كتاب : التذكرة
      المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي


باب ما يرجى من رحمة الله تعالى و مغفرته و عفوه يوم القيامة قال الحسن : يقول الله تعالى يوم القيامة : [ جوزوا الصراط بعفوي و ادخلوا الجنة برحمتي و اقتسموها بأعمالكم ]
و قال عليه السلام : [ ينادي منادي من تحت العرش : يا أمة محمد أما ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم و بقيت التبعات فتواهبوها فيما بينكم و ادخلوا الجنة برحمتي ]
و روي أن إعرابيا سمع ابن عباس يقرأ : { و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } فقال الأعرابي : و الله ما أنقذكم منها و هو يريد أن يوقعهم فيها فقال ابن عباس خذوها من غير فقيه
و قال الصنابحي دخلت على عبادة بن الصامت و هو في الموت فبكيت فقال : مهلا لم تبكي ؟ فوالله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثا واحدا و سوف أحدثكموه اليوم و قد أحيط بنفسي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من شهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار ] خرجه مسلم و غيره من الأئمة
و خرج مسلم [ من حديث سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات و الأرض مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء و الأرض فجعل في الأرض منها رحمة واحدة فيها تعطف الوالدة على ولدها و الطير و الوحوش بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة ] أخرجه ابن ماجة من حديث أبي سعيد
و في بعض الطرق لأبي هريرة [ فإذا كان يوم القيامة رد هذه الرحمة على تلك التسعة و التسعين فأكملها مائة رحمة فرحم بها عباده يوم القيامة ]
قلت : [ أخبرناه عاليا الشيخ الإمام الحافظ المسند ابو الحسن علي بن محمد بن محمد بن محمد بن عمرو البكري التيمي من ولد أبي بكر الصديق رضي الله عنه قراءة عليه بالصنورة المنصورة بالديار المصرية في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب الفرد سنة سبع و أربعين و ستمائة قال : حدثنا الشيخ المسند أبو حفص عمر بن محمد بن معمر الدارقري قدم علينا من دمشق قال : أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الكاتب ببغداد أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن عيلان البزاز أخيرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي أخبرنا موسى بن سهل الوشا أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا الحجاج بن أبي ديب قال : سمعت أبا عثمان النهدي يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لما خلق الله تعالى السموات و الأرض أنزل مائة رحمة كل رحمة طباقهما فقسم رحمة واحدة منها بين جميع الخلائق فمنها يتعاطفون فإذا كان يوم القيامة رد هذه الرحمة على التسعة و التسعين فأكملها مائة يرحم الله بها عباده يوم القيامة حتى إن أبليس ليتطاول لها رجاء أن ينال منها شيئا ]
و قال ابن مسعود : لن تزال الرحمة بالناس حتى إن إبليس ليهتز صدره يوم القيامة مما يرى من رحمة الله تعال وشفاعة الشافعين و قال الأصمعي : كان رجل يحدث بأهوال يوم القيامة و أعرابي جالس يسمع فقال : يا هذا من يلبي هذا من العباد ؟ قال : الله فقال الأعرابي : إن الكريم إذا قدر عفا و غفر
و روى ابن ماجة [ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية { هو أهل التقوى و أهل المغفرة } قال : فقال الله تعالى : أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله آخر فمن اتقى ألا يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له ] و خرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه و قال حديث حسن غريب
و روي [ عن عبد الله بن أبي أوفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده الله أرحم بعبده من الوالدة الشفيقة بولدها ]
و روى مسلم [ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم بسبي و إذا بامرأة من السبي تبتغي ولدا لها إذ وجدت صبيا في السبي فأخذته فألصقته ببطنها و أرضعته فقال لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم : أترون هذه المرأة طارحة ولدها قلنا : لا و الله و هي قادرة على أن تطرحه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أرحم بعباده من هذه بولدها ] أخرجه البخاري أيضا
و قال أبو غالب كنت أختلف إلى أبي أمامة بالشام فدخلت يوما على فتى مريض من جيران أبي أمامة و عنده عم له و هو يقول له : يا عدو الله ألم آمرك ؟ ألم أنهك ؟ فقال الصبي : ياعماه لو أن الله تعالى دفعني إلى والدتي كيف كانت صانعة بي ؟ قال : كانت تدخلك الجنة قال : إن ربي الله أشفق من والدتي و أرحم بي منها و قبض الفتى من ساعته فلما جهزه عمه و صلى عليه و أراد أن يضعه في لحده فدخلت القبر مع عمه فلما سواه صاح و فزع فقلت له : ما شأنك ؟ قال : فسح لي في قبره و ملئ نورا فدهشت منه
و قال هلال بن سعد يؤمر بإخراج رجلين من النار فيقول الله تعالى لهما : كيف وجدتما مقيلكما ؟ فيقولان : شر مقيل فيقول الله تعالى : ذلك بما قدمت أيديكما و ما أنا بظلام للعبيد ثم يأمر بصرفهما إلى النار فيعدو أحدهما في سلاسله حتى يقتحمها و يتلكأ الآخر فيؤمر بردهما و يسألهما عن حالهما فيقول الذي عدا : قد خبرت من وبال المعصية ما لم أكن لأتعرض لمخالفتك ثانية و يقول الذي تلكأ : حسن ظني بك أن لا تردني إليها بعدما أخرجتني منها فيؤمر بهما إلى الجنة
قال المؤلف رحمه الله : و هذا الخبر رفعه الترمذي أبو عيسى بمعناه [ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن رجلين ممن دخلا النار اشتد صياحهما فقال الرب تبارك و تعالى : أخرجوهما فلما أخرجا قال لهما لأي شيء اشتد صياحكما ؟ قالا : فعلنا ذلك لترحمنا قال : إن رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتمامن النار فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها له بردا و سلاما و يقوم الآخر فلا يلقي نفسه فيقول الله تبارك و تعالى : ما منعك أن تلقى نفسك كما ألقى صاحبك ؟ فيقول : رب إني لأرجو أن تعيدني بعدما أخرجتني فيقول الله تعالى : لك رجاؤك فيدخلان الجنة برحمته ]
قال : أبو عيسى إسناد هذا الحديث ضعيف لأنه عن رشدين بن سعد ورشدين بن ضعيف عن ابن أنعم الإفريقي و الإفريقي ضعيف عند أهل الحديث
[ و عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يقول الله تعالى : أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام ] حديث غريب
و ذكر أبو نعيم الحافظ عن إسحاق بن سويد قال : صحبت مسلم بن يسار عاما إلى مكة فلم أسمعه يتكلم بكلمة حتى بلغنا ذات عرق قال : ثم حدثنا قال : بلغني أنه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول : انظروا في حسناته فينظر في حسناته فلا يوجد له حسنة فيقول : انظروا في سيئاته فتوجد له سيئات كثيرة فيؤمر كثيرة فيؤمر به إلى النار فيذهب إلى النار و هو يلتفت فيقول : رده إلي لم تلتفت ؟ فيقول : أي رب لم يكن هذا ظني أورجائي فيك ـ شك إبراهيم ـ فيقول : صدقت فيؤمر به إلى الجنة
قلت : و هذا الحديث رفعه ابن المبارك قال : [ أخبرنا رشدين بن سعد قال : حدثني أبو هانىء الخولاني عن عمرو بن مالك أن فضالة بن عبيد و عبادة بن الصامت رضي الله عنهما حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا كان يوم القيامة و فرغ الله من قضاء الخلق فيبقى رجلان فيؤمر بهما إلى النار فيلتفت أحدهما فيقول الجبار تبارك و تعالى و ردوه فيردوه فيقال له : لم التفت ؟ فيقول : كنت أرجو أن تدخلني الجنة فيؤمر به إلى الجنة قال : فيقول : لقد أعطاني ربي حتى إني لو أطعمت أهل الجنة ما نقص ذلك مما عندي شيئا ] قالا : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا ذكره يرى السرور في وجهه
قال المؤلف : و في هذا المعنى خبر الرجل الذي ترفع له شجرة بعد أخرى حتى يخرج من النار إلى أن يدخل الجنة خرجه مسلم في الصحيح و سيأتي
باب منه و في أول ما يقول الله تعالى للمؤمنين و في أول ما يقولون له
أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا عبد الله المبارك قال : حدثني يحيى بن أيوب عن عبيد الله زحر عن خالد بن أبي عمران عن أبي عياش عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن شئتم أنبأتكم بأول ما يقول الله عز و جل للمؤمنين يوم القيامة و بأول ما يقولون له ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : فإن الله تعالى يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي ؟ فيقولون : نعم يا ربنا قال : و ما محملكم على ذلك ؟ قال : فيقولون : عفوك و رحمتك و رضوانك فيقول : فإني قد أوجبت لكم رحمتي ]
باب منه
ذكر أبو نعيم الحافظ قال : حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة و يشدد على نفسه و يقنط الناس من رحمة الله ثم مات قال : إي رب مالي عندك ؟ قال : النار قال : فأين عبادتي و اجتهادي ؟ قيل له : إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدنيا و أنا أقنطك من رحمتي
و قال مقاتل : قال علي بن أبي طالب كرم الله و جهه : الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله تعالى و لم يرخص لهم في معاصي الله عز و جل
باب حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات
مسلم [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات ] خرجه البخاري أيضا و الترمذي و قال : حديث صحيح غريب
و خرج الترمذي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لما خلق الله الجنة أرسل جبريل إلى الجنة فقال : انظر إليها و إلى ما أعددت لأهلها فيها قال فجاءها و نظر إليها و إلى ما أعد الله لأهلها فيها قال : فرجع إليه و قال : و عزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها قال : فأمر بها فحفت بالمكاره فقال : فأرجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها قال : فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال : و عزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها و إلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع إليه فقال : و عزتك لقد خفت ألا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال : و عزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها ]
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح
فصل : المكاره : كل ما يشق على النفس و يصعب عليها عمله كالطهارة في السبرات و غيرها من أعمال الطاعات و الصبر على المصائب و جميع المكروهات و الشهوات : كل ما يوافق النفس و يلائمها و تدعو إليه و يوافقها و أصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به الذي لا يتوصل إليه بعد أن يتحظى فمثل صلى الله عليه و سلم المكاره و الشهوات بذلك فالجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره و الصبر عليها و النار لا ينجو منها إلا بترك الشهوات و فطام النفس عنها
و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مثل طريق الجنة و طريق النار بتمثيل آخر فقال : [ طريق الجنة حزن بربوة و طريق النار سهل بسهوة ] ذكره صاحب الشهاب
و الحزن : هو الطريق الوعر المسلك و الربوة : هو المكان المرتفع و أراد به أعلى ما يكون من الروابي و السهوة : بالسين المهملة هو الموضع السهل الذي لا غلط فيه و لا وعورة
و قال القاضي أو بكر بن العربي في سراج المريدين له و معنى قوله عليه السلام : [ حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات ] أي جعلت على حافاتها و هي جوانبها و يتوهم الناس أنه ضرب فيها المثل فجعله في جوانبها من الخارج و لو كان ذلك ما كان مثلا صحيحا و إنما هي من داخل و هذه صورتها :
الجنة النار
الصبر الألم الجاه المال النساء
المكاره الغزو
و عن هذا قال ابن مسعود : حفت الجنة بالمكاره و النار حفت بالشهوات فمن اطلع الحجاب فقد واقع ما وراء و كل من تصورها من خارج فقد ضل عن معنى الحديث و عن حقيقة الحال فإن قيل : فقد حجبت النار بالشهوات قلنا : المعنى واحد لأن الأعمى عن التقوى : الذي أخذت سمعه و بصره الشهوات يراها و لا يرى النار التي هي فيها و إن كانت باستيلاء الجهالة و رين الغفلة على قلبه كالطائر يرى الحبة في داخل الفخ و هي محجوبة عنه و لا يرى الفخ لغلبة شهوة الحبة على قلبه و تعلق باله بها و جهله بما جعلت فيه و حجبت
باب احتجاج الجنة و النار و صفة أهلهما
البخاري [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم احتجت الجنة و النار فقالت هذه : يدخلني الجبارون و المتكبرون و قالت هذه : يدخلني الضعفاء و المساكين فقال الله لهذه : أنت عذابي أعذب بك من أشاء و قال لهذه : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء و لكل واحدة منكما ملؤها ] خرجه مسلم و الترمذي و قال : هذا حديث حسن صحيح
فصل : قال الحاكم أو عبد الله في علوم الحديث : سئل محمد خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه و سلم تحاجت النار و الجنة فقالت هذه : يدخلني الضعفاء من الضعيف قال الذي يبرىء نفسه من الحول و القوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة
قال المؤلف : و مثل هذا لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع و الله أعلم
و أما المساكين : فالمراد بهم المتواضعون و هم المشار إليهم في قوله عليه السلام : [ اللهم أحييني مسكينا و أمتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين ] و لقد أحسن من قال :
( إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملك في زي مسكين )
( ذاك الذي عظمت في الله رغبته ... و ذاك يصلح للدنيا و للدين )
و معنى [ تحاجت الجنة و النار ] أي حاجت كل واحدة صاحبتها و خاصمتها و سيأتي بيانه عند قوله عليه السلام : [ اشتكت النار إلى ربها ]
باب منه في صفة أهل الجنة و أهل النار و في شرار الناس من هم ؟
مسلم [ عن عياض بن عمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوما في خطبته : أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق و رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى و مسلم و عفيف ضعيف متضعف ذو عيال
قال : و أهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا و لا مالا و الخائن الذي لا يخفى له طمع و إن دق إلا خانة و رجل لا يصبح و لا يمسي إلا و هو يخادعك عن أهلك و مالك و ذكر البخل والكذب و الشنظير الفحاش ]
[ و عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبر قسمه ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر ] و في رواية : [ زنيم متكبر ] خرجه ابن ماجه أيضا
[ أبو داود عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يدخل الجنة الجواظ و لا الجعظري ] قال : الجواظ : الغليظ الفظ
ابن ماجه [ عن ابن عمران قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله رسول الله لا يعذب من عباده إلا المارد المتمرد الذي تمرد على الله و أبى أن يقول لا إله إلا الله ]
[ و عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يدخل النار إلا شقي قيل يا رسول الله و من الشقي ؟ قال : من لم يعمل لله بطاعته و لم يترك له معصية ]
[ و عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أهل الجنة من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس خيرا و هو يسمع و أهل النار من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس شرا و هو يسمع ]
مسلم [ عن أنس قال : مر بجنازة فأثني عليها خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و جبت و جبت و جبت و مر بجنازة فأثنى عليها شرا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و جبت و جبت و جبت فقال عمر : فداك أبي و أمي مر بجنازة فأثني عليها خيرا فقلت : وجبت وجبت وجبت و مر بجنازة فأثني عليها شرا فقلت : وجبت وجبت وجبت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة و من أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض ] قالها ثلاثا
و قالت عائشة رضي الله عنها : الجنة دار الأسخياء و النار دار البخلاء
و قال زيد بن أسلم : أمرك الله تعالى أن تكون كريما فيدخلك الجنة و نهاك أن تكون بخيلا فيدخلك النار
و ذكر أبو نعيم الحافظ من حديث محمد بن كعب القرظي [ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله و من أحب أن يكون اكرم الناس فليتق الله و من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : من أكل وحده و منع رفده و جلد عبده أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : من يبغض الناس و يبغضونه قال : أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : من لا يقيل عثرة و لا يقبل معذرة و لا يغفرذنبا قال : أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : من لا يرجى خيره و لا يؤمن شره إن عيسى بن مريم قائم في بني إسرائيل خطيبا فقال : يا بني أسرائيل لا تتكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها و لا تمنعوها أهلها فتظلموها و قال : مرة فتظلموهم و لا تظلموا ظالما و لا تكافئوا طالما فيبطل فضلكم عند ربكم يا بني إسرائيل الأمر ثلاث : أمر بين رشده فاتبعوه و أمر بين غيه فاجتنبوه و أمر اختلف فيه فردوه إلى الله عز و جل ]
قال أبو نعيم و هذا الحديث لا يحفظ بهذا السياق عن النبي صلى الله عليه و سلم إلا من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس
فصل : قوله : ذو سلطان مقسط و ما بعده مرفوع على أنها صفات لذو و هي بمعن صاحب و المقسط : العادل و المتصدق : المعطي الصدقات و الموفق : المسدد لفعل الخيرات و رفيق القلب : لينه عند التذكرة و الموعظة و يصلح أن يكون بمعنى الشفيق
و قوله : [ ضعيف متضعف ] يعني ضعيف في أمور الدنيا قوي في أمر دينه كما قال عليه السلام : [ المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف و في كل خير ] الحديث خرجه مسلم
أما من كان ضعيفا في أمور دينه لا يعني بها فمذموم و ذلك من صفات أهل النار كما قال : و أهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له أي لا عقل له و من لا عقل له ينفك به عن المفاسد و لا ينزجر به عنها فحسبك به ضعفا و خسارة في الدين و قد قيل في الزبير : إنه المال و ليس بشيء لأن النبي صلى الله عليه و سلم فسر ذلك بقوله الذين هم فيكم تبع لا يتبعون أهلا و لامالا
قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه : فيعني بذلك أن هؤلاء ضعفاء العقول فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية و لا فضيلة نفسية و لا دينية بل يهملون أنفسهم إهمال الأنعام ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال و الحرام و هذه الأوصاف الخبيثة الذاتية هي أوصاف هذه الطائفة المسماة بالقلندرية
و قد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير راوي الحديث : و الله لقد أدركتهم في الجاهلية و إن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم يطاولها و يخفى بمعنى يظهر و هو من الأضداد
و قوله : و ذكر البخل و الكذب هكذا الرواية المشهورة بالواو الجامعة و الكذب و قد رواه ابن أبي جعفر عن الطبراني بأو التي للشك قاله القاضي عياض و لعله الصواب و به تصح القسمة لأنه ذكر أن أصحاب النار خمسة : الضعيف الذي وصفه و الخائن الذي و صف و الرجل المخادع الذي وصف
قال : و ذكر البخل و الكذب ثم ذكر الشنظير و الفحاش فرأى هذا القائل أن الرابع هو أحد الصنفين و قد يحتمل لأن يكون الرابع قد جمعها على رواية واو العطف كما جمعهما في الشنظير الفحاش
و قوله : أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق و رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى و مسلم و عفيف متعفف ذو عيال
قال القاضي عياض : كذا قيدناه بخفض مسلم عطفا على ما قبله و في رواية أخرى و مسلم عفيف بالرفع و حذف الواو شيخنا انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
و العفيف : الكثير العفة و هي الانكفاف عن الفواحش و عن ما لا يليق و المتعفف : المتكلف العفة و الشظير : السيء الخلق و يقال شنظيرة أيضا قاله الجوهري و أنشد قول أعرابية :
( شنظيرة زوجنيه أهلي ... من حمقه يحسب رأسي رجلي )
( كأنه لم ير أنثى قبلي )
و ربما قالوا شنذيرة بالذال المعجمة لقربها من الظاء لغة أو لثغة و الفحاش الكثير الفحش و قيل الشنظير : هو الفحاش قال صاحب العين : يقال شنظر بالقوم إذا شتم أعراضهم و الشنظير : الفحاش من الرجال القلق و كذلك من الإبل و الجواظ : الجموع المنوع و منه قوله تعالى : { و جمع فأوعى }
و قيل : الجواظ الكثير اللحم المختال و قيل : هو الجافي القلب و العتل : قيل : الجافي الشديد الخصومة و قيل : هو الأكول الشروب الظلوم
قال المؤلف : و يقال : إنه الفظ الغليظ الذي لا ينقاد لخبر و الجعظري : الفظ الغليظ القصير و جاء في تفسيره في بعض الأحاديث هم الذين لا تصدع رؤوسهم
قال شيخنا : و الزنيم : المعروف بالشر و قيل : اللئيم و أما الزنيم المذكور في القرآن فرجل معين له زنمة كزنمة التيس و قيل : هو الوليد و كان له زنمة تحت أذنه و قيل هو الملصق بالقوم و قيل : هم الأخنس بن شريق
و قوله عليه السلام : [ من أثنيتم عليه شرا و جبت له النار ] يعارضه قوله عليه السلام [ لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ] أخرجه البخاري و الثناء بالشر : سب فقيل ذلك خاص بالمنافقين الذين شهدت الصحابة فيهم بما ظهر لهم و لذلك قال عليه السلام : [ و جبت به النار ] و المسلم لا تجب له النار و اختار هذا القول القاضي عياض
و قيل : ذلك جائز فيمن كان يظهر الشر و يعلن به فيكون ذلك من باب لا غيبة لفاسق
و قيل : إن النهي إنما هو بعد الدفن و أما قبله فممنوع لقوله عليه السلام : [ لا تسبوا الأموات ] فالنهي عن سب الأموات متأخر فيكون ناسخا و الله أعلم
و قوله : [ أنتم شهداء الله في الأرض ] معناه عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل الفضل و الصدق و العدالة لأن الفسقة قد يثنون على الفاسق فلا يدخل في الحديث و كذلك لو كان القائل فيه عدوا له و إن كان فاضلا لأن شهادته في حياته لو كانت عليه كانت غير مقبولة و كذلك الحكم في الآخرة و الله أعلم
و قيل إن تكرار [ أنتم شهداء الله في الأرض ] ثلاثا إشارة إلى القرون الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه و سلم [ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ]
قلت : الأول أصح لأن الله تعالى مدح هذه الأمة بالفضل العدالة إلى يوم القيامة قال الله تعالى { و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } يعني في الآخرة كما تقدم فلا يشهد إلى العدول
و قد خرج البخاري [ عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال : مر على النبي صلى الله عليه و سلم بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال و جبت ثم مر عليه بأخرى فأثنوا عليها شرا أو قال غير ذلك فقال و جبت فقيل يا رسول الله قلت لهذا و جبت و لهذا و جبت فقال : المؤمنون شهداء الله في الأرض ] و خرجه ابن ماجه بهذا الإسناد و قال شهادة القوم و المؤمنون شهود الله في الأرض و في البخاري أيضا [ عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة قلنا : و ثلاثة ؟ قال : و ثلاثة : فقلنا : و إثنان ؟ قال : و اثنان ثم لم نسأله عن الواحد ] قال أبو محمد عبد الحق و هذا الحديث مخصوص و الله أعلم و الذي قبله يعطي العموم و إن كثرت شهوده و انطلقت ألسنة المسلمين فيه بالخير و الثناء الصالح كانت له الجنة و الله أعلم
قال المؤلف رحمه الله : و من هذا المعنى ما ذكره هناد بن السري أخبرنا إسحاق الرازي عن أبي سنان عن عبد الله بن السائب قال : مرت جنازة بعبد الله بن مسعود فقال لرجل قم فانظر من أهل الجنة هو أم من أهل النار ؟ قال الرجل : ما يدريني أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار ؟ و كيف أنظر ؟ قال : ثناء الناس عليه فإنهم شهداء الله في الأرض قال أبو محمد : و غير مستنكر إذا أحب الله عبدا أمر أن يلقى على ألسنة المسلمين الثناء عليه و في قلوبهم المحبة له قال الله تعالى { إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا }
و قال عليه السلام : [ إذا أحب الله عبدا قال يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه قال فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض وذكر في البغضاء مثل ذلك ] و هذا حديث صحيح خرجه البخاري و مسلم قال أبو محمد عبد الحق : و قد شوهد رجال من المسلمين علماء صالحون كثر الثناء عليهم و صرفت القلوب إليهم في حياتهم و بعد مماتهم و منهم من كثر المشيعون لجنازته و كثر الحاملون لها و المتشغلون بها و ربما كثر الله الخلق بما شاء من الجن المؤمنين أو غيرهم مما يكون في صور الناس
ذكر قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : أخبرنا محمد يزيد الرفاعي قال مات عمرو بن قيس الملائي بناحية فارس فاجتمع لجنازته من الخلق ما لا يحصى فلما دفن نظروا فلم يروا أحدا قال الرفاعي : سمعت هذا ممن لا أحصى كثرة و كان سفيان الثوري يتبرك بالنظر إلى عمرو بن قيس هذا
و لما مات أحمد بن حنبل رضي الله عنه صلى عليه من المسلمين ما لا يحصى فأمر المتوكل أن يمسح موضع الصلاة عليه من الأرض فوجد موقف ألفي ألف و ثلاثمائة ألف أونحوها و لما انتشر خبر موته أقبل الناس من البلاد يصلون على قبره فصل عليه ما لا يحصى و لما مات الأوزاعي رضي الله عنه اجتمع للصلاة عليه من الخلق ما لا يحصى و روي أنه أسلم في ذلك اليوم من أهل الذمة اليهود و النصارى نحو من ثلاثين ألفا لما روأوا من كثرة الخلق على جنازته و لما رأوا من العجب في ذلك اليوم
و لما مات سهل بن عبد الله التستري رحمه الله انكب الناس على جنازته و حضرها من الخلق ما لا يعلمه إلا الله تعالى و كانت في البلد ضجة فسمع بها يهودي شيخ كبير فخرج فلما رأى الجنازة صاح و قال : هل ترون ما أرى ؟ قالوا : و ما ترى ؟ قال : أرى قوما ينزلون من السماء يتمسحون بالجنازة ثم أسلم و حسن إسلامه و يقال : إن الكعبة لم تخل من طواف طائف يطوف بها إلا يوم مات المغيرة بن حكيم فإنها خلت لانحشار الناس لجنازته تبركا بها و رغبة في الصلاة عليه
و قد شوهد من جنائز الصالحين من يشيعها الطير و يسير معها حيث سارت منهم : أبو الفيض ذو النون المصري و أبو إبراهيم المزني صاحب الشافعي حدث بذلك الثقات : قاله أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له
باب منه في صفة أهل الجنة و أهل النار
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس و نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة و لا يجدن ريحها و إن ريحها ليوجد من مسيرة كذا و كذا ] قال الحافظ ابن دحية أبو الخطاب الرواية بالياء بلا خلاف و تحكم أبو اليد الكتاني فرواه بالثناء المثلثة و هي المنتصبة و هذا خطأ منه و تصحيف و خرجه مسلم أيضا [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير ]
فصل : للعلماء في تأويل هذا الحديث و جهان :
أحدهما : أنها مثلها في الخوف و الهيبة و الطير أكثر الحيوانات خوفا حتى قالوا أحذرمن غراب و قد غلب الخوف على كثير من السلف حتى انصدعت قلوبهم فماتوا
الثاني : أنه مثلها في الضعف و الرقة كما جاء في الحديث الآخر في أهل اليمن هم أرق قلوبا و أضعف أفئدة
قلت : و يحتمل وجها ثالثا أنها مثلها خالية من كل ذنب سليمة من كل عيب لا خبرة لهم بأمور الدنيا كما روي [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر أهل الجنة البله ] و هو حديث صحيح أي البله عن معاصي الله و الله أعلم
قال الأزهري : الأبله في كلامهم على وجوه : يقولون عيش أبله إذا كان ناعما و منه أخذ بلهنية العيش قال بعضهم : و طالما عشت في بلهنية
و الأبله الذي لا عقل له و الأبله الذي طبع على الخير و هو غافل عن الشر لا يعرفه و قال هذا هو المراد بالحديث
و قال العتبي : البله هم الذين غلب عليهم سلامة الصدور و حسن الظن بالناس و أنشد :
( و لقد لهوت بطفلة ميالة ... بلهاء تطلعني على أسرارها )
يعني أنها أغراء لا دهاء فيها :
قلت : و نظير ما ذكرناه و ما قاله هؤلاء من الكتاب قوله تعالى { إلا من أتى الله بقلب سليم } و قوله عليه السلام و قد سئل أي الناس أفضل ؟ قال : [ الصادق اللسان المخموم القلب قالوا : أما الصادق اللسان فقد عرفناه أنه ذلك فما المخموم القلب ؟ قال : النقي الذي لا غل فيه و لا حسد ] ذكره أبو عبيده و العرب تقول خممت البيت أي كنسته و منه سميت الخمامة و هي مثل القمامة و الكناسة
و قال بعض العلماء في البله وجها آخر لطيفا و هو : أنهم سموا بذلك لقصورهم عن كمال المعرفة بحق الله تعالى و رؤية استحقاقه العبادة و إيثار طلبه و الشغف بحبه و خدمته و طلب رضاه الذي هو جنة الخلد إذا وقفوا بخواطرهم على الجنة و نعيمها و عبدوه و أطاعوا في نيل درجاتها و لذاتها غافلين عن مراقبة جلاله و ملاحظة كماله بعكوف همهم على نيل نعمه و أفضاله فهم بله أيضا بالإضافة إلى العقلاء عن الله عز و جل ذوي الألباب المقبلة على مشاهدة عظمة الله تعالى المتوجهين بكليتهم إليه المشغولين به عما لديه و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في سياق قوله : [ أكثر أهل الجنة البله و عليون لأولي الألباب ] و في الخبر : أن طائفة من العقلاء بالله عز و جل تزفهم الملائكة إلى الجنة و الناس في الحساب فيقولون للملائكة : إلى أين تحملوننا ؟ فيقولون : إلى الجنة فيقولون : إنكم لتحمولوننا إلى غير بغيتنا فتقول لهم الملائكة : و ما بغيتكم ؟ فيقولون : المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر : { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } و لعل من هذا القبيل من يسأل الله الجنة إلا أن سؤاله إياها لا لها بل موافقة لمولاه لما علم أنه يحب أن يسأل من ثوابه و يستعاذ من عذابه فوافق مولاه
في إيثاره لا لحظ نفسه كما قال عليه السلام لأحد أصحابه الذي قال [ أما أنا فأقول في دعائي اللهم أدخلني الجنة و عافني من النار و لا أدري ما دندنتك و لا دندنه معاذ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم حولها ندندن ]
قلت : خرجه أبو داود في سننه و ابن ماجه أيضا
فصل : قال الحافظ ابن دحية أبو الخطاب : قوله صنفان من أهل النار لم أرهما الصنف فيما ذكر عن الخليل الطائفة من كل شيء و السوط في اللغة اسم العذاب و إن لم يكن له ثم ضرب قال الفراء
و قال ابن فارس في المجمل السوط من العذاب النصيب و السوط خلط الشيء بعضه ببعض و إنما سمي سوطا لمخالطته و إنما أراد النبي صلى الله عليه و سلم عظم السياط و خروجها عن حد ما يجوز به الضرب في التأديب و هذه الصفة للسياط مشاهدة عندنا بالمغرب إلى الآن و غيره
و قوله نساء كاسيات عاريات يعني أنهن كاسيات من الثياب عاريات من الذين لانكشافهن و إبدائهن بعض محاسنهن
و قيل : كاسيات ثيابا رقاقا يظهر ما خلفها و ما تحتها فهن كاسيات في الظاهر عاريات و في الحقيقة
و قيل : كاسيات في الدنيا بأنواع الزنية من الحرام و ما لا يجوز لبسه عاريات يوم القيامة ثم قال عليه السلام [ مائلات مميلات ] قيل : معناه زائغات عن طاعة الله تعالى و طاعة الأزواج و ما يلزمهن من صيانة الفروج و التستر عن الأجانب و مميلات يعلمن غيرهن الدخول في مثل فعلهن
