْجُورًا } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا تَكُونَ فِيهِ

شَهْوَةٌ بَاعِثَةٌ عَلَى فِعْلِ الْعَمَلِ بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حُظُوظُ النَّفْسِ وَشَهَوَاتُهَا تَابِعَةً لِلنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَتَكُونَ النِّيَّةُ جَمِيعُهَا مُتَوَجِّهَةً لِمُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ } أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ صَائِمًا وَرَأَى مِنْ إحْدَى جَوَارِيهِ بِالنَّهَارِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ مِنْهُنَّ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ جَامَعَ وَاغْتَسَلَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُفْطِرُ مَعَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ يُعْتِقُ رَقَبَةً فَلَوْلَا الْفَضِيلَةُ الْعَظِيمَةُ وَالنِّيَّةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ فِي الْبُدَاءَةِ بِالْوَطْءِ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لَمَا فَعَلَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَهْوَةَ الْإِنْسَانِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا بِطَبْعِهِ لَا تَقْدَحُ فِي نِيَّتِهِ أَلْبَتَّةَ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْتِي بِعَمَلٍ إلَّا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ دَوَاعِي النَّفْسِ وَخَوَاطِرِهَا لَكَانَ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ عَلَى الْأُمَّةِ فِي أَمْرِ دِينِهَا .
وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وَقَالَ تَعَالَى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي مُوسَى { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ وَمَا رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا

فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ { أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إلَّا مُقَاتِلٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ طَبِيعَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ احْتِسَابًا فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الشَّهِيدُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ مَنْ قَاتَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ } قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لَهُ هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ نَصٌّ جَلِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُ عَمَلِهِ لِلَّهِ وَعَلَى ذَلِكَ عَقَدَ نِيَّتَهُ لَمْ تَضُرَّهُ الْخَطَرَاتُ الَّتِي تَقَعُ بِالْقَلْبِ وَلَا تُمْلَكُ عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُحِبُّ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ السُّوقِ فَقَالَ إذَا كَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِابْنِهِ : لَأَنْ تَكُونَ قُلْتهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا إذْ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ مِنْ أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي مَثَّلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَسَأَلَ أَصْحَابَهُ عَنْهَا فَوَقَعُوا فِي شَجَرِ الْبَوَادِي هِيَ النَّخْلَةُ .
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا إلَّا أَمْرٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لَا يُمْلَكُ وَذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يُكْسِلُهُ عَنْ التَّمَادِي عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَا يُؤْيِسُهُ مِنْ الْأَجْرِ وَلِيَدْفَعْ الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ وَيُجَرِّدْ النِّيَّةَ لِلَّهِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَرُوِيَ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ يَدٌ } وَيُوَضِّحُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ .
فَقَالَ رَجُلٌ إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطْرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } قَالَ الْعُلَمَاءُ بَطْرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ .
فَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الشَّهَوَاتِ إذَا كَانَتْ تَابِعَةً لِلِامْتِثَالِ كَانَ صَاحِبُهَا مُمْتَثِلًا .
وَقَدْ ضَيَّقَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ إنَّ النِّيَّةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ وَرَأَى أَنَّهُ إنْ جَامَعَ أَوْ فَعَلَ مَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ وَغَيْرَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ .
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَرُدُّهُ وَلِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ قِيلَ بِهِ جَاءَ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْقُنُوطُ وَالْإِيَاسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمِنْ عَمَلٍ يَتَخَلَّصُ لِلْعَبْدِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ { لَوْ كُنْت مُعَجِّلًا عُقُوبَةً لَعَجَّلْتهَا عَلَى الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي } فَيَدْخُلُ الْمُكَلَّفُ فِي الْعَمَلِ عَلَى تَحْقِيقِ تَخْلِيصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَسْلَمَ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِيهِ فَيَقَعُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ .
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ .
وَالشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ سَهْلَةٌ سَمْحَةٌ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ كُلٌّ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَ عِبَادَتِهِ

وَلَمْ يُكَلِّفْهُ مِنْ الْعَمَلِ فَوْقَ طَاقَتِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا } وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدَّيْنَ أَحَدٌ إلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا } الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا تَسْعَى إذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ فَأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا } .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ وَأَطَأهُنَّ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ شَهْوَةٌ قِيلَ وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ ظَهْرِي مِنْ يُكَاثِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ اتِّبَاعِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلِامْتِثَالِ فَرَجَعَتْ شَهَوَاتُهُ كُلُّهَا تَابِعَةً لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا مَتْبُوعَةً لَهُ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ لَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ لَمَا كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ الْإِطْنَابِ فِيهِ .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ وَالْعُقَلَاءُ مِنْ كُلِّ طَائِفَةٍ عَلَى التَّكَلُّمِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ .
وَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ ضَرُورِيَّةً وَالْعَمَلُ اخْتِيَارِيًّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَرْجِيحٌ

فَصْلٌ إذَا دَخَلَ الْمُكَلَّفُ فِي عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْعِلْمِ فِيهِ .
كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعِلْمُ إمَامٌ وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ } وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ تَتَبُّعِ عَوَائِدِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا رَكَنُوا إلَيْهِ مِنْ أُمُورٍ حَدَثَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ تَكُنْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ مَنُوطٌ بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ وَتَرْكِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ كَيْفَمَا كَانَ مِنْ اعْتِقَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ قَدْ نَدَرَ وُقُوعُهُ فَنُظِرَ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ فِيمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْتُمْ الْيَوْمَ فِي زَمَانٍ خَيْرُكُمْ فِيهِ الْمُسَارِعُ وَيَأْتِي بَعْدَكُمْ زَمَانٌ يَكُونُ خَيْرُكُمْ فِيهِ الْمُتَثَبِّتُ الْمُتَبَيِّنُ يَعْنِي لِبَيَانِ الْحَقِّ وَالْيَقِينِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَلِكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ وَالِالْتِبَاسِ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَدُخُولِ الْمُحْدَثَاتِ مَدَاخِلَ اللَّيْلِ فِي السِّتْرِ وَقَدْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ إلَّا عَلَى الْفَرْدِ الَّذِي يَعْرِفُ طَرَائِقَ السَّلَفِ فَيَجْتَنِبُ الْحَدَثَ كُلَّهُ .

وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَسْكُنَ إلَى مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْهَوَاتِفِ الَّتِي تَهْتِفُ بِهِ فِي يَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ وَمِنْ الرُّجُوعِ إلَى سَهْوِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْكُنُ إلَى رُؤْيَا يَرَاهَا فِي مَنَامِهِ تَكُونُ مُخَالِفَةً لِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاتِّبَاعِ لَهُمْ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَقَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ فَيَنْتَبِهُ مِنْ نَوْمِهِ فَيُقْدِمُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ بِمُجَرَّدِ الْمَنَامِ دُونَ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى قَوَاعِدِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ أَيْ : إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَالرَّسُولِ أَيْ : إلَى الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا لَا شَكَّ فِيهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي } عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ .
لَكِنْ لَمْ يُكَلِّفْ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَقَعُ لَهُمْ فِي مَنَامِهِمْ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ وَعَدَّ فِيهِمْ النَّائِمَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ } ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ نَائِمًا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَلَا يَعْمَلُ بِشَيْءٍ يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ هَذَا وَجْهٌ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالرِّوَايَةَ لَا يُؤْخَذَانِ إلَّا مِنْ مُتَيَقِّظٍ حَاضِرِ الْعَقْلِ وَالنَّائِمُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَنَامِ مُخَالِفٌ لِقَوْلٍ صَاحِبِ

الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَيْثُ قَالَ { تَرَكْت فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي } وَفِي رِوَايَةٍ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي .
فَجَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النَّجَاةَ مِنْ الضَّلَالَةِ فِي التَّمَسُّكِ بِهَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ فَقَطْ لَا ثَالِثَ لَهُمَا ، وَمَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مَا يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ فَقَدْ زَادَ لَهُمَا ثَالِثًا فَعَلَى هَذَا مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ وَأَمَرَهُ بِشَيْءٍ أَوْ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ عَرْضُ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا كَلَّفَ أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِمَا .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } الْحَدِيثَ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ } وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِذَا عَرَضَهَا عَلَى شَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ وَافَقَتْهَا عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ ، وَأَنَّ الْكَلَامَ حَقٌّ وَتَبْقَى الرُّؤْيَا تَأْنِيسًا لَهُ ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي وَقَعَ لَهُ فِيهِ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ لَهُ فِي ذِهْنِهِ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا يُوَسْوِسَانِ لَهُ فِي حَالِ يَقَظَتِهِ فَكَيْفَ فِي حَالِ نَوْمِهِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ غَيْرَ مَا مَرَّةٍ نَقْلًا عَنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَأَمَرَ بِشَيْءٍ أَوْ نَهَى عَنْ شَيْءٍ فَالْوَاجِبُ فِيهِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ

نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِنْ وَافَقَ عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ وَأَنَّ الْكَلَامَ حَقٌّ وَتَكُونُ الرُّؤْيَا تَأْنِيسًا لِلرَّائِي وَبِشَارَةً لَهُ ، وَإِنْ خَالَفَتْ عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْصَلَ إلَى سَمْعِ الرَّائِي غَيْرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَ الْمَنَامُ مِمَّا يُتَعَبَّدُ بِهِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَبَّهَ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا فَعَلَ فِي غَيْرِهِ .
وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآهُ حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُعْمَلُ بِمَا يَسْمَعُهُ الرَّائِي مِنْهُ فِي الْمَنَامِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ خِلَافَ مَا اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ لِعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي لَا لِلشَّكِّ فِي الرُّؤْيَا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مِنْ ضَابِطٍ مُكَلَّفٍ وَالنَّائِمُ بِخِلَافِهِ فَعَلَى هَذَا فَمَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ وَخَاطَبَهُ وَكَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى ذِهْنِ الرَّائِي لَفْظٌ أَوْ أَلْفَاظٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي هِيَ وَاقِعَةٌ فِي زَمَنِ الرَّائِي أَوْ قَبْلَهُ وَتَكُونُ مُخَالِفَةً لِشَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ التَّدَيُّنُ بِهَا وَلَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ مَا وَصَلَ إلَى ذِهْنِهِ فِي مَنَامِهِ مِمَّا خَالَفَ الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ أَنَّهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ تَنْزِيهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ وَمَا شَاكَلَهُ إلَيْهِ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ .
إذْ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ إلَّا دُونَ مَا يَكُونُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ .
سِيَّمَا وَقَدْ نَقَلَ الْقَرَافِيُّ رَحِمَهُ

