كتاب : التذكرة
      المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي


باب ما ينجي من أهوال يوم القيامة و من كربها مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ] ذكر الحديث
و خرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول قال : [ حدثنا أبي رحمه الله قال : حدثنا عبد الله بن نافع قال : حدثني ابن أبي فديك عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم و نحن في مسجد المدينة فقال إني رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد عنه و رأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك و رأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم و رأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم و رأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صيامه فسقاه و أرواه و رأيت رجلا من أمتي و النبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا لحلقة طردوه فجاء اغتساله من الجنابة فأخذ بيده و أقعده بجنبي و رأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة و من خلفه ظلمة و عن يمينه ظلمة و عن شماله ظلمة و من فوقه ظلمة و من تحته ظلمة فهو متحير فيها فجاءته حجته و عمرته فاستخرجاه من الظلمة و أدخلاه في النور و رأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت يا معشر المؤمنين كلموه فكلموه و رأيت رجلا من أمتي يتقي شرر النار و وهجها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه و ظلا على رأسه و رأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر فاستنفذه من أيديهم و أدخلاه مع ملائكة الرحمة و رأيت رجلا من أمتي جانبا على ركبتيه بينه و بين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله و رأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفة من قبل شماله فجاءه خوفه من الله تعالى فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه و رأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه و رأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه و جله من الله فاستنقذه من ذلك و مضى و رأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار و رأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعده و مضى و رأيت رجلا من أمتي على الصراط و رأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب و أدخلته الجنة ]
قلت : هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالا خاصة تنجي من أهوال خاصة و الله أعلم
و قد ينجي منها كلها ما ثبت في صحيح مسلم [ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس و كان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال : قال الله عز و جل أنا أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي ]
و خرج [ عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلا مات فدخل الجنة فقيل له ما كنت تعمل ؟ فقال : إني كنت أبايع الناس فكنت أنظر المعسر و أتجاوز في السكة أو في النقد فغفر له ] فقال له المسعود رضي الله عنه : و أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه مسلم من طرق و خرجه البخاري
و روى مسلم [ عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه طلب غريما له فتوارى عنه ثم وجده فقال : إني معسر قال الله فقال الله قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينس عن معسر أو يضع عنه ]
[ و عن أبي اليسر و اسمه كعب بن عمرو رضي الله عنه أن سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله ] خرجه مسلم
و قال أنس بن مالك رضي الله عنه : من أنظر مديونا فله بكل يوم عند الله وزن أحد ما لم يطلبه
و روى الأئمة [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : الإمام العادل و شاب نشأ في عبادة الله و رجل قلبه معلق بالمساجد و رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه و تفرقا عليه و رجل دعته امرأة ذات منصب و جمال فقال : إني أخاف الله و رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه و رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ] : معنى في ظله أي في ظل عرشه و قد جاء هكذا تفسيرا في الحديث
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أشبع جائعا و كسا عريانا و آوى مسافرا أعاذه الله من أهوال يوم القيامة ]
و خرج الطبراني سليمان بن أحمد عن يزيد الرقاشي [ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من لقم أخاه لقمة صرف الله عنه مرارة الموقف يوم القيامة ] و في التنزيل تحقيقا لهذا الباب و جامعا له قوله الحق { يوفون بالنذر } إلى قوله { فوقاهم الله شر ذلك اليوم } مع قوله { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } مع قوله في غير موضع بعد ذكر الأعمال الصالحة { فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون }
باب
ذكر أبو نعيم الحافظ قال : [ حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن يحيى ابن خالد قال : حدثنا محمد بن سلام قال : حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثنا مالك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة و لا الصوم و لا الحج و لا العمرة قال : و ما يكفرها يا رسول الله ؟ قال : الهموم في طلب المعيشة ] قال أحمد بن يحيى : فقلت : كيف سمعت هذا من يحيى بن بكير فلم يسمعه أحد غيرك ؟ قال : كنت عند يحيى جالسا فجاءه رجل فذكر ضعفه فقال : قال ابن بكير : حدثنا مالك فذكره
باب في الشفاعة العامة لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم لأهل المحشر
مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم يوما يلحم فرفع إليه الذراع و كانت تعجبه فنهش منها نهشة فقال : أنا سيد الناس يوم القيامة و هل تدرون بم ذاك يجمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي و ينفذهم البصر و تدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم و الكرب ما لا يطيقون و لا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض : أئتوا آدم فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبونا أبو البشر خلقك الله بيده و نفخ فيك من روحه و أمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و إنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح أن أول الرسل إلى الأرض و سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربنا ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و إنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم أنت نبي الله خليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم إبراهيم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و ذكر كذباته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون يا موسى : أنت رسول الله فضلك الله برسالته و بتكليمه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله و إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها نفسي نفسي اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله و كلمت الناس في المهد و كلمة منه ألقاها إلى مريم و روح منه فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغصب قبله مثله و لم يغضب بعده مثله و لم يذكر ذنبا نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه و سلم فيأتون فيقولون : يا محمد أنت رسول الله و خاتم الأنبياء و غفر الله لك ما تقدم و ما تأخر اشفع لنا إلى ربك ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله علي و يلهمني من محامده و حسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد غيري من قبلي ثم قال : يا محمد ارفع رأسك سل تعطه و اشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عيله من الباب الأيمن من أبواب الجنة و هم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب و الذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة و هجر أو كما بين مكة و بصري ] و في البخاري كما بين مكة و حمير
فصل : هذه الشفاعة العامة التي خص بها نبينا محمد صلى الله عليه و سلم من بين سائر الأنبياء هي المراد بقوله عليه السلام : [ لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته و إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي ] رواه الأئمة البخاري و مسلم و غيرهما و هذه الشفاعة العامة لأهل الموقف إنما هي ليجعل حسابهم و يراحوا من هول الموقف و هي الخاصة به صلى الله عليه و سلم و قوله : [ أقول يا رب أمتي أمتي ] اهتمام بأمر أمته و إظهار محبته فيهم و شفقته عليهم و قوله : فيقال يا محمد ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه يدل على أنه شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته و غيرهم و كان طلبه هذه الشفاعة من الناس بإلهام من الله تعالى لهم حتى يظهر في ذلك اليوم مقام نبيه صلى الله عليه و سلم المحمود الذي وعده و لذلك قال كل نبي : لست لها لست لها حتى انتهى الأمر إلى محمد صلى الله عليه و سلم فقال : [ أنا لها ]
و روى مسلم [ عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك ] و في رواية فيلهمون فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا قال : فيأتون آدم و ذكر الحديث
و ذكر أبو حامد أن بين إتيانهم من آدم إلى نوح ألف عام و كذا بين كل نبي إلى محمد صلى الله عليه و سلم
و ذكر أيضا أن الناس في الموقف على طبقات مختلفة و أنواع متباينة بحسب جرائمهم كمانع الزكاة و الغال و الغادر على ما يأتي بيانه و آخرون قد عظمت فروجهم و هي تسيل صديدا يتأذى بنتنها جيرانهم و آخرون قد صلبوا على جذوع النيران و آخرون قد خرجت ألسنتهم على صدورهم أقبح ما يكون و هؤلاء المذكرون هم الزناة و اللوطية و الكاذبون و آخرون قد عظمت بطونهم كالجبال الرواسي و هم آكلوا الربا و كل ذي ذنب قد بدا سوء ذنبه قاله في كتاب كشف علوم الآخرة و ذكر في آخر الكتاب أن الرسل يوم القيامة على المنابر و الأنبياء و العلماء على منابر صغار و منبر كل رسول على قدره و العلماء العاملون على كراسي من نور و الشهداء و الصالحون كقراء القرآن و المؤذنون على كبثان من مسك و هذه الطائفة العاملة أصحاب الكراسي هم الذين يطلبون الشفاعة من آدم و نوح حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذكر الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له : ويلهم رؤوس المحشر ممن يشفع لهم و يريحهم مما هم فيه و هم رؤساء أتباع الرسل فيكون ذلك
باب ما جاء أن هذه الشفاعة هي المقام المحمود
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر و بيدي لواء الحمد و لا فخر و ما من نبي يومئذ آدم و من سواه إلا تحت لوائي و أنا أول من تنشق عنه الأرض و لا فخر قال :
فيفزع الناس فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أيونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول : أنا أذنبت ذنبا فأهبطت به إلى الأرض ائتوا نوحا فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا و لكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول : إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منها كذبة كذبة إلا ما حل بها عن دين الله و لكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول : إني قتلت نفسا و لكن ائتوا عيسى فيقول : إني عبدت من دون الله و لكن ائتوا محمدا صلى الله عليه و سلم فيأتوني فأنطلق معهم ] قال ابن جدعان قال أنس : فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا ؟ فيقال : محمد فيفتحون لي و يرحبون فيقولون مرحبا فأخر ساجدا لله فيلهمني من الثناء و الحمد فيقال لي ارفع رأسك و سل تعط و اشفع تشفع و قل يسمع لقولك و هو المقام المحمود الذي قال الله فيه { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } ] قال سفيان : ليس عن أنس إلا هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها قال الترمذي حديث حسن
و خرجه أبو داود الطيالسي بمعناه [ عن ابن عباس فقال : حدثنا حماد سلمة قال : حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من نبي إلا و له دعوة كلهم قد تنجزها في الدنيا و إني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ألا و إني سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر و أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة و لا فخر و بيدي لواء الحمد تحته آدم صلى الله عليه و سلم و من دونه و لا فخر و يشتد كرب ذلك اليوم على الناس فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فيشفع لنا إلى ربنا عز و جل حتى يقضي بيننا ] الحديث و فيه : [ فيأتون عيسى عليه السلام فيقولون اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا فيقول إني لست هنا كم إني اتخذت و أمي إلهين من دون الله و لكن أرأيتم لو أن متاعا في وعاء قد ختم عليه أكان بوصل إلى ما في الوعاء حتى يفض الخاتم ؟ فيقولون : لا فيقول : إن محمدا صلى الله عليه و سلم قد خصه اليوم و قد غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأتيني الناس فيقولون اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضى بيننا فأقول أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء و يرضى فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى مناد أين محمد صلى الله عليه و سلم و أمته ؟ فأقوم و تتبعني أمتي غرا محجلين من أثر الطهور قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فنحن الآخرون الأولون و أول من يحاسب و يفرج لنا في الأمم عن طريقنا و يقولون كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها ] و ذكر الحديث
و في البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن الناس يصبرون يوم القيامة جثيا كل أمة تتبع نبيها تقول يا فلان اشفع يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود
و روى الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } سئل عنها قال : هي الشفاعة ] قال : هذا حديث صحيح
فصل : قوله : فيفزع الناس ثلاث فزعات إنما ذلك و الله أعلم حين يؤتى بالنار تجر بأزمتها و ذلك قبل العرض و الحساب على الملك الديان فإذا نظرت إلى الخلائق فارت و ثارت و شهقت إلى الخلائق و زفرت نحوهم و توثبت عليهم غضبا لغضب ربهم على ما يأتي بيانه في كتاب النار إن شاء الله تعالى فتتساقط الخلائق حينئذ على ركبهم جثاة حولها قد أسبلوا الدموع من أعينهم و نادى الظالمون بالويل و الثبور ثم تزفر الثانية فيزداد الرعب و الخوف في القلوب ثم تزفر الثالثة فتتساقط الخلائق لوجوههم و يشخصون بأبصارهم و هم ينظرون من طرف خفي خوفا أن تبلغهم أو يأخذهم حريقها أجارنا الله منها
فصل : و اختلف الناس في المقام المحمود على خمسة أقوال :
الأول : أنه الشفاعة للناس يوم القيامة كما تقدم قاله حذبفة بن اليمان و ابن عمر رضي الله عنهم
الثاني : إنه أعطاؤه عليه السلام لواء الحمد يوم القيامة قلت : و هذا القول لا تنافي بينه و بين الأول فإنه يكون بيده لواء الحمد و يشفع
و روى الترمذي [ عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا و أنا خطيبهم إذا وفدوا و أنا مبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد بيدي فأنا أكرم ولد آدم على ربي و لا فخر ] و في رواية [ أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا و أنا قائدهم إذا وفدوا و أنا خطيبهم إذا أنصتوا و أنا شفيعهم إذا أيسوا و أنا مبشرهم إذا أبلسوا لواء الكرم بيدي و أنا أكرم ولد آدم على ربي يطوف علي ألف خادم كأنهم لؤلؤ مكنون ]
الثالث : ما حكاه الطبري عن فرقة منها مجاهد أنها قالت : المقام المحمود هو أن يجلس الله محمدا صلى الله عليه و سلم معه على كرسيه و روت في ذلك حديثا
قلت : و هذا قول مرغوب عنه و إن صح الحديث فيتأول على أنه يجلس مع أنبيائه و ملائكته قال ابن عبد البر في كتاب التمهيد : و مجاهد و إن كان أحد أئمة بتأويل القرآن فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم أحدهما هذا و الثاني في تأويل قوله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } قال : تنتظر الثواب و ليس من النظر
الرابع : إخراجه طائفة من النار روى مسلم عن يزيد الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج ثم نخرج على الناس فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحدث الناس أو القوم إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و إذا هو قد ذكر الجهنميين قال فقلت له يا صاحب رسول الله : ما هذا الذي تحدثون و الله تعالى يقول { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } فما هذا الذي تقولون فقال : أتقرأ القرآن ؟ فقلت : نعم فقال : فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه و سلم يعني الذي بيعثه الله عز و جل ؟ قلت : نعم قال : فإنه مقام محمد صلى الله عليه و سلم الذي يخرج الله به من يخرج و ذكر الحديث
و في البخاري [ من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم و فيه : و قد سمعته يقول فأخرج فأخرجهم و أدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود قال : ثم تلا هذه الآية { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } قال هو المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه و سلم
الخامس : ما روي أن مقامه المحمود شفاعته رابع أربعة و سيأتي الأوزاعي
فصل : إذا أثبت أن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الأنبياء عليهم السلام حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فيشفع هذه الشفاعة العامة لأهل الموقف مؤمنهم و كافرهم ليراحوا من هول موقفهم فاعلم أن العلماء اختلفوا في شفاعاته و كم هي فقال النقاش : لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث شفاعات العامة و شفاعة في السبق إلى الحنة و شفاعة في أهل الكبائر و قال ابن عطية في تفسيره : و المشهور أنهما شفاعتان فقط العامة و شفاعة في إخراج المذنبين من النار و هذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون و يشفع العلماء
قال القاضي عياض شفاعات نبينا صلى الله عليه و سلم يوم القيامة خمس شفاعات :
الأولى : العامة
الثانية : إدخال قوم الجنة بغير حساب
الثالثة : في قوم من أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيشفعه فيهم نبينا صلى الله عليه و سلم و من شاء أن يشفع و يدخلون الجنة و هذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج و المعتزلة فمنعتها على أصولهم الفاسدة و هي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين و التقبيح
الرابعة : فيمن دخل النار من المذنبين فيخرج بشفاعة نبينا و غيره من الأنبياء و الملائكة و إخوانهم من المؤمنين
قلت : و هذه المشافعة أنكرتها المعتزلة أيضا و إذا منعوها فيمن استوجب النار بذنبه و إن لم يدخلها فأحرى أن يمنعوها فيمن دخلها
الخامسة : في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها و ترفيعها قال القاضي عياض : و هذه الشفاعة لا تنكرها المعتزلة و لا تنكر شفاعة الحشر الأول
قلت : و شفاعة سادسة لعمه أبي طالب في التخفيف عنه كما رواه مسلم ] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه [ فإن قيل : فقد قال الله تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } قيل له : لا تنفع في الخروج من النار كعصاة الموحدين الذين يخرجون منها و يدخلون الجنة
فصل : و اختلف العلماء هل وقع من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين بعد النبوة صغائر من الذنوب يؤاخذون بها و يعاتبون عليها و يشفقون على أنفسهم منها أم لا بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر و من الصغائر التي تزري بفاعلها وتحط منزلته و تسقط مروءته إجماعا ؟ عند القاضي أبي بكر و عن الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة و عند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم فقال الطبري و غيره من الفقهاء و المتكلمين و المحدثين : تقع الصغائر منهم خلافا للرافضة حيث قالوا إنهم معصومون من جميع ذلك كله و احتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل و ثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث و هذا ظاهر لا خفاء به
و قال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك و أبي حنيفة و الشافعي : إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر لأنا أمرنا باتياعهم في أفعالهم و آثارهم و سيرهم مطلقا من غير التزام قرينة فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء لهم إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة و الإباحة و الحظر أو المعية و لا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين
قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني و اختلفوا في الصغائر و الذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم و مال بعضهم إلى تجويزها و لا أصل لهذه المقالة
و قال بعض النتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول : و الذي ينبغي أن يقال : إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم و نسبها إليهم و عاتبهم عليها و أخبروا بها عن نفوسهم و تنصلوا منها و استغفروا منها و تابوا و كل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا تقبل التأويل جملتها و إن قبل ذلك آحادها و كل ذلك مما لا يزري بمناصبهم و إنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور و على جهة الخطأ و النسيان أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلىغيرهم حسنات و في حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم و علو أقدارهم إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع عملهم بالأمن و الأمان والسلامة و هذا هو الحق
و لقد أحسن الجنيد رضي الله عنه حيث قال : حسنات الأربار سيئات المقربين فهم صلوات صلى الله عليه و سلم عليهم و سلامه و إن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم و لا قدح في رتبهم بل تلافاهم و اجتباهم و هداهم و مدحهم و زكاهم و اصطفاهم صلوات الله عليهم و سلامه
باب
ذكر ابن المبارك قال : ] أخبرنا رشدين بن سعد قال : أخبرني عبد الرحمن بن زياد عن دخين الحجري عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذكر حديث الشفاعة و فيه فيقول عيسى عليه السلام أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني و يجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافر قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ؟ فيقولون : ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون قد جد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك قد أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمه أحد ثم يعظهم لجهنم و يقول عند ذلك { و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم } الآية
باب من أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه و سلم
البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال : لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه ]
و روى [ زيد بن أرقم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة قيل يا رسول الله : ما إخلاصها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله ] خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول
باب ما جاء في تطاير الصحف عند العرض و الحساب
باب ما جاء في تطاير الصحف عند العرض و الحساب و إعطاء الكتب باليمين و الشمال و من أول من يأخذ كتابه بيمينه من هذه الأمة و في كيفية و قوفهم للحساب و ما يقبل منهم من الأعمال و في دعائهم بأسماء آباهم و بيان قوله { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } و في تعظيم خلق الإنسان الذي يدخل الناس به النار أو الجنان و ذكر القاضي العدل و من نوقش عذب
قال الترمذي : و روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر و إنما يخف الحساب على من حاسب نفسه في الدنيا ] و قال عطاء الخراساني : يحاسب العبد يوم القيامة عند معارفة ليكون أشد عليه ذكره أبو نعيم
البخاري [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من حوسب يوم القيامة عذب قالت فقلت يا رسول الله : أليس قد قال الله { فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا } ؟ فقال : ليس ذلك الحساب إنما ذلك عرض من نوقش الحساب يوم القيامة عذب ] أخرجه مسلم و الترمذي و قال : حديث حسن صحيح
أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا عمر بن العلاء اليشكري قال : حدثني صالح بن طبرج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت عائشة رضي الله عنها تقول و ذكر عندها القضاة فقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط ]
الترمذي [ عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم تعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال و معاذير فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فأخذ بيمينه و أخذ بشماله ] قال أبو عيسى و لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه و قد رواه بعضهم عن علي الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم
قلت : قوله وقد رواه بعضهم هو وكيع بن الجراح ذكره ابن ماجه قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا و كيع عن علي بن علي فذكره
قال الترمذي :
و تكلم يحيى بن سعيد القطان في علي بن علي و خرجه أبو بكر البزار أيضا [ عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال و أما الثالثة فتطاير الكتب يمينا و شمالا ]
و ذكره الترمذي الحكيم في الأصل السادس و الثمانين قال : فروى لنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أن الناس يعرضون ثلاث عرضات يوم القيامة فأما عرضتان فجدال و معاذي و أما العرضة الثالثة فتطاير الصحف فالجدال لأهل الأهواء يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوه نجوا و قامت حجتهم و المعاذير لله تعالى يعتذر الكريم إلى آدم و إلى أنبيائه و يقيم حجته عندهم على الأعداء ثم يبعثهم إلى النار فإنه يجب أن يكون عذره عند أنبيائه و أوليائه ظاهرا حتى لا تأخذهم الحيرة و لذلك قيل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا أحد أحب إليه المدح من الله و لا أحد أحب إليه العذر من الله و العرضة الثالثة للمؤمنين و هو العرض الأكبر يخلو بهم فيعاتبهم في تلك الخلوات من يريد أن يعاتبهم حتى يذوق و بال الحياء و يرفض عرقا بين يديه و يفيض العرق منهم على أقدامهم من شدة الحياء ثم يغفر لهم و يرضى عنهم ]
و ذكر أبو جعفر العقيلي [ من حديث نعيم بن سالم عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم الموقف بعث الله ريحا فتطيرها بالإيمان و الشمائل أول خط فيها : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } ]
أبو داود [ عن عائشة رضي الله عنها قالت : ذكرت النار فبكيت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يبكيك ؟ قلت : ذكرت النار فبكيت فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة ؟ فقال : أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل و عند تطاير الصحف حتى يعلم أين يقع كتابه في يمينه أم في شماله من وراء ظهره و عند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز ]
و ذكر أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب [ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه و له شعاع كشعاع الشمس فقيل له : أين يكون أبو بكر يا رسول الله ؟ قال : هيهات زفته الملائكة إلى الجنان ]
و خرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد له [ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله تبارك و تعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع : يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين و أحكم الحاكمين و أسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم و لا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم و يسروا جوابكم فإنكم مسؤلون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي طفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب ]
و أسند سمرة بن عطية قال : يؤتى بالرجل يوم القيامة للحساب و في صحيفته أمثال الجبال من الحسنات فيقول رب العزة تبارك و تعالى : صليت يوم كذا و كذا ليقال : فلان صلى أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص صمت يوم كذا و كذا ليقال : صام فلان أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص تصدقت يوم كذا و كذا ليقال : تصدق فلان أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص فما زال يمحى شيء بعد شيء حتى تبقى صحيفته ما فيها شيء فيقول ملكاه : ألغير الله كنت تعمل ؟
قلت : و مثل هذا لايقال من جهة الرأي فهو مرفوع و قد رفع معناه الدار قطني في سننه [ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يجاء يوم القيامة بصحف مختومة فتنصب بين يدي الله عز و جل فيقول الله تعالى : ألقوا هذا و اقبلوا هذا فتقول الملائكة : و عزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله عز و جل ـ و هو أعلم ـ : إن هذا كان لغيري و لا أقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهي ] خرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } قال : يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه و يمد له في جسمه ستون ذراعا و يبيض و جهه و يجعل على رأسه تاج من لؤلؤ يتلألأ فبنطلق إلى أصحابه فيرونه من بعد فيقولون : اللهم آتنا بهذا و بارك لنا في هذا حتى يأتيهم و يقول : أبشروا لكل مسلم مثل هذا قال : و أما الكافر فيسود و جهه و يمد في جسمه ستون ذراعا على صورة آدم و يلبس تاجا من نار فيراه أصحابه فيقولون : نعوذ بالله من شر هذا اللهم لا تأتنا بهذا قال : فيأتيهم فيقولون : اللهم اخزه فيقول : أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب
و روي أن عيسى عليه السلام مر بقبر فوكزه برجله و قال : يا صاحب هذا القبر قم بإذن الله فقام إليه رجل و قال : ياروح الله ما الذي أردت فإني لقائم في الحساب منذ سبعين سنة حتى أتتني الصيحة الساعة أن أجب روح الله فقال عيسى : يا هذا لقد كنت كثير الذنوب و الخطايا ما كان عملك ؟ فقال : و الله يا روح الله ما كنت إلا حطابا أحمل الحطب على رأسي آكل حلالا و أتصدق فقال عيسى : يا سبحان الله حطابا يحمل الحطب على رأسه يأكل حلالا و يتصدق و هو قائم في الحساب منذ سبعين سنة ثم قال له : يا روح الله كان من توبيخ ربي لي أن قال : اكتراك عبدي لتحمل له حزمة فأخذت منها عودا فتخللت به و ألقيته في غير مكانه امتهانا منك بي و أنت تعلم أني أنا الله المطلع عليك و أراك
