كتاب : التذكرة
      المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي

باب منه في الحور العين و كلامهن و جواب نساء الآدميات و حسنهن
ذكر أن الآدميات في الجنة على سن واحد و أما الحور العين فأصناف مصنفة صغار و كبار على ما اشتهت أنفس أهل الجنة
الترمذي [ عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قال يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد و نحن الناعمات فلا نبأس و نحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا و كنا له ] و في الباب عن أبي هريرة و أبي سعيد و أنس قال أبو عيسى حديث علي حديث غريب
و قالت عائشة رضي الله عنها : إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابهم المؤمنات من نساء أهل الدنيا : نحن المصليات و ما صليتن و نحن الصائمات و ما صمتن و نحن المتوضئات و ما توضأتن و نحن المتصدقات و ما تصدقن قالت عائشة : فغلبنهن و الله أعلم
و ذكر ابن وهب عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : و الله الذي لا إله إلا هو لو أن امرأة من الحور العين أطلعت سوارها من العرش لأطفأ نور سوارها نور الشمس و القمر فكيف المسورة و أن ما خلق الله شيئا تلبسه إلا عليه مثل ما عليها من ثياب و حلى
و قال أبو هريرة إن في الجنة حوراء يقال لها [ العيناء ] إذا مشت مشى حولها سبعون ألف و صيف عن يمينها و عن يسارها كذلك و هي تقول : أين الآمرون بالمعروف و الناهون عن المنكر ؟
و قال ابن عباس : إن في الجنة حوراء يقال لها [ لعبة ] لو بزقت في البحر لعذب ماء البحر كله مكتوب على نحرها من أحب أن يكون له مثلي فليعمل بطاعة ربي عز و جل
و روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه وصف حوراء ليلة الإسراء فقال : [ و لقد رأيت جبينها كالهلال في طول البدر منها ألف و ثلاثون ذراعا في رأسها مائة ضفيرة ما بين الضفيرة و الضفيرة سبعون ألف ذؤابة و الذؤابة أضوأ من البدر مكلل بالدر و صفوف الجواهر على جبينها سطران مكتوبان بالدر الجوهر في السطر الأول : بسم الله الرحمن الرحيم و في السطر الثاني : من أراد مثلي فليعمل بطاعة ربي فقال لي جبريل يا محمد : هذه و أمثالها لأمتك فأبشر يا محمد و بشر أمتك و أمرهم بالاجتهاد ]
و ذكر الختلي أبو القاسم قال : حدثنا إبراهيم بن أبي بكر حدثنا أبو إسحاق حدثني محمد بن صالح قال : قال عطاء السلمي لمالك بن دينار : يا أبا يحيى شوقنا قال يا عطاء : إن في الجنة حوراء يتباهى بها أهل الجنة من حسنها لولا أن الله كتب على أهل الجنة أن لا يموتوا لماتوا عن آخرهم من حسنها قال : فلم يزل عطاء كمدا من قول مالك أربعين يوما
ابن المبارك قال : أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي عن ابن مسعود قال : [ إن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقيها من وراء اللحم و العظم و من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء ] قال : و أخبرنا رشدين عن ابن أنعم عن حبان بن أبي جبلة قال : [ إن نساء الدنيا من دخل منهن الجنة فضلن على العين بما عملن في الدنيا ] و روى مرفوعا : [ إن الأدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف ]
باب ما جاء أن الأعمال الصالحة مهور الحور العين
قال الله تعالى : { و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } إلى قوله { و لهم فيها أزواج مطهرة }
و روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول قال : حدثنا الخطاب أبو الخطاب قال : حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب قال : حدثنا جرير بن أيوب البجلي قال : حدثنا الشعبي عن نافع بن بردة عن أبي مسعود الغفاري من الحور العين في خيمة من درة مجوفة مما نعت الله { حور مقصورات في الخيام } على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى و يعطى سبعين لونا من الطيب ليس منهن لون على ريح الآخر لكل امرأة منهن سبعون سريرا من ياقوتة حمراء موشحة بالدر و الياقوت على كل سرير سبعون فراشا على كل فراش أريكة لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجتها و سبعون ألف وصيف مع كل وصيف صحفة من ذهب فيها لون من طعام تجد لآخر لقمة لذة لا تجد لأوله و يعطى زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر عليه سوران من ذهب موشح بياقوت أحمر هذا بكل يوم صامه من شهر رمضان سوى ما عمل من الحنسات ]
و خرج أبو عيسى الترمذي [ من حديث المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : للشهيد عند الله ست خصال ] الحديث و فيه [ و يزوج باثنتين و سبعين زوجة من الحور العين ] و قد تقدم في باب ما ينجي من أهوال القبر و فتنته
قلت : و هذا يؤكد ما ذكرناه في حديث أبي هريرة لكل واحد منهم زوجتان أن ذلك من نساء الدنيا و قال يحيى بن معاذ : ترك الدنيا شديد و فوت الجنة أشد و ترك الدنيا مهر الآخرة و يقال : مهر الحور العين كنس المساجد رفعه الثعلبي [ من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كنس المساجد مهور الحور العين ] [ و عن أبي قرصافة أيضا سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين ] القمامة الكناسة و الجمع : قمام قاله الجوهري
[ و عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : مهور الحور العين قبضات التمر و فلق الخبز ] ذكره الثعلبي أيضا و قال أبو هريرة : [ يتزوج أحدكم فلانة بنت فلان بالمال الكثير و يدع الحور العين باللقمة و التمرة و الكسوة ]
و قال محمد بن النعمان المقري : كنت قاعدا عند الجلا المقرى بمكة في المسجد الحرام إذ مر بنا شيخ طويل نحيل الجسم عليه أطمار خلقة فقام إليه الجلا و وقف معه ساعة ثم انصرف إلينا فقال : هل تعرفون من هذا الشيخ ؟ فقلنا : لا فقال : ابتاع من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة فلما أكملها رآها في المنام في حليها و حللها فقال : من أنت ؟ فقالت : أنا الحور التي ابتعتني من الله تعالى بأربعة آلاف ختمة هذا الثمن فما نحلتي أنا منك ؟ قال : ألف ختمة قال الجلا : فهو يعمل فيها بعد
و روى عن سحنون أنه قال : كان بمصر رجل يقال له سعيد و كانت له أم من المتعبدات و كانت إذا قام من الليل يصلي تقوم والدته خلفه فإذا غلب عليه النوم و نعس تناديه والدته : يا سعيد إنه لا ينام من يخاف النار و يخطب الحور الحسان فيقوم مرعوبا
و يروى عن ثابت أنه قال : كان أبي من القوامين لله في سواد الليل قال : رأيت ذات ليلة في منامي امرأة لا تشبه النساء فقلت لها : من أنت ؟ فقالت حوراء أمة الله فقلت لها : زوجيني نفسك فقالت : اخطبني من عند ربي و أمهرني فقلت : و ما مهرك ؟ فقال : طول التهجد و أنشدوا :
( يا خاطب الحور في خدرهاو طالبا ذلك على قدرها )
( انهض بجد لا تكن وانياو جاهد النفس على صبرها )
( و جانب الناس و ارفضهم و حالف الوحدة في ذكرها )
( و قم إذا الليل بدا وجهه ... و صم نهارا فهو من مهرها )
( فلو رأت عيناك إقبالها و قد بدت رمانتا صدرها )
( و هي تماشي بين أترابها و عقدها يشرق في نحرها )
( لهان في نفسك هذا الذيتراه في دنياك من زهرها )
و قال مضر القارئ : غلبني النوم ليلة فنمت عن حزبي فرأيت في منامي فيما يرى النائم جارية كأن وجهها القمر المستتم و معها رق فقالت : أتقرأ أيها الشيخ ؟ قلت : نعم فقالت : اقرأ هذا الكتاب ففتحه فإذا فيه مكتوب : فو الله ما ذكرته قط إلا ذهب عني النوم
( ألهتك اللذائذ و الأماني ... عن الفردوس و الظل الدواني )
( و لذة نومة عن خير عيش ... مع الخيرات في غرف الجنان )
( تيقظ من منامك إن خيرا ... من النوم التهجد بالقران )
و قال مالك بن دينار : كان لي أحزاب أقرؤها كل ليلة فنمت ذات ليلة فإذا أنا في المنام بجارية ذات حسن و جمال و بيدها رقعة فقالت : أتحسن أن تقرأ ؟ فقلت : نعم فدفعت إلي الرقعة فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات :
( لهاك النوم عن طلب الأمانيو عن تلك الأوانس في الجنان )
( تعيش مخلدا لا موت فيها و تلهو في الخيام مع الحسان )
( تنبه من منامك إن خيرا ... من النوم التهجد بالقران )
و روي عن يحيى بن عيسى بن ضرار السعدي و كان قد بكى شوقا إلى الله ستين عاما قال : رأيت كأن ضفة نهر يجري بالمسك الأذفر حافتاه شجر اللؤلؤ و نبت من قضبان الذهب فإنا بجوار مزينات يقلن بصوت واحد : سبحان المسبح بكل لسان سبحان الموجود بكل مكان سبحان الدائم في كل زمان سبحانه سبحانه قال : فقلت : من أنتن ؟ قلن : خلق من خلق الله سبحانه قلت : و ما تصنعن ها هنا فقلن :
( يناجون رب العالمين لحقهم ... و تسري هموم القوم و الناس نوم )
( ذرانا إله الناس رب محمد ... لقوم على الأقدام بالليل قوم )
فقلت : بخ بخ لهو من هؤلاء لقد أقر الله أعينهم فقلن : أما تعرفهم ؟ فقلت : و الله ما أفهم قلن : هؤلاء المتهجدون بالليل أصحاب السهر
باب في الحور العين و من أي شيء خلقن ؟
روى الترمذي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الحور العين من أي شيء خلقن فقال : من ثلاثة أشياء : أسفلهن من المسك و أوسطهن من العنبر و أعلاهن من الكافور و شعورهن و حواجبهن سواد خط من نور ]
و روي عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال : [ سألت جبريل عليه السلام فقلت : أخبرني كيف يخلق الله الحور العين ؟ فقال لي يا محمد : يخلقهن الله من قضبان العنبر و الزعفران مضروبات عليهن الخيام أول ما يخلق الله منهن نهدا من مسك أذفر أبيض عليه يلتام البدن ]
و روي عن ابن عباس أنه قال : خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلىركبتيها من الزعفران و من ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب و من عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق النعمان إذا أقبلت يتلألأ وجهها نورا ساطعا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا و إذا أقبلت يرى كبدها من رقة ثيابها و جلدها و في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر و لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها و هي تنادي هذا ثواب الأولياء جزاء بما كانوا يعلمون
باب إذا ابتكر الرجل امرأة في الدنيا كانت زوجته في الآخرة
ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما امرأة الزبير بن العوام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك قال : و غضب عليها و على ضوتها فعقد شعر واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضربا شديدا و كانت الضرة أحسن اتقاء و كانت أسماء لا تتقي فكان الضرب بها أكثر فشكت إلى أبيها أبي بكر فقال لها : أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح و لعله أن يكون زوجك في الجنة
و لقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بالمرأة تزوجها في الجنة قال أبو بكر بن العربي : هذا حديث غريب ذكره في أحكام القرآن له فإن كانت المرأة ذات أزواج فقيل : إن من مات عنها من الأزواج أخراهن له قال حذيفة لامرأته إن سرك أن تكوني زوجتي في الجنة إن جمعنا الله فيها لا تتزوجي من بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا
و خطب معاوية بن أبي سفيان أم الدرداء فأبت و قالت : [ سمعت أبا الدرداء يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : المرأة لآخر أزواجها في الجنة و قال لي : إن أردت أن تكون زوجتي في الجنة فلا تتزوجي من بعدي ]
و ذكر أبو بكر النجاد قال : [ حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر حدثنا عبيد بن إسحاق العطار حدثنا سنان بن هارون عن حميد عن أنس أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : يا رسول الله المرأة يكون لها زوجان في الدنيا ثم يموتون و يجتمعون في الجنة لأيهما تكون للأول أو للآخر ؟ قال لأحسنهما خلقا كان معها يا أم حبيبة ] ذهب حسن الخلق بخير الدنيا و الآخرة و قيل : إنها تخير إذا كانت ذات أزواج
باب ما جاء أن في الجنة أكلا و شرابا و نكاحا حقيقة و لا قذر فيها و لا
نقص و لا نوم
مسلم [ عن جابر بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : إن أهل الجنة يأكلون فيها و يشربون و لا يتفلون و لا يبولون و لا يتغوطون و لا يتمخطون قالوا : فما بال الطعام ؟ قال : جشاء أو رشح كرشح المسك يلهمون التسيبيح و التحميد ] و في رواية [ و التكبير كما يلهمون النفس ]
الترمذي [ عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يعطي المؤمن في الجنة قوة كذا و كذا في الجماع قيل يا رسول الله أو يطيق ذلك ؟ قال يعطي قوم مائة ] و في الباب عن زيد بن أرقم قال أبو عيسى : هذا حديث صحيح حسن
و ذكر الدرامي في مسنده [ عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الرجل من أهل الجنة ليعطي قوم مائة رجل في الأكل و الشرب و الجماع و الشهوة فقال رجل من اليهود : إن الذي يأكل و يشرب يكون من الحاجة قال : ثم يفيض من جلده عرق فإذا بطنه قد ضمر ]
و ذكر المخرمي عبد الله بن أيوب قال : [ حدثنا أبو أسامة عن هشام عن زيد بن الجواري و هو زيد بن العمى عن ابن عباس قال : قلنا يا رسول الله أنفضي إلى نسائنا في الجنة كما نفضي إليهن في الدنيا ؟ قال : أي و الذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مائة عذراء ]
و خرجه البزار في مسنده [ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله أنفضي إلى نسائنا في الجنة ؟ قال : أي و الذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في اليوم الواحد إلى مائة عذراء ]
و خرج [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكارا ] و سيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى
ابن المبارك قال : [ أخبرنا معمر عن رجل عن أبي قلابة قال : يؤتون بالطعام و الشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيشربون فتضمر لذلك بطونهم و تفيض عرقا من جلودهم أطيب من ريح المسك ] ثم قرأ { شرابا طهورا }
أبو محمد الدارمي [ عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من أحد يدخله الله الجنة إلا زوجه الله اثنتين و سبعين زوجة اثنتين من الحور العين و سبعين من ميراثه من أهل النار ما منهن واحدة إلا و لها قبل قبل شهي و له ذكر لا ينثني ] قال هشام بن خالد : من ميراثه من أهل النار يعني رجالا دخلوا النار فورث أهل الجنة نساءهم كما ورثت امرأة فرعون
و روي [ من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم هل تمس أهل الجنة أزواجهم ؟ فقال : نعم بذكر لا يمل و فرج لا يحفى و شهوة لا تنقطع ]
الدراقطني [ عن جابر بن عبد الله قيل يا رسول الله : أينام أهل الجنة ؟ قال : لا النوم أخو الموت و الجنة لا موت فيها ] و الله أعلم
باب المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله و وضعه و سنه في ساعة
واحدة
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله و وضعه و سنه في ساعة كما يشتهي ] قال حديث حسن غريب أخرجه ابن ماجه و قال في ساعة واحدة في الجنة
قال الترمذي : و قد اختلف أهل العلم في هذا فقال بعضهم في الجنة جماع و لا يكون ولد و هكذا يروي عن طاووس و مجاهد و إبراهيم النخعي و قال محمد قال إسحاق بن إبراهيم في حديث النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة كما يشتهي و لكن لا يشتهي هذا أبدا ] و قد روى [ عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد ] و الله أعلم
باب ما جاء أن كل ما في الجنة دائمر لا يبلى و لا يفنى و لا يبيد
مسلم [ عن أبي سعيد الخدري و أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ينادي مناد أن لكم أن تضحوا فلا تسقموا أبدا و أن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وأن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا و أن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا و ذلك قوله عز و جل { و نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } ]
و [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من يدخل الجنة ينعم و لا يبأس و لا يبلى ثيابه و لا يفنى شبابه ] و قد تقدم قول الحور العين : نحن الخالدات فلا نبيد
باب ما جاء أن المرأة من أهل الجنة ترى زوجها من أهل الدنيا في الدنيا
ابن وهب قال : و حدثنا ابن زيد قال : يقال للمرأة من أهل الجنة و هي في السماء : أتحبين أن نريك زوجك من أهل الدنيا ؟ فتقول : نعم فيكشف لها عن الحجب و يفتح الأبواب بينها بينه حتى تراه و تعرفه و تعاهده بالنظر حتى تستبطئ قدومه و تشتاق إليه كما تشتاق المرأة إلى زوجها الغائب عنها و لعله يكون بينه و بين
زوجته في الدنيا ما يكون بين النساء و أزواجهن من مكالمة أو مخاصمة فتغضبه زوجته التي في الدنيا فيشق ذلك عليها و تقول : ويحك دعيه من شرك أنما هو معك ليال قلائل أخرجه الترمذي بمعناه عن معاذ بن جبل قال : لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا قال أبو عيسى : هذا حديث غريب خرجده ابن ماجه أيضا
باب ما جاء في طير الجنة و خيلها و إبلها
الترمذي [ عن أنس بن مالك قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم ما الكوثر قال : ذاك نهر أعطانيه الله يعني في الجنة أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل : فيه طير أعناقها كأعناق الجزر فقال عمر : إن لهذه لناعمة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أكلها أنعم منها ] قال : هذا حديث حسن
و خرجه الثعلبي [ من حديث أبي الدراداء أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدها : يا ولي الله رعيت في مروج الجنة تحت العرش شربت من عيون التسنيم فكل مني لا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فيخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منه ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطير فيطير يرعى في الجنة حيث شاء فقال عمر : يا نبي الله إنها لناعمة قال : أكلها أنعم منها ]
الترمذي : [ عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله : هل في الجنة من خيل ؟ قال : إن أدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تحمل فيها على فرس من ياقوتة حمراء تطير بك حيث شئت إلا فعلت قال : و سأله رجل فقال يا رسول الله : هل في الجنة من إبل ؟ قال : فلم يقل له ما قال صاحبه فقال : إن يدخلك الله الجنة لك فيها ما اشتهت نفسك و لذت علينك ]
و خرج مسلم [ عن أبي مسعود الأنصاري قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال : هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة ] و ذكر ابن وهب قال : [ حدثنا ابن زيد قال : كان الحسن البصري يذكر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : أن أدنى أهل الجنة منزلة الذي يركب في ألف و ألف من خدمه من الولدان المخلدين على خيل من ياقوت أحمر لها أجنحة من ذهب اقرأوا إن شئتم { و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا } ]
و ذكر ابن المبارك [ عن شقي بن ماتع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن من نعيم أهل الجنة أنهم ليتزاورون على المطايا و النجب و أنهم يؤتون في يوم الجمعة بخيل مسرجة ملجمة لا تورث و لا تبول فيركبونها حتى ينتهوا حيث شاء الله ] و ذكر الحديث
و عن عكرمة عن ابن عباس أنه ذكر مراكبهم ثم تلا قوله تعالى { و إذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا }
و حكى عن عبد الله بن المبارك : خرج إلى غزو فرأى رجلا حزينا قد مات فرسه فبقي محزونا فقال له : بعني إياه بأربعمائة درهم ففعل الرجل ذلك أي باعه له فرأى من ليلته في المنام كأن القيامة قد قامت و فرسه في الجنة و خلفه سبعمائة فرس فأراد أن يأخذه فنودي أن دعه فإنه لابن المبارك و قد كان لك بالأمس فلما أصبح جاء إليه و طلب الإقالة فقال له و لم ؟ قال : فقص عليه القصة فقال له : اذهب فما رأيته في المنام رأيناه في اليقظة ؟
قال المؤلف رحمه الله تعالى : و هذه الحكاية صحيحة لأنها في معنى ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي مسعود كما ذكرناه
باب ما جاء أن الحناء سيد ريحان الجنة و أن الجنة حفت بالريحان
ابن المبارك [ أنبأنا همام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمر قال : الحناء سيد ريحان الجنة و أن فيها من عناق الخيل و كرام النجائب يركبها أهلها ]
و قد تقدم عن أبي هريرة موقوفا أن شجرة طوبى تتفتق عن النجائب و الثياب و مثل هذا لا يقال من جهة الرأي و إنما هو توقيف فاعلمه
و ذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت [ من حديث سعيد بن معن المدني قال : حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما خلق الله الجنة حففها بالريحان و حفف الريحان بالحناء و ما خلق الله شجرة أحب إليه من الحناء و أن المختضب بالحناء لتصلي عليه ملائكة السماء إذا غدا و تقدس الأرض ] قال السكري : [ و تقدس عليه ملائكة الأرض إذا أراح ] هذا حديث منكر لا يصح و في إسنداه غير واحد لا يعرف
و روى [ الترمذي في كتاب الشمائل حدثنا محمد بن خليفة و عمر بن علي قالا : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا الحجاج الصواف عن حنان عن أبي عثمان النهدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يرده فإنه خرج من الجنة ] قال أبو عيسى : لا يعرف لحنان غير هذا الحديث و قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الجرح و التعديل حنان الأسدي من بني أسد بن شريك و هو حنان صاحب الرقيق عم مسرهد والد مسدد روي عن أبي عثمان النهدي و روى عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف سمعت أبي يقول ذلك و قد تقدم عن أبي هريرة موقوفا : أن شجرة طوبى تتفتق على الجنائب و الثياب و مثل هذا كله لا يقال من جهة الرأي و إنما هو توقيف فاعلمه
باب ما جاء أن الشاة و المعزى من دواب الجنة
ابن ماجه [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الشاة من دواب الجنة ] و في كتاب البزار [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أحسنوا إلى المعزى و أميطوا عنهما الأذى فإنهما من دواب الجنة ] و في التنزيل : { و فديناه بذبح عظيم } و إنما سمي عظيما أنه رعى في الجنة أربعين عاما روي عن ابن عباس رضي الله عنه
باب ما جاء أن للجنة ربضا و ريحا و كلاما
البيهقي [ عن أنس عن النبي : لما خلق الله عدن و غرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت : { قد أفلح المؤمنون } ] خرجه البزار من حديث أبي سعيد الخدري
[ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : خلق الجنة لبنة من ذهب و لبنة من فضة و ملاطها المسك الأذفر و قال لها تكلمي فقالت : { قد أفلح المؤمنون } فقال طوبى لك منزل الملوك ] و هذا يروى موقوفا عن أبي سعيد الخدري قال : لما خلق الله الجنة لبنة من ذهب و لبنة من فضة و غرسها قال لها تكلمي فقالت : { قد أفلح المؤمنون } فدخلتها الملائكة فقالت : طوبى لك منزل الملوك
و روي [ من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما خلق الله الجنة قال لها تزيني فتزينت ثم قال لها تكلمي فتكلمت ثم قالت : طوبى لمن رضيت عنه ]
النسائي [ عن فضالة بن عبيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : أنا زعيم ـ و الزعيم الحميل ـ لمن آمن بي و أسلم و جاهد في سبيل بيت له في ربض الجنة و بيت في وسط الجنة و بيت في أعلى غرف الجنة من فعل ذلك فليم يدع للخير مطلبا و لا من الشهر مهربا يموت حيث شاء أن يموت ]
و قال عمر بن عبد العزيز و الزهدي و الكلبي و مجاهد : مؤمنو الجنة في ربض و رحاب حول الجنة و ليسوا فيها
و روى مالك عن مسلم بن أبي مريم عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و أن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة سنة هذا موقوف قال أبو عمر بن عبد البر : و قد رواه عبد الله بن نافع الصائغ عن مالك بهذا الإسناد عني صلى الله عليه و سلم
و خرج أبو داود و الترمذي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله و ذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يروح رائحة الجنة و أن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا ] لفظ الترمذي
قال : و في الباب عن أبي بكره قال أبو عيسى : حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح
و خرج البخاري [ عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة و أن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما ]
باب ما جاء في أن الجنة قيعان و أن غراسها سبحان الله و الحمد لله
الترمذي [ عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال : يا محمد اقرأ أمتك مني السلام و أخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء و أنها قيعان و أن غرسها سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر ]
قال : و في الباب عن أبي أيوب و هذا حديث حسن غريب
ابن ماجه [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر به و هو يغرس غرسا فقال : يا أبا هريرة ما الذي تغرس ؟ قال : غرسا قال : ألا أدلك على غراس خير من هذا ؟ سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة ]
الترمذي [ عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم : من قال سبحان الله العظيم و بحمده غرست له نخلة في الجنة ]
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب
باب ما جاء أن الذكر نفقة بناء الجنة
ذكر الطبري في كتاب آداب النفوس قال : حدثنا الفضل بن الصباح قال : سألت النضر بن إسماعيل فحدثني عن حكيم بن محمد الأحمسي قال : بلغني أن الجنة تبنى بالذكر فإذا حبسوا الذكر كفوا عن البناء فيقال لهم في ذلك فيقولون حتى يجيئنا نفقة
قال المؤلف رحمه الله : الذكر طاعة الله عز و جل في امتثال أمره و اجتناب نهيه
روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : من أطاع الله و قد ذكر الله و إن قل صلاته و صومه و صنيعه للخير و من عصى الله فقد نسي الله و إن كثر صلاته و صومه و صنيعه للخير ] ذكره أبو عبد الله محمد في أحكام القرآن له
و ذكره أيضا العامري في شرح الشهاب له
قلت : حقيقة الذكر طاعة الله تعالى في امتثال أمره و اجتناب نهيه
قال سعيد بن جبير : الذكر طاعة الله فمن لم يطعه لم يذكره و إن أكثر التسبيح و التهليل و قراءة القرآن
و لفظه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أطاع الله فقد ذكره و إن كان ساكتا و من عصى الله فقد نسيه و إن كان قارئا مسبحا ]
قال المؤلف رحمه الله : و هذا و الله أعلم لأنه كالمستهزئ و المتهاون و من اتخذ آيات الله هزوا و قد قال العلماء في تأويل قوله تعالى : { و لا تتخذوا آيات الله هزوا } أي لا تتركوا أمر الله فتكونوا مقصرين لاعبين قالوا و يدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا و كذا كل ما كان في هذا المعنى و الله أعلم
باب ما لأدنى أهل الجنة و لا لأعلاهم
مسلم [ عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى رسوله الله صلى الله عليه و سلم قال : سأل موسى عليه السلام ربه فقال : يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال : هو رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقول : أي رب كيف و قد نزل الناس منازلهم و أخذوا أخذاتهم فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟ فيقول : رضيت رب فيقول : لك ذلك و مثله معه و مثله و مثله فقال في الخامسة رضيت رب فيقول : هذا لك و عشرة أمثاله و لك ما اشتهت نفسك و لذت عينك فيقول : رضيت قال : يا رب فأعلاهم منزلة قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي و ختمت عليها فلم تر عين و لم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر قال : و مصداقه من كتاب الله { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ] و قد روي موقوفا عن المغيرة قوله
البخاري [ عن عبد الله هو ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن آخر أهل الجنة دخولا الجنة و آخر الناس خروجا من النار رجل يخرج حبوا فيقول له ربه : ادخل الجنة فيقول : رب الجنة ملأى فيقول له ذلك ثلاث مرات كل ذلك يعيد عليه الجنة ملأى فيقول : إن لك مثل الدنيا عشر مرات ] و قد تقدم هذا
و روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن أدنى أهل الجنة منزلة من له سبع قصور قصر من ذهب و قصر من فضة و قصر من در و قصر من زمرد و قصر من ياقوت و قصر لا تدركه الأبصار و قصر على لون العرش في كل قصر من الحلى و الحلل و الحور العين ما لا يعلمه إلا الله عز و جل ] ذكره القتبي في عيون الأخبار له و في مراسل الحسن [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أدنى أهل الجنة منزلة الذير يركب في ألف ألف من خدمه ] الحديث و قد تقدم
و خرج الترمذي [ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه و نعيمه و خدمة و سروره مسيرة ألف سنة و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة و عشيا ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } ] قال : حديث غريب و قد روي عن ابن عمر و لم يرفعه
و خرج [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم و اثنتان و سبعون زوجة و ينصب له قبة من لؤلؤ و زبرجد و ياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء ] قال هذا ابن المبارك قال : [ أخبرنا سفيان عن رجل عن مجاهد قال : إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن يسير في ملكه مسيرة ألف سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه و أرفعهم هو الذي ينظر إلى ربه بالغداة و العشي ] و قد تقدم هذا مرفوعا في الباب عن ابن عمر موقوفا و هذا الباب و الذي قبله يدل على أن أدنى أهل الجنة منزلة الكثير من و الزوجات من الحور العين ما قررناه فيما تقدم و الله أعلم
باب رضوان الله تعالى لأهل الجنة أفضل من الجنة
البخاري [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا و سعديك و الخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون : و ما لنا لا نرضى يا رب و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أفلا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ] أخرجه مسلم بمعناه في حديث فيه طول
باب رؤية أهل الجنة لله تعالى أحب إليهم مما هم فيه و أقر لأعينهم
مسلم [ عن صهيب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك و تعالى لهم : أتريدون شيئا أزيدكم فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة و تنجينا من النار قال : فيكشف لهم الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز و جل و في رواية هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } ]
و خرج النسائي [ عن صهيب قال : قيل لرسول الله هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار ينادي مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فقالوا : لم تبيض وجوهنا و تثقل موازيننا و تجرنا من النار قال : فيكش الحجاب فينظروا إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجه الله و لا أقر لأعينهم ]
و خرجه أبو داود الطيالسي أيضا قال : [ حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال : تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله تعالى موعدا فيقولون : ما هو أليس قد بيض وجوهنا و ثقل موازيننا و أدخلنا الجنة ؟ فيقال لهم ثلاثا فيتجلى لهم الرب تبارك و تعالى فينظرون إليه فيكون ذلك عندهم أعظم مما أعطوا ]
أخبرنا الشيخ الراوية : أبو محمد عبد الوهاب قرأ عليه بثغر الاسكندرية حماه الله قرئ على الحافظ السلفي و أنا أسمع قال : [ أخبرنا الحاجب أبو الحسن بن العلاف حدثنا أبو القاسم بن بشران حدثنا أبو بكر الآجري حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي حدثنا عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق النيسابوري حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة نودوا أن يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا لم تروه قالوا : و ما هو ألم يبيض وجوهنا و يزحزحنا عن النار و يدخلنا الجنة ؟ قال : فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئا هو أحب إليهم منه ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة }
و كذا أخرجه الإمام أحمد بن حنبل و الحارث ابن أبي أسامة عن يزيد بن هارون و انفرد مسلم بإخراجه فرواه ] عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون و رواه نوح ابن أبي مريم عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } فقال للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى و هي الجنة قال : و الزيادة النظر إلى وجهه الكريم فأخطأ فيه خطأ بينا و وهم وهما قبيحا
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا أبو بكر الهلالي الهجيمي قال : سمعت أبا موسى الأشعري على منبر البصرة يقول : إن الله يبعث يوم القيامة ملكا إلى أهل الجنة فيقول هل أنجزكم الله ما وعدكم فينظرون فيرون الحلى و الحلل و الثمار و الأنهار و الأزواج المطهرة فيقولون نعم أنجزنا الله ما وعدنا فيقول الملك : هل أنجزكم ما وعدكم ثلاث مرات فلا يفقدون شيئا مما وعدوا فيقولون : نعم فيقول : بقي لكم شيء إن الله تعالى يقول { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } ألا إن الحسنى الجنة و الزيادة النظر إلى الله تعالى
فصل : ما رواه النسائي مرفوعا و كذلك أبو داود الطيالسي و أسنداه عن الآجرى و ذكره ابن المبارك موقوفا يبين حديث مسلم و أن المعنى بقوله : قال الله تعالى : قال ملك الله : تريدون شيئا أزيدكم أن يزيدكم و قوله : فيكشف الحجاب : معناه أنه يرفع الموانع من الإدراك عن أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نعوت العظمة و الجلال و البهاء و الكمال و الرفعة و الجمال لا إله إلا هو سبحانه عما يقول الزائفون و المبطلون فذكر الحجاب إنما هو في حق المخلوق لا في حق الخالق فهم المحجوبون و الباري جل اسمه و تقدست أسماؤه منزلة عما يحجبه إذ الحجب إنما يحيط بمقدر محسوس و ذلك من نعوتنا و لكن حجبه عن أبصار خلقه و بصائرهم و إدراكاتهم بما شاء و كيف شاء
و روي في صحيح الأحاديث أن الله تعالى إذا تجلى لعباده و رفع الحجب عن أعينهم فإذا رأوه تدفقت الأنهار و اصطفت الأشجار و تجاوبت السرر و الغرفات بالصرير و الأعين المتدفقات بالخرير و استرسلت الريح المثيرة و ثبت في الدور و القصور المسك الأذفر و الكافور و غردت الطيور و أشرقت الحور العين ذكره أبو المعالي في كتاب الرد له على السجزي و قال : و كل ذلك بقضاء الله و قدره و إن لم يكن منها شيء عن الرؤية و النظر و لكن الله تعالى يعرف بما شاء ما شاء من آيات عظمته و دلالات هيبته و ذلك بمثابة تدكدك الجبل الذي تجلى الله له و ترضرضه حتى صار رملا هائلا سائلا و الله أعلم
باب منه في الرؤية
مسلم [ عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : جنتان من فضة آنيتهما و ما فيهما و جنتان من ذهب آنيتهما و ما فيهما و ما بين القوم و بين أن ينظروا إلى ربهم عز و جل إلا رداء الكبرياء على وجه في جنة عدن ]
[ و عن جرير بن عبد الله قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس و صلاة قبل غروبها فافعلوا ثم قرأ { و سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل الغروب } ] أخرجه البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و قال حديث حسن صحيح
و خرج أبو داود [ عن أبي رزين العقيلي قال : قلت يا رسول الله أكلنا يرى الله مخليا به يوم القيامة ؟ قال : نعم قلت و ما آية ذلك في خلقه ؟ قال : يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به ؟ قلت : بلى قال : فالله أعظم إنما هو خلق من خلق الله يعني القمر فالله أجل و أعظم ]
[ فصل ] قوله : إلا رداء الكبرياء على وجهه الرداء به هنا مستعار كني به عن كبريائه و عظمته يبينه الحديث الآخر : الكبرياء ردائي و العظمة إزاري يريد بذلك صفتي فقوله : رداء الكبرياء يريد صفة الكبرياء فهو بكبريائه و عظمته لا يريد أن يراه أحد من خلقه بعد رؤية القيامة حتى يأذن لهم بدخول جنة عدن فإذا دخلوها أراد أن يروه فيروه و هم في جنة عدن قال معناه : البهيقي و غيره و ليست العظمة و الكبرياء من جنس الثياب المحسوسة و إنما هي توسعات و وجه المناسبة أن الرداء و الإزار لما كانا ملازمين للإنسان مخصوصين به و لا يشاركه فيهما غيره عبر عن عظمته و كبريائه بهما لأنهما مما لا يجوز مشاركة الله تعالى فيهما ألا ترى آخر الحديث فمن نازعني واحدا منهما قصمته ثم قذفته في النار
باب منه و في سلام الله تعالى عليهم
روى محمد بن المنكدر [ عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : بينا أهل الجنة في نعيمهم إذا سطع لهم نور من فوقهم فإذا الرب سبحانه قد أشرف عليهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة و ذلك قوله تعالى { سلام قولا من رب رحيم } قال : فإذا نظروا إليه نسوا نعيم الجنة حتى يحتجب عنهم فإذا احتجب عنهم بقي نوره و بركته عليه في ديارهم ]
[ فصل ] قوله : قد أشرف عليهم أي أطلع كما يقال فلان مشرف عليك أي مطلع عليك من مكان عال و الله تعالى لا يوصف بالمكان من جهة الحلول و التمكن و إنما يوصف من جهه العلو و الرفعة فعبر عن اطلاعه عليهم و نظره إليهم بالإشراف و لما كان سبحانه قائلا متكلما و كان الكلام له صفة في ذاته و لم يزل و لا يزال فهو يسلم عليهم سلاما هو قوله منه كما قال تعالى : { سلام قولا من رب رحيم } و قوله : فإذا نظروا إليه نسوا نعيم الجنة أي لهوا عنه بلذة النظر إلى وجهه الكريم و ذلك أن ما دون الله تعالى لا يقاوم تجليه و لولا أن الله تعالى يثبتهم و يبقيهم لحل بهم ما حل بالجبل حين تجلى به و قوله حتى يحتجب عنهم يجوز أن يكون معناه حتى يردهم إلى نعيم الجنة الذي نسوه و إلى حظوظ أنفسهم و شهواتها التي سهوا عنها فانتفعوا بنعيم الجنة الذي وعده لهم و تنعموا بشهوات النفوس التي أعدت لهم و ليس ذلك إن شاء الله تعالى على معنى الاحتجاب عنهم الذي هو بمعنى الغيبة و الاستتار فيكونوا له ناسين و عن شهوده محجوبين و إلى نعيم الجنة ساكنين و لكنه يردهم إلى ما نسوه و لا تحجبهم عما شاهدوا حجبة غيبة و استتار يدل على ذلك قوله : بقي نوره و بركته عليهم في ديارهم و كيف يحجبهم عنه و هو ينعت المزيد عليهم و ما وعدهم به من النعيم و النظر إذا صح و الحجبة إذا ارتفعت لم يكن بين ةنظر البصر و شهود السر فرق و لا بين حال الشهود و الغيبة فرق فيكون محجوبا في حال الغيبة بل تتفق الأوقات و تتساوى الأحوال فيكون في كل حال شاهدا و بكل جارحة ناظرا و لا يكون في حال محجوبا و لا بالغيب موصوفا
حكاية
حكي عن قيس المجنون أنه قيل له : ندعو لك ليلى ؟ فقال و هل غابت عني فتدعى ؟ فقيل له : أتحب ليلى ؟ فقال : المحبة ذريعة الوصلة و قد وقع الوصل فأنا ليلى و ليلى أنا و الله أعلم

باب منه و بيان قوله تعالى و لدينا مزيد
يحيى بن سلام قال : [ أخبرنا رجل من أهل الكوفة عن داود بن أبي هند عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل الجنة لينظرون إلى ربهم في كل جمعة على كثيب من كافور لا يرى طرفاه و فيه نهر جار حافتاه المسك عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن أصوات سمعها الأولون و الآخرون فإذا انصرفوا إلى منازلهم أخذ كل رجل بيد من شاء منهن ثم يمرون على قناطر من لؤلؤ إلى منازلهم فلولا أن الله تعالى يهديهم إلى منازلهم ما اهتدوا إليها لما يحدث الله إليهم في كل جمعة ]
و خرج عن بكر بن عبد الله المزني قال : إن أهل الجنة ليزورون ربهم في مقدار كل عيد كأنه يقول في كل سبعة أيام مرة فيأتون رب العزة في حلل خضر و وجوه مشرقة و أساور من ذهب مكللة بالدر و الزمرد عليهم أكاليل الذهب و يركبون بخبائهم و يستأذنون على ربهم فيأمر لهم ربنا بالكرامة
و ذكر هو و ابن المبارك جميعا قال حدثنا المسعودي عن النهال بن عمرو بن أبي عبيدة بن عبد الله بن عقبة عن ابن مسعود قال : تسارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز لأهل الجنة كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون معه في القرب قال ابن المبارك : على قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا
و قال يحيى بن سلام : كمسارعتهم إلى الجمعة في الدنيا و زاد فيحدث لهم شيئا من الكرامة لم يكونوا رأوه قبل ذلك قال يحيى : و سمعت غير المسعودي يزيد فيه و هو قوله تعالى { و لدينا مزيد } و قال الحسن في قوله تعالى { للذين أحسنوا الحسنى و زيادة } قال : الزيادة النظر إلى وجه الله عز و جل و ليس شيء أحب إلى أهل الجنة من يوم الجمعة يوم المزيد لأنهم يرون فيه الجبار جل جلاله و تقدست أسماؤه
فصل
قلت : قوله في كثيب يريد أهل الجنة أي هم على كثيب كما في مرسل الحسن أول الباب و قيل : المزيد ما يزوجون به من الحور العين رواه أبو سعيد الخدري مرفوعا و ذكر أبو نعيم عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال : إن
من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم فلا يتمنون شيئا إلا مطروا قال خالد : يقول كثير لئن أشهدني الله ذلك لأقولن لها أمطرينا جواري مزينات و قد تقدم من حديث ابن عمرو أكرمهم على الله من ينظر إلى الله غدوة و عشية و هذا يدل على أن أهل الجنة في الرؤية مختلفو الحال
و قد روي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال : إن لله تعالى عبادا لو حجبهم في الجنة ساعة لاستغاثوا من الجنة و نعيمها كما يسغيث أهل النار من النار و عذابها

نبذ من أقوال العلماء في تفسير كلمات و آيات من القرآن وردت في ذكر الجنة
و أهلها
من ذلك قوله تعالى : { و نزعنا ما في صدورهم من غل } قال ابن عباس أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين فيذهب الله تعالى ما في قلوبهم من غل ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم و تصفوا وجوههم و تجري عليهم نضرة النعيم
و قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى { و سقاهم ربهم شرابا طهورا } قال : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيشربون من إحداهما فتجري عليهم بنضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم و لا تشتعث أشعارهم أبدا ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فتقول لهم : { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين }
و ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي أنه تلا هذه الآية { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها } وجدوا عند باب الجنة شجرة يخرج من ساقها عينان فعمدوا إلى أحداهما كأنما أمروا بها فاغتسلوا منها فلم تشعث رؤوسهم بعدها أبدا و لم تغير جلودهم بعدها أبدا كأنما دهنوا بالدهن ثم عمدوا إلى الأخرى فشربوا منها فطهرت أجوافهم و غسلت كل قدر فيها و تتلقاهم على كل باب من أبواب الجنة ملائكة { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } ثم تتلقاهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان الدنيا بالحميم يجيء من الغيبة يقولون : أبشر أعد الله لك كذا و كذا ثم يذهب الغلام منهم إلى الزوجة من أزواجه فيقول قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى في الدنيا فتقول له : أنت رأيته ؟ فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة الباب ثم ترجع فتجيء فتنظر إلى تأسيس بنيانه من جندل اللؤلؤ أخضر و أصفر و أحمر من كل لون ثم يجلس فينظر فإذا زرابي مبثوثة و أكواب موضوعة و نمارق مصفوفة ثم يرفع رأسه إلى سقف بنيانه فلولا أن الله قدر ذلك لأذهب بصره إنما هو مثل البرق ثم يقول : كما أخبرنا تعالى { الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله }
و ذكر القتيبي في عيون الأخبار له مرفوعا [ عن علي رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول الله عز و جل { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا } ما هؤلاء الوفد ؟ قال : يحشرون ركبانا ثم قال : و الذي نفسي بيده أنهم إذا خرجوا من قبورهم ركبوا نوقا عليهم رحائل الذهب مرصعة بأنواع الجوهر فتسير بهم إلى باب الجنة قال : و عند باب الجنة شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداى تلك العيون فإذا بلغ الشراب البطن طهرهم الله به من دنس الدنيا و قذرها فذلك قوله تعالى { و سقاهم ربهم شرابا طهورا } قال : ثم يغتسلون من العين الأخرى فلا تشعث رؤوسهم و لا تتغير ألوانهم قال : ثم يضربون حلق أبواب الجنة فلو سمعت الخلائق طنين الأبواب لافتتنوا بها فيبادر رضوان فيفتح لهم فينظرون إلى حسن وجهه فيخرون ساجدين فيقول لهم رضوان يا أولياء الله : أنا قيمكم الذي وكلت بكم و بمنازلكم فينطلق بهم إلى قصور من فضة شوفاتها من ذهب يرى ظاهرها من باطنها من النور و الرقة و الحسن قال فيقول أولياء الله عند ذلك يا رضوان : لمن هذا ؟ فيقول : هذا لكم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فلولا أن الموت يرفع عن أهل الجنة لمات أكثرهم فرحا قال : ثم يريد أحدهم أن يدخل قصره فيقول له رضوان اتبعني حتى أريك ما أعد الله لك قال : فيمر به فيريه قصورا و خياما و ما أعطاه الله عز و جل قال : ثم يأتي به إلى غرفة من ياقوته من أسفلها إلى أعلاها مائة ذراع قد لونت بجميع الألوان على جنادل الدر و الياقوت و في الغرفة سرير طوله فرسخ في عرض مثل ذلك عليه من الفراش كقدر خمسين غرفة بعضها فوق بعض قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فذلك قوله عز و جل { و فرش مرفوعة } و هي من نور و السرير من نور و على رأس ولي الله تاج له سبعون ركنا في كل ركن سبعون ياقوتة تضيء و قد رد الله وجهه كالبدر و عليه طوق و وشاح يتلألأ من نور و قد سور بثلاثة أسورة : سوار من الذهب و سوار من فضة و سوار من لؤلؤ فذلك قوله تعالى { يحلون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم فيها حرير } ]
و قوله تعالى { جنات عدن يدخلونها } قال ابن عباس الجنات سبع : دار الجلال و دار السلام و جنة عدن و جنة المأوى و جنة الخلد و جنة الفردوس و جنة النعيم
و قيل : إن الجنان أربع لأن الله تعالى قال : { و لمن خاف مقام ربه جنتان } و قال بعد ذلك { و من دونهما جنتان } و لم يذكر سوى هذه الأربع جنة خامسة فإن قيل فقد قال جنة المأوى قيل جنة المأوى اسم لجميع الجنان يدل عليه أنه تعالى قال : { فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون } و الجنة اسم الجنس فمرة يقال جنة و مرة يقال جنات و كذلك جنة عدن و جنات عدن لأن العدن الإقامة و كلها دار الإقامة كما أن كلها مأوى المؤمنين و كذلك دار الخلد و دار السلام لأن جميعها للخلود و السلامة من كل خوف و حزن و كذلك جنات النعيم و جنة النعيم لأن كلها مشحونة بأصناف النعيم ذكره الحليمي في كتاب منهاج الدين له و قال : إنما منعنا أن نجعل كل واحدة من العدن و المأوى و النعيم جنة سوى الأخرى لأن الله تعالى إن كان سمي شيئا من هذه الأسماء جنة في موضع فقد سمي الجنات كلها بذلك الاسم في موضع آخر فعلمنا أن هذه الأسماء ليست لتميز جنة من جنة و لكنها للجنان أجمع لا سيما و قد أتى الله بذكر العدد فلم يثبت إلا أربعا و قد أثبت لهذه الجنان أبوابا فقال : [ و فتحت أبوابها ] و قال عليه الصلاة و السلام : [ إن أبواب الجنة ثمانية ] فيحتمل أن يكون ذلك لأن لكل جنة من الجنان الأربع بابين و وصف أهل الجنة فصنفهم صنفين : أحدهما السابقون المقربون و الآخرون أصحاب اليمين فعلمنا أن السابقين أهل الجنتين العليتين في قوله : { و لمن خاف مقام ربه جنتان } و أهل اليمين أهل الجنتين الدنييتين { و من دونهما جنتان } و بهذا جاءت الروايات
و روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : { و لمن خاف مقام ربه جنتان } إلى قوله { و من دونهما جنتان } قال : فتلك للمقربين و هاتان لأصحاب اليمين و عن أبي موسى الأشعري نحو ذلك
قوله تعالى : { يحلون فيها من أساور من ذهب و لؤلؤا } قال المفسرون : ليس أحد من أهل الجنة إلا و في يده ثلاثة أسورة : سوار من ذهب و سوار من فضة و سوار من لؤلؤ و قال هنا : { من ذهب و لؤلؤا } و قال في آية أخرى : { و حلوا أساور من فضة }
و في الصحيح : تبلغ حلية المؤمن حيث تبلغ الوضوء و قريء [ لؤلؤا ] بالنصب على معنى و يحلون لؤلؤا و أساور : جمع أسورة و أسورة واحدها سوار فيها ثلاث لغات ضم السين و كسرها و أسوار قال المفسرون : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور و التيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة إذ هم ملوك قوله تعالى : { و لباسهم فيها حرير }
روي عن يحيى بن سلام عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال : [ دار المؤمن في الجنة درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل و يأخذ بأصبعه أو قال بأصبعه سبعين حلة منظمة باللؤلؤ و الزبرجد و المرجان ]
و أخرجه ابن المبارك بهذا السند عن حماد عن أبي المهزم قال : سمعت أبا هريرة يقول : [ إن دار المؤمن في الجنة من لؤلؤة فيها أربعون بيتا في وسطها شجرة تنبت الحلل فيذهب فيأخذ بأصبعيه سبعين حلة منظمة باللؤلؤ و الزبرجد و المرجان ] و قد تقدم هذا المعنى و أبو المهزم ضعيف
و روى عن أبي هريرة أنه قال : بلغني أن ولي الله يلبس حلة ذات وجهين يتجاوبان بصوت مليح تقول التي تلي جسده : أنا أكرم على ولي الله منك أنا أمس بدنه و أنت لا تمسينه و تقول التي تلي وجهه : أنا أكرم على ولي الله منك أنا أرى وجهه و أنت محجوبة لا ترين وجهه و قد تقدم أن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة من حديث أبي سعيد الخدري صححه أبو عمرو رحمه الله و قال : هذا عندي على نحو المعنى الذي نزعنا به في شارب الخمر أنه إذا دخل الجنة لا يشرب فيها خمرا و لا يذكرها و لا يراها و لا تشتهيها نفسه فكذلك لابس الحرير في الدنيا إن لم يتب منه
قلت : و كذلك من استعمل آنية الذهب و الفضة و لم يتب من استعمالها
و قد روي [ عن أبي موسى الأشعري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين فقيل : و من الروحانيون يا رسول الله ؟ قال قراء أهل الجنة ] خرجه الترمذي أبو عبد الله في نوادر الأصول و قد قيل : إن حرمانه الخمر و لباسه الحرير و شربه في إناء الذهب و الفضة و استماعه للروحانيين إنما هو في الوقت الذي يعذب في النار و يسقى من طينة الخبال فإذا خرج من النار بالشفاعة أو بالرحمة العامة المعبر عنها في الحديث بالقبضة أدخل الجنة و لم يحرم شيئا منها لا خمرا و لا حريرا و لا غيره لأن حرمان شيء من لذات الدنيا لمن كان في الجنة نوع عقوبة و مؤاخذة و الجنة ليست بدار عقوبة و لا مؤاخذة فيها بوجه من الوجوه
قلت : و حديث أبي سعيد الخدري و أبي موسى الأشعري يرد هذا القول و كما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه و ليس ذلك لعقوبة كذلك لا يشتهي خمر الجنة و لا حريرها و لا يكون ذلك عقوبة
قوله تعالى { و يلبسون ثيابا خضرا من سندس و إستبرق } و قال { عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق } الإستبرق : الديباج الصفيق الكثيف و السندس : الرقيق الخفيف و خص الأخضر لأنه الموافق للبصر لأن البياض يبدد النظر و يؤلم و السواد يورم و الخضرة لون بين السواد و البياض و تلك تجمع الشعاع
قوله تعالى : { متكئين فيها على الأرائك } الأرائك : جمع أريكة و هي السرر في الحجل و قال { متكئين على سرر مصفوفة }
و روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الرجل من أهل الجنة ليتزوج في شهر واحد ألف حوراء يعانق كل واحدة منهن مقدار عمره في الدينا ]
و روي عن ابن عباس أنه قال : إن الرجل من أهل الجنة ليعانق الحور سبعين سنة لا يملها و لا تمله كلما أتاها وجدها بكرا و كلما رجعت إليه عادت إليه شهوته فيجامعها بقوة سبعين رجلا لا يكون بينهما مني يأتي من غير مني منه و لا منها
و قال المسيب بن شريك : [ قال النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى { إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا * عربا أترابا } قال : هي عجائز الدنيا أنشأهن الله خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا فلما سمعت عائشة ذلك قالت : واوجعاه فقال النبي صلى الله عليه و سلم ليس هناك وجع ]
و ذكر يحيى بن سلام عن صاحب له [ عن أبان بن عياش عن شهر بن حوشب عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الرجل من أهل الجنة ليتنعم مع زوجته في تكأة واحدة سبعين عاما فتناديه أبهى منها و أجمل من غرفة أخرى : أما آن لنا منك دولة بعد فيلتفت إليها فيقول : من أنت ؟ فتقول : أنا من اللاتي قال الله تعالى { و لدينا مزيد } فيتحول إليها يتنعم معها سبعين عاما في تكأة واحدة فتناديه أبهى و أجمل من غرفة أخرى : أما آن لنا منك دولة بعد فيلتفت إليها فيقول : من أنت ؟ فتقول : أنا من اللاتي قال الله تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون } فيتحول إليها فيتنعم معها في تكأة واحدة سبعين عاما فهم كذلك يزورون ] قال تعالى : { و زوجناهم بحور عين } الحور : البيض في قول قتادة و العامة و العين : العظام العيون
و قال قتادة في قوله تعالى : { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } يعني في الآخرة في شغل فاكهون قال : يعني افتضاض العذارى فاكهون قال الحسن : مسرورون { هم و أزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون } قوله تعالى { أولئك لهم رزق معلوم } فيه قولان : أحدهما حين يشتهونه قال مقاتل : الثاني بمقدار الغداة و العشي قاله ابن السائب قال الله تعالى { و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا } قال العلماء : ليس في الجنة ليل و لا نهار و إنما هم في نور أبدا و إنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب و إغلاق الأبواب و يعرفون مقدار النهار برفع الحجب و فتح الأبواب ذكره أبو الفرج بن الجوزي
و خرج أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول له [ من حديث أبان عن الحسن و أبي قلابة قال : قال رجل يا رسول الله : هل في الجنة من ليل ؟ قال : و ما هيجك على هذا ؟ قال : سمعت الله تعالى يقول في الكتاب { و لهم رزقهم فيها بكرة و عشيا } فقلت : الليل بين البكرة و العشي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليس هناك ليل إنما هو ضوء و نور الغدو على الرواح و الرواح على الغدو و يأتيهم طرف الهدايا لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها و تسلم عليهم الملائكة ] قوله تعالى ذكره : فواكه جمع فاكهة قال الله تعالى { و أمددناهم بفاكهة و لحم مما يشتهون } و هي الثمار كلها رطبها و يابسها قاله ابن عباس و قال مجاهد في قوله تعالى { ودانية عليهم ظلالها } يعني ظلال الشجر { و ذللت قطوفها تذليلا } أي ذللت ثمارها يتناولن منها كيف شاءوا إن قام ارتفعت بقدره و إن قعد تدلت إليه و إن اضطجع تدلت إليه حتى يتناولها
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء { و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا } قال : أهل الجنة يأكلون الثمار من الشجر كيف شاءوا جلوسا و مضطجعين و كيف شاءوا ؟ واحد القطوف قطف بكسر القاف
و ذكر ابن وهب [ قال : أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن رسول الله : إن خلق أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ستون ذراعا كالنخلة السحوق يأكلون من ثمار الجنة قياما ]
و ذكر يحيى بن سلام [ عن عثمان عن نعيم بن عبد الله عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي نفسي بيده إن الجنة ليتناولون من قطوفها و هم متكئون على فراشهم فما تصل إلى في أحدهم حتى يبدل مكانها أخرى قوله تعالى { يطاف عليهم بصحاف من ذهب و أكواب } ]
روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن أدنى الجنة منزلة الذي يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل خادم صحفتان واحدة ذهب و الأخرى فضة كل واحدة لون لا يشبه الأخرى ] ذكره القتبي في عيون الأخبار و قال المفسرون : يطوف على أدناهم منزلة سبعين ألف غلام بسبعين ألف صحفة من ذهب يفدى عليه بها في كل واحدة منها لون ليس في صاحبتها يأكل من آخرها كما يأكل من أولها و يجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها لا يشبه بعضه بعضا و يراع عليه بمثلها و يطوف على أرفعهم درجة كل يوم سبعمائة ألف غلام مع كل غلام صحفة من ذهب فيها ألوان الطعام ليس في صاحبتها يأكل من آخرها كما يأكل من أولها و يجد طعم آخرها كما يجد طعم أولها لا يشبه بعضه بعضا و أكواب أي : و يطاف عليهم بأكواب كما قال تعالى { و يطاف عليهم بآنية من فضة و أكواب } قال قتادة : الكوب : المدور القصير العتق القصير العروة و الإبريق المستطيل الطويل العنق الطويل العروة
و قال ابن عزيزة : أكواب : أباريق لا عرى لها و لا خراطيم واحدها كوب قاله الأخفش و قطرب و قال الجوهري في الصحاح : الكوب كوز لا عروة له و نحوه قوله مجاهد و السدي و هو مذهب أهل اللغة : التي لا آذان لها و لا عرى { كانت قواريرا * قوارير من فضة } أي اجتمع فيها صفاء القوارير في بياض الفضة و ذلك أن لكل قوم من تراب أرضهم قوارير قال : و إن تراب الجنة فضة فهي قوارير من فضة قاله ابن عباس و قال : هي في صفاء الفضة و في ذلك دليل على أن أرض الجنة من فضة إذ المعهود الدنيا اتخاذ الآنية من الأرض يرى باطنها من ظاهرها و ظاهرها من باطنها كالقوارير يرى الشراب من جدر القوارير و هذا لا يكون في فضة الدنيا { قدروها تقديرا } أي في أنفسهم فأتتهم على نحو ما قدروا و اشتهوا من صغار و كبار و أوساط هذا تفسير قتادة
و قال ابن عباس و مجاهد : أتوا بها على قدر رتبهم بغير زيادة و لا نقصان و المعنى قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم و يسقون فيها كأسا أي من كأس كما قال في الآية الأخرى : { إن الأبرار يشربون من كأس } يعني الخمر قال { يطاف عليهم بكأس من معين } أي من خمر و المعين : الماء الجاري الظاهر لا فيها غول أي لا تغتال عقولهم و لا يصيبهم منها صداع { و لا هم عنها ينزفون } أي لا تذهب عقولهم بشربها يقال : الخمر غول للحليم و الحرب غول للنفوس أي تذهب بها و قرأ حمزة و الكسائي : ينزفون بكسر الزاي من أنزف القوم إذا حان منهم النزف و هو السكر كما يقال : أحصد الزرع إذا حان حصاده و أقطف الكرام إذا حان قطافه و أركب المهر إذا حان ركوبه و قيل : المعنى لا ينفذون شرابهم لأنه دأبهم و الكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء مع شرابه فإن كان فارغا فليس بكأس { كان مزاجها كافورا } قال الكلبي كافورا عينا في الجنة يشرب بها أي منها و قيل الباء زائدة و المعنى : يشربها و منه تنبت بالدهن أي تبنت الدهن و قال { كان مزاجها زنجبيلا } و كانت العرب تنستطيب الزنجبيل و تضرب به المثل و بالخمر ممزوجين فخاطبهم الله بما كانوا عارفين و يستحبون كأنه يقول : لكم في الآخرة مثل ما تستحبون في الدنيا إن آمنتم { عينا فيها تسمى سلسبيلا } السلسبيل اسم العين و السلسبيل في اللغة صفة لما كان غاية في السلاسة و قال تعالى { يسقون من رحيق } يعني الشراب و هي الخمر { مختوم * ختامه مسك } قال مجاهد : يختم به آخر جرعة و قيل : المعنى إذا شربوا هذا الرحيق ففنى ما في الكأس و انقطع الختم ذلك بطعم المسك
و قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى { ختامه مسك } خلطه ليس بخاتم يختم ألم تر إلى قول المرأة من نسائكم خلطه من الطيب كذا و كذا إنما خلطه مسك ليس بخاتم يختم ذكره ابن المبارك و ابن وهب و اللفظ لابن وهب
و ذكر ابن المبارك عن أبي الدرداء { ختامه مسك } قال : شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شربتهم لو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل يده ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد ريح طيبها و في ذلك { فليتنافس المتنافسون } أي في الدنيا بالأعمال الصالحة قال { و مزاجه من تسنيم } أي و مزاج ذلك الشراب { عينا يشرب بها المقربون } قال قتادة : يشرب بها المقربون صرفا و تمزج لسائر أهل الجنة و تسنيم أشرف شراب في الجنة و أصل التسنيم في اللغة الارتفاع فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل و منه سنام البعير لعلوه من بدنه و كذلك تسنيم القبور و قد تسنم العيون و المياه فتشرف عليهم تجري من أعلى العرش يحقق ذلك ما رواه أبو مقاتل [ عن صالح ابن سعيد عن أبي سهل عن الحسن بن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أربع عيون في الجنة عينان تجريان من تحت العرش إحداهما التي ذكرها الله { يفجرونها تفجيرا } و الأخرى { نضاختان } من فوق العرش إحداهما التي ذكرها الله سلسبيلا و الأخرى التنسيم ] ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول في الأصل التاسع و الثمانين و قال : التنسيم للمعذبين خاصة شربا لهم و الكافور للأبرار شربا لهم و الكافور للأبرار شربا لهم و الكافور يمزج للأبرار من التنسيم شرابهم و أما الزنجبيل و السلسبيل فللأبرار منها مزاج هكذا ذكره في التنزيل و سكت عن ذلك لمن هي له شرب فما كان للأبرار مزاجا فهو للمقربين صرفا و ما كان للأبرار صرفا فهو لسائر أهل الجنة مزاجا
و الأبرار هم الصادقون و المقربون هم الصديقون قال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل و في التنزيل { بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين } أي لذيذة يقال شراب لذيذ إذا كان طيبا قوله تعالى : { و عندهم قاصرات الطرف } أي نساء قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرون إلى غيرهم قال ابن زيد : إن المرأة منهن لتقول لزوجها : و عزة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك و عين : عظام العيون الواحدة منهن عيناء { كأنهن بيض مكنون } أي مصون
و قال الحسن و ابن زيد شبههن ببيض تكنه النعامة بالريش من الريح و الغبار فلونه أبيض في صفرة و هو أحسن ألوان النساء و قيل المراد بالبيض : اللؤلؤ كقوله { و حور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون } أي في أصدافه و قال { فيهن خيرات حسان } يعني النساء الواحدة خيرة و أصله خيرات فخفف كهين و لين
ابن المبارك قال : أنبأ الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن أبي عامر قال : لو أن خيرة من خيرات حسان اطلعت من السماء لأضاءت لها و لقهر ضوء وجهها الشمس و القمر و لنصيف تكساه خيرة خير من الدنيا و ما فيها النصيف : القناع و قوله : حسان أي حسان الخلق و إذا قال تعالى { حسان } فمن يقدر أن يصف حسنهن حور أي بيض مقصورات أي محبوسات في الخيام جمع خيثمة و قد تقدم صفتها
و قال ابن عباس : الخيمة درة مجوفة فرسخ في مثله لها أربع آلاف مصراع من ذهب ذكره ابن المبارك : أنبأنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس
و ذكر عن أبي الدرداء قال : الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا كلها در
و عن أبي الأحوص { حور مقصورات في الخيام } قال : الدر المجوف
و قال الترمذي الحكيم في قوله تعالى : { حور مقصورات في الخيام } قال : بلغنا في الرواية أن سحابة مطرت من العرش فخلقن من قطرات الرحمة ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطئ الأنهار لسعتها أربعون ميلا و ليس لها في ذلك باب حتى إذا حل ولي الله بالجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة و الخدم لم تأخذها فهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين و ذكر الدار قطني في كتاب المديح عن المعتمر بن سليمان قال : إن في الجنة نهرا ينبت الجواري الأبكار و الرفرف : المجالس قاله قتادة و قيل : فضول المجالس و قال أبو عبيد : الرفرف : العرش
