كتاب : التذكرة
      المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي


الفصل الثالث أنكرت الملحدة من تمذهب من الإسلاميين بمذهب الفلاسفة : عذاب القبر و أنه ليس له حقيقة و احتجوا بأن قالوا : إنا نكشف القبر فلم نجد فيه ملائكة عميا صما يضربون الناس بفطاطيس من حديد و لا نجد فيه حيات و لا ثعابين و لا نيرانا و لا تنانين و كذلك لو كشفنا عنه في كل حالة لوجدناه فيه لم يذهب و لم يتغير و كيف يصح إقعاده و نحن لو وضعنا الزئبق بين عينيه لوجدناه بحاله فكيف يجلس و يضرب و لا يتفرق ذلك ؟ و كيف يصح إقعاده و ما ذكرتموه من الفسحة ؟ و نحن نفتح القبر فنجد لحده ضيقا و نجد مساحته على حد ما حفرناها لم يتغير علينا فكيف يسعه و يسع الملائكة السائلين له ؟ و إنما ذلك كله إشارة إلى حالات ترد على الروح من العذاب الروحاني و إنها لا حقائق لها على موضوع اللغة
و الجواب : أنا نؤمن بما ذكرناه و الله أن يفعل ما يشاء من عقاب و نعيم و يصرف أبصارنا عن جميع ذلك بل يغيبه عنا فلا يبعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله بعد في قدرة الله تعالى فعل ذلك كله إذا هو القادر على كل ممكن جائز فإنا لو شئنا لأزلناه الزئبق عن عينيه ثم نضجعه و نرد الزئبق و كذلك يمكننا أن نعمق القبر و نوسعه حتى يقوم فيه قياما فضلا عن العقود و كذلك يمكننا أن نوسع القبر ذراع فضلا عن سبعين ذراعا و الرب سبحانه أبسط منا قدرة و أقوى منا قوة و أسرع فعلا و أحصى منا حسابا { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون } و لا رب لمن يدعى الإسلام إلا من هذه صفته فإذا كشفنا نحن عن ذلك رد الله سبحانه الأمر على ما كان نعم لو كان الميت بيننا موضوعا فلا يمتنع أن يأتيه الملكان و يسألاه من غير أن يشعر الحاضرون بهما و يجيبهما من غير أن يسمع الحاضرون جوابهما و مثال ذلك : نائمان بيننا أحدهما ينعم و الآخر يعذب و لا يسعر بذلك أحد ممن حولهما من المنتبهين ثم إذا استيقظا أخبر كل واحد منهما عما كان فيه
و قد قال بعض علمائنا : إن دخول الملك القبور جائز أن يكون تأويله : اطلاعه عليها و على أهلها و أهلها مدركون له عن بعد من غير دخول و لا قرب و يجوز أن يكون الملك للطافة أجزائه يتولج في خلال المقابر فيتوصل إليهم من غير نبش و يجوز أن ينبشهما ثم يعيدها الله إلى مثل حالها على وجه لا يدركها أهل الدنيا
و يجوز أن يكون الملك يدخل من تحت قبورهم من مداخل لا يهتدي الإنسان إليها
و بالجملة : فأحوال المقابر و أهلها على خلاف عادات أهل لدنيا في حياتهم فليس تنقاس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا و هذا مما لا خلاف فيه و لولا خبر الصادق بذلك لم نعرف شيئا مما هنالك فإن قالوا : كل حديث يخالف مقتضى المعقول يقطع بتخطئة ناقله و نحن نرى المصلوب على صلبه مدة طويلة و هو لا يسأل و لا يحيى و كذلك يشاهد الميت على سريره و هو لا يجيب سائلا و لا يتحرك و من افترسه السباع و نهشه الطيور و تفرقت أجزاؤه في أجواف الطير و بطون الحيتان و حواصل الطيور و أقاصي التخوم و مدارج الرياح فكيف تجتمع أجزاؤه ؟ أم كيف تتألف أعضاؤه ؟ و كيف تتصور مساءلة الملكين لمن هذا وصفه ؟ أم كيف يصير القبر على من هذا حاله روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ؟ و الجواب عن هذا من وجوه أربعة :
أحدها : أن الذي جاء بهذا هم الذين جاءوا بالصلوات الخمس و ليس لنا طريق إلا ما نقلوه لنا من ذلك
الثاني : ما ذكره القاضي لسان الأمة و هو : أن المدفونين في القبور يسألون و الذين بقوا على وجه الأرض فإن الله تعالى يحجب المكلفين عما يجري عليهم كما حجبهم عن رؤية الملائكة مع رؤية الأنبياء عليه و السلام لهم و من أنكر ذلك فلينكر نزول جبرائيل عليه السلام على الأنبياء عليهم السلام و قد قال الله تعالى : في وصف الشياطين { إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم }
الثالث : قال بعض العلماء : لا يبعد أن ترد الحياة إلى المصلوب و نحن لا نشعر به كما أنا نحسب المغمى عليه ميتا و كذلك صاحب السكتة و ندفنه على حسبان الموت و من تفرقت أجزاؤه فلا يبعد أن يخلق الله الحياة في أجزائه
قلت : و يعيده كما كان كما فعل بالرجل الذي أمر إذا مات أن يحرق ثم يسحق ثم يذري حتى تنسفه الرياح [ الحديث ] و فيه : [ فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه ثم قال : ما حملك على ما فعلت ؟ قال : خشيتك أو قال مخافتك ] خرحه البخاري و مسلم و في التنزيل { فخذ أربعة من الطير } الآية
الرابع : قال أبو المعالي : المرضي عندنا : أن السؤال يقع على أجزاء يعملها الله تعالى من القلب أو غيره فيحييها و يوجه السؤال عليها و ذلك غير مستحيل عقلا قال بعض علمائنا : و ليس هذا بأبعد من الذر الذي أخرجه الله تعالى من صلب آدم عليه السلام و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا : بلى
الفصل الرابع
فإن قالوا : ما حكم الصغار عندكم ! قلنا : هم كالبالغين و أن العقل يكمل لهم ليعرفوا بذلك منزلتهم و سعادتهم و يلهمون الجواب عما يسألون عنه و هذا ما تقتضيه ظواهر الأخبار فقد جاء أن القبر ينضم عليه كما ينضم على الكبار و قد تقدم و ذكر هناد بن السرى قال : حدثنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ إن كان ليصلى على النفوس ما أن عمل خطيئة قط فيقول : اللهم أجره من عذاب القبر ]
الفصل الخامس
فإن قالوا : فما تأويلكم في القبر : حفرة من النار أو روضة من رياض الجنة ؟ قلنا : ذلك محمول عندنا على الحقيقة لا على المجاز و أن القبر يملأ على المؤمن خضرا و هو العشب من البنات و قد عينه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : هو الريحان كما في حق الكافر يفرش له لوحان من نار و قد تقدم و قد حمله بعض علمائنا على المجاز و المراد خفة السؤال على المؤمن و سهولته عليه و أمنه فيه و طيب عيشه و وصفه بأنه جنة تشبيها بالجنة و النعيم فيها بالرياض يقال : فلان في الجنة إذا كان في رغد من العيش و سلامة فالمؤمن يكون في قبره في روح و راحة و طيب عيش و قد رفع الله عن عينيه الحجاب حتى يرى مد بصره كما في الخبر و أراده بحفرة النار ضغطة القبر و شدة المساءلة و الخوف و الأهول التي تكون فيها على الكفرة و بعض أهل البكائر : و الله أعلم و الأول أصح لأن الله سبحانه و رسوله يقص الحق و لا استحالة في شيء من ذلك
الفصل السادس
روى أبو عمر في التمهيد [ عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب : أيها الناس إن الرجم حق فلا تخذ عن عنه و إن آية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد رجم ] و أن أبا بكر قد رجم و إنا قد رجمنا بعدهما و سيكون أقوام من هذه الأمة يكذبون بالرجم و يكذبون بالدجال و يكذبون بطلوع الشمس من مغربها و يكذبونها بعذاب القبر و يكذبون بالشفاعة و يكذبون بقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هؤلاء هم القدرية و الخوارج و من سلك النار سبيلهم و افترقوا في ذلك فرقا فصار أبو الهذيل و بشر : إلى أن خرج عن سلمة الإيمان فإنه يعذب بين النفختين و أن المساءلة إنما تقع في تلك الأوقات و أثبت البلخي و كذلك الجبائي و ابنه : عذاب القبر و لكنهم نفوه عن المؤمنين و أثبتوه الكافرين و الفاسقين و قال الأكثرون من المعتزلة : لا يجوز تسمية ملائكة الله تعالى بمنكر و نكير و إنما المنكر ما يبدو من تلجلجله إذا سئل و تقريع الملكين له هو النكير و قال صالح : عذاب القبر جائز و أنه يجري على الموتى من غير رد الأرواح إلى الأجساد و أن الميت يجوز أن يألم و يحس و يعلم و هذا مذهب جماعة من الكرامية و قال بعض المعتزلة : إن الله يعذب الموتى في قبورهم و يحدث فيهم الآلآم و هم لا يشعرون فإذا حشروا وجدوا تلك الآلام و زعموا أن سبيل المعذبين من الموتى كسبيل السكران أو المغشى عليه لو ضربوا لم يجدوا الآلام فإذا عاد إليهم العقل وجدوا تلك الآلام و أما الباقون من المعتزلة مثل ضرار بن عمرو و بشر المريسي و يحيى بن كامل و غيرهم فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلا و قالوا : إن من مات فهو ميت في قبره إلى يوم البعث و هذه أقوال كلها فاسدة تردها الأخبار الثابتة و في التنزيل : { النار يعرضون عليها غدوا و عشيا } و سيأتي من الأخبار مزيد بيان و بالله التوفيق و العصمة و الله أعلم
باب ما جاء في صفة الملكين صلوات الله عليهما و صفة سؤالهما
قد تقدم من حديث الترمذي : أنهما أسودان أزرقان يقال لأحدهما : منكر و للآخر : النكير [ و روى معمر عن عمرو بن دينار و عن سعد بن إبراهيم عن عطاء ابن يسار أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمر : كيف بك يا عمر إذا جاءك منكر و نكير إذا مت و انطلق بك إلى قومك و قاسوا ثلاثة أذراع و شبر في ذارع و شبر ثم غسلوك و كفوك و حنطوك ثم احتملوك فوضعوك فيه ثم أهالوا عليك التراب ؟ فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر : منكر و نكير أصواتهما كالرعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف يجران شعورهما معهما مزربة من حديد لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يقلوها فقال عمر : يا رسول الله إن فرقنا فحق لنا أن نفرق أنبعث على ما نحن عليه ؟ قال : نعم قال : إذا أكفيكهما ]
و روى نقلة الأخبار [ عن ابن عباس في خبر الإسراء : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : قلت : يا جبريل و ما ذاك ؟ قال : منكر و نكير يأتيان كل إنسان من البشر حين يوضع في قبره وحيدا فقلت : يا جبريل صفهما لي قال : نعم من غير أن أذكر لك طولهما و عرضهما ذكر ذلك منهما أفظع من ذلك غير أن أصواتهما كالرعد القاصف و أعينهما كالبرق الخاطف و أنيابهما كالصياصي يخرج لهب النار من أفوامهما و مناخرهما و مسامعهما يكسحان الأرض بأشعارها و يحفران الأرض بأظفارهما مع كل واحد منهما عمود من حديد لو اجتمع عليه من في الأرض ما حركوه يأتيان الإنسان إذا وضع في قبره و ترك وحيدا يسلكان روحه في جسده بإذن الله تعالى ثم يقعدانه في قبره فيتنهرانه انتهارا يتقعقع منه عظامه و تزول أعضاؤه من مفاصله فيخر مغشيا عليه ثم يقعدانه فيقولان له : إنك في البرزخ فاعقل حالك و اعرف مكانك و ينتهرانه ثانية و يقولان : يا هذا ذهبت عنك الدنيا و أفضيت إلى معادك فأخبرنا من ربك ؟ و ما دينك ؟ و من نبيك ؟ فإن كان مؤمنا بالله لقنه الله حجته فيقول : الله ربي و نبيي محمد و ديني الإسلام فينتهرانه عند ذلك انتهارا يرى أن أوصافه تفرقت و عروقه قد تقطعت و يقولان له : يا هذا انظر ما تقول فيثبته الله عنه بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يلقنه الأمان و يدرأ عنه الفزع فلا يخافهما فإذا فعل ذلك بعبده المؤمن استأنس إليهما و أقبل عليهما بالخصومة يخاصمهما و يقول : تهدداني كيما أشك في ربي و تريداني أن أتخذ غيره وليا و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و هو ربي و ربكما و رب كل شيء و نبيي محمد و ديني الإسلام ؟ ثم ينتهرانه و يسألانه عن ذلك فيقول : ربي الله فاطر السموات و الأرض إياه كنت أعبد و لم أشرك به شيئا و لم أتخذ غيره أحدا ربا أفتريدان أن ترداني عن معرفة ربي و عبادتي إياه ؟ نعم هو الله الذي لا إله إلا هو قال : فإذا قال ذلك ثلاث مرات مجاوبة لهما تواضعا له حتى يستأنس إليهما أنس ما كان في الدنيا إلى أهل وده و يضحكان إليه و يقولان له : صدقت و بررت أقر الله عينيك و ثبتك أبشر بالجنة و بكرامة الله ثم يدفع عنه قبره هكذا و هكذا فيتسع عليه مد البصر و يفتحان له بابا إلى الجنة فيدخل عليه من روح الجنة و طيب ريحها و نضرتها في قبره ما يتعرف به كرامة الله تعالى فإذا رأى ذلك استيقن بالفور فحمد الله ثم يفرشان له فراشا من إستبرق الجنة و يضعان له مصباحا من نور عند رأسه و مصباحا من نور عند رجليه يزهران في قبره ثم ندخل عليه ريح أخرى فحين يشمها يغشاه النعاس فينام فيقولان له : ارقد رقدة العروس قرير العين لا خوف عليك و لا حزن ثم يمثلان عمله الصالح في أحسن ما يرى من صورة و أطيب ريح فيكون عند رأسه و يقولان : هذا عملك و كلامك الطيب قد مثله الله لك في أحسن ما ترى من صورة و أطيب ريح ليؤنسك في قبرك فلا تكون وحيدا و يدرأ عنك هوام الأرض و كل دابة و كل أذى فلا يخذلك في قبرك و لا في شيء من مواطن القيامة حتى تدخل الجنة برحمة الله تعالى فنم سعيدا طوبى لك و حسن مآب ثم يسلمان عليه و يطيران عنه ] و ذكر الحديث و ما يلقة الكافر من الهوان الشديد و العذاب الأليم و حسبك بما تقدم
قلت : و هذا الحديث و إن كان في إسناده مقال لأنه يروى عن عمرو بن سليمان عن الضحاك بن مزاحم فهو حديث مرتب على أحوال مبنية و محتو على أمورمفسرة
فصل : قوله : [ أتاك فتانا القبر منكر و نكير ]
إنما سميا فتاني القبر لأن في سؤالهما انتهارا و في خلقهما صعوبة ألا ترى أنهما سميا منكرا و نكيرا ؟ فإنما سميا بذلك لأن خلقهما لا يشبه خلق الأدميين و لا خلق الملائكة و لا خلق الطير و لا خلق البهائم ولا خلق الهوام بل هما خلق بديع و ليس في خلقتهما أنس للناظرين إليهما جعلهما الله تكرمة للمؤمن يثبته و ينصره و هتكا لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحل عليه العذاب قاله أبو عبد الله الترمذي
فصل : إن قال قائل : كيف يخاطب الملكان جميع الموتى و هم مختلفوا الأماكن متباعدو القبور في الوقت الواحد و الجسم الواحد لا يكون في المكانين في الوقت الواحد و كيف تنقلب الأعمال أشخاصا و هي في نفسها أعراض ؟
فالجواب عن الأول : ما جرى ذكره في هذا الخبر من عظم جثتيهما فيخاطبان الخلق الكثير الذين في الجهة الواحدة منهم في المرة الواحدة : مخاطبة واحدة يخيل لكل واحد أن المخاطب هو دون من سواه و يكون الله يمنع سمعه من مخاطبة الموتى لهما و يسمع هو مخاطبتهما أن لو كانوا معه في قبر واحد و قد تقدم أن عذاب القبر يسمعه كل شيء إلا الثقلين و الله سبحانه و تعالى يسمع من يشاء و هو على كل شيء قدير
و الجواب عن الثاني : أن الله يخلق من ثواب الأعمال أشخاصا حسنة و قبيحة لا أن العرض نفسه ينقلب جوهرا إذ ليس من قبيل الجواهر و مثل هذا ما صح في الحديث : [ أنه يؤتى بالموت كأنه كبش أملح فيوقف على الصراط فيذبح ] و محال أن ينقلب الموت كبشا لأن الموت عرض و إنما المعنى أن الله سبحانه يخلق شخصا يسميه الموت فيذبح بين الجنة و النار و هكذا كلما ورد عليك في هذا الباب التأويل فيه ما ذكرت لك و الله سبحانه أعلم و سيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى
باب اختلاف الآثار في سعة القبر على المؤمنين بالنسبة إلى أعمالهم
جاء في حديث البخاري و مسلم : [ أنه يفسح له سبعون ذراعا ] و في الترمذي : [ سبعون ذراعا في سبعين ذراعا ] و في حديث البراء : [ مد البصر ] و خرج علي بن معبد عن معاذة قالت : قلت لعائشة رضي الله عنها : ألا تخبريننا عن مقبورنا ما يلقى و ما يصنع به ؟ فقالت : إن كان مؤمنا فسح له في قبره أربعون ذراعا
قلت : و هذا إنما يكون بعد ضيق و السؤال و أما الكافر فلا يزال قبره عليه ضيقا فنسأل الله العفو و العافية في الدنيا و الآخرة
سمعت بعض علمائنا يقول : إن حفارا كان بقرافة مصر يحفر القبور فحفر ثلاثة أقبر فلما فرغ منها غشيه النعاس فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا فوقفت على أحد الأقبر فقال أحدهما لصاحبه : اكتب فرسخا في فرسخ ثم وقفا على الثاني : فقال أحدهما لصاحبه : اكتب فرسخا في فرسخ ثم وقفا على الثاني : اكتب ميلا في ميل ثم وقفا على الثالث فقال : اكتب فترا في فتر ثم انتبه فجيء برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول ثم جيء برجل آخر فدفن في القبر الثاني ثم جيء بامرأة مترفة من وجوه أهل البلد حولها ناس كثير فدفنت في القبر الضيق الذي سعته فترا في فتر
الفتر : ما بين الإبهام و السبابة نعوذ بالله من ضيق القبر و عذابه
باب ما جاء في عذاب القبر و أنه حق و في اختلاف عذاب الكافرين و في
قبورهم و ضيقها عليهم
قال الله تعالى : { و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } قال أبو سعيد الخدري و عبد الله بن مسعود : ضنكا قال : عذاب القبر و قيل في قوله عز و جل : { و إن للذين ظلموا عذابا دون ذلك } هو : عذاب القبر لأن الله ذكره عقب قوله { فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون } و هذا اليوم هو اليوم الآخر من أيام الدنيا فدل على أن العذاب الذي هم فيه هو عذاب القبر و كذلك قال : { و لكن أكثرهم لا يعلمون } لأنه غيب و قال : { و حاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا و عشيا } فهذا عذاب القبر في البرزخ و سيأي و قال ابن عباس فس قوله تعالى : { كلا سوف تعلمون } ما ينزل فيكم من العذاب في القبر { ثم كلا سوف تعلمون } : في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالأول في القبر و الثاني في الآخرة فالتكرير للحالتين
و روى زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه قال كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة { ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر * كلا سوف تعلمون } يعني في القبور و قال أبو هريرة : يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيهأضلاعه و هو المعيشة الضنك
و روى أبي هريرة [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية ؟ { فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى } أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : عذاب الكافر في القبر و الذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة و تسعون تنينا أتدرون ما التنين ؟ تسعة و تسعون حية لكل حية تسعة أرؤس ينفخن في جسمه و يلسعنه و يخدشنه إلى يوم القيامة و يحشر من قبره إلى موقفه أعمى ]
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة [ عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يسلط على الكافر في قبره تسعة و تسعون تنينا تنهشه و تلدغه حتى تقوم الساعة و لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضرا ] و في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا : [ ثم يؤمر به يعني الكافر فيضيق عليه قبره و يرسل عليه حيات كأمثال أعناق البخت فتأكل لحمه حتى لا تذر على عظمه لحما و ترسل عليه ملائكة صم عمي يضربونه بفطاطيس ] الحديث و قد تقدم
فصل : لا تظن ـ رحمك الله ـ أن هذا معارض للحديث المرفوع : [ أنه يسلط على الكافر أعمى أصم ] فإن أحوال الكفار تختلف فمنهم من يتولى عقوبته واحد و منهم من يتولى عقوبته جماعة و كذلك لا تناقض بين هذا و بين أكل الحيات لحمه فإنه يمكن أن يتردد بين هذين العذابين كما قال تعالى : { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها و بين حميم آن } فمرة يطعمون الزقوم و أخرى يسقون الحميم و مرة يعرضون على النار و أخرى على الزمهرير أجارنا الله من عذاب القبر و من عذاب النار برحمته و كرامته و آخر يفرش له لوحان من نار و آخر يقال له : نم نومة المنهوس كما أخرجه علي بن معبد عن أبي حازم عن أبي هريرة موقوفا قال : [ إذا وضع الميت في قبره أتاه آت من ربه فيقول له : من ربك ؟ فإن كان من أهل التثبيت ثبت و قال : الله ربي ثم يقال له مادينك ؟ فيقول الإسلام فيقول : من نبيك ؟ فيقول محمد صلى الله عليه و سلم فيرى بشراه و يبشر فيقول دعوني أرجع إلى أهلي فأبشرهم فيقال له : نم قرير العين إن لك إخوانا لم يلحقوا و إن كان من غير أهل الحق و التثبيت قيل له : من ربك ؟ فيقول : هاه كالوا له ثم يضرب بمطراق يسمع صوته الخلق إلا الجن والإنس و يقال له : نم كنومة المنهوس ]
قال أهل اللغة : المنهوس بالسين المهملة : الملسوع نهسته الحية تنهسه قال الراجز :
( و ذات قرنين طحون الضرس ... تنهس لو تمكنت من نهس )
( تدير عينا كشهاب القبس )
و المنهوس مرة ينتبه لشدة الألم عليه و مرة ينام كالمغمى عليه قال النابغة :
( فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع )
( تسهد من ليل التمام سليمها ... كحلى النساء في يديه قعاقع )
( يبادرها الراقون من سوء سمها ... تطلقه طورا و طورا تراجع )
باب منه في عذاب الكافر في قبره
ذكر الوائلي الحافظ في كتاب الإبانة له من حديث مالك بن مغول [ عن نافع عن ابن عمر قال : بينا أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في عنقه سلسلة يمسك طرفها أسود فقال يا عبد الله اسقني فقال ابن عمر : لا أدري أعرف اسمي أو كما يقول الرجل : يا عبد الله ؟ فقال لي الأسود : لا تسقه فإنه كافر ثم اجتذبه فدخل به الأرض قال ابن عمر : فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال : أو قد رأيته ؟ ذاك عدو الله أبو جهل بن هشام و هو عذابه إلى يوم القيامة ]
باب ما يكون منه عذاب القبر و اختلاف أحوال العصاة فيه بحسب اختلاف
معاصيهم
ابو بكر بن أبي شيبة عن [ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أكثر عذاب القبر من البول ]
البخاري و مسلم عن [ ابن عباس قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم على قبرين فقال : إنهما ليعذبان و ما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة و أما الآخر فكان لا يستنزه من بوله فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحدا و على هذا واحدا ثم قال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ] و في رواية [ كان لا يستنزه عن البول أو من البول ] رواهما مسلم و في كتاب أبي داود : [ و كان لا يستنثر من بوله ] و في حديث هناد بن السري [ لا يستبرئ من البول ] من الاستبراء و قال البخاري : [ و ما يعذبان في كبير و إنه لكبير ]
و أخرجه أبو داود الطيالسي عن [ أبي بكرة قال : بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و معي رجل و رسول الله صلى الله عليه و سلم بيننا إذ أتى على قبرين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن صاحبي هذين القبرين ليعذبان الآن في قبورهما فأيكما يأتيني من هذا النخل بعسيب ؟ فاستبقت أنا و صاحبي فسبقته و كسرت من النخل عسيبا فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فشقه نصفين من أعلاه فوضع على إحداهما نصفا و على الآخر نصفا و قال : إنه يهون عليهما ما دام من بلولتهما شيء إنهما يعذبان في الغيبة و البول ]
قال المؤلف : هذا الحديث و الذي قبله يدل على التخفيف إنما هو بمجرد نصف العسيب ما دام رطبا و لا زيادة معه و قد خرجه مسلم من [ حديث جابر الطويل و فيه : فلما انتهى إلي قال : يا جابر هل رأيت مقامي ؟ قلت نعم يا رسول الله قال : فاطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك و غصنا عن يسارك قال جابر : فقمت فأخذت حجرا فكسرته و حسرته فاندلق لي فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا ثم أقبلت أجرهما حتى قمت مقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرسلت غصنا عن يميني و غصنا عن يساري ثم لحقته فقلت : قد فعلت ذلك يا رسول الله فعند ذاك قال : إني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين ]
ففي هذا الحديث زيادة على رطوبة الغصن و هي : شفاعته صلى الله عليه و سلم و الذي يظهر لي أنهما قضيتان مختلفتان لا قضية واحدة كما قال من تكلم على ذلك و يدل عليهما سياق الحديث فإن في حديث ابن عباس عسيبا واحدا شقه النبي صلى الله عليه و سلم بيده نصفين أبي هريرة غرسهما بيده و حديث جابر بخلافهما و لم يذكر فيه ما يعذب بسببه
و قد خرج أبو داود الطيالسي حديث ابن عباس : فقال : [ حدثنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى على قبرين فقال : إنهما ليذبان في غير كبير أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس و أما الآخر فكان صاحب نميمة ثم دعا بجريدة فشقها نصفين فوضع نصفا على هذا القبر و نصفا على هذا القبر و قال : عسى أن يخفف عنهما ما دامتا رطبتين ] ثم قيل : يجوز أن يكونا كافرين و قوله : [ إنهما ليعذبان في غير كبير ] يريد بالإضافة إلى الكفر و الشرك و أما إن كانا مؤمنين فقد أخبرك أنهما يعذبان بشيء كان منهما ليس بكفر لكنهما لم يتوبا منه و إن كانا كافرين فهما يعذبان في هذين الذنبين زيادة على عذابهما في كفرهما و تكذيبهما و جميع خطاياهما و إن يكونا كافرين أظهر و الله أعلم فإنهما لو كانا مؤمنين لعلما قرب العهد بتدافن المسلمين يومئذ قاله ابن برجان في كتاب الإرشاد الهادي إلى التوفيق و السداد
قلت : و الأظهر أنهما كانا مؤمنين و هو ظاهر الأحاديث و الله أعلم
الطحاوي عن [ ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أمر بعبد من عباد الله عز و جل أن يعذب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل الله تعالى و يدعوه حتى صارت واحدة فامتلأ قبره عيه نارا فلما ارتفع عنه أفاق فقال : لماذاجلدتموني ؟ قال إنك صليت صلاة بغير طهور و مررت على مظلوم فلم تنصره ]
البخاري [ عن سمرة بن جندب قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال : من رأى منكم الليلة رؤيا ؟ قال : فإن رأى أحد رؤيا قصها فيقول : ما شاء الله فسألنا يوما فقال : هل رأى أحدكم رؤيا ؟ قلنا : لا قال : لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فإذا رجل جالس و رجل قائم بيده كلوب من حديد يدخله في شدقه حتى يبلغ قفاه ثم يفعل يشدقه الآخر مثل ذلك و يلتئم شدقه هذا فيعود فيصنع مثله
قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه و رجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة فيشدخ بها رأسه فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق ليأخذه فما يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه و عاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه قلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق و أسفله واسع يتوقد تحته نارا فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا فإذا خمدت رجعوا فيها وفيها رجال و نساء عراة فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم و على شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان فقلت : ما هذا ؟ قالا : انطلق فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة و في أصلها شيخ و صبيان و إذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي الشجرة و أدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها فيها شيوخ و شباب و نساء و صبيان ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن و أفضل فيها شيوخ و شباب قلت : طوفتماني الليلة فأخبراني عما رأيت قالا : نعم الذي رأيت يشق شدقه : فكذاب يحدث بالكذب فتحمل منه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة
و الذي رأيته يشدخ رأسه : فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل و لم يعمل فيه بالنهار يفعل به إلى يوم القيامة و أما الذين رأيتهم في الثقب قهم الزناة و الذي رأيته في النهار آكل الربا و الشيخ في أصل الشجرة : إبراهيم و الصبيان حوله : فأولاد الناس و الذي يوقد النار : مالك خازن النار و الدار الأولى : دار عامة المؤمنين و أما هذه الدار : فدار الشهداء و أنا جبريل وهذا ميكائيل فارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب قالا : ذلك منزلك فقلت : دعاني أدخل منزلي قال : إنه بقي لك عمر لم تستكمله فلو استكملته أتيت منزلك ]
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليه : لا أبين في أحوال المعذبين في قبورهم من حديث البخاري و إن كان مناما فمنامات الأنبياء عليهم السلام و حي بديل قول إبراهيم عليه السلام : { يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } فأجابه ابنه : { يا أبت افعل ما تؤمر } و أما حديث الطحاوي فنص أيضا و فيه رد على الخوارج و من يكفر بالذنوب قال الطحاوي : و فيه يدل على ان تارك الصلاة ليس بكافر لأن من صلى صلاة بغير طهور : فلم يصل و قد أحببت دعوته و لو كان كافرا ما سمعت دعوته لأن الله عز و جل يقول : { و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال } و أما حديث البخاري و مسلم فيدل على الاستبراء من البول و التنزه عنه : واجب إذ لا يعذب الإنسان إلا على ترك الواجب و كذلك إزالة جميع النجاسات قياسا على البول و هذا قول أكثر العلماء و به قال ابن وهب و رواه عن مالك و هو الصحيح في الباب و من صلى و لم يستنثر فقد صلى بغير طهور
تنبيه على غلط : ذكر بعض أصحابنا ـ فيما نقل إلينا عنه ـ أن القبر الذي غرس عليه النبي صلى الله عليه و سلم العسيب هو قبر سعد بن معاذ و هذا باطل و إنما صح أن القبر ضغطه كما ذكرنا ثم فرج عنه و كان سبب ذلك ما رواه [ يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال : حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد : ما بلغكم في قول رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا ؟ قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن ذلك فقال : كان يقصر في بعض الطهور من البول ] و ذكر هناد بن السري [ حدثنا ابن فضيل عن أبي سفيان عن الحسن قال : أصاب سعد بن معاذ جراحة فجعله النبي صلى الله عليه و سلم عند امرأة تداويه فقال إنه مات من الليلة فأتاه جبريل فأخبره : لقد مات الليلة فيكم رجل لقد اهتز العرش لحب لقاء الله إياه فإذا هو سعد بن معاذ قال قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم في قبره فجعل يكبر و يهلل و يسبح فلما خرج قيل له : يا رسول الله ما رأيناك صنعت هكذا قط قال : إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة فدعوت الله تعالى أن يرفه عنه و ذلك أنه كان لا يستبرىء من البول ] و قال السالمي أبو محمد عبد الغالب في كتابه و أما أخبار في عذاب القبر فبالغه مبلغ الاستفاضة منها قوله صلى الله عليه و سلم في سعد بن معاذ : [ لقد ضغطته الأرض اختلفت لها ضلوعه ] قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي عنهم : فلم ننقم من أمره شيئا إلا أنه كان لا يستنزه في أسفاره من البول
قلت : فقوله صلى الله عليه و سلم : [ ثم فرج عنه ] دليل على أنه جوزي على ذلك التقصير منه لا أنه يعذب بعد ذلك في قبره هذا لا يقوله أحد إلا شاك مرتاب في فضله و فضيلته و نصحه ونصيحته رضي الله عنه أترى من اهتز له عرش الرحمن و تلقت روحه الملائكة الكرام فرحين بقدومها عليهم و مستبشرين بوصولها إليهم
يعذب في قبره بعدما فرج عنه ؟ هيهات هيهات لا يظن ذلك إلا جاهل بحقه غبي بفضيلته و فضله رضي الله عنه و أرضاه و كيف يظن ذلك و فضائله شهيرة و مناقبه كثيرة ! خرجها البخاري و مسلم و غيرهما و هو الذي أصاب حكم الرحمن في بني قريظة من فوق سبع سموات أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم في البخاري و مسلم و غيرهما
باب منه
البيهقي [ عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في هذه الآية { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام } الآية قال : أتي بفرس فحمل عليه قال : كل خطوة منهى أقصى بصره فسار و سار معه جبريل فأتى على قوم يزرعون في كل يوم و يحصدون في كل يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال المهاجرون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف { و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه و هو خير الرازقين } ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم شيء من ذلك فقال : يا جبريل من هؤلاء ! قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة قال : ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع و على أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام الضريع و الزقوم و رضف جهنم و حجارتها قال : ما هؤلاء يا جبريل : قال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم و ما ظلمهم الله و ما الله بظلام للعبيد ثم أتى على قوم بين أياديهم لحم في قدر نضيج و لحم آخر خبيث فجعلوا يأكلون من الخبيث و يدعون النضيج الطيب فقال ياجبريل : من هؤلاء ؟ قال هذا الرجل يقوم و عنده امرأة حلالا طيبا فياتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر به شيء إلا قصفته قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال يقول الله عز و جل { و لا تقعدوا بكل صراط توعدون } ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها و هو يريد أن يزيد عليها قال يا جبريل : ما هذا ؟ قال : هذا رجل من أمتك عليه أمانة لا يستطيع أداءها و هو يزيد عليها ثم أتى على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت و لا يفتر عنهم شيء من ذلك قال : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء الفتنة ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يدخل من حيث خرج و لا يستطيع قال : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الرجل يتكلم الكلمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع ] و ذكر الحديث