اللَّهُ فِي كِتَابِ الذَّخِيرَةِ لَهُ قَالَ قَالَ الْعُلَمَاءُ : لَا تَصِحُّ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطْعًا إلَّا لِرَجُلَيْنِ صَحَابِيٌّ رَآهُ أَوْ حَافِظٌ لِصِفَتِهِ حِفْظًا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ السَّمَاعِ مَا يَحْصُلُ لِلرَّائِيِّ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ الرُّؤْيَا حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ مِثَالُهُ مِنْ كَوْنِهِ أَسْوَدَ أَوْ أَبْيَضَ أَوْ شَيْخًا أَوْ شَابًّا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الرَّائِي الَّتِي تَظْهَرُ فِيهِ كَمَا تَظْهَرُ فِي الْمِرْآةِ أَحْوَالُ الرَّائِينَ .
وَتِلْكَ الْأَحْوَالُ صِفَةُ الرَّائِينَ لَا صِفَةُ الْمِرْآةِ فَإِذَا كَانَتْ رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّتِي ضَمِنَ فِيهَا عَدَمَ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ عَلَى الرَّائِي إذَا رَآهَا عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى صِفَةِ الرَّائِي وَحَالِهِ وَالْجَنَابُ الْكَرِيمُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَأَشْبَاهِهِ فَمَا بَالُك بِسَمَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي لَمْ تُضْمَنْ الْعِصْمَةُ فِيهِ لِلرَّائِي .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ ضَمِنَتْ الْعِصْمَةَ فِيهَا لِلرَّائِي فَيُقَاسُ عَلَيْهَا سَمَاعُ الْكَلَامِ .
فَالْجَوَابُ مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَيُوَسْوِسُ لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ فَجَاءَ النَّصُّ فِي عِصْمَتِهِ إذَا رَأَى الرَّائِي صُورَتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَنَامِهِ وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ تَلْبِيسُ الشَّيْطَانِ عَلَى الرَّائِي .
وَمِنْ الْإِكْمَالِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي } وَفِي رِوَايَةٍ { فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ } قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَلَفَ الْمُحَقِّقُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَذَهَبَ الْقَاضِي

أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي } أَنَّهُ رَأَى الْحَقَّ وَأَنَّ رُؤْيَاهُ لَا تَكُونُ أَضْغَاثًا وَلَا مِنْ تَشْبِيهَاتِ الشَّيْطَانِ وَعَضَّدَ مَا قَالَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ { مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ } إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا أُرِيدَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمَنَامِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي } إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ رُؤْيَاهُ لَا تَكُونُ أَضْغَاثًا ، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَقًّا .
وَقَدْ يَرَاهُ الرَّائِي عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ الْمَنْقُولَةِ إلَيْنَا كَمَا لَوْ رَآهُ شَيْخًا أَبْيَضَ اللِّحْيَةِ أَوْ عَلَى خِلَافِ لَوْنِهِ أَوْ يَرَاهُ رَائِيَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ وَيَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَهُ فِي مَكَانِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَقْلَ يُحِيلُهُ حَتَّى يَضْطَرَّ إلَى صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَأَمَّا الِاعْتِلَالُ بِأَنَّهُ يُرَى عَلَى خِلَافِ صُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ وَفِي مَكَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مَعًا فَإِنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي صِفَاتِهِ وَتَخَيُّلٌ لَهَا عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ تُظَنُّ بَعْضُ الْخَيَالَاتِ مَرْئِيَّاتٍ لِكَوْنِ مَا يُتَخَيَّلُ مُرْتَبِطًا بِمَا يُرَى فِي الْعَادَةِ فَتَكُونُ ذَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْئِيَّةً وَصِفَاتُهُ مُتَخَيَّلَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَحْدِيقُ الْأَبْصَارِ وَلَا قُرْبَ الْمَسَافَاتِ وَلَا كَوْنَ الْمَرْئِيِّ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ وَلَا ظَاهِرًا عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى فَنَاءِ جِسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ اخْتِلَافُ الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ بِمُرَاءَاتِهَا الدَّلَالَاتِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ فِي بَابِ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رُئِيَ شَيْخًا فَهُوَ عَامُ سِلْمٍ ، وَإِذَا رُئِيَ شَابًّا فَهُوَ عَامُ حَرْبٍ .
وَكَذَلِكَ أَحَدُ جَوَابِهِمْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رُئِيَ آمِرًا بِقَتْلِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا الْمَرْئِيَّةِ وَجَوَابُهُمْ الثَّانِي مَنْعُ وُقُوعِ مِثْلِ هَذِهِ وَلَا وَجْهَ عِنْدِي لِمَنْعِهِمْ إيَّاهُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِتَخَيُّلِ الصِّفَاتِ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ إذَا رَأَوْهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِ لَا عَلَى صِفَةٍ مُضَادَّةٍ لِحَالِهِ فَإِنْ رُئِيَ عَلَى غَيْرِ هَذَا كَانَتْ رُؤْيَا تَأْوِيلٍ لَا رُؤْيَا حَقِيقِيَّةٍ فَإِنَّ مِنْ الرُّؤْيَا مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِهِ وَمِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ وَعِبَارَةٍ .

ثُمَّ قَالَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ رُؤْيَا اللَّهِ فِي الْمَنَامِ ، وَإِنْ رُئِيَ عَلَى صِفَةٍ لَا تَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ لِتَحَقُّقِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَرْئِيَّ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّجْسِيمُ وَلَا اخْتِلَافُ الْحَالَاتِ بِخِلَافِ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَكَانَتْ رُؤْيَاهُ تَعَالَى كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الرُّؤْيَا مِنْ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : رُؤْيَا اللَّهِ تَعَالَى فِي النَّوْمِ أَوْهَامٌ وَخَوَاطِرُ فِي الْقَلْبِ بِأَمْثَالٍ لَا تَلِيقُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَتَعَالَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا وَهِيَ دَلَالَاتٌ لِلرَّائِي عَلَى أُمُورٍ مِمَّا كَانَ وَيَكُونُ كَسَائِرِ الْمَرْئِيَّاتِ .
قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ أَوْ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ } فَإِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ فَتَأْوِيلُهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَهْلَ عَصْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ إذَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ وَيَكُونُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُؤْيَا الْمَنَامِ عَلَمًا عَلَى رُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ وَأَوْحَى بِذَلِكَ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَرَى تَصْدِيقَ تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ وَصِحَّتَهَا .
وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ أَيْ : فِي الْآخِرَةِ إذْ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعُ أُمَّتِهِ مَنْ رَآهُ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِهَذَا وَأَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ فِي النَّوْمِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا وَوُصِفَ عَلَيْهَا مُوجِبَةً لِكَرَامَتِهِ فِي الْآخِرَةِ وَرُؤْيَتُهُ إيَّاهُ رُؤْيَةً خَاصَّةً مِنْ الْقُرْبِ

مِنْهُ وَالشَّفَاعَةِ السَّابِقَةِ فِيهِ وَنَحْوِ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الرُّؤْيَةِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا أَيْ : لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْآخِرَةِ وَيَبْعُدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَاقِبَ اللَّهُ بَعْضَ الْمُذْنِبِينَ فِي الْقِيَامَةِ بِمَنْعِهِمْ رُؤْيَةَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَشَفِيعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَمِنْ الذَّخِيرَةِ لِلْقَرَافِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الْكَرْمَانِيُّ الرُّؤْيَا ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ سَبْعَةٌ لَا تُعَبَّرُ وَوَاحِدَةٌ تُعَبَّرُ فَقَطْ .
فَالسَّبْعَةُ مَا نَشَأَ عَنْ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الرَّائِي .
فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ رَأَى اللَّوْنَ الْأَحْمَرَ وَالْحَلَاوَاتِ وَأَنْوَاعَ الطَّرَبِ أَوْ الصَّفْرَاءُ رَأَى الْحَرُورَ وَالْأَلْوَانَ الصُّفْرَ وَالْمَرَارَاتِ .
أَوْ الْبَلْغَمُ رَأَى الْمِيَاهَ وَالْأَلْوَانَ الْبِيضَ وَالْبُرُدَ .
أَوْ السَّوْدَاءُ رَأَى الْأَلْوَانَ السُّودَ وَالْمَخَاوِفَ وَالطُّعُومَ الْحَامِضَةَ .
وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الطِّبِّيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى غَلَبَةِ ذَلِكَ الْخَلْطِ عَلَى ذَلِكَ الرَّائِي .
الْخَامِسُ : مَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِجَوَلَانِهِ فِي النَّفْسِ فِي الْيَقَظَةِ .
السَّادِسُ : مَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُعْرَفُ بِكَوْنِهِ يَأْمُرُ بِمُنْكَرٍ أَوْ مَعْرُوفٍ يُؤَدِّي إلَى مُنْكَرٍ كَمَا إذَا أَمَرَهُ بِالتَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ فَيُضَيِّعُ عَائِلَتَهُ وَأَبَوَيْهِ السَّابِعُ : مَا يَكُونُ فِيهِ احْتِلَامٌ .
وَاَلَّذِي يُعَبَّرُ هُوَ مَا يَنْقُلُهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ يَنْقُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أُمُورَ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَذَلِكَ .
انْتَهَى مَا قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قُتَيْبَةَ فِي تَأْلِيفِهِ الَّذِي أَجَابَ فِيهِ عَنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهَا التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى أَقْسَامِ الرُّؤْيَا فَقَالَ : وَإِنَّمَا يَكُونُ الرُّؤْيَا الصَّحِيحَةُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمَلَكُ مِنْ نُسْخَةِ أُمِّ الْكِتَابِ فِي الْحِينِ بَعْدَ الْحِينِ .
ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ أَوْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كُنْت أَحْضُرُ ابْنَ سِيرِينَ يَسْأَلُ عَنْ الرُّؤْيَا فَكُنْت أُحْرِزُهُ

يُعَبِّرُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةً ، وَهَذِهِ الصَّحِيحَةُ هِيَ الَّتِي تَجُولُ حَتَّى يُعَبِّرَهَا الْعَالِمُ بِالْقِيَاسِ الْحَافِظُ لِلْأُصُولِ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ، فَإِذَا عَبَّرَهَا وَقَعَتْ كَمَا قَالَ .