و قال الترمذي الحكيم : إن الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف و أهوى به كالمرجاح يمينا و شمالا و رفعا و خفضا يتلذذ به مع أنيسته فإذا ركبوا الرفارف أخذ إسرافيل في السماع فيروي في الخبر أنه ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سموات صلاتهم و تسبيحاتهم فإذا ركبوا الرفارف أخذ إسرافيل في السماع بأنواع الأغاني تسبيحا و تقديسا للملك القدوس فلم تبق شجرة في الجنة إلا وردت و لم يبق ستر و لا باب إلا ارتج و انفتح و لم تبق حلقة على باب إلا طنت بأنواع طنينها و لم يبق أجمة من آجام الذهب إلا وقع أهبوب الصوت في مقاصبها فزمرت تلك المقاصب بفنون الزمر و لم تبق جارية من جوار الحور العين إلا غنت بأغانيها و الطير بألحانها و يوحي الله تبارك و تعالى إلى الملائكة أن جاوبوهم و أسمعوا عبادي الذي نزهوا أسماعهم عن مزامير الشيطان فيجاوبون بألحان و أصوات روحانية فتختلط هذه الأصوات فتصير رجة واحدة ثم يقول الله عز و جل ذكره : يا داود قم عند ساق العرش تجدني فيندفع داود بتمجيد ربه بصوت يعم الأصوات و يجليها و تتضاعف اللذة و أهل الخيام من تلك الرفارف تهوي بهم و قد حفت بهم أفانين اللذات و الأغاني فذلك قوله تعالى { فهم في روضة يحبرون }
و عن يحيى بن أبي كثير في قوله تعالى { فهم في روضة يحبرون } قال : الروضة اللذات و السماع قوله تعالى { و عبقري حسان } العبقري الفرش له قال ابن عباس : الواحدة عبقري و هي النمارق أيضا في قوله تعالى { و نمارق مصفوفة } و الزرابي البسط مبثوثة معناه : مبسوطة و قيل منسوجة بالدر و الياقوت و قوله تعالى : { و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين } يعني أهل الجنة من غير السابقين و أهل الجنة كلهم أصحاب يمين { في سدر مخضود } و هو الذي نزع شوكه و قد تقدم { و طلح منضود } أي بعضه على بعض و قال المفسرون : الطلح شجر الموز ها هنا و هو عند العرب شجر حسن اللون لخضرته و إنما خص بالذكر لأن قريشا كانوا يتعجبون من خضرته و كثرة ظلاله من طلح و سدر فخوطبوا و وعدوا لما يحبون مثله قاله مجاهد و غيره قوله تعالى { و لهم فيها أزواج مطهرة } قال مجاهد : مطهرة من البول و الغائط و الحيض و النخام و البصاق و المني و الولد ذكره ابن المبارك
أنبأنا ابن جريج عن مجاهد فذكره { و هم فيها خالدون } أي باقون لا خروج لهم منها و قد تقدم
و قال مجاهد أيضا في قوله تعالى { على سرر متقابلين } قال : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض تواصلا و تحابيا و قيل : الأسرة تدور كيف شاءوا فلا يرى أحد قفا أحد
و قال ابن عباس : على سرر مكللة بالدر و الياقوت و الزبرجد السرير منها ما بين صنعاء إلى الجابية و ما بين عدن إلى أيلة و قيل : تدور بأهل المنزل الواحد و الله أعلم
باب ما جاء في أطفال المسلمين و المشركين
و ذكر أبو عمرو في كتاب التمهيد و الاستذكار و أبو عبد الله الترمذي في نوادر الأصول و المفسرون عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين } قال : هم أطفال المسلمين زاد الترمذي : لم يكتسبوا فيرتهنوا بكبسهم و قال أبو عمرو : الجمهور من العلماء : على أن أطفال المسلمين في الجنة و قد ذهب طائفة من العلماء إلى الوقف في أطفال المسلمين و أولاد المشركين أن يكونوا في جنة أو في نار منهم حماد ابن زيد و حماد بن سلمة و ابن المبارك و إسحاق بن راهويه [ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الأطفال فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] هكذا قال الأطفال و لم يخص طفلا عن طفل
قال الحليمي في كتاب منهاج الدين : و قد توقف في ولدان المسلمين من توقف في ولدان المشركين و قال : إذا كان كل منهم يعامل بما عمل الله تعالى منه أنه فاعله لو بلغه فكذلك ولدان المسلمين و احتج بأن صبيا صغيرا مات لرجل من المسلمين فقالت إحدى نساء النبي صلى الله عليه و سلم : طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ و ما يدريك إن الله خلق الجنة و خلق لها أهلا و خلق النار و خلق لها أهلا ] قال : فهذا يدل على أنه لا يمكن أن يقطع في أطفال المسلمين بشيء
قال الحليمي : و هذا الحديث يحتمل أن يكون إنكارا النبي صلى الله عليه و سلم على التي قطعت بأن الصبي في الجنة لأن القطع بذلك قطع بإيمان أبويه و قد يحتمل أن يكون منافقين فيكون الصبي ابن كافرين فيخرج هذا على قول من يقول : قد يجوز أن يكون ولدان المشركين في النار و قد يحتمل أن يكون أنكر ذلك لأنه لم يكن أنزل عليه في ولدان المسلمين شيء ثم أنزل عليه قوله تعالى : { و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } و قد قريء : و أتبعناهم ذريتهم فأخبر تعالى أن الذين آمنوا في الحياة الدنيا جعل ذرياتهم أتباعهم في الإيمان و أنه يلحق بهم ذرياتهم في الآخرة فثبت بذلك أن ذراري المسلمين في الجنة و قال النبي : [ سألت ربي أن يريني أهل الجنة و أهل النار فجاءني جبريل و ميكائيل عليهما السلام في النور فقالا : انطلق يا أبا القاسم إلى أن قال و أنا أسمع لغط الصبيان فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هم ذرية أهل الإسلام الذين يموتون قبل آبائهم يكفل بهم عليه السلام حتى يلحق آباؤهم ] فدل أنهم في الجنة
قال المؤلف رحمه الله : الحديث الذي احتجوا به خرجه أبو داود الطيالسي قال : حدثنا قيس بن الربيع عن يحيى بن إسحاق
[ و عن عائشة بنت طلحة عن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بصبي من الأنصار ليصلى عليه فقالت : يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءا قط و لم يدره فقال : يا عائشة أو لا تدرين أن الله تبارك و تعالى خلق الجنة و خلق لها أهلا و خلق النار و خلق لها أهلا و هم في أصلاب آبائهم ]
و قالت طائفة : أولاد المسلمين في الجنة و أولاد المشركين في النار و احتجوا بما ذكرناه من الآية و الحديث بحديث [ سلمة بن يزيد الجعفي قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم أنا و أخي فقلنا يا رسول الله إن أمنا ماتت في الجاهلية و كانت تقري الضيف و تصل الرحم و تصوم و تفعل و تفعل فهل ينفعها من عملها ذلك شيء ؟ قال : لا قال : فقلنا إن أمنا و أدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فهل ذلك نافع أختنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرأيتم الوائدة و المؤودة فإنهما في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيغفر لها ]
قال أبو عمرو : هذا الحديث صحيح الإسناد إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على جواب السائل في عين مقصودة فكانت الإشارة لها
و في بعض طرق حديث سلمة بن زيد فلما رأى ما قد دخل علينا قال : [ و أمي مع أمكما ] خرجه و رواه أبو داود الطيالسي في مسنده [ عن سلمة بن يزيد قال : سألت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت : أمي ماتت و كانت تقري الضعيف و تطعم الجار و كانت وأدت وأدا في الجاهلية و لها سعة من مال أفينفعها إن تصدقت عنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا ينفع الإسلام إلا من أدركه إنها و ما وأدت في النار و رأى ذلك قد شق علي فقال : و أم محمد معها و ما فيهما خيره ]
و خرج أبو نعيم الحافظ و غيره [ عن ابن مسعود قال : جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالا : يا رسول الله إن أمنا كانت تكرم الزوج و تعطف على الولد و ذكر الضيف غير أنها وأدت في الجاهلية فقال : أمكما في النار فأدبر و الشر يرى في وجوههما فأمر بهما فردا و البشرى ترى في وجوههما رجاء أن يكون حدث شيء قال : أمي مع أمكما ] و ذكر الحديث
و روى بقية بن الوليد [ عن محمد بن يزيد الألمعاني قال : سمعت عبد الله بن قيس يقول : سمعت عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذرارى المسلمين فقال : هم مع آبائهم قلت : بلا عمل ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين و سألته عن ذرارى المشركين فقال : مع آبائهم فقالوا : بلا عمل ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ] قال أبو عمر عبد الله بن قيس : هذا شامي تابعي ثقة و أما بقية بن الوليد فضعيف و أكثر حديثه مناكير و لكن هذا الحديث قد روي مرفوعا عن عائشة من غير هذا الوجه [ قالت عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم ولدان المسلمين أين هم يوم القيامة ؟ قال : في الجنة قالت : و سألته عن ولدان المشركين أين هم يوم القيامة ؟ قال : في النار فقلت مجيبة له : يا رسول الله لم يدركوا الأعمال و لم تجر عليهم الأقلام قال : ربك أعلم بما كانوا عاملين و الذي نفسي بيده لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار ] قال أبو عمر : في طريقه أبو عقيل صاحب لهية لا يحتج بمثله عند أهل العلم
قال المؤلف رحمه الله : كذا ذكر أبو عمر هذا الحديث بهذا اللفظ و كذلك ذكر أبو أحمد بن علي فيما ذكر أبو محمد عبد الحق
و ذكره أبو داود الطيالسي قال : حدثنا أبو عقيل [ عن بهية عن عائشة قالت : سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن أطفال المشركين قال : هم في النار يا عائشة قالت فقلت : فما تقول في المسلمين ؟ قال : هم في الجنة يا عائشة قالت قلت : و كيف لم يدركوا الأعمال و لم تجر عليهم الأقلام ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ربك أعلم بما كانوا عاملين ] قال أبو محمد عبد الحق و يحيى بن المتوكل ضعيف عندهم و بهية لم يرو عنها إلا أبو عقيل
و قالت طائفة : إن الأطفال يمتحنون في الآخرة و احتجوا بحديث أبي سعيد الخدري قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : في الهالك في الفترة و المعتوه و المولود قال : يقول الهالك في الفتره و المعتوه و المولود : قال : يقول الهالك في الفترة : لم يأتني كتاب و لا رسول ثم تلا { و لو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } الآية و يقول المعتوه : رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا و لا شرا و يقول المولود : رب لم أدرك العمل فترقع لهم نار فيقول لهم ردوها و ادخلوها قال : فيردها أو يدخلها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل و يمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل قال فيقول الله : إياي عصيتم فكيف رسلي لو أتتكم ]
قال أبو عمر : من الناس يوقف هذا الحديث على أبي سعيد و لا يرفعه منهم أبو نعيم الملاي
قلت : و يضعفه من جهة المعنى أن الآخرة ليست بدار تكليف و إنما هي دار جزاء ثواب و عقاب
قال الحليمي : و هذا الحديث ليس بثابت و هو مخالف لأصول المسلمين لأن الآخرة ليست بدار الامتحان فإن المعرفة بالله تعالى فيها تكون ضرورة و لا مجنة مع الضرورة و لأن الأطفال هناك لا يحلو من أن يكونوا عقلاء أو غير عقلاء فإن كانوا مضطرين إلى المعرفة فلا يليق بأحوالهم المحنة و إن كانوا غير عقلاء فهم من المحنة أبعد
و قال أبو عمر رحمه الله : هذا الأحاديث من أحاديث الشيوخ و فيها علل و ليست من أحاديث الأئمة الفقهاء و هو أصل عظيم و القطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعيف في العلم و النظر مع أنه قد عارضها ما هو أقوى مجيبا منها
ذكر البخاري حديث أبي رجاء العطاردي [ عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه و سلم الحديث الطويل حديث الدويا و فيه قوله عليه الصلاة و السلام : و أما الرجل الطويل الذي في الروضة فإبراهيم عليه السلام و أما الوالدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة فقيل : يا رسول الله و أولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و أولاد المشركين ]
و خرج البخاري أيضا في رواية أخرى عن أبي رجاء العطاردي : و الشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام و الصبيان حوله أولاد الناس و هذا يقتضي عمومه جميع الناس
قلت : ذهب إلى هذا جماعة من العلماء و هو أصح شيء في الباب قالوا أولاد المشركين إذا ماتوا صغارا في الجنة و احتجوا بحديث عائشة ذكره أبو عمر في التمهيد قالت : [ سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أولاد المشركين فقال : هم مع آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت { و لا تزر وازرة وزر أخرى } قال هم على القنطرة أو قال هم في الجنة ]
قلت : هذا حديث مرتب في غاية البيان و هو يقضي على ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم في أحاديث صحاح من قوله في الأطفال [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] فكان ذلك منه قبل أن يعلم أن أولاد المشركين في الجنة و قيل أن ينزل عليه { و لا تزر وازرة وزر أخرى }
و قد كان عليه الصلاة و السلام أنزل عليه بمكة { قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي } و لم يكشف له عن عاقبة أمرهم و أمر المشركين ثم أنزل عليه { هو الذي أرسل رسوله بالهدى } الآية و أنزل عليه { و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } و أنزل عليه { و أخرى تحبونها نصر من الله و فتح قريب } فاعلمه بأن الذي يفعل به أن يظهر عليهم
و قد ذكر ابن سنجر و اسمه محمد بن سنجر قال : [ حدثنا هوذة حدثنا عوف عن حسناء بنت معاوية قالت : حدثني عمي قال : قلت يا رسول الله من في الجنة ؟ قال : النبي في الجنة و المولود في الجنة و الوثيدة في الجنة و الشريد في الجنة ]
[ و عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم ] قال أبو عمر : إنما قيل للأطفال اللاهين لأن أعمالهم كاللهو و اللعب من غير عقد و لا عزم من قولهم لهيت في الشيء أي لم أعتقده كقوله { لاهية قلوبهم } و قالت طائفة : أولاد المشركين خدم أهل الجنة و حجتهم ما رواه الحجاج بن نضير [ عن مبارك بن فضلة بن علي بن زيد عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم : أنه قال : أولاد المشركين خدم أهل الجنة ] ذكره أبو عمر
قلت : و إسناده إذا الحديث ليس بالقوي لكن يدل على صحة هذا القول أعني أنهم في الجنة أو أنهم خدم أهل الجنة ما ذكر جماعة من العلماء بالتأويل أن الله تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه في صور الذر أقروا له بالربوبية و هو قوله { و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } ثم أعادهم في صلب آدم بعد أن أقروا له بأنه لا إله إلا هو ثم يكتب العبد في بطن أمه شقيا أو سعيدا على الكتاب الأول فمن كان في الكتاب الأول شقيا عمر حتى يجري عليه القلم فينقض الميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم بالشرك و من كان في الكتاب الأول سعيدا عمر حتى يجري عليه القلم فيؤمن فيصير سعيدا و من مات صغيرا من أولاد المسلمين قبل أن يجري عليه القلم فهم مع آبائهم في الجنة و من كان من أولاد المشركين فمات قبل أن يجري عليه القلم فليس يكونون مع آبائهم في النار لأنهم ماتوا على الميثاق الأول الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلى الله عليه و سلم و لم ينقضوا الميثاق
قلت : و غفر له و هذا أيضا حسن فإنه جمع بين الأحاديث و يكون معنى قوله عليه الصلاة و السلام لما سئل عن أولاد المشركين فقال : [ الله أعلم بما كانوا عاملين ] يعني لو بلغوا بدليل حديث البخاري و غيره مما ذكرناه
و قد روى أبان [ عن أنس قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أولاد المشركين فقال : لم يكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة و لم يكن لهم سيئات فيعاقبوا عليها فيكونوا من أهل النار فهم خدم لأهل الجنة ]
ذكره يحيى بن سلام في تفسيره و أبو داود الطيالسي في مسنده و أبو نعيم الحافظ أيضا [ عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذراري المشركين لم يكن لهم ذنوب يعاقبون عليها فيدخلون النار و لم تكن لهم حسنات يجازون بها فيكونوا من ملوك الجنة فقال النبي : من خدم أهل الجنة ]
روى أبو عبد الله الترمذي الحكيم قال : حدثنا أبو طالب الهروي قال : حدثنا يوسف بن عطية عن قتادة حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كل مولود يولد من ولد كافر أو مسلم فإنما يولدون على الفطرة على الإسلام كلهم و لكن الشياطين أتتهم فاختالتهم عن دينهم فهودتهم و نصرتهم و مجستهم و أمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا
و خرج من حديث عياض بن حماد المجاشعي [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال في خطبته : أن الله أمرني أن أعلمكم و قال إني خلقت عبادي كلهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاختالتهم عن دينهم و أمرتهم أن يشركو بي و حرمت عليهم ما أحللت لهم ]
قال أبو عبد الله الترمذي : هذا بعد الإدراك حين عقلوا أمر الدنيا و تأكدت حجة عليهم بما نصب من الآيات الظاهرة من خلق السموات و الأرض و الشمس و القمر و البر و البحر و اختلاف الليل و النهار فلما غلبت أهواؤهم عليهم أتتهم الشياطين فدعتهم إلى اليهودية و النصرانية بأهوائهم يمينا و شمالا
قلت : و هذا أيضا يقوي ما أخذناه من أطفال المشركين في الجنة و حديث عياض بن حماد خرجه مسلم في صحيحه و حسبك حسبك و للعلماء في الفطرة أقول قد ذكرناها في كتاب جامع أحكام القرآن من سورة الروم و الحمد لله
باب منه و في ثواب من قدم ولدا
مسلم عن أبي حسان قال : قلت لأبي هريرة رضي الله عنه أنه مات لي ابنان فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم تطيب به أنفسنا عن موتانا ؟ قال : نعم صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بصنيعة ثوبك هذا فلا يتناهى أو قال فلا ينتهي حتى يدخله الله و أبويه الجنة
و خرج أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يختلف إليه رجل من الأنصار معه ابن له فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم : أتحبه يا فلان ؟ فقال : نعم قال : أحبك الله كما أحبه ففقده النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عنه فقالوا يا رسول الله مات ابنة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أما ترضى أو لا ترضى أن لا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا جاء يسعى حتى يفتحه لك فقالوا يا رسول الله : أله واحده ألم لنا كلنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم بل لكلكم ] ذكره أبو عمر في التمهيد أيضا و قال هذا حديث حسن ثابت صحيح
و خرج أبو داود الطيالسي في مسنده قال : [ حدثنا هشام عن قتادة عن راشد عن عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و النفساء يجرها ولدها يوم القيامة بسرره إلى الجنة ]
فصل
هذا الحديث يدل على أن صغار أولاد المؤمنين في الجنة و هو قول أكثر أهل العلم كما بينا في الباب قبل هذا و هو مقتضى ظاهر قول الله عز و جل { و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } كما تقدم
و قد أنكر بعض العلماء الخلاف فيهم و هذا فما عدا أولاد الأنبياء عليهم السلام فإنه قد تقرر الإجماع على أنهم في الجنة حكاه أبو عبد الله المازري و دعاميص : جمع دعموص و هو دويبة تغوص في الماء و الجمع دعاميص و دعامص قال الأعشى :
( فما ذنبنا أن حاش لي بحر علمكم ... و بحرك ساج لا يوارى الدعامصا )
و قد قيل : إن الدعموص يراد به الآذن على الملوك المتصرف بين أيدهم
قال أمية ابن الصلت :
دعموص أبواب الملوك و جانب للخرق فاتح
و هذا هو المراد بالحديث
و في صحيح البخاري [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كانوا له حجابا من النار و أدخله الجنة ]
قال المؤلف رحمه الله : قوله عليه الصلاة و السلام : لم يبلغوا الحنث معناه عند أهل العلم : لم يبلغوا الحلم و لم يبلغوا أن يلزمهم حنث
و قد روى الترمذي [ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحلم كانوا له حصنا حصينا من النار قال أبو ذر قدمت اثنين قال و اثنين فقال أبي بن كعب سيد القراء قدمت واحدا قال و واحدا و لكن إنما ذاك عند الصدمة الأولى ] قال أبو عيسى : هذا حديث غريب و أبو عبيدة لم يسمع من أبيه خرجه ابن ماجه أيضا و في هذا كله دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يرحموا من أجل من ليس بمرحوم قال أبو عمر بن عبد البر : و هذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة و لم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من المجرة فجعلتهم في المشية و هو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا يجوز مخالفتهم و لا يجوز على مثلهم الغلط
إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من أخبار الآحاد الثقات العدول و أن قوله صلى الله عليه و سلم : [ الشقي من شقى في بطن أمه و أن الملك ينزل فيكتب أجله و رزقه ] الحديث مخصوص و أن مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد و هو في بطن أمه و لم يشق بدليل الأحاديث و الإجماع و كذلك قوله صلى الله عليه و سلم لعائشة : [ إن الله خلق الجنة و خلق لها أهلا و هم في أصلاب آبائهم و خلق النار و خلق لها أهلا و هم في أصلاب آبائهم ] ساقط ضعيف مردود بالإجماع و الآثار و طلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به و هذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه
باب ما جاء في نزل أهل الجنة و تحفهم إذا دخلوها
روى البخاري و مسلم [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفئها الجبار بيده كما يكفئ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة قال : فأتى رجل من اليهود فقال : بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة ؟ قال : بلى قال : تكون الأرض خبزة واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه قال ألا أخبرك بإدامهم ؟ قال : بلى قال : بالام و نون قالوا و ما هذا ؟ قال : ثور و نون يأكل من زائدة كبدها سبعون ألفا ]
و خرج مسلم [ عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه حبر من أحبار اليهود فقال : السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال : لم تدفعني ؟ فقلت : ألا تقول : يا رسول الله ؟ فقال اليهودي : إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي فقال اليهودي : جئت أسألك فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم أينفعك شيء إن حدثتك ؟ قال : أسمع بأذني فكنت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعود معه فقال : سل فقال اليهودي : أين تكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض و السموات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هم في الظلمة دون الجسر قال : فمن أول الناس إجازة ؟ قال : فقراء المهاجرين قال اليهودي : فما تحفتهم حين يدخلون الجنة ؟ قال : زيادة كبد النون قال : فما غذاؤهم ؟ قال : ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها قال : فما شرابهم على إثراها ؟ قال : من عين فيها تسمى سلسبيلا فقال : صدقت ] و ذكر الحديث
فصل
قلت : هذا الحديث انفرد به مسلم و هو أبين من الحديث الآخر الذي قبله لأنه من قول النبي صلى الله عليه و سلم جوابا لليهودي و الحديث الذي قبله آخره من قول اليهودي و هو يدخل في المسند لإقرار النبي صلى الله عليه و سلم و الجبار اسم من أسماء الله تعالى قد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى و يكفئها و يقلبها و يميلها من قولك كفأت الإناء إذا كببته و قد تقدم أن أرض المحشر كقرصة النقي ليس فيها أعلم لأحد و النزل ما يعد للضيف من الطعام و الشراب و يقال نزل أو نزل بتخفيف الزاي و تثقيلها و قريء بذلك قوله { نزلا من عند الله } قال أهل اللغة : النزل ما يهيأ للنزيل و النزيل الضيف قال الشاعر :
( نزيل القوم أعظمهم حقوقا ... و حق الله في حق النزيل )
و حظ النزيل مجتمع و التحفة ما يتحف به الإنسان من الفواكه و الطرف محاسنة و ملاطفة و زيادة كبد النون قطة منه كالإصبع و بالأم قد جاء مفسرا في متن الحديث أنه الثور و لعل اللفظ عبرانية و النون الحوت و هو عربي و في الخبر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال سيد إدام الدنيا و الآخرة اللحم ذكره أبو عمرو في التمهيد
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا ابن لهيعة قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير أخبره ابن العوام مؤذن إيليا أول رجل أذن بإبليا أخبره أنه سمع كعبا يقول إن الله تبارك و تعالى يقول لأهل الجنة إذا دخلوها : إن لكل ضعيف جزورا و إني أجزركم اليوم حوتا و ثورا فيجزر لأهل الجنة
باب ما جاء أن مفتاح الجنة لا إله إلا الله و الصلاة
أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا سليم بن معاذ الضبي عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مفتاح الصلاة الوضوء و مفتاح الجنة الصلاة ]
و البيهقي [ عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حين بعثه إلى اليمن أنك ستأتي أهل الكتاب فيسألونك عن مفتاح الجنة فقل شهادة أن لا إله إلا الله ]
و في البخاري : و قيل لوهب : أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله ؟ قال : بلى و لكن ليس مفتاح إلا و له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك و إلا لم يفتح لك
فصل
قلت : الأسنان عبارة عن توحيد الله و عبادته جميعا و عن توحيده أيضا فقط
قال الله تعالى { و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } و قال : { إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا } و هو في القرآن كثير الإيمان مع العمل و هو مقتضى الحديث الأول حديث جابر رضي الله عنه و عن توحيد الله فقط
و في الصحيحين [ عن أبي ذر رضي الله عنه و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قالت : و إن زنى و إن سرق ؟ قال و إن زنى و إن سرق ]
و ذكر الطبراني [ من حديث موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حضر ملك الموت عليه السلام رجلا فنظر في كل عضو من أعضائه فلم يجد فيه حسنة ثم شق قلبه فلم يجد فيه شيئا ثم فك عن لحيته فوجد طرف لسانه لاصقا بحنكه يقول : لا إله إلا الله فقال : وجبت لك الجنة بقول كلمة الإخلاص ]
باب الكف عمن قال : لا إله إلا الله
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمرت أن أقاتل حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله و يؤمنوا بي و بما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله ]
باب ما جاء أن المؤمن حرام دمه و ماله و عرضه و في تعظيم حرمته عند الله
تعالى
ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع : ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا و إن أحرم الشهور شهركم هذا و إن أحرم البلد بلدكم هذا ألا و إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم قال : اللهم اشهد ] خرجه مسلم من حديث أبي بكرة و جابر بمعناه
و خرج ابن ماجه أيضا [ عن عبد الله بن عمرو قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوف بالكعبة و يقول : ما أطيبك و أطيب رائحتك ما أعظمك و أعظم حرمتك و الذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمه منك ماله و دمه و أن لا يظن به إلا خيرا ]
مسلم [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه ]
النسائي [ عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قتل المؤمن عند الله أعظم من زوال الدنيا ]
الترمذي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من أشار على أخيه بحديدة لعنته الملائكة ] قال : حديث حسن صحيح غريب
باب ما جاء في قتل مؤمنا و الإعانة على ذلك
قال الله تعالى : { و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب الله عليه و لعنه و أعد له عذابا عظيما } و قال تعالى : { و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا }
و روى عبد العزيز بن يحيى المدني قال : [ حدثنا مالك بن أنس عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد عن ثابت قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعظنا و يحدثنا و يقول : و الذي نفسي بيده ما عمل على وجه الأرض قط عمل أعظم عند الله بعد الشرك من سفك دم حرام و الذي نفسي بيده إن الأرض لتضج إلى الله تعالى من ذلك ضجيجا تستأذنه فيمن عمل ذلك على ظهرها لتخسف به ]
و ذكره أبو نعيم قال : حدثنا شافع بن محمد بن أبي عوانة الأسفرايني قال : حدثنا أحمد بن عبد الجوهري قال : حدثنا علي بن حرب قال : حدثنا عبد العزيز بن يحيى قال : حدثنا مالك فذكره
أبو داود [ عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو مؤمن قتل مؤمنا متعمدا ]
و عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما لم يصب دما حراما فإذا أصاب دما حراما بلح ] قال الهروي : بلح أي أعيا و انقطع به يقال : بلح الفرس إذا انقطع جريه و بلحت الركية إذا انقطع ماؤها
و ذكر أبو بكر النيسابوري قال : [ حدثنا زكريا بن يحيى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا الفزاري عن زياد بن أبي زيادة الشامي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أعان في قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله يوم يلقاه القيامة مكتوب على جبهته آيس من رحمة الله ]
قال الهروي و في الحديث [ من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة ] قال : شقيق هو أن يقول في أقتل أو كما قال عليه الصلاة و السلام : [ كفى بالسيف مثا ] معناه : شافيا
باب إقبال الفتن و نزولها كمواقع القطر و الظلل و من أين تجيء و التحذير
منها و فضل العبادة عندها
قال الله تعالى { و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } و قال تبارك و تعالى : { و نبلوكم بالشر و الخير فتنة } ففي هذا تنبيه بالغ على التحذير من الفتن
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا يمسي كافرا و يمسي مؤمنا و يصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا ]
[ و عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فزعا محمرا وجهه يقول : لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج و مأجوج مثل هذه و حلق بإصبعين الإبهام و التي تليها قالت فقلت يا رسول الله أنهلك و فينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ]
و [ عن أسامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال : هل تدون ما أرى ؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر ] أخرجهما البخاري
البيهقي [ عن كرز بن علقمة الخزاعي قال : سأل رجل النبي صلى الله عليه و سلم : هل للإسلام من منتهى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيرا أدخل عليهم الإسلام فقال : ثم ماذا ؟ قال : ثم تقع الفتن كالظلل فقال الرجل كلا و الله إن شاء الله قال بلى و الذي نفسي بيده لتعودن فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض ] قال الزهري : أساود صبا : الحية السوداء إذا أراد أن ينهش ارتفع هكذا ثم انصب
خرجه أبو داود الطيالسي أيضا
قال ابن دحية أبو الخطاب الحافظ : هذا الحديث لا مطعن في صحة إسناده رواه سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة بن الزبير عن كرز قرأته بجامع قرطبة و بمسجد الغدير و بمسجد أبي علاقة على المحدث المؤرخ أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري قال سمعت جميع هذا الكتاب و هو جامع الخير للإمام سفيان بن عيينة عن الشيخين الجليلين الثقة المفتي أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتاب و الوزير الكتاب الثقة أبي الوليد أحمد بن عبد الله بن طريف فإلا قرأناه على العدل أبي القاسم حاتم بن محمد التميمي بحق سماعه على الثقة الفاضل أبي الحسن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن فراس رحمه الله بمكة حرسها الله تعالى بالمسجد الحرام بحق سماعه على الثقة أبي جعفر أحمد بن إبراهيم الديلي بحق سماعه على الثقة الصالح أبي عبيد سعيد بن عبد الرحمن المخزومي بحق سماعه من الإمام الفقيه أبي محمد سفيان بن عيينة
قال المؤلف رحمه الله : و قد حدثني بهذا السند المذكور الفقيه القاضي أبو عامر يحيى ابن عبد الرحمن إجازة عن أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال و كرز هو كرز بن علقمة بن هلال الخزاعي أسلم يوم الفتح و عمر طويلا و هو الذي نصب أعلام الحرم في خلافة معاوية و إمارة مروان بن الحكم و فيه ثم مه قال ثم تعود الفتن بدل قال : ثم ماذا قال : ثم تقع الفتن و لم يذكر قول الزهري إلى آخره