و خرج [ من حديث أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال له أصحابه : يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك [ الحديث ] و فيه قال : فصعدت أنا و جبريل فإذا بملك يقال له اسماعيل و هو صاحب سماء الدنيا : و بين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف ملك قال : و قال الله تعالى : { و ما يعلم جنود ربك إلا هو } فاستفتح جبريل ثم قال : فإذا أنا بآدم كهيئة يوم خلقه الله على صورته تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة و نفس طيبة اجعلوها في عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الكافرين فيقول : روح خبيثة اجعلوها في سجين ثم مضت هنيهة فإذا أنا بأخونة ـ يعني بالخوان المائدة التي يؤكل عليها ـ و عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد و إذا أنا بأخوانة أخرى عليها لحم قد أروح و أنتن عندها ناس يأكلون منها قلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك يتركون الحلال و يأتون الحرام قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر يقول : اللهم لا تقم الساعة قال : و هم على سابلة آل فرعون قال فتجيء السابلة فتطؤهم قال : فسمعتهم يضجون إلى الله عز و جل قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل قال : فيفتح على أفواههم و يلقمون ذلك الجمر ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله عز و جل قلت : يا جبريل نت هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا } قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن فسمعتهن يضججن إلى الله عز و جل قلت : ياجبريل من هؤلاء النساء ؟ قال : هؤلاء الزناة من أمتك قال : ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بقوم يقطع من جنوبهم اللحم قيلقمون فيقال له : كل ما كنت تأكل من لحم أخيك قلت : يا حبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الهمازون اللمازون من أمتك ] و ذكر الحديث
و ذكر أبو داود [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون و جوههم و صدورهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم ]
باب ماجاء في بشرى المؤمن في قبره
قال كعب الأحبار : إذا وضع العبد الصالح في قبره احتوشته أعماله الصالحة فتجيء ملائكة العذاب من قبل رجليه : قتقول الصلاة : إليكم عنه قيأتون من قبل رأسه فيقول الصيام : لا سبيل لكم عليه فقد أطال ظمأه لله عز و جل في دار الدنيا فيأتون من قبل جسمه فيقول الحج و الجهاد : إليكم عنه فقد أنصب نفسه و أتعب بدنه و حج و جاهد لله عز و جل لا سبيل لكم عليه فيأتون من قبل يديه فتقول الصدقة : كفوا عن صاحبي فكم من صدقة خرجت من هاتين اليدين حتى و قعت في يد الله عز و جل ابتغاء لوجهه فلا سبيل لكم عليه قال : فيقال له : نم هنيئا طبت حيا و طبت ميتا
قلت : هذا لمن أخلص في عمله و صدق الله في قوله و فعله و أحسن نيته له في سره و جهره فهو الذي تكون أعماله حجة له و دافعة عنه فلا تعارض بين هذا الباب و بين ما تقدم من الأبواب فإن الناس مختلفو الحال في خلوص الأعمال و الله أعلم
باب ما جاء في التعوذ من عذاب القبر و فتنته
النسائي [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و عندي امرأة من اليهود و هي تقول : إنكم تفتنون في القبور فارتاع رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : إنما يفتن يهود قال عائشة : فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل شعرت أنه أوحى إلي
: أنكم تفتنون في القبور ؟ قال عائشة : فسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يستعيذ من عذاب القبر ]
و رورى الأئمة [ عن أسماء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : و إنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا أو مثل فتنة الدجال لا أدري أي ذلك ؟ قالت أسماء : يؤتى بأحدكم فيقال له : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن أو الموقن فيقول : هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات و الهدى فأجبنا و أطعنا ثلاث مرات ثم يقال له : نم قد نعلم إنك لتؤمن به فنم صالحا و أما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري أي ذلك ؟ قالت أسماء : فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلت ] لفظ مسلم
و خرج البخاري [ عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعو : اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر و من عذاب النار و من فتنة المحيا و الممات و من فتنة المسيح الدجال ] و الأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا أخرجها الأثبات الثقات
باب ما جاء أن البهائم تسمع عذاب القبر
مسلم [ عن زيد بن ثابت قال : بينما النبي صلى الله عليه و سلم في حائط لبني النجار على بغلة له و نحن معه إذ جاء به فكادت تلقيه و إذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة كذا كان الحريري يقول فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر ؟ فقال رجل : أنا قال : فمتى مات هؤلاء ؟ قال ماتوا في الإشراك فقال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع ]
و خرج أيضا [ عن عائشة رضي الله عنها أنه قالت : دخلت علي عجوزان من عجائز يهود المدينة فقالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قالت فكذبتهما و لم أنعم أن أصدقهما فخرجتا و دخل على رسول الله فقلت : يا رسول الله إن عجوزين من عجائز يهود المدينة قالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قال النبي صلى الله عليه و سلم صدقتا إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم قالت : فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر ] خرجه البخاري أيضا و قال : [ تسمعه البهائم كلها ] و خرج هناد بن السري في زهده [ حدثنا وكيع عن الأعمش عن شفيق عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخلت علي يهودية فذكرت عذاب القبر فكذبتها فدخل النبي صلى الله عليه و سلم علي فذكرت ذلك له فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده إنهم ليعذبون في قبورهم حتى تسمع البهائم أصواتهم ]
فصل : قال علماؤنا : و إنما حادت به البغلة لما سمعت من صوت المعذبين و إنما لم يسمعه من يعقل من الجن و الإنس لقوله عليه الصلاة و السلام : [ لولا أن لا تدافنوا ] الحديث فكتمه الله سبحانه عنا حتى نتدافن بحكمته الإلهية و لطائفه الربانية لغلبة الخوف عند سماعه فلا نقدر على القرب من القبر للدفن أو يهلك الحي عند سماعه إذ لا يطاق سماع شيء من عذاب الله في هذه الدار لضعف هذه القوى ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس و أين صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد التي يسمعها كل من يليه ؟ و قد قال صلى الله عليه و سلم في الجنازة : [ و لو سمعها انسان لصعق ]
قلت : هذا و هو على رؤوس الرجال من غير ضرب و لا هوان فكيف إذا حل به الخزي و النكال و اشتد عليه العذاب و الوبال ؟ فنسأل الله معافاته و مغفرته و عفوه و رحمته بمنه
حكاية : قال أبو محمد عبد الحق : حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان ـ و كان من أهل العلم و العمل رحمه الله ـ أنهم دفنوا ميتا بقريتهم من شرق إشبيلية فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون و دابة ترعى قريبا منهم فإذا الدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع ثم ولت فارة كذلك ـ فعلت مرة بعد أخرى ـ قال أبو الحكم رحمه الله : فذكرت عذاب القبر و قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنهم ليعذبون عذابا تسمعه البهائم ] و الله عز و جل أعلم بما كان من أمر ذلك الميت ذكر هذه الحكاية لما قرأ القارىء هذا الحديث في عذاب القبر : و نحن إذ ذاك نسمع عليه كتاب مسلم بن الحجاج رضي الله عنه
باب ما جاء أن الميت يسمع ما يقال
مسلم [ عن أنس بن مالك : عمر بن الخطاب حدث عن أهل بدر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول : هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله قال فقال عمر : فو الذي بعثه بالحق نبيا ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهى إليهم فقال : يا فلان بن فلان هل و جدتم ما وعدكم الله و رسوله حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ؟ فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا و عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ترك قتلى بدر ثلاثا فقام عليهم فناداهم فقال : يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد و جدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ماو عدني ربي حقا ! فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله كيف يسمعون ! و أنى يجيبون ! وقد جيفوا ؟ قال جهنم و الذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا ] ثم أمر بهم فسحبوا فالفوا في قليب بدر
فصل : اعلم رحمك الله أن عائشة رضي الله عنها قد أنكرت هذا المعنى
و استدلت بقوله تعالى : { فإنك لا تسمع الموتى } و قوله { و ما أنت بمسمع من في القبور } و لا تعارض بينهما لأنه جائز أن يكونوا يسمعون في وقت ما أو في حال ما فإن تخصيص العموم ممكن و صحيح إذا و جد المخصص و قد و جد هنا بدليل ما ذكرناه ـ و قد تقدم ـ و بقوله عليه الصلاة و السلام : [ إنه ليبسمع قرع نعالهم ] و بالمعلوم من سؤال الملكين للميت في قبره و جوابه لهما و غير ذلك مما لا ينكر و قد ذكر ابن عبد البر في كتاب التمهيد و الاستذكار من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه و رد علي السلام صححه أبو محمد عبد الحق و جيفوا معناه : أنتنوا
باب قوله تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا } الآية
مسلم ] عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة } قال : نزلت في عذاب القبر يقال له من ربك ؟ فيقول : الله ربي و نبي محمد فذلك محمد قوله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة }
و في رواية أنه قول البراء و لم يذكر النبي صلى الله عليه و سلم
قلت : و هذا الطريق و إن كان موقوفا فهو لا يقال من جهة الرأي فهو محمول على أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله كما في الرواية الأولى و كما خرجه النسائي و ابن ماجه في سننهما و البخاري في صحيحه و هذا لفظ البخاري :
[ حدثنا جعفر بن عمر قال : حدثنا شعبة بن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا أقعد العبد المؤمن في قبره أتى ثم يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فذلك قوله : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } الآية ] و خرجه أبو داود في سننه فقال فيه [ البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فذلك قوله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة } ] و قد مضى هذا المعنى في حديث البراء الطويل مرفوعا و الحمد الله
و قد روى هذا الخبر [ أبي هريرة و ابن مسعود و ابن عباس و أبو سعيد الخدري قال أبو سعيد الخدري : كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن و تفرق عنه أصحابه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال : ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمنا قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله فيقول له صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقول له هذا منزلك لو كفرت بربك و أما الكافر و المنافق فيقول له : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري فيقال له : لا دريت و لا تليت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ كفرت فإن الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين ]
قال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلا هيل عند ذلك [ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء } ]
فصل : صحت الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم في عذاب القبر على الجملة فلا مطعن فيها و لا معارض لها و جاء فيما تقدم من الآثار : أن الكافر يفتن في قبره و يسأل و يهان و يعذب قال أبو محمد عبد الحق : و اعلم أن عذاب القبر ليس مختصا بالكافرين و لا موقوفا على المنافقين بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين و كل على حال من عمله و ما استوجبه من خطبئته و زلله و إن كانت تلك النصوص المتقدمة في عذاب القبر إنما جاءت في الكافر و المنافق قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد : الآثار الثابتة تدل على : أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق ممن كان منسوبا إلى أهل القبلة و دين الإسلام من حقن دمه بظاهر الشهادة و أما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه و دينه و نبيه و إنما يسأل عن هذا أهل الإسلام و الله أعلم فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت و يرتاب المبطلون قال ابن عبد البر و في حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ] و منهم من يرويه تسأل و على هذا الفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصت بذلك و هذا أمر لا يقطع عليه و الله أعلم
و قال أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول : و إنما سؤال الميت في هذه الأمة خاصة لأن الأمم قبلنا كانت الرسل تأتيهم بالرسالة فإذا أبوا كفت الرسل و اعتزلوا و عوجلوا بالعذاب فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم بالرحمة و أمانا للخلق فقال : { و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } أمسك عنهم العذاب و أعطى السيف حتى يدخل في دين الإسلام من دخل لمهابة السيف ثم يرسخ في قلبه فأمهلوا فمن هنا ظهر أمر النفاق فكانوا يسرون الكفر و يعلنون الإيمان فكانوا بين المسلمين في ستر فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سترهم بالسؤال و ليميز الله الخبيث من الطيب فيثبت الثابت في الحياة الدنيا و يضل الله الظالمين
قال المؤلف : قول أبي محمد عبد الحق أصوب و الله أعلم فإن الأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على : أن الكافر يسأله الملكان و يختبرانه بالسؤال و يضرب بمطارق من حديد على ما تقدم و الله أعلم
باب ما ينجي المؤمن من أهوال القبر و فتنته و عذابه
و ذلك خمسة أشياء : رباط قتل قول بطن زمان
الأول : روى مسلم [ عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : رباط يوم و ليلة خير من صيام شهر و قيامة و إن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله و أجرى عليه رزقه و أمن من الفتان ] فالرباط من أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت كما جاء في حديث العلاء بن عبد الرحمن [ عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة ] [ الحديث ] و قد تقدم و هو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم و كذلك ما أخرجه ابن ماجه و أبو نعيم من أنه يلحق الميت بعد موته فإن ذلك مما ينقطع بنفاده و ذهابه كالصدقة بنفادها و العلم بذهابه و الولد الصالح بموته و النخل بقطعه إلى غير ذلك مما ذكر و الرباط يضاعف أجره لصاحبه إلى يوم القيامة لقوله عليه الصلاة و السلام : [ و إن مات أجرى عليه عمله ] و قد جاء مفسرا مبينا في كتاب الترمذي [ عن فضالة بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة و يأمن من فتنة القبر ] قال : حديث حسن صحيح و أخرجه أبو داود بمعناه و قال : [ و يؤمن من فتاني القبر ] و لا معنى للنماء إلا المضاعفة و هي غير موقوفة على سبب فتنقطع بانقطاعه بل هي فضل دائم من الله تعالى لأن أعمال البر لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو و التحرز منهم بحراسته بيضة الدين و إقامة شعائر الإسلام و هذا العمل الذي يجري عليه ثوابه هو ما كان يعمله من الأعمال الصالحة
و خرجه ابن ماجه بإسناد صحيح [ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من مات مرابطا في سبيل الله أجرى الله عليه عمله الصالح الذي كان يعمل و أجرى عليه و أمن من الفتان و يبعثه رزقه الله أمينا من الفزع الأكبر ]
و خرج أبو نعيم الحافظ [ عن جبير بن بكير و كبير بن مرة و عمرو بن الأسود عن العرباض بن سارية رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمي عليه عمله يجري عليه رزقه إلى يوم الحساب ]
و في هذا الحديث و حديث فضالة بن عبيد قيد ثان و هو : الموت حالة الرباط و الله أعلم
و روى [ عن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها و قيامها ]
و روي [ عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها و قيامها و رباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من شهر رمضان أفضل عند الله و أعظم أجرا ] أراه قال : [ من عبادة ألف سنة صيامها و قيامها فإن رده الله إلى أهله سالما لم يكتب عليه سيئة ألف سنة و يكتب له من الحسنات و يجري له أجر الرباط إلى يوم القيامة ] فدل هذا الحديث على أن رباط يوم في شهر رمضان يحصل به الثواب الدائم و إن لم يمت مرابطا و الله أعلم أخرجه عن محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا محمد بن يعلى السلمي حدثنا عمرو بن صبيح عن عبد الرحمن بن عمرو عن مكحول عن أبي بن كعب فذكره
مسألة الرباط : هو الملازمة في سبيل الله مأخوذ من ربط الخيل ثم سمي ملازم لثغر من ثغور المسلمين : مرابطا فارسا كان أو راجلا و اللفظة مأخوذة من الرباط و قول النبي صلى الله عليه و سلم في منتظري الصلاة : [ فذلكم الرباط ] إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله و الرباط اللغوي هو الأول و هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما فأما سكان الثغور دائما بأهلهم الذي يعمرون و يكتسبون هناك فهم و إن كانوا حماة فليسوا بمرابطين قاله علماؤنا و قد بيناه في كتاب الجامع لأحكام القرآن من سورة آل عمران و الحمد لله
الثاني : روى النسائي [ عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رجلا قال يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأس فتنة ]
و خرج ابن ماجة في سننه و الترمذي في جامعه و غيرهما [ عن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة و يرى مقعده من الجنة و يجار من عذاب القبر و يأمن من الفزع الأكبر و يوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا و ما فيها و يزوج إثنتين و سبعين زوجة من الحور العين و يشفع في سبعين من أقاربه ] لفظ الترمذي و قال حديث حسن صحيح غريب و قال ابن ماجه : [ يغفر له في أول دفعه من دمه قال : و يحلى حلة الإيمان ] بدل : [ و يوضع على رأسه تاج الوقار ] قال ابن ماجه : حدثنا هشام بن عمار حدثنا إسماعيل بن عياش قال : حدثني بجير بن سعد و قال الترمذي : حدثنا عيد الله بن عبد الرحمن قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا بقية بن الوليد عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معدي كرب فذكره
قال المؤلف و وقع في جميع نسخ الترمذي و ابن ماجه : [ ست خصال ] و هي في متن الحديث : [ سبع ] و على ما ذكر ابن ماجه : [ و يحلى بحلة الإيمان ] تكون ثمانية و كذا ذكره [ أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد بسنده عن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : للشهيد عند الله ثمانية خصال ]
الثالث : روى الترمذي [ عن ابن عباس قال : ضرب رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم خباءه على قبره و هو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ضربت خبائي على قبر و أنا لا أحسب أنه قبر فإذا بقبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فقال صلى الله عليه و سلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر ] قال حديث حسن غريب و خرج أيضا عنه صلى الله عليه و سلم : [ أن من قرأها كل ليلة جاءت تجادل عن صاحبها ] و روي أنها المجادلة تجادل عن صاحبها يعني قارئها في القبر و روي أن من قرأها كل ليلة لم يضره الفتان
و أنبأنا الشيخ الفقيه الإمام المحدث أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي بثغر الإسكندرية حماه الله قال : حدثني الشيخ الصالح أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري ابن أخي الشيخ الإمام أبي بكر قال : حدثني الشيخ الشريف أبو محمد يونس بن أبي الحسين بن أبي البركات الهاشمي البغدادي حدثنا أبو الوقت عن الداودي عن الحموي عن أبي إسحاق إبراهيم بن خزيم الشاشي عن عبد الله بن حميد الكشي عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال الرجل : بلى يا ابن عباس رحمك الله قال : { تبارك الذي بيده الملك } احفظها و علمها أهلك و جمع ولدك و صبيان بيتك و جيرانك فإنها المنجية و المجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها و تطلب له إلى ربها أن ينجيه من عذاب النار إذا كانت في جوفه و ينجي الله بها صاحبها من عذاب القبر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي ] و أخبرناه عاليا الشيخ المحدث أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأنصاري التلمساني بثغر الإسكندرية عن شيخه الشريف أبي محمد يونس عن أبي الوقت و قد تقدم : أن قراءة الرجل { قل هو الله أحد } في مرض الموت تنجي من ذلك
الرابع : روى ابن ماجه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات مريضا مات شهيدا و وقى فتنة القبر و غدى و ريح عليه برزقه من الجنة ]
و خرج النسائي [ عن جامع بن شداد قال : سمعت عبد الله بن يسار يقول : كنت جالسا عند سليمان بن صرد و خالد بن عرفطة فذكرا أن رجلا مات ببطنه فإذا هما يشتهيان أن يشهدا جنازته فقال أحدهما للآخر : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : من يقتله بطنه لم يعذب في قبره ] أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده قال : حدثنا شعبة قال أخبرني جامع بن شداد فذكره و زاد فقال الآخر : بلى
الخامس : روى الترمذي [ عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر ] قال هذا حديث حسن غريب و ليس إسناده بمتصل ربيعة بن سيف إنما يروي عن عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو و لا نعرف لربيعة بن سيف سماعا من عبد الله بن عمرو
قلت : قد خرجه أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول متصلا [ عن ربيعة بن سيف الإسكندري عن عياض بن عقبة الفهري عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتنة القبر ] و خرجه علي بن معبد عنه ـ أعني عبد الله بن عمرو الترمذي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقى فتنة القبر ] و أخرجه أبو نعيم الحافظ [ من حديث محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أجير من عذاب القبر و جاء يوم القيامة و عليه طابع الشهداء ] غريب من حديث جابر و محمد تفرد به عمر بن موسى الوجيهي و هو مدني فيه لين عن محمد بن جابر
فصل : قلت : اعلم رحمك الله أن هذا الباب لا يعارض ما تقدم من الأبواب بل يخصصها و يبين من لا يسأل في قبره و لا يفتن فيه ممن يجري عليه السؤال و يقاسي تلك الأهوال و هذا كله ليس فيه مدخل للقياس و لا مجال للنظر فيه و إنما فيه التسليم و الانقياد لقول الصادق المرسل إلى العباد صلى الله عليه و سلم
و قد روى ابن ماجه في سننه [ عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخل الميت في قبره مثلت له الشمس عند غروبها فيجلس فيمسح عينيه و يقول : دعوني أصلي ] و لعل هذا ممن وقى فتنة القبر فلا تعارض و الحمد لله
فصل : قوله عليه السلام في الشهيد [ كفي ببارقة السيوف على رأسه فتنة ] معناه : أنه لو كان في هؤلاء المقتولين نفاق كان إذا التقى الزحفان و برقت السيوف فروا لأنه من شأن المنافق : الفرار و الروغان عند ذلك و من شأن المؤمن : البذل و التسليم لله نفسا و هيجان حمية الله و التعصب له لإعلاء كلمته فهذا قد أظهر صدق ما في ضميره حيث برز للحرب و القتل فلماذا يعاد عليه السؤال في القبر ؟ قاله الترمذي الحكيم
قلت : و إذا كان الشهيد لا يفتن فالصديق أجل خطرا و أعظم أجرا فهو أحرى أن لا يفتن لأنه المقدم ذكره في التنزيل على الشهداء في قوله تعالى : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء } و قد جاء في المرابط الذي هو أقل مرتبة من الشهيد أنه لا يفتن فكيف بمن هو أعلى مرتبة منه و من الشهيد ؟ و الله أعلم فتأمله
فصل : قوله عليه السلام : [ من مات مريضا مات شهيدا ] عام في جميع الأمراض لكن قيده قوله في الحديث الآخر : [ من يقتله بطنه ] و فيه قولان :
أحدهما : أنه الذي يصيبه الذرب و هو الإسهال تقول العرب أخذه البطن إذا أصابه الداء و ذرب الجرح إذا لم يقبل الدواء و ذربت معدته فسدت
الثاني : أنه الاستسقاء و هو أظهر القولين فيه لأن العرب تنسب موته إلى بطنه تقول قتله بطنه يعنون الداء الذي أصابه في جوفه و صاحب الاستسقاء قل إن يموت إلا بالذرب فكأنه قد جمع الوصفين و غيرهما من الأمراض و الوجود شاهد للميت بالبطن إن عقله لا يزال حاضرا و ذهنه باقيا إلى حين مكوته و مثل ذلك صاحب السل إذ موت الآخر إنما يكون بالذرب و ليست حالة هؤلاء كحال من يموت فجأة أو من يموت بالسام و البرسام و الحميات المطبقة أو القولنج أو الحصاة فتغيب عقولهم لشدة الآلام و لزوم أدمغتهم و لفساد أمزجتها فإذا كان الحال هكذا فالميت يموت و ذهنه حاضر و هو عارف و الله أعلم
باب منه
أبو نعيم قال : [ حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا ابن سعيد قال : حدثنا محمد بن حرب الواسطي قال : حدثنا نصر بن حماد قال : حدثنا همام قال : حدثنا محمد بن حجادة عن طلحة بن مصرف قال : سمعت خيثمة بن عبد الرحمن يحدث عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من وافق موته عند انقضاء رمضان دخل الجنة و من وافق موته عند انقضاء عرفة دخل الجنة و من وافق موته عند انقضاء صدقته دخل الجنة ] غريب من حديث طلحة لم نكتبه إلا من حديث نصر عن همام
باب ما جاء أن الميت يعرض عليه مقعده بالغداة و العشي
البخاري و مسلم [ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعدة بالغداة و العشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة و إن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ]
فصل : قوله : [ عرض عليه مقعده ] و يروى : [ عرض على مقعده ] قال علماؤنا : و هذا ضرب من العذاب كبير و عندنا المثال في الدنيا وذلك كمن عرض عليه القتل أو غيره من آلات العذاب أو من يهدد به من غير أن يرى الآلة و نعوذ بالله من عذابه و عقابه بكرمه و رحمته و جاء في التنزيل في حق الكافرين { النار يعرضون عليها غدوا و عشيا } فأخبر تعالى أن الكافرين يعرضون على النار كما أن أهل السعادة يعرضون على الجنان بالخبر الصحيح في ذلك و هل كان مؤمن يعرض على الجنان ؟ فقيل ذلك مخصوص بالمؤمن الكامل الإيمان و من أراد الله إنجاءه من النار و أما من أنفذ الله عليه وعيده من الخلطين الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا فله مقعدان يراهما جميعا كما أنه يرى عمله شخصين في وقتين أو في وقت واحد قبيحا و حسنا و قد يحتمل أن يراد بأهل الجنة كل من يدخلها كيفما كان و الله أعلم
ثم قيل هذا العرض إنما هو على الروح وحده و يجوز أن يكون مع جزء من البدن و يجوز أن يكون عليه مع جميع الجسد فيرد إليه الروح كما ترد عند المسألة حين يقعده الملكان و يقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة و كيفما كان فإن العذاب محسوس و الألم موجود و الأمر شديد و قد ضرب بعض العلماء لتعذيب الروح مثلا في النائم فإن روحه تعذب أو تنعم و الجسد لا يحس بشيء من ذلك و قال عبد الله بن مسعود : أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النار كل يوم مرتين يقال لهم : هذه دراكم فذلك قوله تعالى : { النار يعرضون عليها غدوا و عشيا } و عنه أيضا : أن أرواحهم في جوف طير سود تغدو على جهنم و تروح كل يوم مرتين فذلك عرضها
و روى شعبة عن يعلى بن عطاء قال : سمعت ميمون بن ميسرة يقول : كان أبو هريرة إذا أصبح ينادي : أصبحنا و الحمد لله و عرض آل فرعون على النار و إذا أمسى ينادي : أمسينا و الحمد لله و عرض آل فرعون على النار فلا يسمع أيا هريرة أحد إلا تعوذ بالله من النار و قد قيل : إن أرواحهم في صخرة سوداء تحت الأرض السابعة على شفير جهنم في حواصل طير سود و الغداة و العشي إنما هو بالنسبة إلينا على ما اعتدناه لا لهم إذ الآخرة ليس فيها مساء و لا صباح فإن قيل فقد قال الله تعالى : { و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا } قلنا : الجواب عنهما واحد و سيأتي له مزيد بيان في وصف الجنان إن شاء الله تعالى
باب ما جاء أن أرواح الشهداء في الجنة دون أرواح غيرهم
يدل على ذلك قوله عليه الصلاة و السلام في حديث [ ابن عمر : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ] و هذه حالة مختصة بغير الشهداء
و في صحيح مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية : { و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } فقال : [ أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئا ؟ قالوا : أي شيء نشتهي و نحن نسرح في الجنة حيث نشاء ؟ ففعل بهم ذلك ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ]
فصل : قلت : و هنا اعتراضات خمسة :
الأول : إن قيل : ما قولكم في الحديث الذي ذكرتم [ ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه و رد عليه السلام ] ؟ قلنا : هو عموم يخصصه ما ذكرناه فهو محمول على غير الشهداء
الثاني : فإن قيل : فقد روى مالك [ عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه ] ؟ قلنا : قال أهل اللغة تعلق بضم اللام تأكل يقال علقت تعلق علوقا و يروى يعلق بفتح اللام و هو الأكثر و معناه : تسرح و هذه حالة الشهداء لا غيرهم بدليل الحديث المتقدم و قوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } و لا يرزق إلا حي فلا يتعجل الأكل و النعيم لأحد إلا للشهيد في سبيل الله بإجماع من الأمة حكاه القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين و غير الشهيد بخلاف هذا الوصف إنما يملأ عليه قبره خضرا و يفسح له فيه و قوله : نسمة المؤمن أي روح المؤمن الشهيد يدل عليه قوله في نفس الحديث [ حتى يرجعه الله تعالى إلى جسده يبعثه ]
الثالث : فإن قيل : فقد جاء أنه الأرواح تتلاقى في السماء و الجنة في السماء يدل على قوله عليه السلام : [ إذا دخل رمصان فتحت أبواب السماء ] و في رواية أبواب الجنة ؟ قلنا : لا يلزم من تلاقي الأرواح في السماء أن يكون تلاقيها في الجنة بل أرواح المؤمنين غير الشهداء تارة تكون في الأرض على أفنية القبور و تارة في السماء لا في الجنة و قد قل إنها تزور قبورها كل يوم جمعة على الدوام و لذلك تستحي زيارة القبور ليلة الجمعة و يوم الجمعة و بكرة السبت فيما ذكر العلماء و الله أعلم
قال ابن العربي : و بحديث الجرائد يستدل الناس على أن الأرواح في القبور تعذب أو تنعم و هو أبين في ذلك من حديث ابن عمر في الصحيح [ إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة و العشي ] لأن عرض مقعده ليس فيه بيان عن موضعه الذي يراه منه و حديث الجرائد نص على أن أولئك يعذبون في قبورهم و كذلك حديث اليهود
قلت : و يحتمل على ما ذكرناه و الله أعلم : أن يكون قوله عليه السلام : [ ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيا و روحه في قبره إلا عرفه ورد عليه السلام ] حتى لا تتناقض الأخبار و الله أعلم
الرابع : فإن قيل فقد قال صلى الله عليه و سلم : [ و الذي نفسي بيده لو أن رجلا قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي و عليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه ]