فصل : قال الله تعالى { و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } قال الزجاج : ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق و قال إبراهيم بن أدهم كل آدمي في عنقه قلادة يكتب فيها نسخة عمله فإذا مات طويت و إذا بعث نشرت و قيل له { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } و قال ابن عباس رضي الله عنه : طائره عمله { و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } قال الحسن : يقرأ الإنسان كتابه أميا كان أو غير أمي
و قال أبو السوار العدوي : و قرأ هذه الآية { و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } قال : هما نشرتان و طية أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك المنشورة فأمل فيها ما شئت فإذا مت طويت حتى إذا بعثت نشرت { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } فإذا وقف الناس على أعمالهم من الصحف التي يؤتونها بعد البعث حوسبوا بها قال الله تعالى { فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا } فدل على أن المحاسبة تكون عند إتيان الكتب لأن الناس إذا بعثوا لا يكون ذاكرين لأعمالهم قال الله تعالى { يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله و نسوه }
و قد تقدم القول في محاسبة الله تعالى لخلقه في يوم الحساب من أسماء القيامة فإذا بعثوا من قبورهم إلى الموقف و قاموا فيه ما شاء تعالى على ما تقدم حفاة عراة و جاء و قت الحساب يريد الله أن يحاسبهم فيه أمر بالكتب التي كتبها الكرام الكاتبون بذكر أعمال الناس فأوتوها فمنهم من يؤتى كتابه بيمينه فأولئك هم السعداء و منهم من يؤتى كتابه بشماله أو من وراء ظهره و هم الأشقياء فعند ذلك يقرأ كل كتابه و أنشدوا :
( مثل و قوفك يوم العرض عريانا ... مستوحشا قلق الأحشاء حيرانا )
( و النار تلهب من غيظ و من حنق ... على العصاة و رب العرش غضبانا )
( اقرأ كتابك ياعبدي على مهل ... فهل ترى فيه حرفا غير ما كانا )
( لما قرات و لم تنكر قراءته ... إقرار من عرف الأشياء عرفانا )
( نادى الجليل : خذوه يا ملائكتي ... و امضوا بعبد عصى للنار عطشانا )
( المشركون غدا في النار يلتهبوا ... و المؤمنون بدار الخلد سكانا )
فتوهم نفسك يا أخي إذا تطايرت الكتب و نصبت الموازين و قد نوديت باسمك على رؤوس الخلائق أين فلان ابن فلان هلم إلى العرش على الله تعالى و قد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمك و اسم أبيك إذ عرفت أنك المراد بالدعاء إذ قرع النداء قلبك فعلمت أنك المطلوب فارتعدت فرائصك و اضطربت جوارحك و تغير لونك و طار قلبك تحظى بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه و الوقوف بين يديه و قد رفع الخلائق إليك أبصارهم و أنت في أيديهم و قد طار قلبك و اشتد رعبك لعلمك أين يراد بك
فتوهم نفسك و أنت بين يدي ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها و لا مخبأة أسررتها و أنت تقرأ ما قيها بلسان كليل و قلب منكسر و الأهوال محدقة بك من بين يديك و من خلفك فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكرتها و كم من شيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها و أبداها و كم من عمل ظننت أنه سلم لك و خلص فرده عليك في ذلك الموقف و أحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيما فيا حسرة قلبك و يا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك { فأما من أوتي كتابه بيمينه } فعلم أنه من أهل الجنة { فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه } و ذلك حين يأذن الله فيقرأ كتابه
فإذا كان الرجل رأسا في الخير يدعوا إليه و يأمر به و يكثر تبعه عليه دعي باسمه و اسم أبيه فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض في باطنه السيئات و في ظاهره الحسنات فيبدأ بالسيئات فيقرؤها فيشفق و يصفر وجهه و يتغير لونه فإذا بلغ آخر الكتاب و جد فيه هذه سيئاتك و قد غفرت لك فيفرح عند ذلك فرحا شديدا ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحا حتى إذا بلغ آخر الكتاب و جد فيه هذه حسناتك قد ضوعفت لك فيبيض و جهه و يؤتى بتاج فيوضع على رأسه و يكسى حلتين و يحلى كل مفصل فيه و بطول ستين ذراعا و هي قامة آدم و يقال له : انطلق إلى أصحابك فبشرهم و أخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا فإذا أدبر قال { هاؤم اقرؤوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه } قال الله تعالى { فهو في عيشة راضية } أي مرضية قد رضيها { في جنة عالية } في السماء { قطوفها } ثمارها و عناقيدها { دانية } أدنيت منهم فيقول لأصحابه هل تعرفونني ؟ فيقولون قد غمرتك كرامة الله من أنت فيقول أنا فلان ابن فلان ليبشر كل رجل منكم بمثل هذا { كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } أي قدمتم في أيام الدنيا
و إذا كان الرجل رأسا في الشر يدعو إليه و يأمره به فيكثر تبعه عليه و نودي باسمه و اسم أبيه فيتقدم إلى حسابه فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات و في ظاهره السيئات فيبدأ بالحسنات فيقرؤها و يظن أنه سينجو فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه : هذه حسناتك و قد ردت عليك فيسود وجهه و يعلوه الحزن و يقنط من الخير ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزنا و لا يزداد و جهه إلا سودا فإذا بلغ آخر الكتاب و جد فيه : هذه سيئاتك و قد ضوعفت عليك أي يضاعف عليه العذاب ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل قال : فينظر إلى النار و تزرق عيناه و يسود و جهه و يكسى سرابيل القطران و يقال له : انطلق إلى أصحابك فأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا فينطلق و هو يقول : { يا ليتني لم أوت كتابيه * و لم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية } يعني الموت { هلك عني سلطانيه } تفسير ابن عباس رضي الله عنهما هلكت عني حجتي قال تعالى { خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه } أي اجعلوه يصلى الجحيم { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } و الله أعلم بأي ذراع قال الحسن و قال ابن عباس رضي الله عنهما : سبعون ذراعا بذراع الملك و سيأتي في كتاب النار لهذه السلسلة مزيد بيان فاسلكوه فيها أي تدخل من فيه حتى تخرج من دبره قاله الكلبي و قيل : بالعكس و قيل : يدخل عنقه فيها ثم يجر بها و لو أن حلقة منها وضعت على جبل لأذابته فينادي أصحابه فيقول هل تعرفونني فيقولون لا ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت فيقول أنا فلان ابن فلان لكل إنسان منكم مثل هذا
و أما من أوتي كتابه وراء ظهره فتخلع كتفه اليسرى فتجعل يده خلفه فيأخذ بها كتابه و قال مجاهد : يحول مجاهد و جهه في موضع قفاه فيقرأ كتابه كذلك فتوهم نفسك إن كنت من السعداء و قد خرجت على الخلائق مسرور الوجه قد حل لك الكمال و الحسن و الجمال كتابك في يمينك آخذ بضبعيك ملك ينادي على رؤوس الخلائق هذا فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا
أما إن كنت من أهل الشقاوة فيسود و جهك و تتخطى الخلائق كتابك في شمالك أو من وراء ظهرك تنادي بالويل و الثبور و ملك آخذ بضبيعك ينادي على رؤوس الخلائق ألا إن فلان ابن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا
قلت : قوله ألا إن فلان ابن فلان دليل على أن الإنسان يدعى في الآخرة باسمه و اسم أبيه و قد جاء صريحا من حديث [ أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم و أسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم ] خرجه أبو نعيم الحافظ قال حدثنا أبو عمر بن حمدان قال حدثنا الحسن بن سفيان قال : حدثنا زكريا بن يحي قال : حدثنا هشيم عن داود بن عمر عن عبد الله بن أبي زكريا عن أبي الدرداء فذكره

باب في قوله تعالى يوم تبيض وجوه و تسود وجوه
الترمذي عن أبي غالب قال : رأى أبو إمامة رؤوسا منصوبة على برج دمشق فقال أبو أمامة : [ كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ] ثم قرأ قوله تعالى { يوم تبيض وجوه و تسود وجوه } إلى آخر الآية فقلت لأبي أمامة الباهلي : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبعا ما حدثتكموه ] قال : هذا حديث حسن
و خرج أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب [ عن مالك بن سليم الهروي أخي غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في قول الله تعالى { يوم تبيض و جوه و تسود وجوه } قال : يعني تبيض و جوه أهل السنة و تسود و جوه أهل البدعة ] و قال مالك بن أنس رضي الله عنه هي في أهل الأهواء و قال الحسن هي في المنافقين و قال قتادة في المرتدين و قال أبي بن كعب هي في الكفار و هو اختيار الطبري اللهم بيض و جوهنا يوم تبيض و جوه أو ليائك و لا تسود و جوهنا يوم تسود و جوه أعدائك بحق رسلك و أنبيائك و أصفيائك بفضلك ياذا الفضل العظيم و كرمك يا كريم

باب في قوله تعالى و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية
ابن المبارك قال : أخبرنا الحكم و أبو الحكم ـ شك ـ نعيم عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن رجل من بني أسد قال : قال عمر لكعب : و يحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة قال نعيم : يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا و هو ينظر إلى عمله قال ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنشر حول العرش و ذلك قوله تعالى { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } قال الأسدي : الصغيرة ما دون الشرك و الكبيرة الشرك [ إلا أحصاها ] قال كعب : ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فحسناته باديات للناس و هو يقرأ سيئاته فذكر معنى ما تقدم و كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول : يا ويلتنا ضجوا إلى الله من الصغائر قبل الكبائر قال ابن عباس رضي الله عنه : الصغيرة التبسم و الكبيرة الضحك بعني ما كان من ذلك في معصية الله
و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم [ ضرب بصغائر الذنوب مثلا فقال : إنما محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض و حضر صنيع القوم فانطلق كل رجل منهم يحتطب فجعل الرجل يجيء بالعود و الآخر بالعودين حتى جمعوا سوادا و أججوا نارا فشووا خبزهم و أن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه فيهلكه إلا أن يغفر الله و اتقوا محقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا ]
أنبأنا الشيخان [ أبو محمد عبد الوهاب القرشي و الإمام أبو الحسن الشافعي قالا : أخبرنا السلفي قال : أخبرنا الثقفي أخبرنا أبو طاهر محمد بن مخمش الزيادي إملاء بنيسابور قال : أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي قال : أخبرنا محمد بن حماد الأبيوردي قال : أخبرنا أنس بن عياض الليثي عن أبي حازم لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إياكم و محقرات الذنوب فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود و جاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم و إن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ] غريب من حديث أبي حازم سلمة بن دينار تفرد به عنه أبو ضمرة أنس بن عياض الليثي و لقد أحسن القائل :
( خل الذنوب صغيرها و كبيرها ها ذاك التقي
... واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى )
( لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى )
و قال جماعة من العلماء : إن الذنوب كلها كبائر قال بعضهم : لا تنظر إلى صغر الذنب و لكن انظر من عصيت فهي من حيث المخالفة كبائر و الصحيح أن فيها صغائر و كبائر ليس هذا موضع الكلام في ذلك و قد بيناه في سورة النساء في كتاب جامع أحكام القرآن و الله أعلم

باب ما يسأل عنه العبد و كيفية السؤال
قال الله تعالى : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }
و قال : { ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } و قال { قل بلى و ربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم } أي ما عملتموه و قال { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * و من يعمل مثقال ذرة شرا يره } أي يسأل عن ذلك و يجازي عليه و الآيات في هذا المعنى كثيرة و قال { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم }
الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية { لتسألن يومئذ عن النعيم } قال الناس يا رسول الله : عن أي نعيم نسأل فإنما هما الأسودان و العدو حاضر و سيوفنا على عواتقنا ؟ قال : إن ذلك سيكون و عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة يعني العبد أن يقال له ألم أنصح لك جسمك و نرويك من الماء البارد ] قال الترمذي : حديث غريب
و خرج أبو نعيم الحافظ [ من حديث الأعمش عن أبي وائل شفيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من عبد يخطو خطوة إلا سئل عنها ما أراد بها ]
مسلم [ عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ؟ و عن جسده فيما أبلاه ؟ و عن عمله ما عمل فيه ؟ و عن ماله من أين اكتسبه ؟ و فيما أنفقه ؟ ] خرجه الترمذي و قال فيه : حديث حسن صحيح رواه عن ابن عمر عن ابن مسعود رضي الله عنهما عن النبي و قال فيه : حديث غريب لا أعرفه إلا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من حديث الحسين بن قيس و الحسين يضعف في الحديث
و في الباب [ عن أبي برزة و أبي سعيد قلت : و معاذ بن جبل أخبرناه الشيخ الراوية أبو محمد عبد الوهاب بثغر الإسكندرية قراءة عليه قال : قرأ على البيهقي و أنا أسمع قال : حدثنا الحاجب أبو الحسن علي بن محمد بن علي العلاف ببغداد سنة أربع و سبعين و أربعمائة قال : أخبرنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن بشران المعدل قال : حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري بمكة في شوال سنة ثلاث و خمسين و ثلاثمائة قال : أخبرنا أبو سعيد الفضل بن محمد الجندي إملاء في المسجد الحرام سنة تسع و تسعين و مائتين قال : أخبرنا صامت بن معاذ الجندي أخبرنا عبد الحميد عن سفيان بن سعيد الثوري عن صفوان بن سليم عن عدي بن عدي عن الصالحي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال : عن عمره فيما أفناه ؟ و عن شبابه فيما أبلاه ؟ و عن ماله من أين اكتسبه ؟ و فيما أنفقه ؟ و عن عمله ماذا عمل فيه ؟ ]
و خرج الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب [ أخبرنا أحمد بن خالد الحلبي أخبرنا يوسف بن يونس الأفطس قال : أخبرنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن عمله ]
مسلم [ عن صفوان بن محرز قال : قال رجل لابن عمر رضي الله عنه كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول : يدنى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف ؟ فيقول : رب أعرف قال فيقول : إني سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم قال : فيعطى صحيفة حسناته و أما الكفار و المنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله ] أخرجه البخاري و قال في آخره : { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين }
[ و روي من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة خلا الله عز و جل بعبده المؤمن يوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر الله له لا يطلع على ذلك ملك مقرب و لا نبي مرسل و ستر عليه من ذنوبه ما يكرهه أن يقف عليها ثم يقول لسيئاته كوني حسنات ]
قال المؤلف : خرجه مسلم بمعناه و سيأتي آنفا إن شاء الله تعالى
و خرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتاب الديباج له حدثنا هارون بن عبد الله قال : حدثنا سيار قال : قال جعفر قال : حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : يدني الله العبد منه يوم القيامة و يضع عليه كفنه فيستره من الخلائق كلها و يدفع إليه كتابه في ذلك الستر فيقول له : اقرأ يا ابن آدم كتابك قال : فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه و يمر بالسيئة فيسود لها وجهه قال : فيقول الله تعالى له : أتعرف يا عبدي ؟ قال : فيقول نعم يا رب أعرف قال : فيقول : إني أعرف بها منك قد غفرتها لك قال : فلا تزال حسنة تقبل فيسجد و سيئة تغفر فيسجد فلا يرى الخلائق منه إلا ذلك حتى ينادي الخلائق بعضها بعضا طوبى لهذا العبد الذي لم يعص قط و لا يدرون ما قد لقي فيما بينه و بين الله تعالى مما قد وقفه عليه
قلت : نسخة من هنا إلى الفصل قوله لا يزول أخبرنا الشيخ الراوية القرشي عبد الوهاب قراءة عليه بثغر الإسكندرية حماه الله قال : قرئ على الحافظ السلفي و أنا أسمع قال : [ حدثنا الحاجب أبو الحسن بن العلاء و قال : أخبرنا أبو القاسم بن بشران أخبرنا الأجري حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى السونيطي حدثنا أحمد بن أبي رجاء المصيصي حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه و تخبأ كبارها فيقال له : عملت يوم كذا و كذا كذا و كذا ثلاث مرات قال : و هو يقر ليس ينكر قال : و هو مشفق من الكبائر أن تجيء قال : فإذا أراد الله به خيرا قال : أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول حين طمع : يا رب إن لي ذنوبا ما رأيتها ها هنا قال : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحك حتى بدت نواجذه ثم تلا { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } ] خرجه مسلم في صحيحه عن محمد بن عبد الله بن نمير قال : حدثنا الأعمش فذكره
فصل : قوله [ لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل ] : عام لأنه نكرة في سياق النفي لكنه مخصوص بقوله عليه السلام [ يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب ] على ما يأتي
و بقوله تعالى لمحمد عليه السلام : أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن و قد تقدم الحديث
و بقوله تعالى : { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام }
قوله عليه السلام : [ و عن عمله ما عمل فيه ]
قلت : هذا مقام مخوف لأنه لم يقل و عن عمله ما قال فيه و إنما قال ما عمل فيه فلينظر العبد ما عمل فيما علمه هل صدق الله في ذلك و أخلصه حتى يدخل فيمن أثنى الله عليه بقوله : { أولئك الذين صدقوا } أو خالف علمه بفعله فيدخل في قوله تعالى : { فخلف من بعدهم خلف و رثوا الكتاب } الآية و قوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب } و قوله : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون }
و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و سيأتي ذكرها في أبواب النار إن شاء الله تعالى قوله : [ حتى يضع عليه كنفه ] أي ستره و لطفه و إكرامه فيخاطب خطاب الملاطفة و يناجيه مناجاة المصافاة و المحادثة فيقول : هل تعرف ؟ فيقول : رب أعرف فيقول الله تعالى : ممتنا عليه و مظهرا فضله لديه : فإني قد سترتها عليك في الدنيا أي لم أفضحك بها فيها و أنا أغفرها لك اليوم ثم قيل هذه الذنوب تاب منها كما ذكره أبو نعيم عن الأوزاعي عن هلال بن سعد قال : إن الله يغفر الذنوب و لكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يوقفه عليها يوم القيامة و إن تاب منها
قال المؤلف : و لا يعارض هذا ما في التنزيل و الحديث من أن السيئات تبدل بالتوبة حسنات فلعل ذلك يكون بعد ما يوقفه عليها و الله أعلم
و قيل في صغائر اقترفها و قيل كبائر بينه و بين الله تعالى اجترحها و أما ما كان بينه و بين العباد فلا بد فيها من القصاص بالحسنات و السيئات على ما يأتي و قيل : ما خطر بقلبه ما لم يكن في وسعه و يدخل تحت كسبه و يثبت في نفسه و إن لم يعلمه و هذا اختيار الطبري و النحاس و غير واحد من العلماء جعلوا الحديث مفسرا لقوله تعالى : { و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فتكون الآية على هذا محكمة غير منسوخة و الله أعلم
و قد بينا في كتاب جامع أحكام القرآن و المبين لما تضمن من السنة و آي القرأن و الحمد لله
و روي عن ابن مسعود أنه قال : ما ستر الله على عبد في الدنيا إلا ستر الله عليه في الآخرة و هذا مأخوذ من حديث النجوى و من قوله عليه السلام : [ يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة ] خرجه مسلم
و في صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : [ من ستر مسلما ستره الله في الدنيا و الآخرة ] و روى [ من ستر على مسلم عورته ستر الله عورته يوم القيامة ] قال أبو حامد : فهذا إنما يرجوه عبد مؤمن ستر على الناس عيوبهم و احتمل في حق نفسه تقصيرهم و لم يحرك لسانه بذكر مساوئ الناس و لم يذكرهم في غيبتهم بما يكرهون لو سمعوه فهذا جدير بأن يجازى بمثله في القيامة
فصل : و في قوله : [ سترتها عليك في الدنيا و أنا أغفرها لك اليوم ] نص منه تعالى على صحة قول أهل السنة في ترك إنفاذ الوعيد على العصاة من المؤمنين و العرب تفتخر بخلف الوعيد حتى قال قائلهم :
( و لا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... و لا أختشى من روعة المتهدد )
( و إني متى أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي و منجز موعدي )
قال ابن العربي : إنه كذلك عند العرب و أما ملك الملوك القدوس الصادق فلا يقع أبدا خبره إلا على وفق مخبره كان ثوابا أو عقابا فالذي قال المحققون في ذلك قول بديع و هو أن الآيات وقعت مطلقة في الوعد و الوعيد عامة فخصصتها الشريعة و بينها الباري تعالى في كتابه في آيات أخر كقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء } و قوله تعالى : { و إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } الآية و كقوله تعالى : { حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو } و بالشفاعة التي أكرم الله بها صلى الله عليه و سلم و من شاء من الخلق من بعده
باب ما جاء أن الله تعالى يكلم العبد ليس بينه و بينه ترجمان
مسلم [ عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه و بينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم و ينظر أيسر منه فلا يرى إلا ما قدم و ينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار و لو بشق تمرة ] زاد ابن حجر قال الأعمش : و حدثني عمرو بن مرة عن خيثمة عن عدي مثله و زاد فيه [ و لو بكلمة طيبة ] أخرجه البخاري و الترمذي و قال : حديث حسن صحيح
ابن المبارك قال : [ أخبرنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن و قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجاء بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول له : أعطيتك و خولتك و أنعمت عليك فماذا صنعت ؟ فيقول : يا رب جمعته و ثمرته فتركته أكثر ما كان فارجعني آتيك به فيقول الله تعالى : أرني ما قدمت فيقول : فإذا عبد لم يقدم خيرا فيمضي به إلى النار ] خرجه ابن العربي في سراج المريدين و زاد فيه بعد قوله كأنه بذج و قال فيه حديث صحيح من مراسيل الحسن و قال الهروي كأنه بدوج من الذل
قال أبو عبيد : هو ولد الضأن و جمعه بدجان و قال الجوهري : البدوج من الضأن بمنزلة العقود من أولاد المعز و أنشدوا :
( قد هلكت جارتنا من الهمج ... و إن تجع تأكل عقودا أو بدج )
قلت : و قوله : ما منكم من أحد مخصوص بما ذكرناه في الباب قبل أي ما منكم ممن لا يدخل الجنة بغير حساب من أمتي إلا وسيكلمه الله و الله أعلم فتكفر في عظيم حياتك إذا ذكرك ذنوبك شقاها إذ يقول : يا عبدي أما استحييت مني فبارزتني بالقبح و استحييت من خلقي فأظهرت لهم الجميل أكنت أهون عليك من سائر عبادي استخففت بنظري إليك فلم تكترث به و استعظمت نظر غيري ألم أنعم عليك فماذا غرك بي ؟
و عن ابن مسعود قال : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ثم يقول يا ابن آدم ما غرك بي ؟ يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ يا ابن آدم ألم أكن رقيبا على عينيك و أنت تنظر بهما إلى ما لا يحل لك ألم أكن رقيبا على أذنيك ؟ و هكذا عن سائر الأعضاء فكيف ترى حياءك و خجلك و هو يعد عليك إنعامه و معاصيك و أياديه و مساويك ؟ فإن أنكرت شهدت عليك جوارحك فنعوذ بالله من الافتضاح على ملأ الخلق بشهادة الأعضاء إلا أن الله وعد المؤمن أن يستر عليه و لا يطلع عليه غيره كما ذكرنا و ذلك بفضل منه
و هل يكلم الكفار عند المحاسبة لهم ؟ فيه خلاف تقدم بيانه في أسماء القيامة و يأتي أيضا في باب ما جاء في شهادة أركان الكافر و المنافق عليهما و لقائهما بالله عز و جل مستوفي إن شاء الله تعالى
فصل : فإن قيل : أخبر الله تعالى عن الناس أنهم مجزيون محاسبون و أخبر أنه يملأ جهنم من الجنة و الناس أجمعين و لم يخبر عن ثواب الجن و لا عن حسابهم بشيء فما القول في ذلك عندكم و هل يكلمهم الله ؟ فالجواب أن الله تعالى أخبر أن الإنس و الجن يسألون فقال خبرا عما يقال لهم { يا معشر الجن و الإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي و ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا } الآية و هذا سؤال فإذا ثبت بعض السؤال ثبت كله و لما كانت الجن ممن يخاطب و يعقل قال منكم و إن كانت الرسل من الإنس و غلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث و أيضا لما كان الحساب عليهم دون الخلق قال منكم فصير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرضة القيامة فلما صاروا في تلك العرضة في حساب واحد في شأن الثواب و العقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة لأن بدء خلقهم للعبودية كما قال تعالى : { و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون } و الثواب و العقاب على العبودية إلا أن الجن أصلهم من مارج من نار و أصلنا من تراب و خلقهم غير خلقنا و منهم مؤمن و كافر و عدونا إبليس عدو لهم يعادي مؤمنهم و يوالي كافرهم و فيهم أهواء شيعية و قدرية و مرجئة و هو معنى قوله : { كنا طرائق قددا }
و قيل : إن الله تعالى لما قال : { و الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } دخل في الجملة الجن و الإنس فثبت للجن من وعد الجنة لعموم الآية ما ثبت للإنس
فإن قيل : فما الحكمة في ذكر الجنة مع الإنس في الوعيد و ترك إفراده الإنس عنهم في الوعد ؟
فالجواب : أنهم قد ذكروا أيضا في الوعد لأنه سبحانه يقول : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس إنهم كانوا خاسرين } ثم قال : { و لكل درجات مما عملوا } و إنما أراد لكل من الإنس و الجن فقد ذكروا في الوعد مع الإنس
فإن قيل : فقد ذكر يخاطب الجن والإنس في النار لأن الله تعالى قال : { و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق } إلى قوله { و لوموا أنفسكم } { قال قرينه ربنا ما أطغيته و لكن كان في ضلال بعيد } و لم يأت عن تفاوض الفريقين في الجنة خبر قيل : إنما ذكر من تفاوضهم في النار أن الواحد من الإنس يقول للشيطان الذي كان قرينه في الدينا إنه أطغاني و أضلني فيقول له قرينه : ربنا ما أطغيته و لكنه كان ضالا بنفسه و لا سبب بين الفريقين يدعو أهل الجنة فيهما إلى التفاوض فلذلك سكت عنهما و أيضا فإن الله تعالى أخبر الناس أن عصاتهم يكونون قرناء الشياطين يتخاصمون في النار ليزجرهم بذلك عن التمرد و العصيان و هذا المعنى مقصود في الأخبار فلهذا سكت عن ذلك في الوعد به
باب القصاص يوم القيامة ممن استطال في حقوق الناس و في حسبه لهم حتى
ينصفوا منه
مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ] البخاري عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينارا و لا درهم إن كان له عمل صالح أخذه منه بقدر مظلمته و إن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ]
مسلم [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس من لا درهم له و لا متاع قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة و صيام و زكاة و يأتي قد شئتم هذا و قذف هذا و أكل هذا و سفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ]
و خرج ابن ماجه [ حدثنا محمد بن ثعلبة بن سواء حدثنا عمي محمد بن سواء عن حسين المعلم عن مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من مات و عليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثم دينار و لا درهم من ترك دنيا أو ضياعا فعلى الله و رسوله ]
الحارث بن أبي أسامة [ و عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يحشر الله العباد أو قال الناس ـ شك ـ و أومأ بيده إلى الشام عراة غرلا بهما قال : ما بهما ؟ قال : ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من بعد و من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة و واحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى اللطمة و لا ينبغي لأحد من أهل النار و واحد من أهل الجنة يطلبه حتى اللطمة قال : قلنا : كيف و إنما نأتي الله عراة حفاة قال بالحسنات و السيئات ]
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : هذا الحديث الذي أراد البخاري بقوله و رحل جابر عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد
سفيان بن عيينة عن مسعر عن عمرو بن مرة قال : سمعت الشعبي يقول : حدثني الربيع بن خيثم و كان من معادن الصدق قال : إن أهل الدين في الآخرة أشد تقاضيا له منكم في الدنيا يحبس لهم فيأخذونه فيقول : يا رب ألست تراني حافيا ؟ فيقول : خذوا من حسناته بقدر الذي لهم فإن لم يكن له حسنات يقول : زيدوا على سيئاته من سيئاتهم و ذكر أبو عمر بن عبد البر من [ حديث البراء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : صاحب الدين مأسور يوم القيامة بالدين ]
و روى أبو نعيم الحافظ بإسناده عن زاذان أبي عمر قال : دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز و اليمنة قد سبقوني إلى المجلس فقلت يا عبد الله من أجل أبي رجل أعجمي أدنيت هؤلاء و أقصيتني قال : ادن فدنوت حتى ما كان بيني و بينه جليس فسمعته يقول : يؤخذ بيد العبد أو الأمة فينصب على رؤوس الأولين و الآخرين ثم ينادي مناد هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة بأن يدون لها الحق على ابنها أو أختها أو أبيها أو على زوجها ثم قرأ ابن مسعود { فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون } فيقول الرب تعالى للعبد : ائت هؤلاء حقهم فيقول : يا رب فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم ؟ فيقول للملائكة : خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل من خبر ضاعفها حتى يدخله بها الجنة ثم قرأ { إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا عظيما } و إن كان عبدا شقيا قالت الملائكة رب فنيت حسناته و بقي طالبون فيقول للملائكة : خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته و صكوا له صكا إلى النار
