كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

تَقَدَّمَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ إلَّا لِأَمْرٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَكَانَ الْعَمَلُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ كَالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُخْرِجْهُ مَنْ اشْتَرَطَ الصِّحَّةَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالرُّجُوعُ إلَى الْعَمَلِ أَرْجَحُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ شَرَعَ الْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَلَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ .
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلَا فَرْقَ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِعَدَمِ الْجَزَاءِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَهُمْ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ عَمَلًا ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَمَلِ قَدْ يَقَعُ بَعْضُهُمْ ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِي تَرْكِهِ فَيَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى الْخُسْرَانِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ فَرَفَعَ عَنْهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ التَّقْصِيرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ حَتَّى رَدَّ الْخَمْسِينَ إلَى خَمْسٍ بِبَرَكَةِ شَفَاعَتِهِ وَشَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَسُؤَالِهِ فِي الرِّفْقِ بِهِمْ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَالْوُفُودُ تَسِيرُ إلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ بِخِلَافِ زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنْظُرُ أَبَدًا مَا فِيهِ الْأَفْضَلُ لِأُمَّتِهِ فَيُرْشِدُهُمْ إلَيْهِ وَمَا كَانَ فِيهِ تَكْلِيفٌ يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ مُكْتَفِيًا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَتَجِدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ مَا يَخُصُّ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ يُخَفِّفُهُ عَنْ أُمَّتِهِ .
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ وَشُمُولِ عِنَايَتِهِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ .
وَمِمَّا

يُؤَيِّدُ مَا ذُكِرَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الْأُولَى } فَكُلُّ مَقَامٍ ، أَوْ مَكَان أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أُقِيمَ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي الْفَضِيلَةِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَلَا يَشُكُّ وَلَا يُرْتَابُ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ انْتِقَالِهِ إلَى رَبِّهِ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِهِ وَأَتَمِّهَا إذْ هُوَ الْخِتَامُ وَالْخِتَامُ يَكُونُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ وَأَعْظَمَ مِنْهُ فَلَئِنْ كَانَتْ مَكَّةُ مَوْضِعَ شَمْسٍ مَشْرِقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْمَدِينَةُ مَوْضِعُ شَمْسِ مَغْرِبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِيهَا حَلَّ وَأَقَامَ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْإِيمَانُ يَأْرِزُ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ } يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا بَيْنَ مَطْلِعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَغْرِبِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِثْلُهُ أَعْنِي بِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ وَمَا وَقَعَ فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ إخْمَادِ نَارِ فَارِسَ وَانْشِقَاقِ إيوَانِ كِسْرَى وَمَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنْ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَنُزُولِ إبْلِيسَ وَجُنُودِهِ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ لَاكْتَفَى فِي فَضِيلَتِهِ بِوُجُودِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَمَعْنَى لَعَمْرُكَ لَحَيَاتُكَ فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِمَخْلُوقٍ إلَّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ تَعَالَى {

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَا بِمَعْنَى التَّأْكِيدِ .
وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّمَا تَكُونُ لَا لِلتَّأْكِيدِ إذَا عُدِمَتْ الْفَائِدَةُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا لَفْظَةُ لَا وَالْفَائِدَةُ مَوْجُودَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } مَعْنَاهُ أَيُّ قَدْرٍ وَأَيُّ خَطَرٍ لِهَذَا الْبَلَدِ حَتَّى يُقْسَمَ بِهِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهِ ، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ وَالْخَطَرُ لَكَ فَأَنْتَ الَّذِي يُقْسَمُ بِكَ لِعَظِيمِ جَاهِكَ وَحُرْمَتِكَ عِنْدَنَا .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى سِرِّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إذْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَدِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَكَّةُ اتِّفَاقًا ، وَمَكَّةُ قَدْ تَظَافَرَتْ النُّصُوصُ عَلَى تَفْضِيلِهَا .
فَإِذَا كَانَتْ مَكَّةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ الْفَضِيلَةِ الْعُظْمَى وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقْسِمُ بِهَا مَعَ وُجُودِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالشَّمْسِ لَا تَظْهَرُ الْكَوَاكِبُ مَعَهَا بَلْ هُوَ الَّذِي كُسِيَتْ الْأَكْوَانُ مِنْ بِهَاءِ نُورِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ مَنْ مَدَحَهُ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ الْجَمِيلَةِ حَيْثُ يَقُولُ إلَى الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ أَحْمَدُ قَدْ دَنَا وَنُورُهُمَا مِنْ نُورِهِ يَتَلَأْلَأُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَوْضِعُ مَقَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَائِمًا لَا يُوَازِيهِ غَيْرُهُ وَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ الْأَدِلَّةُ بِالْفَضِيلَةِ الْعُظْمَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَمَا شَابَهَهُ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ فَاضِلٌ وَبَيْنَ مَا هُوَ أَفْضَلُ فَإِنَّك إذَا قُلْت مَثَلًا الشَّمْسُ أَكْثَرُ ضَوْءًا مِنْ الْبَدْرِ السَّالِمِ مِنْ كُلِّ مَا يَعْتَرِيهِ فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ إذْ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ شَارَكَهَا الْبَدْرُ فِي بَعْضِ الضِّيَاءِ لَكِنْ لِلشَّمْسِ زِيَادَةُ ضِيَاءٍ أَضْعَافُ

ذَلِكَ فَظَهَرَتْ فَضِيلَةُ الشَّمْسِ عَلَى الْبَدْرِ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَإِذَا فَضَلَتْ عَلَى الْبَدْرِ فَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَالْبَدْرُ يَفْضُلُ عَلَى مَا دُونَهُ فِي الضِّيَاءِ وَالْجُرْمِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْمَدِينَةُ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ مُقَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيًّا وَمَيِّتًا الَّتِي قَدْ خُصَّتْ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكْرَمُ مِنْ غَيْرِهَا بِوُجُودِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَكَّةَ مَعَ عَظِيمِ قَدْرِهَا لَمْ يُقْسِمْ بِهَا لِأَجْلِ حُلُولِهِ إذْ ذَاكَ بِهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَفْضُلَ مَوْضِعًا حَلَّ فِيهِ وَأَقَامَ بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا فَكَيْفَ يَفْضُلُهُ غَيْرُهُ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ فِي وُجُودِ الْفَضِيلَةِ إذْ لَا فَرْقَ فِي الِاحْتِرَامِ لِرَفِيعِ جَنَابِهِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ .
وَقَدْ رَأَيْت لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ مِنْ فَضَائِلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَا مِنْ نَبِيٍّ دُفِنَ إلَّا وَقَدْ رُفِعَ بَعْدَ ثَلَاثٍ غَيْرِي فَإِنِّي سَأَلْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ مَاتَ بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ كُنْت لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَسَوَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّفَاعَةِ لَهُمْ ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَصَّصَ الْمَدِينَةَ بِالذِّكْرِ وَحَضَّ عَلَى مُحَاوَلَةِ ذَلِكَ بِالِاسْتِطَاعَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا } وَالِاسْتِطَاعَةُ هِيَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي ذَلِكَ فَزِيَادَةُ عِنَايَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِفْرَادِ الْمَدِينَةِ بِالذِّكْرِ دَلِيلٌ عَلَى تَمْيِيزِهَا

.

أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ } فَجَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ كِلَيْهِمَا سِيَّانِ فِي الْفَضِيلَةِ فِي تَعَدِّي نَفْعِهِ وَبَرَكَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمَّتِهِ أَوَّلِهَا وَوَسَطِهَا وَآخِرِهَا فَنَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عُمُومِ نَفْعِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا .
كَيْفَ لَا ، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَسَيِّدُ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى وَكَانَ مِنْ رَبِّهِ فِي الْقُرْبِ وَالتَّدَانِي مَعَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ كَقَابَ قَوْسَيْنِ ، أَوْ أَدْنَى .
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَعْنَى كَلَامِ سَيِّدِي الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ ثُمَّ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِأُمَّتِهِ فَقَالَ تَعَالَى { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ فِي حَقِيقَةِ الْمَعْنَى هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأُمَّتُهُ أَوْلَادُهُ .
إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ سَبَبًا لِلْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ السَّرْمَدِيَّةِ وَالْخُلُودِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَسَلَامَتِهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ الْعَظِيمِ .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { إنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَثَابَةِ الْوَالِدِ } انْتَهَى ، وَهَذَا ظَاهِرٌ قَالَ تَعَالَى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } فَحَقُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْظَمُ مِنْ حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } فَقَدَّمَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَدَّمَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِ كُلِّ مُؤْمِنٍ .
وَمَعْنَى ذَلِكَ إذَا تَعَارَضَ لَهُ حَقَّانِ حَقٌّ لِنَفْسِهِ وَحَقٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآكَدُهُمَا عَلَيْهِ وَأَوْجَبُ .
حَقُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَجْعَلُ حَقَّ نَفْسِهِ تَبَعًا لِلْحَقِّ

الْأَوَّلِ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي تَتَبُّعِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ .
وَإِذَا تَأَمَّلْت الْأَمْرَ فِي الشَّاهِدِ وَجَدْت نَفْعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَك أَعْظَمَ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ إذْ أَنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ وَجَدَك غَرِيقًا فِي بِحَارِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا الْمُوجِبَةِ لِغَضَبِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَنْقَذَك وَأَنْقَذَ آبَاءَك وَأَبْنَاءَك وَمَنْ مَشَى عَلَى مَشْيِك ، وَغَايَةُ أَمْرِ أَبَوَيْك أَنَّهُمَا أَوْجَدَاك فِي الْحِسِّ فَكَانَا سَبَبًا لِإِخْرَاجِك إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ وَمَحَلِّ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ فَأَوَّلُ ذَنْبٍ يُوقِعُهُ الْمَرْءُ فِيهَا اسْتَحَقَّ بِهِ النَّارَ وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَشِيئَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَخَذَ بِالْعَدْلِ وَإِنْ شَاءَ عَفَا بِالْفَضْلِ .
فَبِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ أَنْقَذَك اللَّهُ الْكَرِيمُ مِمَّا قَدْ كَانَ حَلَّ بِك وَنَزَلَ بِسَاحَتِك مِمَّا لَا طَاقَةَ لَك بِهِ فَتَنَبَّهْ لِعَظِيمِ قَدْرِهِ وَرَفِيعِ مِقْدَارِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَعَظِيمِ إحْسَانِهِ وَجُودِهِ عَلَيْك قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَتِهِ : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ } انْتَهَى فَخَيْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ بَيِّنٌ جِدًّا .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَآهُ ، أَوْ أَدْرَكَهُ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ أَبَدًا فِي فَضِيلَةِ مَزِيَّةِ رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَوُقُوعِ ذَلِكَ النَّظَرِ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا مَوْتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلِأَنَّ أَعْمَالَ أُمَّتِهِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَقَارِبِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَمَا رَآهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَعْمَالِ حَسَنًا سُرَّ بِهِ وَدَعَا لِصَاحِبِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ

غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَغْفَرَ لِصَاحِبِهِ ، وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةٌ فِي التَّلَطُّفِ بِك وَالْإِحْسَانِ إلَيْك بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فَإِنَّهُمْ يُسَرُّونَ ، أَوْ يَحْزَنُونَ لَيْسَ إلَّا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ .

اللَّهُمَّ بِحُرْمَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَك عَرِّفْنَا قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي مَنَنْت عَلَيْنَا بِدَوَامِهَا وَلَا تُعَرِّفْهَا لَنَا بِزَوَالِهَا عَنَّا إنَّك وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ آمِينَ .
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ ابْنُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ ابْنِ الشَّيْخِ أَبِي مَرْوَانَ عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَكْرِيِّ عُرِفَ بِابْنِ السَّمَّاطِ ، وَهُوَ أَخُو الشَّيْخِ الْأَجَلِّ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السِّمَاطِ شَيْخِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ مِنْ الْأَكَابِرِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ أَعَلِمْت أَنَّك يَا رَبِيعَ الْأَوَّلِ تَاجٌ عَلَى هَامِ الزَّمَانِ مُكَلَّلُ مُسْتَعْذَبُ الْإِلْمَامِ مُرْتَقَبُ اللِّقَا كُلُّ الْفَضَائِلِ حِينَ تُقْبِلُ تُقْبِلُ مَا عُدْت إلَّا كُنْت عِيدًا ثَالِثًا بَلْ أَنْتَ أَحْلَى فِي الْعُيُونِ وَأَجْمَلُ شَرَفًا بِمَوْلِدِ مُصْطَفًى لَمَّا بَدَا أَخْفَى الْأَهِلَّةَ وَجْهُهُ الْمُتَهَلِّلُ وَحَوَيْت مَنْ أَصْبَحْت ظَرْفَ زَمَانِهِ ظَرْفًا بِهِ فِي بُرْدِ حُسْنِك تَرْفُلُ وَمَلَكْت أَنْفُسَهَا بِلُطْفِ شَمَائِلَ بِنَسِيمِهَا نَفْسُ الْعَلِيلِ تُعَلَّلُ وَإِذَا حَدَا الْحَادِي بِمَنْزِلَةِ الْحِمَى فَالْقَصْدُ سُكَّانُ الْحِمَى لَا الْمَنْزِلُ فَضْلُ الشُّهُورِ عَلَا فَفَاخَرَهَا فَإِنْ فَخَرْت بِأَطْوَلِهَا فَأَنْتَ الْأَطْوَلُ وَاسْتَثْنِ مِنْهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي أَثْنَاءَهَا نَزَلَ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ وَاصْغَ لِقَوْلِ اللَّهِ فِيهَا إنَّهَا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فِي الْإِبَانَةِ أَفْضَلُ وَاسْتَكْمِلْ الْبُشْرَى فَإِنَّك لَمْ تَزَلْ لَك فِي الْقُلُوبِ مَكَانَةٌ لَا تُجْهَلُ لِمَ لَا وَعَشْرُك وَاثْنَتَاك أَرَيْنَنَا قَمَرًا بِهِ شَمْسُ الضُّحَى لَا تُعْدَلُ وَمِنْ الْعَجَائِبِ أَنَّ بَدْرًا يَسْتَوِي لِتَمَامِ عَشْرٍ وَاثْنَتَيْنِ وَيَكْمُلُ وَيَفُوقُ أَقْمَارَ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا لِلنَّقْصِ مِنْ بَعْدِ الزِّيَادَةِ تُنْقَلُ وَكَمَالُ هَذَا الْبَدْرِ لَا يُعْزَى إلَى نَقْصٍ وَلَا عَنْ حَالِهِ يَتَحَوَّلُ بَلْ نُورُهُ يَزْدَادُ ضَعْفًا كُلَّمَا طَفِقَ الْمَحَاقُ سَنَا الْبُدُورِ

يُبَدَّلُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَهَذَا الشَّهْرُ لَمْ نَجِدْ فِيهِ زِيَادَةً فِي الْأَعْمَالِ كَمَا نَجِدُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ وَاللَّيَالِيِ وَالْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ تِلْكَ الْأَزْمِنَةَ حَصَلَتْ لَهَا الْفَضِيلَةُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ فِيهَا ، وَهَذَا الشَّهْرُ حَصَلَ لَهُ التَّشْرِيفُ بِظُهُورِ مَنْ جَاءَتْ الْأَعْمَالُ وَالْخَيْرَاتُ الَّتِي حَصَلَتْ بِهَا الْفَضِيلَةُ لَتِلْكَ الْأَوْقَاتِ عَلَى يَدَيْهِ وَبِسَبَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حَيْثُ يَقُولُ فِي صِفَتِهِ { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فَكَانَ دَأْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ التَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ مَهْمَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَوَجَدَ السَّبِيلَ إلَيْهِ فَعَلَهُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ هَذَا الشَّهْرُ اُخْتُصَّ بِظُهُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ لَمْ يُكَلِّفْ أُمَّتَهُ زِيَادَةَ عَمَلٍ فِيهِ بَلْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْآفَاقِ قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْحَاجَّ ضَيْفُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَقَعَتْ الضِّيَافَةُ لِأَهْلِ الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا كَرَامَةً لَهُمْ فَكَيْفَ بِالزَّمَنِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ مَنْ شُرِعَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْلَا أَنْتَ مَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا وَلَا حَجَجْنَا بَيْتَ رَبِّنَا انْتَهَى فَكَانَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ غَالِبًا وَعَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الْعِبَادَاتِ ؛ لِأَنَّ أُمَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ فِي ضِيَافَةِ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَمَّا أَنْ كَانَ تَحْرِيمُ الصَّوْمِ عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ كَرَامَةً

لِلْحُجَّاجِ الَّذِينَ هُمْ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الْخَلِيلِ وَوَلَدِهِ الْكَرِيمِ إسْمَاعِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَلَمَّا أَنْ كَانَ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْوُجُودِ .
كَانَتْ الضِّيَافَةُ الشَّهْرَ كُلَّهُ لَكِنْ تَرَكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمَّتَهُ رَحْمَةً بِهِمْ فِي عَدَمِ التَّكْلِيفِ لَهُمْ بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ وَالْفِطْرِ ؛ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ خُصُوصًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَبَقَ وَشَأْنُ الرَّحْمَةِ التَّوَسُّعَةُ أَلَا تَرَى إلَى عَدَمِ وُجُوبِ جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فَلْيَفْهَمْ مَنْ يَفْهَمُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

( فَصَلِّ ) فِي ذِكْر بَعْض مَوَاسِم أَهْل الْكتاب فَهَذَا بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَوَاسِمُ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فَتَشَبَّهَ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ بِهِمْ فِيهَا وَشَارَكُوهُمْ فِي تَعْظِيمِهَا يَا لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ خُصُوصًا وَلَكِنَّك تَرَى بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ وَيُعِينُهُمْ عَلَيْهِ وَيُعْجِبُهُ مِنْهُمْ وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ بِتَوْسِعَةِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى زَعْمِهِ بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يُهَادُونَ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوَاسِمِهِمْ وَيُرْسِلُونَ إلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَهُ لِمَوَاسِمِهِمْ فَيَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ كُفْرِهِمْ وَيُرْسِلُ بَعْضُهُمْ الْخِرْفَانَ وَبَعْضُهُمْ الْبِطِّيخَ الْأَخْضَرَ وَبَعْضُهُمْ الْبَلَحَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي وَقْتِهِمْ وَقَدْ يَجْمَعُ ذَلِكَ أَكْثَرُهُمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ أَشْهَبُ قِيلَ لِمَالِكٍ أَتَرَى بَأْسًا أَنْ يُهْدِيَ الرَّجُلُ لِجَارِهِ النَّصْرَانِيِّ مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا إلَيْهِ قَالَ مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } الْآيَةَ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا إلَيْهِ إذْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ هَدِيَّةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهَدَايَا التَّوَدُّدُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ } ، فَإِنْ أَخْطَأَ وَقَبِلَ مِنْهُ هَدِيَّتَهُ وَفَاتَتْ عِنْدَهُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ فَضْلٌ فِي مَعْرُوفٍ صَنَعَهُ مَعَهُ .
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ

اللَّهُ عَنْ مُؤَاكَلَةِ النَّصْرَانِيِّ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ قَالَ تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَا يُصَادِقُ نَصْرَانِيًّا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَجْهُ فِي كَرَاهَةِ مُصَادَقَةِ النَّصْرَانِيِّ بَيِّنٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ .
فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُبْغِضَ فِي اللَّهِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ وَيَجْعَلُ مَعَهُ إلَهًا غَيْرَهُ وَيُكَذِّبُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمُؤَاكَلَتُهُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ تَقْتَضِي الْأُلْفَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمَوَدَّةَ فَهِيَ تُكْرَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ عَلِمْت طَهَارَةَ يَدِهِ .
وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الرُّكُوبِ فِي السُّفُنِ الَّتِي يَرْكَبُ فِيهَا النَّصَارَى لِأَعْيَادِهِمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ مَخَافَةَ نُزُولِ السُّخْطِ عَلَيْهِمْ لِكُفْرِهِمْ الَّذِي اجْتَمَعُوا لَهُ .
قَالَ وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُهْدِيَ إلَى النَّصْرَانِيِّ فِي عِيدِهِ مُكَافَأَةً لَهُ .
وَرَآهُ مِنْ تَعْظِيمِ عِيدِهِ وَعَوْنًا لَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ كُفْرِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبِيعُوا لِلنَّصَارَى شَيْئًا مِنْ مَصْلَحَةِ عِيدِهِمْ لَا لَحْمًا وَلَا إدَامًا وَلَا ثَوْبًا وَلَا يُعَارُونَ دَابَّةً وَلَا يُعَانُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دِينِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعْظِيمِ لِشِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى .
وَيُمْنَعُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَمَعْنَى ذَلِكَ تَنْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ مَا اخْتَصُّوا بِهِ .
وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى قَالَتْ الْيَهُودُ إنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أَنْ لَا يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا

إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ .
وَقَدْ جَمَعَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيمَا ذُكِرَ وَالْإِعَانَةِ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِهِ طُغْيَانًا إذْ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ يُوَافِقُونَهُمْ أَوْ يُسَاعِدُونَهُمْ ، أَوْ هُمَا مَعًا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِغِبْطَتِهِمْ بِدِينِهِمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَكَثُرَ هَذَا بَيْنَهُمْ .
أَعْنِي الْمُهَادَاةَ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيُهَادُونَ بِبَعْضِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي مَوَاسِمِهِمْ لِبَعْضِ مَنْ لَهُ رِيَاسَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيَشْكُرُونَهُمْ وَيُكَافِئُونَهُمْ .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَغْتَبِطُونَ بِدِينِهِمْ وَيُسَرُّونَ عِنْدَ قَبُولِ الْمُسْلِمِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ صُوَرٍ وَزَخَارِفَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ أَرْبَابَ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالْمُشَارُ إلَيْهِمْ فِي الدِّينِ وَتَعَدَّى هَذَا السُّمُّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَسَرَى فِيهِمْ فَعَظَّمُوا مَوَاسِمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَكَلَّفُوا فِيهَا النَّفَقَةَ .
وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّفَقَةِ فَيُكَلِّفُهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَدَايَنَ لِفِعْلِهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَفْعَلُ إلَّا ضَحِيَّةً لِجَهْلِهِ وَجَهْلِ أَهْلِهِ بِفَضِيلَتِهَا ، أَوْ قِلَّةِ مَا بِيَدِهِ فَلَا يَتَكَلَّفُ هُوَ وَلَا هُمْ يُكَلِّفُونَهُ ذَلِكَ .
مَعَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا يَتَدَايَنُ لِلْأُضْحِيَّةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ بَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَخَذَ بِهِ الْأُضْحِيَّةَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا فِي الشَّرْعِ .
فَأَوَّلُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا طَعَامًا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي فِعْلِ النَّيْرُوزِ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ التَّشْوِيشِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الزَّلَابِيَةِ وَالْهَرِيسَةِ وَغَيْرِهِمَا كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ .
فَمِنْهُمْ

مَنْ يَأْتِي بِالصَّانِعِ يَبِيتُ عِنْدَهُ فَيَقْلِيهَا لَيْلًا حَتَّى لَا تَطْلُعَ الشَّمْسُ إلَّا وَهِيَ مُتَيَسِّرَةٌ فَيُرْسِلُونَ مِنْهَا لِمَنْ يَخْتَارُونَ وَيَجْمَعُونَ الْأَقَارِبَ وَالْأَصْحَابَ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ عِيدٌ بَيْنَهُمْ .
ثُمَّ يَأْكُلُونَ فِيهِ الْبِطِّيخَ الْأَخْضَرَ وَالْخَوْخَ وَالْبَلَحَ إذَا وَجَدُوهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُلْزِمُهُ النِّسَاءُ لِأَزْوَاجِهِنَّ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِنَّ ؛ لِأَنَّهُنَّ اكْتَسَبْنَ ذَلِكَ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْقِبْطِ وَمُخَالَطَتِهِنَّ بِهِمْ فَأَنِسْنَ بِعَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ .
ثُمَّ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَفْعَالًا قَبِيحَةً مُسْتَهْجَنَةً شَرْعًا وَطَبْعًا .
فَمِنْ ذَلِكَ مُضَارَبَتُهُمْ بِالْجُلُودِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ أَكْلِهِمْ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ .
فَبَعْضُ مَنْ لَهُ رِيَاسَةٌ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي بُيُوتِهِمْ ، أَوْ فِي بَسَاتِينِهِمْ .
وَبَعْضُ مَنْ لَا يَسْتَحْيِ ، أَوْ لَيْسَ لَهُ رِيَاسَةٌ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ وَالْأَسْوَاقِ وَعَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُرُورِ فِيهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَلْ صَارَ ذَلِكَ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَهُمْ حَتَّى إنَّ الْوَالِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَحْكُمُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ زَهَقَتْ نَفْسُهُ بِضَرْبِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، أَوْ سُلِبَ مَا مَعَهُ كَأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُمْ فِيهِ نَهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِبَاحَةُ دِمَائِهِمْ أَعْنِي مَنْ وَجَدُوهُ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ .
وَهَذَا الْيَوْمُ شَبِيهٌ بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِي يَوْمِ كَسْرِ الْخَلِيجِ وَهُمَا خَصْلَتَانِ مِنْ خِصَالِ فِرْعَوْنَ بَقِيَتَا فِي آلِهِ وَهُمْ الْقِبْطُ فَسَرَى ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ .
ثُمَّ جَرَّ ذَلِكَ إلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ السَّفَلَةِ إذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يُخَبِّئُ لَهُ ذَلِكَ لِأَحَدِ الْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَيَأْخُذُ جِلْدَةً ، أَوْ غَيْرَهَا فَيَجْعَلُ فِيهَا حَجَرًا ، أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُمْكِنُ الْقَتْلُ بِهِ فَيَضْرِبُ بِهِ عَدُوَّهُ عَلَى جِهَةِ اللَّعِبِ فَيَهْلِكُ فَيَذْهَبُ

دَمُهُ هَدَرًا لَا يُؤْخَذُ لَهُ بِثَأْرٍ لِأَجْلِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَلَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَامَّةِ النَّاسِ بَلْ سَرَى ذَلِكَ إلَى بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَتَرَى الْمَدَارِسَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تُؤْخَذُ فِيهَا الدُّرُوسُ أَلْبَتَّةَ .
وَلَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَسْأَلَةٍ بَلْ تَجِدُ بَعْضَ الْمَدَارِسِ مُغْلَقَةً فَيَلْعَبُونَ فِيهَا حَتَّى لَوْ جَاءَهُمْ الْمُدَرِّسُ ، أَوْ غَيْرُهُ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَأَسَاءُوا الْأَدَبَ فِي حَقِّهِ وَرُبَّمَا أَخْرَقُوا الْحُرْمَةَ وَأَلْقَوْهُ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَوْ قَارَبُوا ذَلِكَ ، أَوْ صَالَحَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِخْرَاقِ بِهِ بِدَرَاهِمَ يَأْخُذُونَهَا مِنْهُ تَقْرُبُ مِنْ الْغَصْبِ الَّذِي يَبْحَثُونَ فِيهِ فِي مَجَالِسِهِمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إجْمَاعًا فَيَأْكُلُونَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَرْعَ ، وَهَذِهِ خِصَالٌ مُسْتَهْجَنَةٌ مِنْ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يَفْعَلُهَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ ، أَوْ مَنْ يَزْعُمُ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمُشَارَ إلَيْهِ حَصَلَتْ لَهُ غَيْرَةُ أَهْلِ الدِّينِ كَمَا يَزْعُمُ لَغَيَّرَ عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ وَزَجَرَهُمْ عَنْهُ إذْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ مَا فَلَوْ قَالَ امْنَعُوا هَذَا أَنْ يَدْخُلَ الْمَدْرَسَةَ ، أَوْ أَخْرِجُوهُ مِنْهَا ، أَوْ لَا يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِي ، أَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمْ مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّ فِيك قِلَّةَ هَذَا الْأَدَبِ ، أَوْ أَنْتُمْ لَا تَتَأَدَّبُونَ بِآدَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْمُرُوءَةِ مِنْ الْعَوَامّ ، أَوْ مَنْ لَهُ حَسَبٌ وَنَسَبٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ ، أَوْ مِثْلُكُمْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ ، أَوْ لَا كَثَّرَ اللَّهُ مِنْكُمْ ، أَوْ أَدَّبَ بَعْضَ أَكَابِرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَانْزَجَرَ مَنْ دُونَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَحُسْنِ التَّأَنِّي وَالتَّوَاضُعِ فِي الْعِشْرَةِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الرِّيَاسَةِ

وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَتْ الرِّيَاسَةُ بِمَا تُسَوِّلُ النُّفُوسُ ، وَإِنَّمَا هِيَ بِالِاتِّبَاعِ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَآدَابِهَا الْحَسَنَةِ وَأَخْلَاقِهَا الْجَمِيلَةِ .
وَلَوْ تَأَمَّلَ هَذَا مَنْ وَقَعَ فِيهِ لَحَقَّ لَهُ الْبُكَاءُ عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ قَبِيحِ فِعْلِهِ إذْ أَنَّهُ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ وَالتَّغْيِيرِ ، وَهُوَ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ لِلْأُمَرَاءِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَبِاللِّسَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَبِالْقَلْبِ لِلْعَوَامِّ .
وَهَذَا قَدْ نَزَلَ عَنْ رُتْبَتِهِ الَّتِي هِيَ التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ بَلْ تَرَكَ رُتْبَةَ الْعَوَامّ الَّتِي هِيَ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ } انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَلِيَّةِ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَقُوَّةِ سَرَيَانِ سُمِّهَا فِي الْقُلُوبِ كَيْفَ أَوْقَعَتْ هَذَا الْعَالِمَ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ الْعَظِيمَةِ فَتَرَكَ التَّغْيِيرَ وَكَانَ سَهْلًا عَلَيْهِ بِأَدْنَى إشَارَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذِهِ خِصَالٌ ذَمِيمَةٌ كَمَا تَرَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعِبُ الْمُؤْمِنِ فِي ثَلَاثٍ } ، وَهَذَا عَرِيَ عَنْهَا كُلِّهَا .
ثُمَّ إنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَامّ جَمَعُوا فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مَفَاسِدَ جُمْلَةً مُسْتَهْجَنَةً .
فَمِنْهَا إخْرَاقُ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِإِدْخَالِ التَّشْوِيشِ عَلَيْهِمْ وَوُقُوعِ الضَّرَرِ بِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنْ قَضَاءِ ضَرُورَاتِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ سِيَّمَا إنْ كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمْ مَرِيضٌ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ يُلَاطِفُهُ بِهِ ، أَوْ مَيِّتٌ يَحْتَاجُ إلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى تَجْهِيزِهِ ، أَوْ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُ عَادَتَهُمْ الذَّمِيمَةَ ، أَوْ نَاسٍ لِمَا يُفْعَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَمَا شَعَرَ بِنَفْسِهِ حَتَّى حَصَلَ بَيْنَهُمْ فَأَوْقَعُوا

بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى الْخِصَالِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ لَا يُنْتَجُ مِنْهَا إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْقَبَائِحِ .
ثُمَّ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَفْسَدَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَأْبَاهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُسْلِمُونَ إحْدَاهُمَا شُرْبُ الْخَمْرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِلنَّصَارَى لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُهُ جِهَارًا وَتَعَدَّى ذَلِكَ لِبَعْضِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَبَعْضُهُمْ لَا يَسْتَحْيُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّسَاءِ يَلْعَبْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ مُخْتَلَطِينَ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا وَبَنَاتٍ أَبْكَارًا وَيَبُلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِذَا ابْتَلَّ ثَوْبُ أَحَدِهِمْ بَقِيَ بَدَنُهُ مُتَّصِفًا يَحْكِي النَّاظِرُ أَكْثَرَهُ فَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ مِنْ الْقَبَائِحِ الرَّدِيئَةِ .
وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ أَعْظَمُ فَسَادًا وَفِتْنَةً مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَوْلِدِ مِمَّا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْمَوْلِدِ يَخْتَلِطُونَ لَكِنْ بِثِيَابِهِمْ مُسْتَتِرِينَ بِخِلَافِ فِعْلِهِمْ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ فَإِنَّهُمْ فِيهِ مُنْهَتِكُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ نَزَعُوا فِيهِ ثِيَابَهُمْ وَخَلَعُوا فِيهِ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْهُمْ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ عُرْيَانًا عَدَا الْمِئْزَرِ وَآخَرَ عَلَيْهِ خِلْقَةٌ أَوْ قَمِيصٌ رَفِيعٌ لِلْمُحْتَشِمِ أَوْ الْمُحْتَشِمَةِ مِنْهُمْ فَإِذَا أَتَى عَلَيْهِ الْمَاءُ صَارَ كَأَنَّهُ عُرْيَانًا وَالْغَالِبُ مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ أَنَّ الْجَارَةَ لَا تَسْتَحِي مِنْ الْجَارِ ، وَأَنَّ الشَّابَّ إذَا تَرَبَّى بَيْنَهُنَّ لَا يَسْتَحْيِينَ مِنْهُ وَإِنْ صَارَ رَجُلًا وَلَا يَسْتَحْيِينَ مِنْ ابْنِ الْعَمِّ وَلَا مِمَّنْ شَابَهَهُ مِنْ الْأَقَارِبِ وَكَذَلِكَ أَصْدِقَاءُ الزَّوْجِ وَأَصْدِقَاءُ الْأَبِ وَالْأَصْهَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ هَذِهِ أَحْوَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ وَزَادُوا فِي هَذَا الْيَوْمِ مِنْ رَفْعِ بُرْقُعِ الْحَيَاءِ عَنْهُمْ مَا هُوَ شَنِيعٌ فِي ذِكْرِهِ

فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهِ فَكَيْفَ بِفِعْلِهِ ، وَهُوَ أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ النَّظَرَ لِأَكْثَرِ الْبَدَنِ وَلَا تَمْنَعُ نُعُومَةَ الْبَدَنِ ثُمَّ يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ يَلْعَبُ مَعَهُ وَيُبَاسِطُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيَسْتَمْتِعُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ كَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلَّهُمْ نِسَاءٌ لِعَدَمِ حَيَاءِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَتَصَارَعُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَشْنَعَهُ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ وَيَدِينُ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ وَغُرْبَةِ أَهْلِهِ وَدُثُورِ أَكْثَرِ مَعَالِمِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَوْ الدِّينِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْغَالِبِ إلَّا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا هِيَ أَسْمَاءٌ وُضِعَتْ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتٍ .
فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ( فَصْلٌ ) وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ إنْسَانًا مِنْهُمْ فَيُخَالِفُونَ فِيهِ السُّنَّةَ أَعْنِي فِي تَغْيِيرِ ظَاهِرِ صُورَتِهِ وَخِلْقَتِهِ فَيَدْخُلُونَ بِذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُغَيِّرَاتِ وَالْمُغَيِّرِينَ لِخَلْقِ اللَّهِ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيُغَيِّرُونَ وَجْهَهُ بِجِيرٍ ، أَوْ دَقِيقٍ ثُمَّ يَجْعَلُونَ لَهُ لَحَيَّةً مِنْ فَرْوَةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا وَيُلْبِسُونَهُ ثَوْبًا أَحْمَرَ ، أَوْ أَصْفَرَ لِيُشْهِرُوهُ بِذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ ذُلٍّ وَصَغَارٍ ثُمَّ أَشْعَلَهُ عَلَيْهِ نَارًا } انْتَهَى ثُمَّ يَجْعَلُونَ عَلَى رَأْسِهِ طُرْطُورًا طَوِيلًا ثُمَّ يُرَكِّبُونَهُ عَلَى حِمَارٍ دَمِيمٍ فِي نَفْسِهِ وَيَجْعَلُونَ حَوْلَهُ الْجَرِيدَ الْأَخْضَرَ وَشَمَارِيخَ الْبَلَحِ

وَيَجْعَلُونَ فِي يَدِهِ شَيْئًا يُشْبِهُ الدَّفْتَرَ كَأَنَّهُ يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُمْ مِنْ السُّحْتِ وَالْحَرَامِ فَيَطُوفُونَ بِهِ فِي أَزِقَّةِ الْبَلَدِ وَشَوَارِعِهَا عَلَى الْأَبْوَابِ وَفِي الْأَسْوَاقِ عَلَى أَكْثَرِ الدَّكَاكِينِ وَالْبُيُوتِ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُونَ عَلَى شَبَهِ الظُّلْمِ وَالْغَصْبِ وَالتَّعَسُّفِ وَيَأْكُلُونَهُ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ آذَوْهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ التُّرَابُ فَيُهِينُونَهُ بِالضَّرْبِ وَالْكَلَامِ الْفَاحِشِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا وَإِنْ رَضِيَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ وَالْمِزَاحِ فَهُوَ مَذْمُومٌ شَرْعًا .
إذْ شَرْطُ الْمِزَاحِ وَالْبَسْطِ أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَمِزَاحُهُمْ قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ الْكَذِبِ وَذِكْرِ الْفَوَاحِشِ وَمَنْ تَحَصَّنَ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتِ فَأَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ لِيَسْلَمَ مِنْ أَذَاهُمْ عَظُمَتْ بَلِيَّتُهُمْ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا كَسَرُوا بَعْضَ الْأَبْوَابِ الضَّعِيفَةِ وَرُبَّمَا صَبُّوا الْمِيَاهَ الْكَثِيرَةَ فِي الْبَابِ حَتَّى قَدْ يُمْنَعُ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ وَرُبَّمَا أَخْرَجُوا صَاحِبَ الْبَيْتِ ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ لَهُمْ مَا يَخْتَارُونَهُ وَإِلَّا أَخْرَقُوا حُرْمَتَهُ وَزَادُوا فِي أَذِيَّتِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِالنَّيْرُوزِ وَيَقُولُونَ لَيْسَ فِيهِ حَرَجٌ وَلَا أَحْكَامٌ تَقَعُ ، وَأَمَّا الْمُشَالِقُونَ فَأَكْثَرُ قُبْحًا وَشَنَاعَةً مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فَلَا حَاجَةَ لِذِكْرِهِ لِشُهْرَتِهِ وَمُعَايَنَةِ مَا فِيهِ مِنْ الْمَثَالِبِ وَالْمَفَاسِدِ ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ مِنْ الرَّذَائِلِ وَالْأَفْعَالِ الْخَسِيسَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِذَوِي الْعُقُولِ فَكَيْفَ بِأَهْلِ الشَّرِيعَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : وَكُلُّ هَذَا فِي ذِمَّةِ الْعَالِمِ إذَا لَمْ يُنَبِّهْ عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَيَنْهَ عَنْهَا وَيُقَبِّحْهَا وَيُكْثِرْ التَّشْنِيعَ عَلَى فَاعِلِهَا وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالْعَالِمِ وَحْدَهُ بَلْ فِي أَرْبَابِ الْأُمُورِ أَشَدُّ كَالْمُحْتَسِبِ وَالْحَاكِمِ وَمَنْ لَهُ أَمْرٌ نَافِذٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَجَزَ

عَنْ التَّغْيِيرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ ، فَإِنْ غَيَّرُوا وَقَامُوا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ أُجِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ أَثِمُوا وَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ مَنْ بَلَّغَهُمْ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ غَيْرِ الْحَاكِمِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَلَامِ الْحَسَنِ وَالرَّدْعِ الْجَمِيلِ ، أَوْ يُوصَلَ ذَلِكَ إلَيْهِمْ أَعْنِي وُلَاةَ الْأُمُورِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَوْسِمُ الَّذِي تَشَبَّهُوا فِيهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْقَبَائِحِ الْمُسْتَهْجَنَةِ وَالرَّذَائِلِ الْفَظِيعَةِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ لَكَانَ فِيهِ مَا فِيهِ فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا تَرَى ، وَمَا بَقِيَ أَكْثَرُ مِمَّا وُصِفَ فَلَوْ كَانَ مَنْ مَعَهُ عِلْمٌ يَتَكَلَّمُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَتَحَفَّظُ مِنْهُ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الْمَثَالِمُ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اشْتَهَى عَلَيْهِ بَعْضُ أَوْلَادِهِ شَهْوَةً وَكَانَتْ تِلْكَ الشَّهْوَةُ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْمَوَاسِمِ الَّتِي لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ .
وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا بِشَهْوَتِهِمْ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ } وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَجُوزُ شَرْعًا أَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يُتَحَرَّزَ مِنْ عَوَائِدِ الْوَقْتِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُمَاكَسَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ شَرْعًا وَذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَوْسِمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا مَا يُفْعَلُ فِيهِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَا أَرَادُوهُ فَعَزَمُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَتَرَكَ إجَابَتَهُمْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُوَاقَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ .
وَالثَّانِي : رُبَّمَا يَرَاهُ أَحَدٌ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي فِعْلِهِ فَحُسِمَ الْبَابُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ .
فَلَوْ كَانَ

مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ يَمْشُونَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ إلَّا نَادِرًا إذْ أَنَّ الْعَالِمَ هُوَ الْقُدْوَةُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ جَيِّدُهُمْ وَرَدِيئُهُمْ رَاجِعُونَ إلَيْهِ إمَّا بِالطَّوَاعِيَةِ ، أَوْ بِالْجَبْرِ وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ

فَصْلٌ فِي خَمِيسِ الْعَدَسِ ، وَهُوَ الْمَوْسِمُ الثَّانِي مِنْ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي شَارَكَهُمْ فِيهَا بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اُتُّخِذَتْ فِيهِ أَشْيَاءُ لَا تَنْبَغِي .
فَمِنْهَا خُرُوجُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِشِرَاءِ الْبَخُورِ وَالْخَوَاتِمِ وَغَيْرِهِمَا فَتَجِدُهُنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ فَمَنْ يَمُرُّ بِالسُّوقِ مِنْ الرِّجَالِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْي فِيهِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ لِزَحْمَةِ النِّسَاءِ وَقَدْ يُزَاحِمُهُنَّ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مَا فِي خُرُوجِهِنَّ وَاجْتِمَاعِهِنَّ بِالرِّجَالِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا دَوَاءَ لَهَا فِي الْغَالِبِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَنَعَ أَهْلَهُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوَقَعَ التَّشْوِيشُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى الْفِرَاقِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ إلَى السُّلْطَانِ أَمْرُ مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ مِنْ جُلُوسِهِنَّ عِنْدَ الصَّوَّاغِينَ حَتَّى يَمْتَنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الصَّوَّاغِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الصَّوَّاغِينَ مَعَ أَنَّهُنَّ كُنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ السِّتْرِ الشَّرْعِيِّ وَالدِّينِ الْمَتِينِ وَكَذَلِكَ الصَّوَّاغُونَ إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِضِدِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّوَّاغِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْبَيَّاعِينَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ الْغَالِبُ أَنَّ النِّسَاءَ هُنَّ اللَّاتِي يُبَاشِرْنَ ذَلِكَ كُلَّهُ بَلْ تَجِدُ الْمَرْأَةَ فِي الْغَالِبِ تَشْتَرِي لِزَوْجِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ لِبَاسِهِ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ لِأَرْبَابِ الْأُمُورِ حَتَّى يَمْنَعُوهُنَّ مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَمَا أَحْدَثُوهُ فِيهِ

اسْتِعْمَالُ الْبَخُورِ لَهُنَّ وَلِغَيْرِهِنَّ مِنْ الرِّجَالِ فَيُبَخِّرُونَ بِهِ ثُمَّ يَتَخَطَّوْنَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَنْفُضُونَ عَلَيْهِ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْهُمْ الْعَيْنَ وَالْكَسَلَ وَالْوَعْكَةَ مِنْ الْجَسَدِ وَيَتَكَلَّمُ مِنْ يَرْقِي الْبَخُورَ بِكَلَامٍ لَا يُعْرَفُ وَلَعَلَّهُ كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُمْ فِيهِ الْعَدَسَ الْمُصَفَّى وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَالْبِدْعَةُ تَحَرِّيهِمْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوَاسِمِهِمْ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْهُمْ تَشَوَّشَ هُوَ وَأَهْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْ ذَلِكَ صَبْغُهُمْ فِيهِ الْبَيْضَ أَلْوَانًا لِأَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَتَعَدَّى ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ إلَى أَنْ صَارَ الْمُقَامِرُونَ وَغَيْرُهُمْ يَلْعَبُونَ بِهِ جِهَارًا وَلَا أَحَدَ فِيمَا أَعْلَمُ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ .
وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُمْ فِيهِ السَّلَاحِفَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَطْرُدُ الشَّيْطَانَ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الشَّيْطَانُ لَا يُطْرَدُ بِالِابْتِدَاعِ ، وَإِنَّمَا يُطْرَدُ بِالِاتِّبَاعِ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَا أَشْبَهَهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ وَالْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ وَفِيهِ تَعْظِيمُ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَغْبِيطُهُمْ بِدِينِهِمْ الْبَاطِلِ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ أَعْنِي فِي تَعْظِيمِ مَوَاسِمِهِمْ يَقْوَى ظَنُّهُمْ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الثُّلْمَةِ مَا أَشَدَّ قُبْحَهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي النَّيْرُوزِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ مِثْلِهِ هُنَا إذْ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ تَعْظِيمُ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَنِ .
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْيَوْمِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ سَبْتُ النُّورِ .
وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِضِدِّ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَلْيَقُ لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَوَامِّ النَّاسِ لَكِنْ تَجِدُ بَعْضَ الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى طَرَفِ عِلْمٍ ، أَوْ صَلَاحٍ ، أَوْ هُمَا مَعًا يُسَمُّونَهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَذَلِكَ تَعْظِيمٌ مِنْهُمْ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَيُشَارِكُونَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ الذَّمِيمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَفِي تَشَبُّهِهِمْ بِهِمْ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِمَوَاسِمِهِمْ وَتَغْبِيطٌ لَهُمْ بِدِينِهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ بِسَبَبِ تَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لِمَوَاسِمِهِمْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ لَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْقَبَائِحِ وَالرَّذَائِلِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَفِي ذَلِكَ غُنْيَةٌ عَنْ إعَادَةِ مِثْلِهِ هُنَا .
لَكِنْ نُشِيرُ إلَى بَعْضِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْخَاصِّ ، وَمَا يُظْهِرُونَ فِيهِ مِنْ الْعَوْرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي سَحَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ فِي أَمْسِهِ وَرَقَ الشَّجَرِ عَلَى أَنْوَاعِهَا حَتَّى الرَّيْحَانَ وَغَيْرَهُ فَيُبِيتُونَهُ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَيَغْتَسِلُونَ بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ غَسْلِهِمْ وَيُلْقُونَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي مَفْرِقِ الطَّرِيقِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُمْ الْأَمْرَاضَ وَالْأَسْقَامَ وَالْكَسَلَ وَالْعَيْنَ وَالسِّحْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ مَنْ يَمُرُّ بِهِ تُصِيبُهُ تِلْكَ الْعِلَلُ وَيَنْتَقِلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ إلَى مَنْ تَخَطَّاهُ مِنْ الْمَارِّينَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ .
وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ قَصْدُهُمْ لِذَلِكَ مُحَرَّمًا إذْ فِيهِ قَصْدُ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حُفْرَةً أَوْقَعَهُ اللَّهُ فِيهَا } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } انْتَهَى فَأَوَّلُ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَصْدُهُمْ الْمُحَرَّمُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } انْتَهَى وَهَؤُلَاءِ قَدْ قَصَدُوا الضَّرَرَ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَدْ أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَذًى وَمَعَ ذَلِكَ يَرْمُونَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِيُصِيبَهُمْ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النُّشْرَةِ فَقَالَ هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } انْتَهَى عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الرُّخْصَةُ فِي النُّشْرَةِ بِوَرَقِ الْأَشْجَارِ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَرَقَ فِي مَاءٍ يَغْمُرُهُ فَإِذَا أَصْبَحَ أَخَذَهُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَبَلَّ يَدَهُ مِنْهُ وَمَشَّاهَا عَلَى بَدَنِهِ هَذَا هُوَ النُّشْرَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَأَمَّا الْغُسْلُ بِهِ فَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا أَضَافُوا إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَهِيَ لَا تَجُوزُ فِي الشَّرْعِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمُرُوءَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ اكْتِحَالُهُمْ فِي صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالسَّذَابِ أَوْ الْكُحْلِ الْأَسْوَدِ ، أَوْ غَيْرِهِمَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ مِنْ ذَلِكَ يَكْتَسِبُ نُورًا زَائِدًا فِي بَصَرِهِ يَرَى بِهِ الْخِشَاش فِي طُولِ سَنَتِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَذَلِكَ تَحَكُّمٌ مِنْهُمْ وَالشَّاهِدُ يُكَذِّبُ ذَلِكَ حِسًّا وَمَعْنًى .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ شُرْبَ الدَّوَاءِ فِيهِ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَيَّامِ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْ

ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَشْتَكِي بِحَكَّةٍ فَإِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ وَيَفْعَلُونَ أَفْعَالًا قَبِيحَةً يَسْتَحْيِ مِنْ فِعْلِهَا أَهْلُ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَيَعِيبُونَ عَلَى فَاعِلِهَا وَيَنْسُبُونَهُ إلَى عَدَمِ الْحَيَاءِ وَالْغَيْرَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يَتَعَرَّيْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَتَّى إنَّهُنَّ لَا يُبْقِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ السُّتْرَة بِالثِّيَابِ شَيْئًا لَا مِئْزَرًا وَلَا سَرَاوِيلَ ثُمَّ يَدَّهِنَّ بِالْكِبْرِيتِ وَيَقْعُدْنَ فِي الشَّمْسِ أَكْثَرَ يَوْمِهِنَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِنَّ بَرًّا وَبَحْرًا وَلَا يَسْتَحِينَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَعْضُ الرِّجَالِ أَيْضًا بِمَكَانٍ آخَرَ ، فَإِنْ كَانَ آخِرُ النَّهَارِ دَخَلُوا فِي الْبَحْرِ وَاغْتَسَلُوا فِيهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْبَسُونَ ثِيَابَهُمْ وَيَسْتَتِرُونَ كَأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَالنَّظَرَ إلَيْهَا مِنْ كِلَيْهِمَا مُبَاحٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَنْ يَخْرُجُ إلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ دَخَلَ الْحَمَّامَ فِي الْغَالِبِ فَاغْتَسَلَ فِيهِ ، أَوْ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْغُسْلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نُشْرَةٌ حَيْثُ كَانَ وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ مَوَاسِمِهِمْ الْمُسْتَهْجَنَةِ لَيْسَ فِيهَا أَقْبَحُ وَلَا أَشْنَعُ مِنْ هَذَا الْمَوْسِمِ الْمَذْكُورِ إذْ كُلُّ مَا ذُكِرَ لَيْسَ فِيهِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَلَا عَدَمُ الْحَيَاءِ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ مَا جَرَى لَكِنْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ شَيْءٌ مِنْ السُّتْرَةِ بِخِلَافِ كَشْفِهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ .
وَقَرِيبٌ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي الْمَنَاشِرِ أَعْنِي الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَغْسِلُونَ فِيهَا الثِّيَابَ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا نِسَاءٌ وَرِجَالٌ وَأَجَانِبُ .
وَالنِّسَاءُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ قِصَرِ الثِّيَابِ فَكَأَنَّ الْمَرْأَةَ هُنَاكَ مَعَ زَوْجِهَا بَلْ هَذَا أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُفْعَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ

، وَمَا تَقَدَّمَ يُفْعَلُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ .
وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِالطَّمِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ حَالِهَا وَتَفْصِيلِ أَمْرِهَا إذْ أَنَّ الْأَقْلَامَ تُنَزَّهُ عَنْ كَتْبِ ذَلِكَ .
وَيُنَزَّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنْ ذِكْرِ مَا يُفْعَلُ فِيهَا بَيْنَهُمْ .
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَعَدَّدَتْ مَوَاضِعُهَا وَكَثُرَتْ .
وَقَلَّ مَنْ تَحْصُلُ لَهُ حَمِيَّةُ الْإِسْلَامِ فَيُغَيِّرُ لِمَا تَدَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَوْ بِالْكَلَامِ وَإِشَاعَةِ مَا فِيهَا مِنْ الْقُبْحِ وَالرَّذَائِلِ لَعَلَّ أَنْ يَتَنَبَّهَ لِذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُغَيِّرُونَ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ إلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ كَأَنَّ الْجَمِيعَ شَرِبُوا مِنْ مَنْهَلٍ وَاحِدٍ .
فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى ذَهَابِ أَكْثَرِ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ لِكَثْرَةِ مَا يَحْدُثُ فِيهِ وَمَنْ يَسْكُتُ عَمَّا أُحْدِثَ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

فَصْلٌ فِي مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ فِي مُوَافَقَةِ النَّصَارَى فِي مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ أَخَفُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
لَكِنَّ اتِّخَاذَ ذَلِكَ عَادَةً بِدْعَةٌ ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ يَعْمَلْنَ صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَصِيدَةً لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا لِكَثِيرٍ مِنْهُنَّ وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا ، أَوْ يَأْكُلْ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ الْبَرْدُ فِي سَنَتِهِ تِلْكَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهَا دِفْءٌ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ وَمَعَ كَوْنِ فِعْلِهَا بِدْعَةً فَالشَّاهِدُ يُكَذِّبُ مَا افْتَرَيْنَهُ مِنْ قَوْلِهِنَّ الْبَاطِلَ وَالزُّورَ فَكَأَنَّهُنَّ يَشْرَعْنَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ

فَصْلٌ فِي مَوْسِمِ الْغِطَاسِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي مَوْسِمِ الْغِطَاسِ .
وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي تَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ اغْتَسَلَتْ فِيهِ مِنْ النِّفَاسِ .
فَاِتَّخَذَ النَّصَارَى ذَلِكَ سُنَّةً لَهُمْ فِي كَوْنِهِمْ يَغْتَسِلُونَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ حَتَّى الرَّضِيعُ فَتَشَبَّهَ بِهِمْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَوْنِهِمْ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ مَوْسِمًا .
أَعْنِي أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِيهِ النَّفَقَةَ وَيُدْخِلُونَ فِيهِ السُّرُورَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ بِأَشْيَاءَ يَفْعَلُونَهَا فِيهِ .
، وَهَذَا فِيهِ مِنْ التَّعْظِيمِ لِمَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا سَبَقَ فِي غَيْرِهِ فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ وَبَعْضُ مَنْ انْغَمَسَ فِي الْجَهْلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَغْطِسُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَمَا يَغْطِسُونَ .
وَمِنْ أَشْنَعِ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ يَزِفُّونَ فِيهِ بَعْضَ عِيدَانِ الْقَصَبِ وَعَلَيْهَا الشُّمُوعُ الْمَوْقُودَةُ وَالْفَاكِهَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ .
وَبَعْضُهُمْ يُهْدِي ذَلِكَ لِلْقَابِلَةِ وَيَتَهَادَوْنَ فِيهِ بِأَطْنَانِ الْقَصَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

فَصْلٌ فِي عِيدِ الزَّيْتُونَةِ وَمِنْ ذَلِكَ بَعْضُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحَدِ أَعْيَادِ الْقِبْطِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عِيدَ الزَّيْتُونَةِ فَتَخْرُجُ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْمَطَرِيَّةُ إلَى بِئْرٍ هُنَاكَ تُسَمَّى بِئْرَ الْبَلْسَمِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ .
فَيَجْتَمِعُ إلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي الْغَالِبِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الْقِبْطِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بِلَادٍ كَثِيرَةٍ يَأْتُونَ إلَيْهَا لِلْغُسْلِ مِنْ مَائِهَا .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيُهْرَعُونَ إلَيْهِ كَمَا تَفْعَلُ النَّصَارَى وَيَغْتَسِلُونَ كَغُسْلِهِمْ وَيَنْكَشِفُونَ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ .
وَهَذَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ وَتَعْظِيمِ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَزِيدُ هَذَا أَنَّهُمْ يُسَافِرُونَ إلَيْهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا وَيَجْتَمِعُونَ هُنَاكَ وَيَنْهَتِكُونَ فِيهِ كَغَيْرِهِ .
وَفِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
لَكِنْ فِي هَذَا زِيَادَةُ مَفْسَدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ نَظَرُ الذِّمِّيَّةِ إلَى جَسَدِ الْمُسْلِمَةِ ، وَهُوَ حَرَامٌ وَقَدْ مَنَعَهُ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
هَذَا وَإِنْ كَانَ الْغُسْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ مُبَاحًا فِعْلُهُ لَكِنْ فِي غَيْرِ وَقْتِ اجْتِمَاعِهِمْ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ .

فَصْل فِي بَعْضِ عَوَائِدَ اتَّخَذَهَا بَعْضُ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ آلَ الْأَمْرُ فِيهَا إلَى الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْفَرَائِضِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ إفْطَارِهِنَّ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ قَدْرُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ مُبْدِنَةً وَتَخَافُ أَنَّهَا إنْ صَامَتْ اخْتَلَّ عَلَيْهَا حَالُ سِمَنِهَا فَتَفْطُرُ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ يُفْطِرُهُنَّ أَهْلُهُنَّ خِيفَةً عَلَى تَغَيُّرِ أَجْسَامِهِنَّ عَنْ الْحُسْنِ وَالسِّمَنِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ قَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا بَعْدُ فَتَتْرُكُ الصَّوْمَ خِيفَةً عَلَى بَدَنِهَا أَنْ يَنْقُصَ وَكُلُّ هَذَا مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ وَالْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ فِي ذَلِكَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
وَهَذَا الْفَعْلُ الْقَبِيحُ مَشْهُورٌ بَيْنَهُنَّ لَا جَرَمَ أَنَّهُنَّ لَمَّا خَالَفْنَ الشَّرْعَ وَارْتَكَبْنَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ بَيْنَهُمْ تَوْفِيقًا فِي الْغَالِبِ إذْ التَّوْفِيقُ إنَّمَا يَنْتُجُ عَنْ الِامْتِثَالِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْهُنَّ فِي الْغَالِبِ فَتَجِدُ أَكْثَرَهُنَّ يَشْتَكِينَ وَيَبْكِينَ وَيُكَابِدْنَ الْهُمُومَ وَكَذَلِكَ أَزْوَاجُهُنَّ وَيَأْكُلْنَ بِالْفَرْضِ بَعْدَ الْمُشَاجَرَةِ أَوْ الْوُقُوفِ إلَى الْحُكَّامِ أَوْ هُمَا مَعًا وَكَشْفُ السِّتْرِ عَنْهُنَّ بِدُخُولِ الْأَجَانِبِ بَيْنَهُمَا مِنْ جِنْدَارٍ وَوَكِيلٍ وَأَبٍ وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ الْغَالِبَ مِنْهُنَّ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إلَى مُنْتَهَاهُ ثُمَّ يَتَعَلَّقُ خَاطِرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وَيَفْعَلُونَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ الْيَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنْ الِاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمِ الْبَيِّنِ التَّحْرِيمِ الَّذِي يَسْتَحِي الْمَرْءُ أَنْ يَحْكِيَهُ فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ

يَرُدُّهَا إلَى الْعِصْمَةِ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ ثُمَّ يَرْجِعْنَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا اعْتَدْنَهُ مِنْ الْمُضَارَرَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ ذَلِكَ لَا يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَهُمَا آثِمَانِ مَا دَامَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَقَدَ لَهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ انْتَهَى كَلَامُهُ بَعْضُهُ بِاللَّفْظِ وَبَعْضُهُ بِالْمَعْنَى جَزَاءً وِفَاقًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالرَّذَالَةِ إلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَكَانَ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهُ إذْ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مُعَجَّلَةٌ لَا مُؤَخَّرَةٌ وَهُوَ أَنَّ التَّجْرِبَةَ قَدْ مَضَتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ سُلِّطَ عَلَيْهِ الْفَقْرُ الْمُدْقِعُ فِي الْوَقْتِ وَفِي ذَلِكَ مَقْنَعٌ لِمَنْ خَافَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا وَأَمَّا خَوْفُ الْآخِرَةِ فَذَلِكَ لِلْمُفْلِحِينَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِذَلِكَ إجْمَاعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْغَالِبَ عِنْدَهُنَّ أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَتَحَلَّلْنَ بِهِ رَجُلٌ مَعْلُومٌ فَتَجِيءُ الْمَرْأَةُ تَتَحَلَّلُ بِهِ ثُمَّ تَأْتِي ابْنَتَهَا تَتَحَلَّلُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ أُمُّهَا وَجَدَّتُهَا وَهِيَ لَا تَحِلُّ بِذَلِكَ إجْمَاعًا وَلَا يَحِلُّ لِلْمُحَلِّلِ وَطْءُ ابْنَةِ مَنْ تَحَلَّلَتْ بِهِ وَلَا أُمِّهَا وَلَا جَدَّتِهَا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .
فَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَا أَشْبَهَهُ وَيُشَنِّعُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ وَيُقَبِّحُ فِعْلَهُ وَيُشَنِّعُ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَأْمُرُ مَنْ حَضَرَهُ بِإِشَاعَتِهَا لَانْحَسَمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ وَقَلَّ فَاعِلُهَا

فَصْلٌ فِي صَوْمِ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا اتَّخَذَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّهَا إذَا حَاضَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَصُومُ وَلَا تُفْطِرُ ثُمَّ لَا تَقْضِي تِلْكَ الْأَيَّامَ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا حَائِضًا وَيُعَلِّلُ بَعْضُهُنَّ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَصْعُبُ عَلَيْهِنَّ فِي حَالِ كَوْنِ النَّاسِ مُفْطِرِينَ .
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهَا آثِمَةٌ وَأَنَّ قَضَاءَ مُدَّةِ الْحَيْضِ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ وَأَنَّ التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا .
وَمِنْهُنَّ مَنْ تُفْطِرُ إذَا جَاءَهَا الْحَيْضُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَتَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ تَمَادِي الدَّمِ بِهَا وَيَزْعُمْنَ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي لَا يُصَامُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ الْأُوَلُ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَالصِّيَامُ فِيهِ وَاجِبٌ وَيُجْزِئُ .
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ .
وَمِنْهُنَّ مَنْ تَصُومُ مُدَّةَ الْحَيْضِ وَتَقْضِيهَا بَعْدَهُ وَفَاعِلَةُ ذَلِكَ مِنْهُنَّ آثِمَةٌ فِي صَوْمِهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا مُصِيبَةٌ فِي الْقَضَاءِ بَعْدَهُ وَمِنْهُنَّ مَنْ تُفْطِرُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ لَكِنَّهُنَّ يُجَوِّعْنَ أَنْفُسَهُنَّ فِيهِ فَتُفْطِرُ إحْدَاهُنَّ عَلَى التَّمْرَةِ وَنَحْوِهَا وَيَزْعُمْنَ أَنَّ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ الثَّوَابَ ، وَهَذَا بِدْعَةٌ وَهِيَ آثِمَةٌ فِي التَّدَيُّنِ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا حَالُهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا فِي رَمَضَانَ كَحَالِهَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ وَالْعَجَبُ الْعَجِيبُ فِي صَوْمِ بَعْضِهِنَّ فِي أَيَّامِ حَيْضَتِهَا مُحَافَظَةً مِنْهَا عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى زَعْمِهِنَّ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ مِنْهُنَّ يَتْرُكُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ إلَّا أَنَّهُنَّ اتَّخَذْنَ ذَلِكَ عَادَةً حَتَّى لَوْ أَمَرْت إحْدَاهُنَّ بِالصَّلَاةِ يَعِزُّ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَتَقُولُ أَعَجُوزًا رَأَيْتنِي فَكَأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى الشَّابَّةِ وَالْفَرْضُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ طَعَنَ مِنْهُنَّ فِي السِّنِّ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى

وَإِيَّاكَ أَيَّ نِسْبَةٍ بَيْنَ الِاحْتِيَاطِ فِي الصَّوْمِ حَتَّى صَامَتْ أَيَّامَ حَيْضَتِهَا وَبَيْنَ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَبِهَا قِوَامُهُ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَوْضِعُ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ } وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .

فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَمْنَعُ الرَّجُلَ مِنْ الْوَطْءِ مَعَهُ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ الْأُوَلُ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَطَأَ فِيهِ .
وَهَذَا افْتِرَاءٌ وَكَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ وَالْغَبَرَةَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ أَيْضًا .
وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ جَوَازَ وَطْءِ الْمَرْأَةِ إذَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَقَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ ، وَهَذَا شَنِيعٌ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أَيْ يَنْقَطِعُ عَنْهُنَّ الدَّمُ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ أَيْ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَبَاحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَطْأَهَا فَقَالَ تَعَالَى { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ }

فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ أَسْبَابِ السِّمَنِ وَمِنْهُنَّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا مُسْتَهْجَنًا قَبِيحًا جَمَعَ بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الرَّذَائِلِ : أَحَدُهُمَا : مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
الثَّانِي : إضَاعَةُ الْمَالِ .
الثَّالِثُ : الصَّلَاةُ بِالنَّجَاسَةِ .
الرَّابِعُ : كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُنَّ اتَّخَذَ عَادَةً مَذْمُومَةً وَهِيَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَتَتْ إلَى فِرَاشِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَعَشَّتْ وَمَلَأَتْ جَوْفَهَا فَتَأْخُذُ عِنْدَ دُخُولِهَا الْفِرَاشَ لُبَابَ الْخُبْزِ فَتُفَتِّتُهُ مَعَ جُمْلَةِ حَوَائِجَ أُخَرَ فَتَبْتَلِعُ ذَلِكَ بِالْمَاءِ إذْ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى أَكْلِهِ لِكَثْرَةِ شِبَعِهَا الْمُتَقَدِّمِ وَرُبَّمَا تُعِيدُ ذَلِكَ بَعْدَ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَرْءُ وَهِيَ قَدْ زَادَتْ فِي عَشَائِهَا حَتَّى لَمْ تَتْرُكْ مَوْضِعًا لِسُلُوكِ الْمَاءِ فِي الْغَالِبِ مِمَّنْ يُرِيدُ السِّمَنَ مِنْهُنَّ ، وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى زِيَادَةٍ .
وَذَلِكَ مِمَّا يُحْدِثُ الْأَمْرَاضَ وَالْعِلَلَ وَالْأَسْقَامَ ضِدَّ مُرَادِهَا .
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ وَلَدَهُ أَكَلَ وَزَادَ عَلَى أَكْلِهِ الْمُعْتَادِ فَمَرِضَ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَقَالَ وَالِدُهُ لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْت عَلَيْهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ قَدْ تَسَبَّبَ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ وَمَنْ لَهُ فَضْلٌ وَدِينٌ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَهَذَانِ وَجْهَانِ أَعْنِي فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُخَالَفَةَ الشَّرْعِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ، أَمَّا مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ فَلِمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لَا ثُمَّ يَظْهَرُ فِيهِمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا

يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ } انْتَهَى .
وَأَمَّا إضَاعَةُ الْمَالِ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الشِّبَعِ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ إذْ أَنَّهُ يُفْعَلُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَقَدْ أَدَّى الْأَمْرُ بِسَبَبِ تَعَاطِي السِّمَنِ إلَى أَمْرٍ شَنِيعٍ فَظِيعٍ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَأْكُلْنَ مَرَارَةَ الْآدَمِيِّ لِأَجْلِ أَنَّ مَنْ اسْتَعْمَلَهَا مِنْهُنَّ يُكْثِرُ أَكْلَهَا وَقَلَّ أَنْ تَشْبَعَ فَتَسْمَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِنَّ .
وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْرِيمِهِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَعْبِلْنَ بِكَثْرَةِ السَّمْنِ وَالشَّحْمِ حَتَّى أَنَّ يَدَهَا لَتَقْصُرُ عَنْ الْوُصُولِ لِغَسْلِ مَا عَلَى الْمَحَلِّ مِنْ النَّجَاسَةِ لِأَجْلِ مَا تَسَبَّبَتْ فِيهِ مِنْ عَبَالَةِ الْبَدَنِ وَهُنَّ فِي ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنْ تَكُونَ فَقِيرَةً لَا تَقْدِرُ عَلَى شِرَاءِ مَنْ يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهَا فَتُصَلِّي بِالنَّجَاسَةِ إذْ أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى زَوَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ تَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَنْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ مِنْهَا وَيُزِيلُهُ عَنْهَا فَتَقَعُ فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَقَدْ لَا تَكْفِيهَا الْجَارِيَةُ الْوَاحِدَةُ فَتَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةٍ فَتَزِيدُ الْمُحَرَّمَاتُ بِكَثْرَةِ مَنْ يَكْشِفُ عَوْرَتَهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ لَوْ صَلَّتْ وَالنَّجَاسَةُ مَعَهَا لَكَانَ أَخَفَّ مِنْ كَشْفِ عَوْرَتِهَا ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ مُؤَكَّدٌ أَمْرُهُ ثُمَّ إنَّهُنَّ يَرْتَكِبْنَ مَعَ ذَلِكَ أَمْرًا قَبِيحًا مُحَرَّمًا أَقْبَحَ وَأَشْنَعَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُنَّ اعْتَدْنَ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَتَنَظَّفُ مِنْ النَّجَاسَةِ حَتَّى تُدْخِلَ يَدَهَا فِي فَرْجِهَا فَتُنَظِّفُ مَا تَصِلُ إلَيْهِ بِالْمَاءِ مَعَ يَدِهَا

وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا ثُمَّ أَنَّهَا إنْ عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ لِقِصَرِ يَدِهَا كَمَا سَبَقَ وَتَوَلَّى غَيْرُهَا مِنْهَا ذَلِكَ احْتَاجَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي دَاخِلِ فَرْجِهَا لِيَغْسِلَ لَهَا مَا هُنَاكَ مِنْ الْأَذَى ، وَهَذَا قُبْحٌ عَلَى قُبْحٍ وَذَمٌّ عَلَى مَذْمُومَاتٍ وَهُوَ مِنْ فِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ اشْتِغَالُ النِّسَاءِ بِالنِّسَاءِ وَلَوْ كَانَتْ صَائِمَةً أَفْطَرَتْ بِذَلِكَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهَا بِنَفْسِهَا أَوْ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهَا بِهَا .
الْخَامِسُ : وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ أَنَّهَا تَسَبَّبَتْ فِي إسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِيَامُ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُنَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ فِي الْغَالِبِ فَتُصَلِّي جَالِسَةً وَهِيَ الَّتِي أَدْخَلَتْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهَا .
اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى شَنَاعَةِ مَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْ زَادَ فِي أَكْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَالِدُهُ لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ هَذَا حَالُهُ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ الْحَالُ فِيمَنْ اتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً حَتَّى وَصَلَ بِهِ السِّمَنُ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سِيَّمَا وَهِيَ إذَا وَقَعَ لَهَا مَرَضٌ أَوْ مَوْتٌ فَالْغَالِبُ أَنَّهَا هِيَ الْمُتَسَبِّبَةُ فِي جَلْبِ ذَلِكَ لِنَفْسِهَا بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْأَكْلِ الْكَثِيرِ عَلَى مَا مَضَى بَيَانُهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَبْلُغُ بِهَا السِّمَنُ إلَى أَنْ يَصِلَ الشَّحْمُ إلَى قَلْبِهَا فَيُطْغِيَهَا فَتَمُوتَ بِهِ وَقَدْ يَصْعَدُ إلَى دِمَاغِهَا فَيُشَوِّشُ عَلَى الدِّمَاغِ فَيَذْهَبَ عَقْلُهَا وَقَدْ يَصْعَدُ إلَى عَيْنِهَا فَيُعْمِيهَا فَتَكُونُ هِيَ الْمُتَسَبِّبَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا .
وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا تَعَاطِي مَا ذُكِرَ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ إذْ هُوَ

عَرَى مِنْ الْمَقَاصِدِ جُمْلَةً إذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَزِيدَ حُسْنُهَا فِي زَعْمِهَا وَيَغْتَبِطُ الرَّجُلُ بِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ السِّمَنَ فِيهِ يَقْبُحُ وَتَعَاطِي ذَلِكَ بِأَسْبَابِهِ مِنْ الرِّجَالِ أَقْبَحُ وَأَقْبَحُ .
وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } } انْتَهَى .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ السِّمَنُ فِيهِ خِلْقَةً لَمْ يَتَسَبَّبْ فِيهِ فَلَا حَرَجَ إذًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ فِي شَيْءٍ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ مَا أَكْثَرَ بَرَكَتَهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْءَ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْغِذَاءِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِدُونِهِ إلَّا وَيَتَضَرَّرُ وَيَضْعُفُ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَادَ عَلَى الْغِذَاءِ الشَّرْعِيِّ زِيَادَةً بَيِّنَةً فَإِنَّ الْقُوَّةَ تَضْعُفُ بِحَسَبِ مَا زَادَ ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مُجَرَّبٌ فَالْخَيْرُ لِلْقَالَبِ وَالْقَلْبِ وَلِلدِّينِ وَلِلْمُرُوءَةِ وَلِلْعَقْلِ وَلِلرُّوحِ وَلِلسِّرِّ إنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِاتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُوَافَقَةِ سُنَّتِهِ وَضِدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ أَعْنِي مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الشِّبَعِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يُحْدِثُ ضِدَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحُسْنِ وَهُوَ الْقُبْحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا مَضَى .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُنَّ فِي ارْتِكَابِهِنَّ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُنَّ أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ فِي الْحُسْنِ وَتَغْتَبِطُ الرِّجَالُ بِهِنَّ ثُمَّ يَفْعَلْنَ مَا يَحْدُثُ لَهُنَّ ضِدَّ ذَلِكَ وَهُوَ أَكْلُهُنَّ لِلطَّفْلِ وَالطِّينِ وَذَلِكَ يُحْدِثُ عِلَلًا فِي الْبَدَنِ مِنْهَا صُفْرَةُ الْوَجْهِ

وَتَفَتُّحُ الْفُؤَادِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِلَلِ الَّتِي يَطُولُ تَتَبُّعُهَا وَهُوَ مِمَّا يُذْهِبُ لَوْنَ الْبَدَنِ وَعَافِيَتَهُ وَيُضْطَرُّ مَعَهَا إلَى أَخْذِ الْأَدْوِيَةِ مَعَ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي أَكْلِهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
فَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ إنَّهُ مُحَرَّمٌ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ وَالْمَشْهُورُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَكْرُوهٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُبَاحٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْإِبَاحَةِ يَحْدُثُ مَا ذُكِرَ .
وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ لَا يَتَسَبَّبُ فِيمَا يَضُرُّ بَدَنَهُ أَوْ عَقْلَهُ نَقَلَ مَعْنَاهُ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ أَعْنِي فِي تَحْلِيلِ ذَلِكَ وَكَرَاهَتِهِ .
وَنَقَلَ ابْنُ بَشِيرٍ وَغَيْرُهُ التَّحْرِيمَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ إفْطَارِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جِهَارًا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ مِثْلَ بَعْضِ التَّرَّاسِينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا أَحَدَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } وَالنَّهْيُ عَنْ هَذَا آكَدُ وَأَوْجَبُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ إذْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْغَالِبِ لَا يَتَحَقَّقُ تَرْكُهَا إلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْ فَاعِلِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْإِفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ بَيِّنٌ لَيْسَ فِيهِ تَأْوِيلٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إمَّا مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ وَهَؤُلَاءِ يُفْطِرُونَ وَلَيْسُوا بِمَرْضَى وَلَا مُسَافِرِينَ وَمِنْ ذَلِكَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ أَلَمٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَهُ أَوْ يَتَوَضَّأَ تَرَكُوا الصَّلَاةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إذَا كَانَ فِي عُضْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَكَانَ الْوَاجِبُ الْغُسْلَ أَوْ الْوُضُوءَ مَسَحَ مَا تَعَذَّرَ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُعْرَفُ فِي مَذْهَبِهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُجْمَعُ بَيْنَ غَسْلِ مَا صَحَّ وَالتَّيَمُّمِ عَلَى مَا تَعَذَّرَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْقَ إلَّا عُضْوٌ وَاحِدٌ أَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَلْبَتَّةَ فَيَتَيَمَّمُ وَهُمْ يَتْرُكُونَ التَّيَمُّمَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِقِلَّةِ إشَاعَةِ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ وَمَا ذَاكَ إلَّا ؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ فِي الْغَالِبِ مَحْجُوبٌ عَنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَوَّابِينَ وَالنُّقَبَاءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ تَنْظِيفَ الْبَيْتِ وَكَنْسَهُ عَقِيبَ سَفَرِ مَنْ سَافَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَيَتَشَاءَمُونَ بِفِعْلِ ذَلِكَ

بَعْدَ خُرُوجِهِ وَيَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ إنْ فُعِلَ لَا يَرْجِعْ الْمُسَافِرُ .
وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ حِينَ خُرُوجِهِمْ مَعَهُ إلَى تَوْدِيعِهِ فَيُؤَذِّنُونَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَرُدُّهُ إلَيْهِمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَمِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي أَحْدَثَتْ بَعْدَهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَذْكُرُ النَّاسُ أَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ أَوْ لَمْ تُفْعَلْ يَجْرِي فِيهَا مِنْ الْأُمُورِ مَا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا وَقَعَ لِأَجْلِ شُؤْمِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالتَّدَيُّنِ بِالْبِدْعَةِ فَعُومِلُوا بِالضَّرَرِ الَّذِي هُمْ يَتَوَقَّعُونَهُ وَقَدْ شَاءَ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمَكْرُوهَاتِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالِامْتِثَالِ فَكَانَ وُقُوعُ ذَلِكَ لَهُمْ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ لِمَا أُمِرُوا بِهِ جَزَاءً وِفَاقًا .

وَمِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النِّسَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُنَّ إذَا كَانَتْ حَائِضًا لَا تَكْتَالُ الْقَمْحَ وَلَا غَيْرَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَلَا تَحْضُرُ مَوْضِعَهُ لِأَجْلِ حَيْضِهَا ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الدَّوَاءَ لَا يَغْسِلُ الْآنِيَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا الدَّوَاءُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَبِدَعٌ أَخْتَرَعْنَهَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِنَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ

فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ وَاسْتِنَابَتِهِ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ نَرْجِعُ لِذِكْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَالِمُ فِي تَصَرُّفِهِ ، فَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ عَلَى وَجْهِهَا وَبَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ فِي حَمْلِ سِلْعَتِهِ بِيَدِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ عَاقَهُ عَنْ ذَلِكَ عَائِقٌ شَرْعِيٌّ فَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ مَنْ لَهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ ذَلِكَ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَبْحَثُ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَالْأَحْكَامِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الدُّرُوسِ وَيَسْتَدِلُّ وَيُجِيزُ وَيَمْنَعُ وَيَكْرَهُ فَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ أَرْسَلَ إلَى السُّوقِ مَنْ يَقْضِي لَهُ الْحَاجَةَ صَبِيًّا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ عَجُوزًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .

وَفِي السُّوقِ الْيَوْمَ مَا قَدْ عُهِدَ وَعُلِمَ مِنْ جَهْلِ أَكْثَرِ الْبَيَّاعِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ فِي سِلَعِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَفِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا جُمْلَةً .
فَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ الكشكاك وَالْمُحَبَّبَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا وُجُوهًا مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ .
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي فِيهِمَا إنْ كَانَ لَحْمُ الْبَقَرِ الْيَوْمَ فَهُوَ مُمَكَّسٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شِرَائِهِ إلَّا مِنْ الْمَكَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِإِعَانَةِ الْمَكَّاسِ بِالشِّرَاءِ مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا إذْ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ ضَمِنَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ يَتَحَرَّى ذَلِكَ لَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ وَفَسَدَ عَلَى الْمَكَّاسِ مُرَادُهُ .
هَذَا إنْ كَانَ شِرَاؤُهُ فِي غَيْرِ النَّيْرُوزِ .
وَأَمَّا فِي النَّيْرُوزِ فَيَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ لِشِرَاءِ لَحْمِ الْبَقَرِ مُطْلَقًا لِزِيَادَةِ تَعْظِيمِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْكُفَّارِ عَلَى زَعْمِهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي فِعْلِهِمْ فِي النَّيْرُوزِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي مَا يَدْخُلُ عَلَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْمُغَابَنَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ اللَّحْمَ وَالدُّهْنَ أَكْثَرَ مِنْ الْقَمْحِ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ الْقَمْحَ أَكْثَرَ مِنْ اللَّحْمِ وَالدُّهْنِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَالْجَهَالَةُ فِي ذَلِكَ حَاصِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي كَمْ وَزْنُ اللَّحْمِ وَالدُّهْنِ وَلَا كَمْ وَزْنُ الْقَمْحِ لِإِمْكَانِ إعْطَاءِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْهَرِيسَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا إذْ أَنَّ اللَّحْمَ وَالْقَمْحَ صَارَا مَعًا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطَى أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ وَلَا أَقَلَّ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَكِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ جِهَةِ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّهُ مُمَكَّسٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ سَلِمَ اللَّحْمُ مِنْ

الْمَكْسِ فَهِيَ جَائِزَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ فَيُمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّصَارَى فَيُحَذِّرُ الْعَالِمُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعَالِمُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ صَارَ هَذَا الْأَمْرُ الْيَوْمَ بَيْنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فَتَرَاهُمْ يَوْمَ النَّيْرُوزِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْهُمْ بِالزُّبْدِيَّةِ فِي يَدِهِ لِشِرَاءِ الْهَرِيسَةِ وَمِنْ فَاتَتْهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَكَأَنَّهُ فَاتَهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ أَنَا أَشْتَرِي الكشكاك وَالْمُحَبَّبَةَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِذَا حَصَلَ فِي الْوِعَاءِ وَعَايَنْته أَخَذْته مِنْهُ جِزَافًا إذْ أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْجِزَافَ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلَمَّا أَنْ دَخَلَهُ الْوَزْنُ قَبْلَ شِرَائِهِ مِنْهُ جِزَافًا انْتَفَتْ الْجَهَالَةُ لِعِلْمِهِمَا بِحَمْلَتِهِ وَزْنًا وَبَقِيَتْ الْجَهَالَةُ وَالْمُغَابَنَةُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَيُمْنَعُ شِرَاؤُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ جِزَافًا ابْتِدَاءً فَيُمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَالِمٌ بِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ وَإِنْ لَمْ يَزِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمِغْرَفَةَ الَّتِي بِيَدِهِ يَعْلَمُ بِهَا مِقْدَارَهُ وَزْنًا فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ جِزَافًا ابْتِدَاءً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَغْرِفَ لَهُ بِغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ لَحْمِ السَّمِيطِ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَالشِّوَاءُ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ .
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا } قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ مِنْ الدَّمِ وَلَقَدْ كُنَّا نَطْبُخُ الْبُرْمَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ الصُّفْرَةَ لَتَعْلُوَهَا مِنْ الدَّمِ انْتَهَى .
تَعْنِي بِتِلْكَ الصُّفْرَةِ فَضْلَةَ مَا فِي الْعُرُوقِ مِنْ الدَّمِ وَهُوَ غَيْرُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَهُمْ الْيَوْمَ يَذْبَحُونَ فَيَخْرُجُ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فَتَتَخَبَّطُ الذَّبِيحَةُ فِيهِ وَيَمْتَلِئُ رَأْسُهَا وَبَعْضُ جِلْدِهَا .
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُمْ ذَبَائِحُ جُمْلَةٌ أَلْقَوْا ذَلِكَ فِي دَسْتٍ وَاحِدٍ فِيهِ مَاءٌ يَغْلِي فَيَحِلُّ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فِيهِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ كُلَّهُ كَأَنَّهُ دَمٌ عَبِيطٌ وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَكَيْ يُنْتَفَ لَهُمْ الصُّوفُ وَهُوَ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَمْتَلِئَ الْأَعْضَاءُ الْبَاطِنَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَتَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَى بَاطِنِ الذَّبِيحَةِ مَعَ أَنَّ حَلْقَهَا مَفْتُوحٌ وَدُبُرَهَا فَتَدْخُلُ النَّجَاسَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَتَخْرُجُ مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا أَخَذُوا الصُّوفَ وَعَلَّقُوا الذَّبِيحَةَ فِي مَوْضِعٍ وَقَدْ تَمَكَّنَتْ النَّجَاسَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا مِنْهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَيُطَهِّرُونَهَا عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَتُمَسُّ النَّجَاسَةُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَتَجْمُدُ فِي بَاطِنِ الذَّبِيحَةِ وَالْمَسَامِّ فَيَبْقَى مُتَنَجِّسًا فِي الشَّاهِدِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ ثُمَّ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ إلَى سُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَيَبِيعُونَهُ فِيهِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ تِلْكَ النَّجَاسَاتِ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ الَّذِي يَغْسِلُونَهُ بِهِ مَاءً قَرَاحًا لَكَانَ فِيهِ شَبَهُ مَا فِي

التَّطْهِيرِ فَكَيْفَ وَالْمَاءُ الَّذِي يَغْسِلُونَهُ بِهِ فِي الْغَالِبِ تَرَاهُ مُتَغَيِّرًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا .
وَالشِّوَاءُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ سَمِيطٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ أَوْ يَبِيعَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَوَامُّ النَّاسِ لَكَانَ مَذْمُومًا وَلَكِنْ قَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى حَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ وَيُرْسِلُ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ بَلْ يُبَاشِرُ بَعْضُهُمْ شِرَاءَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مَعَ مَنْ لَهُ أَمْرٌ لَكَانَ يُغَيِّرُهُ بِأَيْسَرَ شَيْءٍ إذْ أَنَّهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ كُلْفَةٌ فِي أَنْ يَغْسِلُوا الْمَنْحَرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا أَصَابَهُ مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُدْلُونَهُ فِي الدَّسْتِ ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ مَشَقَّةٍ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمَشَقَّةُ مَوْجُودَةً لَوَجَبَ فِعْلُهَا لِكَيْ يَسْلَمَ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ فَكَيْفَ وَلَا مَشَقَّةَ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى التَّسَاهُلِ فِي ارْتِكَابِ مَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ إلَّا أَنَّهَا عَادَةٌ اُتُّخِذَتْ وَوَقَعَ التَّسَامُحُ فِيهَا لِغَفْلَةِ بَعْضِ مَنْ غَفَلَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ لَهُمْ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ .
وَهَذَا بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْبَيْضَ الْكَثِيرَ إذَا صُلِقَ وَوُجِدَتْ فِيهِ بَيْضَةٌ فِيهَا فَرْخٌ فَإِنَّ الْبَيْضَ كُلَّهُ يَتَنَجَّسُ وَلَا يُؤْكَلُ إذْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ مَعَ أَنَّ قِشْرَةَ الْبَيْضِ لَيْسَ لَهَا مَسَامُّ حَتَّى يَدْخُلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فِيهَا شَيْءٌ أَوْ يَخْرُجَ فَمَا بَالُك بِاللَّحْمِ الَّذِي بَاشَرَ الدَّمَ الْعَبِيطَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ غَسْلِهِمْ لَهُ أَنَّهُمْ يَغْسِلُونَهُ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ

أُخْرَى وَهِيَ مِمَّا تَعُمُّ فِي الْغَالِبِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَذْبَحُونَ فِيهِ مُسْتَدْبَرٌ فَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ الَّذِي يَكُونُ ذَبْحُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَمِنْ تَعَمَّدَ الذَّبْحَ إلَى غَيْرِهَا فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً يُكْرَهُ أَكْلُ الْمَذْبُوحِ بِسَبَبِ تَرْكِهَا ، وَسَبَبُ وُجُودِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا تَرْكُ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ وَتَرْكُ تَفَقُّدِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ مَبْدَأِ أَمْرِهَا فَاسْتَحْكَمَتْ الْمَفَاسِدُ وَمَضَتْ عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ الرَّدِيئَةُ فَيُطْعِمُونَ النَّاسَ الطَّعَامَ الْمُتَنَجِّسَ وَأَجَازُوا بَيْعَهُ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَالسُّكُوتِ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ .
أَمَّا الْعَامَّةُ فَبِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَبِالْكَلَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ فِي هَذَا كَبِيرُ أَمْرٍ .
وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ خُصُوصًا عَلَى أَرْبَاب الْأُمُورِ وَعَلَى مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِ .
ثُمَّ إنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّهُمْ يَعْجِنُونَ التُّرَابَ الَّذِي يَسُدُّونَ بِهِ التَّنُّورَ الَّذِي فِيهِ الذَّبَائِحُ بِالْمَاءِ الَّذِي صَارَ كَأَنَّهُ دَمٌ عَبِيطٌ فَيَتَنَجَّسُ التُّرَابُ بِهِ إنْ كَانَ طَاهِرًا وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَيُضِيفُونَ نَجَاسَةً إلَى مِثْلِهَا فَإِذَا أَحَسَّ بِحَرَارَةِ النَّارِ عَرِقَ وَقَطَرَ مِنْهُ عَلَى الشِّوَاءِ وَغَيْرِهِ مَا يُنَجِّسُهُ ظَاهِرًا أَنْ لَوْ كَانَ طَاهِرًا فَكَيْف وَبَاطِنُهُ مُتَنَجِّسٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَكَذَلِكَ يَقْطُرُ فِي نَفْسِهِ هُوَ وَالشِّوَاءُ عَلَى الْجَذَّابَةِ الَّتِي تَحْتَهُ فَتَتَنَجَّسُ بِذَلِكَ فَيَصِيرُ الْجَمِيعُ مُتَنَجِّسًا ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ مَرْئِيٌّ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُخْرِجُونَهُ إلَى سُوقِ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ .
وَكَذَلِكَ تَعَدَّتْ هَذِهِ النَّجَاسَةُ إلَى أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَذْبَحُونَ الدَّجَاجَ وَغَيْرَهُ وَيَأْتُونَ بِهِ إلَى الْمَسْمَطِ