و قيل : مائلات متبخترات في مشهين مميلات يملن رؤوسهن و أعطافهن من الخيلاء و التبختر و مميلات لقلوب الرجال إليهن لما يبدين من زينتهن و طيب رائحتهن
و قيل : يتمشطن الميلاء و هي مشطة البغايا و المميلات : اللواتي يمشطن غيرهن المشة الميلاء قال صلى الله عليه و سلم [ رؤوسهن كأسنمة اليخت ] معناه يعظمن رؤوسهن بالخمر و المقانع و يجعلن على رؤوسهن شيئا يمسي عندهم التازة لا عقص الشعر و الذاوئب المباح للنساء حسب ما ثبت في الصحيح عن أم سلمة قالت قلت : يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي الحديث
باب ما جاء في أكثر أهل الجنة و أكثر أهل النار
مسلم [ عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين و إذا أصحاب الجد محبوسون إلى أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار و قمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء ]
[ و من حديث ابن عباس في حديث كسوف الشمس : و رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط و رأيت أكثر أهلها النساء قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال بكفرهن قيل أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير و يكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك ما تكره قالت ما رأيت منك خيرا قط ]
[ و عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أقل ساكني الجنة النساء ]
فصل : قال علماؤنا : إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى و الميل إلى عاجل زينة الدنيا لنقصان عقولهن أن تنقذن بصائرها إلى الأخرى فيضعفن عن عمل الآخرة و التأهب لها و لميلهن إلى الدنيا و التزين بها و لها ثم مع ذلك هن أقوى أسباب الدنيا التي تصرف الرجال عن الأخرى لما لهم فيهن من الهوى و الميل لهن فأكثرهن معرضات عن الآخرة بأنفسهن صارفات عنها لغيرهن سريعات الانخداع لداعيهن من المعرضين عن الدين عسيرات الاستجابة لمن يدعوهن إلى الأخرى و أعمالها من المقتين
و عن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أيها الناس لا تطيعوا للنساء أمرا و لا تأمنوهن على مال و لا تدعوهن يدبرن أمر عشير فإنهن إن تركن و ما يردن أفسدن الملك و عصين المالك و جدناهن لا دين لهن في خلواتهن و لا ورع لهن عند شهواتهن اللذة بهن يسيرة و الحيرة بهن كثيرة فأما صوالحهن ففاجرات و أما طوالحهن فعاهرات و أما المعصومات فهن المعدومات فيهن ثلاث خصال من اليهود : يتظلمن و هن ظالمات و يحلفن و هن كاذبات و يتمنعن و هن راغبات فاستعيذوا بالله من شرارهن و كونوا على حذر من خيارهن و السلام
و قال صلى الله عليه و سلم : [ ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ] و سيأتي
و قال : [ ما رأيت من ناقصات عقل و دين أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن يا معشر النساء ] و هو معنى قوله عليه السلام في الحديث المتقدم : [ مائلات مميلات ] قال الحافظ بن دحية : تحفظوا عباد الله منهن و تجبنوا غيهن و لا تثقوا بودهن و لا عهدهن ففي نقصان عقولهن و دينهن ما يغني عن الإطناب فيهن
باب منه
البخاري [ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من يأتي قيل : و من يأبى يا رسول الله قال : من أطاعتي دخل الجنة و من عصاني فقد أبى ]
و ذكر ابن أبي الدنيا قال : حدثنا محمد بن علي حدثنا أبو إسحاق بن الأشعث قال : سمعت فضيل بن عياض يقول : سمعت ابن عياض يقول : يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهة خلقتها فتشرف على الخلائق فيقال : هل تعرفون هذه ؟ فيقولون : نعوذ بالله من معرفة هذه فيقال هذه الدنيا التي تشاجرتم عليها بها قطعتم الأرحام و بها تحاسدتم و تباغضتم و اغتررتم ثم تقذف في جهنم فتنادي أي رب أين أتباعي و أشياعي فيقول الله : تعالى : ألحقوا بها أتباعها و أشياعها
باب ما جاء أن العرفاء في النار
[ عن أبي داود عن غالب القطان عن رجل عن أبيه عن جده الحديث و فيه أن أباه أرسله إلى النبي صلى الله عليه و سلم و أنه قال : إن أبي شيخ كبير و هو عريف الماء و أنه يسألك أن تجعل إلالعرافة بعده فقال : إن العرافة حق و لا بد الناس من عرفاء و لكن العرفاء في النار ] و في الصحيح في قصة هوازن : ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم
فصل : قال علماؤنا : العريف هنا القيام بأمر القبيلة و المحلة يلي أمورهم و يتعرف أخبارهم و يعرف الأمير منه أحوالهم و قوله العرافة حق و يريد أن فيها مصحلة للناس ورفقا لهم ألا تراه يقول و لا بد للناس من عرفاء و قوله في النار : معناه التحذير من الرئاسة و التأمر على الناس لما فيه من الفتنة و الله أعلم
باب منه
أبو داود الطياليسي قال : [ حدثنا هشام بن عباد بن أبي علي عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ويل للأمناء و ويل للعرفاء ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء و الأرض و أنهم لم يلوا عملا ]
باب لا يدخل الجنة صاحب مكس و لا قاطع رحم
قال الله تعالى : { و لا تقعدوا بكل صراط توعدون و تصدون عن سبيل الله من آمن به و تبغونها عوجا } نزلت في المكاسين و العشارين في قول بعض العلماء و قال تعالى { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله } الآية
مسلم [ عن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يدخل الجنة قاطع ] قال ابن أبي عمر قال سفيان يعني قاطع رحم رواه البخاري
أبو داود [ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا يدخل الجنة صاحب مكس ]
فصل : قال علماؤنا صاحب المكس هو الذي يعشر أموال الناس و يأخذ من التجار و المختلفين ما لا يجب عليهم إذا مروا به مكسا باسم العشر أو الزكاة و ليس هو الساعي الذي يأخذ الصدقات و الحق الواجب للفقراء و
قد قمنا أن التبديل إذا كان في الأعمال و ليس في العقائد صاحبه في المسيئة و إن عذب فإنه يخرج بالشفاعة على ما تقدم و هكذا القول في أهل الكبائر المتوعد عليها بالنار و اللعنة يخرجون بالشفاعة إذا ارتكبوها على غير وجه الاستحلال
باب ما جاء في أول ثلاثة يدخلون الجنة و أول ثلاثة يدخلون النار
أبو بكر بن شيبة [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أول ثلاثة يدخلون الجنة الشهيد و رجل عفيف متعفف ذو عيال و عبد أحسن عبادة ربه و أدى حق مواليه و أول ثلاثة يدخلون النار : أمير متسلط و ذو ثروة من مال لا يؤدي حقه و فقير فخور ]
باب ما جاء في أول من تسعر بهم جهنم
مسلم [ عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبك و لكنك قاتلت ليقال فلان جريء فقد قيل ثم أمر ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار و رجل تعلم العلم و علمه و قرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فرفعها قال : قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم و علمته و من قرآت فيك القرآن قال : كذبت و لكنك تعلمت ليقال عالم و قرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر بن فسحب على وجهه حتى ألقي في النار و رجل وسع الله عليه و أعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال : كذبت و لكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ] خرجه أبو عسيى الترمذي بمعناه و قال في آخره ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم على ركبتي فقال : [ يا أبا هريرة : أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ]
باب فيمن يدخل الجنة بغير حساب
مسلم [ عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : هم الذين لا يسترقون و لا يتطيرون و لا يكتوون و على ربهم يتوكلون ]
الترمذي [ عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم و لا عذاب مع كل ألف سبعون ألفا و ثلاث حثيات من حثيات ربي ] قال الترمذي : هذا حديث غريب و قد أخرجه ابن ماجه أيضا
و خرج أبو بكر البزار [ من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا مع كل واحد من السبعين ألفا سبعون ألفا ] و خرج أيضا هو و أبو عبد الله الحكيم الترمذي [ عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله أعطاني سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر : يا رسول الله فهلا استزدته ؟ قال : استزدته فأعطاني مع كل من السبعين ألفا سبعين ألفا فقال عمر : يا رسول الله فهلا استزدته ؟ قال : لقد استزدته فأعطاني هكذا ] و فتح أبو وهب يديه قال أبو وهب قال هشام هذا من الله لا يدري ما عدده
و خرج الترمذي الحكيم أيضا [ عن نافع أن أم قيس حدثته أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج آخذا بيدها في سكة من سكك المدينة حتى انتهى بها إلى بقيع الغرقد فقال يبعث من ها هنا سبعون ألفا يوم القيامة في صورة القمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب فقام رجل فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال : أنت منهم فقام آخر فقال يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني منهم فقال : سبققك بها عكاشة ] قال أبو عبد الله فهذا العدد من مقبرة واحدة فكيف بسائر مقابر أمته و إنما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنت منهم كأنه رأى فيه أنه منهم و الآخر لم يره بموضع ذلك فقال سبقك بها عكاشة و أم قيس هي بنت محصن أخت عكاشة بن محصن الأسدي
قلت : خرجه مسلم في صحيحه بمعناه
فصل : لا تظن أن من استوفى و اكتوى لا يدخل الجنة بغير حساب فإن النبي صلى الله عليه و سلم رقى نفسه و أمر بالرقي و كذلك كوى أصحابه و نفسه فيما ذكر الطبري و غيره فمحمل النبي عن رقى مخصوصة بدليل قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لآل عمرو بن حزم ] اعرضوا على رقابكم لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك [ و كذلك الكي الذي لا يوجد عنه غني فمن فعله في محله و على شرطه لم يكن ذلك مكروها في حقه و لا منقصا له من فضله و يجوز أن يكون من السبعين ألفا و قد كوى النبي صلى الله عليه و سلم نفسه فيما ذكره الطبري في كتاب آداب النفوس له ذكره الحليمي في كتاب المنهاج في الدين له
و اختلفت الرواية في الكي فروي أن النبي صلى الله عليه و سلم اكتوى من الكلم الذي أصابه في وجهه يوم أحد و كوى سعد بن زرارة من الشوكة و كوى سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن و أبي بن كعب المخصوص بأنه أقرأ الأمة للقرآن و قد اكتوى عمران بن حصين و قطع رجله عروة بن الزبير فمن اعتقد أن هؤلاء لا يصلحوا أن يكونوا من السبعين ألفا ففساد كلامه لا يخفى
باب منه
] أخبرنا ابن رواح إجازة قال : حدثنا السلفي قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك بن جعفر قراءة عليه و أنا أسمع بأصبهان سنة إحدى و تسعين و أربعمائة قال : أخبرنا أبو القاسم علي بن عمر ضبن إسحاق بن إبراهيم الأسدباذي الهمذاني قراءة عليه في شعبان سنة تسع و أربعمائة قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن إسحاق بن السني الحافظ قال : أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد المطيقي قال : حدثنا أبو بكر بن زنجويه قال
حدثنا عثمان بن صالح قال : حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي جحيرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب رجل غسل ثوبه فلم يجد له خلفا و رجل لم ينصب على مستوقدده بقدرين قط و رجل دعي بشراب فلم يقل له أيهما تريد و قال ابن مسعود : من احتفر بئرا بفلاة من الأرض إيمانا و احتسابا دخل الجنة بلا حساب
باب منه
ذكر أبو نعيم عن علي بن الحسين رضي الله عنه قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل ؟ فيقول ناس من الناس فيقال انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون : إلى أين ؟ فيقولون إلى الجنة قالوا قبل الحساب ؟ قالوا : نعم قالوا : من أنتم ؟ قالوا : أهل الفضل قالوا : و ما كان فضلكم ؟ قالوا لنا إذا جهل علينا حلمنا و إذا ظلمنا صبرنا و إذا أسى علينا غفرنا قالوا : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ثم ينادي مناد ليقم أهل الصبر فيقوم ناس من الناس و هم قليل فيقال لهم : انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقال لهم مثل ذلك فيقولون نحن أهل الصبر قالوا : و ما كان صبركم ؟ قالوا : صبرنا أنفسنا على طاعة الله و صبرناها عن معاصي الله قالوا : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين قال : ثم ينادي مناد ليقم جيران الله فيقوم ناس من الناس و هم قليل فيقال لهم انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقال لهم مثل ذلك قالوا : و لم جاورتم الله في داره ؟ قالوا : كنا نتزاور في الله و نتجالس في الله و نتبادل في الله عز و جل قالوا : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين
و ذكر [ من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا جمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد ينادي مناد من تحت بطنان العرش : أين أهل المعرة بالله أين المحسنون ؟ قال : فيقوم عنق من الناس حتى يقفوا بين يدي الله تعالى فيقول و هو أعلم بذلك : من أنتم ؟ فيقولون نحن أهل المعرفة بك الذي عرفتنا إياك و جعلتنا أهلا لذلك فيقول : صدقتم ثم يقول ما عليكم من سبيل ادخلوا الجنة برحمتي ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لقد نجاهم الله من أهوال يوم القيامة ] قال أبو نعيم : هذا طريق مرضي لولا الحارث بن منصور الوراق و كثرة وهمه
ابن المبارك عن ابن عباس قال : [ إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ليقم الحامدون لله تعالى على كل حال فيقومون فيسرحون إلى الجنة ثم ينادي ثانية : ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ليقم الذين كانت { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا و طمعا و مما رزقناهم ينفقون } قال : فيقومون فيسرحون إلى الجنة قال : ثم ينادي ثالثة ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ليقم الذين كانوا { لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله } الآية فيسرحون إلى الجنة
و روي أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين عبادي الذين أطاعوني و حفظوا عهدي بالغيب فيقومون كأن وجوههم البدر أو الكوكب الدري ركبانا على نجائب من نور أزمتها من الياقوت الأحمر تطير بهم على رؤوس الخلائق حتى يقوموا بين يدي العرش فيقول الله لهم : السلام على عبادي الذين أطاعوني و حفظوا عهدي بالغيب أنا اصطفيتكم و أنا أحببتكم و أنا اخترتكم اذهبوا فأدخلوا الجنة بغير حساب فلا خوف عليكم اليوم و لا أنتم تحزنون فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف فيفتح لهم أبوابها ثم إن الخلائق في المحشر موقوفون فيقول بعضهم لبعض : يا قوم أين فلان ابن فلان و ذلك حين يسأل بعضهم بعضا فينادي مناد { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون }
باب منه
ذكر الميانشي القرشي أبو جعفر عمر بن حفص [ من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر فيأمر الله تعالى جبريل أن يأتيهم فيسألهم من هم فيأتيهم فيسألهم فيقولون : نحن أصحاب الحديث فيقول الله تعالى لهم : ادخلوا الجنة طال ما كنتم تصلون على نبي صلى الله عليه و سلم ] و خرج [ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا كان يوم القيامة وضعت منابر من نور عليها قبال من در ثم ينادي مناد : أين الفقهاء و أين الأئمة و أين المؤذنوون ؟ اجسلوا على هذه فلا روع عليكم اليوم و لا حزن حتى يفرغ الله فيما بينه و بين العباد من الحساب ]
و روى يزيد بن هارون [ عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن ابن أبي ليلى عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مسألة واحدة بتعلمها المؤمن خير له من عبادة سنة و خير له من عتق رقبه من ولد إسماعيل و إن طالب العلم و المرأة المطيعة لزوجها و الولد البار بوالديه يدخلون الجنة بغير حساب ] ونقلته من الزيادات بعد الأربعين لإسماعيل بن عبد الغافر رحمه الله قال : حدثنا يحيى عن الحسن ابن علي حدثنا يزيد بن هارون فذكره
باب منه
أبو نعيم [ عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي مائة ألف فقال أبو بكر يا رسول الله : زدنا قال : و هكذا و أشار سليمان بن حرب بيده كذلك قال يا رسول الله : زدنا فقال عمر رضي الله عنه : إن الله قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم صدق عمر ] هذا حديث غريب من حديث قتادة عن أنس تفرد به عن قتادة أبو هلال و اسمه محمد بن سليم الراسبي ثقة بصري
فصل : لا يحملنك يا أخي شيء من هذا الحديث و لا الذي قبله و لا ما وقع في صحيح مسلم من قوله عليه السلام مخبرا عن الله تعالى كما تقدم : فيقبض قبضة من النار على التجسيم و قد تقدم القول في هذا المعنى عند قوله : و يطوى السموات بيمينه و إنما المعنى أن الله تعالى يخرج من النار خلقا كثيرا لا يأخذهم عد و لا يدخلون تحت حصير فيخرجون دفعة واحدة بغير شفاعة أحد و لا ترتيب خروج بل كما يلقي القابض الشيء المقبوض عليه من يده في مرة واحدة فعبر عن ذلك بالحفنة و الحثوة و القبضة فاعلم ذلك
باب أمة محمد صلى الله عليه و سلم شطر أهل الجنة و أكثر
مسلم [ عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تبارك و تعالى : يا آدم فيقول : لبيك و سعديك و الخير في يديك قال فيقول : أخرج بعث النار من ولدك قال و ما بعث ؟ قال من كل ألف تسعمائة و تسعة و تسعون و تسعون قال فذلك حين يشيب الصغير و تضع كل ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب الله شديد قال : فاشتد ذلك عليهم قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرجل ؟ قال : أبشروا فإن من يأجوج و مأجوج ألفا و منكم واحد ثم قال : و الذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ربع أهل الجنة فحمدنا الله و كبرنا ثم قال : و الذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة فحمدنا الله و كبرنا ثم قال : و الذي نفسي بيده أن تكونوا شطر أهل الجنة إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود أو كالرقمة في ذراع الدابة ] خرجه البخاري
و روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يكون الخلائق يوم القيامة مائة و عشرين صفا طول كل صف مسيرة أربعين ألف سنة و عرض كل صف عشرون ألف سنة قيل له يا رسول الله : كم المؤمنون ؟ قال : ثلاثة صفوف قيل له : و المشركون ؟ قال : مائة و سبعة عشر صفا قيل له : فما صفة المؤمنين من الكافرين ؟ قال : المؤمنون كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ] ذكر هذا الخبر القتيبي في عيون الأخبار له و هو غريب جدا مخالف لصفوف المؤمنين الوارد في الأحاديث
و ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال [ حدثنا بن نمير قال حدثني موسى الجهني عن الشعبي قال : سمعته يقول قال نبي الله صلى الله عليه و سلم أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : فيسركم أن تكونوا نصف أهل الجنة ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : إن أمتي يوم القيامة ثلثي أهل الجنة إن الناس يوم القيامة عشرون و مائة صف و إن أمتي من ذلك ثمانون صفا ] و رواه مرفوعا [ عن عبد الله بن مسعود و فيه : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الجنة يوم القيامة عشرون و مائة صف أنتم منها ثمانون صفا ] في إسناده الحرث بن حضيرة ضعيف ضعفه مسلم في صدر كتابه
و خرج ابن ماجه و الترمذي [ عن بريدة بن حصيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أهل الجنة عشرون و مائة صف ثمانون منها من هذه الأمة و أربعون من سائر الأمم ] قال أبو عيسى هذا حديث غريب
فصل : تقدم من حديث عبد الله بن عمر و فيه ثم يقول : اخرجوا بعث النار و في هذا يقال لآدم اخرج بعث النار فقيل إن آدم لما أمر أولا بالإخراج أمر هو و الملائكة أن يخرجوا و يميزوا أهل الجنة و أهل النار و الله أعلم
و قول الصحابة رضوان الله عليهم : أين ذلك الرجل يريدون من الواحد الذي لا يدخل النار توهما منهم أن القضية واردة فيهم فقال صلى الله عليه و سلم [ إن من يأجوج و مأجوج تسعمائة و تسعة و تسعين و منكم رجلا ] و أطلق لفظ البشارة و بين أن الألف كلها في النار لكن من غير هذه الأمة المحمدية و من هذه الأمة واحدة في الجنة على ما يقتضيه ظاهر هذا اللفظ و إذا كان كذلك استغرق العدد جميع أمة محمد صلى الله عليه و سلم فكانوا في الجنة أو أكثرهم لأن يأجوج و مأجوج لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطوف بين يديه من صلبه على ما يأتي بيانه من ذكرهم في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى و الله أعلم
باب في ذكر أبواب جهنم و ما جاء فيها و في أهوالها و أسمائها أجارنا الله
منها برحمته و فضله إنه ولي ذلك و القادر عليه
ذكر الله عز و جل النار في كتابه و و صفها على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم و نعتها فقال عز و جل من قائل : { كلا إنها لظى * نزاعة للشوى } الشوى : جمع شواة و هي جلدة الرأس و قال : { و ما أدراك ما سقر * لا تبقي و لا تذر * لواحة للبشر } أي مغيرة يقال : لاحته الشمس و لوحته إذا غيرته و قال { و ما أدراك ما هيه * نار حامية } و قال { لينبذن في الحطمة } أي ليرمين فيها { و ما أدراك ما الحطمة } الآية
ذكر ابن المبارك [ عن خالد بن أبي عمران بسنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن النار لتأكل أهلها حتى إذا طلعت على أفئدتهم انتهت ثم تعود كما كانت ثم تستقبله أيضا فتطلع على فؤاده و هو كذلك أبدا ] فذلك قوله تعالى { نار الله الموقدة } الآية و قال : { و إذا الجحيم سعرت } أي أوقدت و أضرمت و قال { و سيصلون سعيرا } و قال { و أعتدنا لهم عذاب السعير } و قال { و الذين كفروا لهم نار جهنم } الآية و قال { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } و سيأتي بيان هذا فأوعد بها الكافرين و خوف الطغاة و المتمردين و العصاة من الموحدين لينجزوا عما نهاهم عنه فقال و قوله الحق : { فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة أعدت للكافرين } و قال { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا } و قال : { ذلك يخوف الله به عباده } و الآي في هذا المعنى كثير و الله تعالى أعلم
باب ما جاء أن النار لما خلقت فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها
ذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن محمد بن المنكدر قال : لما خلقت النار فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها فلما خلق الله آدم سكن ذلك عنهم و ذهب ما كانوا يجدون
و قال ميمون بن مهران : لما خلق الله جهنم أمرها فزفرت زفرة فلم يبق في السموات السبع ملك إلا خر على وجهه فقال لهم الجبار جل جلاله : ارفعوا رؤوسكم أما عملتم أني خلقتكم لطاعتي و عبادتي و خلقت جهنم لأهل معصيتي خلقي فقالوا : ربنا لا نأمنها حتى نرى أهلها فذلك قوله تعالى : { و هم من خشيته مشفقون } فالنار عذاب الله فلا ينبغي لأحد أن يعذب بها و قد جاء النهي عن ذلك فقال : لا تعذبوا بعذاب الله و الله أعلم
باب ما جاء في البكاء عند ذكر النار و الخوف منها
[ ابن وهب عن زيد بن أسلم قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم و معه إسرافيل فسلما على النبي صلى الله عليه و سلم و إذا إسرافيل منكسر الطرف متغير اللون فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا جبريل : ما لي أرى إسرافيل منكس الطرف متغير اللون ؟ قال : لاحت له آنفا حين هبط لمحة من جهنم فلذلك الذي ترى من كسر طرفه ]
ابن المبارك قال : [ أخبرنا محمد بن مطرف عن الثقة : أن فتى من الأنصار دخلته خشية من ذكر النار فكان يبكي عند ذكر النار حتى حبسه ذلك في البيت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فجاءه في البيت فلما دخل النبي صلى الله عليه و سلم اعتنقه الفتى فخر ميتا فقال النبي صلى الله عليه و سلم جهزوا صاحبكم فإن الفرق من النار قد فلذ كبده ]
و روي أن عيسى عليه السلام مر بأربعة آلاف امرأة متغيرات الألوان عليهن مدارع الشعر و الصوف فقال عيسى عليه السلام : [ ما الذي غير ألوانكم معاشر النسوة ؟ قلن : ذكر النار غير ألواننا يا ابن مريم إن من دخل النار لا يذوق فيها بردا و لا شرابا ] ذكره الخرائطي في كتاب القبور
و روي أن سلمان الفارسي لما سمع قوله تعالى { و إن جهنم لموعدهم أجمعين } فر ثلاثة أيام هاربا من الخوف لا يعقل فجيء به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله فقال له يا رسول الله أنزلت هذه الآية قوله عز و جل : { إن جهنم لموعدهم أجمعين } فو الذي بعثك بالحق نبيا لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى { إن المتقين في جنات و عيون } الآية ذكره الثعلبي و غيره
باب ما جاء فيمن سأل الله الجنة و استجار به من النار
الترمذي [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة اللهم أدخله الجنة و من استجار بالله من النار ثلاث مرات قالت النار اللهم أجره من النار ]
و روى البيهقي [ عن أبي سعيد الخدري أو عن ابن حجيرة الأكبر عن أبي هريرة أن أحدهما حدثه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا كان يوم حار ألقى الله سمعه و بصره إلى أهل السماء و أهل الأرض فإذا قال العبد : لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم اللهم أجرني من حر نار جهنم قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي استجار بي منك و إني أشهدك أني أجرته و إذا كان يوم شديد البرد ألقى الله سمعه و بصره إلى أهل السماء و أهل الأرض فإذا قال العبد : لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم اللهم أجرني من زمهرير جهنم : قال الله لجهنم : إن عبدا من عبادي قد استجار بي منك و من زمهريك أشهدك أني قد أجرته ] فقالوا و ما زمهرير جهنم ؟ قال : جب يلقى فيه الكافر فيتميز من شدة بعضه من بعض
باب ما في تقرر من الكتاب و السنة
تقرر من الكتاب و السنة أن الأعمال الصالحة و الإخلاص فيها مع الإيمان موصلة إلى الجنان و مباعدة من النيران و ذلك يكثر أيراده و القطع به مع الموافاة على ذلك يغني عن ذكر ذلك و يكيفك الآن من ذلك ما ثبت في الصحيحين [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا ] خرجه النسائي
[ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا ] و خرجه أبو عيسى الترمذي [ عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه و بين النار خندقا كما بين المشرق و المغرب ] و يروي [ ما بين السماء و الأرض ] قال : هذا حديث غريب من حديث أبي أمامة
و خرج الطبراني سليمان بن أحمد [ حدثنا عمارة بن وثيمة المصري قال : حدثنا أبي وثيمة بن موسى بن الفرات قال : حدثنا إدريس بن يحيى الخولاني عن رجاء بن أبي عطاء عن وهب بن عبد الله المعافري عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أطعم أخاه حتى يشبعه و شقاه من ماء حتى يرويه بعده الله من النار سبع خنادق ما بين كل خندق مسيرة مائة عام ]
و في كتاب أبي داود [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من توضأ فأحسن الوضوء و عاد أخاه المسلم يوعد من جهنم سبعين خريفا ] قلت يا أبا حمزة : و ما الحزيف ؟ قال : العام
و في الصحيحين [ عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من استطاع منكم أن يستتر من النار و لو بشق تمرة فليفعل ] لفظ مسلم
باب ما جاء في جهنم و أنها أدراك و لمن هي
قال الله تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } فالنار دركات سبعة أي طبقات و منازل و إنما قال : أدراك و لم يقل درجات لاستعمال العرب لكل ما تسافل درك و لما تعالى درج فيقول للجنة درج و للنار درك فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار و هي الهاوية لغلظ كفرهم و كثرة غوائلهم و تمكنهم من أذى المؤمنين
ابن وهب قال : حدثني ابن يزيد قال : قال كعب الأحبار : إن في النار لبئرا ما فتحت أبوابها بعد مغلقة ما جاء على جهنم منذ خلقها الله تعالى إلا تستعيذ بالله من شر ما في تلك البئر مخافة إذا فتحت تلك البئر أن يكون فيها من عذاب الله ما لا طاقة لها به و لا صبر لها عليه و هي الدرك الأسفل من النار
و ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن خيثمة عن ابن مسعود في قوله تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قال : توابيت من حديد تصمت عليهم في أسفل النار قال : و أخبرنا إبراهيم بن هارون الغنوي قال : سمعت حطان بن عبد الله الرقاشي يقول : سمعت عليا يقول : هل تدرون كيف أبواب جهنم ؟ قال : هي مثل أبوابنا هذه ؟ قال : لا بل هي هكذا بعضها فوق بعض
و قال العلماء : أعلى الدركات جهنم و هي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى الله عليه و سلم و هي التي تخلو من أهلها فتصفق الرياح أبوابها ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية و قد يقال للدركات : درجات لقوله تعالى : { و لكل درجات مما عملوا }
و وقع في كتب الزاهد و الرقائق أسماء هذه الطبقات و أسماء أهلها من أهل الأديان على ترتيب لم يرد في أثر صحيح
قال الضحاك : في الدرك الأعلى المحمديون و في الثاني النصارى و في الثالث اليهود و في الرابع الصائبون و في الخامس المجوس و في السادس مشركو العرب و في السابع المنافقون
و قال معاذ بن جبل و ذكر العلماء السوء من العلماء : من إذا وعظ عنف و إذا وعظ أنف فذلك في الدرك الأول من النار و من العلماء من يأخذ علمه بأخذ السلطان فذلك في الدرك الثاني من النار و من العلماء من يخزن علمه فذلك في الدرك الثالث من النار و من العلماء من يتخير العلم و الكلام لوجوه الناس و لايرى سفلة الناس له موضعا فلذلك في الدرك الرابع من النار و من العلماء من يتعلم كلام اليهود و النصارى و أحاديثهم ليكثر حديثهم فذلك في الدرك الخامس من النار و من العلماء من ينصب نفسه للفتيا يقول للناس سلوني فذلك الذي يكتب عند الله متكلف و الله لا يحب المتكلفين فذلك في الدرك السادس من النار و من العلماء من يتخذ علمه مروءة و عقلا فذلك في الدرك السابع من النار ذكره غير واحد من العلماء
قلت : و مثله لا يكون رأيا و إنما بدر توقيفا ثم من هذه الأسماء ما هو اسم علم للنار كلها بجملتها نحو جهنم و سقر و لظى و سموم فهذه أعلام ليست لباب دون باب فاعلم ذلك و في التنزيل { و وقانا عذاب السموم } يريد النار بجملتها كما ذكرنا أجارنا الله منها بمنه و كرمه آمين
باب ما جاء أن جهنم تسعر كل يوم و تفتح أبوابها إلا يوم الجمعة
أبو نعيم قال : [ حدثنا سليمان بن أحمد قال : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري قال : حدثنا علي بن بحر قال : حدثنا سوار بن عبد العزيز عن النعمان ابن المنذر عن مكحول عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن جهنم تسعر في كل يوم و تفتح أبوابها إلا يوم الجمعة فإنها لا تسعر يوم الجمعة و لا تفتح أبوابها ] غريب من حديث عبد الله و مكحول لم نكتبه إلا من حديث النعمان
قال المؤلف رحمه الله : و لهذا المعنى كانت النافلة جائزة في يوم الجمعة عند قائم الظهيرة دون غيرها من الأيام و الله أعلم