و هذا يدل على أن ببعض الشهداء لا يدخلون الجنة من حين القتل و لا تكون أرواحهم في جوف طير و لا تكون في قبورهم فأين تكون ؟ قلنا : قد خرج ابن وهب بإسناده [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة و عشيا ] فلعلهم هؤلاء أو من منعه من دخول الجنة حقوق الآدميين إذ الدين ليس مختصا بالمال على ما يأتي و لهذا قال علماؤنا أحوال الشهداء طبقات مختلفة و منازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون و قد تقدم قوله عليه السلام : [ من مات مريضا مات شهيدا و غدى و ريح برزقه من الجنة ] و هذا نص في أن الشهداء مختلفو الحال و سيأتي : كم الشهداء ؟ إن شاء الله تعالى
الخامس : فإن قيل : فقد روي ابن ماجه [ عن أبي أمامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لشهيد البحر مثل شهيدي البر و المائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر و ما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله عز و جل و إن الله و كل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم و يغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا لدين و لشهيد البحر الذنوب كلها و الدين ؟ ] قلنا : الدين إذا أخذه المرء في حق واجب لفاقة أو عسر و مات و لم يترك وفاء فإن الله تعالى لا يحيسه عن الجنة إن شاء الله شهيدا كان أو غيره لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من ترك دينا أو ضياعا فعلى الله و رسوله و من ترك مالا فلورثته فإن لم يؤد عنه السلطان فإن الله تعالى يقضي عنه و يرضى خصمه ]
و الدليل على ذلك ما رواه ابن ماجه في سننه [ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الدين يقتص أو مقتص من صاحبه يوم القيامة إذا مات إلا من تدين في ثلاث خلال : الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين ليتقوى به لعدو الله و عدوه و رجل يموت عنده رجل مسلم لا يجد ما يكفنه فيه و يواريه إلا بدين و رجل خاف على نفسه العزبة فينكح خشية على دينه فإن الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة ] و أما من دان في سفه أو سرف فمات و لم يوفه أو ترك له وفاء و لم يوص به أو قدر على الأداء فلم يوفه فهذا الذي يجس به صاحبه عن الجنة حتى يقع القصاص بالحسنات و السيئات على ما يأتي فيحتمل أن يكون قوله عليه السلام في شهيد البحر عاما في الجميع و هو الأظهر لأنه لم يفرق بين دين و دين و يحتمل أن يكون قوله فيمن أدان و لم يفرط في الأداء و كان عزمه و نيته الأداء لا إتلاف المال على صاحبه و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه و من أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ] خرجه البخاري
على أن حديث أبي أمامة في إسناده لين و أعلى منه إسنادا و أقوى ما رواه مسلم [ عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين ] و لم يخص برا من بحر و كذلك ما رواه أبو قتادة : [ أن رجلا قال : يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر الله عني خطاياي ؟ فقال له رسول الله : نعم إن قتلت في سبيل الله و أنت صابر محتسب مقبل غير مدبر ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف قلت ؟ فقال : أرأيت إن قتلت في سبيل الله أيكفر الله عني خططاياي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم و أنت صابر محتبل و مقبل غي مدبر إلا الدين فإن جبريل قال لي ذلك ]
و خرج أبو نعيم الحافظ بإسناده [ عن قاضي البصريين شريح عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول يا ابن آدم فيم أضعت حقوق الآدميين ؟ فيم أذهبت أموالهم ؟ فيقول : يا رب لم أفسده و لكن أصبت إما غرقا أو حرقا فيقول الله عز و جل : أنا أحق من قضى عنك اليوم فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة ] رواه من طرق و قال يزيد بن هارون في حديثه [ فيدعو الله تعالى بشيء فيضعه في ميزانه فيثقل ] غريب من حديث شريح تفرد به صدقة بن أبي موسى عن أبي عمران الجوني
قلت : هذا نص في قضاء الله سبحانه الدين إذا لم يؤخذ على سبيل الفساد و الحمد لله الموفق للسداد و المبين على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم ما أبهم و استغلق من مشكل على العباد و قد قال بعض العلماء : إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى و إنما قيل لها : المأوى لأنها تأوي إليها أرواح المؤمنين و هي تحت العرش فيتنعمون بنعيمها و يتنسمون من طيب ريحها و هي تسرح في الجنة و تأوي إلى قناديل من نور تحت العرش و ما ذكرناه أولا أصح و الله أعلم
و قد روى ابن المبارك : أخبرنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال : حدث عبد الله بن عمرو بن العاص قال : أرواح المؤمنين في طير كحالزرازير يتعارفون يرزقون من الجنة أخبرنا ابن لهيعة قال : حدثني يززيد بن أبي حبيب أن منصور بن أبي منصور حدثه قال سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقلت أخبرني عن أرواح المسلمين أين هي حين يتوفون ؟ قال : ما تقولون أنتم يا أهل العراق ؟ قلت : لا أدري قال : فإنها صور طير بيض فيظل العرش و أرواح الكافرين في الأرض السابعة و ذكر الحديث
قلت : فهذه حجة من قال : إن أرواح المؤمنين كلهم في الجنة و الله أعلم على أنه يحتمل أن يدخله من التأويل ما تقدم و الله أعلم فيكون بالمعنى : أرواح المؤمنين الشهداء و كذا فقلت : أخبرني عن أرواح المؤمنين الشهداء و الله أعلم
و روى ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد أنه سمعه ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إن أرواح الشهداء تجول في طير خضر
فصل : وقع في حديث ابن مسعود : [ أرواحهم في جوف طير خضر ] و في حديث مالك : [ نسمة المؤمن طائر ] و روى الأعمش عن عبد الله بن مرة قال : سئل عبد الله بن مسعود عن أرواح الشهداء ؟ فقال : أرواح الشهداء عند الله كطير خضر في قناديل تحتة العرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم ترجع إلى قناديلها و ذكر الحديث
و روى ابن شهاب [ عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أرواح الشهداء طير خضر تعلق في شجر الجنة ] و هذا كله مطابق لحديث مالك فهو أصح من رواية من روى أن أرواحهم في جوف طير خضر قاله أبو عمر في الاستذكار و قال أبو الحسن القابسي : أنكر العلماء قول من قال في حواصل طير لأنها رواية غير صحيحة لأنها إذا كانت كذلك فهي محصورة مضيق عليها
قلت : الرواية صحيحة لأنها في صحيح مسلم بنقل العدل عن العدل فيحتمل أن تكون الفاء بمعنى على فيكون المعنى أرواحهم على جوف طير خضر كما قال تعالى : { و لأصلبنكم في جذوع النخل } أي على جذوع النخل و جائز أن يسمى الظهر : جوفا : إذا هو محيط به و مشتمل عليه قال أبو محمد عبد الحق : و هو حسن جدا
و ذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب الإفصاح المنعم على جهات مختلفة منها ما هو طائر يعلق من شجر الجنة و منها ما هو في حواصل طير خضر و منها ما يأوي في قناديل تحت العرش و منها ما هو في حواصل طير بيض و منها ما هو في حواصل طير كالزرازير و منها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة و منها ما هو في صور تخلق لهم من ثواب أعمالهم و منها ما تسرح و تعود إلى جثتها تزورها و منها ما تتلقى أرواح المقبوضين و ممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل و منها ما هو في كفالة آدم و منها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام و هذا قول حسن فإنه يجمع الأخبار حتى لا تتدافع و الله بغيبه أعلم و أحكم
باب كم الشهداء ؟ و لم سمي شهيدا ؟ و معنى الشهادة
خرج الآجري و غيره [ عن أبي مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من فصل في سبيل فمات أو قتل فهو شهيد أو وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله إنه شهيد و إن له الجنة ] و أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة بمعناه عن عبد الله بن عتيك عن النبي صلى الله عليه و سلم
الترمذي [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الشهداء خمسة : المبطون و المطعون و الغريق و صاحب الهدم و الشهيد في سبيل الله عز و جل ] و قال : هذا حديث حسن صحيح
النسائي [ عن جابر : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله : المطعون و المبطون و الغرق و الحرق و صاحب ذات الجنب و الذي يموت تحت الهدم و المرأة تموت بجمع ] و قيل : هي التي تموت من الولادة و ولدها في بطنها قد تم خلقه و قيل : إذا ماتت من النفاس فهي شهيدة سواء ألقت ولدها أو ماتت و هو في بطنها و قيل : التي تموت بكرا لم يمسها الرجال و قيل : التي تموت قبل أن تحيض و تطمث فهذه أقوال لكل قول وجه و في جمع لغتان ضم الجيم و كسرها و في بعض الآثار : المجنوب شهيد يريد : صاحب الجنب يقال منه رجل جنب بكسر النون و فتح الجيم إذا كانت به ذات الجنب و هو الشوصة
و في كتاب الترمذي و أبي داود و النسائي عن سعيد بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من قتل دون ماله فهو شهيد و من قتل دون دمه فهو شهيد و من قتل دون دينه فهو شهيد و من قتل دون أهله فهو شهيد ] قال الترمذي : حديث حسن صحيح
و روى النسائي [ من حديث سويد بن مقرن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قتل دون مظلمة فهو شهيد ]
و روى ابن ماجه [ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : موت غربة شهادة ]
و أخرجه الدراقطني و لفظه : [ موت الغريب شهادة ] و ذكره أيضا من حديث ابن عمر و صححه
و أخرجه أبو بكر الخرائطي [ من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات غريبا مات شهيدا ]
و خرجه أيضا [ من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات غريبا مات شهيدا ] : و قد تقدم قوله عليه الصلاة و السلام : [ من مات مريضا مات شهيدا ]
و روى الترمذي [ عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم و قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر و كل الله به سعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات من يومه مات شهيدا و من قرأها حين يمسي فكذلك ] قال حديث حسن غريب
و ذكر الثعلبي [ عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من قرأ آخر سورة الحشر إلى آخرها : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } فمات من ليلته مات شهيدا ]
و خرج الآجري [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا أنس إن استطعت أن تكون أبدا على وضوء فافعل فإن ملك الموت إذا قبض روح العبد و هو على وضوء كتبت له شهادة ]
و روى الشعبي [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صلى الضحى و صام ثلاثة أيام من كل شهر و لم يترك الوتر في حضر و لا سفر كتب له أجر شهيد ] خرجه أبو نعيم
و روى من حديث [ أبي هريرة و أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا جاء الموت طالب العلم و هو على حاله مات شهيدا ] و بعضهم يقول : [ ليس بينه و بين الأنبياء إلا درجة واحدة ] ذكره أبو عمر في كتاب بيان العلم
و خرج مسلم [ من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من طلب الشهادة صادقا أعطيها و إن لم تصبه ] و [ عن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء و إن مات على فراشه ]
و خرج الترمذي الحكيم [ من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس من أحد إلا و له كرائم من ماله يأبى لهم الذبح و إن لله خلقا من خلقه يأبى لهم الذبح : أقواما يجعل موتهم على فرشهم و يقسم لهم أجور الشهداء ]
فصل : الشهداء جمع الشاهد و الشهيد : القتيل في سبيل الله كذا قال أهل اللغة : الجوهري و غيره و سمي بذلك لأنه مشهود له بالجنة فالشهيد بمعنى مشهود له فعيل بمعنى مفعول و قال ابن فارس اللغوي في المجمل : و الشهيد القتيل في سبيل الله قالوا : لأن ملائكة الله تشهده و قيل : سمي شهيدا لأن أرواحهم أحضرت دار السلام لأنهم { أحياء عند ربهم يرزقون } و أرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة و قيل سمي بذلك : لسقوطه بالأرض و الأرض الشاهدة و قيل سمي بذلك : لشهادته على نفسه لله عز و جل حين لزمه الوفاء بالبيعة التي بايعه في قوله الحق { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة } فاتصلت شهادة الشهيد الحق بشهادة العبد فسماه شهيدا و لذلك قال عليه السلام : [ و الله أعلم بمن يكلم في سبيله ] و قال في شهداء أحد : أنا شهيد على هؤلاء لبذلهم نفوسهم دونه و قتلهم بين يديه تصديقا لما جاء به صلى الله عليه و سلم هذا الكلام في شهيد
فأما الشهادة فصفة سمي حاملها بالشاهد و يبالغ بشهيد و للشهادة ثلاثة شروط لا تتم إلا بتمامها و هي : الحضور و الوعي و الأداء أما الحضور : فهو شهود الشاهد المشهود و الوعي : زمى ما شاهده و عمله في شهوده ذلك و الأداء : هو الإيتان بالشهادة على وجهها في موضع الحاجة إلى ذلك هذا معنى الشهادة و الشهادة على الكمال إنما هي لله سبحانه و تعالى و أن جميع الشاهدين سواه يؤدون شهادتهم عنده قال الله سبحانه و تعالى : { و جيء بالنبيين و الشهداء و قضي بينهم بالحق } و الشهداء : هم العدول و أهل العدالة في الدنيا و الآخرة هم القائمون بما أوجب الحق سبحانه عليهم في الدنيا
باب منه
روى النسائي [ عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يختصم الشهداء و المتوفون على فرشهم إلى ربنا في الذين يتوفون من الطاعون فيقول الشهداء : قتلوا كما قتلنا ؟ و يقول المتوفون على فرشهم : إخواننا ماتوا على فرشهم كما متنا ؟ فيقول ربنا عز و جل : انظروا إلى جراحهم فإن أشبهت جراح المقتولين فإنهم منهم فإذا جراحهم أشبهت جراحهم ]
و روت [ عائشة رضي الله عنه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن فناء أمتي بالطعن و الطعون قالت : أما الطعن فقد عرفناه فما الطاعون ؟ قال : غدة كغدة البعير تخرح في المراق و الإباط من مات منها مات شهيدا ] أخرجه أبو عمر في التمهيد و الاستذكار
باب ما جاء أن الإنسان يبلى و يأكله التراب إلا عجب الذنب
مسلم و ابن ماجه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد و هو عجب الذئب و منه يركب الخلق يوم القيامة ] و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق و منه يركب ]
فصل : يقال عجم و عجب بالميم و الباء : لغتان و هو جزء لطيف في أصل الصلب و قيل : هو رأس العصعص كما رواه ابن أبي داود في كتاب البعث [ من حديث أبي سعيد الخدري قيل : يا رسول الله و ما هو ؟ قال : مثل حبة خردل و منه تنشأون ] و قوله : [ منه خلق و منه يركب ] أي أول ما خلق من الإنسان هو ثم إن الله تعالى يبقيه إلى أن يركب الخلق منه تارة أخرى

باب لا تأكل الأرض أجساد الأنبياء و لا الشهداء و أنهم أحياء
قال الله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } و لذلك لا يغسلون و لا يصلى عليهم ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة في شهداء أحد و غيرهم ليس هذا موضع ذكرها
مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح و عبد الله بن عمرو الأنصاريين تم السلميين كانا قد حفر السيل قبرهما و كان قبرهما مما يلى السيل و كان في قبر واحد و هما ممن استشهد يوم أحد فخفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس و كان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن و هو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت و كان بين أحد و بين يوم حفر عنهما ست و أربعون سنة قال أبو عمر : هذا حديث لم يختلف عن مالك في انقطاعه و هو حديث يتصل من وجوه صحاح عن جابر
قال المؤلف رضي الله عنه : و هكذا حكم من تقدمنا من الأمم ممن قتل شهيدا في سبيل الله أو قتل على الحق كأنبيائهم و في الترمذي في قصة أصحاب الأخدود : [ أن الغلام الذي قتله الملك دفن ] قال : فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب و أصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل قال حديث حسن غريب و قصة الأخدود : مخرجه في صحيح مسلم و كانوا بنجران في الفترة بين عيسى و محمد صلى الله عليه و سلم و قد ذكرناها مستوفاه في [ البروج ] في كتاب الجامع لأحكام القرآن و المبين لما تضمن من السنة و آي الفرقان و روى نقلة الأخبار : أن معاوية رحمه الله لما أجرى العين التي استنبطها بالمدينة في وسط المقبرة و أمر الناس بتحويل موتاهم و ذلك في أيام خلافته و بعد الجماعة بأعوام و ذلك بعد أحد بنحو من خمسين سنة فوجدوا على حالهم حتى أن الكل رأوا المسحاة و قد أصابت قدم حمزة ابن عبد المطلب فسال منه الدم و أن جابر بن عبد الله أخرج أباه عبد الله بن حرام كأنما دفن بالأمس و هذا أشهر في الشهداء من أن يحتاج فيه إلى أكثار
و قد روى كافة أهل المدينة أن جدار قبر النبي صلى الله عليه و سلم لما انهدم أيام خلافة الوليد ابن عبد الملك بن مروان و ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة بدت لهم قدم فخافوا أن تكون قدم النبي فجزع الناس حتى روى لهم سعيد بن المسيب رضي الله عنه : [ أن أجساد الأنبياء لا تقيم في الأرض أكثر من أربعين يوما ثم ترفع ] و جاء سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فعرف أنها قدم جده عمر رضي الله عنه و كان رحمه الله قتل شهيدا
و روى عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ المؤذن المحتسب كالمتشحط في دمه قتيلا و إن مات لم يدود في قبره ] و ظاهر هذا : أن المؤمن المحتسب لا تأكله الأرض أيضا
و خرج أبو داود و ابن ماجه في سننهما [ عن أوس بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أفصل أيامكم يوم الجمعة في خلق آدم و فيه قبض و فيه النفخة و فيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي ] قالوا : يا رسول الله و كيف تعرض صلاتنا عليك و قد أرمت ؟ يقولون بليت فقال : [ إن الله عز و جل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ] لفظ أبي داود و قال ابن العربي حديث حسن
قلت : و خرجه أبو بكر البزار عن شداد بن أوس و اتفقوا في السند عن حسين بن علي عن عبد الرحمن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني فقال عن أوس بن أوس أو عن شداد بن أوس و قال البزار : لا يعلم أحدا يرويه بهذا اللفظ إلا شداد بن أوس و لا نعلم له طريقا غير هذا الطريق عن شداد بن أوس و لا رواه إلا حسين بن علي الجعفي و قال أبو محمد عبد الحق و يقال : إن عبد الرحمن هذا هو ابن يزيد بن تميم قاله البخاري و أبو حاتم و هو منكر الحديث ضعيفه
قلت : و قد خرجه ابن ماجه من غير هذا الطريق فقال : [ حدثنا عمرو بن سواد المصري حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن زبد بن أيمن عن عبادة بن نسيء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكثروا علي الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة و إن أحدا لمن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها قال قلت : و بعد الموت ؟ قال : و بعد الموت إن الله حرم على الأرض أن تأكل الأجساد الأنبياء ] فنبي الله حي يرزق صلى الله عليه و سلم و رواه أبو جعفر الطبري في تهذيب الآثار من حديث سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيء عن أبي الدرداء قال أبو محمد عبد الحق : و زيد بن أيمن لا أعلم رواة عنه إلا سعيد بن هلال
قال المؤلف : قال البخاري في التاريخ : زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيء مرسل روي عنه سعيد بن هلال و الله أعلم

باب في انقراض هذا الخلق و ذكر النفخ و الصعق و كم بين النفختين ؟ و ذكر
البعث و النشر و النار
مسلم [ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ـ لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما ـ فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم عليه السلام كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين إثنين عداوة ثم يرسل الله عز و جل ريحا باردة من قبل الشمال فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى إن أحدكم لو دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس في خفة الطير و أحلام السباع لا يعرفون معروفا و لا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان و هم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا و رفع ليتا قال : فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق و يصعق الناس ثم قال يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطل فينبت منه أجساد الناس { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } ثم يقال : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم { وقفوهم إنهم مسؤولون } ثم يقال : أخرجوا بعث النار فيقال : من كم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعين قال : فذلك يوم يجعل الولدان شيبا و ذلك يوم يكشف عن ساق ]
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بين النفختين أربعون قالوا : يا أبا هريرة أربعين يوما ؟ قال : أبيت قالوا : أربعين شهرا ؟ قال : أبيت قالوا ؟ أربعين عاما ؟ قال : أبيت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل قال : و ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا ] و في رواية [ لا تأكله الأرض أبدا ] و هو عجب الذنب و منه يركب الخلق يوم القيامة و عند ابن وهب في هذا الحديث [ فأربعون جمعة ] ؟ قال أبيت و إسناده منقطع
فصل : هذان الحديثان مع صحتهما في غاية البيان فيما ذكرناه و يزيدهما أيضا بيانا في أبواب و يأتي ذكر الدجال مستوعبا في الأشراط إن شاء الله تعالى و أصغى معناه : أمال ليتا يعني صفحة العنق و يلوط معناه : يطين و يصلح و قول أبي هريرة أبيت : فيه تأويلان
الأول : أبيت أي امتنعت من بيان ذلك تفسيره و على هذا كان عنده علم من ذلك أي سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم
الثاني : أبيت أي أبيت أن أسأل عن ذلك النبي صلى الله عليه و سلم و على هذا لم يكن عنده علم من ذلك و الأول أظهر و إنما لم يبينه لأنه لم ترهق لذلك حاجة و لأنه ليس من البينات و الهدى الذي أمر بتبليغه و في البخاري عنه أنه قال : حفظت وعاءين من علم فأما أحدهما فبثثته و أما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم قال أبو عبد الله : البلعوم : مجرى الطعام و قد جاء أن بين النفختين أربعين عاما و الله أعلم و سيأتي
و ذكر هناد بن السدي قال : حدثنا وكيع عن سفيان عن السدي سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية { له ما بين أيدينا و ما خلفنا وما بين ذلك } فلم يجبني فسمعنا أنه ما بين النفختين حدثنا وكيع عن أبي جعفر الرازي عن أبي العالية و ما بين ذلك قال : ما بين النفختين و الله أعلم
باب في قول الله تعالى
{ و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله }
و هم الملائكة أو الشهداء أو الأنبياء أو حملة العرش أو جبريل أو ميكائيل أو ملك الموت صعق : مات
روى الأئمة عن أبي هريرة قال : قال رجل من اليهود بسوق المدينة : و الذي اصطفي موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال : تقول هذا و فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فذكرت ذلك لرسول الله قال الله عز و جل { و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله و من قال : [ أنا خبر من يونس بن متى : فقد كذب ] لفظ ابن ماجه أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر و أخرجه الترمذي عن أبي كريب محمد بن العلاء قال : حدثنا عبدة بن سليمان جميعا عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال الترمذي : حديث حسن صحيح و أخرجه البخاري و مسلم بمعناه
فصل : و اختلف العلماء في المستثنى : من هو ؟ فقيل الملائكة و قيل الأنبياء و قيل الشهداء و اختاره الحليمي قال : و هو مروي عن ابن عباس أن الاستتثناء لأجل الشهداء فإن الله تعالى يقول : { أحياء عند ربهم يرزقون } و ضعف غيره من الأقوال على ما يأتي و قال شيخنا أبو العباس : و الصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح و الكل محتمل
قلت : قد ورد حديث أبي هريرة بأنهم الشهداء و هو الصحيح على ما يأتي : و أسند النحاس في كتاب معاني القرآن له حدثنا الحسين بن عمر الكوفي قال : حدثنا هناد بن السرى قال : حدثنا وكيع عن شعبة عمارة ابن أبي حفصة عن حجر الهجري عن سعيد بن جبير في قول الله عز و جل { إلا من شاء الله } قال : هم الشهداء هم ثنية الله عز و جل متقلدو السيوف حول العرش و قال الحسن : استثنى طوائف من الملائكة يموتون بين النفختين
قال يحيى بن سلام في تفسيره : بلغني أن آخر من يبقى منهم : جبريل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت ثم يموت جبريل و ميكائيل و إسرافيل ثم يقول الله عز و جل لملك الموت : مت فيموت و قد جاء هذا مرفوعا في حديث أبي هريرة الطويل على ما يأتي و قيل : هم حملة العرش و جبريل و ميكائيل ملك الموت
و قال الحليمي : من زعم أن الاستثناء لأجل حملة العرش أو جبريل و ميكائيل و ملك الموت أو زعم أنه لأجل الولدان و الحور العين في الجنة أو زعم أنه لأجل موسى فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أنا أول من تنشق عنه الأرض فأرفع رأسي فإذا موسى متعلق بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله عز و جل ] ؟ فإنه لم يصح شيء منها
أم الأول : فإن حملة العرش ليسوا من سكان السموات و الأرض لأن العرش فوق السموات كلها فكيف يكون حملته في السموات ؟ و أما جبريل و ميكائيل و ملك الموت فمن الصافين المسبحين حول العرش و إذا كان العرش فوق السموات لم يكن الاصطفاف حوله في السموات و كذلك القول الثاني لأن الولدان و الحور في الجنة و الجنات و إن كان بعضها أرفع من بعض فإن جميعها فوق السموات و دون العرش و هي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله تعالى للفناء و صرفه إلى موسى فلا وجه لأنه قد مات بالحقيقة فلا يموت عند نفخ الصور ثانية و لهذا لم يعتد في ذكر اختلاف المتأولين في الاستثناء بقول من قال : إلا من شاء الله أي الذين سبق موتهم قبل نفخ الصور لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة فأما من لا يمكن دخوله في الجملة فيها فلا معنى لاستثنائه منها و الذين ماتوا قبل نفخ الصور ليسوا بغرض أن يصعقوا فلا وجه لاستثنائهم و هذا في موسى موجود فلا وجه لاستثنائه
و قال النبي صلى الله عليه و سلم في ذكر موسى ما يعارض الرواية الأولى و هو أن قال : [ الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور ؟ ] فظاهر هذا الحديث : أن هذه صعقة غشى تكون يوم القيامة لا صعقة الموت الحادثة عن نفخ الصور
و صرف ذكر يوم القيامة إلى أنه أراد أوائله قيل : المعنى : أن الصور إذا نفخ فيه أخرى كنت أول من يرفع رأسه فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور ؟ أي فلا أدري أبعثه قبلي كان وهبا له و تفصيلا من هذا الوجه كما فضل في الدنيا بالتكليم أو كان جزاء له بصعقة الطور أي قدم بعثه على بعث الأنبياء الأخرين بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل إلى أن أفاق ليكون هذا جزاء له بها
و ما عدا هذا فلا يثبت قال شيخنا أحمد بن عمر : و ظاهر حديث النبي صلى الله عليه و سلم يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية نفخة البعث و نص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق و لما كان هذا قال بعض العلماء : يحتمل أن يكون موسى عليه السلام ممن لم يمت من الأنبياء و هذا باطل بما تقدم من ذكر موته و قال القاضي عياض : يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السموات و الأرض قال : فتستقل الأحاديث و الآيات و الله أعلم
قال شيخنا أبو العباس : و هذا يرده ما جاء في الحديث أنه عليه السلام حين يخرج من قبره يلقى موسى و هو متعلق بالعرش و هذا إنما هو عند نفخة البعث قال شيخنا أحمد بن عمر : و الذي يزيح هذا الإشكال إن شاء الله تعالى أن الموت ليس بعدم محض و إنما هو انتقال من حال إلى حال و يدل على ذلك : أن الشهداء بعد قتلهم و موتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين و هذه صفة الأحياء في الدنيا و إذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق و أولى مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ] و أن النبي صلى الله عليه و سلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس و في السماء و خصوصا بموسى و قد أخبرنا النبي صلى الله عليه و سلم بما يقتضي ان الله تبارك و تعالى يرد عليه روحه حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا تدركهم و إن كانوا موجودين أحياء و ذلك كالحال في الملائكة فإنهم موجودون أحياء و لا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامة من أوليائه و إذا تقرر أنهم أحياء فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق كل من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله فأما صعق غير الأنبياء فموت و أما صعق الأنبياء فالأظهر : أنه غشية فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حيي و من غشي عليه أفاق و كذلك قال صلى الله عليه و سلم في صحيح مسلم و البخاري : [ فأكون أول من يفيق ] و هي رواية صحيحة و حسنة فنبينا صلى الله عليه و سلم أول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم قبل الأنبياء و غيرهم إلا موسى فإنه حصل له فيه تردد : هل بعث قبله من غشيته أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقا لأنه حوسب بغشية الطور ؟ و هذه فضيلة عظيمة في حق موسى عليه السلام و لا يلزم من فضيلة أحد الأمرين المشكوك فيهما فضيلة موسى عليه السلام على محمد مطلقا لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمرا كليا و الله أعلم
قال المؤلف : ما اختاره شيخنا هو ما ذكره الحليمي و اختاره في قوله فإن حمل عليه الحديث فذاك قال الحليمي : و أما الملائكة الذين ذكرناهم صلوات الله عليهم فإنا لم ننف عنهم الموت و لا أحلناه و إنما أبينا أن يكونوا هم المرادين بالاستثناء من الوجه الذين ذكرناه ثم قد وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش و ملك الموت و ميكائيل ثم يميت آخر من يميت : جبريل و يحييه مكانه و يحي هؤلاء الملائكة الذي ذكرناهم و أما أهل الجنة فلم يأت عنهم خبر : و الأظهر أنها دار الخلد فالذي يدخلها لا يموت فيها أبدا مع كونه قابلا للموت و الذي خلق فيها أولى ألا يموت فيها أبدا و أيضا فإن الموت لقهر المكلفين و نقلهم من دار إلى دار و أهل الجنة لم يبلغنا أن عليهم تكليفا فإن أعفوا من الموت كما أعفوا من التكليف لم يكن بعيدا فإن قيل : فقد قال الله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } و هو يدل على أن الجنة نفسها تفنى ثم تعاد يوم الجزاء فلم أنكرتم أن يكونوا الولدان و الحور يموتون ثم يحيون ؟ قيل : يحتمل معنى قوله : { كل شيء هالك إلا وجهه } أي ما من شيء إلا و هو قابل للهلاك فيهلك إن أراد الله به ذلك إلا وجهه أي إلا هو سبحانه فإنه تعالى قديم و القديم لا يمكن أن يفنى و ما عداه محدث و المحدث إنما يبقى قدر ما يبقيه محدثه فإذا حبس البقاء عنه فني و لم يبلغنا في خبر صحيح و لا معلول أنه يهلك العرش فلتكن الجنة مثله
فصل : قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث : [ و من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب ] للعلماء في تأويلات : أحسنها و أجملها ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي قال : أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أنه سئل : هل الباري في جهة ؟ فقال : لا هو متعال عن ذلك قيل له : ما الدليل عليه ؟ قال الدليل عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تفضلوني على يونس بن متى ] فقيل له : ما وجه الدليل من هذا الخبر ؟ فقال لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينا فقام رجلان فقالا : هي علينا فقال : لا يتبع بها اثنين لأنه يشق عليه فقال واحد : هي علي فقال : إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر فالتقمته الحوت و صار في قعر البحر في ظلمات ثلاث و نادى { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } كما أخبر الله و لم يكن محمد صلى الله عليه و سلم حين جلس على الرفرف الأخضر و ارتقى به صعدا حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام و ناجاه ربه بما ناجاه به و أوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس في ظلمة البحر