فَيُدْلُونَهَا فِي الْمَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَتَنَجَّسُ كُلُّ ذَلِكَ .
وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ انْضَمَّ إلَيْهِ مُحَرَّمٌ آخَرُ اتِّفَاقًا وَهُوَ إضَاعَةُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مَا تَنَجَّسَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا عُمِلَ بِتِلْكَ الدَّجَاجَةِ الْمَسْمُوطَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَغَيْرِهَا مِنْ السَّمِيطِ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ فِي الْبُيُوتِ أَوْ عِنْدَ الشَّرَائِحِيِّ أَوْ عِنْدَ الطَّبَّاخِينَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ كُلُّهُ مُتَنَجِّسًا لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَيَجِبُ غَسْلُ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا نِيئًا كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا وَيَغْسِلُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ مِنْ بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ مَكَان أَوْ وِعَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ النَّجَاسَةُ مِثْلُ السُّمِّ يَعْنِي فِي سُرْعَةِ سَرَيَانِهَا وَأَنْتَ تَرَى ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بَعْدَ تَطْهِيرِهِ ، وَاللَّحْمُ وَالْأَطْعِمَةُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهَا وَلَا بَيْعُهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ اللَّحْمَ بَعْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا عُمِلَ فِيهِ وَلَا تَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَى بَاطِنِهِ فَجَوَابُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ يَرُدُّهُ الشَّاهِدُ ؛ لِأَنَّك إذَا عَمِلْت اللَّحْمَ فِي مَاءٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مِلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَاءِ مِلْحٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ أَوْ فُلْفُلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ تَجِدُ طَعْمَهُ فِي اللَّحْمِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي قَلْبِ الْقِطْعَةِ مِنْ اللَّحْمِ .
فَإِنْ قِيلَ إنَّ طَعْمَ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا بَعْدَ النُّضْجِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي اللَّحْمِ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَهُوَ إذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ يَغْلِي فَقَدْ سَرَى إلَى بَاطِنِهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ سَوَاءٌ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ

عَلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ مَا أُلْقِيَ فِيهِ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ قَدْ وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ بَعْدَ نُضْجِهِ وَطَبْخِهِ فَيَكْفِي فِيهِ التَّطْهِيرُ بِالْمَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْمَسَامِّ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ قِيَاسًا عَلَى مَا قَالَهُ سَحْنُونَ فِي زَيْتُونِ مِلْحٍ ثُمَّ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَضِجَ فِي الْمِلْحِ فَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَنْضَجْ بَعْدُ فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ لَا يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ وَلَا يُؤْكَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَا وَقَعَ فِيهِ قَبْلَ نُضْجِهِ ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللَّحْمِ سَوَاءٌ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَدَّعِي الِاضْطِرَارَ إلَى اسْتِعْمَالِ السَّمِيطِ وَالشِّوَاءِ لِوَصْفِ طَبِيبٍ لِمَرِيضٍ أَوْ غَيْرِهِ إذْ أَنَّ لَحْمَ الْمَاعِزِ مَوْجُودٌ لِلْأَصِحَّاءِ نِيئًا وَمَشْوِيًّا ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ سَلِيخًا لَا سَمِيطًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ السَّمِيطِ إنْ جُعِلَ مَعَهُ فِي التَّنُّورِ أَوْ يَسْقُطُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ التُّرَابِ أَوْ الطِّينِ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي يُسَدُّ بِهِ التَّنُّورُ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ لَحْمَ الضَّأْنِ الصَّغِيرِ السَّلِيخِ مَوْجُودٌ أَيْضًا .
وَأَمَّا لَحْمُ السَّمِيطِ الطَّاهِرِ فَمَوْجُودٌ لِلْمَرْضَى وَلِمَنْ احْتَاجَهُ مِنْ الْأَصِحَّاءِ فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ الشِّوَاءَ سَالِمًا مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ مِمَّا يَعْتَرِي الْمُسْلِمِينَ فِي سِمْطِ ذَلِكَ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بِتَطْهِيرِ ذَلِكَ أَجْدَرَ وَأَوْلَى فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَشْنَعَهُ أَنْ يَمْتَازَ الْيَهُودُ بِتَطْهِيرِ ذَلِكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلرَّشَادِ بِمَنِّهِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ فَلَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ هُوَ يَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَنْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا تَنَاوَلَهُ بِهِ مِثْلُ الْجَزَّارِ يَكُونُ عِنْدَهُ سَلِيخٌ أَوْ سَمِيطٌ فَإِنَّهُ إذَا مَسَّ السَّمِيطَ بِيَدِهِ أَوْ سِكِّينِهِ تَنَجَّسَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ يَتَنَجَّسُ الْمَوْضِعُ

الَّذِي يَكُونُ فِيهِ وَاللَّحْمُ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ أَوْ سِكِّينُهُ الَّتِي يَقْطَعُ بِهَا مِنْ السَّمِيطِ وَبَعْضُ مَنْ يَحْتَرِزُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ السَّمِيطِ قَدْ يَقَعُ فِي هَذَا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى تَنْجِيسِ الْوِعَاءِ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ إلَى الْبُيُوتِ وَغَيْرِهَا ، وَكَذَلِكَ يَتَنَجَّسُ مَا يُطْبَخُ فِيهَا أَوْ يُؤْكَلُ فِيهَا فَظَهَرَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ النَّجَاسَةَ كَالسُّمِّ لِسُرْعَةِ سَرَيَانِهَا .
وَأَمَّا الرُّءُوسُ فَهِيَ جَائِزَةٌ إذَا سَلِمَتْ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ فِي السَّمِيطِ وَقَدْ جُمِعَتْ الْمَفَاسِدُ الَّتِي فِي السَّمِيطِ وَزَادَتْ عَلَيْهِ الْمَكْسُ الَّذِي اُخْتُصَّتْ بِهِ دُونَ السَّمِيطِ إذْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى شِرَائِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُكَّاسِ وَالْأَكَارِعُ كَذَلِكَ تَنْجِيسُهَا وَمَكْسُهَا كَمَا تَقَدَّمَ .

وَأَمَّا النَّقَانِقُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا لِلْجَهَالَةِ بِمَا فِي بَاطِنِهَا .
هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَشُقَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَيَرَى دَاخِلَهَا كُلَّهَا وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ إذَا رَأَى وَاحِدَةً مِنْهَا وَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهَا وَأَخَذَ الْبَاقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْخُشْكِنَانِ .
هَذَا لَوْ سَلِمَتْ مِنْ الْمَكْسِ وَهِيَ الْآنَ مُمَكَّسَةٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا ، وَهَذَا إنْ كَانَ بَيْعُهَا بَعْدَ نُضْجِهَا ، وَأَمَّا إنْ كَانَ يَبِيعُهَا نِيئَةً وَيَزِنُهَا لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذُهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَقْلِيهَا لَهُ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي السَّمَكِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ وَزْنًا مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ مَقْلُوًّا بَعْضَ قَلْيٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ نِيئًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ كَذَلِكَ فَفِيهِمَا وُجُوهٌ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَلَاهُ لَهُ بَعْدَ وَزْنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا يَعْرِفُ كَمْ وَزْنُهُ بَعْدَ الْقَلْيِ فَهُوَ مَجْهُولٌ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى مِنْهُ الدُّهْنَ الَّذِي قَلَاهُ لَهُ بِهِ وَهُوَ مَجْهُولٌ .
الثَّالِثُ : مَا أَوْقَدَ بِهِ تَحْتَهُ كَذَلِكَ مَجْهُولٌ .
الرَّابِعُ : أُجْرَةُ قَلْيِهِ مَجْهُولَةٌ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مَجْهُولٌ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ عَمِلُوا عَلَيْهِ الدَّقِيقَ كَثِيرًا لَمْ يُعْلَمْ كَمْ وَزْنُ الدَّقِيقِ وَلَا كَمْ وَزْنُ السَّمَكِ الَّذِي يُؤْخَذُ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ وَلَوْ قَلَاهُ لَهُ قَبْلَ الْوَزْنِ إذْ أَنَّ الْجَهَالَةَ مَوْجُودَةٌ فِيهِ قَبْلَ الْقَلْيِ وَبَعْدَهُ فَهَذِهِ خَمْسَةُ وُجُوهٍ مِنْ الْمَوَانِعِ فَكَيْفَ يُرْتَكَبُ ذَلِكَ .
وَالتَّوَصُّلُ إلَى أَكْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ شَرْعًا سَهْلٌ يَسِيرٌ بِأَنْ يُنْضِجَهُ الْبَائِعُ بِالْقَلْيِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ يَبِيعَهُ لِلْمُشْتَرِي وَزْنًا أَوْ جِزَافًا بِشَرْطِ أَنْ

يَكُونَ الدَّقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ يَسِيرًا مُحْتَاجًا إلَيْهِ .
وَأَمَّا الْكُبُودُ فَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ الْمَكْسِ لَكَانَتْ جَائِزَةً وَهِيَ الْآنَ مُمَكَّسَةٌ فَيُمْنَعُ شِرَاؤُهَا .
وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كُلُّ مَا هُوَ مُمَكَّسٌ وَيُسْتَغْنَى بِغَيْرِهِ عَنْهُ مِثْلَ النَّشَا وَالسِّمْسِمِ الْمَقْشُورِ وَلَحْمِ الْجَمَلِ وَلَحْمِ النَّعَامِ وَأَمَّا اللِّسَانُ الْبَلَدِيُّ وَالْقُدُورُ الْبَلَدِيَّةُ وَالْكِيزَانُ الْبِيضُ أَيْضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ فَكَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الشِّرَاءَ مِنْهُمْ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى الْمُحَرَّمِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَقَدْ اتَّصَفَ بِتَرْكِ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صُورَةَ الْمَكْسِ أَنْ يَحْتَكِرَ شَخْصٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ سِلْعَةً أَوْ سِلَعًا لَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أَوْ غَيْرُهُمْ أَوْ مَنْ يَخْتَارُهُ أَوْ يَخْتَارُونَهُ وَإِنْ كَثُرُوا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَأْخُذُوا السِّلْعَةَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُ ، وَالظُّلْمُ هُوَ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَ فَعَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا فَهَذَا لَا يُمْتَنَعُ مِنْ شِرَائِهِ وَلَا بَيْعِهِ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ إعَانَةٌ انْتَهَى .
وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا يُرْضِيهِ بِمَنِّهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ .

وَأَمَّا الْمَنْفُوشُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ إذَا اشْتَرَى الْفَطِيرَ عَلَى حِدَةٍ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَاللَّطُوخُ مِثْلُهُ .
وَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَيُمْنَعُ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ الْجَهَالَةِ ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعِ مُخْتَلِفَانِ فِي ذَلِكَ فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ اللَّطُوخِ أَكْثَرَ مِنْ فَطِيرِ الْمَنْفُوشِ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ فَطِيرِ الْمَنْفُوشِ أَكْثَرَ مِنْ اللَّطُوخِ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ الْمُغَابَنَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ بِالْوَزْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ كَمْ وَزْنُ الْفَطِيرِ وَلَا كَمْ وَزْنُ اللَّطُوخِ .
وَالْبِيَاعَاتُ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مَكِيلٌ وَمَوْزُونٌ وَجُزَافٌ ، وَهَذَا غَيْرُ مَكِيلٍ وَقَدْ اشْتَرَاهُ عَلَى الْوَزْنِ وَأَخَذَهُ مَجْهُولًا وَلَوْ أَخَذَهُ جُزَافًا مِنْ غَيْرِ وَزْنٍ بَعْدَ تَعْيِينِ ذَلِكَ لَهُ لَمُنِعَ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَعْرِفُ مِقْدَارَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ اللَّطُوخِ غَالِبًا وَإِنْ لَمْ يَزِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْمُحَبَّبَة وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَأَمَّا بَيْعُ الْفُقَّاعِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا وَذَلِكَ إذَا صَبَّ مَا فِي الْكُوزِ فِي وِعَاءٍ وَعَايَنَهُ الْمُشْتَرِي وَعَلِمَ قَدْرَهُ وَصِفَتَهُ .
وَأَمَّا عَلَى مَا يَبِيعُونَهُ الْيَوْمَ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِوُجُوهٍ .
الْأَوَّلِ أَنَّ كُوزَ الْفُقَّاعِ مِنْ الْأَوَانِي الَّتِي نُهِيَ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِيهَا مِثْلُ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ لِسُرْعَةِ التَّخْمِيرِ الَّذِي يَسْرِي إلَيْهَا بِسَبَبِ سَدِّ مَسَامِّهَا وَكُوزُ الْفُقَّاعِ كَذَلِكَ وَقَدْ يَبِيتُ مِنْهَا شَيْءٌ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَبِيعُهُ لِلنَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَفَقَّدُهُ وَقَدْ يُسْرِعُ إلَيْهِ التَّخْمِيرُ فَيَشْتَرِيهَا الْمُشْتَرِي وَقَدْ صَارَتْ خَمْرًا هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَسُدُّ فَمَ الْكُوزِ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَضَعُهُ عَلَى فَمِهِ فَقَدْ يَكُونُ فَمُهُ لَمْ يُسَدَّ كُلُّهُ فَيَنْزِلُ مَا فِي الْكُوزِ أَوْ بَعْضُهُ فَإِنْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا فِيهِ فَيَظُنُّهُ مَلْآنًا وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي الْمُحَقَّرَاتِ ، وَهَذَا مِنْهَا فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُك وَالْمُشْتَرِي قَدْ اشْتَرَيْت أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ مِمَّا نَقَلُوهُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ بَيْنَهُمَا .
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَجُوزُ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ إذَا فَرَغَ مَا فِي الْكُوزِ وَعَايَنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ مَوْضِعِ سُؤْرِ الْكُفَّارِ مَكْرُوهٌ وَالْفُقَّاعُ يَشْرَبُهُ النَّصْرَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَكُونُ فَمُهُ مُتَنَجِّسًا فَيُنَجِّسُهُ وَقَدْ لَا يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْغُسْلَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ مَلْئِهِ ثَانِيًا ثُمَّ يَأْتِي الْمُسْلِمُ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فَمِ النَّصْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَحَرَّزُ مِنْ النَّجَاسَةِ .

وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ خَاصًّا بِالْفُقَّاعِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُشْبِهُهُ ، مِثْلُ السِّقَاءِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْقُونَ مَنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَمَنْ تَعَافُهُ النُّفُوسُ ، مِثْلُ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ وَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُمَّ يَأْتِي غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَصِحَّاءِ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فَمِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا فِيهِ ثُمَّ مَعَ هَذَا فَقَدْ عَرِيَ عَنْ أَقْسَامِ الْبِيَاعَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَلَا جُزَافٍ إذْ أَنَّ الْجُزَافَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا مَحْزُورًا يُحِيطُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي بِقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ ، وَهَذَا غَائِبٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَلَا صِفَتُهُ وَلَا يَأْخُذُهُ حَزْرٌ فَهَذِهِ وُجُوهٌ عَدِيدَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُحَقَّرَاتِ وَغَيْرَهَا فِي شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَفَسَادِهِ سَوَاءٌ إلَّا مَا اُغْتُفِرَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فِيهَا وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ الْمَيْلِ إلَى فَتْوَى مُفْتٍ يَطْرَأُ عَلَيْهِ مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ فَيَأْنَسُ بِالْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ فَيَخْرُجُ بِسَبَبِهَا عَنْ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ بِسَبَبِ اسْتِمْرَارِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاءُ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فَشِرَاءُ الْخُبْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ وَزْنًا أَوْ جُزَافًا .
وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ وَأَنْتَ تَرَى بَعْضَهُمْ يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِسَبَبِ أَنَّهُ يَزِنُ الْخُبْزَ فَيَجِدُهُ يَشِحُّ عَنْ الْوَزْنِ فَيُخْرِجُهُ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَيُعْطِيهِ لِلْمُشْتَرِي وَيَدْفَع لَهُ عِوَضًا عَمَّا نَقَصَ مِنْ وَزْنِهِ كِسْرَةً جُزَافًا فَقَدْ خَرَجَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ وَزْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ نَاقِصًا وَلَا قَدْرَ الْكِسْرَةِ الَّتِي دَفَعَهَا إلَيْهِ جُزَافًا فَقَدْ دَخَلَ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَخَذَ مَجْهُولًا وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ فَلَوْ زَادَ الْكِسْرَةَ أَوْ الْخُبْزَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى حَقَّقَ كَمَالَ الْوَزْنِ لَكَانَ جَائِزًا وَإِنْ رَجَحَ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَفَّى لَهُ الْوَزْنَ وَدَفَعَ لَهُ الْكِسْرَةَ جُزَافًا لَجَازَ وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ فِي وَزْنِ الْخُبْزِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ مَجْهُولًا خَاصًّا بِهِ بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ فِي أَكْثَرِ الْبِيَاعَاتِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِيهِ مَا يُفْعَلُ فِي الْخُبْزِ مِنْ الْمَحْذُورِ فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ الثَّمَنَ مِنْ حِلِّهِ وَيَأْكُلُهُ حَرَامًا بِتَصَرُّفِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَمِنْ ذَلِكَ الشِّرَاءُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ شِرَاءِ الْمَائِعَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى يَتَدَيَّنُونَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ إنَّمَا هِيَ دَمُ الْحَيْضِ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَا عَدَاهُ طَاهِرٌ عَلَى زَعْمِهِمْ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يَبُولُ فِي دُكَّانِهِ وَيَتَنَاوَلُ الْمَائِعَ وَغَيْرَهُ بِيَدِهِ وَلَا يُطَهِّرُهَا ، وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ الْمَقْلُوُّ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُكْثِرُ مُبَاشَرَتَهُ لَهُ حَتَّى قَدْ يَصِلُ ذَلِكَ إلَى تَعْيِينِ النَّجَاسَةِ يَقِينًا فَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا مَكْرُوهٌ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا يَأْكُلُهُ حَتَّى يَغْسِلَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ غَسْلُهُ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ شِرَاءَهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَكْرُوهٌ لَوْ كَانَ طَاهِرًا بِلَا شَكٍّ ؛ لِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُمْ مَنْفَعَةً لَهُمْ ، وَالْمُسْلِمُونَ أَحَقُّ بِالنَّفْعِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ بِإِعَانَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ .
وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ أَنَّ مَالِكًا ذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْبُلْدَانِ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَسْوَاقِهِمْ صَيَارِفَةً وَجَزَّارِينَ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَرَى لِلْوُلَاةِ أَنْ يَفْعَلُوا فِي ذَلِكَ فِعْلَ عُمَرَ .
قَالَ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْصِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِ دِينِهِمْ مَجْزَرَةً عَلَى حِدَةٍ وَيُنْهَوْنَ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُنْهَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُمْ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ رَجُلُ سَوْءٍ لَا يُفْسَخُ شِرَاؤُهُ وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ الْيَهُودِيِّ مِثْلَ الطَّرِيفَةِ وَشِبْهِهَا مِمَّا لَا يَأْكُلُونَهُ فَيُفْسَخُ عَلَى كُلِّ حَالٍ انْتَهَى .
وَالطَّرِيفَةُ هِيَ مَا يُوجَدُ مِنْ الرِّئَةِ مَلْصُوقَةً بِالشَّحْمِ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي

تَذْكِيَتِهِمْ لِهَذِهِ وَكُلِّ ذِي ظُفُرٍ وَالشُّحُومِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ .
فَحَكَى اللَّخْمِيُّ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا : قَوْلٌ بِالْجَوَازِ وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ وَقَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ وَقَوْلٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ فَقِيلَ يُؤْكَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَقِيلَ لَا يُؤْكَلَانِ وَقِيلَ يُؤْكَلُ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا يُؤْكَلُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ انْتَهَى .
فَإِذَا تَرَكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَاشْتَرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الشِّرَاءِ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ مِنْ النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَشْتَرُونَ الْخِرَقَ مِمَّنْ يَجْمَعُهَا مِنْ الطُّرُقِ وَالْكِيمَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ أَثَرِ الْحَيْضِ أَوْ مِنْ أَثَرِ مَنْ يُعَافُ أَثَرُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاءِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا أَيْدِيَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ الْأَوْعِيَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ .
وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ سِيَّمَا الصَّلَاحِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ مَنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ مَنْ هُوَ أَنْظَفُ وَجْهًا ؛ لِأَنَّ النَّظَافَةَ وَالْوَضَاءَةَ غَالِبًا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْوُضُوءِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْوَضِيءِ فَالْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَمِنْ ذَلِكَ الشِّرَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبْلِيَّاتِ وَالدِّكَكِ الْمُسْتَدِيمَةِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَقْعُدُ فِي طَرِيقِهِمْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ لِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَمُرَّ فِي حَاجَتِهِ أَوْ يَقِفَ قَدْرَ ضَرُورَتِهِ وَلَا يَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ دُكَّانٌ يَبِيعُ فِيهِ وَيَشْتَرِي ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ وَلَوْ كَانَتْ مُتَّسِعَةً فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَا سِيَّمَا وَالطُّرُقُ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَدْ ضَاقَتْ عَنْ الطَّرِيقِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلنَّاسِ وَذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَمُرَّ جَمَلَانِ مَعًا مُحَمَّلَانِ تِبْنًا فِي الطَّرِيقِ لَا يَمَسُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى حَدِّ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ وَإِلَى مَا عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْيَوْمَ فَكَيْفَ يَجُوزُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَا سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ فِي وَقْتِ مُنْصَرَفِ النَّاسِ إلَى الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ أَوْ إلَى تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ بِالطَّبْلِيَّاتِ عَلَى أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ فَيُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ طَرِيقَهُمْ إلَى بَيْتِ رَبِّهِمْ فَهُمْ غَاصِبُونَ لِذَلِكَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَكُلُّ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَقَدْ أَعَانَهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْغَصْبِ فَهُوَ شَرِيكٌ مَعَهُمْ فِي الْإِثْمِ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهَا الشَّيْءُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِالْحَبْلَقَةِ فَإِنَّهُ يَنْضَافُ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ مَفْسَدَةٌ أَكْبَرُ مِنْهَا تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فِي السِّقَاءِ وَالْفُقَّاعِ وَهِيَ أَنَّ تِلْكَ الْمِلْعَقَةَ الَّتِي يَغِطُّهَا لِلنَّاسِ لَا يَرُدُّ عَنْهَا أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ كَالْأَجْذَمِ وَالْأَبْرَصِ وَالصَّبِيِّ وَالصَّغِيرِ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ اللِّفْتَ وَاللُّوبِيَاءَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ فِيهِمَا النَّشَادِرَ

حَتَّى يَخْضَرَّا بِذَلِكَ وَهُوَ نَجِسٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ غَيْرُهُمَا مِنْ الْمَائِعَاتِ فَكُلُّ مَا يُبَاشِرُهُ مِنْهَا تَنَجَّسَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّمِيطِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا فَمِنْ بَابٍ أَحْرَى إذْ أَنَّهُ لَا يُتَحَرَّزُ مِنْ بَوْلِ نَفْسِهِ فِي طَعَامِهِ فَضْلًا عَمَّا يَعْمَلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِمَّنْ يَجْلِسُ فِي الْمَقَاعِدِ الَّتِي فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ فَشَا هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ حَتَّى قَدْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ يُكْرِي تِلْكَ الْمَقَاعِدَ الَّتِي تَلِي بَيْتَهُ أَوْ مِلْكَهُ أَوْ مَا هُوَ حَاكِمٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُ أُجْرَةَ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ رَضِيَا مَعًا بِذَلِكَ فَالشَّرْعُ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالْمَقَاعِدِ لَيْسَ إلَّا بَلْ كُلُّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ فَلَا يَنْبَغِي مُعَامَلَتُهُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بُدٌّ كَهَذِهِ الدَّكَاكِينِ الَّتِي يَعْمَلُونَ بِهَا مَسَاطِبَ يَقْطَعُونَهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَةً عَنْ حَوَانِيتِهِمْ قَدْ ضَاقَ الطَّرِيقُ بِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ عَدَمُ النَّظَرِ إلَى مَا كُلِّفَهُ الْمَرْءُ مِنْ مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ وَغَفْلَةُ مَنْ غَفَلَ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَتَرْكُ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعَ الشِّرَاءُ مِنْ الْمُكَّاسِ مَوْجُودٌ فِي الشِّرَاءِ مِمَّنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إذْ أَنَّهُ لَوْ تَحَامَى الْمُسْلِمُونَ الشِّرَاءَ مِنْهُ لِأَجْلِ مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ غَصْبِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَنَزَعَ عَنْ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ ،

وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَصِيرُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي إثْمِ غَصْبِهِمْ لِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ شَيْخٌ مِنْ الصُّلَحَاءِ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ وَكَانَ الْإِمَامُ يُعَظِّمُهُ لِخَيْرِهِ وَبَرَكَتِهِ ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ الشَّيْخَ لَيَّسَ جِدَارَ بَيْتِهِ بِالطِّينِ مِنْ الْخَارِجِ فَتَرَكَهُ الْإِمَامُ وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا جَاءَ إلَيْهِ أَجْلَسَهُ إلَى جَانِبِهِ وَرَحَّبَ بِهِ فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُ عَنْهُ ذَلِكَ تَرَكَهُ وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَبَقِيَ كَذَلِكَ أَيَّامًا فَسَأَلَ الشَّيْخُ أَصْحَابَ الْإِمَامِ عَنْ سَبَبِ إعْرَاضِهِ عَنْهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّك لَيَّسْت جِدَارَ بَيْتِك بِالطِّينِ مِنْ خَارِجِ فَجَاءَ الشَّيْخُ إلَى الْإِمَامِ فَسَأَلَهُ عَنْ مُوجِبِ هِجْرَانِهِ لَهُ فَأَخْبَرَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ لِي ضَرُورَةٌ فِي تَلْيِيسِ الْجِدَارِ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ أَمْرٍ فِي حَقِّ الْمَارِّينَ ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ : ذَلِكَ غَصْبٌ فِي طَرِيقِهِمْ ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : هُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ الْيَسِيرُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَفْعَلُ ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تُزِيلَ التَّلْيِيسَ وَإِمَّا أَنْ تُنْقِصَ الْجِدَارَ وَتُدْخِلَهُ فِي مِلْكِك قَدْرَ التَّلْيِيسِ فَتَبْنِيهِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تُلَيِّسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ الْإِمَامُ حَتَّى امْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ مَرَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِجَانِبِ قَمْحٍ قَدْ سَنْبَلَ فَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَدَهُ عَلَى السُّنْبُلِ ثُمَّ نَزَعَهَا فِي الْوَقْتِ فَرَآهُ الشَّيْخُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ صَاحِبِ الْقَمْحِ وَيَسْتَحِلَّ مِنْهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُ الْفَقِيرُ : يَا سَيِّدِي أَلَيْسَ السُّنْبُلُ قَدْ وَقَفَ

كَمَا هُوَ وَمَا ضَرَّهُ مَا فَعَلْت بِهِ ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَرَأَيْت لَوْ مَرَّ بِهِ أَلْفُ رَجُلٍ أَوْ أَكْثَرُ فَفَعَلُوا مَا فَعَلْت أَكَانَ يَرْقُدُ قَالَ نَعَمْ ، فَقَالَ لَهُ لَك فِي ذَلِكَ حِصَّةٌ مِنْ الظُّلْمِ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ ، وَلَمْ يَصْحَبْهُ حَتَّى اسْتَحَلَّ مِنْهُ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَرَكَةِ تَفَقُّدِ الْعُلَمَاءِ لِلْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي زَمَانِهِمْ كَيْفَ يَتَلَقَّوْنَهَا بِهَذَا التَّلَقِّي الْحَسَنِ الْجَمِيلِ .
فَلَوْ بَقِيَ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَرَفٍ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَوَادُّ تَنْحَسِمُ أَوْ يَقِلُّ فَاعِلُهَا وَلَكِنَّ السُّكُوتَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَعَدَمَ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ لَهُمْ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَصَارَ مُتَزَايِدًا وَفَّقَنَا اللَّهُ لِمَرْضَاتِهِ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَبْصِرَتِهِ : وَأَمَّا مَا يَكُونُ بَيْنَ الدِّيَارِ مِنْ الرِّحَابِ وَالشَّوَارِعِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْهَا إلَى دَارِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ وَبِأَهْلِ الْمَوَاضِعِ مُنِعَ ، وَإِنْ فَعَلَ هُدِمَ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ .
فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ الْجَوَازُ وَالْكَرَاهَةُ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ يُهْدَمُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ اقْتَطَعَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْنِيَتِهِمْ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِكِيرِ حَدَّادٍ بِالسُّوقِ فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ وَقَالَ تُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا تَشَاحُّوا فِي الطَّرِيقِ فَسَبْعَةُ أَذْرُعٍ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ انْتَهَى .
فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَا فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ .

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِي قَضَاءِ مَآرِبِهِ إنْ قَدَرَ خِيفَةً مِنْ الْمَفَاسِدِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلِوُجُوهٍ أُخْرَى نَذْكُرُ بَعْضَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةً جَلِيَّةً لِغَيْرِ الْعَالِمِ فَكَيْفَ لِلْعَالِمِ .
فَمِنْهَا إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَيَنْوِي بِذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي الْخُرُوجِ إلَى السُّوقِ ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ التَّوَاضُعِ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَنِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ دُخُولِ الرِّبَا عَلَيْهِمْ إذْ أَنَّ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فِي جُلِّ بِيَاعَاتِهِمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَفَ لِجَرِّ الْمَنْفَعَةِ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنْتَ تَرَى كَثْرَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يُعَامِلُ الْآخَرَ فَيَشْتَرِي مِنْهُ السِّلَعَ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ ثُمَّ إنْ أَعْوَزَهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ ثَمَنَ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَامِلْهُ مَا أَقْرَضَهُ حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ السِّلْعَةَ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ لَتَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يُقْرِضُهُ ثَمَنَ ذَلِكَ إلَّا بِكُرْهٍ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً .
وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَفَاسِدِ مِثْلُ عَدَمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ دُخُولِ الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ عَلَيْهِمْ وَالسَّلَفِ وَالصَّرْفِ وَغَيْرِهِمَا ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَغَيْرُهَا كَثِيرَةٌ بَيْنَهُمْ فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يُبَاشِرُهُمْ فِي ذَلِكَ انْحَسَمَتْ مَادَّةُ الْمَفَاسِدِ وَقَلَّ وُقُوعُهَا بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ الَّذِي يَدُورُ بَيْنَهُمْ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ تَرْكَ

التَّكَبُّرِ وَتَرْكَ التَّجَبُّرِ وَتَرْكَ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ إذْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْأَسْوَاقَ وَحَمَلَ سِلْعَتَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ إلَى السُّوقِ فِي خِلَافَتِهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ فِي الْغَالِبِ إلَّا النَّبَطَ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِهِ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَعَذَلَهُمْ فِي تَرْكِهِمْ السُّوقَ ، فَقَالَ لَهُ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَغْنَانَا عَنْ الْأَسْوَاقِ بِمَا فَتَحَ بِهِ عَلَيْنَا ، فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَيَحْتَاجَنَّ رِجَالُكُمْ إلَى رِجَالِهِمْ وَنِسَاؤُكُمْ إلَى نِسَائِهِمْ وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا رَأَى النَّبَطَ يَقْرَءُونَ الْعِلْمَ يَبْكِي إذْ ذَاكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْعِلْمَ إذَا وَقَعَ لِغَيْرِ أَهْلِهِ يَدْخُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا أَنْتَ تَرَاهُ وَاَللَّهُ يُرْشِدُنَا لِمَا فِيهِ السَّدَادُ بِمَنِّهِ .
وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ مِنْ إرْشَادِ الضَّالِّ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَالسَّلَامِ عَلَى إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّوقِ إنْ شَاءَ سِرًّا ، وَإِنْ شَاءَ جَهْرًا فَالسِّرُّ فِيهِ فَائِدَةٌ كُبْرَى وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْرُ فِيهِ ذَلِكَ وَزِيَادَةُ تَنْبِيهٍ لِلنَّاسِ عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِمْ وَحَدُّ الْجَهْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمِنْ يَلِيهِ وَفَوْقَ ذَلِكَ قَلِيلًا وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِحَيْثُ إنَّهُ يَعْقِرُ حَلْقَهُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ وَيُضِيفُونَ إلَيْهِ التَّلْحِينَ وَالتَّرْجِيعَ ، وَذَلِكَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَحَدُّ السِّرِّ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ بِمَا يُرِيدُهُ وَهُوَ أَنْ يَتَشَهَّدَ فَيَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
ثُمَّ يُصَلِّي

عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ التَّامَّةَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ هَذَا السُّوقِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ بِذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ فَيَغْتَنِمُ بَرَكَةَ الِامْتِثَالِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَعْتَبِرُ فِيهِ ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ وَلَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ وَيُسَلِّمَ عَلَى إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا .
وَالْخُرُوجُ إلَى السُّوقِ مِنْ شِعَارِ الصُّلَحَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ يَخْرُجُونَ إلَى السُّوقِ وَيَقْعُدُونَ فِيهِ انْتَهَى .
وَمَا سُمِّيَ السُّوقُ سُوقًا إلَّا لِنَفَاقِ السِّلَعِ فِيهِ فِي الْغَالِبِ وَأَكْبَرُ سِلَعِ الْمُؤْمِنِ الَّتِي يَطْلُبُ رِبْحَهَا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَإِرْشَادُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ ، وَذَلِكَ فِي الْغَالِب مَوْجُودٌ فِي الْأَسْوَاقِ لِكَثْرَةِ وُجُودِ إخْوَانِهِ فِيهَا وَفِيهِمْ الْعَالِمُ بِمَا يُحَاوِلُهُ وَالْجَاهِلُ بِذَلِكَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي الْأَسْوَاقِ يَتَّجِرُونَ وَفِي حَوَائِطِهِمْ يَعْمَلُونَ وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَسَلَفُهَا ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يُمْكِنُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَذَلِكَ امْتِهَانٌ لِحَقِّ الْعِلْمِ وَنَقْصٌ لِحُرْمَةِ الْعَالِمِ وَاسْتِهَانَةٌ بِقَدْرِهِمَا وَأَهْلُ الْأَسْوَاقِ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْأَلُونَ فِي الْغَالِبِ وَبَذْلُ الْعِلْمِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا سُئِلَ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْعَالِمَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ تَرْكَ السُّؤَالِ وَتَرْكَ التَّعْلِيمِ مِنْ الْمُنْكَرِ الْبَيِّنِ

فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَنْصَحَ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّلَطُّفِ لَهُمْ وَامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ ، وَالتَّعْلِيمُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرُ بَيَانًا مِنْ غَيْرِهَا لِوُجُودِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَعًا ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ الْبَائِعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ فِي السِّلَعِ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَنْسَاهُ فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي فَعَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَالِمَ لَا يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ حَتَّى يُسْأَلَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلِيلٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ تِلْكَ لَا تَجُوزُ فَغَيَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَالِمِ أَنَّ يُغَيِّرَ عَلَى النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَإِذَا غَيَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ سَأَلُوهُ فَأَجَابَهُمْ وَإِنَّمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مَعَ الْأَعْرَابِيِّ ثَلَاثًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْأَلَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْعِلْمُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ مِرَارًا قَبْلَ الْإِلْقَاءِ ثَبَتَ الْعِلْمُ بَعْدَهُ كَمَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَا مُعَاذُ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ يَا مُعَاذُ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ فَأَلْقَى إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ } .
وَحِكْمَةُ تَنْبِيهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثَيْنِ ثَلَاثًا أَعْنِي حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ وَحَدِيثَ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ لَهُ قَدْرٌ وَبَالٌ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَلَمَّا كَانَ حَدِيثُ مُعَاذٍ فِي الِاعْتِقَادِ وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فِي الصَّلَاةِ وَمَحَلُّ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَحَلُّ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ كَرَّرَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا ، وَكَذَلِكَ كَرَّرَ مَا نَاسَبَهُمَا وَمَا لَمْ يَتَأَكَّدْ أَمْرُهُ يَكْتَفِي فِيهِ مِنْ التَّنْبِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَنْ عَقَلَ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ يَزِيدُ لَهُ فِي التَّنْبِيهِ حَتَّى يَعْقِلَ .
وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إذْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَالْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا أَكَّدَ هَذَا الْأَمْرَ وَبَيَّنَهُ وَأَثْبَتَهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَالْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى } وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّتْ الْأُمَّةُ إلَى هَلُمَّ جَرًّا .
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِلْإِمَامِ الطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمَّا أَنْ وَرَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ لِيَحُجَّ فَلَمَّا أَنْ حَجّ وَرَجَعَ وَجَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ شَاغِرَةً مِنْ الْعِلْمِ وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فِي مَسْأَلَةٍ جِهَارًا وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُمْسِكَ فِي يَدِهِ كِتَابًا لِغَلَبَةِ الْأَمْرِ مِنْ السَّلْطَنَةِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ لِبِدْعَةٍ كَانَتْ فِيهِمْ تَدَيَّنُوا بِهَا فَلَمَّا أَنْ رَأَى الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَالَ وَدَّعَ رَفِيقَهُ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَأَرْسَلَ السَّلَامَ إلَى وَلَدِهِ بِالْمَغْرِبِ ، وَقَالَ : هَذِهِ بِلَادٌ لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْهَا لِمَا غَلَبَ فِيهَا مِنْ

الْجَهْلِ فَجَعَلَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْعُدُ عَلَى دُكَّانِ بَيَّاعٍ فَيُعَلِّمُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَقِيدَتِهِ وَفَرَائِضِ وُضُوئِهِ وَسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ ، وَكَذَلِكَ تَيَمُّمُهُ وَغُسْلُهُ وَصَلَاتُهُ ثُمَّ يَنْظُرُ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ السِّلَعِ فَيُعَلِّمُهُ مَا فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَكَيْفِيَّةَ تَعَاطِيهِ بَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا وَكَيْفِيَّةَ دُخُولِ الرِّبَا عَلَيْهِ وَالسَّلَامَةَ مِنْهُ إنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ يَقُولُ لَهُ عَلِّمْ جَارَك ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى دُكَّانٍ آخَرَ حَتَّى قَامَ الْعِلْمُ عَلَى مَنَارِهِ وَزَالَ الْجَهْلُ فِي حِكَايَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا فَكَانَ السَّبَبَ لِانْتِشَارِ الْعِلْمِ وَظُهُورِهِ فِي الْأَسْوَاقِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يُطْلَبَ مِنْهُ التَّعْلِيمُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا غَيْرِهَا ، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ بِبَرَكَةِ التَّوَاضُعِ وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ السَّلَفِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ وَمُرَاجَعَةِ الْعَوَامّ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي .
فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ الْعِلْمِ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ لِتَعْلِيمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَانَ النَّاسُ مُعْرِضِينَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ الْمُكَرَّمَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ لِيَتَّبِعُوهُ وَيَنْصُرُوهُ إذْ أَنَّ الْغَنِيمَةَ عِنْدَهُمْ إرْشَادُ شَارِدٍ عَنْ بَابِ رَبِّهِ أَوْ ضَالٍّ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ فَيَرُدُّونَهُمْ إلَى بَابِ مَوْلَاهُمْ وَيُوقِفُونَهُمْ عَلَى بِسَاطِ كَرَامَتِهِ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي حَسَنٌ الزُّبَيْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنِّي لَا أُرِيدُ أَحَدًا مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَأْتِينِي إذْ لَا

حَاجَةَ لَهُمْ بِي وَلَا حَاجَةَ لِي بِهِمْ وَإِنَّمَا أُرِيدُ مَنْ هُوَ شَارِدٌ عَنْ بَابِ رَبِّهِ فَأَرُدَّهُ إلَيْهِ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ قَعَدَ فِي السُّوقِ ، وَلَمْ يَأْتِ الْعُلَمَاءَ وَالصُّلَحَاءَ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُ شَارِدٌ عَنْ بَابِ رَبِّهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ سِيَاسَةُ مَنْ هَذَا حَالُهُ حَتَّى يُوقِفَهُ بِبَابِ رَبِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى نِيَّةِ الْعُلَمَاءِ إذَا صَلُحَتْ كَيْفَ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا مَعَ الْبَاعَةِ وَمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْبُعْدِ وَالْجَهْلِ فَيَرُدُّونَهُمْ بِالْعِلْمِ إلَى أَسْنَى الْأَحْوَالِ وَأَرْفَعِهَا لَا جَرَمَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْمُبَارَكِ انْتَفَعُوا وَنَفَعُوا وَعَمَّتْ بَرَكَتُهُمْ لِأَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ مَا يُعْهَدُ مِنْ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ مَعَ أَنَّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يَعْدَمْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ إذْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمَغْرِبِ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ بُعْدُ الزَّمَانِ وَلَا مُخَالَطَةُ غَيْرِ الْجِنْسِ مِنْ الْأَعَاجِمِ وَغَيْرِهِمْ فَانْتَفَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِمْ وَعَمَّتْ بَرَكَتُهُمْ عَلَى النَّاسِ كَافَّةَ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ وَصُلَحَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ .
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ } وَفِي رِوَايَةٍ تَعْيِينُ جِهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَائِفَةٌ بِالْمَغْرِبِ } .
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ } فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَقِيَ الْخَيْرُ مُتَّصِلًا وَبِسَبَبِ وُجُودِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ارْتَدَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَلَّ ظُهُورُهَا وَأَهْلُهَا وَنَزَلَتْ

الْبَرَكَاتُ وَجَاءَتْ الْخَيْرَاتُ وَبَقِيَ النَّاسُ فِي خَفَارَتِهِمْ مَحْمُولِينَ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ عَكْسُ مَا هُوَ عَلَيْهِ الْحَالُ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ فِي الْوَقْتِ فَتَجِدُ بَعْضَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ يَتَشَبَّهُ بِالْمُلُوكِ فِي الْبَوَّابِينَ وَالْحُجَّابِ وَمَنْ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الطَّرَّادِينَ حَتَّى قَلَّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُحْتَاجِينَ إلَى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلْمِ فَيَتَحَيَّلُونَ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ بِوَسَائِطَ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ وَهَذَا الْحَالُ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ هُوَ مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْغَالِبُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَامّ الْيَوْمَ الشُّرُودُ عَنْ الْعِلْمِ وَالنُّفُورُ عَنْ أَهْلِ الْخَيْرِ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْهِمَمِ لِغَيْرِ سَبَبٍ فَكَيْفَ بِهِمْ إذَا وَجَدُوا السَّبَبَ وَيَعْسَرُ عَلَيْهِمْ أَمْرُ السُّؤَالِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ فَيَقَعُ الْفِرَارُ وَالشُّرُودُ أَكْثَرُ فَكَانَ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ جَمِيعُهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ فِي ذِمَّةِ مَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا مَنَعَهُمْ بِهِ عَنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ .

ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ بَقِيَّةِ فِعْلِ الْعَالِمِ فِي السُّوقِ وَأَدَبِهِ فَإِذَا مَشَى فِي السُّوقِ فَيَضَعُ بَصَرَهُ حَيْثُ يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ قَدَمَهُ وَيَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ رَفْعِ بَصَرِهِ لِئَلَّا يَقَعَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ رُؤْيَتُهُ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَفَعَ بَصَرَهُ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَا رَفَعَهُ إلَّا وَيَنْظُرُ إلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ إذْ أَنَّ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ نِسَائِهِمْ الْجُلُوسُ فِي الطَّاقَاتِ وَأَبْوَابِ الرِّيحِ ، وَذَلِكَ عَلَى الْأَسْوَاقِ وَالطَّرَقَاتِ فِي الْغَالِبِ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَكْرَهُونَ فُضُولَ النَّظَرِ كَمَا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ .
وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُ النَّاسِ وَمَعَهُ وَلَدُهُ عَلَى بَعْضِ السَّلَفِ ، فَقَالَ الصَّبِيُّ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ يَا سَيِّدِي أَمَا تَخَافُ أَنْ تَقْعُدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى السُّقُوطِ ، فَقَالَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُ خَشَبَةٌ مَكْسُورَةٌ فِي سَقْفِهِ ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ مَا أَكْثَرَ فُضُولَك لِي الْيَوْمَ أَرْبَعُونَ سَنَةً فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا رَأَيْت سَقْفَهُ وَأَنْتَ مِنْ حِينِك رَأَيْته أَوْ كَمَا قَالَ وَقَدْ مَكَثَ بَعْضُهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت لَهُمْ مُحِبًّا إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّا قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فَيَتَأَكَّدُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ صَارَ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ مِثْلُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ اللَّغَطِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ فَيُنَبِّهُ الْعَالِمُ عَلَى هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ، إذْ الْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَيُصْلِحُ ذَاتَ الْبَيْنِ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ

الْمُسْلِمِينَ كُلُّ ذَلِكَ مَعَ الرِّفْقِ بِهِمْ وَالتَّجَاوُزِ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ وَتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ مِنْهُمْ وَزِيَارَةِ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَالدِّينُ أَهَمُّ .
وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ عِيَادَةَ الْمَرْضَى عَلَى وَجْهِهَا إنْ وَجَدَ لِذَلِكَ سَبِيلًا .
وَقَدْ يَجِدُ بَعْضُهُمْ فِي سُوقِهِ فَتَحْصُلُ لَهُ النِّيَّةُ وَالْعَمَلُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةٍ إنْ وَجَدَهَا عَلَى السُّنَّةِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ وَالْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَا عَلَى وُضُوءٍ فِي كُلِّ الْحَالَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ بِسِلَاحِهِ فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ الْقُرُبَاتِ غَالِبًا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَ عِدَّةً تَكُونُ مَعَهُ إذْ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ شَاةً أَوْ غَيْرَهَا تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ صَاحِبِهَا مَا يَذْبَحُهَا بِهِ فَيُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا .
وَقَدْ يَجِدُ دَابَّةً قَدْ انْخَنَقَتْ بِحَبْلٍ فَيَقْطَعُهُ بِمَا مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الْآلَةِ فَإِنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ هَذَا حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِنِيَّةِ السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ جُيُوشِهِمْ وَمَا يَجْرِي لَهُمْ فَيُسَرُّ لِخَيْرٍ إنْ سَمِعَهُ عَنْهُمْ وَيَحْزَنُ لِضِدِّهِ فَيَكُونُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِمْ .
وَكَذَلِكَ يَسْأَلُ عَمَّنْ غَابَ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَيُسَرُّ وَيَحْزَنُ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ شَرِيكًا لِلْوَاقِعِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا عَمَلٍ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى السُّوقِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ إذَا خَرَجَ وَلَيْسَ السَّلَامُ الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ

الْآخَرِ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ فَكَانُوا مُشْتَغِلِينَ فِي خَيْرٍ كَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِيهِ ، وَإِنْ خَاضُوا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ يُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي خَرْجِهِ وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى ثُمَّ يَسْتَعِيذُ فَيَقُولَ ( اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلُ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ثُمَّ يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ خُرُوجِهِ فَإِنْ كَانَ لِلسُّوقِ طَرِيقَانِ فَلْيَخْتَرْ أَقْرَبَهُمَا يَمْشِي فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْخُطَى الزَّائِدَةَ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهَا وَكَوْنُهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ لِإِلْقَاءِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْقُرُبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ تِلْكَ الْخُطَى الزَّائِدَةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُرِيحُ بَدَنَهُ مِنْ زِيَادَةِ التَّعَبِ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ الْمَشْيِ فِي ثَنِيَّاتِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِ بَعْضِهِمْ فِيهَا بَلْ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ فَإِنَّ فِيهَا السَّلَامَةَ ، وَإِنْ بَعُدَتْ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ أَنْ يَتَرَبَّصَ قَلِيلًا فِي الْبَيْتِ حَتَّى يُفَكِّرَ أَهْلَهُ فِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِكَيْ يَكُونَ مَشْيُهُ إلَى السُّوقِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِئَلَّا يَحْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى حَوَائِجَ أُخَرَ فَيَحْتَاجَ أَنْ يَتَكَرَّرَ إلَى السُّوقِ مِرَارًا فَيَكُونَ ذَلِكَ ضَيَاعًا لِلْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرُبَاتِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنْ حُضُورِ الْأَسْوَاقِ فَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقُ إلَى السُّوقِ بَعِيدَةً يَصْعُبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ لِبُعْدِهَا أَوْ كَانَ ضَعِيفًا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ ، وَإِنْ قَرُبَ فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ التَّوَاضُعِ ، فَإِذَا رَكِبَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الذِّكْرِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ شَهِدْت عَلِيًّا أُتِيَ لَهُ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي

الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَك إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْت ، فَقَالَ { إنَّ رَبَّك لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ } انْتَهَى .
وَيَعْتَبِرُ عِنْدَ رُكُوبِهِ عَلَيْهَا إذْ أَنَّ الدَّابَّةَ لَا تَحْمِلُ نَفْسَهَا فَكَيْفَ تَحْمِلُ غَيْرَهَا { إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا } فَالْأَرْضُ مُمْسَكَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْ إمْسَاكِ نَفْسِهَا فَكَيْفَ تُمْسِكُ غَيْرَهَا فَيَسْتَصْحِبُ هَذَا النَّظَرَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَيَشْهَدُ بِذَلِكَ رُؤْيَةَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ وَاسِطَةٍ فَيَقْوَى بِذَلِكَ إيمَانُهُ وَيَقِينُهُ وَيَرْجِعُ لَهُ الْإِيمَانُ حَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقَالًا ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَمْشِيَ بِالدَّابَّةِ عَلَى رِفْقٍ وَلَا يُزْعِجُهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ } .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي إيصَالِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَصَّلُونَ بِذَلِكَ إلَى سُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ مَعَ تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ .
ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ لِلْمُكَارِي فَيَشْتَرِطُ أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْمُكَارِيَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الْعَنِيفِ الَّذِي اعْتَادُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ إذَا رَأَى قِرْطَاسًا فِي سِكَّةِ الطَّرِيقِ

رَفَعَهُ وَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِ الْمِهْنَةِ إلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَصُونُهُ فِيهِ وَلَا يُقَبِّلْهُ وَلَا يَضَعْهُ عَلَى رَأْسِهِ إذْ إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَسَوَاءٌ كَانَ مَكْتُوبًا أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبٍ فَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا فَقَدْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الثَّوَابِ مَا فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ فَيَكُونُ أَخْذُهُ لِذَلِكَ تَوْقِيرًا وَتَعْظِيمًا لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ إنَّ الْوَرَقَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النَّشَا ، وَإِنْ قَلَّ ، وَكَذَلِكَ يَنْوِي إذَا وَجَدَ خُبْزًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ مِمَّا يُؤْكَلُ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ عَنْ مَوْضِعِ الْمِهْنَةِ إلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَصُونُهُ فِيهِ وَلَا يَضَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَلَا يُقَبِّلُهُ تَحَرُّزًا مِنْ الْبِدْعَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَاءَهُ الْقَمْحُ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا مِنْ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّاوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَعْمَلُ عَمَلًا حَتَّى يَلْتَقِطُوا مَا وَقَعَ مِنْ الْحَبِّ عَلَى الْبَابِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَهَذَا الْبَابُ مُجَرَّبٌ كُلُّ مَنْ عَظَّمَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَطَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ ، وَإِنْ وَقَعَتْ الشِّدَّةُ بِالنَّاسِ جَعَلَ اللَّهُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت ذَا حَزْمٍ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا قَدَرَ أَنْ يَحْمِلَ الْحَوَائِجَ كُلَّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ فَهُوَ بِهِ أَوْلَى لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ رَاكِبَهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَالِامْتِثَالِ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَأَحَدٌ يَمْشِي مَعَهُ إلَى السُّوقِ

أَنْ يُرْدِفَهُ خَلْفَهُ لِيَكْمُلَ لَهُ امْتِثَالُ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَاضُعُ فَيُذْهِبُ عَنْهُ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِمَّنْ يَتَحَامَى ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى مَنْ يَحْمِلُ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْحَوَائِجِ فَيَسْتَأْجِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعْطِي لِغَيْرِهِ أَنْ يَحْمِلَ بِلَا أُجْرَةٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إبْرَارُ قَسَمِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنْ لَا يَحْلِفَ بَعْدُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ خَوْفًا أَيْ يَتَعَجَّلُ أَجْرَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا .
وَكَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَحَرَّزُونَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرًا وَقَدْ رَأَيْت الشَّيْخَ الْجَلِيلَ أَبَا إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ التِّنِّيسِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِ تِلِمْسَانَ وَكَانَ فَاضِلًا فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ إلَى خَارِجِ الْبَلَدِ فَعَطِشُوا وَاشْتَدَّ عَطَشُهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَاءٌ فَرَأَوْا عِمَارَةً فَجَاءُوا إلَيْهَا يَطْلُبُونَ الْمَاءَ فَإِذَا بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ وَكَانَ قَدْ قَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فَذَهَبَ فَأَتَى بِلَبَنٍ فِيهِ سُكَّرٌ فَأَعْطَاهُ لِلشَّيْخِ لِيَشْرَبَ فَأَبَى عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ وَلِمَ وَهُوَ مِنْ وَجْهٍ حِلٍّ ؟ فَقَالَ لَهُ ؛ لِأَنَّك قَرَأْت عَلَيَّ وَلَا يُمْكِنِّي أَنْ آخُذَ مِنْكَ شَيْئًا لِئَلَّا أَتَعَجَّلَ ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَرَغَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلْ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَقْضِي حَاجَةً مِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ ، وَذَلِكَ خِيفَةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَرَجَ إلَى السُّوقِ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَوَائِجِهِ فِي وَقْتٍ فَأَخَذَ جُمْلَةَ حَوَائِجِهِ فَأَشْغَلَ يَدَيْهِ مَعًا فَنَزَلَ الْبَيَّاعُ مِنْ الدُّكَّانِ

وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ بَعْضَ الْحَوَائِجِ فَأَبَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَعْطَاهُ شَيْئًا حَمَلَهُ لَهُ ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ الْبَيَّاعُ رُؤْيَا رَآهَا فَسَكَتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا سَيِّدِي أَمَا تُعَبِّرُهَا لِي ، فَقَالَ لَهُ لَا يُمْكِنِّي ذَلِكَ وَأَنْتَ تَحْمِلُ لِي شَيْئًا فَيَكُونُ ذَلِكَ أُجْرَةً عَلَى الْعِلْمِ فَرَغَّبَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ حَاجَتَهُ يَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ فَمِنْ رَغْبَةِ الرَّجُلِ فِي تَعْبِيرِ تِلْكَ الرُّؤْيَا أَعْطَاهُ حَوَائِجَهُ فَحَمَلَهَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَبَّرَ لَهُ رُؤْيَاهُ وَمَضَى لِسَبِيلِهِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى تَحَرُّزِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِيهَا فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَيَكُونُ الْعَالِمُ مُتَيَقِّظًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْهُ إرْشَادٌ مَا أَوْ تَعْلِيمٌ مَا فَيَتَحَفَّظُ مَنْ هَذَا جَهْدَهُ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ .
فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ إمَّا لِضَعْفٍ مِنْ كِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ شَغْلٍ مَعَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَوْ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ الضَّرُورِيِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَالنِّيَابَةُ إذْ ذَاكَ لَهُ أَفْضَلُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فِي وَقْتِهِ إذْ أَنَّ إلْقَاءَ الْعِلْمِ لِأَهْلِهِ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ لِلْعَمَلِ بِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا لَوْ تَوَالَتْ بِهِ الْأَشْغَالُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ إحْيَاءِ هَذِهِ السُّنَّةِ أَعْنِي الْخُرُوجَ إلَى السُّوقِ وَلَوْ مَرَّةً فِي وَقْتٍ مَا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ عَلَيْهِ فَلْيَخْرُجْ إلَى ذَلِكَ وَهُمْ يَشْتَغِلُونَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَذْمُومِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي وَطْءِ الْأَعْقَابِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَا خَرَجُوا مَعَهُ إلَّا

لِضَرُورَةِ تَعْلِيمِهِمْ وَخَرَجَ هُوَ لِإِظْهَارِ سُنَّةٍ وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا كَلَامُ الْبَشَرِ ، نَعَمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِهِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَعَيَّنُ احْتِرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ .
وَكَذَلِكَ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَشْيِ مَعَهُ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ إنَّمَا هُوَ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ فِتْنَةِ وَطْءِ عَقِبِهِ فَإِنْ وَقَعَ لَهُ خَوْفٌ مَا مِنْ هَذِهِ السَّيِّئَةِ فَتَرْكُ هَذِهِ السُّنَّةِ أَوْلَى بِهِ أَوْ يَخْرُجُ لِفِعْلِهَا وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يَقْضِي لَهُ ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مُحَاوَلَةِ مَا خَرَجَ إلَيْهِ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا يُكْرَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ .
فَجُمْلَةُ مَا تَحْصُلُ فِي خُرُوجِهِ إلَى السُّوقِ مِنْ النِّيَّاتِ وَالْآدَابِ يَنُوفُ عَنْ خَمْسِينَ خَصْلَةً وَهِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ لِمَا عَدَاهَا فَلْيَتَنَبَّهْ مَنْ يَتَنَبَّهُ مِمَّنْ يُوَفَّقُ لِذَلِكَ ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُ الْجَمِيعَ بِمَنِّهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ النِّيَّاتِ إلَى الْمَسْجِدِ يَخْرُجُ بِهِ إلَى السُّوقِ وَمَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَحْدَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مَذْكُورٌ قَبْلَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ .
وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ وَجَدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ النُّورِ وَالْحُضُورِ