باب ما جاء في قول الله تعالى لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم
قال الله تعالى في محكم كتابه { لها سبعة أبواب } و قال { حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها }
[ و عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي أو قال على أمة محمد ] خرجه الإمامان الحافظان الترمذيان أبو عبد الله و أبو عيسى و قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول
قلت : مالك بن مغول أبو عبد الله البجلي الكوفي إمام ثقة خرج له البخاري و مسلم و الأئمة
قال أبي بن كعب : [ لجهنم سبعة أبواب أشدهما غما و كربا و حرا و أنتنها ريحا للزناة الذين ارتكبوا بعد العلم ]
و روى سلام الطويل [ عن أبي سفيان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم في قول الله تعالى : { لها سبعة أبواب } الآية : جزء أشركوا بالله و جزء شكوا في الله و جزء أغفلوا عن الله و جزء آثروا شهواتهم على الله و جزء شفوا غيظهم بغضب الله و جزء صيروا رغبتهم بحظهم عن الله و جزء عتوا على الله ] ذكره الحليمي أبو عبد الله الحسن بن الحسين في كتاب منهاج الدين له و قال : فإن كان ثابتا فالمشركون بالله هم الثنوية و الشاكون هم الذين لا يدرون أن لهم إلها أو لا إله لهم أو يشكون في شريعته أنها من عنده أولا و الغافلون عن الله هم الذين يجحدونه أصلا ولا يثبتونه و هم الدهرية و المؤثرون شهواتهم على الله هم المنهمكون في المعاصي لتكذيبهم رسل الله و أمره و نهيه و الشافون غيظهم بغضب الله تعالى هم القائلون أنبياء الله و سائر الداعين له المعذبون ينصح لهم أو يذهب غير مذهبهم و المصيرون رغبتهم بحظهم من الله تعالى هم المنكرون للبعث و الحساب منهم يعبدون أي شيء يرغبون فيه لهم جميع حظهم من الله تعالى و العاتون على الله هم الذين لا يبالون بأن يكون ما هم فيه حقا أو باطلا فلا يتفكرون و لا يعتبرون و لا يستدلون و الله أعلم بما أراد رسوله صلى الله عليه و سلم إن كان الحديث ثابتا
[ و قال بلال كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي في مسجد المدينة وحده فمرت به أعرابية فصلت خلفه و لم يعلم بها فقرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } فخرت الأعرابية مغشيا عليها و سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم وجبتها فانصرف و دعا بماء فصب على وجهها حتى أفاقت و جلست فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا هذه ما لك ؟ فقالت : هذا شيء من كتاب الله أو شيء من تلقاء نفسك ؟ فقال يا أعرابية : بل هو من كتاب الله المنزل فقالت كل عضو من أعضائي يعذب على باب منها ؟ قال يا أعرابية بل لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب أهل كل باب على قدر أعمالهم فقالت : و الله إني إمرأة مسكينة لا مال لي و لا لي إلا سبعة أعبد أشهدك يا رسول الله أن كل عبد منهم على باب من أبواب جهنم حر لوجه الله تعالى فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا رسول الله : بشر الأعرابية أن الله قد قد غفرها لها و حرم عليها أبواب جهنم و فتح لها أبواب الجنة كلها ] و الله أعلم

باب منه و في بعد أبواب جهنم بعضها عن بعض و ما أعد الله تعالى فيها من
العذاب
ذكر عن بعض أهل العلم في قول الله تعالى : { لكل باب منهم جزء مقسوم } قال : من الكفار و المنافقين و الشياطين و بين الباب و الباب خمسمائة عام
فالباب الأول : يسمى جهنم لأنه يتجهم في وجوه الرجال و النساء فيأكل لحومهم و هو أهون عذابا من غيره
و الباب الثاني : يقال له لظى نزاعة للشوى يقول أكله اليدان و الرجلان تدعو من أدبر عن التوحيد و تولى عما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم
و الباب الثالث : يقال له سقر و إنما سمي سقر لأنه يأكل اللحم دون العظم
الباب الرابع : يقال لها الحطمة فقال قال الله تعالى : { و ما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة } تحطم العظام و تحرق الأفئدة قال الله تعالى : { التي تطلع على الأفئدة } تأخذه النار من قدميه و تطلع على فؤاده و ترمي بشرر كالقصر كما قال تعالى : { إنها ترمي بشرر كالقصر * كأنه جمالة صفر } الآية يعني سودا فتطلع الشرر إلى السماء ثم تنزل فتحرق وجوههم و أيديهم و أبدانهم فيبكون الدمع حتى ينفد ثم يبكون الدماء ثم يبكون القيح حتى ينفد القيح حتى لو أن السفن أرسلت تجري فيما خرج من أعينهم لجرت
و الباب الخامس : يقال له الجحيم و إنما سمي جحيما لأنه عظيم الجمرة الجمرة الواحدة أعظم من الدنيا
و الباب السادس : يقال له السعير و إنما سمي السعير لأنه يسعر بهم و لم يطف منذ خلق فيه ثلاثمائة قصر في كل قصر ثلاثمائة بيت في كل بيت ثلاثمائة لون من العذاب و فيه الحيات و العقارب و القيود و السلاسل و الأغلال و فيه جب الحزن ليس في النار عذاب أشد منه إذا فتح باب الجب حزن أهل النار حزنا شديدا
و الباب السابع : يقال له الهاوية من وقع فيه لم يخرج منه أبدا و فيه بئر الهبهاب و ذلك قوله تعالى : { كلما خبت زدناهم سعيرا } إذا فتح الهبهاب يخرج منه نار تستعيذ منه النار و فيه الذين قال الله تعالى : { سأرهقه صعودا } أو هو جبل من نار يوضع أعداء الله على وجوههم على ذلك الجبل مغلولة أيديهم إلى أعناقهم مجموعة أعناقهم إلى أقدامهم و الزبانية وقوف على رؤوسهم بأيديهم مقامع من حديد إذا ضرب أحدهم بالمقمعة ضربة سمع صوتها الثقلان
و أبواب النار : حديد فرشها الشوك غشاوتها الظلمة أرضها نحاس و رصاص و زجاج النار من فوقهم و النار من تحتهم لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل أوقد عليها ألف عام حتى احمرت و ألف عام حتى ابيضت و ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة مدلهمة مظلمة قد مزجت بغضب الله ذكره القتبي في عيون الأخبار
و ذكر ابن عباس أن جهنم سوداء مظلمة لا ضوء لها و لا لهب و هي كما قال الله تعالى { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } على كل باب سبعون ألف جبل في كل جبل سبعون ألف شعب من النار في كل شعب سبعون ألف شق من النار في كل شق سبعون ألف واد في كل واد سبعون ألف قصر من نار في كل قصر سبعون ألف بيت من نار في كل بيت سبعون ألف قلة من سم فإذا كان يوم القيامة كشف عنها الغطاء فيطير منها سرادق عن يمين الناس و آخر عن شمالهم و سرادق أمامهم و سرادق فوقهم و آخر من ورائهم فإذا نظر الثقلان إلى ذلك جثوا على ركبهم و كل ينادي رب سلم رب سلم
و قال وهب بن منبه : بين كل بابين مسيرة سبعين سنة كل باب أشد حرا من الذي فوقه بسبعين ضعفا و يقال إن لجهنم سبعة أبواب لكل باب منها سبعون واديا قعر كل واد منها سبعون عام لكل واد منها سبعون ألف شعب في كل شعب منها سبعون ألف مغارة في جوف كل مغارة سبعون ألف شق في كل شق منها سبعون ألف ثعبان في شدق كل ثعبان سبعون ألف عقرب لكل عقرب منها سبعون ألف فقارة في كل فقارة منها قلة سم لا ينتهي الكافر و لا المنافق حتى يواقع ذلك كله ذكره ابن وهب في كتاب الأهوال له و مثله لا يقال من جهة الرأي فهو توقف لأنه إخبار عن مغيب و الله تعالى أعلم
باب ما جاء في عظم جهنم و أزمتها و كثرة ملائكتها و في عظم خلقها و
تفلتها من أيديهم و في قمع النبي صلى الله عليه و سلم إياها وردها عن أهل الموقف
مسلم [ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ]
و ذكر ابن وهب [ قال : حدثني زيد بن أسلم قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فناجاه فقام النبي صلى الله عليه و سلم منكس الطرف فأرسلوا إلى علي فقالوا : يا أبا الحسن ما بال النبي صلى الله عليه و سلم محزونا منذ خرج جبريل عنه فأتاه علي فوضع يده على عضديه من خلفه و قبل بين كتفيه و قال : ما هذا الذي نراه منك يا رسول الله ؟ فقال : يا أبا الحسن أتاني جبريل فقال لي : { إذا دكت الأرض دكا دكا } الآية و جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام يقوده سبعون ألف ملك فبينما هم كذلك إذ شردت عليهم شردة انفلتت من أيديهم فلولا أنهم أدركوها لأحرقت من في الجمع فأخذوها ]
و ذكر أبو حامد في كتاب كشف علوم الآخرة أنهم يأتون بها تمشي على أربع قوائم و تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك بيد كل واحد حلقة لو جمع حديد الدنيا كله ما عدل منها بحلقة واحدة على كل حلقة سبعون ألف زبني لو أمر زبني منهم أن يدك الجبال لدكها و أن يهد الأرض لهداها و أنها إذا انفلتت من أيديهم لم يقدروا على إمساكها لعظم شأنها فيجثو كل من في الموقف على الركب حتى المرسلون و يتعلق إبراهيم و موسى و عيسى بالعرش هذا قد نسي الذبيح و هذا قد نسي هارون و هذا قد نسي مريم عليهم السلام و كل واحد منهم يقول : نفسي نفسي لا أسألك اليوم غيرها قال : و هو الأصح عندي صلى الله عليه و سلم يقول [ أمتي أمتي سلمها يا رب و نجها يا رب ] و ليس في الموقف من تحمله ركبتاه و هو قوله تعالى : { و ترى كل أمة جاثية } الآية و عند تفلتها تكبو من الغيظ و الحنق و هو قوله تعالى : { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا و زفيرا } أي تعظيما لغيظها و حنقها يقول الله تعالى : { تكاد تميز من الغيظ } أي تكاد تنشق نصفين من شدة غيظها فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم بأمر الله تعالى و يأخذ بخطامها و يقول [ ارجعي مدحورة إلى خلقك حتى يأتيك أهلك أفواجا ] فتقول : خلي سبيلي فإنك يا محمد حرام علي فينادي مناد من سرادقات العرش اسمعي منه و أطيعي له ثم تجذب و تجعل عن شمال العرش و يتحدث أهل الموقف بجذبها فيخف وجلهم و هو قوله تعالى : { و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } و هناك تنصب الموازين على ما تقدم
فصل : هذا يبين لك ما قلناه أن جهنم اسم علم لجميع النار و معنى : يؤتى بها يجاء بها من المحل الذي خلقها الله تعالى فيه فتدار بأرض المحشر حتى لا يبقى للجنة طريق إلا الصراط كما تقدم و الزمام ما يزم به الشيء أي يشد و يربط به و هذه الأزمة التي تساق بها جهنم تمنع من خروجها على أرض المحشر فلا يخرج منها إلا الأعناق التي أمرت بأخذ من شاء الله بأخذه على ما تقدم و يأتي و ملائكتها كما وصفهم الله غلاظ شداد
و قد ذكر ابن وهب [ حدثنا عبد الرحمن بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في خرنة جهنم : ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق و المغرب ]
و قال ابن عباس : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة و قوة الواحد منهم أن يضرب بالمقمعة فيدفع بتلك الضربة بسعين ألف إنسان في قعر جهنم
و أما قوله تعالى : { عليها تسعة عشر } فالمراد رؤساؤهم على ما يأتي و أما جملتهم فالعبارة عنهم كما قال الله تعالى : { و ما يعلم جنود ربك إلا هو }
فصل : قال العلماء : إنما خص النبي بردها و قمعها و كفها عن أهل المحشر دون غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم لأنه رآها في مسراه و عرضت عليه في صلاته حسب ما ثبت في الصحيح قال و في ذلك فوائد ثمان :
الأولى : أن الكفار لما كانوا يستهزئون به و يكذبونه في قوله و يؤذونه أشد الأذى أراه الله تعالى النار التي أعدها للمستخفين به و بأمره تطييبا لقلبه و تسكينا لفؤاده
الثانية : الإشارة في ذلك إلى أن من طيب قلبه في شأن أعدائه بالإهانة و الانتقام فالأولى أن يطيب قلبه في شأن أوليائه و أحبابه بالتحية و الشفاعة و الإكرام
الفائدة الثالثة : و يحتمل أن عرضها عليه ليعلم منة الله تعالى حين أنقذهم منها ببركته و شفاعته
الفائدة الرابعة : و يحتمل أنه عرضها عليه ليكون في القيامة إذا قال سائر الأنبياء نفسي نفسي يقول نبينا محمد صلى الله عليه و سلم أمتي أمتي و ذلك حين تسجر جهنم و لذلك أمر الله عز و جل محمدا صلى الله عليه و سلم فقال جل من قائل : { يوم لا يخزي الله النبي } الآية
قال الحافظ أبو الخطاب : و الحكمة في ذلك أن يفرغ إلى شفاعة أمته و لو لم يؤمنه لكان مشغولا بنفسه كغيره من الأنبياء
الفائدة الخامسة : أن سائر الأنبياء لم يروا قبل يوم القيامة شيئا منها فإذا رأوها جزعوا و كفت ألسنتهم عن الخطيئة و الشفاعة من هولها و شغلهم أنفسهم عن أممهم و أما نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فقد رأى جميع ذلك فلا يفزع منه مثل ما فزغوا ليقدر على الخطبة و هو المقام المحمود الذي وعده به ربه تبارك و تعالى في القرآن المجيد و ثبت في صحيح السنة
الفائدة السادسة : فيه دليل فقهي على أن الجنة و النار قد خلقتا خلافا للمعتزلة المنكرين لخلقها و هو يجزي على ظاهر القرآن في قوله تعالى : { أعدت للمتقين } { أعدت للكافرين } و الاعداد دليل الخلق و الإيجاد
الفائدة السابعة : و يحتمل أنه أراه إياها ليعلم خسة الدنيا في جنب ما أراه فيكون في الدنيا أزهد و على شدائدها أصبر حتى يؤديه إلى الجنة فقد قيل : حبذا محنة تؤدي بصاحبها إلى الرخاء و بؤسا لنعمة تردي بصاحبها إلى البلاء
الفائدة الثامنة : و يحتمل أن الله تعالى أراد ألا يكون لأحد كرامة إلا يكون لمحمد صلى الله عليه و سلم مثلها و لما كان لإدريس عليه السلام كرامة الدخول إلى الجنة قبل يوم القيامة أراد الله تعالى أن يكون ذلك لصفه و نجيه و حبيبه و أمينه على وحيه محمد صلى الله عليه و سلم و كرم و عظم و بجل و وقر قال ذلك جميعه الحافظ بن دحية رضي الله عنه في كتاب الابتهاج في أحاديث المعراج
باب منه و في كلام جهنم و ذكر أزواجها و أنه لا يجوزها إلا من عنده جواز
روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : نزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم يتلو هذه الآية { يوم تبدل الأرض غير الأرض } الآية قال النبي صلى الله عليه و سلم : أين يكون الناس يوم القيامة يا جبريل ؟ قال يا محمد : يكونون على أرض بيضاء لم يعمل عليها خطيئة قط { و تكون الجبال كالعهن المنفوش } قال : الصوف تذوب الجبال من مخافة جهنم يا محمد : إنه ليجاء بجهنم يوم القيامة تزف زفا عليها سبعون زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك حتى تقف بين يدي الله تعالى فيقول لها : يا جهنم تكلمي فتقول : لا إله إلا الله و عز تك و عظمتك لأنتقمن اليوم ممن أكل رزقك و عبد غيرك لا يجوزني إلا من عنده جواز فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يا جبريل ما الجواز يوم القيامة ؟ قال أبشر و بشر ألا من شهد أن لا إله إلا الله جاز جسر جهنم قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الحمد لله الذي جعل أمتي أهل لا إله إلا الله ]
و خرج الحافظ أبو محمد عبد الغني الحافظ [ من حديث سليمان بن عمرو يتيم أبي سعيد الخدري عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إذا جمع الخلائق في صعيد يوم القيامة أقلبت النار يركب بعضها بعضا و خزنتها يكفونها و هي تقول : و عزة ربي لتخلين بيني و بين أزواجي أو لأغشين الناس عنقا واحدا فيقولون من أزواجك ؟ فتقول كل متكبر جبار ]
باب ما جاء أن التسعة عشر خزنة جهنم
قال الله تعالى : { عليها تسعة عشر }
ابن المبارك قال : أخبرنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن رجل من بني تميم قال : كنا عند أبي العوام فقرأ هذه الآية { و ما أدراك ما سقر } الآية { عليها تسعة عشر } فقال : ما تسعة عشر ؟ قال : تسعة عشر ألف ملك قال : أو تسعة عشر ملكا قلت : لا بل تسعة عشر ملكا قال : و أنى تعلم ذلك ؟ فقلت : لقول الله عز و جل : { و ما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } قال : صدقت هم تسعة عشر ملكا بيد كل ملك منهم مرزبة لها شعبتان فيضرب الضرب فيهوي بها سبعين ألف خريف
و خرج الترمذي [ عن جابر بن عبد الله قال : قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم هل يعلم نبيكم عدة خزنة جهنم ؟ قالوا : لا ندري حتى نسأله فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم فقال : و بماذا غلبوا ؟ قال : سألهم اليهود هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ قال : فماذا قالوا ؟ قال : قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا قال : لا يغلب قوم سألوا عما لا يعلمون فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا لكنهم سألوا نبيهم فقال أرنا الله جهرة علي بأعداء الله إني سائلهم عن تربة الجنة و هي الدرمك فلما جاءوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم ؟ قال : هكذا و هكذا في مرة عشرة و في مرة تسعة قالوا : نعم قال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : ما تربة الجنة ؟ قال : فسكتوا ثم قالوا : خبزة يا أبا القاسم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الخبز من الدرمك ] قال أبو عيسى : هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث خالد عن الشعبي عن جابر

باب ما جاء في سعة جهنم و عظم سرادقها و بيان قوله تعالى و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين
قال الله تعالى : { إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها }
ابن المبارك قال : [ أخبرنا عنبسة بن سعيد عن حبيب بن أبي عميرة عن مجاهد قال : قال ابن عباس : أتدري ما سعة جهنم ؟ قال : قلت : لا
قال : أجل و الله ما تدري أن بين شحمة أذن أحدهم و بين عاتقه مسيرة سبعين خريفا تجري منها أودية القيح و الدم قلت : لها أنهارا ؟ قال : لا بل أودية ثم قال : أتدري ما سعة جسر جهنم ؟ قلت : لا قال : قلت : أجل حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : { و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة } قلت : فأين الناس يومئذ ؟ قال : على جسر جهنم ] خرجه الترمذي و صححه و قد تقدم
و [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم : لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة ] ذكره ابن المبارك و خرجه الترمذي أيضا و سيأتي
و ذكر ابن المبارك قال : حدثنا محمد بن بشار عن قتادة { و إذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين } قال ذكر لنا أن عبد الله كان يقول : إن جهنم لتضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح و ذكره الثعلبي و القشيري عن ابن عباس

باب ما جاء أن جهنم في الأرض و أن البحر طبقها
[ روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا يركب البحر إلا رجل غاز أو حاج أو معتمر فإن تحت البحر نارا ] ذكره أبو عمر و ضعفه و قال : عبد الله بن عمر [ يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم ] ذكره أبو عمر أيضا و ضعفه
و في تفسير سورة ق عن وهب بن منبه قال : أشرف ذو القرنين على جبل [ ق ] فرأى تحت جبالا صغارا فقال له أنت ؟ قال : أنا قاف قال : فما هذه الجبال حولك ؟ قال هي عروقي و ما من مدينة إلا و فيها عرق من عروقي فإذا أراد الله أن يزلزل تلال الأرض أمرني فحركت عرقي ذلك فتزلزلت تلك الأرض فقال له : يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله قال : إن شأن ربنا لعظيم تقصر دونه الأوهام قال : بأدنى ما يوصف منها قال : إن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بضعها بعضا لولا هي لاحترقت من حر جهنم و ذكر الخبر
قال الشيخ المؤلف رحمه الله : و هذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض و الله أعلم بموضعها و أين هي من الأرض

باب ما جاء في قوله تعالى و إذا البحار سجرت و ما جاء أن الشمس و القمر يقذفان في النار
قال ابن عباس في قوله تعالى : { و إذا البحار سجرت } قال : أوقدت فصارت نارا و ذكر ابن وهب عن عطاء بن يسار أنه تلا هذه الآية { و جمع الشمس و القمر } قال : يجمعان يوم القيامة ثم يقذفان في النار فتكون نار الله الكبرى
و خرج أبو داود الطيالسي في مسنده [ عن يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم إن الشمس و القمر ثوران عقيران في النار ]
و روي عن كعب الأحبار أنه قال : يجاء بالشمس و القمر كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في النار
فصل : قلت : كذا الرواية ثوران بالثاء المثلثة و إنما يجمعان في جهنم لأنهما قد عبدا من دون الله و لا تكون النار عذبا لهما لأنهما جماد و إنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين و حسرتهم هكذا قال بعض أهل العلم
و قال ابن قسي صاحب خلع النعلين : اعلم أن الشمس و القمر ثوران مكوران في نار جهنم على شبه هذا التكوير فنهار سعير و ليل زمهرير و الدار دار قائمة لا فرق بينها و بين هذين في حركة التسيار و التدوار و مدار فلكي الليل و النهار إلى أن تلك خالية من رحمة الله و مع هذه رحمة واحدة من رحمة الله و عن الشمس و القمر يكون سواد الدار و لهيب ظاهر النار و هما من أشد الغضب لله تعالى بما عايناه من عصيان العاصين و فسق الفاسقين إذ لا يكاد يغيب عنهما أين و لا تخفى عنها خائنة عين فإنه لا يبصر أحد إلا بنورهما و لا يدرك إلا بضوءيهما و لو كانا خلف حجاب من الغيب الليلي أو وراء ستر من الغيم اليومي فإن الضوء الباقي على البسيطة في ظل الأرض ضوؤهما و النور نورهما و مع ما هما عليه من الغضب لله فإنه لمك يشتد غضبهما إلا من حيث نزع لجام الرحمة عنهما و قبض ضياء اللين و الرأفة منهما و كذلك عن كل ظاهر من الحياة الدنيا في قبض الرحمة المستردة من هذه الدار إلى دار الحيوان و الأنوار
قال صلى الله عليه و سلم [ إن لله مائة رحمة نزل منها واحدة إلى الأرض فبها تتعاطف البهائم و يتراحم الخلق و تتواصل الأرحام فإذا كان يوم القيامة قبض الله هذه الرحمة وردها إلى التسعة و التسعين و أكملها مائة كما كانت ثم جعل المائة كلها رحمة المؤمنين و خلت دار العذاب و من فيها من الفاسقين من رحمة رب العالمين فبزوال هذه الرحمة زال ما كان فيه القمر من رطوبة و أنوار و لم يبق إلا ظلمة و زمهرير و بزوالها زال ما كان بالشمس من وضح و إشراق و لم يبق إلا فرط سواد و احتراق و بما كانا به قبل من الصفة الرحمانية كان إمهالها للعاصين و إبقاؤهما على القوم الفاسقين و هي زمام الإمساك و لجام المنع عن التدمير و الإهلاك و هي سنة الله تعالى في الإبقاء إلى الوقات و الإمهال إلى الآجال إلا أن يشاء غير ذلك فلا راد لأمره و لا معقب لحكمه لا إله إلا هو سبحانه ]
قال المؤلف رحمه الله : و قد روى عكرمة عن ابن عباس تكذيب كعب الأحبار في قوله و قال : هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام و الله أكرم و أجل من أن يعذب على طاعته ألم تر إلى قوله تعالى : { و سخر لكم الشمس و القمر دائبين } يعني دؤوبهما في طاعته فكيف يعذب عبدين أثنى الله عليهما أنهما دائبان في خدمته و طاعته ثم حدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله تعالى لما أبرم خلقه إحكاما و لم يبق غير آدم خلق شمسا و قمرا من نور عرشه ] الحديث و في آخره فإذا قامت الساعة و قضى الله في أهل الدارين و ميز أهل الجنة و النار و لم يدخلوها بعد أن يدعو الله بالشمس و القمر يجاء بهما أسودين مكورين قد وقفا في الزلازل لأن فرائصهما ترعد من أهوال ذلك اليوم من مخافة الرحمن تبارك و تعالى فإذا كانا حيال العرش خرا ساجدين لله تعالى فيقولان : إلهنا قد علمت طاعتنا لك و دؤوبنا في طاعتك و سرعتنا للمضي في أمرك في أيام الدنيا فلا تعذبنا بعبادة المشركين إيانا فيقول الله تعالى : صدقتما إني قد قضيت على نفسي أني أبدي و أعيد إني معيدكم إلى ما بدأتكما منه فارجعا إلى ما خلقتكما منه فيقولان : ربنا مم خلقتنا ؟ فيقول خلقتكما من نور عرشي فارجعا إليه فيلتمع من كل واحد منهما برقة تكاد تخطف الأبصار نورا فيختلطان بنور العرش فذلك قوله تعالى { إنه هو يبدئ ويعيد } ذكره الثعلبي في كتاب العرائس له و الله أعلم