قال المؤلف : فالله سبحانه قريب من عباده يسمع دعاءهم و لا يخفى عليه حالهم كيف ما تصرفت من غير مسافة بينه و بينهم فيسمع و يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء تحت الأرض السفلى كما يسمع و يرى تسبيح حملة عرشه من فوق السبع السموات العلى سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب و الشهادة أحاط بكل شيء علما و أحصى كل شيء عددا و لقد أحسن أبو العلاء بن سليمان المغربي حيث يقول :
( يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل )
( و يرى مناط عروقها في لحمها ... و المخ في تلك العظام النحل )
( أجالها محتومة أرزاقها ... مقسومة بعطا و إن لم تسأل )
( فلقد سألتك بالنبي محمد ... الهاشمي المدثر المزمل )
( إمنن علي بتوبة تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول )
باب يفنى العباد و يبقى الملك الله وحده
البخاري و مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقبض الله الأرض يوم القيامة و يطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ] ؟ و [ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يطوي الله السماء يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرض بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ] انفرد به مسلم
و [ عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : يأخذ الله سماواته و أرضيه بيده فيقول : أنا الله و يقبض أصابعه و يبسطها فيقول : أنا الملك ] حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل حتى إني أقول : أساقط هو برسول الله صلى الله عليه و سلم
فصل : هذه الأحاديث تدل على أن الله سبحانه يفني جميع خلقه أجمع كما تقدم ثم يقول الله عز و جل : { لمن الملك اليوم } فيجيب نفسه المقدسة بقوله : { لله الواحد القهار }
و قيل : إن المنادي ينادي بعد حشر الخلق على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص الله عليها على ما يأتي { لمن الملك اليوم } فيجيبه العباد { لله الواحد القهار } رواه أبو وائل عن ابن مسعود و اختاره أبو جعفر النحاس قال : و القول صحيح عن ابن مسعود و ليس هو مما يؤخذ بالقياس و لا بالتأويل
قال المؤلف رضي الله عنه : و القول الأول أظهر لأن المقصود إظهاره انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعوى المدعين و انتساب المنتسبين إذ قد ذهب كل ملك و ملكه و كل جبار و متكبر و ملكه و انقطعت نسبتهم و دعاويهم و هذا أظهر و هو قول الحسن و محمد بن كعب و هو مقتضى قوله الحق : [ أنا المالك أين ملوك الأرض ] ؟
و في حديث أبي هريرة [ ثم يأمر الله عز و جل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق فيصعق من في السموات و من في الأرض إلا ما شاء الله فإذا اجتمعوا أمواتا جاء ملك الموت إلى الجبار فيقول : قد مات أهل السماء و الأرض إلا ما شئت فيقول الله سبحانه ـ و هو أعلم ـ من بقي ؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت و بقي حملة العرش و بقي جبريل و ميكائيل و إسرافيل و بقيت أنا فيقول الله عز و جل : ليمت جبريل و ميكائيل فينطق الله عز و جل العرش فيقول أي رب يموت جبريل و ميكائيل ؟ فيقول : اسكت إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي فيموتان قال : ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار جل جلاله فيقول يا رب قد مات جبريل و ميكائيل قيول الله سبحانه ـ و هو أعلم ـ من بقي ؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت و بقي حملة عرشك و بقيت أنا فيقول : ليمت حملة العرش فيموتون فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يقول : ليمت إسرافيل فيموت ثم يأتي ملك الموت فيقول يا رب قد مات حملة عرشك فيقول ـ و هو أعلم ـ من بقي ؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت و بقيت أنا فيقول الله : أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة و لا ولدا { لم يلد و لم يولد * و لم يكن له كفوا أحد } فكان كما كان أولا طوى السماء كطي السجل للكتاب ثم قال : أنا الجبار { لمن الملك اليوم } فلم يجبه أحد فيقول جل ثناؤه و تقدست أسماؤه { لله الواحد القهار } ]
قلت : حديث أبي هريرة هذا فيه طول و هذا وسطه و يأتي آخره في الباب بعد هذا و يأتي أوله بعد ذلك إن شاء الله تعالى فيتصل جميعه إن شاء الله تعالى ذكره الطبري و علي بن معبد و الثعلبي و غيرهم
و في حديث لقيط بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصيحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات و الملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك يطوف في البلاد و قد خلت عليه البلاد ] و ذكر الحديث و هو حديث فيه طول خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده و غيره الأوزاعي
قال علماؤنا : قوله : [ فأصبح ربك يطوف بالبلاد و قد خلت عليه البلاد ] إنما هو تفهم و تقريب إلى أن جميع من في الأرض يموت و أن الأرض تبقى خالية و ليس يبقى إلا الله كما قال : { كل من عليها فان * و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام } و عند قوله سبحانه { لمن الملك اليوم } هو انقطاع زمن الدنيا و بعده يكون البعث و النشر و الحشر على ما يأتي و في فناء الجنة و النار عند فناء جميع الخلق قولان :
أحدهما : يفنيهما و لا يبقى شيء سواه و هو معنى قوله الحق : { هو الأول و الآخر } و قيل : إنه مما لا يجوز عليهما الفناء و إنهما باقيان بإبقاء الله سبحانه و الله أعلم و قد تقدم في الباب قبل هذا الإشارة إلى ذلك و قد قيل : إنه ينادي مناد فيقول : { لمن الملك اليوم } ؟ فيجيبه أهل الجنة : { لله الواحد القهار }
فصل : في بيان ما أشكل من الحديث من ذكر اليد و الأصابع
إن من قائل : ما تأويل اليد عندكم و اليد حقيقتها في الجارحة المعلومة عندنا و تلك التي يكون القبض و الطي بها ؟ قلنا : لفظ الشمال أشد في الإشكال
و ذلك في الإطلاق على الله محال
و الجواب : أن اليد في كلام العرب لها خمسة معان : تكون بمعنى القوة و منه قوله تعالى : { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } و تكون بمعنى الملك و القوة و منه قوله تعالى : { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } و تكون بمعنى النعمة تقول العرب : كم يد لي عند فلان أي كم من نعمة أسديتها إليه و تكون بمعنى الصلة و منه قوله تعالى { مما عملت أيدينا أنعاما } أي مما عملنا نحن و قال تعالى : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } أي الذي له النكاح و تكون بمعنى الجارحة
ومنه قوله تعالى : { و خذ بيدك ضغثا فاضرب به و لا تحنث } و قو له في الحديث [ بيده ] عبارة عن قدرته و إحاطته بجميع مخلوقاته يقال : ما فلان إلا في قبضتي بمعنى : ما فلان إلا في قدرتي و الناس يقولون : الأشياء في قبضة الله يريدون في ملكه و قدرته و قد يكون معنى القبض و الطي : إفناء الشيء و إذهابه فقوله عز و جل : { و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة } يحتمل أن يكون المراد به الأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة و قوله : { و السماوات مطويات بيمينه } ليس يريد به طيا بعلاج و انتصاب و إنما المراد بذلك الفناء و الذهاب يقال : قد انطوى عنا ما كنا فيه و جاءنا غيره و انطوى عنا دهر بمعنى المضي و الذهاب
فإن قيل : فقد قال في الحديث : [ و يقبض أصابعه و يبسطها ] و هذه حقيقة الجارحة ؟ قلنا : هذا مذهب المجسمة من اليهود و الحشوية و الله تعالى متعال عن ذلك و إنما المعنى حكاية الصاحب عن النبي صلى الله عليه و سلم : يقبض أصابعه و يبسطها و ليس معنى اليد في الصفات بمعنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع فدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي كان يقبض أصابعه و يبسطها قال الخطابي و ذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب و السنة المقطوع بصحتهما
فإن قيل : فقد ورد ذكر الأصابع في غير ما حديث فما جوابكم عنه ؟ فقد روى البخاري و مسلم قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم رجل من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل السموات على أصبع و الأرضين على أصبع و الشجر على أصبع و الثرى على أصبع و الخلائق على أصبع ؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه فأنزل الله عز و جل { و ما قدروا الله حق قدره و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه } و روى [ عن عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها حيث يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ] و مثله كثير قيل له : اعلم أن الأصابع قد يكون بمعنى الجارحة و الله تعالى يتقدس عن ذلك و يكون بمعنى القدرة على الشيء و يسارة تقليبه كما تقول من استسهل شيئا و استخفه مخاطبا لمن استثقله : أنا أحمله على أصبعي و ارفعه علي بأصبعي و أمسكه بخنصري و كما يقال من أطاع بحمل شيء : أنا أحمله على عيني و أفعله على رأسي يعني به الطواعية و ما أشبه ذلك قد قال في معناه و هو كثير و مما قال عنترة و قيل ابن زيادة التيمي :
( الرمح لا أملأ كفي به ... و اللبد لا أتبع تزواله )
يريد أنه لا يتكلف أن يجمع كفه فيشتمل على الرمح لكن يطعن به خلسا بأصابعه لخفة ذلك عليه و قوله : لا أتبع تزواله : أي إذا مال لم أمل معه
يقول : أنا ثابت على ظهر الخيل لا يضرني فقد بعض الآلة و لا تغير السرج عما يريده الراكب يصف نفسه بالفروسية في الركوب و الطعن فلما كانت السموات و الأرض أعظم الموجودات قدرا و أكبرها خلقا كان إمساكها بالنسبة إلى الله تعالى كالشيء الحقير الذي نجعله نحن بين أصابعنا و نهزه بأيدينا و نتصرف فيه كيف شئنا فتكون الإشارة بقوله : [ ثم يقبض أصابعه و يبسطها ] و بقوله : [ ثم يهزهن ] كما جاء في بعض طرق مسلم و غيره أي هي في قدرته كالحبة مثلا في كف أحدنا التي لا نبالي بإمساكها و لا بهزها و لا تحريكها و لا القبض و البسط عليها و لا نجد في ذلك صعوبة و لا مشقة و قد يكون الأصبع أيضا في كلام العرب بمعنى النعمة و هو المراد بقوله عليه السلام : [ إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن ] أي بين نعمتين من نعم الرحمن يقال : لفلان علي أصبع أي أثر حسن إذا أنعم عليه نعمة حسنة و للراعي على ماشيته أصبع أي أثر حسن و أنشد الأصمعي للراعي :
( ضعيف العصي بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس أصبعا )
و قال آخر :
( صلاة و تسبيح و إعطاء سائل ... و ذي رحم تبل منك أصبع )
أي أثر حسن و قال آخر :
( من يجعل الله عليه أصبعا ... في الخير و الشر يلقاه معا )
فإن قيل : كيف جاز إطلاق الشمال على الله تعالى و ذلك يقتضي النقص ؟ قيل : هو مما انفرد به عمر بن حمزة عن سالم و قد روى هذا الحديث نافع و عبد الله بن مقسم عن ابن عمر لم يذكرا فيه الشمال و رواه أبو هريرة و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم و لم يذكر فيه واحد منهم الشمال
و قال البيهقي و روى ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذه القصة إلا أنه ضعبف بمرة و كيف يصح ذلك و صحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سمى كلتا يديه يمينا ؟ و كان من قال ذلك أرسله من لفظه على ما وقع له أو على عادة العرب في ذكر الشمال في مقابلة اليمين
قال الخطابي : ليس فيما يضاف إلى الله عز و جل من صفة اليد شمال لأن الشمال محل النقص و الضعف و قد روى [ كلتا يديه يمين ] و ليس معنى اليد عندنا الجارحة و إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت و لا نكفيها
و ننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب و السنة المأثورة الصحيحة و هو مذهب أهل السنة و الجماعة و قد يكون اليمين في كلام العرب بمعنى القدرة و الملك و منه قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانكم } يريد بها الملك و قال { لأخذنا منه باليمين } أي بالقوة و القدرة أي أخذنا قدرته و قوته قال الفراء : اليمين القوة و القدرة و أنشد :
( إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين )
و قال آخر :
( و لما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيميني )
( فقلت : شنيفا ثم فاران بعده ... و كان على الآيات غير أمين )
قلت : و على هذا التأويل تخرج الآية و الحديث و الله أعلم و قد تكون اليمين في كلام مالك العرب بمعنى : التبجيل و التعظيم يقال عندنا باليمين أي بالمحل الجليل و منه قول الشاعر :
( أقول لناقتي إذ بلغتني ... لقد أصبحت عندي باليمين )
أي بالمحل الرفيع و أما قوله : كلتا يديه يمين فإنه فإنه أراد بذلك التمام و الكمال و كانت العرب تحب التيامن و تكره التياسر لما في التياسر من النقصان و في التيامن من التمام فإن قيل : فأين يكون الناس عند طي الأرض و السماء ؟ قلنا : يكونون على الصراط على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
باب البرزخ
روى هناد بن السري قال حدثنا محمد بن فضيل و وكيع عن فطر قال سألت مجاهدا عن قول الله تعالى : { و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } قال هو مابين الموت و البعث و قيل للشعبي : مات فلان قال : ليس هو في الدنيا و لا في الآخرة هو في برزخ و البرزخ في كلام العرب الحاجز بين الشيئين و من قوله تعالى : { و جعل بينهما برزخا } أي : حاجزا و كذلك هو في الآية من وقت الموت إلى البعث فمن مات فقد دخل في البرزخ و قوله تعالى : { و من ورائهم برزخ } أي من أمامهم و بين أيديهم
باب ذكر النفخ الثاني للبعث في الصور
و بيانه و كيفية البعث و بيانه و أول من تنشق عنه الأرض و أول من يحيى من الخلق و بيان السن الذي يخرجون عليه من قبورهم و في لسانهم و بيان قوله تعالى { و ألقت ما فيها و تخلت } قال الله عز و جل { يوم ينفخ في الصور عالم الغيب و الشهادة } و قال : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون } و قال { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } و قال { يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا } و سماه الله تعالى أيضا بالناقور في قوله تعالى { فإذا نقر في الناقور }
قال المفسرون : الصور ينقر فيه مع النفخ الأول لموت الخلق على ما يأتي بيانه قال الله تعالى مخبرا عن كفار قريش { ما ينظرون } أي ما ينظرون كفار آخر هذه الأمة الدائنون بدين أبي جهل و أصحابه ـ إلا صيحة واحدة ـ يعني النفخة الأولى التي يكون بها هلاكهم { تأخذهم و هم يخصمون } أي يختصمون في أسواقهم و حوائجهم قال الله : { لا تأتيكم إلا بغتة } { فلا يستطيعون توصية } أي أن يوصوا { و لا إلى أهلهم يرجعون } أي من أسواقهم و حيث كانوا { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون } { و نفخ في الصور فإذا هم من الأجداث } النفخة هي النفخة الثانية نفخة البعث و الصور : قرن من نور يجعل فيه الأرواح يقال إن فيه من الثقب على عدد أرواح الخلائق على ما يأتي قال مجاهد هو كالبوق ذكره البخاري فإذا نفخ فيه صاحب الصور النفخة الثانية ذهب كل روح إلى جسده { فإذا هم من الأجداث } أي القبور { ينسلون } أي يخرجون سراعا يقال نسل ينسل و ينسل بالضم أيضا : إذا أسرع في مشيه فالمعنى يخرجون مسرعين و في الخبر : أن بين النفختين أربعين عاما و سيأتي و في البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى : { فإذا نقر في الناقور } : الصور : قال : و [ الراجفة ] النفخة الأولى [ و الرادفة ] الثانية
و روي عن مجاهد أنه قال : للكافرين هجعة قبل يوم القيامة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قاموا مذعورين عجلين ينظرون مايراد بهم لقوله تعالى : { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } و قد أخبر الله عز و جل عن الكفار أنهم يقولون { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } ؟ فيقول لهم الملائكة أو المؤمنون على اختلاف المفسرين { هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون } و قيل إن الكفار هم القائلون : { هذا ما وعد الرحمن } و ذلك أنهم لما بعثوا لما بعثوا قال بعضهم لبعض { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } ؟ صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به ثم قالوا : { هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون } فكذبنا به أقروا حين لم ينفعهم الإقرار ثم يؤمر بحشر الجميع إلى الموقف للحساب
و قال عكرمة : إن الذين يغرقون في البحر تقتسم لحومهم الحيتان فلا يبقى منهم شيء إلا العظام فنلقيها الأمواج إلى الساحر فتمكث حينا ثم تصير حائلة نخرة ثم تمر بها الإبل فتأكلها ثم تسير الإبل فتبعر ثم يجيء قوم فينزلون فيأخذون ذلك البعر فيوقدونه ثم تخمد تلك النار فيجيء الريح فيلقي ذلك الرماد على الأرض فإذا جاءت النفخة { فإذا هم قيام ينظرون } يخرج أولئك و أهل القبور سواء { إن كانت إلا صيحة واحدة } أي نفخة واحدة { فإذا هم جميع لدينا محضرون }
قال علماؤنا رحمهم الله : فالنفخ في الصور إنما هو سبب لخروج أهل القبور و غيرهم فيعيد الله الرفات من أبدان الأموات و يجمع ما تفرق منها في البحار و بطون السباع و غيرها حتى تصير كهيئاتها الأولى ثم يجعل فيها الأرواح فتقوم الناس كلهم أحياء حتى السقط فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن السقط ليظل محبنطئا على باب الجنة و يقال له : ادخل الجنة فيقول لا حتى يدخل أبواي ] و هذا السقط هو الذي تم خلقه و نفخ فيه الروح قال الله تعالى : { و إذا الموؤدة سئلت } فدل على أن المؤودة تحشر و تسأل و من قبرها تخرج و تبعث و أما من لم ينفخ فيه الروح فهو سائر الأموات سواء قاله الحاكم أبو الحسين بن الحسن الحليمي رحمه الله في كتاب منهاج الدين له و بالحقيقة إنما خروج الخلق بدعوة الحق قال الله تعالى : { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده } فتقومون فتقولون : سبحانك اللهم و بحمدك قالوا : فيوم القيامة يوم يبدأ بالحمد و يختم به قال الله تعالى : { يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده } و قال في آية أخرى { و قضي بينهم بالحق و قيل الحمد لله رب العالمين }
ابن ماجه قال : [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عباد بن العوام عن حجاج بن عطية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن صاحبي الصور بأيديهما ـ أو في أيديهما ـ قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران ]
الترمذي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ما لصور ؟ قال : قرن ينفخ فيه ] قال هذا حديث حسن
[ و عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كيف أنعم و صاحب الصور قد التقم القرن و استمع الإذن متى يؤمر بالنفخ ] ؟ فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فقال لهم : قولوا : { حسبنا الله و نعم الوكيل } قال حديث حسن
[ وروي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ماأطرق صاحب الصور منذ وكل به مستعدا بحذاء العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريات ] أخرجه أبو الحسن بن صخر في فوائده وغيره
[ و خرج ابن المبارك و مؤمل بن إسماعيل و علي بن معبد عن ابن مسعود حديثا ذكر فيه قال : ثم يقوم ملك الصور بين السماء و الأرض فينفخ فيه و الصور قرن فلا يبقى لله خلق في السموات والأرض إلا مات إلا ما شاء ربك ثم يكون بين النفختين ماشاء الله أن يكون فليس من بني آدم خلق إلا و في الأرض شيء منه ] زاد [ مؤمل بن إسماعيل قال سفيان ـ يعني الثوري ـ عجب الذنب قال : فيرسل الله ماء من تحت العرش : منيا كمني الرجال فتنبت جثمانهم و لحمانهم كما تنبت الأرض من الثرى ] ثم قرأ عبد الله { و الله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور } قال : [ ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فينطلق كل نفس إلى جسدها حتى تدخل فيه ثممون فيجيبون إجابة رجل واحد قياما لرب العالمين ] و قال ابن المبارك و مؤمل : [ ثم يقومون فيحيون تحية واحدة ]
و ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام قال : حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبد الله بن مسعود قال : [ فيقومون فيحيون تحية رجل واحد قياما لرب العالمين ] قوله [ فيحيون ] التحية تكون في حالين :
أحدهما : أن يضع يديه على ركبتيه و هو قائم و هذا هو المعنى الذي في هذا الحديث ألا تراه يقول : [ قياما لرب العالمين ]
و الوجه الآخر : أن ينكب على وجهه باركا و هذا هو الوجه المعروف عند الناس و قد حمله بعض الناس على قوله [ فيخرون سجدا لرب العالمين ] فجعل السجود هو التحية و هذا هو الذي يعرفه الناس من التحية
[ و روي عن علي بن معبد عن أبي هريرة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و نحن في طائفة من أصحابه و ساق الحديث بطوله إلى قوله جل ثناؤه و تقدست أسماؤه { لله الواحد القهار } ثم { تبدل الأرض غير الأرض و السماوات } فيبسطها بسطا ثم يمدها مد الأديم العكاظي { لا ترى فيها عوجا و لا أمتا } ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل ما كانوا فيه من الأولى : من كان في بطنها و من كان على ظهرها كان على ظهرها ثم ينزل الله عليكم ماء من تحت العرش يقال له : ماء الحياة فتمطر السماء عليكم أربعين سنة حتى يكون الماء من فوقكم اثني عشر ذراعا ثم يأمر الله عز و جل الأجساد فتنبت كنبات الطراثيث و كنبات البقل حتى إذا تكلمت أجسادكم فكانت كما كانت يقول الله عز و جل : ليحى حملة العرش فيحيون ثم يقول : ليحى جبريل و ميكائيل و إسرافيل فيأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور ثم يدعو الله تعالى الأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نورا والأخرى مظلمة فيأخذها الله فيلقيها في الصور ثم يقول لإسرافيل انفخ نفخة البعث فينفخ فتخرج الأرواح كلها كأمثال النحل قد ملأت ما بين السماء و الأرض فيقول الله عز و جل : و عزتي و جلالي ليرجع كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ثم تدخل في الخياشيم فتمشي في الأجساد مشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنكم و أنا أول من تنشق الأرض عنه فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث و ثلاثين و اللسان يومئذ بالسريانية سراعا إلى ربهم ينسلون { مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر } { ذلك يوم الخروج } { و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا } فتوقفون في موقف عراة غلفا غرلا مقدار سبعين عاما و يعرقون حتى تبلغ منهم الأذقان و يلجمهم فيضجون و يقولون : من يشفع لنا إلى ربنا ] ؟ و ساق الحديث بطوله في الشفاعة و سيأتي حديث الشفاعة في صحيح مسلم و غيره إن شاء الله تعالى
و خرج الختلي أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم في كتاب الديباج له : [ حدثني أبو بكر بن الحارث بن خليفة حدثنا محمد بن جعفر المدائني عن سلام بن مسلم الطويل عن عبد الحميد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله عز و جل { إذا السماء انشقت * و أذنت لربها و حقت } قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري فينفتح لي باب إلى السماء بحيال رأسي حتى أنظر إلى العرش ثم يفتح لي باب من تحتي حتى أنظر إلى الأرض السابعة حتى أنظر إلى الثرى ثم يفتح لي باب عن يميني حتى أنظر إلى الجنة و منازل أصحابي و إن الأرض تحركت تحتي فقلت : ما بالك أيتها الأرض ؟ قالت : أن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي و أن أتخلى فأكون كما كنت إذ لا شيء في فذلك قوله عز و جل : { و ألقت ما فيها و تخلت * و أذنت لربها و حقت } أي سمعت و أطاعت و حق لها أن تسمع و تطيع { يا أيها الإنسان } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا ذلك الإنسان ]
و روي في تفسير قوله تعالى { يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية } إن هذا خطاب للأرواح بأن ترجع إلى أجسادها { إلى ربك } أي صاحبك كما تقول : رب الغلام و رب الدار و رب الدابة أي صاحب الغلام و صاحب الدار و صاحب الدابة { فادخلي في عبادي } أي في أجسادهم من مناخرهم كما ورد في الخبر المتقدم و قد روي أن الله تعالى خلق الصور حين فرغ من خلق السموات والأرض و أن عظم دارته كغلظ السماء و الأرض و في حديث أبي هريرة : [ و الذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه لكعرض السماء والأرض ] و سيأتي و روي : [ أن له رأسين رأسا بالمشرق و رأسا بالمغرب ] فالله أعلم
فصل : الصور : بالصاد قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء و هي نفخة الصعق و يكون معها نقر لقوله تعالى : { فإذا نقر في الناقور } أي في الصور فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر و النفخ لتكون الصيحة أشد و أعظم ثم يمكث الناس أربعيم عاما ثم ينزل الله ماء كمني الرجال على ما تقدم فتكون منه الأجسام بقدرة الله تعالى حتى يجعلهم بشرا كما روي في قصة الذين يخرجون النار قد صاروا حمما إنهم يغتسلون من نهر بباب الجنة فينبتون نبات الحبة في حميل السيل و عن ذلك عبر في حديث أبي هريرة المتقدم في صحيح مسلم و غيره [ فينبتون نبات البقل ] فإذا تهيأت الأجسام و كملت نفخ في الصور نفخة البعث من غير نقر لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها لا تنقيرها من أجسادها فالنفخة الأولى للتنقير و هي نظير صوت الرعد الذي قد يقوى فيمات منه و نظير الصيحة : الصيحة الشديدة التي يصيحها الرجل بصبي فيفزع منه فيموت فإذا نفخ للبعث من غير نقر كما ذكرنا خرجت الأرواح من المجال التي هي فيه فتأتي كل روح إلى جسدها فيحييها الله كل ذلك في لحظة كما قال تعالى : { فإذا هم قيام ينظرون } { ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة } و عند أهل السنة أن تلك الأجساد الدنيوية تعاد بأعيانها و أعراضها بلا خلاف بينهم قال بعضهم : بأوصافها فيعاد الوصف أيضا كما يعاد الجسم و اللون قال القاضي أبو بكر بن العربي : و ذلك جائز في حكم الله و قدرته و هين عليه جميعه و لكن لم يرد بإعادة الوصف خبر
قلت : فيه أخبار كثيرة في هذا الباب بعد هذا
فصل : و ليس الصور جمع صورة كما زعم بعضهم أي ينفخ في صور الموتى بدليل الأحاديث المذكورة و التنزيل يدل على ذلك قال الله تعالى : { ثم نفخ فيه أخرى } و لم يقل : فيها فعلم أنه ليس جمع صورة قال الكلبي : لا أدري ما الصور ؟ و يقال : هو جمع صورة مثب بسرة و بسر أي ينفخ فيصور الموتى : الأرواح و قرأ الحسن : { يوم ينفخ في الصور عالم الغيب و الشهادة }
قلت : و إلى هذا التأويل في أن الصور بمعنى الصور جمع صورة ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى و هو مردود بما ذكرنا و أيضا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين بل ينفخ مرة واحدة و إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن و الله سبحانه يحيي الصور فينفخ فيها الروح كما قال تعالى : { فنفخنا فيه من روحنا } و { نفخت فيه من روحي } قال ابن زيد : يخلق الله الناس في الأرض الخلق الآخر ثم يأمر السماء فتمطر عليهم أربعين يوما فينبتون فيها حتى تنشق عن رؤوسهم كما تنشق عن رأس الكمأة فمثلها يومئذ مثل الماخض تنتظر أن يأتيها أمر الله فتطرحهم على ظهرها فلما كانت تلك النفخة طرحتهم قال علماؤنا : و الأمم مجمعون على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام
قلت : قد جاء حديث يدل على أن الذي ينفخ في الصور غير إسرافيل خرجه أبو نعيم الحافظ قال : حدثنا أحمد بن القاسم قال : حدثنا عفان بن مسلم قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عبد الله بن الحارث قال : كنت عند عائشة و عندها كعب الأحبار فذكر كعب إسرافيل فقالت عائشة : يا كعب أخبرني عن إسرافيل ؟ فقال كعب عندكم العلم قالت : أجل فأخبرني فقال : [ له أربعة أجنحة جناحان في الهواء و جناح قد تسربل به و جناح على كاهله و العرش على كاهله و القلم على أذنه فإذا نزل الوحي كتب القلم ثم درست الملائكة و ملك الصور جاث على إحدى ركبتيه و قد نصب الأخرى ملتقم الصور محنيا ظهره شاخصا ببصره ينظر إلى إسرافيل و قد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور ] قالت عائشة ؟ هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول غريب من حديث كعب لم يروه عنه إلا عبد الله بن الحارث و رواه خالد الحذاء عن الوليد أبي بشر عن عبد الله بن رباح عن كعب نحوه
فصل : قلت : و ما خرجه أبو عيسى الترمذي و غيره يدل على أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه وحده و حديث أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه يدل على أن معه غيره
و قد خرج أبو بكر البزار في مسنده و أبو داود في كتاب الحروف من كتاب السنن [ من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم صاحب الصور فقال : عن يمينه جبريل و عن يساره ميكائيل ] فلعل لأحدهما قرنا آخر ينفخ فيه و الله أعلم
و ذكر أبو السري عناد بن السري التيمي الكوفي قال : حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي عمرو قال : [ ما من صباح إلا و ملكان يقولون : يا طالب الخير أقبل و يا طالب الشر أقصر و ملكان موكلان يقولان : اللهم أعط منفقا خلفا و أعط ممسكا تلفا و ملكان موكلان يقولان سبحان الملك القدوس و ملكان موكلان بالصور ] قال : و حدثنا وكيع عن الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن ضمرة عن كعب قال : [ ما من صباح مثله سواء ] و زاد بعد قوله : [ و ملكان موكلان بالصور : ينتظران متى يؤمران فينفخان ] و عطية لا يحتج أحد بحديثه على ماذكره أبو محمد عبد الحق و غيره
فصل : و اختلف في عدد النفخات : فقيل ثلاث : نفخة الفزع لقوله تعالى { و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله و كل أتوه داخرين } و نفخة الضعف و نفخة البعث لقوله تعالى : { و نفخ في الصور فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون } و هذا اختيار ابن العربي و غيره و سيأتي
و قيل : هما نفختان و نفخة الفزع هي نفخة الصعق لأن لا زمان لها أي فزعوا ماتوا منه و السنة الثابتة على ما تقدم من حديث أبي هريرة و حديث عبد الله بن عمر و غيرهما يدل على أنهما نفختان لا ثلاث و هو الصحيح إن شاء الله تعالى قال الله تعالى : { و نفخ في الصور فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله } فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة و قد روي ابن المبارك [ عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بين النفختين أربعون سنة الأولى : يميت الله تعالى بها كل حي و الأخرى : يحيى الله بها كل ميت ] و سيأتي مزيد بيان إن شاء الله تعالى
و قال الحليمي جهنم اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين سنة و ذلك بعد أن يجمع الله تعالى ما تفرق من أجساد الناس من بطون السباع و حيوانات الماء و بطن الأرض و ما أصاب النيران منها بالحرق و المياه بالغرق و ما أبلته الشمس و ذرته الرياح فإذا جمعها و أكمل كل بدن منها و لم يبقى إلا الأرواح جمع الأرواح في الصور و أمر إسرافيل عليه السلام فأرسلها بنفخة من ثقب الصور فرجع كل ذي روح إلى جسده بإذن الله تعالى
و جاء في بعض الأخبار ما يبين أن من أكله طائر أو سبع : حشر من جوفه و هو ما رواه الزهري [ عن أنس قال : مر رسول الله صلى الله عليه و سلم بحمزة يوم أحد و قد جذع و مثل به فقال : لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى يحشره الله من بطون السباع و الطير ] و قد أنكر بعض أهل الزيغ أن يكون الصور قرنا قال أبو الهيثم : من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش و الصراط و الميزان و طلب لها تأويلات
باب منه في صفة البعث و ما آية ذلك في الدنيا و أول ما يخلق من الإنسان
رأسه