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية : قول الرجل : ثم مه هنا على الاستفهام أي ثم ما يكون و مه : في غير هذا الموضع زجر و إسكات كقوله عليه الصلاة و السلام : [ مه إنكن صواحب يوسف ] و قوله [ كأنها الضلل ] الظلل السحاب و الظلة السحابة و منه قوله تعالى : { فأخذهم عذاب يوم الظلة } و قول الرجل بجهله : كلا و الله معناه الجحد بمعنى لا و الله
و قيل : هي بمعنى الزجر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بلى و الذي نفسي بيده ] و بلى للنفي استفهاما كان أو خبرا أو نهيا فالاستفهام { ألست بربكم } و { أليس ذلك بقادر } جوابه : بلى هو قادر و مثال الخبر { لن تمسنا النار } جوابه قالوا : بل تمسكم و مثال النهي لا تلق زيدا جوابه : بلى لألقينه
قال أبو الخطاب بن دحية : و قوله صبا هكذا قيدناه بضم الصاد و تشديد الباء على مثال غر و الأساود : نوع من الحيات عظام فيها سوداء و هو أخبثها و الصب منها التي روى تنهش ثم ترتفع ثم تنصب شبههم فيما يتولونه من الفتن و القتل و الأذى بالصب من الحيات
قال المؤلف رحمه الله : الأساود جمع أسود و هو الحية و صبا جمع كغار و غز و هو الذي يميل و يلتوي وقت الهش ليكون أنكي في اللدغ و أشد صبا للسم و يجوز أن يكون جمع أصب و هو الذي كأنه عند الهش انصبابا و الأول من صبا إذا مال و الثاني من صب إذا سكب
مسلم [ عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : استيقظ النبي صلى الله عليه و سلم ليلة فزعا مرعوبا يقول : سبحان الله ماذا فتح اللية من الخزائن و ماذا أنزل من الفتن من يوقظ صواحب الحجر يريد أزواجه لكي يصلين رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة ]
[ و عن عبيد بن عمير قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا أصحاب الحجرات سعرت النار و جاءت الفتن كأنها قطع الليل المظلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا ]
قال أبو الحسن القابسي هذا و إن كان مرسلا فإنه من جيد المراسيل و عبيد ابن عمير من أئمة المسلمين
مسلم [ عن سالم بن عبد الله أنه قال : يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة و أركبكم للكبيرة سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الفتنة تجيء من ها هنا و أومأ بيده نحو المشرق من حيث يطلع قرنا الشيطان و أنتم يضرب بعضكم رقاب بعض و إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله تعالى له : { و قتلت نفسا فنجيناك من الغم و فتناك فتونا } ]
[ و عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : العبادة في الهرج كهجرة إلي ]
فصل
قوله : [ ويل للعرب من شر قد اقترب ] قد تقدم معنى الويل و المراد هنا الحزن قاله ابن عرفة فأخبر عليه الصلاة و السلام بما يكون بعده من أمر العرب و ما يستقبلهم من الويل و الحرب و قد وجد ذلك بما استؤثر عليهم به من الملك و الدولة و الأموال و الإمارة فصار ذلك في غيرهم من الترك و العجم و تشتتوا في البراري بعد أن كان العز و الملك و الدنيا لهم ببركته عليه الصلاة و السلام و ما جاءهم به من الدين و الإسلام فلمالم يشكروا النعمة و كفروها بقتل بعضهم بعضا و سلب بعضهم أموال بعض سلبها الله منهم و نقلها إلى غيرهم كما قال تعالى { و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم } ولهذا لما قالت زينب في سياق الحديث : [ أنهلك و فينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث ]
فصل
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : قولها أنهلك و فينا الصالحون ؟ قول : [ نعم إذا كثر الخبث ] دليل على أن البلاء قد يرفع عن غير الصالحين إذا كثر الصالحون
فأما إذا كثر المفسدون و قل الصالحون هلك المفسدون و الصالحون معهم إذا لم يأمروا بالمعروف و يكرهوا ما صنع المفسدون و هو معنى قوله { و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } بل يعم شؤمها من تعاطاها و من رضيها هذا بفساده و هذا برضاه و إقراره على ما نبينه
فإنم قيل فقد قال الله تعالى : { و لا تزر وازرة وزر أخرى } ـ { كل نفس بما كسبت رهينة } ـ { لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت } و هذا يوجب أن لا يؤاخذ أحد بذنب أحد و إنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب
و قريء { و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } و على هذه القراءة يكون المعنى أنها تصيب الظالم خاصة و هي قراءة زيد بن ثابت و علي و أبي و ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين
و الجواب : أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على من رآه أن يغيره إما بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك و إذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطيع سوى ذلك
روى الأئمة [ عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فلبسانه فإن لم يستطع فبقلبه ليس عليه غيره و ذلك أضعف الإيمان ]
روي عن بعض الصحابة أنه قال : إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات : اللهم إن هذا منكر لا أرضاه فإذا قال ذلك فقد أدى ما عليه فأما إذا سكت عليه فكلهم عاص هذا بفعله و هذا برضاه كما ذكرنا و قد جعل الله في حكمه و حكمته الراضي بمنزلة الفاعل فانتظم في العقوبة دليله قوله تعالى { إنكم إذا مثلهم } فأما إذا كره الصالحون ما صنع المفسدون و أخلصوا كراهيتهم لله تعالى و تبرأوا من ذلك حسب ما يلزمهم و يجب لله عليهم غير معتدين سلموا قال الله تعالى { فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم } و قال : { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء و أخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون }
و قال ابن عباس : قد أخبرنا الله عز و جل عن هذين و لم يخبرنا عن الذين قالوا : { لم تعظون قوما الله مهلكهم }
و روى سفيان بن عيينة قال : حدثنا سفيان بن سعيد عن مسعد قال : بلغني أن ملكا أمر أن يخسف بقرية فقال يا رب إن فيها فلانا العابد فأوحى الله تعالى إليه أن به فإبدأ فإنه لم يتغير وجهه في ساعة قط
و قال وهب بن منبه : لما أصاب داود الخطيئة قال : يا رب اغفر لي قال : قد غفرتها لك و ألزمت عارها بني إسرائيل قال : كيف يا رب و أنت الحكم العدل الذي لا تظلم أحدا أعمل أنا الخطيئة و يلزم عارها غيري فأوحى الله تعالى إليه : يا داود إنك لما اجترأت علي بتلك المعصية لم يعجلوا عليك بالنكرة
و روى أبو داود [ عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها و قال مرة : فأنكرها كمن غاب عنها و من غاب عنها فرضيتها كان كمن شهدها ] و هذا نص في الفرض و حسن رجل عند الشعبي قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال الشعبي : قد شركت في دمه
و في صحيح الترمذي : أن الناس إذا رأوا الظالم و لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده فالفتنة إذ عمت هلك الكل و ذلك عند ظهور المعاصي و انتشار المنكر و عدم التغيير و إذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة و الهرب منها و هكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم كما في قصة السبت حين هجروا العاصين و قالوا : لا نساكنكم و بهذا قال السلف رضي الله عنهم
روى ابن وهب عن مالك قال : تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارا و لا يستقر فيها و احتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلى بالرباء فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها خرجه أهل الصحيح
و قال مالك في موضع آخر : إذا ظهر الباطل على الحق كان الفساد في آخر الأرض و قال : إن لزوم الجماعة نجاة و أن قليل الباطل و كثيرة هلكه و قال : ينبغي للناس أن يغضبو لأمر لله تعالى في أن تنتهك فرائضه و حرمه و الذي أتت به كتبه و أنبياؤه أو قال : يخالف كتابه
قال أبو الحسن القابسي : الذي يلزم الحق و يغضب لأمر الله تعالى على بينة من النجاة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله ]
قال أبو عمرو و روى أشهب بن عبد العزيز قال : قال مالك لا ينبغي الإقامة في أرض يكون العمل فيها بغير حق و السب للسلف قال أبو عمر : أما قول مالك هذا فمعناه إذا وجد بلدا يعمل فيه الحق في الأغلب و قد قال عمر بن عبد العزيز : فلان بالمدينة و فلان بمكة و فلان باليمن و فلان بالعراق و فلان بالشام امتلأت الأرض و الله جورا و ظلما قال أبو عمر : فأين الهرب إلى السكوت و لزوم البيوت و الرضي بأقل قوت و قال منصور بن الفقيه فأحسن :
( الخير أجمع في السكوت ... و في ملازمة البيوت )
( فإذا استوى لك ذا و ذا ... فاقنع له بأقل قوت )
و كان سفيان الثوري يقول : هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين فكيف بالمشهورين هذا زمان ينتقل فيه الرجل من قرية إلى قرية يفر بدينه من الفتن
و يحكى عنه أنه قال : و الله ما أدري أي البلاد أسكن فقيل له خراسان ؟ فقال : مذاهب مختلفة و آراء فاسدة فقيل الشام ؟ فقال : يشار إليكم بالأصابع أراد الشهرة فقيل له : العراق ؟ قال بلد الجبابرة فقيل له : فمكة ؟ قال : مكة تذيب الكيس و البدن
و قال القاضي أبو بكر العربي قال شيخي في العبادة : لا يذهب بك الزمان في مصافاة الأقران و مواصلة الأحزان و لم أر للخلاص طريقا أقرب من طريقين : إما أن يغلق المرء على نفسه بابه و إما أن يخرج إلى مواضع لا يعرف فيه فإن اضطر إلى مخالطة فليمن معه ببدنه و ليفارقهم بقلبه و لسانه فإن لم يستطع فبقلبه و لا يفارق السكوت أنشدني محمد بن عبد الملك الصوفي قال : أنشدني أبو الفضل الجوهري : [ الخير أجمع في السكوت ] البيتان :
قال القاضي : و لي في هذا المعنى شعر :
( حاز السلام مسلم ... يأوي إلى سكن وقوت )
( ماذا يؤمل بعد ما ... يأوي إلى بيت وقيت )
قال المؤلف رحمه الله : و لأبي سليمان الخطابي في هذا المعنى شعر :
( أنست بوحدتي و لزمت بيتي ... فدام الأنس لي و نما السرور )
( و أدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار و لا أزور )
( و لست بسائل ما دمت حيا ... أسار الخيل أم ركب الأمير )
و الشعر في هذا المعنى كثير و سيأتي للعزلة له زيادات بيان من السنة إن شاء الله تعالى و كثرة الخبث ظهور الزنا و أولاد الزنا
و ذكر ابن وهب عن يحيى مولى الزبير أن في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم خسف قبل المشرق فقال بعض الناس يا رسول الله : يخسف الأرض و فيها المسلمون ؟ فقال : [ إذا كان أكثر أهلها الخبث ]
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فيكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر و الإعلان بالمعاصي فيكون طهرة للمؤمنين و نقمة للفاسدين لقوله عليه الصلاة و السلام : [ ثم بعثوا على نياتهم ] و في رواية [ على أعمالهم ] و قد تقدم هذا في المعنى :
فمن كانت نيته صالحة أثيب عليها و من كانت نيته سيئة جوزي عليها و في التنزيل { يوم تبلى السرائر } فاعلمه
باب ما جاء في رحى الإسلام و متى تدور
أبو داود [ عن البراء بن ناجية عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست و ثلاثين أو سبع و ثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك و إن لم يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما قال : قلت : أمما بقي ؟ قال : مما مضى ]
فصل
قال الهروي في تفسيرهذا الحديث : قال الحربي : و يروى تزول و كأن تزول أقرب لأنها تزول عن ثبوتها واستقرارها وتدور يكون بمايحبون و يكرهون فإن كان الصحيح سنة خمس فإن فيها قام أهل مصر و حصروا عثمان رضي الله عنه و إن كانت الرواية سنة ست ففيها خرج طلحة و الزبير إلى الجمل و إن كانت سنة سبع ففيها كانت صفين غفر الله لهم أجمعين
و قال الخطابي : يريد عليه الصلاة و السلام أن هذه المدة إذا انقضت حدث في الإسلام أمر عظيم يخاف على أهله لذلك الهلاك يقال : الأمر إذا تغير و استحال دارت رحاه و هذا و الله أعلم إشارة إلى انقضاء مدة الخلافة و قوله ليقم لهم دينهم أي ملكهم و سلطانهم و ذلك من لدن بايع الحسن عليه السلام معاوية إلى إنقضاء بني أمية من المشرق نحو من سبعين سنة و انتقاله إلى بني العباس و الدين الملة و السلطان ومن قوله تعالى { ليأخذ أخاه في دين الملك } أي في سلطانه و قوله : [ تدور رحى الإسلام ] دوران الرحى كناية عن الحرب و القتال شبهها بالرحى الدائرة التي تطحن لما يكون فيها من قبض الأرواح و هلاك الأنفس
باب ما جاء أن عثمان رضي الله عنه لما قتل سل سيف الفتنة
الترمذي عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال : لما أريد عثمان رضي الله عنه جاء عبد الله بن سلام فقال له عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما جاء بك ؟ قال : جئت في نصرتك قال : اخرج إلى الناس فاطردهم عني فإنك خارجا خير لي من داخل قال : فخرج عبد الله بن سلام إلى الناس فقال : أيها الناس إنه كان في الجاهلية اسمي فلان بن فلان فسماني رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله و نزلت في آيات من كتاب الله تعالى نزلت { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } و نزلت في { قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب } إن الله سيفا مغمودا عنكم و إن الملائكة قد جاورتكم في بلدكم هذا الذي نزل فيه نبيكم فالله الله في هذا الرجل أن تقتلوه فوالله إن قتلتموه لتطردن جيرانكم الملائكة و لتسلن سيف الله المغمود عنكم فلا يغمد إلى يوم القيامة قال : فقالوا اقتلوا اليهودي و اقتلوا عثمان قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب
قلت : و مثل هذا من عبد الله لا يكون إلا عن علم من الكتاب أعني التوراة على ما يأتي أو سمعه من النبي صلى الله عليه و سلم و سيأتي قول حذيفة لعمران : إن بينك و بينها بابا مغلقا يوشك أن يكشر
فصل
قال العلماء بالسير و الأخبار : إنه دخل على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في الدار جماعة من الفجار منهم : كنانة بن بشر التجيبي فأشعره مشقصا أي قتله به فافتضح الدم على المصحف و وقع على قوله تعالى { فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم } و قيل ذبحه رجل من أهل مصر يقال له عمار و قيل ذبحه رومان و قيل قتله الموت الأسود يقال له أيضا الدم الأسود من طغاة مصر فقطع يده فقال عثمان : أما و الله إنها لأول كف خطت في المصحف و هذه البلوى التي ثبتت في الصحيح [ عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل حائطا و أمرني بحفظ باب الحائط فجاء رجل يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة فإذا أبو بكر ثم جاء آخر يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة فإذا عمر ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال ائذن له و بشره بالجنة على بلوى تصيبه فإذا عثمان بن عفان ] لفظ البخاري ذكره في مناقب عثمان
و قد قيل : إن الصحيح في مقتله رضي الله عنه أنه لم يتعين له قاتل معين بل أخلاط الناس و هم رعاع جاءوا من مصر و من غير قطر و جاء الناس إلى عثمان فيهم عبد الله بن عمر متقلدا سيفه و زيد بن ثابت فقال له زيد بن ثابت : إن الأنصار بالباب يقولون إنشئت كنا أنصار الله مرتين قال : لا حاجة لي في ذلك كفوا و كان معه في الدار الحسن و الحسين و ابن عمر و عبد الله بن الزبير و أبو هريرة و عبد الله بن عامر بن ربيعة و مروان بن الحكم كلهم يحملون السلاح فعزم عليهم في وضع أسلحتهم و خروجهم و لزوم بيتهم فقال له الزبير و مروان : نحن نعزم على أنفسنا أن لا نبرح فضاق عثمان رضي الله عنه من الحصار و منع من الماء حتى أفطر على ماء البحر الملح قال الزبير بن بكار : حاصروه شهرين و عشرين يوما و قال الواقدي حاصروه تسعة و أربعين يوما ففتح الباب فخرج الناس و سلموا له راية في إسلام نفسه قال سليط بن أبي سليط : فنهانا الإمام عثمان عن قتالهم و لو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها و دخلوا عليه في أصح الأقوال و قتله من شاء الله من سفلة الرجال
و روى أبو عمر بن عبد البر [ عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ادعوا لي بعض أصحابي فقلت أبو بكر ؟ قال : لا فقلت : عمر ؟ فقال : لا فقلت : ابن عمك ؟ قال : لا فقلت عثمان قال : نعم فلما جاءه قال لي بيده فتنحيت فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يساره و لون عثمان يتغير فما كان يوم الدار و حصر عثمان قيل له ألا نقاتل عنك قال : لا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم عهد إلي عهدا و أنا صابر عليه ]
و في الترمذي [ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : يا عثمان لعل الله يقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم ] قال : هذا حديث حسن غريب
و فيه [ عن ابن عمر قال : ذكر النبي صلى الله عليه و سلم فتنة فقال : يقتل فيها هذا مظلوما لعثمان ] و قال حديث حسن غريب و يروى أنه دخل عليه عبد الله بن عمر بن الخطاب قال انظر ما يقول هؤلاء يقولون اخلع نفسك أو نقتلك قال له : أمخلد أنت في الدنيا ؟ قال : لا فهل يزيدون على أن يقتلوك ؟ قال : لا قال : هل يملكون لك جنة أو نارا قال : لا قال : فلا تخلع قميص الله عليك فيكون سنة كلما كره قوم خليفة خلعوه و قتلوه
و اختلف في سنه رضي الله عنه حين قتله من قتله من الفجار ـ أدخلهم الله بحبوحة النار ـ فقيل : قتل و هو ابن ثمان و ثمانين و قيل ابن تسعين سنة و قال قتادة : قتل عثمان و هو ابن ست و ثمانين و قيل غير هذا و قتل مظلوما كما شهد له بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم و جماعة أهل السنة و ألقي على مزبلة فأقام فيها ثلاثة أيام لم يقدر أحد على دفنه حتى جاء جماعة بالليل خفية فحملوه على لوح وصلوا عليه و دفن في موضع من البقيع يسمى حوش كوكب و كان مما حبسه عثمان رضي الله عنه و زاده في البقيع و كان إذا مر به يقول يدفن فيك رجل صالح و كان هو المدفون فيه و عمي قبره لئلا يعرف و قتل يوم الجمعة لثماني ليال خلون من ذي الحجة يوم التروية سنة خمس و ثلاثين قاله الواقدي و قيل ليلتين بقيتا من ذي الحجة و كانت خلافته إحدى عشر سنة إلا أياما اختلف فيها رضي الله عنه و قيل إن المتعصبين على عثمان رضي الله عنه من المصريين و من تابعهم من البلدان كانوا أربعة آلاف و بالمدينة يومئذ أربعون ألفا
و قد اختلف العلماء فيمن نزل به مثل نازلة عثمان ألحقه الله جناح المغفرة و الرضوان هل يلقى بيده أو يستنصر فأجاز جماعة من الصحابة و التابعين و فقهاء المسلمين أن يستسلم و هو أحد قولي الشافعي و قال بعض العلماء : لا يسلم بيده بل يستنصر و يقاتل و لكل من القولين وجه و دليل و سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى و قال بعض العلماء : و لو اجتمع أهل المشرق و المغرب على نصرة عثمان لم يقدروا على نصرته لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنذره في حياته فأعلمه بالبلوى التي تصيبه فكان ذلك من المعجزات التي أخبر بوقوعها بعد موته صلى الله عليه و سلم و ما قال رسول الله شيئا قط إلا كان
و قال حسان بن ثابت :
( قتلتم ولي الله في جوف داره ... و جئتم بأمر جائر غير مهتد )
( فلا ظفرت إيمان قوم تعاونوا ... على قتل عثمان الرشيد المسدد )
و خرج مسلم في صحيحه قال : و حدثنا محمد بن المثنى و محمد بن حاتم قالا : حدثنا معاذ بن جبل قال : حدثنا ابن عوف عن محمد قال : قال جندب جئت يوم الجرعة فإذا رجل جالس فقلت له ليهراقن اليوم ههنا دم فقال ذلك الرجل : كلا و الله قلت : بلى و الله قال : كلا و الله قلت : بلى و الله قال ثلاثا كلا إنه لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثنيه قلت : بئس الجليس لي أنت منذ اليوم تسمعني أخالفك و قد سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تنهني ثم قلت : ما هذا الغضب فأقبلت عليه أسائله فإذا الرجل حذيفة
و الجرعة : موضع بجهة الكوفة على طريق الحيرة قيده الحفاظ بفتح الجيم والراء و قيده بعض رواة الحفاظ بإسكان الراء و هو يوم خرج فيه أهل الكوفة متألبين متعصبين ليردوا إلى عثمان بن عفان و هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس و كتبوا إلى عثمان لا حاجة لنا في سعيدك و لا وليدك و كان رده سنة أربع و ثلاثين و كتبوا إلى عثمان ان يولي عليهم أبا موسى الأشعري فلم يزل واليا عليهم إلى أن قتل عثمان و لما سمع بقتله يعلى بن أمية التميمي الحنظلي أبو صفوان أبي هريرة يقال له خالد أسلم يوم الفتح و شهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حنينا و الطائف و تبوك و كان صاحب الجند و صنعاء أقبل لينصره فسقط عن بعيره في الطريق فانكسرت فخذه فقدم مكة بعد انقضاء الحج فخرج إلى المسجد و هو كسير على سرير و استشرف إليه الناس و اجنمعوا فقال : من خرج يطلب بدم عثمان فعلي جهازه فأعان الزبير بأربعمائة ألف و حمل سبعين رجلا من قريش و حمل رضي الله عنها على جمل أذب و يقال أذب لكثرة و بره اشتراه ابن أمية الحنظلي بمائتي دينار قاله ابن عبد البر في الاستيعاب و قال ابن شبة في كتاب الجمل له : اشتراه بثمانين دينارا و الأول أصح و اسمه عسكر
و ذكر ابن سعد قال : أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني اسماعيل بن إبراهيم عن أبيه قال : كان عبد الله بن أبي ربيعة عاملا لعثمان على صنعاء فلما بلغه خبر عثمان أقبل سريعا لينصره فلقيه صفوان بن أمية و صفوان على فرس و عبد الله بن أبي ربيعة على بغلة فدنا منها الفرس فحادت فطرحت ابن أبي ربيعة فكسرت فخذه فقدم مكة بعد الضرر و عائشة بمكة يومئذ تدعو إلى الخروج تطلب دم عثمان فأمر بسرير فوضع له سرير في المسجد ثم حمل فوضع على سريره فقال : أيها الناس من خرج في طلب دم عثمان فعلي جهازه قال : فجهز ناسا كثيرا و حملهم و لم يستطع إلى الجمل لما كان برجله
أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني محمد بن عبد الله ابن عبيد عن أبي مليكة عن عبد الله بن أبي السائب قال : رأيت عبد الله بن أبي ربيعة على سرير في المسجد الحرام يحض الناس على الخروج في طلب دم عثمان و يحمل ما جاء انتهى كلام ابن سعد في الطبقات و لا تعارض و الحمد لله فإنه يحتمل أن يكون خرجا جميعا في نصرة عثمان فكسروا أو اجتمعا بمكة و جعلا يجهزان من يخرج و الله أعلم
و كانت عائشة رضي الله عنها حاجة في السنة التي قتل فيها عثمان و كانت مهاجرة له فاجتمع طلحة و الزبير و يعلى و قالوا لها بمكة : عسى أن تخرجي رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم و يراعوا نبيهم و هي تمتنع عليهم فاحتجوا عليها بقوله تعالى { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } و قالوا لها : إن المتألبين على عثمان بالبصرة كثير فبلغت الأقضية مقاديرها فاصطف الناي للقتال و رموا عليا و أصحابه بالنبال فقال علي : لا ترموا بسهم و لا تضربوا بسيف و لا تطعنوا برمح فرمى رجل من عسكر القوم بسهم فقتل رجلا من أصحاب علي فأتى به إلى علي فقال : اللهم أشهد ثم رمي آخر فقتل رجلا من أصحاب علي فقال علي : اللهم أشهد ثم رمي آخر فقال علي اللهم اشهد و قد كان علي نادى الزبير يا أبا عبد الله : ادن إلي اذكرك كلاما سمعته أنا و أنت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : علي الأمان فقال : على الأمان فبرز فأذكره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له و قد و جدهما يضحكان بعضهما إلى بعض [ أما أنك ستقاتل عليا و أنت له ظالم ] فقال الزبير : اللهم إني ما ذكرت هذا إلا في هذه الساعة و ثنى عنان فرسه لينصرف فقال له ابنه عبد الله : إلى أين ؟ قال : أذكرني علي كلاما قاله له رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كلا و لكنك رأيت سيوف بني هاشم حدادا و يحملها حدادا و يحملها رجال شداد قال : و يلك و مثلي يعير بالجبن هلم الرمح فأخذ الرمح و حمل في أصحاب علي فقال علي : افرجو للشيخ فإنه محرج فشق الميمنة و الميسرة و القلب ثم رجع و قال لابنه : لا أم لك أبفعل هذا جبان و انصرف و قامت الحرب على ساق و بلغت النفوس إلى التراق فأفرجت عن ثلاثة و ثلاثين ألف قتيل و قيل عن سبعة عشر ألفا و فيه اختلاف فيهم من الأزد أربعة آلاف و من ضبة ألف و مائة و باقيهم من سائر الناس كلهم من أصحاب عائشة و قتل فيها من أصحاب علي نحو من ألف رجل و قيل أقل و قطع على خطام الجمل سبعون يدا من بني ضبة كلما قطعت يد رجل أخذ الزمام آخر و هم ينشدون :
( نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ... ننازل الموت إذا الموت نزل )
( والموت أشهى عندنا من العسل )
و كان الجمل للراية إلى أن عقر الجمل و كانوا قد ألبسوه الأدراع و قال جملة من أهل العلم : إن الوقعة بالبصرة بينهم كانت على غير عزيمة منهم على الحرب بل فجأة و على سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به لأن الأمر كان انتظم بينهم على الصلح و التفريق على الرضا فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم والإحاطة بهم فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين و يبدوا في الحرب شجرة في العسكرين و تختلف السهام بينهم و يصيح الفريق الذي في عسكر علي غدر طلحة و الزبير و الذي في عسكر طلحة و الزبير غدر علي فتم لهم ما أرادوا و دبروه و نشبت الحرب فكان كل فريق دافعا لمكرته عند نفسه و مانعا من الإشاطة بدمه و هذا صواب من الفريقين و طاعة الله إذ وقع القتال و الامتناع منهما على هذا السبيل و هذا هو الصحيح المشهور و كان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى قريب العصر لعشر ليال خلون من جمادي الآخرة سنة ست و ثلاثين
و في صحيح مسلم من كتاب الفتن [ عن ابن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من بيت عائشة فقال : رأس الكفر من ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان ] يعني المشرق و قيل : هذا بنصف ورقة بأسانيد منها عن عبد الله بن عمر القواريري و محمد بن المثنى باضطراب في بيت حفصة ثم قال و قال عبد الله بن سعيد في روايته قام رسول الله صلى الله عليه و سلم عند باب عائشة فقال بيده نحو المشرق [ الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرنا الشيطان ] قالها مرتين أو ثلاثا
و ذكر الإمام أحمد بن حنبل في مسنده في الخامس عشر من مسند عائشة رضي الله عنها قال : حدثني محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة عن إسماعيل بن ابي خالد عن قيس بن أبي حازم أن عائشة رضي الله عنها لما أتت الحوبة سمعت نباح الكلاب فقالت : ما أظنني ألا راجعة إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنا : [ أيتكن تنبح كلاب الحوأب ] فقال لها الزبير : ترجعين عسى الله أن يصلح لك بين الناس
و روى أبو بكر بن أبي شيبة قال : [ حدثنا وكيع بن الجراح عن عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أيتكن صاحبة الجمل الأذيب يقتل حولها قتلى كثيرة و تنجو بعد ماكادت ] و هذا حديث ثابت صحيح رواه الإمام المجمع على عدالته و قبول روايته الإمام أبو بكر عبد الله بن أبي شيبة و كذلك وكيع مجمع على عدالته و حفظه و فقهه عن عصام و هو ثقة عدل فيما ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب له عن عكرمة و هو عند أكثر العلماء ثقة عالم و هذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم و هو إخباره بالشيء قبل كونه
و قوله [ الأذيب ] أراد الأذب فأظهر التضعيف و العجب من القاضي أبي بكر بن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتبه منها في كتاب العواصم من القواصم و ذكر أنه لا يوجد أصلا و أظهر لعلماء المحدثين بإنكاره غباوة و جهلا و شهرة هذا الحديث أوضح من فلق الصبح و أجلى و قد رواه أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب فقال حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة فذكره بسنده المتقدم
و روى أبو جعفر الطبري قال : لما خرجت عائشة رضي الله عنها من البصرة طالبة المدينة بعد انقضاء الحرب جهزها علي رضي الله عنه جهازا حسنا و أخرج معها من أراد الخروج و اختار عليها أربعين امرأة معروفات من نساء البصرة و جهز معها أخاها محمدا و كان خروجها من البصرة يوم السبت غرة رجب سنة ست و ثلاثين و شيعها علي رضي الله عنه على أميال و سرح معها بنيه يوما
فصل :
فإن قيل : فلم ترك علي القصاص من قتلة عثمان ؟ فالجواب إنه لم يكن ولي دم و إنما كان أولياء الدم أولاد عثمان و هم جماعة : عمرو و كان أسن و لد عثمان و أبان و كان محدثا فقيها و شهد الجمل مع عائشة و الوليد بن عثمان و كان عنده مصحف عثمان الذي كان في حجره حين قتل و منهم الوليد بن عثمان ذكر ابن قتيبة في المعارف أنه كان صاحب شارب و فتوة و منهم سعيد بن عثمان و كان واليا لمعاوية على خرسان فهؤلاء بنو عثمان الحاضرون في ذلك الوقت و هم أولياء الدم غيرهم و لم يتحاكم إلى علي أحد منهم و لا نقل ذلك عنهم فلو تحاكموا إليه لحكم بينهم إذكان أقضى الصحابة للحديث المروي فيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
و جواب ثان : أنه لم يكن في الدار عدلان يشهدان على قاتل عثمان بعينه فلم يكن له أن يقتل بمجرد دعوى في قاتل بعينه و لا إلى الحاكم في سبيل ذلك مع سكوت أولياء الدم عن طلب حقهم ففي تركهم له أوضح دليل و كذلك فعل معاوية حين تمت له الخلافة و ملك مصر و غيرها بعد أن قتل علي رضي الله عنه لم يحكم على واحد من المتهمين بقتل عثمان بإقامة قصاص و أكثر المتهمين من أهل مصر و الكوفة و البصرة و كلهم تحت حكمه و أمره و نهيه و غلبته و قهره و كان يدعي المطالبة بذلك قبل ملكه و يقول : لا نبايع من يؤوي قتلة عثمان و لا يقتص منهم و الذي كان يجب عليه شرعا أن يدخل في طاعة علي رضي الله عنه حين انعقدت خلافته في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و مهبط و حية و مقر النبوة و موضع الخلافة بجميع من كان فيها من المهاجرين و الأنصار يطوع منهم وارتضاء و اختيار و هم أمم لا يحصون و أهل عقد و حل و البيعة تنعقد بطائفة من أهل الحل و العقد فلما بويع له رضي الله عنه طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قتلة عثمان و أخذ القود منهم فقال لهم علي عليه السلام : ادخلوا في البيعة و اطلبوا الحق تصلوا إليه فقالوا لا تستحق بيعة و قتلة عثمان معك نراهم صباحا و مساء و كان علي في ذلك أسد رأيا و اصوب قيلا لأن عليا لو تعاطى القود معهم لتعصب لهم قبائل و صارت حربا ثالثة فانتظر بهم إلى أن يستوثق الأمر و تنعقد عليه البيعة و يقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم فيجري القضاء بالحق
قال ابن العربي أبو بكر و لا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى إلى إثارة فتنة أو تشتيت الكلمة و كذلك جرى لطلحة و الزبير فإنهما ماخلعا عليا من ولاية و لا اعتراضا عليه في ديانة و إنما رأوا أن البداية بقتل أصحاب عثمان أولى
و ذكر ابن وهب قال : حدثني حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب أنه سمعه يحدث محمد بن أبي زياد الثقفي قال : اصطحب قيس بن خرشة و كعب الكناني حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة فقال : لا إله إلا الله ليهراقن في هذه البقعة من دماء المسلمين ما لم يهرق ببقعة من الأرض فغضب قيس ثم قال : و ما يدريك يا أبا إسحاق ما هذا فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله تعالى به فقال كعب : ما من سبر من الأرض إلا هو مكتوب في التواراة التي أنزل الله على موسى بن عمران ما يكون عليه إلى يوم القيامة
أخبرنا شيخنا القاضي لسان المتكلمين أبو عامر بن الشيخ الفقيه الإمام أبي الحسين بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري إجازة عن شيخه المحدث الثقة المؤرخ أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال قال : حدثنا جماعة من شيوخنا رحمهم الله منهم الفقيه المفتي أبو محمد بن عنان قال : أنبأنا الإمام أبو عمر بن عبد البر فيما أجازه لنا بخطه قال : حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الله بن عبد البر قال : حدثنا أحمد بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال : حدثني خالد أبو الربيع و أحمد بن صالح و أحمد بن عمر و ابن السرح و يحيى بن سليمان قال : حدثني ابن وهب فذكره و أحمد بن محمد بن الحجاج هو ابن رشيد بن سعد أبو جعفر مصري قال أبو أحمد بن عدي : كذبوه و أنكرت عليه أشياء و محمد بن يزيد بن أبي زياد مجهول قاله الدار قطني و باقي السند ثقات معرفون
