كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ


فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَمَا قَالَتْ .
وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّسَاءُ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ إذْ ذَاكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِنَّ مِنْ الرِّقَّةِ وَعَدَمِ الصَّبْرِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ أَوْ قِلَّتِهِمَا وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى وُقُوعِ مَا لَا يَنْبَغِي بِحَضْرَةِ الْمُحْتَضَرِ فَيُتَحَفَّظُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي النَّهْيِ الصَّرِيحِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ وَخَرَقَ وَدَلَقَ وَسَلَقَ } ، وَمَعْنَى حَلَقَ : حَلَقَ الشُّعُورَ وَخَرَقَ : خَرَقَ الْبَابَ وَدَلَقَ هُوَ تَخْمِيشُ الْوُجُوهِ وَالضَّرْبُ عَلَى الْخُدُودِ ، وَسَلَقَ هُوَ الْكَلَامُ الرَّدِيءُ الْقَبِيحُ وَمِنْهُ { : سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ } ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ : وَاجَبَلَاهُ وَاسَنَدَاهُ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ إلَّا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ مَلَكَيْنِ يَنْتَهِرَانِهِ وَيَقُولَانِ لَهُ : أَهَكَذَا كُنْت } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي ، وَتَقُولُ : وَاجَبَلَاه وَاكَذَا وَاكَذَا تُعَدِّدُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ : مَا قُلْتِ شَيْئًا إلَّا قِيلَ : لِي أَنْتَ كَذَا ، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ .
وَيَنْبَغِي لِمَنْ حَضَرَ مِنْ الرِّجَالِ أَنْ لَا يُظْهِرَ الْجَزَعَ إذْ ذَاكَ ، فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ لِلنِّسَاءِ كَانَ سَبَبًا لِوُقُوعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْهُنَّ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جُهْدَهُ مَعَ وُجُودِ الرِّفْقِ

وَالشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالسِّيَاسَةِ مَعَ أَهْلِ الْمَيِّتِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَقَامَ سَطْوَةَ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَتْرُكُهَا لِأَجْلِ مَا نَزَلَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَرَّرَ مَا فِيهِ مَا قَرَّرَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : فَإِذَا وَجَبَتْ أَيْ مَاتَ فَلَا تَبْكِي بَاكِيَةٌ } فَلَا يَتَعَدَّى مَا حَدَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِهِ ، أَوْ غَيْرِهِمْ فَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَحْضُرَ مَا دَامَ ذَلِكَ مَوْجُودًا ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ بَيِّنٌ وَتَغْيِيرُهُ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ ، فَإِذَا لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ عَدَمُ حُضُورِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ لَمْ يُزِلْ الْمُنْكَرَ فَلْيَزُلْ عَنْهُ } ، لَكِنَّهُ إنْ كَانَ قُدْوَةً فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ حُضُورِهِ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَقَعَ بِحَضْرَتِهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اخْتِلَاطِ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَكَشْفِ وُجُوهِهِنَّ وَتَسْوِيدِهَا وَتَسْوِيدِ بَعْضِ أَجْسَادِهِنَّ وَنَشْرِ الشُّعُورِ ، وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ ، وَهُوَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَلِبَاسِ الْأَزْرَقِ وَالسَّوَادِ ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ خَرْقِ قُعُورِ الْقُدُورِ السُّودِ وَجَعْلِهَا فِي حُلُوقِهِمْ وَسَكْبِ التُّرَابِ عَلَى الرُّءُوسِ وَتَلْطِيخِ الْبُيُوتِ بِالسَّوَادِ ، وَمَا يَجْعَلُونَهُ فِي الْأَعْنَاقِ مِنْ السَّلَاسِلِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ إلَّا التَّفَاؤُلُ بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي تَوَعَّدَ بِهَا أَهْلَ النَّارِ .
أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ .
وَتَحْفِيَتِهِمْ لِلْأَقْدَامِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ، وَبَعْضُهُمْ يَتْرُكُ لُبْسَ السَّوَادِ وَيُعَوِّضُ عَنْهُ الْبَيَاضَ ، وَإِنْ كَانَ لُبْسُ الْبَيَاضِ مُبَاحًا أَوْ مَأْمُورًا بِهِ فِي

بَعْضِ الْمَوَاطِنِ لَكِنَّ اتِّخَاذَهُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِنَانِ بِهِ بِدْعَةٌ .
وَبَعْضُهُمْ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ مَوْتِ مَيِّتِهِمْ وَلَا يَرْجِعُونَ لَهَا إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِيهَا : فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهَا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْرُكُهَا الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَمَا يُؤْمَرُونَ بِهِ ، فَيَحْرِمُهُمْ اللَّعِينُ ثَوَابَ مُصَابِهِمْ وَثَوَابَ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُهُمْ فِي الْإِثْمِ فِي تَرْكِهَا بِعَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَالْإِحْدَادُ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَضَمَّنُ الِامْتِنَاعَ مِنْ خَمْسٍ : لِبَاسِ الْمُصَبَّغَاتِ كُلِّهَا إلَّا السَّوَادَ ، وَالْحُلِيِّ ، وَالْكُحْلِ ، وَالطِّيبِ ، وَإِلْقَاءِ التَّفَثِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ؟ وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ أَيْضًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ حُضُورُ الطَّارَاتِ وَالضَّرْبُ بِهَا سِيَّمَا مَعَ النَّائِحَةِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : كُلُّ نَائِحَةٍ فِي النَّارِ إلَّا نَائِحَةَ حَمْزَةَ } وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَسِيد بْنِ أَبِي أَسِيدٍ عَنْ { امْرَأَةٍ مِنْ الْمُبَايِعَاتِ قَالَتْ : كَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَعْرُوفِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَعْصِيَهُ فِيهِ أَنْ لَا نَخْمُشَ وَجْهًا وَلَا نَدْعُوَ وَيْلًا وَلَا نَشُقَّ جَيْبًا وَلَا نَنْشُرَ شَعْرًا } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ { : أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ عَلَى مَيِّتٍ } .
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ

أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ حِينَ بَايَعَهُنَّ أَنْ لَا يَنُحْنَ فَقُلْنَ : يَا رَسُولَ إنَّ نِسَاءً سَاعَدْنَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَفَنُسَاعِدُهُنَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا إسْعَادَ فِي الْإِسْلَامِ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ فَقَالَ : إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ فَإِنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ النَّعْيِ الْأَذَانُ عَلَى الْمَيِّتِ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا .
وَلَوْ أَخَذْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ رَاحَةً وَخَفَضْنَ مِنْ أَصْوَاتِهِنَّ حِينَ نَعْيِهِنَّ ، ثُمَّ اعْتَدْنَ مَعَ ذَلِكَ عَادَةً جَاهِلِيَّةً ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ جَاءَتْ لِتُعَزِّيَ تَدْخُلُ ، وَهِيَ تَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَاللَّطْمِ عَلَى الْخُدُودِ وَتَخْمِيشِ الْوُجُوهِ ، وَتَتَلَقَّاهَا النَّوَائِحُ عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ فِعْلِهِنَّ الذَّمِيمِ وَيَتَكَلَّفْنَ إذْ ذَاكَ رَفْعَ أَصْوَاتِهِنَّ ، فَإِذَا وَصَلْنَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ قُمْنَ إلَى لِقَائِهِنَّ ، وَفَعَلْنَ مَعَهُنَّ كَفِعْلِهِنَّ وَيَعْمَلْنَ كَذَلِكَ سَاعَةً ، ثُمَّ كَذَلِكَ ، ثُمَّ كَذَلِكَ مَعَ كُلِّ مَنْ أَتَى إلَيْهِنَّ مِنْ النِّسَاءِ لِلتَّعْزِيَةِ ، وَيَبْقَيْنَ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً عَلَى قَدْرِ مَا يَنْقَطِعُ مَعَارِفُهُنَّ ، وَيَفْعَلْنَ مَعَ ذَلِكَ أَفْعَالًا قَبِيحَةً شَنِيعَةً تُنَزَّهُ الْأَقْلَامُ عَنْ كَتْبِهَا ، وَالْأَلْسُنُ عَنْ النُّطْقِ بِهَا فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذِكْرِهَا ، وَكُلُّهَا مُصَادِمَةٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَهِيَ وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَوَائِدِ الْبِلَادِ ، وَالْأَقَالِيمِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جُهْدَهُ ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْهُ فَلَا يَحْضُرُ مَوْضِعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ حَضَرَ لَكَانَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَعْنِي فِي حُصُولِ الْإِثْمِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ

اعْتِقَادُهُ لَيْسَ كَاعْتِقَادِهِمْ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَ بِمَنِّهِ .

فَإِذَا قَضَى الْمَيِّتُ فَلْيَشْتَغِلْ مَنْ حَضَرَهُ بِحَقِّهِ وَيَأْخُذْ فِي إصْلَاحِ شَأْنِهِ .
فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ لِئَلَّا تَبْقَى مَفْتُوحَتَيْنِ ، وَذَلِكَ شَوَهٌ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِصَابَةً أَوْ طَرَفَ عِمَامَةٍ أَوْ غَيْرَهُمَا وَيَجْعَلَهَا تَحْتَ ذَقَنِهِ وَيَشُدَّهَا عَلَى رَأْسِهِ لِئَلَّا تَسْتَرْخِيَ ذَقَنُهُ فَيَبْقَى فَاهُ مَفْتُوحًا ، وَذَلِكَ شَوَهٌ ، وَقَدْ يَنْزِلُ الْمَاءُ فِي جَوْفِهِ حِينَ غُسْلِهِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ تَكْفِينِهِ فَيُلَوِّثُهُ ، وَقَدْ تَدْخُلُ الْهَوَامُّ مِنْهُ لِجَوْفِهِ إذَا كَانَ مَفْتُوحًا ، ثُمَّ يُلِينُ مَفَاصِلَهُ وَيَمُدُّ يَدَيْهِ مَدًّا ، وَكَذَلِكَ رُكْبَتَيْهِ حِينَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَعَذَّرَ مَدُّهَا .
ثُمَّ يَجْعَلُ عَلَى بَطْنِهِ حَدِيدَةً أَوْ سِكِّينًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَطِينًا مَبْلُولًا طَاهِرًا ؛ لِئَلَّا يَعْلُوَ فُؤَادُهُ فَيُخْشَى أَنْ يَتَفَجَّرَ قَبْلَ حُلُولِهِ فِي قَبْرِهِ ، ثُمَّ يُزِيلَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ مَا عَدَا الْقَمِيصَ ، ثُمَّ يُجْعَلَ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ كَدَكَّةٍ وَنَحْوِهَا لِئَلَّا يَتَسَارَعَ إلَيْهِ الْهَوَامُّ وَالتَّغْيِيرُ وَيُسَجَّى بِثَوْبٍ .
ثُمَّ يَأْخُذُ فِي تَجْهِيزِهِ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّ مِنْ إكْرَامِ الْمَيِّتِ الِاسْتِعْجَالَ بِدَفْنِهِ وَمُوَارَاتِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ فَجْأَةً ، أَوْ بِصَعْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ سَبْتَةً أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَلَا يُسْتَعْجَلْ عَلَيْهِ وَيُمْهَلْ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ ، وَلَوْ أَتَى عَلَيْهِ الْيَوْمَانِ وَالثَّلَاثَةُ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَغْيِيرُهُ فَيَحْصُلُ التَّيَقُّنُ بِمَوْتِهِ ؛ لِئَلَّا يُدْفَنَ حَيًّا فَيُحْتَاطَ لَهُ ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِكَثِيرٍ فَيُتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا .
وَإِذَا فَعَلَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تَلْيِينِ مَفَاصِلِهِ وَغَيْرِهَا فَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِتُؤَدَةٍ وَوَقَارٍ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ كَحُرْمَةِ الْحَيِّ .
وَيُسَمِّي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ الْأَخْذِ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ أَوْقَدُوا عِنْدَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ شَمْعَةً حَتَّى يُصْبِحَ ، وَذَلِكَ بِدْعَةٌ وَسَرَفٌ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الشَّمْعِ أَوْقَدُوا سِرَاجًا عَلَيْهِ حَتَّى يُصْبِحَ وَيُيَسِّرُ قَبْلَ غُسْلِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْكَفَنِ ، وَالْحُنُوطِ وَيُبَخِّرُ الْكَفَنَ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي غُسْلِهِ فَيَشُدُّ عَلَى وَسَطِ الْمَيِّتِ مِئْزَرًا غَلِيظًا ، ثُمَّ يُعَرِّيهِ مِنْ الْقَمِيصِ وَبَعْدَ ذَلِكَ يُغَسِّلُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنْ يُغْسَلَ فِي قَمِيصٍ وَلَا يُعَرَّى وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَرَادُوا أَنْ يُعَرُّوهُ كَمَا يَفْعَلُونَ بِمَوْتَاهُمْ فَسَمِعُوا الْهَاتِفَ يَقُولُ : غَسِّلُوهُ فِي الْقَمِيصِ } وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى تَعْرِيَةِ الْمَيِّتِ مِنْ الْقَمِيصِ ؛ لِأَنَّهُمْ { أَرَادُوا أَنْ يُغَسِّلُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُتَجَرِّدًا مِنْ الْقَمِيصِ كَمَا يَفْعَلُونَ بِمَوْتَاهُمْ حَتَّى سَمِعُوا الْهَاتِفَ فَتَرَكُوهُ } ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ تَعْرِيَةَ الْمَيِّتِ أَبْلَغُ فِي تَنْظِيفِهِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً غَلِيظَةً فَوْقَ الْمِئْزَرِ حَتَّى لَا تُوصَفَ الْعَوْرَةُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْضُرَهُ أَحَدٌ إذْ ذَاكَ إلَّا الْغَاسِلُ وَحْدَهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُعِينُهُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ لَهَا أَحْكَامٌ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَاسِلُ وَمَنْ يُعِينُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ ، وَالْأَمَانَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَتَغَيَّرُ حَالُهُ ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ فَقَدْ

يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَقَاوَتِهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إنْ رَأَى خَيْرًا فَإِنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ، وَإِنْ رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ سَكَتَ عَنْهُ وَلَا يَبُوحُ بِهِ لِأَحَدٍ .

وَغُسْلُ الْمَيِّتِ مِنْ أَحَدِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْحَيِّ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ أَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ أَرْبَعًا : غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ ، وَالْغُسْلُ أَوَّلُهَا ، وَكَيْفِيَّتُهُ كَكَيْفِيَّةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ إلَّا أَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ يَتَوَلَّاهُ الْحَيُّ بِنَفْسِهِ غَالِبًا وَهَذَا يُغَسِّلُهُ غَيْرُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ فَرَائِضُهَا وَسُنَنُهَا وَفَضَائِلُهَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
فَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِغُسْلِ النَّجَاسَةِ عَنْهُ فَيُبَاشِرُ مَحَلَّ النَّجْوِ بِخِرْقَةٍ غَلِيظَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الصُّوفِ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ فَيَعْرُكُ بِهَا الْمَوْضِعَ ، وَمَنْ يُعِينُهُ يَسْكُبُ عَلَيْهِ الْمَاءَ ، ثُمَّ يَغْسِلُ الْخِرْقَةَ غَسْلًا جَيِّدًا حَتَّى تَطْهُرَ ، ثُمَّ يُعِيدُ غَسْلَ الْمَحَلِّ ، وَهُوَ يَعْرُكُ بِهَا حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ وَتَنَظَّفَ فَحِينَئِذٍ يُفِيضُ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْقَرَاحَ مِنْ فَرْقِهِ إلَى قَدَمِهِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي بَدَنِهِ فَمَهْمَا شَعَرَ بِنَجَاسَةٍ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ مِنْهُ غَسَلَهَا عَنْهُ ، وَالْبَخُورُ إذْ ذَاكَ حَاضِرٌ يُبَخَّرُ بِهِ لِئَلَّا تُشَمَّ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ ، وَالْمَيِّتُ يَكْرَهُ أَنْ يُشَمَّ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ مِنْ الْحَيِّ ، ثُمَّ يُقْعِدُهُ وَيَعْصِرُ بَطْنَهُ عَصْرًا رَفِيقًا ، وَمَنْ يُعِينُهُ يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ حِينَ يَفْعَلُ كَذَلِكَ وَيُزَادُ فِي الْبَخُورِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَكْثَرَ مِمَّا قَبْلَهُ حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَنْقَى جَسَدَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَأَعَادَ غَسْلَ الْمَحَلِّ مِنْ النَّجَاسَةِ بِخِرْقَةٍ أُخْرَى أَوْ بِهَا بَعْدَ غَسْلِهَا وَتَطْهِيرِهَا وَتَنْظِيفِهَا ، وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَحَلِّ نَجَاسَةٌ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا إلَّا بِمُبَاشَرَتِهَا بِالْيَدِ هَلْ يُبَاشِرُهَا بِيَدِهِ لِلضَّرُورَةِ أَوْ يَتْرُكُهَا كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا وَلَا

يُمْكِنُهُ أَنْ يُزِيلَهَا بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهَا فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَيِّتِ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مِنْ حَلْقِ عَانَةٍ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْشِفُونَ الْعَوْرَةَ لِحَلْقِهَا فَيُشَاهِدُهَا مَنْ يُزِيلُهَا ، وَمَنْ يُعِينُهُ فِي غُسْلِهِ وَبَعْضُ الْحَاضِرِينَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا غُسِّلَ يَحْضُرُ غُسْلَهُ أَقَارِبُهُ وَأَصْحَابُهُ ، وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ لَوْ سَلِمَ مِنْ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَازَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَلْقَ عَانَتِهِ لَكِنَّ ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَطَّلِعَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ ، وَاطِّلَاعُ غَيْرِهِ مُحَرَّمٌ .
، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي النَّجَاسَةِ إذَا كَانَتْ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَمْ يُمْكِنْ إزَالَتُهَا إلَّا بِالْيَدِ فَمَا بَالُك بِإِزَالَةِ شَيْءٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ إزَالَتُهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ كَشْفُ عَوْرَتِهِ لِمَنْ يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ فَبَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : افْعَلُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَفْعَلُوا بِعَرُوسِكُمْ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ إنَّمَا يَتَوَلَّاهُ الْعَرُوسُ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِ .
وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْأَحْيَاءِ فَضْلًا عَنْ الْمَوْتَى فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَدْخُلُونَ إلَى الْحَمَّامِ فَيَأْمُرُونَ الْبَلَّانَ أَنْ يَحْلِقَ لَهُمْ عَانَتَهُمْ فَيَكْشِفُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَيْتَهُ لَوْ كَانَ وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لَكِنْ يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ فِي

الْحَمَّامِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ النَّجَاسَةِ فَلْيَأْخُذْ رَأْسَ الْمَيِّتِ فَيُحَوِّلُهُ إلَى نَاحِيَةِ الْيَمِينِ وَيُخْرِجُهُ عَنْ الدَّكَّةِ قَلِيلًا وَيَجْعَلُ فَمَه وَأَنْفَهُ إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَيَعْصِرُ أَنْفَهُ بِرِفْقٍ فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ فَضْلَةٌ خَرَجَتْ .
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ رَدَّ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَى الدَّكَّةِ حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ تَنَظَّفَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَطَهُرَ ، ثُمَّ يُزِيلُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ الْمِئْزَرِ ، ثُمَّ يَسْتُرُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ بِهِ بَعْدَ غَسْلِهِ ، وَيَتَحَفَّظُ عَلَى عَوْرَتِهِ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ عِنْدَ مُحَاوَلَةِ ذَلِكَ .
فَإِذَا فَرَغَ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي الْغَسْلَةِ الْأُولَى ، وَهِيَ الْوَاجِبَةُ فَيَبْدَأُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَيَغْسِلُهَا وَيُمَضْمِضُ فَمَه بِرِفْقٍ بَعْدَ أَنْ يُحَوِّلَ رَأْسَهُ كَمَا تَقَدَّمَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ مَضْمَضَتِهِ وَاسْتِنْشَاقِهِ لِئَلَّا يَنْزِلَ الْمَاءُ جَوْفَهُ ، ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ غُسْلِهِ وَيُسَوِّكُهُ بِخِرْقَةٍ مِنْ صُوفٍ أَوْ مَا يُقَارِبُهَا .
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ رَدَّهُ إلَى الدَّكَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غَسْلِ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ بَعْدَ تَخْلِيلِ شَعْرِهِ فَيَغْسِلُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ ، ثُمَّ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ ، وَالْأَعْلَى فَالْأَعْلَى مِنْ جَسَدِهِ ، وَيُقَلِّبُهُ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ يَمِينًا وَيَسَارًا وَظَهْرًا وَبَطْنًا حَتَّى يَرَى أَنَّهُ قَدْ عَمَّهُ بِالْغُسْلِ ، فَهَذِهِ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ الْفَرْضُ الَّذِي لَا يَجُوزُ دَفْنُ الْمَيِّتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا إلَّا بِهَا .
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي تَنْظِيفِهِ مِنْ الْأَوْسَاخِ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ كَمَا يُنَظَّفُ الْحَيُّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْكَافُورِ فَجَعَلَهُ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَيُذِيبُهُ فِيهِ ، ثُمَّ يَغْسِلُ الْمَيِّتَ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ بَعْدَ تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ ،

وَالْمِئْزَرِ وَالدَّكَّةِ مِنْ أَثَرِ السِّدْرِ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ إلَى غَسْلِهِ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ أَزَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ السُّتْرَةِ الْكَثِيفَةِ وَأَلْقَى عَلَيْهِ خِرْقَةً لَطِيفَةً مِنْ شَمَخْتَانِيَّةٍ وَنَحْوِهَا ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ فَتَبْقَى الْعَوْرَةُ كَأَنَّهَا مَكْشُوفَةٌ إذَا ابْتَلَّتْ الْخِرْقَةُ بِالْمَاءِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ بَلْ يَسْتُرُهُ بِمِثْلِ الْخِرْقَةِ الْكَثِيفَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ أَوْ بِهَا بَعْدَ تَنْظِيفِهَا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَحَفَّظُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْمُحَاوَلَةِ وَيَغُضُّ طَرْفَهُ مَهْمَا اسْتَطَاعَ جُهْدَهُ مَعَ التَّوْفِيَةِ بِغُسْلِهِ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا غَسَلَ الْمَيِّتَ يَجْعَلُهُ بَيْنَ رِجْلَيْهِ ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّكَّةِ ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ ، بَلْ يَكُونُ الْغَاسِلُ وَاقِفًا بِالْأَرْضِ وَيُقَلِّبُهُ عِنْدَ غَسْلِهِ لَهُ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَ إذَا بَدَأَ فِي غُسْلِهِ أَخَذَ يَذْكُرُ لِكُلِّ عُضْوٍ يَغْسِلُهُ ذِكْرًا مِنْ الْأَذْكَارِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ سِرًّا وَعَلَنًا لَكِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهَا ، وَهَذَا الْمَحَلُّ مَحَلُّ تَفَكُّرٍ وَاعْتِبَارٍ وَخَشْيَةٍ فَيَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ ذِكْرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، وَهُوَ عَمَلُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَغَيْرُهُ بِدْعَةٌ .
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْغَسْلَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ تَمَّ غَسْلُهُ عَلَى الْكَمَالِ ، ثُمَّ يَتَفَقَّدُ فَمَه وَأَنْفَهُ مِنْ الْمَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْهُ : فَيُمِيلُ رَأْسَهُ خَارِجًا عَنْ الدَّكَّةِ ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ فِيهِمَا شَيْءٌ خَرَجَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَى الدَّكَّةِ ، ثُمَّ يُنَظِّفُ مَا تَحْتَ أَظْفَارِهِ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يُقَلِّمُهَا ، وَتَقْلِيمُهَا

عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ إذْ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ ، ثُمَّ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ بِمُشْطٍ وَاسِعِ الْأَسْنَانِ .
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِرَأْسِهِ وَيَتَرَفَّقُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ خَرَجَ فِي الْمُشْطِ شَعْرٌ جَمَعَهُ وَأَلْقَاهُ فِي الْكَفَنِ يُدْفَنُ مَعَهُ ، ثُمَّ يَأْخُذُ فُوطَةً أَوْ غَيْرَهَا فَيُنَشِّفُ بِهَا جَمِيعَ بَدَنِ الْمَيِّتِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ نَشَّفَ بِهَا الدَّكَّةَ حَتَّى لَا يَبْتَلَّ بِهَا مَا يَجْعَلُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ قَمِيصٍ وَغَيْرِهِ .
ثُمَّ يَأْخُذُ فِي تَجْهِيزِهِ ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ : أَنْ يَأْخُذَ قُطْنَةً وَيَجْعَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْكَافُورِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطِّيبِ ، وَالْكَافُورُ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ يُرْدِعُ الْمَوَادَّ فَيَجْعَلُهَا عَلَى فَمِهِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ قُطْنَةً أُخْرَى فَيَفْعَلُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ وَيَسُدُّ بِهَا أَنْفَهُ ، ثُمَّ أُخْرَى مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى وَيُرْسِلُهَا فِي أَنْفِهِ قَلِيلًا ، ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً فَيَشُدُّهَا عَلَى الْفَمِ ، وَالْأَنْفِ ، ثُمَّ يَعْقِدُهَا مِنْ خَلْفِ عُنُقِهِ عَقْدًا وَثِيقًا فَتَبْقَى كَأَنَّهَا اللِّثَامُ ، ثُمَّ يَجْعَلُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ خِرْقَةً ثَانِيَةً بَعْدَ وَضْعِ الْقُطْنِ مَعَ الْكَافُورِ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَيَعْقِدُهَا عَقْدًا جَيِّدًا فَتَصِيرُ كَالْعِصَابَةِ .
ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً ثَالِثَةً فَيَشُدُّ بِهَا وَسَطَهُ ، ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً رَابِعَةً فَيَعْقِدُهَا عَلَى هَذِهِ الْخِرْقَةِ الْمَشْدُودِ بِهَا وَسَطُهُ أَوْ يَخِيطُهَا فِيهَا ، ثُمَّ يَلْحُمُهَا بِهَا بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ قُطْنَةً وَيَجْعَلَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الطِّيبِ وَالْكَافُورِ ، وَهُوَ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ يَشُدُّ الْعُضْوَ وَيَسُدُّهُ ، وَيَجْعَلَهَا عَلَى بَابِ الدُّبُرِ وَيُرْسِلَ ذَلِكَ قَلِيلًا بِرِفْقٍ ، وَيَزِيدُ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقُبُلِ قُطْنَةً أُخْرَى وَيَفْعَلُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الدُّبْرِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، ثُمَّ يَلْحُمُهُ عَلَيْهِ بِالْخِرْقَةِ الْمَذْكُورَةِ ، ثُمَّ يَرْبِطُهَا رَبْطًا وَثِيقًا .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ ، بَلْ الْمُحَرَّمُ الَّذِي

يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَخْرِقُونَ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ وَيُرْسِلُونَ فِي دُبُرِهِ قُطْنًا وَكَذَلِكَ فِي حَلْقِهِ وَأَنْفِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَإِخْرَاقِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ .

، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي تَكْفِينِهِ فَيَشُدُّ عَلَى وَسَطِهِ مِئْزَرًا أَوْ يُلْبِسُهُ سَرَاوِيلَ وَهُوَ أَسْتَرُ لَهُ .
ثُمَّ يُلْبِسُهُ الْقَمِيصَ .
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّ الْمَيِّتَ يُقَمَّصُ وَيُعَمَّمُ .
ثُمَّ يُعَمِّمُهُ وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ الْعِمَامَةِ ذُؤَابَةً وَتَحْنِيكًا كَمَا هِيَ الْعِمَامَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي حَقِّ الْحَيِّ لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَيَّ يُرْخِي التَّحْنِيكَ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَشُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْثِقُ فِي عَقْدِهِ لِئَلَّا يَسْتَرْخِيَ ذَقَنُهُ وَيَنْفَتِحَ فَمُهُ وَقَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ يُلَوِّثُ الْكَفَنَ ثُمَّ يُعَمِّمُهُ بِبَاقِي الْعِمَامَةِ وَيَشُدُّهَا شَدًّا وَثِيقًا بِخِلَافِ عِمَامَةِ الْحَيِّ ثُمَّ يَبْسُطُ الذُّؤَابَةَ عَلَى وَجْهِهِ فَيَسْتُرُ وَجْهَهُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِمَا يَفْضُلُ مِنْ الْمَنَعَةِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ يَسْتُرُ بِهَا وَجْهَهَا .
ثُمَّ يَنْقُلُهُ إلَى مَوْضِعِ الْكَفَنِ فَيَجْعَلُهُ عَلَيْهِ وَيُحَنِّطُهُ .
وَمَوَاضِعُ الْحُنُوطِ خَمْسٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يُجْعَلَ عَلَى ظَاهِرِ جَسَدِ الْمَيِّتِ .
الثَّانِي : يُجْعَلُ فِيمَا بَيْنَ أَكْفَانِهِ وَلَا يُجْعَلُ عَلَى ظَاهِرِ الْكَفَنِ .
الثَّالِثُ : أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْمَسَاجِدِ السَّبْعَةِ وَهِيَ الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ وَالْكَفَّانِ مَعَ الْأَصَابِعِ وَالرُّكْبَتَانِ وَأَطْرَافِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ .
الرَّابِعُ : أَنْ يُجْعَلَ عَلَى مَنَافِذِ الْوَجْهِ السَّبْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .
الْخَامِسُ : أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْأَرْفَاغِ وَهِيَ مَغَابِنُ الْجَسَدِ خَلْفَ أُذُنَيْهِ وَتَحْتَ حَلْقِهِ وَتَحْتَ إبْطَيْهِ وَفِي سُرَّتِهِ وَمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ وَأَسَافِلِ رُكْبَتَيْهِ وَقَعْرِ قَدَمَيْهِ ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَكُونُ مَعَهُ مِنْ الطِّيبِ ، فَإِنْ قَلَّ عَنْ اسْتِيعَابِ ذَلِكَ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَى الْأَرْفَاغِ وَالْمَسَاجِدِ السَّبْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ فِي وِتْرٍ .
ثُمَّ يَأْخُذُ طَرَفَ أَحَدِ كُمَّيْهِ فَيَرْبِطُهُ بِطَرَفِ الْكُمِّ الْآخَرِ رَبْطًا وَثِيقًا .
ثُمَّ يَأْخُذُ خِرْقَةً

طَوِيلَةً فَيَرْبِطُهَا مَوْضِعَ رَبْطِ الْكُمَّيْنِ ثُمَّ يَمُدُّهَا إلَى إبْهَامَيْ رِجْلَيْهِ فَيَرْبِطُهَا فِيهِمَا رَبْطًا جَيِّدًا وَثِيقًا لِئَلَّا تَتَحَرَّكَ أَطْرَافُهُ وَتَتَفَرَّقَ .
فَإِذَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ أَمِنَ مِنْ حَرَكَتِهَا .
وَهَذِهِ الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ إنَّمَا هِيَ إذَا أَلْبَسَ الْمَيِّتَ الْقَمِيصَ .
وَأَمَّا إذَا أَدْرَجَ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى فِعْلِ ذَلِكَ لِعَدَمِ حَرَكَةِ أَطْرَافِهِ .
فَإِذَا جَاءَ إلَى لَحْدِهِ أَزَالَ الرِّبَاطَ عَنْهُ ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ؛ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْقُطْنَ الْكَثِيرَ فَيَجْعَلُونَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَيِّتِ حَتَّى يَعْلُوَ ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْقُطْنَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَتَحْتَ حَنَكِهِ وَتَحْتَ رَقَبَتِهِ حَتَّى تَصِيرَ رَأْسُهُ وَكَتِفَاهُ بِالسَّوَاءِ ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْقُطْنَ كَذَلِكَ عِنْدَ سَاقَيْهِ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا حَتَّى يَصِيرَ بَطْنُهُ وَرَأْسُهُ وَرِجْلَاهُ بِالسَّوَاءِ .
وَهَذَا الْفِعْلُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ مُحَرَّمَيْنِ وَبِدْعَةٍ : فَالْمُحَرَّمُ الْأَوَّلُ إضَاعَةُ الْمَالِ فِي كَثْرَةِ الْقُطْنِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَالْمُحَرَّمُ الثَّانِي أَخْذُ ثَمَنِ الْقُطْنِ مِنْ مَالِ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ لَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ إلَّا قَدْرُ ضَرُورَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ غَصْبٌ لِحَقِّ الْوَارِثِ سِيَّمَا إذَا كَانَ صَغِيرًا ، وَلَوْ فَرَضَ وَرَضِيَ الْوَرَثَةُ لَمُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْبِدْعَةِ .
وَأَمَّا الْبِدْعَةُ فَكَوْنُهُمْ اعْتَادُوا أَنْ يُخْرِجُوهُ فِي كَفَنِهِ بِالسَّوَاءِ عِنْدَ النَّاظِرِ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، وَالْمَيِّتُ يَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْحَيُّ فَلَوْ جُعِلَ شَيْءٌ مِنْ الْقُطْنِ عَلَى وَجْهِ الْحَيِّ لَكَانَ فِيهِ شَوْهٌ وَخَرْقٌ لِحُرْمَتِهِ وَلَا يَرْضَى بِذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ .

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { : كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ وَهُوَ حَيٌّ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الْعَظْمِ وَغَيْرِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، فَكُلُّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يُفْعَلُ بِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ إلَّا مَا أَذِنَ الشَّرْعُ فِيهِ ، وَمَا لَمْ يَأْذَنْ الشَّرْعُ فِيهِ فَيُمْنَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَالسُّنَّةُ فِي إدْرَاجِ الْمَيِّتِ فِي كَفَنِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بِحَيْثُ يُعْرَفُ رَأْسُهُ وَكَتِفَاهُ وَرِجْلَاهُ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَهُوَ فِي ثِيَابِهِ ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَيْبٌ عَظِيمٌ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ : إنَّ مَنْ غَسَلَ الْمَيِّتَ وَكَفَّنَهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَعْرِفُ شَيْئًا ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا أَنِسَ بِهِ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُغَسِّلُ الْمَوْتَى مِنْ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ الْبِدَعِ وَغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَقِلَّةِ الْعِلْمِ ، وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ .
وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { : كَيْفَ بِكَ يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً } وَهَا هُوَ ذَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَرْءُ مَنْ اتَّصَفَ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ ، وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ الصَّالِحُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُوصُونَ بِمَنْ يَحْضُرُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمَنْ يُغَسِّلُهُمْ وَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَمَنْ يَلْحَدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ هَذَا وَهُمْ كَمَا قِيلَ عُيُونٌ فِي الْعُيُونِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُمْ فِي زَمَانِهِمْ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَمَا بَالُك بِهَذَا الزَّمَانِ ؟ فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ لَعَلَّ أَنْ يَقَعَ لَهُ الْخَلَاصُ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ .
ثُمَّ إنَّ الْمُخَالَفَةَ هَاهُنَا صَعْبَةٌ ؛

لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْغَاسِلَ تَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَرَجَعَ عَنْ عَوَائِدِهِ الرَّدِيئَةِ لَتَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا لِعَدَمِ مَنْ يَتَحَلَّلُ مِنْهُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَنْظُرُ لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ آكَدِ وَصِيَّتِهِ أَنْ يُوصِيَ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّنْ يَحْضُرُ مَوْتَهُ أَوْ مَنْ يُغَسِّلُهُ وَمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ وَمَنْ يَلْحَدُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا ، إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ ، وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ الْمُبَاشَرَةِ لِذَلِكَ ، وَبَعْضُهُمْ يَهَابُ الْمَيِّتَ فَلَا يَتَوَلَّى غُسْلَهُ وَلَا تَجْهِيزَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الصَّلَاحِ غَالِبًا قَلَّ أَنْ يَعْرِفَ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَزِيزًا لِقِلَّةِ وُجُودِ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فِقْهًا وَعَمَلًا .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَخْتَارُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَيُلْقِيَ إلَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَيُوصِي بِهِ إلَى شَخْصٍ يَقُومُ بِذَلِكَ عَارِفٍ بِالْأَحْكَامِ يَحْضُرُ حِينَ غُسْلِهِ ، وَيَأْمُرُ بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ ، وَيَنْهَى عَنْ ضِدِّهَا مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَيَمْشِي عَلَى الْأُسْلُوبِ الْمَوْصُوفِ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَسِّلَهُ وَلَا يُكَفِّنَهُ إلَّا مَنْ يُرْجَى بَرَكَتُهُ وَخَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ آخِرُ عَهْدِهِ مِنْ الدُّنْيَا هَذَا الْمَوْطِنُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُخْتَمَ بِالْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ بِسَبَبِهَا النَّفْعُ حَالًا وَمَآلًا .

وَمَا زَالَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُوصُونَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِاعْتِنَائِهِمْ بِهِ .
وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ حِكَايَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ غُفِرَ لَهُ بِبَرَكَةِ مَنْ تَوَلَّى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَكَى الشَّيْخُ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْعَوَارِفِ لَهُ : أَنَّ رَجُلًا مِمَّنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ مَاتَ فَسُئِلَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ " سَمَّاهُ " أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَرُئِيَ الْمَيِّتُ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ فَقِيلَ لَهُ : مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك قَالَ : غَفَرَ لِي قِيلَ لَهُ : بِمَاذَا ؟ قَالَ : بِإِعْرَاضِ فُلَانٍ عَنِّي حَيْثُ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ قَالَ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهَؤُلَاءِ إقْبَالُهُمْ رَحْمَةٌ وَإِعْرَاضُهُمْ رَحْمَةٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ رُحِمَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَيِّتٌ وَامْتُثِلَتْ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ فَرُحِمَ لِامْتِثَالِ السُّنَّةِ فِيهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ التَّحَفُّظُ عَلَى امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُعْرِضًا فِي طُولِ عُمْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْخِتَامَ إذَا كَانَ حَسَنًا لَعَلَّهُ يُحْسِنُ الْجَمِيعَ .
نَسْأَلُ اللَّهَ الْمَوْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ .
وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ امْرَأَةٌ مُسْرِفَةٌ عَلَى نَفْسِهَا فَمَاتَتْ عَلَى شَرِّ حَالٍ فَرَآهَا بَعْضُ الصَّالِحِينَ فِي النَّوْمِ وَهِيَ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ فُلَانَةُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ فَقَالَ : كَيْفَ حَالُك ؟ فَقَالَتْ : غُفِرَ لِي فَقَالَ لَهَا : بِمَاذَا ؟ وَقَدْ كُنْت وَكُنْت فَقَالَتْ : لَمَّا أَنْ أُخْرِجَ بِجِنَازَتِي مُرَّ بِهَا عَلَى رَجُلٍ خَيَّاطٍ ، وَفِي كُمِّهِ ثَوْبٌ لِسَيِّدِي فُلَانٍ فَصَلَّى عَلَيَّ فَغُفِرَ لِي كَرَامَةً لِذَلِكَ الثَّوْبِ .
وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَوْلَادِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ

وَالِدَتَهُ أَتَتْ إلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّهَا قَدْ تُوُفِّيَتْ وَطَلَبَتْ مِنْهُ قَمِيصًا تُكَفِّنُهَا فِيهِ فَأَعْطَاهَا فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ أَخْبَرَهَا بِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ جَاءَاهَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : اذْهَبْ بِنَا فَإِنَّ ثَوْبَ الْمَرْجَانِيِّ عَلَيْهَا فَلَمْ يَتَعَرَّضَا لَهَا .
وَكُنْت أَعْهَدُ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ الْغَسَّالِينَ لِلْمَوْتَى عَلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ فَإِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرْتَضَى دِينُهُ غَسَلَهُ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ وَلَا عِوَضٍ ، بَلْ لِابْتِغَاءِ الثَّوَابِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي يُغَسِّلُونَ بِالْأُجْرَةِ وَهُمْ عَامَّةُ النَّاسِ .

وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُغَسِّلُ الْمَيِّتَ أَنْ يَغْتَسِلَ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ غُسْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى الْغُسْلِ بَالَغَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَنْظِيفِهِ ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يَغْتَسِلُونَ فَيَدَعُونَ ذَلِكَ تَحَفُّظًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، فَإِذَا تَحَفَّظُوا فَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْإِخْلَالِ بِشَيْءٍ مِنْ تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ أَوْ تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمِ ، وَهُوَ مَا اعْتَادَهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ يَأْخُذُهُ الْغَاسِلُ الَّذِي يُغَسِّلُهُ فَهَذِهِ بِدْعَةٌ جَرَّتْ إلَى الْمُحَرَّمِ ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ إذَا عَلِمُوا بِأَنَّ الْغَاسِلَ يَأْخُذُ مَا عَلَى مَيِّتِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا عَلَيْهِ شَيْئًا إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَقَدْ يُتْرَكُ بَعْضُهُمْ مَوْصُوفَ الْعَوْرَةِ .
وَقَدْ مَاتَ بَعْضُ الْمُبَارَكِينَ مِنْ الْمَعَارِفِ فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ يُغْسَلُ وَعَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ مِنْ عِمَامَةٍ شَمَخْتَانِيَّةٍ مَلْبُوسَةٍ وَقَدْ ابْتَلَّتْ بِالْمَاءِ فَبَقِيَتْ الْعَوْرَةُ مَوْصُوفَةً فَأَنْكَرْت عَلَيْهِمْ وَأَمَرْتُهُمْ بِسَتْرِهِ فَقَالَ الْغَاسِلُ : هَذَا الَّذِي وَجَدْنَاهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ فَأَخَذْت فُوطَةً جَدِيدَةً كَانَتْ عَلَيَّ إذْ ذَاكَ وَدَفَعْتهَا لَهُمْ لِيَسْتُرُوهُ بِهَا فَلَمَّا رَأَى أَخُو الْمَيِّتِ ذَلِكَ أَسْرَعَ فَجَاءَ بِفُوطَتَيْنِ غَلِيظَتَيْنِ جِيَادٍ فَسَتَرُوهُ بِإِحْدَاهُمَا وَعَمِلُوا الْأُخْرَى مِنْ فَوْقِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلُ ، فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي ، بَلْ يَتَعَيَّنُ تَعْيِينُ أُجْرَةِ الْغَاسِلِ وَأَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا يَجِدُهُ عَلَى الْمَيِّتِ كَائِنًا مَا كَانَ فَتَنْسَدُّ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَ بِسَبَبِهَا كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَنْعُ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِحَلْقِ الْعَانَةِ ،

وَالنَّجَاسَةُ إذَا كَانَتْ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا إلَّا بِمُبَاشَرَتِهَا بِالْيَدِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يُمْنَعَ هَذَا .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا أَكْثَرُهُمْ وَهِيَ أَنَّهُمْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ نَادَوْا عَلَيْهِ وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ { عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا اُحْتُضِرَ : إذْ أَنَا مِتُّ فَلَا تُؤْذِنُوا بِي أَحَدًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ ، فَإِذَا مِتُّ فَصَلُّوا عَلَيَّ وَسُلُّونِي إلَى رَبِّي سَلًّا } .
لَكِنْ قَدْ تَسَامَحَ عُلَمَاؤُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْإِعْلَامِ بِذَلِكَ بِأَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَقُولَ : أَخُوكُمْ فُلَانٌ قَدْ مَاتَ بِصَوْتٍ يَجْهَرُ بِهِ عَلَى سُنَّةِ الْجَهْرِ لَا عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ وَعَوَائِدِهِمْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ النَّعْيِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّدَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذُكِرَ هُنَا مِنْ أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَيَجْهَرُ بِصَوْتِهِ كَمَا ذُكِرَ .
وَأَمَّا عَلَى مَا اعْتَادَهُ الْمُؤَذِّنُونَ مِنْ زَعَقَاتِهِمْ فَيُمْنَعُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ثُمَّ يَرْبِطُ الْكَفَنَ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ وَمِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ رَبْطًا وَثِيقًا .
ثُمَّ يَأْخُذُ فِي نَقْلِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الْبَيْتِ إلَى النَّعْشِ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِرِفْقٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ وَوَقَارٍ .
وَلْيَحْذَرْ عِنْدَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَهُوَ أَنَّهُمْ عِنْدَ إخْرَاجِ الْمَيِّتِ يُقِيمُونَ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ نِسَاءً وَرِجَالًا ، وَقَدْ يَخْتَلِطُونَ وَهُوَ الْغَالِبُ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ وَدَاعًا لِلْمَيِّتِ وَقِيَامًا بِحَقِّهِ ، وَذَلِكَ كَذِبٌ مِنْهُمْ وَافْتِرَاءٌ لِمُخَالَفَتِهِمْ فِي ذَلِكَ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ ، وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ لَطْمُ الْخُدُودِ وَمَا شَاكَلَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ مَنْعُهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ

فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ ، وَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ الْبُكَاءِ الْجَائِزِ فِي الشَّرْعِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَفْعُ صَوْتٍ ، أَوْ لَطْمٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا .
وَالتَّصَبُّرُ عَنْ الْبُكَاءِ أَجْمَلُ لِمَنْ اسْتَطَاعَ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَ إذَا دَخَلَ لِيُغَسِّلَ الْمَيِّتَ يُقِيمُونَ إذْ ذَاكَ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ وَيَفْعَلُونَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ ، بَلْ يَزِيدُ النِّسَاءُ عَلَى ذَلِكَ فِعْلًا قَبِيحًا ، وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَةَ إذَا دَخَلَتْ لِتُغَسِّلَ الْمَيِّتَةَ قَامَ النِّسَاءُ إلَيْهَا بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ وَهِيَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ فَتَأْخُذُ حِذْرَهَا وَتَتَخَبَّأُ مِنْهُنَّ وَيَقُلْنَ لَهَا : يَا وَجْهَ الشُّؤْمِ فَتَقُولُ هِيَ لَهُنَّ جَوَابًا : إنَّمَا رَأَيْت الشُّؤْمَ عِنْدَكُنَّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الرَّدِيئَةِ ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ يُمَكِّنَّهَا مِنْ تَغْسِيلِ الْمَيِّتَةِ بَعْدَ أَنْ تَعِظَهُنَّ وَتُذَكِّرَهُنَّ بِأَنَّ هَذَا قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرُهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفًا لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَلْيُحْذَرْ مِنْهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
وَكَذَلِكَ يُحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذْ أَخَذُوا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ اعْتِبَارٍ وَرُجُوعٍ وَسُكُونٍ يَفْعَلُونَ إذْ ذَاكَ ضِدَّ الْمُرَادِ وَيُكْثِرُونَ اللَّغَطَ مَعَ الْغَاسِلِ وَالْحَمَّالِينَ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَقَعُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أُجْرَةِ الْغُسْلِ وَالْمُشَاحَّةِ فِيهَا ، وَتَقَعُ ضَجَّةٌ عَظِيمَةٌ إذْ ذَاكَ وَهُوَ ضِدُّ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَحْتَاجُ وَكِيلُ الْمَيِّتِ أَنْ يَحْتَاطَ لَهُ بِمَا يَقْطَعُ مَادَّةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَمْنُوعَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بِأَنْ يَتَّفِقَ مَعَ الْغَاسِلِ وَالْحَمَّالِينَ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِمْ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ بَعْدَ

ذَلِكَ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ الْوُقُوعِ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ لَهُمْ غَاسِلٌ وَلَا حَمَّالٌ بِأُجْرَةٍ ، بَلْ كَانُوا يُغَسِّلُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَيَحْمِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَزَاحَمُونَ عَلَى النَّعْشِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَيَحْمِلُونَهُ بِالنَّوْبَةِ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ إلَى الْيَوْمِ بِبِلَادِ الْحِجَازِ غَالِبًا ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ عَجَزَ عَنْهُ فَيُزِيلُ مَا يَتَوَقَّعُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ الْغَاسِلَ أَوْ الْغَاسِلَةَ إذَا فَرَغَا مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ يَأْتُونَ بِهِ إلَى حَضْرَةِ الرِّجَالِ إنْ كَانَ رَجُلًا أَوْ إلَى النِّسَاءِ إنْ كَانَتْ امْرَأَةً حَتَّى يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا مِنْ الْحَاضِرِينَ ، وَذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إكْرَامُ الْمَيِّتِ بِتَعْجِيلِ دَفْنِهِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَسْرِعُوا بِجَنَائِزِكُمْ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إلَيْهِ وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ } وَهَؤُلَاءِ يَتْرُكُونَهُ بَعْدَ تَجْهِيزِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، بَلْ لِلْبِدْعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي حُطَامِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ مِنْهُمْ فِعْلٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ لِيَرُدَّ بِهِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدْعَةِ وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي الصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ الْمَيِّتُ يَجْتَمِعُ تَحْتَ دَكَّةِ الْغُسْلِ فَيَعْمَلُونَ تُرَابًا حَوْلَهَا لِيَرُدَّ الْمَاءَ أَنْ يَسِيلَ مِنْ نَوَاحِيهَا الْأَرْبَعِ ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الْغُسْلِ رَفَعُوا الدَّكَّةَ وَنَزَحُوا مِنْ

الْمَاءِ مَا أَمْكَنَهُمْ ، ثُمَّ يَخْلِطُونَ مَا بَقِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ التُّرَابِ ، ثُمَّ يَحْمِلُونَهُ وَيَرْمُونَهُ خَارِجَ الْبَيْتِ فَتَتَنَجَّسُ أَيْدِيهِمْ وَأَجْسَادُهُمْ وَثِيَابُهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُونَ الْمَيِّتَ وَيَحْمِلُونَهُ حَتَّى يُخْرِجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ وَيَضَعُونَهُ عَلَى النَّعْشِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْسِلُوا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْمَاءِ النَّجَسِ فَيُنَجِّسُونَ الْكَفَنَ ، وَنَحْنُ قَدْ أُمِرْنَا بِطَهَارَتِهِ ، وَهَذَا عَكْسُ الْحَالِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ .
فَإِذَا أَخَذُوا فِي إخْرَاجِهِ إلَى النَّعْشِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَهِيَ حُضُورُ شَخْصٍ يُسَمُّونَهُ بِالْمُدِيرِ فَيُزَكِّي الْمَيِّتَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِ قَوْلِهِ : السَّعِيدُ الشَّهِيدُ الْقَاضِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ الْخَاشِعُ الْوَرِعُ كَهْفُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَلِلْمَرْأَةِ : السَّعِيدَةُ الشَّهِيدَةُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ الْمَعْهُودَةِ عِنْدَهُمْ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ الَّتِي جَمَعَتْ بَيْنَ التَّزْكِيَةِ وَالْكَذِبِ الصُّرَاحِ ، وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ وَرُجُوعٍ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَقَابَلُوهُ بِضِدِّ الْمُرَادِ مِنْهُمْ ، وَالْمَيِّتُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُضْطَرٌّ إلَى الدُّعَاءِ لَهُ وَإِظْهَارِ فَقْرِهِ وَمَسْكَنَتِهِ وَاضْطِرَارِهِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ فِي نَقِيضِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
ثُمَّ إنَّ الْمُدِيرَ لَمْ يَكْتَفِ بِالتَّزْكِيَةِ لِلْمَيِّتِ وَالْكَذِبِ فِي حَقِّهِ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ بِنَحْوِ قَوْلِهِ : لِيَتَقَدَّمَ سَيِّدُنَا الْقَاضِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ التَّزْكِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : فُلَانُ الدِّينِ يَنْعَتُهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ الشَّرْعِيِّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي النُّعُوتِ مِنْ الْمَنْعِ وَتَعْظِيمِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى

قَدْرِ مَا يَرْجُوهُ مِنْهُ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ تَوَاضُعٍ وَرُجُوعٍ وَتَوْبَةٍ ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ حُضُورِ الْمُدِيرِ ، وَمَا يَرْضَوْنَ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ ، كُلُّ ذَلِكَ نَقِيضُ وَعَكْسُ حَالِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَحَلِّ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ مَاتَ لَهُ مَيِّتٌ بِمَوْضِعٍ ، وَكَانَ بِقُرْبِهِ مَسْجِدٌ ، فَإِذَا أَتَى النَّاسُ جَلَسُوا فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ الْجِنَازَةِ ، وَالْمَسْجِدُ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَمَا أَشْبَهَهَا لَا لِلْجُلُوسِ فِيهِ لِانْتِظَارِ الْمَوْتَى فَيُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ الْجُلُوسِ فِيهِ لِغَيْرِ مَا بُنِيَ لَهُ ، وَبَعْضُهُمْ يَدْخُلُ وَلَا يُصَلِّي التَّحِيَّةَ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مَعْنَاهُ : إنَّهَا تُغْلَقُ وَلَا تُفْتَحُ إلَّا أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ فِيهِ أَوْ انْتِظَارَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ مِنْ حُضُورِ الْقُرَّاءِ إذْ ذَاكَ وَيُبْسَطُ لَهُمْ حَصِيرٌ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ بِسَاطٌ أَوْ هُمَا مَعًا فَيَجْلِسُونَ عَلَيْهَا وَيَقْرَؤُنَّ الْقُرْآنَ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَشْيَاءُ .
فَمِنْهَا : أَنَّ الْقُرْآنَ يُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يُقْرَأَ فِي الطُّرُقِ وَفِي الْأَسْوَاقِ فِي مَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ إذْ الْغَالِبُ عَلَى الطُّرُقِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ كَثْرَةِ بَوْلِ الدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا وَمِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ بَنِي آدَمَ ، وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : أَنَّ الطَّرَقَاتِ مَحَلٌّ لِلْمُرُورِ فِيهَا لَا لِلْجُلُوسِ .
وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الطُّرُقَاتِ } فَمَنْ جَلَسَ فِيهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَهُوَ غَاصِبٌ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ ،

وَمَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ ، وَهُمْ غَاصِبُونَ لِلْمَوَاضِعِ الَّتِي جَلَسُوا فِيهَا لِلْقِرَاءَةِ فِي وَقْتِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى يَنْصَرِفُوا .
وَمِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِمْ مِنْ شِبْهِ الْهُنُوكِ وَالتَّرْجِيعَاتِ كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ حَتَّى إنَّك إذَا لَمْ تَكُنْ حَاضِرًا مَعَهُمْ فِي مَوْضِعٍ وَتَسْمَعُهُمْ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغَانِي غَالِبًا ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مِنْهُمْ مَرْئِيٌّ مِنْ فِعْلِهِمْ ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْقَبَائِحِ لَوْ سَلِمَ مِنْ الْمُحَرَّمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ عَمْدًا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ ، وَمِنْهَا : أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْقُرَّاءِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُمْ بِحَضْرَةِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إذَا قُرِئَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ لَعَلَّ أَنْ تَعُمَّ الْمَيِّتَ وَتَعُمَّهُمْ لَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ فَيَتْرُكُونَهُمْ يَقْرَءُونَ فِي الطُّرُقِ فَيَا لِلَّهِ وَيَا لَلْعَجَبِ أَيْنَ ذَهَبَتْ الْعُقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ لَكَانَ فِعْلُهُ قَبِيحًا شَنِيعًا فَكَيْفَ وَالشَّرْعُ يَنْهَى عَنْهُ ؟ وَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا أَمْرَ الشَّرْعِ وَدَلَالَةَ الْعَقْلِ ، وَفَعَلُوا مَا زَيَّنَ لَهُمْ اللَّعِينُ .
وَقَدْ نَقَلَ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ : أَنَّ إبْلِيسَ اللَّعِينَ يَقُولُ : الْعَجَبُ لِبَنِي آدَمَ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَيَعْصُونَهُ وَيُبْغِضُونِي وَيُطِيعُونَنِي .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ النَّاسِ يُسَمُّونَهُمْ بِالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ يَذْكُرُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ جَمَاعَةً عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ ، وَيَتَصَنَّعُونَ فِي ذِكْرِهِمْ وَيَتَكَلَّفُونَ بِهِ عَلَى طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ لَهَا

طَرِيقٌ فِي الذِّكْرِ وَعَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا ، فَيَقُولُونَ : هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُسَلَّمِيَّةِ مَثَلًا ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَذَا ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَذَا كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُمْ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَحْزَابِ الَّتِي يَقْرَءُونَهَا فَيَقُولُونَ : هَذَا حِزْبُ الزَّاوِيَةِ الْفُلَانِيَّةِ ، وَهَذَا حِزْبُ الزَّاوِيَةِ الْفُلَانِيَّةِ ، وَهَذَا حِزْبُ الرِّبَاطِ الْفُلَانِيِّ ، وَهَذَا حِزْبُ الرِّبَاطِ الْفُلَانِيِّ ، كُلُّ وَاحِدٍ لَا يُشْبِهُ الْآخَرَ غَالِبًا .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَأْتُونَ بِالْفُقَرَاءِ لِلذِّكْرِ عَلَى الْجِنَازَةِ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ وَهُمْ عَنْهُ بِمَعْزِلٍ ؛ لِأَنَّهُمْ يُبَدِّلُونَ لَفْظَ الذِّكْرِ بِكَوْنِهِمْ يَجْعَلُونَ مَوْضِعَ الْهَمْزَةِ يَاءً ، وَبَعْضُهُمْ يَنْقَطِعُ نَفَسُهُ عِنْدَ آخِرِ قَوْلِهِ : لَا إلَهَ ، ثُمَّ يَجِدُ أَصْحَابَهُ قَدْ سَبَقُوهُ بِالْإِيجَابِ فَيُعِيدُ النَّفْيَ مَعَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِذِكْرٍ وَيُؤَدَّبُ فَاعِلُهُ وَيُزْجَرُ لِقُبْحِ مَا أَتَى بِهِ مِنْ التَّغْيِيرِ لِلذِّكْرِ الشَّرْعِيِّ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَأَيْنَ الْبَرَكَةُ الَّتِي حَصَلَتْ بِحُضُورِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ أَتَوْا بِالذِّكْرِ عَلَى وَجْهِهِ لَمُنِعَ فِعْلُهُ لِلْحَدَثِ فِي الدِّينِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ ، وَهِيَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ وَالْحُدُوثِ ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهَا وَالٍ كَانَ بِمِصْرَ وَهِيَ تَكْبِيرُ الْمُؤَذِّنِينَ مَعَ الْجِنَازَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَيَجْتَمِعُ بِسَبَبِهِمْ مَعَ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ وَالْمُرِيدِينَ وَمَنْ يُتَابِعُهُمْ فِي فِعْلِهِمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ فَيَبْقَى فِي الْجِنَازَةِ غَوْغَاءُ وَتَخْلِيطٌ وَتَخْبِيطٌ ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ امْتِثَالِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي زَعَقَاتِ الْجَمِيعِ بِمَا لَا يَنْبَغِي .
وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ زَعَقَاتِ النِّسَاءِ مِنْ خَلْفِهِمْ وَكَشْفِ الْوُجُوهِ وَاللَّطْمِ عَلَى الْخُدُودِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ مِنْهُمْ .
وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ضِدُّ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ جَنَائِزُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ؛ لِأَنَّ جَنَائِزَهُمْ كَانَتْ عَلَى الْتِزَامِ الْأَدَبِ وَالسُّكُونِ وَالْخُشُوعِ وَالتَّضَرُّعِ حَتَّى إنَّ صَاحِبَ الْمُصِيبَةِ كَانَ لَا يُعْرَفُ مِنْ بَيْنِهِمْ لِكَثْرَةِ حُزْنِ الْجَمِيعِ وَمَا أَخَذَهُمْ مِنْ الْقَلِقِ وَالِانْزِعَاجِ بِسَبَبِ الْفِكْرَةِ فِيمَا هُمْ إلَيْهِ صَائِرُونَ وَعَلَيْهِ قَادِمُونَ حَتَّى لَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ أَنْ يَلْقَى صَاحِبَهُ لِضَرُورَاتٍ تَقَعُ لَهُ عِنْدَهُ فَيَلْقَاهُ فِي الْجِنَازَةِ فَلَا يَزِيدُ عَلَى السَّلَامِ الشَّرْعِيِّ شَيْئًا لِشُغْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْخُذَ الْغِذَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِشِدَّةِ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْجَزَعِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَيِّتُ غَدٍّ يُشَيِّعُ مَيِّتَ الْيَوْمِ .
وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَنْ قَالَ فِي الْجِنَازَةِ : اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ فَقَالَ لَهُ : لَا غَفَرَ اللَّهُ لَك .
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُمْ فِي

تَحَفُّظِهِمْ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ ، فَمَا بَالُك بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى أَفْعَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْوَقْتِ ، وَلَا لِعَوَائِدِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاقْتِدَاءُ بِأَفْعَالِ السَّلَفِ وَأَحْوَالِهِمْ ، فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ شَدَّ يَدَهُ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ ، فَهُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ مَنْ جَالَسَهُمْ وَلَا مَنْ أَحَبَّهُمْ ، إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الدُّخُولِ بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ .
لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَعْتَنُونَ بِهِ مِنْ الْمَوْتَى يَتْرُكُونَهُ بَعْدَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَقِفُونَ عِنْدَهُ يَدْعُونَ وَيُطَوِّلُونَ الدُّعَاءَ ، وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ تَكْبِيرُ الْمُؤَذِّنِينَ إذْ ذَاكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ زَعَقَاتِهِمْ ، وَيُطَوِّلُونَ فِي ذَلِكَ ، وَالسُّنَّةُ التَّعْجِيلُ بِالْمَيِّتِ إلَى دَفْنِهِ وَمُوَارَاتِهِ ، وَفِعْلُهُمْ بِضِدٍّ فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَا وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهَةٌ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، جَائِزَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ هِيَ الْبِدْعَةُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شُرُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَفَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَفَضَائِلِهَا ، لَكِنْ بَقِيَتْ شُرُوطُ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ ، وَأَرْكَانُهَا وَسُنَنُهَا .
فَشُرُوطُهَا سَبْعَةٌ وَهِيَ : طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَطَهَارَةُ الْخَبَثِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَتَرْكُ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ وَالنِّيَّةُ .
وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَةٌ : أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ وَالدُّعَاءُ وَالتَّسْلِيمُ وَالْقِيَامُ مَعَ الْقُدْرَةِ .
وَسُنَنُهَا سِتَّةٌ : الْأُولَى : رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى ، وَالثَّانِيَةُ : الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالثَّالِثَةُ : الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وَالرَّابِعَةُ : التَّيَامُنُ بِالسَّلَامِ وَإِخْفَاؤُهُ وَالْخَامِسَةُ : أَنْ تَكُونَ فِي جَمَاعَةٍ ، وَالسَّادِسَةُ : أَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي ، وَرَأْسُهُ إلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ ، وَمَوْضِعُ قِيَامِ الْمُصَلِّي فِي وَسَطِ الرَّجُلِ ، وَالْمَرْأَةُ عِنْدَ مَنْكِبَيْهَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِ إنْ قَامَ فِي وَسَطِهَا أَنْ يَتَذَكَّرَ بِذَلِكَ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ ، أَوْ مَا تُنَزَّهُ الصَّلَاةُ عَنْهُ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ مِمَّنْ يُغْسَلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ .
وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْمَوْتَى لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ : أَوَّلُهُمْ : الشَّهِيدُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي نُصْرَةِ التَّوْحِيدِ .
وَالثَّانِي : السِّقْطُ إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا ، وَلَا حُكْمَ لِحَرَكَتِهِ .
وَالثَّالِثُ : الْكَافِرُ إذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ جُمْلَةً ، وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ

أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ غَالِبَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي رِسَالَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ وَأَحْيَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ وَالْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ وَالثَّنَاءُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت وَرَحِمْت وَبَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك أَنْتَ خَلَقْته وَأَنْتَ رَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ فَشَفِّعْنَا فِيهِ .
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَجِيرُ بِحَبْلِ جِوَارِك لَهُ إنَّك ذُو وَفَاءٍ وَذِمَّةٍ اللَّهُمَّ قِه مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَنَقِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ ، اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ ، اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ فَقِيرًا إلَى رَحْمَتِك وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ ) .
تَقُولُ هَذَا بِإِثْرِ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ ، وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَحَاضِرِنَا وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا إنَّك تَعْلَمُ مُتَقَلَّبَنَا وَمَثْوَانَا وَلِوَالِدِينَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ مَغْفِرَةً عَزْمًا وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ ،

اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَسْعِدْنَا بِلِقَائِك وَطَيِّبْنَا لِلْمَوْتِ وَطَيِّبْهُ لَنَا وَاجْعَلْ فِيهِ رَاحَتَنَا وَمَسَرَّتَنَا ) ثُمَّ تُسَلِّمُ ، فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً قُلْت : ( اللَّهُمَّ إنَّهَا أَمَتُك ) ثُمَّ تَتَمَادَى بِذِكْرِهَا عَلَى التَّأْنِيثِ غَيْرَ أَنَّك لَا تَقُولُ : وَأَبْدِلْهَا زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ زَوْجًا فِي الْجَنَّةِ لِزَوْجِهَا فِي الدُّنْيَا ، وَنِسَاءُ الْجَنَّةِ مَقْصُورَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَبْغِينَ بِهِمْ بَدَلًا ، وَالرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ زَوْجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَلَا يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ أَزْوَاجٌ ، فَإِنْ كَانَ طِفْلًا فَتُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَتُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ تَقُولُ : ( اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك أَنْتَ خَلَقْته وَأَنْتَ رَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيهِ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لِوَالِدَيْهِ سَلَفًا وَذُخْرًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَإِيَّاهُمَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا وَإِيَّاهُمَا بَعْدَهُ ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كَفَالَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ ) تَقُولُ ذَلِكَ بِإِثْرِ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَسْلَافِنَا وَأَفْرَاطِنَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ ، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ ) ثُمَّ تُسَلِّمُ وَلَا بَأْسَ أَنْ تُجْمَعَ الْجَنَائِزُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيَلِيَ الْإِمَامَ الرِّجَالُ إنْ كَانَ فِيهِمْ نِسَاءٌ ، وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا جُعِلَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ

، وَجُعِلَ مِنْ دُونِهِ الصِّبْيَانُ ، وَالنِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إلَى الْقِبْلَةِ .
فَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا وَلَا يَعْرِفُ مَا هُوَ الْمَيِّتُ أَوَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ ، أَوْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، أَوْ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، فَإِنَّهُ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ إمَامُهُ ، ثُمَّ يَدْعُوَ بِالدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا أُخْرِجَ الْمَيِّتُ مِنْ مَوْضِعِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ خُرُوجِهِ عَلَى السُّنَّةِ ، وَمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ غَيْرِهَا ، وَهُمْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ يَصِلُوا بِهَا إلَى مَوْضِعٍ خَارِجٍ عَنْ الْأَسْوَاقِ يُسَمُّونَهُ بِدَرْبِ الْوَدَاعِ ، فَإِذَا وَصَلُوا إلَيْهِ قَطَعُوا كُلَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ وَالْمُؤَذِّنِينَ ، ثُمَّ يَفْعَلُونَ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْضًا أَفْعَالًا مُخَالِفَةً لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ .
فَمِنْهَا : أَنَّهُمْ يَضَعُونَ النَّعْشَ هُنَاكَ ، وَيَقِفُ وَلِيُّ الْمَيِّتِ بِمَوْضِعٍ ، وَالْمُدِيرُ يُنَادِي أَمَامَهُ فِي النَّاسِ أَنْ يَأْتُوا إلَى التَّعْزِيَةِ وَيَتَكَلَّمُ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مُحْتَوِيَةٍ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّزْكِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَأْتُونَهُ لِلتَّعْزِيَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، وَالْمُدِيرُ يُزَكِّي وَيُثْنِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَالتَّعْزِيَةُ جَائِزَةٌ قَبْلَ الدَّفْنِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَيِّتِ بِسَبَبِهَا تَأْخِيرٌ عَنْ مُوَارَاتِهِ ، فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ فَتُمْنَعُ ، .
وَالْأَدَبُ فِي التَّعْزِيَةِ عَلَى مَا نَقَلَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ؛ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ رُجُوعِ أَهْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ إلَى بَيْتِهِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ صِفَتِهَا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ إنَّ مَنْ عَزَّى مِنْهُمْ أَكْثَرُهُمْ يَرْجِعُونَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالْمُشَيِّعُونَ لِلْجِنَازَةِ إنَّمَا يُشَيِّعُهَا مَنْ يُشَيِّعُهَا مِنْهُمْ لِأَمْرَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا ، وَهُمَا الصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَدَفْنُهَا ، أَوْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا لَيْسَ إلَّا .
فَمَنْ خَرَجَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا فَانْصِرَافُهُ مِنْ حَيْثُ صَلَّى عَلَيْهَا ، وَمَنْ خَرَجَ لَهُمَا مَعًا فَانْصِرَافُهُ بَعْدَ مُوَارَاتِهَا .
وَكَذَلِكَ مَنْ يَخْرُجُ لِلدَّفْنِ فَقَطْ لِعُذْرٍ يَمْنَعُهُ عَنْ الصَّلَاةِ وَهُمْ يَرْجِعُونَ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِدَرْبِ الْوَدَاعِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْ الذِّكْرِ وَيَرْتَكِبُونَ فِيهِ مَحْذُورًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ : أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي عَمَلِ قُرْبَةٍ يَلْزَمُهُ إتْمَامُهُ ، وَهُمْ قَدْ شَرَعُوا فِي التَّشْيِيعِ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي صُلِّيَ فِيهِ عَلَى الْجِنَازَةِ إلَى الْمَوْضِعِ الْمُسَمَّى بِدَرْبِ الْوَدَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا عَمَلُ قُرْبَةٍ قَدْ شَرَعُوا فِيهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ إتْمَامُهُ ، وَهُوَ أَنْ يَتْبَعُوهُ إلَى أَنْ يُوَارَى بِالتُّرَابِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ النِّسَاءِ يُصَلِّينَ صَلَاةَ الْعِيدِ قِيلَ لَهُ : أَيَنْصَرِفْنَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ؟ فَقَالَ : لَا مَنْ دَخَلَ فِي عَمَلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ فَلَا يَنْصَرِفْنَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ ، وَإِنْ كُنَّ لَا يَسْمَعْنَهَا ، أَوْ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَيْهِنَّ ، فَلَمَّا أَنْ شَرَعْنَ فِيهَا لَزِمَهُنَّ إتْمَامُهَا عَلَى سُنَّتِهَا ، وَذَلِكَ

بِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إذْ إنَّ اتِّبَاعَ الْجِنَازَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَمَنْ تَبِعَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا ، فَقَدْ شَرَعَ فِي قُرْبَةٍ فَيَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا ، وَالْإِتْمَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُوَارَاتِهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَبَعْضُهُمْ إذَا كَانَ لَهُمْ مَيِّتٌ يَعْتَنُونَ بِهِ يَتْرُكُونَهُ عِنْدَ دَرْبِ الْوَدَاعِ سَاعَةً يَقْرَءُونَ وَيَذْكُرُونَ وَيُكَبِّرُونَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى بَعْضِ الْمَوْتَى ، وَيُسَمُّونَهُ وَدَاعًا ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إكْرَامُ الْمَيِّتِ بِالتَّعْجِيلِ بِدَفْنِهِ ، ثُمَّ إنَّ الْقُرَّاءَ وَالذَّاكِرِينَ وَالْمُكَبِّرِينَ فِي الْغَالِبِ يَرْجِعُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ لِلتَّبَرُّكِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى مَا زَعَمُوا أَنْ يَصْحَبُوا الْمَيِّتَ بِذَلِكَ كُلِّهِ إلَى أَنْ يُوَارَى فِي قَبْرِهِ ، فَلَمَّا أَنْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا فَعَلُوا فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ دُونَ غَيْرِهَا ، كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا فَعَلُوهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ النَّاسِ .

ثُمَّ إنَّ السُّنَّةَ فِي تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ أَنَّ مَنْ يُشَيِّعُهَا يَمْشِي مَعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ ، وَهُمْ يَفْعَلُونَ غَيْرَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَتْبَعُونَهَا حَتَّى يُصَلُّوا عَلَيْهَا وَيَمْشُوا مَعَهَا إلَى دَرْبِ الْوَدَاعِ ، فَإِذَا أَتَوْا إلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَبُ ، وَكُلٌّ يَسْلُكُ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ الطُّرُقِ فَيَسْبِقُونَ الْجِنَازَةَ إلَى الْقَبْرِ ، وَتَبْقَى الْجِنَازَةُ تَجْرِي بِهَا الْحَمَّالُونَ وَلَا يُشَيِّعُهَا إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ وَمِنْ شِدَّةِ جَرْيِ الْحَمَّالِينَ بِهَا تَرَى الْمَيِّتَ يَهْتَزُّ عَلَى النَّعْشِ ، وَرَأْسُهُ يَخْفِقُ ، وَبَدَنُهُ يَضْطَرِبُ ، وَيَتَمَخَّضُ فُؤَادُهُ ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ الْفَضَلَاتِ مِنْ جَوْفِهِ إلَى فَمِهِ أَوْ دُبُرِهِ فَيَذْهَبُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمِرْنَا بِتَغْسِيلِ الْمَيِّتِ وَهُوَ الْإِكْرَامُ لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ ، وَهَذَا كُلُّهُ شَنِيعٌ مِنْ الْفِعْلِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلِّهِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالنَّظَرِ إلَيْهَا وَالتَّبَرُّكِ بِمَرَاسِمِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْعَلُ فِي شَيْءٍ إلَّا حَلَّتْ الْبَرَكَةُ فِيهِ ، وَذَهَبَ كُلُّ مَا يُتَخَوَّفُ مِنْهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْمَشْيِ مَعَهَا لِاسْتِعْجَالِ الْحَمَّالِينَ بِهَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِعْجَالَ هُنَا مَكْرُوهٌ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَلِمَا يُخْشَى أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ مِنْ الْمَيِّتِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُمْنَعُونَ مِنْ الْعَجَلَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ بِالْمَيِّتِ وَبِمَنْ يَمْشِي مَعَهُ .
وَهَذَا عَكْسُ مَا يَمْشُونَ بِهِ حِينَ الْخُرُوجِ بِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى مَوْضِعِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَمِنْهُ إلَى دَرْبِ الْوَدَاعِ ، فَإِنَّهُمْ يَمْشُونَ بِهِ الْهُوَيْنَا .
وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْهُ بِمَا وَرَدَ { : وَلَا تَدِبُّوا بِهَا كَدَبِيبِ الْيَهُودِ } ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ

السُّنَّةَ فِي الْمَشْيِ بِالْجِنَازَةِ أَنْ يَكُونَ كَالشَّابِّ الْمُسْرِعِ فِي حَاجَتِهِ ، وَهَذَا الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ وَسَطٌ بَيْن مَا يَفْعَلُونَهُ : أَوَّلًا مِنْ الدَّبِيبِ بِهَا ، وَآخِرًا مِنْ الِاسْتِعْجَالِ الَّذِي يَضُرُّ بِهَا { : وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } ، فَكَانَتْ السُّنَّةُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لَا يَعْرِفُونَهَا إذْ إنَّهُمْ لَوْ عَرَفُوهَا مَا تَرَكُوهَا ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا يَتْرُكُهَا أَحَدٌ مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَى تَرْكِهَا ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَيَكُونُ الْمَاشُونَ أَمَامَهَا وَالرُّكْبَانُ خَلْفَهَا إلَى قَبْرِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ أَفْضَلُ مِنْ الرَّاكِبِ فَيُقَدَّمُ رَجَاءَ قَبُولِ شَفَاعَتِهِ ؛ لِأَنَّ حَالُ تَوَاضُعٍ وَافْتِقَارٍ ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِذَلِكَ .
ثُمَّ إذَا مَشَى الْمُشَاةُ أَمَامَهَا وَالرُّكْبَانُ خَلْفَهَا ، فَالسُّنَّةُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ مَعَ أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَحَلِّ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدْعَةٌ إذْ إنَّهُمْ ذَاهِبُونَ لِلشَّفَاعَةِ يَرْجُونَ قَبُولَهَا ، فَيَشْتَغِلُونَ بِمَا هُمْ إلَيْهِ صَائِرُونَ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشْتَغِلًا فِي نَفْسِهِ بِالِاعْتِبَارِ وَبِالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِجَمِيعِ ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حُضُورِ جَنَائِزِهِمْ يَتَنَاكَرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ شَهْرُ رَمَضَانَ حَتَّى إذَا رَجَعُوا لِلْبَلَدِ تَعَارَفُوا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي وُدِّهِمْ الشَّرْعِيِّ .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي كَوْنِهِمْ يَسْبِقُونَ الْجِنَازَةَ وَيَجْلِسُونَ يَنْتَظِرُونَهَا وَيَتَحَدَّثُونَ إذْ ذَاكَ فِي التِّجَارَاتِ وَالصَّنَائِعِ وَفِي مُحَاوَلَةِ أُمُورِ الدُّنْيَا .
وَمَنْ كَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كَيْفَ يُرْجَى قَبُولُ شَفَاعَتِهِ ؟ بَلْ بَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْمَيِّتُ يُقْبَرُ فِي الْغَالِبِ ، بَلْ بَعْضُهُمْ يَتَضَاحَكُونَ حِينَ يَتَكَلَّمُونَ وَآخَرُونَ يَتَبَسَّمُونَ وَآخَرُونَ يَسْتَمِعُونَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ

مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْرَعَ أَوَّلًا فِي حَفْرِ الْقَبْرِ قَبْلَ الْأَخْذِ فِي غُسْلِهِ .
وَقَدْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى حَالِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنْ يَحْفِرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْغُسْلِ ، وَعَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ إلَى الْيَوْمِ ، وَلَا بَأْسَ بِإِجَارَةِ مَنْ يَحْفِرُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَفْرُ فِي الْمَقْبَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ فِيهَا بِخِلَافِ أَنْ لَوْ دُفِنَ فِي غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ النَّبْشِ عَلَيْهِ أَوْ وُصُولِ النَّجَاسَاتِ إلَيْهِ ، أَوْ يُدْفَنُ فِي أَرْضٍ مُسْتَعَارَةٍ أَعْنِي لَا أَصْلَ لَهَا كَالْكِيمَانِ وَمَا شَابَهَهَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِلْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُنْبَشُ وَيُبْنَى عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا حِرْزُهُ مَقْبَرَةُ الْمُسْلِمِينَ .
وَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَيِّتِ أَنْ يَخْتَارَ لَهُ الدَّفْنَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ لِمَا وَرَدَ { هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ } وَلِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ } فَلَعَلَّ بَرَكَةَ الْجِوَارِ ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ تَعُودَ عَلَى مَنْ جَاوَرَهُمْ وَنَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ ، وَقَدْ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا الدَّفْنَ عِنْدَ قُبُورِ الْآبَاءِ وَالْأَقَارِبِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ عِنْدَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصُّلَحَاءِ ، فَإِنْ اجْتَمَعَا فَيَا حَبَّذَا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَحْفِرُ الْقَبْرَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ وَالْأَمَانَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ يَجِدُ فِي الْمَوْضِعِ أَثَرَ مَيِّتٍ فَيُزِيلُهُ أَوْ يَكْسِرُهُ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ حُبِسَ عَلَى مَنْ دُفِنَ فِيهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَاصِبٌ لِمَوْضِعِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ ،

وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ ، وَبَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَحْفِرُونَ وَيَرْمُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى بَعْدَ تَكْسِيرِهَا بِمَوْضِعٍ آخَرَ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا يَحْفِرُ فِيهِ بِسَبَبِ آثَارِ الْمَوْتَى الَّتِي هُنَاكَ فَلْيَخْرُجْ عَنْ الْمَقْبَرَةِ إلَى الْبَرِّيَّةِ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِهَا فَهُوَ أَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ ، وَيُرَاعَى مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ الطَّرِيقِ دُونَ شَيْءٍ يَسْتُرُهُ عَنْ الْمَارِّينَ مِثْلَ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَعَلَّ أَنْ يَنَالَهُ بَرَكَةُ مَنْ يَمُرُّ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَعَلَّ مَنْ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مُضْطَرٌّ إلَى ذَلِكَ كَائِنًا مَا كَانَ .
وَحِكْمَةُ دَفْنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّحْرَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا .
وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ رِيَاسَةٌ وَمَالٌ عُمِلَ لَهُ تُرْبَةٌ فِي الْبَلَدِ وَدُفِنَ فِيهَا فَتُصِيبُهُ النَّجَاسَاتُ وَتَمُرُّ عَلَيْهِ السَّرَابَاتُ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْمَقْبَرَةِ يَبْنُونَ فِيهَا الْبُيُوتَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا السَّرَابَاتِ ، وَبَعْضُهُمْ يَبْنُونَ الْآبَارَ وَالْحَمَّامَاتِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَبْعُدَ بِالْحَفْرِ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى لَا يَصِلَ إلَى الْمَيِّتِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَالرُّطُوبَاتِ ، وَإِذَا حُفِرَ الْقَبْرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْ يَحْفِرُهُ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْقِبْلَةَ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً ، وَلَا يَعْمَلُ عَلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ الْمَحَارِيبِ فِي الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ يَضَعُهَا لَا يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ فَيَقَعُ بِسَبَبِهِ الْخَطَأُ وَالْخَلَلُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَعْرِفُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْقَبْرُ

إلَى الْقِبْلَةِ بِالسَّوَاءِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفِرَ لِلْمَيِّتِ عَلَى طُولِهِ أَوْ أَزْيَدَ قَلِيلًا حَتَّى إذَا دَخَلَ فِي قَبْرِهِ يَكُونُ دُخُولُهُ فِيهِ بِالسَّوَاءِ ، وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى السَّلَفُ وَالْخَلْفُ .
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِنْ أَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ السُّنَّةَ فِي صِفَةِ حَفْرِ الْقَبْرِ فَيَحْفِرُونَهُ مِنْ أَعْلَاهُ ضَيِّقًا وَمِنْ أَسْفَلِهِ بِطُولِ الْمَيِّتِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَوْتَى أَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ أَعْنِي مَعَ التَّحَفُّظِ عَلَى دُخُولِ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ عَلَى السُّنَّةِ بِاحْتِرَامِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مِنْ شَفْعٍ أَوْ وَتْرٍ ، وَلَكِنْ قَدْرُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ وَيَقُومُ بِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِرِفْقٍ وَتُؤَدَةٍ حَتَّى كَأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَتَحَرَّكُ لِوُجُودِ التَّلَطُّفِ بِهِ فِي إدْخَالِهِ فِي قَبْرِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ وَلِيُّ الْمَيِّتِ أَنْ يَأْخُذَ قِيَاسَهُ وَيَحْفِرَ لَهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ أَوْ أَزْيَدَ قَلِيلًا ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالسَّوَاءِ مِنْ أَعْلَى الْقَبْرِ إلَى اللَّحْدِ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِالسَّوَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَكُونُ مَنْ يُدْخِلُهُ فِي قَبْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ عَهْدِهِ بِالدُّنْيَا وَأَوَّلُ مَنْزِلٍ يَحِلُّ فِيهِ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِمَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْحَفَّارِينَ بِالْأُجْرَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ غَالِبًا ، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ فَيَكُونُ الْمُتَنَاوِلُونَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيَسُلُّونَ الْمَيِّتَ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ ، وَيَتَنَاوَلُونَهُ قَلِيلًا قَلِيلًا بِرِفْقٍ ، وَأَكْثَرُ

النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَفْعَلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَفَّارَ يَتَنَاوَلُهُ حَتَّى إذَا نَزَلَ أَكْثَرُهُ جَعَلَهُ الْحَفَّارُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَرْمِيهِ بِشِدَّةٍ فَيَقَعُ فِي الْقَبْرِ وَهُوَ يَضْطَرِبُ وَفِي ذَلِكَ إخْرَاقٌ لِحُرْمَةِ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِ الْفَضَلَاتِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ .
ثُمَّ إنَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ الْقَبْرَ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ ، ذَلِكَ يُمْنَعُ لِثَلَاثِ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ مَضَتْ أَنْ يُدْخَلَ فِي قَبْرِهِ بِالسَّوَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْمَعْنَى الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا أُدْخِلَ عَلَى رَأْسِهِ فَقَدْ تَنْزِلُ الْمَوَادُّ إلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ فَتَخْرُجُ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْمَعْنَى الثَّالِثُ : مَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ فِي أَوَّلِ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ يُدْخِلُونَهُ فِيهِ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّحْدُ ضَيِّقًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ فَلَا يَسَعُهُ فَيَحْتَاجُونَ إلَى مُعَالَجَةِ ذَلِكَ ، وَلَا تَقَعُ الْمُعَالَجَةُ بَعْدَ إدْخَالِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ إلَّا بِإِخْرَاقِ حُرْمَتِهِ .
فَيَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْدُ أَطْوَلَ مِنْ الْمَيِّتِ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ دُونَ مُعَالَجَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ يَأْخُذُ فِي لَحْدِهِ فَيُزِيلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الرِّبَاطِ مِنْ نَاحِيَةِ رَأْسِهِ وَمِنْ نَاحِيَةِ رِجْلَيْهِ ، ثُمَّ يُزِيلُ الرِّبَاطَ الَّذِي كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَعَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ ، وَلَا يُزِيلُ شَيْئًا مِنْ الْقُطْنِ لِئَلَّا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرٌ .
وَكَذَلِكَ الْخِرَقُ الَّتِي حَلَّهَا قَبْلُ لِئَلَّا يُرَى عَلَيْهَا ذَلِكَ .
ثُمَّ يَحِلُّ الرِّبَاطَ الَّذِي فِي إبْهَامَيْ رِجْلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ يَحِلُّ الرِّبَاطَ الَّذِي فِي كُمَّيْهِ وَيُسَرِّحُ يَدَيْهِ .
ثُمَّ يُضْجِعُهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ ، وَيَكُونُ فِي الْكَفَنِ كَأَنَّهُ فِي

فِرَاشِهِ بَعْضُهُ تَحْتَهُ وَبَاقِيهِ مُغَطًّى بِهِ .
ثُمَّ يُلْصِقُهُ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ ، وَلَا يَجْعَلْ تَحْتَ رَأْسِهِ شَيْئًا ، وَيَكُونُ بِالسَّوَاءِ عَلَى الْأَرْضِ بِجَسَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ ذُلٍّ وَافْتِقَارٍ ، وَلَيْسَ بِمَوْضِعِ رَفْعِ رَأْسٍ وَلَا غَيْرِهِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَنْ غُشِيَ عَلَيْهِ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ رَأْسَهُ فَرَفَعَهَا عَلَى فَخِذِهِ فَلَمَّا أَنْ اسْتَفَاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ قَالَ : ضَعْ رَأْسِي عَلَى الْأَرْضِ لَا أُمَّ لَك ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : أَفْضُوا بِلِحْيَتِي إلَى الْأَرْضِ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْمَآثِرِ الْعَظِيمَةِ مَعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ فَهُوَ أَجْدَرُ بِمُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ دُونَ حَائِلٍ وَارْتِفَاعٍ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مَا ، وَهَذَا بِعَكْسِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ تَحْتَ الْمَيِّتِ شَيْئًا يَقِيهِ مِنْ التُّرَابِ ، بَلْ بَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ تَحْتَهُ طَرَّاحَةً وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةً .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَكْثَرُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا إلَى لَحْدِهِ أَزَالُوا تِلْكَ الْخِرَقَ الْمَذْكُورَةَ وَأَخْرَجُوا الْقُطْنَ الَّذِي أَرْسَلُوهُ مَعَهُ فِي فَمِهِ وَأَنْفِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ عَنْهُمْ فَيُخْرِجُونَهُ مِنْ حَلْقِهِ وَتَخْرُجُ الْمَوَادُّ مَعَ ذَلِكَ وَيَبْقَى فَمُهُ مَفْتُوحًا ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الشَّوْهِ مَا فِيهِ مَعَ إخْرَاقِ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ وَوُجُودِ النَّجَاسَةِ فِي الْقَبْرِ وَذَهَابِ الْمَعْنَى الَّذِي أُمِرْنَا بِغُسْلِهِ لَهُ .
وَكَذَلِكَ يُحْتَرَزُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ التُّرَابَ فِي عَيْنَيْهِ وَيَقُولُونَ عِنْدَ ذَلِكَ : لَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ ، وَلَا فَرْقَ فِي الشَّرْعِ فِي إثْمِ فَاعِلِ ذَلِكَ كَمَا

لَوْ كَانَ حَيًّا بَلْ هَذَا أَشَدُّ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ التَّحَلُّلُ مِنْ الْمَيِّتِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
بَلْ يَحِلُّ الرِّبَاطَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ لَيْسَ إلَّا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ مَهْمَا قَدَرَ .
فَإِذَا أَضْجَعَهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ فَلْتَكُنْ الْيَدُ الْيُمْنَى مِنْ الْمَيِّتِ أَمَامَهُ وَالْيُسْرَى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَأْخُذُ حَجَرًا كَبِيرًا فَيُرَكِّزُهُ فِي الْأَرْضِ وَيُسْنِدُ الْمَيِّتَ بِهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إسْنَادِ الْمَيِّتِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ بِالتُّرَابِ وَحْدَهُ دُونَ هَذَا الْحَجَرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْنَدَهُ بِالتُّرَابِ لَيْسَ إلَّا خَرَجَتْ الْفَضَلَاتُ فَيَتَحَلَّلُ التُّرَابُ بِنَدَاوَتِهَا فَيُسْتَلْقَى الْمَيِّتُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَمِيلُ وَجْهُهُ عَنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ ، وَالْمَقْصُودُ دَوَامُهُ مُسْتَقْبِلَهَا حَتَّى يَفْنَى أَوْ يَفْعَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ .
ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ إسْنَادِهِ بِالْحَجَرِ جَعَلَ خَلْفَ الْحَجَرِ تُرَابًا يُسْنِدُهُ بِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَيِّتِ إلَى قَدَمِهِ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا .
فَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ حَجَرًا صُلْبًا لَيْسَ فِيهِ تُرَابٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤْتَى بِالرَّمَلِ فَيَفْرِشَ تَحْتَ الْمَيِّتِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ دُونَهُ انْمَاعَ فِي قَبْرِهِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّمْلِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا .
وَهَذَا بِخِلَافِ أَنْ لَوْ كَانَ الْقَبْرُ سَبِخًا أَوْ تُرَابًا ، فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِالرَّمْلِ بِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِخِلَافِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِهِ فَيَفْرِشُوهُ تَحْتَهُ لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي لَحْدِ الْمَيِّتِ فَلْيَتَرَبَّصْ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي سَدِّ اللَّحْدِ عَلَى الْمَيِّتِ لِيَتَذَكَّرَ حِينَئِذٍ هَلْ نَسِيَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ ،

فَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى ، فَمَنْ نَسِيَ مِنْهُمَا لَعَلَّ الْآخَرَ يَذْكُرُهُ ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي سَدِّ اللَّحْدِ ، وَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ إذَا وَضَعَ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ يَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ يَقُولُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ ( اللَّهُمَّ أَسْلَمَهُ إلَيْك الْأَشِحَّاءُ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ إلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ وَنَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ إنْ عَاقَبْته فَبِذَنْبِهِ وَإِنْ عَفَوْت عَنْهُ فَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَى رَحْمَتِك اللَّهُمَّ اُشْكُرْ حَسَنَاتِهِ وَاغْفِرْ سَيِّئَاتِهِ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِك الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِك وَاكْفِهِ كُلَّ هَوْلٍ دُونَ الْجَنَّةِ اللَّهُمَّ فَاخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ وَجُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ) وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَقُولُ إذَا سَوَّى عَلَيْهِ اللَّبِنَ ( اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك وَخَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَافْتَقَرَ إلَى مَا عِنْدَك وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ ) ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ فَيَجْعَلُونَهُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ ، وَذَلِكَ لَمْ يَرِدْ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَإِذَا لَمْ يَرِدْ فَهُوَ بِدْعَةٌ .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُمْ كَيْفَ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَيُخْرِجُونَ الْقُطْنَ مِنْ فَمِهِ وَأَنْفِهِ وَتَخْرُجُ

الْمَوَادُّ إذْ ذَاكَ وَتُشَمُّ مِنْهُ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ ، وَيَتَنَجَّسُ الْمَحَلُّ بِإِحْدَاثِهِمْ النَّجَاسَةَ فِي الْقَبْرِ بِرَشِّهِمْ مَاءَ الْوَرْدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا ، وَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُبَخَّرَ الْقَبْرُ وَلَا أَنْ يُفْرَشَ فِيهِ رَيْحَانٌ ؛ لِأَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَيَكْفِيهِ مِنْ الطِّيبِ مَا قَدْ عُمِلَ لَهُ وَهُوَ فِي الْبَيْتِ فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُبْتَدِعُونَ فَحَيْثُ وَقَفَ سَلَفُنَا وَقَفْنَا .
ثُمَّ يَسُدُّ عَلَيْهِ اللَّحْدَ ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسُدَّ بِالْأَلْوَاحِ وَلَهُمْ فِي اللَّبِنِ اتِّسَاعٌ إنْ كَانَ طَاهِرًا ، وَطَهَارَتُهُ الْيَوْمَ مَعْدُومَةٌ فِي الْغَالِبِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْحَجَرُ يَقُومُ مَقَامَهُ .
ثُمَّ يليس مَا بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ بِالتُّرَابِ الطَّاهِرِ الْمَعْجُونِ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُغْنِي عَنْ الْمَيِّتِ شَيْئًا لَكِنْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِهِ فَتُتَّبَعُ وَيُسَدُّ الْخَلَلُ حَيْثُ كَانَ .
إذَا فَرَغَ مِنْهُ فَقَدْ تَمَّ لَحْدُهُ فَيَصْعَدُ إذْ ذَاكَ وَيُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ أَنْ يَحْثُوَ فِيهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ .
وَفِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : مَا سَمِعْت مِنْ أَمْرٍ بِهِ وَلَا أَعْرِفُهُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرَأَ أَحَدٌ إذْ ذَاكَ الْقُرْآنَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ فِكْرَةٍ وَاعْتِبَارٍ وَنَظَرٍ فِي الْمَآلِ ، وَذَلِكَ يُشْغِلُ عَنْ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } ، وَالْإِنْصَاتُ مُتَعَذَّرٌ لِشُغْلِ الْقَلْبِ بِالْفِكْرِ فِيمَا هُوَ إلَيْهِ صَائِرٌ وَعَلَيْهِ قَادِمٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى وَهُمْ السَّابِقُونَ وَالْقُدْوَةُ الْمُتَّبَعُونَ ، وَنَحْنُ التَّابِعُونَ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ ، فَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَالرَّحْمَةُ فِي اتِّبَاعِهِمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ كَذَلِكَ بِمَنِّهِ .

فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ إهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ فَلْيَرْفَعُوا الْقَبْرَ قَلِيلًا عَنْ الْأَرْضِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤْتَى بِتُرَابٍ آخَرَ حَتَّى يَكْثُرَ وَيَرْتَفِعَ الْقَبْرُ بِهِ ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ لَاطِئًا مَعَ الْأَرْضِ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْ الْأَرْضِ قَلِيلًا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُسَطَّحُ الْقَبْرُ أَوْ يُسَنَّمُ عَلَى قَوْلَيْنِ ، فَأَيُّمَا فَعَلَ مِنْهُمَا كَانَ حَسَنًا .
وَلَا يُجَصَّصُ الْقَبْرُ وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُرَصَّ عَلَى الْقَبْرِ بِالْحَجَرِ وَالطِّينِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ بِطُوبٍ أَوْ حِجَارَةٍ .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ : { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ } .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا وَأَنْ تُوطَأَ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ ، وَهُوَ تَفْصِيصُهَا } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا .
وَمِنْ الْقُرْطُبِيِّ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ الْأَسَدِيِّ قَالَ : { قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا أَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته .
} وَفِي رِوَايَةٍ { وَلَا صُورَةً إلَّا طَمَسْتهَا } وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : ظَاهِرُهُ مَنْعُ تَسْنِيمِ الْقُبُورِ وَرَفْعِهَا وَأَنْ تَكُونَ لَاطِئَةً .
وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ هَذَا

الِارْتِفَاعَ الْمَأْمُورَ بِإِزَالَتِهِ هُوَ مَا زَادَ عَلَى التَّسْنِيمِ وَيَبْقَى لِلْقَبْرِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَيُحْتَرَمُ وَذَلِكَ صِفَةُ قَبْرِ نَبِيِّنَا سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَأَمَّا تَعْلِيَةُ الْبِنَاءِ الْكَثِيرِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ تَفْخِيمًا وَتَعْظِيمًا ، فَذَلِكَ يُهْدَمُ وَيُزَالُ ، فَإِنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالَ زِينَةِ الدُّنْيَا فِي أَوَّلِ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ وَتَشْبِيهًا بِمَنْ كَانَ يُعَظِّمُ الْقُبُورَ وَيَعْبُدُهَا ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَظَاهِرِ النَّهْيِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : هُوَ حَرَامٌ وَالتَّسْنِيمُ فِي الْقَبْرِ ارْتِفَاعُهُ قَدْرَ شِبْرٍ مَأْخُوذٌ مِنْ سَنَامِ الْبَعِيرِ وَيَرُشُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِئَلَّا يَنْتَثِرَ بِالرِّيحِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا بَأْسَ أَنْ يُطَيَّنَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُجَصَّصُ الْقَبْرُ وَلَا يُطَيَّنُ وَلَا يُرْفَعُ عَلَيْهِ بِنَاءٌ ، وَالدَّفْنُ فِي التَّابُوتِ جَائِزٌ لَا سِيَّمَا فِي الْأَرْضِ الرَّخْوَةِ .
وَلَا يُجْعَلُ الْقَبْرُ مُرَبَّعًا .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَلَّمَ عِنْدَ رَأْسِهِ بِحَجَرٍ ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَأْتِيَهُ بِحَجَرٍ فَلَمْ يَسْتَطِعْ حَمْلَهُ فَقَامَ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ حَمَلَهُ فَوَضَعَهُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَقَالَ أُعَلِّمُ بِهِ قَبْرَ أَخِي وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي } .

فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ فَلْيَنْصَرِفُوا عَنْهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْرَأَ شَيْءٌ مِنْ الْقَصَائِدِ وَلَا مَا شَابَهَهَا لِلْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْ الذِّكْرِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إذْ ذَاكَ ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ فِي الِانْصِرَافِ وَمَوْضِعُ التَّعْزِيَةِ عَلَى تَمَامِ الْأَدَبِ إذَا رَجَعَ وَلِيُّ الْمَيِّتِ إلَى بَيْتِهِ ، وَيَجُوزُ قَبْلَهُ أَعْنِي قَبْلَ الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَهُ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَيَقِفَ عِنْدَ قَبْرِهِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَيُلَقِّنَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إذْ ذَاكَ يَسْأَلَانِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُنْصَرِفِينَ عَنْهُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ : اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } ، وَرَوَى رَزِينٌ فِي كِتَابِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ مَا يَفْرُغُ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ : ( اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُك نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ فَاغْفِرْ لَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ ) ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو حَامِدِ بْنُ الْبَقَّالِ وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ إذَا حَضَرَ جِنَازَةً عَزَّى وَلِيَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ وَانْصَرَفَ مَعَ مَنْ يَنْصَرِفُ فَتَوَارَى هُنَيْهَةً حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْقَبْرِ فَيُذَكِّرُ الْمَيِّتَ بِمَا يُجَاوِبُ بِهِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ .
وَيَكُونُ التَّلْقِينُ بِصَوْتٍ فَوْقَ السِّرِّ وَدُونَ الْجَهْرِ فَيَقُولُ : ( يَا فُلَانُ لَا تَنْسَ مَا كُنْت عَلَيْهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا جَاءَك الْمَلَكَانِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَسَأَلَاك فَقُلْ لَهُمَا : اللَّهُ رَبِّي ، وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّ ، وَالْقُرْآنُ إمَامِي ،

وَالْكَعْبَةُ قِبْلَتِي ) ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَخَفِيفٌ ، وَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ التَّلْقِينِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالزَّعَقَاتِ لِحُضُورِ النَّاسِ قَبْلَ انْصِرَافِهِمْ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ .
وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُوهُ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ أَيْضًا .
وَقَدْ سَأَلْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقُلْت لَهُ : أَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْفَظَ هَذَا التَّلْقِينَ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ مُتَيَسِّرًا عَلَى لِسَانِهِ إذْ ذَاكَ فَانْزَعَجَ وَقَالَ : أَنْتَ تُجَاوِبُ إنَّمَا يُجَاوِبُ عَمَلُك إنْ كَانَ صَالِحًا فَصَالِحًا ، وَإِنْ كَانَ سَيِّئًا فَسَيِّئًا فَحَصِّلْ الْعَمَلَ فَهُوَ يَكْفِيك ، فَإِنَّهُ الْعِدَّةُ الَّتِي تَنْجُو بِهَا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا اللَّقْلَقَةُ بِاللِّسَانِ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَقَدْ أَمَرَ الشَّرْعُ بِالتَّعْزِيَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ مُصِيبَةٌ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ } ، وَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمَّتِهِ وَتَسْلِيَةٌ لَهُمْ ، أَمَّا الْأَمْرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي ، وَأَمَّا التَّسْلِيَةُ فَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ ، فَإِذَا تَذَكَّرَ الْمُؤْمِنُ مَا أُصِيبَ بِهِ مِنْ فَقْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَانَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَصَائِبِ وَاضْمَحَلَّتْ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا خَطَرٌ وَلَا بَالٌ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّعْزِيَةِ أَلْفَاظٌ مُتَعَدِّدَةٌ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : وَأَحْسَنُ التَّعْزِيَةِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { آجَرَكُمْ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِكُمْ وَأَعْقَبَكُمْ خَيْرًا مِنْهَا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ } وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَزَّى الرَّجُلُ فِي صَدِيقِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَصَائِبِ ، وَكَذَلِكَ يُعَزَّى الرَّجُلُ فِي زَوْجَتِهِ الصَّالِحَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَصَائِبِ .
وَقَدْ ذَكَرَ

الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ أَلْفَاظَ التَّعْزِيَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا ، وَمَنْ يُعَزِّي ، وَمَنْ يُعَزَّى فِيهِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا فَقَالَ لَهَا : اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي فَقَالَتْ : وَمَا تُبَالِي بِمُصِيبَتِي فَلَمَّا ذَهَبَ قِيلَ لَهَا : إنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَهَا مِثْلُ الْمَوْتِ فَأَتَتْ بَابَهُ فَلَمْ تَجِدْ عَلَى بَابِهِ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَعْرِفْك فَقَالَ : { إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى } ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سِنَانٍ قَالَ : دَفَنْت ابْنِي سِنَانًا ، وَأَبُو طَلْحَةَ الْخَوْلَانِيُّ جَالِسٌ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ ، فَلَمَّا فَرَغْت قَالَ : أَلَا أُبَشِّرُك قُلْت : بَلَى قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ : أَقَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَقُولُ : أَقَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ فَيَقُولُ : مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ : حَمِدَك وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ } ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذَا قَبَضْت صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلَّا الْجَنَّةُ } وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ أَنْ يُرَاعُوا التَّعْزِيَةَ فِي الدِّينِ أَكْثَرَ كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : فَاتَتْنِي الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ فَعَزَّانِي فِيهَا فُلَانٌ وَلَمْ يُعَزِّنِي غَيْرُهُ وَلَوْ مَاتَ لِي وَلَدٌ لَعَزَّانِي فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ مُصِيبَةَ الدِّينِ عِنْدَ أَهْلِ الدِّينِ أَعْظَمُ

مِنْ مُصِيبَةِ الدُّنْيَا عَكْسُ مَا الْحَالُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ مَعَ الْحَامِلِينَ فِي الْأَقْفَاصِ الْخِرْفَانَ وَالْخُبْزَ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِعَشَاءِ الْقَبْرِ ، فَإِذَا أَتَوْا إلَى الْقَبْرِ ذَبَحُوا مَا أَتَوْا بِهِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَفَرَّقُوهُ مَعَ الْخُبْزِ ، وَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُزَاحَمَةٌ وَضَرْبٌ وَيَأْخُذُ ذَلِكَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَيُحْرَمُهُ الْمُسْتَحِقُّ فِي الْغَالِبِ .
وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ ) ، وَالْعَقْرُ هُوَ الذَّبْحُ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الثَّانِي : مَا فِيهِ مِنْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي أَفْعَالِ الْقُرْبِ الْإِسْرَارُ بِهَا دُونَ الْجَهْرِ ، فَهُوَ أَسْلَمُ ، وَالْمَشْيُ بِذَلِكَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ جَمْعٌ بَيْنَ إظْهَارِ الصَّدَقَةِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِذَلِكَ فِي الْبَيْتِ سِرًّا لَكَانَ عَمَلًا صَالِحًا لَوْ سَلِمَ مِنْ الْبِدْعَةِ أَعْنِي أَنْ يُتَّخَذَ ذَلِكَ سُنَّةً أَوْ عَادَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا بَعْضُ مَنْ لَا يَعْتَنِي بِحِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَإِشَارَاتِهِ ، وَهِيَ إدْخَالُ الْمَيِّتِ فِي الْفَسْقِيَّةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَهِيَ بِدْعَةٌ فِي نَفْسِهَا فَكَيْفَ بِمَا يُفْعَلُ فِيهَا .
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَفْرِشُونَ فِيهَا تَحْتَ الْمَيِّتِ طَرَّاحَةً أَوْ قَطِيفَةً أَوْ غَيْرَهُمَا ، وَيَضَعُونَ تَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةً وَيُغَطُّونَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُضْطَجِعٌ فِي بَيْتِهِ وَيَجْعَلُونَ عِنْدَهُ مِنْ الْمَشْمُومِ مَا أَمْكَنَهُمْ مِنْ الْيَاسَمِينِ وَالرَّيْحَانِ وَغَيْرِهِمَا ، وَيُبَيِّتُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِيهَا

وَمَوْضِعُ الْفَسْقِيَّةِ فِيهِ ظُلْمَةٌ ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يَدْخُلُ مِنْهُ الضَّوْءُ إلَّا مِنْ مَوْضِعِ بَابِهَا ، وَهُوَ ضَيِّقٌ ، فَيَحْتَاجُونَ فِي غَالِبٍ إلَى دُخُولِ الضَّوْءِ مَعَهُمْ .
وَذَلِكَ فِيهِ تَفَاؤُلٌ بِدُخُولِ النَّارِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ يُوقِدُ الشَّمْعَ وَيَتْرُكُهُ مَوْقُودًا عِنْدَهُ ؛ لِئَلَّا يَبْقَى فِي الظَّلَامِ ، وَيَسُدُّ عَلَيْهِ بَابَ الْفَسْقِيَّةِ ، فَهَذَا فِيهِ إضَاعَةُ الْمَالِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّفَاؤُلِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ، وَقَدْ يَقَعُ ذَلِكَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْلَ أَنْ يُطْفَأَ فَيَحْرِقُهُ ، أَوْ يَحْرِقَ مَا عَلَيْهِ أَوْ يَحْرِقَ غَيْرَهُ إنْ كَانَ مَعَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْوَقُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُومُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ ؛ لِأَنَّ الْفَسْقِيَّةَ إذَا سُدَّ بَابُهَا امْتَنَعَ دُخُولُ الْهَوَاءِ إلَيْهَا ، وَالنَّارُ لَا تَتَّقِدُ إلَّا مَعَ وُجُودِ الْهَوَاءِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَمَدَتْ فِي الْغَالِبِ لَكِنْ قَدْ لَا تَخْمَدُ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَى الْمَيِّتِ أَوْ الْمَوْتَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَرِيقِ ، وَلِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ خَشَاشٍ وَهَوَامَّ .
وَقَدْ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُكَلَّفَ أَنْ يُطْفِئَ الْمِصْبَاحَ قَبْلَ نَوْمِهِ } ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ نَارًا وَالنَّوْمُ هُوَ الْوَفَاةُ الصُّغْرَى ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مَعَهُ فَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْكُبْرَى مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى ، وَجَعْلُ الْمَيِّتِ فِي الْفَسْقِيَّةِ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ فِي تَرْكِ الدَّفْنِ وَكَفَى بِهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ فِي الْفَسْقِيَّةِ غَيْرُ مَدْفُونٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ جَعْلِهِ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَوْ فِي بَيْتٍ وَيُغْلَقُ عَلَيْهِ ، فَهَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَدْفُونٌ فَقَدْ تَرَكُوا الدَّفْنَ وَهُوَ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ

الْعَزِيزِ عَلَيْنَا بِالدَّفْنِ فَقَالَ : { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } فَالسَّتْرُ فِي الْحَيَاةِ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فِي خَلْوَتِهِ مِمَّا يَكْرَهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ بِهِ وَالسَّتْرُ فِي الْمَمَاتِ سَتْرُ جِيَفِ الْأَبَدَانِ ، وَلَوْلَا نِعْمَةُ الْقُبُورِ لَكَانَ شَنَاعَةً بَيْنَ الْأَشْكَالِ ، وَيُقَالُ مَا فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنْ رَائِحَةِ جِيفَةِ الْآدَمِيِّ فَسَتَرَهُ اللَّهُ بِالدَّفْنِ إكْرَامًا لَهُ وَتَعْظِيمًا .
وَمَنْ وَضَعَ فِي الْفَسْقِيَّةِ فَقَدْ تَرَكَ مَا امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةِ الدَّفْنِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ يَعُودُهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنِّي لَأَرَى أَبَا طَلْحَةَ حَدَثَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَإِذَا تُوُفِّيَ عَجِّلُوا بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مُسْلِمٍ أَنْ تُحْبَسَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ } ، وَمَنْ جُعِلَ فِي الْفَسْقِيَّةِ ، فَأَهْلُهُ يَكْشِفُونَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ ، فَقَدْ يَعْرِفُونَ مَا تَغَيَّرَ مِنْ حَالِ مَنْ كَشَفُوا عَلَيْهِ مِنْ مَوْتَاهُمْ وَيَشُمُّونَ الرَّوَائِحَ الْكَرِيهَةَ مِنْهُ ، وَهُوَ يَكْرَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَنْ يُشَمَّ مِنْهُ بَعْضُ ذَلِكَ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَوْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِهِ فَيُمْنَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ خَرْقِ حُرْمَتِهِ ؛ لِأَنَّ هُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ بِمَيِّتٍ آخَرَ ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ مِمَّنْ قَبْلَهُ كَشَفُوا وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ النَّتْنِ وَالدُّودِ وَغَيْرِهِمَا ، حَتَّى لَقَدْ حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً نَزَلَتْ فَسْقِيَّةً لِوَضْعِ مَيِّتٍ لَهَا فِيهَا فَوَجَدَتْ ابْنَةً لَهَا كَانَتْ قَدْ دُفِنَتْ مِنْ مُدَّةٍ فَرَأَتْ رَأْسَهَا وَوَجْهَهَا يَغْلِيَانِ دُودًا فَذَهَبَ عَقْلُهَا ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ بَابَ الْفَسْقِيَّةِ ضَيِّقٌ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ

مَرْئِيٌّ وَتُحْبَسُ فِيهِ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ ، فَإِذَا فُتِحَ لِجَعْلِ مَيِّتٍ آخَرَ ، وَكَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ مِمَّنْ قَبْلَهُ خَرَجَتْ تِلْكَ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ طَرِيًّا فَآذَتْ كُلَّ مَنْ حَضَرَ الْجِنَازَةَ .
وَأَمَّا مَنْ يَنْزِلُ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ النِّهَايَةَ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَرَضِهِ أَوْ مَوْتِهِ أَوْ هُمَا مَعًا .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَهُ مَنْكُوسًا عَلَى رَأْسِهِ : وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقُبْحِ حِينَ إدْخَالِ الْمَيِّتِ الْقَبْرَ ، فَهُوَ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَجْدَرُ بِالْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ بَابَهَا أَضْيَقُ مِنْ الشِّقِّ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ فِي الْقَبْرِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ أَلْحَدَ مَيِّتًا وَسَقَطَتْ مِنْهُ فِي الْقَبْرِ نَفَقَةٌ أَوْ لُؤْلُؤَةٌ أَوْ شَيْءٌ لَهُ قِيمَةٌ كَبِيرَةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ أُهِيلَ عَلَيْهِ التُّرَابُ أَوْ بَعْضُهُ هَلْ يَكْشِفُ مَا أُهِيلُ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ وَيَأْخُذُ مَا سَقَطَ مِنْهُ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ } ، وَتَرْكُهُ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ أَوْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَشْفًا عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مُوَارَاتِهِ بِالتُّرَابِ ، وَذَلِكَ خَرْقٌ لِحُرْمَتِهِ وَلِمَا يُخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ حَالُهُ إلَى أَمْرٍ مُغَيَّبٍ عَنَّا فَيَكْشِفُ عَلَيْهِ وَيَنْتَهِكُ سِتْرَهُ بِذَلِكَ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ لَهُ قِيمَةٌ كَبِيرَةٌ فَمَا بَالُك بِمَنْ يُكْشَفُ عَنْهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، فَهَذَا أَجْدَرُ بِالْمَنْعِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ بِهَتْكِ السِّتْرِ عَمَّنْ فِيهَا ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْفَسْقِيَّةِ قَدْ يَتَغَيَّرُونَ عَنْ آخِرِهِمْ ، وَهُوَ الْغَالِبُ ، وَيَنْكَشِفُونَ فَيَبْقَوْنَ عُرَاةً بِمَرْأًى مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّاسِ ، وَذَلِكَ كَشْفَةٌ لَهُمْ وَهَتْكٌ

لِحُرْمَتِهِمْ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ ظَاهِرٌ .
حَتَّى لَقَدْ رُئِيَ بَعْضُ أَهْلِ الْفَسَاقِيِ ، وَحِمَارٌ مَيِّتٌ قَدْ طُرِحَ عَلَيْهِمْ .
فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ مَا أَشْنَعَ هَذَا وَأَقْبَحَهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعَقْلِ ، فَكَيْفَ وَالشَّرِيعَةُ قَدْ نَهَتْ عَنْهُ وَذَمَّتْهُ ، فَلَا هُمْ مُمْتَثِلُونَ لِأَمْرِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا هُمْ يَرْجِعُونَ لِمُقْتَضَى الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَأْبَى ذَلِكَ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : مَا حَرَمَهُمْ الشَّيْطَانُ مِنْ بَرَكَةِ الدَّفْنِ وَمَا فِيهِ مِنْ السَّتْرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْفُونَ إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ الْفَضَلَاتُ شَرِبَتْهَا الْأَرْضُ فَيَبْقَى نَظِيفًا فِي قَبْرِهِ ، وَمَنْ وُضِعَ فِي الْفَسْقِيَّةِ يَنْمَاعُ فِي النَّجَاسَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَتَحَلَّلُ مِنْ جَسَدِهِ .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنَّ إدْخَالَهُ فِي الْفَسْقِيَّةِ فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الْفَخْرِ وَالْكِبْرِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ مَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْمُتَكَبِّرُونَ ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ ذُلٍّ وَافْتِقَارٍ وَاضْطِرَارٍ وَإِظْهَارِ مَسْكَنَةٍ وَاحْتِيَاجٍ لَا إظْهَارِ الْعِزِّ وَالْكِبْرِ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ : مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَبْلِيطِ الْفَسْقِيَّةِ ، وَذَلِكَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَنْبَغِي فَمَا بَالُك بِهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ إذْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَمْ يَبْنِ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ } ، فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَمْتَثِلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ .
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : مَا زَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَبْيِيضِ دَاخِلِ الْفَسْقِيَّةِ حَتَّى تَبْقَى كَالْبُيُوتِ الَّتِي يَتَفَاخَرُ بِهَا أَبْنَاءُ الدُّنْيَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي حَالِ الْحَيَاةِ .
وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّبْلِيطِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ بَلْ هَذَا أَشَدُّ .
الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ سَبَبٌ لِانْبِعَاثِ الْحَشَرَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْمَاعُ فِي قَبْرِهِ فَتَكْثُرُ الرَّوَائِحُ لِعَدَمِ التُّرَابِ ، وَالْحَشَرَاتُ تَتْبَعُ

الرَّوَائِحَ حَيْثُ كَانَتْ ، وَكَذَلِكَ الْكِلَابُ وَالسِّبَاعُ وَالذِّئَابُ ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَبْرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْفَضَلَاتِ مِنْ الْمَيِّتِ .
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَيْسِيرِ السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ أَرَادَهَا ، وَالسَّرِقَةُ مَعْصِيَةٌ كُبْرَى إذَا كَانَتْ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ فَمَا بَالُك بِهَا فِي حَقِّ الْمَوْتَى ، فَوَضْعُ الْمَيِّتِ فِي الْفَسْقِيَّةِ فِيهِ تَيْسِيرٌ عَلَى مَنْ اُبْتُلِيَ بِنَبْشِ الْقُبُورِ إذْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى كَبِيرِ كُلْفَةٍ فِي الدُّخُولِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَفْتَحُ الْبَابَ لَيْسَ إلَّا وَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مَا يُرِيدُهُ ، وَفَاعِلُ الْمَعْصِيَةِ وَمَنْ يُيَسِّرُهَا عَلَيْهِ شَرِيكَانِ فِي الْإِثْمِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشْرَ : أَنَّ مَنْ يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ مِنْ التَّيْسِيرِ عَلَى النَّبَّاشِ يَحْتَاجُونَ إلَى الْبِنَاءِ الْحَصِينِ وَالْأَبْوَابِ الْمَانِعَةِ وَالْحُرَّاسِ وَمَنْ يَسْكُنُ فِيهَا أَوْ إلَى جَانِبِهَا وَيَبُولُ وَيَتَغَوَّطُ ، وَالسَّرَابُ سَرِيعٌ سَرَيَانُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَيَئُولُ ذَلِكَ إلَى تَنْجِيسِ مَنْ هُنَاكَ مِنْ الْمَوْتَى بِنَجَاسَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُمْ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ يَحْتَاجُ إلَى كُلْفَةٍ مِنْ تَحْصِيلِ دُنْيَا لِأَجْلِ الْبَوَّابِ وَالْقَيِّمِ وَالْخَادِمِ وَمَنْ يَحْرُسُ وَجَعْلِ صِهْرِيجٍ لَهُمْ فَتَزِيدُ النَّدَاوَةُ بِذَلِكَ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ ، وَقَدْ حَكَمَتْ السُّنَّةُ بِالدَّفْنِ فِي الصَّحْرَاءِ لِلسَّلَامَةِ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعَ عَشَرَ : مَا فِي فِعْلِهَا مِنْ ارْتِكَابِ النَّهْيِ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ } وَمَا كَانَ ابْتِدَاءُ فِعْلِهَا إلَّا مِنْ جِهَتِهِمْ فَسَرَى ذَلِكَ إلَى بَعْضِ النَّاسِ مَعَ كَوْنِهِمْ لَا يَشْعُرُونَ بِارْتِكَابِ هَذَا النَّهْيِ الصَّرِيحِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّ

مَنْ دُفِنَ فِي الْقُبُورِ عَلَى مَا أَحْكَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ لَهُ حُرْمَةٌ لِكَوْنِ قَبْرِهِ ظَاهِرًا فَلَا يَتَأَتَّى لِأَحَدٍ حَفْرُهُ وَلَا أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ سَرَابًا بِخِلَافِ الْفَسْقِيَّةِ ، فَإِنَّهَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ غَيْرَ مُرْتَفِعَةٍ كَالْقَبْرِ فِي الْغَالِبِ ، وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ أَثَرٌ يُعْرَفُ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى الْبِنَاءِ عَلَيْهَا حَيْثُ دَثَرُوهَا أَوْ غَيْرُهُ مِنْ إرْسَالِ سَرَابٍ أَوْ جَعْلِ مِرْحَاضٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ السَّادِسَ عَشَرَ : أَنَّهَا قَدْ تَنْخَسِفُ وَهُوَ الْغَالِبُ فَيَتَضَرَّرُ بِهَا مَنْ تَنْخَسِفُ بِهِ ، وَقَدْ يَهْلَكُ ثُمَّ تَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ مَعْبَرَةً لِمَنْ يَمُرُّ بِهَا وَشُنْعَةً عَلَى مَنْ فِيهَا حَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ لَا يَعْرِفُ الشَّرْعَ لَيُطِيلُ النَّظَرَ فِيهَا حَتَّى يَعْرِفَ الذَّكَرَ مِنْ الْأُنْثَى ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ سِيَّمَا إنْ وَقَعَ السَّيْلُ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَعْظَمَ فِي الْكَشَفَةِ وَهَتْكِ السِّتْرِ وَذَهَابِ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ .
الْوَجْهُ السَّابِعَ عَشَرَ : مَنْ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي فَسْقِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِيمَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّ مَنْ أَوْصَى أَنْ يُبْنَى عَلَى قَبْرِهِ بَيْتٌ فَقَالَ : لَا وَلَا كَرَامَةَ .
فَالْمَنْعُ هُنَا مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
الْوَجْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ : أَنَّهَا تَبْقَى مَأْوَى اللُّصُوصِ وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَخْتَبِئُونَ فِيهَا وَيَجْعَلُونَ فِيهَا مَا يَخْتَارُونَ مِنْ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يَتَصَرَّفُوا فِي ذَلِكَ وَكَانَتْ سَبَبًا لِلسَّتْرِ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ التَّاسِعَ عَشَرَ : أَنَّ الْفَسْقِيَّةَ تُمْسِكُ مَوَاضِعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمَوْتَى ، فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ وَقْفًا فَيَكُونُ غَاصِبًا لِمَا عَدَا مَوْضِعَ جَسَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِلْغَيْرِ مِمَّنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِيهَا إلَّا قَدْرَ ضَرُورَتِهِ ، وَهُوَ مَا يُوَارِيهِ مِنْهَا إذَا مَاتَ .
وَأَشَدُّ مَنْعًا مِنْ

الْفَسْقِيَّةِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى كُلْفَةِ النَّفَقَةِ فِي الْفَسْقِيَّةِ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ أَنْزَلُوهُ عَلَى الْمَيِّتِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُمْ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيُوصِي بِذَلِكَ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْكَشْفَ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مُوَارَاتِهِ مُحَرَّمٌ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ حُبِسَ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَهُ فِيهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ فِيهِ مِنْ الْحَرَارَةِ أَوْ السَّبْخَةِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ أَنَّ الْمَيِّتَ الْأَوَّلَ قَدْ فَنِيَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَنْ مِثْلَ الْمُعَلَّا بِمَكَّةَ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ وَالْبَقِيعِ بِالْمَدِينَةِ لِشِدَّةِ سَبْخَتِهِ فَيَبْلَى الْمَيِّتُ فِيهِمَا سَرِيعًا حَتَّى إنَّهُ لَا يُوجَدُ إلَّا التُّرَابُ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْرُثُ الْبَقِيعَ بَعْدَ سِنِينَ وَيَدْفِنُ فِيهِ أَعْنِي قُبُورَ مَنْ تَحَقَّقَ خُلُوُّ الْقَبْرِ مِنْهُمْ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّعْلِيلِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ جَعْلُ الرُّخَامِ عَلَى الْقُبُورِ ، وَهِيَ بِدْعَةٌ وَسَرَفٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ وَفَخْرٌ وَخُيَلَاءُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا حَوَالَيْهِ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ أَلْوَاحًا مِنْ خَشَبٍ عِوَضًا عَنْ الرُّخَامِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ دَرَابْزِينَ إذْ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ صِفَةُ الْقَبْرِ عَلَى السُّنَّةِ ، فَكُلُّ مَا خَالَفَهَا فَهُوَ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَإِضَاعَةُ مَالٍ وَفَخْرٌ وَخُيَلَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ نَقْشِ اسْمِ الْمَيِّتِ وَتَارِيخِ مَوْتِهِ عَلَى الْقَبْرِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ فِي الْحَجَرِ الْمُعَلَّمِ بِهِ قَبْرُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَجَرُ مِنْ السُّنَّةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ كَانَ النَّقْشُ عَلَى الْبِنَاءِ الَّذِي اعْتَادُوهُ عَلَى الْقَبْرِ مَعَ كَوْنِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ مَمْنُوعًا كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ كَانَ فِي بَلَاطَةٍ مَنْقُوشَةٍ أَوْ فِي لَوْحٍ مِنْ خَشَبٍ .
وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَلَى عَمُودٍ كَانَ رُخَامًا أَوْ غَيْرَهُ ، وَالرُّخَامُ أَشَدُّ كَرَاهَةً .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَمُودُ مِنْ خَشَبٍ فَيُمْنَعُ أَيْضًا .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى الْبِدْعَةِ كَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمِ أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمَّا أَنْ ارْتَكَبَ بِدْعَةَ النَّقْشِ ، وَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَاحْتَوَتْ مَعَ ذَلِكَ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى اسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ثُمَّ تَنْدَثِرُ تِلْكَ التُّرْبَةُ وَيَنْدَثِرُ أَهْلُهَا وَمَعَارِفُهَا فَيَقَعُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ إنْ سَلِمَ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَقَدْ يَبِيعُهُ السَّارِقُ لِمَنْ يَجْعَلُهُ فِي مَوَاضِعَ لَا تَلِيقُ بِهِ مِثْلُ عَتَبَةِ بَابٍ أَوْ فِي مَوْضِعِ مِرْحَاضٍ وَيَجْعَلُ نَاحِيَةَ الْكِتَابَةِ إلَى الْأَرْضِ إنْ كَانَ مُسْلِمًا ، وَلَا يَشْعُرُ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ فِيهِ ، وَأَمَّا إنْ بَاعَهُ لِنَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ فَذَلِكَ أَعْظَمُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ امْتِهَانَ مَا تُعَظِّمُهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ السَّرِقَةِ فَيَبْقَى مَوْطُوءًا بِالْأَقْدَامِ مُمْتَهَنًا حَتَّى كَأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ .
وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يُوقَفَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ عَمُودٌ ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَشْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رُخَامٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ

بَابِ الْخُيَلَاءِ وَالسَّرَفِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَمَا بَالُك بِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ .
وَفِيهِ مِنْ الْقُبْحِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ يُرِيدُ الظُّهُورَ وَبَقَاءَ اسْمِهِ وَأَثَرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ إنْ كَانَ وَصَّى بِذَلِكَ ، أَوْ كَانَ يُحِبُّهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفَعَلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَبِدْعَةُ ذَلِكَ مُخْتَصَّةٌ بِفَاعِلِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ مَآثِرِ الصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ مَنْقُوشًا عَلَى الْقَبْرِ أَوْ عَلَى جِدَارٍ أَوْ فِي وَرَقَةٍ مَلْصُوقَةٍ هُنَاكَ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَمْنُوعًا فَمَا بَالُك بِالشَّمَعِ الْغَلِيظِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَتْ بِهِ حَاجَةٌ لِلْوَقُودِ لَوْ كَانَ سَائِغًا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إضَاعَةَ مَالٍ .
وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَعْلِيقِ قِنْدِيلٍ عَلَى قَبْرِ مَنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْخَيْرِ ، وَالنَّاسُ يَعْتَقِدُونَهُ لِيَأْتِيَ النَّاسُ إلَى مَكَانِ الضَّوْءِ فَيَزُورُونَهُ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْوَاجِبَ مِثْلُ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ إذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَّا أَنْ يَرْتَكِبَ مُحَرَّمًا كَإِخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَمَا يُشْبِهُهُ ، فَإِنَّ الْفَرْضَ سَاقِطٌ عَنْهُ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْفَرْضِ فَمَا بَالُك بِهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ فَكَيْفَ تُفْعَلُ مَعَ وُجُودِ مَفَاسِدَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا يَقَعُ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ بِاللَّيْلِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الْأَقَالِيمِ وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِيهَا فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ نُقِشَ عَلَى قَبْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا عُلِّقَ عَلَيْهِ قِنْدِيلٌ وَلَا عُمِلَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعَلَامَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ .
وَيَدُلُّك عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا

يُعْرَفُ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَّا الْفَذُّ النَّادِرُ ، وَهُمْ الْقُدْوَةُ وَنَحْنُ الْأَتْبَاعُ ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ لَبَادَرَتْ الْأُمَّةُ إلَى فِعْلِهِ وَلَاشْتُهِرَ الْحُكْمُ فِيهِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَخِّرِي هَذِهِ الْأُمَّةِ .
وَأَيْضًا فَفِي النَّقْشِ عَلَى الْقَبْرِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُرِيدُونَ الشُّهْرَةَ لِقُبُورِ أَوْلِيَائِهِمْ فَيَنْقُشُونَ عَلَيْهَا اسْمَ مَنْ مَضَى مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِكَيْ يَهْرَعَ النَّاسُ إلَى زِيَارَتِهِمْ ، وَهَذَا النَّوْعُ كَثِيرًا مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ بِدِينِهِمْ وَالْفَسَقَةِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ عَلَى الْقَبْرِ سَقْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَيَجْعَلُونَ هُنَاكَ تَصَاوِيرَ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِظْلَالِ بِالسَّقْفِ الَّذِي فِيهِ الذَّهَبُ هَلْ يَجُوزُ لِلْأَحْيَاءِ أَنْ يَدْخُلُوا تَحْتَهُ أَمْ لَا ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَمْنُوعًا فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ الْمَوْتَى إذْ إنَّهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى إظْهَارِ الْفَقْرِ وَالِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَحْيَاءِ ، وَفِي فِعْلِ السَّقْفِ الْمُذْهَبِ مِنْ ظُهُورِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ مَا هُوَ مَذْمُومٌ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ الْمَوْتَى لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَأَمَّا الصُّوَرُ فَهِيَ نَقِيضُ الْمُرَادِ ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَحْضُرُ مَوْضِعًا فِيهِ صُورَةٌ ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَطْلُبُونَ حُضُورَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ مَيِّتِهِمْ رَجَاءَ بَرَكَتِهِمْ لِيُغْفَرَ لَهُ ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ الْحُضُورِ حَصَلَ ضِدُّ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبِدْعَةُ إذَا عُمِلَتْ فِي شَيْءٍ كَثُرَتْ الْمَفَاسِدُ فِيهِ وَقَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ بِضِدِّ مَا هِيَ السُّنَّةُ ، فَإِنَّهَا إذَا اُمْتُثِلَتْ فِي شَيْءٍ أَنَارَ وَاسْتَنَارَ

وَتَجَمَّلَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ

( فَصْلٌ ) وَيُسْتَحَبُّ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ مَا لَمْ يَكُنْ الِاجْتِمَاعُ لِلنِّيَاحَةِ وَشِبْهِهَا لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ } وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّقَرُّبِ إلَى الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْبِرِّ لَهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا .
وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ : يَنْبَغِي لِقَرَابَةِ الْمَيِّتِ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ طَعَامًا يُشْبِعُهُمْ قَالُوا : وَأَمَّا إصْلَاحُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ التَّلْبِينَةُ مِنْ أَهَمِّ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّهَا تُذْهِبُ الْحُزْنَ .
وَصِفَتُهَا أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةً كَأَنَّهَا الْمَاءُ إلَّا أَنَّهَا بَيْضَاءُ لِأَجْلِ الدَّقِيقِ الَّذِي يُعْمَلُ فِيهَا ، وَيُجْعَلُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمِلْحِ قَدْرَ قِوَامِهَا .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ الزَّيْتِ أَوْ الشَّيْرَجِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَدْهَانِ ، ثُمَّ يُوقَدُ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْضَجَ ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْخَنَ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ الْحَرِيرَةُ لَا التَّلْبِينَةُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمُوا شُرْبَهَا عَلَى الطَّعَامِ لِمَا تَقَدَّمَ .
فَلَوْ جَاءَهُمْ الطَّعَامُ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِمَا فَضَلَ عَنْهُمْ أَوْ يُهْدُوهُ لِمَنْ يَخْتَارُونَ .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ جَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْعَقِيقَةِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : تُشْبِهُ الْوَلَائِمَ وَلَكِنْ يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَيُطْعِمُونَ وَيُهْدُونَ إلَى الْجِيرَانِ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا قَوْلَهُ فِي الْعَقِيقَةِ ، فَمَا بَالُك بِهِ فِي الطَّعَامِ الَّذِي اعْتَادَ بَعْضُهُمْ عَمَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَيِّتِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ

سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ لَهُ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إذَا دُعِيَ إلَى الْعُرْسِ أَجَابَ وَإِذَا دُعِيَ إلَى الْخِتَانِ انْتَهَرَ الَّذِي دَعَاهُ أَوْ رَمَاهُ بِالْحَصَى ، وَقَالَ : لَا يُجِيبُكُمْ إلَّا أَهْلُ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : الْوَلِيمَةُ أَوَّلُ يَوْمٍ حَقٌّ وَالثَّانِي مَعْرُوفٌ وَالثَّالِثُ سُمْعَةٌ وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ .
وَقَالَ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَنْ صَنَعَ طَعَامًا لِرِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ لَمْ يَسْتَجِبْ اللَّهُ لِمَنْ دَعَا لَهُ ، وَلَمْ يُخْلِفْ اللَّهُ عَلَيْهِ نَفَقَةَ مَا أَنْفَقَ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ ، فَمَا بَالُك بِمَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ يَعْمَلُونَ الطَّعَامَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَيَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ عَكْسَ مَا حُكِيَ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلْيَحْذَرْ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ ، وَلَا بَأْسَ بِفِعْلِهِ لِلصَّدَقَةِ عَنْ الْمَيِّتِ لِلْمُحْتَاجِينَ وَالْمُضْطَرِّينَ لَا لِلْجَمْعِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُتَّخَذْ ذَلِكَ شِعَارًا يُسْتَنُّ بِهِ ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْقُرْبِ أَفْضَلُهَا مَا كَانَ سِرًّا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يُوقِدُونَ السِّرَاجَ أَوْ الْقِنْدِيلَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمَيِّتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِهَا ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مِثْلَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ الْمَيِّتُ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَضَعُونَ حَجَرًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ الْمَيِّتُ ، وَيَجْعَلُونَ عَلَيْهِ سِرَاجًا يُوقَدُ إلَى الصُّبْحِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ ثِيَابَ الْمَيِّتِ لَا تُغْسَلُ إلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، وَيَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ عَنْهُ عَذَابَ

الْقَبْرِ ، وَذَلِكَ تَحَكُّمٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ وَلِيَّ الْمَيِّتِ يَعْمَلُ الْعِشَاءَ ثَلَاثَ لَيَالٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ مَائِدَةَ الطَّعَامِ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ إلَّا الَّذِي وَضَعَهَا .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ الْمَيِّتُ يُوضَعُ فِيهِ رَغِيفٌ وَكُوزُ مَاءٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ لَا يَأْكُلُ أَهْلُهُ حَتَّى يَفْرُغُوا مِنْ دَفْنِهِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى الْبَيْتِ مِنْ الدَّفْنِ لَا يَدْخُلُونَ الْبَيْتَ حَتَّى يَغْسِلُوا أَطْرَافَهُمْ مِنْ أَثَرِ الْمَيِّتِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْتِزَامِ الْبُكَاءِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً حِينَ الْغَدَاةِ وَالْعِشَاءِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْمَيِّتَ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ لَا يَعْمَلُ شُغْلًا حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا عَطَسَ عَلَى الطَّعَامِ يَقُولُونَ لَهُ : كَلِّمْ فُلَانًا أَوْ فُلَانَةَ مِمَّنْ يُحِبُّ مِنْ الْأَحْيَاءِ بِاسْمِهِ ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِالْمَيِّتِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْمَاءِ فِي الْبَيْتِ فِي زِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَيَطْرَحُونَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ نَجَسٌ ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ رُوحَ الْمَيِّتِ إذَا طَلَعَتْ غَطَسَتْ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ وَلِيَّ الْمَيِّتِ مَا دَامَ حَزِينًا عَلَى مَيِّتِهِ لَا يَأْكُلُ مَعَ جَمَاعَتِهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ حُزْنُهُ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا مَاتَ حَزِنُوا عَلَيْهِ سَنَةً كَامِلَةً ، لَا

يَخْتَضِبُ النِّسَاءُ فِيهَا بِالْحِنَّاءِ وَلَا يَلْبَسْنَ الثِّيَابَ الْحِسَانَ ، وَلَا يَتَحَلَّيْنَ ، وَلَا يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَ ، وَإِنْ حَصَلَ الِاضْطِرَارُ إلَى دُخُولِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ فَيُمْنَعْنَ مِنْ ذَلِكَ هُنَّ وَمَعَارِفُهُنَّ ، فَإِذَا انْقَضَتْ السَّنَةُ عَمِلْنَ مَا يُعْهَدُ مِنْهُنَّ مِنْ النَّقْشِ وَالْكِتَابَةِ وَالْغِشِّ الْمَمْنُوعِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيُبَادِرْنَ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ هُنَّ وَمَنْ الْتَزَمَ الْحُزْنَ مَعَهُنَّ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِفَكِّ الْحُزْنِ ، وَيَقَعُ لَهُنَّ اجْتِمَاعٌ حَتَّى كَأَنَّهُ فَرَحٌ مُتَجَدِّدٌ عِنْدَ جَمِيعِهِنَّ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْمَيِّتَ إذَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى زِيَارَتِهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بَقِيَ خَاطِرُهُ مَكْسُورًا بَيْنَ الْمَوْتَى ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يَرَاهُمْ إذَا خَرَجُوا مِنْ سُورِ الْبَلَدِ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الْمَوْتَى يَتَفَاخَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ بِالْأَكْفَانِ وَحُسْنِهَا ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ الْمَوْتَى فِي كَفَنِهِ دَنَاءَةٌ يُعَايِرُونَهُ بِذَلِكَ ، وَيَحْكُونَ عَلَى ذَلِكَ مَنَامَاتٍ كَثِيرَةً يَطُولُ تَتَبُّعُهَا مِمَّا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ يَعِزُّ عَلَيْهَا الْمَيِّتُ تَخْرُجُ فِي جِنَازَتِهِ مَكْشُوفَةً بِغَيْرِ رِدَاءٍ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْتِزَامِ صُبْحَةِ الْقَبْرِ ، وَهُوَ تَبْكِيرُهُمْ إلَى قَبْرِ مَيِّتِهِمْ الَّذِي دَفَنُوهُ بِالْأَمْسِ هُمْ وَأَقَارِبُهُمْ وَمَعَارِفُهُمْ وَأَيُّ مَنْ غَابَ مِنْهُمْ عَنْهَا وَجَدُّوا عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا مُتَعَيِّنًا وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ جَعْلِ بَعْضِهِمْ ثَوْبًا مَنْشُورًا عَلَى الْقَبْرِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فَرْشِ الْبُسُطِ وَغَيْرِهَا فِي التُّرْبَةِ لِمَنْ يَأْتِي إلَى الصُّبْحَةِ وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى

ذَلِكَ وَمَنْعِهِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ نَصْبِ الْخَيْمَةِ عَلَى الْقَبْرِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ وُقُودِ الشَّمَعِ وَغَيْرِهِ فِي اللَّيْلِ عَلَى الْقَبْرِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرُبَ الْمَيِّتَ بِشَيْءٍ مِنْ أَثَرِ النَّارِ أَصْلًا ؛ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ إتْبَاعِ الْمَيِّتِ بِالنَّارِ فَمَا بَالُك بِهَا تُوقَدُ عِنْدَ الْقَبْرِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ إذَا دَفَنُوا الْمَيِّتَ سَكَنُوا عِنْدَهُ مُدَّةً فِي بَيْتٍ فِي التُّرْبَةِ أَوْ قُرْبِهَا ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُوقِدُونَ الْأَحْطَابَ الْكَثِيرَةَ لِضَرُورَاتِهِمْ فَيَتَفَاءَلُونَ عَلَيْهِ بِوُقُودِهَا عِنْدَهُ وَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ هُنَاكَ ، وَبَعْضُهُمْ يَقْعُدُ لِتَمَامِ الشَّهْرِ وَيَتَعَاهَدُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَفْعَلُونَ عِنْدَهُ الْأَشْيَاءَ الْمَعْهُودَةَ مِنْهُمْ فَتَسْرِي النَّجَاسَةُ إلَيْهِ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا مَوْضِعُ النَّهْيِ ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ .
وَقَدْ حَمَلَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ النَّهْيَ عَلَى جُلُوسِ الْإِنْسَانِ لِحَاجَتِهِ عَلَى الْقَبْرِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا مَنْهِيًّا عَنْهُ ، وَهُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ وَتُنَشِّفُهُ الشَّمْسُ وَتُنَشِّفُهُ الرِّيَاحُ وَيَشْرَبُهُ التُّرَابُ وَيُزِيلُهُ مَنْ رَآهُ غَالِبًا فَمَا بَالُك بِمَا يَفْعَلُونَهُ حِينَ إقَامَتِهِمْ عِنْدَهُ مِنْ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ الْكَثِيرِ فِي الْكَنِيفِ الَّذِي هُنَاكَ فَتَسْرِي الرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ إلَى الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْأَرْضِ فَتُسْرِعُ النَّجَاسَةُ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ ، وَعَلَيْهِ فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فِعْلِ الثَّالِثِ لِلْمَيِّتِ وَعَمَلِهِمْ الْأَطْعِمَةَ فِيهِ حَتَّى صَارَ عِنْدَهُمْ كَأَنَّهُ أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ وَيُشِيعُونَهُ كَأَنَّهُ وَلِيمَةُ عُرْسٍ

وَيَجْمَعُونَ لِأَجْلِهِ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ مِنْ الْأَهْلِ وَالْأَصْحَابِ وَالْمَعَارِفِ ، فَإِنْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْتِ وَجَدُوا عَلَيْهِ الْوَجْدَ الْعَظِيمَ .
ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَقْرَءُوا هُنَاكَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى عَوَائِدِهِمْ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّطْرِيبِ الْخَارِجِ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ الْمَشْرُوعَةِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا ، وَيَأْتُونَ مَعَ ذَلِكَ بِالْفُقَرَاءِ يَذْكُرُونَ وَيُحَرِّفُونَ الذِّكْرَ عَنْ مَوَاضِعِهِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْتِي بِالْمُؤَذِّنِينَ يُكَبِّرُونَ كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عَادَتِهِمْ .
وَقَدْ صَارَ هَذَا الْحَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَكَثُرَ فِيهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ ، فَكَيْفَ لَوْ أَنْكَرَ ذَلِكَ .
ثُمَّ انْضَمَّ إلَيْهِ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ فِيهِ التَّكْلِيفَ الْكَثِيرَ لِأَجْلِ مَا يَحْتَاجُونَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ فِي ذَلِكَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالْوَاعِظِ إلَى الرِّجَالِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي بِالْوَاعِظَةِ إلَى النِّسَاءِ وَيَزِيدُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَيَنْقُصُونَ وَيُحَرِّفُونَ بَعْضَ ذَلِكَ وَيَفْهَمُونَ غَيْرَ الْمُرَادِ وَيَتَفَوَّهُونَ بِإِطْلَاقِ أَشْيَاءَ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهَا عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الذَّمِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الِاجْتِمَاعِ لِلسَّمَاعِ وَمَا فِي السَّمَاعِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي ، وَتِلْكَ الْقَبَائِحُ وَالْمَفَاسِدُ مَوْجُودَةٌ فِي الِاجْتِمَاعِ الثَّالِثِ وَالسَّابِعِ وَتَمَامِ الشَّهْرِ وَتَمَامِ السَّنَةِ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ فُعِلَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ يُمْنَعُ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ فِعْلِ التَّهْلِيلَاتِ لِمَوْتَاهُمْ وَجَمْعِهِمْ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ لِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ جَهْرًا وَجَمَاعَةً وَمَا فِيهِ .

وَيَحْتَجُّونَ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ بِمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ بَعْضَ الْمَوْتَى فِي عَذَابٍ فَذَكَرَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ ثُمَّ أَهْدَاهَا لَهُ ، فَرَآهُ فِي مَنَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ غُفِرَ لَهُ بِإِهْدَائِهِ لَهُ ثَوَابَ السَّبْعِينَ أَلْفًا .
وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَنَامٌ ، وَالْمَنَامُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهَا وَحْدَهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ ، وَأَهْدَى لَهُ ثَوَابَهَا وَلَمْ يَجْمَعْ لِذَلِكَ النَّاسَ كَمَا يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الشُّهْرَةِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ ، أَمَّا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَأَهْدَى ثَوَابَهُ لِمَنْ شَاءَ فَلَا يُمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ خَيْرًا وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَرْكِ الْفُرُشِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَيِّتِ لِجُلُوسِ مَنْ يَأْتِي إلَى التَّعْزِيَةِ فَيَتْرُكُونَهَا كَذَلِكَ حَتَّى تَمْضِيَ سَبْعَةُ أَيَّامٍ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُزِيلُونَهَا .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ زَرْعِ شَجَرَةٍ أَوْ صَبَّارَةٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَيُعَلِّلُونَهُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْضُرُ مَوْضِعَ الْخُضْرَةِ تَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى .
وَالثَّانِي { : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ مَرَّ عَلَى قَبْرَيْنِ ، وَهُمَا يُعَذَّبَانِ فَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ فَجَعَلَ نِصْفَهَا عَلَى أَحَدِ الْقَبْرَيْنِ وَالنِّصْفَ الثَّانِيَ عَلَى الْآخَرِ ، وَقَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا } .
وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ .
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَيَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ شُرِعَ الدَّفْنُ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ نَظِيفًا لِعَطَشِ الْأَرْضِ الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا

الْمَيِّتُ ، فَأَيُّ فَضْلَةٍ خَرَجَتْ شَرِبَهَا التُّرَابُ ، وَالْغَرْسُ عِنْدَ الْقَبْرِ يَسْتَدْعِي ضِدَّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى السَّقْيِ بِالْمَاءِ ، وَذَلِكَ يُزِيلُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَبْرَ يَبْقَى مَبْلُولًا مِنْ دَاخِلِهِ فَلَا يَشْرَبُ الْفَضَلَاتِ فَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، فَيَصِيرُ إذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ دَفْنِهِ فِي الْأَرْضِ التُّرْبَةِ أَوْ يُنْقَرُ لَهُ فِي الْحَجَرِ الصُّلْبِ وَقَدْ مَضَى بَيَانُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا } رَاجِعٌ إلَى بَرَكَةِ مَا وَقَعَ مِنْ لَمْسِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِتِلْكَ الْجَرِيدَةِ .
وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلُوكِ لَهُ لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ عَقِبَهُ : وَذَلِكَ لِبَرَكَةِ يَدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَمَا نُقِلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلُ بَاقِيهِمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ إذْ لَوْ فَهِمُوا ذَلِكَ لَبَادَرُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهِ ، وَلَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الدَّفْنُ فِي الْبَسَاتِينِ مُسْتَحَبًّا .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ شَرْحِ مَعَالِمِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَمَّا { غَرْسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِقَّ الْعَسِيبِ عَلَى الْقَبْرِ } ، وَقَوْلُهُ : { لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا } ، فَإِنَّهُ مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ بِأَثَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَائِهِ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا ، وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ مُدَّةَ بَقَاءِ النَّدَارَةِ فِيهِمَا حَدًّا لِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُمَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ فِي الْجَرِيدِ الرَّطْبِ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْيَابِسِ ، وَالْعَامَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْبُلْدَانِ

تَغْرِسُ الْخُوصَ فِي قُبُورِ مَوْتَاهُمْ وَأَرَاهُمْ ذَهَبُوا إلَى هَذَا ، وَلَيْسَ لِمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَجْهٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ " ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْمُلُوخِيَّةَ مَا دَامُوا فِي الْحُزْنِ عَلَى مَيِّتِهِمْ ، وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهَا مُجَمِّعَةُ الْأَحْبَابِ ، فَإِذَا أَكَلُوهَا تَذَّكَّرُوا بِهَا مَيِّتَهُمْ فَيَتَجَدَّدُ عَلَيْهِمْ الْحُزْنُ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ السَّمَكَ مُدَّةَ حُزْنِهِمْ عَلَى مَيِّتِهِمْ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالْبِدَعِ فِي الدِّينِ وَتَرْكِ الْوُقُوفِ مَعَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُذْكَرَ هَذَا وَلَا يُعَرَّجَ عَلَيْهِ لِظُهُورِ بَاطِلِهِ وَسَمَاجَتِهِ وَقُبْحِهِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الشَّرْطُ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِهَا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهَا وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَا رَبَّ سِوَاهُ وَلَا مَرْجُوَّ إلَّا إيَّاهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ النِّفَاسِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَصْلُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِمَّا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ أَوَّلًا ثُمَّ الْمَوْتَ بَعْدَهُ .
لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَتْ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ تَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ تَأَخَّرَ ذِكْرُهَا .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَخِّرُوهُنَّ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ } ، فَظُهُورُ الْوَلَدِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ هُوَ أَوَّلُ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ .
فَيَنْبَغِي بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى وَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ ، وَيَتَّبِعَ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ فِي حَقِّهِ لِتَعُودَ بَرَكَتُهَا عَلَى الْمَوْلُودِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَبَعْدَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُحْتَضَرَ عِنْدَ مَوْتِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحْسَنِ حَالَاتِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِأَنَّهُ الْخِتَامُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ مِثْلَهُ حِينَ بُرُوزِهِ إلَى الدُّنْيَا .
يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَنَّ الْحَفَظَةَ إذَا صَعِدُوا بِعَمَلِ الْعَبْدِ ، فَإِنْ كَانَتْ الصَّحِيفَةُ أَوَّلُهَا مُبَيَّضًا وَآخِرُهَا مُبَيَّضًا بِالْحَسَنَاتِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ : أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْت لَهُ مَا بَيْنَهُمَا أَوْ كَمَا وَرَدَ .
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَفِيهِ { : كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ فَيَقُولُونَ : تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ } .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِأَمْرِ الْمَوْلُودِ حِينَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ بِأَنْ تُمْتَثَلَ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ ، وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَلِيُّهُ فَلَعَلَّ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِ إلَى الدُّنْيَا وَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ قُوَّةُ الرَّجَاءِ فِي الْعَفْوِ عَمَّا بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مَاشِيًا

فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ الْمَوْلُودِ عَلَى طَرِيقِ السُّنَّةِ وَالْمَنْهَجِ الْأَقْوَمِ وَلَا يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى عَوَائِدِ أَكْثَرِ أَهْلِ وَقْتِهِ قَوِيَ الرَّجَاءُ فِي التَّخَلُّصِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ مَوْتِ الْمُحْتَضَرِ وَفِي دَفْنِهِ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ ، هَذَا وَالْمُبَاشِرُ لِذَلِكَ الرِّجَالُ غَالِبًا ، وَمُبَاشَرَةُ الرِّجَالِ لِلْعُلَمَاءِ أَكْثَرُ مِنْ النِّسَاءِ ، فَإِنَّهُنَّ مُحْتَجِبَاتٌ وَتَرَبَّيْنَ فِي الْجَهْلِ غَالِبًا بِسَبَبِ ذَلِكَ فَلِأَجْلِ بُعْدِهِنَّ عَنْ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ غَالِبًا اتَّخَذْنَ عَوَائِدَ رَدِيئَةً مُتَعَدِّدَةً قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ خَالَفْنَ فِيهَا الشَّرِيعَةَ الْمُطَهَّرَةَ .
فَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَوْلُودِ ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَيْهِنَّ وَلَا إلَى رَأْيِهِنَّ وَلَا إلَى عَوَائِدِهِنَّ ، وَإِنْ غَضِبْنَ أَوْ تَشَوَّشْنَ أَوْ آلَ أَمْرُهُ مَعَهُنَّ إلَى هَجْرِهِنَّ أَوْ فِرَاقِهِنَّ ؛ لِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ إنَّمَا هِيَ مَطْلُوبَةٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بِالِاتِّبَاعِ وَالِامْتِثَالِ لَا بِالِابْتِدَاعِ ، بَلْ الِابْتِدَاعُ إذَا فُعِلَ كَانَ قَطْعًا لِلرَّحِمِ ، وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ بِهِ السُّرُورُ فِي الْوَقْتِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَطْعٌ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى وَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ يَنْظُرَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمَوْلُودِ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ وَعَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَوْلُودِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ فَلْيَسْأَلْ عَنْ ذَلِكَ أَهْلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ، } فَبِالسُّؤَالِ تَتَبَيَّنُ لَهُ السُّنَّةُ فَيَتَّبِعُهَا وَتَظْهَرُ لَهُ الْبِدْعَةُ فَيَتَجَنَّبُهَا فَيَدْخُلُ بِذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } فَتَحْصُلُ لَهُ الْمَعِيَّةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَأَيُّ نِعْمَةٍ أَكْبَرُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذَا كَانَ مَعَهُ فَقَدْ أَمِنَ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ وَسَلِمَ دِينًا وَدُنْيَا .
فَعَلَى هَذَا

يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ لِصِلَةِ رَحِمِهِ فِي حَقِّ الْمَوْلُودِ أَوَّلًا حِينَ خِطْبَةِ أُمِّهِ إنْ كَانَ وَالِدًا ؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { اخْتَارُوا لِنُطَفِكُمْ كَمَا تَخْتَارُونَ لِصَدَقَاتِكُمْ } هَذَا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي كَيْفِيَّةِ صِلَةِ رَحِمِهِ لِوَلَدِهِ .
الْمَقَامُ الثَّانِي حِينَ الْوَطْءِ أَعْنِي فِي التَّسْمِيَةِ وَالْإِتْيَانِ بِالْآدَابِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .
الْمَقَامُ الثَّالِثُ حِينَ الْوِلَادَةِ ، وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمُبَارَكِينَ وَلَهُ وَلَدٌ فِيهِ بَعْضُ أَعْرَاضٍ فَكَلَّمْت وَالِدَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : لَا أُبَالِي بِهِ فَإِنِّي امْتَثَلْت السُّنَّةَ حِينَ قَرُبْت أُمَّهُ فَلَا يَكُونُ مِنْهُ إلَّا خَيْرٌ ، وَكَذَلِكَ كَانَ لَمَّا أَنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَكَانَتْ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ بِنْتُ عَمِّهِ فَجَاءَ إلَى الْبَيْتِ فَطَلَبَ قُوتَهُ مِنْ خَارِجِ الْبَابِ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَدْخُلُ فَأَبَى فَسَأَلَهُ وَالِدُهُ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ : إنِّي قَدْ احْتَلَمْت الْبَارِحَةَ فَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَدْخُلَ وَبِنْتُ عَمِّي فِي الْبَيْتِ ، فَهَذِهِ ثَمَرَةُ الِامْتِثَالِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ سَالِمَةً مِنْ الْغَرَرِ وَالْغِشِّ فَهَاهُنَا أَوْجَبُ لِيَقَعَ الِامْتِثَالُ فِي حَقِّ الْمَوْلُودِ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ لِتَحْصُلَ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالتَّفَاؤُلُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَكُونُ الْقَابِلَةُ أُجْرَتُهَا مَعْلُومَةٌ يَتَّفِقُ مَعَهَا عَلَيْهَا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ زَادَهَا شَيْئًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْهِبَةِ لَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يُوَفِّيَهَا ذَاكَ وَإِلَّا تَرَكَهُ ، وَكَذَلِكَ هِيَ إنْ رَأَتْ قَبُولَهُ مِنْهُ وَإِلَّا تَرَكَتْهُ .
هَذَا إنْ كَانَ وَالِدًا .
وَأَمَّا إنْ كَانَ غَيْرَ وَالِدٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ إلَّا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ الْوَالِدُ إنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُ مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ مِنْ أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْتِي عَلَى غَيْرِ مَعْلُومٍ غَالِبًا فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ وَالْمُغَابَنَةِ وَالْمُنَازَعَةِ وَالْكَلَامِ الْكَثِيرِ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فِي تَرْكِ الْأُجْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، بَلْ بَعْضُهُنَّ يَرَيْنَ أَنَّ تَعْيِينَ الْأُجْرَةِ عَيْبٌ وَقِلَّةُ حِشْمَةٍ وَتَرْكُ رِيَاسَةٍ ، وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِضِدِّ مَا قَالُوهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ إذَا تُرِكَتْ لَا يَخْلُفُهَا إلَّا ضِدُّهَا ، فَالرِّيَاسَةُ عَلَى الْحَقِيقَةِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ضِدِّهَا جَهْدَهُ لِتَعُودَ بَرَكَةُ اتِّبَاعِهَا عَلَى الْجَمِيعِ مِنْ الْمَوْلُودِ وَالْوَلِيِّ وَالْقَابِلَةِ وَمَنْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ بَلْ يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَسْأَلَ الْقَابِلَةَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مُبَاشَرَتِهَا لِلْمَوْلُودِ ؛ لِأَنَّ الْقَوَابِلَ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَلَّ أَنْ يَتَحَفَّظْنَ مِنْ النَّجَاسَاتِ فَتُبَاشِرُ الْقَابِلَةُ دَمَ النِّفَاسِ وَغَيْرَهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَتَلْمِسُ الْمَوْلُودَ وَمَا يُجْعَلُ عَلَيْهِ مِنْ اللِّبَاسِ بِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلِ النَّجَاسَاتِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ

، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَلْ بَعْضُ الْقَوَابِلِ يَلْعَقْنَ الْمَوْلُودَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَصَابِعِهِنَّ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَيُعَلِّلْنَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ لِكَذَا وَكَذَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ { أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأُتِيَ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ بَعْدَ أَنْ لَاكَهَا فِي فَمِهِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ثُمَّ مَضَتْ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا وُلِدَ لَهُمْ مَوْلُودٌ أَتَوْا بِهِ إلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ بَرَكَتَهُ وَخَيْرَهُ فَيُحَنِّكُهُ لَهُمْ رَجَاءَ بَرَكَتِهِ ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ فِعْلِ الْقَابِلَةِ ضِدُّ هَذَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
وَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا تَعَسَّرَتْ الْوِلَادَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَخَذْنَ لُبَابَ الْخُبْزِ وَيَجْعَلْنَ فِي قَلْبِهِ زِبْلَ الْفَأْرَةِ وَيُطْعِمْنَهَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَشْعُرُ بِهِ وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ بِزَعْمِهِنَّ أَنَّهُ يُهَوِّنُ عَلَيْهَا الْوِلَادَةَ ، وَهَذَا بَاطِلٌ لَا شَكَّ فِيهِ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } ، فَإِذَا كَانَ فَطَرَ الصَّبِيَّ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ عَلَى الْحَرَامِ فَقَدْ يُخَافُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْقَلْبِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ لَمْ يَقْصِدْهُ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ تَفَاؤُلٌ رَدِيءٌ فِي كَوْنِهِ أَفْطَرَ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ عَلَيْهِ .
فَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ يَسْأَلُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ انْحَسَمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ الْفَاسِدَةُ .
ثُمَّ يُعَلِّمُهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ الِاحْتِرَازِ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ الْمَوْلُودِ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهَا عِلْمٌ بِذَلِكَ فَيَا حَبَّذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا عِلْمٌ مِنْهُ فَتَتَعَلَّمُ الْحُكْمَ فِيهِ بِسَبَبِ سُؤَالِهِ لَهَا

عَنْهُ سِيَّمَا وَقَدْ نَشَأَ أَكْثَرُهُنَّ عَلَى عَوَائِدَ رَدِيئَةٍ اتَّخَذْنَهَا ، وَقَدْ جَرَّتْ إلَى مُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةً كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِمَّا اتَّخَذُوهُ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، وَهِيَ أَنَّ غَاسِلَ الْمَيِّتِ يَأْخُذُ مَا يَجِدُ عَلَيْهِ فَجَرَّ ذَلِكَ إلَى مُحَرَّمٍ وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَيِّتِ يَتْرُكُونَ مَيِّتَهُمْ مَكْشُوفًا بِلَا سُتْرَةٍ أَوْ بِشَيْءٍ يَصِفُ الْعَوْرَةَ أَوْ يَحْكِيهَا ، وَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَهُوَ أَنَّهُنَّ قَدْ جَرَتْ عَوَائِدُهُنَّ أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْخُذُ مَا نَزَلَ فِيهِ الْمَوْلُودُ ، وَذَلِكَ يَجُرُّ إلَى الضَّرَرِ بِالْمَوْلُودِ إنْ كَانَ أَهْلُهُ فُقَرَاءَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ إذَا عَلِمُوا أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْخُذُ ذَلِكَ لَا يَعْتَنُونَ بِهِ ، وَقَدْ مَضَتْ عَادَةُ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَتَبَرَّكُونَ بِأَثَرِ الْأَكَابِرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ أَوْ هُمَا مَعًا ، فَإِذَا نَزَلَ الْمَوْلُودُ فِي ثَوْبِ أَحَدِهِمْ أَوْ فِي خِرْقَةٍ مِنْ أَثَرِهِمْ ، فَذَلِكَ عِنْدَهُمْ غُنْمٌ وَبَرَكَةٌ ، فَإِذَا عَلِمَ أَهْلُ الْمَوْلُودِ أَنَّ الْقَابِلَةَ تَأْخُذُ ذَلِكَ أَمْسَكُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ لِلتَّبَرُّكِ فَحُرِمَ الْمَوْلُودُ بَرَكَةَ مُبَاشَرَةِ تِلْكَ الْخِرْقَةِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ إلَى الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ كَمَا حُرِمَ الْمَيِّتُ السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِي أَنَّ الْغَاسِلَ يَأْخُذُ مَا وَجَدَ عَلَى الْمَيِّتِ كَمَا سَبَقَ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَفَاخَرُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ الْمَوْلُودُ حَتَّى إنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي ذَلِكَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَهُ مِنْ خِرْقَةِ حَرِيرٍ غَالِبًا .
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ ، وَقَالَ : هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } فَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى رِجَالِ أُمَّتِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ

لُبْسَهُ حَرَامٌ عَلَى الذَّكَرِ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَالْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَلِيُّ الْمَوْلُودِ ، وَهُمْ يَأْخُذُونَ الْخِرْقَةَ وَلَا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ الْمَوْلُودُ أَذَكَرًا أَمْ أُنْثَى .
وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ : قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ لِلذَّكَرِ الصَّغِيرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْمَنْعِ ، وَأَيْضًا لَوْ قُلْنَا بِحِلِّهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي حَقِّهِ فَيُجَنِّبُهُ الْمَوْلُودَ لِتَحْصُلَ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالتَّفَاؤُلُ الْحَسَنُ بِسَبَبِ خُرُوجِهِ مِنْ الْخِلَافِ ، وَفِي ذَلِكَ عَظِيمُ الثَّوَابِ لِوَلِيِّهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْقَوَابِلِ إذَا اسْتَحْسَنَ الْخِرْقَةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لَأَنْ يَنْزِلَ فِيهَا الْمَوْلُودُ أَخَذْنَهَا لِأَنْفُسِهِنَّ ، وَلَمْ يُبَاشِرْنَ الْمَوْلُودَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَتَغَيَّرَ حُسْنُهَا أَوْ يَنْقُصَ ثَمَنُهَا .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَدُخُولُ الْقَابِلَةِ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مَا اعْتَادَتْهُ مِمَّا هُوَ مَجْهُولٌ يُمْنَعُ ، وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ تَحْصُرُهُ فَذَلِكَ سَائِغٌ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا نَقْدًا كَانَ أَوْ عَرَضًا .
فَوَقَعَ بِسَبَبِ مَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ الْبِدْعَةِ أَنَّ الْفُقَرَاءَ حُرِمُوا بَرَكَةَ أَثَرِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَالْأَغْنِيَاءُ وَقَعُوا فِي الْمُفَاخَرَةِ بِحُطَامِ الدُّنْيَا لِأَجْلِ مَا تَذْكُرُهُ الْقَابِلَةُ لِلنَّاسِ مِنْ الْخِرْقَةِ الْحَرِيرِ وَصِفَتِهَا الَّتِي اعْتَادُوهَا لِنُزُولِ الْمَوْلُودِ فِيهَا فَحَصَلَ الضَّرَرُ لِلْفَرِيقَيْنِ .
فَإِذَا كَانَتْ الْقَابِلَةُ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ انْزَاحَ هَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ .
وَيَنْبَغِي أَنَّ كُلَّ مَنْ يَتَنَاوَلُ الْمَوْلُودَ يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ كَالْقَابِلَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي كُلِّ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي لَهُ قَدْرُ وَبَالٍ .
فَإِذَا خَرَجَ الْمَوْلُودُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ إلَى ضَوْءِ الدُّنْيَا وَجَبَ