و عنه [ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إنه ليكون للوالدين على ولدهما دين فإذا كان يوم القيامة يتعلقان به فيقول أنا ولدكما فيودان أو يتمنيان لو كان أكثر من ذلك ]
و روى رزين عن أبي هريرة قال : كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة هو لا يعرفه فيقول : مالك إلي و ما بيني و بينك معرفة ؟ فيقول : كنت تراني على الخطايا و على المنكر و لا تنهاني و قال ابن مسعود : تفرح المرأة يوم القيامة أن يكون لها حق و على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها أو أختها { فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون }
ابن ماجه [ عن جابر رضي الله عنه قال : لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مهاجرة البحر قال : ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟ فقال فتية منهم : بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائزها تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كفيه ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت : سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي و جمع الأولين و الآخرين و تكلمت الأيدي و الأرجل بما كانوا يكسبون فسوف تعلم كيف أمري و أمرك عنده غدا قال يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقت صدقت كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ]
فصل : أنكر بعض المتغفلة الذين اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله إعجابا برأيهم و تحكما على كتاب الله تعالى و سنة نبيه محمد صلى الله عليه و سلم بعقول ضعيفة و أفهام سخيفة فقالوا : لا يجوز في حكم الله تعالى و عدله أن يضع سيئات من اكتسبها على من لم يكتسبها و يؤخذ حسنات من عملها فتعطى من لم يعملها و هذا زعموا جورا و أولوا قول الله تعالى { و لا تزر وازرة وزر أخرى } فكيف تصح هذه الأحاديث و هي تخالف ظاهر القرآن و تستحيل في العقل ؟
و الجواب : أن الله سبحانه و تعالى لم يبن أمور الدين على عقول العباد و لم يعد و لم يوعد على ما تحملته عقولهم و يدركونها بأفهامهم بل وعدوا وعدا بمشيئته و إرادته و أمر و نهي بحكمته و لو كان كلما لا تدركه العقول مردودا لكان أكثر الشرائع مستحيلا على موضوع عقول العباد و ذلك أن الله تعالى أوجب بخروج المني الذي هو طاهر عند بعض الصحابة و كثير من الأئمة و أوجب غسل الأطراف من الغائط الذي لا خلاف بين الأئمة و سائر من يقول بالعقل و غيره في نجاسته و قذارته و نتنه و أوجب بريح يخرج من موضع الحدث ما أوجب بخروج الغائط الكثير المتفاحش فبأي عقل يستقيم هذا و بأي رأي تجب مسواة ريح ليس لها عين قائمة بما يقوم عينه و تزيد على الريح نتنا و قذرا قد أوجب الله قطع يمين مؤمن بعشرة دراهم و عند بعض الفقهاء بثلاثة دراهم و دون ذلك ثم سوى بين هذا القدر من المال و بين مائة ألف دينار فيكون القطع فيهما سواء و أعطى الأم من ولدها الثلث ثم إن كان للمتوفى إخوة جعل لها السدس من غير أن ترث الإخوة من ذلك شيئا فبأي عقل يدرك هذا إلا تسليما وانقيادا من صاحب الشرع إلى غير ذلك فكذلك القصاص بالحسنات و السيئات و قد قال و قوله الحق : { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس } الآية و قال : { و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم } و قال : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم } و هذا يبين قوله تعالى { و لا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى إذا لم تتعد فإذا تعدت و استطالت بغير ما أمرت فإنها تحمل عليها و يؤخذ منها بغير اختيارها كما تقدم في أسماء القيامة عند قوله تعالى { و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا }
فصل : و إذا تقرر هذا فيجب على كل مسلم البدار إلى محاسبة نفسه كما قال عمرو رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا و إنما حسابه لنفسه أن يتوب عن كل معصية قبل الموت توبة نصوحا و يتدارك ما فرط من تقصير في فرائض الله عز و جل و يرد المظالم إلى أهلها حبة حبة و يستحل كل من تعرض له بلسانه و يده و سطوته بقلبه و يطيب قلوبهم حتى يموت و لم يبق عليه فريضة و لا مظلمة فهذا يدخل الجنة بغير حساب فإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه فهذا يأخذ بيده و هذا يقبض على ناصيته وهذا يتعلق بلبته و هذا يقول ظلمتني و هذا يقول شتمتني و هذا يقول استهزأت بي و هذا يقول ذكرتني في الغيبة بما يسوءني و هذا يقول جاورتني فأسأت جواري و هذا يقول عاملتني فغششتني و هذا يقول بايعتني و أخفيت عني عيب متاعك و هذا يقول كذبت في سعر متاعك و هذا يقول رأيتني محتاجا و كنت غنيا فما أطعمتني و هذا يقول وجدتني مظلوما و كنت قادرا على دفع الظلم فداهنت الظلم و ما راعيتني فبينما أنت كذلك و قد أنشب الخصماء فيك مخاليبهم و احكموا في تلابيبك أيديهم و أنت مبهوت متحير من كثرتهم حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا و قد استحق عليك مظلمة بغيبة أو جناية أو نظر بعين استحقار و قد ضعفت عن مقاومتهم و مددت عنق الرجاء إلى سيدك و مولاك لعله يخلصك من أيديهم إذ قرع سمعك نداء الجبار { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم } فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة و توقن نفسك بالبوار و تتذكر ما أنذرك الله به على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم حيث قال : { و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } إلى قوله { لا يرتد إليهم طرفهم و أفئدتهم هواء }
فما أشد فرحك اليوم بتمضمضك بأعراض الناس و تناولك أموالهم و ما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقف بك على بساط العدل و شوفهت بخطاب السيئات و أنت مفلس فقير عاجز مهين لا تقدر على أن ترد حقا أو تظهر عذرا فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك و تنقل إلى أخصامك عوضا عن حقوقهم كما ورد في الأحاديث المذكورة في هذا الباب
فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوم إذ ليس لك حسنة قد سلمت من آفات الرياء و مكائد الشيطان فإن سلمت حسنة واحدة في مدة طويلة ابتدرها خصماؤك و أخذوها و يقال : لو أن رجلا له ثواب سبعين نبيا و له خصم بنصف دانق لم يدخل الجنة حتى يرضي خصمه و قيل : يؤخذ بدانق قسط سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم ذكره القشيري في التحبير له عند اسمه المقسط الجامع
قال أبو حامد : و لعلك لو حاسبت نفسك و أنت مواظب على صيام النهار و قيام الليل لعلمت أنه لا يمضي عليك يوم إلا و يجري على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفي جميع حسناتك فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام و الشهوات و التقصير في الطاعات ؟ و كيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء ؟ { و يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا } فكيف بك يا مسكين في يوم ترى فيه صحيفتك خالية من حسنات طال فيها تعبك ؟ فتقول : أين حسناتي ؟ فيقال : نقلت إلى صحيفة خصمائك و ترى صحيفتك مشحونة بسيئات غيرك فتقول يا رب هذه سيئات ما قارفتها قط فيقال : هذه سيئات الذين اغتبتهم و شتمتهم و قصدتهم بالسوء و ظلمتهم في المعاملة و المبايعة و المجاورة و المخاطبة و المناظرة و المذاكرة و المدارسة و سائر أصناف المعاملة فاتق الله في مظالم العباد بأخذ أموالهم و التعرض لأعراضهم و أبشارهم و تضييق قلوبهم و إساءة الخلق في معاشرتهم فإن ما بين العبد و بين الله خاصة المغفرة إليه أسرع و من اجتمعت عليه مظالم و قد تاب عنها و عسر عليه استحال أرباب المظالم من حيث لا يطلع عليه إلا الله فليكثر من الاستغفار لمن ظلمه فعساه أن يقربه ذلك إلى الله فينال به لطفه الذي ادخره لأرباب المؤمنين في دفع مظالم العباد عنهم بإرضائه إياهم على ما يأتي بيانه في باب إرضاء الخصوم بعد هذا إن شاء الله تعالى
فصل : قوله في الحديث : فيناديهم بصوت استدل به مكن قال بالحرف و الصوت و أن الله يتكلم بذلك تعالى الله عما يقوله المجسمون و الجاحدون علوا كبيرا و إنما يحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى و أمره و مثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل نادى الأمير و بلغني نداء الأمير كما قال تعالى : { و نادى فرعون في قومه } و إنما المراد نادى المنادي عن أمره و أصدر نداءه عن إذنه و هو كقولهم أيضا : قتل الأمير فلانا و ضرب فلانا و ليس المراد توليه لهذه الأفعال و تصديه لهذه الأعمال و لكن المقصود صدورها عن أمره و قد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى و الرشاد : ألا إن فلان ابن فلان كما تقدم
و مثله ما جاء في حديث التنزيل مفسرا فيما أخرجه النسائي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه و أبي سعيد قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله عز و جل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا يقول : هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟ ] صححه أبو محمد عبد الحق و كل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء فهذا التأويل فيه و أن ذلك من باب حذف المضاف و الدليل على ذلك ما ثبت من قدم كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتاب الديانات
فإن قال بعض الأغبياء : لا وجه لحمل الحديث على ما ذكرتموه فإن فيه [ أنا الديان ] و ليس يصدر هذا الكلام حقا و صدقا إلا من رب العالمين
قيل له : إن الملك إذا كان يقول عن الله تعالى و ينبئ عنه فالحكم يرجع إلى الله رب العالمين و الدليل عليه أن الواحد منا إذا تلا قول الله تعالى { إني أنا الله } فليس يرجع إلى القارئ و إنما القارئ ذاكر لكلام الله تعالى و دال عليه بأصواته و هذا بين و قد أتينا عليه في الصفات من كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى و صفاته العليا
فصل : و اختلف االناس في حشر البهائم و في قصاص بعضها من بعض فروي عن ابن عباس أن حشر الدواب و الطير موتها و قال الضحاك : و روي عن ابن عباس في رواية أخرى : أن البهائم تحشر و تبعث قال أبو ذر و أبو هريرة و عمرو بن العاص و الحسن البصري و غيرهم و هو الصحيح لقوله تعالى : { و إذا الوحوش حشرت } و قوله { ثم إلى ربهم يحشرون } قال أبو هريرة : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم و الطير و الدواب و كل شيء فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني ترابا فذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار { و يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا } و نحوه عن ابن عمر و عبد الله بن عمرو بن العاص و في الخبر : إن البهائم إذا صارت ترابا يوم القيامة حول ذلك التراب في وجوه الكفار فذلك قوله تعالى { وجوه يومئذ عليها غبرة } أي غبار و قالت طائفة : الحشر في قوله تعالى { ثم إلى ربهم يحشرون } راجع الكفار و ما تخلل من قوله تعالى { و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء } كلام معترض و إقامة حجج و أما الحديث فالمقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب و القصاص فيه حتى يفهم منه أنه لا بد لكل أحد منه و أنه لا محيص لمخلوق عنه و عضدوا ذلك بما روي في غير الصحيح عن بعض رواياته من الزيادة فقال : حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء و للحجر لما ركب الحجر و العود لما خدش العود قالوا فظهر من هذا أن المقصود التمثيل المفيد للاعتبار و التهويل لأن الجمادات لا تعقل خطابها و لا عقابها و ثوابها و لم يصر إليه أحد من العقلاء و متخيلة من جملة المعتوهين الأغبياء أجاب بعض من قال إنها تحشر و تبعث بأن قال إن من الحكمة الإلهية أن لا يجري أمر من أمور الدنيا و الآخرة إلا على سنة مسنونة و حكمة موزونة
و من قال هنا بما قالته طائفة من المتوسمة بالعلم المتسمة بالفقه و الفهم على الزعم أن الجامد لا يفقه و الحيوان غير الإنسان لا يعقل و إنما هو منزل في الحيوان و لسان حال في الجامد و النامي و قال إن الله تعالى يقول في الضالين المكذبين { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } و لو كان عندها عقل أو فهم ما نزل بالكافر الفاسق إلى درجتها في موضع التنقيص و التقصير و الله سبحانه قد وصفه بالموت و الصمم في موضع التبصير و التذكير فقال : { و لا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين } و قال { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي } { صم بكم عمي فهم لا يرجعون }
قيل له : ليس الأمر كما ذكرت و لا الحق على شيء مما زعمت و أنه ليس عليك من حيث الزعم و رؤية النفس في درجة العلم أبدا من الآية التي وقفت فيها إلى التي قبلها إن شئت فارجع بصرك في الذي رأيت تجده قد وصفهم عز و جل بالموت و الصمم كما وصفهم بالعمى و البكم و ليسوا في الحقيقة الظاهرة بموتى و لا صم و لا بعميان و لا بكم و إنما هم أموات بالعقول و الأذهان عن صفة الإيمان و حياة دار الحيوان صم عن كلمة الأحياء عمى عن النظر في مرآة وجوه الأخلاء كذلك وصف الأنعام بضلال و ليست في الحقيقة بضلال من حيث شرعتها و حكمتها إنما ذلك من حيث قد كنا وافقنا فكيف يكون ذلك و الله تعالى يقول { و ما من دابة في الأرض } إلى قوله { يحشرون } فوربك لنحشرهم جما غفيرا و لنحاسبن حسابا يسيرا و لو كان من عند غير الله و لوجدوا فيه اختلافا كثيرا و أنه تعالى لا يسأل إلا عاقلا و لا يحاسب إلا مفضولا و ضلا و إنما جعل لكل موجود من موجوداته في أشتات الخلائق و أجناس العوالم دار دنيا و دار أخرى و جعل لها أفلاكا و آفاقا و ظلما و أضواء فكل في فلكه و أفقه بليله و نهاره و سمعه و بصره و علمه و فهمه و حاكم من عقله أو جهله و قائم بنحلته و حكمته و سنته و شرعته فأدنى و أعلى من الروحانية الأقصى إلى الجمادية الأقسى فالملائكة الروحانية في مصافها ترانا من حيث لا نرى و تعلم منا أكثر مما نعلم و إنها لتشاهد من نقصنا و قلة عقلنا في الموضع الذي يجب العلم به و إعمال العقل فيه ما تحكم به علينا أكثر مما نحكم به على الأنعام من قلة العقل و تحقيق المعرفة فمن نظر إلى الأنعام وجدها من حيث نحن لا من حيث فلكها و أفقها لا تسمع و لا تعقل إلا ميزا ما قدر ما تتسخر به و تتذلل طبعا فتلقن المراد منها من هذا الفن خاصة لا غير و أما ما نحن بسبيله من تصرفات و تعملات فليس لها ذلك من حيث الفلكية التي أحازتها عنا و الأفقية التي اقتطعتها منا فهي في طرقاتنا ضلال و بتعملاتنا و أحوال تصرفاتنا جهال و أما من حيث شرعتها و باطن رؤيتها فعارفة عقال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخذ الجمل القضم الذي ند و امتنع بحائط بني النجار و غلب الخلق عن أخذه و الوصول إليه حتى جاء صلى الله عليه و سلم فلما مشي إليه ورآه الجمل برك لديه و جعل يمر بمشفره على الأرض بين يديه تذللا و تسخيرا فقال صلى الله عليه و سلم هات الخطام فلما خطمه و رأى الناس يعجبون منه رد رأسه إليهم فقال ألا تعجبون أو كما قال إنه ليس شيء بين السماء و الأرض إلا يعلم أني رسول الله غير عاصي الجن و الإنس ] و ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ما دابة إلا و هي مصيخة بأذنها يوم الجمعة تنتظر قيام الساعة ] و قال صلى الله عليه و سلم [ لا يسمع مدى صوت المؤذن جن و لا إنس و لا شجر و لا مدر و لا شيء إلا شهد له يوم القيامة ]
قال المؤلف رحمه الله : خرجه مالك في موطئه و ابن ماجه في سننه و اللفظ له من حديث أبي سعيد الخدري و قد تقدم أن الميت يسمع صوته كل شيء إلا الإنسان و في رواية إلا الثقلين و الأخبار في هذا المعنى كثيرة قد أتينا على جملة منها في هذا الكتاب فكل حيوان و جماد محشور لما عنده من الإدراك و المشاهدة و الحضور من حيث هي لا من حيث نحن قال الله تعالى { و إن من شيء إلا يسبح بحمده } و قال { و لله يسجد من في السموات و الأرض طوعا و كرها و ظلالهم بالغدو و الآصال } و قال عز من قائل : { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات و من في الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب } لا يقال إن هذا السجود و التسبيح لسان حال ليس بلسان المقال فإنا نقول هذا مجاز و الله سبحانه يقص الحق كما أخبر في كتابه إن الحكم إلا الله يقص الحق
و من نظر بنور الله جاز العين إلى المعنى و حل الرمز و فك المعمى و هم إنما نظروا من حيث هم و من حيث العقل البشري و لم ينظروا الحياة الفلكية من حيث هي فغابوا عن الحضور و جمدوا على القصور و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
قلت : هذا كله صحيح لحديث أبي سعيد الخدري المذكور و هو صحيح و كذلك حديث أبي هريرة في شهادة الأرض بما عمل عليها و هو صحيح و كذلك حديث أبي سعيد الخدري في شهادة المال صحيح و سيأتي
و قد روى ليث ابن أبي سليم [ عن عبد الرحمن بن مروان عن الهزيل عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مر بشاتين تنتطحان فقال : إن الله تعالى ليقضين يوم القيامة لههذ الجلحاء من هذه القرناء ]
و ذكر ابن وهب أخبرني ابن لهيعة و عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة أن أبا سالم الجيشاني حدثه أن ثابت بن طريف استأذن على أبي ذر فسمعه رافعا صوته يقول : أما و الله لولا يوم الخصومة لسؤتك قال ثابت : فدخلت فقلت ما شأنك يا أبا ذر ؟ قال : هذه قلت و ما عليك إن رأيتك تضربها قال [ و الذين نفسي بيده أو نفس محمد بيده لتسئلن الشاة فيما نطحت صاحبتها و ليسئلن الجماد فيما نكب أصبع الرجل ]
و روي عن شعبة [ عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم شاتين تنتطحان فقال : يا أبا ذر أتدري فيم تنتطحان ؟ قلت : لا يا رسول الله قال : لكن الله يدري و يقضي بينهما يوم القيامة ] أخرجه أبو داود الطيالسي فقال حدثنا شعبة قال : أخبرني الأعمش قال سمعت منذر الثوري يحدث عن أصحاب له عن أبي ذر بلفظه و معناه و قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم و حشر الجن و الإنس و الدواب و الوحوش فإذا كان ذلك اليوم جعل الله القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء تنتطحها فإذا فرغ الله من القصاص بين الدواب قال لها كوني ترابا فيراها الكافر فيقول يا ليتني كنت ترابا ]
و ذكر عبد الكريم الإمام أبو القاسم القشيري في التحبير له فقال : و في خبر الوحوش و البهائم تحشر يوم القيامة فتسجد لله سجدة فتقول الملائكة ليس هذا يوم سجود هذا يوم الثواب و العقاب و تقول البهائم هذا سجود شكر حيث لم يجعلنا الله من بني آدم و يقال أن الملائكة تقول للبهائم : لم يحشركم الله جل ثناؤه لثواب و لا لعقاب و إنما يحشركم تشهدون فضائح بني آدم ذكره القشيري في اسمه المقسط الجامع و هذا قول ثابت فتأمله
فصل : ظن بعض العلماء أن الصيام مختص بعامله موفرا له أجره و لا يؤخذ منه شيء لمظلمة ظلمها متمسكا بقوله تعالى [ الصيام لي و أنا أجزي به ]
و أحاديث هذا الباب ترد قوله و أن الحقوق تؤخذ من سائر الأعمال صياما كان أو غيره و قيل : إن النوم إذا لم يكن معلوما لأحد و لا مكتوبا في الصحف هو الذي يستره الله و يخبؤه عليه حتى يكون له جنة من العذاب فيطرحون أولئك عليه سيئاتهم فيذهب عنهم و يقيه الصوم فلا يضر أصحابها لزوالها عنهم و لا له لأن الصوم جنته قال القاضي أبو بكر بن العربي في سراج المريدين : و هو تأويل حسن إن شاء تعالى و لا تعارض و الحمد لله
باب
أبو داود [ عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن آبائهم دنية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه في حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة ] صححه أبو محمد عبد الحق
باب في إرضاء الله تعالى الخصوم يوم القيامة
روينا في الأربعين و ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله تعالى [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم جالس إذ رأيته ضحك حتى بدت ثناياه فقيل له : مم تضحك يا رسول الله ؟ قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي ربي عز و جل فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من أخي فقال الله تعالى : أعط أخاك مظلمته فقال يا رب ما بقي من حسناتي شيء فقال يا رب فليحمل من أوزاري و فاضت عينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال إن ذلك اليوم ليوم يحتاج الناس فيه إلى أن تحمل عنهم أوزارهم ثم قال الله تعالى للطالب حقه ارفع بصرك فانظر إلى الجنان فرفع بصره ما أعجبه من الخير و النعمة فقال : لمن هذا يا رب ؟ فقال : لمن أعطاني ثمنه قال و من يملك ثمن ذلك ؟ قال أنت قال : بم إذا ؟ قال بعفوك عن أخيك قال يا رب فإني قد عفوت عنه قال خذ بيد أخيك فأدخله الجنة ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فاتقوا الله و أصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ]
و عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال : يجيء المؤمن يوم القيامة قد أخذه صاحب الدين فيقول ديني على هذا فيقول الله تعالى أنا أحق من قضى عن عبدي قال : فيرضى هذا من دينه و يغفر لهذا و قال ابن أبي الدنيا و حدثني عبد الله بن محمد بن إسماعيل قال بلغني أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه بيعني ما يتحمل المتحملون من أجلي و ما يكابدون في طلب مرضاتي أتراني أنسى لهم عملا كيف و أنا أرحم الراحمين بخلقي لو كنت معاجلا بالعقوبة أحدا أو كانت العقوبة من شأني لعاجلت بها القانطين من رحمتي و لو يرى عبادي المؤمنون كيف استوهبهم ممن ظلموه ثم أحكم لمن وهبهم بالخلد المقيم في جواري إذا ما اتهموم فضلي و كرمي
فصل : قلت : و هذا لبعض الناس ممن أراد الله بها أن لا يعذبه بل يعفو عنه و يغفر له و يرضى عنه خصمه و قد يكون هذا في الظالمين الأوابين و هو قوله تعالى { إنه كان للأوابين غفورا } و الأواب : الذي أقلع عن الذنب فلم يعد إليه كذا تأوله أبو حامد و هو تأويل حسن أو يكون ذلك فيمن يكون له خبيثة حسنة من عمل صالح يغفر الله له به و يرضى خصماؤه كما تقدم و ظاهر حديث أنس الخصوص بذينك الرجلين لقوله رجلان و لفظ التثنية لا يقتضي الجمع إلا ما روي في الحديث : [ مثل المنافق كالشاة العابرة بين الغنمين ] خرجه مسلم و ليس هذا موضعه و لو كان ذلك في جميع الناس ما دخل أحد النار و كذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم [ ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم و بقيت التبعات فتواهبوها و ادخلوا الجنة برحتمي ] ما دخل أحد النار و هذا واضح فتأمله
باب أول من يحاسب أمة محمد صلى الله عليه و سلم
روى ابن ماجه [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : نحن آخر الأمم و أول من يحاسب يقال : أين الأمة الأمية و نبيها ؟ فنحن الآخرون الأولون ] و في رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما : [ فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرا محلجين من آثار الوضوء فتقول الأمم : كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها ] خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده بمعناه و قد تقدم
باب أول ما يحاسب عليه العبد من عمله : الصلاة و أول ما يقضى فيه بين
الناس : الدماء و في أول من يدعى للخصومة
مسلم [ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ] أخرجه البخاري أيضا و النسائي و الترمذي و قال : هذا حديث حسن صحيح و للنسائي أيضا عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة و أول ما يقضي بين الناس الدماء ]
و في البخاري [ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة ] يريد قصته في مبارزته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش قال أبو ذر و فيهم نزلت { هذان خصمان اختصموا في ربهم } الآية و الخبر بهذا مشهور صحيح خرجه البخاري و مسلم و غيرهما
و [ عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في طائفة من أصحابه فيكون أول ما يقضى بينهم في الدماء و يأتي كل قتيل قتل في سبيل الله فيأمر الله كل من قتل فيحمل رأسه و تشخب أوداجه دما فيقول : يا رب سل هذا فيم قتلني ؟ فيقول الله تعالى له ـ و هو أعلم ـ : فيم قتلته ؟ فيقول : رب قتلته لتكون العزة لي : فيقول الله تعالى : تعست ثم لا تبقى قتلة إلا قتل بها و لا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها و كان في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه و إن شاء رحمه ] خرجه الغيلاني أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان عن أبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله البزار المعروف بالشافعي
[ حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي حدثنا أبو عاصم الضحاك عن مخلد حدثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب و خرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس قال : سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : يأتي المقتول معلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه : هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل : تعست و يذهب به إلى النار ]
و خرجه ابن المبارك موقوفا على عبد الله بن مسعود قال : حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله فذكر معناه
و خرجه الترمذي في جامعه قال [ حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال : حدثنا شبابة قال حدثنا ورقاء بن عمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته و رأسه بيده و أوداجه تشخب دما يقول : يا رب قتلني هذا حتى يدينه من العرش ] قال : هذا حديث حسن غريب
مالك عن يحيى بن سعيد قال : بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل المرء الصلاة فإن قبلت منه نظر فيما بقي من عمله و إن لم تقبل منه لم ينظر في شيء من عمله
قلت : و هذا الحديث و إن كان موقوفا بلاغا فقد رواه أبو داود الترمذي و النسائي مرفوعا بهذا المعنى [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة قال يقول ربنا عز و جل لملائكته : انظروا في صلاة عبدي أتمها أم أنقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة و إن كان انتقص منها شيئا قال : انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال أتموا لعبدي فريضته من تطوعه ثم تؤخذ الأعمال على ذلك لفظ أبي داود و قال الترمذي حديث حسن غريب و خرجه ابن ماجه أيضا
فصل : قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله : أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون ذلك و الله أعلم فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها أو لم يحسن ركوعها و سجودها و لم يدر قدر ذلك و أما من تعمد تركها أو شيئا منها ثم ذكرها فلم يأت بها عامدا و اشتغل بالتطوع عن أداء فرضه و هو ذاكر له فلا تكمل له فريضته تلك من تطوعه و الله أعلم
و قد روي من حديث الشاميين في هذا الباب حديث منكر يرويه محمد بن حمير ] عن عمرو بن قيس السكري عن عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صلى صلاة لم يكمل فيها ركوعه و سجوده و خشوعه زيد فيها من تسبيحاته حتى تتم [ قال أبو عمرو : هذا لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من هذا الوجه و ليس بالقوي و إن كان صح كان معناه أخرج من صلاة قد أتمها عند نفسه و ليس في الحكم بتامة
قلت : ينبغي للإنسان أن يحافظ على أداء فرضه فيصليه كما أمر من إتمام ركوع و سجود و حضور قلب فإن غفل عن شيء من ذلك فيجتهد بعد ذلك في نفله و لا يتساهل فيه و لا في تركه و من لا يحسن أن يصلي الفرض فأحرى أن لا يحسن النفل لا جرم بل تنفل الناس في أشد ما يكون من النقصان و الخلل في التمام لخفة النفل عندهم و تهاونهم به و لعمر الله لقد يشاهد في الوجود من يشار إليه و يظن به العلم بنفله كذلك بل فرضه إذ ينقره نقر الديك فكيف بالجهال الذيم لا يعلمون و إذا كان هذا فكيف يكمل بهذا النفل ما نقص من الفرض هيهات هيهات ! فاعلموه أن الصلاة إذا كانت بهذه الصفة دخل صاحبها في معنى قوله تعالى : { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } ! و قال جماعة من العلماء : التضييع للصلاة هو أن لا يقيم حدودها من مراعاة وقت وطهارة و تمام ركوع و سجود و نحو ذلك و هو مع ذلك يصليها و لا يمتنع من القيام بها في وقتها و غير وقتها قالوا : فأما من تركها أصلا و لم يصلها فهو كافر
و روى الترمذي ] عن أبي مسعود الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع و السجود [ و قال : حديث حسن صحيح و العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و من بعدهم يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع و السجود
قال الشافعي و أحمد و إسحاق : من لم يقم صلبه في الركوع و السجود فصلاته فاسدة لحديث النبي صلى الله عليه و سلم ] لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع و السجود [
و روى البخاري عن زيد بن وهب عن حذيفة و رأى رجلا لا يتم ركوعه و لا سجوده فلما قضى صلاته قال له حذيفة : ما صليت و لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه و سلم و أخرجه النسائي أيضا عنه عن حذيفة أنه رأى رجلا يصلي فخفف فقال له حذيفة : منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟ قال منذ أربعين عاما قال : ما صليت و لو مت و أنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة النبي ثم قال : إن الرجل ليخفف الصلاة و يتم و يحسن و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا قد أتينا عليها في غير هذا الباب و هي تبين لك المراد من قوله تعالى : { أضاعوا الصلاة }
و روى النسائي ] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة و إن كان انتقص منها شيئا قال : انظروا هل تجدون له من تطوع يكمل له ما ضيع من فريضته من تطوعه ثم سائر الأعمال تجري على ذلك [ و هذا نص و قال أبو عمر رضي الله عنه : و من ضيعها فهو لما سواها أضيع
قلت : و لا اعتبار بقول من قال إن الواجب من أركان الصلاة و من الفصل بين أركانها أقل ما ينطلق عليه الاسم و هو أبو حنيفة و أشار إلى ذلك القاضي عبد الوهاب في تلقينه و هو يروي ] عن ابن القاسم لأن من اقتصر على ذلك صدق عليه أنه نقر الصلاة فدخل في الذم المترتب على ذلك بقوله عليه السلام تلك صلاة المنافقين يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا [ رواه مالك في موطئه و مسلم في صحيحه و الأحاديث الثابتة تقضي بفساد صلاته كما بيناه مع قوله عليه السلام : ] أما الركوع فعظموا فيه الرب و أما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم [ خرجه مسلم
و في موطأ مالك ] عن يحيى بن سعيد عن النعمان بن مرة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما ترون في الشارب و السارق و الزاني قال : و ذلك قبل أن ينزل فيهم قالوا الله و رسوله أعلم قال : هن فواحش و فيهن عقوبة و أسوأ السرقة الذي يسرق صلاته قالوا : يا رسول الله و كيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها و لا سجودها [
و روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال : ] حدثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح عن الأحوص بن حكيم عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها و سجودها قالت : الصلاة حفظك الله كما حفظني فترفع و إذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها و لا سجودها قالت الصلاة : ضيعك الله كما ضيعتني فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه فمن لم يحافظ على أوقات الصلاة لم يحافظ على الصلاة كما أن من لم يحافظ على وضوئها و ركوعها و سجودها فليس بمحافظ عليها و من لم يحافظ عليها فقد ضيعها و من ضيعها فهو لما سواها أضيع كما أن من حافظ عليها حفظ دينه و لا دين لمن لا صلاة له
باب منه
ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول له ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن الله عبدا حجته قال : يا رب رجوتك و فرقت من الناس ]
و رواه الفريابي قال : [ حدثنا سفيان بن زيد عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يحقرن أحدكم نفسه إذا رأى أمر الله عليه فيه مقال فلا يقول فيه فيقول يوم القيامة ما منعك إذا رأيت كذا و كذا أن تقول فيه فيقول له أي ربي خفت الناس فيقال : إياي كنت أحق أن تخاف ] قال الوائلي أبو نصر و رواه أحمد بن عبد الله بن يونس أبو عبد الله اليربوعي الكوفي قال : حدثنا زهير قال : حدثنا عمر بن قيس عن عمرو بن مرة المعنى واحد و هذا محفوظ من الطريقين عن عمرو بن مرة و مخرجه من الكوفة
باب منه
ذكر أبو نعيم الحافظ : [ حدثنا عبد الله محمد بن جعفر من أصل كتابه حدثنا عبد الله بن محمد بن زكريا حدثنا إسماعيل بن عمرو حدثنا مندل عن أسد بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يقفن أحدكم على رجل يضرب ظلما فإن اللعنة تنزل من السماء على من حضره إذا لم تدفعوا عنه و لا يقفن أحدكم على رجل يقتل ظلما فإن اللعنة تنزل من السماء على من حضره إذا لم تدفعوا عنه ] هذا حديث غريب من حديث أسد و عكرمة لم يروه عنه فيما أعلم إلا مندل بن علي الغنوي
باب ما جاء في شهادة أركان الكافر و المنافق عليهما و لقائهما الله عز و
جل
قال الله تعالى : { اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } و قال : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون } و قال : { و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } الآية و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة من [ حديث معاوية بن حيدة القرشي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الفدام و أول ما يتكلم من الإنسان فخذه و كفه ] و قد تقدم
مسلم [ عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم نضحك فقال : هل تدرون لم أضحك ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم قال : من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلا قال : فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا و بالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطق فتنطق بأعماله قال : ثم يخلى بينه و بين الكلام قال : فيقول بعدا لكن و سحقا فعنكن كنت أناضل ] الترمذي [ عن أبي سعيد و أبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول : ألم أجعل لك سمعا و بصرا و مالا و ولدا و سخرت لك الأنعام و الحرث و ترأس و تربع فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا ؟ فيقول : لا فيقول : اليوم أنساك كما أنسيتني ] قال هذا حديث صحيح غريب و أخرجه مسلم عن أبي هريرة بأطول من هذا و قد تقدم
البخاري [ عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملك الأرض ذهبا كنت تفتدى به ؟ فيقول : نعم فيقال له : قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك ] و أخرجه مسلم و قال بدل [ قد كنت ] [ كذبت قد سئلت ما هو أيسر من ذلك ]
فصل : قوله عليه السلام [ فأول مايتكلم من الإنسان فخذه ] يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون ذلك زيادة في الفضيحة و الخزي على ما نطق به الكتب في قوله : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } لأنه كان في الدنيا يجاهر بالفواحش و يخلو قلبه عندها من ذكر الله تعالى فلا يفعل ما بفعل خائفا مشفقا فيجزيه الله بمجاهرته بفحشه على رؤوس الأشهاد
و الوجه الآخر : أن يكون هذا فيمن يقرأ كتابه و لا يعرف بما ينطق به بل يجحد فيختم الله على فيه عند ذلك و تنطق منه الجوارح التي لم تكن ناطقة في الدنيا فتشهد عليه سيئاته و هذا أظهر الوجهين يدل عليه أنهم يقولون لجلودهم أي لفروجهم في قول زيد بن أسلم لم شهدتم علينا ؟ فتمردوا في الجحود فاستحقوا من الله الفضح و الإخزاء نعوذ بالله منهما
فصل : قوله [ و تركتك ترأس و تربع ] أي ترأس على قومك بأن يكون رئيسا عليهم و يأخذ الربع مما يحصل لهم من الغنائم و الكسب و كانت عادتهم أن أمراءهم كانوا يأخذون من الغنائم الربع و يسمونه المرباع قال شاعرهم :
( لك المرباع منها و الصفايا ... و حكمك و النشيطة و الفضول )
و قال آخر :
( منا الذي ربع الجيوش لصلبه ... عشرون و هو يعد في الأحياء )
يقال : ربع الجيش يربعه إذا أخذ ربع الغنيمة قال الأصمعي : ربع في الجاهلية و خمس في الإسلام
و قوله : اليوم أنساك كما نسيتني أي اليوم أتركك في العذاب كما تركت عبادتي و معرفتي
فإن قيل : فهل يلقى الكافر ربه و يسأله ؟ قلنا : نعم بدليل ما ذكرنا و قد قال تعالى : { فلنسألن الذين أرسل إليهم } في أحد التأويلين و قال : { و لو ترى إذ وقفوا على ربهم } و قال : { أولئك يعرضون على ربهم } و قال { و عرضوا على ربك صفا } الآيتين و قال : { إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم } و قال : { و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم } إلى قوله { و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } و الآي في هذا المعنى كثير
فإن قيل : قد قال الله تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي و الأقدام } و قال عليه السلام : [ و يخرج عنق من النار فيقول : وكلت بثلاث بكل جبار عنيد و كل من جعل مع الله إلها آخر و بالمصورين ]
قلنا : هذا يحتمل أن يكون يكون بعد الوزن و الحساب و تطاير الكتب في اليمين و الشمال و تعظيم الخلق كما تقدم و يدل عليه قوله : و بالمصورين فإنهم كانوا موحدين فلا بد لهم من سؤال و حساب و بعده يكونون أشد الناس عذابا و إن كانوا كافرين مشركين فيكون ذكرهم تكرارا في الكلام على أنا نقول :
قال بعض العلماء : ذكر الله تعالى الحساب جملة و جاءت الأخبار بذلك و في بعضها ما يدل على أن كثيرا من المؤمنين يدخلون الجنة بغير حساب فصار الناس إذا ثلاث فرق : فرقة لايحاسبون أصلا و فرقة تحاسب حسابا يسيرا و هما من المؤمنين و فرقة تحاسب حسابا شديدا يكون منها مسلم و كافر و إذا كان من المؤمنين من يكون أدنى إلى رحمة الله فلا يبعد أن يكون من الكفار من هو أدنى إلى غضب الله فيدخله النار بغير حساب
و قد ذكر ابن المبارك في دقائقه عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أن بعد أخذ النار هؤلاء تنشر الصحف و توضع الموازين و تدعى الخلائق للحساب
فإن قيل : فقد قال تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } و قال : { و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } و قال : { و لا يكلمهم الله } و هذا يتناول بعمومه جميع الكفار
قلنا : القيامة مواطن فموطن يكون فيه سؤال و كلام و موطن لا يكون ذلك فلا يتناقض الآي و الأخبار و الله المستعان
قال عكرمة : القيامة مواطن يسأل في بعضها و لا يسأل في بعضها و قال ابن عباس : لا يسألون سؤالا شفا و راحة و إنما يسألون سؤال تقريع و توبيخ لم عملتم كذا و كذا و القاطع لهذا قوله تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون }
قال أهل التأويل عن لا إله إلا الله : و قد قيل إن الكفار يحاسبون بالكفر بالله الذي كان طول العمر دثارهم وشعارهم و كل دلالة من دلائل الإيمان خالفوها و عاندوها فإنهم يبكتون عليها و يسألون عنها عن الرسل و تكذيبهم إياهم لقيام الدلائل على صدقهم
و قال تعالى : { و قال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا و لنحمل خطاياكم و ما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون * و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم و ليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } و الآي في هذا المعنى كثيرة و من تأمل آخر سورة المؤمنين { فإذا نفخ في الصور } إلى آخرها تبين له الصواب في ذلك و الحمد لله على ذلك
و ذكر ابن المبارك عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما : إن بعد أخذ النار هؤلاء الثلاثة : تنشر الصحف و توضع الموازين و يدعى الخلائق للحساب و شهر : ضغفه مسلم في كتابه و غيره
فإن قيل : فقد ذكر اللالكائي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت : لا يحاسب رجل يوم القيامة إلا دخل الجنة قالوا : و لأن الحساب إنما يراد للثواب و الجزاء و لا حسنات للكافر فيجازي عليها بحسابه و لأن المحاسب له هو الله تعالى و قد قال : { و لا يكلمهم الله يوم القيامة }
قلنا : ما روي عن عائشة قد خالفها غيرها في ذلك للآيات و الأحاديث الواردة في ذلك و هو الصحيح و معنى [ لا يكلمهم الله ] أي بما يحبونه قال الطبري : و في التنزيل { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } و قد قيل إن معنى قوله تعالى : { و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } { لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان } سؤال التعرف لتمييز المؤمنين من الكافرين أي أن الملائكة لا تحتاج أن تسأل أحدا يوم القيامة أن يقال ما كان دينك و ما كنت تصنع في الدنيا حتى يتبين لهم بإخباره عن نفسه أنه مان مؤمنا أو كان كافرا لكن المؤمنين يكونون ناضري الوجوه منشرحي الصدور و يكون المشركون سود الوجوه زرقا مكروبين فهم إذا كلفوا سوق المجرمين إلى النار و تميزهم في الموقف كفتهم مناظرهم عن تعرف أديانهم و من قال هذا فيحتمل أن يقول إن الأمر يوم القيامة يكون بخلاف ما هو كائن قبله على ما وردت به الأخبار من سؤال الملكين الميت إذا دفن و انصرف الناس عنه فيسألونه عن ربه و دينه و نبيه أي إذا كان يوم القيامة لم تسأل الملائكة عند الحاجة إلى تمييز فريق عن هذا لاستغنائهم بمناظرهم عما وراءها و من قاله يحتج بقوله تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } أخبر أنهم يسألهم عن أعمالهم وهذه الآية في الكافرين و من قال يسألهم عن أصل كفرهم ثم عن تجريدهم إياه كل وقت باستهزائهم بآيات الله تعالى و رسله فقد سألهم عما كانوا يعملون و ذلك هو المراد
باب ما جاء في شهادة الأرض و الليالي و الأيام بما عمل فيها و عليها و في
شهادة المال على صاحبه و قوله تعالى : و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد
الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { يومئذ تحدث أخبارها } قال : أتدرون ما أخبارها ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبدا أو أمة بما عمل على ظهرها تقول : عمل يوم كذا كذا و كذا فهذه أخبارها ] قال : هذا حديث حسن صحيح غريب
أبو نعيم [ عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه : يا ابن آدم أنا خلق جديد و أنا فيما تعمل عليك غدا شهيد فاعمل في خيرا أشهد لك به غدا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا و يقول الليل مثل ذلك ] غريب من حديث معاوية تفرد عنه زيد العمى و لا أعلمه مرفوعا عن النبي إلا بهذا الإسناد
ابن المبارك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : من سجد في موضع عن شجر أو حجر شهد له عند الله يوم القيامة قال : و أخبرني ابن أبي خالد رضي الله عنه قال : سمعت أبا عيسى يحيى بن رافع يقول : سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه : يقول : { و جاءت سكرة الموت بالحق } وقال تعالى : { و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد } قال : سائق يسوقها إلى أمر الله و شاهد يشهد عليها بما عملت
و خرج مسلم [ من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم و فيه : و إن هذا المال خضر حلو و نعم صاحب السلم هو لمن أعطى منه المسكين و اليتيم و ابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و إنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل و لا يشبع و يكون عليه شهيدا يوم القيامة و قد تقدم أنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن و لا إنس و لا شجر و لا حجر و لا مدر إلا شهد له يوم القيامة ] رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم و رواه الأئمة مالك و غيره
قال المؤلف : فتفكر يا أخي و إن كنت شاهدا عدلا بأنك مشهود عليك في كل أحوالك من فعلك و مقالك و أعظم الشهود لديك المطلع عليك الذي لا تخفى عليه خافية عين و لا يغيب عنه زمان و لا أين قال الله تعالى { لا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه } فاعمل عمل من يعلم أنه راجع إليه و فادم عليه يجازي على الصغير و الكبير و القليل و الكثير سبحانه لا إله إلا هو
باب لا يشهد العبد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة
ابن المبارك قال : أخبرنا رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن سعيد ابن أبي هلال عن سليمان بن راشد أنه بلغه أن امرأ لا يشهد على شهادة في الدنيا إلا شهد بها يوم القيامة على رؤوس الأشهاد و لا يمتدح عبدا في الدنيا إلا امتدحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد قلت : هذا صحيح يدل على صحته من الكتاب قول الحق { ستكتب شهادتهم و يسألون } و قوله : { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } و الله أعلم
باب ما جاء في سؤال الأنبياء و في شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم
قال الله تعالى : { فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم و ما كنا غائبين } و قال : { فوربك لنسألنهم أجمعين } فيبدأ بالأنبياء عليهم السلام { فيقول : ماذا أجبتم } قيل : في تفسيرها كانوا قد علموا و لكن ذهبت عقولهم و عزبت أفهامهم و نسوا من شدة الهول و عظيم الخطب و صعوبة الأمر فقالوا : { لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } ثم يقربهم الله تعالى فيدعى نوح عليه السلام و يقال : إن الهيبة تأخذ بمجامع قلوبهم فيذهلون عن الجواب ثم إن الله يثبتهم و يحدث لهم ذكرا فيشهدون بما أجابت به أممهم و يقال إنما قالوا ذلك تسليما كما فعل المسيح في قوله { تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } و الأول أصح لأن الرسل يتفاضلون و المسيح من أجلهم لأنه كلمة الله و روحه قاله أبو حامد
و خرج ابن ماجه حدثنا أبو كريب و أحمد بن سنان قالا : [ حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يجيء النبي يوم القيامة و معه الرجل و يجيء النبي و معه الرجلان و يجيء النبي و معه الثلاثة و أكثر من ذلك فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم فيدعى قومه فيقال : هل بلغكم ؟ فيقولون : لا فيقال : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد و أمته فتدعى أمة محمد صلى الله عليه و سلم فيقال : هل بلغ هذا ؟ فيقولون : نعم فيقول : و ما علمكم بذلك ؟ فيقولون : أخبرنا نبينا صلى الله عليه و سلم بذلك أن الرسل قد بلغوا فصدقناه قال فذلك قوله تعالى : { و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا } ]
و ذكره البخاري أيضا بمعناه [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يدعى نوح يوم القيامة فيقول : لبيك و سعديك يارب فيقول : هل بلغت ؟ فيقول : نعم فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد و أمته فيشهدون أنه قد بلغ فذلك قوله : { و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا } ]
أخرجه ابن المبارك في رقائقه مرسلا بأطول من هذا فقال : [ أخبرني رشدين ابن سعد قال : أخبرني ابن أنعم المغافري عن حبان بن أبي جبلة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل عليه السلام فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي ؟ فيقول : نعم قد بلغت جبريل فيدعى جبريل عليه السلام فيقول : هل بلغك إسرافيل عهدي ؟ فيقول : نعم يا رب قد بلغني فيخلي عن إسرافيل و يقال لجبريل هل بلغت عهدي ؟ فيقول جبريل : نعم قد بلغت الرسل فيدعي الرسل فيقول : هل بلغكم جبريل عهدي ؟ فيقولون : نعم فيخلي عن جبريل ثم يقال للرسل هل بلغكم عهدي ؟ فيقولون : قد بلغنا أممنا فتدعى الأمم فيقال لهم : هل بلغكم الرسل عهدي ؟ فمنهم المصدق و منهم المكذب فتقول الرسل : إن لنا عليهم شهودا يشهدون أن قد بلغنا مع شهادتك فيقول : من يشهد لكم ؟ فيقولون محمد و أمته فتدعى أمة محمد فيقول : تشهدون أن رسلي هؤلاء قد بلغوا عهدي إلى من أرسلوا إليه ؟ فيقولون : نعم رب شهدنا أن قد بلغوا فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب : كيف تشهدون على من لم تدركوا ؟ فيقولون : ربنا بعثت إلينا رسولا و أنزلت إلينا عهدك و كتابك و قصصك علينا إنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب : صدقوا فذلك قوله عز و جل : { و كذلك جعلناكم أمة وسطا } و الوسط العدل { لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيد } ] قال ابن أنعم : فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد إلا من كان في قلبه حنة على أخيه
قلت : و ذكر هذا الخبر أبو محمد في كتاب العاقبة له فذكر بعد قوله : و الوسط العدل ثم يدعى غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ثم ينادي كل إنسان باسمه واحدا واحدا و يسألون واحدا واحدا و تعرض أعمالهم على رب العزة جل جلاله قليلها و كثيرها حسنها و قبيحها
قال المؤلف : و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أن هذا يكون بعد ما يحكم الله تعالى بين البهائم و يقتص للجماء من القرناء و يفصل بين الوحش و الطير ثم يقول لهم : كونوا ترابا فتسوى بهم الأرض و حينئذ { يود الذين كفروا و عصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض } و يتمنى الكافر فيقول : { يا ليتني كنت ترابا } ثم يخرج النداء من قبل الله تعالى : أين اللوح المحفوظ ؟ فيؤتى به له هرج عظيم فيقول الله تعالى : أين ما سطرت فيك من توارة و زبور و إنجيل و فرقان ؟ فيقول : يارب نقله مني الروح الأمين فيؤتى به يرعد و تصك ركبتاه فيقول الله تعالى : يا جبريل هذا اللوح المحفوظ يزعم أنك نقلت منه كلامي و وحيى أصدق ؟ قال : نعم يا رب قال : فما فعلت فيه ؟ قال : أنهيت التوراة إلى موسى و أنهيت الزبور إلى داود و أنهيت الإنجيل إلى عيسى و أنهيت الفرقان إلى محمد عليه السلام و أنهيت إلى كل رسول رسالته و إلى أهل الصحف صحائفهم فإذا بالنداء يا نوح فيؤتى به يرعد و تصطك فرائصه فيقول : يانوح زعم جبريل أنك من المرسلين قال : صدق فقيل له : ما فعلت مع قومك ؟ قال دعوتهم ليلا نهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا فإذا بالنداء يا قوم نوح فيؤتى بهم زمرة واحدة فيقال : هذا أخوكم نوح يزعم أنه بلغكم الرسالة فيقولون : يا ربنا كذب ما بلغنا من شيء و ينكرون الرسالة فيقول الله : يا نوح ألك بينة ؟ فيقول : نعم يا رب بينتي عليهم محمد و أمته فيقولون : كيف و نحن أول الأمم و هم آخر الأمم ؟ فيؤتى بالنبي صلى الله عليه و سلم فيقول يا محمد هذا نوح يستشهد فيشهد له تبليغ الرسالة فيقرأ صلى الله عليه و سلم { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه } إلى آخر السورة فيقول الجليل جل جلاله : قد وجب عليكم الحق و حقت كلمة العذاب على الكافرين فيؤمر بهم زمرة واحدة إلى النار من غير وزن عمل و لا حساب ثم ينادي : أين هود ؟ فيفعل قوم هود مع هود كما فعل قوم نوح مع نوح فيستشهد عليهم بالنبي صلى الله عليه و سلم و خيار أمته فيتلو { كذبت عاد المرسلين } فيؤمر بهم إلى النار مثل أمة نوح ثم ينادي : يا صالح و يا ثمود فيأتون فيستشهد صالح عندما ينكرون فيتلوا النبي صلى الله عليه و سلم { كذبت ثمود المرسلين } إلى آخر القصة فيفعل بهم مثلهم و لا يزال يخرج أمة بعد أمة قد أخبر عنهم القرآن بيانا و ذكرهم فيه إشارة كقوله تعالى { و قرونا بين ذلك كثيرا } و قوله { ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها } و قوله { و الذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات } و في ذلك تنبيه على أولئك القرون الطاغية كقوم تارخ و تارح و دوحاو أسرا و ما أشبه ذلك حتى ينتهي النداء إلى أصحاب الرس و تبع و قوم إبراهيم و في كل ذلك لا يرفع لهم ميزان و لا يوضع لهم حساب و هم عن ربهم يومئذ لمحجوبون و الترجمان يكلمهم لأن الرب تعالى من نظر إليه و كلمه لم يعذبه ثم ينادي بموسى ابن عمران فيأتي و هو كأنه ورقة في ريح عاصف قد اصفر لونه و اصطكت ركبتاه فيقول له : يا ابن عمران جبريل يزعم أنه بلغك الرسالة و التوراة فتشهد له بالبلاغ ؟ قال : نعم : قال فارجع إلى منبرك واتل ما أوحى إليك من ربك فيرقى المنبر ثم يقرأ فينصت له كل من في الموقف فيأتي بالتوراة غضة طرية على حسنها يوم أنزلت حتى تتوهم الأحبار أنهم ما عرفوها يوما ثم ينادي يا داود فيأتي و هو يرعد و كأنه ورقة في ريح عاصف تصطك ركبتاه فيصفر لونه فيقول الله جل ثناؤه يا داود : زعم جبريل أنه بلغك الزبور فتشهد له البلاغ ؟ فيقول : نعم يا رب فيقال له : ارجع إلى منبرك واتل ما أوحى إليك فيرقى ثم يقرأ و هو حسن الناس صوتا و في الصحيح أنه صاحب المزامير ثم ينادي المنادي أين عيسى بن مريم ؟ فيؤتى به على باب المرسلين فيقول : { أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله } ثم يحمد تحميدا ما شاء الله تعالى و يثنى عليه كثيرا ثم يعطف على نفسه بالذم و الاحتقار و يقول { سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } فيضحك الله و يقول { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } يا عيسى ارجع إلى منبرك واتل الإنجيل الذي بلغك جبريل فيقول : نعم ثم يرقى و يقرأ فتشخص إليه الرؤوس لحسن ترديده و ترجيعه فإنه أحكم الناس به رواية فيأتي به غضا طريا حتى يظن الرهبان أنهم ما عملوا به قط ثم ينقسم قومه فرقتين المجرمون مع المجرمين و المؤمنون مع المؤمنين ثم يخرج النداء أين محمد ؟ فيؤتى به صلى الله عليه و سلم فيقول يا محمد هذا جبريل يزعم أنه بلغك القرآن فيقول : نعم يا رب فيقال له ارجع إلى منبرك و اقرأ فيتلوا صلى الله عليه و سلم القرآن فيأتي به غضا طريا له حلاوة و عليه طلاوة و يستبشر به المتقون و إذا وجوههم ضاحكة مستبشرة و المجرمون و جوههم مغبرة مقترة فإذا تلا النبي القرآن توهمت الأمة أنهم ما سمعوه قط
و قد قيل للأصمعي تزعم أنك أحفظهم لكتاب الله قال : يا ابن أخي يوم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم كأني ما سمعته فإذا فرغت قراءة الكتب خرج النداء من قبل سرداقات الجلال : { و امتازوا اليوم أيها المجرمون } فيرتج الموقف و يقوم فيه روع عظيم و الملائكة قد امتزجت بالجن و الجن بيني آدم و الكل لجة واحدة ثم يخرج النداء : يا آدم ابعث بعث النار فيقول : كم يا رب ؟ فيقال له : من كل ألف تسع مائة و تسعة و تسعون إلى النار و واحد إلى الجنة على مايأتي بيانه فلا يزال يستخرج من سائر الملحدين و الغافلين و الفاسقين حتى لا يبقى إلا قدر حفنة الرب كما قال الصديق رضي الله عنه : نحن حفنات بحفنات الرب سبحانه و تعالى على مايأتي إن شاء الله تعالى
باب ما جاء في الشهداء عند الحساب
قال العلماء : و تكون المحاسبة بمشهد من النبيين و غيرهم قال الله تعالى { و جيء بالنبيين و الشهداء و قضي بينهم بالحق } و قال { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا } و شهيد كل أمة نبيها و قيل إنهم كتبة الأعمال و هو الأظهر فتحضر الأمة و رسولها فيقال للقوم : ماذا أجبتم المرسلين و يقال للرسل ماذا أجبتم ؟ فتقول الرسل لا علم لنا على ما تقدم في الباب قبل ثم يدعى كل واحد على الانفراد فالشاهد عليه صحيفة عمله و كاتبها فإنه قد أخبر في الدنيا أن عليه ملكين يحفظان أعماله و ينسخانها
و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أن المنادي ينادي من قبل الله لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب فيستخرج لهم كتاب عظيم يسد ما بين المشرق و المغرب فيه جميع أعمال الخلائق فما صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربك أحدا و ذلك أن أعمال الخلائق تعرض على الله في كل يوم فيأمر الكرام البررة أن ينسخوها في ذلك الكتاب العظيم و هو قوله تعالى { إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } ثم ينادي بهم فردا فردا فيحاسب كل واحد منهم فإذا الأقدام تشهد و اليدان و هو قوله تعالى { يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون } و قد جاء في الخبر أن رجلا منهم يوقف بين يدي الله تبارك و تعالى فيقول له : يا عبد السوء كنت مجرما عاصيا فيقول : ما فعلت ؟ فيقال له : عليك بينة فيؤتى بحفظته فيقول كذبوا علي فتشهد جوارحه عليه فيؤمر به إلى النار فيجعل يلوم جوارحه فتقول له : ليس عن اختيارنا { أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } و قد تقدم هذا المعنى مستوفى وتقدم أن الأرض و الأيام و الليالي و المال ممن تشهد و إذا قال الكافر لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني ختم علي فيه فتشهد أركانه كما تقدم
باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه و سلم على أمته
ابن المبارك أخبرنا رجل من الأنصار عن المنهال بن عمرو حدثنا أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه و سلم أمته غدوة و عشية فيعرفهم بسماهم و أعمالهم فلذلك يشهد عليهم يقول الله تبارك و تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا }
فصل : قلت : قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله تعالى يوم الخميس و يوم الأثنين و على الأنبياء و الآباء و الأمهات يوم الجمعة و لا تعارض فإنه يحتمل أن يخص نبينا عليه السلام بالعرض كل يوم و يوم الجمعة مع الأنبياء و الله أعلم
باب ما جاء في عقوبة مانعي الزكاة و فضيحة الغادر و الغال في الموقف و قت
الحساب
مسلم [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من صاحب ذهب و لا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صحفت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه و جبينه و ظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار قيل يا رسول الله : فالإبل ؟ قال : و لا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها و من حقها حلبها يوم و ردها إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أو فر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها و تعضه بأفواهها قيل : يا رسول الله فالبقر و الغنم ؟ قال : و لا صاحب بقر و لا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء و لا جلحاء و لا غضباء تنطحه بقرونها و تطؤه بأظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة و إما إلى النار ] و ذكر الحديث أخرجه البخاري بمعناه
و روى مالك موقوفا و النسائي و البخاري مرفوعا [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا { و لا يحسبن الذين يبخلون } الآية ] وذكر مسلم [ من حديث جابر قال و لا صاحب كنز لا يؤدي فيه حقه إلا جاء يوم القيامة شجاعا أقرع يتبعه فاتحا فاه فإذا أتاه فر منه فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني فإذا رأى أن لا بد له منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل ] و ذكر الحديث
[ و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فذكر الغلول وعظم أمره ثم قال : لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله : أغثني فأقول : لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ] أخرجه البخاري أيضا
[ و عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا جمع الله الأولين و الآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان ]
[ و عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة ] و ذكر أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا قرة بن خالد عن عبد الملك بن عمير عن رافع بن شداد عن عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا آمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء غدر يوم القيامة ]
فصل : علماؤنا رحمهم الله [ في قوله تعالى { و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أن ذلك على الحقيقة كما بينه صلى الله عليه و سلم أي يأت به حاملا له على ظهره و رقبته معذبا بحمله و ثقله و مرعوبا بصوته و موبخا بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد ] و كذا مانع الزكاة كما في صحيح الحديث
قال أبو حامد : فمانع زكاة الإبل يحمل بعيرا على كاهله له رغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم و مانع زكاة البقر يحمل ثورا على كاهله له خوار و ثقل يعدل الجبل العظيم و مانع زكاة الغنم يحمل شاة لها ثغاء و ثقل يعدل الجبل العظيم و الرغاء و الخوار و الثغاء كالرعد القاصف و مانع زكاة الزرع يحمل على كاهله أعدالا قد ملئت من الجنس الذي كان يبخل به برا كان أو شعيرا أثقل ما يكون ينادي تحته بالويل و الثبور و مانع زكاة المال يحمل شجاعا أقرع له زبيبتان و ذنبه قد انساب في منخريه و استدارت بجيده و ثقل على كاهله كأنه طوق بكل و حي في الأرض و كل واحد ينادي مثل هذا فتقول الملائكة هذا ما بخلتم به في الدنيا رغبة فيه وشحا عليه و هو قوله تعالى { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة }
قلت : و هذه الفضيحة التي أوقعها الله بالغال و مانعي الزكاة نظير الفضيحة التي يوقعها بالغادر و جعل الله هذه المعاقبات حسب ما يعهده البشر و يفهمونه ألا ترى إلى قول الشاعر :
( أسمى و يحك هل سمعت بغدرة ... رفع اللواء لنا بها في المجمع )
فكانت العرب ترفع للغادر لواء في المحافل و مواسم الحج و كذلك يطاف بالجاني مع جنايته و ذهب بعض العلماء إلى أن ما يجيء به الغال يحمله عبارة عن وزر ذلك و شهرة الأمر أي يأتي يوم القيامة قد شهر الله أمره كما يشهر لو حمل يعيرا له رغاء أو فرسا له حمحمة