و أما و قعة صفين فإن معاوية لما بلغه مسير أمير المؤمنين علي كرم الله و جهه إليه من العراق خرج من دمشق حتى ورد صفين في النصف من المحرم فسبق إلى سهولة المنزل و سعة المناخ و قريب الماء من الفرات و بنى قصرا لبيت ماله و صفين صحراء ذات كدى و أكمأت و كان أهل الشام قد سبقوا إلى المشرعة من سائر الجهات و لم يكن ثم مشرعة سواها للواردين و الواردات فمنعت عليا رضي الله عنه إياها و حمتها تلك الكماة فذكرهم بالمواعظ الحسنة و الآيات و حذرهم بقول النبي صلى الله عليه و سلم فيمن منع فضل الماء بالفلاة فردوا قوله و أجابوا بألسنة الطغاة إلى أن قاتلهم بالقواضب و السمهريات فلما غلبهم عليها رضي الله عنه أباحها للشاربين و الشاربات ثم بنى مسجدا على تل بأعلى الفرات ليقيم فيه مدة مقامه فرائض الصلوات لفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع و عشرين من الدرحات على ما ثبت في الصحيح من رواية ابن عمر و غيره من الصحابة العدول الثقاة و حضرها مع علي جماعة من البدريين و من بايع تحت الشجرة من الصحابة المرضيين و كان مع علي رايات كانت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتل المشركين و كان مقام علي رضي الله عنه و معاوية بصفين سبعة أشهر و قيل تسعة و قيل ثلاثة أشهر و كان بينهم قبل القتال نحو من سبعين زحفا و قتل في ثلاثة أيام من أيام البيض و هي ثلاث عشرة و أربعة عشرة و خمسة عشرة ثلاثة و سبعون ألفا من الفريقين
و ذكره الثقة العدل أبو إسحاق و إبراهيم بن الحسين الكساي الهمداني المعروف بابن ديزيل و هو الملقب بسفينة و سفينة طائر إذا وقع على الشجرة لم يقم عنها و يترك فيها شيئا وهو في تلك الليالي هي ليله الهرير جعل يهر بعضهم على بعض و الهرير : الصوت يشبه النباح لأنهم تراموا بالنبل حتى فنيت و تطاعنوا الرماح حتى اندقت و تضاربوا بالسيوف حتى انقضت ثم نزل القوم يمشي بعضهم إلى بعض قد كسروا جفون سيوفهم و اضطربوا بما بقي من السيوف و عمد الحديد فلا تسمع إلا غمغمة القوم و الحديد في الهام و لما صارت السيوف كالمناجل بالحجارة ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب ثم تكادموا بالأفواه و كسفت الشمس و ثار القتام و ارتفع الغبار و ضلت الألوية و الرايات و مرت أوقات أربع صلوات لأن القتال كان بعد صلاة الصبح و اقتتلوا إلى نصف الليل و ذلك في شهر ربيع الأول سنة تسع و ثلاثين قال الإمام أحمد بن حنبل في تاريخه و قال غيره في شهر ربيع الأول
و كان أهل الشام يوم صفين خمسة و ثلاثين و مائة و ألفا و كان أهل العراق عشرين أو ثلاثين و مائة و ألفا ذكره الزبير بن بكار أبو عبد الله القاضي العدل قال : حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي عن زكريا بن عيسى عن ابن شهاب عن محمد بن عمرو بن العاص و كان من شهد صفين و أبلى فيه و فيه يقول :
( فلو شهدت جمل مقامي و مشهدي ... بصفين يوما شاب منها الذوائب )
( غداة أتى أهل العراق كأنهم ... من البحر لج موجه متراكب )
( و جئناهم نمشي كأن صفوفنا ... سحائب غيث رفعتها الجنائب )
و يروى : شهاب حريق رفعته الجنائب
( و قالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا ... عليا فقلنا بل نرى أن نضارب )
( و طارت إلينا بالرماح كماتهم ... و طرنا إليهم بالأكف قواضب )
( إذا نحن قنا استهزموا عرضت لنا ... كتائب منهم واشمأزت كتائب )
( فلا هم يولون الظهور فيدبروا ... فرارا كفعل الخادرات الدرائب )
قال ابن شهاب : فأنشدت عائشة رضي الله عنها أبياته هذه فقالت ما سمعت بشاعر أصدق شعرا منه
قال الحافظ ابن دحية : قوله : بل نرى أن نضارب أن هنا مخففة من الثقيلة محذوفة الاسم تقديره أننا نضارب و قوله [ كفعل الخادرات الدرائب ] الخادرات : الأسود يقال أسود خادر كأن الأجمة له خدر فمعناه أنهم لا يدبرون كالأسود التي لا تدبر عن فرائسها لأنها قد ضربت بها و دربت عليها و الدربة الضراوة يقال : درب يدرب و رفع الدرائب لأنها بدل من الضمير في يدبروا
قال : و الإجماع منعقد على أن طائفة الإمام طائفة عدل والأخرى طائفة بغي و معلوم أن عليا رضي الله عنه كان الإمام
و روى مسلم في صحيحه قال : [ حدثنا محمد بن المثنى و ابن بشار و اللفظ لابن مثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر : حدثنا شعبة عن أبي سلمة قال : سمعت أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدري قال : أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق جعل يمسح راسه و يقول : بوس بن سمية تقتلك فئة باغية ]
و خرجه أيضا من حديث إسحاق بن إبراهيم و إسحاق بن منصور و محمد بن غيلان و محمد بن قدامة قالوا : أخبرنا النضر بن شميل عن شعبة عن أبي سلمة بهذا الإسناد نحوه غير أن في حديث النضر قال أخبرني من هو خير مني أبو قتادة و له طرق غير هذا في صحيح مسلم
و قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب له في ترجمة عمار و تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يقتل عمار الفئة الباغية ] و هو من أصح الأحاديث
و قال فقهاء الإسلام فيما حكاه الإمام عبد القاهر في كتاب الإمامة من تأليفه و أجمع فقهاء الحجاز و العراق من فريقي الحديث و الرأي منهم مالك و الشافعي و أبو حنيفة و الأوزاعي و الجمهور الأعظم من المتكلمين إلى أن عليا مصيب في قتاله لأهل صفين كما فالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل و قالوا أيضا بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم
و قال الإمام أبو منصور التيمي البغدادي في كتابه الفرق من تأليفه في شان القصة عقيدة أهل السنة و أجمعوا أن عليا كان مصيبا في قتاله لأهل صفين كما قالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل و قالوا أيضا : بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له و لكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم
و قال الإمام أبو منصور التيمي البغدادي في كتاب الفرق في بيان عقيدة أهل السنة : و أجمعوا أن عليا كان كصيبا في قتال أهل الجمل : أعني طلحة و الزبير و عائشة بالبصرة و أهل صفين : أعني معاوية و عسكره
و قال الإمام أبو المعالي في كتاب الإرشاد فصل : علي رضي الله عنه كان إماما حقا في توليته و مقاتلوه بغاة و حسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير و إن أخطأوه فهو آخر فصل ختم به كتابه و حسبك يقول سيد المرسلين و إمام المتقين لعمار رضي الله عنه [ تقتلك الفئة الباغية ] و هو من أثبت الأحاديث كما تقدم و لما لم يقدر معاوية على إنكاره لثبوته عنده قال : إنما قتله من أخرجه و لو كان حديثا فيه شك لرده معاوية و امكره و أكذب ناقله و زوره
و قد أجاب علي رضي الله عنه عن قول معاوية بان قال : فرسول الله صلى الله عليه و سلم اذن قتل حمزة حين أخرجه و هذا من علي رضي الله عنه إلزام لا جواب عنه و حجة لا اعتراض عليها قاله الإمام الحافظ أبو الخطاب بن دحية
باب ـ لايأتي زمان إلا و الذي بعده شر منه و في ظهور الفتن
البخاري عن الزبير بن عدي قال : أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال : [ اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا و الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم ] سمعته من نبيكم صلى الله عليه و سلم و خرجه الترمذي و قال : حديث حسن صحيح
[ و عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يتقارب الزمان و ينقص العلم و يلقى الشح و تظهر الفتن و يكثر الهرج قالوا يا رسول الله : أيم هو ؟ قال : القتل القتل ] أخرجه البخاري و مسلم
فصل
قوله : [ يتقارب الزمان ] قيل معناه قصر الأعمار و قلة البركة فيها و قيل هو دنو زمان الساعة و قيل هو قصر مدة الأيام على ما روي [ أن الزمان يتقارب حتى تكون السنة كالشهر و الشهر كالجمعة و الجمعة كاليوم و اليوم كالساعة و الساعة كاحتراق الشمعة ] أخرجه الترمذي و قال هذا حديث حسن غريب و قيل في تأويله غير هذا
وق حماد بن سلمة : سألت أبا سنان عن قوله يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر و قال : ذلك من استلذاذ العيش قال الخطابي : يريد و الله أعلم زمان خروج المهدي و وقوع الأمنة في الأرض فيما يبسطه من العدل فيها على ما يأتي و يستلذ عند ذلك و تستقصر مدته و لا يزال الناس يستقصرون مدة ايام الرخاء و إن طالت و امتدت و يستطيلون أيام المكروه و إن قصرت و قلت و العرب تقول في مثل هذا : مر ينا يوم كعرقوب القطا قصرا و يلقى الشح بمعنى يتلقى و يتعلم و يتواصى عليه و يدعى إليه و منه قوله تعالى { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } أي تقبلها و تعلمها و يجوز يلقى بتخفيف اللام و القاف على معنى يترك لإفاضة المال و كثرته حتى يهم رب المال من يقبل صدقته فلا يجد من يقبلها على ما يأتي و لا يجوز أن يكون يلقى بمعنى يوجد لأن الشح مازال موجودا قبل تقارب الزمان
باب ما جاء في الفرار من الفتن و كسر السلاح و حكم المكره عليها
مالك [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع شغف الجبال و مواقع القطر يفر بدينه من الفتن ]
مسلم [ عن أبي بكرة قال : قال رسول الله : إنها ستكون فتن ألا ثم تكون فتن القاعد فيها خير من الماشي و الماشي فيها خير من الساعي إليها ألا فإذا نزلت و وقعت فمن كانت له إبل فليحلق بإبله و من كان له غنم فليحلق بأرضه قال فقال له رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل و لا غنم و لا أرض قال : يعمد إلى سيفة فيدق عليه بحجر ثم لينج إن استطاع النجاة اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت قال فقال رجل يا رسول الله : أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فيضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني قال يبوء بإثمه و إثمك و يكون من أصحاب النار ]
[ و عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم و القائم فيها خير من الماشي و الماشي خير من الساعي من يشرف لها تستشرفه و من و جد فيها ملجأ فليعذ به ] قال : حديث حسن صحيح
باب منه و الأمر بلزوم البيوت عند الفتن
ابن ماجه [ عن أبي بردة قال : دخلت على محمد بن مسلمة فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إنها ستكون فتنة و خلاف و فرقة و اختلاف فإذا كان ذلك فائت بسيفك أحدا فاضرب به حتى ينقطع ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية ] قد وقعت و فعلت ما قال النبي صلى الله عليه و سلم
أبو داود [ عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا القاعد فيها خير من القائم و القائم فيها خير من الساعي قالوا فما تأمرنا ؟ قال و كونوا أحلاس بيوتكم ]
فصل
قال علماؤنا رحمه الله عليهم : كان محمد بن مسلمة رضي الله عنه ممن اجتنب ما وقع بين الصحابة من الخلاف و القتال و أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره إذا كان ذلك أن يتخذ سيفا من خشب ففعل و أقام بالربذة و ممن اعتزل الفتنة أبو بكرة و عبد الله بن عمر ! و أسامة ابن زيد و أبو ذر و حذيفة و عمران بن حصين و أبو موسى و أهبان و سعد بن أبي وقاص و غيرهم و من التابعين شريح و النخعي و غيرهما رضي الله عنهم
قلت : هذا و كانت تلك الفتنة و القتال بينهم على الاجتهاد منهم فكان المصيب منهم له أجران و المخطئ له أجر و لم يكن قتال على الدنيا فكيف اليوم الذي تسفك فيه الدماء باتباع الهوى طلبا للملك والاستكثار من الدنيا فواجب على الإنسان أن يكف اليد و اللسان عند ظهور الفتن و نزول البلايا و المحن نسأل الله السلامة و الفوز بدار الكرامة بحق نبيه و آله و أتباعه و صحبه و قوله : [ كونوا أحلاس بيوتكم ] حض على ملازمة البيوت و القعود فيها حتى يسلم من الناس و يسلموا منه و من مراسيل الحسن و غيره عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ نعم صوامع المؤمنين بيوتهم ] و قد تكون العزلة في غير البيوت كالبادية و الكهوف قال الله تعالى { إذ أوى الفتية إلى الكهف }
و دخل سلمة بن الأكوع على الحجاج و كان قد خرج إلى الربذة حين قتل عثمان و تزوج امرأة هناك و ولدت له أولادا فلم يزل بها حتى كان قبل أن يموت بليال فدخل المدينة له الحجاج : ارتددت على عقيبك ؟ قال : لا و لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم أذن لنا في البدو
و خرجه مسلم و غيره و قد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم [ يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع به شغف الجبال و مواقع القطر يفر بدينه منة الفتن ] و ما زال الناس يعتزلون و يخالطو كل واحد منهم على ما يعلم من نفسه و يتأتى له من أمره و قد كان العمري بالمدينة معتزلا و كان مالك مخالطا للناس ثم اعتزل مالك آخر عمره رضي الله عنه فيروي عنه أنه أقام ثماني سنة لم يخرج إلى المسجد فقيل له في ذلك فقال : ليس كل واحد يمكنه أن يخبر بعذره و اختلف الناس في عذره على ثلاثة أقوال فقيل لئلا يرى المناكير و قيل لئلا يمشي إلى السلطان و قيل كانت به أبردة فكان يرى تنزيه المسجد عنها ذكرره القاضي أبو بكر بن العربي كتاب سراج المريدين له
باب منه و كيف التثبت في الفتنة و الاعتزال عنها و في ذهاب الصالحين
ابن ماجه عن عديسة بنت أعبان قالت : لما جاء علي بن أبي طالب ها هنا بالبصرة دخل على أبي فقال يا أبا مسلم : ألا تعينني على هؤلاء القوم ؟ قال : بلى فدعى جاريته فقال يا جارية : أخرجي سيفي قالت فأخرجته فسل منه قدر شبر فإذا هو خشب فقال : إن خليلي و ابن عمك صلى الله عليه و سلم عهد إلي إذا كانت فتنة بين المسلمين فاتخذ سيفا من خشب فإن شئت خرجت معك قال : لا حاجة لي فيك و لا في سيفك
[ و عن زيد بن شرحبيل عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظالم يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا و يصبح كافرا و يمسي مؤمنا و القاعد فيها خير من القائم و القائم فيها خير من الماشي و الماشي فيها خير من الساعي فكسروا قسيكم و قطعوا أوتاركم و اضربوا بسيوفكم الحجارة فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير بني آدم ] أخرجه أبو داود أيضا
و خرج [ من حديث سعد بن أبي وقاص قلت يا رسول الله : إن دخل على بيتي و بسط يده إلي ليقتلني قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كن كخير ابني آدم و تلا هذه الآية { لئن بسطت إلي يدك لتقتلني } ] و
ابن ماجه [ عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال كيف بكم و بزمان يوشك أن يأتي فيغربل الناس فيه غربلة يبقى حثالة من الناس قد مزجت عهودهم و خفت أمانتهم و اختلفوا فكانوا هكذا و هكذا و شبك بين أصابعه قالوا : كيف بنا يا رسول الله ؟ إذا كان ذلك الزمان ؟ قال : تأخذون بما تعرفون و تدعون بما تنكرون و تقلبون على خاصتكم و تذرون أمر عامتكم ] أخرجه أبو داود أيضا
و خرجه أبو نعيم الحافظ بإسناده [ عن محمد بن كعب القرظي أن الحسن بن أبي الحسن حدثه أنه سمع شريحا و هو قاضي عمر بن الخطاب يقول : قال عمر بن الخطاب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ستغربلون حتى تصيروا في حثالة من الناس قد مزجت عهودهم و خربت أماناتهم فقال قائل : كيف بنا يا رسول الله ؟ قال تعلمون بما تعرفون و تتركون ما تنكرون و تقولون : أحد أحد أنصرنا على من ظلمنا و اكفنا من بغانا ] غريب من حديث محمد بن كعب و الحسن و شريح ما علمت له وجها غير هذا
النسائي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا رأيت الناس مزجت عهودهم و خفت أماناتهم و كانوا هكذا و هكذا و شبك بين أصابعه فقمت إليه فقلت له : كيف أصنع عند ذلك يا رسول الله جعلني الله فداك ؟ قال : الزم بيتك و أملك عليك لسانك و خذ ما تعرف ودع ما تنكر و عليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة ] خرجه أبو داود أيضا
الترمذي [ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إنكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به و هلك و يأتي على الناس زمان من عمل منهم بعشر ما أمر به نجا ] قال هذا حديث غريب و في الباب عن أبي ذر رضي الله عنه
فصل
قوله : و يوشك معناه يقرب و قوله : فيغربل الناس فيها غربلة عبارة عن موت الأخيار و بقاء الأشرار كما يبقى الغربال من حثالة ما يغربله و الحثالة ما يغربله و الحثالة : ما يسقط من قشر الشعير و الأرز و التمر و كل ذي قشر إذا بقي و حثالة الدهن تفله و كأنه الرديء من كل شيء و يقال : حثالة و حفالة بالثاء و الفاء معا
كما روى ابن ماجه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لتنتقون كما ينتقي التمر من أغفاله و ليذهبن خياركم و ليبقين شراركم فموتوا إن استطعتم ]
و خرج البخاري [ عن مرداس الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يذهب الصالحون الأول فالأول و يبقى حفالة كحفالة الشعير و التمر لا يباليهم الله بالة ] و في رواية لا يعبأ الله بهم يقال ما أباليه بالة و بال و بلى مقصور و مكسور الأول مصدر و قيل اسم أي ما كثرت به و البال الاكتراث و الاهتمام بالشيء و الصالحون هم الذين أطاعوا الله و رسوله و عملوا بما أمرهم به و انتهوا عما نهاهم عنه
قال أبو الخطاب بن دحية و مرداس و هذا هو مرداس بن مالك الأسلمي من أسلم بفتح اللام سكن الكوفة و هو معدود في أهلها و لم يحفظ له من طريق صحيح سوى هذا الحديث
قال المؤلف رحمه الله : انفرد به البخاري رحمه الله روى عن قيس بن أبي حازم في الرقاق و مزجت معناه اختلطت و اختلفت و المزج الاختلاط و الاختلاف
باب الأمر بتعليم كتاب الله و اتباع ما فيه و لزوم جماعة المسلمين عند
غلبة الفتن و ظهورها و صفة دعاة آخر الزمان و الأمر بالسمع و الطاعة للخليفة و إن ضرب الظهور و أخذ المال
أبو داود [ عن نصر بن عاصم الليثي قال : أتينا اليشكري في رهط من بني ليث فقال : من القوم ؟ قال بنو الليث أتيناك نسألك عن حديث حذيفة فقال : أقبلنا مع أبي موسى قافلين و غلت الدواب بالكوفة قال : فسألت أبا موسى الأشعري أنا و صاحب لي فأذن لنا فقدمنا الكوفة فقلت لصاحبي : أنا داخل المسجد فإذا قامت السوق خرجت إليك قال : فدخلت المسجد فإذا فيه حلقة كأنما قطعت رؤوسهم يستمعون إلى حديث رجل واحد قال فقمت عليهم فجاء رجل فقام إلى جنبي قال فقلت من هذا ؟ قال : أبصري أنت ؟ قال : قلت نعم قال : قد عرفت و لو كنت كوفيا لم تسأل عن هذا هذا حذيفة فدنوت منه فسمعت حذيفة رضي الله عنه يقول : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الخير و كنت أنا أسأله عن الشر و عرفت أن الخير لن يسبقني قال فقلت يا رسول الله بعد هذا الخير شر قال : يا حذيفة تعلم كتاي الله و اتبع مافيه ثلاث مرات قلت يا رسول الله بعد هذا الخير شر ؟ قال : فتنة و شر قلت يا رسول الله : بعد هذا الخير شر ؟ قال : فتنة و شر قلت يا رسول الله بعد هذا الشر خير ؟ فقال : يا حذيفة تعلم كتاب الله و اتبع ما فيه قال : قلت يا رسول الله بعد هذا الشر خير ؟ قال : هدنة على دخن و جماعة على أقذاء فيهم أو فيها قلت يا رسول الله : الهدنة على الدخن ما هي ؟ قال : لا ترجع قلوب أقوام على الذي كانت عليه قال قلت يا رسول الله بعد هذا الخير شر ؟ قال : فتن عمياء صماء عليها دعاة على أبواب النار فإن مت يا حذيفة و أنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحدا منهم ]
و خرج أبو نعيم الحافظ [ عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : خذوا العطاء ما دام عطاء فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه و لستم بتاركيه يمنعكم من ذلك الفقر و الحاجة إلا أن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار إلا أن الكتاب و السلطان سيتفرقان فلا تفارقوا الكتاب إلا أنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم إن عصيتوهم قتلوكم و إن أطعتموهم أضلوكم قالوا يا رسول الله : كيف نصنع ؟ قال : كما صنع أصحاب عيسى بن مريم عليهما الصلاة و السلام نشروا بالمناشير و حملوا على الخشب موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله ] خرجه في باب يزيد بن مرثد غريب من حديث معاذ لم يروه عنه إلا يزيد بن مرثد و عن الرضين بن عطاء
و خرج البخاري و مسلم و أبو داود [ عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة يقول : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الخير و كنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية و شر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم فقلت : هل بعد ذلك من خير ؟ قال : نعم و فيه دخن قلت : و ما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي و يهتدون بغير هديي تعرف منهم و تنكر فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت يا رسول الله : صفهم لنا قال : نعم قوم من جلدتنا و يتكلمون بألسنتنا فقلت يا رسول الله : فما تأمرني إن أدركت ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين و إمامهم قلت : فإن لم يكن لهم جماعة و لا إمام ؟ قال فاعتزل الفرق كلها و لو إن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت و أنت على ذلك ]
و في رواية قال : [ تكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي و لا يستنون بسنتي و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جسمان إنس قال فكيف أصنع يا رسول الله إن إدركت ذلك ؟ قال : تسمع و تطيع و إن ضرب ظهرك و أخذ مالك فاسمع و أطع ] لفظ مسلم
و في كتاب أبي داود [ بعد قوله هدنة على دخن قال قلت يا رسول الله : ثم ماذا ؟ قال إن كان لله خليفة في الأرض فضرب ظهرك و أخذ مالك فأطعه و إلا فمت و أنت عاض في جذل شجرة قلت ثم ماذا ؟ قال : ثم يخرج الدجال و معه نهر و نار فمن وقع في ناره وجب أجره و حط وزره و من وقع في نهره وجب وزره و حط أجره قال ثم ماذا ؟ قال : هي قيام الساعة ]
فصل
قوله : على أقذاء الأقذاء جمع القذا و القذا جمع قذاة و هو ما يقع في العين من الأذى و في الطعام و الشراب من تراب أو نتن أو غير ذلك فالمراد به في الحديث الفساد الذي يكون في القلوب أي أنهم يتقون بعضهم بعضا و يظهرون الصلح و الاتفاق و لكنهم في باطنهم خلاف ذلك و الجذل : الأصل كما هو مبين في كتاب مسلم على أصل شجرة
باب منه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل و المقتول في النار
مسلم [ عن الأحنف بن قيس قال : خرجت و أنا أريد هذا الرجل فلقيني أبو بكرة فقال : أين تريد يا أحنف ؟ قال : فقلت أريد نصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم يعني عليا قال فقال لي : يا أحنف ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا توجه المسلمان بسيفهما فالقاتل و المقتول في النار قال فقلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه قد أراد قتل صاحبه ] أخرجه البخاري و في بعض طرقه [ أنه كان حريصا على قتل صاحبه ]
فصل
قال علماؤنا : ليس هذا الحديث في أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بدليل قوله تعالى { و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } فأمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية و لو أمسك المسلمون عن قتال أهل البغي لتعطلت فريضة من فرائض الله و هذا يدل على أن قوله القول و المقتول في النار ليس في أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم لأنهم إنما قاتلوا على التأويل قال الطبري : لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب منه و لزوم المنازل و كسر السيوف لما أقيم حد و لا أبطل باطل و لوجد أهل النفاق و الفجور سبيلا إلى استحال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين و سبي نسائهم و سفك دمائهم بأن يتحزبوا عليهم و يكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولون هذه فتنة قد نهينا عن القتال فيها و أمرنا بكف الأيدي و الهرب منها و ذلك مخالف لقوله عليه الصلاة و السلام [ خذوا على أيدي أسفهائكم ]
قلت : فحديث أبي بكرة محمول على ما إذا كان القتال على الدنيا و قد جاء هكذا منصور فيما سمعناه من بعض مشايخنا : إذا اقتتلتم على الدنيا فالقاتل و المقتول في النار خرجه البزار
و مما يدل على صحة هذا ما خرجه مسلم عن صحيحه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيما قتل و لا المقتول فيما قتل فقيل : كيف يكون ذلك ؟ قال الهرج القاتل و المقتول في النار ] فبين هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهالة من طلب الدنيا أو أتباع هوى كان القاتل و المقتول في النار فأما قتال يكون على تأويل ديني فلا و أما أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم و رضي عنهم فيجب على المسلمين توقيرهم و الإمساك عن ذكر زللهم و نشر محاسبتهم لثناء الله عز و جل في كتابه فقال و قوله الحق { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } و قال : { محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } إلى آخر السورة و قال : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل } و كل من ذهب منهم إلى تأويل فهو معذور و إن كان بعضهم أفضل من بعض و أكثر سوابق و قيل : إن من توقف من الصحابة حملوا الأحاديث الواردة بالكف عن عمومها فاجتنبوا جميع ما وقع بين الصحابة من الخلاف و القتال و ربما ندم بعضهم على ترك ذاك كعبد الله ابن عمر فإنه ندم على تخلفه عن نصرة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فقال عند موته ما آسى على شيء ما آسى على تركي قتال الفئة الباغية يعني فئة معاوية و هذا هو الصحيح إن الفئة الباغية إذا علم منها البغي قوتلت قال عبد الرحمن بن أبزي : شهدنا صفين مع علي في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان : قتل منهم ثلاث و ستون منهم عمار بن ياسر
و قال أبو عبد الرحمن السلمي : شهدنا مع علي صفين فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يتبعونه كأنه علم لهم قال و سمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة يا هاشم : تقدم الجنة تحت الأبارقة اليوم ألقى الأحبة محمدا و حزبه و الله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا شغفات الجبال لعلمنا أنا على الحق و أنهم على الباطل قال :
( نحن ضربناكم على تنزيلة ... فاليوم نضربكم على تأويلة )
( ضربا يزيل الهام عن مقيلة ... و يذهل الخليل عن خليلة )
( أو يرجع الحق إلى سبيله )
قال : فلم أر أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم قتلوا في موطن ما قتلوا يومئذ و سئل بعض المتقدمين عن الدماء التي وقعت بين الصحابة فقال : { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم و لا تسألون عما كانوا يعملون }
و قد أشبعنا القول في هذه المسألة في كتاب الجامع لأحكام القرآن في سورة الحجرات و الصواب ما ذكرناه لك أولا و الله أعلم
و روي عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال : [ سيكون بين أصحابي فتنة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي ثم يستن بها قوم من بعدهم يدخلون به النار ]
باب جعل الله بأس هذه الأمة بينها
قال الله تعالى { أو يلبسكم شيعا و يذيق بعضكم بأس بعض }
مسلم [ عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها و مغاربها و إن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها و أعطيت الكنزين الأحمر و الأبيض [ قال ابن ماجه في سننه يعني الذهب و الفضة ] و إني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة و أن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم و إن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد و إني قد أعطيتك لأمتك أن لا أهلهكم بسنة عامة و أن لا يسلط عليهم من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم و لو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا و يسبي بعضهم بعضا ] زاد أبو داود : [ و إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين و إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة و لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي المشركين و حتى يعبد قبائل من أمتي الأوثان و أنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون يزعم كلهم أنه نبي و أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي و لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ]
ابن ماجه [ عن معاذ بن جبل قال : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما صلاة فأطال فيها فلما نصرف قلنا أو قالوا يا رسول الله : أطلت اليوم الصلاة قال : إني صليت صلاة رغبة و رهبة سألت الله لأمتي ثلاثا فأعطاني اثنتين و رد علي واحدة سألته ألا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها و سألته ألا يهلكهم غرقا فأعطانيها و سألته ألا يجعل بأسهم بينهم فردها علي ]
و أخرجه مسلم [ عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل ذات يوم من العالية و في رواية : في طائفة من أصحابه حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين فصلينا معه و دعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال : سألت ربي ثلاثا فأعطاني إثنتين و منعني واحدة سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها و سألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها و سألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ] و أخرجه الترمذي و النسائي و صححه و اللفظ النسائي
[ و عن خباب بن الأرت و كان شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه راقب رسول الله صلى الله عليه و سلم الليل كلها حتى كان الفجر فلما سلم رسول الله صلى الله عليه و سلم من صلاته جاء خباب فقال يا رسول الله : بأبي أنت و أمي لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت نحوها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أجل إنها صلاة رغب و رهب سألت الله فيها لأمتي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين و منعني واحدة سألت ربي ألا يهلكنا بما أهلك الأمم فأعطانيها و سألت ربي عز و جل ألا يظهر عليها عدوا من غيرنا فأعطانيها و سألت ربي عز و جل ألا يلبيسنا شيعا فمنعنيها ]
ابن ماجه [ عن أبي موسى قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن بين الساعة لهرجا قال قلت يا رسول الله ما الهرج ؟ قال : القتل القتل فقال بعض المسلمين : يا رسول الله إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا و كذا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس بقتل المشركين و لكن بقتل بعضكم بعضا حتى يقتل الرجل جاره و ابن عمه و ذا قربته ] و ذكر الحديث و الله أعلم
باب ـ ما يكون من الفتن و إخبار النبي صلى الله عليه و سلم بها
مسلم [ عن حذيفة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقاما ما ترك فيه شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظ من حفظه و نسيه من نسيه قد علمه أصحابي هؤلاء و إن ليكون منه الشيء قد نسيه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفه ]
و خردج أبو داود أيضا عنه قال : [ و الله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه و الله ما ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلاث مائة فصاعدا إلا قد سماه لنا باسمه و اسم أبيه و اسم قبيلته ]
مسلم [ عن حذيفة بن اليمان قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم مجلسا أنبأنا فيه عن الفتنة فقال و هو يعد الفتن : منها ثلاثة لا يكدن يذرن شيئا و منهن فتن كرياح الصيف منها صغارا و منها كبار ] قال حذيفة : فذهب أولئك الرهط كلهم غيري