{ فَصْلٌ } إذَا كَانَتْ الرُّؤْيَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّفْصِيلِ وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنْهَا قِسْمٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ السُّكُونُ إلَى مَا يَرَاهُ الرَّائِي فِي نَوْمِهِ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ أَوْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ الرَّائِي فِي نَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَضْمُونُ لَهُ الْعِصْمَةُ فِي اتِّبَاعِهَا هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ .
وَقَدْ قَالَ سَيِّدِي أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ضَمِنَ لَك الْعِصْمَةَ فِي جَانِبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَضْمَنْهَا لَك فِي الْكَشْفِ وَالْإِلْهَامِ .
هَذَا ، وَهُوَ فِي حَالِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ التَّكْلِيفِ ؛ لِأَنَّ الْكَشْفَ فِيهِ أَجْلَى مِنْ النَّوْمِ فَمَا بَالُك بِمَنْ هُوَ غَيْرُ حَاضِرِ الْعَقْلِ ، وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُ الْخِطَابُ فِي حَالِ نَوْمِهِ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَرَوْنَ فِي الْيَقَظَةِ أَشْيَاءَ ثُمَّ لَا يَرْجِعُونَ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ عَرْضِهِمْ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ إمَامُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَطِيرُ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ ، وَلَكِنْ اُنْظُرُوا فِي اتِّبَاعِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا أَوْ كَمَا قَالَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ شُرِعَ الْأَذَانُ بِسَبَبِ الْمَنَامِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَرْضِ الرُّؤْيَا عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَإِذَا وَافَقَتْ أُمْضِيَتْ ، وَإِنْ خَالَفَتْ تُرِكَتْ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا رَأَوْهُ حَتَّى عَرَضُوهُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَشَرَّعَ بِمَا رَآهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
قَالَ تَعَالَى { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ

الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَالْوَحْيُ عَلَى قِسْمَيْنِ وَحْيٌ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَوَحْيُ إلْهَامٍ ؛ لِأَنَّ مَا يَرَاهُ الرَّائِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَاضِي وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَقْبَلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا حَكَاهُ أَصْحَابُ عِلْمِ التَّعْبِيرِ فِي كُتُبِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ انْتِقَالِهِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَيَقُولُ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ رُؤْيَا قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لَا قَالَ لَكِنِّي رَأَيْت اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي } الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَا قَدْ تَكُونُ وَحْيًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا فِي حَقِّ الرَّائِي نَفْسِهِ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُمْ لِيَقِفَ بِذَلِكَ عَلَى مَا رَأَوْهُ فَيَعْلَمَ مَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِهِ وَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالرَّائِي وَمَا هُوَ لِغَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِهَا فَكَانُوا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا إلَى مَا رَأَوْهُ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ انْتِقَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالرُّجُوعُ إلَى شَرِيعَتِهِ لَا إلَى الْمَرْئِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِذَا عُرِضَتْ الرُّؤْيَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَافَقَتْ فَهُوَ حَقٌّ وَبِشَارَةٌ لِلرَّائِي أَوْ مَنْ رَآهَا لَهُ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا الْمُبَشِّرَاتُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ } وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْرِضَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَجْرِي عَلَى يَدِي الْمُبَارِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ مِثْلُ الْقَلِيلِ يَصِيرُ كَثِيرًا وَمِثْلُ الطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَصَفَاءِ الْبَاطِنِ وَالنَّظَرِ بِالنُّورِ وَسَمَاعِ الْخِطَابِ وَالْهَوَاتِفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ السُّنِّيَّةِ ، فَإِذَا عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَافَقَ كَانَ بِشَارَةً ، وَتَأْنِيسًا لِمَنْ وَقَعَ لَهُ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْكُنْ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ ، فَإِنْ سَكَنَ خِيفَ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالُوا إنَّ الْكَرَامَةَ كَرَامَةٌ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَدَّتْ إلَى ذَلِكَ أَوْ يَزْهُو بِهَا .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الشُّكْرُ عَلَى مَا خُلِعَ عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْقَبُولِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ } وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا أَوْ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
وَقَدْ قَالَ سُرِّيُّ السَّقَطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ أَنَّ وَاحِدًا دَخَلَ بُسْتَانًا فِيهِ أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ وَعَلَى كُلِّ شَجَرَةٍ طَيْرٌ يَقُولُ لَهُ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا وَلِيَّ اللَّهِ فَلَمْ يَخَفْ أَنَّهُ مَكْرٌ لَكَانَ مَمْكُورًا بِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قِيلَ لَهُ إنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ ازْدَادَ يَقِينًا لَمَشَى فِي الْهَوَاءِ } فَقَالَ إنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشَارَ بِهَذَا الْقَوْلِ إلَى نَفْسِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ ؛ لِأَنَّ فِي لَطَائِفِ

الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ أَنَّهُ قَالَ فَلَمَّا بَلَغْت الرَّفْرَفَ رَأَيْت الْبُرَاقَ قَدْ بَقِيَ وَمَشَيْت يَعْنِي أَنَّهُ مَشَى فِي الْهَوَاءِ إلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى .
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ وَمَاتَ بِالْعَطَشِ أَفْضَلُ مِنْهُمْ يَقِينًا وَقَوْلُهُ مَشَى فِي الْهَوَاءِ إلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى يُرِيدُ مَعَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ عَنْ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنَّ أَكْبَرَ الْكَرَامَاتِ فِي هَذَا الزَّمَانِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَالْعَضُّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَالتَّشْمِيرُ لِامْتِثَالِ مَا وَرَدَتْ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ وَتَرْكُ الْبِدَعِ وَقِلَاهَا وَتَرْكُ الِالْتِفَاتِ لِمَنْ يَتَعَاطَاهَا أَوْ يَرْضَى بِهَا إذْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ زَمَانَ ذَلِكَ وَلَيْسَ ثَمَّ أَسْبَابٌ تُعِينُ عَلَيْهِ إلَّا فَضْلُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِعَدَمِ الْيَقِينِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ لَا يَسْكُنُونَ لِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الِاتِّبَاعِ وَلُزُومِ الْخَيْرِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَيْهِ حَتَّى يَرَوْا كَرَامَةً أَوْ رُؤْيَا مَنَامٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُهْمَلٌ يَحْتَمِلُ لِأَشْيَاءَ وَالِاتِّبَاعُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا ، وَهُوَ التَّوْفِيقُ ؛ لِأَنَّهُ خُلْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ خُلِعَتْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَرَاهَا إلَّا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ

فَصْلٌ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَمَشْيِهِمْ عَلَى قَانُونِ الشَّرِيعَةِ وَتَرْكِ مَا عَدَاهَا وَحُسْنِ السِّيَاسَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ .
اعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ وَقَلْبَهُ الطَّاهِرَ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَتِهِ ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ نَقْشٍ وَقَابِلٌ لِكُلِّ مَا يُمَالُ بِهِ إلَيْهِ فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يُشَارِكُهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ إهْمَالَ الْبَهَائِمِ شَقِيَ وَهَلَكَ ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي رَقَبَةِ الْقَيِّمِ بِهِ وَالْوَلِيِّ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } وَمَهْمَا كَانَ الْأَبُ يَصُونُهُ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَصُونَهُ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ أَوْلَى وَصِيَانَتُهُ بِأَنْ يُؤَدِّبَهُ وَيُهَذِّبَهُ وَيُعَلِّمَهُ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ وَيَحْفَظَهُ مِنْ الْقُرَنَاءِ السُّوءِ وَلَا يُعَوِّدَهُ التَّنَعُّمَ وَلَا يُحَبِّبَ إلَيْهِ الزِّينَةَ وَأَسْبَابَ الرَّفَاهِيَةِ فَيُضَيِّعَ عُمُرَهُ فِي طَلَبِهَا إذَا كَبُرَ وَيَهْلِكَ هَلَاكَ الْأَبَدِ .
بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاقِبَهُ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ فَلَا يُشْغِلُ فِي حَضَانَتِهِ وَإِرْضَاعِهِ إلَّا امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ مُتَدَيِّنَةٌ تَأْكُلُ الْحَلَالَ فَإِنَّ اللَّبَنَ الْحَاصِلَ مِنْ الْحَرَامِ لَا بَرَكَةَ فِيهِ فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَشْأَةُ الصَّبِيِّ عَجَنَتْ طِينَتَهُ فَيَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى مَا يُنَاسِبُ الْخَبَائِثَ وَمَهْمَا بَدَتْ فِيهِ مَخَايِلُ التَّمْيِيزِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْسِنَ مُرَاقَبَتَهُ وَأَوَّلُ ذَلِكَ ظُهُورُ أَوَائِلِ الْحَيَاءِ فَإِذَا كَانَ يَحْتَشِمُ وَيَسْتَحِي وَيَتْرُكُ بَعْضَ الْأَفْعَالِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِإِشْرَاقِ نُورِ الْعَقْلِ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى بَعْضَ الْأَشْيَاءِ قَبِيحَةً وَمُخَالِفَةً لِبَعْضِهَا فَصَارَ يَسْتَحِي مِنْ شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ

إلَيْهِ وَبِشَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَصَفَاءِ الْقَلْبِ ، وَهُوَ مُبَشِّرٌ بِكَمَالِ الْعَقْلِ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَالصَّبِيُّ الْمُسْتَحِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْمَلَ بَلْ يُعَانُ عَلَى تَأْدِيبِهِ بِكَمَالِ حَيَائِهِ وَتَمْيِيزِهِ .
وَأَوَّلُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ شَرَهُ الطَّعَامِ فَيُعَلِّمُهُ مَتَى يَأْكُلُ وَيُعَلِّمُهُ أَنَّهُ لَا يُسْرِعُ فِي الْأَكْلِ وَيَمْضُغُ الطَّعَامَ مَضْغًا جَيِّدًا وَلَا يُوَالِي بَيْنَ اللُّقَمِ وَلَا يُلَطِّخُ يَدَهُ وَلَا ثَوْبَهُ وَيُعَوِّدُهُ الْخُبْزَ الْقِفَارَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يَصِيرَ بِحَيْثُ يَرَى الْإِدَامَ حَتْمًا وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ بِأَنْ يُشَبِّهَ مِنْ يُكْثِرُ الْأَكْلَ بِالْبَهَائِمِ وَأَنْ يَذُمَّ بَيْنَ يَدَيْهِ الصَّبِيَّ الَّذِي يُكْثِرُ الْأَكْلَ وَيَمْدَحُ بَيْنَ يَدَيْهِ الصَّبِيَّ الْمُتَأَدِّبَ الْقَلِيلَ الْأَكْلِ وَيُحَبِّبَ إلَيْهِ الْإِيثَارَ بِالطَّعَامِ وَقِلَّةَ الْمُبَالَاةِ وَالْقَنَاعَةَ بِالطَّعَامِ الْخَشِنِ أَيَّ طَعَامٍ كَانَ وَيُحَبِّبَ إلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ الْأَبْيَضَ دُونَ الْمُلَوَّنِ وَالْإِبْرَيْسَمِ وَيُقَرِّرَ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ لِبَاسُ النِّسَاءِ وَالْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَمَهْمَا رَأَى عَلَى الصَّبِيِّ ثَوْبًا مِنْ إبْرَيْسَمٍ أَوْ مُلَوَّنٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنْكِرَهُ وَيَذُمَّ ذَلِكَ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ إلَى الْمَكْتَبِ وَيُشْغَلَ بِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَبِأَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَالْأَخْيَارِ وَمَا قَارَبَ ذَلِكَ وَيُمْنَعَ مِنْ سَمَاعِ الْأَشْعَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعِشْقِ وَأَهْلِهِ وَيُحْفَظَ مِنْ مُخَالَطَةِ الْأُدَبَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الظَّرْفِ وَرِقَّةِ الطَّبْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَغْرِسُ فِي قُلُوبِ الصِّبْيَانِ الْفَسَادَ ثُمَّ مَهْمَا ظَهَرَ مِنْ الصَّبِيِّ خُلُقٌ جَمِيلٌ وَفِعْلٌ مَحْمُودٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَرَّمَ وَيُجَازَى عَلَيْهِ بِمَا يَفْرَحُ بِهِ وَيُمْدَحَ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ فَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مَرَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَغَافَلَ عَنْهُ وَلَا يُهْتَكَ سِتْرُهُ وَلَا

يُكَاشَفَهُ وَلَا يُظْهَرَ أَنَّهُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ أَحَدًا يَتَحَاشَى عَنْ مِثْلِهِ لَا سِيَّمَا إذَا سَتَرَهُ الصَّبِيُّ وَاجْتَهَدَ فِي إخْفَائِهِ فَإِنَّ إظْهَارَ ذَلِكَ رُبَّمَا يُفِيدُهُ جَسَارَةً حَتَّى لَا يُبَالِي بِالْمُكَاشَفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ عَادَ ثَانِيًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ سِرًّا وَيُعَظَّمَ الْأَمْرُ فِيهِ وَيُقَالَ لَهُ إنْ يُطَّلَعْ عَلَيْك فِي مِثْلِ هَذَا تَفْتَضِحْ بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ وَلَا يُكْثِرُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِالْعِتَابِ فِي كُلِّ حِينٍ فَإِنَّهُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ سَمَاعَ الْمَلَامَةِ وَرُكُوبَ الْقَبَائِحِ وَيُسْقِطُ وَقْعَ الْكَلَامِ مِنْ قَلْبِهِ ، وَلَكِنَّ الْأَبَ حَافِظًا هَيْبَةَ الْكَلَامِ مَعَهُ لَا يُوَبِّخُهُ إلَّا أَحْيَانًا وَالْأُمَّ تُخَوِّفُهُ بِالْأَبِ وَتَزْجُرُهُ عَنْ الْقَبَائِحِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ النَّوْمَ نَهَارًا ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْكَسَلَ وَلَا يُمْنَعَ النَّوْمَ لَيْلًا ، وَلَكِنْ يُمْنَعَ الْفُرُشَ الْوَطِيئَةَ حَتَّى تَصْلُبَ أَعْضَاؤُهُ وَلَا يُخَصِّبُ بَدَنَهُ فَلَا يَصْبِرُ عَنْ التَّنَعُّمِ بَلْ يُعَوِّدُهُ الْخُشُونَةَ مِنْ الْفُرُشِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ فِي خُفْيَةٍ إلَّا ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَإِذَا تُرِكَ تَعَوَّدَ فِعْلَ الْقَبِيحِ .
وَيُعَوَّدُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ الْمَشْيَ وَالْحَرَكَةَ وَالرِّيَاضَةَ حَتَّى لَا يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ .
وَيُعَوَّدُ ذَلِكَ بِكَشْفِ أَطْرَافِهِ وَلَا يُسْرِعُ الْمَشْيَ وَلَا يُرْخِي يَدَيْهِ بَلْ يَضُمُّهُمَا إلَى صَدْرِهِ .
وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَفْتَخِرَ عَلَى أَقْرَانِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَمْلِكُهُ وَالِدَاهُ وَبِشَيْءٍ مِنْ مَطَاعِمِهِ وَمَلَابِسِهِ وَمَلْذُوذَاتِهِ .
وَيُعَوَّدُ التَّوَاضُعَ وَالْإِكْرَامَ لِكُلِّ مَنْ عَاشَرَهُ وَالتَّلَطُّفَ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمْ .
وَيُمْنَعُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الصِّبْيَانِ شَيْئًا بِدَايَةً إنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُحْتَشِمِينَ بَلْ يُعَلَّمُ أَنَّ الرِّفْعَةَ فِي الْإِعْطَاءِ لَا فِي الْأَخْذِ وَأَنَّ الْأَخْذَ لُؤْمٌ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْفُقَرَاءِ فَيُعَلَّمُ أَنَّ الْأَخْذَ وَالطَّمَعَ

مَهَانَةٌ وَمَذَلَّةٌ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِ الْكَلْبِ فَإِنَّهُ يُبَصْبِصُ فِي انْتِظَارِ لُقْمَةٍ .
وَبِالْجُمْلَةِ يُقَبَّحُ إلَى الصِّبْيَانِ حُبُّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطَّمَعُ فِيهِمَا وَيُحَذَّرُ مِنْهُمَا أَكْثَرُ مِنْ التَّحْذِيرِ مِنْ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ ، فَإِنَّ آفَةَ حُبِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطَّمَعِ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ آفَةِ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ عَلَى الصِّبْيَانِ بَلْ عَلَى الْكِبَارِ أَيْضًا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّدَ أَنْ لَا يَبْصُقَ فِي الْمَجَالِسِ وَلَا يَتَمَخَّطَ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ وَلَا يَضَعَ رِجْلًا عَلَى رِجْلٍ وَلَا يَضْرِبَ بِكَفِّهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ وَلَا يَسْتَدْبِرُ غَيْرَهُ وَلَا يَغْمِزُ رَأْسَهُ بِسَاعِدِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْكَسَلِ وَيُعَلَّمُ كَيْفِيَّةَ الْجُلُوسِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ كَثْرَةَ الْكَلَامِ وَيُبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْوَقَاحَةِ وَأَنَّهُ عَادَةُ أَبْنَاءِ اللِّئَامِ .
وَيُمْنَعُ الْيَمِينَ رَأْسًا صِدْقُهَا وَكَذِبُهَا حَتَّى لَا يَتَعَوَّدَهُ فِي الصِّغَرِ .
وَيُمْنَعُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْكَلَامِ وَيُعَوَّدُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ إلَّا جَوَابًا وَأَنْ يُحْسِنَ الِاسْتِمَاعَ مَهْمَا تَكَلَّمَ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا وَيُوَسِّعُ لِمَنْ فَوْقَهُ الْمَكَانَ وَيَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ .
وَيُمْنَعُ مِنْ لَغْوِ الْكَلَامِ وَفُحْشِهِ وَعَنْ اللَّعِبِ وَالشَّتْمِ وَمِنْ مُخَالَطَةِ مَنْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ شَيْءٌ مِنْ الْفَوَاحِشِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْرِي لَا مَحَالَةَ مِنْ الْقُرَنَاءِ السُّوءِ .
وَيَنْبَغِي إذَا ضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ أَنْ لَا يُكْثِرَ عَلَيْهِ الصُّرَاخَ وَالشَّغَبَ وَلَا يَسْتَشْفِعَ بِأَحَدٍ بَلْ يَصْبِرَ وَيُذَكَّرُ أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُ الشِّجْعَانِ وَالرِّجَالِ وَأَنَّ كَثْرَةَ الصُّرَاخِ دَأْبُ الْمَمَالِيكِ وَالنِّسْوَانِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْمَكْتَبِ أَنْ يَلْعَبَ لَعِبًا جَمِيلًا يَسْتَرِيحُ إلَيْهِ مِنْ تَعَبِ الْأَدَبِ بِحَيْثُ لَا يَتْعَبُ فِي اللَّعِبِ فَإِنَّ مَنْعَ الصَّبِيِّ مِنْ اللَّعِبِ وَإِرْهَاقَهُ إلَى التَّعْلِيمِ دَائِمًا يُمِيتُ قَلْبَهُ وَيُبْطِلُ فِكْرَهُ