قلت : و هذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز و التشبيه و قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بالحقيقة فهو أولى [ و قد روى أبو داود عن سمرة بن جندب قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسها و يقسمها فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال يا رسول الله : هذا كان فيما أصبناه من الغنيمة قال : أسمعت بلالا ثلاثا ؟ قال : نعم قال : فما منعك أن تجيء به فاعتذر إليه فقال كلا أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك ]
فصل : و روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الحجر ليرن لسبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفا و يؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به قال فهو قول الله تعالى { و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة } ] ذكره علي بن سليمان المرادي في الأربعين له و قوله : [ يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة ] دليل على أن في الآخرة للناس ألوية فمنها ألوية خزي و فضيحة يعرف بها أهلها و منها ألوية حمد و ثناء و تشريف و تكريم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لواء الحمد بيدي ] و روي لواء الكرم و قدم و تقدم
و روى الزهري [ عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار ] فعلى هذا من كان إماما و رأسا في أمر ما معروفا به فله لواء يعرف به خيرا كان أو شرا و قد يجوز أن يكون للصالحين الأولياء ألوية يعرفون بها تنويها بهم و إكراما لهم و الله أعلم و إن كانوا غير معروفين قال النبي صلى الله عليه و سلم [ رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ] و قال [ إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ] أخرجهما مسلم
و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة : و في الحديث الصحيح [ أن أول ما يقضي الله فيه الدماء و أول من يعطى الله أجورهم الذين ذهبت أبصارهم ينادى يوم القيامة بالمكفوفين فيقال لهم أنتم أحرى أحق من ينظر إلينا ثم يستحي الله تعالى منهم و يقول لهم : اذهبوا إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية و تجعل بيد شعيب عليه السلام فيصير أمامهم و معهم ملائكة النور ما لا يحصى عددهم إلا الله تعالى يزفونهم كما تزف العروس فيمر بهم على الصراط كالبرق الخاطف و صفة أحدهم الصبر و الحلم كابن عباس و من ضاهاه من الأئمة ثم ينادي أين أهل البلاء ؟ و يريد المجذومين فيؤتى بهم فيحييهم الله بتحية طيبة بالغة فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء و تجعل بيد أيوب عليه السلام فيصير أمامهم ذات اليمين و صفة المبتلى صبر و حلم كعقيل بن أبي طالب و من ضاهاه من الأئمة ثم ينادي : أين الشباب المتعففون ؟ فيؤتى بهم إلى الله فيرحب بهم نعما و يقول ما شاء الله أن يقول ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية خضراء ثم تجعل في يد يوسف عليه السلام و يصير أمامهم إلى ذات اليمين و صفة الشباب صبر و علم و حلم كراشد بن سليمان و من ضاهاه من الأئمة ثم يخرج النداء أين المتحابون في الله ؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فيرحب بهم و يقول ما شاء الله أن يقول ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و صفة المتحاب في الله صبر و علم و حلم لا يسخط و لا يسيء من رضى الأحوال الدنيوية كأبي تراب أعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه و من ضاهاه من الأئمة ثم يخرج النداء أين الباكون ؟ فيؤتى بهم إلى الله تعالى فتوزن دموعهم و دم الشهداء و مداد العلماء فيرجع الدمع فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية ملونة لأنهم بكوا في أنواع مختلفة هذا بكى خوفا و هذا بكى طمعا و هذا بكى ندما و تجعل بيد نوح عليه السلام فتهم العلماء بالتقدم عليهم و يقولون علمنا بكاءهم فإذا النداء على رسلك يا نوح فتوقف الزمرة ثم يوزن مداد العلماء فيرجع دم الشهداء فيؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية مزعفرة و تجعل في يد يحيى عليه السلام ثم ينطلق أمامهم فيهم العلماء بالتقدم عليهم و يقولون عن علمنا قاتلوا فنحن أحق بالتقدم فيضحك لهم الجليل جل جلاله و يقول لهم أنتم عندي كأنبيائي أشفعوا فيمن تشاءون فيشفع العالم في جيرانه و إخوانه و يأمر كل واحد منهم ملكا ينادي في الناس : ألا إن فلانا العالم قد أمر له أن يشفع فيمن قضى له حاجة أو أطعمه لقمة حين جاع أو سقاه شربة ماء حين عطش فليقم إليه فإنه يشفع له ]
و في الصحيح أول من يشفع المرسلون ثم النبيون ثم العلماء و يعقد لهم راية بيضاء و تجعل بيد إبراهيم عليه السلام فإنه أشد المرسلين مكاشفة ثم ينادي : أين الفقراء ؟ فيؤتى بهم إلى الله عز و جل فيقول لهم مرحبا بمن كانت الدنيا سبحنهم ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية صفراء و تجعل في يد عيسى بن مريم عليه السلام و يصير إلى ذات اليمين ثم ينادي أين الأغنياء ؟ فيؤتى بهم إلى الله عز و جل فيعدد عليهم ما خولهم فيه خمسمائة عام ثم يؤمر بهم إلى ذات اليمين و يعقد لهم راية ملونة و تجعل بيد سليمان عليه السلام و يصير أمامهم في ذات اليمين
و في الحديث : [ أن أربعة يستشهد عليهم بأربعة : ينادى بالأغنياء و أهل الغبطة فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة الله ؟ فيقولون : أعطانا الله ملكا و غبطة شغلنا عن القيام بحقه في دار الدنيا فيقال لهم : من أعظم ملكا : أنتم أم سليمان ؟ فيقولون : بل سليمان فيقال : ما شغله ذلك عن القيام بحق الله و الدأب في ذكره ثم يقال : أين أهل البلاء ؟ فيؤتى بهم أنواعا فيقال لهم : أي شيء شغلكم عن عبادة الله تعالى ؟ فيقولون : ابتلانا الله في دار الدنيا بأنواع من الآفات و العاهات شغلتنا عن ذكره و القيام بحقه فيقال لهم : من أشد بلاء : أنتم أم أيوب ؟ فيقولون بل أيوب فيقال لهم : ما شغله ذلك عن حقنا و الدأب لذكرنا ثم ينادي : ابن الشباب العطرة و المماليك فتقول الشباب : أعطانا الله جمالا و حسنا فتنا به فكنا مشغولين عن القيام بحقه و كذلك المماليك فيقولون : شغلنا رق العبودية في الدنيا فيقال لهم : أنتم أكثر جمالا أم يوسف عليه السلام فلقد كان في رق العبودية ما شغله ذلك عن القيام بحقنا و لا الدأب لذكرنا ثم ينادي : أين الفقراء ؟ فيؤتى بهم أنواعا فيقال لهم : ما شغلكم عن عبادة الله تعالى ؟ فيقولون : ابتلانا الله في دار الدنيا بفقر شغلنا فيقال لهم : من أشد فقرا أنتم أم عيسى عليه السلام ؟ ! فيقولون : بل عيسى فيقول لهم : ما شغله ذلك عن القيام بحقنا و الدأب لذكرنا فمن بلى بشيء من هذه الأربع فليذكر صاحبه ]
فصل : و قوله [ هذه غدرة فلان ابن فلان ] دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم و أسماء آبائهم و قد تقدم هذا في غير موضع و في هذا رد على من قال إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم و هذا الحديث خلاف قولهم خرجه البخاري و مسلم و حسبك
فصل : و قوله [ فيكوي بها جنبه ] الحديث إنما خص الجنب و الجبهة و الظهر بالكي لشهرته في الوجه و شناعته و في الجنب و الظهر لأنه آلم و أوجع و قيل خص الوجه لتقطيبه في وجه السائل أولا و الجنب لأزوراره عن السائل ثانيا و الظهر لانصرافه إذا راد في السؤال و أكثر منه فرتب الله تعالى هذه العقوبات في هذه الأعضاء لأجل ذلك و الله أعلم
و قالت الصوفية : لما طلبوا الجاه و المال شان الله وجوههم و لما طووا كشحا عن الفقير إذ جالسهم كويت جنوبهم و لما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها و اعتمادا عليها كويت ظورههم
فصل : و قوله { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } قيل : معناه لو حاسب فيها غير الله تعالى و إنما هو سبحانه و تعالى يفرغ منه في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا و قيل : قدر مواقفهم للحساب عن الحسن و قال ابن اليمان كل موقف منها ألف سنة
و في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ و الذي نفسي بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة ] و قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري و ذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال : يقصر يومئذ على المؤمن حتى يكون كوقت الصلاة
و في الحديث [ لا ينتصف النهار حتى يستقر أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار ] ذكره ابن عزير في غريب القرآن له و بطح : ألقي على وجهه قاله بعض المفسرين و قال أهل اللغة : البطح : هو البسط كيفيما كان غير الوجه أو على الوجه و منه سميت بطحاء مكة لانبساطها و بقاع قرقر أي موضع مستو واسع و أصل القاع : الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء و جمعه قيعان و العقصاء : الملتوية القرن و الجلحاء : التي لا قرن لها و العضباء : المكسورة داخلة القرن يريد : إنها كلها ذوات قرون صحاح و يمكن بها النطح و الطعن حتى يكون أشد لألمه و أبلغ في عذابه و الله أعلم
باب منه و ذكر الولاة
ذكر الغيلاني أبو طالب قال : [ حدثنا أبو بكر الشافعي قال : حدثنا محمد بن غالب قال : حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة حتى يفكه الله بعدله أو يوبقه بجرمه ] و قال [ عمر لأبي ذر رضي الله عنهما : حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : سمعته يقول : يجاء بالوالي يوم القيامة فينبذ به على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجة لا يبقى منه مفصل إلا زال عن مكانه فإن كان مطيعا لله في عمله عما مضى فيه و إن كان عاصيا لله عز و جل انحرف به الجسر فهوى به في جهنم مقدار خمسين عاما ] فقال عمر : من يطلب العمل بعد هذا يا أبا ذر ؟ قال : من سلت الله أنفه و ألصق خذه بالتراب ذكره أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله
و روى الأئمة [ عن أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه استعمل رجلا من بني أسد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فجاء فقال : هذا لكم و هذا أهدي لي فقام النبي صلى الله عليه و سلم على المنبر فحمد الله و أثنى عليه و قال : ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم و هذا أهدي لي أفلا أجلس في بيت أبيه و أمه فينظر أيهدي إليه أم لا لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة إن كان بعيرا فله رغاء و إن كان بقرة فلها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثم قال : اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ] و روى أبو داود [ عن بريدة عن النبي صلى الله عليه و سلم من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ]
باب ما جاء في حوض النبي صلى الله عليه و سلم في الموقف و سعته و كثره
أوانيه و ذكر أركانه و من عليها
ذهب صاحب القوت و غيره إلى أن حوض النبي صلى الله عليه و سلم إنما هو بعد الصراط و الصحيح أن للنبي صلى الله عليه و سلم حوضين : أحدهما في الموقف قبل الصراط و الثاني في الجنة و كلاهما يسمى كوثرا على ما يأتي و الكوثر في كلام العرب الخير الكثير و اختلف في الميزان و الحوض أيهما قبل الآخر فقيل : الميزان قبل و قيل : الحوض قال أبو الحسن القابسي : و الصحيح أن الحوض قبل
قلت : و المعنى يقتضيه فإن الناس يخرجون عطاشا من قبورهم كما تقدم فيقدم قبل الصراط و الميزان و الله أعلم و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة و حكى بعض السلف من أهل التصنيف : أن الحوض يورد بعد الصراط و هو غلط من قائله قال المؤلف : هو كما قال و قد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال [ بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل رجل من بيني و بينهم فقال : هلم فقلت إلى أين ؟ فقال : إلى النار و الله قلت ما شأنهم فقال إنهم قد ارتدوا على أدبارهم القهقرى ثم إذا زمرة أخرى حتى إذا عرفتهم خرج من بيني و بينهم رجل فقال لهم : هلم فقلت إلى أين ؟ قال إلى النار و الله قلت : ما شأنهم قال إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ]
قلت : فهذا الحديث مع صحته أدل دليل على أن الحوض يكون في الموقف قبل الصراط لأن الصراط إنما هو جسر على جهنم ممدود يجاز عليه فمن جازه سلم من النار على ما يأتي و كذا حياض الأنبياء عليهم السلام تكون أيضا في الموقف على ما يأتي
و روي [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوقوف بين يدي الله تعالى هل فيه ماء ؟ قال : أي و الذي نفسي بيده إن فيه لماء و إن أولياء الله تعالى ليردون حياض الأنبياء و يبعث الله سبعين ألف ملك بأيديهم عصي من نار يذودون الكفار عن حياض الأنبياء ]
مسلم [ عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ما آنية الحوض ؟ قال : و الذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء و كواكبها في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضا من الثلج و أحلى من العسل ]
[ و عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إني لبعقر حوضي أذود الناس لأهل اليمين أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم فسئل عن عرضه فقال : من مقامي إلى عمان و سئل عن شرابه فقال : أشد بياضا من الثلج و أحلى من العسل يغت فيه ميزابان من الجنة أحدهما من ذهب و الأخر من ورق ] في غير كتاب مسلم يعب فيه ميزابان من الكوثر الحديث و في أخرى ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليه قدح
مسلم [ عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفي إغفاءه ثم رفع رأسه متبسما فقلنا : ما أضحك يا رسول الله ؟ قال : نزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك و انحر * إن شانئك هو الأبتر } ثم قال : أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم قال : فإنه نهر و عدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد منهم فأقول : يا رب إنه من أمتي فيقال : ما تدري ما أحدث بعدك ] و في رواية أخرى : [ ما أحدث ]
[ و عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حوضي مسيرة شهر و زواياه سواء و ماؤه من الورق و ريحه أطيب من المسك كيزانه كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعده أبدا ] أخرجه البخاري
[ و عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أمامكم حوضا كما بين جربا و أذرح فيه أباريق كنجوم السماء من ورد فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدا ]
قال عبيد الله فسألته فقال قريتين بالشام بينهما مسيرة ثلاث أخرجه البخاري
[ و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن حوضي أبعد من أيلة إلى عدن لهو أشد بياضا من الثلج و أحلى من العسل باللبن و لآنيته أكثر من عدد النجوم و إني لأصد الناس كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه قالوا : يا رسول الله أتعرفنا يومئذ ؟ قال : نعم لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غير محجلين من أثر الوضوء ]
ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن لي حوضا ما بين الكعبة و بيت المقدس أبيض مثل اللبن آنيته عدد نجوم السماء و إني لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة ]
فصل : ظن بعض الناس أن هذه التحديات في أحاديث الحوض اضطراب و اختلاف و ليس كذلك و إنما تحدث النبي صلى الله عليه و سلم بحديث الحوض مرات عديدة و ذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة مخاطبا لكل طائفة بما كانت تعرف من مسافات مواضعها فيقول لأهل الشام ما بين أذرح و جربا و لأهل اليمن من صنعاء إلى عدن و هكذا و تارة آخرى يقدر بالزمان فيقول : مسيرة شهر و المعنى المقصود أنه حوض كبير متسع الجوانب و الزوايا فكان ذلك بحسب من حضره ممن يعرف تلك الجهات فخاطب كل قوم بالجهة التي يعرفونها و الله أعلم
و لا يخطر ببالك أو يذهب وهمك إلى أن الحوض يكون على وجه هذه الأرض و إنما يكون وجوده في الأرض المبدلة على مسامتة هذه الأقطار أو في الموضع تكون بدلا من هذه المواضع في هذه الأرض و هي أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم و لم يظلم على ظهرها أحد قط كما تقدم تطهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء و يغت : معناه يصب و يشخب أي يسيل و العقر مؤخر الحوض حيث تقف الإبل إذا وردته و تسكن قافه و تضم فيقال : عقر و عقر كعسر و عسر قاله في الصحاح و الهمل من النعم الضوال من الإبل واحدها هامل قاله الهروي و المعنى أن الناجي منهم قليل كهمل النعم و يقال : إن على أحد أركانه أبا بكر و على الثاني عمر و على الثالث عثمان و على الرابع عليا
قلت : هذا لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع و قد رفعه صاحب الغيلانيات من حديث [ حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن على حوضي أربعة أركان فأول ركن منها في يد أبي بكر و الركن الثاني في يد عمر و الركن الثالث في يد عثمان و الركن الرابع في يد علي رضي الله عنهم أجمعين
فمن أحل أبا بكر و أبغض عمر لم يسقه أبو بكر و من أحب عمر و أبغض أبا بكر لم يسقه عمر و من أحب عثمان و أبغض عليا لم يسقه عثمان و من أحب عليا و أبغض عثمان لم يسقه علي ] و ذكر الحديث
باب منه
ذكر أبو داود الطيالسي : قال : [ حدثنا شعبة قال : أخبرني عمرو بن مرة قال : سمعت أبا حمزة عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما أنتم بجزء من مائة ألف أو سبعين ألف جزء ممن يرد على الحوض و كانوا يومئذ ثمانمائة أو تسعمائة ] و الله أعلم
باب فقراء المهاجرين أول الناس و رود الحوض على النبي صلى الله عليه و
سلم
ابن ماجه [ عن الصنابجي الأحمسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ألا إني فرطكم على الحوض و إني مكاثر بكم الأمم فلا تقتتلن بعدي ]
و خرج [ عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن حوضي ما بين عدن إلى إيلة أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل أكاويبه كعدد نجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا و أول الناس من يرد على الحوض فقراء المهاجرين : الدنس ثيابا الشعث رؤوسا الذين لا ينكحون المتنعمات و لا تفتح لهم أبواب السدد قال : فبكى عمر حتى ابتلت لحيته فقال : لكني نكحت المتنعمات و فتحت لي أبواب السدد لا جرم أني لا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ و لا أدهن رأسي حتى تشعث ] خرجه الترمذي
عن أبي سلام الحبشي قال : بعث إلي عمر بن عبد العزيز فحملت على البريد قال : فلما دخل عليه قال يا أمير المؤمنين : لقد شق مركبي البريد فقال : يا أبا سلام ما أردت أن أشق عليك و لكن بلغني عنك حديث تحدثه عن ثوبان عن النبي في الحوض فأحببت أن تشافهني به
قال أبو سلام : [ حدثني ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد ] فذكره بمعناه و قال حديث حسن غريب
و قال أنس بن مالك رضي الله عنه : [ أول من يرد الحوض على رسول الله صلى الله عليه و سلم الذابلون الناحلون السائحون الذي إذا جنهم الليل استقبلوه بالحزن ]
باب ذكر من يطرد عن الحوض
البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول أصحابي فيقال لي : لا تدرلي ما أحدثوا بعدك ]
و [ عن أبي هريرة أنه كان يتحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يرد علي الحوض رهط من أصحابي فيخلون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري ]
مسلم [ عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم و سيؤخذ ناس دوني فأقول : يا رب مني و من أمتي فيقال : أما شعرت ما عملوا بعدك ؟ و الله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم ] و في حديث أنس [ فيختلج العبد منهم فأقول : يا رب من أمتي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ] و قد تقدم و كذلك حديث البخاري [ إذا زمرة حتى إذا عرفتهم ] تقدم أيضا و في الموطأ و غيره من حديث أبي هريرة فقالوا : كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك يا رسول الله ؟ الحديث و فيه قال : [ فإنهم يأتون غرا محجلين من أثر الوضوء ]
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم أجمعين : فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله و لم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه و أشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين و فارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها و الروافض على تباين ضلالها و المعتزلة على أصناف أهوائها فهؤلاء كلهم مبدلون و كذلك الظلمة المسرفون في الجور و الظلم و تطميس الحق و قتل أهله و إذلالهم و المعلنون بالكبائر المستحفون بالمعاصي و جماعة أهل الزيغ و الأهواء و البدع ثم البعد قد يكون في حال و يقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال و لم يكن في العقائد و على هذا التقدير يكون نور الوضوء يعرفون به ثم يقال لهم سحقا و إن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يظهرون الإيمان و يسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر ثم يكشف لهم الغطاء فيقول لهم : سحقا سحقا و لا يخلد في النار إلا كافر جاحد مبطل ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان
و قد يقال : إن من أنفذ الله عليه و عيده من أهل الكبائر إنه و إن ورد الحوض و شرب منه فإنه إذا دخل النار بمشيئة الله تعالى لا يعذب بعطش و الله أعلم
و روى الترمذي [ عن كعب بن عجرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي فمن غشى أبوابهم فصدقهم في كذبهم و أعانهم على ظلمهم فليس مني و لست منه و لا يرد على الحوض و منه غشى أبوابهم و لم يصدقهم في كذبهم و لم يعنهم على ظلمهم فهو مني و أنا منه و سيرد على الحوض يا كعب بن عجرة : الصلاة برهان و الصبر جنة حصينة و الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب و خرجه أيضا في كتاب الفتن و صححه
و خرج الأوزاعي أبو عمر في مسنده قال : [ حدثني عمرو بن سعد قال : حدثني يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : حوضي ما بين أيلة إلى مكة أباريقه كنجوم السماء أو كعدد نجوم نجوم السماء له ميزابان من الجنة كلما نضب أمداه من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا و سيأتيه قوم ذابلة شفاههم لا يطمعون منه قطرة واحدة من كذب به اليوم لم يصب منه الشرب يومئذ ]
و خرج الترمذي الحكيم في نوادرالأصول [ من حديث عثمان بن مظعون عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في آخره : يا عثمان لا ترغب عن سنتي فمن رغب عن سنتي ثم مات قبل أن يتوب ضربت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة ] و قد ذكرناه بكماله في آخر كتاب قمع الحرص بالزهد و القناعة
باب ما جاء أن لكل نبي حوضا
الترمذي [ عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن لكل نبي حوضا و أنهم يتباهون أيهم أكثر وارده و إني أرجو أن أكون أكثرهم وارده ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب رواه قتادة عن الحسن عن سمرة و قد رواه الأشعث ابن عبد الملك عن الحسين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم و لم يذكر فيه غير سمرة و قال البكري المعروف بابن الواسطي : لكل نبي حوض إلا صالحا فإن حوضه ضرع ناقته و الله سبحانه و تعالى أعلم
باب ما جاء في الكوثر الذي أعطيه صلى الله عليه و سلم في الجنة
البخاري [ عن أنس بن مالك عن النبي قال : بينا أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر في الجنة حافتاه قباب الدر المجوف قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فإذا طينه أو طينته مسك أذفر ] ـ شك هدبة ـ خرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه و زاد [ ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فرأيت عندها نورا عظيما ]
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح و خرجه ابن وهب قال : [ أخبرني شبيب عن أبان عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : حين عرج به إلى السماء قال : رأيت نهرا عجاجا مثل السهم يطرد أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل حافتاه قباب من در مجوف فقلت : يا جبريل ما هذا ؟ قال : هذا نهر الكوثر الذي أعطاك ربك قال : فضربت بيدي إلى حمأته فإذا هو مسك أذفر ثم ضربت بيدي إلى رضواضه فإذا هو در ]
الترمذي [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب و مجراه الدر و الياقوت تربته أطيب من المسك و ماؤه أحلى من العسل و أبيض من الثلج ] هذا حديث حسن و الله أعلم
تم الجزء الأول
من كتاب التذكرة في أحوال الموتى و أمور الآخرة
و يليه
الجزء الثاني حسب تقسيم النسخة المصورة
أبواب الميزان باب ما جاء في الميزان و أنه حق
قال الله تعالى { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } و قال { فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * و أما من خفت موازينه * فأمه هاوية } قال العلماء : و إذا انقضى الحساب كان بعد وزن الأعمال لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة فإن المحاسبة لتقدير الأعمال و الوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها قال الله تعالى { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } الآية
و قال { فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * و أما من خفت موازينه } إلى آخر السورة
و قال { و من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } الآيتين في الأعراف و المؤمنين
و هذه الآيات إخبار لوزن أعمال الكفار لأن عامة المعنيين بقوله خفت موازينه في هذه الآيات هم الكفار و قال في سورة المؤمنين { فكنتم بها تكذبون } و في الأعراف { بما كانوا بآياتنا يظلمون } و قال { فأمه هاوية } و هذا الوعيد بإطلاقه للكفار و إذا جمع بينه و بين قوله { و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها و كفى بنا حاسبين } ثبت أن الكفار يسألون عما خالفوا فيه الحق من أصل الدين و فروعه إذ لم يسألوا عما خالفوا فيه أصل دينهم من ضروب تعاطيهم و لم يحاسبوا به و لم يعتد بها في الوزن أيضا فإذا كانت موزونة دل على أنهم يحاسبون بها وقت الحساب و في القرآن ما يدل أنهم مخاطبون بها مسؤولون عنها محاسبون بها مجزيون على الإخلال بها لأن الله تعالى يقول : { وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة } فتوعدهم على منعهم الزكاة و أخبر عن المجرمين أنهم يقال لهم { ما سلككم في سقر } الآية فبان بهذا أن المشركين مخاطبون بالإيمان و البعث و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و أنهم مسؤولون عنها محتسبون مجزيون على الإخلال بها
و في البخاري [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة و اقرأوا إن شئتم { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } ]
قال العلماء : معنى هذا الحديث أنه لا ثواب لهم و أعمالهم مقابلة بالعذاب فلا حسنة لهم توزن في موازين يوم القيامة و من لا حسنة له فهو في النار قال أبو سعيد الخدري : يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئا و قيل : يحتمل أن يريد المجاز و الاستعارة كأنه قال : فلا قدر لهم عندنا يومئذ و الله أعلم و فيه من الفقه ذم السمن لمن تكلفه لما في ذلك من تكلف المطاعم و الاشتغال بها عن المكارم بل يدل على تحريم كثرة الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه و السمن و قد قال صلى الله عليه و سلم [ إن أبغض الرجال إلى الله الحبر السمين ]
باب منه و بيان كيفية الميزان و وزن الأعمال فيه و من قضى لأخيه حاجة
الترمذي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة و تسعين سجلا كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يا رب فيقول : أفلك عذر ؟ فقال : لا يا رب فيقول : بل إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة فلا يثقل مع اسم الله شيء ] قال حديث حسن غريب و أخرجه ابن ماجه في سننه و قال بدل قوله في أول الحديث [ إن الله يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق ] و ذكر الحديث
و قال محمد بن يحيى : البطاقة : الرقعة أهل مصر يقولون للرقعة بطاقة و في الخبر [ إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه و سلم بأبي أنت و أمي ما أحسن وجهك و ما أحسن خلقك فمن أنت ؟ فيقول : أنا نبيك محمد و هذه صلاتك علي التي كنت تصلي علي قد وفيتك إياها أحوج ما تكون إليها ] ذكره القشيري في تفسيره و ذكر أبو نعيم الحافظ بإسناده [ من حديث مالك بن أنس و العمري عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من قضى لأخيه حاجة كنت واقفا عند ميزانه فإن رجح و إلا شفعت له ]
فصل : قال المؤلف : الميزان حق و لا يكون في حق كل أحد بدليل قوله عليه السلام فيقال يا محمد ادخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه الحديث و قوله تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم } الآية و إنما يكون لمن بقي من أهل المحشر ممن خلط عملا صالحا و آخر سيئا من المؤمنين و قد يكون للكافرين على ما ذكرنا و يأتي
و قال أبو حامد : و السبعون الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب لا يرفع لهم ميزان و لا يأخذون صحفا و إنما هي براءات مكتوبة لا إله إلا الله محمد رسول الله هذه براءة فلان ابن فلان قد غفر له و سعد سعادة لا يشقى بعدها فما مر عليه شيء أسر من ذلك لمقام
قلت : و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن قال : [ تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين و يؤتى بأهل الصيام فيوفون أجورهم بالموازين و يؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين و يؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين و يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان و لا ينتشر لهم ديوان و يصب عليهم الأجر صبا بغير حساب ] ذكره القاضي منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله
و خرجه أبو نعيم الحافظ بمعناه [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يؤتى بالشهيد يوم القيامة فينصب للحساب و يؤتى بالمتصدق فينصب للحساب ثم يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان و لا ينشر لهم ديوان فيصب عليهم الأجر صبا حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسامهم قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله تعالى لهم ] هذا حديث غريب من حديث جابر الجعفي و قتادة و تفرد به قتادة عن جابر عن ابن عباس عن مجاعة ابن الزبير
[ و روى الحسين بن علي رضوان الله عليهما قال : قال لي جدي صلى الله عليه و سلم : يا بني عليك بالقناعة تكن أغنى الناس و أد الفرائض تكن أعبد الناس يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا ينصب لهم ميزان و لا ينشر لهم ديوان يصب عليهم الأجر صبا و قرأ صلى الله عليه و سلم { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } ] ذكره أبو الفرج الجوزي في كتاب روضة المشتاق