أبو داود [ عن عبد الله بن عمر : كنا قعودا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر الفتن فأكثر فيها حتى ذكر فتنة الأحلاس فقال قائل يا رسول الله : و ما فتنة الأحلاس ؟ قال : هي هرب و خرب ثم فتنة السوء دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني و ليس مني و إنما أوليائي المتقون ثم يصطلح الناس على رجل كودك على ضلع ثم فتنة الدهيماء لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة فإذا قيل انقضت تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا و يمسي مؤمنا و يصبح كافرا حتى يصير الناس فسطاطين : فسطاط إيمان لا نفاق فيه و فسطاط نفاق لا إيمان فيه فإذا كان ذلكم فانتظروا الدجال من سومه أو من غده ]
فصل
قول حذيفة : قيام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم مقاما و في الرواية الأخرى مجلسا قد جاء مبينا في حديث أبي زيد قال : [ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم الفجر و صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ثم نزل فصلى فصعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان و ما هو كائن فأعلمنا أحفظنا ] أخرجه مسلم
و روى الترمذي [ من حديث أبي سعيد الخدري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاة العصر نهارا ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به حفظه من حفظه و نسيه من نسيه ] فظاهر هذا أن ذلك المقام كان من بعد العصر لا قبل ذلك و هذا تعارض فيجوز أن يكون ذلك كله في يومين فيوم خطب فيه من بعد العصر و يوم قام فيه خطيبا كله و يجوز أن تكون الخطبة من بعد صلاة الصبح إلى غروب الشمس كما في حديث أبي زيد و اقتصر بعض الرواة في الذكر على ما بعد العصر كما في حديث أبي سعيد الخدري و فيه بعد و الله أعلم
و قوله : حتى ذكر فتنة الأحلاس قال الخطابي : إنما أضيفت الفتنة إلى الأحلاس لدوامها و طول لبثها يقال للرجل إذا كان يلزم بيته لا يبرح منه : هو حلس بيته و يحتمل أن تسمى هذه الفتنة بالأحلاس لسوادها و ظلمتها و الحرب ذهاب الأهل و المال يقال حرب الرجل فهو حريب إذا سلب أهله و ماله و من هذا المعنى أخذ لفظ الحرب لأن فيها ذهاب النفوس و الأموال و الله أعلم و الدخن : الدخان يريد أنها تثور كالدخان من تحت قدميه و قوله : كودك على ضلع مثل و معناه الأمر الذي لا يثبت و لا يستقيم يريد أن هذا الرجل غير خليق بالملك و الدهيماء : تصغير الدهماء على معنى المذمة لها و التعظيم لأمرها كما قال : [ دويهية تصفر منها الأنامل ] أي ههذ الفتنة سوداء مظلمة و دلت أحاديث هذا الباب على أن الصحابة رضي الله عنهم كان عندهم من علم الكوائن إلى يوم القيامة العلم الكثير لكن لم يشيعوها إذ ليست من أحاديث الأحكام و ما كان فيه شيء من ذلك حدثوا به و تقصروا عنه
و قد روى البخاري عن أبي هريرة قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه و سلم وعاءين أما أحدهما فبثثته و أما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم قال أبو عبد الله البلعوم مجرى الطعام و الفسطاط الخيمة الكبيرة و تسمى مدينة مصر الفسطاط و المراد به في هذا الحديث الفرقة المجتمعة المنحازة عن الفرقة الأخرى تشبيها بانفراد الخيمة عن الأخرى و تشبيها بانفراد المدينة عن الأخرى حملا على تسمية مصر بالفسطاط و الله أعلم

باب ذكر الفتنة التي تموج موج البحر و قول النبي صلى الله عليه و سلم : هلاك أمتي على يد أغيلمة من سفهاء قريش
ابن ماجه عن شقيق عن حذيفة قال : كنا جلوسا عند عمر بن الخطاب فقال : أيكمك يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفتنة ؟ قال حذيفة : فقلت أنا فقال إنك لجزيء قال : كيف سمعه يقول ؟ قلت سمعته يقول [ فتنة الرجل في أهله و ماله و جاره يكفرها الصلاة و الصيام و الصدقة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ] فقال عمر : ليس هذا أريد التي تموج موج البحر قال مالك و لها يا أمير المؤمنين إن بينك و بينها بابا مغلقا قال يفتح الباب أو يكسر قال : بل يكسر قال : ذلك أجدر أن لا يغلق فقلت لحذيفة أكان عمر يعلم من الباب ؟ قال : نعم كما يعلم أن دون غد الليلة فقلت لحذيفة أكان عمر يعلم من الباب ؟ قال نعم كما يعلم أن دون غد الليلة إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط قال فهبنا أن نسأله من الباب فقلنا لمسروق : سله فسأله : هو عمر أخرجه البخاري و مسلم أيضا
و خرج الخطيب أبو بكر بن أحمد بن علي من حديث مالك بن أنس أن عمر بن الخطاب دخل على بني علي بن أبي طالب رضي الله عنهم فوجدها تبكي فقال : ما يبكيك ؟ قالت هذا اليهودي لكعب الأحبار يقول إنك باب من أبواب جهنم فقال عمر : ما شاء الله إني لأرجو أن يكون الله خلقني سعيدا قال ثم خرج فأرسل إلى كعب فدعاه فلما جاءه كعب قال يا أمير المؤمنين : و الذي نفسي بيده لا تنسلخ ذو الحجة حتى تدخل الجنة فقال عمر : أي شيء هذا ؟ مرة في الجنة و مرة في النار قال : و الذي نفسي بيده إنا لنجدك في كتاب الله على باب من أبواب جهنم تمنع الناس أن يقعوا فيها فإذا مت لم يزالوا يتقحمون فيها إلى يوم القيامة
البخاري عن عمرو بن يحيى بن سعيد قال : أخبرني جدي قال : كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة و معنا مروان فقال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدوق يقول : [ هلكة أمتي على يد أغيلمة من قريش ] قال مروان لعنة الله عليهم من أغيلمة قال أبو هريرة : لو شئت أن أقول بني فلان و بني فلان لفعلت فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حتى تملكوا بالشام فإذا رآهم أحداثا و غلمانا قال لنا : عسى هؤلاء أن يكونوا منهم قلنا : أنت أعلم
الغلام الطار الشارب و الجمع الغلمة و الغلمان و نص مسلم في صحيحه في كتاب الفتن [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يهلك أمتي هذا الحي من قريش قال : فما تأمرنا ؟ قال : لو أن الناس اعتزلوهم ]
فصل
قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هذا الحديث يدل على أن أبا هريرة كان عنده من علم الفتن ؟ العلم الكثير و التعيين على من يحدث عنه الشر الغزير ألا تراه يقول لو شئت قلت لكم هم بنو فلان و بنو فلان لكنه سكت عن تعيينهم مخافة ما يطرأ من ذلك من المفاسد و كأنهم و الله أعلم يزيد بن معاوية و عبيد الله بن زياد و من تنزل منزلتهم من أحداث ملوك بني أمية فقد صدر عنهم من قتل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و سبيهم و قتل خيار المهاجرين و الأنصار بالمدينة و بمكة و غيرها و غير خاف ما صدر عن الحجاج و سليمان بن عبد الملك و ولده من سفك الدماء و إتلاف الأموال و إهلاك الناس بالحجاز و العراق و غير ذلك و بالجملة و غير ذلك و بالجملة فبنو أمية قابلوا وصية النبي صلى الله عليه و سلم في أهل بيته و أمته بالمخالفة و العقوق فسفكوا دماءهم و سبوا نساءهم و أسروا صغارهم و خربوا ديارهم و جحدوا فضلهم و شرفهم و استباحوا لعنهم و شتمهم فخالفوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في وصيته و قابلوه بنقيض مقصودة و أمنيته فواخجلتهم إذا وقفوا بين يديه و افضحيتهم يوم يعرضون عليه و الله أعلم

باب ما جاء في بيان مقتل الحسين رضي الله عنه و لا رضي عن قاتله
ذكر أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن الحافظ قال : [ حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الحلواني قال ابن السكن و أخبرني أبو بكر محمد بن محمد بن إسماعيل حدثنا أحمد بن عبد الله بن زياد الحداد قالا : حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد قال : حدثنا عطاء بن مسلم عن أشعث بن سحيم عن أبيه عن أنس بن الحارث قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق فمن أدركه منكم فلينصره ] فقتل أنس يعني مع الحسين بن علي عليهما السلام
أنبأناه إجازة الشيخ الفقيه القاضي أبو عامر عن أبي القاسم بن بشكوال عن أبي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عتاب و أبي عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد عن أبي عمر بن عبد البر قال : حدثنا الحافظ أبو القاسم خلف بن القاسم قال : حدثنا الإمام الحافظ أبو علي بن السكن فذكره
و خرج الإمام أحمد في مسنده قال : [ حدثنا مؤمل قال : حدثنا عمارة بن زاذان حدثنا ثابت عن أنس أن ملك المطر استأذن أن يأتي النبي صلى الله عليه و سلم فأذن له فقال لأم سلمة : أملكي علينا الباب لا يدخل علينا أحد قال : و جاء الحسين ليدخل فمنعه فوثب فدخل فجعل يقعد على ظهر النبي صلى الله عليه و سلم و على منكبيه و على عاتقه قال : فقال الملك للنبي صلى الله عليه و سلم أتحبه ؟ قال : نعم قال : أما إن أمتك ستقتله و إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه فضرب بيده فجاء بطينة حمراء فأخذتها أم سلمة فصرتها في خمارها ] قال ثابت : بلغنا أنها كربلاء
و قال مصعب بن الزبير : حج الحسين خمسة و عشرين حجة ماشيا و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم فيه و في الحسن : [ إنهما سيدا شباب أهل الجنة و قال : هما ريحانتاي من الدنيا و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا رآهما هش لهما و ربما أخذهما ] كما روى أبو داود أنهما دخلا المسجد و هو يخطب فقطع خطبته و نزل فأخذهما و صعد بهما قال : [ رأيت هذين فلم أصبر ] و كان يقول فيهما [ اللهم إني أحبهما و أحب من يحبهما ] و قتل رحمه الله و لا رحم قاتله يوم الجمعة لعشر خلون من المحرم سنة إحدى و ستين بكربلاء بقرب موقع يقال له الطف بقرب من الكوفة
قال أهل التواريخ : لما مات معاوية و أفضت الخلافة إلى يزيد و ذلك سنة ستين ـ و وردت البيعة على الوليد بن عتبة بالمدينة ليأخذ بالبيعة إلى أهلها أرسل إلى الحسين بن علي و إلى عبد الله بن الزبير ليلا فأتي بهما فقال : بايعا فقالا : مثلنا لا يبايع سرا و لكن نبايع على رؤوس الناس إذ أصبحنا فرجعا إلى بيوتهما و خرجا من ليلتهما إلى مكة و ذلك ليلة الأحد بقيتا من رجب فأقام الحسين بمكة شعبان و رمضان و شوالا و ذا القعدة و خرج يوم التروية يريد الكوفة فبعث عبد الله بن زياد خيلا لمقتل الحسين و أمر عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص فأدركه بكر بلاء و قيل : إن عبيد الله بن زياد كتب إلى الحر بن يزيد الرياحي أن جعجع بالحسين قال أهل اللغة أراد أحبسه و ضيق عليه و الجعجع : الجعجاع الموضع الضيق من الأرض ثم أمده بعمرو بن سعد في أربعة آلاف ثم ما زال عبيد الله يزيد العساكر و يستفز الجماهير إلى أن بلغوا اثنين و عشرين ألفا و أميرهم عمرو بن سعد و وعده أن يملكه مدينة الري فباع الفاسق الرشد بالغي و في ذلك يقول :
( أأترك ملك الري و الري منيتي ... و أرجع مأثوما بقتل حسين )
فضيق عليه اللعين أشد تضييق و سد بين يديه وضح الطريق إلى أن قتله يوم الجمعة و قيل يوم السبت العاشر من المحرم و قال ابن عبد البر في الاستيعاب : قتل يوم الأحد لعشر مضين من المحرم بموضع من أرض الكوفة يقال له كربلاء و يعرف بالطف أيضا و عليه جبة خزد كفاء و هو ابن ست و خمسين سنة قاله نسابة قريش الزبير بن بكار و مولده الخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة و فيها كانت غزوة ذات الرقاع و فيه قصرت الصلاة و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم أم سلمة و اتفقوا على أنه قتل يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة إحدى و ستين و يسمى عام الحزن و قتل معه اثنان و ثمانون رجلا من الصحابة مبارزة منهم الحر بن يزيد لأنه تاب و رجع مع الحسين ثم قتل جميع بنيه إلا عليا المسمى بعد ذلك بزين العابدين كان مريضا أخذ أسيرا بعد قتل أبيه و قتل أكثر إخوة الحسين و بني أعمامه رضي الله عنهم ثم أنشأ يقول :
( يا عين إبكي بعبرة و عويل ... و اندبي ـ إن ندبت آل الرسول )
( سبعة كلهم لصلب علي ... قد أصيبوا و تسعة لعقيل )
قال جعفر الصادق : وجد بالحسين ثلاث و ثلاثون طعنة بالسيف و أربع و ثلاثون ضربة و اختلفوا فيمن قتله فقال يحيى بن معين : أهل الكوفة يقولون : إن الذي قتل الحسين عمرو بن سعد قال ابن عبد البر : إنما نسب قتل الحسين إلى عمرو بن سعد لأنه كان الأمير على الخيل التي أخرجها عبيد الله بن زياد إلى قتال الحسين و أمر عليهم عمرو بن سعد و وعده أن يوليه الري إن ظفر بالحسين و قتله و كان في تلك الخيل و الله أعلم قوم من مصر و من اليمين و في شعر سليمان بن فتنة الخزاعي و قيل : إنها لأبي الرميح الخزاعي ما يدل على الاشتراك في دم الحسين و قيل : قتله سنان بن أبي سنان النخعي و قال مصعب النسابة الثقة : قتل الحسين بن علي سنان بن أبي سنان النخعي و هو جد شريك القاضي و يصدق ذلك قول الشاعر :
( و أي رزية عدلت حسينا ... غداة تبيده كفا سنان )
و قال خليفة بن خياط : الذي ولي قتل الحسين شمر بن ذي الجوشن و أمير الجيش عمرو بن سعد و كان شمر أبرص و أجهز عليه خولي بن يزيد الأصبحي من حمير حز رأسه و أتى به عبيد الله بن زياد و قال :
( أوقر ركابي فضة ذهبا ... أني قتلت الملك المحجبا )
( قتلت خير الناس أما و أبا ... و خيرهم ـ إذ ينسبون ـ نسبا )
هذه رواية أبي عمر بن عبد البر في الاستيعاب و قال غيره : تولى حمل الرأس بشر بن مالك الكندي و دخل به على ابن زياد و هو يقول :
( أوقر ركابي فضة ذهبا ... إن قتلت الملك المحجبا )
( و خيرهم إذ يذكرون النسبا ... قتلت خير الناس أما و أبا )
في أرض نجد و حرا و يثربا
فغضب ابن زياد من قوله و قال : إذا عملت أنه كذلك فلم قتلته ؟ و الله لا نلت مني خيرا أبدا و لألحقنك به ثم قدمه فضرب عنقه
و في هذه الرواية اختلاف و قد قيل إن يزيد بن معاوية هو الذي قتل القاتل
و قال الإمام أحمد بن حنبل : قال عبد الرحمن بن مهدي : [ حدثنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم نصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه و يتتبعه فيها قال قلت يا رسول الله ما هذا ؟ قال : دم الحسين و أصحابه لم أزل أتبعه منذ اليوم ] قال عمار : فحفظنا ذلك اليوم فوجدناه قتل ذلك اليوم و هذا سند صحيح لا مطعن في و ساق القوم حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم كما تساق الأسرى حتى إذا بلغوا بهم الكوفة خرج الناس فجعلوا ينظرون إليهم و في الأسارى علي بن حسين و كان شديد المرض قد جمعت يداه إلى عنقه و زينب بنت علي و بنت فاطمة الزهراء و أختها أم كلثوم و فاطمة و سكينة بنت الحسين و ساق الظلمة و الفسقة معهم رؤوس القتلة
روى قطر عن منذر الثوري عن محمد بن الحنفية قال : قتل مع الحسين سبعة عشر رجلا كلهم من ولد فاطمة عليها الصلاة و السلام
و ذكر أبو عمر بن عبد البر عن الحسن البصري قال : أصيب مع الحسين بن علي ستة عشر رجلا من أهل بيته ما على وجه الأرض لهم يومئذ شبيه و قيل : إنه قتل مع الحسين من ولده و أخوته و أهل بيته ثلاثة و عشرون رجلا
و في صحيح البخاري في المناقب عن أنس بن مالك : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت و قال في حسنة شيئا فقال أنس : كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه و سلم و كان مخضوبا بالوسمة يقال : نكت في الأرض إذا أثر فيها و نكت بالحصباء إذا ضرب بها و كان الفاسق يؤثر في رأسه المكرم بالقضيب و أمد عبيد الله بن زياد من قور الرأس حتى ينصب في الرمح فتحاماه أكثر الناس فقام رجل يقال له طارق بن المبارك بل هو ابن المشؤوم الملعون المذموم فقوره و نصبه بباب دار عبيد الله و نادى في الناس و جمعهم في المسجد الجامع و خطب الناس خطبة لا يحل ذكرها ثم دعا بزياد ابن حر بن قيس الجعفي فسلم إليه رأس الحسين و رؤوس أخوته و بنيه و أهل بيته و أصحابه و دعي بعلى بن الحسين فحمله و حمل عماته و أخواته إلى يزيد على محامل بغير وطاء و الناس يخرجون إلى لقائهم في كل بلد و منزل حتى قدموا دمشق و دخلوا من باب توما و أقيموا على درج باب المسجد الجامع حيث يقام السبي ثم وضع الرأس المكرم بين يدي يزيد فأمر أن يجعل في طست من ذهب و جعل ينظر إليه و يقول هذه الأبيات :
( صبرنا و كان الصبر منا عزيمة ... و أسيافنا يقطعن كفا و معصما )
( نعلق هاما من رجال أعزة ... علينا و هم كانوا أعق و أظلما )
ثم تكلم بكلام قبيح و أمر بالرأس أن تصلب بالشام و لما صلبت أخفى خالد بن عفران شخصه من أصحابه و هو من أفاضل التابعين فطلبوه شهرا حتى وجدوه فسألوه عن عزلته فقال : ألا ترون ما نزل بنا :
( جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد ... متزملا بدمائه تزميلا )
( و كأنما بك يا ابن بنت محمد ... قتلوا جهارا عامدين رسولا )
( قتلوك عطشانا و لم يترقبوا ... في قلتك التنزيل و التأويلا )
( و يكبرون بأن قتلت و إنما ... قتلوا بك التكبير و التهليلا )
و اختلف الناس في موضع الرأس المكرم ؟ و أين حمل من البلاد ؟ فذكر الحافظ أبو العلاء الهمداني أن يزيد حين قدم عليه رأس الحسين بعث به إلى المدينة فأقدم إليه عدة من موالي بني هاشم و ضم إليهم عدة من موالي أبي سفيان ثم بعث بث الحسين و بقي من أهله معهم و جهزهم بكل شيء و لم يدع لهم حاجة المدينة إلا أمر بها و بعث برأس الحسين عليه السلام إلى عمرو بن سعيد العاص و هو إذ ذلك علمله على المدينة فقال عمرو وددت أنه لم يبعث به إلي ثم أمر عمرو بن سعيد بن العاص برأس الحسين عليه السلام فكفن و دفن بالبقيع عند قبر أمه فاطمة عليها الصلاة و السلام و هذا أصح ما قيل في ذلك و لذلك قال الزبير بن بكار الرأس حمل إلى المدينة و الزبير أعلم أهل النسب و أفضل العلماء لهذا السبب قال : حدثني بذلك محمد بن حسن المخزومي النسابة
و الإمامية تقول إن الرأس أعيد إلى الجثة بكربلاء بعد أربعين يوما من المقتل و هو يوم معروف عندهم يسمون الزيارة فيه زيارة الأربعين و ما ذكر أنه في عسقلان في مشهد هناك أو بالقاهرة فشيء باطل لا يصح و لا يثبت و قد قتل الله قاتله صبرا و لقي حزنا و ذعرا و جعل رأسه الذي اجتمع فيه العيب و الذم في الموضع الذي جعل فيه رأس الحسين و ذلك بعد قتل الحسين بستة أعوام و بعث المختار به إلى المدينة فوضع بين يدي بني الحسين الكرام و كذلك عمرو بن سعد و أصحابه اللئام ضربت أعناقهم بالسيف و سقوا كأس الحمام و بقي الوقوف بين يدي الملك العلام في يوم { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام }
و في الترمذي : حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير قال : لما أتي برأس عبيد الله بن زياد و أصحابه نصبت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم و هم يقولون قد جاءت فإذا هي حية قد جاءت تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخري عبيد الله فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا : جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا
قال العلماء : و ذلك مكافأة لفعله برأس الحسين و هي من آيات العذاب الظاهرة عليه ثم سلط الله عليهم المختار فقتلهم حتى أوردهم النار و ذلك أن الأمير مذحج بن إبراهيم بن مالك لقي عبيد الله بن زياد على خمسة فراسخ من الموصل و عبيد الله في ثلاثة و ثلاثين ألفا و إبراهيم في أقل من عشرين ألفا فتطاعنوا بالرماح و تراموا بالسهام و اصطفقوا بالسيوف إلى أن اختلط الظلام فنظر إبراهيم إلى رجل عليه بزة حسنة و درع سابغة و عمامة خز دكناء و ديباجة خضراء من فوق الدرع و قد أخرج يده من الديباجة و رائحة المسك تشم عليه و في يده صحيفة له مذهبة فقصده الأمير إبراهيم لا لشيء إلا لتلك الصحيفة و الفرس الذي تحته حتى إذا لحقه لم يلبث أن ضربه ضربة كانت فيها نفسه فتناول الصحيفة و غار الفرس فلم يقدر عليه و لم يبصر الناس بعضهم بعضا من شدة الظلمة فتراجع أهل العراق إلى عسكرهم و الخيل لا تطأ إلا على القتلى فأصبح الناس و قد فقد من أهل العراق ثلاثة و سبعون رجلا و قتل من أهل الشام سبعون ألفا
( فيتعشوا منهم بسبعين ألفا ... أو يزيدون قبل وقت العشاء )
فلما أصبح وجد الأمير الفرس رده عليه رجل كان أخذه و لما علم أن الذي قتل هو عبيد الله بن زياد كبر و خر ساجدا و قال : الحمد لله الذي أجرى قتله على يدي فبعث به إلى المختار زيادة على سبعين ألف رأس في أولها أشد رؤوس أهل الفساد عبيد الله المنسوب إلى زياد
قال المؤلف رحمه الله : فقلت هذا من كتاب مرج البحرين في مزايد المشرقين و المغربين للحافظ أبي الخطاب بن دحية رضي الله عنه
فصل
و مثل صنيع عبيد الله بن زياد صنع قبله بشر بن أرطأة العامري الذي هتك الإسلام و سفك الدم الحرام و أذاق الناس الموت الزؤام لم يدع لرسول الله صلى الله عليه و سلم الذمام فقتل أهل بيته الكرام و حكم في مفارقهم الحسام و عجل لهم الحمام ذبح ابني عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب و هما صغيران بين يدي أمهما يمرحان و هما قثم و عبد الرحمن فوسوست أمهما و أصابها ضرب من الجان لم أشعله الثكل في قلبها من لهب النيران
روى أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه في حديث فيه طول : كان أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله يتعوذ من شر يوم البلاء و يوم العورة في صلاة صلاها أطال قيامها و ركوعها و سجودها قال : فسألناه مم تعوذت و فيم دعوت ؟ فقال : تعوذت من يوم البلاء و يوم العورة فإن نساء من المسلمات ليسبين ليكشف عن سوقهن فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها فدعوت الله عز و جل أن لا يدركني هذا الزمان و لعلكما تدركانه
و ذكر أبو عمر بن عبد البر قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن أنبأنا أبو محمد إسماعيل بن محمد الحبطلي ببغداد في تاريخه الكبير حدثنا محمد بن مؤمن بن حماد قال : حدثنا سلمان بن شيخ قال : حدثنا محمد بن عبد الحكم عن عوانة قال : أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بشر بن أرطأة في جيش فساروا من الشام حتى قدموا المدينة و عامل المدينة يومئذ لعلي عليه السلام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ففر أبو أيوب و لحق بعلي رضي الله عنهما و دخل بشر المدينة فصعد منبرها فقال : أين شيخي الذي عهدته هنا بالأمس يعني عثمان بن عفان ثم قال يا أهل المدينة : و الله لولا ما عهدته إلى معاوية ما تركت فيها محتلما إلا قتلته ثم أمر أهل المدينة بالبيعة لمعاوية و أرسل إلى بني سلمة فقال ما لكم عند أمان و لا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله فأخبر جابر فانطلق حتى جاء الشام فأتى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه و سلم فقال لها : ماذا ترين فإني خشيت أن أقتل و هذه بيعة ضلالة فقالت : أرى أن تبايع و قد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع فأتى جابر بشرا فبايعه لمعاوية و هدم بشر دورا بالمدينة ثم انطلق حتى أتى مكة و بها أبو موسى الأشعري فخاف أبو موسى على نفسه أن يقتله فهرب فقيل ذلك لبشر فقال : ما كنت لأقتله و قد خلع عليا و لم يطلبه و كتب أبو موسى إلى اليمن أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل من الناس من أبى أن يقر بالحكومة ثم مضى بشر إلى اليمن و عامل اليمن لعلي رضي الله عنه عبيد الله بن العباس فلما بلغه أمر بشر فر إلى الكوفة و استخلف على المدينة عبيد الله بن عبد مدان الحارثي فأتى بشر فقتله و قتل ابنه و لقي ثقل عبيد الله بن العباس و فيه ابنان صغيران لعبيد الله بن عباس فقتلهما و رجع إلى الشام
و ذكر أبو عمرو الشيباني قال : لما وجه معاوية بشر بن أرطاة لقتل شيعة علي رضي الله عنه سار إلى أن أتى المدينة فقتل ابني عبيد الله بن العباس و فر أهل المدينة حتى دخلوا الحرة حرة بني سليم و هذه الخرجة التي ذكر أبو عمرو الشيباني أغار بشر على همدان فقتل و سبى نساءهم فكن أول نساء سبين في الإسلام و قتل أحياء من بني سعد و قد اختلفوا كما ترى في أي موضع قتل الصغيرين من أهل البيت هل في المدينة أو في مكة أو في اليمن لأنه دخل هذه البلاد و أكثر فيها الفساد و أظهر لعلي رضي الله عنه العناد و أفرط في بعضه و زاد و سلط على أهل البيت الكريم الأجناد فقتل و سبى و أباد و لم يبق إلا أن يخد الأخاديد و يعد الأوتاد و كان معاوية قد بعثه في سنة أربعين إلى اليمن و عليها عبيد الله ابن العباس أخو عبد الله بن العباس ففر عبيد الله و أقام بشر باليمن و باع دينه ببخس من الثمن فأخاف السبيل و رعى المرعى الوبيل و باع المسلمات و هتك المحرمات فبعث علي رضي الله عنه في طلبة حارثة بن قدامة السعدي فهرب بشر إلى الشام و قد ألبس بذميم أفعاله ثياب العار و الذمام و بقي الوقوف بين يدي الملك العلام { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام } و رجع الشريف أبو عبد الله محمد إلى بلاد اليمن فلم يزل واليا عليهم حتى قتل علي رضي الله عنه و يقال : إن بشر بن أطأرة لم يسمع من النبي صلى الله عليه و سلم حرفا لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قبض و هو صغير فلا تصح له صحبة قاله الإمام أحمد بن حنبل و يحيى بن معين و غيرهما و قال آخرون : خوف في آخر عمره قال يحيى بن معين : و كان الرجل سوء قال المؤلف رحمه الله : كذا ذكره الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه الله
و قد ذكر أبو داود [ عن جنادة عن ابن أبي أمية قال : كنا مع بشر بن أطأرة في البحر فأتى بشارق يقال له منصور و قد سرق بختية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تقطع الأيدي في الغزو و لولا ذلك لقطعته ]
قال أبو محمد عبد الحق : بشر هذا يقال ولد في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانت له أخبار سوء في جانب علي و أصحابه و هو الذي ذبح طفلين لعبيد الله بن العباس ففقدت أمهما عقلها و هامت على وجهها فدعا عليه علي رضي الله عنه أن يطيل الله عمره و يذهب عقله كان كذلك قال ابن دحية : و لما ذبح الصغيرين و فقدت أمهما عقلهما كانت تقف في الموسم تشعر شعرا يبكي العيون و يهيج بلابل الأحزان و العيون و هو هذا :
( هامن أحس بإبني اللذين هما ... كالدرتين تسطا عنهما الصدف )
يقال تسطعت العصاة إذا صارت فلقا قاله في المجمل و غيره
( هامس أحس بإنبي اللذين هما ... سمعي و عقلي فقلبي اليوم مختطف )
( حدثت بشرا و ما صدقت ما زعموا من قولهم و من الإفك الذي اقترف )
( أحنى على و دجي إبني مرهف ... مشحوذة وكذاك الإثم يقترف )
باب ما جاء أن اللسان في الفتنة أشد من وقع السيف
أبو داود [ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ستكون تستطف قتلاها في النار اللسان فيها أشد من وقع السيف ] خرجه الترمذي و قال في حديث غريب و سمعت محمد بن إسماعيل يقول : لا يعرف لزياد بن سمين كوشى عن عبد الله بن عمر غير هذا الحديث الواحد
و روي موقوفا و ذكره أبو داود [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له اللسان فيها كوقوع السيف ] أخرجه ابن ماجه أيضا [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إياكم و الفتن فإن اللسان فيها مثل وقع السيف ]
فصل
قلت : قوله [ تستنطف ] أي ترمي مأخوذ من نطف الماء أي قطر و النطفة الماء الصافي قل أو كثر و الجمع النطاف أي أن هذه الفتنة تقطر قتلاها في النار أي ترميهم فيها لأقتتالهم على الدنيا و اتباع الشيطان و الهوى و قتلاها بدل من قوله العرب هذا المعنى الذي ظهر لي في هذا و لم أقف فيه على شيء لغيري و الله أعلم قوله : [ اللسان فيها أشد من وقع السيف ] أي بالكذب عند أئمة الجور و نقل الأخبار إليهم فربما ينشأ عن ذلك من النهب و القتل و الجلد و المفاسد العظيمة أكثر مما ينشأ من وقوع الفتنة نفسها
و في الصحيحين [ عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن العبد ليتكلم بالكلمة ينزل بها في النار بعد ما بين المشرق و المغرب ] و في رواية عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي في النار أبعد ما بين المشرق و المغرب ] لفظ مسلم
و قد روي [ أن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقى لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا ] فقوله : من سخط الله أي مما يسخط الله و ذلك بأن يكون كذبة أو بهتانا أو بخسا أو باطلا يضحك به الناس كما جاء [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ويل للذي تكلم بالكلمة من الكذب ليضحك الناس ويل له و ويل له ]
و في حديث ابن مسعود [ إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الرفاهية من سخط الله ترديه بعد ما بين السماء و الأرض ] قال أبو زياد الكلابي : الرفاهية السعة في المعاش و الخصب و هذا أصل الرفاهية فأراد عبد الله بن أن يتكلم بالكلمة في تلك الرفاهية و الأتراف في دنياه مستهينا بها لما هو فيه من النعمة فيسخط الله عز و جل عليه قال أبو عبيدة و في الرفاهية لغة أخرى الرفاعية و ليس في هذا الحديث يقال : هو في رفاهية و رفاعية من العيش و قوله : صماء بكاء عمياء يريد أن هذه الفتنة لا تسمع و لا تبصر فلا تقلع و لا ترتفع لأنها لا حواس لها فترعوى إلى الحق و أنه شبهها لاختلاطها و فتل البريء فيها و السقيم بالأعمى الأصم الأخرس الذي لا يهتدي إلى شيء فهو يخبط عشواء و البكم الخرس في أصل الخلقة و الصم الطرش
باب الأمر بالصبر عند الفتن و تسليم النفس للقتل عندها و السعيد من جنبها
أبو داود [ عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا أبا ذر قلت : لبيك رسول الله و سعديك و ذكر الحديث قال : كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت بالوصيف يعني القبر قلت الله و رسوله أعلم أو قال ما خار الله لي و رسوله قال عليك بالصبر أو قال تصبر ثم قال يا أبا ذر قلت لبيك و سعديك ؟ قال : كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت أحجار قد غرقت بالدم قلت : ما خار الله لي و رسوله قال عليك بمن أنت منه قال : قلت يا رسول الله أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي ؟ قال : شاركت القوم إذا قال : قلت : فما تأمرني ؟ قال تلزم بيتك قال قلت فإن دخل على بيتي ؟ قال : فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك بيوء بإثمه و إثمك خرجه ابن ماجه و قال تصبر من غير شك و زاد بعده قال : كيف أنت وجوع يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن ترجع إلى فراشك أو لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك
قال : قلت الله و رسوله أعلم ما خار الله لي و رسوزله قال : عليك بالعفة ثم قال : كيف أنت و قتل يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت بالدم الحديث
و قال : فألق طرف ردائك على وجهك فيبوء بإثمه و إثمك فيكون من أصحاب النار ]
و في حديث عبد الله بن مسعود حين ذكر الفتنة قال : الزم بيتك قيل : فإن دخل على بيتي ؟ قال : فكن مثل الجمل الأورق الثقال الذي لا ينبعث إلا كرها و لا يمشي إلا كرها ذكره أبو عبيدة قال : حدثنيه أبو النضر عن المسعودي عن علي بن مدرك عن أبي الرواع عن عبد الله قال أبو عبيدة سمعت بعض الرواة يقول : الرواع و الوجه الرواع بضم الراء
أبو داود قال [ عن المقداد بن الأسود قال : وايم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن السعيد لمن جنب الفتن و لمن ابتلى فصبر فواها ]
الترمذي [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه : كالقابض على الجمر ] قال : حديث غريب
فصل
قوله بالوصيف الوصيف الخادم يريد أن الناس يشتغلون عن دفن موتاهم حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبر الميت و يدفنه إلا أن يعطى وصيفا أو قيمته و قد يكون معناه أن مواضع القبور تضيق عليهم فيبتاعون لموتاهم القبور كل قبر بوصيف و قوله : غرقت بالدم أي لزمت و الغروق اللزوم فيه و يروى غرقت و أحجار الزيت موضع المدينة
روى الترمذي [ عن عمير مولى بن أبي اللحم عن أبي اللحم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستسقي و هو مقنع بكفيه يدعو ]
و ذكر عمر بن أبي شيبة في كتاب المدينة على ساكنها الصلاة و السلام قال : حدثنا محمد بن يحيى عن ابن أبي فديك قال : أدركت أحجار الزيت ثلاثة أحجار مواجهة بيت أم كلاب و هو اليوم يعرف ببيت بني أسد فعلا الكنيس الحجارة فاندفنت قال : و حدثنا محمد بن يحيى قال : و حدثنا محمد يحيى قال أخبرني أبو ضمرة الليثي عن عنان عن ابن الحارث بن عبيد عن هلال بن طلحة الفهري أن حبيب بن سلمة الفهري كتب إليه أن كعبا سألنسي أن أكتب له إلى رجل من قومي عالم بالأرض قال : فلما قدم كعب المدينة جاءني بكتابه ذلك فقال : أعالم أنت بالأرض ؟ قلت : نعم و كانت بالزوراء حجارة يضعون عليها الزياتون رواياهم فأقبلت حتى جئتها فقلت هذه أحجار الزيت فقال كعب لا و الله ما هذه صفتها في كتاب الله انطلق أمامي فإنك أهدى بالطريق مني فانطلقنا حتى جئنا بني عبد الأشهل فقال يا أبا هلال : إني أجد أحجار الزيت في كتاب الله تعالى فسأل القوم عنها و هم يومئذ متوافرون فسألهم عن أحجار الزيت و قال إنها ستكون بالمدبنة ملحمة عندها