وَذَكَاءَهُ وَيُبْغِضُ إلَيْهِ ذَلِكَ وَيُنَغِّصُ عَيْشَهُ حَتَّى يَطْلُبَ الْحِيلَةَ فِي الْخَلَاصِ مِنْهُ رَأْسًا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ طَاعَةَ وَالِدَيْهِ وَمُعَلِّمِهِ وَمُؤَدِّبِهِ وَكُلِّ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا مِنْ قَرِيبٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ وَأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْجَلَالَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَأَنْ يَتْرُكَ اللَّعِبَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ .
وَمَهْمَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُسَامَحَ فِي تَرْكِ الطَّهَارَةِ وَيُؤْمَرُ بِالصِّيَامِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مِنْ رَمَضَانَ وَبِتَجَنُّبِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيُعَلَّمُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ حُدُودِ الشَّرْعِ وَيُخَوَّفُ مِنْ السَّرِقَةِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَمِنْ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْفُحْشِ وَكُلِّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ شِدَّةِ الْكَلَامِ مِنْ لِسَانِهِ فَإِذَا وَقَعَتْ نَشْأَتُهُ فِي صِبَاهُ انْتَفَعَ بِذَلِكَ وَمَهْمَا قَارَبَ الْبُلُوغَ أَمْكَنَ أَنْ يُعَرَّفَ أَسْرَارَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَيُذْكَرُ لَهُ أَنَّ الْأَطْعِمَةَ أَدْوِيَةٌ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يَتَقَوَّى الْإِنْسَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا إذْ لَا بَقَاءَ لَهَا وَأَنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُ نَعِيمَهَا وَأَنَّهَا دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مُقَرٍّ وَأَنَّ الْمَوْتَ مُنْتَظَرٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَنَّ الْكَيِّسَ الْعَاقِلَ مَنْ تَزَوَّدَ مِنْ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ حَتَّى تَعْظُمَ عِنْدَ اللَّهِ دَرَجَتُهُ وَتَتَّسِعَ فِي الْجِنَانِ نِعَمُهُ .
فَإِذَا كَانَتْ نَشْأَتُهُ صَالِحَةً كَانَ هَذَا الْكَلَامُ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَاقِعًا مُؤَثِّرًا ثَابِتًا يَثْبُتُ فِيهِ كَمَا يَثْبُتُ النَّقْشُ فِي الْحَجَرِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ النَّشْأَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ حَتَّى أَلِفَ الصِّبَا وَاللَّعِبَ وَالْفُحْشَ وَالْوَقَاحَةَ وَشَرِهَ الطَّعَامَ وَاللِّبَاسَ وَالتَّزَيُّنَ وَالتَّفَاخُرَ نَبَا قَلْبُهُ عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ نُبُوَّ الْحَائِطِ عَنْ التُّرَابِ الْيَابِسِ فَأَوَائِلُ الْأُمُورِ هِيَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى فَإِنَّ الصَّبِيَّ خُلِقَ جَوْهَرَةً قَابِلًا لِنَقْشِ الْخَيْرِ

وَالشَّرِّ جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يَمِيلَانِ بِهِ إلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ }

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ التَّكَسُّبِ وَكَيْفِيَّةِ مَا يُحَاوِلُهُ الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّكَسُّبَ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَاكْتِسَابِهَا .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ } وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي نَفْسِ الْحُبِّ لَهَا لَا فِي نَفْسِ التَّكَسُّبِ فَكَمْ مِنْ مُتَكَسِّبٍ زَاهِدٍ وَكَمْ مِنْ تَارِكٍ رَاغِبٍ عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ الضَّرُورَةِ لَيْسَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَوْ تَكَسَّبَ الْإِنْسَانُ بِنِيَّةِ أَنْ يَكْفِي إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامَ بِضَرُورَاتِهِ ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَكَانَ فِي أَجَلِّ الْأَعْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ فَرْضٍ وَنَفْلٍ .
أَمَّا الْفَرْضُ فَهُوَ قِوَامُ بِنْيَتِهِ وَسَتْرُ عَوْرَتِهِ وَتَجَمُّلُهُ الشَّرْعِيُّ ، وَأَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ رَفْعُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فِي الْمَسْجِدِ مُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فَسَأَلَ أَحَدَهُمْ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ ؟ فَقَالَ : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ ، وَهُوَ يَأْتِينِي بِرِزْقِي كَيْفَ شَاءَ فَتَرَكَهُ وَمَضَى إلَى الثَّانِي فَسَأَلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ أَخًا يَحْتَطِبُ فِي الْجَبَلِ فَيَبِيعُ مَا يَحْتَطِبُهُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَأْتِيه بِكِفَايَتِهِ فَقَالَ لَهُ : أَخُوك أَعْبَدُ مِنْك ثُمَّ أَتَى الثَّالِثَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ : إنَّ النَّاسَ يَرَوْنِي فَيَأْتُونِي بِكِفَايَتِي فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ لَهُ اُخْرُجْ إلَى السُّوقِ أَوْ كَمَا قَالَ .
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّكَسُّبَ أَفْضَلُ مِنْ الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ إذَا كَانَ عَالَةً عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ،

فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَأَقَلُّ مَا يَكُونُ رَفْعُ الْكُلْفَةِ عَنْهُمْ وَالْمُتَسَبِّبُ قَدْ رَفَعَ كُلْفَتَهُ عَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَفِي ذَلِكَ إدْخَالُ الرَّاحَةِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ الْمُتَسَبِّبُ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ قُوتِهِ مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِتَحَرُّزِهِ فِي كَسْبِهِ مِمَّا تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ أَوْ تَكْرَهُهُ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ مُسْتَغْرَقَةً فِي التَّعَبُّدِ فَانْقِطَاعُهُ أَوْلَى بِهِ وَأَفْضَلُ .
وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ عَمِلَ فَتْوَى وَدَارَ بِهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِهِ وَفِيهَا مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ فِي فَقِيرٍ مُنْقَطِعٍ لِلْعِبَادَةِ هَلْ التَّسَبُّبُ لَهُ أَفْضَلُ أَوْ الِانْقِطَاعُ لَهُ أَفْضَلُ أَوْ كَمَا قَالَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : انْقِطَاعُهُ أَفْضَلُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّسَبُّبُ لَهُ أَفْضَلُ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : إنْ كَانَ الْفَقِيرُ لَيْسَتْ لَهُ فَتْرَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ فَيُكْرَهُ فِي حَقِّهِ التَّسَبُّبُ أَوْ يَحْرُمُ بِحَسَبِ الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ وَقْتُ رَاحَةٍ فَيَجْعَلُهُ فِي التَّسَبُّبِ فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ وَرَجَعُوا إلَيْهِ فِيمَا أَفْتَى بِهِ .
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَرَى لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَرْكِهِ الْأَوَّلَ مِنْ الثَّلَاثَةِ نَفَرٍ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ الْمُتَسَبِّبِ وَالْمُنْقَطِعِ فِي الْعِبَادَةِ فِي الْفَضِيلَةِ إذَا حَسُنَتْ نِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ عَدَمِ الِاسْتِشْرَافِ وَعَدَمِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ يَتَسَبَّبُ فِيهِ وَسَلَامَتِهِ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيْهِ الْخَلَلَ فِيهِ بِلِسَانِ الْعِلْمِ .
وَقَدْ تَعَذَّرَتْ الْأَسْبَابُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ السَّبَبَ بِدُونِ غِشٍّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَمِلَ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ أَكَلَ الْحَرَامَ ، وَإِنْ لَمْ يَغُشَّ فِيهِ

لَمْ يَرْضَوْا بِهِ فَصَارَ التَّسَبُّبُ فِي حَيِّزِ الْحَرَامِ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ فِي حَيِّزِ الْمَكْرُوهِ بِحَسَبِ الْحَالِ فَصَارَ الِانْقِطَاعُ أَفْضَلَ وَأَوْجَبَ لَكِنْ بَيْنَ هَذَا الِانْقِطَاعِ وَانْقِطَاعِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَرْقٌ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ ، وَهُوَ أَنَّ انْقِطَاعَ السَّلَفِ كَانَ اخْتِيَارِيًّا طَلَبًا لِلْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَتَسَبُّبَهُمْ كَذَلِكَ ، وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ الْيَوْمَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لَا اخْتِيَارَ لِلْمَرْءِ فِيهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَهُ هُرُوبًا مِنْ الْوُقُوعِ فِيمَا تَتَعَمَّرُ بِهِ ذِمَّتُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّ الْمُتَسَبِّبَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ دَخَلَ عَلَيْهِ كَسْبُهُ وَالْمُنْقَطِعَ نَاظِرٌ إلَى الْمَخْلُوقِينَ مُتَطَلِّعٌ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ رَاغِبٌ فِيهِمْ رَاهِبٌ مِنْهُمْ وَلِأَجْلِ هَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْمُتَسَبِّبِينَ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ بَلْ تَجِدُ مَنْ انْغَمَسَ مِنْهُمْ فِي الْجَهْلِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ فِي الْوَقْتِ فَصِرْنَا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا نَعْرِفُ الْعُقَلَاءَ مِنْ كَثْرَةِ الْحَمْقَى ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا كَانَ فِي زَمَانِهِ ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ عَمَّ الْأَمْرُ وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ إلَّا عَلَى الْفَرْدِ النَّادِرِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ } لِأَيِسَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنْ يَجِدَ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ يَرُدُّ هَذَا الْإِيَاسَ أَوْ كَمَا قَالَ لَكِنَّهُمْ فِي الْقِلَّةِ بِحَيْثُ إنَّهُمْ لَا يُعْرَفُونَ فَطُوبَى لِمَنْ عَرَفَ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، وَرَآهُ بِعَيْنِ

التَّعْظِيمِ فَهُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ .
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ

فَصْلٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْتُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ وَسَيَأْتِي زَمَانٌ مَنْ فَعَلَ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ قَدْ يَخْفَى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى بَعْضِ مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْ أَجْلِ ظَاهِرِهِ وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ اسْتَوَيْنَا نَحْنُ وَإِيَّاهُمْ فِي إقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَمَنْ تَرَكَ مِنَّا وَمِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَعْلُومٌ وَمَنْ ارْتَكَبَ مِنَّا وَمِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَعْلُومٌ فَمَا هَذَا الَّذِي إنْ فَعَلْنَا عُشْرَهُ نَجَوْنَا ، وَإِنْ تَرَكُوا عُشْرَهُ هَلَكُوا .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفَرَائِضَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْدُوبَاتِ تَكُونُ الْعُشْرَ أَوْ نَحْوَهُ فَإِذَا اقْتَصَرْنَا عَلَى الْفَرَائِضِ نَجَوْنَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا يَعْتَوِرُ الْمُكَلَّفَ فِي الْعِبَادَاتِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَضَرَ وَلِيمَةً وَفِيهَا مِنْ الثَّوَابِ مَا فِيهَا يَشْهَدُ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُحَرَّمَاتِ أَوْ هُمَا مَعًا شَيْئًا كَثِيرًا ، وَكَذَلِكَ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَحُضُورُ الْجَنَائِزِ وَزِيَارَةُ الْإِخْوَانِ وَحُضُورُ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالْبَحْثُ فِيهَا وَلِقَاءُ الْمَشَايِخِ وَالِاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجِدُ الْمُكَلَّفُ فِي مُبَاشَرَتِهَا أَشْيَاءَ عَدِيدَةً تَمْنَعُهُ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْهَا فَإِذَنْ قَدْ اضْطَرَّ الْمُكَلَّفُ الْيَوْمَ إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَتَوَابِعِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَتَبْقَى الْعِبَادَةُ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ إلَّا وَذَلِكَ هُوَ الْعُشْرُ أَوْ نَحْوُهُ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَإِنَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ السُّنَنِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ مَانِعٌ لِوُجُودِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ

الِابْتِدَاعِ فَلَا يَتْرُكُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا رَغْبَةً عَنْهَا وَمَنْ تَرَكَ الْمَنْدُوبَ اخْتِيَارًا فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُوفِيَ بِالْفَرَائِضِ فَيَهْلِكُ .
يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى فِي مَنَامِهِ رَجُلًا مُضْطَجِعًا عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ يَشْدَخُ بِهَا رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَيَنْطَلِقُ إلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إلَى هَذَا إلَّا وَيَلْتَئِمُ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إلَيْهِ فَضَرَبَهُ } الْحَدِيثَ فَفَسَّرَ لَهُ الْمَلَكَانِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ بِالنَّهَارِ يُصْنَعُ بِهِ هَذَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا يُعَذَّبُ الْمُكَلَّفُ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ لَكِنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا فَهُوَ يُجْبَرُ بِهِ مَا وَقَعَ مِنْ الْخَلَلِ فِي الْفَرَائِضِ .
وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ بِالنَّهَارِ وَتَرْكُ عَمَلِهِ بِهِ فِيهِ خَلَلٌ فِي فَرَائِضِهِ ، وَهُوَ لَمْ يَقُمْ بِهِ فِي اللَّيْلِ حَتَّى يُجْبَرَ بِهِ الْفَرْضُ فَالْعَذَابُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى تَرْكِ الْفَرْضِ لَا عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ .
فَعَلَى هَذَا فَمَنْ تَرَكَ الْمَنْدُوبَ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ الْخَلَلُ فِي فَرَائِضِهِ وَلَا يُوجَدُ مَنْدُوبٌ يَجْبُرُهُ فَصَارَتْ أَكْثَرُ عَادَةِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ بِالتَّرْكِ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتْرُكُونَهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَهُمْ فِي أَسْنَى الْأَعْمَالِ ، وَإِنْ كَانُوا فِي الظَّاهِرِ تَارِكِينَ فَتَخَيَّرَ لَهُمْ الْفَرَائِضَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ الْجَمِيلَةِ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .

{ تَنْبِيهٌ } وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ عَنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ يَقُولُ لَا يُمْكِنُنِي ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِئَلَّا يَقَعَ النَّاسُ فِي عِرْضِي وَيَتَكَلَّمُونَ فِي فَأَكُونُ سَبَبًا فِي إيقَاعِهِمْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ الْمَكْرُوهَاتِ ، وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْقَوْمِ مَا هُوَ إذْ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ التَّصَدُّقُ بِعِرْضِهِمْ عَلَى مَنْ نَالَ مِنْهُمْ مِنْ إخْوَانِهِمْ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ .
كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك } فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُرِيدِ الطَّالِبِ لِخَلَاصِ مُهْجَتِهِ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا وَيَعُدُّ الْخَلْقَ كَأَنَّهُمْ مَوْتَى لَا يَحْسَبُ إلَّا حِسَابَ السُّنَّةِ فَيَتَتَبَّعُهَا وَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمِنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَا يَصْدُرُ مِنْ النَّاسِ يَشْغَلُ الْخَاطِرَ وَيُكْثِرُ الْوَسْوَاسَ وَالْحِقْدَ وَيَقْطَعُ عَنْ الِاتِّبَاعَ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ ابْنَهُ السُّلُوكَ أَنْ يَفْطِمَهُ عَنْ النَّظَرِ إلَى الْخَلْقِ فَخَرَجَ رَاكِبًا عَلَى دَابَّةٍ هُوَ وَوَلَدُهُ فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : اُنْظُرُوا إلَى هَذَيْنِ كَيْفَ رَكِبَا عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ وَهِيَ لَا تُطِيقُ فَنَزَلَ وَلَدُهُ عَنْهَا وَبَقِيَ الْوَالِدُ رَاكِبًا فَقَالُوا : اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الرَّجُلِ كَيْفَ هُوَ رَاكِبٌ وَوَلَدُهُ يَمْشِي وَكَانَ الْوَلَدُ أَوْلَى مِنْهُ بِالرُّكُوبِ فَنَزَلَ الْوَالِدُ وَرَكِبَ الْوَلَدُ فَقَالُوا : اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْوَلَدِ مَا أَقَلَّ أَدَبَهُ أَبُوهُ يَمْشِي عَلَى أَقْدَامِهِ ، وَهُوَ رَاكِبٌ فَقَالَ لِوَلَدِهِ : انْزِلْ فَنَزَلَ عَنْ الدَّابَّةِ وَمَشَيَا عَلَى أَرْجُلِهِمَا وَتَرَكَا الدَّابَّةَ تَمْشِي دُونَ رَاكِبٍ

عَلَيْهَا فَقَالُوا : مَا أَقَلَّ عَقْلَ هَذَانِ يَمْشِيَانِ عَلَى أَقْدَامِهِمَا وَالدَّابَّةُ لَا رَاكِبَ عَلَيْهَا أَوْ كَمَا جَرَى فَقَالَ لِوَلَدِهِ اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْأَمْرِ وَاعْتَبِرْ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ فِيهِ ، وَإِنْ عَمِلَ مَا عَمِلَ وَقَدْ رَأَيْته عِيَانًا فَعَلَّمَ وَلَدَهُ تَرْكَ النَّظَرِ لِلْمَخْلُوقِ بِالْفِعْلِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَكَابِرِ السَّلَفِ نَظَرْت إلَى النَّاسِ فَرَأَيْتهمْ مَوْتَى فَكَبَّرْت عَلَيْهِمْ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ أَخَذَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى الِامْتِثَالِ بِكُلِّيَّتِهِ وَتَرَكَ الِالْتِفَاتَ لِلْمَخْلُوقِ حَتَّى لَا يَخْطِرَ لَهُ غَيْرُ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ ، فَإِذَا رَأَى الْبِدَعَ تَكْثُرُ وَالْعَوَائِدَ تُفْعَلُ وَبَعْضَ النَّاسِ يَسْخَرُونَ بِهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ مِنْهُ فَلِيَشُدَّ يَدَهُ عَلَى مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ الِامْتِثَالِ وَيَحْرِصْ عَلَى الزِّيَادَةِ مِمَّا هُوَ فِيهِ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ مَعِي } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ أَجْرُ خَمْسِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ بَلْ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا وَلَا يَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً } وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ .
وَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ ، فَإِنَّ الْفَارِسَ الشُّجَاعَ لَا يُعْرَفُ إلَّا وَقْتَ الْهَزِيمَةِ وَأَيُّ هَزِيمَةٍ أَعْظَمُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا أَنْ كَتَبَ إلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ اُكْتُبْ إلَيَّ سِيرَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّاسِ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسِيرَ بِهَا فَكَتَبَ إلَيْهِ .
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك لَسْت فِي زَمَانِ عُمَرَ وَلَا لَك رِجَالٌ

كَرِجَالِ عُمَرَ فَإِنْ عَمِلْت فِي زَمَانِك هَذَا وَرِجَالِك هَؤُلَاءِ بِسِيرَةِ عُمَرَ فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ سِيرَتِهِ الْحَسَنَةِ فَمَا بَالُك بِزَمَانِنَا هَذَا فَيَحْتَاجُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهَا وَيَعْمَلَ بِهَا وَيُعَلِّمَهَا .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ إلَى الْغُرُورِ وَالْأَمَانِي لِمَا يَرَى مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُتْلِفَةِ وَوُقُوعِ الْمَهَالِكِ بَلْ يَغْتَنِمُ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ الْعَظِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِالسُّنَّةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ .
إمَّا أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ أَوْ لَا .
فَإِنْ قُبِلَ مِنْهُ حَصَلَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْمَعِيَّةِ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ } وَيَنْبَغِي أَنْ يَرَى الْفَضِيلَةَ لِمَنْ قَبِلَهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى إحْيَاءِ السُّنَّةِ وَإِقَامَتِهَا ، وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْخَيْرِ كَانَ شَرِيكًا لِعَامِلِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِعَانَةَ حَاصِلَةٌ لِمَنْ قَبِلَ وَامْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُهِيَ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَصَلَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْدِرْ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَصِلَا إلَيْهِ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ مَعِي } كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْهِجْرَةُ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَفُوقُهَا غَيْرُهَا وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعَ هَذَا اسْتِصْغَارُ النَّفْسِ وَحَقَارَتُهَا إذْ أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِ بِمِنَّةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِ بَعْضِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ ، وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا يَأْمُرُ بِالسُّنَّةِ وَيَحُضُّ عَلَيْهَا وَلَمْ يَرْجِعْ هُوَ

إلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ لَكَانَ فِي خَطَرٍ عَظِيمٍ وَأَمْرٍ مَهُولٍ فَلِيُكْثِرْ الشُّكْرَ عَلَى مَا أَوْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ يَقُولُ { قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ } نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِذَلِكَ بِمَنِّهِ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا } ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَيَعْلَمَ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ هُوَ أَعْنِي مِنْ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهُ كُلُّهُ جَلِيًّا أَمْرُهُ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِعُذْرٍ وَقَعَ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ النَّهَارِ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ فِيهَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عَمِلَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ فَيَعْرِضُهُ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ حَمِدَ اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ الْقَبُولَ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ نَزَعَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مَعَ وُجُودِ النَّدَمِ وَالْإِقْلَاعِ ، فَإِنْ وَجَدَ فِي قَوْلِهِ أَوْ فِي فِعْلِهِ شَيْئًا تَعَمَّرَتْ بِهِ ذِمَّتُهُ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَرِيضُ أَنْفَعَ مِنْ الْحَمِيَّةِ ثُمَّ الدَّوَاءُ بَعْدَهَا فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَمِيَّةِ دُونَ الدَّوَاءِ نَفَعَهُ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ الدَّوَاءَ دُونَ حَمِيَّةٍ لَمْ يَنْفَعْهُ بَلْ يَعُودُ بِالضَّرَرِ عَلَيْهِ فَأَصْلُ الْحَمِيَّةِ وَرَأْسُهَا تَخْلِيصُ الذِّمَّةِ مِنْ حُقُوقِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا يَتَمَيَّزُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَوُقُوفِهَا عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ وَقَوْلٍ وَاعْتِقَادٍ .
فَإِذَا كَانَتْ لَهُ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ فِيهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ الْخَلَلِ وَيَتَوَجَّهَ بَعْدُ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ التَّبِعَاتِ .
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظَرِ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ لَهُمْ عَلَيْهِ يَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا النَّظَرِ الْحَسَنِ .
فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَجَدَهُمْ عَلَى طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ لَهُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهَا سُلُوكٌ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
أَمَّا الطَّبَقَةُ الْأُولَى ، فَإِنَّهُ إذَا نَظَرَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَعْلَمُ أَوْ أَكْثَرُ عِبَادَةً وَانْقِطَاعًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلِمَ أَنَّ لَهُ فَضِيلَةً عَلَيْهِ بِسَبْقِهِ لِلْإِسْلَامِ أَوْ مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَعَلِمَ تَقْصِيرَهُ فِي نَفْسِهِ فَيَحْتَرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيَرَى فَضْلَهُ عَلَيْهِ وَسَبْقَهُ .
الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَرَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَهُ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَالِمًا مِنْ الذُّنُوبِ أَوْ تَكُونُ لَهُ ذُنُوبٌ لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّائِي لَهُ أَقَلُّ إذْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِفُ ذُنُوبَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَلَا يَعْرِفُ ذُنُوبَ غَيْرِهِ ، وَلَعَلَّهُ إذَا اطَّلَعَ عَلَى ذَنْبٍ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَهُ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْضِيلِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَرَى مَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ سِنًّا فَيَقُولُ هَذَا أَقَلُّ مِنِّي ذُنُوبًا لِأَنِّي قَدْ سَبَقْته إلَى الدُّنْيَا وَارْتَكَبْت فِيهَا مَا ارْتَكَبْت ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَلَا ذُنُوبَ عَلَيْهِ فَإِنْ رَأَى مَنْ هُوَ مُبْتَلًى فِي دِينِهِ وَضَاقَ عَلَيْهِ سُلُوكُ بَابِ التَّأْوِيلِ فِي حَقِّهِ فَلْيَرْجِعْ إذْ ذَاكَ لِنَفْسِهِ وَلْيَنْظُرْ مِنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فِي كَوْنِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَا تَلَبَّسَ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ وَكَوْنِهِ سَالِمًا مِمَّا ابْتَلَى بِهِ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ مَحْظُورٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُذَكِّرُ نَفْسَهُ بِالْخَاتِمَةِ ،

فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يُخْتَمُ لَهُ فَإِنَّهُ إنْ عُومِلَ بِالْعَدْلِ فَلَا يُخَلِّصُهُ شَيْءٌ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ أَفْعَالِ الْقُرَبِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ ، وَإِنْ عُومِلَ مَنْ رَآهُ بِالْفَضْلِ قُضِيَتْ عَنْهُ التَّبِعَاتُ وَقُبِلَ مِنْهُ الْيَسِيرُ مِنْ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ لَا يَنْحَصِرُ فِي جِهَةٍ وَعَدْلَهُ لَا يُؤْمَنُ فِي حَالٍ .
فَإِذَا نَظَرَ إلَى النَّاسِ بِحُسْنِ هَذَا النَّظَرِ رَبِحَ وَعَادَتْ عَلَيْهِ بَرَكَةُ تَحْسِينِ ظَنِّهِ بِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ حَالًا وَمَآلًا وَكَانَ اجْتِمَاعُهُ بِهِمْ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ وَحَقِّهِمْ وَكَذَالِك الْفِرَارُ مِنْهُمْ وَالْهُرُوبُ مِنْ خُلْطَتِهِمْ بِهَذَا النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارُ بِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ سُلُوكٌ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَسْلَمُ وَآمَنُ عَاقِبَةً لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ إذَا رَأَى مُبْتَلًى فِي دِينِهِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ سَطْوَةَ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّأْوِيلِ الْحَسَنِ فِي حَقِّهِ لَهُ فَإِنْ عَجَزَ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُهُ الْهِجْرَانُ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ

أَسْبَابُ تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَ الْإِخْوَانِ قَصَدَنِي فِي تَلْخِيصِ شَيْءٍ أَذْكُرُ فِيهِ بِأَيِّ نِيَّةٍ يَخْرُجُ بِهَا الْمَرْءُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَإِلَى حُضُورِ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَإِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ مِنْ السُّوقِ وَغَيْرِهِ وَبِأَيِّ نِيَّةٍ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ وَبِأَيِّ نِيَّةٍ يَمْكُثُ فِيهِ فَأَسْعَفْته بِذَلِكَ حَتَّى بَلَغْت فِيهِ إلَى الْكُرَّاسِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهُ ثُمَّ حَصَلَ لِي قَلَقٌ وَانْزِعَاجٌ فِي أَخْذِ الْعِلْمِ عَنِّي وَلَسْت عِنْدَ نَفْسِي أَهْلًا لِذَلِكَ .
فَعَزَمْت عَلَى أَنْ أُعْدِمَ تِلْكَ الْكَرَارِيسَ فَأَخَذْتهَا وَشَدَدْت عَلَيْهَا وَدَفَعْتهَا لِبَعْضِ الْإِخْوَانِ وَقُلْت لَهُ يُثَقِّلُهَا بِحَجَرٍ وَيُلْقِيهَا فِي الْبَحْرِ فَمَكَثْت عِنْدَهُ أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ .
ثُمَّ جَاءَ الْفَقِيهُ الْخَطِيبُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمُعْطِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سَبُعٍ خَطِيبُ جَامِعِ الظَّاهِرِ بِالْحُسَيْنِيَّةِ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا فَطَلَبَ الْكَرَارِيسَ فَأَخْبَرْته بِمَا جَرَى فَشَقَّ عَلَيْهِ وَقَالَ لِي : اسْأَلْ عَنْهَا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرْته بِهِ إلَى الْآنَ فَقُلْت لَهُ : إنَّ لَهُ مُدَّةً فَقَالَ : وَلَعَلَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ بَقِيَتْ فَسَأَلْت الشَّخْصَ الَّذِي أَمَرْته بِتَغْرِيقِهَا فَقَالَ : لِي هِيَ بَاقِيَةٌ إلَى الْآنَ فَسَأَلْته عَنْ مُوجِبِ تَرْكِهِ لَهَا فَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَضَعَهَا فِي مَوْضِعٍ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يَتَفَرَّغَ فَيُلْقِيَهَا فِي الْبَحْرِ .
قَالَ فَعَزَمْت عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا ثُمَّ إنِّي أَنْسَى وَهِيَ إلَى الْآنَ عِنْدِي لَمْ أُغْرِقْهَا بَعْدُ .
فَطَلَبْتهَا مِنْهُ وَأَخَذْتهَا وَدَفَعْتهَا إلَى الْفَقِيهِ الْخَطِيبِ الْمَذْكُورِ فَطَالَعَهَا ثُمَّ أَتَانِي بِهَا فَقَالَ لِي : يَحْرُمُ عَلَيْك إتْلَافُهَا وَحَضَّنِي عَلَى إتْمَامِهَا وَسَأَلَنِي مِرَارًا أَنْ أُعَيِّنَ اسْمَهُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ مِنْ أَعَانَ عَلَيْهَا لِكَيْ يُدْعَى لَهُ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبًا فِي إتْمَامِهَا .
خَاتِمَةُ الْمُؤَلِّفِ : وَهَذَا