فَصْلٌ فِي رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ السُّوقِ إلَى بَيْتِهِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَيَنْوِي فِي رُجُوعِهِ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى السُّوقِ وَمِنْهُ تَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ وَالتَّعَلُّمُ مِنْ عَالِمِهِمْ وَيَنْوِي فِي رُجُوعِهِ إلَى بَيْتِهِ نِيَّةَ الْخَلْوَةِ عَنْ النَّاسِ فَيَكُونُ مَأْجُورًا فِي خُطَاهُ إلَى الْخَلْوَةِ وَإِذَا وَصَلَ إلَى بَيْتِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى أَهْلِهِ بِنِيَّةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حِينَ دُخُولِهِ وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ عِنْدَ خُرُوجِهِ وَلَا تَقَعُ التَّفْرِقَةُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إلَّا بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَبَيْتِ الْخَلَاءِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ حَمَّامٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَوَاضِعِ الْفَضَلَاتِ وَيُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى حِينَ دُخُولِهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي الدُّعَاءِ الْوَارِدِ حِينَ الدُّخُولِ إلَى الْبَيْتِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ ( اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا ) ثُمَّ يَتَعَوَّذُ وَيَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلَى آخِرِهَا .
وَيَنْوِي حِينَ دُخُولِهِ إلَى بَيْتِهِ نِيَّةَ الْخَلْوَةِ عَنْ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يَنْوِي بِذَلِكَ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ لِسَانِهِ وَنَظَرِهِ وَسَمْعِهِ وَبَطْشِهِ وَسَعْيِهِ وَحَسَدِهِ وَبَغْيِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الرَّدِيئَةِ إذْ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ بَابِ رَبِّهِ تَعَالَى كَانَ أَسْوَأَ ظَنًّا بِنَفْسِهِ كَمَا قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ لَمَّا انْعَزَلَ فِي خَلْوَتِهِ عَنْ النَّاسِ وَانْفَرَدَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَالَ وَجَدْت لِسَانِي كَلْبًا عَقُورًا قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ مَنْ خَالَطَهُ فَحَبَسْت نَفْسِي لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَآفَتِهِ .
وَفِي هَذِهِ النِّيَّاتِ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا أَنَّهَا

تَحْتَوِي عَلَى عَدَمِ الدَّعْوَى وَعَلَى عَدَمِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الرَّدِيئَةِ فَبِنَفْسِ هَذِهِ النِّيَّةِ تَنْدَفِعُ كُلُّهَا وَفِي الْخَلْوَةِ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ تَحْصُلُ لَهُ دُونَ كُلْفَةٍ يَتَكَلَّفُهَا وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ حَالِ الْمُرِيدِ ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُ بِالْجَمِيعِ بِمَنِّهِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَنْوِيَ بِالْخَلْوَةِ سَلَامَتَهُ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاءٌ عُضَالٌ وَالْعَطَبُ فِيهِ مَوْجُودٌ إذْ أَنَّ فِيهِ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِغَيْرِهِ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا حِينَ رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَيْتِهِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ بَعْضُ ذَلِكَ هُنَا زِيَادَةَ تَنْبِيهٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ ، فَإِنْ احْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى أَوْ نَسِيَ شَيْئًا مِمَّا خَرَجَ إلَيْهِ فَلَا يَعُودُ إلَى السُّوقِ وَيَتْرُكُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَخَافُ فَوَاتَ أَمْرٍ ، مِثْلُ مَرِيضٍ يَحْتَاجُ إلَى فَصَادٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غِذَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَمْضِيَ عَلَيْهِ الزَّمَانُ فِي الْأَسْوَاقِ كَمَا سَبَقَ ؛ لِأَنَّ الْأَهْلَ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مَهْمَا أَعْوَزَهُمْ شَيْءٌ يُقْضَى لَهُمْ تَكْثُرُ حَوَائِجُهُمْ وَيَضِيعُ عَلَيْهِ وَقْتُهُ فَإِذَا عَلِمُوا مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً جَمَعُوا لَهُ الْحَوَائِجَ كُلَّهَا فِي خُرُوجِهِ فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَإِذَا قَعَدَ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَبَنِيهِ فَأَجْرُ الْخَلْوَةِ حَاصِلٌ لَهُ ، فَإِنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ الْقُرَبِ بِحَضْرَتِهِمْ أَوْ مَعَ عِلْمِهِمْ فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ وَلَهُ تَضْعِيفُ الثَّوَابِ فِيهِ إذْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ قَالُوا ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا تَخْرُجُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ ، وَإِنْ عُمِلَتْ فِي الْجَهْرِ وَهِيَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ إذَا مَرَّ التَّالِي بِسَجْدَةٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي

سِرِّهِ فَيَسْجُدُ لَهَا بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ وَإِذَا كَانَ صَائِمًا فَدُعِيَ إلَى طَعَامٍ ، فَقَالَ إنِّي صَائِمٌ ، وَإِذَا كَانَ مَعَ أَهْلِهِ يَعْمَلُ عَمَلًا وَهُمْ مَعَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ وَلَا عَنْ الْخَلْوَةِ .
أَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ إذَا مَرَّ بِسَجْدَةٍ يَسْجُدُ لَهَا فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَتْرُكُهَا لِأَجْلِ الْغَيْرِ إذْ أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ وَالرِّيَاءُ مَمْنُوعٌ فِعْلُهُ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ إذَا خَافَ التَّشْوِيشَ عَلَى مَنْ دَعَاهُ حَتَّى يُرْفَعَ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يَتَوَقَّعُ مِنْ تَشْوِيشِ خَاطِرِهِ ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِحَضْرَةِ أَهْلِهِ فَلَوْ كُلِّفَ أَنْ لَا يَعْمَلَ الْعَمَلَ إلَّا بِغَيْبَتِهِ عَنْهُمْ لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ وَفَتْحُ بَابٍ لِتَرْكِ الْعَمَلِ ، لَكِنْ إذَا أَرَادَ جَمْعَ خَاطِرِهِ وَقَدَرَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْزِلٍ عَنْ الْأَهْلِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ ، وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ الَّذِي يُخِلُّ بِحَالِهِ الِاجْتِمَاعُ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّنَفُّلِ فِي الْبَيْتِ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّنَفُّلِ فِي الْمَسْجِدِ يَعْنِي لِفَضِيلَةِ عَمَلِ السِّرِّ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ أَوْلَادٌ أَوْ مَنْ يُفَرِّقُ خَاطِرَهُ فِي عِبَادَتِهِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ انْتَهَى .
وَأَمَّا أَهْلُ التَّمْكِينِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَّرَهُ أَهْلُهُ وَاحْتَرَمُوهُ كَثِيرًا فَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَثُرَ لَغَطُهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِمَا يَخْتَارُونَ فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالُوا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَسْمَعُ مَا نَقُولُ ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ كَيْفَ تَنْصَرِفُ هِمَّتُهُ لِرُؤْيَةِ الْأَوْلَادِ مُمَازَجَتِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ .
وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تَكُونُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَفِي بَعْضِ

الْأَوْقَاتِ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ الْحَرَكَةُ الْكَثِيرَةُ وَالْبُكَاءُ الْكَثِيرُ مِنْ الْأَوْلَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُشَوِّشُ الْخَاطِرَ فَلَا أَسْمَعُهُ وَلَا أَعْرِفُ بِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِي وَبَعْضُ الْأَوْقَاتِ أَشْعُرُ بِهِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا بِحَسَبِ الْحُضُورِ وَالتَّفْرِقَةِ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي تِلَاوَتِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَبَعْضُ الْأَيَّامِ أُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ أَسْتَفْتِحُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَمَا يَجِيءُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَلِيلٍ إلَّا وَأَنَا قَدْ خَتَمْت ، وَبَعْضُ الْأَيَّامِ لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ الْحُضُورِ فَإِنْ كُنْت حَاضِرًا كَانَ ذَلِكَ وَبِحَسَبِ التَّفْرِقَةِ يَكُونُ الْبُطْءُ فِي الْخَتْمِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوِيَّ وَالضَّعِيفَ لَا يَسْتَوِيَانِ ، فَعَلَى هَذَا فَالْخَلْوَةُ عَنْ الْأَهْلِ مُشْتَرَطَةٌ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ وَفِي وَقْتِ التَّفْرِقَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْطِيَهُمْ حَظَّهُمْ مِنْهُ فِي وَقْتِ مَا وَيُؤَاكِلُ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ وَجَوَارِيَهُ وَعَبِيدَهُ مِنْ صَحْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَفْضَلَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ خَلَوَاتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا مِنْ الْخَيْرِ مِنْهَا امْتِثَالُ السُّنَّةِ وَالتَّوَاضُعُ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مَنْ رَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ وَقَوْلُهُ هَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلْبَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مُحْتَمَلٌ لِدُخُولِهَا إلَّا مَنْ اُسْتُثْنِيَ فَالْكَلْبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ وَفِي الْأَكْلِ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ تَرْكُ رُعُونَةِ النَّفْسِ وَتَرْكُ رِيَاسَتِهَا وَالتَّعَاظُمِ وَالْفَخْرِ وَاتِّصَافِهَا بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ لِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ بَيِّنٌ وَاضِحٌ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ النَّاجِينَ ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُنْجِيَنَا مِنْ جَمِيعِ الْمَهَالِكِ بِفَضْلِهِ أَجْمَعِينَ .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْخَلْوَةِ مَعَ وُجُودِ

الْأَهْلِ فَهُوَ عَلَى جَادَّةِ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَمَذْهَبُ بَعْضِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ عَمَلَ السِّرِّ هُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ بِهِ الْمَلَكَانِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ آدَابِ الْعَالِمِ فِي أَخْذِهِ الدَّرْسَ فِي الْمَسْجِدِ

أَخْذُ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى أَخْذِهِ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي الْمَدْرَسَةِ فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ لِضَرُورَةٍ مَا أَعْنِي لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ لِأَجْلِهَا فَأَخْذُهُ الدَّرْسَ فِي الْبَيْتِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ فِيهِ ضَرَرٌ فِي الْغَالِبِ عَلَيْهِ وَعَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .
فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَالْأَدَبُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ يَخْتَصُّ الْبَيْتُ بِبَعْضِ الْآدَابِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ فِي الْبَيْتِ تَتَأَكَّدُ ، فَمِنْهَا كَثْرَةُ تَوَاضُعِهِ لِلدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِ أَعْنِي فِي تَلَقِّيهمْ بِبَشَاشَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ التَّلَقِّي إذْ أَنَّ الْبَيْتَ مَحَلُّ انْقِبَاضِهِمْ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ فَإِنْ لَمْ يَبْسُطْ لَهُمْ الْأُنْسَ وَإِلَّا كَانَ سَبَبًا لِانْقِبَاضِهِمْ أَوْ عَدَمِ مَجِيئِهِمْ أَوْ يَقِلُّ فَهْمُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ مَا يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ وَمِنْهَا أَنْ يَأْذَنَ لِلطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِفْتَاءِ أَوْ التَّعْلِيمِ أَوْ لِيَسْمَعَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْخَلِيفَةِ أَدْرَكْت الْعُلَمَاءَ وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ إذَا مُنِعَ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ الْخَاصَّةُ انْتَهَى .
وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لَا يُوَفَّقُونَ لِلْعَمَلِ بِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ ثَوَابَ الْعِلْمِ يَكْثُرُ بِانْتِشَارِهِ ، فَكُلَّمَا انْتَشَرَ زَادَ الثَّوَابُ لِمُعَلِّمِهِ وَحَصَلَ لِمَنْ عَمِلَ بِهِ .
وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِصَاصُ بِهِ امْتَنَعَ انْتِشَارُهُ ، وَإِذَا امْتَنَعَ انْتِشَارُهُ ذَهَبَ بَعْضُ ثَوَابِهِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُحْرَمَ الْخَاصَّةُ فَهْمَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَعَانِيهَا ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ نَوْعَ تَكَبُّرٍ وَتَجَبُّرٍ وَبُخْلٍ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقُوهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَحُرِمُوا الْفَهْمَ فِيهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي

الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } الْآيَةَ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَبِّرِينَ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَلَكِنَّهُمْ مَنَعُوا فَائِدَتَهُ وَهِيَ الْفَهْمُ فِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فَبَقِيَ الْعَوَامُّ أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُسْتَعَانُ .
وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنَ مَشْهُورًا مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّ عَدَمَ اشْتِهَارِهِ سَبَبٌ لِقِلَّةِ انْتِشَارِ الْعِلْمِ أَوْ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ كَتْمٍ لَهُ .
وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ أَخْذِ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ حِسٌّ وَلَا كَلَامٌ خِيفَةً مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا يُشْعَرُ بِهَا .
وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَقَعَ الضَّرَرُ بِهِ وَبِمَنْ يَأْتِي إلَيْهِ إذْ أَنَّ وَقْتَ الْإِذْن بَقِيَ غَيْرَ مَضْبُوطٍ لَهُمْ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ فِي أَثْنَاءِ الدَّرْسِ قَطَعَ وَقَامَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ .
فَإِذَا خَرَجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إلَى الْمَسْجِدِ ظَهَرَتْ بِذَلِكَ الشَّعَائِرُ وَاقْتَدَى بِهِ النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَحَصَلَ لَهُمْ بَرَكَةُ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِمَا فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ مِنْ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَالثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .
أَلَا تَرَى إلَى وَصَفَ الْوَاصِفُ لِبَعْضِ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ فَيَحْصُلُ لِلْعَالِمِ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى الْخَيْرَاتِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْعَالِمِ فِي الْبَيْتِ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ طَلَبَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ يَحُوزُونَ بِهَا فَضِيلَةَ الِاجْتِمَاعِ لَكِنْ يَذْهَبُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ إذَا صَلَّوْا فِي الْبَيْتِ الْفَضَائِلَ وَالْأُجُورَ

الْمَذْكُورَةَ فِي الْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ وَيَكُونُ مَا وَقَعَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَكْرُوهَةِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً إذْ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِهِ وَبِهِمْ فِي ذَلِكَ .
وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى تَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ أَوْ بَعْضِهَا مِنْ الْجَمَاعَاتِ .
إذْ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَعْدَمُونَ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُمْ فِي الْبُيُوتِ فَيَجِدُونَ السَّبَبَ لِلْقُدْوَةِ بِالْعَالِمِ فِي تَرْكِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ ضَرُورَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِهَا فَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ لِمَنْ حَضَرَهُ أَنَّهُ مَضْرُورٌ لِتَرْكِ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَرَكَ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا كُلُّ الْأَعْذَارِ تُبْدَى .
وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَافِظُونَ عَلَى آدَابِ الشَّرِيعَةِ كَمَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْوَاجِبَاتِ مِنْهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ إلَى الْمَسْجِدِ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ يَتَهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ لِأَجْلِ شُهُودِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِيَشْهَدَ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِنَامَ بَرَكَتِهِمْ وَالصَّلَاةَ مَعَهُمْ وَخَلْفَهُمْ إذْ الْغَالِبُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رَغْبَةً مِنْهُ فِي فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَإِذَا امْتَلَأَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى الصَّفِّ الَّذِي يَلِيه ، وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى آخِرِ النَّاسِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ أَمَّا سَبْقِي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلِأَحُوزَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَعَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَأَمَّا انْتِقَالِي إلَى مَا سِوَاهُ فَلَعَلَّ أَنْ أُصَلِّيَ خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ فَيُغْفَرَ لِي سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَغْفُورُ لَهُ إمَامًا فَبَخٍ عَلَى بَخٍ .

فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَمُهِمَّاتِهِ .
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ أَعْتَقَ رَقَبَةً .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ لِلْعَالِمِ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ فِي الْبَيْتِ عَنْ الْمَسْجِدِ فَلْيَأْذَنْ لِمَنْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ الطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ إظْهَارِ شَعِيرَةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُمْسِكُهُمْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ مَعَهُمْ وَيُصَلِّي هُوَ مَعَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إنْ أَمْكَنَ فَإِذَا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ رَجَعُوا إلَيْهِ إنْ كَانَ بَقِيَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ وَظِيفَتِهِمْ إنْ شَاءُوا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ فِي الْبَيْتِ صَلَّى فَذَا فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ وَأَبْرَكُ لِأَجْلِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي إذْنِهِ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِإِظْهَارِ السُّنَّةِ وَالشَّعِيرَةِ كَمَا سَبَقَ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَثْرَةَ الْمَسَاجِدِ وَقِلَّةَ الْمُصَلَّيْنَ فِيهَا .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ كَثْرَةَ الْمَسَاجِدِ فِي الْمَحَلَّةِ الْوَاحِدَةِ .
رُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ لَمَّا دَخَلَ الْبَصْرَةَ جَعَلَ كُلَّمَا خَطَا خُطْوَتَيْنِ رَأَى مَسْجِدًا ، فَقَالَ مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ كُلَّمَا كَثُرَتْ الْمَسَاجِدُ قَلَّ الْمُصَلَّوْنَ أَشْهَدُ لَقَدْ كَانَتْ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ وَكَانَ أَهْلُ الْقَبِيلَةِ يَتَنَاوَبُونَ الْمَسْجِدَ الْوَاحِدَ فِي الْحَيِّ مِنْ الْأَحْيَاءِ .
وَاخْتَلَفُوا إذَا اتَّفَقَ مَسْجِدَانِ فِي مَحَلَّةٍ فِي أَيِّهِمَا يُصَلَّى .
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي أَقْدَمِهِمَا .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : وَكَانُوا يُجَاوِزُونَ الْمَسَاجِدَ الْمُحْدَثَةَ إلَى الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ انْتَهَى .
فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا انْسَدَّتْ

هَذِهِ الثُّلْمَةُ فَلَمْ يُوجَدْ تَعْطِيلٌ بِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ .
وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ بِمَنِّهِ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ أَوْ يَغْتَرَّ بِبَعْضِ عَوَائِدِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا ، وَذَلِكَ أَنَّك تَجِدُ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى يَسْمَعُ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَلَا يُزَعْزِعُهُ ذَلِكَ وَلَا يَتَحَرَّكُ لِلْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَوْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ وَيَنْتَظِرُ حَتَّى يَأْتِيَهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّلَبَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيُصَلِّيَ مَعَهُ الْفَرْضَ وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ السِّيَاسَةِ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ دُونَ خُرُوجٍ وَحَرَكَةٍ إلَى الْمَسْجِدِ وَدُونَ مُخَالَطَةِ الْعَوَامّ ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فِي الْوَقْتِ وَخَشِيَ خُرُوجَهُ صَلَّى مَعَ أَهْلِهِ إنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَإِلَّا صَلَّى فَذًّا ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْجِدُ عَلَى بَابِهِ أَوْ بِجِوَارِهِ ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ أَحَدٌ وَقَدْ يُصَلِّي فِيهِ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَعِيدًا لَكَانَ الْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَهْرَعُ إلَيْهِ حِينَ قَرَعَ سَمْعَهُ النِّدَاءُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَكْثَرَكُمْ أَجْرًا أَبْعَدُكُمْ دَارًا } مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْجَمَاعَةِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْبَرَكَاتِ وَالْكُنُوزِ فِي الْغَالِبِ لَا يُبَادِرُ إلَيْهَا إلَّا مَنْ يَعْرِفُهَا .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ ثَلَاثًا .
رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ ، وَرَجُلٌ سَمِعَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَلَمْ يُجِبْ .
} انْتَهَى .
ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ تَجِدُ الْجَامِعَ الْأَعْظَمَ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ إذَا صَلَّى الْإِمَامُ يَسْتُرُهُ عَوَامُّ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ ، وَقَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ سَهْوٌ ، فَلَا يَجِدُ مِنْ يُسَبِّحُ لَهُ وَلَا مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ إنْ جَرَى

عَلَيْهِ أَمْرٌ يُحْوِجُهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِإِفْسَادِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ ، ثُمَّ إنَّك إذَا نَظَرْت إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَا تَجِدُ فِيهِ فِي الْغَالِبِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } انْتَهَى ، وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنْهُمْ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ إلَى آخِرِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ مِنْهُمْ كَانُوا أَسْرَعَ سَبْقًا لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ أُمِيتَتْ وَتُرِكَتْ فِي الْغَالِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، لَكِنْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ بَقِيَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ قَائِمَةٌ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ ، فَإِنَّك تَجِدُ بِهَا الْمَسَاجِدَ مُصَانَةً مُرَفَّعَةً عَظِيمَةً لَا تُرْفَعُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ ، وَلَا تُدْخَلُ إلَّا لِلصَّلَاةِ أَوْ لِمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ التَّرْتِيبِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَغَيْرِهِ ، فَهُمْ مَاشُونَ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ .
وَلَهُمْ عَادَةٌ حَسَنَةٌ قَدْ مَضَى ذِكْرُهَا وَهِيَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ الصُّفُوفَ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ لَكِنَّ الَّذِينَ يَسْتُرُونَ الْإِمَامَ هُمْ أَكْثَرُ امْتِيَازًا مِنْ غَيْرِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ ، وَهُمْ مَعْلُومُونَ قَلَّ أَنْ يَغِيبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ ، فَإِنْ غَابَ لِضَرُورَةٍ قَدَّمُوا مَوْضِعَهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ ، فَيُصَلِّي الْإِمَامُ وَهُوَ مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ ، إذْ أَنَّهُمْ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا يَغْفُلُونَ عَنْ حَرَكَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ ، وَهَذَا عَكْسُ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ حَتَّى إنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ الْيَوْمَ فِي الْمَسْجِدِ لَرَأَيْته بَعِيدًا مِنْ الْإِمَامِ ، وَقَدْ

لَا يُصَلِّي فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَتَقَدَّمُهُ السَّجَّادَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .
فَهَذَا بَعْضُ الْآدَابِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْعَالِمِ إذَا أَخَذَ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ .

وَأَمَّا إذَا كَانَ يَأْخُذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ فَآدَابُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، لَكِنَّ الْمَسْجِدَ لَهُ آدَابٌ تَخُصُّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ، وَالْمَدْرَسَةُ لَهَا آدَابٌ تَخُصُّهَا سَنَذْكُرُهَا قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، لَكِنَّ أَخْذَ الدَّرْسِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ لِأَجْلِ كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ لِمَنْ قَصَدَهُ وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ ، بِخِلَافِ الْمَدْرَسَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي إلَيْهَا غَالِبًا إلَّا مَنْ قَصَدَ الْعِلْمَ أَوْ الِاسْتِفْتَاءَ فَأَخْذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ أَقَلُّ رُتْبَةً فِي الِانْتِشَارِ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَخْذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ أَكْثَرُ انْتِشَارًا مِنْهُ فِي الْبَيْتِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ أَخْذَ الدَّرْسِ فِي الْمَدْرَسَةِ إلَّا لِأَجْلِ الْمَعْلُومِ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَخَذَ الدَّرْسَ فِي الْمَدْرَسَةِ أَنْ يَأْخُذَ بِتِلْكَ النِّيَّاتِ الَّتِي وُصِفَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَتِلْكَ الْآدَابِ .
بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي إخْلَاصِ نِيَّتِهِ وَيَدْفَعَ الشَّوَائِبَ عَنْ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِالْمَعْلُومِ أَوْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ بِقَلْبِهِ ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ } انْتَهَى ، فَإِذَا جَاءَهُ الْمَعْلُومُ دُونَ سُؤَالٍ وَلَا اسْتِشْرَافِ نَفْسٍ فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ

إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ .
هَذَا عَلَى جَادَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيمُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، وَعَلَامَةُ صِدْقِهِ فِيمَا وَصَفَ مِنْ تَعْلِيمِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ عَنْهُ الْمَعْلُومَ لَا يَتْرُكُ التَّعْلِيمَ وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَتَبَرَّمُ وَلَا يَتَضَجَّرُ ، بَلْ يَكُونُ فِي وَقْتِ قَطْعِ الْمَعْلُومِ أَكْثَرَ تَعْلِيمًا وَأَشَدَّ حِرْصًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْلُومُ قَدْ قُطِعَ عَنْهُ اخْتِبَارًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَرَى صِدْقَهُ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ بِهِ ، فَإِنَّ رِزْقَهُ مَضْمُونٌ لَهُ مُطْلَقًا لَا يَنْحَصِرُ ذَلِكَ فِي جِهَةٍ دُونَ أُخْرَى .
قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَكَفَّلَ اللَّهُ بِرِزْقِ طَالِبِ الْعِلْمِ } انْتَهَى ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ ، لَكِنَّ حِكْمَةَ تَخْصِيصِ طَالِبِ الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ أَنَّ ذَلِكَ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ كَمَا سَبَقَ ، فَجَعَلَ نَصِيبَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ فِي الدَّرْسِ وَالْمُطَالَعَةِ وَالتَّفَهُّمِ لِلْمَسَائِلِ وَإِلْقَائِهَا ، وَذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ بِهِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ .
وَهَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الْعُلَمَاءِ أَعْنِي فَهْمَ الْمَسَائِلِ وَحُسْنَ إلْقَائِهَا وَالْمَعْرِفَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ فِي تَعْلِيمِهَا ، كَمَا أَنَّ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهَا أَشْيَاءُ أُخَرُ يَطُولُ تَعْدَادُهَا مِثْلَ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصُونَ هَذَا الْمَنْصِبَ الشَّرِيفَ مِنْ التَّرَدُّدِ لِمَنْ يُرْجَى أَنْ يُعِينَ عَلَى إطْلَاقِ الْمَعْلُومِ أَوْ التَّحَدُّثِ فِيهِ أَوْ إنْشَاءِ مَعْلُومٍ عِوَضُهُ .
وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي مَدْرَسَةٍ فَانْقَطَعَ الْمَعْلُومُ عَنْهُ وَعَنْ طَلَبَتِهِ أَوْ

نُقِصَ مِنْهُ ، فَقَالُوا لِلْمُدَرِّسِ : لَعَلَّك أَنْ تَمْشِيَ إلَى فُلَانٍ وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِتَجْتَمِعَ بِهِ عَسَى أَنْ يَأْمُرَ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ ، فَقَالَ : نَعَمْ مِرَارًا إلَى أَنْ عَزَمُوا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَسْتَحْيِ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَكْذِبَ هَذِهِ الشَّيْبَةُ عِنْدَهُ ، فَقَالُوا : وَكَيْفَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنِّي أُصْبِحُ كُلَّ يَوْمٍ أَقُولُ : اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت فَأَقُولُ هَذَا وَأَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ مَخْلُوقٍ أَسْأَلُهُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهِ لَا فَعَلْته فَلَمْ يَمْشِ إلَيْهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ قَطْعَ الْمَعْلُومِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يُشْهِرُهُ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الضَّجَرِ وَقِلَّةِ الثِّقَةِ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّعَرُّضِ إلَى اطِّلَاعِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَثِقُ بِرَبِّهِ فِي الْمَنْعِ وَالْعَطَاءِ ، بَلْ الْمَنْعُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ هُوَ عَطَاءٌ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَبْدِهِ أَحْسَنُ وَأَوْلَى مِنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ ، إذْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَدْرَسَةِ عَلَى مَا وُصِفَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَالْقُرْبِ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ الطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا مُنِعَ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ الْخَاصَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِغْلَاقُ بَابِ الْمَدْرَسَةِ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ عَنْ الْعَامَّةِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِلْعِلْمِ وَالتَّبَرُّكِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ ، وَكَذَلِكَ الْبَوَّابُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِجَابٌ عَنْ الْعِلْمِ أَيْضًا وَاخْتِصَاصٌ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، بَلْ يَفْتَحُ الْبَابَ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الدُّخُولَ كَمَا هُوَ فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا جُعِلَ الْبَوَّابُ لِأَجْلِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعَوَامّ إذَا دَخَلُوا الْمَدْرَسَةَ تَشَوَّشَ الْمَوْضِعُ وَكَشَفُوا عَوْرَاتِهِمْ عِنْدَ الْفَسْقِيَّةِ ، وَقَدْ يَسْرِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَقْدَامِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَدْ يَكْثُرُ لَغَطُهُمْ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْبَوَّابَ الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الْبَابِ أَوْ غَيْرِهِ يَكُونُ وَاقِفًا عِنْدَ أَخْذِهِمْ الدَّرْسَ ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا أَنْ يَقْرُبَ مِنْ نَاحِيَةِ أَقْدَامِهِمْ ، وَإِنْ رَأَى أَحَدًا يُرِيدُ أَنْ يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ نَهَاهُ وَزَجَرَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَتَّخِذَ نَقِيبًا بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِمًا كَانَ أَوْ جَالِسًا ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ الْيَوْمَ مِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي لَيْسَتْ لِمَنْ مَضَى ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَفِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اتِّخَاذِ الْحَاجِبِ وَالْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ إنَّمَا يَفْعَلُهُ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ : إمَّا مُتَكَبِّرٌ فِي نَفْسِهِ مُتَجَبِّرٌ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَهُ الِاتِّسَامُ بِالْعِلْمِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْمُتَكَبِّرِينَ ،

وَإِمَّا رَجُلٌ جَاهِلٌ يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ بِجَهْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ حَالَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي تَوَاضُعِهِمْ لَتَشَبَّهَ بِهِمْ إنْ سَلِمَ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ .
وَالثَّالِث وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَأَعْظَمُ ثُبُوتًا فِي الصُّدُورِ وَهِيَ الْعَوَائِدُ الْمُسْتَمِرَّةُ ، حَتَّى إنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْوَهْمُ فِي تِلْكَ الْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ فَقَدْ يَجْعَلُهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ إنْ سَلِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ إلَى مَا أَنِسَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ لِكَوْنِهِ نَشَأَ فَوَجَدَهَا مَعْمُولًا بِهَا ، وَالْعُلَمَاءُ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَفِي فِعْلِ مَنْ يُسْكِتُ الطَّلَبَ إخْمَادٌ لِلْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون بَعْضُ الطَّلَبَةِ لَمْ تَظْهَرْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَيُرِيدُ أَنْ يَبْحَثَ فِيهَا حَتَّى تَبِينَ لَهُ ، أَوْ عِنْدَهُ سُؤَالٌ وَارِدٌ يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَهُ حَتَّى يُزِيلَ مَا عِنْدَهُ ، فَيُسْكَتَ إذْ ذَاكَ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الْمَقْصُودِ .