باب ما جاء في صفة جهنم و حرها و شدة عذابها
الترمذي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ] قال أبو عيسى و حديث أبي هريرة في هذا الباب موقوف أصح و لا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن أبي بكير عن أبي شريك
ابن المبارك عن أبي هريرة قال : إن النار أوقدت ألف سنة فابيضت ثم أوقدت ألف سنة فاحمرت ثم أقوقدت ألف سنة فاسودت فهي مظلمة كسواد الليل
مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال ترونها كناركم لهي أشد سوادا من القار و القار : هو الزفت
ابن المبارك قال : أخبرنا سفيان عن سليمان عن أبي ظبيان عن سلمان قال : النار سوداء لا يضيء لهبها و لا جمرها ثم قرأ { كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها }
مالك و [ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أصح ناركم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم قالوا يا رسول الله : و إن كانت لكافية قال : فإنها فضلت بتسعة و ستين جزءا ] أخرجه مسلم و زاد : كلها مثل حرها
ابن ماجه [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم و لولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما كان لأحد فيها منفعة ]
و في خبر آخر عن ابن عباس و هذه النار قد ضربت بماء البحر سبع مرات و لولا ذلك ما انتفع بها ذكره أبو عمر رحمه الله و قال عبد الله بن مسعود : ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم و لولا أنه ضرب بها البحر عشر مرات ما انتفعتم منها بشيء ]
و سئل ابن عباس عن نار الدنيا مم خلقت ؟ قال : من نار جهنم غير أنها أطفئت بالماء سبعين مرة و لولا ذلك ما قربت لأنها من نار جهنم
مسلم [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يؤتى بأنعم أهل الدنيا يوم القيامة من أهل النار فيصبغ في النار صبغة ثم يقال : يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا و الله يا رب و يؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له : هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا و الله يا رب ما مر بي بؤس قط و لا رأيت شدة قط ]
أخرجه ابن ماجه أيضا [ من حديث محمد بن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من الكفار فيقول : اغمسوه في النار غمسة فيغمس فيها ثم يخرج فيقال له : أي فلان هل أصابك نعيم قط ؟ فيقول : لا ما أصابني نعيم قط و يؤتى بأشد المؤمنين ضرا و بلاء فيقال : اغمسوه في الجنة فيغمس غمسة ثم يخرج فيقال له : أي فلان هل أصابك ضر قط أو بلاء ؟ فيقول ما أصابني ضر قط و لا بلاء ]
[ و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أن جهنميا من أهل جهنم أخرج كفه إلى أهل الدنيا حتى يبصروها لأحرقت الدنيا من حرها و لو أن خازنا من خزنة جهنم أخرج إلى أهل الدنيا حتى يبصروه لمات أهل الدنيا حين يبصرونه من غضب الله تعالى ]
و قال كعب الأحبار : و الذي نفس كعب بيده لو كنت بالمشرق و النار بالمغرب ثم كشف عنها لخرج دماغك من منخريك من شدة حرها يا قوم هل لكم بهذا قرار ؟ أم لكم على هذا صبر ؟ يا قوم طاعة الله أهون عليكم من هذا العذاب فأطيعوه
و خرج البزار في مسنده [ عن أبي هريرة قال في مسنده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون ثم تنفس رجل من أهل النار لأحرقهم ]
فصل : قوله : ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزء من نار جهنم يعني أنه لو جمع كل ما في الوجود من النار التي يوقدها ابن آدم لكانت جزءا من جزءا من أجزاء جهنم المذكور : بيانه أنه لو جمع حطب الدنيا فأوقد كله حتى صار نارا لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم الذي هو من سبعين جزءا أشد من حر نار الدنيا كما بينه في آخر الحديث
و قوله : و إن كانت لكافية إن هنا مخففة من الثقيلة عن البصريين نظيره { و إن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } أي إنها كانت كافية فأجابهم النبي صلى الله عليه و سلم : [ بأنها كما فضلت عليها في المقدار و العدد بتسعة و ستين فضلت عليها أيضا في شدة الحر بتسعة و ستين ضعفا ]
باب منه و ما جاء في شكوى النار و كلامها و بعد قعرها و أهوالها و في قدر
الحجر الذي يرمى به فيها
روى الأئمة [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فجعل لها نفسين : نفس في الشتاء و نفس في الصيف بأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها و أشد ما تجدون من الحر من سمومها ] أخرجها البخاري و مسلم
و [ عن أبي هريرة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ سمع وجبة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتدرون ما هذا ؟ قلنا : الله و رسوله أعلم قال : هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار إلى الآن حتى انتهى إلى قعرها ] أخرجه مسلم
الوجبة : الهدة و هي صعت وقع الشيء الثقيل
الترمذي [ عن الحسن قال : قال عتبة بن غزوان على منبرنا هذا يعني منبر البصرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعين عاما و ما تفضي إلى قرارها ] قال : فكان ابن عمر يقول : أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد و إن قعرها بعيد و إن مقاقمها حديد قال أبو عيسى : لا نعرف للحسن سماعا من عتبة بن غزوان و إنما قدم عتبة بن غزوان البصرة في زمن عمرو ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر
ابن المبارك قال : [ أخبرنا يونس بن يزيد الزهري قال : بلغنا أن معاذ بن جبل كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و الذي نفس محمد بيده إن ما بين شفة النار و قعرها لصخرة زنة سبع خلفات بشحومهن و لحومهن و أولادهن تهوي من شفة النار قبل أن تبلغ قعرها سبعين خريفا ]
حدثنا هشام بن بشير قال : أخبرني زفر حدثنا ابن مريم الخزاعي قال : سمعت أبا أمامة يقول : إن ما بين شفير جهنم و قعرها مسيرة سبعين خريفا من حجر يهوي أو قال : صخرة تهوي عظمها كعشر عشراء عظام سلمان فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد : هل تحت ذلك من شيء يا أبا أمامة ؟ قال : نعم غي و آثام
مسلم عن خالد بن عمير العدوي قال : خطبنا عتبة بن غزوان و كان أميرا على البصرة فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الدنيا قد أذنت بصرم و ولت جدا و لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصلبها صاحبها و إنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه ذكر لنا أن الحجر ليلقى من شفير جهنم فيهوى فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا و الله لتملأن الحديث و سيأتي بتمامه في أبواب الجنة إن شاء الله تعالى
و قال كعب : [ لو فتح من نار جهنم قدر منخر ثور بالمشرق و رجل بالمغرب لغلى دماغه حتى يسيل من حرها و إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا خر جاثيا على ركبتيه و يقول : نفسي نفسي ]
فصل : قوله : [ اشتكت النار شكواها إلى ربها بأن أكل بعضها بعضا ] محمول على الحقيقة لا على المجاز إذ لا إحالة في ذلك و ليس من شرط الكلام عند أهل السنة في القيام بالجسم إلا الحياة و أما البنية و اللسان و البلة فليس من شرطه وليس يحتاج في الشكوى إلى أكثر من وجود الكلام و أما الاحتجاج في قوله عليه السلام : [ احتجت النار و الجنة ] فلا بد فيه من العلم و التفطن للحجة و قيل : إن ذلك مجاز عبر عنه بلسان الحال كما قال عنترة :
( فازور من وقع القنا بلبانه ... و شكا إلي بغبرة و تجمحم )
و قال آخر :
( شكا إلي جملي طول السرى ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى )
و الأول أصح إذ لا استحالة في ذلك و قد قال تعالى و هو أصدق القائلين { إن الحكم إلا لله يقص الحق } الآية و قد تقدم من كلامها : لا إله إلا الله و عزتك و جلالك و قال { كلا إنها لظى * نزاعة للشوى } الآية أي أدبر عن الإيمان و تولى أي أعرض عن أتباع الحق و جمع يعني المال فأوعى أي جعله في الوعاء أي كنزه و لم ينفقه في طاعة الله تعالى قال ابن عباس : تدعو المنافق و الكافر بلسان فصيح ثم تلتقطهم كما يلتقط الطائر الحب
قلت : قول ابن عباس هذا قد جاء معناه مرفوعا و هو يدل على أن المراد بالشكوى و الحجة الحقيقية
[ ذكر رزين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من كذب علي معتمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا قيل يا رسول الله : و لها عينان ؟ قال : أما سمعتم الله يقول { إذا رأتهم من مكان بعيد } الآية يخرج عنق من النار له عينان يبصران و لسان فيقول : وكلت بمن جعل مع الله إلها آخر فلو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه ] و في رواية أخرى [ فيخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم ] صححه أبو محمد بن العربي في قبسه و قال : [ يفصله عن الخلق بالمعرفة كما يفصل الخلق بالمعرفة كما يفصل الطائر حب السمسم من التربة ]
و خرج الترمذي [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران و لسان ينطق يقول : إني وكلت بثلاث : بكل جبار عنيد و يكل ما دعا مع الله إلها آخر و بالمصورين ] و في الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى : هذا حديث غريب صحيح
و ذكر ابن وهب قال : حدثني العلاف بن خالد في قول الله تعالى : { و جيء يومئذ بجهنم } قال : يؤتى بجهنم يوم القيامة يأكل بعضها بعضا يقودها سبعون ألف ملك فإذا رأت الناس و ذلك قوله تعالى : { إذا رأتهم من مكان بعيد } الآية فإذا رأتهم زفرت زفرة فلا يبقى نبي و لا صديق إلا برك لركبتيه يقول : يا رب نفسي نفسي و يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمتي أمتي وكان بعض الوعاظ يقول : أيها المجترىء على النار ألك طاقة بسطوة الجبار و مالك خازن و مالك إذا غضب على النار و زجرها زجرة كادت تأكل بعضها بعضا
باب ما جاء في مقامع أهل النار و سلاسلهم و أغلالهم و أنكالهم
قال الله تعالى : { و لهم مقامع من حديد } و قال : { إذ الأغلال في أعناقهم و السلاسل يسحبون * في الحميم } و قال : { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا } و قال { إن لدينا أنكالا و جحيما } الآية و روي عن الحسن أنه قال : ما في جهنم واد و لا مغار و لا غل و لا سلسلة و لا قيد إلا و اسم صاحبها مكتوب عليه و روي عن ابن مسعود و سيأتي
الترمذي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أن رضاضة مثل هذه ـ و أشار إلى مثل الجمجمة ـ أرسلت من السماء إلى الأرض و هي مسيرة خمسمائة عام لبلغت الأرض قبل الليل و لو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل و النهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها ] قال هذا حديث إسناده صحيح
و في الخبر : إن شاء الله تعالى ينشئ لأهل النار سحابة فإذا رأوها ذكروا سحاب الدنيا فتناديهم : يا أهل النار ما تشتهون ؟ فيقولون : نشتهي الماء البارد فتمطرهم أغلالا تزاد في أغلالهم و سلاسل تزاد في سلاسلهم و قال محمد بن المنكدر لو جمع حديد الدنيا كله ما خلى منها و ما بقي ما عدل حلقة من حلق السلسلة التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا } الآية ذكره أبو نعيم
و قال ابن المبارك : أخبرنا سفيان عن بشير بن دعلوق أنه سمع نوفا يقول في قوله تعالى { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه } قال : كل ذراع سبعون باعا كل باع أبعد ما بينك و بين مكة و هو يومئذ في مسجد الكوفة
أخبرنا بكار بن عبد الله أنه سمع ابن أبي مليكة يحدث عن أبي بن كعب قال : إن حلقة من السلسلة التي قال الله { ذرعها سبعون ذراعا } إن حلقة منها مثل جميع حديد الدنيا
سمعت سفيان يقول في قوله { فاسلكوه } قال : بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه و قال ابن زيد و يقال : ما يأتي يوم القيامة على أهل النار إلا و رحمة من الله تطلع طائفة منهم فيخرجون و يقال : إن الحلقة من غل أهل جهنم لو ألقيت على أعظم جبل في الدنيا لهدته
و روي عن طاووس أن الله تعالى خلق ملكا و خلق له أصابع على عدد أهل النار فما من أهل النار معذب إلا و ملك يعذب بإصبع من أصابعه و لو وضع الملك أصبعا من أصابعه على السماء لأذابها ذكره القتبي في كتاب عيون الأخبار له
باب منه و ما جاء في كيفية دخول أهل النار النار
ذكر ابن وهب قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد قال : تلقاهم جهنم يوم القيامة بشرر كالنجوم فيولون هاربين فيقول الجبار تبارك و تعالى : ردوهم عليها فيردونهم فذلك قوله تعالى : { يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم } أي مانع يمنعكم و يلقاهم وهجها قبلأن يدخلوها عميا مغلولين أيديهم و أرجلهم و رقابهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ خزنة جهنم ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق و المغرب ]
قال ابن زيد : و لهم مقامع من حديد يقمعون بها هؤلاء فإذا قال خذوه فيأخذونه كذا و كذا ألف ملك فلايضعون أيديهم على شيء من عظامه إلا صار تحت أيديهم رفاتا العظام و اللحم يصير رفاتا قال : فتجمع أيديهم و أرجلهم و رقابهم في الأغلال فيلقون في النار مصفودين فليس لهم شيء يتقون به إلا الوجوه فهم عمي قد ذهبت أبصارهم ثم قرأ { أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة } الآية فإذا ألقوا فيها يكادون يبلغون قعرها يلقاهم لهبها فيردهم إلى أعلاها حتى إذا كادوا يخرجون تلقتهم الملائكة بمقامع من حديد فيضربونهم بها فجاء أمر غلب اللهب فهووا كما أسفل السافلين هكذا دأبهم و قرأ { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } فهم كما قال الله تعالى { عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية }
و الأنكال : القيود عن الحسن و مجاهد واحدها نكل و سميت القيود أنكالا لأنه ينكل بها أي يمنع قال الهروي و الأصفاد : هي الأغلال و يقال : القيود أعاذنا الله منها بمنه و كرمه
باب منه في رفع لهب النار أهل النار حتى يشرفوا على أهل الجنة
يروى أن لهب النار يرفع أهل النار حتى يطير كما يطير الشرر فإذا رفعهم أشرفوا علىأهل الجنة وبينهم حجاب فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } الآية و ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة حين يروا الأنهار تطرد بينهم { أن أفيضوا علينا من الماء } الآية فتردهم ملائكة العذاب بمقامع الحديد إلى قعر النار
قال بعض المفسرين : هو معنى قول الله تعالى : { لما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } ذكره أبو محمد عبد الحق في كتاب العاقبة له قال : و لعلك تقول : كيف يرى أهل الجنة أهل النار و أهل النار أهل الجنة ؟ و كيف يسمع بعضهم كلام بعض و بينهم ما بينهم من المسافة و غلظ الحجاب ؟ فيقال لك : لا تقل هذا فإن الله تعالى يقوي أسماعهم و أبصارهم حتى يرى بعضهم بعضا و يسمع بعضهم كلام بعض و هذا قريب في القدرة
باب ما جاء أن في جهنم جبالا و خنادق و أودية و بحارا و صهاريج و آبار و
جبابا و تنانير و سجونا و بيوتا و جسورا و قصورا و أرحاء و نواعير و حيات أجارنا الله منها و في وعيد من شرب الخمر و المسكر و غيره
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : الصعود جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا و يهوي فيه كذلك أبدا ] قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة
و قد تقدم [ من حديث أنس : أن من مات سكران فإنه يبعث يوم القيامة سكران إلى خندق في وسط جهنم يسمى السكران ] و اختلف العلماء في تأويل قوله تعالى { فويل } فذكر ابن المبارك [ أخبرنا رشدين ابن سعد عن عمر بن الحارث أنه حدثه عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ويل : واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ]
و الصعود : جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك قال : و أخبرنا سعيد بن أبي أيوب عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال : الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر لو سيرت فيه الجبال لماعت من حره قال : و أخبرنا سفيان عن زياد بن فياض عن أبي عياض أنه قال : الويل : مسيل في أصل جهنم
و ذكر ابن عطية في تفسيره عن أن الويل صهريج في جهنم من صديد أهل النار قال : و حكى الزهراوي عن آخرين : أنه باب من أبواب جهنم
و قال أبو سعيد الخدري : إنه واد بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا ذكره ابن عطية و قد تقدم رفعه
و خرجه الترمذي أيضا مرفوعا [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الويل : واد في وسط جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ] قال أبو عيسى : هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث ابن لهيعة
و قال ابن زيد في قوله تعالى { و ظل من يحموم } اليحموم : جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار { لا بارد } بل حار لأنه من دخان شفير جهنم { و لا كريم } أي لا عذب عن الضحاك و قال سعيد بن المسيب : و لا حسن منظره
و ذكر ابن وهب عم مجاهد في قوله تعالى { موبقا } قال : واد في جهنم يقال له موبق و قال عكرمة : هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا سارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار و قال أنس بن مالك : هو واد في جهنم من قيح و دم
و قال نوف البكالي في قوله تعالى : { وجعلنا بينهم موبقا } قال : واد في جهنم بين أهل الضلالة و بين أهل الإيمان
و عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه و سلم أنها سئلت عن قول الله عز و جل { فسوف يلقون غيا } قالت : نهر في جهنم
و اختلفوا في الفلق في قوله تعالى { قل أعوذ برب الفلق } فروى ابن عباس أنه سجن في جهنم و قال كعب : هو بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ذكره أبو نعيم
و ذكر أبو نعيم عن حميد بن هلال قال : حدثت أن في جهنم تنانير ضيقها كضيق زج أحدكم في الأرض تضيق على قوم بأعمالهم
ابن المبارك أخبرنا إسماعيل بن عياش حدثنا ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير عن شقي الأصبحي قال : إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه قال الله تعالى { سأرهقه صعودا } و أن في جهنم قصرا يقال له هواء يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله قال الله تعالى { و من يحلل عليه غضبي فقد هوى } و أن في جهنم واديا يدعى آثاما فيه حيات و عقارب في فقار إحداهن مقدار سبعين قلة من سم و العقرب منهن مثل البغلة المؤلفة تلدغ الرجل فلا تلهيه عما يجد من حر جهنم حمة لدغتها فهو لما خلق له و أن في جهنم سبعين داء لأهلها كل داء مثل جزء من أجزاء جهنم و أن في جهنم واديا يدعى غيا يسيل قيحا و دما فهو لما خلق له قال الله تعالى { فسوف يلقون غيا }
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في جهنم بحرا أسود مظلما منتن الريح يغرق الله فيه من أكل رزقه و عبد غيره ]
و ذكر أبو نعيم [ عن محمد بن واسع قال : دخلت يوما على بلال بن أبي بردة فقلت : يا بلال إن أباك حدثني عن جدك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن في جهنم واديا يقال له لملم و لذلك الوادي بئر يقال له هبهب حق على الله تعالى أن يسكنها كل جبار فإياك أن تكون منهم ]
ابن المبارك قال : [ حدثنا يحيى بن عبيد الله قال : سمعت أبي يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في جهنم واديا يقال له لملم و إن أودية جهنم لتستعيذ بالله من حره ]
مالك بن أنس [ عن ابن شهاب عن علي بن حسين عن الحسين بن علي عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : كل مسكر خمر وثلاثة غضب الله عليهم و لا ينظر إليهم و لا يكلمهم و هم في المنسا و المنسا : بئر في جهنم : للمكذب بالقدر و المبتدع في دين الله و مدمن الخمر ] و ذكره الخطيب أبو بكر من حديث أحمد بن سليمان الخفاني القرشي الأسدي عن مالك
و ذكر ابن وهب من [ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر على صورة الناس يعلوهم كل شيء من الصغار فيساقون حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس يسقون من عصارة أهل النار من طينة الخبال ] أخرجه ابن المبارك
أخبرنا محمد بن عجلان [ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال ] أخرجه الترمذي و قال : حديث حسن
قلت : طينة الخبال عرق أهل النار أو عصارتهم شراب أيضا لمن شرب المسكر جاء ذلك في صحيح البخاري
و [ عن جابر : أن رجلا قدم من جيشان و جيشان من اليمن فسأل النبي صلى الله عليه و سلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمسكر هو ؟ قال : نعم قال : إن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا : يا رسول الله و ما طيتة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار ]
[ وروي عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : المدينة مهاجري و فيها مضجعي و منها مخرجي حق على أمتي حفظ جيراني فيها من حفظ وصيتي كنت له شهيدا يوم القيامة و من ضيعها أورده الله حوض الخبال قيل : و ما حوض الخبال ؟ قال : حوض من صديد أهل النار ] غريب من حديث خارجة بن زيد عن أبيه لم يروه عنه غير أبي الزناد تفرد به عنه ابنه عبد الرحمن
و روى الترمذي و أسد بن موسى [ عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تعوذوا بالله من جب الحزن فقيل يا رسول الله : و ما جب الحزن ؟ قال : واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم سبعين مرة أعده الله للقراء المرائين ] و في رواية : [ أعده لله للذين يراءون الناس بأعمالهم ]
و قال الترمذي [ في حديث أبي هريرة مائة مرة قلنا : يا رسول الله و من يدخله ؟ : القراء المراءون بأعمالهم ] قال : حديث غريب خرجه ابن ماجه أيضا [ عن أبي هريرة و لفظه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا : يا رسول الله و ما جب الحزن ؟ قال : واد في جهنم تتعوذ منه جهنم في كل يوم أربعمائة مرة قيل : يا رسول الله من يدخله ؟ قال : أعد للقراء المرائين بأعمالهم و إن من أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء ]
قال المحاربي : الجورة
و في حديث آخر ذكره [ أسد بن موسى أنه عليه السلام قال : إن في جهنم لواديا إن جهنم لتتعوذ من شر ذلك الوادي في كل يوم سبع مرات و إن في ذلك الوادي لجبا إن جهنم و ذلك الوادي ليتعوذان بالله من شر ذلك الجب و إن في الجب لحية إن جهنم و الوادي و ذلك الجب ليتعوذان بالله من شر ذلك الحية أعدها الله للأشقياء من حملة القرآن ]
و قال أبي هريرة : إن في جهنم أرجاء تدور بعلماء السوء فيشرف عليهم بعض من كان يعرفهم في الدنيا : فيقول : ما صيركم إلى هذا و إنما كنا نتعلم منكم ؟ قالوا : إنا كنا نأمركم بالأمر و نخالفكم إلى غيره
قلت : و هذا مرفوع معناه في صحيح مسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه و سيأتي في من أمر بالمعروف و لم يأته
و قال أبو المثنى الأملوكي : إن في النار أقواما يربطون بنواعير من نار تدور بهم تلك النواعير ما لهم فيها راحة و لا فترة و قال محمد بن كعب القرظي إن لمالك مجلسا في وسط جهنم و جسورا تمر عليها ملائكة العذاب فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها الحديث و سيأتي

باب منه : و في بيان قوله تعالى : فلا اقتحم العقبة و في ساحل جهنم و وعيد من يؤذي المؤمنين
ابن المبارك قال : أخبرنا رجل عن منصور عن مجاهد عن يزيد بن شجرة قال : و كان معاوية بعثه على الجيوش فلقي عدوا فرأى أصحابه فشلا فجمعهم فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد اذكروا نعمة الله عليكم و ذكر الحديث و فيه : [ فإنكم ككتوبون عند الله بأسمائكم و سماتكم فإذا كان يوم القيامة قيل : يا فلان ها نورك يا فلان لا نور لك إن لجهنم ساحلا كساحل البحر فيه هوام و حيات كالبخت و عقارب كا لبغال الدهم فإذا استغاث أهل النار قالوا : الساحل ! فإذا ألقوا فيه سلطت عليهم تلك الهوام فتأخذ شفار أعينهم و شفاههم و ما شاء الله منهم تكشطها كشطا فيقولون : النار النار ! فإذا ألقوا فيها سلط الله عليهم الجرب فيحك أحدهم جسده حتى يبدو عظمه و إن جلد أحدهم لأربعون ذراعا قال : يقال : يا فلان هل تجد هذا يؤذيك ؟ فيقول : و أي شيء أشد من هذا ؟ فيقال : هذا بما كنت تؤذي المؤمنين ]
قال ابن المبارك : و أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمار الدهمني أنه حدثه عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : إن صعودا صخرة في جهنم إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت فإذا رفعوها عادت اقتحامها { فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة }
و قال ابن عمرو ابن عباس هذه العقبة جبل في جهنم
و قال محمد بن كعب و كعب الأحبار هي سبعون درجة في جهنم و قال الحسن و قتادة : هي عقبة شديدة صعبة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله عز و جل
و قال مجاهد و الضحاك و الكلبي : هي الصراط و قيل : النار نفسها
و قال الكلبي أيضا : هي جبل بين الجنة و النار يقول : فلأجاور هذه العقبة بعمل صالح ثم بين اقتحامها بما يكون فقال { فك رقبة } الآية
و قال ابن زيد و جماعة من المفسرين : معنى الكلام الاستفهام تقديره : أفلا اقتحم العقبة يقول : هلا أنفق ماله في فك الرقاب و إطعام السغبان ليجاوز به العقبة فيكون خيرا له من إنفاقه في المعاصي ؟
و قيل : معنى الكلام التمثيل و التشبيه فشبه عظم الذنوب و ثقلها بعقبة فإذا أعتق رقبة و عمل صالحا كان مثله كمثل من اقتحم العقبة و هي الذنوب التي تضره و تؤذيه و تثقله فإذا أزالها بالأعمال الصالحة و التوبة الخالصة كان كمن اقتحم عقبة يستوي عليها و يجوزها
قلت : هذا حديث حسن قال الحسن : هي و الله عقبة شديدة مجاهدة الإنسان نفسه و هواء وعدوه الشيطان و أنشد بعضهم :
( إني بليت بأربع يرمينني ... بالنبل قد نصبوا علي شراكا )
( إبليس و الدنيا و نفسي و الهوى ... من أين أرجو بينهن فكاكا )
( يا رب ساعدني بعفو إنني ... أصبحت لا أرجو لهن سواكا )
و أنشد غيره أيضا في معنى ذلك :
( إني بليت بأربع يرمينني ... بالنبل عن قوس لها توتير )
( إبليس و الدنيا و نفسي و الهوى ... يا رب أنت على الخلاص قدير )
و قال آخر :
( إني بليت بأربع ما سلطوا ... إلا لعظم بليتي و شقائي )
( إبليس و الدنيا ونفسي و الهوى ... كيف الخلاص و كلهم أعدائي )
قلت : قال : فمن أطاع مولاه و جاهد نفسه و هواه و خالف شيطانه و دنياه كانت الجنة نزله و مأواه و ممن تمادى في غيه و طغيانه و أرخى في الدنيا زمام عصيانه و وافق نفسه و هواه في مناه و لذاته و أطاع شيطانه في جمع شهواته كانت النار أولى به قال الله تعالى : { فأما من طغى * و آثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى }
و معنى فلا اقتحم العقبة : أي لم يقتحم العقبة و هذا خبر أي أنه لم يفعل و العرب تقول : لا فعل بمعنى لم يفعل قال زهير
( و كان طوى كشحا على سكينة ... فلا هوى أبداها و لم يتقدم )
أي فلم يبدها
ثم قال : { و ما أدراك ما العقبة * فك رقبة } يقول للنبي صلى الله عليه و سلم : أي لم تكن تدريها حتى أعلمتك ما العقبة : فك رقبة : أي عتق رقبة من الرق أو إطعام في يوم ذي مسغبة مجاعة يتيما ذا مقربة : أي قرابة أو مسكينا ذا متربة : يعني به اللاصق بالتراب من الحاجة في تفسير الحسن
و قال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه و ما أدراك فإنه أخبره به و كل شيء قال فيه و ما يدريك فإنه لم يخبره به
و خرج الطبراني أبو القاسم سلمان بن أحمد في كتاب مكارم الأخلاق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لأن أجمع أناسا من أصحابي على صاع من طعام أحب إلي أن أخرج إلى السوق فأشترى نسمة فأعتقها

باب ما جاء في قوله تعالى و قودها الناس و الحجارة
الوقود بفتح الواو على وزن الفعول بفتح الفاء : الحطب و كذلك الطهور اسم للماء و السحور اسم الطعام و بضم الفاء : اسم للفعل و هو المصدر و الناس عموم و معناه : الخصوص ممن سبق عليه القضاء أنه يكون حطبا لها أجارنا الله منها قال : حطب النار : شباب و شيوخ و كهول و نساء عاريات طال منهن العويل
ابن المبارك [ عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله : يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار و حتى يخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك و تعالى ثم يأتي أقوام يقرأون القرآن فإذا قرأوه قالوا : من أقرأ منا ؟ من أعلم منا ؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال : هل ترون في أولئك من خير ؟ قالوا : لا ! قال : أولئك منكم و أولئك من هذه الأمة و أولئك هم وقود النار ] خرجه عن موسى بن عبيدة عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن ابن الهادي عن العباس بن عبد المطلب فذكره و الحجارة الكبريت خلقها الله تعالى عنده كيف شاء أو كما شاء عن ابن مسعود و غيره ذكره ابن المبارك عن عبد الله بن مسعود
و خصت بذلك لأنها تزيد على جميع الحجارة بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الإيقاد و نتن الرائحة و كثرة الدخان و شدة الالتصاق بالأبدان و قوة حرها إذا حميت
و قيل المراد بالحجارة : الأصنام لقوله تعالى : { إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم } أي حطب و هو ما يلقى في النار مما تذكى به و عليه فيكون الناس و الحجارة وقودا للنار على التأويل الأول و على التأويل الثاني يكونون معذبين بالنار و الحجارة و في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ كل مؤذ في النار ] و في تأويله و جهان :
أحدهما : أن كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار
الثاني : أن كل ما يؤذي الناس في الدنيا من السباع و الهوام و غيرهما في النار معد لعقوبة أهل النار و ذهب بعض أهل التأويل إن أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة و الله أعلم