دُعَاءٌ أَخْتِمُ بِهِ الْكِتَابَ رَجَاءَ الِاسْتِجَابَةِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدُّ مِنْك الْجَدُّ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ .
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ صَدَّقَهُ .
بِتَوْفِيقِك وَاتَّبَعَهُ بِإِرْشَادِك وَتَسْدِيدِك وَأَمِتْنَا عَلَى مِلَّتِهِ بِنِعْمَتِك وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ بِرَحْمَتِك .
اللَّهُمَّ بِنُورِك اهْتَدَيْنَا وَبِفَضْلِك اسْتَغْنَيْنَا وَفِي كَنَفِك أَصْبَحْنَا وَأَمْسَيْنَا أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَا شَيْءَ قَبْلَك وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَك نَعُوذُ بِك مِنْ الْفَشَلِ وَالْكَسَلِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ اللَّهُمَّ نَبِّهْنَا بِذِكْرِك فِي أَيَّامِ الْغَفْلَةِ وَاسْتَعْمِلْنَا بِطَاعَتِك فِي أَيَّامِ الْمُهْلَةِ وَانْهَجْ لَنَا إلَى رَحْمَتِك طَرِيقًا سَهْلَةً .
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ آمَنَ بِك فَهَدَيْته وَتَوَكَّلَ عَلَيْك فَكَفَيْته وَسَأَلَك فَأَعْطَيْته .
اللَّهُمَّ يَا عَالَمَ الْخَفِيَّاتِ وَيَا بَاعِثَ الْأَمْوَاتِ وَيَا سَامِعَ الْأَصْوَاتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا خَالِقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْجَوَّادُ الَّذِي لَا يَبْخَلُ وَالْحَلِيمُ الَّذِي لَا يَعْجَلُ لَا رَادَّ لِأَمْرِك وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِك رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُقَدِّرُ كُلِّ شَيْءٍ نَسْأَلُك أَنْ تَرْزُقَنَا عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَقَلْبًا خَاشِعًا وَلِسَانًا صَادِقًا وَعَمَلًا زَاكِيًا وَإِيمَانًا خَالِصًا وَأَنْ تَهَبَ لَنَا إنَابَةَ الْمُخْلِصِينَ وَخُشُوعَ الْمُخْبِتِينَ وَأَعْمَالَ الصَّالِحِينَ وَيَقِينَ الصَّادِقِينَ وَسَعَادَةَ الْمُتَّقِينَ وَدَرَجَاتِ الْفَائِزِينَ وَالْعَابِدِينَ يَا أَفْضَلَ مَنْ قُصِدَ وَأَكْرَمَ مَنْ

سُئِلَ وَأَحْلَمَ مَنْ عُصِيَ مَا أَحْلَمَك عَلَى مَنْ عَصَاك وَأَقْرَبَك مِمَّنْ دَعَاك وَأَعْطَفَكَ عَلَى مَنْ سَأَلَك لَك الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ إنْ أَطَعْنَاك فَبِفَضْلِك ، وَإِنْ عَصَيْنَاك فَبِحِلْمِك لَا مَهْدِيَّ إلَّا مَنْ هَدَيْت وَلَا ضَالَّ إلَّا مِنْ أَضْلَلْت وَلَا مَسْتُورَ إلَّا مَنْ سَتَرْت نَسْأَلُك أَنْ تَهَبَ لَنَا جَزِيلَ عَطَائِك وَالسَّعَادَةَ بِلِقَائِك وَالْفَوْزَ بِجِوَارِك وَالْمَزِيدَ مِنْ آلَائِك وَأَنْ تَجْعَلَ لَنَا نُورًا فِي حَيَاتِنَا وَنُورًا فِي مَمَاتِنَا وَنُورًا فِي قُبُورِنَا وَنُورًا فِي حَشْرِنَا وَنُورًا نَتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْك وَنُورًا نَفُوزُ بِهِ لَدَيْك فَإِنَّا بِبَابِك سَائِلُونَ وَلِنَوَالِك مُتَعَرِّضُونَ وَلِأَفْضَالِك رَاجُونَ .
اللَّهُمَّ اهْدِنَا إلَى الْحَقِّ وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ وَانْصُرْنَا فِيهِ وَأَعْلِنَا بِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ شُغْلَ قُلُوبِنَا بِذِكْرِ عَظَمَتِك وَأَفْرِغْ أَبْدَانَنَا فِي شُكْرِ نِعْمَتِك وَأَنْطِقْ أَلْسِنَتنَا بِوَصْفِ مِنَّتِك وَقِنَا نَوَائِبَ الزَّمَانِ وَصَوْلَةَ السُّلْطَانِ وَوَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ وَاكْفِنَا مُؤْنَةَ الِاكْتِسَابِ وَارْزُقْنَا بِغَيْرِ حِسَابٍ .
اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِالْخَيْرِ آجَالَنَا وَحَقِّقْ بِالرَّجَاءِ آمَالَنَا وَسَهِّلْ فِي بُلُوغِ رِضَاك سَبِيلَنَا وَحَسِّنْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَعْمَالَنَا .
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِآبَائِنَا كَمَا رَبَّوْنَا صِغَارًا وَاغْفِرْ لَهُمْ مَا ضَيَّعُوا مِنْ حَقِّك وَاغْفِرْ لَنَا مَا ضَيَّعْنَا مِنْ حُقُوقِهِمْ وَاغْفِرْ لِخَاصَّتِنَا وَعَامَّتِنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ فَإِنَّك جَوَّادٌ بِالْخَيْرَاتِ يَا مُنْقِذَ الْغَرْقَى وَيَا مُنْجِيَ الْهَلْكَى وَيَا شَاهِدَ كُلِّ نَجْوَى وَيَا مُنْتَهَى كُلِّ شَكْوَى وَيَا حَسَنَ الْعَطَاءِ وَيَا قَدِيمَ الْإِحْسَانِ وَيَا دَائِمَ الْمَعْرُوفِ وَيَا مَنْ لَا غِنَى لِشَيْءٍ عَنْهُ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ وَيَا مَنْ رِزْقُ كُلِّ حَيٍّ عَلَيْهِ وَمَصِيرُ كُلِّ شَيْءٍ إلَيْهِ إلَيْك ارْتَفَعَتْ أَيْدِي السَّائِلِينَ وَامْتَدَّتْ أَعْنَاقُ الْعَابِدِينَ وَشَخَصَتْ أَبْصَارُ الْمُجْتَهِدِينَ نَسْأَلُك أَنْ تَجْعَلَنَا فِي كَنَفِك وَجِوَارِك

وَعِيَاذِك وَسِتْرِك وَأَمَانِك .
اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ .
اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا تُغْنِينَا بِهِ عَنْ أَهْلِهَا وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا مِنْ السَّلْوِ عَنْهَا وَالْمَقْتِ لَهَا وَالزُّهْدِ فِيهَا وَالتَّبَصُّرِ بِعُيُوبِهَا مِثْلَ مَا جَعَلْت فِي قُلُوبِ مَنْ فَارَقَهَا زُهْدًا فِيهَا وَرَغْبَةً عَنْهَا مِنْ أَوْلِيَائِك الْمُخْلِصِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
اللَّهُمَّ لَا تَدَعْ لَنَا فِي مَقَامِنَا هَذَا ذَنْبًا إلَّا غَفَرْته وَلَا هَمًّا إلَّا فَرَّجْته وَلَا كَرْبًا إلَّا كَشَفْته وَلَا دَيْنًا إلَّا قَضَيْته وَلَا عَدُوًّا إلَّا كَفَيْته وَلَا عَيْبًا إلَّا أَصْلَحْته وَلَا مَرِيضًا إلَّا شَفَيْته وَلَا غَائِبًا إلَّا رَدَدْتَهُ وَلَا خَلَّةً إلَّا سَدَدْتهَا وَلَا حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَنَا فِيهَا خَيْرٌ إلَّا قَضَيْتهَا ، فَإِنَّك تَهْدِي السَّبِيلَ وَتَجْبُرُ الْكَسِيرَ وَتُغْنِي الْفَقِيرَ .
اللَّهُمَّ إنَّ لَنَا إلَيْك حَاجَةً وَبِنَا إلَيْك فَاقَةً فَمَا كَانَ مِنَّا مِنْ تَقْصِيرٍ فَاجْبُرْهُ بِسَعَةِ عَفْوِك وَتَجَاوَزْ عَنْهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِك وَاقْبَلْ مِنَّا مَا كَانَ صَالِحًا وَأَصْلِحْ مِنَّا مَا كَانَ فَاسِدًا فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت إلَيْك نَشْكُو قَسَاوَةَ قُلُوبِنَا وَجُمُودَ عُيُونِنَا وَطُولَ آمَالِنَا وَاقْتِرَابَ آجَالِنَا وَكَثْرَةَ ذُنُوبِنَا فَنِعْمَ الْمَشْكُوِّ إلَيْهِ أَنْتَ فَارْحَمْ ضَعْفَنَا .
وَأَعْطِنَا لِمَسْكَنَتِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا لِقِلَّةِ شُكْرِنَا فَمَا لَنَا إلَيْك شَافِعٌ أَرْجَى فِي أَنْفُسِنَا مِنْك فَارْحَمْ تَضَرُّعَنَا وَاجْعَلْ خَوْفَنَا كُلَّهُ مِنْك وَرَجَاءَنَا كُلَّهُ فِيك نَسْأَلُك اللَّهُمَّ بِكَرَمِك وَإِحْسَانِك أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِوَالِدَيْ وَالِدَيْنَا إلَى مُنْتَهَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِمَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِهِمْ إلَى مُنْتَهَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِمَنْ قَرَأَ عَلَيْنَا أَوْ قَرَأْنَا عَلَيْهِ وَاسْتَفَدْنَا مِنْهُ وَاسْتَفَادَ مِنَّا وَاغْفِرْ لَنَا بِرَحْمَتِك وَكَرَمِك وَإِحْسَانِك

يَا ذَا الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ وَالِامْتِنَانِ .
وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ خَالِصًا وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ مَنْ طَلَبَهُ أَوْ كَتَبَهُ أَوْ قَرَأَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ عَمِلَ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْنَا بِالْعَمَلِ بِهِ وَأَنْ يَجْعَلَهُ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا وَأَنْ يَخْتِمَ لَنَا بِخَيْرٍ أَجْمَعِينَ وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكَرِيمَ الْمَنَّانَ أَنْ يُخَلِّصَنَا وَيُخَلِّصَ بِنَا وَيَكْفِيَنَا وَيَكْفِيَ بِنَا وَأَنْ يُعَافِيَنَا مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَإِمَامِ الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15