قال الله تعالى { و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون } و قال سبحانه : { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء } إلى قوله { فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها } { كذلك النشور } و الآيات في هذا المعنى كثيرة
و خرج أبو داود الطيالسي و البيهقي و غيرهما [ عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله : كيف يعيد الله الخلق ؟ و ما آية ذلك في خلقه ؟ قال : أما مررت بوادي قومك جدبا ثم مررت به يهتز خضرا ؟ قال : نعم قال : فتلك آية الله في الخلق ]
قلت : هذا حديث صحيح لأنه موافق لنص التنزيل و الحمد لله
و في حديث [ لقيط بن عامر عن النبي صلى الله عليه و سلم فأرسل ربك إلى السماء تهضب من عند العرش فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل و لا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى يخلق من قبل رأسه ] و ذكر الحديث
باب يبعث كل عبد على ما مات عليه
مسلم [ عن جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : يبعث كل عبد على ما مات عليه ] و عن [ عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نياتهم ] خرجه البخاري و لفظ [ البخاري عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم ]
مالك [ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : و الذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله ـ و الله أعلم بمن يكلم في سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة و جرحه يثعب دما اللون لون الدم و العرف عرف المسك ] خرجه البخاري و مسلم
أبو داود عن [ عبد الله بن عمرو أنه قال : يا رسول الله أخبرني عن الجهاد و الغزو فقال : يا عبد الله إن قتلت صابرا محتسبا بعثت صابرا محتسبا و إن قتلت مرائيا مكاثرا بعثت مرائيا مكاثرا على أي حال قاتلت أو قتلت بعثك الله بتلك الحال ]
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من مات سكران فإنه يعاين ملك الموت سكران و يعاين منكرا و نكيرا سكران و يبعث يوم القيامة سكران إلى حندق في سوط جهنم يسمى السكران فيه عين يجري ماؤها دما لا يكون له طعام و لا شراب إلا منه ]
مسلم عن [ ابن عباس أن رجلا كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم محرما فوقصته ناقته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اغسلوه بماء و سدر و كفنوه في ثوبه و لا تمسوه بطيب و لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ] و في رواية [ ملبدا ] أخرجه البخاري
و روى عباد بن كثير عن الزبير عن جابر قال : [ إن المؤذنين و الملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن و يلبي الملبي ] ذكره الحليمي الحافظ في كتاب المنهاج له و سيأتي بكماله
و ذكر أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له [ حدثنا أبو محمد عبد الله بن يونس بن بكير حدثنا أبي عن عمرو بن سمير عن جابر عن محمد بن علي عن ابن عباس و علي بن حسين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أخبرني جبريل عليه السلام أن : لا إله إلا الله أنس للمسلم عند موته و في قبره و حين يخرج من قبره يا محمد لو تراهم حين يمرقون من قبورهم بنفضون رؤوسهم هذا يقول : لا إله إلا الله و الحمد لله فيبيض وجهه و هذا ينادي ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله مسودة و جوههم ] قال : [ و حدثني يحيى بن عبد الحميد بن عبد الحماني حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس على أهل لا إله إلا الله و حشة عند الموت و لا في قبورهم و لا منشرهم كأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم و هم يقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ]
و روى النسائي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء عليها جلباب من لعنة الله و درع من نار يدها على رأسها تقول : يا ويلاه ] أخرجه بمعناه مسلم و ابن ماجه [ عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : النياحة من أمر الجاهلية و إن النائحة إذا ماتت قطع الله لها ثيابا من نار و درعا من لهب النار ] لفظ ابن ماجه و قال مسلم : [ تقام القيامة و عليها سربال من قطران و درع من جرب ]
و أسند الثعلبي في تفسيره [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين صفا عن اليمين و صفا عن الشمال ينبحن كما تنبح الكلاب في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يؤمر بهن إلى النار ] أنبأناه الشيخ الحاج الراوية أبو محمد عبد الوهاب شهر بابن رواح و الشيخ الإمام علي بن هبة الله الشافعي قالا : [ حدثنا السلفى قال : حدثنا الرئيس أبو عبد الله الثقفي قال : حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن خولة الأبهري الأديب فيما قرئ عليه و أنا أسمع منه سنة ثلاث و أربع مائة قال : أخبرنا أبو عمر و أحمد بن محمد بن حكيم المدني أخبرنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا سليمان بن داود اليماني حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفين في جهنم صفا عن يمينهن و صفا عن شمالهن ينبحن على أهل جهنم كما تنبح الكلاب ] غريب من حديث أبي نصر يحيى بن كثير عن أبي سلمة تفرد به عنه سليمان بن داود
و قال [ أنس قال النبي صلى الله عليه و سلم : تخرج النائحة من قبرها شعثاء غبراء مسودة الوجه زرقاء العينين ثائرة الشعر كالحة الوجه و عليه جلباب من لعنة الله و درع من غضب الله إحدى يديها مغلولة إلى عنقها و الأخرى قد و ضعتها على رأسها و هي تنادي يا ويلاه و يا ثبوراه و يا حزناه و ملك وراءها يقول : آمين آمين ثم يكون من بعد ذلك حظها النار ]
ابن ماجة [ عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : النياحة على الميت من أمر الجاهلية و إن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران ثم يعلى عليها بدرع من لهب النار ]
و في التنزيل : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } قال أهل التأويل : المعنى لا يقومون من قبورهم قاله ابن عباس و مجاهد و ابن جبير و قتادة و الربيع و السدي و الضحاك و ابن زيد و غيرهم قال : بعضهم يجعل معه شيطان يخنقه و قالوا : كلهم يبعث كالمخنوق عقوبة له وتميقتا عند جميع أهل المحشر فجعل الله هذه العلامة لأكلة الربا و ذلك أنه أرباه في بطونهم فاثقلهم فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون و يسقطون لعظم بطونهم و ثقلها عليهم نسأل الله الستر و السلامة و العافية في الدنيا و الآخرة و قال تعالى { و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } و سيأتي
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من مات على مرتبة من المراتب بعث عليها يوم القيامة ] ذكره صاحب القوت و هو صحيح المعنى يدل على صجته ما ذكرناه و سياتي لهذا الباب مزيد بيان في باب بيان الحشر إلى الموقف إن شاء الله تعالى
باب في بعث النبي صلى الله عليه و سلم من قبره
ابن المبارك قال : أخبرنا ابن لهيعة قال : حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن نبيه بن وهب أن كعبا دخل على عائشة رضي الله عنه فذكروا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال كعب : ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم و يصلون على النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا أمسوا عرجوا و هبط سبعون ألف ملك يحفون بالقبر و يضربون بأجنحتهم و يصلون عن النبي صلى الله عليه و سلم سبعون ألفا بالليل و سبعون ألفا بالنهار و حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه و سلم و الأخبار دالة ثابتة على أن جميع الناس يخرجون عراة و يحشرون كذلك على ما يأتي إن شاء الله تعالى
و خرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول : [ حدثنا بشر بن خالد قال حدثنا سعيد بن مسلمة عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال : خرج النبي صلى الله عليه و سلم و يمينه على أبي بكر و شماله على عمر فقال : هكذا نبعث يوم القيامة ]
باب ما جاء في بعث الأيام و الليالي و يوم الجمعة
[ عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله عز و جل يبعث لأيام القيامة على هيأتها و يبعث يوم الجمعة : زهراء منيرة أهلها محتفون بها كالعروس تهدى إلى كريمها تضيء لهم يمشون في ضوئها ألوانهم كالثلج بياضا و ريحهم يسطع كالمسك يخوضون في جبال الكافور ينظر إليهم الثقلان ما يطرقون تعجبا يدخلون الجنة لا يخالطهم إلا المؤذنون المحتسبون ] خرجه القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشمي العيسوي من ولد عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم و إسناده صحيح و قال أبو عمران الجوني : ما من ليلة تأتي إلا تنادى : اعملوا في ما استطعتم من خير فلن أرجع إليكم يوم القيامة ذكره أبو نعيم
باب ما جاء أن العبد المؤمن إذا قام من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا
معه في الدنيا و عمله
تقدم من حديث جابر مرفوعا : [ فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات و ملك السيئات فأنشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائق و الآخر شهيد ذكره أبو نعيم أيضا عن ثابت البناني أنه قرأ : { حم } السجدة حتى إذا بلغ { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة } وقف فقال : بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعث من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له : لا تخف و لا تحزن و أبشر بالجنة التي كنت توعد قال : فأمن الله خوفه و أقر الله عينه فما عظيمة تغشى الناس يوم القيامة فالمؤمن في قرة عين لما هداه الله له و لما كان يعمل له في الدنيا ]
و قال عمرو بن قيس الملاي : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة و أطيب ريح فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك و حسن صورتك فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا اركبني اليوم و تلا : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } و أن الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة و أنتن ريح فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد قبح صورتك و نتن ريحك فيقول : كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيء طال ما ركبتني في الدنيا و أنا اليوم أركبك و تلا : { و هم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون } و لا يصح من قبل إسناده قاله القاضي أبو بكر بن العربي

باب أين يكون الناس ؟ يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات
مسلم [ عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال : السلام عليك يا محمد و ذكر الحديث و فيه فقال اليهودي أين يكون الناس { يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات } ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هم في الظلمة دون الجسر ] الحديث بطوله و سيأتي
و خرج مسلم أيضا و ابن ماجه جميعا قالا : [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات } فأين يكون الناس يومئذ ؟ قال : على الصراط ]
و أخرجه الترمذي قال : [ حدثنا ابن أبي عمر قال : حدثنا سفيان عن داود بن هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : يا رسول الله { و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه } فأين يكون المؤمنون يومئذ ؟ قال : على الصراط يا عائشة ] قال : هذا حديث حسن صحيح
و خرج عن مجاهد قال : قال ابن عباس : أتدري ما سعة جهنم ؟ قلت : لا قال : أجل و الله ما تدري [ حدثتني عائشة أنه سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله عز و جل { و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه } قال : فقلت : فأين الناس يا رسول الله ؟ قال : على جسر جهنم ] قال : حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه
فصل : هذه الأحاديث نص في أن الأرض و السموات تبدل و تزال و يخلق الله أرضا أخرى يكون عليها الناس بعد كونهم على الجسر و هو الصراط لا كما قال كثير من الناس أن تبدل الأرض عبارة عن تغيير صفاتها و تسوية آكامها و نسف جبالها و مد أرضها و رواه ابن مسعود رضي الله عنه خرجه ابن ماجه و سيأتي ذكره في الاشتراط إن شاء الله
و ذكر ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب قال : حدثني ابن عباس قال : [ إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و زيد في سعتها كذا و كذا ] و ذكر الحديث و روى [ أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها و يمدها مد الأديم ] ذكره الثعلبي في تفسيره
و روى علي بن الحسين رضي الله عنهما قال : [ إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدميه ] ذكره الماوردي و ما بدأنا بذكره أصح لأنه نص ثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم فإن قائل : إن بدل في كلام العرب معناه : تغيير الشيء و منه قوله تعالى : { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } و قال : { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم } و لا يقتضي هذا إزالة العين و إنما معناه تغيير الصفة و لو كان المعنى لإزالة لقال يوم تبدل الأرض مخففا من أبدلت الشيء إذا أزالت عنه و شخصه قيل له : ما ذكرته صحيح و لكن قد قرئ قوله عزو جل { عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها } مخففا و مثقلا بمعنى واحد قال : { و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } و قال : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } و كذا ذكر تاج اللغة أبو نصر الجوهري في الصحاح و أبدلت الشيء بغيره و بدله الله من الخوف أمنا و تبديل الشيء أيضا تغييره فقد دل القرآن و كلام العرب على أن بدل و أبدل بمعنى واحد و قد فسر النبي صلى الله عليه و سلم أحد المعنيين فهو أعلى و لا كلام معه
قال ابن عباس و ابن مسعود : تبدل الأرض أرضا بيضاء كالفضة لم يسفك عليها دم حرام و لم يعمل عليها خطيئة قط و قال ابن مسعود أيضا تبدل الأرض نارا و الجنة من ورائها يرى أكوابها و كواعبها و قال أبو الجلد حيان بن فروة : إني لأجد فيما أقرأ من كتب الله أن الأرض تشعل نارا يوم القيامة و قال علي رضي الله عنه : تبدل الأرض فضة و السماء ذهبا و قال جابر : سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قول الله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } قال تبدل خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة ثم قرأ { و ما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } و قال سعيد بن جبير و محمد بن كعب : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه
قلت : و هذا المعنى الذي قاله سعيد بن جبير و محمد بن كعب مروي في الصحيح و سيأتي و إليه ذهب ابن برحان في كتاب الإرشاد له و أن المؤمن يطعم يومئذ من بين رجليه و يشرب من الحوض فهذه أقوال الصحابة و التابعين دالة على ما ذكرنا
و أما تبديل السماء فقيل تكوير شمسها و قمرها و تناثر نجومها قاله ابن عباس و قيل : اختلاف أحوالها قتارة كالمهل و تارة كالدهان حكاه ابن الأنباري و قال كعب : تصير السماء دخانا و تصير البحار نيرانا و قيل تبديلها : أن تطوي كطي السجل للكتاب و ذكر أبو الحسن شبيب بن إبراهيم بن حيدرة في كتاب الإفصاح له : أنه لا يعارض بين هذه الآثار و أن الأرض و السماوات تبدل كرتين إحداهما هذه الأولى و أنه سبحانه يغير صفاتها قبل نفخة الصعق فتنتثر أولا كواكبها و تكسف شمسها و قمرها و تصير كالمهل ثم تكشط عن رؤوسهم ثم تسير الجبال ثم تموج الأرض ثم تصير البحار نيرانا ثم تنشق الأرض من قطر إلى قطر فتصير الهيئة غير الهيئة و البنية غير البنية ثم إذا نفخ في الصور نفخة الصعق طويت السماء و دحيت الأرض و بدلت السماء سماء أخرى و هو قوله تعالى { و أشرقت الأرض بنور ربها } و بدلت الأرض : تمد مد الأديم العكاظي و أعيدت كما كانت فيها القبور و البشر على ظهرها و في بطنها و تبدل أيضا تبديلا ثانيا و ذلك إذا وقفوا في المحشر فتبدل لهم الأرض التي يقال لها [ الساهرة ] يجلسون عليه و هو أرض عفراء و هي البيضاء من فضة لم يسفك عليها دم حرام قط و لا جرى عليه ظلم قط و حينئذ يقوم الناس على الصراط و هو لا يسع جميع الخلائق و إن كان قد روي أن مسافته ألف سنة صعودا و ألف سنة هبوطا و ألف سنة استواء و لكن الخلق أكثر من ذلك فيقوم من فضل على الصراط على متن جهنم و هي كإهالة جامدة و هي الأرض التي قال عبد الله إنها أرض من نار يعرق فيها البشر فإذا حوسب عليها أعين الأرض المسماة بالساهرة و جاوزوا الصراط و جعل أهل الجنان من وراء الصراط و أهل النيران في النار و قام الناس على حياض الأنبياء يشربون بدلت الأرض كقرصة النقي فأكلوا من تحت أرجلهم و عند دخولهم الجنة كانت خبزة واحدة أي قرصا واحدا يأكل منه جميع الخلق ممن دخل الجنة و إدامهم زيادة كبد ثور في الجنة و زيادة كبد النون على ما يأتي

باب منه أمور تكون قبل الساعة
ذكر علي بن معبد [ عن أبي هريرة قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم و نحن في طائفة من أصحابه فقال : إن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات و الأرض خلق الصور و أعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر فقال أبو هريرة قلت : يا رسول الله و ما الصور ؟ قال : قرن فقلت : و كيف هو ؟ قال : هو عظيم و الذي نفسي بيده إن عظم دارة فيه لكعرض السماء و الأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع و الثانية : نفخة الصعق و الثالثة : نفخة القيام لرب العالمين يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماء و الأرض إلا ما شاء الله و يأمره فيمدها و يديمها و يطولها ] يقول الله عز و جل : { و ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق } مأخوذة من فواق الحالب و هي المهلة بين الحلبتين و ذلك أن الحالب يحلب الناقة و الشاة ثم يتركها ساعة يرضعها الفصيل لتدر ثم يحلب و منه سمي الفواق فواقا لأنه ريح يتردد في المعدة بين مهليتن أي أن هذه النفخة ممتدة لا تقطيع فيها و يكون ذلك يوم الجمعة في النصف من شهر رمضان فيسير الله الجبال فتمر مر السحاب ثم تكون سرابا ثم ترتج الأرض بأهلها رجا و هي التي يقول الله عز و جل { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة } فتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيميد الناس على ظهرها و تذهل المراضع و تضع الحوامل ما في بطونها و تشيب الولدان و تتطاير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتتلقاها الملائكة هاربة فتضرب بها وجوهها و يولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضعا و هي التي يقول الله عز و جل { يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم و من يضلل الله فما له من هاد } فبينما هم على ذلك إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر و رأوا أمرا عظيما لم يروا مثله فيأخذهم من ذلك من الكرب و الهول ما الله به عليم ثم ينظرون إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم انشقت و انخسف شمسها و قمرها و انتثرت نجومها ثم كشطت السماء عنهم ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و الموتى لا يعلمون شيئا من ذلك قلت : يا رسول الله فمن استثنى الله عز و جل حين يقول { ففزع من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله } ؟ قال : أولئك هم الشهداء عند ربهم يرزفون إنما يصل الفزع إلى الأحياء يقيهم الله شر ذلك اليوم و يؤمنهم منه و هو عذاب يلقيه الله على شرار خلقه و هو الذي يقول الله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } أي شديد فتمكثون في ذلك ما شاء الله إلا أنه يطول عليهم كأطول يوم ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الصعق ] الحديث بطوله و قد تقدم وسطه و هذا آخره
فصل : هذا الحديث ذكره الطبري و الثعلبي و صححه ابن العربي في سراج المريدين و قال : يوم الزلزلة و هو الاسم الثاني عشر يكون عن النفخة الأولى بهذا اختلافهم الصحيح الواحد المفرد و لما نبأ النبي صلى الله عليه و سلم بذكر الزلزلة التي تكون عند النفخة الأولى ذكر ما يكون في ذلك اليوم من الأهوال العظام التي يعظمها قوله [ شيء عظيم ] و من فزعها ما لا تطيق حمله النفوس و هو قوله لآدم : [ ابعث بعث النار ] فيكون ذلك في أثناء ذلك اليوم و لا يقتضي أن يكون ذلك متصلا بالنفخة الأولى التي يشيب فيها الوليد و تضع الحوامل و تذهل المراضع و لكن يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون آخر الكلام منوطا بأوله تقديره يقال لآدم ابعث بعث النار أثناء يوم يشيب فيه الوليد و تضع الحوامل و تذهل المراضع من أوله
الثاني : أن شيب الوليد و وضع الحوامل و ذهول المراضع يكون في النفخة الأولى حقيقة و في هذا القول الثاني تكون صفته بذلك إخبارا عن شدته و إن لم يوجد غير ذلك الشيء فيه و هذه طريقة العرب في فصاحتها
قلت : ما ذكره ابن العربي من صحة الحديث و كلامه فيه : فيه نظر لما نبينه آنفا و قد قال أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له : ورد في هذا الباب حديث منقطع لا يصح ذكره الطبري [ من حديث أبي هريرة عن النبي قال : ينفخ في الصور ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع ] فذكره قال : و هو عنده في سورة يس
قلت : قد تقدم أن الصحيح في النفخ إنما هو مرتان لا ثلاث و حديث مسلم في قول الله تعالى لآدم [ يا آدم ابعث بعث النار ] إنما هو يعد البعث يوم القيامة و نفخة الفزع هي نفخة الصعق على ما تقدم أو نفخة البعث على ما قيل على ما يأتي و لأنه لو كانت نفخة الفزع غير نفخة الصعق لأقتضى ذلك أن يكون بقاء الناس بعدها أحياء ما شاء و يكون هناك ليل و نهار حتى تأتي نفخة الصعق التي يموت لسماعها جميع الخلق كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص و على هذا لا يكون قوله ابعث في أثناء اليوم الذي يكون مبدؤه نفخة الفزع على ما ذكره ابن العربي و الله أعلم
و لا يلزم من زلزال الأرض أن تكون عن نفخة فإنا نشاهد تحرك الأرض و ميدها بمن عليها و ما عليها من جبال و مياه كالسفينة في البحر إذا تلاطمت أمواجه من غير نفخ و إنما تلك الزلزلة من أشراط الساعة و مقدماتها كسائر أشراطها
و قد قال علقمة و الشعبيث : الزلزلة من أشراط الساعة و هي في الدنيا و كذلك قال أنس بن مالك و الحسن البصري و قد ذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم في تفسيره : أن المراد بنفخة الفزع و النفخة الثانية أي يحيون فزعين يقولون : { من بعثنا من مرقدنا } و يعاينون من الأمر ما يهولهم و يفزعهم و الله أعلم و نحو ذلك ذكره الماوردي و اختاره
و قد قيل : إن هذه الزلزلة تكون قبل الساعة في النصف من شهر رمضان بعدها
طلوع الشمس من مغربها و الله أعلم
و قوله تعالى : { ترونها } الضمير المنصوب في { ترونها } للزلزلة أو القيامة قولان : فعلى الأولى أن ذلك في الدنيا قبل نفخة الصعق لعظم تلك الزلزلة و قوة حركتها بالأرض لأن القيامة لارضاع فيها و لا حمل فترى الناس سكارى يعني من الخوف و على القول الثاني يكون فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مثلا و المعنى أن يكون يوما لا يهم أحدا فيه إلا نفسه و الحامل تسقط من مثله كما تسقط الحوامل من الصيحة الشديدة و يكون الهول عظيما
و الوجه الآخر : أن يكون ذلك حقيقة لا مثلا و يكون المعنى أن من كانت محشورة مع ولد رضيع فإنها إذا رأت هول ذلك اليوم ذهلت عن من ولدت و أن الحوامل إذا بعثن أسقطت من فزع يوم القيامة : الأحمال التي كانت أحياء فماتت بموت أمهاتها أحياء ثم لا يمتن بالإسقاط لأن الموت لا يتكرر عليهن مرتين لأنه لا موت في القيامة و إنما هو يوم الحياة و تضع الحوامل حملها ثم يحتمل أن يحيي الله كل حمل كان قد أتم خلقه و نفخ فيه الروح و يسويه و يعدله فإن الأم تذهل عنه و لو لم تذهل ما قدرت على إرضاعه لأنه لا غذاء يومئذ لها و لبن و اليوم يوم الحساب لا يقبل فيه من عذر و لا علة فكيف تخلى و الاشتغال بالولد مع ما عليها من الحساب و هي بصدده من الجزاء و الحمل الذي لم ينفخ فيه قط إذا سقط يكون مع الوحوش ترابا و لم يبتدأ إحياؤه لأن اليوم الآعادة فمن لم يمت في الدنيا لم يحى في الآخرة قاله الحليمي في منهاج الدين
و قال الحسن في قوله تعالى : { و ترى الناس سكارى } أي من العذاب و الخوف { و ما هم بسكارى } من الشراب و مما يبين ما قلناه : أن إبليس قال
: { أنظرني إلى يوم يبعثون } سأل النظرة و الإمهال إلى يوم البعث و الحساب طلب أن لا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده فقد قال تعالى : { إنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم } قال ابن عباس و السدي و غيرهما : أنظره إلى النفخة الأولى حيث يموت الخلق كلهم و كان طلب الإنظار إلى النفخة الثانية حيث يقوم الناس لرب العالمين فأبى الله ذلك عليه
قال المؤلف رحمه الله : و ما وقع في هذا الحديث من انشقاق السماء و تناثر نجومها و طمس شمسها و قمرها فقد ذكر المحاسبي و غيره : أن ذلك يكون بعد جمع الناس في الموقف و روي عن ابن عباس و سيأتي و قاله الحليمي في كتاب منهاج الدين
فصل : فأما التكوين يوم القيامة قبل الحساب فقد قال الله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } إلى قوله { عذاب الله شديد } و قال : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } إلى آخرها
و الذي ثبت بسياق الآيات : أن هذه الزلزلة إنما يكون بعد أحياء الناس و بعثهم من قبورهم لأنه لا يراد بها إلا إذعان الناس و التهويل عليهم فينبغي أن يشاهدوها ليفزعوا منها و يهولهم أمرها و لا تمكن المشاهدة منهم و هم أموات و لأنه تعالى قال : { يومئذ تحدث أخبارها } أي تخبر عما عمل عليها من خير و شر { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } فدل ذلك على أن هذه الزلزلة إنما تكون و الناس أحياء و اليوم يوم الجزاء و قال تعالى : { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } يعني الآخرة { و حملت الأرض و الجبال } إلى قوله { لا تخفى منكم خافية } فدلت هذه السورة على أن اصطدام الأرض و الجبال لا يكون إلا بعد الإحياء فدلت هذه الآية على أن الكوائن إنما تكون بعد النشأة الثانية و الله أعلم
و أما قوله فيه يوم التناد فقال الحسن و قتادة ذلك يوم ينادي أهل الجنة أهل النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا و ينادي أهل النار أهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء يوم تولون مدبرين يعني عن النار أي غير قادرين و غير معجزين فيتفسر مجاهد و قيل : معناه يوم ينادي أهل النار بالويل و الثبور و يولون مدبرين من شدة العذاب و قيل : إن ذلك نداء بعض الناس لبعضهم في المحشر و توليهم مدبرين إذا رأوا عنقا من النار
و قال قتادة : معنى تولون مدبرين منطلقا بكم إلى النار ما لكم من الله من عاصم أي مانع يمنعكم فإن قيل : فقد قال الآلله تعالى : { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة } إلى أن قال : { فإنما هي زجرة واحدة } و هذا يقتضي بظاهره أنها ثلاث له ليس كذلك و إنما المراد بالزجرة النفخة الثانية التي يكون عنها خروج الخلق من قبورهم كذلك قال ابن عباس و مجاهد و عطاء و ابن زيد و غيرهم قال مجاهد : هما صيحتان أما الأولى فيموت كل شيء بإذن الله و أما الأخرى فيحيا كل شيء بإذن الله
و قال مجاهد أيضا : الرادفة حين تنشق السماء و تحمل الأرض و الجبال فتدك دكة واحدة و قال عطاء : الراجفة القيامة و الرادفة البعث و قال ابن زيد : الراجفة الموت و الرادفة الساعة فهذا يبين لك ما قلناه من أن المراد بالزجرة النفخة الثانية
و اختلفوا في الساهرة اختلافا كثيرا فقال ابن عباس : و أما الساهرة فأرض من فضة بيضاء لم يعص الله عليها طرفة عين خلفها الله يومئذ و هو قوله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض }
و قال بعضهم : الساهرة اسم الأرض السابعة يأتي الله بها فيحاسب عليها الخلائق و ذلك حين تبدل الأرض غير الأرض و قال قتادة : هي جهنم أي فإذا هؤلاء الكفار في جهنم و قيل صحراء قريب من شفير جهنم
و قال الثوري : الساهرة أرض الشام و قيل غير هذا و إنما قيل لها ساهرة لأنهم لا ينامون عليها حينئذ و معنى { فإذا هم بالساهرة } أي على الأرض بعدما كانوا في بطنها و العرب تسمي الفلاة و وجه الأرض ساهرة قال أمية بن أبي الصلت :
( و فيها لحم ساهرة و بحر ... و ما فاهوا به لهم مقيم )
باب الحشر و معناه الجمع
و هو على أربعة أوجه : حشران في الدنيا و حشران في الآخرة
أما الذي في الدنيا فقوله تعالى { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } قال الزهري : كانوا من سبط لم يصيبهم جلاء و كان الله عز و جل قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا و كان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام [ قال ابن عباس : من شك أن الحشر في الشام فليقرأ هذه الآية و ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لهم : أخرجوا قالوا أي أين ؟ قال : إلى أرض المحشر ] قال قتادة : هذا أول الحشر
الثاني : ما رواه مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين و راهبين و اثنان على بعير و ثلاثة على بعير و تحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث يأتوا و تقيل معهم حيث قالوا و تصبح معهم حيث أصبحوا و تمسي معهم حيث أمسوا ] أخرجه البخاري أيضا
و قال قتادة : الحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا و تقيل معهم حيث قالوا و تأكل منهم من تخلف قال القاضي عياض : هذا الحشر في الدنيا قبل قيام الساعة و هو آخر أشراطهما كما ذكره مسلم بعد هذا في آيات الساعة قال فيه : و آخر ذلك في نار تخرج من قعر عدن تزجر الناس و في رواية تطرد الناس إلى محشرهم و في حديث آخر : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجار و يدل على أنها قبل يوم القيامة قوله : فتقيل معهم حيث قالوا و تمسي معهم حيث أمسوا و تصبح معهم حيث أصبحوا و قال و في بعض الروايات في غير مسلم فإذا سمعتم به فاخرجوا إلى الشام كأنه أمر بسبقها إليه قبل إزعاجها لهم
قال المؤلف رحمه الله : و ذكر الحليمي في منهاج الدين له من حديث ابن عباس و ذكر أن ذلك في الآخرة فقال : يحمتل قوله عليه السلام : [ تحشر الناس على ثلاث طرائق ] إشارة إلى الأبرار و المخلطين و الكفار فالأبرار هم الراغبون إلى الله تعالى فيما أعد لهم من ثوابه و الراهبون هم الذين بين الخوف و الرجاء فأما الأبرار فإنهم يؤتون بالنجائب كما في الحديث على ما يأتي في هذا الباب و أما المخلطون فهم الذين أرادوا في هذا الحديث و قيل : إنهم يحملون على الأبعرة و أما الفجار الذين تحشرهم النار فإن الله تعالى يبعث إليهم ملائكة فتقيض لهم نارا تسوقهم و لم يرد في هذا الحديث إلا ذكر البعير فأما أن ذلك من إبل الجنة أو من الإبل التي تحيا و تحشر يوم القيامة فهذا لم يأت بيانه و الأشبه ألا يكون من نجائب الجنة لأن من خرج من جملة الأبرار فكان مع ذلك من جملة المؤمنين فإنهم بين الخوف و الرجاء أن من هؤلاء من يغفر الله تعالى ذنوبه فيدخل الجنة و منهم من يعاقبه بالنار ثم يخرجه منها و يدخله الجنة و إذا كانوا كذلك لم يلق أن يردوا موقف الحساب على نجائب الجنة ثم ينزل الله بعضهم إلى النار لأن من أكرمه الله بالجنة لم يهنه بعد ذلك بالنار قال : و في حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ يحشر الناس ] الحديث و في آخره أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب و شوك فهذا إن ثبت مرفوعا فالركبان هم المتقون السابقون الذين يغفر الله ذنوبهم عند الحساب و لا يعذبهم إلا أن المتقين يكونون على نجائب الجنة و الآخرون على دواب سوى دواب الجنة و الصنف الثاني الذين يعذبهم الله بذنوبهم ثم يخرجهم من النار إلى الجنة و هؤلاء يكونون مشاة على أقدامهم و قد يحتمل على هذا أن يمشوا وقتا ثم يركبوا أو يكونوا ركبانا فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا ليتفق الحديثان و الصنف الثالث المشاة على وجوههم هم الكفار و قد يحتمل أن يكونوا ثلاثة أصناف : صنف مسلمون و هم ركبان و صنفان من الكفار أحدهما العتاة و أعلام الكفر فهؤلاء يحشرون على وجوههم و الآخرون الأتباع فهم يمشون على أقدامهم