فصل : فإن قيل : أما وزن أعمال المؤمنين فظاهر وجهه فتقابل الحسنات بالسيئات فتوجد حقيقة الوزن و الكافر لا يكون له حسنات فما الذي يقابل بكفره و سيئاته و أن يتحقق في أعماله الوزن ؟
فالجواب : إن ذلك على الوجهين
أحدهما : أن الكافر يحضر له ميزان فيوضع كفره أو كفره و سيئاته في إحدى كفتيه ثم يقال له : هل لك من طاعة تضعها في الكفة الآخرى ؟ فلا يجدها فيشال الميزان فترتفع الكفة الفارغة و تقع الكفة المشغولة فذلك خفة ميزانه و هذا ظاهر الآية لأن الله تعالى وصف الميزان بالخفة لا الموزون و إذا كان فارغا فهو خفيف
و الوجه الآخر : أن الكافر يكون منه صلة الأرحام و مؤاساة الناس و عتق المملوك و نحوهما مما لو كانت من المسلم لكانت قربة و طاعة فمن كان له مثل هذه الخيرات من الكفار فإنها تجمع و توضع في ميزانه غير أن الكفر إذا قابلها رجح بها و لم يخل من أن يكون الجانب الذي فيه الخيرات من ميزانه خفيفا و لو لم يكن له إلا خيرا واحد أو حسنة واحدة لأحضرت و وزنت كما ذكرنا
فإن قيل : لو احتسبت خيراته حتى يوزن لجوزي بها جزاء مثلها و ليس له منها جزاء لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن عبد الله ابن جدعان و قيل له : إنه كان يقري الضيف و يصل الرحم و يعين في النوائب فهل ينفعه ذلك ؟ فقال : [ لا لأنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] و سأله عدي بن حاتم عن أبيه مثل ذلك فقال : [ إن أباك طلب أمرا فأدركه ] يعني الذكر فدل أن الخيرات من الكافر ليست بخيرات و أن وجودها و عدمها بمنزلة واحدة سواء
و الجواب : أن الله تعالى قال { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } و لم يفصل بين نفس و نفس فخيرات الكافر توزن و يجزى بها إلا أن الله تعالى حرم عليه الجنة فجزاؤه أن يخفف عند بدليل حديث أبي طالب فإنه قيل له : يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك و ينصرك فهل نفعه ذلك ؟ فقال [ نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح و لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ] و ما قاله عليه السلام في ابن جدعان و أبي عدي إنما هو في أنهما لا يدخلان الجنة و لا يتنعمان بشيء من نعيمها و الله أعلم
فصل : أصل ميزان موزان قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها قال ابن فورك : و قد أنكرت المعتزلة الميزان بناء منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها إذ لا تقوم بأنفسها و من المتكلمين من يقول كذلك و روي ذلك عن ابن عباس أن الله تعالى يقالب الأعراض أجساما فيزنها يوم القيامة و قد تقدم بهذا المعنى
و الصحيح ان الموازين تثقل بالكتب فيها الأعمال مكتوبة و بها تخف كما دل عليه الحديث الصحيح و الكتاب العزيز قال الله عز و جل { وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين } و هذا نص قال ابن عمر : توزن صحائف الأعمال و إذا ثبت هذا فالصحف أجسام فيجعل الله تعالى رجحان إحدى الكفتين على الأخرى دليلا على كثرة أعماله بإدخاله الجنة أو النار و روي عن مجاهد و الضحاك و الأعمش أن الميزان هنا بمعنى العدل و القضاء و ذكر الوزن و الميزان ضرب مثل كما يقول هذا الكلام في وزن هذا و في وزنه أي يعادله و يساويه و إن لم يكن هناك وزن
قلت : و هذا القول مجاز و ليس بشيء و إن كان شائعا في اللغة للسنة الثابتة في الميزان الحقيقي و وصفه بكفتين و لسان و إن كل كفة منهما طباق السموات و الأرض
و قد جاء أن كفة الحسنات من نور و الأخرى من ظلام و الكفة النيرة للحسنات و الكفة المظلمة للسيئات و جاء في الخبر أن الجنة توضع عن يمين العرش و النار عن يسار العرش و يؤتى بالميزان فينصب بين يدي الله تعالى كفة الحسنات عن يمين العرش مقابل الجن و كفة السيئات عن يسار العرش مقابل النار و ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول
و روي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال : توضع الموازين يوم القيامة فلو وضعت فيهن السموات و الأرض لوسعهتن فتقول الملائكة : يا ربنا ما هذا ؟ فيقول : أزن به لمن شئت من خلقي فتقول الملائكة عند ذلك : ربنا ما عبدناك حق عبادتك و قال ابن عباس رضي الله عنهما : توزن الحسنات و السيئات في ميزان له لسان و كفتان قال علماؤنا : و لو جاز حمل الميزان على ما ذكروه لجاز حمل الصراط على الدين الحق و الجنة و النار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد من الأحزان و الأفراح و الشياطين و الجن على الأخلاق المذمومة و الملائكة على القوى المحمودة و هذا كله فاسد لأنه رد لما جاء به الصادق و في الصحيحين : فيعطي صحيفة حسناته فيخرج له بطاقة و ذلك يدل على الميزان الحقيقي و أن الموزون صحف الأعمال كما بينا و بالله توفيقنا
و لقد أحسن من قال :
( تذكر يوم تأتي الله فردا ... و قد نصبت موازين القضاء )
( و هتكت الستور عن المعاصي ... و جاء الذنب منكشف الغطاء )
فصل : قال علماؤنا رحمهم الله : الناس في الآخر ثلاث طبقات متقون لا كبائر لهم و مخلطون و هم الذين يوافون بالفواحش و الكبائر و الثالث الكفار
فأما المتقون : فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة و صغائرهم إن كانت لهم الكفة الآخرى فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزنا و تثقل الكفة النيرة حتى لا تبرح و ترتفع المظلمة ارتفاع الفارغ الخالي
و أما المخلطون فحسناتهم توضع في الكفة النيرة و سيئاتهم في الكفة المظلمة فيكون لكبائرهم ثقل فإن كانت الحسنات أثقل و لو بصؤابة دخل الجنة و إن كانت السيئات أثقل و لو بصؤابة دخل النار إلا أن يغفر الله و إن تساويا كان من أصحاب الأعراف على ما يأتي هذا إن كانت للكبائر فيما بينه و بين الله و أما إن كانت عليه تبعات و كانت له حسنات كثيرة فإنه ينقص من ثواب حسناته بقدر جزاء السيئات لكثرة ما عليه من التبعات فيحمل عليه من أوزار من ظلمه ثم يعذب على الجميع هذا ما تقتضيه الأخبار على ما تقدم و يأتي
قال أحمد بن حرب : تبعث الناس يوم القيامة على ثلاث فرق : فرقة أغنياء بالأعمال الصالحة و فرقة فقراء و فرقة أغنياء ثم يصيرون فقراء مفاليس في شأن التبعات
و قال سفيان الثوري : إنك أن تلقى الله عز و جل بسبعين ذنبا فيما بينك و بينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك و بين العباد
قال المؤلف : هذا صحيح لأن الله غني كريم و ابن آدم فقير مسكين محتاج في ذلك اليوم إلى حسنة يدفع بها سيئة إن كانت عليه حتى ترجح ميزانه فيكثر خيره و ثوابه
و أما الكافر فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة و لا يوجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى فتبقى فارغة لفراغها و خلوها عن الخير فيأمر الله بهم إلى النار و يعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره و آثامه
و أما المتقون فإن صغائرهم تكفر باجتنابهم الكبائر و يؤمر بهم إلى الجنة و يثاب كل واحد منهم بقدر حسناته و طاعته فهذان الصنفان هما المذكوران في القرآن في آيات الوزن لأن الله تعالى لم يذكر إلا من ثقلت موازينه و من خفت موازينه و قطع لمن ثقلت موازينه بالإفلاح و العيشة الراضية و لمن خفت موازينه بالخلود في النار بعد أن وصفه بالكفر و بقي الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا فبينهم النبي صلى الله عليه و سلم حسب ما ذكرناه
و إنما توزن أعمال المؤمن المتقي لإظهار فضله كما توزن أعمال الكافر لخزيه و ذله فإن أعماله توزن تبكيتا له على فراغه و خلوه عن كل خير فكذلك توزن أعمال المتقي تحسينا لحاله و إشارة لخلوه من كل شر و تزيينا لأمره على رؤوس الأشهاد و أما المخلط السيء بالصالح فإن دخل النار فيخرج بالشفاعة على ما يأتي
فصل : فإن قيل : أخبر الله عن الناس أنهم محاسبون مجزيون و أخبر أنه يملأ جهنم من الجنة و الناس أجمعين و لم يخبر عن ثواب الجن و لا عن حسابهم بشيء فما القول في ذلك عندكم و هل توزن أعمالهم ؟
فالجواب : أنه قد قيل إن الله تعالى لما قال { و الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } دخل في الجملة الجن و الإنس فثبت للجن من وعد الجنة بعموم الآية ما ثبت للإنس و قال { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس إنهم كانوا خاسرين } ثم قال { و لكل درجات مما عملوا } و إنما أراد لكل من الجن و الإنس فقد ذكروا في الوعد و الوعيد مع الإنس و أخبر تعالى أن الجن يسألون فقال خبرا عما يقال لهم : { يا معشر الجن و الإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي و ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا } و هذا سؤال و إذا ثبت بعض السؤال ثبت كله و قد تقدم هذا و قال تعالى { و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن } إلى قوله { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين } و هذا يدل صريحا على أن حكمهم في الآخرة كالمؤمنين و قال حكاية عنهم { و أنا منا المسلمون و منا القاسطون } الآيتين
و لما جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم زادهم كل عظيم و علف دوابهم كل روث فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجان فجعلهم إخواننا و إذا كان كذلك فحكمهم كحكمنا في الآخرة سواء و الله أعلم و قد تقدمت الإشارة إلى هذا في باب ما جاء أن الله يكلم العبد ليس بينه و بينه ترجمان
فصل : قوله في الحديث : [ فيخرج له بطاقة فيه أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله ] ليست هذه شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في كفة شيء و في أخرى ضده فتوضع الحسنات في كفة و السيئات في كفة فهذا غير مستحيل لأن العبد يأتي بهما جميعا و يستحيل أن يأتي الكفر و الإيمان جميعا عند واحد حتى يوضع الإيمان في كفة و الكفر في كفة فلذلك استحال أن توضع شهادة التوحيد في الميزان و أما بعد ما آمن العبد فإن النطق منه بلا إله إلا الله حسنة توضع في الميزان مع سائر الحسنات قاله الترمذي الحكيم رحمه الله
و قال غيره : إن النطق بها زيادة ذكر على حسن نية و تكون طاعة مقبولة قالها على خلوة و خفية من المخلوقين فتكون له عند الله تبارك و تعالى وديعة يردها عليه في ذلك اليوم بعظم قدرها و محل موقعها و ترجح بخطاياه و إن كثرت و بذنوبه و إن عظمت ولله الفضل على عباده و يتفضل على من يشاء بما شاء
قلت : و يدل على هذا قوله في الحديث فيقول : [ بلى إن لك عندنا حسنة و لم يقل إن لك إيمانا و قد سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن لا إله إلا الله أمن الحسنات هي ؟ فقال : من أعظم الحسنات ] خرجه البيهقي و غيره
و يجوز أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا [ كما في حديث معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلا الله وجبت له الجنة ] رواه صالح بن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ و قد تقدم أول الكتاب
و قيل : يجوز حمل هذه الشهادة على الشهادة التي هي الإيمان و يكون ذلك في كل مؤمن ترجح حسناته و يوزن إيمانه كما توزن سائر حسناته و إيمانه يرجح سيئاته كما في هذا الحديث و يدخله النار بعد ذلك فيطهره من ذنوبه و يدخله الجنة بعد ذلك و هذا مذهب قوم يقولون : إن كل مؤمن يعطى كتابه بيمينه و كل مؤمن يثقل ميزانه و يتأولون قوله الله تعالى { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } أي الناجون من الخلود و هو في قوله { فهو في عيشة راضية } يوما ما و كذلك في قول النبي صلى الله عليه و سلم من كان آخر كلامه [ لا إله إلا الله وجبت له الجنة ] إنه صائر إليها لا محالة أصابه قبل ذلك ما أصابه
قلت : هذا تأويل فيه نظر يحتاج إلى دليل من خارج ينص عليه و الذي تدل عليه الآي و الأخبار أن من ثقل ميزانه فقد نجا و سلم و بالجنة أيقن و علم أنه لا يدخل النار بعد ذلك و الله أعلم و قال عليه السلام : [ ما شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن ] خرجه الترمذي عن أبي الدرداء و قال فيه حديث حسن صحيح و قد تقدم من حديث [ سمرة بن جندب : و رأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاء أفراطه فثقلوا ميزانه و كذلك الأعمال الصالحة دليل على فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ]
و ذكر القشيري في التحبير له : يحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت بعضهم في المنام فقلت ما فعل الله بك ؟ فقال : وزنت حسناتي فرجحت السيئات على الحسنات فجاءت صرة من السماء و سقطت في كفة الحسنات فرجحت فحللت الصرة فإذا فيها كف تراب ألقيته في قبر مسلم و ذكر أبو عمر في كتاب جامع بيان العلم بإسناده عن حماد بن زيد عن أبي حنيفة عن حماد بن إبراهيم في قوله عز و جل { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة } قال : يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه يوم القيامة فتخفف فيجاء بشيء أمثال الغمام أو قال مثل السحاب فيوضع في ميزانه فترجح فيقال له : أتدري ما هذا فيقول : لا فيقال له : هذا فضل العلم الذي كنت تعلمه الناس أو نحو ذلك
باب منه
الترمذي [ عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : إن لي مملوكين يكذبونني و يخونونني و يعصونني و أشتمهم و أضربهم فكيف أنا منهم ؟ قال : بحسب ما خانوك و عصوك و كذبوك و عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل قال : فتنحى الرجل فجعل يبكى و يهتف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما تقرأ كتاب الله تعالى { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } الآية ؟ فقال الرجل : و الله يا رسول الله ما أجد لي و هؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار كلهم ] قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن غزوان
و قد روى أحمد بن حنبل عن عبد الرحمن بن غزوان هذا الحديث و عن وهب بن منبه في قوله تعالى { و نضع الموازين القسط ليوم القيامة } قال : إنما يوزن من الأعمال خواتيمها و إذ أراد الله بعبد خيرا ختم له بخير و إذا أراد الله به شرا ختم له بشر عمله ذكره أبو نعيم
قال المؤلف هذا صحيح يدل عليه قوله عليه السلام [ و إنما الأعمال بالخواتيم ] و الله تعالى أعلم
باب منه و ذكر أصحاب الأعراف
ذكر خيثمة بن سليمان في مسنده [ عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم توضع الموازين يوم القيامة فتوزن السيئات و الحسنات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة و من رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار قيل يا رسول الله : فمن استوت حسناته و سيئاته ؟ قال : أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها و هم يطعمون ]
و ذكر ابن المبارك قال أخبرنا أبو بكر الهذلي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة و من كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } ثم قال إن الميزان يخف بمثقال حبة أو ترجح قال و من استوت حسناته و سيئاته كان من أصحاب الأعراف و ذكر الحديث
و قال كعب الأحبار : إن الرجلين كانا صديقين في الدنيا فيمر أحدهما بصاحبه و هو يجر إلى النار فيقول له أخوه : و الله ما بقي لي إلا حسنة أنجو بها خذها أنت يا أخي فتنجو بها مما أرى و أبقى أنا و إياك من أصحاب الأعراف قال : فيأمر الله بهما جميعا فيدخلان الجنة
و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : أنه يؤتى برجل يوم القيامة فما يجد له حسنة ترجح ميزانه و قد اعتدلت بالسوية فيقول الله تعالى رحمة منه : اذهب في الناس فالتمس من يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة فيصير يجوس خلال العالمين فيما يجد أحدا يكلمه في ذلك الأمر إلا يقول له خفت أن يخف ميزاني فأنا أحوج منك إليها فييأس فيقول له رجل : ما الذي تطلب ؟ فيقول : حسنة واحدة فلقد مررت بقوم لهم منها الألف فبخلوا علي فيقول له الرجل : لقد لقيت الله تعالى فما وجدت في صحيفتي إلا حسنة واحدة و ما أظنها تغني عني شيئا خذها هبة مني إليك فينطلق فرحا مسرورا فيقول الله له : ما بالك و هو أعلم فيقول : رب اتفق من أمري كيت و كيت ثم ينادي سبحانه بصاحبه الذي وهبه الحسنة فيقول له سبحانه : كرمي أوسع من كرمك خذ بيد أخيك و انطلقا إلى الجنة و كذا تستوي كفتا الميزان لرجل فيقول الله تعالى له : لست من أهل الجنة و لا من أهل النار فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان فيها مكتوب أف فترجح على الحسنات لأنها كلمة عقوق ترجح بها جبال الدنيا فيؤمر به إلى النار قال : فيطلب الرجل أن يرده الله تعالى فيقول : ردوه فيقول له أيها العبد العق لأي شيء تطلب الرد إلي فيقول : إلهي رأيت أني سائر إلى النار و إذ لا بد لي منها و كنت عاقا لأبي و هو سائر إلى النار مثلي فضعف علي به عذابي و أنقذه منها قال : فيضحك الله تعالى و يقول : عققته في الدينا و بررته في الآخرة خذ بيد أبيك و انطلقا إلى الجنة
فصل : ذكر الله تعالى الميزان في كتابه بلفط الجمع و جاء السنة بلفظ الإفراد و الجمع فقيل : يجوز أن يكون هنالك موازين للعمل الواحد يوزن بكل ميزان منها صنف من الأعمال كما قال :
( ملك تقوم الحادثات لعدله ... فلكل حادثة لها ميزان )
( تتصرف الأشياء في ملكوته ... و لك شيء مدة و أوان )
و يمكن أن يكون ميزانا واحدا عبر عنه بلفظ الجمع كما قال تعالى { كذبت عاد المرسلين } و { كذبت قوم نوح المرسلين } و إنما هو رسول واحد و قيل : المراد بالموازين جمع موزون أي الأعمال الموزونة لا جمع ميزان
و خرج اللالكائي في سننه عن أنس رفعه : أن ملكا موكل بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن رجح نادى الملك بصوت يسمع الخلائق كلها : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا و إن خف نادى الملك : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا و خرج عن حذيفة قال : [ صاحب الميزان يوم القيامة جبريل عليه السلام ]
فصل : و أما أصحاب الأعراف فيقال : إنهم مساكين أهل الجنة ذكر هناد بن السري قال : حدثنا وكيع عن سفيان عن مجاهد عن حبيب عن عبد الله بن الحارث قال : أصحاب الأعراف ينتهي بهم إلى نهر يقال له الحياة حافتاه قصب الذهب قال : أراه قال مكلل باللؤلؤ فيغتسلون منه اغتسالة فيبدو في نحورهم شامة بيضاء ثم يعودون فيغتسلون فكلما اغتسلوا زادت بياضا فيقال لهم : تمنوا فيتمنون ما شاءوا قال : فيقال لهم لكم ما تمنيتم و سبعين ضعفا قالوا : فهم مساكين أهل الجنة و في رواية : فإذا دخلوا الجنة و في نحورهم تلك الشامة البيضاء فيعرفون بها قال : فهو يسمون في الجنة مساكين أهل الجنة
و اختلف العلماء في تعيينهم على اثني عشر قولا :
الأول : ما تقدم ذكره في الحديث و هو قول ابن مسعود و كعب الأحبار كما ذكرنا و ذكره ابن وهب عن ابن عباس
الثاني : قوم صالحون فقهاء علماء قاله مجاهد
الثالث : هم الشهداء ذكره المهدوي
الرابع : هم فضلاء المؤمنين و الشهداء فرغوا من شغل أنفسهم و تفرغوا لمطالعة أحوال الناس ذكره أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري
الخامس : هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم قاله شرحبيل بن سعد و ذكر الطبري في ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : و أنه تعادل عقوقهم و استشهادهم
السادس : هم العباس و حمزة و علي بن أبي طالب و جعفر ذو الجناحين يعرفون محبيهم ببياضالوجوه و مبغضيهم بسواد الوجوه ذكره الثعلبي عن ابن عباس
السابع : هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم و هم في كل أمة ذكره الزهراوي و اختاره النحاس
الثامن : هم قوم أنبياء قاله الزجاج
التاسع : هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام و المصائب في الدنيا فوقفوا و ليست لهم كبائر فحيسبون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم حكاه ابن عطية القاضي أبو محمد في تفسيره
العاشر : ذكره ابن وهب عن ابن عباس قال : أصحاب الأعراف الذين ذكر الله في القرآن أصحاب الذنوب العظام من أهل القبلة و ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوب عظام و كان جسيم أمرهم لله فأقيموا ذلك المقام إذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه و قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين و إذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض وجوههم
قال ابن عباس : أدخل الله أصحاب الأعراف الجنة و في رواية سعيد بن جبير عن عبد الله بن مسعود و كانوا آخر أهل الجنة دخولا الجنة
قال ابن عطية : و تمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأن مذهبه أنهم مذنبون
الحادي عشر : أنهم أولاد الزنا ذكره أبو نصر القشيري عن ابن عباس
الثاني عشر : أنهم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل دخالهم الجنة و النار قاله أبو مجلز لاحق بن حميد فقيل له : لا يقال للملائكة رجال فقال : إنهم ذكور و ليسوا بإناث فلا يبعد إيقاع لفظ الرجال عليهم كما وضع على الجن في قوله تعالى { و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن }
و الأعراف : سور بين الجنة و النار قيل : هو جبل أحد يوضع هناك
روى عن النبي صلى الله عليه و سلم من طريق أنس و غيره ذكره أبو عمر بن عبد البر و غيره حسب ما ذكرناه في كتاب جامع أحكام القرآن من سورة الأعراف و الحمد لله
حكاية
روي عن بعض الصالحين رضي الله عنه أنه قال : أخذتني ذات ليلة سنة فنمت فرأيت في منامي كأن القيامة قد قامت و كأن الناس يحاسبون فقوم يمضي بهم إلى الجنة و قوم يمضي بهم إلى النار قال : فأتيت إلى الجنة فناديت أهل الجنة بماذا نلتم سكنى الجنة في محل الرضوان ؟ فقالوا : بطاعة الرحمن و مخالفة الشيطان ثم أتيت إلى باب النار فناديت يا أهل النار : بماذا نلتم النار ؟ قالوا : بطاعة الشيطان و مخالفةالرحمن قال : فنظرت فإذا أنا بقوم موقوفون بين الجنة و النار فقالوا لي : لنا ذنوب جلت و حسنات قلت فالسيئات منعتنا من دخول الجنة و الحسنات منعتنا دخول النار و أنشدوا :
( نحن قوم لنا ذنوب كبار ... منعتنا من الوصول إليه )
( تركتنا مذبذبين حيارى ... أمسكتنا من القدوم عليه )
باب إذا كان يوم القيامة تتبع كل أمة ما كانت تعبد فإذا بقي في هذه الأمة
منافقون امتحنوا و ضرب الصراط
الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيمثل لصاحب الصليب صليبه و لصاحب التصاوير تصاويره و لصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون و يبقى المسلمون ] و ذكر الحديث بطوله
و خرج مسلم [ أن ناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم يا رسول الله : هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هل تضارون في القمر ليلة البدر قالوا : لا يا رسول الله قال هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا قال : فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس و يتبع من كان يعبد القمر القمر و يتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيث و تبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه و يضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا و أمتي أول من يجوز و لا يتكلم يومئذ إلا الرسل و دعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم و في جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان ؟ قالوا نعم يا رسول الله قال : فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموبق بعمله و منهم المجازى حتى ينجى ] و ذكر الحديث و سيأتي
فصل : ذكر الفقيه أبو بكر بن برجان في كتاب الإرشاد له بعد قوله : يفهم رؤوس المحشر لطلب من يشفع و يريحهم مما هم فيه و هم رؤوساء أتباع الرسل فيكون ذلك ثم يؤمر آدم عليه السلام بأن يخرج بعث النار من ذريته و هم سبعة أصناف البعثان الأولان يلتقطهم عنق النار من بين الخلائق لقط الحمام حب السمسم و هم أهل الكفر بالله جحدوا و عتوا و أهل الكفر بالله إعراضا و جهلا ثم يقال لأهل الجمع : أين ما كنتم تعبدون من دون الله لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فمن كان يعبد من دون الله شيئا اتبعه حتى يقذف به في جهنم قال الله عز و جل : { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت و ردوا إلى الله مولاهم الحق و ضل عنهم ما كانوا يفترون } و قال : { فكبكبوا فيها هم و الغاوون * و جنود إبليس أجمعون }
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تمد الأرض مد الأديم يوم القيامة لعظمة الله عز و جل ثم لا يكون لبشر من بني آدم منها إلا موضع قدميه ثم ادعى أنا أول الناس فأخر ساجدا ثم يؤذن لي فأقول يا رب : خبرني هذا جبريل صلى الله عليه و سلم و هو عن يمين عرش الرحمن تبارك و تعالى أنك أرسلته إلي و جبريل ساكت لا يتكلم حتى يقول الله عز و جل صدق ثم يؤذن لي في الشفاعة فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أقطار الأرض فذلك المقام المحمود ثم يبعث المقام المحمود ثم يبعث البعث الرابع و هم قوم وحدوا الله و كذبوا المرسلين جهلوا صفات الله جل جلاله و ردوا عليه كتابه و رسله ثم يبعث البعث الخامس و السادس و هم أهل الكتابين يأتون عطاشا يقال لهم : ما كنتم تبغون ؟ فيقولون : عطشنا يا رب فاسقنا فيقال لهم : ألا ترون فيشار لهم إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيردونها سقوطا فيها ثم تقع المحنة بالمنافقين و المؤمنين في معرفة ربهم و تميزه من المعبودات من دونه فيذهب الله المنافقين و يثبت المؤمنين ثم ينصب الصراط مجازا على متن جهنم أعادنا الله منها أرق من الشعر و أحد من الموسى كما وصفه رسول الله صلى الله عليه و سلم فيسقط أهل البدع في الباب السادس منه أو الخامس و أهل الكبائر في السابع أو السادس و إنما يسقط الساقط بعدما يعجز عن عمله و يخلص المؤمنون على درجاتهم في تفاوتهم في النجاة و يحبسون على قنطرة بين الجنة و النار يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا صفوا و هذبوا أدخلوا الجنة و من ذلك المقام يوقف أصحاب الأعراف ]
قال المؤلف : هكذا ذكر الترتيب و هو ترتيب حسن و سيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى
فصل : قوله : [ هل تضارون ] بضم التاء و فتحها و بتشديد الراء و تخفيفها و ضم التاء و تشديد الراء أكثر و أصله تضارون أسكنت الراء الأولى و أدغمت مع الثانية و ماضيه ضورر على ما لم يسم فاعله و يجوز أن يكون مبينا للفاعل بمعنى تضاررون بكسر الراء إلا إنها سكنت الراء و أدغمت و كله من الضر المشدد و أما التخفيف فهو من ضاره يضيره و يضوره مخففا
و المعنى أن أهل الجنة إذا امتن الله عليهم برؤيته سبحانه تجلى لهم ظاهرا بحيث لا يحجب بعضهم بعضا و لا يضره و لا يزاحمه و لا يجادله كما يفعل عند رؤية الأهلة بل كالحال عند رؤية الشمس و القمر ليلة تمامه
و قد روى تضامون من المضامكة و هي الازدحام أيضا أي لا تزدحمون عند رؤيته تعالى كما تزدحمون عند رؤية الأهلة
و روي تضامون بتخفيف الميم من الضيم الذي هو الذل أي لا يذل بعضكم بعضا بالمزاحمة و المنافسة و المنازعة و سيأتي هذا المعنى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم في أبواب الجنة إن شاء الله تعالى
قوله : فإنكم ترونه كذلك هذا تشبيه للرؤية و حالة الرائي لا المرئي لأن الله سبحانه لا يحاط به و ليس كمثله شيء و لا يشبهه شيء
و قوله : فيأيتهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون هذا موضع الامتحان ليميز المحق من المبطل و ذلك أنه لما بقي المنافقون و المراؤون متلبسين بالمؤمنين و المخلصين زاعمين أنهم منهم و أنهم عملوا مثل أعمالهم و عرفوا الله مثل معرفتهم امتحنهم الله بأن أتاهم بصورة قالت الجميع أنا ربكم فأجاب المؤمنون بإنكار ذلك و التعوذ منه لما قد سبق لهم من معرفتهم بالله عز و جل في دار الدنيا و أنه منزه عن صفات هذه الصور إذ سماتها سمات المحدثين
و لهذا قال في حديث أبي سعيد الخدري فيقولون : نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا مرتين أو ثلاثا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب
قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر في كتاب المفهم لشرح اختصار مسلم كتاب مسلم و هذا لمن لم يكن له رسوخ العلماء و لعلهم الذين اعتقدوا الحق و جزموا عليه من غير بصيرة و لذلك كان اعتقادهم قابلا للانقلاب و الله أعلم
قلت : و يحتمل أن يكونوا المنافقين و المرائين و هو أشبه و الله أعلم لأن في الامتحان الثاني يتحقق ذلك لأن في حديث أبي سعيد بعد قوله حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم و بينه آية فتعرفوه بها ؟ فيقولون : نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود و لا يبقى من كان يسجد اتقاء و رياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم و قد تحول في الصورة التي رأوا فيها فيقول : أنا ربكم ؟ فيقولون : أنت ربنا ثم يضرب الجسر على جهنم و تحل الشفاعة و سيأتي قوله : فيأتيهم الله في صورة التي يعرفون أي يتجلى لهم في صفته التي هو عليها من الجلال و الكمال و التعالي و الجمال بعد أن رفع الموانع عن أبصارهم فيتبعونه أي يتبعون أمره أو ملائكته و رسله الذين يسوقونهم إلى الجنة و الله أعلم
و الدعوى : الدعاء قال الله تسبحاته و تعالى : { دعواهم فيها سبحانك اللهم } أي دعاؤهم و الكلاليب : جمع كلوب و السعدان : نبت كثير الشوك شوكه كالخطاطيف و المحاجن ترعاه الإبل فيطيب لبنها تقول العرب : مرعى و لا كالسعدان و الموبق : المهلك أوبقه ذنبه : أهلكه
و منه الحديث : اجتنبوا السبع الموبقات و قوله تعالى : { أو يوبقهن بما كسبوا } و المجازى : الذي جوزء بعمله
و قوله : { يكشف عن ساق } كشف الساق عبارة عن معظم الأمر و شدته ذكره ابن المبارك قال : أخبرنا أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : { يوم يكشف عن ساق } قال : يوم كرب و شدة أخبرنا ابن جريج عن مجاهد قال : شدة الأمر و جده قال مجاهد و قال ابن عباس هي أشد ساعة في القيامة
و قال أبو عبيدة : إذا اشتد الأمر أو الحرب قيل : كشف الأمر عن ساقه و الأصل فيه أن من وقع في شيء يحتاج إلى الجد شمر عن سقاه فاستعير الساق و الكشف عنها في موضع الشدة و كذا قال القتبي قال : يوم يكشف عن ساق هذا من الاستعار فسمي الشدة ساقا لأن الرجل إذا وقع في الشدة شمر في ساقه فاستعيرت في موضع شدة قال الشعر :
( و كنت إذا جاري دعا لمصيبة ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري )
و قال آخر :
( فتى الحرب إن عضت به الحرب عضها ... و إن شمرت عن ساقها الحرب شمرا )
و قال آخر يصف سنة شديدة :
( قد شمرت عن ساقها )
و قال آخر :
( كشفت لهم عن ساقها ... و بدا من الشر البراح )
و قال آخر :
أبشر عناق إنه شر باق قد سن لي قومك ضرب الأعناق و قامت الحرب بنا على ساق
و الشعر في هذا المعنى كثير :
و قيل : يكشف عن شاق جهنم و قيل : عن ساق العرش
فأما ما روي أن الله تعالى يكشف عن ساقه يوم القيامة فيسجد له كل مؤمن و مؤمنة كما في صحيح البخاري فإنه تعالى على التبعيض و الأعضاء و أن ينكشف و يتغطى و معناه أي يكشف على العظيم من أمره