فصل
و أما حديث ابن مسعود : كن مثل الجمل الأورق فقال الأصمعي الأورق و هو الذي في لونه بياض إلى سواد و منه قيل للرماد أورق و الحمامة ورقاء ذكره الأصمعي قال : و هو أطيب الإبل لحما و ليس بمحمود عند العرب في عمله و سيره و أما الثقال فهو البطيء قال عبيد : إنما خص عبد الله الأورق من الإبل لما ذكر من ضعفه عن العمل ثم اشترط الثقاتل أيضا فزاده إبطاء و ثقلا فقال : كن في الفتنة مثل ذلك و هذا إذا دخل عليك و إنما أراد عبد الله بهذا التبثط عن الفتنة و الحركة فيها
فصل
و أما أمره صلى الله عليه و سلم أبا ذر بلزوم البيت و تسليم النفس للقتل فقالت طائفة : ذلك عند جميع الفتن و غير جائز لمسلم النهوض في شيء منها قالوا : و عليه أن يستسلم للقتل إذا أريدت نفسه و لا يدفع عنها و حملوا الأحاديث على ظاهرها و ربما احتجوا من جهة النظر بأن قالوا : إن كل فريق من المقتتلين في الفتنة فإنه يقاتل على تأويل و إن كان في الحقيقة خطأ فهو عند نفسه محق و غير جائز لأحد قتله و سبيله سبيل حاكم من المسلمين يقضي بقضاء مما اختلف فيه العلماء على ما يراه صوابا فغير جائز لغيره من الحكام نقضه إذا لم يخالف بقضائه ذلك كتابا و لا سنة و لا جماعة و كذلك المقتتلون في الفتنة كل حزب منهم عند نفسه محق دون غيره مما يدعون من التأويل فغير جائز لأحد قتالهم و إن هم قصدوا القتلى فغير جائز دفعهم و قد ذكرنا من تخلف عن الفتنة و قعدوا منهم عمران بن الحصين و ابن عمر و قد روي عنهما و عن غيرهما منهم عبيدة السلماني أن من اعتزل الفريقين فدخل بيته فأتى يريد نفسه فعليه دفعه عن نفسه و إن أبى الدفع عن نفسه فغير مصيب كقوله عليه الصلاة و السلام [ من أريدت نفسه و ماله فقتل فهو شهيد ] قالوا فالواجب على كل من أريدت نفسه و ماله فقتل ظلما دفع ذلك ما وجد إليه السبيل متأولا كان المريد أو معتمدا للظلم
قلت : هذا هو الصحيح من القولين إن شاء الله تعالى و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي قال : فلا تعطه مالك قال : أرأيت إن قاتلني قال : قاتله قال : أرأيت إن قتلني قال : فأنت شهيد قال : أرأيت إن قتلته قال : هو في النار ]
و قال ابن المنذر : ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من قتل دون ماله فهو شهيد ] و قد روينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص و دفعهم عن أنفسهم و أموالهم و هذا مذهب ابن عمر و الحسن البصري و قتادة و مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق و النعمان و قال أبو بكر : و بهذا يقول عوام أهل العلم أن للرجل أن يقاتل عن نفسه و ماله إذا أريد ظلما للأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يخص وقتا من وقت و لا حالا دون إلا السلطان فإن جماعة من أهل العلم كالمجتمعين على أن من لم يمكنه أن يمنع نفسه و ماله إلا بالخروج على السلطان و محاربته أنه لايحاربه و لا يخرج عليه للأخبار الواردة الدالة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصبر على ما يكون منهم من الجور و الظلم و قد تقدم ذلك في بابه و الحمد لله
باب ـ جعل الله في أول هذه الأمة عافيتها و في آخرها بلاءها
مسلم [ عن عبد الله بن عمر قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه و منا من يتنضل و منا من هو في جشره إذ نادى منادي يا رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم و إن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها و سيصيب آخرها بلاء و أمور تنكرونها و تجيء فتنة فيدفق بعضها بعضا و تجي الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ثم تنكشف و تجيء الفتنة فيقول هذه منه فمن أراد أن يزحزح عن النار و يدخل الجنة فلتأته و هو يؤمن بالله و اليوم الآخر و ليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه و من بايع إماما فأعطاه صفقة يده و ثمرة قلبه فليعطه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر قال ابن عبد الرحمن عبد رب الكعبة : فدنوت منه فقلت له : ناشدتك الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم فأهوى إلى أذنيه و قلبه بيديه و قال : سمعته أذناي و وعاه قلبي فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل و نقتل أنفسنا و الله عز و جل يقول : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فسكت ساعة ثم قال : أطعه في طاعة الله و اعصه في معصية الله ]
فصل
قوله : ينتضل الانتضال الرمي بالسهام و الجشر المال من المواشي التي ترعى أمام البيوت و الديار يقال : مال جشر يرعى في مكانه لأنه يرجع إلى أهله يقال : جشرنا دوابنا أي أخرجناها إلى المرعى و أصله البعد و منه يقال للأعزب : جشر و جشير لبعده عن النساء و في الحديث : [ من ترك قراءة القرآن شهرين فقد جشره ] أي بعد عنه و قوله : [ يدفق بعضها بعضا ] أي يتلو بعضها بعضا و ينصب بعضها على بعض و التدفق التصبب و هذا المعنى مبين في نفس الحديث لقوله و تجيء الفتنة ثم تنكشف و تجيء الفتنة و تزحزح أي تبعد و منه قوله تعالى { و ما هو بمزحزحه من العذاب } أي بمبعده و صفقة اليد أصلها ضرب الكف على الكف زيادة في الاستيثاق مع النطق باللسان و الالتزام بالقلب و في التنزيل { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } الآية و قوله : فاضربوا عنق الآخر قيل : المراد عنه و خلعه و ذلك قتله و موته و قيل : قطع رأسه و إذهاب نفسه يدل عليه قوله في الحديث الآخر : فاضربوه بالسيف كائنا ما كان و هو ظاهر الحديث هذا إذا كان الأول عدلا و الله أعلم
باب جواز الدعاء بالموت عند الفتن و ما جاء أن بطن الأرض خير من ظهرها
مالك [ عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يدعو فيقول : اللهم إني أسألك فعل الخيرات و ترك المنكرات و حب المساكين و إذا أردت الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ] و قد تقدم هذا في أول الكتاب قال ابن وهب : و حدثني مالك قال : كان أبو هريرة يلقى الرجل فيقول له : مت إن استطعت فيقول له لم ؟ قال تموت و أنت تدري على ما تموت خير لك من أن تموت و أنت لا تدري على ما تموت عليه قال مالك : و لا أرى عمر دعا ما دعا به من الشهادة إلا خالف التحول من الفتن
قلت : و قد جاء هذا المعنى مرفوعا عن أبي هريرة روى النضر بن شميل [ عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ويل للعرب من شر قد اقترب موتوا إن استطعتم ] و هذا غاية في التحذير من الفتن و الخوض فيها حين جعل الموت خيرا من مباشرتها
و روى الترمذي [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان أمراؤكم خياركم و أغيناؤكم سمحاءكم و أموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها و إذا كان أمراؤكم شراركم و أغنياؤكم بخلاءكم و أموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ] قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث صالح المري في حديثه غرائب لا يتابع عليها و هو رجل صالح
البخاري [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه ] أخرجه مسلم و ابن ماجه بمعناه و زاد مثنى و ليس به الدين إلا البلاء
و روى شعبة عن سلمة بن كهيل سمعت أبا الزعاء يحدث عن عبد الله قال : [ ليأتين على الناس زمان يأتي الرجل القبر فيقول يا ليتني مكان هذا ليس به حب الله و لكن من شدة ما يرى من البلاء ]
قلت : و كان هذا إشارة إلى أن كثرة الفتن و شدة المحن و المشقات و الأنكاد اللاحقة للإنسان في نفسه و ماله و ولده قد أذهبت الدين منه و من أكثر الناس أو قلة الاعتناء به من الذي يتمسك بالدين عند هجوم الفتن و كذلك عظم قدر العبادة في حالة الفتن حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم [ العبادة في الهرج كهجرة إلي ] و قد مضى الكلام في هذا المعنى في أول الكتاب و نزيده وضوحا إنه شاء الله تعالى و الله أعلم
باب أسباب الفتن و المحن و البلاء
أبو نعيم [ عن إدريس الخولاني عن عبيدة بن الجراح عن عمر بن الخطاب قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بلحيتي و أنا أعرف الحزن في وجهه فقال : إنا لله و إنا إليه راجعون أتاني جبريل آنفا فقال : إنا لله و إنا إليه راجعون فقلت إنا لله و إنا إليه راجعون فمم ذلك يا جبريل ؟ فقال : إن أمتك مفتتنة بعدك من دهر غير كثير فقلت : فتنة كفر أو فتنة ضلال ؟ فقال : كل سيكون فقلت و من أين و أنا تارك فيهم كتاب الله ؟ قال فبكتاب الله يفتنون و ذلك من قبل أمرائهم و قرائهم يمنع الأمراء الناس الحقوق فيظلمون حقوقهم و لا يعطونها فيقتتلوا و يفتتنوا و يتبع القراء أهواء الأمراء الناس الحقوق فيظلمون حوققهم و لا يعطونها فيقتتلوا و يفتتنوا و يتبع القراء أهواء الأمراء فيمدونهم في الغي ثم لا يقصرون قلت : كيف يسلم من يسلم منهم ؟ قال : بالكف و الصبر إن أعطوا الذي لهم أخذوه و إن منعوا تركوه ]
البزار [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لم تظهر الفاحشة في قوم فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم و لا نقضوا المكيال و الميزان إلا أخذوا بالسنين و شدة المؤنة و جوار السلطان و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء و لولا البهائم لم يمطروا و لم ينقضوا عهد الله و لا عهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم فأخذ بعض ما كان في أيديهم و إذا لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ] أخرجه ابن ماجه أيضا في سننه
و ذكره أبو عمر بن عبد البر و أبو بكر الخطيب من حديث [ سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم بن يزيد قال : حدثنا مالك عن عمه أبي سهيل عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم : أي المؤمنين أفضل ؟ قال : أحسنهم خلقا قال : فأي المؤمنين أكيس ؟ قال : أكثرهم للموت ذكرا و أحسنهم له استعدادا أولئك الأكياس ثم قال يا معشر المهاجرين : لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ] و ذكر الحديث
و قال عطاء الخراساني : إذا كان خمس كان خمس : إذا أكل الربا كان الخسف و الزلزلة و إذا جار الحكام قحط المطر و إذا ظهر الزنا كثر الموت و إذا منعت الزكاة هلكت الماشية و إذا تعدى على أهل الذمة كانت الدولة ذكره أبو نعيم
الترمذي [ عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مشت أمتي المطيطا و خدمها أبناء الملوك فارس و الروم سلط شرارها على خيارها ] قال : هذا حديث غريب
ابن ماجه [ عن قيس بن أبي حازم قال : قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } و إنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه ] أخرجه أبو داود في سننه و الترمذي في جامعه
مسلم [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا فتحت عليكم فارس و الروم أي قوم أنتم ؟ قال عبد الرحمن بن عوف : نكون كما أمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو غير ذلك تنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون أو نحو ذلك ثم تنطلقون في مساكن المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض ]
و أخرج أيضا [ عن عمرو بن عوف و هو حليف بني عامر بن لؤي و كان شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبو عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد صالح أهل البحرين و أمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رآهم ثم قال : أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين قالوا أجل يا رسول الله قال : فأبشروا و أملوا ما بسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم و لكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم كما بسطت على من كان من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ]
و في رواية : [ فتلهيكم كما ألهتكم بدل فتهلككم ]
و أخرج ابن ماجه [ عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما أدع بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ] أخرجه البخاري و مسلم أيضا
و أخرج ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من صباح إلا و ملكان يناديان ويل للرجال من النساء و ويل للنساء من الرجال ]
و أخرج أيضا [ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام خطيبا و كان فيما قال : إن الدنيا خضرة حلوة و إن الله مستخفلكم فيها فناظر كيف تعملون ألا فاتقوا الله و اتقوا النساء ] خرجه مسلم أيضا و قال : بدل قوله فاتقوا الله فاتقوا النار و اتقوا النساء و زاد [ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ]
الترمذي [ عن كعب بن عياض قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن لكل أمة فتنة و فتنة أمتي المال ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب
و [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من سكن البادية جفا و من اتبع الصيد غفل و من أتى أبواب السلطان افتتن ] قال : و في الباب عن أبي هريرة
و هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري
فصل
حذر الله سبحانه و تعالى عباده فتنة المال و النساء في كتابه و على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم فقال عز من قائل { يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم و أولادكم عدوا لكم فاحذروهم } و قال تعالى : { إنما أموالكم و أولادكم فتنة } ثم قال سبحانه و تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم } فنبه الله على ما يعتصم به من فتنة حب المال و الولد في آي ذكر الله فيها فتنة و ما كان عاصما من فتنة المال و الولد فهو عاصم من كل الفتن و الأهواء و قال تعالى { زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث } ثم قال تعالى : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات } فوصف تعالى ما للمتقين عند ربهم ثم وصف أحوالهم بنعتهم إلى قوله { و المستغفرين بالأسحار } و هذا تنبيه لهم على تزهيدهم فيما زين لهم و ترغيبهم فيما هو خير منه و مثل هذا في القرآن كثير
و المطيطاء : بضم الميم و المد : المشي بتبختر و هي مشية المتكبرين المفتخرين و هو مأخوذ من مط يمط إذا مد قال الجوهري : و المطيطاء بضم الميم ممدودا التبختر و مد اليدين في المشي و في الحديث [ إذا مشت أمتي المطيطياء و خدمتهم فارس و الروم كان بأسهم بينهم ] و قوله : ثم ينطلقون في مساكن المهاجرين قيل في الكلام حذف أي في مساكين المهاجرين و المعنى أنه إذا وقع التنافس و التحاسد و التباغض حملهم ذلك على أن يأخذ القوي على ما أفاء الله المساكين الذي لا يقدر على مدافعته فيمنعه عنه ظلما و قهرا بمقتضى التنافس و التحاسد
و قيل : ليس في الكلام حذف و أن المعنى المراد أن مساكين المهاجرين و ضعفاءهم سيفتح عليهم إذ ذاك من الدنيا حتى يكونوا أمراء بعضهم على رقاب بعض و هذا اختيار القاضي عياض و الأول اختيار شيخنا أبي العباس القرطبي قال : و هو الذي يشهد له مساق الحديث و معناه و ذلك أنه عليه الصلاة و السلام أخبرهم أنه يتغير بهم الحال و أنهم عنهم أو عن بعضهم أحوال غير مرضية تخالف أحوالهم التي كانوا عليها من التنافس و التباغض و انطلاقهم في مساكين المهاجرين فلا بد أن يكون هذا الوصف غير مرضى كالأوصاف التي قبله و أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة توجيها و حينئذ يلتئم الكلام أوله و أخره و الله أعلم و يعضده رواية السمرقندي فيحملون بعضهم على رقاب بعض أي بالقهر و الغلبة
باب منه و ما جاء أن الطاعة سبب الرحمة و العافية
ذكر أبو نعيم الحافظ قال : [ حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا المقدام بن داود حدثنا علي بن معبد الرقي حدثنا وهب بن راشد حدثنا مالك بن دينار عن خلاس بن عمرو عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله عز و جل يقول : أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك و ملك الملوك قلوب الملوك بيدي و أن العباد إذا أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة و الرحمة و إن العباد إذا عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط و النقمة فساموهم سوء العذاب فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك و لكن اشغلوا أنفسكم بالذكر و التضرع إلي أكفكم ملوككم ] غريب من حديث مالك مرفوعا تفرد به علي بن معبد عن وهب ابن راشد
أبواب الملاحم ـ باب أمارات الملاحم
أبو داود [ عن معاذ بن جبل : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عمران بيت المقدس خراب يثرب و خراب يثرب خروج الملحمة فتح القسطنطنية و فتح القسطنطنية خروج الدجال ]
البخاري [ عن عوف بن مالك قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك و هو في قبة من آدم فقال : أعدد ستا بين يدي الساعة موتى ثم فتح بيت المقدس ثم موتان يأخذ فيكم كقفاص الغنم ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلتاه ثم هدنة تكون بينكم و بين بني الأصفر فيعذرون فيأتونكم تحت ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألفا ]
و خرجه أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير بمعناه و زاد بعد قوله إثنا عشر ألفا [ فسطاط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها الغوطة في مدينة يقال لها دمشق ] ذكره بإسناده أبو الخطاب بن دحية في كتاب مرج البحرين في فوائد المشرقين و المغربين
و قال : عوف بن مالك الأشجعي : شهد موت النبي و حضر فتح بيت المقدس
مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فتحه صلحا لخمس خلون من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة ثم حضر قسمة كنوز كسرى على يد أمير المؤمنين عمر ثم شاهد قتال الجمل و صفين و شاهد عوف رضي الله عنه أيضا الموتان الذي كان بالشام قبل ذلك و هو المسمى بطاعون عمواس مات يومئذ ستة و عشرون ألفا و قال المديني خمسة و عشرين ألفا و عمواس : بفتح العين و الميم لأنه [ عم و أسى ] أي جعل بعض الناس أسوة بعض و عمواس قرية بين الرملة و بيت المقدس مات فيه أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح و الأمير الفقيه أبو عبد الرحمن معاذ بن جبل قال الإمام أحمد بن حنبل في تاريخه كان الطاعون عمواس سنة ثمانية عشر رواه عن أحمد أبو زرعة الرازي قال : كان الطاعون سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة و في سنة سبع عشرة رجع عمر من سرغ و موتان بضم الميم هي لغة و غيرهم يفتحونها و هم اسم الطاعون و الموت
و قوله : كقفاص الغنم هو داء يأخذها لا يلبثها قاله أبو عبيدة لأن القفاص الموت العجل و يقال بالسين و قيل هو داء يأخذ في الصدر كأنه يكسر العنق و قد انقضت هذه الخمس و عاش عوف بن مالك إلى زمن عبد الله بن مروان سنة ثلاث و سبعين من الهجرة و قد أربى بصفين على المائة و قال الواقدي : مات عوف بن مالك بالشام سنة ثلاث و تسعين فإن صح ما قال فقد مات في أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان إن لم يكن تصحيفا منه و الله أعلم
باب ما ذكر في ملاحم الروم و تواترها و تداعي الأمم على أهل الإسلام
ابن ماجه [ عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكون بينكم و بين بني الأصفر هدنة فيغدرون بكم فيسيرون إليكم في ثمانين راية تحت كل راية اثنا عشر ألفا ]
و [ عن ذي مخمر و كان رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول ستصالحكم الروم صلحا آمنا ثم تغزون أنتم و هم عدوا فتنصرون و تغنمون و تقتسمون و تسلمون ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول فيرفع رجل من أهل الصليب صليبه فيقول غلب الصليب فيغضب رجل من المسلمين فيقوم إليه فيدفعه فعند ذلك تغدر الروم و يجمعون الملحمة فيأتون تحت ثمانين راية اثنا عشر ألفا ]
و أخرجه أبو داود و زاد [ و يثور المسلمون إلى أسلحتهم فيقتتلون فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة ]
و أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده و إسناده صحيح ثابت و ذو مخمر بالميم لا غير و هو ابن أخي النجاشي قاله الأوزاعي و قد عده أبو عمر في موالي رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله ابن دحية
و خرجا جميعا عن ابن ماجه و أبو داود [ عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الملحمة الكبرى و فتح قسطنطنية و خروج الدجال في سبعة أشهر ] و خرجه الترمذي و قال : حديث حسن صحيح
[ و عن عبد الله بن بشر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الملحمة و فتح المدينة ست سنين و يخرج الدجال في السابعة ] خرجه ابن ماجه و أبو داود و قال أبو داود : هذا صحيح من حديث عيسى
قلت : يريد حديث معاذ المذكور قبله
مسلم عن بشير بن جابر قال : هاجت ريح حمراء بالكوفة فجاء رجل ليس له هجيرا ألا يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة قال : فقعد و كان متكئا فقال : إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث و لا يفرح بغنيمة ثم قال بيده هكذا و نحاها نحو الشام فقال : عدو يجمعون لأهل الأسلام و تجمع لهم أهل الإسلام قلت : الروم تعني ؟ قال : نعم و يكون عند ذلك القتال ردة شديدة فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يحجر بينهم الليل فيبقى هؤلاء و هؤلاء كل غير غالب و تفنى الشرطة ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يمسوا فيبقى هؤلاء و هؤلاء كل غير غالب و تفنى الشرطة ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة فيقتتلون حتى يمسوا فيبقى هؤلاء و هؤلاء كل غير غالب و تفنى الشرطة و إذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية الإسلام فيجعل الله الدائرة عليهم فيقتتلون مقتلة إما قال لم ير مثلها و إما قال لا يرى مثلها حتى إن الطائر ليمر بجثمانهم فما يخلفهم حتى يخر ميتا فيتعادى بنو الأب كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد فبأي غنيمة يفرح و بأي ميراث يقسم فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك فجاءهم الصريخ فقال : إن الدجال قد خرج في ذراريهم فيرفضون ما بأيديهم و يقبلون فيبعثون عشر فوارس طليعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني لأعرف أسماءهم و أسماء آبائهم و ألوان خيولهم هم خير فوارس على ظهر الأرض أو من خير فوارس يومئذ
أبو داود [ عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل من القوم : من قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم كثير و لكنكم غثاء كغثاء السيل و لينزعن الله من صدور عدوكم المهاية و ليقذفن في قلوبكم الوهن فقال قائل يا رسول الله و ما الوهن ؟ قال : حب الدنيا و كراهة الموت ]
فصل
قوله : بني الأصفر يعني الروم و في تسميتهم بذلك قولان
أحدهما : أن جيشا من الحبشة غلبوا على ناحيتهم في بعض الدهر فوطئوا نساءهم فولدن أولادا صفرا قاله ابن الأنباري
الثاني : أنهم نسبوا إلى الأصفر ابن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام قاله ابن إسحاق و هذا أشبه من القول الأول و الهدنة : الصلح و الغاية الراية كما جاء مفسرا في الحديث بعده سميت بذلك لأنها تشبه السحابة لمسيرها في الجو و الغاية و الصابة السحابة و قد رواها بعض رواة البخاري تحت ثمانين غابة بباء مفردة النقطة و هي الأجمة شبه اجتماع رماحهم و كثرتها بالأجمة التي هي الغابة و الصحيح الأول لأنها تظل الأجناد لكثرة راياتهم و اتصال أويلتهم و علاماتهم كالسحاب الذي يظل الإنسان
و قد صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن تحت كل غاية اثني عشر ألفا فجملة العدو تسعمائة ألف و ستون ألفا ] ذكره الحافظ أبو الخطاب بن دحية و قد روي مرفوعا في حديث فيه طول عن حذيفة : أن الله تعالى يرسل ملك الروم و هو الخامس من الهرقل يقال له ضمارة و هو صاحب الملاحم فيرغب إلى المهدي في الصلح و ذلك لظهور المسلمين على المشركين فيصالحه إلى سبعة أعوام فيضع عليهم الجزية عن يد و هم صاغرون فلا تبقى لرومي حرمة و يكسرون لهم الصليب ثم يرجع المسلمون إلى دمشق فبينما الناس كذلك إذا برجل من الروم قد التفت فرأى أبناء الروم و بناتهم في القيود و الأغلال فتعير نفسخ فيرفع الصليب و يرفع صوته فيقول : ألا من كان يعبد الصليب فينصره فيقوم رجل من المسلمين فيكسر الصليب و يقول : الله أغلب و أنصر فحينئذ يغدرون و هم أولى بالغدر فيجمعون عند ذلك ملوك الروم في بلادهم خفية فيأتون إلى بلاد المسلمين حيث لا يشعر بهم المسلمون و المسلمون قد أخذوا منهم الأمن و هم على غفلة أنهم مقيمون على الصلح فيأتون أنطاكية في اثني عشر ألف راية تحت كل راية اثنا عشر ألفا فلا يبقى بالجزيرة و لا بالشام و لا بأنطاكية نصراني إلا و يرفع الصليب فعند ذلك يبعث المهدي إلى أهل الشام و الحجاز و اليمن و الكوفة و البصرة و العراق يعرفهم بخروج الروم و جمعهم و يقول لهم أعينوني على جهاد عدو الله و عدوكم فيبعث إليه أهل المشرق أنه قد جاء عدو من خراسان على ساحل الفرات و حل بنا ما شغلنا عنك فيأتي إليه بعض أهل الكوفة و البصرة و يخرج إليه المهدي و يخرج معهم المسلمون إلى لقائهم فيلتقي بهم المهدي و من معه من المسلمين فيأتون إلى دمشق فيدخلون فيها فتأتي الروم إلى دمشق فيكونون عليها أربعين يوما فيفسدون البلاد و يقتلون العباد و يهدمون الديار و يقطعون الأشجار ثم إن الله تعالى ينزل صبره و نصره على المؤمنين فيخرجون إليه فتشتد الحرب بينهم و يستشهد من المسلمين خلق كثير فيا لها من وقعة و مقتلة ما أعظمها و ما أعظم هولها و يرتد من العرب يومئذ أربع قبائل سليم و نهد و غسان و طي فيلحقون بالروم و ينتصرون مما يعاينون من الهول العظيم و الأمر الجسيم ثم إن الله تعالى ينزل النصر و الصبر و الظفر على المسلمين فيقتل من الروم مقتلة عظيمة حتى يخوض الخيل في دمائهم و تشتعل الحرب بينهم حتى إن الحديد يقطع بعضه بعضا و إن الرجل من المسلمين ليطعن العلج بالسفود فينفذه و عليه الدرع من الحديد فيقتل المسلمون من المشركين خلقا كثيرا حتى تخوض الخيل في الدماء و بنصر الله تعالى المسلمين و يغضب على الكافرين و ذلك رحمة من الله تعالى لهم فعصابة من المسلمين يومئذ خير خلق الله و المخلصين من عباد الله ليس فيهم مارد و لا مارق و لا شارد و لا مرتاب و لا منافق ثم إن المسلمين يدخلون إلى بلاد الروم و يكبرون على المدائن و الحصون فتقع أسوارها بقدرة الله فيدخلون المدائن و الحصون و يغنمون الأموال و يسبون النساء و الأطفال و يكون أيام المهدي أربعين سنة عشر سنين في المغرب و اثنتا عشرة سنة بالكوفة و اثنتا عشرة بالمدينة و ستة بمكة و تكون منيته فجأة بينما الناس كذلك إذ تكلم الناس بخروج الدجال اللعين و سيأتي من أخبار المهدي ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى
و قوله : ليس له هجير الدأب و العادة يقال : ما زال ذلك هجيراه و إهجيراه و إجيراه أي دأبه و عادته و هاجت : أي تحركت ريح حمراء أي شديدة احمرت لها الشجر و انكشفت الأرض فظهرت حمرتها و لما رأى ذلك الرجل جاء مجيء الخائف من قرب الساعة و الشرطة هنا بضم الشين أول طائفة من الجيش تقاتل سموا بذلك لعلامة تميزوا بها و الأشراط العلامات و تفنى الشرطة أي تقتل و تفيء ترجع و منه حتى تفيء إلى أمر الله و نهد تقدم و منه سمي النهد نهدا لتقدمه الصدر و الدايرة و يروي و الدائرة و المعنى متقارب قال الأزهري : الدائرة الدولة تدور على الأعداد و الدائرة النصر و الظفر يقال : لمن الدائرة أي لمن الدولة و على من الدائرة ؟ أي الهزيمة قاله أبو عبيد الهروي : و الجنبات جمع جنبة و هي الجانب و يروى بجثمانهم أي بأشخاصهم و قوله : إذ سمعوا بناس بنون و سين هم أكثر بالثاء المثلثة و يروى بباس بباء واحدة أكبر بباء واحدة أيضا و هو الأمر الشديد و هو الصواب لرواية أبي داود و إذ سمعوا بأمر هو أكبر من ذلك و الصريخ الصارخ أي المصوت عند الأمر الهائل و يرفضون أي يرمون و يتركون و الطليعة الذي يتطلع الأمر و يسكتشفه و تداعى الأمم اجتماعها و دعا بعضها بعضا حتى تصير العرب بين الأمم كالقصعة و الأكلة و غثاء السيل ما يقذف به على جانب الوادي من الحشيش و النبات و القماش و كذلك الغثاء بالتشديد و الجمع : الأغثاء و الله أعلم

باب منه و بيان قوله تعالى حتى تضع الحرب أوزارها
[ عن حذيفة قال : فتح لرسول الله صلى الله عليه و سلم فتح فأتيته فقلت : الحمد لله يا رسول الله ألقى الإسلام بجرانه و وضعت الحرب أوزارها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن دون أن تضع الحرب أوزارها خلالا ستا أفلا تسألني عنها يا حذيفة ؟ قلت : بلى يا رسول الله فما أولها ؟ قال : موتى و فتح بيت المقدس ثم فئتان دعواهما واحدة يقتل بعضهم بعضا ثم يفيض المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيسخطها و موت كقفاص الغنم و غلام من بني الأصفر ينبت في اليوم كنبات أشهر و في الشهر كنبات السنة فيرغب قومه فيه فيملكونه و يقولون نرجو أن يرد بك علينا ملكنا فيجمع جمعا عظيما ثم يسير حتى يكون بين العريش و أنطاكية فأميركم يومئذ نعم الأمير فيقول لأصحابه : كيف ترون ؟ فيقولون : نقاتلهم حتى يحكم الله بيننا و بينهم فيقول : لا أرى ذلك و لكن تخلي لهم أرضهم و نسير بذرارينا و عيالنا حتى نحرزهم ثم يغزوهم و قد أحرزنا ذرارينا و عيالاتنا فيسيرون حتى يأتوا مدينتي هذه و يستمد أهل الشام فيمدونه فيقول : لا ينتدب معي إلا من باع نفسه الله حتى يلقاهم فيلقاهم ثم يكسر غمده ثم يقاتل حتى يحكم الله بينهم فينتدبون سبعون ألفا أو يزيدون على ذلك فيقول حسبي سبعون ألفا لا تحملهم الأرض و في القوم عين العدو فيخبرهم بالذي كان فيسير إليهم حتى إذا التقوا سألوه أن يخلي بينهم و بين من كان بينهم نسب فيأتي و يدعو أصحابه فيقول : أتدرون ما يسأل هؤلاء ؟ فيقولون : ما أحد أولى بنصر الله و قتاله منا فيقول : امضوا و اكسروا أغمادكم فيسل الله سيفه عليهم فيقتل منهم الثلثان و يفر في السفن منهم الثلث حتى إذا تراءت لهم جبالهم فبعث الله عليهم ريحا فردتهم إلى مراسيهم إلى الشام فأخذوا و ذبحوا عند أرجل سفنهم عند الشاطئ فيومئذ تضع الحرب أوازارها ] رواه إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن ربيعة بن سفيان بن ماتع المغافري عن مكحول عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا ذكره الفقيه بن برجان في كتاب الإرشاد له و منه نقلته و في إسناده مقال و الله أعلم

باب ما جاء في قتال الترك و صفتهم
البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا و كرمان من الأعاجم حمر الوجوه فطس الأنوف صغار الأعين وجوههم المجان المطرقة نعالهم الشعر ]
و خرج مسلم [ عن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقاتلون بين يدي الساعة قوما نعالهم الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة حمر الوجوه صغار الأعين ذلف الأنوف ] و في رواية [ يلبسون الشعر و يمشون في الشعر ] خرجه البخاري و أبو داود و النسائي و ابن ماجه و الترمذي و غيرهم
و خرجه ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغارا الأعين عراض الوجوه كأن أعينهم حدق الجراد و كأن وجوههم المجان المطرقة ينتعلون الشعور و يتخذون الدرق يربطون خيولهم بالنخيل ]
أبو داود [ عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث يقاتلونكم قوم صغارا الأعين يعني الترك قال تسوقونهم ثلاث مرات حتى تلحقونهم بجزيرة العرب فأما في السياقة الأولى فينجوا منهم من هرب و أما في الثانية فينجو بعضهم و يهلك بعض و أما في الثالثة فيصطلمون ]
فصل
قوله : المجان المطرقة المجان جمع مجن و هو الترس و المطرقة هي التي قد عوليت بطراق و هو الجلد الذي يغشاه شبه وجوههم في عرضها و نتوء وجناتها بالترس و المطرقة قال معناه الخطابي و غيره و قيده القاضي عياض رحمه الله في كتاب مشارق الأنوار له فقال : الصواب فيه المطرقة بفتح الطاء و تشديد الراء