قال المؤلف رحمه الله : و إلى هذا القول ذهب أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة في قوله عليه السلام كيف تحشر الناس يا رسول الله ؟ قال : [ اثنان على بعير و خمسة على بعير و عشرة على بعير ] و معنى هذا الحديث و الله أعلم أن قوما يأتلفون في الإسلام برحمة الله يخلق الله لهم من أعمالهم بعيرا يركبون عليه و هذا من ضعف العمل لكونهم يشتركون فيه كقوم خرجوا في سفر بعيد و ليس مع واحد منهم ما يشترى به مطية توصله فاشترك في ثمنها رجلان أو ثلاثة فابتاعوا مطية يتعقبون عليها في الطريق و يبلغ بعير مع عشرة فاعمل هداك الله عملا يكون لك به بعير خالص من الشركة و اعلم أن ذلك هو المتجر الرابح فالمتقون وافدون كما قال الجليل : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا }
و في غريب الرواية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوما لأصحابه : [ كان رجل من بني إسرائيل كثيرا ما يفعل الخير حتى إنه ليحشر فيكم قالوا له : و ما كان يصنع قال : ورث من أبيه مالا كثيرا فاشترى بستانا فحبسه للمساكين و قال هذا بستاني عند الله تعالى و فرق دانانير عديدة في الضعفاء و قال بهذا أشترى جارية من الله تعالى و عبيدا و أعتق رقابا كثيرة و قال هؤلاء خدمي عند الله تعالى و التفت ذات يوم لرجل ضرير البصر فرآه تارة يمشي و تارة يكبو فابتاع له مطية يسير عليها و قال هذه مطيتي عند الله تعالى أركبها و الذي نفس محمد بيده لكأني أنظر إليه و قد جيء بها إليه مسرجة ملجمة يركبها تسير به إلى الموقف ]
قال المؤلف رحمه الله : ما ذكره القاضي عياض من أن ذلك في الدنيا أظهر و الله أعلم لما في الحديث نفسه من ذكر السماء و المبيت والصباح و القائلة و ذلك ليس في الآخرة و قد احتج الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفا مشاة و صنفا ركبانا و صنفا على وجوههم قيل يا رسول الله : كيف يمشون على وجوههم ؟ قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب و شوك قال : هذا حديث حسن فقوله يتقون بوجوههم كل حدب و شوك يدل على أنه في الدنيا إذ ليس في الآخرة ذلك على ما يأتي من صفة أرض المحشر و الله أعلم
و خرج النسائي عن أبي ذر قال : إن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون ثلاثة أفواج فوجا راكبين طاعمين كاسين و فوجا تسحبهم الملائكة على وجوههم و يحشر الناس فوجا يمشون و يسعون يلقى الله ألافه على الظهر فلا تبقى حتى إن الرجل لتكون له الحديقة يعطيها بذات القتب لا يقدر عليها
و ذكر عمر بن شيبة في كتاب المدينة على ساكنها السلام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة و آخر من مزينة فيقولان أين الناس فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجوههما حتى يلحقاهما بالناس و هذا كله مما يدل على أن ذلك في الدنيا كما قال القاضي عياض و أما الآخرة فالناس أيضا مختلفو الحال على ما ذكروه و سنذكر من ذلك ما فيه كفاية في الباب بعد هذا
و الحشر الثالث : حشرهم إلى الموقف على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا إن شاء الله قال الله تعالى { و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا }
و الرابع : حشرهم إلى الجنة و النار قال الله تعالى : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } أي ركبانا على النجب و قيل : على الأعمال كما تقدم و قد وردت أخبار منها ما رواه النعمان سعد ] عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } قال : أما إنهم ما يحشرون على أقدامهم و لا يساقون سوقا و لكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالها الذهب و أزمتها الزبرجد فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة و سمي المتقون وفدا لأنهم يسبقون الناس إلى حيث يدعون إليه فهم لا يتباطئون لكنهم يجدون و يسرعون و الملائكة تتلقاهم بالبشارات قال الله تعالى { و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } فيزيدهم ذلك إسراعا و حق للمتقين أن يسبقوا لسبقهم في الدنيا بالطاعات { و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا } أي عطاشا و قال { و نحشر المجرمين يومئذ زرقا } و قال : { و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و بكما و صما } و قال : { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا و أضل سبيلا }
مسلم [ عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله : الذين يحشرون على وجوههم أيحشر الكافر على وجهه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أليس الذي أمشاه على الرجلين قادرا أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ] قال قتادة حين بلغه : بلى و عزة ربنا أخرجه البخاري أيضا :
فصل : قال أبو حامد : و ذكر هذا الفصل و في طبع الآدمي إنكار ما لم يأنس و به و لم يشاهده و لو لم يشاهد الإنسان الحية و هي تمشي على بطنها لأنكر المشي من غير رجل و المشي بالرجل أيضا مستبعد عند من لم يشاهد ذلك فإياك أن تنكر شيئا من عجائب يوم القيامة لمخالفتها قياس الدنيا فإنك لو لم تشاهد عجائب الدنيا ثم عرضت عليك قبل المشاهدة لكنت أشد إنكارا لها فاحضر رحمك الله في قلبك صورتك و أنت قد وقفت عاريا ذليلا مدحورا متحيرا مبهوتا منتظرا لما يجري عليك من القضاء بالسعادة أو بالشقاء
باب بيان الحشر إلى الموقف كيف هو و في أرض المحشر
و ذكر الصخرة و قوله تعالى { و استمع يوم يناد المناد من مكان قريب } الآية
أبو نعيم قال حدثنا أبي قال حدثنا إسحاق قال حدثنا محمد قال قال حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا المنذر النعمان أنه سمع وهب بن منبه يقول : قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس : لأضعن عليك عرشي و لأحشرن عليك خلقي و ليأتينك يومئذ داود راكبا و قال بعض العلماء في قوله تعالى : { و استمع يوم يناد المناد من مكان قريب } قال : إنه ملك قائم على صخرة بيت المقدس فينادي : أيتها العظام البالية و الأوصال المتقطعة و يا عظاما نخرة و يا أكفانا فانية و يا قلوبا خلوية ويا أبدانا فاسدة و يا عيونا سائلة قوموا لعرض رب العالمين قال قتادة : المنادي هو صاحب الصور ينادي من الصخرة من بيت المقدس قال كعب : و هي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا و قيل : باثني عشر ميلا ذكره القشيري و الأول ذكره المارودي و قيل : إن المنادي جبريل و الله أعلم قال عكرمة : ينادي منادي الرحمن فكأنما ينادي في آذانهم يوم يسمعون الصحية بالحق يريد النفخ في الصور { ذلك يوم الخروج * إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير * يوم تشقق الأرض عنهم سراعا } إلى المنادي صاحب الصور إلى بيت المقدس أرض المحشر { ذلك حشر علينا يسير } أي هين سهل
فإن قيل : فإذا كانت الصيحة للخروج فكيف يسمعونها و هم أموات ؟
قيل له : إن نفخة الإحياء تمتد و تطول فتكون أوائلها للإحياء و ما بعدها للإزعاج من القبور فلا يسمعون ما يكون للإحياء و يسمعون ما يكون للإزعاج و يحتمل أن تتطاول تلك النفخة و الناس يحيون منها أولا فأولا و كلما حيى واحد سمع ما يحيى به من بعده إلى أن يتكامل الجميع للخروج و قد تقدم أن الأرواح في الصور فإذا نفخ فيه النفخة الثانية ذهب كل روح إلى جسده { فإذا هم من الأجداث } أي القبور { إلى ربهم ينسلون } و هذا يبين لك ما ذكرنا و بالله توفيقنا
و قال محمد بن كعب القرظي : يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة و تطوي السماء و تتناثر النجوم و تذهب الشمس و القمر و ينادي مناد فيتبع الناس الصوت يومئذ فذلك قول الله عز و جل { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له } الآية و قال الله عز و جل { إذا السماء انفطرت * و إذا الكواكب انتثرت * و إذا البحار فجرت } فجر عذبها في ملحها و ملحها في عذبها في تفسير قتادة { و إذا القبور بعثرت } أي أخرج ما فيها من الأموات و قال تعالى { إذا السماء انشقت * و أذنت لربها } أي سمعت و أطاعت { و حقت } أي و حق لها أن تفعل { و إذا الأرض مدت } تمد مد الأديم و هذا إذا بدلت بأرض بيضاء كأنها فضة لم تعمل عليها خطيئة قط و ألقت ما فيها من الأموات فصاروا على ظهرها
مسلم [ عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفرا كقرصة النقي ليس فيه علم لأحد ]
و خرج أبو بكر أحمد بن علي الخطيب عن عبد الله بن مسعود : [ يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط و أظمأ ما كانوا قط و أعرى ما كانوا قط و أنصب ما كانوا فمن أطعم لله أطعمه و من سقا لله سقاه و من كسا لله كساه و من عمل لله كفاه و من نصر الله أراحه الله في ذلك اليوم
[ و روي من حديث معاذ بن جبل قال : قلت يا رسول الله أرأيت قول الله { يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا } فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا معاذ بن جبل لقد سألت عن أمر عظيم ثم أرسل عينيه بالبكاء الدموع ثم قال : تحشر عشرة أصناف من أمتى أشتاتا قد ميزهم الله تعالى من جماعات المسلمين و بدل صورهم فمنهم على صورة القردة و بعضهم على صورة الخنازير و بعضهم منسكين أرجلهم أعلاهم و وجوههم يسحبون عليها و بعضهم عمي يترددون و بعضهم صم بكم لا يعلقون و بعضهم يمضغون ألسنتهم مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا تقدرهم أهل الجمع و بعضهم مقطعة أيديهم و أرجلهم و بعضهم مصلبون على جذوع النار و بعضهم أشد نتنا من الجيف و بعضهم يلبسون جلابيب سابغة من القطران فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني النمام و أما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت و الحرام و المكس و أما المنكسون رؤوسهم و وجوههم فأكلة الربا و العمي من يجوز في الحكم و الصم البكم الذي يعجبون بأعمالهم و الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القصاص الذين يخالف قولهم فعلهم و المقطعة أيديهم و أرجلهم الذين يؤذون الجيران و المصلبون على جذوع النار السعاة بالناس إلى السلطان و الذين هم أشد نتنا من الجيف الذي يتمتعون بالشهوات و اللذات و يمنعون حق الله تعالى من أموالهم و الذين يلبسون الجلابيب فأهل الكبر و الفخر و الخيلاء ]
و قال أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : و من الناس من يحشر بفتنته الدنيوية فقوم مفتونون بالعود معتكفون عليه دهرهم فعند قيام أحدهم من قبره يأخذ بيمينه فيطرحه من يده و يقول سحقا لك شغلتني عن ذكر الله فيعود إليه يقول : أنا صاحبك حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين و كذلك يبعث السكران سكران و الزامر زامرا و كل واحد على الحال الذي صده عن سبيل الله قال : و مثل الحديث الذي روي في الصحيح أن شارب الخمر يحشر و الكوز معلق في عنقه و القدح بيده و هو أنتن من كل جيفة على الأرض يلعنه كل من يمر به من الخلق و قال أيضا في الكتاب : فإذا استوى كل أحد قاعدا على قبره فمنهم العريان و منهم المكسو و الأسود و الأبيض و منهم من يكون له نور كالمصباح الضعيف و منهم من يكون كالشمس لا يزال كل واحد منهم مطرقا برأسه ألف عام حتى تقوم من الغرب نار لها دوي تساق فيدهش لها رؤوس الخليقة إنسا و جنا و طيرا و وحشا فيأتي كل واحد من المخاطبين عمله و يقول له : قم فانهض إلى المحشر فمن كان له حينئذ عمل جيد شخص له عمله بغلا و منهم من يشخص عمله حمارا و منهم من يشخص له كبشا تارة يحمله و تارة يلقيه و يجعل لكل واحد منهم نور شعاعي بين يديه و عن يمينه و مثله يسرس بين يديه في الظلمات و هو قوله تعالى { يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم } و ليس عن شمائلهم نور بل ظلمة حالكة لا يستطيع البصر نفاذها يحار فيها الكفار و يتردد المرتابون و المؤمن ينظر إلى قوة حلكتها و شدة حندسها و يحمد الله تعالى على ما أعطاه من النور المهتدي به في تلك الشدة يسعى بين أيديهم و بأيمانهم لأن الله تعالى يكشف للعبد المؤمن المنعم عن أحوال المعذب الشقي ليستبين له سبيل الفائدة كما فعل بأهل الجنة و أهل النار حيث يقول فاطلع فرآه في سواء الجحيم و كما قال سبحانه { و إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } لأن أربعا لا يعرف قدرها إلا أربع : لا يعرف قدر الحياة إلا الموتى و لا يعرف قدر الأغنياء إلا الفقراء و لا يعرف قدر الصحة إلا أهل البلاء و السقم و لا يعرف قدر الشباب إلا الشيوخ و في نسخة : و لا يعرف قدر النعيم إلا أهل الجحيم و من الناس من يبقى على قدميه و على طرف بنانه و نوره يطفأ تارة و يشتعل أخرى و إنما هم عند البعث على قدر إيمانهم و أعمالهم و قد مضى في باب يبعث كل عبد على ما مات عليه ما فيه كفاية و الحمد لله
باب الجمع بين آيات وردت في الكتاب في الحشر ظاهرها التعارض
منها قوله تعالى { و يوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم } و قال تعالى { و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و بكما و صما } و في آية ثالثة إنهم يقولون { يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } و هذا كلام و هو مضاد للبكم و التعارف تخاطب و هو مضاد للصم و البكم معا و قال الله تعالى { فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين } و السؤال لا يكون إلا بالاسماع و إلا لناطق يتسع للجواب و قال { نحشر المجرمين يومئذ زرقا } و قال { فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } و قال { يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون } و النسلان و الاسراع مخالفان للحشر على الوجوه
و الجواب : لمن سأل عن هذا الباب أن يقال له إن الناس إذا أحيوا و بعثوا من قبورهم فليست حالهم حالة واحدة و لا موقفهم و لا مقامهم واحدا و لكن لهم مواقف و أحوال و اختلفت الأخبار عنهم لاختلاف مواقفهم و أحوالهم و جملة ذلك أنها خمسة أحوال : حال البعث من القبور و الثانية حال السوق إلى مواضع الحساب و الثالثة حال المحاسبة و الرابعة حال السوق إذا دار الجزاء و الخامسة حال مقامهم في الدار التي يستقرون فيها
فأما حال البعث من القبور : فإن الكفار يكونون كاملي الحواس و الجوارح لقول الله تعالى { يتعارفون بينهم } و قوله { يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا } و قوله { فإذا هم قيام ينظرون } و قوله : { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين } إلى قوله { ترجعون }
و الحالة الثانية : حال السوق إلى موضع الحساب و هم أيضا في هذه الحال بحواس تامة لقوله عز و جل { احشروا الذين ظلموا و أزواجهم و ما كانوا يعبدون } { من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم } { وقفوهم إنهم مسؤولون } و معنى فاهدوهم أي دلوهم و لا دلالة لأعمى أصم و لا سؤال لأبكم فثبت بهذا أنهم يكونون بأبصار و أسماع و ألسنة ناطقة
و الحالة الثالثة : و هي حالة المحاسبة و هم يكونون فيها أيضا كاملي الحواس ليسمعوا ما يقال لهم و يقرأوا كتبهم الناطقة بأعمالهم و تشهد عليهم جوارحهم بسيئاتهم فيسمعونها و قد أخبر الله تعالى أنهم يقولون { مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } و أنهم يقولون لجلودهم { لم شهدتم علينا } و ليشاهدوا أحوال القيامة و ما كانوا مكذبين في الدنيا به من شدتها و تصرف الأحوال بالناس فيها
و أما الحالة الرابعة : و هي السوق إلى جهنم فإنهم يسلبون فيها أسماعهم و أبصارهم و ألسنتهم لقوله تعالى { و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا و بكما و صما مأواهم جهنم } و يحتمل أن يكون قوله تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام } إشارة إلى ما يشعرون به من سلب الأبصار و الأسماع و المنطق
و الحالة الخامسة حال الإقامة في النار و هذه الحالة تنقسم إلى بدو و مآل فبدوها أنهم إذا قطعوا المسافة التي بين موقف الحساب و شفير جهنم عميا و بكما و صما إذلالا لهم تمييزا عن غيرهم ثم ردت الحواس إليهم ليشاهدوا النار و ما أعد الله لهم فيها من العذاب و يعاينوا ملائكة العذاب و كل ما كانوا به مكذبين فيستقرون في النار ناطقين سامعين مبصرين و لهذا قال الله تعالى { و تراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } و قال { لو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا و نكون من المؤمنين } و قال { كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم } إلى قوله { و قالت أولاهم لأخراهم } و قال { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا و قلنا ما نزل الله من شيء } و أخبر تعالى أنهم ينادون أهل الجنة فيقولون { أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله } و أن أهل الجنة ينادونهم { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم } و أنهم يقولون { يا مالك ليقض علينا ربك } فيقول لهم { إنكم ماكثون } و أنهم يقولون لخزنة جهنم { ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب } فيقولون لهم { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال } و أما العقبى و المال فإنهم إذا قالوا : { أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } فقال الله تعالى { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } و كتب عليهم الخلود بالمثل الذي يضرب لهم و هو أن يؤتى بكبش أملح و يسمى المكوت ثم يذبح على الصراط بين الجنة و النار و ينادوا يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت سلبوا في ذلك الوقت أسماعهم و قد يجوز أن يسلبوا الأبصار و الكلام لكن سلب السمع يقين لأن الله تعالى يقول : { لهم فيها زفير و هم فيها لا يسمعون } فإذا سلبوا الأسماع صاروا إلى الزفير و الشهيق و يحتمل أن تكون الحكمة في سلب الأسماع من قبل أنهم سمعوا نداء الرب سبحانه على ألسنة رسله فلم يجيبوه بل جحدوه و كذبوا به بعد قيام الحجة عليهم بصحته فلما كانت حجة الله عليهم في الدنيا الاستماع عاقبهم على كفرهم في الأخرى بسلب الأسماع يبين ذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه و سلم : و في آذاننا وقر و من بيننا و بنيك حجاب و قالوا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه و إن قوم نوح عليه السلام كانوا يستغشون ثيابهم تسترا منه لئلا يروه و لا يسمعوا كلامه و قد أخبر الله تعالى عن الكفار في وقت نبينا محمد صلى الله عليه و سلم مثله فقال : ألا أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم و إن سلبت أبصارهم فلأنهم أبصروا الغير فلم يعتبروا و النطق فلأنهم أوتوه فكفروا فهذا وجه الجمع بين الآيات على ما قاله علماؤنا و الله أعلم
باب ما جاء في حشر الناس إلى الله عز و جل حفاة عراة غرلا و في أول من
يكسى منهم و في أول ما يتكلم من الإنسان
مسلم [ عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بموعظة فقال : أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده و عدا علينا إنا كنا فاعلين ألا و إن أول الناس يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا و إنه يؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح { و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } إلى قوله { العزيز الحكيم } قال فيقال إنهم لم يزالوا مدبرين مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ]
أخرجه البخاري و الترمذي [ عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ذكره قال : و أشار بيده إلى الشام فقال : ههنا إلى ههنا تحشرون ركبانا و مشاة و تجرون على وجوهكم يوم القيامة أفواهكم الفدام توفون سيعين أمة أنتم خيرها على الله و أكرمهم على الله و إن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه ] و في رواية أخرى ذكرها ابن أبي شيبة [ و إن أول ما يتكلم من الإنسان فخذه و كفه ]
فصل : قوله [ غرلا ] أي غير مخنوتين النقي الحواري و هو الدرمك من الدقيق و العفر بياض ليس بخالص يضرب إلى الحمرة قليلا و الفدام مصفاة الكوز و الابريق قاله الليث قال أبو عبيدة : يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق و قوله [ أول من يكسى إبراهيم ] فضيلة عظيمة لإبراهيم و خصوص له كما خص موسى عليه السلام بأن النبي صلى الله عليه و سلم يجده معلقا بساق العرش مع أن النبي صلى الله عليه و سلم أول من تنشق عنه الأرض و لا يلزم من هذا أن يكون أفضل منه مطلقا بل هو أفضل من وافى القيامة على ما يأتي بيانه في أحاديث الشفاعة و المقام المحمود إن شاء الله تعالى
قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم له : و يجوز أن يراد بالناس من عداه من الناس فلم يدخل تحت خطاب نفسه و الله أعلم
قلت : هذا حسن لو لا ما جاء منصوصا خلافه فقد روى ابن المبارك في رقائقه : أخبرنا سفيان عن عمر بن قيس عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن علي رضي الله عنه قال : أول من يكسى خليل الله إبراهيم قبطيتين ثم يكسى محمد صلى الله عليه و سلم حلة حبرة عن يمين العرش ذكره البيهقي أيضا
و روى عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : إن المؤذنين و الملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم يؤذن المؤذن و يلبي الملبي و أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم خليل الله ثم محمد صلى الله عليه و سلم ثم النبيون و الرسل عليهم السلام ثم يكسى المؤذنون و تتلاقهم الملائكة على نجائب من نور أحمر أزمتها من زمرد أخضر رحالها من الذهب و يشيعهم من قبورهم سبعون ألف ملك إلى المحشر ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له
و ذكر أبو نعيم الحافظ من [ حديث الأسود و علقمة و أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه و سلم الحديث و فيه : فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام يقول اكسوا خليلي فيؤتى بربطتين بيضاوين فيلبسهما ثم يقعد مستقبل العرش ثم أوتي بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه قياما لا يقومه أحد غيري يغبطني فيه الأولون و الآخرون ] و ذكر الحديث
و خرج البيهقي بإسناده في كتاب الأسماء و الصفات [ عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنكم تحشرون حفاة عراة و أول من يكسى من الجنة إبراهيم عليه السلام يكسى حلة من الجنة و يؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش و يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر ثم أوتي بكرسي فيطرح لي على ساق العرش ] و هذا نص بأن إبراهيم أول من يكسى ثم نبينا بإخباره صلى الله عليه و سلم فطوبى ثم طوبى لمن كسي في ذلك الوقت من ثياب الجنة فإنه من لبسه فقد لبس جبة تقيه مكاره الحشر و عرقه و حر الشمس و غير ذلك من أهواله
فصل : و تكلم العلماء في حكمة تقديم إبراهيم عليه السلام بالكسوة فروي أنه لم يكن في الأولين و الآخرين لله عز و جل عبد أخوف من إبراهيم عليه السلام فتعجل له كسوته أمانا له ليطمئن قلبه و يحتمل أن يكون ذلك لما جاء به الحديث من أنه أول من أمر بلبس السراويل إذا صلى مبالغة في التستر و حفظا لفرجه من أن يماس مصلاه ففعل ما أمر به فيجزى بذلك أن يكون أول من يستر يوم القيامة و يحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جردوه و نزعوا عنه ثيابه على أعين الناس كما يفعل بمن يراد قتله و كان ما أصابه من ذلك في ذات الله عز و جل فلما صبر و احتسب و توكل على الله تعال دفع الله عنه شر النار في الدنيا و الآخرة و جزاه بذلك العرى أن جعله أول من يدفع عنه العرى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد و هذا أحسنها و الله أعلم
و إذا بدئ في الكسوة بإبراهيم و ثنى بمحمد صلى الله عليه و سلم أوتي محمد بحلة لا يقوم لها البشر لينجبر التأخير بنفاسة الكسوة فيكون كأنه كسي مع إبراهيم عليهما السلام
قاله الحليمي و قوله [ تجدون على أفواهكم الفدام ] الفدام : مصفاة الكوز و الإبريق قاله الليث قال أبو عبيد يعني أنهم منعوا الكلام حتى تتكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق قال سفيان : و فدامهم أن يؤخذ على ألسنتهم و هذا مثل

باب منه و بيان قوله تعالى : لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه
مسلم عن [ عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قلت يا رسول الله : الرجال و النساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض ]
الترمذي [ عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تحشرون حفاة عراة غرلا فقالت امرأة : أيبصر بعضنا أو يرى بعضنا عورة بعض ؟ قال : يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ] قال حديث حسن صحيح
فصل : قلت : هذا الباب و الذي قبله يدل على أن الناس يحشرون حفاة عراة غرلا أي غير مخنوتين كما بدأنا أول خلق نعيده قال العلماء : يحشر العبد غدا و له من الأعضاء ما كان له يوم ولد فمن قطع منه عشو يرد في القيامة عليه حتى الختان
و قد عارض هذا الباب ما روى أبو داود في سننه [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما حضرته الوفاة دعا بثياب جدد فلبسها و قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الميت يبعث في ثيابه التي دفن فيها ] قال ابو عمر بن عبد البر : و قد احتج بهذا الحديث من قال : إن الموتى يبعثون جملة على هيئاتهم و حمله الأكثر من العلماء على الشهيد الذي أمر أن يزمل في ثيابه و يدفن فيها و لا يغسل عنه دمه و لا يغير عليه شيء من حاله بدليل حديث ابن عباس و عائشة رضي الله عنهما قالوا : و يحتمل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهيد فتأوله على العموم و الله أعلم
قلت : و مما يدل على قول الجماعة مما يواقف حديث عائشة و ابن عباس قوله الحق : { و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } و قوله : { كما بدأكم تعودون } و لأن الملابس في الدنيا أموال و لا مال في الآخرة زالت الأملاك بالموت و بقيت الأموال في الدنيا و كل نفس يومئذ فإنما يقيها المكاره ما وجب لها بحسن عملها أو رحمة ميتدأة من الله عليها فأما الملابس فلا غنى فيها يومئذ إلا ما كان من لباس الجنة على ما تقدم في الباب قبل
و ذهب أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة إلى [ حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بالغوا في أكفان موتاكم فإن أمتي تحشر بأكفانها و سائر الأمم عراة ] و رواه أبو سفيان مسندا
قال المؤلف رحمه الله : و هذا الحديث لم أقف عليه و الله أعلم بصحته و إن صح فيكون معناه فإن أمتي الشهداء تحشر بأكفانها حتى لا تتناقض الأخبار و الله أعلم و لا يعارض هذا الباب ما تقدم أول الكتاب من أن الموتى يتزاورون في قبورهم بأكفانهم فإن ذلك يكون في البرزخ فإذا قاموا من قبورهم خرجوا عراة ما عدا الشهداء و الله أعلم
باب
ذكر أبو بكر أحمد بن علي حديث ثابت [ عن عبد الله بن إبراهيم بن أبي عمرو الغفاري قال : حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أحشر يوم القيامة بين أبي بكر و عمر رضي الله عنهما حتى أقف بين الحرمين فيأتي أهل المدينة و مكة ] غريب من حديث مالك تفرد به عبد الله بن إبراهيم عنه و يقال لم يروه غير عبد العزيز بن عبد الله الهاشمي البغدادي عن الغفاري

الجزء الأول من باب قول النبي صلى الله عليه و سلم من سره أن ينظر إلى
يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت و إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقت و في أسماء يوم القيامة
الترمذي [ عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سره أن ينظر غلى يوم القيامة فليقرأ { إذا الشمس كورت } و { إذا السماء انفطرت } و { إذا السماء انشقت } ] قال : هذا حديث حسن
فصل : قلت : و إنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة لما فيها من انشقاق السماء و انفطارها و تكور شمسها و انكدار نجومها و تناثر كواكبها إلى غير ذلك من أفزاعها و أهوالها و خروج الخلق من قبورهم إلى سجونهم أو قصورهم بعد نشر صحفهم و قراء كتبهم و أخذها بأيمانهم و شمائلهم أو من وراء ظهورهم في موقفهم على ما يأتي بيانه قال الله تعالى { إذا السماء انشقت } و قال { إذا السماء انفطرت } و قال : { و يوم تشقق السماء بالغمام } فتراها واهية منفطرة متشققة كقوله تعالى : { و فتحت السماء فكانت أبوابا } و يكون الغمام سترة بين السماء و الأرض و قيل : إن [ الباء ] بمعنى [ عن ] أي تشقق عن سحاب أبيض و يقال : انشقاقها لما يخلص غليه من حر جهنم و ذلك إذا بطلت المياه و برزت النيران فأول ذلك أنها تصير حمراء صافية كالدهن و تتشقق لما يريد الله من نقض هذا العالم و رفعه و قد قيل : إن السماء تتلون فتصفر ثم تحمر أو تحمر ثم تصفر كالمهرة تميل في الربيع إلى الصفرة فإذا اشتد الحر مالت إلى الحمرة ثم إلى الغبرة قاله الحليمي
و قوله تعالى : { إذا الشمس كورت } قال ابن عباس رضي الله عنه تكويرها إدخالها في العرش و قال : ذهاب ضوئها قاله الحسن و قتادة و روي ذلك عن ابن عباس و مجاهد و قال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة تلف فتمحى و قال الربيع بن خيثم كورت رمى بها و منه كورته فتكور أي سقط
قلت : و أوصل التكوير الجمع مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها أي لا تها و جمهعا فهي تكور ثم يمحى ضوءها ثم يرمى بها و الله أعلم
و قوله تعالى : { و إذا النجوم انكدرت } أي انتثرت قيل تتناثر من أيدي الملائكة لأنهم يموتون و في الخبر أنها معلقة بين السماء و الأرض بسلاسل بأيدي الملائكة و قال ابن عباس رضي الله عنه : انكدرت تغيرت و أصل الانكدار الانصباب فتسقط في البحار فتصير معها نيرانا إذا ذهبت المياه
و قوله { و إذا الجبال سيرت } هو مثل قوله { و تسير الجبال } أي تحول عن منزلة الحجارة فتكون كثيبا مهيلا أي رملا سائلا و تكون كالعهن و تكون هباء منبثا و تكون سرابا مثل السراب الذي ليس بشيء و قيل : إن الجبال بعد اندكاكها أنها تصير كالعهن من حر جهنم كما تصير السماء من حرها كالمهل قال الحليمي : و هذا و الله أعلم لأن مياه الأرض كانت حاجزة بين السماء و الأرض فإذا ارتفعت و زيد مع ذلك في إحماء جهنم أثر في كل واحد من السماء و الأرض ما ذكر
قوله { و إذا العشار عطلت } أي عطلها أهلها فلم تحلب من الشغل بأنفسهم و العشار : الإبل الحوامل واحدها عشراء و هي التي أتي عليها في الحمل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع و بعد ما تضع و إنما خص العشار بالذكر لأنها أعز ما يكون على العرب فأخبر أنه تعطل يوم القيامة و معناه : أنهم إذا قاموا من قبورهم و شاهد بعضهم بعضا و رأوا الوحوش و الدواب محشورة و فيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم لم يعبئوا بها و لم يهمهم أمرها و يحتمل تعطل العشار إبطال الله تعالى أملاك الناس عما كان ملكهم إياها في الدنيا و أهل العشار يرونها فلا يجدون إليها سبيلا و قيل : العشار السحار يعطل مما يكون فيه و هو الماء فلا يمطر و قيل : العشار الديار تعطل فلا تسكن و قيل : الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع و القول الأول أشهر و عليه من الناس الأكثر
و قوله : { و إذا الوحوش حشرت } أي جمعت و الحشر الجمع و قد تقدم
و قوله : { و إذا البحار سجرت } أي أوقدت و صارت نارا رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه و قال قتادة : غار ماؤها فذهب و قال الحسن و الضحاك : فاضت قال ابن أبي زمنين { سجرت } حقيقته ملئت فيقضي بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا و هو معنى قول الحسن و يقال : إن الشمس تلف ثم تلقى في البحار فمنها تحمى و تنقلب نارا قال الحليمي : و يحتمل إن كان هذا هكذا أن البحار في قول من فسر التسجير بالامتلاء هو أن النار حينئذ تكون أكثرها لأن الشمس أعظم من الأرض مرات كثيرة فإذا كورت و ألقيت في البحر فصارت نارا ازدادت امتلاء
و قوله : { و إذا النفوس زوجت } تفسير الحسن أن تلحق كل شيعة شيعتها اليهود باليهود و النصارى بالنصارى و المجوس بالمجوس و كل من كان يعبد من دون الله شيئا يلحق بعضهم ببعض و المنافقون بالمنافقين و المؤمنون بالمؤمنين و قال عكرمة : المعنى تقرن بأجسادها أي ترد إليها و قيل : يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان و قيل : يقرن المؤمنون بالحور العين و الكافرون بالشياطين