و قال الخطابي : إنما جاء ذكر الكشف عن الساق على معنى الشدة فيحتمل أن يكون معنى الحديث أنه يبرز من أهوال القيامة و شدتها ما يرتفع معه سواتر الأمتحان فيميز عند ذلك أهل اليقين و الإخلاص فيؤذن لهم في السجود و ينكشف الغطاء عن أهل النفاق فتعود ظهورهم طبقا واحدا لا يستطيعون السجود قال : و قد تأوله بعض الناس فقال : لا ينكر أن يكون الله سبحانه قد يكشف لهم عن ساق لبعض المخلوقين من ملائكته أو غيرهم فيجعل ذلك سببا لبيان ما شاء من حكمه في أهل الإيمان و أهل النفاق
قال الخطابي : و فيه وجه آخر لم أسمعه من قدوة و قد يحتمله معنى اللغة سمعت أبا عمر يذكر عن أبي العباس أحمد بن يحيى النحوي فيما عدة من المعاني المختلفة الواقعة تحت هذا الاسم قال : و الساق النفس و منه قول علي رضي الله عنه حين راجعه أصحابه في قتل الخوارج فقال : و الله لأقاتلنهم حتى و لو تلفت ساقي يريد نفسه و قال أبو سليمان و قد يحتمل على هذا أن يكون المراد التجلي لهم و كشف الحجب عن أبصارهم حتى إذا رأوه سجدوا له قال : و لست أقطع به القول و لا أراه واجبا فيما أذهب إليه من ذلك
قال المؤلف : هذا القول أحسن الأقوال إن شاء وقد جاء فيه حديث حسن ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسير سورة ن و القلم فقال : [ حدثنا الخليل بن أحمد : حدثنا ابن منيع قال : حدثنا هدبة قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمارة القرشي عن أبي بردة بن أبي موسى قال : حدثني أبي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قال قوم إلى ما كانوا يعبدون و يبقى أهل التوحيد فيقال لهم : ما تنتظرون و قد ذهب الناس ؟ فيقولون : إن لنا ربا كنا نعبده في الدنيا و لم نره قال : و تعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون : نعم فيقال : فكيف تعرفونه و لم تروه ؟ قالوا : إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فيخرون له سجدا و تبقى أقوام ظهورهم مثل صياصي البقر فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى { يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون } فيقول الله تعالى : عبادى ارفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم من اليهود و النصارى في النار ]
قال أبو بردة : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال : الله الذي لا إله إلا هو فحدثك أبوك بهذا الحديث فحلفت له ثلاث أيمان فقال عمر : ما سمعت من أهل التوحيد حديثا هو أحب إلي من هذا
قال المؤلف : فهذا الحديث يبين لك معنى كشف الساق و أنه عبارة عن رؤيته سبحانه و هو معنى ما في صحيح مسلم و الحديث يفسر بعضه بعضا فلا إشكال فيه و الحمد لله
و قد ذكر البيهقي [ عن روح بن جناج عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق } قال : عن نور عظيم يخرون له سجدا ] تفرد به روح بن جناح و هو شامي يأتي بأحاديث منكرة لا يتابع عليها و موالي عمر بن عبد العزيز فيهم كثرة
قال المؤلف : الحديث الذي قبله أبين و أصح إسنادا فليعول عليه و قد هاب الإمام أبو حامد الغزالي القول فيه و أشفق من تأويله فقال في كتاب كشف علم الآخرة : ثم يكشف الجليل عن ساقه فيسجد الناس كلهم تعظيما له و تواضعا إلى الكفار الذين قد أشركوا به أيام حياتهم و عبدة الحجارة و الخشب و ما لم ينزل به سلطانا فإن صياصي أصلابهم تعود حديدا فلا يقدرون على السجود و هو قوله تعالى : { يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون }
[ و روي البخاري في تفسيره مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يكشف الله عن ساقه النبي يوم القيامة فيسجد له كل مؤمن و مؤمنة ] و قد أشفقت من تأويل الحديث و عدلت عن منكر به و كذا أشفقت من صفة الميزان و زيفت قول واصفيه و جعلته متحيزا إلى العالم الملكوتي فإن الحسنات و السيئات أعراض و لا يصح وزن الأعراض إلا بميزان ملكوتي
قال المؤلف : قد ذكرنا الميزان و بينا القول فيه و في الأعمال الموزونة غاية البيان بالأخبار الصحيحة و الحسان و بينا القول هنا في كشف الساق بحيث لم يبق فيه لأحد ريب ولا مخالفة و لا شقاق فالله الحمد على ما به أنعم و فهم و علم
باب كيف الجواز على الصراط و صفته و من يحبس عليه و يزل عنه و في شفقة
النبي صلى الله عليه و سلم على أمته عند ذلك و في ذكر القناطر قبله و السؤال عليها و بيان قوله تعالى : و إن منكم إلا واردها
روي عن بعض أهل العلم أنه قال : لن يجوز أحد الصراط حتى يسأل في سبع قناطر أما القنطرة الأولى : فيسأل عن الإيمان بالله و هي شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجاز بها مخلصا و الإخلاص قول و عمل جاز ثم يسأل على القنطرة الثانية عن الصلاة فإن جاؤ بها تامة جاز ثم يسأل على القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان فإن جاء به تاما جاز ثم يسأل على القنطرة الرابعة عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز ثم يسأل في الخامسة عن الحج و العمرة فإن جاء بهما تامتين جاز ثم يسأل في القنطرة السادسة عن الغسل و الوضوء فإن جاء بهما تأمين جاز ثم يسأل في السابعة و ليس في القناطر أصعب منها فيسأل عن ظلامات الناس
و ذكره أبو حامد في كتاب كشف علم الآخرة : أنه إذا لم يبق في الموقف إلا المؤمنون و المسلمون و المحسنون و العارفون و الصديقون و الشهداء و الصالحون و المرسلون ليس فيهم مرتاب و لا منافق و لا زنديق فيقول الله تعالى : يا أهل الموقف من ربكم ؟ فيقولون : الله فيقول لهم : أتعرفونه ؟ فيقولون : نعم فيتجلى لهم ملك عن يسار العرش لو جعلت البحار السبع في نقره إبهامه لما ظهرت فيقول لهم بأمر الله : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك فيتجلى لهم ملك عن يمين العرش لو جعلت البحار الأربعة عشر في نقرة إبهامه لما ظهرت فيقول لهم أنا ربكم : فيقولون : نعوذ بالله منك فيتجلى لهم الرب سبحانه في صورة غير صورته التي كانوا يعرفونه و سمعوا و هو يضحك فيسجدون له جميعهم فيقول : أهلا بكم ثم ينطلق بهم سبحانه إلى الجنة فيتبعونه فيمر بهم على الصراط و الناس أفواج : المرسلون ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء ثم المؤمنون ثم العارفون ثم المسلمون منهم المكبوب لوجهه و منهم المحبوس في الأعراف و منهم قوم قصروا عن تمام الإيمان فمنهم من يجوز الصراط مائة عام و آخر يجوز على ألف و مع ذلك كله لن تحرق النار من رأى ربه عيانا لا يضام في رؤيته
فتوهم نفسك يا أخي إذا صرت على الصراط و نظرت إلى جهنم تحتك سوداء مظلمة قد لظى سعيرها و علا لهيبها و أنت تمشي أحيانا و تزحف أخرى قال :
( أبت نفسي تتوب فما احتيالي ... إذا برز العباد لذي الجلال )
( و قاموا من قبورهم سكارى ... بأوزار كأمثال الجبال )
( و قد نصب الصراط لكي يجوزوا ... فمنهم من يكب على الشمال )
( و منهم من يسير لدار عدن ... تلقاه العرائس بالغوالي )
( يقول له المهمين يا وليي ... غفرت لك الذنوب فلا تبالي )
و قال آخر :
( إذا مد الصراط على جحيم ... تصول على العصاة و تستطيل )
( فقوم في الجحيم لهم ثبور ... و قوم في الجنان لهم مقيل )
( و بان الحق و انكشف الغطاء ... و طال الويل و اتصل العويل )
و ذكر مسلم [ من حديث أبي هريرة فيأتون محمدا صلى الله عليه و سلم فيؤذن لهم و ترسل الأمانة و الرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينا و شمالا فيمر أولهم كالبرق الخاطف ]
قال : قلت بأبي أنت و أمي و أي شيء كمر البرق ؟ قال : [ ألم تر إلى البرق كيف يمر و يرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح ثم كمر الطير و شد الرجال تجري بهم أعمالهم و نبيكم صلى الله عليه و سلم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل و لا يستطيع السير إلا زاحفا ]
قال : [ و في حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أموت بأخذه فمخدوش ناج و مكردس في النار و الذي نفس محمد بيده : إن قعر جهنم لسبعون خريفا ] ؟
و روي [ من حديث حذيفة أيضا و ذكر مسلم أيضا من حديث أبي سعيد الخدري و فيه : ثم يضرب الجسر على جهنم و تحل الشفاعة و يقولون : اللهم سلم سلم قيل : يا رسول الله و ما الجسر ؟ قال : دحض مزلة فيه خطاطيف و كلاليب و حسكة تكون بنجد فيها شوكة يقال لها السعدان : فيمر المؤمنون كطرف العين و كالبرق و كالريح و كالطير و كأجاويد الخيل و الركاب فناج مسلم و مخدوش مرسل و مكردس في نار جهنم ] الحديث و سيأتي بتمامه إن شاء الله تعالى
و في رواية قال أبو سعيد الخدري : [ بلغني أن الجسر أدق من الشعر وأحد من السيف ] و في رواية [ أرق من الشعر ] رواها مسلم
و خرج ابن ماجه حديث أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يوضع الصراط بينم ظهراني جهنم على حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس فناج مسلم و مخدوج به ثم ناج و محتبس به و منكوس فيها ]
و ذكر ابن المبارك قال : حدثنا هشام بن حسان عن موسى عن أنس عن عبيد بن عمير [ أن الصراط مثل السيف على جسر جهنم و أن لجنبتيه كلاليب و حسكا و الذي نفسي بيده إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة و مضر ]
و أخبرنا رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال قال : [ بلغنا أن الصراط يوم القيامة يكون على بعض الناس أدق من الشعر و على بعض الناس مثل الوادي الواسع ] أعمل
قال : و أخبرنا عوف عن عبد بن سفيان العقيلي قال : [ يجوز الناس يوم القيامة على الصراط على قدر إيمانهم و أعمالهم فيجوز الرجل كالطرف في السرعة و كالسهم المرمى و كالطائر السريع الطيران و كالفرس الجواد المضمر و يجوز الرجل يعدو عدوا و الرجل يمشي مشيا حتى سكون آخر من ينجو يحبو حبوا ]
و ذكر هناد بن السري حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا سفيان حدثنا سلمة بن كهيل عن أبي الزعفراء قال : قال عبد الله [ يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم ] قال : [ فيمر الناس على قدر أعمالهم أولهم كلمح البرق ثم كمر الريح ثم كأسرع البهائم ثم كذلك حتى يمر الرجل سعيا و حتى يمر الرجل ماشيا ثم يكون آخرهم يتلبط على بطنه يقول يا رب لم أبطأت بي ؟ فيقول : لم أبطئ بك إنما أبطأ بك عملك ]
قال : و حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن قتادة قال : قال عبد الله ابن مسعود : [ تجوزون الصراط بعفو الله و تدخلون الجنة برحمة الله و تقتسمون المنازل بأعمالكم ]
أبو داود [ عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من حمى مؤمنا من منافق أراه قال : بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم و من رمى مؤمنا بشيء شينه حبسه الله عز و جل على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ]
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الزالون على الصراط كثير و أكثر من يزل عنه النساء ] ذكره أبو الفرج بن الجوزي
و قال المصطفى صلى الله عليه و سلم : [ فإذا صار الناس على طرف الصراط نادى ملك من تحت العرش : يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط و ليقف كل عاص منكم و ظالم فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها و ما أشد حرها يتقدم فيها من كان في الدينا ضعيفا مهينا و يتأخر عنها من كان في الدنيا عظيما مكينا ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك بالجواز على الصراط على قدر أعمالهم في ظلمتهم و أنوارهم فإذا عصف الصراط بأمتي نادوا : و امحمداه فأبادر من شدة إشفاقي عليهم و جبريل آخد بحجزتي فأنادي رافعا صوتي رب أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي و لا فاطمة ابنتي و الملائكة قيام عن يمين الصراط و يساره ينادون : رب سلم سلم و قد عظمت الأهوال و اشتدت الأوجال و العصاة يتساقطون عن اليمين و الشمال و الزبانية يتلقونهم بالسلاسل و الأغلال و ينادونهم : أما نهيتم عن كسب الأوزار ؟ أما خوفتم عذاب النار ؟ أما أنذرتم كل الإنذار أما جاءكم النبي المختار ؟ ] ذكره أبو الفرج بن الجوزي أيضا في كتاب روضة المشتاق و الطريق إلى الملك الخلاق
فتفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط و دقته ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته ثم قرع سمعك شهيق النار و تغيظها و قد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك و اضطراب قلبك و تزلزل قدمك و ثقل ظهرك بالأوزار المنعة لك من المشي على بساط الأرض فضلا عن حدة الصراط فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته و اضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني و الخلائق بين يديك يزلون و يعثرون و تتناولهم زبانية النار بالخطاطيف و الكلاليب و أنت إليهم كيف ينكسون فتسفل إلى جهة النار رؤوسهم و تعلو أرجلهم فيا له من منظر ما أفظعه و مرتقى ما أصبعه و مجاز ما أضيقه
فصل : ذهب بعض من تكلم على أحاديث هذا الباب في وصف الصراط بأنه أدق من الشعر و أحد من السيف أن ذلك راجع إلى يسره و عسره على قدر الطاعات و المعاصي و لا يعلم حدود ذلك إلا الله تعالى لخفائها و غموضها و قد جرت العادة بتسمية الغامض الخفي : دقيق فضرب المثل له بدقة الشعر فهذا و الله أعلم من هذا الباب
و معنى قوله : [ و أحد من السيف ] : أن الأمر الدقيق الذي يصعد من عند الله تعالى إلى الملائكة في إجازة الناي على الصراط يكون في نفاذ حد السيف و مضيه إسراعا منهم إلى طاعته و امتثاله و لا يكون له مرد كما أن السيف إذا نفذ بحدة و قوة ضاربة في شيء لم يكن له بعد ذلك مرد
و إما أن يقال : إن الصراط نفسه أحد من السيف و أدق من الشعر فذلك مدفوع بما وصف من أن الملائكة يقومون بجنبيه و أن فيه كلاليب و حسكا أي أن من يمر عليك يقع على بطنه و منهم من يزل ثم يقوم و فيه أن من الذين يمرون عليه من يعطى النور بقدر موضع قدميه و في ذلك إشارة إلى أن للمارين عليه موطئ الأقدام و معلوم أن رقة الشعر لا يحتمل هذا كله و قال بعض الحفاظ : إن هذه اللفظة ليست ثابتة
قال المؤلف : ما ذكره القاتل مردود بما ذكرنا من الأخبار و أن الإيمان يجب بذلك و أن القادر على إمساك الطير في الهواء قادر على أن يمسك عليه المؤمن فيجزيه أو يمشيه و لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا عند الاستحالة و لا استحالة في ذلك للآثار الواردة في ذلك و ثباتها بثقل الأئمة العدول { و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور } ؟
و عن يحيى بن اليمان : رأيت رجلا نام و هو أسود الرأس و اللحية شاب يملأ العين فرأى في منامه كأن الناس قد حشروا و إذا بنهر من نار و جسر يمر الناس عليه فدعى فدخل الجسر فإذا هو كحد السيف يمر يمينا و شمالا فأصبح أبيض الرأس و اللحية
فصل : أحاديث هذا الباب تبين لك معنى الورود المذكور في القرآن في قوله عز و جل : { و إن منكم إلا واردها }
روي عن ابن عباس و ابن مسعود و كعب الأحبار أنهم قالوا : الورود المرور على الصراط رواه السدي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم
و ذكر أبو بكر النجاد سلمان قال : [ حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة السليطي حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي قال : حدثنا سليم بن منصور بن عمار قال : حدثني أبي منصور بن عمار قال : حدثني بشر بن طلحة الخزامي عن خالد بن الدريك عن يعلى منبه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ] و قيل : الورود الدخول روي عن ابن مسعود و عن ابن عباس أيضا و خالد بن معدان و ابن جريج و غيرهم و حديث أبي سعيد الخدري نص في ذلك على ما يأتي فيدخلها العصاة بجرائمهم و الأولياء بشفاعتهم
و روي [ عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الورد الدخول لا يبقى بر و لا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت على إبراهيم { ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا } ]
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا سفيان عن رجل عن خالد بن معدان قال : قالوا ألم يعدنا ربنا أنا نرد النار فقال : إنكم مررتم بها و هي خامدة
قال ابن المبارك و أخبرنا سعيد الجيزي عن أبي الليل عن غنيم عن أبي العوام عن كعب أنه تلا هذه الآية : { و إن منكم إلا واردها } قال : هل تدرون ما ورودها ؟ قالوا : الله أعلم قال : فإن ورودها أن يجاء بجهنم و تمسك للناس كأنها متن إهالة حتى إذا استقرت عليها أقدام الخلق برهم و فاجرهم نادى مناد : أن خذي أصحابك و ذرى أصحابي فتخسف بكل ولي لها لهي أعلم بهم من الوالد بولده و ينجو المؤمنون
و قال مجاهد : و رود المؤمنين هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا و هي حظ المؤمن من النار فلا يردها
و أسند أبو عمر بن عبد البر في ذلك حديثا في التمهيد [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عاد مريضا من وعك به فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أبشر فإن الله تعالى يقول : هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار ]
و قالت طائفة : الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز و يصلاها قدر عليه دخولها ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى و احتجوا بحديث ابن عمر : [ إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشي ] الحديث
و قيل : المراد بالورود الإشراف على جهنم و الإطلاع عليها و القرب منها و ذلك أنهم يحضرون موضع الحساب و هو بقرب جهنم فيرونها و ينظرون إليها في حالة الحساب ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه و يصار بهم إلى الجنة و نذر الظالمين أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى : { و لما ورد ماء مدين } أي أشرف عليه لا أنه دخله [ و روت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يدخل النار أحد من أهل بدر و الحديبية قال : فقلت يا رسول الله : و أين قول الله عز و جل : { و إن منكم إلا واردها } ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : { ثم ننجي الذين اتقوا } ] خرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم عند حفصة الحديث
و قيل : الخطاب للكفار في قوله تعالى : { و إن منكم إلا واردها } روى وكيع عن شعبة عن عبد الله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله عز و جل : { و إن منكم إلا واردها } قال : هذا خطاب للكفار و روي عنه أنه كان يقرأ { و إن منهم } ردا على الآيات التي قبلها من الكفار قوله : { فوربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم } و { أيهم أشد } { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا * وإن منكم } و كذلك قرأ عكرمة و جماعة
و قالت فرقة : المراد منكم : الكفرة و المعنى : قل لهم يا محمد و إن منكم
و قال الجمهور : المخاطب العالم كله و لا بد من ورود الجميع و عليه نشأ الخلاف في الورود كما ذكرنا و الصحيح أن الورود : الدخول لحديث أبي سعيد كما ذكرنا
و في مسند الدرامي أبي محمد [ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب في رحله ثم كشد الرجل في مشيه ]
و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ] خرجه الأئمة قال الزهري كأنه يريد هذه الآية { و إن منكم إلا واردها } ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده و هذا يبين لك ما ذكرناه لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون بردا و سلاما على المؤمنين و ينجون منها سالمين قال : خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا : ألم يقل ربنا إنا نرد النار ؟ فيقال : قد وردتموها فلقيتموها رمادا
قلت : و الذي يجمع شتات الأقوال : أن يقال إن من وردها و لم تؤذه بلهبها و حرها فقد أبعد عنها و نجي منها نجانا الله منها بفضله و كرمه و جعلنا ممن وردها سالما و خرج منها غانما
و روي ابن جريج عن عطاء قال : قال أبو راشد الحروري لابن عباس { لا يسمعون حسيسها } فقال له ابن عباس : أمجنون أنت ؟ فأين قوله تعالى : { و إن منكم إلا واردها } و قوله : { فأوردهم النار } و قوله : { إلى جهنم وردا } و لقد كان من دعاء من مضى اللهم أخرجني من النار سالما و أدخلني الجنة فائزا
و قد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود و الجهل بالصدر كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه يقول : ليت أمي لم تلدني فتقول له امرأته : يا أبا ميسرة إن الله قد أحسن إليك و هداك إلى الإسلام قال : أجل و لكن الله قد بين لنا أنا واردوا النار و لم يبين لنا أنا صادرون
و عن الحسن قال : قال رجل لأخيه أي أخي هل أتاك أنك وارد النار ؟ قال : نعم قال : فهل أتاك أنك خارج منها ؟ قال : لا قال : ففيم الضحك إذا ؟ قال : فما رئي ضاحكا حتى مات
و روي عن ابن عباس أنه قال في هذ المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي : [ أما أنا و أنت فلا بد أن يدرها فأما أنا فينجيني الله منها و أما أنت فما أظنه ينجيك ]
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي عاصم قال : بكى ابن رواحة فبكت امرأته فقال لها : ما يبكيك ؟ قالت : بكيت حين رأيتك تبكي فقال عبد الله : إني علمت أني وارد النار فما أدري أناج منها أم لا ؟ و في معناه قيل :
( و قد أتانا ورود النار ضاحية ... حقا يقينا و لما يأتنا الصدر )
باب ما جاء في شعار المؤمنين على الصراط
الترمذي [ عن المغيرة بن شعبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : شعار المؤمنين على الصراط : رب سلم سلم ] قال : حديث غريب
و في صحيح مسلم : [ و نبيكم صلى الله عليه و سلم قائم على الصراط يقول : رب سلم سلم ] و قد تقدم
باب فيمن لا يوقف على الصراط طرفة عين
ذكر الوائلي أبو نصر في كتاب الإبانة : [ أخبرنا محمد بن الحجاج قال : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن الربعي حدثنا علي بن الحسين أبو عبيد قال : حدثنا زكريا ابن يحيى أبو السكن قال : حدثني عبد الله بن صالح الهماني قال : حدثني أبو همام القرشي عن سليمان بن المغيرة عن قيس بن مسلم عن طاووس عن أبي هريرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم علم الناس سنتي و إن كرهوا ذلك و إن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث الجنة فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك ] قال : و هذا غريب الإسناد و المتن حسن
باب منه
أبو نعيم قال : [ حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا خير بن عرفة قال : حدثنا هانئ بن المتوكل قال : حدثنا ربيعة سليمان بن ربيعة عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من أحسن الصدقة في الدنيا جاز على الصراط و من قضى حاجة أرملة أخلف الله في تركته ] قال : هذا حديث غريب من حديث محمد تفرد بن سليمان عن موسى
و ذكر الختلي أبو القاسم حدثنا عثمان بن سعيد أبو عمرو الأنطاكي قال : حدثنا علي بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا شيخ يكنى أبا جعفر قال : رأيت في منامي كأني واقف على قناطر جهنم فنظرت إلى هول عظيم فجعلت أفكر في نفسي كيف العبور على هذه ؟ فإذا قائل يقول من خلفي : يا عبد الله ضع حملك و اعبر فقلت : و ما حملي ؟ قال : دع الدنيا و اعبر قال : و حدثني أبو بكر خليفة الحارث بن خليفة قال : قال : حدثنا عمرو بن جرير حدثني إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا الدرداء يقول لابنه : يا بني لا يكن بيتك إلا المسجد فإن المساجد بيوت المتقين سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من يكن المسجد بيته ضمن الله لو بالروح و الرحمة و الجواز على الصراط ]
قلت : و هذا الحديث يصحح ما ذكرناه من الرؤيا فإن من سكن المسجد و اتخذه بيتا و أعرض عن الدنيا و أهله و أقبل إلى الآخرة و عمل لها
باب ثلاثة مواطن لا يخطئها النبي صلى الله عليه و سلم لعظم الأمر فيها و
شدته
الترمذي [ عن أنس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يشفع لي يوم القيامة قال : أنا فاعل إن شاء الله قال : فأين أطلبك ؟ قال : أول ما تطلبني على الصراط قلت : فإن لم ألقك ؟ قال : فاطلبني عند الميزان قلت
: فإن لم ألقك عند الميزان ؟ قال : فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاثة مواطن ] قال : هذا حديث حسن و قد تقدم من حديث عائشة أنه عليه السلام قال : [ أما ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا عند الميزان و عند تطاير الصحف و عند الصراط ]
باب في تلقي الملائكة للأنبياء و أممهم بعد الصراط و في هلاك أعدائهم
ابن المبارك عن عبد الله بن سلام قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبيا نبيا و أمة أمة حتى يكون آخرهم مركزا محمد و أمته و يضرب الجسر على جهنم و ينادي مناد أين أحمد و أمته ؟ فيقول نبي الله صلى الله عليه و سلم و تتبعه أمته برها و فاجرها حتى إذا كان على الصراط طمس الله ابصار أعدائه فتهافتوا في النار يمينا و شمالا و يمضي النبي صلى الله عليه و سلم و الصالحون معه فتتلقاهم الملائكة فيدلونهم على طريق الجنة على يمينك على شمالك حتى ينتهي إلى ربه فيوضع له كرسي من الجانب الآخر ثم يدعى نبي نبي و أمة أمة حتى يكون آخرهم نوحا رحم الله نوحا
باب ذكر الصراط الثاني و هو القنطرة التي بين الجنة و النار
اعلم رحمك الله أن في الآخرة صراطين : أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم ثقيلهم و خفيفهم إلا من دخل الجنة بغير حساب أو من يلتقطه عنق النار فإذا خلص من هذا الصراط الأكبر الذي ذكرناه و لا يخلص منه إلا المؤمنون الذين علم الله منهم أن القصاص لا يستنفذ حسناتهم حسبوا على صراط آخر خاص لهم و لا يرجع إلى النار من هؤلاء أحد إن شاء الله لأنهم قد عبروا ا الصراط الأول المضروب على متن جهنم الذي يسقط فيها من أوبقه ذنبه و أربى على الحسنات بالقصاص جرمه
البخاري [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يخلص المؤمنون من النار فيحسبون على قنطرة بين الجنة و النار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا و نقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم بمنزله في الجنة منه بمنزله كان له في الدنيا ]
فصل : قلت : معنى يخلص المؤمنون من النار أي يخلصون من الصراط المضروب على النار و دل هذا الحديث على أن المؤمنين في الآخرة مختلفو الحال قال مقاتل : إذا قطعوا جسر جهنم حسبوا على قنطرة بين الجنة و النار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا و طيبوا قال لهم رضوان و أصحابه سلام عليكم بمعنى التحية طبتم فادخلوها خالدين
و قد ذكر الدراقطني حديثا ذكر فيه : أن الجنة بعد الصراط
قلت : و لعله أراد بعد القنطرة بدليل حديث البخاري و الله أعلم أو يكون ذلك في حق من دخل النار و خرج بالشفاعة فهؤلاء لا يحبسون بل إذا خرجوا بثوا على أنهار الجنة على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى
و قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أصحاب الجنة محبوسون على قنطرة بين الجنة و النار يسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم ] و لا تعارض بين هذا و بين حديث البخاري فإن الحديثين مختلفا المعنى لاختلاف أحوال الناس و كذلك لا تعارض بين قوله عليه السلام [ لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة ] و بين قول عبد الله بن سلام إن الملائكة تدلهم على
طريق الجنة يمينا و شمالا فإن هذا يكون فيمن لم يحبس على قنطرة و لم يدخل النار فيخرج منها فيطرح على باب الجنة و قد يحتمل أن يكون ذلك في الجميع فإذا وصلت بهم الملائكة إلى باب الجنة كان كل أحد منهم أعرف بمنزلة في الجنة و موضعه فيها منه بمنزله كان في الدنيا و الله أعلم و هو معنى قوله { و يدخلهم الجنة عرفها لهم } قال أكثر أهل التفسير : إذا دخل أهل الجنة الجنة يقال لهم تفرقوا إلى منازلكم فهم أعرف بمنازلهم من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم
و قيل : إن هذا التعريف إلى المنازيل بدليل و هو أن الملك الموكل بعمل العبد يمشي بين يديه و حديث أبي سعيد الخدري يرده و الله أعلم
باب من دخل النار من الموحدين مات و احترق ثم يخرجون بالشفاعة
مسلم [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها و لا يحيون و لكن ناسا أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن لهم في الشفاعة فيجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل ] فقال رجل من القوم كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد كان يرعى الغنم بالبادية
فصل : هذه الموتة للعصاة موتة حقيقية لأنه أكدها بالمصدر و ذلك تكريما لهم حتى لا يحسوا ألم العذاب بعد الاحتراق بخلاف الحي الذي هو من أهلها و مخلد فيها { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } و قيل : يجوز أن تكون إماتتهم عبارة عن تغيبه إياهم عن آلامها بالنوم و لا يكون ذلك موتا على الحقيقة فإن النوم قد يغيب عن كثير من الآلام و الملاذ و قد سماه الله موتا فقال الله تعالى { الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها } فهو وفاة و ليس بموت على الحقيقة الذي هو خروج الروح عن البدن و كذلك الصعقة قد عبر الله بها الموت في قوله تعالى { فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله }
و أخبر عن موسى عليه السلام أنه خر صعقا و لم يكن ذلك موتا على الحقيقة غير أنه لما غيب عن أحوال المشاهدة من الملاذ و الآلام جاز أن يسمى موتا و كذلك يجوز أن يكون أماتهم غيبهم عن الآلام و هم أحياء بلطيفة يحدثها الله فيهم كما غيب النسوة اللاتي قطعن أيديهن بشاهد ظهر لهن فغيبهن فيه عن آلامهن و التأويل الأول أصح لما ذكرناه على الحقيقة كما أن أهلها أحياء على الحقيقة و ليسوا بأموات
فإن قيل : فما معنى إدخالهم النار و هم فيها غير عالمين ؟ قيل : يجوز أن يدخلهم تأديبا لهم و إن لم يعذبهم فيها و يكون صرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالمحبوسين في السجون فإن الحبس عقوبة لهم و إن لم يكن معه غل و لا قيد و الله أعلم و سيأتي لهذا مزيد بيان في أبواب النار إن شاء تعالى
و قوله : ضبائر ضبائر معناه جماعات جماعات الواحدة ضبارة بكسر الضاد و هي الجماعة من الناس و بثوا : فرقوا و الحبة بكسر الحاء بزر البقول و حميل السيل ما احتمله من غثاء و طين و سيأتي إن شاء الله تعالى
باب فيمن يشفع لهم قبل دخول النار من أجل أعمالهم الصالحة و هم أهل الفضل
في الدنيا
ذكر أبو عبد الله محمد بن ميسرة الجبلي القرطبي في كتاب التبيين له روى أبي و ابن وضاح من حديث أنس يرفعه قال : يصف أهل النار فيقرنون فيمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول الرجل منهم يا فلان : أما تذكر رجلا سقاك شربة ماء يوم كذا و كذا ؟ فيقول : إنك لأنت هو قال : فيقول نعم قال فيشفع فيه فيشفع و يقول الرجل منهم يا فلان لرجل من أهل الجنة : أما تذكر رجلا وهب لك وضوءا يوم كذا و كذا ؟ فيقول نعم فيشفع له فيشفع فيه