قاله الحافظ أبو الخطاب بن دحية قال لي شيخنا المحدث الكبير اللغوي النحوي أبو إسحاق الحمزي بل الصواب فيه المطرقة بسكون الطاء و فتح الراء أي التي أطرقت بالعقب أي ألبست حتى غلظت و كأنها ترس على ترس و منه طارقت النعل إذا ركبت جلدا على جلد و خرزته عليه
قال المؤلف رحمه الله تعالى : هذا معنى ما نقلناه عن الخطابي و قال أهل اللغة : و في الصحاح و المجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة المخصوفة يقال : أطرقت الجلد و العصب أي ألبسته و ترس مطرق و قولهم : نعالهم الشعر أي يصنعون من الشعر حبالا و يصنعون منها نعالا كما يصنعون منه ثيابا و يشهد بهذا قوله يلبسون الشعر و يمشون في الشعر هذا ظاهره و يحتمل أن يريد بذلك أن شعورهم كثيفة طويلة فهي إذا أسدلوها كاللباس و ذوائبها لوصولها إلى أرجلهم كالنعال و الأول أظهر
قال ابن دحية : إنما كان نعالهم من ضفائر الشعر أو من جلود مشعرة لما في بلادهم من الثلج العظيم الذي لا يكون في بلد كبلادهم و يكون من جلد الذئب و غيره و قوله : يلبسون الشعر فهو إشارة إلى الشرابيش التي يدار عليها بالقندس و القندس كلب الماء و هو من ذوات الشعر كالمعز و ذوات الصوف كالضأن و ذوات الوبر الإبل و قوله : ذلف الأنف أي غلاظها يقال : أنف أذلف إذا كان فيه غلظ و انبطاح و الذلف في اللغة تأخر الأرنبة و قيل تطامن فيها و قيل فطس الأنوف كما في حديث البخاري عن أبي هريرة فالحديث كالقرآن يفسر بعضه بعضا و يروى دلف الأنوف بالدال المهملة و المعجمة أكثر
قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية رضي الله عنه : و خوزا قيدناه في صحيح البخاري و مسلم بالزاي و قيده الجرجاني في خور كورمان بالراء المهملة مضافا إلى كرمان و كذا صوبه الدارقطني بالراء المهملة مع الإضافة و حكاه عن الإمام أحمد بن حنبل و قال : إن غيره صحف فيه و قال غير الدارقطني إذا أضيف فبالراء المهلمة لا غير و إذا عطفته فبالزاي لا غير و يقال : إنهما جنسان
باب في سياقة الترك للمسلمين و سياقة المسلمين لهم
روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده قال : [ حدثنا أبو نعيم حدثنا بشر بن المهاجر قال : حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه و سلم فسمعت النبي يقول : إن أمتي يسوقها قوم عراض الوجوه صغار الأعين كأن وجوههم الحجف ثلاث مرات حتى يحلقوهم بجزيرة العرب أما السياقة الأولى فينجو من هرب منهم و أما السياقة الثانية فيهلك بعض و ينجو بعض و أما السياقة الثالثة فيصطلمون كلهم من بقي منهم قالوا يا نبي الله من هم ؟ قال : هم الترك قال : أما و الذي نفسي بيده ليربطون خيولهم إلى سواري مساجد المسلمين قال : و كان بريدة لا يفارقه بعيران أو ثلاثة و متاع السفر و الأسقية بعد ذلك للهرب مما سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم من البلاء من الترك ]
قال الإمام أبو الخطاب عمر بن دحية و هذا سند صحيح أسنده إمام السنة و الصابر على المحنة أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني عن الإمام العدل المجمع على ثقته أبي نعيم الفضل بن دكين و بشير بن المهاجر و ثقه رأى أنس بن مالك روى عن جماعة من الأئمة فوثقوه
قال المؤلف رحمه الله : و خرج أبو داود قال [ حدثنا جعفر بن مسافر قال : حدثنا خلاد بن يحيى : حدثنا بشير بن مهاجر قال : حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث يقاتلونكم صفار الأعين يعني الترك قال : تسوقونهم ثلاث مرات حتى تلحقونهم بجزيرة العرب فأما في السياقة الأولى فينجو منهم من هرب و أما الثانية فينجو بعض و يهلك بعض و أما في الثالثة فيصطلمون ]
فصل
الاصطلام : الاستئصال و أصله من الصلم و هو القطع اصطملت أذنه إذا استوفيت بالقطع و أنشد الفراء :
( ثمت اصطمت إلى الصماخ فلا قرن و لا أذن )
و الحديث الأول يدل على خروجهم و قتالهم المسملين و قتلهم و قد وقع ذلك على نحو ما أخبر صلى الله عليه و سلم فخرج منهم في هذا الوقت أنهم لا يحميهم إلا الله و لا يردهم عن المسلمين إلا الله حتى كأنهم يأجوج و مأجوج أو مقتدمهم
قال الحافظ السيد بن دحية رضي الله عنه : يخرج في جمادى الأولى سنة سبع عشرة و ستمائة جيش من الترك يقال له الططر عظم في قتله الخطب و الخطر و قضى له من قتل النفوس المؤمنة الوطر و لم تهتد إلى دفعه بالحيل الفطر يقتلون من وراء النهر و ما دونه من جميع البلاد بلاد خراسان و محو رسوم ملك بني ساسان و هذا الجيش ممن يكفر بالرحمن و يرى أن الخالق المصور هما النيران و ملكهم يعرف بخان خاقان و خربوا بيوت مدينة نشاور و أطلقوا فيها النيران و خار عنهم من أهل خوارزم كل إنسان و لم يبق منهم إلا من اختبأ في المغارات و الكهفان حتى و صلوا إليها و قتلوا و سبوا و خبروا البنيان أطلقوا الماء على المدينة من نهر جيحان فغرق فيها مباني الذرا و الأركان ثم صيروا المشهد الرضوي بطوس أرضا بعد أن كانوا و قطعوا ما أمر الله عز و جل به أن يوصل من الدين بأخسر الأديان إلى أن وصلوا بلا قهستان فخربوا مدينة الري و قزوين و أبهر و زنجان و مدينة أردبيل و مدينة مراغي كرسي بلاد أذربيجان و استأصلوا شأفة من في هذه البلاد من العلماء و الأعيان و استباحوا قتل النساء و ذبح الولدان ثم وصلوا إلى العراق الثاني و أعظم مدنه مدينة أصبهان و دور سورها أربعون ألف ذراع في غاية الارتفاع و الإتقان و أهلها مشتلون بعلم الحديث فحفضهم الله بهذا الشأن و كف كف الكفر عنهم بأيمان الإيمان و أنزل عليهم مواد التأييد و الإحسان فتلقوهم بصدور هي في الحقيقة صدور الشجعان و حققوا الخبر بأنها بلد الفرسان و اجتمع فيها مائة ألف إنسان و خرجوا إليهم كأسد و لكن غاباتها عوامل الخرصان و قد لبسوا البيضا كثغور الأقحوان و عليهم دروع فضفاضة في صفاء الغدران و هيئات للمجاهدين درجات الجنان و أعدت للكافرين دركات النيران و برز إلى الططر القتل في مضاجعهم و ساقهم القدر المحتوم إلى مصارعهم فمرقوا عن أصبهان مروق السهم من الرمي و أنشدوا :
( إلى الوادي فطم على القرى )
ففروا منهم فرار الشيطان يوم بدر له خصاص و رأوا أنهم إن وقفوا لم يمكن لهم من الهلاك محاص و واصلوا السير بالسرى و هدوا من همدان الوهاد و الذرى بعد أن قامت الحرب على ساق و الأرواح في مساق من ذبح مثله و ضرب الأعناق و صعدوا جبل أوزند فقتلوا من فيه من جموع صلحاء المسلمين و خربوا ما فيه من الجنات و البساتين و انتهكوا منهم و من نسائهم حرمات الدين و كانت استطالتهم على مقدار ثلثي بلاد المشرق الأعلى و قتلوا فيها من الخلائق ما لا يحصى و قتلوا في العراق الثاني عدة تقرب أن يستقصى و ربطوا خيولهم في سواري المساجد و الجوامع كما جاء في الحديث المنذر لخروجهم الشارح الجامع و أوغلوا في بلاد المشرق أي إيغال و قادوا الجيوش إليها مقادة أبي رغال في كلام له إلى أن قال : و قطع السبل و أخافوها و جاسوا خلال الديار و طافوها و ملأوا قلوب المؤمنين رعبا و سحبوا ذيل الغلبة على تلك البلاد سحبا و حكموا سيوفهم في رقاب أهلها و أطلقوا يد التخريب في وعرها و سهلها و لا شك أنهم هم المنذر بهم في الحديث و أن لهم ثلاث خرجات يصطلمون في الآخرة منها
قال المؤلف رحمه الله : فقد كملت بحمد الله خرجاتهم و لم يبق إلا قتلهم و قتالهم فخرجوا على العراق الأول و الثاني كما ذكرناه و خرجوا في هذا الوقت على العراق الثالث بغداد و ما اتصل بها من البلاد و قتلوا جميع من كان فيها من الملوك و العلماء و الفضلاء و العباد و حصروا ميا فارقين و استباحوا جميع من فيها من الملوك و المسلمين و عبروا الفرات إلى أن وصلوا إلى مدينة حلب فخربوها و قتلوا من فيها إلى أن تركوها خالية يبابا ثم أوغلوا إلى أن ملكوا جميع الشام في مدة يسيرة من الأيام و فلقوا بسيوفهم الرؤوس و الهام و دخل رعبهم الديار المصرية و لم يبق إلا الحوق بالدار الأخروية فخرج إليهم من مصر الملك المظفر الملقب بقطز رضي الله عنه بجميع من معه من المعسكر و قد بلغت الحناجر القلوب و الأنفس بعزيمة صادقة و نية خالصة إلى أن التقى بعين جالوت فكان له عليهم من النصر و الظفر كما كان لطالوت فقتل منهم جمع كثير و عدد غزير و انجلوا عن الشام من ساعتهم و رجع جميعه كما كان إلى الإسلام و عبروا الفرات منهزمين و رأوا ما لم بشاهدوه منذ زمان و لا حين و راحوا خائبين خاسرين مدحورين أذلاء صاغرين
باب منه و ما جاء في ذكر البصرة و الأيلة و بغداد و الإسكندرية
أبو داود الطيالسي قال : حدثنا الحشرج بن نباتة الكوفي حدثنا سعيد بن جيهان [ عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لتنزلن طائفة من أمتي أرضا يقال لها البصرة و يكثر بها عددهم و نحلهم ثم يجيء قوم من بني قنطورا عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على جسر لهم يقال له دجلة فيتفرق المسلمون ثلاث فرق : أما فرقة فتأخذ بأذناب الإبل فتلحق البادية فهلكت و أما فرقة فتأخذ على أنفسها و كفرت و هذه و تلك سواء و أما فرقة فيجعلون عيالاتهم خلف ظهورهم و يقاتلون فقتلاهم شهداء و يفتح الله على بقيتهم ]
و خرجه أبو داود السختياني في سننه بمعناه فقال : [ حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثني سعيد بن جيهان : حدثنا مسلم بن أبي بكرة قال : سمعت أبي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها و تكون من أمصار المهاجرين قال ابن يحيى و هو محمد قال معمر : و يكون من أمصار المسلمين فإذ كان آخر الزمان جاء بنو قنطورا عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شط النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق : فرقة تأخذ أذناب البقر و البرية و هلكوا و فرقة يأخذون لأنفسهم و كفروا و فرقة يجعلون ذريتهم خلف ظهورهم و يقاتلون و هم الشهداء ]
قال أبو داود : و [ حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثني إبراهيم بن صالح بن درهم قال : سمعت أبي يقول : انطلقنا حاجين فإذا رجل فقال لنا : إلى جنبكم قرية يقال لها الأيلة قلنا : نعم قال : من يضمن لي منكم أن يصلي في مسجد العشار ركعتين أو أربعا و يقول لأبي هريرة سمعت خليلي يقول : إن الله بيعث من مسجد العشار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم ]
ذكر الخطيب أبو بكر بن أحمد بن ثابت في تاريخ بغداد أنبأنا أبو القاسم الأزهري [ حدثنا أحمد بن محمد بن موسى قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن المنادني قال : ذكر في إسناد شديد الضعف عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن أبي قيس عن علي رضي الله عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : تبنى مدينة بين الفرات و دجلة يكون فيها شر ملك بني العباس و هي الزوراء يكون فيها حرب مقطعة تسبى فيها النساء و يذبح فيها الرجال كما تذبح الغنم ] قال أبو قيس فقيل لعلي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين : قد سماها رسول الله صلى الله عليه و سلم الزوراء فقال : لأن الحرب تزور في جوانبها حتى تطبقها
و قال أرطأة بن المنذر قال رجل لابن عباس و عنده حذيفة بن اليمان أخبرني عن تفسيرقوله تعالى { حم * عسق } فأعرض عنه حتى أعاد ثلاثا فقال حذيفة : أنا أنبأك بها قد عرفت لم تركها نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق يبني عليه مدينتين بشق النهر بينهما شقا فإذا أراد الله زوال ملكهم و انقطاع دولتهم بعث الله على إحداها نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة فتحترق كلها كأنها لم تكن في مكانها فتصبح صاحبتها متعجبة كيف قلبت فما هو إلا بياض يومها حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد ثم يخسف الله بها و بهم جميعا فذلك { حم * عسق } أي عزيمة من عزمات الله و فتنة و قضاء حم أي حم ما هم كائن ع عدلا منه س سيكون ق واقع في هاتين المدينتين
و نظير هذا التفسير ما [ روى جرير بن عبد الله البجلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : تبنى مدينة بين دجلة و دجيل و قطربل و الفرات يجتمع فيها جبابرة الأرض تجيء إليها الخزائن يخسف بها و في رواية يخسف بأهلها فلهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الجيد في الأرض الرخوة ] و قرأ ابن عباس [ حم عسق ] بغير عين و كذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود حكاه الطبري و قال العباس و كان علي يعرف الفتن بها
و [ ذكر القشيري و الثعلبي في تفسيرهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه فقيل له يا رسول الله : ما أحزنك ؟ قال : أخبرت ببلايا تصيب أمتي من خسف و قذف و نار تحشرهم و ريح تقذفهم في البحر و آيات متتابعات بنزول عيسى و خروج الدجال ] لفظ الثعلبي
و قد روي حديث الزوراء محمد بن زكريا الغلابي و أسند عن [ علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : أما هلاكها على يد السفياني كأني بها و الله قد صارت خاوية على عروشها ] و محمد بن زكريا قال الدارقطني كان يضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه و سلم
و ذكر ابن وهب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قيل له بالاسكندرية : إن الناس قد فزعوا فأمر بسلاحه و فرسه فجاءه رجل فقال من أين هذا الفزع ؟ قال : سفن تراءت من ناحية قبرس قال : انزعوا عن فرسي قال : قلنا اصلحك الله إن الناس قد ركبوا فقال : ليس هذا بملحمة الإسكندرية إنما يأتون من ناحية المغرب من نحو أنطابلس فيأتي مائة ثم مائة حتى عدد تسعمائة
و خرج الوائلي أبو نصر في كتاب الإبانة من حديث رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري عن كعب قال : إني لأجد في كتاب الله المنزل على موسى بن عمران أن للإسكندرية شهداء يستشهدون في بطحائها خير من مضى و خيرمن بقى و هم الذين يباهي الله عز و جل بهم شهداء بدر
فصل
قوله : المجان يفتح الجيم جمع مجن بكير الميم و هو الترس و المطرقة هي التي قد عدلت بطراق و هو الجلد الذي يغشاه شبه وجوههم في عرضها و نتوء وجناتها بالترسة و المطرقة و في الصحاح و المجان المطرقة التي يطرق بعضها على بعض كالنعل المطرقة المخصوفة و يقال : أطرقت بالجلد و العصب أي لبست و ترس مطرق و قوله : نعالهم الشعر أي يصنعون من الشعر حبالا و يصنعون منها نعالا كما يصنعون منه ثيابهم و يشهد لهذا قوله يلبسون الشعر و يمشون في الشعر هذا ظاهره و يحتمل أن يريد بذلك أن شعورهم كثيفة طويلة فهي إذ أسدلوها كاللباس و ذوائبها لوصولها إلى أرجلهم كالنعال و الأول أظهر و الله أعلم و قوله : ذلف الأنف أي غلاظها يقال : أنف إذا كان فيه غلظ و انبطاح و أنوف ذلف و الاصطلام : الاستئصال و أصله من الصلم و هو القطع
قوله : بغائط الغائط المطمئن من الأرض و البصرة الحجارة الرخوة و بها سميت البصرة و بنوا قنطورا هم الترك يقال إن قنطورا جارية كانت لإبراهيم عليه السلام ولدت له أولادا من نسلهم الترك و قيل : هم من ولد يافث و هم أجناس كثيرة فمنهم أصحاب مدن و حصون و منهم قوم في رؤوس الجبال و البراري و الشعاب ليس لهم عمل غير الصيد ومن لم يصد منهم ودج دابته فشوى الدم في مصران فأكله و هم يأكلون الرخم و الغربان و غيرهما و ليس لهم دين و منهم من كان على دين المجوسية و منهم من تهود و ملكهم الذي يقال له خاقان يلبس الحرير و تاج الذهب و يحتجب كثيرا و فيهم بأس شديد و فيهم سحر و أكثرهم مجوس
و قال وهب بن منبه : الترك بنو عم يأجوج وز مأجوج يعني أنهم كلهم من ولد يافث
و قيل : إن أصل الترك أو بعضهم من اليمن من حمير و قيل فيهم : إنهم من بقايا قوم تبع و الله أعلم ذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإبانة
باب
ذكر أبو نعيم الحافظ [ عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يوشك أن يملأ الله أيديكم مالك العجم ثم يجعلهم أسدا لا يفرون فيقتلون مقاتلكم و يأكلون فيئكم ] غريب من حديث يونس تفرد به عنه حماد
باب ما جاء في فضل الشام و أنه معقل من الملاحم
البزار [ عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام ألا و إن الإيمان حين تقع الفتن بالشام ] خرجه أبو بكر أحمد بن سلمان النجار و قال عود الإسلام قال أبو محمد عبد الحق : هذا حديث صحيح و لعل هذه الفتن هي التي تكون عند خروج الدجال و الله و رسوله أعلم
قلت : و خرجه الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الحكم بن عبد الله بن خطاف الأزدري و هو متروك [ عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : هب رسول الله صلى الله عليه و سلم من نومه مذعورا و هو يرجع فقلت : مالك بأبي أنت و أمي ؟ قال : سل عمود الإسلام من تحت رأسي ثم رميت بصري فإذا هو قد غرز في وسط الشام فقيل لي يا محمد إن الله اختار لك الشام و جعلها لك عزا و محشرا و منعة و ذكر أن من أراد الله به خيرا أسكنه الشام و أعطاه نصيبه منها و من أراد الله به شرا أخرج سهما من كنانته فهي معلقة وسط الشام فرماه به فلم يسلم دنيا و لا أخرى ]
و روي عن عبد الملك بن حبيب أن قال : حدثني من أثق به أن الله عز و جل قال للشام : أنت صفوتي من أرضي و بلادي ليسكنك خيرتي من خلقي و إليك المحشر من خرج منك رغبة عنك فبسخط مني عليه و من دخلك رغبة فيك فبرضى مني دخلك
أبو داود [ عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام ]
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة [ عن أبي الزاهرية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : معقل المسلمين من الملاحم دمشق و معقلهم من الرجال بيت المقدس و معقلهم من يأجوج و مأجوج الطور ]
قلت : هذا صحيح ثبت معناه مرفوعا في غير ما حديث وسيأتي
باب ما جاء أن الملاحم إذا وقعت بعث الله جيشا يؤيد به الدين
ابن ماجه [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا وقعت الملاحم بعث الله جيشا من الموالي هم أكرم العرب فرسانا و أجوده سلاحا يؤيد الله بهم الدين ]
باب ما جاء في المدينة و مكة و خرابهما
مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تبلغ المساكن أهاب أو يهاب ] قال زهير : قلت لسهيل فكم ذاك من المدينة ؟ قال كذا و كذا ميلا
أبو داود [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يوشك المسلمون أن يحاصروا إلى المدينة حتى يكون أبعد مسالحهم سلاح ] قال الزهري : و سلاح قريب من خيبر
قلت : المسالح : المطالع و يقال القوم مستعد بهم في المراصد و يرتبون لذلك و سموا بذلك لحملهم السلاح و قال الجوهري : و المسلحة كالثغر و المرقب و في الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب قال بشر :
( بكل قياد مسنفة عنود ... أضر بها المسالح و الفرار )
القياد : حبل تقاد به الدابة و المسنف : المتقدم يقال : أسنف الفرس أي تقدم الخيل فإذا سمعت في الشعر مسنفة بكسر النون فهي من هذا و هي الفرس التي تتقدم الخيل في سيرها و العنود : من عند الطريق يعند بالضم عنودا أي عدل فهم عنود و العنود أيضا من النوق التي ترعى ناحية و الجمع عند و منه قوله تعالى : { إنه كان لآياتنا عنيدا } أي مجانيا للحق معاندا له معرضا عنه يقال عند الرجل إذا عتا و جاوز قدره
مسلم [ عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : تتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي يريد عوافي السباع و الطير ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ينعقان بغنمهما فيجدان و حشا حتى إذا بلغ ثانية الوداع خرا على و جهيهما ]
[ و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للمدينة : ليتركنها أهلها على خير ما كانت مذللة للعوافي يعني السباع و الطير ] و عن [ حذيفة قال : أخبرني رسول الله صلى الله عليه و سلم بما هو كائن إلى يوم القيامة فما منه شيء إلا قد سألته إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة ]
و ذكر أبو زيد عمر بن شبه في كتاب المدينة على ساكنها الصلاة و السلام عن أبي هريرة قال : ليخرجن أهل المدينة خير ما كانت نصفها زهو و نصفها رطب قيل و من يخرجهم منها يا أبا هريرة ؟ قال : أمراء السوء
قال أبوزيد [ و حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر يقول إنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يخرج أهل المدينة منها ثم يعودون إليها إليها فيعمرونها حتى تمتلىء ثم يخرجون منها فلا يعودون إليها أبدا ]
و خرج [ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ليخرجن أهل المدينة ثم ليعودون إليها ثم ليخرجن منها ثم لا يعودون إليها أبدا و ليدعنها و هي خير ما تكون مونقة قبل فمن يأكلها ؟ قال الطير و السباع ]
و خرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : و الذي نفسي بيده لتكونن بالمدينة ملحمة يقال لها الحالقة لا أقول حالقة الشعر و لكن حالقة الدين فاخرجوا من المدينة و لو على قدر بريد
و عن الشيباني قال : لتخربن المدينة و البنود قائمة البنود جمع بند و هو العلم الكبير قاله في النهاية قال مسلم [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم : يخرب الكعبة ذو السويقتين رجل من الحبشة ] البخاري [ عن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا ] الفحج : تباعد ما بين الفخذين
و في حديث [ حذيفة الطويل عنه صلى الله عليه و سلم : كأني بحبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن و أصحابه ينقضونها حجرا حجرا و يتناولنها حتى يرموا بها إلى البحر يعني الكعبة ] ذكره أبو الفرج بن الجوزي و هو حديث فيه طول و قال أبو عبيدة القاسم بن سلام في حديث علي عليه السلام استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم و بينه فكأني برجل من الحبشة أصعل أصمع أحمش الساقين قاعد عليها و هي تهدم
قال : حدثنا يزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن حفصة عن أبي العالية عن علي قال الأصمعي قوله أصعل هكذا يروى فأما كلام العرب فهو صعل بغير ألف و هو الصغير الرأس الحبشة كلهم قال و الأصمع الصغير الأذن يقال منه رجل أصمع و امرأة صمعاء و كذلك غير الناس
أبو داود الطيالسي [ عن أبي هريرة النبي صلى الله عليه و سلم يبايع لرجل بين الركن و المقام و أول من يستحل هذا البيت أهله فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب ثم تجيء الحبشة فيخربونه خراب لا يعمر بعده أبدا و هم الذين يستخرجون كنزه ] ذكر الحليمي فيما ذكر أنه يكون في زمن عيسى عليه السلام و أن الصريخ يأتيه بأن ذا السويقتين الحبشي قد سار إلى البيت لهدمه فيبعث إليه عيسى عليه السلام طائفة من الناس ما بين الثمان إلى التسع
و ذكر أبو حامد في كتاب مناسك الحج له و غيره و يقال : لا تغرب الشمس يوما إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدل و لا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به و احد من الأوتاد و إذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض فيصبح الناس و قد رفعت الكعبة ليس فيها أثر و هذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد ثم يرتفع القرآن من المصاحف فيتصبح الناس فإذا الورق أبيض يلوح ليس فيه حرف ثم ينسخ القرآن من القلوب فلا يذكر منه كلمة واحدة ثم ترجع الناس إلى الأشعار و الأغاني و أخبار الجاهلية ثم يخرج الدجال و ينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الدجال و الساعة عند ذلك بمنزلة الحامل المقرب تتوقع ولادتها و في الخبر استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين و يرفع في الثالثة
قال المؤلف رحمه الله و قيل : إن خرابه يكون بعد رفع القرآن من صدور الناس و من المصاحف و ذلك بعد موت عيسى عليه السلام و هو الصحيح في ذلك على ما يأتي بيانه
فصل : ثبت في الصحيح الدعاء للمدينة و الحث على سكناها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يأتي على الناس زمن يدعو الرجل ابن عمه و قريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء و المدينة خير لهم كانوا يعلمون و الذي بيده لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه إلا أن المدينة كالكير تخرج الخبث لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد ] رواه أبو هريرة و خرجه مسلم
خرج [ عن سعيد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء ]
و نحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه و مثل هذا كثير و هو خلاف ما تقدم و إذا كان هذا فظاهره التعارض و ليس كذلك فإن الحض على سكناها ربما كان عند فتح الأمصار و وجود الخيرات بها كما جاء في حديث [ سفيان بن أبي زهير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : تفتح اليمن فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم و من أطاعهم و المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ثم تفتح الشام فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم و من أطاعهم و المدينة خير لهم لو كانوا يعملون ثم تفتح العراق فيأتي قوم يعيشون فيتحملون بأهليهم و من أطاعهم و المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ] رواه الأئمة و اللفظ لمسلم فحض صلى الله عليه و سلم على سكناها حين أخبر بانتقال الناس عنها عند فتح الأمصار لأنها مستقر الوحي و فيها مجاورته ففي حياته صحبته و رؤية و جهه الكريم و بعد و فاته مجاورة حدثه الشريف و مشاهدة آثاره العظيمة و لهذا قال : [ لا يصبر أحد على لأوائها و شدتها إلا كنت شفيعا أو شهيدا له يوم القيامة ] و قال : [ من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن مات بها ثم إذاتغيرت الأحوال و اعتورتها الفتن و الأهوال كان الخروج منها غير قادح و الانتقال منها حسنا غير قادح ]
فصل :
و أما قوله : [ من أراد أهل المدينة بسوء ] فذلك محمول على زمانه و حياته كما في الحديث الآخر [ لا يخرج أحد منهم رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه ] و قد خرج منها بعد موته صلى الله عليه و سلم من الصحابة من لم يعوضها الله خيرا منه فدل على أن ذلك محمول على حياته فإن الله تعالى كان يعوض أبدا رسوله صلى الله عليه و سلم خيرا ممن رغب عنه و هذا واضح و يحتمل أن يكون قوله : أذابه الله كناية عن إهلاكه في الدنيا قبل موته و قد فعل الله ذلك بمن غزاها و قاتل أهلها كمسلم بن عقبة إذ أهلكه الله عند مصرفه عنها إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير بلاه الله بالماء الأصفر في بطنه فمات بقديد بعد الوقعة بثلاث
و قال الطبري مات بهرشي و ذلك بعد الوقعةبيثلاث ليال و هرشي جبل من بلاد تهامة على طريق الشام و المدينة قريب من الجحفة و كإهلاك يزيد بن معاوية إثر إغرائه أهل المدينة حرم النبي المختار و قتله بها بقايا المهاجرين و الأنصار فمات بعد هذه الوقعة و إحراق الكعبة بأقل من ثلاثة أشهر و لأنه توفي بالذبحة و ذات الجنب في نصف ربيع الأول بحوارين من قرى حمص و حمل إلى دمشق و صلى عليه ابنه خالد و قال المسعودي : صلى عليه ابنه معاوية و دفن في مقبرة باب الصغير و قد بلغ سبعا و ثلاثين سنة فكانت ولايته ثلاث سنين و ثمانية أشهر و اثني عشر يوما
فصل :
و أما قوله : [ تتركون المدينة ] حدثنا المخاطب فمرداه غير المخاطبين لكن نوعهم من أهل المدينة أو نسلهم و على خير ما كانت عليه فيما قبل و قد و جد هذا الذي قاله النبي صلى الله عليه و سلم و ذلك أنها صارت بعده صلى الله عليه و سلم معدن الخلافة و موضعها و مقصد الناس و ملجأهم معلقهم حتى تنافس الناس فيها و توسعوا في خططها و غرسوا و سكنوا منها ما لم يسكن قبل و بنوا فيها و سيدوا حتى بلغت المساكن أهاب فلما انتهت حالها كمالا و حسنا تناقص أمرها إلى أن أقفرت جهاتها بتغلب الأعراب عليها و توالي الفتن فيها فخاف أهلها و ارتحلوا عنها و صارت الخلافة بالشام و وجه يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المزي في جيش عظيم من أهل الشام فنزل بالمدينة فقاتل أهلها فهزمهم و قتلهم بحرة المدينة قتلا ذريعا و استباح المدينة ثلاثة أيام فسميت و قعة الحرة لذلك و فيه يقول الشاعر :
( فإن تقتلونا يوم حرة واقم ... فإنا على الإسلام أول من قتل )
و كانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا لذي الحجة سنة ثلاث و ثلاثين و يقال لها حرة زهرة و كانت الوقعة بموضع يعرف بواقم على ميل من مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقتل بقايا المهاجرين و الأنصار و خيار التابعين و هم ألف و سبع مائة و قتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء و الصبيان و قتل بها من حملة القرآن سبعمائة رجل من قريش و سبعة و تسعون قتلوا جهرا ظلما في الحرب و صبرا
و قال الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم في المرتبة الرابعة و جالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و بالت وراثت بين القبر و المنبر أدام الله تشريفها و أكره الناس على أن يبايعوا ليزيد على أنهم عبيد له إن شاء باع و إن شاء أعتق و ذكر له يزيد بن عبد الله بن زمعة البيعة على حكم القرآن و السنة فأمر بقتله فضربت عنقه صبرا
و ذكر الأخباريون أنها خلت من أهلها و بقيت ثمارها لعوافي الطير و السباع كما قال صلى الله عليه و سلم ثم تراجع الناس إليها و في حال خلوها غدت الكلاب على سواري المسجد و الله أعلم
و ذكر أبو زيد عمر بن شبة قال : حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد أنه قرأ كتابا بالكعبة : ليغشين أهل المدينة أمر يفزعهم أمر يفزعهم حتى يتركوها و هي مذللة و حتى تبول السنانير على قطائف الخز ما يروعها شيء و حتى تخرق الثعالب في أسواقها ما يروعها شيء و أما قوله في الراعيين حتى إذا بلغا ثنية المداع خرا على وجهيهما فقيل سقطا ميتين
قال علماؤنا : و هذا إنما يكون في آخر الزمان و عند انقراض الدنيا بدليل ما قال البخاري في هذا الحديث : آخر من يحشر راعيان من مزينة قيل : معناه آخر من يموت فيحشر لأن الحشر بعد الموت و يحتمل أن يتأخر حشرها لتأخر موتهما قال الداودي أبو جعفر أحمد بن نصر في شرح البخاري له : و قوله الراعيين ينعقان بغنمهما يعني يطلبان الكلأ
و قوله : و حشا يعني خالية و قوله ثنية الوداع يعني موضعا قريبا من المدينة مما يلي مكة
و قوله : خرا على و جهيهما يعني أخذتهما الصعقة حين النفخة الأولى و هو الموت
و قوله : آخر من يحشر يعني أنهما بأقصى المدينة فيكونان في أثر من يبعث منها ليس أن بعض الناس يخرج بعد بعض من الأجداث إلا بالشيء المتقارب يقول الله تعالى : { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون }
و قوله النبي صلى الله عليه و سلم [ يصعق الناس فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أو كان من الذين استثنى الله ]
و قال شيخنا أبو العباس القرطبي : و يحتمل أن يكون معناه آخر من يحشر إلى المدينة أي يساق إليها كما في كتاب مسلم رحمه الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله : و قد ذكر ابن شبة خلاف هذا كله فذكر عن حذيفة بن أسيد قال : آخر الناس يحشر رجلان من مزينة يفقدان الناس فيقول أحدهما لصاحبه : قد فقدنا الناس منذ حين انطلق بنا إلى شخص بني فلان فينطلقان فلا يجدان بها أحدا ثم يقول : انطلق بنا إلى المدينة فينطلقان فلا يجدان بها أحدا ثم يقول : انطلق بنا إلى منازل قريش ببقيع الغرقد فينطلقان فلا يريان إلا السباع و الثعالب فيوجهان نحو البيت الحرام
و قد ذكر عن أبي هريرة قال : [ آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة و آخر من مزينة فيقولان : أين الناس فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعلب فينزل إليهما ملكان فيسحبانهما على وجهيهما حتى يلحقاهما بالناس ]
فصل :
و أما قوله في حديث أبي هريرة : يبايع لرجل بين الركن و المقام فهو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان على مانذكره أيضا يملك الدنيا كلها و الله أعلم
فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة : مؤمنان و كافران فالمؤمنان سليمان بن داود و الإسكندر و الكافران نمروذ و بخت نصر و سيملكها من هذه الأمة خامس و هو المهدي
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6