و قوله : { و إذا الموؤدة سئلت } يعني بنات الجاهلية كانوا يدفنونهن أحياء لخصلتين
إحدهما : كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به
الثانية : مخافة الحاجة و الإملاق و سؤال الموؤدة على وجه التوبيخ لقاتلها كما يقال للطفل إذا ضرب لم ضربت و ما ذنبك ؟ و قال الحسن : أراد الله أن يوبخ قاتلها لانها قتلت بغير ذنب و بعضهم يقرأ { و إذا الموؤدة سئلت } تعلق الجارية بأبيها فتقول بأي ذنب قتلتني ؟ و قيل : معنى سئلت يسأل عنها كما قال { إن العهد كان مسؤولا }
و قوله : { و إذا الصحف نشرت } أي للحساب و سيأتي
و قوله : { و إذا السماء كشطت } قيل معناه طويت كما قال الله تعالى : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } أي كطي الصحيفة على ما فيها فاللام بمعنى [ على ] يقال : كشطت السقف أي قلعته فكان المعنى قلعت فطويت و الله أعلم و الكشط و القشط سواء و هو القلع و قيل : السجل كاتب للنبي صلى الله عليه و سلم و لا يعرف في الصحابة من اسمه سجل
و قوله : { و إذا الجحيم سعرت } أي أوقدت
و قوله : { و إذا الجنة أزلفت } أي قربت لأهلها و أدنيت { علمت نفس ما أحضرت } أي من عملها و هو مثل قوله : { علمت نفس ما قدمت و أخرت } و مثل قوله : { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم و أخر } فهو يوم الانشقاق و يوم الانفطار و يوم التكوير و يوم الانكدار و يوم الانتثار و يوم التسيير قال الله تعالى : { و تسير الجبال سيرا } { و إذا الجبال سيرت } و يوم التعطيل و يوم التسجير و يوم التفجير و يوم الكشط و الطي و يوم المد لقوله تعالى : { و إذا الأرض مدت } إلى غير ذلك من أسماء القيامة و هي الساعة الموعود أمرها و لعظمها أكثر الناس السؤال عنها لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أنزل الله عز و جل على رسوله { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات و الأرض لا تأتيكم إلا بغتة } و كل ما عظم شأنه تعددت صفاته و كثرت أسماؤه و هذا جميع كلام العرب ألا ترى أن السيف لما عظم عندهم موضعه و تأكد نفعه لديهم و موقعه جمهوا له خمسمائة اسم و له نظائر فالقيامة لما عظم أمرها و كثرت أهوالها سماها الله تعالى في كتابه بأسماء عديدة و وصفها بأوصاف كثيرة منها ما ذكرناه مما وقع في هذه السور الثلاث
و قيل : إن الله تعالى يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها فتوقف بين يدي الله تعالى و يوم الجمعة فيها زاهراء مضيئة يعرفها الخلائق فيوم القيامة يوم يتضمن الأيام كلها فسمى بكل حال يوما فقيل : { يوم ينفخ في الصور } ثم قيل : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } ثم قيل : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } فهذه حالة أخرى ثم قيل : يوم تعرضون ثم قيل : { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } قهذه أحوال فقد يجري يوم القيامة بطوله على هذه الأحوال كل حال منها كاليوم المتجدد و لذلك كررت في قوله تعالى : { و ما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين } لآن ذلك اليوم و مابعده يوم و اليوم العظيم متضمن لهذه الأيام فهو لله يوم و للخلائق أيام فقد عرفت أيامهم في يومه و قد بطل الليل و النهار قاله الترمذي الحكيم و مما قيل في معنى ما ذكرنا من النظم قول بعضهم :
( مثل لنفسك أيها المغرور ... يوم القامة و السماء تمور )
( إذ كورت شمس النهار و أدنيت ... حتى على رأس العباد تسير )
( و إذا النجوم تساقطت و تناثرت ... و تبدلت بعد الضياء كدور )
( و إذا البحار تفجرت من خوفها ... و رأيتها مثل الجحيم تفور )
( و إذا الجبال تقلعت بأصولها ... فرأيتها مثل السحاب تسير )
( و إذا العشار تعطلت و تخربت ... خلت الديار فما بها معمور )
( و إذا الوحوش لدى القيامة أحشرت ... و تقول للأملاك أين نسير )
( و إذا تقاة المسلمين تزوجت ... من حور عين زانهن شعور )
( و إذا الموؤدة سئلت عن شأنها ... و بأي ذنب قتلها ميسور )
( و إذا الجليل طوى السما بيمينه ... طي السجل كتابه المنشور )
( و إذا الصحائف عند ذاك تساقطت ... تبدى لنا يوم القصاص أمور )
( و إذا الصحائف نشرت فتطايرت ... و تهتكت للمؤمنين ستور )
( و إذا السماء تكشطت عن أهلها ... و رأيت أفلاك السماء تدور )
( و إذا الجحيم تسعرت نيرانها ... فلها على أهل الذنوب زفير ) ( و إذا لجنان تزخرفت و تطيبت ... لفتى على طول البلاء صبور ) ( و إذا الجنين بأمه متعلق ... يخشى القصاص و قلبه مذعور )
( هذا بلا ذنب يخاف جناية ... كيف المصر على الذنوب دهور )
و منها الساعة قال الله تعالى { و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة } و قال { و يوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } { و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } و قال { و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } و هو في القرآن كثير و الساعة كلمة يعبر بها في العربية عن جزء الزمان غير محدود و في العرف على جزء من أربعة و عشرين جزءا من يوم و ليلة و الذين هما أصل الأزمنة و تقول العرب أفعل كذا الساعة و أنا الساعة في أمر كذا تريد الوقت الذي أنت فيه و الذي يليه تقريبا له و حقيقة الإطلاق فيها أن الساعة بالألف و اللام عبارة في الحقيقة عن الوقت الذي أنت فيه و هو المسمى بالآن و سميت به القيامة إما لقربها فإن كل آت قريب و إما أن تكون سميت بها تنبيها على ما فيها من الكائنات العظام التي تصهر الجلود و تكسر العظام و قيل : إنما سميت بالساعة لأنها تأتي بغتة في ساعة و قيل : إنما سميت بالساعة لأن الله تعالى يأمر السماء أن تمطر بماء الحيوان حتى تنبت الأجساد في مدافنها و مواضعها حيث كانت من بحر أو بر و تستقل و تتحرك بحياتها بماء الحيوان و ليست فيها أرواح ثم تدعى الأرواح فأرواح المؤمنين تتوقد نورا و أرواح الكافرين تتوهج ظلمة فإذا دعا الأرواح ألقاها في الصور ثم يأمر إسرافيل أن ينفخ في الصور فإذا نفخ فيه خرجت من الصور ثم أمرت أن تلحق الأجساد فتبعث إلى الأجساد في أسرع من اللمحة و أنما سميت الساعة لسعي الأرواح إلى الأجساد في تلك السرعة فهي سائغ و جمعها ساعة كقولك بائع و باعة و ضائع و ضاعة و كائل و كالة فوصف أن سائر أموره في السرعة كلمح البصر و أمر السائق أقرب من لمح البصر قاله الترمذي الحكيم
و ذكر أبو نعيم الحافظ بإسناده عن و هب بن منبه قال : إذا قامت الساعة صرخت الحجارة صراخ النساء و قطرت العظاة دما و منها القيامة قال الله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة } و هي في العربية مصدر قام يقوم و دخلها التأنيث للمبالغة على عادة العرب و اختلف في تسميتها بذلك على أربعة أقوال
الأول : لوجود هذه الأمور فيها
الثاني : لقيام الخلق من قبورهم إليها قال الله تعالى { يوم يخرجون من الأجداث سراعا }
الثالث : لقيام الناس لرب العالمين كما روى مسلم [ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم يوم يقوم الناس لرب العالمين قال يوم يقوم أحدكم في رشحه إلى نصف أذنيه ] قال ابن عمر رضي الله عنهما [ يقومون مائة سنة ] و يروى عن كعب [ يقومون ثلاثمائة سنة ]
الرابع : لقيام الروح و الملائكة صفا قال الله تعالى { يوم يقوم الروح و الملائكة صفا }
قال علماؤنا : و اعلم أن كل ميت مات فقد قيامته و لكنها قيامة صغرى و كبرى فالصغرى هي ما يقوم على كل إنسان في خاصته من خروج روحه و فراق أهله و انقطاع سعيه و حصوله على عمله إن كان خيرا فخير و إن كان شرا فشر و القيامة الكبرى هي التي تعم الناس و تأخذهم أخذة واحدة و الدليل على أن كل ميت يموت فقد قامت قيامته قول النبي صلى الله عليه و سلم لقوم من الأعراب و قد سألوه متى القيامة ؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال : [ إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم ] أخرجه مسلم و غيره و قال الشاعر :
( خرجت من الدنيا و قامت قيامتي ... غداة أقيل الحاملون جنازتي )
( و عجل أهلي حفر قبري و صبروا ... خروجي و تعجيلي إليه كرامتي )
( كأنهم لم يعرفوا قط سيرتي ... غداة أتى يومي علي و ساعتي )
و منها : يوم النفخة قال الله تعالى { يوم ينفخ في الصور } و قد مضى القول فيه
و منها : يوم الزلزلة و يوم الرجفة قال الله تعالى { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة } و قد تقدم
و منها : يوم الناقور كقوله تعالى { فإذا نقر في الناقور } و قد تقدم القول فيه و الحمد لله
و منها : القارعة سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها يقال : قد أصابتهم قوارع الدهر أي أهواله و شدائده قالت الخنساء :
( تعرفني الدهر نهشا و حزا ... و أوجعني الدهر قرعا و غمزا )
أرادت أن الدهر أوجعها بكبريات نوائبه و صغرياتها
و منها : يوم البعث و حقيقته إثارة الشيء عن خفاء و تحريكة عن سكون قال عنترة :
( و عصابة شم الأنوف بعثهم ... ليلا و قد مال الكرا بطلاها )
و قال امرؤ القيس :
( و فتيان صدق قد بعثت بسحرة ... فقاموا جميعا بين غات و نسوان )
و قد تقدم القول فيه و في صفته و الحمد لله و منها : يوم النشور و هو عبارة عن الإحياء يقال : قد أنشر الله الموتى فنشروا أي أحياهم الله فحييوا و منه قوله تعالى { و انظر إلى العظام كيف ننشزها } أي نحييها و قد يكون معناه التفريق من ذلك قولك أمرهم نشر
و منها : يوم الخروج قال الله تعالى { يوم يخرجون من الأجداث سراعا } فأوله الخروج من القبور و آخره خروج المؤمنين من النار ثم لا خروج و لا دخول على ما يأتي
و منها : يوم الحشر و هو عبارة عن الجمع و قد يكون مع الفعل إكراه قال الله تعالى : { و أرسل في المدائن حاشرين } أي من يسوق السحرة كرها و قد مضى القول في الحشر مستوفي و الحمد لله
و منها : يوم العرض قال الله تعالى : { يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية } و قال : { و عرضوا على ربك صفا } و حقيقتة إدراك الشيء بإحدى الحواس ليعلم حاله و غايته السمع و البصر فلا يزال الخلق قياما في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما شاء الله أن يقوموا حتى يلهموا أو يهتموا فيقولون : قد كنا نستشفع في الدنيا فهلم فلنسال الشفاعة إلى ربنا فيقولون : أئتوا آدم الحديث و سيأتي
قال ابن العربي : و في كيفية العرض أحاديث كثيرة المعول منها على تسعة أحاديث في تسعة أوقات :
الأول : الحديث المشهور الصحيح رواه [ أبي هريرة و أبو سعيد الخدري رضي الله عنهما و اللفظ له قال : إن ناسا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب و هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فها سحاب قالوا : لا يا رسول الله قال : ما تضارون في رؤية الله يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام و النصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر و غير أهل الكتاب فيدعى اليهود فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد عزيز بن الله فيقال لهم : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة و لا ولد فماذا تبغون ؟ قالوا عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا قيتساقطون في النار ثم تدعى النصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم : كذبتم ما تخذ الله من صاحبة و لا ولد فيقال لهم : ماذا تبغون ؟ فيقولون : عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من يعبد الله من بر وفاجر أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال : فماذا تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم و لم نصاحبهم فيقول : أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم و بينه آية فتعرفونه بها فيقولون : نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود و لا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم و قد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم و تحل الشفاعة و يقولون اللهم سلم سلم ] و ذكر الحديث و سيأتي تمامه إن شاء الله تعالى
الثاني : صح حديث [ عائشة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من نوقش الحساب عذب قلت يا رسول الله أليس الله يقول { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } قال : ليس ذلك الحساب ذلك العرض ] و سيأتي
الثالث : روى الحسن [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ] وسيأتي
الرابع : روي عن [ أنس رضي الله عنه أنه قال عن النبي صلى الله عليه و سلم يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنه بذج ] الحديث و سيأتي
الخامس : ثبت عن [ أبي هريرة رضي الله عنه و أبي سعيد الخدري و اللفظ له يؤتى بعبد يوم القيامة فيقال له ألم أجعل لك سمعا و بصرا و مالا و ولدا و تركتك ترأس و ترتع فكنت تظن أنك ملاقى يومك هذا فيقول : لا فيقال له : اليوم أنساك كما نسيتني ] و هذا حديث صحيح قلت : خرجه مسلم و الترمذي مطولا
السادس : ثبت من طرق صحاح [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيضع عليه كفنه فيقول له عبدي تذكر يوم كذا وكذا حين فعلت كذا وكذا فلا يزال يقرره حتى يرى أنه هلك ثم يقول له : عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ]
السابع : و في الصحيح [ عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا و آخر أهل النار خروجا من النار رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال أعرضوا عليه صغار ذنوبه و ارفعوا عنه كبارها ] و ذكر الحديث
الثامن : و في الصحيح [ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يخرج من النار أربعة فيعرضون على الله فيلتفت أحدهم فيقول : أي رب إذا أخرجتني منها فلا تعدني فيها فينجيه الله منها ]
و روى مسلم [ يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول لهم : و هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك ] و ذكر حديث الشفاعة قال الله تعالى { و يوم يعرض الذين كفروا على النار } و ذلك قوله في الحديث المتقدم [ ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا ] قال القاضي أبو بكر بن العربي : و هذا مما أغفله الأئمة في التفسير
التاسع : العرض على الله و لا أعلمه في الحديث إلا قوله في النص المتقدم حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر و فاجر أتاهم رب العالمين و ذكر الحديث
قلت : إذا تتبعت الأحاديث في هذا الباب على هذا السياق كان الحسن و الصحيح منها أكثر من تسعة
و قد خرج عن [ أبي بردة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ] الحديث و سيأتي
و قوله في الحديث الآخر [ إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن عمله ]
و خرج مسلم عن [ عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه و بينه ترجمان ] الحديث و سيأتي
و خرج البخاري عن [ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يارب ] الحديث وسيأتي
و يتضمن من غير رواية البخاري عرض اللوح المحفوظ ثم إسرافيل ثم جبرائيل ثم الأنبياء نبيا نبيا صلوات الله عليهم أجمعين و سيأتي
و خرج الترمذي و ابن ماجه حديث الرجل الذي ينشر عليه تسعة و تسعون سجلا و سيأتي
و هذا كله من باب العرض على الله و إذا تتبعت الأحاديث كانت أكثر من هذا في مواطن مختلفة و أشخاص متباينة و الله أعلم و في بعض الخبر أنه يتمنى رجال أن يبعث بهم إلى النار و لا تعرض قبائحهم على الله تعالى و لا يكشف مساوئهم على رؤوس الخلائق
قلت : و أما ما وقع ذكره في الحديث من كشف الساق و ذكر الصورة فيأتي إيضاحه ذلك و كشفه إن شاء الله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
و أما ما جاء من طول هذا اليوم و وقوف الخلائق فيه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقد جاء من حديث [ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فقلت : ما أطول هذا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا ] ذكره قاسم بن أصبغ و قيل : غير هذا و سيأتي
و منها : يوم الجمع و حقيقته في العربية ضم واحد إلى واحد فيكون شفعا أو زوجا إلى زوج فيكون جمعا قال الله تعالى : { يوم يجمعكم ليوم الجمع } و قال { ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } و هو في القرآن كثير
و منها : يوم التفرق قال الله تعالى { و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون * و أما الذين كفروا و كذبوا بآياتنا و لقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون } و هو معنى قوله تعالى { فريق في الجنة و فريق في السعير }
و منها : يوم الصدع و الصدر أيضا قال الله تعالى { يومئذ يصدر الناس أشتاتا } و قال يومئذ يصدعون و معناهما معنى الإسم الذي قبله
و منها : يوم البعثرة و معناه تتبع الشيء المختلط مع غيره حتى يخلص منه فيخلص الله تعالى الأجسام من التراب و الكافرين من المؤمنين و المنافقين ثم يخلص المؤمنين من المنافقين كما في الحديث الصحيح : [ إن الله تعالى يجمع الأوليين و الآخرين في صعيد واحد ] خرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
و منها : ما روي [ أنه يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم ] و هو صحيح أيضا و سيأتي و قال صلى الله عليه و سلم [ يؤخذ برجال ذات الشمال فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ]
و منها : يوم الفزع و حقيقته ضعف النفس عن حمل المعاني الطارئة عليها خلاف العادة فإن استمر كان جبنا و عند ذلك تتشوق النفس إلى ما يقويها فلأجل ذلك قالوا : فزعت من كذا أي ضعفت عن حمله عن طريانه على خلاف العادة و فزعت إلى كذا أي تشوقت نفسي عند ذلك إلى ما يقويها على ما نزل بها والآخرة كلها خلاف العادة و هي فزع كلها و في التنزيل لا يحزنهم الفزع الأكبر و قد اختلف فيه فقيل هو قوله لا بشرى يومئذ للمجرمين و قيل إذا طبقت النار على أهلها و ذبح الموت بين الجنة و النار و قال الحسن : هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار و عنه أن الفزع الأكبر النفخة الآخرة و تتلقاهم الملائكة بالبشارة حتى يخرجوا من قبورهم
و منها : يوم التناد بتخفيف الدال من النداء و تشديدها من ند إذا ذهب و هو قال تعالى { يوم تولون مدبرين } و هو الذهاب في غير قصد و روي أيضا عن [ أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السموات و الأرض ] الحديث و قد تقدم التي يقول الله ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق فيسير الله الجبال و يرج الأرض بأهلها رجا و هي التي يقول الله { يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة * أبصارها خاشعة } فيميد الناس على ظهرها فتذهل المراضع و تضع الحوامل و تشيب الولدان و تولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا و هو الذي يقول الله تعالى { يوم التناد * يوم تولون مدبرين } قال ابن العربي : و قد رويت في ذلك آثار كثيرة هذا أمثلها فدعوها فالمعنى الواحد يكفينا منها و من هولها و من تحقيق المعنى لها
قلت : قد بينا أقوال العلماء في ذلك عند ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه في باب أين تكون الناس فتأمله هناك
و منها : يوم الدعاء و هو النداء أيضا
و النداء على ثمانية و جوه فيما ذكر ابن العربي :
الأول : نداء أهل الجنة أهل النار بالتقريع
الثاني : نداء أهل النار لأهل الجنة بالاستغاثة كما أخبر الله عنهم
الثالث : يدعى كل أناس بإمامهم و هو قوله [ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ] قال المؤلف : و يقال بكتابهم و قيل : نبيهم قال سري السقطي : تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها فيقال يا أمة موسى يا أمة عيسى و يا أمة محمد غير المحبين لله فإنهم ينادون يا أولياء الله هلموا إلى الله سبحانه فتكاد قلوبهم تنخلع فرحا
الرابع : نداء الملك ألا إن فلان بن فلان قد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا و إن فلان ابن فلان قد شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا و سيأتي
الخامس : النداء عند ذبح الموت يا أهل الجنة خلود فلا موت و ياأهل النار خلود فلا موت
السادس : نداء أهل النار يا حسرتنا و ياويلنا
السابع : قول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين
الثامن : نداء الله تعالى أهل الجنة فيقول : يا أهل الجنة هل رضيت ؟ فيقولون : و ما لنا لا نرضى و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : أعطيتكم أفضل من ذلك رضائي
الجزء الثاني من باب قول النبي صلى الله عليه و سلم من سره أن ينظر إلى
يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت و إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقت و في أسماء يوم القيامة
قال المؤلف رضي الله عنه : و نداء تاسع ذكره أبو نعيم عن مروان بن محمد قال : قال أبو حازم الأعرج : يخاطب نفسه يا أعرج ينادي يوم القيامة يا أهل خطيئة كذا و كذا و كذا فتقوم معهم ثم ينادي يا أهل خطيئة أخرى فتقوم معهم فأراك يا أعرج تريد أن تقوم مع أهل كل خطيئة و في التنزيل يوم يناديهم فيقول { أين شركائي } الآية التي في القصص و حم السجدة و يوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين و بالنداء في الأخبار كثير يأتي بيانها و ذكرها في باب من يدخل الجنة بغير حساب
و منها : يوم الواقعة و أصل وقع في كلام العرب كان و وجد و جاءت الشريعة في تأكيد ذلك بثبوت ما وجد قال الله تعالى : { و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم } و المراد بالقول هنا إخبار الباري عن الساعة و أنها قريبة و من أعظم علاماتها الدابة و سيأتي ذكرها و ما للعلماء فيها من الأشراط إن شاء الله تعالى و قوله كاذبة مصدر كالباقية و العاقبة أي ليس لوقعتها مقالة كاذبة
و منها : الخافضة الرافعة أي ترفع قوما في الجنة و تخفض أخرى في النار و الخفض و الرفع يستعملان عند العرب في المكان و المكانة و العز و الإهانة و نسب سبحانه الخفض و الرفع للقيامة توسعا و مجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل و الزمان و غيرهما مما لم يمكن منه الفعل يقولون ليل قائم و نهار صائم و في التنزيل { بل مكر الليل و النهار } و الخافض و الرافع على الحقيقة إنما هو الله تعالى وحده فرفع أولياءه في أعلى الدرجات و جعل أعداءه في أسفل الدركات قال الله تعالى { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا * و نسوق المجرمين إلى جهنم وردا } و [ قال صلى الله عليه و سلم في حديث جابر رضي الله عنه : نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس ] قال ابن العربي و هذا حديث فيه تخليط في كتاب مسلم لم يتقنه رواية و معناه : أن جميع الخلق على بسيط من الأرض سواء إلا محمدا صلى الله عليه و سلم و أمته فإنهم يرفعون جميعهم على شبه من الكوم و يخفض الناس عنهم و في رواية : [ أكون أنا و أمتي يوم القيامة على تل فيكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي فذلك المقام المحمود ]
قلت : و هذا الرفع في المكان بحسب الزيادة في المكانة قال ابن العربي : و هي أنواع فرفع محمدا صلى الله عليه و سلم بالشفاعة في أول الخلق و بأنه أول من يدخل الجنة و يقرع بابها و رفع العادلين بالحديث الصحيح المقسطون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن و كلتا يديه يمين و رفع القراء إلى حيث انتهت قراءتهم يقال : اقرأ و رتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها و سيأتي ورفع الشهداء فقال في الحديث الصحيح [ إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ] الحديث و سبأتي و رفع كافل اليتيم فقال صلى الله عليه و سلم [ أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة ] و أشار مالك بالسبابة و الوسطى يريد في الجوار و قال صلى الله عليه و سلم : [ إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغائر في أفق السماء و أن أبا بكر و عمر منهم و أنعما و رفع عائشة على فاطمة رضي الله عنهما فإن عائشة مع النبي صلى الله عليه و سلم و فاطمة مع علي رضي الله عنهما ]
و منها : يوم الحساب و معناه أن الباري سبحانه يعدد على الخلق أعمالهم من إحسان و إساءة يعدد عليهم نعمه ثم يقابل البعض بالبعض فما يشف منها على الآخر حكم للمشفوق بحكمه الذي عينه للخير بالخير و للشر بالشر
و جاء عن النبي أنه قال : [ ما منكم من أحد إلا و سيكلمه الله ليس بينه و بينه ترجمان ] فقيل إن الله يحاسب المكلفين بنفسه و يخاطبهم معا و لا يحاسبهم واحدا بعد واحد و المحاسبة حكم فلذلك تضاف إليه كما يضاف الحكم إليه قال الله تعالى : { ألا له الحكم } و قال { و هو خير الحاكمين }
و في الخبر : أنه يوقف شيخ للحساب فيقول الله له : يا شيخ ما أنصفت غذوتك بالنعم صغيرا فلما كبرتك عصيتني أما إني لا أكون لك كما كنت لنفسك اذهب فقد غفرت لك ما كان قبل و إنه ليؤتى بالشاب كثير الذنوب فإذا وقف تضعضعت أركانه و اصطكت ركبتاه فيقول الرب جل جلاله : أما استحييتني أما راقبتني أما خشيت نقمتي أما علمت أني مطلع عليك خذوه إلى أمه الهاوية و قيل : إن الملائكة يحاسبون بأمر الله كما أن الحكام يحكمون بأمر الله تعالى و قد قال الله تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا } إلى قوله { و لا يكلمهم الله } و إن من لم يكن بهذه الصفة فإن الله تعالى يكلمه فيكلم المؤمنين و يحاسبهم حسابا يسيرا من غير ترجمان إكراما لهم كما أكرم موسى عليه السلام في الدنيا بالكليم و لا يكلم الكفار فتحاسبهم الملائكة و يميزهم بذلك عن أهل الكرامة فتتسع قدرته لمحاسبة الخلق كلهم معا كما تتسع قدرته لإحداث خلائق كثيرة معا
قال الله تعالى : { ما خلقكم و لا بعثكم إلا كنفس واحدة } أي إلا كخلق نفس واحدة
و يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه و سئل عن محاسبة الخلق فقال : كما يرزقهم في غداة واحدة كذلك يحاسبهم في ساعة واحدة و في صحيح مسلم [ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحابة ؟ قالوا : لا قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر وليس في سحابة قالةا : لا قال : فو الذي نفس محمد بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما قال : فيلقى العبد فيقول : أيأفل ألم أكرمك و أسودك و أزوجك و أسخر لك الخيل و الإبل و أذرك ترأس و ترتع ؟ فيقول : بلى فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا فيقول : إني أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثاني فيقول له و يقول هو مثل ذلك بعينه ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك و بكتابك و برسلك و صليت و تصدقت و صمت و يثني بخير ما استطاع قال : فيقول ها هن إذا ثم يقول الآن نبعث شاهدا عليك فيقول في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه و يقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه و لحمه و عظام بعمله و ذلك ليعذر من نفسه و ذلك المنافق و ذلك الذي يسخط الله عليه و قد قال الله تعالى { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } أي حاسبا فعيلا بمعنى فاعل و إذا نظر فيها و رأى أنه قد هلك فإن أدركته سابقة حسنة وضعت له لا إله إلا الله في كفة فرجحت له السموات و الأرض و في رواية فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة ] و سيأتي و قال [ من نوقش الحساب عذب ]
و منها : يوم السؤال و الباري سبحانه و تعالى يسأل الخلق في الدنيا و الآخرة تقريرا لإقامة الحجة و إظهارا للحكمة قال الله تعالى : { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } و قال { و اسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } و قال : { و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } و هو في القرآن كثير و قال : { ليسأل الصادقين عن صدقهم } و قال : { و إذا الموؤدة سئلت } و قال : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } قيل : عن لا إله إلا الله و قال : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } و قال عليه السلام [ لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ] الحديث و سيأتي
[ و روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ألا كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع و مسؤول عن رعيته و الرجل راع على أهل بيته و هو مسؤول عنهم و المرأة راعية على بيت زوجها و هي مسؤولة عنه و العبد راع على مال سيده و هو مسؤول عنه ألا فكلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته ]
ومنها : يوم الشهادة و يوم يقوم الأشهاد
و الشهادة على أربعة أنواع :
شهادة محمد و أمته تحقيقا لشهادة الرسل على قومها
الثاني : شهادة الأرض و الأيام و الليالي بما عمل فيها و عليها
الثالث : شهادة الجوارح قال الله تعالى : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم } و قال : { و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } و ذلك بين أيضا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه
الرابع : حديث أنس رضي الله عنه و فيه و يختم على فيه و يقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله و سيأتي بيان هذا الباب كله إن شاء الله تعالى
و مناه : يوم الجدال قال الله تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } أي تخاصم و تحاج عن نفسها و جاء في الخبر : أن كل أحد يقول يوم القيامة نفسي نفسي من شدة أهوال يوم القيامة سوى محمد صلى الله عليه و سلم فإنه يسأل في أمته على ما يأتي
و في حديث عمر رضي الله عنه أنه قال لكعب الأحبار يا كعب : خوفنا هيجنا حدثنا نبهنا فقال كعب : يا أمير المؤمنين و الذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لأتت عليك تارات و لا يهمك إلا نفسك و إن لجهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب و لا نبي منتخب إلا وقع جاثيا على ركبتيه حتى إن إبراهيم الخليل ليدلى بالخلة فيقول رب أنا خليلك إبراهيم لا أسألك اليوم إلا نفسي قال يا كعب : اين نجد ذلك في كتاب الله تعالى ؟ قال : قوله تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها و توفى كل نفس ما عملت و هم لا يظلمون }
و قال ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية : ما تزال الخصومة بالناس يوم القيامة حتى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح : رب الروح منك أنت خلقته لم يكن لي يد أبطش بها و لا رجل أمشي بها و لا عين أبصر بها و لا أذن أسمع بها و لا عقل أعقل به حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعف عليه أنواع العذاب و نجني فيقول الجسد : رب أنت خلقتني بيدك فكنت كالخشبة ليس لي يد أبطش بها و لا قدم أسعى بها و لا بصر أبصر به و لا سمع أسمع به فجاء هذا كشعاع الشمس فيه نطق لساني و به أبصر عيني و به مشت رجلي و به سمعت أذني فضعف عليه أنواع العذاب و نجني قال : فيضرب الله لهما مثلا أعمى و مقعد أدخلا بستانا فيه ثمار فالأعمى لا يبصر و المقعد لا ينالها فنادى المقعد للأعمى ائتني فاحملني آكل و أطعمك فدنا منه فحمله فأصابا من الثمرة فعلى من يكون العذاب قالا : عليهما قال : عليكم جميعا العذاب
قال المؤلف رضي الله عنه و أرضاه : و من هذا الباب قول الأمم : كيف يشهد علينا من لم يدركنا إلى غير ذلك مما في معناه حسب ما يأتي
و منها : يوم القصاص و فيه أحاديث كثيرة يأتي ذكرها في باب إن شاء الله تعالى
و منها : يوم الحاقة و سميت بذلك لأن الأمور تحق فيها قاله الطبري كأنه جعلها من باب : ليلي نائم كما تقدم
و قيل : سميت حاقة لأنها كانت من غير شك و قيل : سميت بذلك لأنها أحقت لأقوام النار
و منها يوم الطامة معناها الغالبة من قولك طم الشيء إذا علا و غلب و لما كانت تغلب كل شيء كان لها هذا الاسم حقيقة دون كل شيء قال الحسن : الطامة النفخة الثانية و قيل : حين يساق أهل النار إلى النار
و منها : يوم الصاخة قال عكروة : الصاخة : النفخة الأولى و الطامة : النفخة الثانية قال الطبري أحسبه من صخ فلان فلانا إذا أصمه قال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم و إنها المسمعة و هذا من بديع الفصاحة حتى لقد قال بعض أحداث الأسنان حديثي الأزمان :
( أصم بك الناعي و إن كنت أسمعا )
و قال آخر :
( أصمني شرهم أيام فرقتهم ... فهل سمعتم بشر يورث الصمما )