باب ما جاء في تعظيم جسد الكافر و أعضائه بحسب اختلاف كفره و توزيع
العذاب على العاصي المؤمن بحسب أعمال الأعضاء
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد و غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع ]
[ الترمذي عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن غلظ جلد الكافر إثنان و أربعون ذراعا و إن ضرسه مثل أحد و إن مجلسه من جهنم كما بين مكة و المدينة ] قال هذ حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش و في رواية : و فخذه مثل البيضاء و مقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة أخرجه عن صالح مولى التؤامة عن أبي هريرة و قال : هذا حديث حسن غريب و قال : مثل الربذة يعنى به كما بين مكة و المدينة و البيضاء : جبل
ابن المبارك أنبأنا يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال [ ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد يعظمون لتمتلىء منهم و ليذوقوا العذاب ]
أخبرنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : [ ضرس الكافر مثل أحد و فخذه مثل البيضاء و جبينه مثل الورقان و مجلسه من النار كما بيني و بين الربذة و كثف بصره سبعون ذراعا وبطنه مثل إضم ] إضم بالكسر جبل قاله الجوهري
قلت : و الورقان جبل بالمدينة كما روي [ عن أنس بن مالك قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم فلما تجلى ربه للجبل صار بعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بمكة : ثور و ثبير و حراء و بالمدينة : أحد و ورقان و رضوى ]
و ذكر ابن المبارك قال : [ أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بصر الكافر ـ يعني غلظ جلده ـ سبعون ذراعا و ضرسه مثل أحد في سائر خلقه ] و ذكر عن عمرو بن ميمون أنه يسمع بين جلد الكافر و جسده دوي كدوي الوحش
الترمذي [ عن أبي المخارق عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الكافر ليسحب لسانه الفرسخ و الفرسخين يتوطؤه الناس ]
مسلم [ عن سمرة بن جندب أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : منهم من تأخذه النار إلى كعبيه و منهم من تأخذه إلى ركبتيه و منهم من تأخذه إلى حجزته و منهم من تأخذه إلى ترقوته ] و في رواية : حقويه مكان حجزته
فصل : هذا الباب يدلك على أن كفر من كفر فقط ليس ككفر من طغى و كفر و تمرد و عصى و لا شك في أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب و السنة و لأنا نعلم على القطع و الثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء و المسلمين و فتك فيهم و أفسد في الأرض و كفر مساويا لعذاب من كفر فقط و أحسن للأنبياء و المسلمين ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي صلى الله عليه و سلم إلى ضحضاح لنصرته إياه و ذبه عنه و إحسانه إليه ؟ و حديث مسلم عن سمرة يصح أن يكون في الكفار بدليل حديث أبي طالب و يصح أن يكون فيمن يعذب من الموحدين إلا أن الله تعالى بميتهم إماتة حسب ما تقدم بيانه
و في خبر كعب الأحبار : يا مالك مر النار لا تحرق ألسنتهم فقد كانوا يقرأون القرآن يا مالك قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم فالنار أعرف بهم و بمفدار استحقاقهم من الوالدة بولدها فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه و منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه و منهم من تأخذه النار إلى سرته و منهم من تأخذه إلى صدره و ذكر الحديث و سيأتي بكماله إن شاء الله تعالى
و ذكر القتبي في عيون الأخبار له مرفوعا [ عن أبي هريرة أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله إذا قضى بين خلقه و زادت حسنات العبد دخل الجنة و إن استوت حسناته و سيئاته حبس على الصراط أربعين سنة ثم بعد ذلك يدخل الجنة و إن زادت سيئاته على حسناته دخل النار من باب التوحيد فيعذبون في النار على قدر أعمالهم فمنهم من تنتهي له النار إلى كعبيه و منهم من تنتهي إلى ركبتيه و منهم من تنتهي النار إلى وسطه ] و ذكر الحديث
و ذكر الفقيه أبو بكر بن برجان أن حديث مسلم في معنى قوله تعالى { و لكل درجات مما عملوا و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون } قال : أرى ـ و الله أعلم ـ أن هؤلاء الموصوفين في هذه الآية و الحديث أهل التوحيد فإن الكافر لا تعاف النار منه شيئا و كما اشتمل في الدنيا على الكفر شملته النار في الآخرة قال الله تعالى { لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل } أي أن ما فوقهم ظلل لهم و ما تحتهم ظلل لمن تحتهم
باب منه
ابن ماجه [ عن الحارث بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعتي أكثر من مضر و إن أمتي من يعظم للنار حتى يكون أحد زواياها ]
باب ما جاء في شدة عذاب أهل المعاصي و إذا يتهم أهل النار بذلك
مسلم [ عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أشد عذابا يوم القيامة المصورون ] و ذكره قاسم بن أصبغ من حديث [ عبد الله بن مسعود أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي أو مصور يصدر التماثيل ]
و ذكر أو عمر بن عبد البر و ابن ماجه و ابن وهب [ من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن من أشد عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه ] إسناده فيه عثمان بن مقسم البزي لم يرفعه غيره و هو ضعيف عند أهل الحديث معتزلي المذهب ليس حديثه بشيء قاله أبو عمر
و ذكر ابن وهب قال : حدثنا ابن زيد قال : يقال إنه ليؤذي أهل النار نتن فروج الزناة يوم القيامة
ابن المبارك قال : أخبرنا موسى بن علي بن رباح قال : سمعت أبي يذكر عن بعض من حدث قال : ثلاثة قد آذوا أهل النار ـ و كل أهل النار في أذى ـ : رجال مغلقة عليهم توابيت من نار و هم في أصل الجحيم فيضجون حتى تعلوأصواتهم أهل النار فيقول لهم أهل النار : ما بالكم من بين أهل النار فعل بكم هذا ؟ فقالوا : كنا متكبرين و رجال قد شقت بطونهم يسبحون أمعاءهم في النار فقال لهم أهل النار : ما بالكم من بين أهل النار فعل بكم هذا ؟ قالوا : كنا نقتطع حقوق الناس بأيماننا و أمانتنا و رجال يسعون بين الجحيم و الحميم لا يقرون قبل لهم : ما بالكم من بين أهل النار فعل بكم هذا ؟ قالوا : كنا نسعى بين الناس بالنميمة
[ أخبرنا إسماعيل بن عياش حدثني تغلب بن مسلم عن أيوب بن بشير العجلي عن شقي بن مانع الأصبحي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أربعة يؤذون أهل النار على ما بهم من الأذى يسعون بين الجحيم و الحميم يدعون بالويل و الثبور يقول أهل النار بعضهم لبعض : ما بال هؤلاء قد آذونا على ما بنا من الأذى ؟ قال : فرجل مغلق عليه تابوت من جمر و رجل يجر أمعاءه و رجل يسيل فوه قيحا و دما و رجل يأكل لحمه قال فيقال لصاحب التابوت : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ قال فيقول : إن الأبعد مات و في عنقه أموال الناس لم يجد لها قضاء أو قال وفاء ثم يقال للذي يجر أمعاءه : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ قال فيقول : إن الأبعد كان لا يبالي أين أصاب البول منه ثم لا يغسله ثم يقال للذي يسيل فوه دما و قيحا : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ قال فيقول : إن الأبعد كان ينظر في كل كلمة قذيعة خبيثة فيذيعها يستلذها و يستلذ الرفث بها ثم يقال للذي يأكل لحمه : ما بال الأبعد قد آذانا على ما بنا من الأذى ؟ قال فيقول : إن الأبعد كان يأكل لحوم الناس و يمشي بالنميمة ]
خرجه أبو نعيم الحافظ و قال : تفرد به إسماعيل بن عباس و شقي مختلف فيه فقيل : له صحبة
قلت : و قد تقدم حديث البخاري الطويل عن سمرة بن جندب و حديث ابن عباس و أبي هريرة و ابن مسعود في باب ما يكون منه في عذاب القبر و حديث أبي هريرة في الذين تسعر بهم جهنم و غير ذلك مما تقدم في معنى هذا الباب : فتأمل ذلك
و قد تقدم أن من أدان أموال الناس في غير سفه و لا إسراف و لم يجد قضاء و نيته الأداء و مات أن الله لا يحسبه عن الجنة و لا يعذبه بل يرضى عنه خصماؤه إن شاء الله و يكون الجميع في رحمته بكرمه و فضله فأما من أدانها لينفقها في المعاصي ثم لا يقدر على الأداء فلعله الذي يعذب
باب منه و في عذاب من عذب الناس في الدنيا
أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن أبي نجيح عن خالد بن حكيم عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أشد الناس عذابا يوم القيامة أشدهم عذابا للناس في الدنيا ]
و خرجه البخاري في التاريخ فقال : [ حدثنا علي حدثنا سفيان
عن عمرو بن دينار عن خالد بن حكيم بن حزام أن أبا عبيدة تناول رجلا من أهل الأرمن فكلمه خالد بن الوليد فقالوا : أغضبت الأمير ؟ فقال : لم أرد غضبه سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : أشد الناس عذابا يوم القيامة أشدهم عذابا للناس في الدنيا ]
و خرجه مسلم بمعناه [ من حديث هشام بن حكيم بن حزام أنه مر على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس فقال : ما شأنهم ؟ قالوا : حبسوا على الجزية فقال هشام : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله عز و جل يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا ]
باب ما جاء في شدة عذاب من أمر بالمعروف و لم يأته و نهى عن المنكر و
أتاه و ذكر الخطباء و فيمن خالف قوله فعله و في أعوان الظلمة كلاب النار
البخاري [ عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يجاء برجل فيطرح في النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون : أي فلان ! ألست كنت تأمر المعروف و تنهى عن المنكر ؟ فيقول : كنت أمر بالمعروف و لا أفعله و أنهى عن المنكر و أفعله ]
و خرجه مسلم أيضا بمعناه [ عن أسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه في النار فيدور كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ابن فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى ! كنت آمر بالمعروف و لا آتيه و أنهى عن المنكر و آتيه ]
و خرج أبو نعيم الحافظ [ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتيت ليلة لأسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت ردت قلت من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون و لا يفعلون و يقرأون كتاب الله و لا يعملون ]
و ذكر ابن المبارك قال : [ أخبرنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد قال : سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار قال فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : خطباء أي من الذين يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم و هم يتلون الكتاب ] الآية
قال : [ و أخبرنا سفيان عن إسماعيل عن الشعبي قال : يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم في النار فيقولون : ما أدخلكم النار و إنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم و تعليمكم ؟ قالوا : إن كنا نأمركم بالخير و لا نفعله ]
و ذكر أبو نعيم الحافظ قال : [ حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن حنبل قال : حدثنا سيار بن حاتم قال : حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء ] هذا حديث غريب تفرد به سيار عن جعفر لم نكتبه إلا من حديث أحمد بن حنبل رضي الله عنه قال حدثنا أحمد بن إسحاق بن حمزة حدثنا محمد بن علوش بن الحسين الجرجاني قال : حدثنا علي بن المثنى قال : حدثنا يعقوب بن خليفة أبو يوسف الأعشى قال حدثني محمد بن مسلم الطائفي قال حدثني إبراهيم بن ميسرة عن طاووس عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الجلاوزة و الشرط أعوان الظلمة كلاب النار ] غريب من حديث طاووس تفرد به محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس الجلاوزة : جمع جلواز قال الجوهري : و الجلوز الشرطي و الجمع : الجلاوزة
فصل : قال بعض السادة : أشد الناس حسرة يوم القيامة ثلاثة : رجل ملك عبدا فعلمه شرائع الإسلام فأطاع و أحسن و عصى السيد فإذا كان يوم القيامة أمر بالعبد إلى الجنة و أمر بسيده إلى النار فيقول عند ذلك : واحسرتاه ! وأغبناه ! أما هذا عبدي ؟ أما كنت مالكا لمهجته و ماله ؟ و قادرا على جميع ماله ؟ فما له سعد و ما لي شقيت ؟ فيناديه الملك الموكل به : لأنه تأدب و ما تأدبت و أحسن و أسأت و رجل كسب مالا فعصى الله تعالى في جمعه و منعه و لم يقدمه بين يديه حتى صار إلى وارثه فأحسن في إنفاقه و أطاع الله سبحانه في إخراجه و قدمه بين يديه فإذا كان يوم القيامة أمر بالوارث إلى الجنة و أمر بصاحب المال إلى النار فيقول : و حسرتاه ! و اغبناه ! أما هذا ما لي فما أحسنت به أحوالي و أعمالي فيناديه الملك الموكل به : لأنه أطاع الله و ما أطعت و أنفق لوجهه و ما أنفقت فسعد و شقيت و رجل على قوما و وعظهم فعملوا بقوله و لم يعمل فإذا كان يوم القيامة أمر بهم إلى الجنة و أمر به إلى النار فيقول : و احسرتاه ! و اغبناه ! أما هذا علمي ؟ فما لهم فازوا به و ما فزت ؟ و سلموا به و ما سلمت ؟ فيناديه الملك الموكل به : لأنهم عملوا بما قلت و ما عملت فسعدوا و شقيت ذكره أبو الفرج بن الجوزي
فصل : قال إبراهيم النخعي رضي الله عنه : إني لأكره القصص لثلاث آيات : قوله تعالى : { أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم } و قوله تعالى { لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } و قوله تعالى : { و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه }
قلت : و ألفاط هذه الأبيات تدل على ما ذكرناه من الأحاديث على أن عقوبة من كان عالما بالمعروف و بالمنكر و بوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يعلمه و إنما كان كذلك لأنه كالمستهين بحرمات الله و يستحق لأحكامه و هو كمن لم ينتفع بعمله
و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ] و قد تقدم
[ و روى أبو أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الذين يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم يجرون قصبهم في نار جهنم فيقال لهم : من أنتم ؟ فيقولون : نحن الذين كنا نأمر الناس بالخير و ننسى أنفسنا ]
و قوله : تندلق أي : تخرج و الاندلاق الخروج بسرعة يقال : اندلق السيف خرج من غمده و روي فتنفلق بدل فتندلق و الأقتاب : الأمعاء واحدها : قتب بكسر القاف و قال الأصمعي : واحدها : قتيبة و يقال لها أيضا : الأقصاب واحدها : قصبة قاله أبو عبيد
و قد قال صلى الله عليه و سلم : [ رأيت عمرو بن لحى يجر قصبه في النار و هو أول من سيب السوائب ]
قلت : إن قال قائل : قد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري أن من ليس من أهل النار إذا دخلوها أحرقوا فيه و ماتوا على ما ذكرتموه في أصح القولين و هذه الأحاديث التي جاءت في العصاة بخلاف فكيف الجمع بينهما ؟
قيل له : الجمع ممكن و ذلك ـ و الله أعلم ـ أن أهل النار الذين هم أهلها كما قال الله تعالى { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } قال الحسن : تنضجهم النار في اليوم سبعين ألف مرة و العصاة بخلاف هؤلاء فيعذبون و بعد ذلك يموتون
و قد تختلف أيضاأحوالهم في طول التعذيب بحسب جرائمهم و آثامهم و قد قيل إنه يجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم غير أن آلام المؤمنين تكون أخف من آلام الكفار لأن آلام المعذبين و هم موتى أخف من عذابهم و هم أحياء دليله قوله تعالى : { و حاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } فأخبر أن عذابهم إذا بعثوا أشد من عذابهم و هم موتى
و مثله ما جاء في حديث البراء من قول الكافر : رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة يرى أن ما يخلص له من عذاب الآخرة أشد مما هو فيه و قد يكون ما جاء في الخطباء هو عذابهم في القبور في أعضاء مخصوصة كغيرهم كما جاء في حديث سمرة الطويل على ما تقدم إلا أن قوله في حديث أسامة بن زيد يوم القيامة يدل على غير ذلك و قد يحتمل أن يجمع لهم الأمران لعظم ما ارتكبوه من مخالفة قولهم فعلهم و نعوذ بالله من ذلك
باب ما جاء في طعام أهل النار و شرابهم و لباسهم
قال الله تعالى : { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } و قال { سرابيلهم من قطران } و قال : { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون } و قال : { لا يذوقون فيها بردا } أي نوما { و لا شرابا * إلا حميما و غساقا * جزاء و فاقا } و قال : { و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقا } و قال عز من قائل { تسقى من عين آنية * ليس لهم طعام إلا من ضريع } و قال { فليس له اليوم هاهنا حميم * ولا طعام إلا من غسلين } قال الهروي : معناه من صديد أهل النار و ما ينغسل و يسيل من أبدانهم
قلت : و هو الغساق أيضا و ذكر ابن المبارك : أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم و أبي رزين في قوله تعالى { هذا فليذوقوه حميم و غساق } قالا : ما يسيل من صديدهم و قيل الغساق : القيح الغلظ المنتن
و ذكر ابن وهب عن عبد الله بن عمر قال الغساق : القيح الغلظ لو أن قطرة منه تهراق في المغرب أنتنت أهل المشرق و لو أنها تهراق في المشرق أنتنت أهل المغرب و قيل : الغساق الذي لا يستطيع من شدة برده و هو الزمهرير
و قال كعب : الغساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة فستنفع و يؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة فيسقط جلده و لحمه عن العظام فيجر لحمه في كعبيه كما يجر الرجل ثوبه و قوله { جزاء وفاقا } أي وافق أعمالهم الخبيثة
و اختلف في الضريع فقيل : هو النبت ينبت في الربيع فإذا كان في الصيف يبس و اسمه إذا كان عليه ورقة شبرق و إذا تساقط ورقه فهو الضريع فالإبل تأكله أخضر فإذا يبس لم تذقه و قيل : هو حجارة و قيل الزقوم واد في جهنم
و قال المفسرون : إن شجرة الزقوم أصلها في الباب السادس و أنها تحيا بلهب النار كما تحيا الشجرة ببرد الماء فلا بد لأهل النار من أن يتحدر إليها من كان فوقها فيأكلون منها
و قال أبو عمران الجوني في قوله تعالى { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون } قال بلغنا أن ابن آدم لا ينهش منها نهشة إلا نهشت منه مثلها و المهل ما كان ذائبا من الفضة و النحاس و قيل المهل عكر الزيت الشديد السواد و قوله تعالى { يغلي في البطون * كغلي الحميم } يعني الماء الشديد الحر
باب منه و ما جاء أن أهل النار يجوعون و يعطشون و في دعائهم و إجابتهم
قال الله تعالى : { و نادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } الآية
البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال : لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في أربع فإذا كان في الخامسة لا يتكلمون بعدها أبدا يقولون : { ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل }
قال : فيجيبهم الله تعالى { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم و إن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير }
ثم يقولون : { ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون } فيجيبهم الله تعالى : { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم و ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون }
ثم يقولون : { ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل } فيجيبهم الله تعالى { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال }
ثم يقولون : { ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } فيجيبهم الله تعالى : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير }
ثم يقولون : { ربنا غلبت علينا شقوتنا و كنا قوما ضالين } فيجيبهم { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } فلا يتكلمون بعدها أبدا
و خرجه ابن المبارك بأطول من هذا فقال : أخبرنا الحكم بن عمر بن ليلى حدثني عامر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : بلغني ـ أو ذكر لي ـ أن أهل النار استغاثوا بالخزنة فقال الله تعالى : { و قال الذين في النار لخزنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب } فسألوا يوما واحدا يخفف عنهم فيه العذاب فردت عليهم الخزنة : { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } ؟
فيقولون : بلى فردت عليهم الخزنة : { فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال }
قال : فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا مالكا ـ و هو عليهم و له مجلس في وسطها و جسور تمر عليهم ملائكة العذاب فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها ـ فقالوا : { يا مالك ليقض علينا ربك }
قال : اسألوا الموت فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة
قال : و السنة ستون و ثلاثمائة يوم و الشهر ثلاثون يوما و اليوم { كألف سنة مما تعدون }
ثم لحظ إليهم بعد الثمانين فقال : { إنكم ماكثون }
فلما سمعوا منه ما سمعوا و أيسوا مما قبله قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء إنه قد نزل بكم من البلاء و العذاب ما قد ترون فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا كما صبر أهل الطاعة على طاعة الله فنفعهم الصبر إذ صبروا فأجمعوا رأيهم على الصبر فصبروا فطال صبرهم ثم جزعوا فنادوا : { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } أي من منجى
قال : فقام إبليس عند ذلك فقال : { إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم } إلى قوله : { ما أنا بمصرخكم } يقول : بمغن عنكم شيئا { و ما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل }
قال : فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم قال فنادوا { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } إلى قوله : { فهل إلى خروج من سبيل }
قال : فرد عليهم ذلك بأنه { إذا دعي الله وحده كفرتم و إن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير }
قال : فهذه واحدة : فنادوا الثانية { فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون }
قال : فيرد عليهم { و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها }
يقول : لو شئت لهديت الناس جميعا فلم يختلف منهم أحد { و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين * فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم و ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون }
قال : فهذه اثنتان فنادوا الثالثة : { ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل }
فيرد عليهم : { أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * و سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } إلى قوله تعالى : { الجبال }
قال : فهذه الثلاثة قال : ثم نادوا الرابعة : { ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل }
قال فيجيبهم : { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر و جاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير }
ثم مكث عنهم ما شاء الله ثم ناداهم : { ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } ؟
قال : فلما سمعوا صوته قالوا : الآن يرضى ربنا فقالوا عند ذلك : { ربنا غلبت علينا شقوتنا } ـ أي : الكتاب الذي كتب علينا ـ { و كنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } فقال عند ذلك : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون } فانقطع عند ذلك الرجاء و الدعاء { و أقبل بعضهم على بعض } ينبح بعضهم في وجه بعض و أطبقت عليهم
قال : فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه لما ذكر له أن ذلك قوله تعالى { هذا يوم لا ينطقون * و لا يؤذن لهم فيعتذرون }
قال ابن المبارك : و حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة : فذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاص : إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يرد عليهم : { إنكم ماكثون }
قال : هانت و الله دعوتهم على مالك و رب مالك
قال : ثم يدعون ربهم قال فيقولون { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون }
قال فسكت عنهم قدر الدنيا مرتين قال ثم يرد عليهم : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون }
قال : فو الله ما نبس القوم بعدها بكلمة و ما هو إلا الزفير و الشهيق في نار جهنم فشبه أصواتهم بصوت الحمير أولها زفير و آخرها شهيق و معنى ما نبس ما تكلم
قال الجوهري : يقال ما نبس بكلمة أي ما تكلم و ما نبس بالتشديد أيضا و قال الراجز :
( إن كنت غير هلك فنبس )
الترمذي [ عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يلقى عن أهل النار الجوع مع ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن و لا يغني من جوع فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب من حديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون : ادعوا خزنة جهنم فيقولون : { أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ؟ قالوا بلى ! قالوا : فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال } قال فيقولون : ادعوا مالكا فيقولون { يا مالك ليقض علينا ربك } قال فيجيبهم : { إنكم ماكثون } ]
قال الأعمش : ثبت أن بين دعائهم و بين إجابة مالك إياهم ألف عام قال فيقولون ادعو ربكم فلا أحد خير من ربكم قال فيقولون : { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } قال فيجيبهم : { اخسؤوا فيها ولا تكلمون }
قال : فعند ذلك يئسوا من كل خير و عند ذلك يأخذون في الزفير و الحسرة و الويل رفعه قطبة بن عبد العزيز عن الأعمش عن شمر بن عطية عن شهر و هو ثقة عند أهل الحديث و الناس يوقفونه على أبي الدرداء
[ و عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : { و هم فيها كالحون } قال : تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه و تسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته و لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة و لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا ] قال : هذا حديث صحيح غريب
[ و عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { كالمهل } قال : كعكر الزيت و إذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه ] قال أبو عيسى : هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد و رشدين قد تكلم فيه من جهة حفظه
قلت : وقع في هذا الحديث فروة وجهه و هو شاذ إنما يقال : فروة رأسه أي جلدته هذا هو المشهور عند أهل اللغة و كذا جاء في حديث أبي أمامة
[ و عن أبي حجيزة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فليست ما في جوفه حتى يمرق من قدميه و هو الصهر ثم يعاد كما كان ] قال : هذا حديث حسن صحيح غريب
و [ عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : { و يسقى من ماء صديد * يتجرعه } قال : يقرب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه و وقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى : { و سقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } و قال تعالى : { و إن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب و ساءت مرتفقا } ] قال : هذا حديث غريب
[ و عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ هذه الآية { اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون }
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه ؟ ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح خرجه ابن ماجه أيضا
باب ما جاء في بكاء أهل النار و من أدناهم عذابا فيها
ابن المبارك قال : [ أخبرنا عمران بن زيد الثعلبي حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفنا أجريت فيها لجرت ]
خرجه ابن ماجه أيضا [ من حديث الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يرسل البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود و لو أرسلت فيها السفن لجرت ]
و في مسلم [ عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه ]
و روي عن أبي موسى الأشعري موقوفا أنه قال : [ إن أهل النار ليبكون الدموع في النار حتى لو أجريت فيها السفن لجرت ثم إنهم يبكون الدم بعد الدموع و لمثل ما هم فيه فليبك ]
قال المؤلف رحمه الله و هو يستند من معنى ما تقدم : و في التنزيل { فليضحكوا قليلا و ليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون }
و في الترمذي [ من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا فمن كثر بكاؤه خوفا من الله تعالى و خشية منه ضحك كثيرا في الآخرة قال الله تعالى مخبرا عن أهل الجنة : { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } و وصف أهل النار فقال : { و إذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين } قال : و كنتم و منهم تضحكون ] و سيأتي بيانه
باب ما جاء أن لكل مسلم فداء من النار من الكفار
ابن ماجه قال : [ أخبرنا جبارة بن المغلس حدثنا عبد الأعلى بن أبي المساور عن أبي بردة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة أذن لأمة محمد صلى الله عليه و سلم في السجود فسجدوا طويلا ثم يقال : ارفعوا رؤوسكم فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النار ]
[ حدثنا جبارة بن المغلس حدثنا كثير بن سليمان عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن هذه الأمة أمة مرحومة عذابها بأيديها إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال : هذا فداؤك من النار ]
قلت : هذان الحديثان و إن كان إسنادهما ليس بالقوي ـ قال الدارقطني : جبارة بن المغلس متروك ـ فإن معناهما صحيح بدليل حديث مسلم
[ عن أبي بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول : هذا فكاكك من النار ]
و في رواية أخرى : [ لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه من النار يهوديا أو نصرانيا ] قال فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات : أن أباه حدثه عن رسول الله قال : فحلف له
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : هذه الأحاديث ظاهرها الإطلاق و العموم و ليس كذلك و إنما هي في ناس مذنبين تفضل الله تعالى عليهم برحمته و مغفرته فأعطى كل إنسان منهم فكاكا من النار من الكفار و استدلوا بحديث أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم و يضعها على اليهود و النصارى ]
و خرجه مسلم [ عن محمد بن عمرو بن عياد بن جبلة بن أبي رواد قال حدثنا حرمي بن عمارة قال : حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي عن عباس عن غيلان بن جرير عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه و سلم
قالوا : و ما معنى فيغفرها لهم ؟ أي : يسقط المؤاخذة عنهم بها حتى كأنهم لم يذنبوا ]
و معنى قوله : ويضعها على اليهود النصارى أنه يضاعف عليهم عذاب ذنوبهم
حتى يكون عذابهم بقدر جرمهم و جرم ومذنبي المسلمين لو أخذوا بذلك لأنه تعالى يأخذ أحدا بذنب أحد كما قال تعالى : { و لا تزر وازرة وزر أخرى } و له سبحانه أن يضاعف لمن يشاء العذاب و يخفف عمن يشاء بحكم إرادته و مشيئته إذ لا نسأل عن فعله
قالوا و قوله في الرواية الأخرى : [ لا يموت رجل مسلم إلا أدخل مكانه يهوديا أو نصرانيا ] فمعنى ذلك أن المسلم المذنب لما كان يستحق مكانا من النار بسبب ذنوبه و عفا الله عنه و بقي مكانه خاليا منه أضاف الله تعالى ذلك المكان إلى يهودي أو نصراني ليعذب فيه زيادة على تعذيب مكانه الذي يستحقه بحسب كفره و يشهد لهذا قوله عليه السلام [ في حديث أنس للمؤمن الذي يثبت عند السؤال في القبر فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ]
قلت : قد جاءت أحاديث دالة على أن لكل مسلم مذنبا كان أو غير مذنب منزلين : منزلا من الجنة و منزلا من النار و ذلك هو معنى قوله تعالى { أولئك هم الوارثون } أي يرث المؤمنون منازل الكفار و يجعل الكفار في منازلهم في النار على ما يأتي بيانه و هو مقتضى [ حديث أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم : إن العبد إذا وضع في قبره ] الحديث و قد تقدم إلا أن هذه الوراثة تختلف فمنهم من يرث و لا حساب و منهم من يرث بحسابه و بمناقشته و بعد الخروج من النار حسب ما تقدم من أحوال الناس و الله أعلم
و قد يحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم و هو مقتضى قوله تعالى : { قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء }

باب في قوله تعالى و تقول هل من مزيد
مسلم [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : تزال جهنم يلقى فيها و تقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض و تقول : قط قط و عزتك و كرمك و لا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة ]
و في رواية أخرى [ من حديث أبي هريرة فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله عليها رجله فتقول : قط قط فهنالك تمتلئ و يزوي بعضها إلى بعض فلا يظلم الله خلقا من خلقه أحدا و أما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقا ]
فصل : للعلماء في قول النار : [ هل من مزيد ؟ ] تأويلان أحدهما : وعدها ليملأنها فقال : أوفيتك ؟ فقالت : و هل من مسلك ؟ أي : قد امتلأت كما قال :
( امتلأ الحوض و قال : قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني )
و هذا تفسير مجاهد و غيره و هو ظاهر الحديث الثاني : زدني تقول ذلك غيظا على أهلها و حنقا عليهم كما قال { تكاد تميز من الغيظ } أي تنشق و يبين بعضها من بعض
و قوله حتى يضع فيها قدمه ـ و في رواية أخرى حتى يضع عليها و في آخرى رجله و لم يذكر فيها و لا عليها ـ فمعناه عبارة عمن تأخر دخوله في النار من أهلها و هم جماعات كثيرة لأن أهل النار يلقون فيها فوجا فوجا كما قال الله تعالى { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير }
و يؤيده أيضا قوله في الحديث : لا يزال يلقى فيها فالخرنة تنظر أولئك المتأخرين إذ قد علموهم بأسمائهم و أوصافهم كما روي عن ابن مسعود أنه قال : ما في النار بيت و لا سلسلة و لا مقمع و لا تابوت إلا و عليه اسم صاحبه فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه و صفته فإذا استوفى كل واحد ما أمر به و ما ينتظره و لم يبق منهم أحد قالت الخزنة : قط قط أي حسبنا حسبنا اكتفينا اكتفينا و حينئذ تنزوي جهنم على ما من فيها و تنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل و القدم لا أن الله جسم من الأجسام تعالى الله عما يقول الظالمون و الجاحدون علوا كبيرا
و العرب تعبر عن جماعة و الجراد بالرجل فتقول جاءنا رجل من جراد و رجل من الناس أي جماعة منهم و الجمع : أرجل
و يشهد لهذا التأويل قوله في نفس الحديث : و لا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله خلقا فيسكنهم فصل الجنة و في الحديث تأويلات أتينا عليها في الأسماء و الصفات أشبهها ما ذكرناه و في التنزيل { أن لهم قدم صدق عند ربهم } قال ابن عباس : المعنى منزل صدق و قال الطبري : معنى { قدم صدق عند ربهم } عمل صالح و قيل : هو السابقة الحسنة فدل على أن القدم ليس حقيقة في الجارحة و الله الموفق
قال ابن فورك و قال بعضهم : القدم خلق من خلق الله يخلقه يوم القيامة فيسميه قدما و يضيفه إليه من طريق الفعل يضعه في النار فتمتلئ النار منه و الله أعلم
قلت : و هذا نحو مما قلناه في الرجل قال الشاعر :
( فمر بنا رجل من الناس و انزوى ... إليهم من الحي اليماني أرجل )
( قبائل من لخم و عك و حمير على ... ابني نزار بالعداوة أحفل )
و قال آخر :
( يرى الناس أفواجا إلى باب داره ... كأنهم رجلا دبا و جراد )
( فيوم لإلحاق الفقير بذي الغنى ... و يوم رقاب بوكرت بحصاد )
الدبا : الجراد قبل أن يطير و الله أعلم

باب ذكر آخر من يخرج من النار و آخر من يدخل الجنة و في تعيينه و تعيين
قبيلته و اسمه
مسلم [ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها و آخر أهل النار دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبوا فيقول الله تعالى اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيقول يا رب وجدتها ملأى فيقول الله : اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول : يا رب وجدتها ملأى فيقول : اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا و عشرة أمثالها أو أن لك عشرة أمثال الدنيا قال فيقول أتسخر بي ؟ أو أتضحك بي و أنت الملك ؟ قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحك حتى بدت نواجذه قال : فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة ]
و عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة و يكبو مرة و تسفعه النار مرة فإذا جاوزها التفت إليها فقال : تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين و الآخرين فترفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها و أشرب من مائها فيقول الله تعالى : يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول : لا يا رب ! و يعاهد أن لا يسأله غيرها و ربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها فيستظل بظلها و يشرب من مائها ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى فيقول : أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها و أستظل بظلها لا أسألك غيرها فيقول : يا ابن آدم : لعلي إن أديتك منها تسألني غيرها ؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها و ربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها فإذا منها ترفع له شجرة عند باب الجنة أحسن من الأوليين فيقول مثله فيدنيه منها فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة فيقول : أي رب أدخلينها فيقول : يا ابن آدم ما يصريني منك ؟ أيرضيك أن أعطيك الدنيا و مثلها معها ؟ فيقول : أي رب أتستهزئ بي و أنت رب العالمين ؟ فضحك ابن سمعود فقال : ألا تسألوني مم أضحك ؟ فقالوا مم تضحك ؟ قال : هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : مم تضحك يا رسول الله ؟ قال : من ضحك رب العالمين فيقول : إني لا أستهزئ منك و لكني على ما أشاء قادر ]
و قال ابن عمر [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة تقول أهل الجنة : عند جهينة الخبر اليقين ] ذكره الميانشي أبو حفص عمر ابن عبد المجيد القرشي في كتاب الاختيار له في الملح من الأخبار و الآثار
و رواه أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب [ من حديث عبد الملك بن الحكم قال : حدثنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة فيقول أهل الجنة : عند جهينة الخبر اليقين سلوه هل بقي من الخلائق أحد ] ؟ و رواه الدراقطني أيضا في كتاب رواه مالك ذكره السهيلي و قد قيل : إن اسمه هناد و الله أعلم
فصل : قوله : أتستهزئ مني ؟ ـ و في رواية : أتسخر ؟ ـ و الهزوء و السخرية بمعنى واحد و فيه تأويلان
أحدهما : أنه صدر منه هذا القول عند غلبة الفرح عليه و استخفافه إياه كما غلط الذي قال : [ اللهم أنت عبدي و أنا ربك ] خرجه مسلم
الثاني : أن يكون معناه : أتجازيني على ما كان مني في الدنيا من قلة احتفالي بأعمالي و عدم مبالاتي بها ؟ فيكون هذا على وجه المقابلة كما قال الله تعالى مخبرا عن المنافقين { إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم } أي ينتقم منهم و يجازيهم على استهزائهم و الاستهزاء في اللغة : الانتقام قال الشاعر :
( قد استهزءوا منهم بألفي مدجج ... سراتهم وسط الضحاضح جثم )
و مثله : { و مكروا و مكر الله } الآية و هو كثير و سيأتي لبيان الاستهزاء من الله مزيد بيان و الضحك من الله تعالى راجع إلى معنى الرضى عن العبد فاعلم ذلك
باب منه و ما جاء في خروج الموحدين من النار و ذكر الرجل الذي ينادي : يا
حنان يا منان و بيان قوله تعالى : إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة و في أحوال أهل النار
خرج الطبراني أبو القاسم قال : [ حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا محمد بن عباد المكي حدثنا حاتم بن إسماعيل بن بسام الصيرفي عن يزيد الفقير عن رجل عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن ناسا من أمتي يدخلون النار بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون : ما نرى ما كنتم تخالفوننا فيه من تصديقكم و إيمانكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله من النار ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } ]
و روى أبو ظلال [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن عبدا في جهنم ينادي ألف سنة : يا حنان يا منان فيقول الله تعالى لجبريل : إئت عبدي فلانا فينطلق جبريل عليه السلام فيرى أهل النار منكبين على وجوههم قال فيرجع فيقول : يا رب لم أره فيقول الله تعالى : إنه في مكان كذا و كذا قال : فيأتيه فيجيء به فيقول له : يا عبدي كيف وجدت مكانك و مقيلك ؟ قال : فيقول : شر مكان و شر مقيل قال فيقول : ردوا عبدي قال فيقول : يا رب ما كنت أرجو أن تردني إذا أخرجتني منها فيقول الله تعالى : دعوا عبدي ]
و أبو ظلال هذا اسمه هلال بن أبي مالك القسملي يعد في البصريين
و عن سعيد بن جبير قال : إن في النار لرجلا ـ أظنه في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام يا حنان يا منان فيقول رب العزة لجبريل : يا جبريل أخرج عبدي من النار فيأتيها فيجدها مطبقة فيرجع فيقول : يا رب إنها عليهم موصدة فيقول : يا جبريل ارجع ففكها فاخرج عبدي من النار فيفكها فيخرج مثل الخيال فيطرحه على ساحل الجنة حتى ينبت الله له شعرا و لحما و دما ذكره أبو نعيم
و روى ليث [ عن مجاهد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : إنما الشافعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ] الحديث و قد تقدم و فيه بعده
قوله : و أطولهم مكثا من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت و ذلك سبعة آلاف سنة
ثم إن الله أراد أن يخرج الموحدين منها قذف في قلوب أهل الأديان فقالوا لهم : كنا و أنتم و آباؤنا جميعا في الدينا فآمنتم و كفرنا و صدقتم و كذبنا و أقررتم و جحدنا فما أغنى ذلك عنكم نحن و أنتم اليوم فيها سواء تعذبون كما نعذب و تخلدون فيها كما نخلد فيغضب الله عند ذلك غضبا شديدا لم يغضب مثله من شيء فيما مضى و لا يغضب من شيء فيما بقي فيخرج أهل التوحيد منها إلى عين بين الجنة و النار و الصراط يقال لها : نهر الحياة فيرش عليهم من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل فما يلي الظل منها أخضر و ما يلي الشمس منها أصفر ثم يدخلون الجنة فيكتب على جباههم : هؤلاء عتقاء الله من النار إلا رجلا واحدا يمكث فيها ألف سنة ثم ينادي : يا حنان يا منان فيبعث الله إليه ملكا فيخوض في النار في طلبه سبعين عاما لا يقدر عليه ثم يرجع فيقول : إنك أمرتني أن أخرج عبدك فلانا من النار منذ سبعين عاما فلم أقدر عليه فيقول الله تعالى : انطلق فهو في وادي كذا تحت صخرة فأخرجه فيذهب فيخرجه منها فيدخله الجنة
ثم أن الجهنميين يطلبون من الله تعالى أن يمحو عنهم ذلك الاسم فيبعث الله ملكا فيمحوه عن جباههم
ثم أن يقال لأهل الجنة و من دخلها من الجهنميين : اطلعوا إلى أهل النار فيطلعون إليهم فيرى الرجل أباه و يرى جاره و صديقه و يرى العبد مولاه ثم إن الله تعالى يبعث إليهم الملائكة بأطباق من نار و مسامير من نار و عمد من نار : فتطلق عليهم بتلك الأطباق و تشد بتلك المسامير و تمد بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح و لا يخرج منه غم و ينساهم الرحمن على عرشه و يتشاغل أهل الجنة بنعيمهم و لا يستغيثون بعدها أبدا و ينقطع فيكون كلامهم زفيرا و شهيقا فذلك قوله تعالى { إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة } و قال ابن مسعود : في عمد أي بعمد و كذا في مصحفه إنها عليهم مؤصدة بعمد
و خرج أبو نعيم الحافظ عن زاذان قال : سمعت كعب الأحبار يقول : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين و الآخرين في صعيد واحد فنزلت الملائكة فصاروا صفوفا فيقول الله لجبريل : إئت بجهنم فيجيء بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرة زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب و لا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر و تذهب العقول فيفزع كل امرئ إلى عمله حتى إن إبراهيم الخليل يقول : بخلتي لا أسألك إلا نفسي و يقول موسى : بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي و يقول عيسى : بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني و محمد صلى الله عليه و سلم يقول : أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي إنما أسألك أمتي
قال : فيجيبه الجليل جل جلاله : إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم و لا هم يحزنون فوعزتي و جلالي لأقرن عينك في أمتك ثم يقف الملائكة بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون به فيقول لهم تعالى و تقدس : معاشر الزنابية انطلقوا بالمصرين من أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه و سلم إلى النار فقد اشتد غضبي عليهم بتهاونهم بأمري في دار الدنيا و استخفافهم بحقي و انتهاكهم حرمي يستخفون من الناس و يبارزونني مع كرامتي لهم و تفضيلي إياهم على الأمم و لم يعرفوا فضلي و عظيم نعمتي فعندها تأخذ الزبانية بلحى الرجال و ذوائب النساء فينطلق بهم إلى النار و ما من عبد يساق إلى النار من غير هذه الأمة إلا مسود وجهه قد وضعت الأنكال في رجليه و الأغلال في عنقه إلا من كان من هذه الأمة فإنهم يساقون بألوانهم فإذا وردوا على مالك قال لهم : معاشر الأشقياء من أي أمة أنتم ؟ فما ورد علي أحسن وجوها منكم ! فيقولون : يا مالك نحن من أمة القرآن فيقول لهم : يا معشر الأشقياء أو ليس القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم ؟
قال : فيرفعون أصواتهم بالنحيب و البكاء فيقولون : وامحمداه ! وامحمداه ! وامحمداه ! اشفع لمن أمر به إلى النار من أمتك
قال : فينادي مالك بتهدد و انتهار : يا مالك من أمرك بمعاتبة أهل الشقاء و محادثتهم و التوقف عن إدخالهم العذاب ؟ يا مالك لا تسود وجوههم فقد كانوا يسجدون لي في دار الدنيا يا مالك : لا تغلهم بالأغلال فقد كانوا يغتسلون من الجنابة يا مالك ! لا تعذبهم بالأنكال فقد طافوا بيتي الحرام يا مالك لا تلبسهم القطران فقد خلعوا ثيابهم للإحرام يا مالك مر النار لا تحرق ألسنتهم فقد كانوا يقرأون القرآن يا مالك قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم فالنار أعرف بهم و بمقادير استحقاقهم من الوالدة بولدها فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه و منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه و منهم من تأخذه النار إلى سرته و منهم من تأخذه إلى صدره و منهم دون ذلك فإذا انتقم الله عز و جل منهم على قدر كبائرهم و عتوهم و إصرارهم فتح بينهم و بين المشركين بابا فرأوهم في الطبق الأعلى من النار لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا يبكون و يقولون : يا محمداه ارحم من أمتك الأشقياء و اشفع لهم فقد أكلت النار لحومهم و دماءهم و عظامهم ثم ينادون : يا رباه يا سيداه ارحم من لم يشرك بك في دار الدنيا و إن كان قد أساء و أخطأ و تعدى فعندها يقول المشركون : ما أغنى عنكم إيمانكم بالله و بمحمد شيئا فيغضب الله تعالى لذلك فعندها يقول : يا جبريل انطلق فاخرج من في النار من أمة محمد فيخرجهم ضبائر قد امتحشوا فيلقيهم على نهر على باب الجنة يقال له نهر الحياة فيمكثون حتى يعودوا أنضر ما كانوا ثم يأمر بإدخالهم الجنة مكتوبا على جباههم : هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن من أمة محمد صلى الله عليه و سلم فيعرفون من بين أهل الجنة بذلك فيتضرعون إلى الله عز و جل أن يمحو عنهم تلك السمة فيمحوها الله تعالى عنهم فلا يعرفون بها بعد ذلك أبدا
و ذكر أبو نعيم الحافظ عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار و كل شيطان و كل من يخاف الناس شره في الدنيا فيوثقون بالحديد ثم أمر بهم إلى النار ثم أوصدها عليهم أي أطبقها فلا و الله لا تستقر أقدامهم على قرارها أبدا لا و الله ما ينظرون إلى أديم سماء أبدا : و لا و الله لا تلتقي جفونهم على غمض نوم و لا و الله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدا
قال : ثم يقال لأهل الجنة : يا أهل الجنة افتحوا اليوم الأبواب فلا تخافوا شيطانا و لا جبارا و كلوا اليوم و اشربوا بما أسلفتم في الأيام الخالية قال أبو عمران : إذا هي و الله يا إخوتاه أيامكم هذه
فصل : قوله : فيرش عليهم من الماء فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل و جاء في حديث أبي سعيد الخدري المتقدم ثم يقال : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء و المعنى واحد و النبات معروف و هو خروج الشيء : و الحبة بكسر الحاء بذور البقول و حميل السيل : ما احتمله من طين و غشاء فإذا اتفق أن يكون فيه حبة فإنها تنبت في يوم و ليلة و هي أسرع نابتة نباتا فشبه النبي صلى الله عليه و سلم سرعة نبات أجسادهم بسرعة نبات تلك الحبة و في التنزيل : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } و تقدم الكلام في نحو ذلك الاسم
و قوله : و أطولهم مكثا من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت و ذلك سبعة آلاف سنة
اختلف في انقضاء هذا العالم و في مدة الدنيا و أكثر المنجمون في ذلك فقال بعضهم : عمر الدنيا سبعة آلاف بعدد النجوم السيارة لكل واحد ألف سنة و قال بعضهم : بأنها إثنتا عشر ألف بعدد البروج لكل برج ألف سنة و قال بعضهم : ثلاثمائة و ستون ألف سنة بعدد درجات الفلك لكل درجة ألف سنة
و قوله : إلا رجلا واحدا يمكث فيها ألف سنة ثم ينادي : يا حنان يا منان الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه و المنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال سبحانه و تعالى لا إله إلا هو روي ذلك عن علي رضي الله عنه و قد ذكرنا في ذلك في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى و صفاته العليا مستوفى و الحمد لله و قد تقدم الكلام في نحو ذلك الاسم عنهم فلا معنى لإعادته
و قوله : و ينساهم على عرشه أي يتركهم في العذاب كما قال { نسوا الله فنسيهم } أي تركوا عبادته و توحيده فتركهم و العرش في كلام العرب له محامل كثيرة قد أتينا عليها في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى منها الملك كما قال زهير :
( تداركتما عبسا و قد ثل عرشها ... و ذبيان إذ زلت بأقدامها النعل )
و قال آخر :
( بعد ابن جفنة و ابن هاتاك عرشـ ... و الحارثين يؤملون فلاحا )
و تقول العرب : ثل عرش فلان إذا ذهب عزه و سلطانه و ملكه فالمعنى و ينساهم الرحمن على عرشه أي : بما هو عليه من الملك و السلطان و العظمة و الجلال لا يعبأ بهم و لا يلتفت إليهم لما حكم به في الأزل عليهم من خلودهم في النار و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط
و أجمع أهل السنة على أن أهل النار مخلدون فيها غير خارجين منها : كإبليس و فرعون و هامان و قارون و كل من كفر و تكبر و طغى فإن له جهنم لا يموت فيها و لا يحيا و قد وعدهم الله عذابا أليما فقال عز و جل { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } و أجمع أهل السنة أيضا على أنه لا يبقى فيها مؤمن و لا يخلد إلا كافر جاحد فاعلم
قلت : و قد زل هنا بعض من ينتمي إلى العلم و العلماء فقال : إنه يخرج النار كل كافر و مبطل و جاحد و يدخل الجنة فإنه جائز في العقل أن تنقطع صفة الغضب فيعكس عليه فيقال : و كذلك جائز في العقل أن تنقطع صفة الرحمة فيلزم عليه أن يدخل الأنبياء و الأولياء النار يعذلون فيها و هذا فاسد مردود بوعده الحق و قوله الصدق قال الله تعالى في حق أهل الجنان : { عطاء غير مجذوذ } أي : غير مقطوع و قال { و ما هم منها بمخرجين } و قال : { لهم أجر غير ممنون } و قال : { لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا } و قال في حق الكافرين { و لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } و قال : { فاليوم لا يخرجون منها و لا هم يستعتبون } و هذا واضح و بالجملة فلا مدخل للمعقول فيما اقتطع أصله الإجماع و الرسول { و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور }

باب منه ـ و ذكر الرجل الذي ينادي : يا حنان يا منان و بيان قوله تعالى فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون
ذكر ابن المبارك قال : أخبرنا الكلبي عن أبي صالح في قوله تعالى : { الله يستهزئ بهم } قال : يقال لأهل النار و هم في النار : اخرجوا فتفتح لهم أبواب النار فإذا انتهوا إلى أبوابهم أغلقت دونهم فذلك قوله عز و جل { الله يستهزئ بهم } و يضحك منهم المؤمنون حين غلقت دونهم فذلك قوله عز و جل { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون * على الأرائك ينظرون * هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون }
قال ابن المبارك و أخبرنا محمد بن بشار عن قتادة في قوله تعالى { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون } قال : ذكر لنا أن كعبا كان يقول : إن الجنة و النار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له في الدنيا أطلع من بعض الكوى قال الله سبحانه و تعالى في آية أخرى { فاطلع فرآه في سواء الجحيم } قال : ذكر لنا أنه يطلع فيرى جماجم القوم تغلي
أخبرنا معمر عن قتادة قال : قال بعض العلماء : لولا أن الله عز و جل عرفه إياه ما عرفه لقد تغير حبره و سبره فعند ذلك يقول : { تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } في النار
و الحبر و السبر : اللون و الهيئة من قولهم : جاءت الإبل حسنة الأحبار و الأسبار قاله الفراء و قال الأصمعي : هو البهاء و الجمال و أثر النعمة يقال فلان حسن الحبر و السبر إذا كان جميلا حسن الهيئة قال ابن أحمد :
( لبسنا حبرة حتى اقتضينا ... لآجال و أعمار قضينا )
و يقال أيضا : فلان حسن الحبر و السبر بالفتح و هذا كله مصدر قولك : حبرته تحبيرا و الأول اسم و تحبير الخط و الشعر و غيرهما تحسبينه و تزيينه
باب منه
روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن المستهزئين بعباد الله في الدنيا تفتح لهم أبواب الجنة يوم القيامة يقال لهم : ادخلوا الجنة فإذا جاءوا أغلق الباب دونهم و تفتح الثانية فيقال لهم : ادخلوا الجنة فإذا جاءوا أغلق الباب دونهم : و تفتح لهم الثالثة فيدعون فلا يجيبون قال فيقول لهم الرب أنتم المستهزئون بعبادي ؟ أنتم آخر الناس حسابا فيقومون حتى يغرقوا في عرقهم فينادون : يا ربنا إما صرفتنا إلى جهنم و إما إلى رضوانك ]
باب منه
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يؤمر يوم القيامة بأناس إلى الجنة حتى إذا دنوا منها و استنشقوا رائحتها و نظروا إلى قصورها و إلى ما أعد الله لأهلها فيها نودوا أن أصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون و الآخرون بمثلها فيقولون : يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما رأيتنا من ثوابك و ما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا قال : ذلك أردت بكم كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم و إذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراءون الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس و لم تهابوني و أجللتم الناس و لم تجلوني و تركتم للناس و لم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب الأليم مع ما حرمتكم من الثواب ] ذكره أبو حامد رحمه الله