وَكَذَلِكَ الْمُدَرِّسُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسْكِتَ أَحَدًا إلَّا إذَا خَرَجَ عَنْ الْمَقْصُودِ أَوْ كَانَ سُؤَالُهُ وَبَحْثُهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فَيُسْكِتُهُ الْعَالِمُ بِرِفْقٍ وَيُرْشِدُهُ إلَى مَا هُوَ أَوْلَى فِي حَقِّهِ مِنْ السُّكُوتِ أَوْ الْكَلَامِ ، فَكَيْفَ يَقُومُ عَلَى الطَّلَبَةِ شَخْصٌ سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْ الْعَوَامّ النَّافِرِينَ عَنْ الْعِلْمِ فَيُؤْذِيهِمْ بِبَذَاءَةِ لِسَانِهِ وَزَجْرِهِ بِعُنْفٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى نُفُورِ الْعَامَّةِ أَكْثَرَ سِيَّمَا وَمِنْ شَأْنِهِمْ النُّفُورُ فِي الْغَالِبِ مِنْ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهِمْ ، وَالنُّفُوسُ فِي الْغَالِبِ تَنْفِرُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهَا ، فَإِذَا رَأَى الْعَوَامُّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْمَذْمُومَ يُفْعَلُ مَعَ الطَّلَبَةِ أَمْسَكَتْ الْعَامَّةُ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا يُضْطَرُّونَ إلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَتْمًا لِلْعِلْمِ وَاخْتِصَاصًا بِهِ كَمَا سَبَقَ .
وَشَأْنُ الْعَالِمِ سَعَةُ الصَّدْرِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ عَنْ سُؤَالِ الْعَامَّةِ وَجَفَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ ؛ إذْ أَنَّهُ مَحَلُّ الْكَمَالِ وَالْفَضَائِلِ وَقَدْ عَلِمَ مَا فِي سَعَةِ الْخُلُقِ مِنْ الثَّنَاءِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنَاقِبِ الْعُلَمَاءِ مَا لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } فَتَخْصِيصُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخُلُقَ بِالذِّكْرِ فِيهِ تَخْصِيصٌ عَظِيمٌ وَإِرْشَادٌ بَلِيغٌ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ ، وَالِاتِّصَافِ بِهِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ الْمَمْدُوحَةِ شَرْعًا .
فَإِنْ قَالَ الْعَالِمُ مَثَلًا : إنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُسْكِتَهُمْ فَأَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَنْ يُسْكِتُهُمْ عَنْهُ ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى هَلُمَّ جَرًّا .
أَمَّا

فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَجّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى نَاقَتِهِ ، وَهَذَا يَسْأَلُهُ ، وَهَذَا يُحَدِّثُهُ ، وَهَذَا يُنَادِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ ثَمَّ حَاجِبٌ وَلَا طَرَّادٌ وَلَا إلَيْك إلَيْك وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ } .
وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ لِلتَّشْرِيعِ لِأُمَّتِهِ فَإِنَّهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ الْكُبْرَى وَالْمَنْزِلَةِ الْمُنِيفَةِ الْعُظْمَى عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْعُدُ لِلنَّاسِ عُمُومًا وَيَتَكَلَّمُ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهِ مِنْ التَّبْلِيغِ وَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ ، وَاَللَّهُ يُعْطِي } انْتَهَى .
فَأَخْلَصَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطِيَّةَ وَالْهِبَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ .
وَكَلَامُهُ كَانَ عَامًّا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْعَالِمِ أَنْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ بِإِلْقَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ إذْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَسَاوَوْا فِي الْأَحْكَامِ وَبَقِيَتْ الْمَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى يَخُصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ فِي أَمْرٍ أَنَّهُ لَا يَنْجَحُ ، وَمِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَنْ يَخْتَارَ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّعْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَأَمَّا فِعْلُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَكَثِيرٌ فِي هَذَا الْبَابِ بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ أَنْ يَنْوِيَ بِجُلُوسِهِ إظْهَارَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ عَادَتْ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بَرَكَةُ تِلْكَ النِّيَّةِ السُّنِّيَّةِ

فَيُوَفَّقُ وَيُسَدَّدُ وَيُعَانُ وَيُحْمَلُ وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا يَتَوَقَّعُهُ غَيْرُهُ ، أَوْ يُصِيبُهُ مِنْ الْمَلَلِ وَالسَّآمَةِ وَالضَّجَرِ وَالْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَيَحْتَمِلُهُمْ كَاحْتِمَالِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ، بَلْ هُمْ أَعْظَمُ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً مِنْ أَوْلَادِهِ ؛ لِأَنَّ جُلُوسَهُ مَعَهُمْ إنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا عَنْ حَظِّ النَّفْسِ ، وَشَفَقَتُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ لَهُ فِيهَا حَظُّ الْبَشَرِيَّةِ فِي الْغَالِبِ فَكَانَ احْتِمَالُهُ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْبَرَكَةُ حَاصِلَةٌ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ بَابِ الْمَدْرَسَةِ وَأَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَبْوَابِهِمْ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِالْحَاجِبِ وَالنَّقِيبِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا الْمَعْنَى ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ بِفَتْوَى إلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ يَجِدُ الْحَاجِبَ وَالْبَوَّابَ وَغَيْرَهُمَا يَمْنَعُونَهُ ، بَلْ يَمْتَنِعُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الْبِغَالَ وَالْغِلْمَانِ الَّذِينَ عَلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ ، وَلَا يَتَجَاسَرُ أَنْ يَصِلَ الْبَابَ بَلْ يَنْصَرِفُ وَيَتْرُكُ مَا جَاءَ بِسَبَبِهِ .
وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الرُّكُوبَ عَلَى الدَّوَابِّ مَكْرُوهٌ ، بَلْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ جَائِزًا فَمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ ، وَهُوَ صَحِيحُ الْبَدَنِ فَرُكُوبُهُ مِنْ الْقِسْمِ الْجَائِزِ ، وَمَنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَكَانَ أَخْذُ الدَّرْسِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَيَزِيدُ مَرَضُهُ بِهِ زِيَادَةً تَضُرُّهُ شَرْعًا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَاجِبًا .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَرِيبَ الدَّارِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمَشْيَ فِي حَقِّ هَذَا أَفْضَلُ ، إذْ أَنَّهُ مَاشٍ إلَى أَصْلِ الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفْتِي قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَجَاءَ إلَى بَيْتِ الْمَدْرَسَةِ وَجَدَ الْحُجَّابَ أَغْلَظَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ،

وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْبَابِ وَجَدَ مَنْ يَمْنَعُ وُصُولَ خَبَرِهِ إلَى الْعَالِمِ حَتَّى إنَّهُ قَدْ يَبْذُلَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يُوصِلَ الْفَتْوَى إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ يُكَلِّمَهُ .
وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ ، فَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَكَانَ النَّاسُ يَتَوَصَّلُونَ إلَى قَضَاءِ أَغْرَاضِهِمْ مِمَّا يُضْطَرُّونَ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا خَرَجَ مِنْهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَخْرُجُ فِي الْغَالِبِ عَلَى صِفَةٍ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ ، وَقَدْ يَخْرُجُ بَعْضُهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ نَقِيبٍ وَلَا غَيْرِهِ وَهُوَ نَادِرٌ ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ، وَتَفْصِيلُ هَذَا يَطُولُ وَبِالْجُمْلَةِ فَفِيمَا أُشِيرُ إلَيْهِ غُنْيَةٌ عَنْ الْبَاقِي .

وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا جَاءَتْهُ الْفَتْوَى أَنْ يَسْأَلَ عَمَّنْ وَقَعَتْ لَهُ حَتَّى يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِهِ إنْ كَانَ حَاضِرًا أَوْ يُسَهِّلَ حُضُورَهُ وَيَتَثَبَّتَ فِي فَهْمِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَسْمَعُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَرَقَةَ قَدْ يُكْتَبُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ فَيُفْتِي عَلَى وَهْمٍ أَوْ غَلَطٍ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ صَوَابًا عَلَى مَا رَآهُ مَكْتُوبًا ، فَإِنْ تَعَذَّرَ حُضُورُ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ النَّازِلَةُ فَشَأْنُ الْعَالِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ جَهْدَهُ وَأَنْ يَأْمُرَ مَنْ أَتَى بِالْفَتْوَى أَنَّهُ يُعَاوِدُ صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ إنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ أَنْ لَا يُفْتِيَ إلَّا بَعْدَ التَّحَرُّزِ الْكُلِّيِّ وَالتَّحَفُّظِ الْعَظِيمِ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ وَيَنْشَرِحَ صَدْرُهُ ، ثُمَّ بَعْدَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ لِذَلِكَ وَالْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ أَمْرِ الْفَتْوَى لَا يُعَجِّلُ بِالْكَتْبِ عَلَيْهَا بَلْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ إلَى وَقْتِ الدَّرْسِ ، فَيَعْرِضُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَرَى رَأْيَهُ وَرَأْيَهُمْ فِيهَا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ فَإِنْ وَافَقَ مَا عِنْدَهُ مَا قَالُوهُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ خَالَفُوهُ بَحَثَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَبْدَى لَهُمْ مَا يُرِيدُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ الْمَسْأَلَةَ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ كَتَبَ عَلَيْهَا بِمَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَهُ وَلْيَحْذَرْ مِنْ الْعَجَلَةِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ وَيُفْتِي بِمَا تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ الْغَلَطَ فِي ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يُسْتَدْرَكَ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِالزَّيَّاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَاسْتَفْتَتْهُ فَأَجَابَهَا ثُمَّ مَضَتْ لِسَبِيلِهَا فَمَا هُوَ إلَّا قَلِيلٌ ، وَإِذَا بِالشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَجَعَلَهُ فِي فَمِهِ

وَخَرَجَ يَجْرِي حَافِيًا إلَى أَنْ لَحِقَ الْمَرْأَةَ فَأَخَذَ الْفَتْوَى مِنْهَا ، ثُمَّ رَجَعَ فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ ، فَقَالَ : ذَكَرْت أَنِّي وَهَمْت فِي جَوَابِهَا فَأَسْرَعْت لِئَلَّا تَفُوتَنِي ، فَقَالُوا لَهُ : لَوْ أَمَرْتنَا لَفَعَلْنَا ذَلِكَ ، فَقَالَ : مَا هِيَ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ مِنْكُمْ فَلَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَكَانَ أَحَدُكُمْ يَقُومُ عَلَى هَيِّنَتِهِ ، وَحَتَّى يَلْبَسَ نَعْلَيْهِ ، وَحَتَّى يَمْشِيَ الْمَشْيَ الْمُعْتَادَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ قَلِيلًا ، فَقَدْ تَفُوتُ الْمَرْأَةُ وَلَا تُعْلَمُ جِهَتُهَا ، وَاَلَّذِي تَتَعَلَّقُ الْمَسْأَلَةُ بِذِمَّتِهِ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا جَرَى عَلَيْهِ فَيُبَادِرُ إلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ .
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَاءَتْهُ الْفَتْوَى يَقُولُ لِمَنْ أَتَى بِهَا : مَا يُمَكِّننِي أَنْ أَكْتُبَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ قَدْ يُزَادُ فِيهِ وَيُنْقَصُ فَيَقَعُ مُخَالِفًا لِمَا الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ ، فَلَا يُفْتِي حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُ النَّازِلَةِ ، فَإِذَا حَضَرَ سَأَلَهُ عَمَّا وَقَعَ لَهُ فَيُخْبِرُهُ بِهِ فَيَقُولُ لَهُ : إذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ يَحْضُرُ الْجَوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِذَا جَاءَ مِنْ الْغَدِ يَسْأَلُهُ الْجَوَابَ يَقُولُ لَهُ الشَّيْخُ : أَعِدْ عَلَيَّ الْمَسْأَلَةَ فَإِذَا أَعَادَهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِمَا قَالَهُ بِالْأَمْسِ بَحَثَ فِيهَا مَعَ مَنْ حَضَرَهُ ثُمَّ أَفْتَاهُ أَوْ كَتَبَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ خَالَفَ مَا قَالَهُ بِالْأَمْسِ قَالَ لَهُ الشَّيْخُ : أَيُّمَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي بِالْأَمْسِ أَوْ الَّذِي بِالْيَوْمِ فَيَرُدُّهَا وَلَا يُفْتِي لَهُ فِيهَا بِشَيْءٍ ، وَيَقُولُ لَهُ : لَا أَعْلَمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ حَتَّى أُفْتِيَ عَلَيْهِ ، هَكَذَا هُوَ حَالُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّحَرُّزِ عَلَى ذِمَمِهِمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً لَا تَحْتَاجُ إلَى بَحْثٍ وَلَا تَطْوِيلِ نَظَرٍ ، فَلَا بَأْسَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلسَّدَادِ بِمَنِّهِ .
فَلَوْ مَشَى الْعَالِمُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ الْقَوِيمِ

لَحَصَلَ لَهُ فَائِدَتَانِ عَظِيمَتَانِ : إحْدَاهُمَا : بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ .
وَالثَّانِي : انْتِفَاعُ مَنْ حَضَرَهُ وَتَعْلِيمُهُمْ فِي أَقَلِّ زَمَانٍ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الدَّرْسِ سَهْلٌ يَسِيرٌ فِي الْغَالِبِ إذْ النُّبَهَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ قَدْ طَالَعُوا عَلَيْهِ غَالِبًا ، وَهُمْ قَدْ عَرَفُوا مَأْخَذَهُ وَمُرَادَهُ وَمُشْكِلَاتِهِ وَالْجَوَابَ عَنْهَا وَحَلَّهَا وَالْفَتَاوَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا نَوَازِلُ تَنْزِلُ عَلَى غَيْرِ تَعْبِيَةٍ وَلَا أُهْبَةٍ ، وَفِيهَا تَظْهَرُ نَبَاهَةُ طَلَبَتِهِ وَتَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا الْفَائِدَةُ الْجَمَّةُ وَالتَّثَبُّتُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَعُ لَهُمْ مِنْهَا .
وَعَنْ ابْنِ يُونُسَ قَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَيُؤْخَذُ مِمَّنْ سِوَاهُمْ : لَا يُؤْخَذُ مِنْ مُبْتَدِعٍ يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ ، وَلَا سَفِيهٍ مُعْلِنٍ بِسَفَهِهِ ، وَلَا مِمَّنْ يَكْذِبُ فِي حَدِيثِ النَّاسِ ، وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الشَّأْنَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ وَلَا يَكُونُ إمَامًا أَبَدًا ، ثُمَّ قَرَأَ { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } انْتَهَى ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ أَوْ يَسْعَى فِي طَلَبِ التَّدْرِيسِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ مَدْرَسَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْلِسُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُعَلِّمُ وَيَتَعَلَّمُ وَيُفِيدُ وَيَسْتَفِيدُ لِكَيْ يَظْهَرَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَرَّمَهُ أَوْ كَرِهَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ ، فَمَا كَانَ أَصْلُهُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا جَانَسَهَا فَيَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْلِطَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقْذَارِ الدُّنْيَا .
وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَعَالِي الْأُمُورِ وَأَكْمَلِهَا إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ وَهُدًى لِلْمُهْتَدِينَ ، فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَتَسَبَّبُ فِيمَا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي طَلَبِ حُطَامِ الدُّنْيَا ، وَالْغَالِبُ أَنَّ النُّفُوسَ

تَأْنَسُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ ذَمُّهُ مَوْجُودًا فِي الْكُتُبِ وَأَحْوَالِ السَّلَفِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَكِنَّ شَأْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ فِي وَقْتِهِمْ ، وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ إيثَارًا لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَغْرَاضِهِمْ .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهِ صِيَانَةً لِلْعِلْمِ وَإِقَامَةً لِحُرْمَتِهِ ، بَلْ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلْيَتَرَبَّصْ وَلْيَسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى وَيَسْتَشِرْ وَلَا يَعْجَلْ ، فَإِنَّ الْعَجَلَةَ مِنْ الشَّرَاهَةِ ، وَالشَّرَاهَةُ مَذْمُومَةٌ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } انْتَهَى .
وَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ وَكَانَ أَخْذُهُ لِذَلِكَ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِشْرَافٍ مِنْهُ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَالْبَرَكَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ وَالْمَأْمُولُ ؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الْقَلِيلِ أَغْنَتْ عَنْ الْكَثِيرِ وَأَعَانَتْ عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا سَأَلَهُ كَانَتْ يَدُهُ سُفْلَى ، وَلَيْسَ هَذَا مَنْصِبَ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعُلَمَاءِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعُلْيَا ، وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الطَّلَبِ لِمَا ذُكِرَ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ وَالْمُلَازِمِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ تَقِيَّةً عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ لَمْ يُضَيِّعْ اللَّهُ الْكَرِيمُ قَصْدَهُ ، وَأَتَاهُ بِهِ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْبِهِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ ، وَسَدَّ خَلَّتَهُ وَأَعَانَهُ عَلَى مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ ، وَلَيْسَ رِزْقُهُ بِمُنْحَصِرٍ فِي جِهَةٍ بِعَيْنِهَا .
وَعَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

يَرْزُقُ مَنْ هَذَا حَالُهُ مِنْ غَيْرِ بَابٍ يَقْصِدُهُ أَوْ يُؤْمَلُهُ ، بَلْ الْأَمْرُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لِلَّهِ تَعَالَى بِهِ اعْتِنَاءٌ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بِهِ كُلَّ جِهَةٍ يُؤَمِّلُهَا أَوْ يَقْصِدُهَا ؛ لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ انْقِطَاعُهُمْ إلَيْهِ وَتَعْوِيلُهُمْ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ عَلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُونَ إلَى الْأَسْبَابِ ، بَلْ إلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ وَمُدَبِّرِهَا وَالْقَادِرِ عَلَيْهَا .
وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْعَالِمُ كَذَلِكَ ، وَهُوَ الْمُرْشِدُ لِلْخَلْقِ وَالْمُوَضِّحُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لِلسُّلُوكِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَمَنْ تَرَكَ جِهَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ قَاصِدٌ إلَى أُخْرَى فَيُبَدَّلُ عَنْهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا .
قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } انْتَهَى فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَالِمَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ بَيْتٍ أَوْ مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءً فِي حَقِّهِ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِيءُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ عَنْهُ الْمَعْلُومُ لَا يَتَسَخَّطُ وَلَا يَتَضَجَّرُ وَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ ، بَلْ يَزِيدُ فِي الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى أَنَّهُ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَنْبَغِيَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ عَلَى بَابِهِ لَا عَكْسَ الْحَالِ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي كَوْنِهِ يَخَافُ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ حَاسِدٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِمَّنْ يَخْشَى أَنَّهُ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ ، أَوْ يَرْجُو أَحَدًا مِنْهُمْ فِي دَفْعِ شَيْءٍ مِمَّا يَخْشَاهُ ، أَوْ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنْهُمْ ، فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ عُذْرٌ يَنْفَعُهُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ ذَلِكَ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ خَائِفًا مِمَّا ذُكِرَ فَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ إشْرَافِ النَّفْسِ ، وَقَدْ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ مَنْ يَتَرَدَّدُ إلَيْهِ فِي مَعْلُومِهِ عُقُوبَةً لَهُ مُعَجَّلَةً .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَهُوَ يَرْتَكِبُ أَمْرًا مَحْذُورًا مُحَقَّقًا لِأَجْلِ مَحْذُورٍ مَظْنُونٍ تَوَقُّعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْوَقْتِ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا ، بَلْ الْإِعَانَةُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا هُوَ الِانْقِطَاعُ عَنْ أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرُّجُوعُ إلَيْهِ ، إذْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْقَاضِي لِلْحَوَائِجِ وَالدَّافِعُ لِلْمَخَاوِفِ وَالْمُسَخِّرُ لِقُلُوبِ الْخَلْقِ وَالْإِقْبَالُ بِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ كَيْفَ يَشَاءُ .
قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ خِطَابًا لِسَيِّدِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ : { لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا فِي مَعْرَضِ الِامْتِنَانِ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْعَالِمُ إذَا كَانَ

مُتَّبِعًا لَهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ سِيَّمَا فِي التَّعْوِيلِ عَلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالسُّكُونِ إلَيْهِ دُونَ مَخْلُوقَاتِهِ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُعَامِلُهُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي عَامَلَ بِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَسْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ التَّرَدُّدِ إلَى أَبْوَابِ مَنْ لَا يَنْبَغِي كَاَلَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُوَ سُمٌّ قَاتِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَحْوَالِهِمْ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ لَا غَيْرُ ، بَلْ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ مَا هُوَ أَشَدُّ وَأَشْنَعُ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ تَرَدُّدَهُمْ إلَى أَبْوَابِهِمْ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ أَوْ مِنْ بَابِ إرْشَادِهِمْ إلَى الْخَيْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْطِرُ لَهُمْ وَهُوَ كَثِيرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى ، وَإِذَا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ فَقَدْ قَلَّ الرَّجَاءُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ إذْ أَنَّهُ لَا يَتُوبُ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ الْخَيْرِ .
وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْعَدْلَ إذَا تَرَدَّدَ لِبَابِ الْقَاضِي فَإِنَّ ذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ وَتُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّرَدُّدِ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَهُوَ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَالِمٌ مَجْلِسُهُ مِمَّا يَجْرِي فِي مَجَالِسِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ، فَكَيْفَ التَّرَدُّدُ لِغَيْرِ الْقَاضِي ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْجَبُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ

( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَ الدَّرْسَ لِعَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِنَازَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ يَأْخُذُ عَلَى الدَّرْسِ مَعْلُومًا ، فَإِنَّ الدَّرْسَ إذْ ذَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَحُضُورُ الْجِنَازَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ يَتَعَيَّنُ ، فَإِنَّ الذِّمَّةَ مَعْمُورَةٌ بِهِ وَلَا شَيْءَ آكَدُ وَلَا أَوْجَبُ مِنْ تَخْلِيصِ الذِّمَّةِ ، إذْ تَخْلِيصُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ، فَلَوْ حَضَرَ الْجِنَازَةَ وَأَبْطَلَ الدَّرْسَ لِأَجْلِهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ مِنْ الْمَعْلُومِ مَا يَخُصُّ ذَلِكَ ، بَلْ لَوْ كَانَ الدَّرْسُ لَيْسَ لَهُ مَعْلُومٌ لَتَعَيَّنَ عَلَى الْعَالِمِ الْجُلُوسُ إلَيْهِ ، إذْ أَنَّهُ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَلَسَمَاعُ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَالِمِ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةً مَبْرُورَةً كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فَضْلِ الْجِنَازَةِ ؟ ، وَقَدْ مَاتَ أَحَدُ أَوْلَادِ الْحَسَنِ أَوْ الْحُسَيْنِ فَخَرَجَ لِجِنَازَتِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَبَقِيَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَخْرُجُ إلَى جِنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ مُجِيبًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ : صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ حُضُورِ جِنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فَضَّلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ نَافِلَةً عَلَى حُضُورِهَا فَمَا بَالُكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَا بَالُكَ بِإِلْقَاءِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ خَيْرُ مُتَعَدٍّ سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا .

وَكَذَلِكَ لَا يَتْرُكُ الدَّرْسَ لِأَجْلِ مَرِيضٍ يَعُودُهُ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ التَّعْزِيَةِ وَالتَّهْنِئَةِ الْمَشْرُوعَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَنْدُوبٌ ، وَإِلْقَاءُ الْعِلْمِ مُتَعَيِّنٌ إنْ كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْلُومًا بَلْ لَوْ عَرِيَ عَنْهُمَا مَعًا لَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ مِنْ أَنَّهُ يَتْرُكُ مَا نُدِبَ إلَيْهِ لِأَجْلِهِ ، فَمَا بَالُكَ بِبَطَالَةِ الدَّرْسِ لِأَجْلِ بِدْعَةٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ كَثُرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَيُبْطِلُونَ الدَّرْسَ لِأَجْلِ الصُّحْبَة لِأَجْلِ الْمَيِّتِ أَوْ الثَّالِثِ لَهُ أَوْ تَمَامِ الشَّهْرِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْفَرَحِ كَالْعَقِيقَةِ وَغَيْرِهَا كَالسَّلَامِ عَلَى الْغَائِبِ وَالتَّهْنِئَةِ بِوِلَايَةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَنْدُوبًا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الدَّرْسِ إذَا سَلِمَ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ مَعَ إظْهَارِ تَقْبِيحِهِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَى فَاعِلِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَهُ .
وَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ مَاشِيًا عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ انْسَدَّتْ بِهِ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يُبْطِلُونَ الدُّرُوسَ لِبِدْعَةِ الصُّبْحَةِ أَوْ الثَّالِثِ أَوْ التَّهْنِئَةِ بِوِلَايَةِ خُطَّةٍ أَوْ السَّلَامِ عَلَى غَائِبٍ قَدِمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَيَتْرُكُونَ الْوَاجِبَ وَيَصِيرُ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ مَا فِيهِ ، وَيَمْضُونَ إلَى بِدْعَةٍ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ فَعَلُوهَا وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِحَسْبِ مَا يَخْطِرُ لَهُ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي تَأْبَاهَا قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ .

مِثَالُهُ أَنْ يَتْرُكَ الدَّرْسَ وَيَرُوحَ إلَى تَهْنِئَةِ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَنْصِبَ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَرْجُوهُ لِمَنْصِبٍ آخَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي الْمَدْرَسَةِ إذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ هَلْ هِيَ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ فَلَا بَأْسَ إذَنْ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شُبْهَةٍ فَالْعُلَمَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ الشُّبُهَاتِ بَلْ يَتَأَكَّدُ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِمْ .
وَقَدْ يَصِيرُ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ فِي حَقِّهِمْ وَاجِبًا ؛ لِأَنَّهُمْ الْقُدْوَةُ وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ ، فَإِذَا اقْتَحَمُوا الشُّبُهَاتِ اقْتَدَى بِهِمْ النَّاسُ فِي تَنَاوُلِهَا ، وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَعْلُومِ الَّذِي قُرِّرَ لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْغَصْبُ ، وَأَمَّا مَعَ التَّعْيِينِ فَلَا يَحِلُّ وَقَدْ كَثُرَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَغْصِبُ الْمَوَاضِعَ ، وَكَذَلِكَ الْآلَاتُ مِثْلَ الْأَعْمِدَةِ وَالرُّخَامِ وَالشَّبَابِيكِ .
وَقَدْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْمَسَاجِدِ وَبَعْضِ الْبُيُوتِ وَبَعْضِ الْحَمَّامَاتِ عَلَى يَقِينٍ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُغْضِبُونَ النَّاسَ مِنْ الصُّنَّاعِ وَغَيْرِهِمْ فِي بِنَائِهَا بِذَلِكَ ، ثُمَّ مَعَ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيِّ قَلَّمَا يُوضَعُ الْأَسَاسُ إلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ الْخُطْبَةُ فِي طَلَبِ تَوْلِيَةِ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ ، وَلَا يَصِلُ إلَى تَوْلِيَتِهَا إلَّا مَنْ لَهُ الشَّوْكَةُ الْقَوِيَّةُ فَكَيْفَ يَقَعُ السَّعْيُ فِي مَوْضِعٍ وَقَعَ بِنَاؤُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ يَقُولُ : كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ شَيْءٌ فَلْيَأْتِ لَقَامَ نَاسٌ يَدَّعُونَ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُثْبِتُونَ ذَلِكَ ، فَيَصِيرُ تَصَرُّفُ هَذَا الْعَالِمِ فِي مِلْكِ النَّاسِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ، وَهَذَا أَمْرٌ قَبِيحٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يُقْدِمُ عَلَيْهِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَثِيرٌ مِنْ

الْمَدَارِسِ بُنِيَتْ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَرَامًا بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ عَلَى مَدْرَسَةٍ قَدِيمَةٍ فَيَقُولُ : كُلُّ مَنْ غُصِبَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ فَلْيَأْتِ يَأْخُذُ مَا غُصِبَ مِنْهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ لِانْقِرَاضٍ صَاحِبِهَا وَانْقِرَاضِ وَرَثَتِهِ أَوْ الْجَهْلِ بِهِمْ فِي الْغَالِبِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ مَجْهُولًا لَا تُعْرَفُ جِهَاتُهُ وَلَا أَرْبَابُهُ فَيَرْجِعُ إذْ ذَاكَ إلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ مُرْصَدٌ فِيهِ لِمَصَالِحِهِمْ وَمِنْ أَهَمِّهَا إقَامَةُ وَظِيفَةِ إلْقَاءِ الْعِلْمِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ وَتَحْصِيلِهِ ، فَقَدْ افْتَرَقَا فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَذَا عَلَى جَوَاز التَّصَرُّفِ فِي الْحَرَامِ الْبَيِّنِ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَارَ فِي الذِّمَّةِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُعَيَّنًا ، فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِصَاحِبِهِ وَالْغَاصِبُ لَهُ مَأْمُورٌ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِرَدِّهِ لِمُسْتَحِقِّهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذِمَّةَ هَذَا الْغَاصِبِ مُسْتَغْرَقَةٌ لِكَثْرَةِ غَصْبِهِ وَكَثْرَةِ الْحُقُوقِ الْمُرَتَّبَةِ فِيهَا ، فَصَارَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَإِنْ كَثُرَتْ مُسْتَحَقَّةٌ لِأَرْبَابِهَا ، وَتَبْقَى الْفَضَلَاتُ الْكَثِيرَةُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَا فِي يَدِهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ الضَّرُورَاتِ أَلْجَأَتْ إلَى أَخْذِ هَذِهِ الْجِهَاتِ وَالْمَوَاضِعِ لِكَثْرَةِ الْعَائِلَةِ وَالْمَلَازِمِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مَأْخُوذٌ مِمَّا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ وَصَرَّحَ بِهِ .
قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ فِي مَعْرَضِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى

مَنْ عَدَا الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ فَإِنَّهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ .
وَمَعَ كَثْرَةِ عَائِلَتِهِمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْإِقَامَةِ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ ، فَكُلٌّ فِي ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ .
وَقَدْ كَانَ عَيْشُهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَاشْتُهِرَ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ وَخَشِنِ الْمَلْبَسِ وَقِلَّةِ الْجِدَّة ، تَكْرِيمًا لَهُمْ وَتَرْفِيعًا لِمَنَازِلِهِمْ السَّنِيَّةِ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُحِبُّونَ الْفَقْرَ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ وَيَهْرُبُونَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا ، لَا جَرَمَ أَنَّا لَمَّا أَخَذْنَا فِي الضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ جَاءَ الْخَوْفُ مِنْ الْفَقْرِ وَالِاعْتِلَالِ بِالْعَائِلَةِ ، فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ احْتَجَّ بِالضَّرُورَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَأَحْوَالِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : مَا أَتَى عَلَى مَنْ أَتَى فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَّا مِنْ الضَّرُورَاتِ الْمُعْتَادَاتِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ ، فَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ الضَّرُورَاتُ تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهَا .
مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْفَقِيهُ : لَا بُدَّ مِنْ فَوْقَانِيَّةٍ عَلَى صِفَةٍ ، لَا بُدَّ مِنْ عِمَامَةٍ عَلَى صِفَةٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ كُتُبٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَابَّةٍ ، فَإِذَا جَاءَتْ الدَّابَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ غُلَامٍ وَكُلْفَةٍ فِي الْغَالِبِ ، وَلَا بُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَغْلَةٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ لِغُلَامِهِ بَغْلَةً أَيْضًا ، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْغُلَامُ إلَى زَوْجَةٍ ، فَلَا يَزَالُ هَكَذَا فِي ضَرُورَاتٍ حَتَّى يَرْجِعَ فِي الدُّنْيَا مُتَّسِعَ الْحَالِ وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ مَضْرُورٌ ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ فِي الْوَقْتِ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقُول :

أَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ نَظَرًا مِنْهُ إلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَأَشْبَاهِهِ مِنْ الْمَسْكَنِ عَلَى صِفَةٍ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ وَالْأَوَانِي وَالْجَوَارِي وَالْخَدَمِ وَالْغِلْمَانِ ، فَتَأْتِي الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ ، وَهُوَ مَهْمُومٌ تَجِدُهُ يَشْكُو مِنْ كَثْرَةِ الضَّرُورَاتِ الَّتِي يَدَّعِيهَا ، فَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ الضَّرُورَاتُ تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَّا شَرْعِيَّةٌ ، وَالضَّرُورَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا فِي الْغَالِبِ إلَى كُلْفَةٍ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الضَّرُورَاتِ الَّتِي لَهُمْ إنَّمَا حَدَثَتْ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَتَّبِعُ الشَّرْعَ وَيَحُثُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ الْقُدْوَةُ ، وَعَلَى أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ يَدُورُ أَمْرُ النَّاسِ فِي اقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي ذَلِكَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ آكَدُ الْأُمُورِ وَأَهَمُّهَا عِنْدَهُ الْقَنَاعَةَ ؛ لِأَنَّ بِهَا يَسْتَعِينُ عَلَى مَا أَخَذَ بِصَدَدِهِ ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْصِبٌ مِنْ حِلٍّ وَكَانَ لَهُ غُنْيَةٌ عَنْهُ ، فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى أَخْذِهِ ، وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَخْذِهِ وَالتَّصَدُّقِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِنْ الرِّفْقِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ طَلَبِ الدُّنْيَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَخْذِهَا وَالتَّصَدُّقِ بِهَا .
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ كَانَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنْ رَفْضِ الدُّنْيَا .
، وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ ثَوْرٍ قُلْت لِلْحَسَنِ : يَا أَبَا سَعِيدٍ رَجُلَانِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الدُّنْيَا بِحَلَالِهَا فَأَصَابَهَا فَوَصَلَ بِهَا رَحِمَهُ وَقَدَّمَ فِيهَا لِنَفْسِهِ وَرَجُلٌ رَفَضَ الدُّنْيَا قَالَ : أَحَبُّهُمَا إلَيَّ الَّذِي رَفَضَ الدُّنْيَا ، قَالَ : فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا اعْتَدَلَ الرَّجُلَانِ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ الَّذِي جَانَبَ الدُّنْيَا انْتَهَى .
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ وَيُبَيِّنُهُ مَا خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا : بَلَى قَالَ : ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى .

الْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى أَعْلَى الْأُمُورِ وَأَسْنَاهَا ؛ وَلِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَجَلِّهَا ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ عِوَضًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ بِالنِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فَنَعَمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا جَرَى لِلشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي إِسْحَاقَ التِّنِّيسِيِّ فِي شَرْبَةِ لَبَنٍ ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى مَا هُنَا ، بَلْ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْمَنْصِبُ ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ وَيَتْرُكَهُ إقَامَةً لِحُرْمَةِ الْعِلْمِ ، وَلِكَيْ يَتَّصِفَ بِصِفَاتِ أَهْلِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ دُونَ زِيَادَةٍ ، وَيَقْتَصِرَ عَلَيْهَا .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، انْسَدَّتْ بِهِ هَذَا الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ لَهُ فِي الْمَدْرَسَةِ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا ، وَفِي الْأُخْرَى دُونَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ ، فَتَجِدُ بَعْضَ الْمُدَرِّسِينَ لَهُ دُنْيَا كَثِيرَةٌ ، وَهُوَ يَدَّعِي الضَّرُورَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَرِهِمْ إلَى الضَّرُورَاتِ الْمُعْتَادَاتِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَأْخُذُ عَلَيْهِ الْمَعْلُومَ إنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى تَعْلِيمِهِ عِوَضًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مَعَ أَنَّ التَّرْكَ أَوْلَى وَأَرْفَعُ .
وَإِذَا أَخَذَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ عَلَى نِيَّةِ الْإِعَانَةِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لَا عَلَى الْعِوَضِ وَالْإِجَارَةِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ تَعْلِيمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَخْذُهُ الرِّزْقَ لِلَّهِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَصْلٌ فِي مَوَاضِعِ الْجُلُوسِ فِي الدُّرُوسِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ الِاجْتِمَاعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيَّ وَإِلَيْك الْقَوْلُ فِي الْقِيَامِ لِلدَّاخِلِ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ وَتَفْصِيلِهِ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى مَوَاضِعِ الْجُلُوسِ وَتَبْيِينِ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنْ الْعَوَائِدِ ، فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُحَذِّرَ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ إذْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِمَنْ مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَوْلَى بِالتَّوَاضُعِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ النَّاسِ مُطَالَبِينَ بِذَلِكَ .
وَطَلَبُ مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ لِلْجُلُوسِ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالِازْدِرَاءِ بِمَنْ دُونَهُ غَالِبًا ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَمَّنْ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ سِيَّمَا مَنْ هُوَ جَالِسٌ لِإِلْقَائِهِ أَوْ لِسَمَاعِهِ ، وَالْعِلْمُ يَطْلُبُهُ بِتَرْكِ مَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ طَلَبِ الْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ وَالْأَمَانِي الْفَاسِدَةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقِيَامِ أَنَّ سِمَةَ الْعَالِمِ إنَّمَا هِيَ بِوُجُودِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ وَالتَّقَشُّفِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّنَازُلِ لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِضِدِّهِ ، وَطَلَبُ مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ لَا خَفَاءَ بِهِ ، وَالْعُلَمَاءُ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَكَانَ عَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ تُجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ عُمَرُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ ، وَقَالَ : أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا ، } قَالَ أَنَسٌ : فَهِيَ سُنَّةٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ جِهَةَ الْيَمِينِ أَفْضَلُ .
وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ فِي جِهَتِهَا وَالصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْيَسَارِ ، فَلَمْ يَضُرَّ

أَبَا بَكْرٍ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ فَضِيلَتِهِ الَّتِي أَوْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهَا إذْ أَنَّ الْفَضِيلَةَ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ لَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ ؛ فَإِنْ ظَهَرَتْ الْفَضْلَةُ لِلنَّاسِ وَأُمِرُوا بِتَعْظِيمِ صَاحِبِهَا فَلْيَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، أَلَا تَرَى { أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا أَنْ أَسْتَأْذَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَدِّمَ أَبَا بَكْرٍ ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْك أَحَدًا فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ } .
وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ : لَمَّا أَنْ أَقْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ بَيْنَ رَجُلٍ وَوَلَدِهِ فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِلْوَلَدِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ : آثِرْنِي بِهَا يَا بُنَيَّ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ : الْجَنَّةُ هَذِهِ يَا أَبَتِ لَا يُؤْثِرُ بِهَا أَحَدٌ أَحَدًا فَانْظُرْ - رَحِمنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ - كَيْفَ فَعَلَ هَذَا الصَّحَابِيُّ هَذَا الْفِعْلَ مَعَ أَبِيهِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مُتَأَكِّدٌ طَلَبُهُ فِي الشَّرْعِ لَكِنْ عَلَى مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ لَا عَلَى مَا يَخْطِرُ لَنَا أَوْ يَهْجِسُ فِي أَنْفُسِنَا .
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ مَعَ الْخَلِيفَةِ لَمَّا أَرَادَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ الْمُوَطَّأِ وَجَلَسَ الْخَلِيفَةُ إلَى جَانِبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَمَرَ وَزِيرَهُ جَعْفَرًا أَنْ يُقْرَأَ ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ لَمْ يُؤْخَذْ إلَّا بِالتَّوَاضُعِ وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَأَنْ تَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ ، فَقَامَ الْخَلِيفَةُ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، هَذَا وَهُوَ خَلِيفَةُ ذَلِكَ الزَّمَانِ مَعَ

أَنَّهُ فِي الْفَضِيلَةِ كَانَ بِحَيْثُ يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ مِنْهَا ، وَلِأَجْلِ مَا عِنْدَهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ انْقَادَ إلَى الْأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ ، وَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إلَّا رِفْعَةً وَهَيْبَةً ، بَلْ ارْتَفَعَ قَدْرُهُ بِذَلِكَ وَبَقِيَ يُثْنِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ .
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ إذَا جَمَعَ الْعَالِمُ ثَلَاثًا تَمَّتْ النِّعْمَةُ بِهِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ الصَّبْرُ وَالتَّوَاضُعُ وَحُسْنُ الْخَلْقِ ، وَإِذَا جَمَعَ الْمُتَعَلِّمُ ثَلَاثًا تَمَّتْ النِّعْمَةُ بِهِ عَلَى الْعَالِمِ الْعَقْلُ وَالْأَدَبُ وَحُسْنُ الْفَهْمِ انْتَهَى .
فَمَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لَا تَقَعُ إلَّا بِقَدْرِ النُّزُولِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا ، فَكَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ مَا صَعِدَ بِك هَاهُنَا أَعْنِي فِي رَأْسِ الشَّجَرَةِ وَأَنْتَ قَدْ نَزَلْت تَحْتَ أَصْلِهَا ، فَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِ يَقُولُ : مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ سَبَقَ إلَى مَوْضِعٍ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَكَوْنُهُ يُقِيمُ أَحَدًا مِنْ مَوْضِعِهِ ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْبِدْعَةِ وَارْتِكَابِ النَّهْيِ وَالتَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ { نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا } انْتَهَى .
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ فَعَلَى هَذَا فَحَيْثُمَا بَلَغَ بِالْإِنْسَانِ الْمَجْلِسُ جَلَسَ فَهِيَ السُّنَّةُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَارْتِكَابِ النَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَالْفَضِيلَةُ عِنْدَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّمَا هِيَ بِالِاتِّصَافِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَلَيْسَتْ بِالْمَوَاضِعِ وَلَا بِالْخُلَعِ وَلَا بِوُجُودِ الْمَنَاصِبِ ، وَلَكِنْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي التَّوَاضُعِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ ، فَلَوْ جَلَسَ مَنْ لَهُ فَضِيلَةٌ عِنْدَ الْأَقْدَامِ لَصَارَ

مَوْضِعُهُ صَدْرًا وَعَكْسُهُ عَكْسَهُ ، فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَا التَّنَافُسِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا ، فَإِنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ لِفَاعِلِهِ وَلِمَنْ يَقْتَدِي بِهِ ، وَهُوَ نَوْعٌ قَبِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي الْقِيَامِ وَاللِّبَاسِ ، بَلْ هَذَا أَشَدُّ قُبْحًا لِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلنَّهْيِ .
فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : إنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّرْفِيعِ لِلْعِلْمِ وَالتَّوْقِيرِ لَهُ .
فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، وَلَا يُتَّبَعُ غَيْرُهُمْ وَلَا يُرْجَعُ إلَّا إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حُظُوظَ النُّفُوسِ وَمُخَالَفَةَ السُّنَّةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَلَا شَيْءَ أَعْلَى وَلَا أَرْفَعَ مِنْ اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاتِّبَاعِ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ هَذَا لَزَمَانٌ لَا يُشْبِهُ ذَلِكَ الزَّمَانَ لِتَعْظِيمِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا لِأَجْلِ عِلْمِهِمْ الْغَزِيرِ وَدِيَانَتِهِمْ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ وَالسُّنَّةَ الشَّرِيفَةَ وَرَدَا جَمِيعًا لِأَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ ، وَلَمْ يَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ قَرْنًا دُونَ قَرْنٍ وَلَا قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ ، بَلْ أَتَى بِذَلِكَ عُمُومًا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ : { وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ } انْتَهَى .
أَيْ اعْمَلْ بِهِ فَالْمَنْزِلَةُ الَّتِي يُرَاعَى حَقُّهَا فِي الشَّرْعِ إنَّمَا بِالْعِلْمِ وَالِاتِّصَافِ بِالْعَمَلِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَتَقْدِيمُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا

هُوَ لِتَعْظِيمِ الدُّنْيَا فِي قُلُوبِهِمْ ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ خِلْعَةٌ أَوْ هَيْئَةٌ قَدَّمُوهُ فِي الْمَجَالِسِ ، وَمَنْ كَانَ رَثَّ الْحَالِ أَخَّرُوهُ عَكْسُ حَالِ السَّلَفِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ عَوَائِدِ أَكْثَرِهِمْ ، فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذِكْرِ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ فِي ذَلِكَ .
الْغَالِبُ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ الْإِنْصَافَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ جَائِزًا فِي الشَّرْعِ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا : أَنَّ ذَلِكَ مُجَرَّدُ حَظٍّ مَذْمُومٍ شَرْعًا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ ذَلِكَ ، بَلْ يُوَضِّحَ الْأَمْرَ وَيُنْكِرَهُ وَيَزْجُرَ فَاعِلَهُ وَيُقَبِّحَ لَهُ فِعْلَهُ وَيُشَنِّعَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ حَسْبَ اسْتِطَاعَتِهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مِمَّنْ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ لِلْفَتْوَى ، وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي أُمُورِ الدِّينِ ، وَكَانَ لَهُ مَكَانٌ يُعْرَفُ بِهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ وَالضَّرُورَاتُ لَهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ قَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ ذِكْرُ بَعْضِ آدَابِ الْعَالِمِ ، وَفِي ذِكْرِهِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ إذْ أَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا ذُكِرَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي ذَلِكَ ، لَكِنْ قَدْ يَخْتَصُّ الْمُتَعَلِّمُ بِبَعْضِ نُبَذٍ يَسِيرَةٍ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِي التَّعْلِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَأَنْ يُظْهِرَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَعَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، ثُمَّ هُوَ فِي حَقِّ الْمُتَعَلِّمِ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ مُتَّصِفٌ بِالْجَهْلِ فَيَحْرِصُ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ مِنْ الشَّوَائِبِ فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِأَجْلِ أَنْ يَرْتَفِعَ قَدْرُهُ عِنْدَ النَّاسِ ، أَوْ يُعْرَفَ بِالْعِلْمِ ، أَوْ لِمَعْلُومٍ يَأْخُذُهُ بِهِ ، أَوْ لَأَنْ يَرْأَسَ بِهِ عَلَى الْجُهَّالِ ، أَوْ لَأَنْ يُشَارَ إلَيْهِ ، أَوْ لَأَنْ يُسْمَعَ قَوْلُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُظُوظِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا الَّتِي تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى ، بَلْ يَفْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُرِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ اتَّصَفَ بِبَعْضِ مَا ذُكِرَ : { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ اذْهَبْ فَخُذْ الْأَجْرَ مِنْ غَيْرِي }

، وَلَا تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَإِذَا كَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ فَيَتَعَيَّنُ تَخْلِيصُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَبْتَدِئُهُ أَوَّلًا بِالْإِخْلَاصِ الْمَحْضِ ، حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ طَيِّبًا فَتَأْتِيَ الْفُرُوعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ فَيُرْجَى خَيْرُهُ ، وَتَكْثُرَ بَرَكَتُهُ ، وَالْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ أَنْفَعُ وَأَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ تَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ وَمِنْ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِوَجْهِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُعَانًا ، وَمَنْ طَلَبَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُهَانًا انْتَهَى هَذَا إذَا كَانَ هُوَ الدَّاخِلُ بِنَفْسِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ ، فَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ هُوَ الَّذِي يُرْشِدُهُ لِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَلِّمَهُ النِّيَّةَ فِيهِ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْشِدَهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِسَبَبِ أَنْ يَرْأَسَ بِهِ ، أَوْ يَأْخُذَ مَعْلُومًا عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنَّ هَذَا سُمٌّ قَاتِلٌ يُخْرِجُ الْعِلْمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ يَقْرَأُ ، وَيَجْتَهِدُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
فَإِنْ جَاءَ شَيْءٌ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ تَعَالَى قَبِلَهُ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ فُتُوحٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ لَا لِأَجْلِ إجَارَةٍ ، أَوْ مُقَابَلَةٍ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ إذْ أَنَّ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا عِوَضٌ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى رَاوِيَ الْمُوَطَّأِ لَمَّا أَنْ جَاءَ إلَى مَالِكٍ لِيَقْرَأَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : اجْتَهِدْ يَا بُنَيَّ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ شَابٌّ فِي سِنِّك فَقَرَأَ عَلَى رَبِيعَةَ ، فَمَا كَانَ إلَّا أَيَّامٌ وَتُوُفِّيَ الشَّابُّ فَحَضَرَ جِنَازَتَهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ ، وَلَحَدَهُ رَبِيعَةُ بِيَدِهِ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي النَّوْمِ ، وَهُوَ فِي حَالَةٍ

حَسَنَةٍ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ : غَفَرَ اللَّهُ لِي ، وَقَالَ لِمَلَائِكَتِهِ : هَذَا عَبْدِي فُلَانٌ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَبْلُغَ دَرَجَةَ الْعُلَمَاءِ فَبَلِّغُوهُ دَرَجَتَهُمْ فَأَنَا مَعَهُمْ أَنْتَظِرُ مَا يَنْتَظِرُونَ .
قَالَ فَقُلْت : وَمَا يَنْتَظِرُونَ قَالَ : الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعُصَاةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْعَى لِطَلَبِ الْمَعْلُومِ ، وَلَا فِي زِيَادَتِهِ ، وَلَا فِي تَنْزِيلِهِ فِي الْمَدَارِسِ ، وَلَا فِي الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ يُرْجَى ذَلِكَ مِنْهُمْ ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ الذَّمُّ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَدْرَسَةِ إلَى غَيْرِهَا ، وَلَا مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى غَيْرِهِ إلَّا لِفَائِدَةٍ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ ، إمَّا لَأَنْ يَكُونَ مُدَرِّسُ الْمَدْرَسَةِ الْأُخْرَى أَعْلَمَ ، أَوْ أَفْيَدَ ، أَوْ أَصْلَحَ مِنْ الْأَوَّلِ ، أَوْ لَأَنْ تَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْعِلْمِ ، وَتَثْبُتَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَقَلَّ عِلْمًا مِنْ الْأَوَّلِ لَا لِأَجْلِ مَعْلُومٍ ، فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ غَيْرَ مَا ذُكِرَ كَانَ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْمُبْتَدِي يَحْتَاجُ إلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُنْتَهِي ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَارِفٌ بِالدَّسَائِسِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ إنْ حَصَلَ لَهُ التَّوْفِيقُ لَهُ بِخِلَافِ الْمُبْتَدِي

، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَضُرُّهُ أَخْذُ الْمَعْلُومِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا سَبَقَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ تَعَلُّقِ خَاطِرِهِ بِالْأَسْبَابِ ، وَيَأْخُذُ الْمَعْلُومَ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَتَرْكُ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ أَوْلَى بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي بَحْرٍ مَخُوفٍ ، وَالْغَالِبُ فِيهِ الْعَطَبُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ يَقُولُ : { مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ } أَوْ كَمَا قَالَ .
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَعَلُّمُ الْعِلْمِ فَيُخَافُ عَلَيْهِ ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى بِهِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى مَسْأَلَةٍ فَلْيَسْأَلْ عَنْهَا أَهْلَ الْعِلْمِ ، وَحِينَئِذٍ يَقْدُمُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا عَلِمْت عِلْمًا فَلْيُرَ عَلَيْك أَثَرُهُ ، وَسَمْتُهُ ، وَسَكِينَتُهُ ، وَوَقَارُهُ ، وَحِلْمُهُ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ } .
وَعَنْ ابْنِ يُونُسَ ، وَذُكِرَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَكُونُوا يَهْذِرُونَ الْكَلَامَ هَكَذَا ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ شَهْرٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ : مِنْ الْعُلَمَاءِ طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى الْعِلْمُ أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ : أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا جَاهِلًا لَا يَعْرِفُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَلَمَّا أَنْ قَرَأَ الْعِلْمَ وَجَدَ قَوَاعِدَهُ مَاشِيَةً عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ ، فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ الْوَاجِبَ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا فِعْلُهُ ، وَكَذَلِكَ

الْمُحَرَّمُ عَكْسُهُ ، وَالْمَنْدُوبُ مَا لَهُ فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ عِقَابٌ ، وَالْمَكْرُوهُ ضِدُّهُ ، وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ فَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي فِعْلِهِ ، وَفِي تَرْكِهِ فَاتَّبَعَ الْعِلْمَ ، وَبِاتِّبَاعِهِ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ أَوَّلًا فَوَجَدَ الْعِلْمَ يَمْنَعُهَا فَتَرَكَهَا .
وَقَدْ نَقَلَ مَعْنَى هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ فَقَالَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْعَمَلُ لِلَّهِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَيَرُدُّهُ الْعِلْمُ إلَى اللَّهِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ انْتَهَى .
هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا إنْسَانٌ غُرَّ فَسَلِمَ ، وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَغُرَّ بِنَفْسِهِ ، وَيَرْجُوَ أَنْ يَسْلَمَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ تَدْعُو الضَّرُورَةُ ، وَهُوَ الْغَالِبُ إلَى طَلَبِ الْمَعْلُومِ ، وَإِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَدَارِسَ جَمَّةٍ لِأَجْلِ قِيَامِ الْبِنْيَةِ ، وَضَرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا الْبَابَ مِنْهُ ، وَقَعَ الْخَلَلُ ، وَرَجَعَتْ أَعْمَالُ الْآخِرَةِ لِمُجَرَّدِ الدُّنْيَا ، وَهُوَ عَطَبٌ عَظِيمٌ إذْ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو طَالِبُ الْعِلْمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَاثِقًا بِرَبِّهِ ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَاشْتِغَالُهُ بِالْعِلْمِ ، وَإِقْبَالُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَنْ يَدُورَ عَلَى الْمَدَارِسِ ، أَوْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِهِ خُصُوصًا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ } فَجَعَلَ الْمَشْيَ سَبَبًا لِلرِّزْقِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّك إذَا نَظَرْت إلَى تَمَامِ الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } بَانَ لَك أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ

الْكَرِيمَةِ فِيهِ التَّنْبِيهُ لِلْمُتَسَبِّبِينَ عَلَى التَّحَفُّظِ فِي مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا ، إذْ أَنَّ يَوْمَ النُّشُورِ فِيهِ الْحِسَابُ فَفِي ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْوَرَعِ فِي السَّبَبِ خِيفَةً مِنْ الْحِسَابِ وَالْمُنَاقَشَةِ يَوْمَ النُّشُورِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ } انْتَهَى .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ تَغْدُو خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا } انْتَهَى .
فَأَرْشَدَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ هَذَا إلَى تَرْكِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْأَعْمَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ ثِقَةً بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِكِفَايَتِهِ ، فَإِنَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الْكَرِيمُ ، فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّغَفُ بِالْأَسْبَابِ فَقَالَ : طَيَرَانُ الطَّائِرِ سَبَبٌ فِي رِزْقِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ طَيَرَانَ الطَّائِرِ فِي الْهَوَاءِ لَا يُمَاثِلُ التَّسَبُّبَ فِي الرِّزْقِ ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ لَيْسَ فِيهِ حَبٌّ يُلْتَقَطُ ، وَلَا جِهَةٌ تُقْصَدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ، وَلَا عَقْلَ لَهُ يُدْرِكُ بِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَيَرَانَهُ فِي الْهَوَاءِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ الرِّزْقِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَرَكَةِ يَدِ الْمُرْتَعِشِ لَا حُكْمَ لَهَا ، فَيَتَرَدَّدُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى يُؤْتَى بِرِزْقِهِ إلَيْهِ ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ إلَى رِزْقِهِ ، وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ حَمْلُ طَيَرَانِ الطَّائِرِ عَلَيْهِ أَعْنِي فِي أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الرِّزْقِ ، وَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ مُتَوَكِّلًا مَعَ

طَيَرَانِهِ ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بِهِ ، وَالْعَاقِلُ الْمُكَلَّفُ أَوْلَى بِالتَّوَكُّلِ مِنْهُ سِيَّمَا مَنْ دَخَلَ فِي بَابِ الِاشْتِغَالِ بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَهُوَ الْعَاجِزُ عَنْ التَّوَكُّلِ لِعَدَمِ قُوَّةِ الْيَقِينِ عِنْدَهُ فَالْأَسْبَابُ عَلَيْهِ مُتَّسِعَةٌ فَيَتَسَبَّبُ فِي شَيْءٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ ، بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ أَوْسَاخَ النَّاسِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ ، وَيَكْفِيهِ مَعَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ ، وَقَدْ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ فَيَصِيرُ كَثِيرًا .
وَعَلَى هَذَا كَانَ حَالُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي كَوْنِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعْلُومٌ عَلَى سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْأَرْزَاقُ عَلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَمِنْهُ دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ تَعَاطَى أَسْبَابَ الْآخِرَةِ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْدَادُ بِعِلْمِهِ بُغْضًا لِلدُّنْيَا ، وَتَرْكًا لَهَا ، فَالْيَوْمَ يَزْدَادُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ لِلدُّنْيَا حُبًّا ، وَلَهَا طَلَبًا ، وَكَانَ الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَالْيَوْمَ يَكْتَسِبُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ مَالًا ، وَكَانَ يُرَى عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ زِيَادَةُ إصْلَاحٍ فِي بَاطِنِهِ ، وَظَاهِرِهِ ، فَالْيَوْمَ تَرَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَسَادَ الْبَاطِنِ ، وَالظَّاهِرِ انْتَهَى .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهُ لَا يُمْكِنُ طَالِبَ الْعِلْمِ التَّسَبُّبُ فِي الصَّنَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ سَمْتِهِ ، وَوَقَارِهِ ، وَزِيِّهِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ فِي الزِّيِّ ، وَلَا الْمَلْبَسِ لِفَقِيهٍ ، وَلَا لِغَيْرِهِ ، وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى أَئِمَّةِ الْهُدَى أَنْ يَكُونُوا فِي مِثْلِ أَدْنَى أَحْوَالِ النَّاسِ لِيَقْتَدِيَ بِهِمْ الْغَنِيُّ ، وَلَا يَزْرِي بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ ، وَعُوتِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي لِبَاسِهِ ، وَكَانَ يَلْبَسُ الْخَشِنَ مِنْ الْكَرَابِيسِ قِيمَةُ قَمِيصِهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ إلَى خَمْسَةٍ ، وَيَقْطَعُ مَا فَضَلَ عَنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَقَالَ : هَذَا أَدْنَى إلَى التَّوَاضُعِ ، وَأَجْدَرُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ .
وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّنَعُّمِ ، وَقَالَ : { أَلَا إنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ } ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ ، وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ شِرَارِ أُمَّتِي الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ ، وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلَامِ } انْتَهَى .
أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ثَوْبِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إحْدَى عَشْرَةَ رُقْعَةً إحْدَاهَا مِنْ أَدِيمٍ ، هَذَا وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ لَائِقٍ بِهِمْ ، وَهَذَا زَمَانٌ لَا يَلِيقُ بِهِ مَا ذَكَرْتُمْ فَالْجَوَابُ : أَنَّ الزَّمَانَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ سَوَاءٌ إذْ أَنَّ الْكُلَّ عَمَّهُمْ الْخِطَابُ ، وَتَنَاوَلَتْهُمْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مُتَّصِفًا بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15