و لعمرو الله إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا و تسمع أمور الآخرة و بهذا كله كان يوما عظيما كما قال الله تعالى في وصفه بالعظيم وكل شيء كبر في أجزائه فهو عظيم كذلك ما كبر في معانيه و بهذا المعنى كان الباري عظيما لسعة قدرته و علمه و كثرة ملكه الذي لا يحصى و لما كان أمر الآخرة لا ينحصر كان عظيما بالإضافة إلى الدنيا و لما كان محدثا له أول صار حقيرا بالإصافة إلى العظيم الذي لا يحد
و منها : يوم الوعيد و هو أن الباري سبحانه أمر و نهى و وعد و أوعد فهو أيضا يوم الوعد و الوعد للنعيم و الوعيد للعذاب الأليم و حقيقة الوعيد هو الخبر عن العقوبة عند المخالفة و الوعد الخبر عنى المثوبة عند الموافقة و قد ضل في هذه المسألة المبتدعة و قالوا : إن من أذنب ذنبا واحدا فهو مخلد في النار تخليد الكفار أخذا بظاهر هذا اللفظ في آي فلم يفهموا العربية و لا كتاب الله و أبطلوا شفاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سيأتي الرد عليهم في أبواب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
و منها : يوم الدين و هو في لسان العرب الجزاء قال الشاعر :
( حصادك يوما ما زرعت و إنما ... يدان الفتى فيه كما هو دائن )
و قال آخر :
( و اعلم يقينا أن ملكك زائل ... و اعلم بأنك كما تدين تدان )
و منها : يوم الجزاء قال الله تعالى : { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } و قال : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } و هو أيضا يوم الوفاء قال الله تعالى : { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } أي حسابهم و جزاؤهم و الجنة جزاء الحسنات و النار جزاء السيئات قال الله تعالى في المعنيين { جزاء بما كانوا يكسبون } و { جزاء بما كانوا يعملون } و قال في جهة الوعيد كذلك { نجزي كل كفور }
و منها : يوم الندامة و ذلك أن المحسن إذا رأى جزاء إحسانه و الكافر جزاء
كفره ندم المحس أن لا يكون مستكثرا و ندم المسيء أن لا يكون استعتب فإذا صار الكافر إلى عذاب لا نفاد له تحسر فلذلك سمي يوم الحسرة قال الله تعالى : { و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر } و ذلك عند ذبح الموت على ما يأتي و هم في غفلة يعني الآن عن ذلك اليوم و الحسرة : عبارة عن استشكاف المكروه بعد خفائه
و منها : يوم التبديل قال الله تعالى : { يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات } و قد تقدم القول في ذلك مستوفى
و منها : يوم التلاق قال الله تعالى : { لينذر يوم التلاق } و هو عبارة عن اتصال المعنيين بسبب من أسباب العلم و الجسمين و هو أنواع أربعة :
الأول : لقاء الأموات لمن سبقهم إلى الممات فيسألونهم عن أهل الدنيا كما تقدم
و الثاني : عمله و قد تقدم
الثالث : لقاء أهل السموات لأهل الأرض في المحشر و قد تقدم
الرابع : لقاء الخلق للباري سبحانه و تعالى و ذلك يكون في عرصات القيامة و في الجنة على ما يأتي
و منها : يوم الآزفة تقول العرب أزف كذا أي قرب قال الشاعر :
( أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما نزل برحالنا و كأن قد )
و هي قريبة جدا و كل آت قريب و إن بعد مداه قال الله تعالى : { و ما يدريك لعل الساعة تكون قريبا } و ما يستبعد الرجل من الساعة و مدته ساعة
و منها : يوم المآب و معناه الرجوع إلى الله تعالى و لم يذهب عن الله شيء فيرجع إليه و إنما حقيقته أن العبد يخلق الله فيه ما شاء من أفعاله لما خلق فيه علما و خلق فيه إيثارا و اختيارا ظن الناس أنه شيء أو أن له فعلا فإذا أماته و سلب ما كان أعطاه أذعن و آب في وقت لا ينفعه الإياب و لم يزل عن الله تعالى في حال فهو الأواب
و منها : يوم المصير و هو يوم المآب بعينه قال الله تعالى : { و لله ملك السموات و الأرض و إلى الله المصير } فالخلق سائرون إلى أمر الله تعالى و آخر ذلك ذار القرار و هي الجنة أو النار قال الله تعالى في حق الكافرين : { قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار }
و منها : يوم القضاء وهو أيضا يوم الحكم و الفصل و سيأتي أن أول ما يقضى فيه الدماء و قال صلى الله عليه و سلم : [ ما من صاحب ذهب و لا فضة لا يؤدى منها حقها ] الحديث و فيه كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد و الفصل هو الفرق و القطع فيفصل يومئذ بين المؤمن و الكافر و المسيء و المحسن قال الله تعالى : { يوم القيامة يفصل بينكم } الآية و هو يوم الحكم لأن إنفاذ الحكم هو إنفاذ العلم قال الله تعالى : { الملك يومئذ لله يحكم بينهم } الآية و قال { ذلكم حكم الله يحكم بينكم }
و منها : يوم الوزن قال الله تعالى : { و الوزن يومئذ الحق } الآية و سيأتي الكلام في الميزان و وزن الأعمال فيه في أبواب إن شاء الله
و منها : يوم عقيم و هو في اللغة عبارة عن من لا يكون له ولد و لما كان الولد يكون بين الأبوين و كان الأيام تتوالى قبل و بعد جعل الاتباع بالتعدية فيها كهيئة الولادة و لما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقيم
و منها : يوم عسير و هذا في حق الكافرين خاصة و العسر ضد اليسر فهو عسير على الكافرين لأنهم لا يرون فيه أملا و لا يقطعون فيه رجاء حتى إذا خرج المؤمنون من النار طلبوا مثل ذلك فيقال لهم { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } فحينئذ يكون المنع الصريح على ما يأتي بيانه في أبواب النار إن شاء الله تعالى و أما المؤمنون فتنحل عقدهم بيسر إلى يسر فينحل طول الوقوف إلى تعجيل الحساب و تثقيل الموازين و جواز الصراط و الضلال بالأعمال و لا تنحل للكافرين من هذه العقد عقدة واحدة إلا إلى أشد منها حتى إلى جهنم دار القرار
و منها : يوم مشهود سمي بذلك لأنه يشهده كل مخلوق و قيل : سمي بذلك لأن الشهداء يشهدون فيه على ما يأتي و الله أعلم
و منها : يوم التغابن سمي بذلك لأن الناس يتغابنون في المنازل عند الله : فريق في الجنة و فريق في السعير و حقيقته في لسان العرب : ظهور الفضل في المعاملة لأحد المتعاملين و الدنيا و الآخرة دار العملين و حالين و كل واحد منهما لله و لا يعطى أحدهما إلا لمن ترك نصيبه من الأخرى : قال الله تعالى { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } و قال : { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه و من كان يريد حرث الدنيا نؤته منها و ما له في الآخرة من نصيب } و من أراد الآخرة فسعيه مشكور و حظه في الآخرة موفور
و منها : يوم عبوس قمطرير و القمطرير : الشديد و قيل الطويل و أما العبوس فهو الذي يعبس فيه سمي باسم ما يكون فيه كما يقال ليل قائم و نهار صائم و كلوح الوجه و عبوسه هو قبض ما بين العينين و تغير السحنة عن عادتها الطلقة يقال : يوم طلق إذا كانت شمسه نيرة فاترة و إذا كانت شمسه مدجية قد غطاها السحاب قيل : يوم عبوس و أول العبوس و الكلوح عند الخروج من القبور و رؤية الأعمال في الصور القبيحة كما تقدم و آخر ذلك كلوح النار و هو الكلوح الأعظم يشوي الوجوه و يسقط الجلود على ما يأتي و مع العبوس تشخص الأبصار و هي ثبوتها راكدة على منظر واحد لهول لا ينتقل منه إلى غيره كما قال سبحانه { ليوم تشخص فيه الأبصار }
و منها : يوم تبلى السرائر و معناه إخراج المخبآت بالاختبار بوزن الأعمال في الصحف و يكشف الساق عند السجود على ما يأتي
و منها : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و هو مثل قوله { و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا و لا يقبل منها شفاعة و لا يؤخذ منها عدل و لا هم ينصرون } و قال : { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا } فكل نفس بما كسبت رهينة لا يغنى أحد عن أحد شيئا بل ينفصل كل واحد عن أخيه و أبيه و لذلك كان يوم الفصل و يوم الفرار قال الله تعالى : { إن يوم الفصل كان ميقاتا } و قال تعالى : { يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } أما إنه يجزي و يقضي و يعطي و يغني بغير اختياره من حسناته ما عليه من الحقوق على ما يأتي بيانه في أحاديث المفلس إن شاء الله تعالى
و منها : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا والدع الدفع أي يدفعون إلى جهنم و يسحيون فيها وجوههم كما قال تعالى : { يوم يسحبون في النار على وجوههم }
و منها : يوم التقلب و هو التحول قال الله تعالى : { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الأبصار } أي قلوب الكفار و أبصارهم فتقلب قلوب الكفار انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا هي ترجع إلى أماكنها و لا هي تخرج فأما تقلب الأبصار فالزرقة بعد الحكل و العمى بعد البصر و قيل : تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة و الخوف من الهلاك و الإبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم و إلى أي ناحية يؤخذ بهم و قيل : إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك و كذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة
و منها : يوم الشخوص و الإقناع قال الله تعالى : { إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار } أي لا تغمض فيه من هول ما ترى في ذلك اليوم قاله الفراء
و قال ابن عباس رضي الله عنه : تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يغتمضون { مهطعين } أي مديمي النظر
قال مجاهد و الضحاك : { مقنعي رؤوسهم } أي رافعي رؤوسهم و إقناع الرأس رفعه قاله ابن عباس و مجاهد و قال الحسن : وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد فإن قيل : فقد قال الله تعالى في غير هذه الآية { خاشعة أبصارهم } و قال : { خشعا أبصارهم } فكيف يكون الرافع رأسه الناظر نظرا طويلا حتى إن طرفه لا يرتد إليه خاشع البصر ؟
فالجواب أنهم يخرجون حال المضي إلى الموقف خاشعة أبصارهم و في هذه الحال وصفهم الله تعالى بخشوع الأبصار و إذا توافوا و ضمهم الموقف و طال القيام عليهم فإنهم يصيرون من الحيرة كأنهم لا قلوب لهم و يرفعون رؤوسهم فينظرون النظر الطويل و لا يرتد إليهم طرفهم كأنهم قد نسوا الغمض أو جلهوه فهو تعسير عليهم
و منها : { هذا يوم لا ينطقون * و لا يؤذن لهم فيعتذرون }
و ذلك حين يقال لهم { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } و تطبق عليهم جهنم على ما يأتي بيانه في أبواب النار
و منها : { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم } و إن أذن لهم بأن يمكنوا منها لا بأن يقال لهم اعتذروا كقوله { ربنا إنا أطعنا سادتنا و كبراءنا } الآية و كقوله { ربنا أخرجنا منها } الآية
و منها : { و لا يكتمون الله حديثا }
و منها : يوم الفتنة قال الله تعالى { يوم هم على النار يفتنون } أي يعذبون من قولك فتنت الذهب إذا رميت به في النار
و منها : { يوم لا مرد له من الله } يريد يوم القيامة أي لا يرده أحد بعد ما حكم الله به و جعل له أجلا و وقتا
و منها : يوم الغاشية و سميت بذلك لأنها تغشى بإفزاعها أي تعمهم بذلك و منه غاشية السرج و منها : فيومئذ لا يعذب عذابه أحد و لا يوثق وثاقه أحد
و منها : يوم لا بيع فيه و لا خلال قال الله تعالى { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة و ينفقوا مما رزقناهم سرا و علانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلال } و قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلة و لا شفاعة } و الخلة و الخلال الصداقة و المودة
و منها : يوم لا ريب فيه و إن وقع فيه رب الكفار أي شك فليس فيه ريب لقيام الأدلة الظاهرة عليه كما قال الله تعالى { أفي الله شك } فليس في الباري شك لقيام الأدلة عليه و لشهادة أفعاله و لاقتضاء المحدث أن يكون له محدث و لكن قد شك فيه قوم و نفاه آخرون و لم يوجب ذلك شكا فيه لقيام الأدلة عليه فكذلك يوم القيامة لا ريب و لا شك فيه مع النظر في الدليل و العلم فإذا خلق الله تعالى الرين على القلب كان الشك قال الله تعالى { ذلك بأن الله هو الحق و أنه يحيي الموتى و أنه على كل شيء قدير * و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور }
و منها : { يوم تبيض وجوه و تسود وجوه } و سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
و منها : يوم الأذان : دخل طاووس على هشام بن عبد الملك فقال له : اتق الله و احذر يوم الأذان فقال : و ما يوم الأذان ؟ قال : قوله تعالى { فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين } فصعق هشام فقال طاووس : هذا ذل الصفة فكيف ذل المعاينة
و منها : يوم الشفاعة قال الله تعالى { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } و قال تعالى { و لا يشفعون إلا لمن ارتضى } و قال { لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } و قال { فما لنا من شافعين } و سيأتي بيانه
و منها : يوم العرق و سيأتي بيانه في أحاديث في الباب بعد هذا بحول الله وقوته
و منها يوم القلق و الجولان و هو عبارة عند عدم الاستقرار و الثبوت يقال : قلق الرجل يقلق قلقا إذا لم يستقر و مثله جال يجول إذا لم يثبت
و منها : يوم الفرار قال الله تعالى { يوم يفر المرء من أخيه * و أمه و أبيه * و صاحبته و بنيه } فيفر كل واحد من صاحبه حذرا من مطالبته إياه إما لما بينهم من التبعات أو لئلا يروا ما هو فيه من الشدة و قال عبد الله بن طاهر الأبهري : يفر منهم لما يتبين له من عجزهم و قلة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب و الهموم عنه و لو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئا سوى ربه تعالى و قال الحسن : أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم و أول من يفر من ابنه نوح و أول من يفر من امرأته لوط قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيهم و هذا فرار التبري نجانا الله من أهوال هذا اليوم بحق محمد نبي الرحمة و صحبه الكرام البرزة و جعلنا ممن حشر في زمرتهم و لا خالف بنا على طريقهم و مذهبهم بمنه و كرمه آمين و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم
قال المؤلف : و قد سرد تسمية هذه الأيام على التوالي من غير تفسير غير واحد من العلماء منهم ابن نجاح في سبل الخيرات و أبو حامد الغزالي في غير موضع من كتبه كالإحياء و غيره و القتبي في كتاب عيون الأخبار و هذا تفسيرها حسب ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين و ربما زدنا عليه في ذلك و الحمد لله على ذلك و لا يمتنع أن تسمي غير ما ذكرنا بحسب الأحوال الكائنة فيه من الازدحام و التضايق و اختلاف الأقدام الخزي و الهوان و الذل و الافتقار و الصغار و الانكسار و يوم الميقات و المرصاد إلى غير ذلك من الأسماء و سيأتي التنبية على ذلك إن شاء الله تعالى في الباب بعد هذا
باب ما يلقي الناس في الموقف من الأهوال العظام و الأمور الجسام
قال المحاسبي في كتاب التوهم و الأهوال : يحشر الله الأمم من الإنس و الجن عراة أذلاء قد نزع الملك من ملوك الأرض و لزمهم الصغار بعد عتوهم و الذلة بعد تجبرهم على عباد الله في أرضه ثم أقبلت الوحوش من أماكنها منكسة رؤوسها بعد توحشها من الخلائق و انفرادها ذليلة من هول يوم النشور من غير ريبة و لا خطية أصابتها حتى وقفت من وراء الخلق بالذلة و الانكسار لذلك الجبار و أقبلت الشياطين بعد تمردها و عتوها خاضعة ذليلة للعرض على الملك الديان حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها و جنها و شياطينها و وحوشها و سباعها و أنعامها و هوامها تناثرت نجوم السماء من فوقهم و طمست الشمس و القمر فأظلما عليهم و مارت سماء الدنيا من فوقهم فدارت من فوقهم بعظمها فوق رؤوسهم و هي خمسمائة عام فيا هول صوت انشقاقها في سمعهم و تمزقت و تفطرت لهول يوم القيامة من عظم يوم الطامة ثم ذابت حتى صارت مثل الفضة المذابة كما قال الجبار تبارك و تعالى { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } و قال { يوم تكون السماء كالمهل * و تكون الجبال كالعهن } أي كالصوف المنفوش و هو أضعف الصوف و هبطت الملائكة من حافاتها إلا الأرض بالتقديس لربها فتوهم انحدارهم من السماء لعظم أجسامهم و كثرة أخطارهم و هول أصواتهم و شدة فرقهم من خوف ربهم فتوهم فزعك حينئذ و فزع الخلائق لنزولهم مخافة أن يكونوا قد أمروا بهم فأخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسي رؤوسهم العظيم هول يومهم قد تسربلوا أجنحتهم و نكسوا رؤوسهم بالذلة و الخضوع لربهم و كذلك ملائكة كل سماء إلى السماء السابعة قد أضعف أهل كل سماء على أهل السماء الذين قبلهم في العدة و عظم الأجسام و الأصوات حتى إذا وافى الموقف أهل السموات السبع و الأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين ثم أدنيت من الخلائق قاب قوسين أو قوس فلا ظل ذلك اليوم إلا ظل عرش الرحمن فمن بين مستظل بظل العرش و بين مضح بحر الشمس قد صهرته و اشتد فيها كربه و أقلقته و قد ازدحمت الأمم و تضايقت و دفع بعضهم بعضا و اختلفت الأقدام و انقطعت الأعناق من العطش قد اجتمع عليهم في مقامهم حر الشمس مع وهج أنفاسهم و تزاحم أجسامهم ففاض العرق منهم على وجه الأرض ثم على أقدامهم ثم على قدر مرابتهم و منازلهم عند ربهم من السعادة و الشقاء فمنهم من يبلغ العرق منكبيه و حقويه و منهم إلى شحمة أذنيه و منهم من قد ألجمه العرق فكاد أن يغيب فيه
قلت : ذكر المحاسبي و غيره أن انفطار السماء انشقاقها بعد جمع الناس في الموقف و قد قدمنا أن ذلك يكون قبل ذلك و هو ظاهر القرآن كما ذكرنا و الله اعلم و قد جاء ذلك مرفوعا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه و قد تقدم
و ما ذكره المحاسبي مروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و زيد في سعتها كذا و كذا و جمع الخلائق بصعيد واحد جهنم و إنسهم فإذا كان ذلك قبضت هذه السماء عن أهلها فينتشرون على وجه الأرض فلأهل السماء أكثر من أهل جميع الأرض جهنم و إنسهم بالضعف
الحديث بطول ما ذكره ابن المبارك في رقائقه قال : أخبرنا عوف عن أبي المنهال سيار بن سلامة الرياحي قال أخبرنا شهر بن حوشب قال : حدثني ابن عباس فذكره قال ابن المبارك و أخبرني جويبر عن الضحاك قال : إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمر الرب فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض و من فيها ثم يأمر السماء التي تليها فينزلون فيكونون صفا خلف ذلك الصف ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة فينزل الملك الأعلى في بهائه و جلاله و ملكه و بجنبته اليسرى جهنم فيسمعون زفيرها و شهيقها فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا قياما من الملائكة فذلك قوله تعالى { يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات و الأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } و السلطان العذر و ذلك قوله عز و جل { و جاء ربك و الملك صفا صفا } و قال { و انشقت السماء فهي يومئذ واهية * و الملك على أرجائها } يعني على حافاتها يعني بأرجائها ما تشفق منها فبيناهم كذلك إذ سمعوا الصوت فأقبلوا إلى الحساب
قلت : و لا يصح إسنادهما فإن شهرا و جبيرا قد تكلم فيها و ضعفوهما
قال البخاري في التاريخ جويبر بن سعيد البلخي عن الضحاك قال لي علي قال يحيى : كنت أعرف جويبرا بحديثين ثم أخرج هذه الأحاديث بعد فضعفه و أما شهر فقال مسلم في صدر كتابه سئل ابن عوف عن حديث شهر و هو قائم على أسكفة الباب فقال : إن شهرا تركوه قال مسلم : يقول أخذته ألسنة الناس تكلموا فيه و قال عن شعبة و قد لقيت شهرا فلم أعتد به
و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة نحوا مما ذكر المحاسبي عن ابن عباس رضي الله عنه و الضحاك فقال إن الخلائق إذا اجتمعوا في صعيد واحد الأولين و الآخرين أمر الجليل جل و جلاله بملائكة سماء الدنيا أن يتولوهم فيأخذ كل واحد منهم إنسانا و شخصا من المبعوثين إنسا و جنا و وحشا و طيرا و حولوهم إلى الأرض الثانية و هي أرض بيضاء من فضة نورية و صارت الملائكة من وراء العالمين حلقة واحدة فإذا هم أكثر من أهل الأرض بعشر مرات ثم إن الله سبحانه و تعالى يأمر ملائكة السماء الثانية فيحدقون بهم واحدة فإذا هم مثلهم عشرين مرة ثم تنزل ملائكة السماء الثالثة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة فإذا هم أكثر منهم ثلاثين ضعفا ثم تنزل ملائكة السماء الرابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة أكثر منهم بأربعين صفا ثم تنزل ملائكة السماء الخامسة فيحدقون من ورائهم حلقة واحدة فيكونون مثلهم خمسين مرة ثم تنزل ملائكة السماء السادسة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة و هم مثلهم ستين مرة ثم تنزل ملائكة السماء السابعة فيحدقون من وراء الكل حلقة واحدة و هم مثلهم سبعين مرة و الخلق تتداخل و تندمج حتى يعلو القدم ألف قدم لشدة الزحام و تخوض الناس في العرق على أنواع مختلفة إلى الأذقان و إلى الصدر و إلى الحقوين و إلى الركبتين و منهم من يصيبه الرشح اليسير كالقاعد في الحمام و منهم من تصيبه البلة كالعاطش إذا شرب الماء و كيف لا يكون القلق و العرق و الأرق و قد قربت الشمس من رؤوسهم حتى لو مد أحدهم يده لنالها و يضاعف حرها سبعين مرة
و قال بعض السلف لو طلعت الشمس على الأرض كهيتئها يوم القيامة لأحرقت الأرض و ذابت الصخر و جفت الأنهار فبينما الخلائق يموجون في تلك الأرض البيضاء التي ذكرها الله تعالى حيث يقول : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } و هم على أنواع في المحشر على ما تقدم في حديث معاذ و الملوك كالذر كما قد ورد في الخبر في وصف المتكبرين و ليس هم كهيئة الذر غير أن الأقدام عليهم حتى صاروا كالذر في مذلتهم و انخفاضهم و قوما يشربون ماء باردا عذبا صافيا لأن الصبيان يطوفون على آبائهم بكؤوس من أنهار الجنة يسقونهم
و عن بعض السلف أنه نام فرأى القيامة قد قامت و كأنه في الموقف عطشان و صبيان صغار يسقون الناس قال : فناديتهم ناولوني شربة فقال لي واحد منهم ألك فينا ولد ؟ فقلت : لا فقال : فلا إذا و لهذا فضل التزويج و لهذا الولد الساقي شروط ذكرناها في الإحياء و قوم قدموا على رؤوسهم ظل يمنعهم من الحر و هي الصدقة الطيبة لا يزالون كذلك ألف عام حتى إذا سمعوا نقر الناقور الذي وصفناه في كتاب الإحساء و هو بعض أسرار القرآن فتوجل له القلوب و تخشع الأبصار لعظيم نقره و تشتاف الرؤوس من المؤمنين و الكافرين يظنون أن ذلك عذاب يزداد بهم في هول يوم القيامة فإذا بالعرش تحمله ثمانية أملاك قدم الملك منهم مسيرة عشرين ألف سنة و أفواج الملائكة و أنواع الغمام بأصوات التسبيح لهم هرج عظيم لا تطيقه العقول حتى يستقر العرش في تلك الأرض البيضاء التي خلقها الله تعالى لهذا الشأن خاصة فتطرق الرؤوس و تخنس و تشفق البرايا و ترعب الأنبياء و تخاف العلماء و تفزع الأولياء و الشهداء من عذاب الله سبحانه الذي لا يطيق شيء إذ غشاهم نور حتى غلب عليه نور الشمس التي كانوا في حرها فلا يزالون يموج بعضهم في بعض ألف عام و الجليل سبحانه لا يكلمهم كلمة واحدة فحينئذ يذهب الناس إلى آدم فيقولون : يا أبا البشر الأمر علينا شديد و أما الكافر فيقول : يا رب أرحني و لو إلى النار من شدة ما يرى من الهول يقولون : أنت الذي خلقك الله بيده و أسجد لك ملائكته و نفخ فيك من روحه اشفع لنا في فصل القضاء و ذكر أمر الشفاعة من نبي إلى نبي و أن ما بين إتيانهم من نبي إلى نبي ألف عام حتى تنتهي الشفاعة إلى نبينا محمد صلى الله عليه و سلم على ما يأتي بيانه من أمر الشفاعة في أحاديث إن شاء الله تعالى و نحو من هذا ذكره الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له قال : فإذا كان يومئذ جمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد و كورت الشمس و انكدرت النجوم و مارت السماء فوق الخلائق مورا و تفطرت من عظيم هول ذلك اليوم و تشققت بالغمام المنزل من عليهن فوقهن ثم صارت وردة كالدهان و كشطن سماء سماء و نزلت الملائكة تنزيلا و قام الخلائق و طال قيامهم أقل ما قيل في قيامهم مقدار أربعين عاما إلى ثلاثمائة عام و أياما كان فاليوم يسعه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما من صاحب إبل ] الحديث و فيه [ وردت عليها أولاها ] في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة و سيأتي بكماله و هم في قيامهم ذلك في الظلمة دون الجسر كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان عراة غرلا أعطش ما كانوا و أجوع ما كانوا عليه قط عراة فلا يسقى ذلك اليوم إلا من سقى لله عز و جل و لا يطعم إلا من أطعم لله و لا يكسى يومئذ إلا من كسا لله و لا يكفى إلا من اتكل على الله و مصداق هذا من كتاب الله عز و جل قوله الحق { يوفون بالنذر } إلى قوله تعالى : { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } أي من إزالة الجوع و العطش و العرى إلى غير ذلك من أهوال القيامة و أفزاعها على ما يأتي بيانه في هذا الباب الذي يليه
أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال : تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين قال : فيعرفون حتى يرشح العرق في الأرض قامة ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل قال سلمان : حتى يقول الرجل غرغر فإذا رأوا ما هم فيه قال بعضهم لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ائتوا أباكم آدم فيشفع لكم الحديث بطوله و سيأتي مرفوعا من حديث أبي هريرة و أخرجه ابن المبارك قال : أنبأنا سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال : تدنى الشمس من الناس يوم القيامة حتى تكون من رؤوسهم قاب قوسين فتعطى حر عشر سنين و ليس على أحد يومئذ طحرية و لا يرى فيها عورة مؤمن و لا مؤمنة لا يضر حرها يومئذ مؤمنا و لا مؤمنة و أما الآخرون أو قال الكفار فتطبخهم طبخا فإنما تقول أجوافهم : [ غق غق ] قال نعيم : الطحرية : الخرقة و أخرجه هناد بن السري حدثنا قبيضة عن سفيان عن سليمان التيمي فذكره سواء إلا أنه قال [ و لا يجد حرها ] بدل [ و لا يضر ] و قال [ و أما الكافر أو الآخرون فتطبخهم طبخا حتى يسمع لأجوافهم غق غق ]
مسلم [ عن سليم بن عامر عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل قال سليم بن عامر فو الله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أو الميل الذي تكحل به العين قال [ فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه و منهم من يكون إلى ركبتيه و منهم من يكون إلى حقويه و منهم من يلجمه إلجاما ] قال : و أشار رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده إلى فيه ] و أخرجه الترمذي و زاد قوله تكحل به العين فتصهرهم الشمس
و ذكر ابن المبارك أخبرنا مالك بن مغول عن عبيد الله بن العيزار قال : إن الأقدام يوم القيامة مثل النبل في القرن و السعيد الذي يجد لقدميه موضعا يضعهما عليه و إن الشمس تدنى من رؤوسهم حتى لا يكون بينها و بين رؤوسهم إما قال ميلا أو ميلين ثم يزاد في حرها بضعة و ستون ضعفا و عند الميزان ملك إذا وزن العبد نادى ألا إن فلان بن فلان قد ثقلت موازينه و سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ألا فلان ابن فلان قد خفت موازينه و شقى شقاء لا يسعد بعده أبدا
مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا و إنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو آذانهم يشك ثور أيهما ] قال : أخرجه البخاري [ و عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم { يوم يقوم الناس لرب العالمين } قال : يوم يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه ] أخرجه البخاري و الترمذي و قال : حديث صحيح مرفوعا و موقوفا
و روى هناد بن السري قال : حدثنا محمد بن فضيل عن ضرار بن مرة عن عبد الله بن المكتب عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال له رجل إن أهل المدينة ليوفون الكيل يا أبا عبد الرحمن قال : و ما يمنعهم أن يوفوا الكيل
و قد قال الله تعالى { ويل للمطففين } حتى بلغ { يوم يقوم الناس لرب العالمين }
قالت : إن العرق ليبلغ أنصاف آذانهم من هول يوم القيامة و عظمه
و خرج الوائلي [ من حديث ابن وهب قال : حدثني عبد الرحمن بن ميسرة عن ابن هانئ عن أبي عبد الرحمن الحيلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { يوم يقوم الناس لرب العالمين } ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف بكم إذا جمعكم الله عز و جل كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم ] ؟ قال الوائلي غريب جيد الإسناد
و قد خرج مسلم لابن وهب عن أبي هانئ نفسه عن الحيلي عن عبد الله أحاديث ابن المبارك قال : أخبرنا الأوزاعي قال : سمعت بلال بن سعيد يقول : إن للناس يوم القيامة جولة و هو قوله عز و جل { يقول الإنسان يومئذ أين المفر } و قوله : { لو ترى إذ فزعوا فلا فوت } و في حديث جويبر عن الضحاك : فينزل الملك و مجنبته اليسرى جهنم فيسمعون زفيرها و شهيقها فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا قياما من الملائكة فذلك قوله : { يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات و الأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان } و السلطان العذر و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خوفني جبريل من يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ربي ذنبي ما تقدم و ما تأخر ؟ فقال لي يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم أحدهما ينسيك المغفرة ] ذكره أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله
فصل : قلت : ظاهر ما رواه ابن المبارك عن سلمان أن الشمس لا يضر حرها مؤمن و لا مؤمنة العموم في المؤمنين و ليس كذلك لحديث المقداد المذكور بعده و إنما المراد لا يضر حرها مؤمنا كامل الإيمان أو من استظل بظل عرش الرحمن كما في الحديث الصحيح [ سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ] الحديث رواه الأئمة مالك و غيره و سيأتي في الباب بعد هذا
و كذلك ما جاء أن المرء في ظل صدقته و كذلك الأعمال الصالحة أصحابها في ظلها إن شاء الله و كل ذلك من ظل العرش و الله أعلم
و أما غير هؤلاء فمتفاوتون في العرق على ما دل عليه حديث مسلم قال ابن العربي : و كل واحد يقوم عرقه معه فيغرق فيه إلى أنصاف ساقيه و إلى جانبيه مثلا يمين من يبلغ كعيبه و من الجهة الشمال من يبلغ ركبتيه و من أمامه من يكون عرقه إلى نصفه ومن خلفه من يبلغ العرق صدره و هذا خلاف المعتاد في الدنيا فإن الجماعة إذا وقفوا في الأرض المعتدلة أخذهم الماء أخذا واحدا و لا يتفاوتون كما ذكرنا مع استواء الأرض و مجاورة المحل و هذا من القدرة التي تخرق العادات في زمن الآيات
و قال الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له : و لا يبعدون عليك هذا يرحمك الله أن يكون الناس كلهم في صعيد واحد و موقف سواء يشرب أحدهم أو بعض من الحوض و لا يشرب الغير و يكون النور يسعى بين يدي البعض في الظلمات مع قرب المكان و ازدحام الناس و يكون أحدهم يغرق في عرقه حتى يلجمه أو يبلغ منه عرقه ما شاء الله جزاء لسعيه في الدنيا و الآخرة في ظل العرش على قرب المكان و المجاورة كذلك كانوا في الدنيا يمشي المؤمن بنور إيمانه في الناس و الكافر في ظلام كفره و المؤمن في وقاية الله و كفايته و الكافر و العاصي في خذلان الله لهما و عدم العصمة و المؤمن السني يكرع في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و يروى ببرد اليقين و يمشي في سبل الهداية بحسن الاقتداء و المبتدع عطشان إلى ما روى المؤمن به حيران لا يشعر سالك في مسالك ضلالات البدع و هو لا يدري كذلك في الوجود الأعمى لا يجد نور بصر البصير و لا ينفعه دواء إنما هي بواطن و ظواهر بطنت فتشعر لذلك و تفطن و استعن بالله يعنك و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل
و قال أبو حامد : و اعلم أن كل عرق لم يخرجه التعب في سبيل الله من حج و جهاد و صيام و قيام و تردد في قضاء حاجة مسلم و تحمل مشقة في أمر بمعروف أو نهي عن منكر فسيخرجه الحياء و الخوف في صعيد القيامة و يطول فيه الكرب و لو سلم ابن آدم من الجهل و الغرر لعلم أن تعب العارف في تحمل مصاعب الدنيا أهون أمرا و أقصر زمانا من عرق الكرب و الانتظار في القيامة فإنه يوم عظيم شديد طويل مدته
و ذكر أبو نعيم عن أبي حازم أنه قال : لو نادى مناد من السماء أمن أهل الأرض من دخول النار لحق عليهم الوجل من هول ذلك الموقف و معاينة ذلك اليوم
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6