باب ما جاء في ميراث أهل الجنة منازل أهل النار
جاء في الخبر [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة و مسكنا في النار فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم و يرثون منازل الكفار و تجعل الكفار في منازلهم من النار ]
و خرجه ابن ماجه بمعناه [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منكم من أحد إلا له منزلان : منزل في الجنة و منزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى { أولئك هم الوارثون } ] إسناده صحيح
قلت : و هذا بين في أن لكل إنسان منزلا في الجنة و منزلا في النار كما تقدم و قد قال ها هنا : ما منكم فخاطب أصحابه الكرام المنزهين عن الذنوب العظام الموجبة للنيران رضي الله عنهم و سيأتي لهذا مزيد بيان في أبواب الجنان إن شاء الله تعالى
باب ما جاء في خلود أهل الدارين و ذبح الموت على الصراط و من يذبحه
البخاري [ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صار أهل الجنة إلى الجنة و أهل النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة و النار ثم يذبح ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة لا موت و يا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم و يزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم ]
مسلم [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار يجاء يوم القيامة بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة و النار فيقال يا أهل الجنة : هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون و ينظرون فيقولون : نعم ! هذا الموت قال ثم يقال : يا أهل النار : هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون و ينظرون فيقولون : نعم ! هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح قال ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت و يا أهل النار خلود فلا موت فيها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { و أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر و هم في غفلة و هم لا يؤمنون } و أشار بيده إلى الدنيا ]
و أخرجه أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري يرفعه قال : إذا كان يوم القيامة أتى بالموت كالكبش الأملح فيوقف بين الجنة و النار فيذبح و هم ينظرون فلو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة و لو أن أحدا مات حزنا لمات أهل النار قال : هذا حديث حسن صحيح
و ذكر ابن ماجه في حديث فيه طول [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاء بالموت يوم القيامة فيوقف على الصراط فيقال يا أهل الجنة : فيطلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه ثم يقال يا أهل النار : فيطلعون مستبشرين فرحين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه فيقال : هل تعرفون هذا ؟ قالوا : نعم ! هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح على الصراط ثم يقال للفريقين كليهما : خلود فيما تجدون لا موت فيه أبدا ]
خرجه الترمذي بمعناه مطولا [ عن أبي هريرة أيضا و فيه : فإذا أدخل الله أهل الجنة الجنة و أهل النار النار أتى بالموت ملبيا فيوقف على السور الذي بين الجنة و بين النار ثم يقال يا أهل الجنة : فيطلعون خائفين ثم يقال : يا أهل النار : فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة فيقال لأهل الجنة و أهل النار : هل تعرفون هذا ؟ فيقول هؤلاء و هؤلاء : عرفناه هو الموت الذي وكل بنا فيضطجع فيذبح ذبحا على السور ثم يقال يا أهل الجنة : خلود لا موت و يا أهل النار خلود لا موت ] قال هذا حديث حسن صحيح
فصل : قلت : هذه الأحاديث مع صحتها نص في خلود أهل النار فيها لا إلى غاية و لا إلى أمد مقيمين على الدوام و السرمد من غير موت و لا حياة و لا راحة و لا نجاة بل كما قال في كتابه الكريم و أوضح فيه من عذاب الكافرين { و الذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا و لا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور * و هم يصطرخون فيها } إلى قوله { من نصير } و قال { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } و قال { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها } و قد تقدمت هذه المعاني كلها
فمن قال : إنهم يخرخون منها و أن النار تبقى خالية و بجملتها خاوية على عروشها و أنها تفنى و تزول فهو خارج عن مقتضى المعقول و مخالف لما جاء به الرسول و ما أجمع عليه أهل السنة و الأئمة العدول
{ و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم و ساءت مصيرا } و إنما نخلى جهنم و هي الطبقة العليا التي فيها العصاة من أهل التوحيد و هي التي ينبت على شفيرها فيما يقال الجرجير قال فضل بن صالح المعاقري : كنا عند مالك بن أنس ذات يوم فقال لنا انصرفوا : فلما كان العشية رجعنا إليه فقال : إنما قلت لكم انصرفوا لأنه جاءني رجل يستأذن علي زعم أنه قدم من الشام في مسألة فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في أكل الجرجير فإنه يتحدث عنه أنه ينبت على شفير جهنم ؟ فقلت له : لا بأس به فقال : أستودعك الله و اقرأ عليك السلام ذكره الخطيب أبو بكر أحمد رحمه الله
و ذكر أبو بكر البزار عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : يأتي على النار زمان تنفق الرياح أبوابها ليس فيها أحد يعني من الموحودين هكذا رواه موقوفا من قول عبد الله بن عمرو و ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه و سلم و مثله لا يقال من جهة الرأي فهو مرفوع
فصل : قد تقدم أن الموت معنى و الكلام في ذلك و في الأعمال و أنها لا تنقلب جوهرا بل يخلق الله أشخاصا من ثواب الأعمال و كذلك الموت يخلق الله كبشا يسميه الموت و يلقي في قلوب الفريقين أن هذا هو الموت و يكون ذبحه دليلا على الخلود في الدارين
قال الترمذي : و المذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة رضي الله عنهم مثل سفيان الثوري و مالك بن أنس و ابن المبارك و ابن عيينة و وكيع و غيرهم أنهم رووا هذه الأشياء و قالوا : و نروي هذه الأحاديث و لا يقال : كيف ؟ و هذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء و يؤمن بها و لا تفسر و لا تتوهم ؟ و لا يقال : كيف و هذا أمر أهل العلم الذي اختاروه و ذهبوا إليه
قال المؤلف رحمه الله : و إنما يؤتى بالموت كالكبش و الله أعلم لما جاء أن ملك الموت أتى آدم عليه السلام في صورة كبش أملح قد نشر من أجنحته أربعة آلاف جناح على ما تقدم أول الكتاب في باب : [ ما جاء في صفة ذلك الموت عند قبض روح المؤمن و الكافر ]
و في التفسير من سورة الملك عن ابن عباس و مقاتل و الكلبي في قوله { الذي خلق الموت و الحياة } أن الموت و الحياة جسمان فجعل الموت في هيئة كبش لا يمر بشيء و لا يجد ريحه إلا مات و خلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء و هي التي كان جبريل و الأنبياء عليهم السلام يركبونها خطوط مد البصر فوق الحمار و دون البغل لا تمر بشيء يجد ريحها إلا حيي و لا تطأ على شيء إلا حيي و هي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي حكاه الثعلبي و القشيري عن ابن عباس و الماوردي عن مقاتل و الكلبي
و معنى يشرئبون : يرفعون رؤوسهم و الأملح : من الكباش الذي يكون فيه بياض و سواد و البياض أكثر قاله الكسائي و قال ابن الأعرابي : و هو النقي البياض
و ذكر صاحب خلع النعلين : أن هذا الكبش المذبوح بين الجنة و النار أن الذي يتولى ذبحه يحيى بن زكريا عليهما السلام بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم و بأمره الأكرم و ذكر في ذبحه كلاما مناسبا لحياة أهل الجنة و حياة أهل النار و ذكر صاحب كتاب العروس : أن الذي يذبحه جبريل عليه السلام فالله أعلم
تم كتاب النار بحمد الله العزيز الغفار أجارنا الله منها بمنه بفضله و كرمه و لا رب غيره
بسم الله الرحمن الرحيم ـ أبواب الجنة و ما جاء فيها و في صفتها و نعيمها
وصف الله تعالى الجنات في كتابه وصفا يقوم العيان في غير ماسورة من القرآن و أكثر ذلك في سورة الواقعة و الرحمن و هل أتاك حديث الغاشية و سورة الإنسان و ذلك أيضا نبينا محمد صلى الله عليه و سلم بأوضاح بيان فنذكر من ذلك ما بلغنا في الأخبار الصحاح و الحسان و عن السلف الصالح أهل الفضل و الإحسان رضي الله عنهم و حشرنا معهم آمين
ذكر ابن وهب قال : [ و حدثنا ابن زيد قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم ليقرأ { هل أتى على الإنسان حين من الدهر } و قد أنزلت عليهو عنده رجل أسود قد كان يسأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال له عمر بن الخطاب : حسبك لا تثقل على النبي صلى الله عليه و سلم قال : دعه يا ابن الخطاب قال : فنزلت عليه هذه السورة و هو عنده فلما قرأها عليه و بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أخرج نفس صاحبكم أو أخيكم الشوق إلى الجنة ]
باب صفة أهل الجنة في الدنيا
قال ابن وهب سمعت ابن زيد يقول : وصف الله أهل الجنة بالمخافة و الحزن و البكاء و الشفقة في الدنيا فأعقبهم به النعيم و السرور في الآخرة و قرأ قول الله عز و جل { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } قال : و وصف أهل النار بالسرور في الدنيا و الضحك فيها و التفكه فقال : { إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى } و قد تقدم من صفة أهلها ما فيه كفاية و الحمد لله وحده
باب منه ـ و هل تفضل جنة جنة ؟
قال الله تعالى { و لمن خاف مقام ربه جنتان } ثم وصفهما ثم قال بعد ذلك { ومن دونهما جنتان } و عن ابن عباس في تأويل قوله تعالى { و لمن خاف مقام ربه جنتان } أي بعد أداء الفرائض جنتان قيل : على حدة فلكل خائف جنتان و قيل : جنتان لجميع الخائفين و الأول أظهر قال الترمذي محمد بن علي : جنة لخوفه من ربه و جنة لتركه لشهوته و المقام الوضيع أي : خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية و قيل : خاف قيام ربه عليه أي : إشرافه و اطلاعه عليه بيانه : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت }
و قال مجاهد و النخعي : هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه
و روي [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : الجنتان بستنان في عرض الجنة كل بستان مسيرة مائة عام في وسط كل بستان دار من نور على نور و ليس منها شيء إلا يهتز نعمة و خضرة قرارها ثابت و شجرها نابت ] ذكره الهروي و الثعلبي أيضا من حديث أبي هريرة و قيل : إن إحدى الجنتين أسافل القصور و الأخرى أعاليها و قال مقاتل : هما جنة عدن و جنة النعيم
و قوله { و من دونهما جنتان } قال ابن عباس : أي و له من دون الجنتين الأوليين جنتان أخريان قال ابن عباس : و من دونهما أي في الدرج و الجنات لمن خاف مقام ربه فيكون في الأوليين النخل و الشجر و في الأخريين : الزرع و النبات و ما انبسط
قال الماوردي : و يحتمل أن يكون { و من دونهما جنتان } لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلته إحداهما للحور العين و الأخرى للولدان المخلدين ليتميز فيها الذكور من الإناث
و قال ابن جريج هي أربع جنان : جنتان منها للسابقين المقربين فيهما من كل فاكهة زوجان و عينان تجريان و جنتان لأصحاب اليمين فيهما فاكهة و نحل و رمان و فيهما عينان تضاختان و قال ابن زيد : الأوليان من ذهب للمقربين و الأخريان من ورق لأصحاب اليمين
قال المؤلف رحمه الله : و إلى هذا ذهب الحليمي أبو عبد الله الحسن بن الحسين في كتاب منهاج الدين له و احتج لما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس { و لمن خاف مقام ربه جنتان } إلى قوله { مدهامتان } قال : هاتان للمقربين و هاتان لأصحاب اليمين و عن أبي موسى الأشعري نحو ذلك
و لما وصف الله الجنتين أشار إلى الفرق بينهما : فقال في الأولين { فيهما عينان تجريان } و في الأخريين { فيهما عينان نضاختان } أي فوارتان بالماء لكنهما ليستا كالجاريتين لأن النضخ دون الجري و قال { فيهما من كل فاكهة زوجان } معروف و غريب أو رطب و يابس فعم و لم يخص و في الأخريين { فيهما فاكهة و نخل و رمان } و لم يقل من كل فاكهة و قال في الأوليين { متكئين على فرش بطائنها من إستبرق } و هو الديباج و في الأخريين { متكئين على رفرف خضر و عبقري حسان }
و العبقري : الوشي و لا شك أن الديباج أعلى من الوشي و الرفرف كسر الخباء و لا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من فضل الخباء و قال في الأولييم في صفة الحور العيم { كأنهن الياقوت و المرجان } و في الأخريين { فيهن خيرات حسان } و ليس كل حسن كحسن الياقوت و المرجان و قال في الأوليين { ذواتا أفنان } و في الأخريين { مدهامتان } أي خضروان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان و وصف الأوليين بكثرة الأغصان و الأخريين بالخضرة وحدها و في هذا كله تحقيق للمعنى الذي قصدناه قوله { و من دونهما جنتان } و لعل ما لم يذكره من تفاوت ما بينهما أكثر مما ذكر
فإن قيل كيف لم يذكر أهل هاتين الجنتين كما ذكر أهل الجنتين الأوليين ؟ قال : الجنان الأربع لمن خاف مقام ربه إلا أن الخائفين لهم مراتب فالجنتان الأوليان لأعلى العباد رتبة في الخوف من الله تعالى و الجنتان الأخريان لمن قصر حاله في الخوف من الله تعالى
قال المؤلف رحمه الله : فهذا قول و القول الثاني أن الجنتين في قوله تعالى : { و من دونهما جنتان } أعلى و أفضل من الأوليين ذهب إلى هذا الضحاك و أن الجنتين الأوليين من ذهب و فضة و الأخريين من ياقون و زمرد
و قوله : { و من دونهما جنتان } أي و من أمامهما و من قبلهما و إلى هذا القول ذهب أبو عبد الله محمد الترمذي الحكيم في : نوادر الأصول و قال : و معنى { و من دونهما جنتان } أي دون هاتين إلى العرش أي أقرب و أدنى إلى العرض و قال مقاتل الجنتان الأوليان : جنة عدن و جنة النعيم و الأخريان جنة الفردوس و جنة المأوى
قال المؤلف رحمه الله : و يدل على هذا قوله عليه الصلاة و السلام : [ إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ] الحديث و سيأتي قال الترمذي : و قوله { فيهما عينان نضاختان } أي بألوان الفواكه و النعيم و الجواري المزينات و الدواب المسرجات و الثياب الملونات و هذا يدل على أن النضخ أكثر من الجري
قال المؤلف رحمه الله : على هذا تدل أقوال المفسرين : روي عن ابن عباس نضاختان : أي فوارتان بالماء و النضخ بالخاء أكثر من النضح بالحاء و عنه أيضا أن المعنى نضاختان بالخير و البركة قاله الحسن و مجاهد و عن ابن عباس أيضا و ابن مسعود : تنضخ على أولياء بالمسك و الكافور و العنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر و قال سعيد بن جبير : بأنواع الفواكه و الماء
و قوله : فيهما { فاكهة و نخل و رمان } قال بعض العلماء : ليس الرمان و النخل من الفاكهة لأن الشيء لا يعطف على نفسه و هذا ظاهر الكلام و قال الجمهور : هما من الفواكه و إنما أعاد ذكر النخل و الرمان لفضلهما على الفواكه كقوله تعالى { حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى } و قوله { من كان عدوا لله و ملائكته و رسله و جبريل و ميكال } و قيل إنما كررهما لأن النخل و الرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا لأن النخل عامة قوتهم و الرمان كالثمرات فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليها و كانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها و إنما ذكر الفواكه ثم ذكر النخل و الرمان لعمومها و كثرتهما عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاهما من بلاد اليمين فأخرجهما في الذكر من الفواكه و أفرد الفواكه على حدتها
و قوله : { فيهن خيرات حسان } يعني النساء و الواحدة خيرة قاله الترمذي : الخيرة ما اختارهن الله فأبدع خلقهن باختياره و اختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين ثم قال حسان فوصفهن بالحسن فإذا وصف خالق الشيء شيئا بالحسن فمن ذا الذي يقدر أن يصف حسنهن ؟ فانظر ما هنالك و في الأوليين ذكر بأنهن قاصرات الطرف و كأنهن الياقوت و المرجان فانظركم بين الخيرة و هي مختارة الله و بين قاصرات الطرف ؟ ثم قال { حور مقصورات في الخيام } و قال في الأوليين : { فيهن قاصرات الطرف } قصران طرفهن على الأزواج و لم يذكر أنهن مقصورات : فدل على أن المقصورات أعلى و أفضل
و قد بلغنا في الرواية : أن سحابة مطرت من العرش فخلقن من قطرات الرحمة ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطئ الأنهار سعتها أربعون ميلا و ليس لها باب حتى إذا حل ولى الله بالخيمة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة و الخدم لم تأخذها و هي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين و الله أعلم
ثم قال : { متكئين على رفرف خضر } اختلف في الرفرف ما هو ؟ فقيل : كسر الخباء و جوانب الدرع و ما تدلى منها الواحدة رفرفة و قيل : الرفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به و أهوى به كالمرجاج يمينا و شمالا و رفعا و خفضا يتلذذ به مع أنيسته و اشتقاقه على هذا من رف يرف إذا ارتفع و منه رفة الطائر لتحريكه جناحيه في الهواء و ربما سمي الظليم رفرفا بذلك لأنه يرف بجناحيه ثم يعدو و رفرف الطائر أيضا إذا حرك جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه
قال الترمذي الحكيم : فالرفرف أعظم خطرا من العرش و ذكر في الأوليين : { متكئين على فرش بطائنها من إستبرق } و قال هنا { متكئين على رفرف خضر } فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به أي طار هكذا و هكذا حيث ما يريد كالمرجاح
و روي لنا [ حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بلغ سدرة المنتهى جاءه الرفرف فتناوله من جبريل و طار به إلى سند العرش فذكر أنه طار بي و يخفضني و يرفعني حتى وقف بي على ربي ثم لما حان الأنصراف تناوله فطار به خفضا و رفعا يهوي به حتى أدله إلى حبريل صلوات الله عليهما ] و جبريل يبكي و يرفع صوته بالتحميد و الرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور في محل الدنو و القربة كما أن البراق دابة يركبها الأنبياء صلوات الله عليهم مخصوصة بذلك في أرضه فهذا الرفرف الذي سخره الله لأجل الجنتين الدانيتين هو متكأهما و فرشهما يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار و شطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه الخيرات الحسان
ثم قال : { و عبقري حسان } و العبقري : ثياب منقوشة تبسط فإذا قال خالق النقوش : إنها حسان فما ظنك بتلك العباقر و العبقري : قرية من ناحية اليمن فيما بلغنا ينسج فيها بسط منقوشة فذكر الله ما خلق في تلك الجنتين من البسط المنقوشة الحسان و الرفرف الخضر إنما ذكر لهم من الجنان ما يعرفون أسماءها هنا فبان تفاوت هاتين الجنتين
و قد روي عن بعض السلف : فإذا هو يشير إلى أن هاتين الجنتين من دونهما أي أسفل منهما وادون : فكيف يكون مع هذه الصفة أدون فحسبته لم يفهم الصفة ذكره في الأصل التاسع و الثمانين من كتاب : نوادر الأصول
فصل : لما قال الله تعالى سبحانه و تعالى { و لمن خاف مقام ربه جنتان } ثم قال : { و من دونهما جنتان } دل على أن الجنان أربع لا سبع على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
باب صغة الجنة و نعيمها و ما أعد الله لأهلها فيها
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى عز و جل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتكم عليه ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ] بله : بمعنى : غير و قيل : اسم من أسماء الأفعال بمعنى دع
ابن ماجه [ عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذات يوم لأصحابه : ألا مشمر للجنة ؟ بأن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ و ريحانة تهتز و قصر مشيد و نهر مطرد و فاكهة كثيرة نضيجة و زوجة حسناء جميلة و حلل كثيرة في مقام أبد في جدة و نضرة في دار عالية سليمة بهية قالوا : نحن المشمرون لها يا رسول الله قال : قولوا إن شاء الله ثم ذكر الجهاد و حض عليه ]
الترمذي [ عن أبي هريرة قال : قلت يا رسول الله مم خلق الخلق ؟ قال : من الماء قلت : الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنة من فضة و لبنة من ذهب بلاطها المسك الأذفر و حصباؤها اللؤلؤ و الياقوت و تربتها الزعفران من دخلها ينعم لا ييأس و يخلد لا يموت لا تبلى ثيابهم و لا يفنى شبابهم ] ذكر الحديث قال ليس إسناده ذلك بالقوي و ليس هو عندي بمتصل و قد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم
قال المؤلف رحمه الله : خرجه أبو داود الطيالسي في سنده قال : [ حدثنا إبراهيم بن معاوية عن سعيد الطائي قال : حدثني أبو المدله مولى أم المؤمنين أنه سمع أبا هريرة يقول : قلنا يا رسول الله لماذا كنا عندك رقت قلوبنا و كنا من أهل الآخرة فإذا فارقناك و شممنا النساء و الأولاد أعجبتنا الدنيا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو أنكم تكونون إذ فارقتموني كما تكونون عندي لصافتحكم الملائكة بأكفها و لزارتكم في بيوتكم و لو كنتم لا تذنبون لجاؤ الله بقوم يذنبون كي يستغفروا فيغفر لهم قلنا : يا رسول الله أخبرنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال : لبنة من ذهب و لبنة من فضة و بلاطها المسك الأذفر و حصباؤهما الدر و الياقوت و ترابها الزعفران من يدخلها يبقى لا ييأس و يخلد لا يموت و لا تبلى ثيابه و لا يفنيى شبابه ]
مسلم [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لابن صياد : ما تربة الجنة ؟ قال : درمكة بيضاء مسك يا أبا القاسم قال : صدقت ]
و عنه أن [ ابن صياد سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن تربة الجنة فقال : ما درمكة بيضاء مسك خالص ]
ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن قتادة عن العلاء بن يزيد عن أبي هريرة قال : حائط الجنة لبنة من فضة و لبنة من ذهب و درجها اللؤلؤ و الياقوت قال : و كنا نحدث أن رضاختها اللؤلؤ و ترابها الزعفران
قلت : كل هذا مرفوع حسب ما تقدم في هذا الباب و يأتي
باب ما جاء في أنهار الجنة و جبالها و ما جاء في الدنيا منها
قال الله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن و أنهار من لبن لم يتغير طعمه و أنهار من خمر لذة للشاربين و أنهار من عسل مصفى } و روي أنها تجري في غير أخدود منضبطة بالقدرة
و يروي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أنهار في الجنة تخرج من تحت تلال أو جبال مسك ] ذكره العقيلي
و ذكر إسماعيل بن إسحاق قال : [ حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس قال : حدثني كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله أربعة جبال من جبال الجنة و أربعة أنهار من أنهار الجنة و أربعة ملاحم من ملاحم الجنة قيل فمن الأجبل ؟ قال : جبل أحد يحبنا و نحبه و الطور : جبل من جبال الجنة و لبنان : جبل من جبال الجنة و الجودي : جبل من جبال الجنة و الأنهار : النيل و الفرات و سيحان و جيحان و الملاحم : بدر و أحد و الخندق و خيبر ]
و بالسند المذكور قال : [ غزونا مع النبي صلى الله عليه و سلم أول غزوة غزاها الأبواء حتى إذا كنا بالروحاء نزل بعرق الظبية فصلى بهم ثم قال : هل تدرون ما اسم هذا الجبل ؟ قالوا : الله و رسوله أعلم قال : هذا خصيب جبل من جبال الجنة اللهم فبارك فيه و بارك لأهله و قال : للروحاء : هذه سجاسج واد من أودية الجنة لقد صلى في هذا المسجد قبلي سبعون نبيا و لقد مر بها موسى عليه السلام عليه عباءتان قطونيتان على ناقة ورد في سبعين ألفا من بني إسرائيل حتى جاء البيت العتيق ] الحديث و سيأتي تمامه إن شاء الله تعالى
الترمذي [ عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة بحر الماء و بحر اللين و بحر العسل و بحر الخمر ثم تنشق الأنهار بعد ذلك ] قال : أبو عيسى : هذا حديث صحيح و حكيم بن معاوية هو والد بهز بن حكيم
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : سيحان و جيحان و النيل و الفرات كل من أنهار الجنة و قال كعب : نهر دجلة نهر بالجنة و نهر الفرات نهر لبنهم و نهر مصر نهر خمرهم و نهر سيحان نهر عسلهم و هذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر ]
و ذكر البخاري من طريق شريك [ عن أنس في حديث الإسراء فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال : ما هذان يا جبريل ؟ قال : النيل و الفرات عنصرهما ثم مضى في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من اللؤلؤ و الزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر قال : ما هذا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ]
باب منه و ما جاء في رفع هذه الأنهار آخر الزمان عند خروج يأجوج و مأجوج
و رفع القرآن و العلم
ذكر أبو جعفر النحاس قرئ على أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس [ عن جامع بن سوادة قال حدثنا سعيد بن سابق حدثنا مسلمة بن علي عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أنزل الله عز و جل إلى الأرض خمسة أنهار : سيحون و هو نهر الهند و جيحون و هو نهر بلخ و دجلة و الفرات و هما نهر العراق و النيل و هو نهر مصر أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة في أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال و أجراها في الأرض و جعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم و ذلك قوله جل ثناؤه : { و أنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } فإذا كان عند خروج يأجوج و مأجوج أرسل الله جبريل رفع من الأرض القرآن و العلم و جميع الأنهار الخمسة فيرفع ذلك إلى السماء فذلك قوله تعالى : { و إنا على ذهاب به لقادرون } فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا و الدين ]
قلت : رفع القرآن عند خروج يأجوج و مأجوج فيه نظر و سيأتي بيانه آخر الكتاب إن شاء الله تعالى
و روي عن المسعودي أنه قال : مد الفرات على عهد ابن مسعود فكره الناس مده فقال ابن مسعود : لا تكرهوا مده فإنه سيأتي زمان يلتمس فيه طست مملوء من ماء فلا يوجد و ذلك حين يرجع كل ماء إلى عنصره فيكون بقية الماء و العيون بالشام و سيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى
باب من أين تفجر أنهار الجنة ؟
البخاري [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من آمن بالله و رسوله و أقام الصلاة و صام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها قالوا يا رسول الله : أفلا نبشر الناس ؟ قال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء و الأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة و أعلى الجنة و فوقه عرش الرحمن و منه تفجر أنهار الجنة ]
خرجه ابن ماجه أيضا و غيره
و قال أبو حاتم البستي : معنى قوله : فإنه أوسط الجنة يريد في الارتفاع و قال قتادة : الفردوس ربوة الجنة و أوسطها و أعلاها و أفضلها و أرفعها
و قد قيل : إن الفردوس اسم يشمل جميع الجنة كما أن جهنم اسم لجميع النيران كلها لأن الله تعالى مدح في أول سورة المؤمنين أقواما وصفهم ثم قال : { هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } ثم أعاد ذكرهم في سورة المعارج فقال : { أولئك في جنات مكرمون } فعلمنا أن الفردوس جنات لا جنة واحدة قاله وهب بن منبه
باب ما جاء أن الخمر شراب أهل الجنة و من شربه في الدنيا لم يشربه في
الآخرة و في لباس أهل الجنة و آنيتهم
النسائي [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة و من شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة و من شرب في آنية الذهب و الفضة لم يشرب بها في الآخرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لباس أهل الجنة و شراب أهل الجنة و آنية أهل الجنة ]
قلت : إن قال قائل : قد سوى النبي صلى الله عليه و سلم بين الأشياء الثلاثة و أنه يحرمها في الآخرة فهل يحرمها إذا دخل الجنة ؟ قلنا : نعم ! إذا لم يتب منها لقوله عليه الصلاة و السلام : [ من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة ] خرجه مالك [ عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم و كذلك لابس الحرير و من أكل في آنية الذهب و الفضة أو شرب فيها لاستعجاله ما أخر الله له في الآخرة و ارتكاب ما حرم الله عليه في الدنيا ]
و قد روى أبو داود الطيالسي في مسنده قال : [ حدثنا هشام عن قتادة عن داود السراج عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة و إن دخل الجنة لبسه أهل الجنة و لم يلبسه هو ] و هذا نص صريح و إسناد صحيح فإن كان و إن دخل الجنة لبسه أهل الجنة و لم يلبسه من قوله النبي صلى الله عليه و سلم فهو الغاية في البيان و إن كان من قول الراوي على ما ذكر أنه موقوف فهو أعلم بالمقال و أقعد بالحال و مثله لا يقال من جهة الرأي و سيأتي لهذا الباب مزيد بيان
باب ما جاء في أشجار الجنة و في ثمارها و ما يشبه ثمر الجنة في الدنيا
الترمذي [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر اقرأوا إن شئتم { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } و في الجنة سجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها و اقرأوا إن شئتم { و ظل ممدود } و موضع سوط في الجنة خير من الدنيا و ما فيها و اقرأوا إن شئتم { فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح
ابن المبارك [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين أو قال مائة سنة و هي شجرة الخلد ] قال : و أخبرنا ابن أبي خلدة عن زياد مولى بني مخزوم سمع أبا هريرة يقول : في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة و اقرأوا إن شئتم { و ظل ممدود } فبلغ ذلك كعبا فقال : صدق و الذي أنزل التوراة على لسان موسى بن عمران و الفرقان على محمد صلى الله عليه و سلم لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ثم دار في أصل تلك الشجرة و ما يبلغها حتى يسقط هرما إن الله تعالى غرسها بيده و نفخ فيها من روحه و إن أفنائها لمن وراء سور الجنة و ما في الجنة نهر إلا و يخرج من أصل تلك الشجرة
الترمذي [ عن أسماء بنت أبي بكر قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ـ و ذكر لها سدرة المنتهى ـ قال : يسير الراكب في ظل الفنن منها مائة سنة أو يستظل بظلها مائة راكب ـ شك يحيى ـ فيها فراش الذهب ـ كأن ثمرها القلال ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح
و ذكر عبد الرزاق قال : [ أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لما رفعت لي سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر و ورقها مثل آذان الفيلة يخرج من ساقها نهران ظاهران و نهران باطنان قلت : يا جبريل ما هذه ؟ قال : أما الباطنان ففي الجنة و أما الظاهران فالنيل و الفرات ]
قلت : كله لفظ مسلم إلا قوله : نبقها مثل قلال هجر أخرجه الدارقطني في سننه قال : حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد الرزاق فذكره
و خرج البخاري أيضا [ من حديث قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك عن مالك ابن صعصعة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الحديث حديث الإسراء و فيه : و رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها كأنه قلال هجر و ورقها كأنه آذان الفيلة و في أصلها أربعة أنهار : نهران ظاهران و نهران باطنان ] وذكر الحديث
و في حديث ابن مسعود سدرة المنتهى : صبر الجنة قال أبو عبيدة : صبرها أعلاها و كذلك صبر كل شيء أعلاه و الجمع : أصبار
قال النمر بن تولب يصف روضة :
( غرست و باكرها الربيع نديمة ... و طفاء تملؤها إلى أصبارها )
يعني إلى أعاليها و هي جماعة للصبر و قال الأحمر : الصبر جانب الشيء لغتان : صبر و بصر كما قالوا : جبذ و جذب و قال أبو عبيد : ـ و قول أبي عبيدة أعجب ـ إلى أن يكون في أعلاها من أن يكون في جانبها
ابن المبارك قال : [ حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يقولون : إنه لتنفعنا الأعراب و مسائلهم قال : أقبل أعرابي يوما فقال يا رسول الله : لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية و ما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ؟ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و ما هي ؟ قال : السدر فإن له شوكا مؤذيا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو ليس يقول الله تعالى { في سدر مخضود } خضد شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا تفتق الثمر منها على إثنين و سبعين لونا و طعام ما فيه لون يشبه الآخر و يروى التمر بالتاء باثنين فيها كلها ] قاله أبو محمد عبد الحق
و ذكر عبد الرزاق [ أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن يزيد البكالي عن عتبة بن عبد السلمي قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن الجنة و ذكر له الحوض فقال فيها فاكهة ؟ قال : نعم فيها شجرة تدعى طوبى قال يا رسول الله أي شجر أرضنا يشبهه ؟ قال : لا يشبهه شيء من شجر أرضك أتيت الشام ؟ هنالك شجرة تدعى الجوزة تنبت على ساق و يفرش أعلاها قال يا رسول الله فما أعظم أصلها ؟ قال لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر قوتها هرما قال فهل فيها عنب ؟ قال : نعم ! قال : فما عظم العنقود منها ؟ قال : مسيرة الغراب شهرا لا يقع و لا يفتر قال : فما عظم الحبة منها ؟ قال : أما أعمد أبواك و أهلك إلى جذعة فذبحوها و سلخ إهابها ؟ فقال : افروا لنا منها دلوا فقال يا رسول الله : إن تلك الحبة لتشبعني و أهل بيتي ؟ قال : نعم و عامة عشيرتك ] ذكره أبو عمر في التمهيد بإسناده و هو إسناد صحيح
و ذكر مسلم [ من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت في مقامك شيئا ثم رأيناك تكعكعت ؟ فقال : إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا و لو أخذته لأكلتم منها ما بقيت في الدنيا ] تكعكعت معناه تأخرت يقال منه : كع يكع كعوعا تأخر و الكع : الضعيف العاجر قال الشاعر :
( و لكني أمضي على ذاك مقدما ... إذا بعض من لا قى الخطوب تكعكعا )
و ذكر ابن المبارك : حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة قال : نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فرعها و ثمرها كأمثال القلال كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى و إن ماءها ليجري في غير أخدود و العنقود اثنا عشر ذراعا ثم أتى على الشيخ فقال : من حدثك بهذا ؟ قال : مسروق
و ذكر ابن وهب من حديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة الباهلي قال : طوبى شجرة في الجنة ! ليس منها دار إلا فيها غصن منها و لا طير حسن إلا و هو فيها و لا ثمرة إلا و هي فيها
و ذكر الخطيب أبو بكر أحمد عن إبراهيم بن نوح قال : سمعت مالك بن أنس يقول : ليس في الدنيا من ثمارها شيء يشبه ثمار الجنة إلا الموز لأن الله تعالى يقول : { أكلها دائم و ظلها } و إننا نجد الموز في الشتاء و الصيف
و ذكر الثعلبي بإسناده من حديث الأوزاعي [ عن يحيى بن أبي كثير قال : حدثني الثقة عن أبي ذر قال : أهدى للنبي صلى الله عليه و سلم طبق من تين فأكل منه و قال لأصحابه : كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من السماء قلت : هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير و تنفع من النقرس ] ذكره القشيري أبو نصر و هذا أتم
قلت : و رأيت بخط الفقيه الإمام المحدث أبي الحسن علي بن خلف الكوفي أبي شيخنا أبي القاسم عبد الله و حدث حديثا عليه سماع جماعة على أبي الفرج محمد بن أبي حاتم محمود بن أبي الحسن القزويني في ربيع الأول سنة ثمان و تسعين و أربعمائة قال : [ حدثنا أبو جعفر محمد بن زيد الجعفري في شوال سنة ثمان و ثلاثين و أربعمائة قال : حدثنا أبي قال : حدثنا يحيى بن الحسين الحسيني قال : حدثنا عقيل بن سمرة حدثنا علي ابن حماد الغازي حدثنا عباس ابن أحمد قال : حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا علي فكهوا بالبطيخ و عظموه فإن ماءه من الجنة و حلاوته من حلاوة الجنة و ما من عبد أكل منها لقمة إلا أدخل الله جوفه سبعين دواء و أخرج منه سبعين داء و كتب الله له بكل لقمة عشر حسنات و محا عنه عشر سيئات و رفع له عشر درجات ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { و أنبتنا عليه شجرة من يقطين } ] قال : الدباء و البطيخ من الجنة
باب في كسوة الجنة و كسوة أهلها
قال الله تعالى { و يلبسون ثيابا خضرا من سندس و إستبرق } و قال { و لباسهم فيها حرير }
و ذكر ابن هناد السري قال : [ حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن البراء ابن عازب قال : أهدى لرسول الله سرقة من حرير فجعلوا يتداولونها بينهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتعجبون منها ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : والدي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها ] قال هناد بن السري : [ و حدثنا قبيصة عن حماد بن سلمة عن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أن عطادر بن حاجب أهدى لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثوبا من ديباج كساه إياه كسرى فاجتمع إليه الناس فجعلوا يلمسونه و يعجبون و يقولون يا رسول الله : أنزل عليك هذا من السماء ؟ فقال : ما تعجبون ! فو الذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا يا غلام إذهب بهذا إلى أبي جهم و جئنا بأنبجانيته ]
باب ما جاء أن شجر الجنة و ثمارها تنفتق عن ثياب الجنة و خيلها و نجبها
ابن المبارك أخبرنا معمر عن الأشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : في الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول الله تعالى : تفتقي لعبدي ما شاء فتنفتق له عن فرس بسرجه و لجامه و هيأته كما يشاء و تنفتق له عن الراحلة برحلها و زمامها و هيأتها كما يشاء عن النجائب و الثياب
النسائي [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاء رجل فقال يا رسول الله : أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلقا تخلق أو نسجا تنسج ؟ فضحك بعض القوم فقال : مم تضحكون ؟ إن جاهلا يسأل عالما فيجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين السائل عن ثياب الجنة ؟ فقالوا : ها هو ذا يا رسول الله قال : لا بل تنفتق عنها ثمر الجنة قالها ثلاثا ] و الله أعلم
باب ليس في الجنة شجرة إلا و ساقها من ذهب
الترمذي [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما في الجنة شجرة إلا و ساقها من ذهب ] قال حديث حسن غريب و سيأتي لهذا مزيد بيان آنفا في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى
باب ما جاء في نخيل الجنة و ثمرها و خيرها
ابن المبارك قال أخبرنا سفيان عن حماد بن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر و كرمها ذهب أحمر و سعفها كسوة لأهل الجنة منها مقطعاتهم و حللهم و تمرها أمثال القلال و الدلاء أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل و ألين من الزبد ليس فيها عجم
ابن وهب قال : [ و حدثنا ابن زيد قال : قال رجل يا رسول الله هل في الجنة من نخل فإني أحب النخل ؟ قال : أي و الذي نفسي بيده لها جذوع من ذهب و كرانيف من ذهب و جريد من ذهب و سعف كأحسن حلل يراها امرؤ من العالمين و عراجين من ذهب و شماريخ و كرانيف من ذهب و أقماع من ذهب و ثمارها كالقلال و ألين من الزبد و أحلى حلاوة من العسل ]
و ذكر أبو الفرج بن الجوزي [ عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أخذ عودا بيده فقال : يا جرير لو طلبت في الجنة مثل هذا العود لم تجده قال فقلت فأين النخل و الشجر ؟ قال : أصولها اللؤلؤ و الذهب و أعلاها الثمر ]
باب في الزرع في الجنة
البخاري [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : كان يوما يحدث و عنده رجل من أهل البادية أن رجلا من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له : أو لست فيما شئت قال : بلى ! و لكني أحب أن أزرع فأسرع و بذر فبادر الطرف نباته و استواؤه و استحصاده و تكويره أمثال الجبال فيقول الله : دونك يا ابن آدم فإنه لا يشبعك شيء فقال الأعرابي يا رسول الله : لا تجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع فأما نحن فلنسا بأصحاب زرع فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
باب ما جاء في أبواب الجنة و كم هي ؟ و لمن هي ؟ و في تسميتها و سعتها
قال الله تعالى : { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } قال جماعة من أهل العلم : هذه واو الثمانية فللجنة ثمانية أبواب و استدلوا بقوله عليه الصلاة و السلام : [ ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ] رواه عمر بن الخطاب خرجه مسلم
و جاء في تعيين هذه الأبواب لبعض العلماء كما جاء في حديث الموطأ و صحيح البخاري و مسلم [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة و من كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد و من كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة و من كان من أهل الصيام دعي من باب الريان فقال أبو بكر : يا رسول الله ما على أحد يدعى من هذه الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من هذه الأبواب ؟ قال : نعم ! و أرجو أن تكون منهم ]
قال القاضي عياض : ذكر مسلم في هذا الحديث من أبواب الجنة أربعة و زاد غيره بقية الثمانية فذكر منها : باب التوبة و باب الكاظمين الغيظ و باب الراضين و الباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه
قلت : فذكر الترمذي الحكيم أبو عبد الله أبواب الجنة في نوادر الأصول فذكر باب محمد صلى الله عليه و سلم و هو باب الرحمة و هو باب التوبة فهو منذ خلقه الله مفتوح لا يغلق فإذا طلعت الشمس من مغربها أغلق فلم يفتح إلى يوم القيامة و سائر الأبواب مقسومة على أعمال البر فباب منها للصلاة و باب للصوم و باب للزكاة و الصدقة و باب للحج و باب للجهاد و باب للصلة و باب للعمرة فزاد باب الحج و باب العمرة و باب الصلة فعلى هذا أبواب الجنة أحد عشر بابا
و قد ذكر الآجري أبو الحسن [ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن في الجنة بابا يقال له باب الضحى فإذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الذين كانوا يداومون على صلاة الضحى ؟ هذا بابكم فادخلوه ] ذكره في كتاب النصيحة و لا يبعد أن يكون لنا ثالث عشر على ما ذكره أبو عيسى الترمذي [ عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : باب أمتي الذين يدخلون منه الجنة عرضه مسيرة الراكب المجد ثلاثا ثم إنهم ليضغطون بعليه حتى تكاد مناكبهم تزول ] قال الترمذي : سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه قال لخالد بن أبي بكر مناكير عن سالم بن عبد الله
قلت : فقوله باب أمتي يدل على أنه لسائر أمته فمن لم يغلب عليه عمل يدعى به و على هذا يكون ثالث عشر و لهذا يدخلون مزدحمين و قد تقدم أن أكثر أهل الجنة البله فالله أعلم
و مما يدلة على أنها أكثر من ثمانية [ حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله صادقا من نفسه أو قلبه شك أيهما قال فتح له من أبواب الجنة ثمانية أبواب يوم القيامة يدخل من أيها شاء ]
خرجه الترمذي و غيره قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد هكذا قال فتح له من أبواب الجنة و ذكر أبو داود و النسائي و ابن سنجر فتحت له أبواب الجنة الثمانية ليس فيها ذكر من فعلى هذا أبواب الجنة ثمانية كما قالوا
قلت : قد ذكرنا أنها أكثر من ثمانية و بالله توفيقنا و أما كون الواو في و فتحت أبوابها واو الثمانية و أن أبواب الجنة كذلك ثمانية أبواب فقد جاء ما يدل على أنها ليست كذلك في قوله تعالى { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } فخلو المتكبر و هو ثامن اسم من الواو يدل على بطلان ذلك القول و تضعيفه و قد بيناه في سورة براءة و الكهف من كتاب جامع أحكام القرآن و الحمد لله
و قد خرج مسلم عن خالد بن عمير قال : خطبنا عتبة بن غزوان و كان أميرا على البصرة فحمد الله و أثنى عليه و ذكر الحديث على ما تقدم و فيه : و لقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة و ليأتين عليه يوم و هو كظيظ من الزحام الحديث
و خرج [ عن أنس في حديث الشفاعة و الذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة و هجر أو كما بين مكة و بصرى ] و خرج [ عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا و أو سبعمائة ألف لا يدري أبو حازم أيهما قال متماسكون آخذ بعضهم بعضا لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم و وجوههم على صورة القمر ليلة البدر ] فهذه الأحاديث مع صحتها تدل على أنها أكثر من الثمانية إذ هي غير ما تقدم فيحصل منها و الحمد لله على هذا ستة عشر بابا
و قد ذكر الإمام أبو القاسم عبد الكريم القشيري في كتاب التحبير و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الخلق الحسن طوق من رضوان الله عز و جل في عنق صاحبه و الطوق مشدود إلى سلسلة من الرحمة و السلسلة مشدودة إلى حلقة من باب الجنة حيث ما ذهب الخلق الحسن جرته السلسلة إلى نفسها تدخله من ذلك باب إلى الجنة و الخلق السوء : طوق من سخط الله في عنق صاحبه و الطوق مشدود إلى سلسلة من عذاب الله و السلسلة مشدودة من باب النار حيث ما ذهب الخلق السوء جرته السلسلة إلى نفسها تدخله من ذلك الباب إلى النار ] و ذكر صاحب الفردوس [ من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : للجنة باب يقال له الفرح لا يدخل منه إلا من فرح الصبيان ]
فصل : قوله : من أنفق زوجين في سبيل الله قال الحسن البصري : يعني إثنين من كل شيء : دينارين درهمين ثوبين خفين و قيل : يريد شيئين دينارا و درهما درهما و ثوبا خفا و لجاما و نحو هذا و قال الباجي يحتمل أن يريد بذلك العمل من صلاتين أو صيام يومين
قلت : و الأول من التفسير أولى لأنه مروي عن النبي المصطفى صلى الله عليه و سلم : و ذكر الآجري [ عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أنفق زوجين في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة ثم قال صلى الله عليه و سلم : بعيرين درهمين قوسين نعلين ] و أما ما جاء من سعة أبواب الجنة فيحتمل أن يكون بعضها سعته كذا و بعضها سعته كذا كما ورد في الأخبار فلا تعارض و الحمد لله
باب منه
روى البخاري و مسلم [ عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون فيدخلون منه فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد ]
قلت : و هكذا و الله أعلم سائر الأبواب المختصة بالأعمال
و جاء في حديث أبي هريرة : إن من الناس من يدعى من جميع الأبواب فقيل : ذلك الدعاء دعاء تنويه و إكرام و إعظام ثواب العاملين تلك الأعمال إذ قد جمعها و نيله ذلك ثم يدخل من الباب الذي غلب عليه العمل
و في صحيح مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من أصبح منكم اليوم صائما ؟ قال أبو بكر : أنا فمن تيع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر : أنا قال : فمن أطعم منكم اليوم مسكينا ؟ قال أبو بكر : أنا قال : فمن عاد منكم اليوم مريضا ؟ قال أبو بكر : أنا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما اجتمعن في امرئ إلادخل الجنة ]
باب منه
خرج أبو داود الطيالسي في مسنده قال : [ حدثنا جعفر بن الرزبير الحنفي عن القاسم مولى يزيد بن معاوية عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : انطلق برجل إلى باب الجنة فرفع رأسه فإذا على باب الجنة مكتوب الصدقة بعشر أمثالها و القرض الواحد بثمانية عشر لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا و هو محتاج و الصدقة ربما وضعت في يدي غني ]
خرجه ابن ماجة في السنن قال : [ حدثنا عبيد الله بن عبد الكريم حدثنا هشام بن خالد حدثنا خالد بن يزيد أبي مالك عن أبيه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوب الصدقة بعشر أمثالها و القرض بثمانية عشر فقلت لجبيرل : ما بال القرض أكثر من الصدقة ؟ قال لأن السائل يسأل و عنده و المستقرض لا يستقرض إلا من حاجة ]
باب ما جاء في درج الجنة و ما يحصلها للمؤمن
الترمذي رحمه الله [ عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الجنة مائة درجة كل درجة منها ما بين السماء و الأرض و إن أعلاها الفردوس و أوسطها الفردوس و إن العرش على الفردوس منها تفجر أنهار الجنة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ] قال الترمذي : عطاء هذا لم يدرك معاذ بن جبل
قلت : قد خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه كما تقدم فهو صحيح متصل
و ذكر ابن وهب قال : [ أخبرني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم أنه سمع عتبة بن عبيد الضبي يذكر عمن حدثه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : كم في الجنة من درجة ؟ قال : مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء و الأرض أول درجة منها دورها و بيوتها و أبوابها و سررها و مغاليقها من فضة و الدرجة الثانية دورها و بيوتها و أبوابها و سررها و مغاليقها من ذهب و الدرجة الثالثة دورها و بيوتها و أبوابها و سررها و مغاليقها من ياقوت و لؤلؤ و زبرجد و سبع و تسعون درجة لا يعلم ما هي إلا الله ]
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم ] قال : هذا حديث غريب
ابن ماجه [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ و اصعد فيقرأ و يصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه ]
و خرجه أبو داود [ عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقال لصاحب القرآن اقرأ و ارتق و رتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها ]
و ذكر أبو حفص عمر بن عبد المجيد القرشي الميانشي في كتاب الاختبار في اللح من الأخبار و الآثار [ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : درج الجنة على عدد آي القرآن لكل آية درجة فتلك ستة آلاف و مائتا آية و ستة عشر آية بين كل درجتين مقدار ما بين السماء و الأرض و ينتهى به إلى أعلى عليين لها سبعون ألف ركن وهي ياقوتة تضيء مسيرة أيام و ليالي ] و قالت عائشة رضي الله عنها : إن عدد آي القرآن على عدد درج الجنة فليس أحد دخل الجنة أفضل ممن قرأ القرآن ذكره مكى رحمه الله
فصل : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : حملة القرآن وقراؤه هم العالمون بأحكامه و بحلاله و حرامه و العاملون بما فيه و قال مالك : قد يقرأ القرآن من لا خير فيه و قد تقدم حديث العباس بن عبد المطلب في أبواب النار و حديث أبي هريرة فيمن تعلم العلم و قرأ القرآن عجبا و رياء ما فيه لمن كفاية لمن تدبر
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من تعلم القرآن و علمه و لم يأخذ بما فيه و حرفه كان عليه شهيدا و دليلا إلى جهنم و من تعلم القرآن و أخذ بما فيه كان له شهيدا و دليلا إلى الجنة ]
و في البخاري : [ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن و يعمل به كلأترجة طعمها طيب و ريحها طيب و المؤمن الذي لا يقرأ القرآن و يعمل به كالثمرة طعمها طيب و لا ريح لها ] و ذكر الحديث و قد أشبعنا القول فيه في قارئ القرآن و أحكامه في كتاب التذكار في فضل الأذكار و في مقدمة : جامع أحكام القرآن ما فيه كفاية و الحمد لله و قد تقدم : أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله فالجهاد يحصل مائة درجة و قراءة القرآن تحصل جميع الدرجات و الله المستعان على ذلك و الإخلاص فيه بمنه و فضله
باب ما جاء في غرف الجنة و لمن هي ؟
قال الله تعالى : { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية } الآية و قال : { إلا من آمن و عمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا و هم في الغرفات آمنون } و قال : { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا }
و روى مسلم [ عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغائر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله : تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى و الذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله و صدقوا المرسلين ]
و خرج الترمذي الحكيم أخبرنا صالح بن محمد قال : [ حدثنا سليمان بن عمرو عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } و قوله { هم في الغرفات آمنون } قال : الغرفة من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء أو درة بيضاء ليس فيها فصم و لا وصل و إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة منها كما تتراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في أفق السماء و إن أبا بكر و عمر منهم و أنعما ]
قال : [ و حدثنا صالح بن عبد الله و قتيبة بن سعيد و علي بن حجر قالوا : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن المتحابين في الله تعالى لعلى عمود من ياقوتة حمراء في رأس العمود سبعون ألف غرفة يضيء حسنهم أهل الجنة كما تضيء الشمس أهل الدنيا يقول أهل الجنة بعضهم لبعض : انطلقوا بنا حتى ننظر إلى المتحابين في الله عز و جل فإذا أشرفوا عليهم أضاء حسنهم أهل الجنة كما تضيء الشمس أهل الدنيا عليهم ثياب خضر من سندس مكتوب على جباههم هؤلاء المتحابون في الله عز و جل ]
و ذكر الثعلبي [ من حديث عمران بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل عليين لينظرون إلى الجنة فإذا أشرف رجل من أهل عليين أشرقت الجنة لضياء وجهه فيقولون ما هذا النور ؟ فيقال أشرف رجل من أهل عليين الأبرار أهل الطاعة و الصدق ]
[ و روى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الغرف ليتراءون عليين كما تتراءون الكوكب الدري في أفق السماء و إن أبا بكر و عمر منهم و أنعما ] و ذكره الثعلبي
الترمذي [ عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها فقام إلبه أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : لمن أطاب الكلام و أطعم الطعام و أدام الصيام و صلى لله بالليل و الناس نيام ]
و ذكر أبو نعيم الحافظ [ من حديث محمد واسع عن الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال : ألا أخبركم بغرف الجنة ؟ غرفا من ألوان الجواهر يرى ظاهرها من باطنها و باطنها من ظاهرها فيها من النعيم و الثواب و الكرامات ما لا أذن سمعت و لا عين رأت فقلنا : بأبينا أنت و أمنا يا رسول الله لمن تلك ؟ فقال : لمن أفشى السلام و أدام الصيام و أطعم الطعام و صلى و الناس نيام فقلنا : بأبينا أنت و أمنا يا رسول الله ومن يطيق ذلك ؟ فقال : أمتي تطيق ذلك و سأخبركم من يطيق ذلك من لقى أخاه المسلم فسلم عليه فقد أفشى السلام و من أطعم أهله و عياله من الطعام حتى يشبعم فقد أطعم الطعام و من صام رمضان و من كل شهر ثلاثة أيام فقد أدام الصيام و من صلى العشاء الأخيرة في جماعة فقد صلى والناس نيام : اليهود و النصارى و المجوس ] فصل : اعلم أن هذه الغرف مختلفة في العلو و الصفة بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال فبعضها أعلى من بعض و أرفع و قوله الغائر من المشرق أو المغرب يروى بالياء اسم فاعل من غار و قد روى مسلم في غير الغارب بتقديم الراء و المعنى واحد و روي الغابر بالياء بواحدة ومعناه الذاهب أو الباقي فإن غبر من الأضداد يقال غير إذا ذهب و غير إذا بقي و يعني به أن الكوكب حالة طلوعه و غروبه بعيد عن الأبصار فيظهر صغيرا لبعده و قد بينه بقوله من المشرق أو المغرب و قد روي العازب بالعين المهملة و الزاي أي البعيد و معنيها كلها متقاربة المعنى
و قوله : و الذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله و صدقوا المرسلين و لم يذكر عملا و لا شيئا سوى الإيمان و التصديق للمرسلين و ذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ و تصديق المرسلين من غير سؤال آية و لا تلجلج و إلا فكيف تنال الغرفات بالإيمان و التصديق الذي للعامة و لو كان كذلك كان جميع الموحدين في أعالي الغرفات و أرفع الدررجات و هذا محال و قد قال الله تعالى { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } و الصبر بذل النفس الثبات له وقوفا بين يديه بالقلوب عبودية و هذه صفة المقربين و قال في آية أخرى { و ما أموالكم و لا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } فذكر شأن الغرفة و أنها لا تنال بالأموال و الأولاد و إنما تنال بالإيمان و لعمل الصالح ثم بين لهم جزاء الضعف و أن محلهم الغرفات يعلمك أن هذا إيمان طمأنينة و تعلق قلب مطمئنا به في كل ما نابه و بجميع أموره و أحكامه فإذا عمل عملا صالحا فلا يخلطه بضده و هو الفاسد فلا يكون العمل الصالح الذي لا يشوبه فساد إلا مع إيمان بالغ مطمئن صاحبه بمن آمن و بجميع أموره و أحكامه و المخلط ليس إيمانه و عمله هكذا فلهذا كانت منزلته دون غيره
قلت : ذكره الترمذي الحكيم رحمة الله عليه و هذا واضح بين و قد قال تعالى { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا } و قال : { ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون } فلما باين بين الأبرار و المقربين في الشراب على ما يأتي بيانه باين بينهم في المنازل و الدرجات و أعالي الغرفات حسب ما باين بينهم في الأعمال الصالحات بالاجتهاد في الطاعات قال الله تعالى : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } فيجتهد الإنسان أن يكون من الأبرار المقربين ليكون في عليين و أصحاب عليين جلساء الرحمن و هم أصحاب المنابر من النور في المقعد الصدق و قال تعالى : { فأما من أوتي كتابه بيمينه } إلى قوله { فهو في عيشة راضية * في جنة عالية } فأصحاب اليمين في علو الجنان أيضا و جميعها عوالي و جنات المقربين جميعها علالي و إحداهن عليه كقول الشاعر :
( ألا يا عين ويحك أسعديني ... بغزر الدمع في ظلم الليالي )
( لعلك في القيامة أن تفوزي ... بخير الدار في تلك العلالي )
باب منه
[ روي من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة لغرفا ليس لهامغاليق من فوقها و لا عماد من تحتها قيل يا رسول الله وكيف يدخلها أهلها ؟ قال : يدخلونها أشباه الطير قيل : هي يا رسول الله لمن ؟ قال : لأهل الأسقام و الأوجاع و البلوى ] خرجه أبو القاسم زاهر بن محمد بن محمد الشحامي
باب منه
روى الليث بن سعد قال : [ حدثنا محمد بن عجلان أن وافد البصري أخبره عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ليؤتين برجال يوم القيامة ليسوا بأنبياء و لا شهداء تغبطهم الأنبياء و الشهداء بمنازلهم من الله يكونون على منابر من نور قالوا : و من هم يا رسول الله ؟ قال : هم الذين يحببون الله إلى الناس فكيف يحببون الناس إلى الله ؟ قال : يأمونهم بالمعروف و ينهونهم عن المنكر فإذا أطاعوهم أحبه الله تعالى ]
باب ما جاء في قصور الجنة و دورها و بيوتها و بما ينال ذلك المؤمن
خرج الآجري [ عن الحسن قال : سألت عمران بن حصين و أبا هريرة رضي الله عنهما عن تقسير هذه الآية { و مساكن طيبة } فقالا : على الخبيرسقطت سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء في كل بيت سيعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون و علىكل فراش سبعون امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعين وصيفا و وصيفة فيعطي الله تبارك و تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي علىذلك كله ] ذكره في كتاب النصيحة
و ذكر ابن وهب قال : [ أخبرنا ابن زيد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنه ليجاء للرجل الواحد بالقصر من اللؤلؤة الواحدة في ذلك القصر سبعون غرفة في كل غرفة زوجة من الحور العين في كل غرفة سبعون بابا يدخل عليه من كل باب رائحة من رائحة الجنة سوى الرائحة التي تدخل من الباب الآخر و قرأ قول الله عز و جل { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ]
الترمذي [ عن بريد بن الخصيب قال : أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا بلالا فقال : يا بلال بما سبقتني إلى الجنة ؟ فما دخلت الجنة إلا سمعت خشخشتك أمامي فأتيت على قصر مربع مشرف من ذهب فقلت لمن هذا القصر قالوا لرجل عربي فقلت أنا عربي لمن هذا القصر قالوا لرجل من قريش قلت أنا قرشي لمن هذا القصر قالوا لرجل من أمة محمد قلت أنا من أمة محمد قلت : أنا محمد لمن هذا القصر ؟ قالوا لعمر بن الخطاب فقال بلال يا رسول الله ما أذنت قط إلا صليت ركعتين و ما أصابني حدث إلا توضأت عنده و رأيت أن لله تعالى علي ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بهما ] قال : حديث حسن صحيح
و خرج الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد مختصرا من [ حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب فقلت لمن هذا ؟ فقالوا لعمر بن الخطاب ]
و ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده قال : [ حدثنا عبد الله بن بريد قال : حدثنا حيوة قال أخبرني أبو عقيل أنه سمع سعيد بن المسيب يقول إن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال : من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بني له قصر في الجنة و من قرأها عشرين مرة بني له قصران في الجنة و من قرأها ثلاثين مرة بني له ثلاث قصور في الجنة فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إذا لتكثرن قصورنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الله أوسع من ذلك ] قال الدارمي أبو عقيل زاهر بن معبد زعموا أنه كان من الأبدال و قد تقدم من حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل دارالشهداء أو دار المؤمنين
و خرج أبو داود الطيالسي قال : [ حدثنا حماد بن زيد عن أبي سنان قال : دفنت ابني سنانا و أبو طلحة الخولاني على شفير القبر فقال حدثني الضحاك بن عبد الرحمن عن أبي موسى قال : قال رسول الله : إذا قبض الله عز و جل ابن العبد قال للملائكة ماذا قال عبدي ؟ قالوا : أحمدك و استرجع قال : ابنوا له بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد ]