الشُّكْرُ لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ فِي خَطَرٍ عَظِيمٍ حَتَّى إنَّهُ لَيْسَ لَهَا مِنْ مَالِهَا إلَّا الثُّلُثُ لِمَا كَانَتْ فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ ، وَسَلَامَتُهَا نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ شَامِلَةٌ يَجِبُ عَلَيْهَا الشُّكْرُ ، وَشُكْرُهَا امْتِثَالُ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاجْتِنَابُ نِعَمِهِ وَاتِّبَاعُ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كَأَنَّهَا وُهِبَتْ عُمْرًا جَدِيدًا .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَوْلُودَ إذَا خَرَجَ صَحِيحًا سَوِيًّا غَيْرَ نَاقِصٍ فَهَذِهِ نِعْمَةٌ ثَانِيَةٌ يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَبِ وَأَقَارِبِهِ وَمِنْ الْأُمِّ وَأَقَارِبِهَا عَلَى سَلَامَتِهِمْ مِنْ النَّقْصِ فِي وَلَدِهِمْ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : الشُّكْرُ عَلَى تَكْثِيرِ عَدَدِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : النِّكَاحُ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ : أَوَّلُهَا : أَنَّهُ يَغُضُّ الطَّرْفَ .
وَالثَّانِي : يُحْصِنُ الْفَرْجَ .
وَالثَّالِثُ : يُكْثِرُ النَّسْلَ .
وَالرَّابِعُ : يُبْقِي الذِّكْرَ .
وَالْخَامِسُ : يُبْقِي الْأَثَرَ ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمَوْلُودُ فَقَدْ كَثُرَ بِهِ الْعَدَدُ وَرُفِعَ بِهِ الذِّكْرُ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَالْأَثَرُ إنْ كَانَتْ أُنْثَى فَيَتَعَيَّنُ الشُّكْرُ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ : { أَكْثِرُوا مِنْ الْعَائِلَةِ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ بِأَيِّهِمْ تُرْزَقُونَ } فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْوَلَدُ لِلْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ سَبَبًا لِكَثْرَةِ الرِّزْقِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ حِسًّا ؛ لِأَنَّا نُشَاهِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَكُونُ فَقِيرًا ضَعِيفًا تَعِبًا مِنْ التَّكَسُّبِ بَعِيدًا مِنْ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ النَّاقِصَةِ ، فَإِذَا حَدَثَ لَهُ مَوْلُودٌ ظَهَرَ أَمْرُهُ وَكَثُرَ خَيْرُهُ وَبَاشَرَ الْعُلَمَاءَ وَسَمِعَ فَوَائِدَهُمْ بِوَاسِطَةِ وَلَدِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النِّعَمِ الْمُتَرَادِفَةِ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ حَبِيبًا النَّجَّارَ رُئِيَ وَهُوَ يَمْشِي فِي رِكَابِ وَلَدِهِ فَعَذَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : مَا عُرِفَ حَبِيبٌ إلَّا بِوَلَدِهِ ، وَهَذَا

مُشَاهَدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ .
فَقَابَلُوا هَذِهِ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ بِضِدِّهَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ الْمُحْدَثَةِ إذْ أَنَّهُمْ إذَا ظَهَرَتْ عِنْدَهُمْ هَذِهِ النِّعَمُ أَقْبَلَ النِّسَاءُ عَلَى الزَّغْرَدَةِ وَيَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِذَلِكَ مَعَ وُجُودِ الدُّفِّ وَالرَّقْصِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِاسْتِهْتَارِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مَعَ التَّفَاخُرِ بِمَا يَصْنَعْنَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ الْكَثِيرَةِ وَاجْتِمَاعِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَحِرْمَانِ الْفُقَرَاءِ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُحْتَاجِينَ مَعَ تَشَوُّفِهِمْ وَطَلَبِهِمْ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ ، وَأَكْثَرُهُنَّ يَقُمْنَ عَلَى هَذَا الْحَالِ مُدَّةَ السَّبْعَةِ أَيَّامٍ لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَتْ تُهَنِّئُ جَدَدْنَ لَهَا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ وَالرَّقْصَ وَالِاسْتِهْتَارَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ الرَّدِيئَةِ .
ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْقَبَائِحِ الشَّنِيعَةِ الْمَزَامِيرُ وَالْأَبْوَاقُ عَلَى الْبَابِ تُعْمَلُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْهَرْجِ وَالشُّهْرَةِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمْ كَأَنَّهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ تُتَّبَعُ ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ فِعْلِهِمْ فَكَأَنَّهُ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فِي الدِّينِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا اُضْطُرَّتْ إلَى التَّصْفِيقِ فِي صَلَاتِهَا صَفَّقَتْ بِأُصْبُعَيْنِ مِنْ يَدِهَا عَلَى ظَهْرِ يَدِهَا الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ فَمُنِعَتْ مِنْ الْكَلَامِ وَعُوِّضَتْ عَنْهُ التَّصْفِيقَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَمَا بَالُك بِمَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْفَظِيعَةِ سِيَّمَا عِنْدَ إحْدَاثِ هَذِهِ النِّعَمِ الْمُتَجَدِّدَةِ .
وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا وَأَقْبَحُ مِنْهُ أَنَّ الْغَالِبَ مِمَّنْ يَرَاهُمْ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ يَعْلَمُ حَالَهُمْ لَا يُغَيِّرُهُ وَلَا يَسْتَقْبِحُهُ وَلَا تَشْمَئِزُّ نَفْسُهُ ، بَلْ يُسَرُّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ .
وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَعْظَمُهُ قُبْحًا وَشَنَاعَةً أَنَّ بَعْضَ مَنْ

يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَوْ إلَى الْخِرْقَةِ أَوْ إلَى الْمَشْيَخَةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ وَيَسْتَحْسِنُونَهُ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ بَلْ يَجْمَعُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ وَيَذُمُّونَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَلَا يَدْعُوهُمْ إلَيْهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى الْجَهْلِ وَالْجَهْلِ بِالْجَهْلِ .
وَلَيْسَ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خَاصًّا بِأَمْرِ النِّفَاسِ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ عَامٌّ فِي كُلِّ أَمْرٍ حَدَثَ بِهِ سُرُورٌ حَتَّى فِي الْحَاجِّ إذَا قَدِمَ فَعَلُوا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَأَمَّا فِي أَمْرِ النِّكَاحِ فَلَا تَسْأَلْ عَمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ ، بَلْ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي النِّفَاسِ نُقْطَةً مِنْ بَحْرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي النِّكَاحِ ، وَهُوَ كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ قَلَّ أَنْ يَنْحَصِرَ أَوْ يَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ لِاخْتِلَافِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَقَالِيمِ وَالْبِلَادِ وَالْعَوَائِدِ ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ النِّفَاسِ فِيهِ غَنِيَّةٌ عَنْ الْكَلَامِ عَلَى تَفْصِيلِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي النِّكَاحِ .
وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا إنْكَارٌ لِوَلِيمَةِ النِّكَاحِ بَلْ هِيَ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ فِي الشَّرْعِ ، وَكَذَلِكَ الضَّرْبُ بِالدُّفِّ الشَّرْعِيِّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنْ الصَّرَاصِرِ وَالسِّلْسِلَةِ الْحَدِيدِ اللَّتَيْنِ أُحْدِثَتَا فِيهِ ، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ أَحَدَ شَخْصَيْنِ إمَّا جَارِيَةٌ مِنْ الْوَخْشِ مِمَّنْ لَا يُلْتَفَتُ إلَى صُورَتِهَا وَلَا إلَى سَمَاعِ صَوْتِهَا غَالِبًا ، أَوْ حُرَّةٌ مُتَجَالَّةٌ لَا تُشْتَهَى وَلَا يُلْتَذُّ بِكَلَامِهَا بِخِلَافِ مَنْ تُشْتَهَى وَيُلْتَذُّ بِكَلَامِهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ .
فَهَذَا هُوَ إعْلَانُ النِّكَاحِ وَإِفْشَاؤُهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِخِلَافِ مَا تُسَوِّلُهُ الْأَنْفُسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ مِنْ الِالْتِفَاتِ إلَى الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

دَخَلَ إلَى بَلَدٍ فَوَجَدَ فِيهَا بَعْضَ النَّاسِ قَدْ أَصَابَهُمْ حُزْنٌ فَضَجُّوا وَأَظْهَرُوا الْمُخَالَفَةَ لِمَا أَصَابَهُمْ ، وَوَجَدَ آخَرِينَ قَدْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ فَفَرِحُوا وَسُرُّوا وَخَرَجُوا بِذَلِكَ إلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ فَقَالَ : اُبْتُلِيَ هَؤُلَاءِ فَمَا صَبَرُوا ، وَأُنْعِمَ عَلَى هَؤُلَاءِ فَمَا شَكَرُوا ، فَلَا يُمَكِّنُنِي الْمُقَامُ مَعَ قَوْمٍ هَذَا حَالُهُمْ ، أَوْ كَمَا قَالَ وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ .
وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ إلَّا أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَخْرُجُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ إلَّا وَيَجِدُ فِيهِ مَا هُوَ مِثْلُ مَا خَرَجَ عَنْهُ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ ، فَلَا فَائِدَةَ إذَنْ فِي خُرُوجِهِ إلَّا حُصُولُ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَالِاسْتِشَارَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُبَدِّدُ وَيَمْنَعُهُ مِنْ جَمْعِ خَاطِرِهِ وَالدَّأْبِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّظَرِ فِي خَلَاصِ مُهْجَتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَالْعَزْمُ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى آخَرَ يُوجِبُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَغَيْرُهُ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَازِمَ عَلَى الِانْتِقَالِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُعَوَّضُ عَنْ ذَلِكَ رُسُومُ بَيْتِهِ وَتَرْكُ الْخَوْضِ فِيمَا هُمْ بِصَدَدِهِ غَيْرَ مُفَارِقٍ لِجَمَاعَتِهِمْ فَيَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ بَرَكَةُ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { نِعْمَ الصَّوَامِعُ بُيُوتُ أُمَّتِي } ، فَإِذَا امْتَثَلَ مَا أَمَرَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ كُلِّهَا وَكَأَنَّهُ غَائِبٌ عَنْهُمْ فَلَمْ يَضُرَّهُ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْءٌ مِمَّا هُمْ فِيهِ ، بَلْ يَكْثُرُ أَجْرُهُ وَيَعْلُو أَمْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ بِحَسَبِ مَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْقَلِقِ وَالِانْزِعَاجِ عِنْدَ رُؤْيَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ سَمَاعِهِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُلَازِمٌ لِطَاعَةِ رَبِّهِ مُمْتَثِلٌ سُنَّةَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُزَعْزِعْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ،

بَلْ يَرَى ذَلِكَ غَنِيمَةً بَارِدَةً سِيقَتْ لَهُ فَيَغْتَنِمُهَا وَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى مَا حَبَاهُ مِنْهَا .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ مَعِي } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : الشُّكْرُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْبِشَارَةِ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْوَالِدَيْنِ يَكُونُ أَنَّ عَمَلَهُمَا لَا يَنْقَطِعُ وَإِنْ مَاتَا ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُمَا مِنْ سَعْيِهِمَا وَآثَارِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ صَالِحًا فَبَخٍ عَلَى بَخٍ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَمَا فَعَلَ مِنْ خَيْرٍ حَصَلَ الثَّوَابُ لِوَالِدَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ ، وَمَا فَعَلَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَصِلُ إلَيْهِمَا مِنْهُ شَيْءٌ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي وَلَدِ الْوَلَدِ إلَى مُنْتَهَى انْقِرَاضِهِمْ .
وَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ وَنِعْمَةٌ شَامِلَةٌ يَتَعَيَّنُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ } ، فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ مَا أَكْمَلَهَا وَأَعْظَمَهَا إلَى ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا فَقَابَلُوهَا بِضِدِّهَا كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلُ .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَى وَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِمَّا أَحْدَثْنَهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْمَوْلُودَ إذَا جَاءُوا إلَى قَطْعِ سُرَّتِهِ جَمَعُوا عِنْدَهُ كُلَّ مَوْلُودٍ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ ذَلِكَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ سُرَّةُ الْمَوْلُودِ ، فَحِينَئِذٍ تَقْطَعُ الْقَابِلَةُ سُرَّةَ الْمَوْلُودِ ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ مِنْ الصِّغَارِ عِنْدَ قَطْعِهَا وَدَخَلَ بَعْدَهُ تَحْوَلُّ عَيْنَاهُ أَوْ يَبْقَى يَبْكِي كَثِيرًا ، وَذَلِكَ مِنْهُنَّ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ يَتَعَيَّنُ طَرْحُهُ وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقَوَابِلِ وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ إذَا دَخَلَتْ إلَى بَيْتٍ وَقَبِلَتْ فِيهِ لَا يُمْكِنُ غَيْرُهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهَا

فِيهِ ، وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ بِزَعْمِهِنَّ أَنَّ دَمَ الْمَوْلُودِ وَدَمَ أُمِّهِ قَدْ وَقَعَ عَلَى يَدِ الْقَابِلَةِ الْأُولَى فَلَا يَدْخُلُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا فِيهِ ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَقَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَابِلَةِ الْأُولَى وَأَهْلِ الْبَيْتِ شَنَآنٌ وَخِصَامٌ كَثِيرٌ ، وَيَعْتَقِدْنَ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ حَرَامٌ ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ مِنْهُنَّ فِي الشَّرْعِ وَافْتِرَاءٌ بَيِّنٌ .
فَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَوْلُودِ أَنْ لَا يَقْرُبَ مَنْ هَذَا حَالُهَا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهَا حُكْمَ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ قَبْلَ إتْيَانِهَا ، فَإِنْ رَضِيَتْ وَإِلَّا تَرَكَهَا وَأَخَذَ سِوَاهَا عَلَى الْمَنْهَجِ الْأَقْوَمِ وَالطَّرِيقِ الْأَسْلَمِ .
فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ حُسْنِ الصُّحْبَةِ وَالتَّأَلُّفِ وَتَرْكِ التَّشْوِيشِ لَكَانَ ذَلِكَ حَسَنًا .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ فِي لَيْلَةِ السَّابِعِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ رَأْسِ الْمَوْلُودِ الْخِتْمَةُ وَاللَّوْحُ وَالدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ وَرَغِيفٌ مِنْ الْخُبْزِ وَقِطْعَةٌ مِنْ السُّكَّرِ إنْ كَانَ مُقِلًّا ، وَمَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ عَمِلَ رَغِيفًا كَبِيرًا مِنْ الْكَمَاجِ وَأُبْلُوجَةً مِنْ السُّكَّرِ وَطَبَقًا مِنْ الْفَاكِهَةِ وَقُفَّةً مِنْ النَّقْلِ وَشَمَعًا ، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَا ، فَإِذَا كَانَتْ صَبِيحَةُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَرَّقْنَ كُلَّ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَ رَأْسِهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُ بَرَكَةٌ لِمَنْ أَخَذَهُ ، وَأَنَّهُ يَنْفَعُهُ مِنْ الصُّدَاعِ ، وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ بِالدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ مَا يَجْرِي عَلَى الْمَوْلُودِ فِي عُمْرِهِ إلَى حِينِ مَوْتِهِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ وَافْتِرَاءٌ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِنَّ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ كَتْبِ عِصَابَةِ الْمَوْلُودِ بِالزَّعْفَرَانِ يَكْتُبُونَ فِيهَا سُورَةَ يس أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَيَعْصِبْنَهُ بِهَا فِي يَوْمِ سَابِعِهِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ جَعْلِ السِّكِّينِ الَّتِي قُطِعَتْ

بِهَا سُرَّةُ الْمَوْلُودِ عِنْدَ رَأْسِهِ مَا دَامَتْ أُمُّهُ جَالِسَةً عِنْدَهُ ، فَإِذَا قَامَتْ حَمَلَتْهَا مَعَهَا تَفْعَلُ هَذَا مُدَّةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَيُعَلِّلْنَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُصِيبَهَا شَيْءٌ مِنْ الْجَانِّ ، وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّ الْمَوْلُودَ إذَا غَابَتْ عَنْهُ أُمُّهُ لِضَرُورَةٍ فِي الْبَيْتِ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا مَنْ يَقْعُدُ عِنْدَ الْمَوْلُودِ تَجْعَلُ عِنْدَهُ كُوزًا مَمْلُوءًا مَاءً وَشَيْئًا مِنْ الْحَدِيدِ .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَخْذِهِنَّ شَيْئًا مِنْ الْمِلْحِ ، وَيَصْبُغْنَ بَعْضَهُ بِالزَّعْفَرَانِ ، وَبَعْضَهُ بِالزِّنْجَارِ غَالِبًا ، وَيَخْلُطْنَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْكَمُّونِ الْأَسْوَدِ وَيُوقِدُونَ الشَّمَعَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، وَتَلْبَسُ أُمُّ الْمَوْلُودِ ثِيَابًا حِسَانًا ، وَيَدُرْنَ بِهَا بِوَلَدِهَا الْبَيْتَ كُلَّهُ ، وَالْقَابِلَةُ أَمَامَهَا حَامِلَةً لِلْمَوْلُودِ ، وَامْرَأَةٌ أُخْرَى أَمَامَ الْقَابِلَةِ مَعَهَا طَبَقٌ فِيهِ الْمِلْحُ الْمَذْكُورُ وَيَنْثُرْنَهُ فِي الْبَيْتِ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَفِي الطَّبَقِ شَيْءٌ مِنْ الْبَخُورِ بَخُورٌ مَخْصُوصٌ بِالْوِلَادَةِ ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُ يَنْفَعُ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَالْكَسَلِ وَالْعَيْنِ وَالْجَانِّ وَالشَّرِّ كُلِّهِ ، وَهَذَا مِنْهُنَّ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ وَبِدَعٌ لَيْسَتْ مِنْ الشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ فِي شَيْءٍ .
فَاللَّبِيبُ مَنْ سَلَّمَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ إلَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَتَرَكَ كُلَّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يُعَلِّلُهُ بِتَعَالِيلَ لَا يَقُومُ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى سَاقٍ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ بَاطِلُهَا إلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ وَالتَّمْيِيزِ غَالِبًا ، فَلْيَحْذَرْ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ ، وَحَيْثُ كَانَتْ فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي الِابْتِدَاعِ .
أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَيَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَوْلُودِ إنْ كَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ أَنْ يَعُقَّ عَنْهُ فِي سَابِعِهِ ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ فِي السِّنِّ وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ .
وَقَدْ سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَمَّا يُتَّقَى فِي الضَّحَايَا فَأَشَارَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ ، وَقَالَ : أَرْبَعٌ : الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا ، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا ، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا ، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقَى وَوَقْتُهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ السَّابِعِ ، فَإِنْ وُلِدَ الْمَوْلُودُ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ ، طُرِحَ ذَلِكَ ، وَلَا يُحْسَبُ ، وَيَتَحَفَّظُ فِيهَا كَمَا يَتَحَفَّظُ فِي الْأُضْحِيَّةِ ، فَلَا يُعْطِي الْجَزَّارَ أُجْرَتَهُ مِنْ لَحْمِهَا وَلَا جِلْدِهَا ، وَكَذَلِكَ الْقَابِلَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِوَضٌ فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْبِيَاعَاتِ ، وَلَحْمُ الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَذْبَحُهُ فِي الْعَقِيقَةِ إلَى الْمَسْمَطِ ، فَيُعْطِي جِلْدَهَا وَرَأْسَهَا وَأَطْرَافَهَا لِلصَّانِعِ الَّذِي يَعْمَلُهَا ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ .
هَذَا إنْ عَمِلَهَا سَلِيخًا ، وَأَمَّا إنْ عَمِلَهَا سَمِيطًا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْمَلَ بِهَا وَلِيمَةً وَيَدْعُوَ النَّاسَ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيُصْنَعُ مِنْهَا طَعَامٌ وَيُجْمَعُ عَلَيْهِ الْإِخْوَانُ ؟ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : تَشَبُّهٌ بِالْوَلَائِمِ ، وَقَالَ إنَّمَا تُطْبَخُ وَتُؤْكَلُ وَيُطْعَمُ الْجِيرَانُ .
وَيَنْبَغِي إنْ كَانَ الْمَوْلُودُ مِمَّنْ يَعُقُّ عَنْهُ أَنْ لَا يُوقِعَ عَلَيْهِ الِاسْمَ إلَّا حِينَ يَذْبَحُ الْعَقِيقَةَ ، وَيَتَخَيَّرُ لَهُ فِي الِاسْمِ مُدَّةَ السَّابِعِ ، فَإِذَا ذَبَحَ الْعَقِيقَةَ أَوْقَع عَلَيْهِ الِاسْمَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلُودُ مِمَّنْ لَا يَعُقُّ عَنْهُ لِفَقْرِ وَلِيِّهِ ، فَيُسَمُّونَهُ

فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءُوا .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي الْفَقْرَ مِنْهُمْ ، وَيَعْتَلُّ بِهِ عَلَى تَرْكِ سُنَّةِ الْعَقِيقَةِ ، وَيَتَكَلَّفُ لِبَعْضِ الْعَوَائِدِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا مَا يَزِيدُ عَلَى ثَمَنِ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ عَمَلِ الزَّلَابِيَةِ ، أَوْ شِرَائِهَا وَشِرَاءِ مَا تُؤْكَلُ بِهِ مَا ثَمَنُهُ أَضْعَافُ مَا يَفْعَلُ بِهِ الْعَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ .
هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مَعَ وُجُودِ النَّفَقَةِ الْكَثِيرَةِ فِيهِ لِغَيْرِ مَعْنًى شَرْعِيٍّ ، بَلْ لِلْبِدْعَةِ وَالظُّهُورِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ .
وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ الْوِلَادَةِ .
وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ الْوِلَادَةِ .
وَبَعْضُهُمْ يَقْتَصِرُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَيَعْتَلُّونَ فِي ذَلِكَ بِكَوْنِهِمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَقِيقَةِ ، وَالْعَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ ثَمَنُهَا أَيْسَرُ وَأَخَفُّ مِنْ ذَلِكَ بَلْ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى تَرْكِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي الْعَصِيدَةِ مِنْ الْبِدْعَةِ لَكَانَ فِيهِ ثَمَنُ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَزِيَادَةٌ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيدَةَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا إلَّا النُّفَسَاءُ وَحْدَهَا ، فَزُبْدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ دُونَهَا تَكْفِيهَا ، وَهُمْ يَعْمَلُونَ الْعَصِيدَةَ ، وَيَشْتَرُونَ مَا تُؤْكَلُ بِهِ وَيُفَرِّقُونَ ذَلِكَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْمَعَارِفِ ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَنْدُبْهُمْ الشَّرْعُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ إطْعَامُ الطَّعَامِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ لَكِنْ مَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ تَرْكُ سُنَّةٍ ، وَهُمْ لَوْ اشْتَرَوْا بِثَمَنِ الْعَصِيدَةِ وَمَا تُؤْكَلُ بِهِ مَا يَعُقُّ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَكَانَ فِيهِ الْكِفَايَةُ وَزِيَادَةٌ .
ثُمَّ يَزِيدُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا يَتَّخِذُونَهُ مِنْ النَّقْلِ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَيُفَرِّقُونَهُ فِي يَوْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَهَذَا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ

عَنْ النَّقْلِ الْمَذْكُورِ حَلَاوَةً عَلَى صِفَةٍ مَعْلُومَةٍ تُشْبِهُ النَّقْلَ يُسَمُّونَهَا بِالْمُغَزْدِرَاتِ وَبَعْضُهُمْ يُسَمُّونَهَا بِالنَّثُورِ ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْبِدْعَةِ وَمَحَبَّةِ الظُّهُورِ وَالْخُيَلَاءِ وَتَرْكِ السُّنَنِ وَالِاهْتِبَالِ بِأَمْرِهَا وَاغْتِنَامِ بَرَكَتِهَا .
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ زَادُوا عَادَةً ذَمِيمَةً ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُجَدِّدُوا كِسْوَةً لِأَهْلِ الْبَيْتِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَيْتُ حَتَّى الْحَصِيرُ لَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اعْتَادُوهُ ، فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ - إلَى صَرْفِ هَذِهِ النَّفَقَاتِ وَكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَلُّونَ لِتَرْكِ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا .
وَبَعْضُهُمْ يَتَدَايَنُ لِتِلْكَ الْعَوَائِدِ وَلِبَعْضِهَا ، وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّ الْعَقِيقَةَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ فَلَا يَشْغَلُونَ ذِمَّتَهُمْ بِالدَّيْنِ لِأَجْلِهَا وَيَشْغَلُونَ ذِمَّتَهُمْ بِالدَّيْنِ لِأَجْلِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ عَكْسُ مَا يُنْدَبُونَ إلَيْهِ ، وَيُطْلَبُ مِنْهُمْ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
ثُمَّ إنَّ التَّدَايُنَ لِأَجْلِ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ يَخْلُفُ عَلَى الْمُنْفِقِ عَلَيْهَا وَيُيَسِّرُ عَلَيْهِ وَفَاءَ دَيْنِهَا كَالْأُضْحِيَّةِ لِبَرَكَةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فَبِهَا ، وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الْأَمْثَالِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ اللَّعِينَ أَلْقَى إلَيْهِمْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْرِمَهُمْ بَرَكَةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِأَجْلِ أَنَّ فِعْلَهَا بَرَكَةٌ وَخَيْرٌ وَغَنِيمَةٌ ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يُكَلِّفُهُمْ مِنْ الْعَوَائِدِ يَسِيرَةُ النَّفَقَةِ ، وَفِيهَا الثَّوَابُ الْجَزِيلُ ، وَفِي الْعَوَائِدِ ضِدُّ ذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ الْبِدْعَةِ مِنْ الذَّمِّ إلَّا أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهَا لَا تَخْلُفُ وَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا مَعَ تَعَبِهِ لِأَجْلِهَا ، فَفِيهَا التَّعَبُ دُنْيَا وَأُخْرَى .
وَفِي فِعْلِ الْعَقِيقَةِ مِنْ الْفَوَائِدِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا : امْتِثَالُ السُّنَّةِ ، وَإِخْمَادُ

الْبِدْعَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الْبَرَكَةِ إلَّا أَنَّهَا حِرْزٌ لِلْمَوْلُودِ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ كَمَا وَرَدَ ، فَالسُّنَّةُ مَهْمَا فُعِلَتْ كَانَتْ سَبَبًا لِكُلِّ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ ، وَالْبِدْعَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَوَجَدُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مَنْثُورَيْنِ فِي بَيْتِهِ ، وَأَوْلَادُهُ ذَاهِبُونَ وَرَاجِعُونَ عَلَيْهَا ، فَقَالُوا لَهُ : يَا سَيِّدَنَا ، أَمَا هَذَا إضَاعَةُ مَالٍ ، قَالَ : بَلْ هِيَ فِي حِرْزٍ قَالُوا لَهُ : وَأَيْنَ الْحِرْزُ ، قَالَ لَهُمْ : هِيَ مُزَكَّاةٌ ، وَذَلِكَ حِرْزُهَا ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مَنْ عُقَّ عَنْهُ ، فَهُوَ فِي حِرْزٍ مِنْ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ ، وَأَقَلُّ آفَةٍ تَقَعُ بِالْمَوْلُودِ يَحْتَاجُ وَلِيُّهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ قَدْرَ الْعَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا ، فَمَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ فَلْيَبْذُلْ جَهْدَهُ عَلَى فِعْلِهَا ؛ لِأَنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ حِرْزِ الْمَالِ وَالْبَدَنِ ، أَمَّا الْبَدَنُ فَسَلَامَةُ الْمَوْلُودِ سِيَّمَا مِنْ الْآفَاتِ وَالْعَاهَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا كَوْنُهَا حِرْزًا لِلْمَالِ ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ فِي الْعَقِيقَةِ نَزْرٌ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يَتَكَلَّفُونَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَغَيْرُهَا مِنْ النَّفَقَاتِ فِيمَا يَتَوَقَّعُ عَلَى الْمَوْلُودِ مِنْ تَوَقُّعِ الْعَاهَاتِ وَالْآفَاتِ ، وَفِيهَا كَثْرَةُ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ لِأَجْلِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي فِعْلِهَا وَتَفْرِيقِهَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَإِنَّ فِيهَا الْأَجْرَ الْكَثِيرَ لِقِلَّةِ فَاعِلِهَا .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ } ، فَقَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ السُّنَنِ إذَا أُمِيتَتْ بِالْمَعِيَّةِ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْجَنَّةِ .
وَالْعَقِيقَةُ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَلَّ أَنْ تُعْرَفَ ، وَإِنْ عُرِفَتْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَبِالِاسْمِ

لَيْسَ إلَّا فِي الْغَالِبِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِيهَا أَفْعَالًا تُخْرِجُهَا عَنْ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا .
فَمِنْهَا مُخَالَفَةُ وَقْتِهَا الشَّرْعِيِّ الَّذِي تُذْبَحُ فِيهِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤَخِّرُهَا عَنْهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ تُجْزِي عِنْدَ بَعْضِهِمْ لَكِنْ فَوَّتَ نَفْسَهُ فَضِيلَةَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي الْوَقْتِ الْمَوْضُوعِ لَهَا ، مِنْهَا عَدَمُ التَّوْفِيَةِ بِشُرُوطِهَا إذْ أَنَّهُمْ يُعْطُونَ مِنْ لَحْمِهَا وَجِلْدِهَا لِلصَّانِعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : فِيمَنْ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ لِلْجُمُعَةِ وَلَا فَضْلَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ ، فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ حَتَّى يُضَحِّيَ ، فَكَذَلِكَ يَبِيعُهُ حَتَّى يَعُقَّ عَنْ وَلَدِهِ ، وَكَذَلِكَ قَالُوا : إنَّهُ يَتَدَايَنُ لِلْأُضْحِيَّةِ ، فَكَذَلِكَ يَتَدَايَنُ لِلْعَقِيقَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَإِذَا اخْتَارُوا لَهُ الِاسْمَ مِنْ حِينِ وِلَادَتِهِ إلَى سَابِعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارُوا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا كَانَ سَالِمًا مِنْ التَّزْكِيَةِ وَالْكُنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَلَهُ فِي التَّسْمِيَةِ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَقْنَعٌ وَبَرَكَةٌ وَخَيْرٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَدْ وَقَعَ لِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ بِمَدِينَةِ تُونُسَ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ ازْدَادَ لَهُ مَوْلُودٌ طَالَبُوهُ بِبَعْضِ عَوَائِدِهِمْ الْجَارِيَةِ فَأَبِي عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ : السُّنَّةُ أَوْلَى قَالَ : وَكُنْت مَرِيضًا لَا أَقْدِرُ عَلَى الْحَرَكَةِ ، فَلَمَّا أَنْ عَزَمْت عَلَى الْعَقِيقَةِ وَجَزَمْت بِهَا رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنِّي مَاشٍ عَلَى طَرِيقٍ وَمَعِي شَخْصٌ ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَمْشِي فِي الطَّرِيقِ وَإِذَا بِجِيفَةٍ قَدْ عَرَضَتْ لَنَا فِي وَسَطِهَا ، فَقَالَ لِي ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي كَانَ مَعِي : عَسَى أَنَّك تُعِينُنِي عَلَى زَوَالِ هَذِهِ الْجِيفَةِ عَنْ

الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْبُرُ مِنْ هَاهُنَا السَّاعَةَ قَالَ : فَقُلْت لَهُ : نَعَمْ فَأَزَلْنَا الْجِيفَةَ عَنْ الطَّرِيقِ وَنَظَّفْنَاهُ ، وَإِذَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْبَلَ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ ، فَقَالَ لِي : وَعَلَيْك السَّلَامُ يَا فَقِيهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَانْتَبَهْت مِنْ نَوْمِي ، فَوَجَدْت الْعَافِيَةَ فِي الْوَقْتِ ، فَأَصْبَحْت وَخَرَجْت وَاشْتَرَيْت الذَّبِيحَةَ لِلْعَقِيقَةِ بِنَفْسِي ، فَلَمَّا أَنْ عَمِلْتهَا جَمَعْت بَعْضَ الْإِخْوَانِ وَحَدَّثْتهمْ بِمَا جَرَى فَاشْتُهِرَ الْأَمْرُ ، وَكَانَتْ الْعَقِيقَةُ إذْ ذَاكَ قَدْ دُثِرَتْ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ فَاشْتُهِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبَلَدِ .
وَهَذَا هُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ حَيْثُ قَالَ { : مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِي } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَأَوَّلْتُ الْجِيفَةَ عَلَى الْعَوَائِدِ وَأُوِّلَتْ إزَالَتُهَا وَتَنْظِيفُ الطَّرِيقِ عَلَى امْتِثَالِ السُّنَّةِ .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