قلت : أخرجه ابن ماجه في سننه بمعناه قال : [ حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير و علي بن محمد قالا : حدثنا الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يصف الناس يوم القيامة صفوفا و قال ابن نمير أهل الجنة فيمر الرجل من أهل النار على الرجل من أهل الجنة فيقول يا فلان : أما تذكر يوم استسقيتني فسقيتك شربة ؟ قال : فيشفع له و يمر الرجل على الرجل فيقول : أما تذكر يوم ناولتك طهورا فيشفع له ] قال ابن نمير و يقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا و كذا فذهبت لك فيشفع له
و خرج أبو نعيم الحافظ بإسناده [ عن الثوري حدثنا الأعمش عن شفيق عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليوفيهم أجورهم يوم القيامة و يزيدهم من فضله قال : أجورهم يدخله الجنة و يزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا ]
و ذكر أبو جعفر الطحاوي أيضا [ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الجنة صفوفا و أهل النار صفوفا فينظر الرجل من صفوف أهل النار إلى الرجل من صفوف أهل الجنة فيقول يا فلان : تذكر يوم اصطنعت معروفا إليك ؟ فيقول : اللهم إن هذا اصطنع إلي في الدنيا معروفا قال فيقال له خذ بيده و أدخله الجنة برحمة الله عز و جل ] قال أنس رضي الله عنه أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوله
قال أبو عبد الله محمد بن ميسرة : و رأيت في الكتاب الذي يقال إنه الزبور [ إني أدعو عبادي الزاهدين يوم القيامة فأقول لهم : عبادي إني لم أزو عنكم الدنيا لهواتكم علي و لكن أردت أن تستوفوا نصيبكم موفورا اليوم فتخللوا الصفوف فمن أحببتموه في الدنيا أو قضى لكم حاجة أو رد عنكم غيبة أو أطعمكم لقمة ابتغاء وجهي و طلب مرضاتي فخذوا بيده و أدخلوه الجنة ]
فصل : و ذكر أبو حامد في آخر كتاب الآحياء [ قال أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار و يقول يا فلان هلى تعرفني ؟ فيقول : لا و الله ما أعرفك من أنت ؟ فيقول : أنا الذي مررت بي في الدنيا يوما فاستسقيتني شربة ماء فسقيتك قال : قد عرفت قال فاشفع لي بها عن ربك فيسأل الله تعالى و يقول : إني أشرفت على أهل النار فناداني رجل من أهلها فقال هل تعرفني فقلت : لا من أنت ؟ قال أنا الذي استسقيتني في الدنيا فسقيتك فاشفع لي بها فشفعني فيشفعه الله تعالى فيؤمر به فيخرج من النار ] و الله تعالى أعلم
باب في الشافعين لمن دخل النار و ما جاء أن النبي صلى الله عليه و سلم
يشفع رابع أربعة و ذكر من يبقى في جهنم بعد ذلك
ابن ماجه [ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ]
و ذكر ابن السماك أبو عمرو عثمان بن أحمد قال : حدثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان قال : أخبرنا علي بن عاصم قال : حدثنا خالد الحذاء عن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي الزعراء قال : قال عبد الله بن مسعود يشفع نبيكم رابع أربعة : جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم صلى الله عليه و سلم ثم الملائكة ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء و يبقى قوم من جهنم فيقال لهم { ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * و لم نك نطعم المسكين } إلى قوله : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : فهؤلاء الذين يبقون في جهنم
قال المؤلف رحمه الله : و قيل إن هذا هو المقام المحمود لنبينا صلى الله عليه و سلم خرجه أبو داود الطيالسي قال حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي الزعراء عن عبد الله قال : ثم يأذن الله عز و جل في الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل عليه الصلاة و السلام ثم يقوم إبراهيم خليل الله صلى الله عليه و سلم ثم يقوم موسى أو عيسى عليه السلام قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما قال ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه و سلم رابعا فيشفع لا يشفع لأحد بعده في أكثر مما يشفع و هو المقام المحمود الذي قال الله تعالى { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا }
ابن ماجه [ عن عبد الله بن أبي الجدعاء أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول : ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم قالوا : يا رسول الله : سواك ؟ قال : سواي قلت : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : أنا سمعته ] أخرجه الترمذي و قال : حديث حسن صحيح غريب و لا نعرف لابن الجدعاء غير هذا الحديث الواحد
قال المؤلف رحمه الله : و خرجه البيهقي في دلائل النبوة و قال في آخره قال عبد الوهاب الثقفي قال هشام بن حيان كان الحسن يقول إنه أويس القرني و ذكر ابن السماك قال : [ حدثنا يحيى بن جعفر حدثنا شبابة بن سوار حدثنا حريز بن عثمان عن عبد الله بن ميسرة و حبيب بن عدي الرحبي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يدخل بشفاعة رجل من أمتي الجنة مثل أحد الحيين : ربيعة و مضر قال قيل يا رسول الله و ما ربيعة من مضر ؟ قال إنما أقول ما أقول قال : فكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان ]
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن من أمتي من يشفع للفئام و منهم من يشفع للقبيلة و منهم من يشفع للعصبة و منهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة ] قال : حديث حسن
و ذكر البزار في مسنده [ عن ثابت أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الرجل ليشفع للرجلين و الثلاثة ] و ذكر القاضي عياض في الشفاء عن كعب : [ أن لكل رجل من الصحابة رضي الله عنهم شفاعة ] ذكره ابن المبارك قال : [ أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يكون في أمتي رجل يقال له : صلة بن أشيم يدخل الجنة بشفاعته كذا و كذا ]
فصل : إن قال قائل : كيف تكون الشفاعة لمن دخل النار و الله تعالى يقول { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } و قال : { و لا يشفعون إلا لمن ارتضى } و قال : { و كم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى } و من ارتضاء الله لا يخزيه قال الله تعالى { يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم } الآية ؟ قلنا : هذا مذهب أهل الوعيد الذين ضلوا عن طريق و حادوا عن التحقيق
و أما مذهب أهل السنة الذين جمعوا بين الكتاب و السنة فإن الشفاعة تنفع العصاة العصاة من أهل الملة حتى لا يبقى منهم أحد إلا دخل الجنة و الجواب عن الآية الأولى ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه أن معنى { من تدخل النار } من يخلد و قال قتادة : يدخل مقلوب يخلد و لا تقول كما قال أهل حروراء فيكون قوله على هذا { فقد أخزيته } على بابه من الهلاك أي أهلتكه و أبعدته و مقته و بهذا قال سعيد بن المسيب فإن الآية جاءت خاصة في قوم لا يخرجون من النار دليله قوله في آخر الآية { و ما للظالمين من أنصار } أي الكفار
و إن قدرنا الآية في العصاة من الموحدين فيحتمل أن يكون الخزي بمعنى الحياء يقال : خزي يخزي خزاية إذا استحي فهو خزيان و امرأة خزناية كذا قال أهل المعاني فخزي المؤمنين يومئذ : استحياؤهم في دخول النار من سائر أهل الأديان إلى أن يخرجوا منها و الخزي للكافرين هو هلاكهم فيها من غير موت و المؤمنون يموتون فافترقوا في الخزي و الهوان ثم يخرجون بشفاعة من أذن الله له في الشفاعة و برحمة الرحمن و شفاعته على ما يأتي في الباب بعد هذا و عند ذلك يكونون مرضيين قد رضي عنهم ثم لا يأتي الإذن في أحد حتى يرضى لا يبقى عليه من قصاص ذنبه إلا ما تجيزه الشفاعة فيؤذن فيه فيلحق بالفائزين الراضين و الحمد لله رب العالمين
و أما قوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه } فمعناه : لا يعذبه و لا يعذب الذين آمنوا و إن عذب العصاة و أماتهم فإنهم يخرجهم بالشفاعة و برحمته على ما يأتي بيانه في الباب بعد هذا و الله أعلم
باب منه في الشفعاء و ذكر الجهنميين
ذكر ابن المبارك قال [ أخبرنا رشدين بن سعد عن يحيى عن أبي عيد الرحمن الختلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الصيام و القرآن يشفعان للعبد يقول الصيام : رب منعته الطعام و الشراب و الشهوات بالنهار فشفعني فيه و يقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان ]
و ذكر مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه و فيه بعد قوله في نار جهنم : حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار
و خرجه ابن ماجه و لفظه [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم : إذا خلص الله المؤمنين من النار و آمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا أشد مجادلة من المؤمنين الذين دخلوا النار قال يقول ربنا إخواننا كانوا فذكره بمعناه يقولون ربنا كانوا يصومون معنا و يصلون و يحجون فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقه و إلى ركبتيه يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ثم يقول الله عز و جل : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ربنا لم نذر فيها خيرا ]
و [ كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجرا عظيما } فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة و شفع النبيون و شفع المؤمنون و لم يبق إلا أرحم الراحمين في البخاري و بقيت شفاعتي بدل قوله و لم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط عادوا حمما فيلقيقهم في نهر على أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو الشجر ما يكون إلى الشمس أصفر و أخضر و ما يكون منها إلى الظل يكون أبيض قالوا يا رسول الله : كأنك كنت ترعى بالبادية قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول : لكم عندي أفضل من هذا فيقولون : يا ربنا و أي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا ]
و خرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتاب الديباج له [ حدثنا أحمد بن أبي الحارث قال : حدثنا عبد المجيد بن أبي رواد عن معمر راشد عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه أخرج كتابا من تحت العرش : إن رحمتي سبقت غضبي فأنا أرحم الراحمين قال فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال مثلي أهل الجنة قال : و أكثر ظني أنه قال مثلي أهل الجنة مكتوب بين أعينهم عتقاء الله ]
فصل : هذا الحديث بين أن الإيمان يزيد و ينقص حسب ما بيناه في آخر سورة آل عمران من كتاب جامع أحكام القرآن فإن قوله : أخرجوا من في قلبه مثقلا دينار و نصف دينار و ذرة يدل على ذلك و قوله : من خير يريد من إيمان و كذلك ما جاء ذكره في الخبر في حديث قتادة عن أنس و كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ما يزن برة ما يزن ذرة أي من الإيمان بدليل الرواية الأخرى التي رواها معبد بن هلال العنبري [ عن أنس و فيها فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ] الحديث بطوله أخرجه مسلم فقوله : [ من إيمان ] أي من أعمال الإيمان التي هي أعمال الجوارح فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من شرائع الإيمان و منه قوله تعالى { و ما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم
و قد قيل : إن المراد في هذا الحديث أعمال القلوب كأنه يقول : أخرجوا من عمل عملا بنية من قلبه كقوله [ الأعمال بالنيات ] و في هذا المعنى خبر عجيب يأتي ذكره آنفا إن شاء الله تعالى
و يجوز أن يراد به رحمة على مسلم رقة على يتيم خوفا من الله رجاء له توكلا عليه ثقة به مما هي أفعال القلوب دون الجوارح وسماها إيمانا لكونها في محل الإيمان
و الدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلنا و لم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد له و نفي الشركاء و الإخلاص بقوله لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله [ أخرجوا أخرجوا ] ثم هو سبحانه بعد ذلك يقبض قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط يريد إلا التوحيد المجرد عن الأعمال و قد جاء هذا مبينا فيما رواه الحسن عن أنس و هي الزيادة التي زادها علي بن معبد في حديث الشفاعة ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا قال فيقال لي محمد ارفع رأسك و قل يسمع لك و سل تعطه و اشفع تشفع فأقول : يا رب أئذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال : ليس ذاك لك أو قال ليس ذلك إليك و عزتي و كبريائي و عظمتي و جبروتي لأخرجن من قال لا إله إلا الله
و ذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله في نوادر الأصول [ عن محمد بن كعب القرطي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يكتب على جباههم عتقاء الرحمن فيسألون أن يمحوا ذلك الاسم عنهم فيمحوه ] و في رواية [ فيبعث الله ملكا فيمحوه عن جباههم ] الحديث و سيأتي يقال : محا لوحه يمحوه محوا و يمحيه محيا و محاه أيضا فهو ممحو و ممحى صارت الواو ياء لكسر ما قبلها فأدغمت في الياء التي هي لام الفعل و أنشد الأصمعي :
( كما رأيت الورق الممحيا )
و انمحى انفعل و امتحى لغة فيه ضعيفة قاله الجوهري
و ذكره أبو بكر البزار في مسنده [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها و لا يحيون و أما الذين يريد الله إخراجهم فتميتهم النار ثم يخرجون منها فيلقون على نهر الحياة فيرسل الله عليهم من مائها فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل و يدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة : الجهنميين فيدعون الله تعالى فيذهب ذلك الاسم عنهم ]
البخاري [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين ]
الترمذي [ عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ليخرجن قوم من النار بشفاعتي يسمون الجهنميين ] قال : حديث حسن
[ و عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] خرجه الترمذي و صححه أبو محمد عبد الحق
و خرجه أبو داود الطيالسي و ابن ماجه [ من حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] زاد الطيالسي قال : فقال لي جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له و للشفاعة ؟ قال أبو داود و حدثناه محمد بن ثابت عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر
و ذكر أبو الحسن الدراقطني [ عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال نعم أنا لشرار أمتي فقالوا : فكيف أنت لخيارها ؟ قال : أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم و أما شرارهم فيدخلون الجنة بشفاعتي ]
و خرج ابن ماجه [ حدثنا إسماعيل بن أسد حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد السلوي حدثنا زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند عن ربعي بن حراش عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرت بين الشفاعة و بين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم و أكفى أترونها للمتقين ؟ لا و لكنها للخاطئين المذنبين المتلوثين ]
قلت : [ و أنبأنا الشيخ الفقيه أبو القاسم عبد الله بن علي بن خلف الكوفي إجازة عن أبيه الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف الكوفي قال : قرئ على الشيخة الصالحة فخر النساء خديجة بنت أحمد بن الحسن بن عبد الكريم النهرواني في منزلها و أنا حاضر أسمع قيل لها : أخبركم الشيخ أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمد النعالي فأقرت به و قالت : نعم قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن رزقويه البزار أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح الصغار حدثنا عبد الله بن أيوب المخرمي حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد السكوني عن زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند عن ربعي بن خراش عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : خيرت بين الشفاعة و نصف أمتي فاخترت الشفاعة أترونها للمتقين لا و لكنها للخاطئين المتلوثين ؟ ]
و خرج ابن ماجه قال : [ حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا ابن جابر قال سمعت سليم بن عامر يقول سمعت عوف بن مالك الأشجعي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتدرون ما خيرني ربي الليلة ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم قال : إنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة و بين الشفاعة فاخترت الشفاعة قلنا : يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها قال : هي لكل مسلم ] و ما الخبر العجيب الذي وعدنا بذكره فذكره الكلاباذي أبو بكر محمد بن إبراهيم في بحر الفوائد له حدثنا أبو النصر محمد بن إسحاق الرشادي قال حدثنا أبو بكر محمد بن عيسى بن زيد الطرسوسي قال حدثنا نعيم بن حماد قال حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن أبي قلابة قال : كان لي ابن أخ يتعاطى الشراب فمرض فبعث إلي ليلا : أن ألحق بي فأتيته فرأيت أسودين قد دنوا من ابن أخي فقلت : إنا لله هلك ابن أخي فاطلع أبيضان من الكوة التي في البيت فقال أحدهما لصاحبه : انزل إليه فلما نزل تنحى الأسودان فجاء فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكرا ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوما ثم شم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة فقال له صاحبه : إنا لله و إنا إليه راجعون رجل من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ليس له من الخير شيء ويحك عد فانظر فعاد فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكرا ثم عاد فشم بطنه فقال ما رأى فيه صوما ثم عاد فشم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة فقال : ويحك رجل من أمة محمد صلى الله عليه و سلم ليس معه من الخير شيء اصعد حتى أنزل أنا فنزل الآخر فشم فاه فقال ما أرى فيه ذكرا ثم شم بطنه فقال ما أرى فيه صوما ثم شم رجليه فقال ما أرى فيهما صلاة قال : ثم عاد فأخرج طرف لسانه فشم لسانه فقال : الله أكبر تكبيرة في سبيل الله يريد بها وجه الله بإنتاكية قال ثم فاضت نفسه و شممت في البيت رائحة المسك فلما صليت الغداة قلت لأهل المسجد : هل لكم في رجل من أهل الجنة ؟ و حدثتهم حديث ابن أخي فلما بلغت ذكر إنتاكية قالوا ليست بإنتاكية هي إنطاكية قلت لا و الله لا أسمتيها إلا كما سماها الملك
قال علماؤنا : فهذا أنجته تكبيرة أراد بها وجه الله تعالى و هذه التكبيرة كانت سوى الشهادة التي هي شهادة الحق التي هي شهادة الإيمان بالله تعالى كما قررناه فشفاعة النبي صلى الله عليه و سلم و الملائكة و النبيين و المؤمنين لمن كان له عمل زائد على مجرد التصديق و من لم يكن معه من الإيمان خير كان من الذين يتفضل الله عليهم فيخرجهم من النار فضلا و كرما وعدا منه حقا و كلمة صدقا { إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فسبحان الرؤوف لأبياته بعباده الموفي بعهده
فصل : قلت : جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم و في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يكتب على جباههم عتقاء الرحمن و هذا تعارض
و وجه الجمع بين الحديث أن يكون بعضهم سيماهم في وجوههم و بعضهم سيماهم في رقابهم و قد جاء في حديث جابر و فيه بعد إخراج الشافعين ثم يقول الله تبارك و تعالى أنا الله أخرج بعلمي و رحمتي فيخرج أضعاف ما خرجوا و أضعافهم و يكتب في رقابهم عتقاء الله عز و جل فيدخلون الجنة فيسمون فيها بالجهنميين
قلت : و قد يعبر بالرقبة عن جملة الشخص قال الله تعالى { فتحرير رقبة } و قال عليه السلام [ و لم ينس حق الله في رقابها و لا ظهورها ] و قد تعبر العرب بالرقاب عن جملة المال قال الشاعر :
( غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... علقت لضحكته رقاب المال )
فيحتمل أن يكون المعنى في حديث أبي سعيد و جابر رضي الله عنهما فيخرجون اللؤلؤ يعرف أهل الجنة أشخاصهم بالخواتيم المكتوبة على جباههم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه و لا تعارض على هذا و الله أعلم
فصل : إن قال قائل لم سألوا محو ذلك الاسم عنهم و هو اسم شريف لأنه سبحانه أضافه إليه كما أضاف الأسماء الشريفة فقال : نبيي و بيتي و عرشي و ملائكتي و قد جاء في الخبر : إن المتحابين في الله مكتوب على جباههم هؤلاء المتحابون في الله و لم يسألوه محوه ؟ قيل : إنما سألوا ذلك بخلاف المتحابين في الله تعالى لأنهم أنفوا أن ينسوا إلى جهنم التي هي دار الأعداء و استحيوا من إخوانهم لأجل ذلك فلما من عليهم بدخول الجنة أرادوا كمال الامتنان بزوال هذه النسبة عنهم و قد روي مرفوعا : [ إنهم إذا دخلوا الجنة قال أهل الجنة هؤلاء الجهنميون فعند ذلك يقولون إلهنا لو تركتنا في النار كان أحب إلينا من العار فيرسل الله ريحا من تحت العرش يقال لها المثيرة فتهب على وجوههم فتمحي الكتابة و تزيدهم بهجة و جمالا و حسنا ]
أخبرنا الشيخ الراوية أبو محمد عبد الوهاب عرف بابن رواحة قرأت عليه قال قرئ على الحافظ السلفي و أنا أسمع قال : [ أخبرنا الحاجب أبو الحسن العلاف أخبرنا أبو القاسم بن بشران أخبرنا الآجري أبو بكر محمد بن الحسين حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن سعيد الأنصاري حدثنا علي بن مسلم الطوسي حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال : حدثني عمرو بن رفاعة الربعي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها و لا يحيون و أهلها الذين يخرجون منها إذا أسقطوا فيها كانوا فحما حتى يأن الله فيخرجهم فيلقيهم على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فيرش أهل الجنة عليهم الماء فينبتون ثم يدخلون الجنة يسمون الجهنميين ثم يطلبون من الرحيم عز و جل فيذهب ذلك الاسم عنهم و يلحقون بأهل الجنة و أما سيماء المتحابين فعلامة شريفة و نسبة رفيعة فلذلك لم يسألوا محوها و لا طلبوا زوالها و إزالهتا ] و الله أعلم
فإن قيل : ففي هذا ما يدل على أن بعض من يدخل الجنة قد يلحقه تنغيص ما و الجنة لا تنغيص فيها و لا نكد
قيل له : هذه الأحاديث تدل على ذلك و أن ذلك يلحقهم عند دخول الجنة ثم يزول ذلك الاسم عنهم : و قد مثل بعض علمائنا هذا الذي أصاب هؤلاء بالبحر تقع فيه النجاسات أنه لاحكم لها كذلك ما أصاب هؤلاء بالنسبة إلى أهل الجنة و هو تشبيه حسن
قلت : و قد يلحق الجميع خوف ما عند ذبح الموت على الصراط على ما يأتي : و بعده يكونون آمنين مسرورين قد زال عنهم كل متوقع و الله أعلم
فصل : إن قال قائل : كيف يشفع القرآن و الصيام و إنما ذلك عمل العاملين ؟ قيل له : و قد تقدم هذا المعنى و نزيده وضوحا فنقول أنا الذي أسهرت ليلك و أظمأت نهارك خرجه ابن ماجه في سننه من حديث بريدة و إسناده صحيح فقوله : يجيء القرآن أي ثواب قارئ القرآن
و قد جاء في صحيح مسلم [ من حديث النواس بين سمعان الكلابي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يؤتى بالقرآن يوم القيامة و أهله الذين كانوا يعملون به تتقدمه سورة البقرة و آل عمران و ضرب لهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة أمثال ما نستيهن بعد قال كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما ]
قال علماؤنا فقوله [ تحاجان عن صاحبهما ] أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث [ أنه من قرأ { شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة } خلق الله سبعين ألف ملك يستغفرون إلى يوم القيامة ]
قلت : و كذلك يخلق الله من ثواب القرآن و الصيام ملكين كريمين فيشفعان له و كذلك إن شاء الله سائر الأعمال الصالحة كما ذكره ابن المبارك في دقائقه : أخبرنا رجل عن زيد بن أسلم قال : بلغني أن المؤمن يتمثل له عمله يوم القيامة في أحسن صورة و أحسن ما خلق الله وجها و ثيابا و أطيبه ريحا فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء أمنه و كلما تخوف شيئا هون عليه فيقول له : جزاك الله من صاحب خيرا من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني و قد صحبتك في قبرك و في دنياك أنا عملك كان و الله حسنا فلذلك تراني حسنا و كان طيبا فلذلك تراني طيبا تعال فاركبني فطال ما ركبتك في الدنيا و هو قوله تعالى : { و ينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم } الآية حتى يأتي به إلى ربه عز و جل فيقول يا رب إن كل صاحب عمل في الدنيا قد أصاب في عمله و كل صاحب تجارة و صانع قد أصاب في تجارته غير صاحبي هذا قد شغل في نفسه فيقول الله تعالى : فما تسأل ؟ فيقول المغفرة و الرحمة أو نحو هذا فيقول : فإني قد غفرت له ثم يكسى حلة الكرامة و يجعل عليه تاج الوقار فيه لؤلؤة تضيء من مسيرة يومين ثم يقول : يا رب إن أبويه قد شغل عنهما و كل صاحب عمل و تجارة قد كان يدخل على أبويه من عمله فيعطى أبويه مثل ما أعطى
و يتمثل للكافر عمله في أقبح ما يكون صورة و أنتن رائحة و يجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده و كلما تخوف شيئا زاده خوفا منه فيقول : بئس الصاحب أنت و من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا فيقول : أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا و كان منتنا فلذلك تراني منتنا فطأطئ رأسك أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فذلك قوله تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة }
قلت : مثل هذا لا يقاب من جهة الرأي و معناه يستند [ من حديث قيس بن عاصم المنقري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك و هو حي و تدفن معه و أنت ميت فإن كان كريما أكرمك و إن كان لئيما أسلمك ثم لا يحشر إلا معك و لا تبعث إلا معه و لا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإن كان صالحا فلا تأنس إلا به و إن كان فاحشا فلا تستوحش إلا منه و هو فعلك ]
و ذكر أبو الفرج بن الجوزي في كتاب روضة المشتاق و الطريق إلى الملك الخلاق قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يؤتى يوم القيامة بالتوبة في صورة حسنة و رائحة طيبة فلا يجد رائحتها و لا يرى صورتها إلا مؤمن فيجدون لها رائحة و أنسا فيقول الكافر و العاصي المصر : ما لنا ماوجدنا ماوجدتم و لا رأينا ما رأيتم فتقول التوبة : طال ما تعرضت لكم في الدنيا فما أردتموني فلو كنتم قبلتموني لكنتم اليوم وجدتموني فيقولون : نحن اليوم نتوب فينادي مناد من تحت العرش : ههيات ذهبت أيام المهلة و انقضى زمان التوبة فلو جئتموني بالدنيا و ما اشتملت عليه ما قبلت توبتكم و لا رحمت عبرتكم فعند ذلك تنأى التوبة عنهم و تبعد ملائكة الرحمة عنهم و ينادي مناد من تحت العرش : يا خزنة النار هلموا إلى أعداء الجبار ] و هذا بين فما ذكرناه و بالله توفيقنا و الله أعلم
باب معرفة المشفوع فيهم بأثر السجود و بياض الوجوه
قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري أن المؤمنين يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصومون معنا و يصلون و يحجون أدخلتهم النار فيقول لهم : اذهبوا فمن عرفتم أخرجوه و ذكر الحديث
و خرج مسلم من [ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم و فيه بعد قوله منهم المجازى حتى ينجى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد و أراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود و حرم الله على النار أن تأكل آثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل ] و ذكر الحديث
و خرج [ عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها إلا درات وجوههم حتى يدخلوا الجنة ]
فصل : هذا الحديث أدل دليل على أن أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم لا تسود لهم وجوه و لا تزرق لهم أعين و لايغلون بخلاف الكفار و قد جاء هذا المعنى منصوصا في [ حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا عليها فهم في الباب الأول من جهنم لا تسود وجوههم و لا تزرق أعينهم و لا يغلون بالأغلال و لا يقرنون بالشياطين و لا يضربون بالمقامع و لا يطرحون في الأدراك منهم من يمكث فيها ساعة ثم يخرج و منهم من يمكث فيها يوما ثم يخرج و منهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج و منهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج و أكثرهم مكثا فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت و ذلك سبعة آلاف سنة ] الحديث بطوله و سيأتي تمامه إن شاء الله تعالى خرجه الترمذي في نوادر الأصول
و قال أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة إنه يؤتى بأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم شيوخا و عجائز و كهولا و نساء و شبابا فإذا نظر إليهم مالك خازن النار قال : من أنتم معشر الأشقياء ما لي أرى أيديكم لا تغل و لم توضع عليكم الأغلال و السلاسل و لم تسود وجوهكم و ما ورد علي أحسن منكم فيقولون : يا مالك نحن أشقياء أمة محمد صلى الله عليه و سلم دعنا نبكي على ذنوبنا فيقول لهم : ابكوا فلن ينفعكم البكاء
فكم من شيخ وضع يده على لحيته و يقول : وا شيبتاه وا طول حسرتاه وا ضعف قوتاه و كم من كهل ينادي وا مصيبتاه وأطول مقاماه و كم من شاب ينادي وا أسفاه وا شباباه على تغيير حسناه و كم من امرأة قد قبضت على ناصيتها و شعرها و هي تنادي وا سوأتاه واهتك أستارها فيبكون ألف عام فإذا النداء من قبل الله : يا مالك أدخلهم النار في أول باب منها فإذا همت النار أن تأخذهم فيقولون بجمعهم : لا إله إلا الله فتنفر عنهم النار خمسمائة عام ثم يأخذون في البكاء فتشتد أصواتهم و إذا النداء من قبل الله تعالى : يا نار خذيهم يا مالك أدخلهم الباب الأول من النار فعند ذلك يسمع لها صلصلة كالرعد القاصف فإذا همت النار أن تحرق القلوب زجرها مالك و جعل يقول : لا تحرقي قلبا فيه القرآن و كان وعاء الإيمان فإذا بالزبانية قد جاءوا بالحميم ليصبوه في بطونهم فيزجرهم مالك فبقول : لا تدخلوا الحميم بطونا أخمصها رمضان و لا تحرق النار جباها سجدت لله تعالى فيعودون فيها حمما كالغاسق المحلو لك و الإيمان يتلألأ في القلوب و سيأتي لهذا مزيد بيان في آخر أبواب النار نجانا الله منها و لا يجعلنا ممن يدخلها فيحترق فيها
فصل : قوله : [ إذا فرغ الله ] مشكل و في التنزيل : { سنفرغ لكم أيها الثقلان } و معناه المبالغة في التهديد و الوعيد من عند الله تعالى لعباده كقول القائل سأفرغ لك و إن لم يكن مشغولا عنه بشغل و ليس بالله تعالى شغل تعالى عن ذلك
و قيل : المعنى : سنقصد لمجازاتكم و عقوبتكم كما يقول القائل لمن يريد تهديده : إذا أتفرغ لك أي أقصد قصدك و فرغ بمعنى قصد و أحكم قال جرير بن نمير الجعفي :
( الآن و قد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لها عذابا )
يريد ؟ و قد قصدت نحوه فمعنى فرغ الله من القضاء بين العباد أي تمم عليهم حسابهم و فصل بينهم لأنه لا يشغلهم شأن عن شأن سبحانه و تعالى
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6