الْخِتَانُ ( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْخِتَانُ فَقَدْ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتِنُونَ أَوْلَادَهُمْ حِينَ يُرَاهِقُونَ الْبُلُوغَ ، لَكِنْ قَدْ وَرَدَ ؛ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَتَنَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَوْمَ السَّابِعِ أَوْ نَحْوَهُ } ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ ، فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ كَانَ مُمْتَثِلًا ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ ، وَالْقَطْعُ مِنْهُ قَبْلَ تَكْلِيفِهِ فِيهِ إيلَامٌ لَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي الْوَقْتِ ، وَأَمَّا خِتَانُهُ حِينَ الْمُرَاهَقَةِ ، فَهُوَ مُتَعَيَّنٌ ؛ لِأَنَّ كَشْفَ عَوْرَتِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُحَرَّمٌ ، لَكِنْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْأَلَمُ الشَّدِيدُ وَالْبُطْءُ فِي الْبُرْءِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ ، فَإِنَّ أَلَمَهُ خَفِيفٌ وَبُرْأَهُ قَرِيبٌ .
وَاخْتُلِفَ إنْ وُلِدَ مَخْتُونًا هَلْ يُخْتَنُ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذِهِ مُؤْنَةٌ كَفَانَا اللَّهُ إيَّاهَا فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى فِعْلِهَا وَلِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ لَا يُبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَالضَّرُورَةُ مَعْدُومَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا بُدَّ مِنْ إجْرَاءِ الْمُوسَى عَلَيْهِ لِيَقَعَ الِامْتِثَالُ .
وَالسُّنَّةُ فِي خِتَانِ الذَّكَرِ إظْهَارُهُ ، وَفِي خِتَانِ النِّسَاءِ إخْفَاؤُهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي حَقِّهِنَّ هَلْ يَخْفِضْنَ مُطْلَقًا أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَهْلِ الْمَغْرِبِ ، فَأَهْلُ الْمَشْرِقِ يُؤْمَرُونَ بِهِ لِوُجُودِ الْفَضْلَةِ عِنْدَهُنَّ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ لَا يُؤْمَرُونَ بِهِ لِعَدَمِهَا عِنْدَهُنَّ ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ فِيمَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا فَكَذَلِكَ هُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْفِلَاحَةِ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّنَائِعِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي الْغَالِبِ لَكِنَّ بَعْضَهُمَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَوَقَعَتْ الْبُدَاءَةَ بِمَا الْغَالِبُ عَلَيْهِ التَّعَبُّدُ وَهُوَ غُسْلُ الْمَيِّتِ وَالْحَفْرُ لَهُ وَدَفْنُهُ وَالنُّفَسَاءُ وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مُبَاشَرَةٍ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْمُكَلَّفُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِيهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِنِيَّةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ ؛ لِيَسْقُطَ عَنْهُمْ فَيَدْخُلَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } ثُمَّ يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ النِّيَّاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهَا فِي كُلِّ فِعْلٍ يَقَعُ لَهُ ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى الْأُجْرَةِ عَلَى مَا هُوَ يَفْعَلُهُ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ .
وَالرِّزْقُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ جِهَةٍ مَعْلُومَةٍ فَإِنْ قُسِمَ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِشْرَافٍ فَيَذْهَبُ عَنْهُ الِاسْتِشْرَافُ وَتَقَعُ لَهُ الْبَرَكَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ تَمَحَّضَ الْفِعْلُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَبْقَى لَهُ ذَخِيرَةً يَجِدُهُ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إلَيْهِ وَالرِّزْقُ الْمَقْسُومُ فِي الْأَزَلِ لَا يَفُوتُهُ ، إذْ إنَّ الرِّزْقَ يَطْلُبُك أَكْثَرَ مَا تَطْلُبُهُ أَنْتَ وَبَقِيَ التَّصَبُّرُ وَالتَّجَمُّلُ وَالْحِرْصُ وَالتَّعَبُ بَيْنَ النَّاسِ فَمَنْ أُرِيدُ بِهِ السَّعَادَةَ أُقِيمَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ التَّصَبُّرُ وَالتَّجَمُّلُ وَمَنْ أُرِيدَ بِهِ ضِدَّ ذَلِكَ أُقِيمَ فِي الْمَقَامِ الثَّانِي وَهُوَ الْحِرْصُ وَالتَّعَبُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُمَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ حِينَ أَخَذَهُ الْجَامِكِيَّة أَوْ تَعَذَّرَهَا فَكَذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخْوَانِهِ

الْمُسْلِمِينَ فَيَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْهُ وَعَنْهُمْ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْصُلُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صَلَاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي كُلِّ مَا هُوَ فِيهِ إذْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ قَدْ رَجَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَبَقِيَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ مُتَقَلِّبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَهَذَا أَفْضَلُهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَأَدَاءِ الْمَفْرُوضَاتِ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَفْعُ مُتَعَدٍّ وَذَلِكَ أَرْجَحُ فِي الْوَزْنِ وَأَعْظَمُ عِنْدَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ فَآكَدُ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ الزِّرَاعَةُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْحَيَاةِ وَقُوتُ النُّفُوسِ فَلِذَلِكَ بُدِئَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا بَعْدَهُ ، وَيَعْقُبُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَلَامُ عَلَى مَا يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى صَنْعَةِ الْحِيَاكَةِ وَهِيَ الْقَزَازَةُ ، ثُمَّ الْآكَدُ فَالْآكَدُ وَالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى بِحَسَبِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالزِّرَاعَةُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ وَأَكْثَرِهَا أَجْرًا إذْ إنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ لِلزَّارِعِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَالطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ كُلُّ ذَلِكَ يَنْتَفِعُ بِزِرَاعَتِهِ حَتَّى إنَّهُ لَيُقَالُ : إنَّهُ الزَّارِعُ لَوْ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ نَأْكُلُ مِنْهُ حِينَ زِرَاعَتِهِ لَمْ يَزْرَعْ شَيْئًا لِكَثْرَةِ مَنْ يَقُولُ : نَأْكُلُ مِنْهُ فَمَا فِي الصَّنَائِعِ كُلِّهَا أَبْرَكُ مِنْهَا وَلَا أَنْجَحُ إذَا كَانَتْ عَلَى وَجْهِهَا الشَّرْعِيِّ وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ الْكُنُوزِ الْمُخَبَّأَةِ فِي الْأَرْضِ .
لَكِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةٍ بِالْفِقْهِ وَحُسْنِ مُحَاوِلَةٍ فِي الصِّنَاعَةِ مَعَ النُّصْحِ التَّامِّ وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا ؛ فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ الْبَرَكَاتُ وَتَأْتِي الْخَيْرَاتُ .
قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إلَّا كَانَ لَهُ حَسَنَاتٌ

إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ أَيْضًا { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَغْفِرُ لِلزَّارِعِ أَوْ لِلْغَارِسِ مَا دَامَ زَرْعُهُ أَخْضَرَ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فِي حِرْفَتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعَلُّمُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ فَلْيَسْأَلْ الْعُلَمَاءَ عَنْ فِقْهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي زِرَاعَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْحِرَفِ إذْ إنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى فِقْهٍ كَثِيرٍ .
وَاَلَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْأَمْرُ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا حَصَلَ لَا يُقْدِمُ الْمَرْءُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُحَاوِلُهُ حَتَّى يَعْرِفَ لِسَانَ الْعِلْمِ فِيهِ وَبِالسُّؤَالِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ .
وَقَدْ جَرَى بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ بَعْضَ الشُّبَّانِ أَصَابَهُ جُذَامٌ وَكَانَ مِمَّنْ يَسْكُنُ خَارِجَهَا فَجَاءَ بِهِ أَهْلُهُ إلَى طَبِيبٍ بِهَا وَكَانَ عَارِفًا حَاذِقًا مَشْهُورًا بِذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ رَآهُ قَالَ لَهُمْ مَا يَطْلُبُ هَذَا إلَّا حَوَارِيٌّ مِنْ حَوَارِيِّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَيْأَسَهُمْ مِنْ بُرْئِهِ فَرَجَعُوا فَبَيْنَمَا هُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إذْ مَرُّوا بِرَجُلٍ مِنْ مَعَارِفِهِمْ وَهُوَ يَزْرَعُ فِي أَرْضٍ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ السَّلَامَ وَقَالَ لَهُمْ : مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتُمْ ؟ قَالُوا : مِنْ مَدِينَةِ فَاسَ ، قَالَ : وَمَا فَعَلْتُمْ فِيهَا ؟ قَالُوا : ذَهَبْنَا إلَيْهَا بِسَبَبِ وَلَدِ فُلَانٍ وَأَخْبَرُوهُ بِالْخَبَرِ فَقَالَ لَهُمْ : وَمَا قَالَ لَكُمْ الطَّبِيبُ ؟ قَالُوا لَهُ : قَالَ : لَا يُبْرِئُ هَذَا إلَّا حَوَارِيٌّ مِنْ حَوَارِيِّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : وَأَيْنَ حَوَارِيُّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ الشَّابِّ أَيْنَ هُوَ ؟ فَقَالُوا لَهُ : هَا هُوَ ذَا حَاضِرٌ فَأَمَرَ بِهِ فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَشَّى يَدَهُ عَلَيْهِ وَنَفَثَ وَإِذَا بِالشَّابِّ قَدْ ذَهَبَ عَنْهُ جَمِيعُ مَا كَانَ بِهِ وَقَامَ صَحِيحًا سَوِيًّا ،

ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : ارْجِعُوا بِهِ إلَى الطَّبِيبِ ، وَقُولُوا لَهُ : هَذَا فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ حَوَارِيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ الزَّارِعُ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ بِصَلَاحٍ مَسْتُورَ الْحَالِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْكِسْرَةَ إنْ كَانَتْ طَيِّبَةً جَرَى هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْكَرَامَاتِ وَخَرْقِ الْعَادَاتِ بِبَرَكَتِهَا .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : اعْلَمُوا أَنَّ الْهِمَمَ قَدْ تَقَاصَرَتْ عَنْ الْعِبَادَاتِ وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْكُمْ بِالزِّرَاعَةِ فَإِنَّهَا تُحَصِّلُ الْأُجُورَ الْكَثِيرَةَ أَرَادَهَا الْمُكَلَّفُ أَوْ لَمْ يُرِدْهَا .
وَمَا قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ ، حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُرَاعِي هَذِهِ النِّيَّةَ الصَّالِحَةَ تَقَعُ لَهُ الْبَرَكَاتُ حَتَّى يُقَالَ عَنْهُ : إنَّهُ وَجَدَ كَنْزًا وَلَقَدْ صَدَقَ الْقَائِلُ إلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَا أَرَادَهُ ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْكَنْزِ وَمَنْفَعَتَهُ إنَّمَا هِيَ وُجُودُ الْيُسْرِ وَالِاسْتِغْنَاءِ وَهُوَ وَاقِعٌ لِمَنْ حَاوَلَ الزِّرَاعَةَ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ مُحَاوَلَتِهَا شَرْعًا .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ انْقَسَمُوا فِي تَسَبُّبِهِمْ عَلَى قِسْمَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي الْحَوَائِطِ وَهِيَ الْبَسَاتِينُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَتَسَبَّبُ فِي الْأَسْوَاقِ وَكِلَاهُمَا حَسَنٌ وَلَكِنَّ الزِّرَاعَةَ لِمَنْ يُحْسِنُهَا أَوْلَى وَأَفْضَلُ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ وَالنَّفْعَ الْكَثِيرَ الْمُتَعَدِّيَّ .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِ الشُّيُوخِ الَّذِي كَانَ يَزْرَعُ فِي أَرْضِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَمَا جَرَى لَهُ مِنْ كَوْنِهِ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لِأَجْلِ زِرَاعَةِ أَرْضِهِ إذْ ذَاكَ لِأَجْلِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ فِي زِرَاعَتِهَا .
وَإِذَا كَانَتْ الزِّرَاعَةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَنْبَغِي بَلْ تَتَعَيَّنُ الْمَعْرِفَةُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي مُحَاوَلَتِهَا لِتَأَكُّدِهَا سِيَّمَا الْقُوتَ الَّذِي هُوَ صَلَاحُ

الْقَلْبِ وَالْقَالَبِ وَبِهِ يَصْفُو الْبَاطِنُ وَيَكْثُرُ الْخُشُوعُ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ الْمَاضُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَحَفَّظُونَ عَلَى الْقُوتِ الَّذِي يَدْخُلُ أَجْوَافَهُمْ التَّحَفُّظَ الْكُلِّيَّ وَفِيهِ كَانَ تَوَرُّعُهُمْ وَالْوَسَاوِسُ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِيهِ يَدْفَعُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِتَرْكِهِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا قَالَتْ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ الْمُؤْمِنُ الَّذِي إذَا أَصْبَحَ سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصُهُ وَإِذَا أَمْسَى سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصُهُ ؟ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلِّفُوا عِلْمَ ذَلِكَ لَتَكَلَّفُوهُ قَالَ : عَلِمُوا ذَلِكَ وَلَكِنْ غَشَمُوا الْمَعِيشَةَ غَشْمًا } .

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ } أَيْ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نَوَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَأَجْرَى يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ } وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ } وَفِي الصَّحِيحِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَحَلُّ مَا أَكَلَ الرِّجَالُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ } وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ : لَا تَسْأَلْ أَحَدًا شَيْئًا } وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ بَاتَ كَالًّا مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ بَاتَ مَغْفُورًا لَهُ وَأَصْبَحَ وَاَللَّهُ رَاضٍ عَنْهُ } ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا جَرَى مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَرْبَةِ اللَّبَنِ الَّتِي شَرِبَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ جِهَتِهَا فَذُكِّرَ بِذَلِكَ فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِشَيْءٍ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِجِهَتِهِ فَتَقَايَأَهَا وَقَاسَى مِنْ ذَلِكَ مُعَالَجَةً شَدِيدَةً فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَوْ لَمْ تَخْرُجْ إلَّا بِرُوحِي لَأَخْرَجْتهَا ؛ لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ جِرَابٌ فِيهِ قُوتُهُ وَعَلَيْهِ قُفْلٌ مِنْ حَدِيدٍ وَالْمِفْتَاحُ عِنْدَهُ لَا يُمَكِّنُ مِنْهُ غَيْرَهُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بِذَلِكَ مَا يَدْخُلُ فِي جَوْفِهِ فَهَذَا كَانَ حَالَهُمْ فِي تَحَفُّظِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَمْرِ الْمَطْعُومِ .
وَأَمَّا الطَّهَارَةُ فَعَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ هَلْ تَرِدُ

حَوْضَك السِّبَاعُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْهُ فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ وَتَرِدُ عَلَيْنَا .
وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَأَجِدُهُ يَتَحَدَّرُ مِنِّي مِثْلَ الْخُرَيْزَةِ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ فَلَا أَقْطَعُ صَلَاتِي " يَعْنِي الْمَذْيَ " .
هَذَا وَقَدْ كَانَ إمَامًا يَقْتَدِي النَّاسُ بِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَمَا بَالُك بِغَيْرِ هَذَا الْإِمَامِ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشُونَ حُفَاةً ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَغْسِلُونَ أَقْدَامَهُمْ إلَّا إذَا أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ رَطْبَةٌ .
وَكَانَتْ الْكِلَابُ تَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَتَخْرُجُ مِنْ الْآخَرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ السَّنِيَّةِ الَّتِي لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ عَكْسَ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْوَقْتِ إذْ إنَّهُمْ يَتَوَرَّعُونَ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَيُضَيِّعُونَ كَثِيرًا مِنْ أَوْقَاتِهِمْ بِسَبَبِهَا ، وَيَتَسَاهَلُونَ فِي أَمْرِ الْقُوتِ وَيَرْكَنُونَ فِيهِ إلَى قَوْلِ قَائِلٍ أَوْ زَلَّةِ عَالِمٍ قَالَ بِالْحِلِّ أَوْ الْكَرَاهَةِ وَيَجْعَلُونَهُ حُجَّةً فِي أَخْذِ الْحُطَامِ عُكِسَ الْحَالُ ؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَوْ دَخَلَهُمْ الْوِسْوَاسُ فِي أَمْرِ الْقُوتِ دُونَ الطَّهَارَةِ لَكَانَ أَنْجَحَ وَأَوْلَى بَلْ أَوْجَبَ ؛ لِأَنَّهُ مَاشٍ عَلَى قَانُونِ الِاتِّبَاعِ أَوْ كَمَا كَانَ يَقُولُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لِلزَّارِعِ أَنْ يَتْرُكَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ مِنْ الزَّكَاةِ لِقَوْلِ أَحَدٍ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ امْتَحَقَتْ الْبَرَكَاتُ وَذَهَبَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّجْرِبَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الْخَرَاجَ وَيُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهُ وَعَمَّا فَضَلَ فَبِذَلِكَ تَكْثُرُ الْبَرَكَةُ وَيَقَعُ الْخُلْفُ وَتَحْصُلُ الْإِعَانَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَى السُّنَّةِ .

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ .
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ - أَنَّهُ تَجُوزُ إجَارَتُهَا بِكُلِّ شَيْءٍ يَجُوزُ مِلْكُهُ وَبَيْعُهُ كَانَ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ أَوْ مِمَّا لَا تُنْبِتُهُ .
الْقَوْلُ الثَّانِي - أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِشَيْءٍ مِمَّا تُنْبِتُهُ كَانَ طَعَامًا أَوْ غَيْرَهُ .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ - أَنَّهُ يَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِمَا تُنْبِتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامًا مِثْلَ الْخَشَبِ وَالصَّنْدَلِ .
الْقَوْلُ الرَّابِعُ - أَنَّهُ إنْ زَرَعَ فِيهَا الْحِنْطَةَ جَازَ أَنْ يَأْخُذَ فِي إجَارَتِهَا الْعَدَسَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْقَطَّانِيِّ .
وَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ جُهْدَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْبَرَكَةِ وَنَجَاحِ السَّعْيِ سِيَّمَا فِي الْقُوتِ ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَفَى بِهَا مِنَّةٌ وَيَسْقُطُ كِرَاءُ الْأَرْضِ عَنْهُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا - عَدَمُ رَيِّهَا .
وَالثَّانِي - اسْتِئْجَارُهَا حِينَ يَفْرُغُ أَوَانُ الزِّرَاعَةِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ وَأَعَمِّهَا نَفْعًا فَيَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ إلَيْهَا قَبْلَ غَيْرِهَا لِيَحُوزَ الْمَرْءُ فَضِيلَتَهَا وَيَغْتَنِمَ بَرَكَتَهَا ؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالِامْتِثَالِ وَالِامْتِثَالُ إنَّمَا يَقَعُ بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ بِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ كُلُّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ فِي الدِّينِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ .
وَأَمَّا مَعَ تَوَقُّعِ ضِدِّ ذَلِكَ فَتَرْكُهُ إذَنْ مُتَعَيَّنٌ وَلَهُ فِي غَيْرِ الزِّرَاعَةِ مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ سَعَةٌ ؛ لِأَنَّ آفَةَ الزِّرَاعَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَدْ عَظُمَتْ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ ، حَتَّى إنَّ الزَّرَّاع كَأَنَّهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَسِيرٌ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ وَكَأَنَّهُ لَا بَالَ لَهُ عِنْدَهُمْ وَلَا رُوحَ ، وَهَذَا التَّنْبِيهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الذُّلِّ كَافٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِيَتَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا فِيهَا

مِنْ الْخَطَرِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُتَسَبِّبًا بِصِنَاعَةِ الْفِلَاحَةِ وَالْغِرَاسَةِ فِي بِلَادِهِ ، فَلَمَّا أَنْ وَرَدَ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَرَادَ أَنْ يَتَسَبَّبَ بِذَلِكَ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ فَلَمَّا أَنْ رَأَى أَكْثَرَ حَالِ الْمُزَارِعِينَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ الشَّظَفِ قَالَ : لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ هَاهُنَا ثُمَّ وَقَعَ لَهُ أَنَّ التَّسَبُّبَ فِي حَقِّهِ مُتَأَكَّدٌ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَسَبَّبَ بِغَيْرِ الْفِلَاحَةِ ثُمَّ قَالَ : إذَا اضْطَرَرْت إلَى التَّسَبُّبِ تَسَبَّبْت لَهُمْ فِي غَيْرِهَا فَانْقَطَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَرَكَ الْأَسْبَابَ وَاشْتَغَلَ بِالْعِبَادَةِ وَإِلْقَاءِ الْعِلْمِ فَفَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُ مَا هُوَ أَهْلُهُ فَأَغْنَاهُ الْغِنَى الْكُلِّيَّ عَنْ النَّاسِ وَعَنْ الْأَسْبَابِ بِسَبَبِ عِزِّ الطَّاعَةِ وَالنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَأْخُذُ صَدَقَةً وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ حَالِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَرْكُ الصِّنَاعَةِ إذَا كَانَتْ تَئُولُ إلَى بَعْضِ مَا يَجْرِي عَلَى الْفَلَّاحِ وَغَيْرِهِ يَتَعَيَّنُ تَرْكُهَا فَكَيْفَ بِالْفَلَّاحِ الْمِسْكِينَةِ نَفْسُهُ ؟ ، وَتَحْصِيلُ الْفَضَائِلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فِي الْفِلَاحَةِ إنَّمَا هِيَ مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَّاحِينَ .
وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ لِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَفْتِيه فِي التَّسَبُّبِ مَعَ شَخْصٍ لَا يُرْضَى حَالُهُ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ : لِي بَنَاتٌ وَعَائِلَةٌ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ يَقْتَاتُونَ بِهِ ؛ فَقَالَ لَهُ : لَا يَلْزَمُك أَنْ تَتَسَبَّبَ لَهُمْ إلَّا فِي الشَّيْءِ الْحَلَالِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُك فِيهِمْ شَيْءٌ هُمْ عَائِلَةُ اللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَهُمْ أَطْعَمَهُمْ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مَنَعَهُمْ وَلَا عُذْرَ لَك فِي الدُّخُولِ فِي الْحَرَامِ

بِسَبَبِهِمْ أَوْ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَفَعَنَا بِهِ .
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الطِّينَ لِجُنْدِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ وَزَرَعَهُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ بِسَبَبِ كَثِيرٍ مِنْ الْفَلَّاحِينَ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ إذَا عَلِمُوا مِنْهُ عَدَمَ الْجُرْأَةِ وَالظُّلْمَ نَهَبُوهُ نَهْبًا حَتَّى إنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ لَهُ مِمَّا زَرَعَهُ إلَّا بَعْضُ خَرَاجِ الْأَرْضِ فَأَلْجَأَهُ ذَلِكَ إلَى عَدَمِ الزَّرْعِ بِسَبَبِ سُوءِ تَصَرُّفِهِمْ .
حَتَّى كَأَنَّ مَالَهُ عِنْدَهُمْ حَلَالٌ يَصْرِفُونَ فِيهِ ، وَبَعْضُهُمْ يُبَالِغُ فِي الْأَذِيَّةِ حَتَّى إنَّهُمْ لَيَقْتُلُونَ الْبَهَائِمَ الَّتِي لَهُ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ لِأَخْذِهِمْ مَا أَرُصِدَ لَهَا مِنْ الْعَلَفِ فَوَقَعَ الْفَسَادُ .
مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

( فَصْلٌ ) وَأَمَّا الْغِرَاسَةُ فَهِيَ أَخَفُّ مِنْ الْفِلَاحَةِ غَالِبًا أَعْنِي فِي سَلَامَةِ مَنْ يَتَعَاطَاهَا مِنْ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى الْفَلَّاحِينَ وَهِيَ أَنْجَحُ فِي حَقِّ مَنْ يُحْسِنُهَا .
لَكِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى عِلْمٍ بِهَا وَعِلْمٍ فِيهَا .
فَأَمَّا الْعِلْمُ بِهَا فَهُوَ الْعِلْمُ بِصِنَاعَةِ الْغِرَاسَةِ وَمَا يُصْلِحُهَا وَمَا يُفْسِدُهَا .
وَأَمَّا الْعِلْمُ فِيهَا فَهُوَ تَعَلُّمُ لِسَانِ الْعِلْمِ وَمَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا يُبَاحُ سِيَّمَا فِي الْمُسَاقَاةِ إذْ إنَّ لَهَا أَرْكَانًا وَشُرُوطًا لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا وَقَدْ كَثُرَتْ الْمُفَاسَدَةُ فِيهَا لِأَجْلِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا .
وَيَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِنْيَاتِ الطَّرِيقِ بَلْ يَمْشِي عَلَى جَادَّةِ الْأَمْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَيَتْرُكُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الرُّكُونِ إلَى الْخِلَافِ الضَّعِيفِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْقَنَاطِرِ الَّتِي اصْطَلَحَ عَلَيْهَا بَعْضُ النَّاسِ حَتَّى آلَ أَمْرُهُمْ فِيهَا إلَى أَنْ يَبِيعُوا الثَّمَرَةَ إلَى سِنِينَ وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّهَا مُسَاقَاةٌ ، وَالْمُسَاقَاةُ فِي الشَّرْعِ لَهَا شُرُوطٌ وَأَرْكَانٌ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا مَوْجُودٌ إلَّا بِاللَّفْظِ الظَّاهِرِ لَيْسَ إلَّا ، وَلَا حَقِيقَةَ لِذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ إذْ إنَّهُمْ إنَّمَا دَخَلُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُسَاقِي الثَّمَرَةَ كُلَّهَا فِي تِلْكَ السِّنِينَ .
وَصِفَةُ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مُسَاقَاةٌ جَائِزَةٌ أَنْ يُسَاقِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى مِائَةِ جُزْءٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْهَا لِلْمُسَاقِي وَجُزْءٌ وَاحِدٌ لِلْمُسَاقَاةِ ثُمَّ يَهَبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ جُزْءًا .
فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَى أَنَّ الْكُلَّ لِلْمُسَاقِي وَهَذَا بَيْعٌ لِلثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَكِنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ أَشَدُّ فِي التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي يَهَبُهُ لِلْمُسَاقِي عَلَى غَيْرِ عِوَضٍ لَا يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ وَهَذِهِ الْقَنَاطِرُ وَمَا أَشْبَهَهَا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ

تَبِعَهُ لَا عِبْرَةَ بِهَا إذْ إنَّ قَاعِدَةَ مَذْهَبِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى بَاطِنِ الْأَمْرِ وَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ لَا إلَى اللَّفْظِ الظَّاهِرِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُ الِاحْتِرَافِ بِهَا كَمَا تَعَيَّنَ تَرْكُ الزَّارِعَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى سَبَبٍ آخَرَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَهَكَذَا كُلَّمَا وَجَدَ عِلَّةً فِي سَبَبِ تَرْكِهِ وَعَدَلَ إلَى غَيْرِهِ إلَى أَنْ يَجِدَ سَبَبًا عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ فَيَحْتَرِفُ بِهِ فَتَقَعُ لَهُ الْبَرَكَةُ وَالْخَيْرُ بِخِلَافِ مَنْ تَسَبَّبَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تُمْحَقُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مَعَ الْإِثْمِ الْحَاصِلِ لَهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .

فَصْلٌ فِي صِنَاعَةِ الْقَزَازَةِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا كَالْكَلَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسَةِ أَعْنِي فِي كَيْفِيَّةِ النِّيَّةِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَالْفَرْضُ أَعْلَى فِي الْفَضْلِ مِنْ السُّنَنِ فَيُنْظَرُ أَوَّلًا فِي النِّيَّاتِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْعَالِمُ إلَى الْمَسْجِدِ وَإِلَى إلْقَاءِ الدُّرُوسِ وَإِلَى السُّوقِ فَيَنْوِي مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ مِنْهَا فِيمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ أَمْرِ صِنَاعَةِ الْقَزَازَةِ وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ فِي أَمْرِ صِنَاعَتِهَا عَلَى نِيَّةِ إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْهُ وَعَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِرَفْعِ الْكُلْفَةِ عَنْهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا يُحَاوِلُهُ وَتَيْسِيرِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَالنُّصْحِ لَهُمْ فِيهِ وَأَمْرُ الرِّزْقِ تَابِعٌ لِذَلِكَ لَا مَتْبُوعٌ إذْ إنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ فَلَيْسَ لِلْمَرْءِ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يَزِيدَ فِيهِ شَيْئًا بِصِنَاعَتِهِ وَلَا بِحِيلَتِهِ وَلَا عَلَى أَنْ يُنْقِصَ مِنْهُ شَيْئًا بِكَسَلِهِ وَتَرْكِهِ لِمُعَانَاتِهِ بَلْ يَكُونُ عَمَلُهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَبْغِي بِهِ بَدَلًا وَلَا عِوَضًا .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النَّصِيحَةُ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ مِنْ صِنَاعَتِهِ فَيَنْصَحُ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ أَوْ أَكْثَرُ وَقَدْ قِيلَ : كَمَا تَدِينُ تُدَانُ ، فَإِذَا كَانَ الْغَزْلُ فِيهِ عَفَنٌ أَوْ أَصَابَتْهُ مِنْ قِلَّةِ التَّبْيِيضِ عِلَّةٌ تُضْعِفُ شَيْئًا مِنْ قُوَّتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَيْعِ الْبَيَانَ الشَّرْعِيَّ .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَسْأَلُ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي صَنْعَتِهِ مِنْ النَّصِيحَةِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْبَيَانِ لَهُمْ .
وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَأْخُذُ غَزْلَ الْحَرِيرِ فَيَغْلِيه نِصْفَ غَلْيٍ ثُمَّ يُخْرِجُهُ وَهُوَ بَعْدُ عَلَى حَالِهِ مِنْ عَدَمِ كَمَالِ التَّبْيِيضِ ثُمَّ يَصْبُغُهُ ثُمَّ يَفْتَرِقُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَبِيعُهُ غَزْلًا لِمَنْ يُطَرِّزُ بِهِ .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْسِجُهُ وَيَبِيعُهُ خِرْقَةً .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ مِنْهُ حَاشِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْزِجُهُ مَعَ الْغَزْلِ كَثَوْبِ الطُّرَحِ ، كُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
أَمَّا تَرْكُهُمْ كَمَالَ بَيَاضِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ لِلنَّاسِ لِأَنَّهُ لَا يَقْوَى لِلِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِ الَّذِي يُكَمِّلُ بَيَاضَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَقْوَى .
وَأَمَّا بَيْعُهُ غَزْلًا فَهُوَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ أَيْضًا وَالْخَدِيعَةِ إذْ إنَّهُ لَا يَمْكُثُ إلَّا قَلِيلًا وَيَتَغَيَّرُ إنْ لَمْ يُغْسَلْ فَإِذَا غُسِلَ ذَهَبَ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْغَسْلِ يَتَصَوَّفُ وَيَرْجِعُ إلَى أَصْلِهِ شَعْرًا .
وَأَمَّا نَسْجُهُ خِرْقَةً وَبَيْعُهَا فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْغِشِّ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُهَا إنَّمَا يَأْخُذُهَا عَلَى سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَيَّنَ لَهُ الْبَائِعُ مَا يَتَأَتَّى فِي الْخِرْقَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ بِسَبَبِ مَا جَرَى فِي غَزْلِهَا لَامْتَنَعَ مِنْ شِرَائِهَا .
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْبَائِعَ بَيَّنَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي وَرَضِيَ بِهِ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَقَدْ نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَمَنْ ارْتَكَبَ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ آثِمٌ .
وَالثَّانِي - أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَشْتَرِي الْخِرْقَةَ ؛ لَأَنْ يَبِيعَهَا فَتَتَعَدَّى الْمَفْسَدَةُ إلَى غَيْرِهِ وَغَيْرِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ هَذَا لَا يُبَيِّنُ الْآخَرَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ إضَاعَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا وَهَذَا مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْكِيمْيَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ .
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ بَيَّنَ فَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ صَارَتْ إلَيْهِ لَا يُبَيِّنُ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي التَّحْرِيمِ .
وَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَرْجِعُ مِلْكًا إلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَصْلًا مِثْلُ الصَّبِيِّ فِي الْمَهْدِ يَرِثُ ذَلِكَ وَمَا أَشْبَهَهُ

مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَمُرُّ بِبَالِهِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ كَالْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يَحْسِمُ الْكِتَابَةَ وَلَا تُفْهَمُ مِنْهُ الْإِشَارَةُ فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ لِمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ فَيَجِبُ قَطْعُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ حَتَّى يَسْلَمَ الْمَرْءُ مِنْ آفَتِهَا .
وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنَّ الْبَرَكَةَ مِنْ ثَمَنِ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ وَتَمْتَحِقُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ يَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَمِنْ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ صُنْعِ الْغَزْلِ بِالْحُرْبُثِ وَهُوَ يُحْرِقُ الْغَزْلَ وَيُذْهِبُ بِقُوَّتِهِ وَيَتْرُكُ الصُّنْعَ بِالنِّيلَةِ وَهِيَ نَافِعَةٌ لِلْغَزْلِ غَيْرُ مُضِرَّةٍ لَهُ ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْفَسَادُ بِتَرْكِ مُلَاحَظَةِ اجْتِنَابِ مَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ } وَلَا شَكَّ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ لَوْلَا مَحَبَّتُهُ لِلدُّنْيَا مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ الْعَظِيمَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحُرْبُثَ عِنْدَهُمْ أَرْخَصُ مِنْ النِّيلَةِ فَيَسْتَعْمِلُونَهُ لَعَلَّ أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَ ثَمَنِ الصِّبْغَيْنِ وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِعَكْسٍ ، فَلَوْ اسْتَعْمَلُوا النِّيلَةَ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَكَانَ أَبَرْكَ وَأَنْجَحَ وَمَعَ ذَلِكَ يَسْلَمُونَ مِنْ غِشِّ النَّاسِ وَعَدَمِ نُصْحِهِمْ وَعَدَمِ الْإِثْمِ فِي الْمُخَالَفَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ شَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُنْقِصُ قُوَّةَ الْغَزْلِ أَوْ فِيهِ تَدْلِيسٌ مَا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
وَكَذَلِكَ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْخِرْقَةِ شَمْعًا وَلَا يُدَلِّكُهَا بِشَيْءٍ حَتَّى تَحْسُنَ وَتَبْرُقَ أَوْ يَظْهَرَ أَنَّهَا صَفِيقَةٌ وَهِيَ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ

مِنَّا } فَلْيُعْمِلْ جَهْدَهُ عَلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَيُعَوِّضْ عَنْهُ النَّصِيحَةَ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْخِرْقَةِ أَرْشٌ أَوْ خَلَلٌ مَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ عَلَى ظَاهِرِ الْخِرْقَةِ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُبَيِّنُ لَهُ الْبَيَانَ التَّامَّ ، إذْ إنَّ أَصْلَ الْعِبَادَةِ وَعُمْدَتَهَا إنَّمَا هُوَ بِأَكْلِ الْحَلَالِ وَالْحَلَالُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ النَّصِيحَةِ لِنَفْسِهِ وَلِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ أَوْ أَبَى ، وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ أَوْ أَبَى .
، وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ عَمَلِهِ لِلصِّنَاعَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِتَحْصُلَ الْبَرَكَةُ لَهُ وَلِمَنْ يَسْتَعْمِلُ تِلْكَ الْخِرْقَةَ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِشُغْلِ بَالِهِ بِتَدْبِيرِ صَنْعَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ الذِّكْرِ بِقَلْبِهِ وَهَكَذَا يَفْعَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُحَاوِلُهُ مِنْ شُغْلِهِ بِأَمْرِ الصِّنَاعَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَفَاعِلُهَا يَتَصَرَّفُ فِي فَرْضٍ وَاجِبٍ وَفِعْلُهُ فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ ، فَكَيْفَ بِهِ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ حُسْنُ النِّيَّةِ وَتَعَدُّدُهَا وَاحْتِسَابُهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ لَا يَحْصُرُهُ إلَّا مَنْ مُنَّ بِهِ فَإِذَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ شُغْلِهِ فِي الصِّنَاعَةِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمَرْءِ الْمُتَعَدِّيَةِ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي النَّفْعِ الْمُتَعَدِّي مِنْ الْخَيْرِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُبَالِي صَاحِبُ هَذَا الْحَالِ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَفْجَؤُهُ الْمَوْتُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَاءَهُ إنَّمَا يَجِدُهُ فِي الطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ الْمُتَعَدِّي إذْ إنَّ أَحْوَالَهُ كُلَّهَا قَدْ صَارَتْ جَمِيعُهَا عِبَادَةً يَتَقَرَّبُ

بِهَا إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ فِي صِنَاعَتِهِ كُلَّ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُفْسِدٌ لِنِيَّتِهِ أَوْ مُنْقِصٌ لَهَا وَكُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مُقْتَضَى عِلْمِ الصَّنْعَةِ ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَرَى أَهْلُ الصَّنْعَةِ أَنَّهُ غِشٌّ أَوْ مَكْرُوهٌ فِيهَا فَيَجْتَنِبُهُ وَلَا يَقْرَبُهُ .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ عَلَى يَدِهِ نَجَاسَةٌ أَنْ يَمَسَّ الْخِرْقَةَ أَوْ الْغَزْلَ إذْ ذَاكَ حَتَّى يَغْسِلَ النَّجَاسَةَ .
وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهَا بِقَدَمِهِ وَفِيهَا النَّجَاسَةُ .
وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ النَّجِسَةِ أَوْ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ أَوْ يَنْشُرَ الْغَزْلَ عَلَى حَائِطٍ أَوْ جَرِيدٍ أَوْ حَبْلٍ نَجِسٍ .
وَكَمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ مَنْ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ مِنْ الصَّانِعِ وَالصَّبِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهَذِهِ الصَّنْعَةُ بَعْدَ الزِّرَاعَةِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّنَائِعِ وَأَعْظَمِهَا ؛ لِأَنَّ بِهَا تَقَعُ السُّتْرَةُ غَالِبًا وَالسُّتْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي الشَّرْعِ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ .
وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُرَاعِي حَقَّ أَهْلِهَا وَمَا زَالَ الْفُضَلَاءُ وَأَهْلُ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ يَحْتَرِفُونَ بِهَا .
وَهَذَا بِضِدِّ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ وَيُجَاسِرُ بِالنُّطْقِ بِضِدِّ مَا يُخَالِفُهُ نَصُّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى فِي كِتَابِهِ عَنْ كُفَّارِ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ { أَنُؤْمِنُ لَك وَاتَّبَعَك الْأَرْذَلُونَ } قَالَ بَعْضُهُمْ : هُمْ الْقَزَّازُونَ فَهُمْ الْأَرْذَلُونَ عِنْدَ الْكُفَّارِ وَهُمْ الْخَوَاصُّ عِنْدَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهَذَا مَدْحٌ لَهُمْ وَثَنَاءٌ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ خَصَّهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَصْحَابِهِ { لَوْ أَنْفَقَ

أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } يَعْنِي أَنَّ مَنْ سَبَقَ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ فَازَ بِالسَّبْقِ فَلَا يَقْدِرُ مَنْ بَعْدَهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ أَنْ يَصِلَ إلَى فَضِيلَتِهِ ، وَلَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةَ مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وَانْظُرْ إلَى قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ } وَ قَوْله تَعَالَى { فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ } فَلَا يَخْطِرُ بِقَلْبِ مُسْلِمٍ أَنَّ مَنْ نَجَا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ هُمْ الْأَرْذَلُونَ ، وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ السُّفَهَاءِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصَّنْعَةِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي زَمَانِ الْحَرِّ تَعَرَّوْا مِنْ السُّتْرَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَتَبْقَى عَوْرَاتُهُمْ بَادِيَةً وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِهِ ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُمْ .
وَقَدْ سَلِمَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مِنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ لَكِنْ قَدْ بَقِيَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْهَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَلْبَسُونَ سَرَاوِيلَ بِحَيْثُ إنَّهُ يَكُونُ فِي الصِّغَرِ يَصِفُ الْعَوْرَةَ وَيَبْقَى بَعْضُ الْفَخِذِ مَكْشُوفًا وَلَيْسَ الثَّوْبُ الَّذِي يَصِفُ الْعَوْرَةَ مَمْنُوعًا وَإِظْهَارُ بَعْضِ الْفَخِذِ مَكْرُوهٌ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ : حَرَامٌ ، وَمَنْ تَعَرَّى مِنْ السُّتْرَةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْبَهَائِمِ إذْ إنَّ وَجْهَ الْبَهِيمَةِ وَفَرْجَهَا مَكْشُوفَانِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ الْبَهِيمَةِ إذْ إنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ وَهَذَا الْمِسْكِينُ مُخَاطَبٌ فَهُوَ عَاصٍ فِي فِعْلِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ صِيَانَةُ نَفْسِهِ وَصِيَانَةُ أَصْحَابِهِ وَمَعَارِفِهِ مِنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ فَإِنَّهَا شَنِيعَةٌ قَبِيحَةٌ .
وَقَدْ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ

بَعْضُ الْمُبَارَكِينَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ يَعْمَلُ عَلَى نَوْلِهِ حَصِيرًا يَسْتُرُهُ مِنْ رُؤْيَةِ النَّاسِ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ رُؤْيَةِ مَا يَكْرَهُ أَوْ يُمْنَعُ .
وَهَذَا هُوَ لِلَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مِنْ قَوْمٍ رَاجِعِينَ إلَيْهِ مُمْتَثِلِينَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْغَزْلَ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَيَخْلِطُونَ الْجَمِيعَ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مِثْلَ الْآخَرِ أَوْ أَرْفَعَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ فَيَنْسِجُونَ الْجَمِيعَ وَيُعْطُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ غَزْلِهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْغَزْلَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الصِّنَاعَةِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ .
وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ لَا يَلْبَسُ إلَّا الْحَلَالَ الْبَيِّنَ .
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ بِالْعَكْسِ وَمَا بَيْنُهُمَا .
وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْغَزْلَ الرَّفِيعَ لِنَفْسِهِ وَيُبَدِّلُهُ بِأَغْلَظَ مِنْهُ ، أَوْ بِغَزْلٍ عَفِنٍ ضَعِيفِ الْقُوَّةِ مِثْلِهِ فِي الرُّفْعِ وَذَلِكَ حَرَامٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا لَا يَأْخُذُهَا حَصْرٌ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْغِشِّ الْبَيِّنِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِ الصِّنَاعَةِ فِي شَيْءٍ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ قِسْمَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ صَانِعًا يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ .
وَهُوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ بِالْغَزْلِ يَنْسِجُهُ لَهُمْ وَهَذَا يُسَمُّونَهُ بِالْقِبَالَةِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَ الْغَزْلَ وَيَنْسِجَهُ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعَهُ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ - يَحْتَاجُ الصَّانِعُ فِيهِ إلَى النُّصْحِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ لِمُعَلِّمِهِ وَيَتَّبِعُ غَرَضَهُ وَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ

الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَقْتَضِي التَّدْلِيسَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلَا يَرْجِعُ لِمُعَلِّمِهِ فِيهِ فَإِنْ أَبَى الْمُعَلِّمُ ؛ تَرَكَهُ وَمَرَّ إلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يُخْلِصُ ذِمَّتَهُ عِنْدَهُ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي - أَنْ يَعْمَلَ لِلنَّاسِ لِلْقِبَالَةِ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى النُّصْحِ أَيْضًا فِي عَمَلِهِ وَيَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَرِزَ عَلَى الْخُيُوطِ الَّتِي تَفْضُلُ فَلَا يَرْمِي مِنْهَا شَيْئًا ، وَإِنْ قَلَّ .
وَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ الصِّغَارِ الَّذِينَ يَخَافُ مِنْهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا شَيْئًا مِنْ الْغَزْلِ أَوْ يَرْمُوهُ أَنْ يُبَاشِرُوا غَزْلَ النَّاسِ فَيَحْتَرِزُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ فَإِنْ فَضَلَ .
بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْخُيُوطِ جَمَعَهُ وَأَلْقَاهُ فِي بَاطِنِ الْخِرْقَةِ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَشْتَرِي الْغَزْلَ وَيَعْمَلُهُ لِنَفْسِهِ وَيَبِيعُهُ فِي السُّوقِ فَهُوَ أَسْلَمُ فِي الْغَالِبِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَنْصَحَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُدَلِّسَ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الشَّمَعِ أَوْ الدَّلْكِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَيَحْتَرِزُ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْغَزْلِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي الْبَيَاضِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُضْعِفُهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَامِحُ نَفْسَهُ إذَا كَانَ يَبِيعُ فِي السُّوقِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عَجَزَتْ الْخِرْقَةُ الَّتِي يَعْمَلُهَا لِلْقِبَالَةِ يُكْمِلُهَا بِغَزْلٍ سُوقِيٍّ مِنْ عِنْدِهِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَيَأْخُذُ بَعْدَ ذَلِكَ عِوَضَهُ أَوْ يُكَمِّلُهَا بِغَزْلٍ آخَرَ لِغَيْرِ صَاحِبِهَا ثُمَّ يَأْخُذُ عِوَضَهُ وَيُعْطِيه لِلْأَوَّلِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَمَا شَابَهَهَا وَمَنْ يُبَاشِرُ الْأَمْرَ بِنَفْسِهِ هُوَ الْمُطَّلِعُ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فَتَلْزَمُهُ الْمَصَالِحُ وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمَفَاسِدُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

فَصْلٌ فِي الْقِصَارَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَمْرِ الْقَزَازَةِ مَا يَنْوِيه فِيهَا مِنْ النِّيَّاتِ وَمَا يَجْتَنِبُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِصَارَةِ .
فَمِمَّا يُجْتَنَبُ فِيهَا أَنْ لَا يُقَصِّرَ بِمَاءٍ نَجِسٍ وَلَا يَبْسُطَ الْقُمَاشَ عَلَى شَيْءٍ نَجِسٍ وَلَا يَمْشِي عَلَيْهِ بِأَقْدَامِهِ وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَشْيُ لَا يَصِلُ إلَى رَشِّ الْقُمَاشِ كُلِّهِ إلَّا بِهِ فَيَجُوزُ .
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَرْوَاثَ الْبَقَرِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْقَصَّارِينَ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْخِرْقَةَ سَرِيعًا بِسَبَبِ شِدَّةِ حَرَارَتِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا يُشْبِهُهُ .
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْجِيرِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُهُمَا عَاجِلًا .
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْصِرَهَا عَصْرًا شَدِيدًا خَارِجًا عَنْ الْحَدِّ الْمُعْتَادِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهَا .
وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ مِنْ ضَرْبِ الْخِرَقِ عَلَى الْحِجَارَةِ حِينَ الْقَصَارَةِ وَذَلِكَ يَذْهَبُ بِقُوَّةِ الْخِرْقَةِ وَيُضْعِفُهَا .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى الصَّانِعِ وَعَلَى صَاحِبِ الْخِرْقَةِ ، وَإِنْ رَضِيَا بِذَلِكَ .
وَالْقِصَارَةُ الْمُبَاحَةُ إنَّمَا هِيَ بَلُّ الْقُمَاشِ وَنَشْرُهُ فَإِذَا نَشَفَ أَعَادَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْيَضَّ وَإِنَّمَا يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِصَارَةِ الْمُبَاحَةِ وَبَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ بِطُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا فَيَسْتَعْجِلُونَ فِي قَصْرِ الزَّمَانِ الَّذِي يُقَصَّرُ فِيهِ حَتَّى يَبْيَضَّ فِيهِ سَرِيعًا وَذَلِكَ سَبَبٌ فِي قِصَرِ عُمْرِ الثَّوْبِ حِينَ اسْتِعْمَالِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَصْبِرْ مُدَّةً تَبْيَضُّ فِيهَا الْخِرْقَةُ دُونَ مُعَالَجَةٍ لَهَا بِمَا يَضُرُّ بِهَا .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ زَادَ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ الْخِرْقَةَ فِي بَيْتِهِ وَيَتَّخِذَهَا سُفْرَةً أَوْ سِمَاطًا .
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيرَهَا لِغَيْرِهِ يَفْعَلُ

ذَلِكَ بِهَا مُدَّةً وَيَتَعَلَّلُ لِصَاحِبِهَا كُلَّمَا طَالَبَهُ بِهَا بِأَنَّهَا لَمْ تَفْرُغْ قِصَارَتُهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ يَسْتَعْمِلُهَا وَيَتَمَنْدَلُ بِهَا حَتَّى إذَا أَعْيَا صَاحِبُهَا حِينَئِذٍ يَخْرُجُ بِهَا لَيُقَصِّرَهَا وَيَفْعَلُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَتَبْيَضُّ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ وَلِذَلِكَ يَكُونُ تَقْطِيعُهَا فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ بَعْدَ لُبْسِهَا لِمَا صَنَعَ فِيهَا مِنْ الْجِيرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الصَّنْعَةَ تَقْتَضِي أَنْ يُحَاوِلَهَا بِالْجِيرِ وَالرَّوْثِ وَمَا يُشْبِهُهُ ؛ لِأَنَّ الْخِرْقَةَ لَا تَبْيَضُّ إلَّا بِهَا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِصَارَةَ الْمَعْرُوفَةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا هِيَ بِالْمَاءِ وَالشَّمْسِ لَا بِغَيْرِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا مُشَاهَدَةٌ مَرْئِيَّةٌ مِنْهُمْ فَتَجِدُ فِي الْخِرْقَةِ بِسَبَبِ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أُرُوشًا كَثِيرَةً وَبَعْضُهُمْ يُرْفِيهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَيَسْتُرُ ذَلِكَ بِالصَّقْلِ مَعَ الصَّابُونِ وَيُدَلِّسُ بِذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهَا .
وَبَعْضُهُمْ لَا يَنْصَحُ فِي قِصَارَتِهَا بَلْ يُحَسِّنُهَا بِأَشْيَاءَ فَإِذَا لُبِسَتْ ثُمَّ غُسِلَتْ ظَهَرَتْ سُمْرَتُهَا وَقَدْ سَرَى غِشُّهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ إلَى مَنْ يَشْتَرِي الْخِرْقَةَ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي الذَّارِعَ مَثَلًا أَوْ أَكْثَرَ بِدِرْهَمَيْنِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ وَغُسِلَتْ تَخْرُجُ فِي أَوَّلِ غَسْلِهِ وَلَا خَفَاءَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ .
وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا أَنَّ بَعْضَ الْقَصَّارِينَ يَسْتَحِلُّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَيَتَعَلَّلُ بِأَنَّ الْقُمَاشَ إنْ لَمْ يُلْبَسْ لَمْ تَحْسُنْ قِصَارَتُهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبه .
وَبَعْضُ النَّاسِ يَسْتَعْمِلُ الْخِرْقَةَ حَتَّى إذَا تَدَنَّسَتْ دَفَعَهَا إلَى الْقَصَّارِ فَتَارَةً يُسْرِعُ الْقَصَّارُ فِي قِصَارَتِهَا وَتَارَةً يَسْتَعْمِلُهَا الْآخَرُ ثُمَّ يُقَصِّرُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِذَا فَرَغَتْ قِصَارَتُهَا خَرَجَتْ كَأَنَّهَا جَدِيدَةٌ لِمَا يَفْعَلُ فِيهَا مِمَّا

يُحَسِّنُهَا ظَاهِرًا فَإِذَا أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي وَلَبِسَهَا تَقَطَّعَتْ سَرِيعًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَسَبَبُ هَذَا الْغِشِّ عَدَمُ الْبَيَانِ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } وَقَدْ وَرَدَ { الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ فَلْيَتْرُكْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
شَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا وَاحِدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَنِيَّتِهِ وَآخَرُ يَدْخُلُ النَّارَ بِهِمَا كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ سُوَيْدَاءُ الْقُلُوبِ مِنْ النِّيَّاتِ الْحَسَنَةِ وَضِدِّهَا وَمِنْ حُسْنِ التَّصَرُّفِ أَوْ ضِدِّهِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ فِي عِلِّيِّينَ يَرْجِعُ إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ بِسَبَبِ عَمَلِهِ وَنِيَّتِهِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْغِشِّ مِنْ الْمَهَالِكِ إلَّا أَنَّ الْبَرَكَةَ تُنْزَعُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ ضَرَرِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَسُوءِ تَصَرُّفِهِ فِي حَقِّهِمْ وَعَدَمِ نُصْحِهِ لَهُمْ ، وَمَنْ نَصَحَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ فَقَدْ فَازَ بِالرَّاحَةِ وَالْعَافِيَةِ فِي الدَّارَيْنِ جَمِيعًا ، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِكَرَمِهِ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ .

فَصْلٌ فِي صِنَاعَةِ الْخِيَاطَةِ وَهَذِهِ الصَّنْعَةُ أَيْضًا مِنْ آكَدِ الصَّنَائِعِ وَهِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهَا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِسِتْرِ الْعَوْرَةِ غَالِبًا وَذَلِكَ فَرْضٌ سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا كُلَّهَا عَوْرَةٌ .
وَأَمَّا الرَّجُلُ فَمِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ وَسَتْرُ بَاقِي بَدَنِهِ سُنَّةٌ وَكَمَالٌ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ التَّجَمُّلُ الْمَطْلُوبُ فِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ، ثُمَّ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ عَلَى عِبَادِهِ { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } فَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِذِكْرِ الْحَرِّ عَلَى الْبَرْدِ إذْ أَنَّ مَا يَقِي الْحَرَّ يَقِي الْبَرْدَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْخِيَاطَةُ خَيْرُهَا مُتَعَدٍّ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَحْدَهُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يُدَنِّسَ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَشِينُهَا أَوْ يَذْهَبُ بِثَوَابِهَا أَوْ يُنْقِصُهَا وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعِلْمُ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِالتَّعْلِيمِ أَوْ بِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ .
فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النُّصْحُ فِي صَنْعَتِهِ جَهْدَهُ لِتَحْصِيلِ هَذَا الثَّوَابِ ، وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ الْمَفَاسِدَ فِي صَنْعَتِهِ فَإِنَّ ضَرَرَهَا مُتَعَدٍّ كَمَا أَنَّ خَيْرَهَا مُتَعَدٍّ إذْ إنَّهُ إذَا لَمْ يَنْصَحْ فِيهَا كَانَ فِي ذَلِكَ ضَيَاعٌ لِأَمْوَالِ النَّاسِ .
وَمَفَاسِدُهَا عَدِيدَةٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ أَوْ تَرْجِعَ إلَى قَانُونٍ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا لَكِنْ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِهَا لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا .
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا كَلَّفَ الصَّانِعَ الَّذِي عِنْدَهُ أَنْ يَخِيطَ بِالْخَيْطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْتِلَهُ فَلَا يَفْعَلُ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخَيْطَ إذَا لَمْ يُفْتَلْ لَمْ تَكُنْ لَهُ

قُوَّةٌ تُقِيمُ الْخِيَاطَةَ مَعَهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُلَّ وَيُوَسِّعَ بَيْنَ الْغُرْزَتَيْنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ أَوْ يُكْرَهُ فَيَرُدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَخِيطُهُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُضْطَرًّا لِأُجْرَتِهِ مِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبَ حَرِيرٍ لِلرِّجَالِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ غَيْرِ الْحَرِيرِ سَابِلًا لِأَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ أَوْ يَكُونَ فِي الثَّوْبِ لِلرِّجَالِ وُسْعٌ خَارِقٌ يَصِلُ إلَى حَدِّ السَّرَفِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ .
وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالثَّوْبُ الْوَاسِعُ وَالسَّابِلُ فِي حَقِّهِنَّ سُنَّةٌ وَكَمَالٌ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي تَفْصِيلِهِ ثِيَابَ النِّسَاءِ عَلَى مَا اصْطَلَحْنَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِنْ لُبْسِ الضَّيِّقِ وَالْقَصِيرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَائِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ فِي ثِيَابِ الرِّجَالِ أَنْ تَكُونَ قَصِيرَةً دُونَ وُسْعٍ خَارِقٍ .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ سِرَاجِ الْمُلُوكِ لَهُ وَلَمَّا دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ سَيِّدُ الْعِبَادِ فِي زَمَانِهِ عَلَى بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ ثَوْبُهُ إلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ ، قَالَ لَهُ بِلَالٌ : مَا هَذِهِ الشُّهْرَةُ يَا ابْنَ وَاسِعٍ ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ وَاسِعٍ : أَنْتُمْ شَهَرْتُمُونَا هَكَذَا كَانَ لِبَاسُ مَنْ مَضَى وَإِنَّمَا أَنْتُمْ طَوَّلْتُمْ ذُيُولَكُمْ فَصَارَتْ السُّنَّةُ بَيْنَكُمْ بِدْعَةً وَشُهْرَةً وَالْوَاسِعُ الطَّوِيلُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ هُوَ السُّنَّةُ فَعَكَسُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَصِّلَ ثَوْبًا لِجِنْدَارٍ أَوْ ظَالِمٍ وَمَا أَشْبَهَهَا وَلَا يَخِيطُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَهُمْ عَلَى مَا يَتَعَاطَوْنَهُ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي الْإِثْمِ بِسَبَبِ الْإِعَانَةِ لَهُمْ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَبِهِ إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ أَقَلَّ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ وَهُوَ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ إذَا بَاشَرَهُمْ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَكَلَامِهِمْ وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ الْهِجْرَانِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا سُحْتٌ وَهُوَ يَتْعَبُ فِي صَنْعَتِهِ لِيَأْكُلَ الْحَلَالَ فَكَيْفَ يَأْخُذُ الْحَرَامَ الْبَيِّنَ فِي أُجْرَتِهِ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ التَّعَبُ وَأَكْلُ الْحَرَامِ .
وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ لِبَعْضِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَلَالَ بِسَبَبِ صَنْعَتِهِ وَهُوَ يَعْمَلُهَا لِمَنْ هَذَا حَالُهُ فَإِنْ اضْطَرَّ إلَى الْخِيَاطَةِ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ غُصِبَ عَلَيْهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَسِّعَ الْحِيلَةَ فِي أَخْذِ أُجْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَسْبِهِمْ مِثْلَ أَنْ يَتَدَايَنُوا وَيَدْفَعُوا لَهُ أُجْرَتَهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يُحِيلُوهُ بِهَا عَلَى مَنْ هُوَ مُسْتَتِرٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِيمَا بِيَدِهِ .
وَهَذَا إذَا كَانَ مَالُ الظَّالِمِ كُلُّهُ حَرَامًا فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَيَّلَ فِي أَخْذِ أُجْرَتِهِ مِنْ الْجِهَةِ الْمَسْتُورَةِ بِالْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ أَبْرَكُ وَأَنْجَحُ لِعَمَلِهِ وَسَعْيِهِ وَمِنْ آكَدِ مَا يَجْتَنِبُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَخِيطَ لِمُقَدِّمٍ وَمَنْ فَوْقَهُ وَمَنْ دُونَهُ مِمَّنْ يُشْبِهُهُمْ فِي كَثْرَةِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ

وَمِنْ آكَدِهَا أَيْضًا أَنْ لَا يُفَصِّلَ وَلَا يَخِيطَ ثَوْبًا لِامْرَأَةٍ يَتَّهِمُهَا بِالْبِغَاءِ أَوْ مَنْ هِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهِ فَإِنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهَا عَلَى الزِّنَا لِكَوْنِهَا تَتَجَمَّلُ بِلُبْسِ ذَلِكَ لِغَيْرِ زَوْجِهَا .
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { إنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ لِنُطْفَةٍ وَقَعَتْ فِي حَرَامٍ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ .
وَكَذَلِكَ لَا يَخِيطُ لِمَنْ كَانَتْ مُتَبَرِّجَةً مِنْ النِّسَاءِ مُظْهِرَةً لِلزِّينَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ بِالزِّنَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهَا عَلَى الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّجَ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ وَيَجُرُّ ذَلِكَ إلَى إدْخَالِ التَّشْوِيشِ وَالْفَسَادِ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْفِتْنَةِ فَهُوَ كَفَاعِلِهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ فِتْنَةَ شَارِبِ الْخَمْرِ قَدْ تَعَدَّتْ إلَى لَعْنِ نَحْوِ الْعَشَرَةِ وَهُمْ عَاصِرُهَا وَشَارِبُهَا وَبَائِعُهَا وَمُشْتَرِيهَا وَالْمَحْمُولَةُ لَهُ وَمُقْتَنِيهَا وَحَاضِرُهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
فَكَذَلِكَ كُلُّ مُخَالَفَةٍ فِي الْغَالِبِ تَجِدُ فِتْنَتَهَا مُتَعَدِّيَةً فَيَقَعُ الْإِثْمُ عَلَى فَاعِلِهَا وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَعَانَهُ بِشَيْءٍ مَا بِحَسَبِ حَالِهِ فَلْيَحْذَرْ مَنْ يَحْذَرُ وَمَا التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ .

وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَصِّلَ وَلَا يَخِيطَ ثَوْبًا لِمَكَّاسٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّنْ شَابَهَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ وَتَرْكُ التَّغْيِيرِ عَلَيْهِ أَيْضًا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .

، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ الْوَاسِعِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُتَلَبِّسًا بِالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِ مَا يَأْمُرُ الْعِلْمُ بِهِ وَالْعِلْمُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ثَوْبِهِ مِنْ السِّجَافِ الْوَاسِعِ فِي ذَيْلِهِ وَأَكْمَامِهِ وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْهُ جَهْدَهُ .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ قُصَاصَةَ كُلِّ مَا خَيَّطَهُ وَمَا فَضَلَ فَيَحْفَظُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُلْقِيه فِي الثَّوْبِ حِينَ طَيِّهِ وَلَا يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ فَتَعْمُرُ بِهِ ذِمَّتُهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ وَيَشْغَلَ بِحِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالشُّرُوعِ فِي أَسْبَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالْمُضِيِّ إلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا يَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ فَضِيلَةِ ذَلِكَ بِسَبَبِ صَنْعَتِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ خُسْرَانٌ بَيِّنٌ وَحِرْمَانٌ ظَاهِرٌ وَمُذْهِبٌ لِلْبَرَكَاتِ وَسَائِقٌ إلَى الْمُخَالَفَاتِ ؛ لِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَهَا أُخَيَّاتٌ كَمَا أَنَّ الْحَسَنَةَ لَهَا أُخَيَّاتٌ فَيَخَافُ عَلَى تَارِكِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَئُولَ أَمْرُهُ إلَى تَرْكِ الصَّلَوَاتِ أَوْ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِيهَا وَشُغْلُهُ بِأَمْرِ الصَّلَاةِ وَالْأَخْذُ فِي شَأْنِهَا يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَيُذْهِبُ بِالتَّعَبِ وَتَقَعُ بِهِ الْبَرَكَةُ .
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } الْآيَةَ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالُوا : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الَّذِينَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ تَرَكُوا كُلَّ شُغْلٍ وَبَادَرُوا إلَيْهَا وَرَأَى سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَهْلَ السُّوقِ وَهُمْ مُقْبِلُونَ إلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرَادَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى

بِقَوْلِهِ { لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وَمَا يَفْعَلُهُ هُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَأْمُرُ بِهِ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ مِنْ الصُّنَّاعِ فَإِنَّهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِ { وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالْخَيَّاطِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ مِنْ الْخَيَّاطِينَ وَغَيْرِهِمْ فَحَقٌّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُبَادِرُوا إلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَنُدِبُوا إلَيْهِ لِتَحْصُلَ لَهُمْ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ لِامْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ مِنْ الْغِيبَةِ وَالْمُزَاحِ بِالْكَذِبِ وَأَخْبَارِ النَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ مَا هُوَ حَرَامٌ وَمِنْهُ مَا يَجُرُّ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ الْبَيِّنِ سِيَّمَا إنْ كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ الشُّبَّانِ فَتَكْثُرُ الْمَفَاسِدُ وَقَدْ يَئُولُ إلَى ارْتِكَابِ أُمُورٍ كَانُوا عَنْهَا فِي غِنًى .

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ : يَفْرُغُ ثَوْبُك بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ لَا يَفِي لَهُ بِذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَيْلٌ لِلصَّانِعِ مِنْ غَدٍ وَبَعْدَ غَدٍ وَوَيْلٌ لِلتَّاجِرِ مِنْ تَاللَّهِ وَبِاَللَّهِ } ثُمَّ لِيَحْذَرْ أَيْضًا مِنْ الْأَيْمَانِ فَإِنَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ صَادِقَةً فَلَيْسَتْ مِنْ شِيَمِ النَّاسِ وَلَا مِنْ عَادَتِهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَحْتَرِمُونَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَذْكُرُوهُ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّخَاذَ السَّجَّادَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدْعَةٌ فَإِنْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهَا بِسَبَبِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ تَوَقِّي نَجَاسَةٍ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مِنْ حَصِيرٍ أَوْ مِنْ الْقُمَاشِ الْغَلِيظِ مِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى مَا لَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مَكْرُوهَةٌ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُك بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّجَّادَاتِ الَّتِي تُعْمَلُ مِنْ النَّصَافِي وَشَبَهِهَا وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا وَالْإِعَانَةُ عَلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ يَكُونُ مَكْرُوهًا فَلَا يُعِينُ بِخِيَاطَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ مَخِيطَةً عَلَى تَرْتِيبِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ جَعْلِ الْقِبْلَةِ وَتَضْرِيبِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ تَوَاضُعٍ وَخُشُوعٍ وَذِلَّةٍ وَمَسْكَنَةٍ لَا حَالَ فَخْرٍ وَخُيَلَاءَ وَتَنَعُّمٍ ، حَتَّى إنَّهُ لَيُعْطِي بَعْضُهُمْ فِي خِيَاطَةِ السَّجَّادَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ خِرْقَتِهَا .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ خِيَاطَةَ دُلُوقِ الشُّهْرَةِ وَالْمُرَقَّعَاتِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُ النَّاسِ كَأَنَّهَا دَكَاكِينُ فَتَجِدُ بَعْضُهُمْ يَأْخُذُ خِرَقًا جُمْلَةً مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَخْضَرَ وَأَحْمَرَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15