باب ما جاء في قوله تعالى : و فرش مرفوعة
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى { و فرش مرفوعة } قال : ارتفاعها لكما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام ] قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد
و قال بعض أهل العلم في تفسير هذا الخبر : الفرش في الدرجات و بين الدرجات كما بين السماء و الأرض
قلت : و قد قيل : إن الفرش كناية عن النساء اللواتي في الجنة و المعنى نساء مرتفعات الأقدار في حسنهن و كمالهن و العرب تسمي المرأة فراشا و لباسا و إزارا و نعجة على الاستعارة لأن الفرش محل النساء و في الحديث [ الولد للفراش و للعاهر الحجر ] و قال الله تعالى { هن لباس لكم } الآية قال : { إن هذا أخي له تسع و تسعون نعجة و لي نعجة واحدة }

باب ما جاء في خيام الجنة و أسواقها و تعارف أهل الجنة في الدنيا و
عبادتهم فيها
مسلم [ عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال : في الجنة خيمة من لؤلؤ مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن ] في رواية قال : الخيمة درة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن ما يرون الآخرين
و خرج مسلم أيضا [ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : قال : إن في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم و ثيابهم المسك فيزدادون حسنا و جمالا فيرجعون إلى أهلهم و قد ازدادوا حسنا و جمالا لهم أهلهم و الله لقد ازددتم بعدنا حسنا و جمالا ]
الترمذي [ عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبي هريرة فقال أبو هريرة أسأل الله أن يجمع بيني و بينك في سوق الجنة فقال سعيد أفيها سوق ؟ قال : نعم و ذكر الحديث و فيه : فتأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيه مالم تنظر العيون إلى مثله و لم تسمع الآذان و لم يخطر على القلوب فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها و لا يشتري و في ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا قيقبل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هو دونه و ما فيهم دني فيروعه ما عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه ما هو أحسن منه و ذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ]
و ذكر الحديث في طريقه أبو العشرين و هو ضعيف
و خرجه ابن ماجه مكملا و فيه بعد قوله قال نعم : [ أخبرني رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة نزلوا فيها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيرون الله و يبرز لهم عرشه و يبدو لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور و منابر من لؤلؤ و منابر من ياقوت و منابر من زبرجد و منابر من ذهب و منابر من فضة و يجلس أدناهم و ما فيهم دني على كثبان المسك و الكافور ما يرون بأن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا ]
[ قال أبو هريرة قلت يا رسول الله هل نرى ربنا ؟ قال : نعم هل تتمارون في رؤية الشمس و القمر ليلة البدر ؟ قلنا : لا قال : كذلك لا تمارون في رؤية ربكم عز و جل و لا يبقى في ذلك المجلس أحد ألا حاضره الله محاضرة حتى إنه يقول للرجل منكم ألا تذكر يا فلان يوم عملت كذا و كذا يذكره بعض غدراته في الدنيا فيقول : يا رب ألم تغفر لي ؟ فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم كذلك إذ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ثم يقول قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا مااشتهيتم قال : فيأتون سوقا ] الحديث بلفظه و معناه إلى أن قال : و ذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها قال : [ ثم ننصرف إلى منازلنا فتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا و أهلا لقد جئت و إن بك من الجمال و الطيب أفضل مما فارقتنا عليه فيقولون إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار و بحقنا أن نتقلب بمثل ما انقلبنا ]
و خرج الترمذي أيضا [ عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة لسوقا ما فيها بيع و لا شراء إلا الصور من الرجال و النساء فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها ] قال : هذا حديث غريب
و روى أبو هدبة إبراهيم بن هدبة قال : [ حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن في الجنة أسواقا لا شراء فيها و لا بيع أهل الجنة لما أفضوا إلى روح الجنة جلسوا متكيئن على لؤلؤ رطب و ترابها مسك يتعارفون في تلك الجنان كيف كانت الدنيا و كيف كانت عبادة الرب و كيف يحيى الليل و يصام النهار و كيف كان فقر الدنيا و غناؤها و كيف كان الموت و كيف صرنا بعد طول البلاء من أهل الجنة ] و الله أعلم
باب لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز
خرج أبو بكر الخطيب أحمد بن علي [ من حديث عبد الرزاق عن الثوري عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عطاء بن يسار عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية ] ذكره أحمد بن حنبل في مسنده
فلت : لعل هذا فيمن لا يدخل الجنة بغير حساب و ذلك بين في الباب بعد هذا
باب أول الناس يسبق إلى الجنة الفقراء
ابن المبارك قال : [ أخبرنا عبد الوهاب بن الورد قال : قال سعيد بن المسيب جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة قال : هم الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيرا قال يا رسول الله : أفهم أول الناس يدخلون الجنة ؟ قال : لا قال : فمن أول الناس يدخل الجنة ؟ قال : الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة فيخرج إليهم منها ملائكة فيقولون : ارجعوا إلى الحساب فيقولون على ما نحاسب و الله ما أفيض علينا من الأموال في الدنيا شيء فنقبض فيها و نبسط و ما كنا أمراء نعدل و نجوز و لكنا جاءنا أمر الله فعبدناه حتى أتانا اليقين فيقال : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ]
و روي عن النبي أنه قال : [ اتقوا الله في الفقراء فإنه يقول يوم القيامة أين صفوتي من خلقي ؟ فتقول من هم يا ربنا ؟ فيقول : الفقراء الصابرون الراضون بقدري أدخلوهم الجنة قال فيدخلون الجنة يأكلون و يشربون و الأغنياء في الحساب يترددون ]
الترمذي [ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام ] من حديث الأعمش سليمان عن عطية العوفي عن أبي سعيد و قال فيه حديث حسن غريب من هذا الوجه
[ و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام نصف يوم ] هذا حديث حسن غريب حسن صحيح و في طريق أخرى : [ يدخل فقراء المسلمين قبل الأغنياء بنصف يوم و هو خمسمائة عام ] : قال : حديث حسن صحيح
و روي [ عن أبي الدرداء قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم قيل له : يا رسول الله و ما نصف يوم ؟ قال : خمسمائة سنة قيل له : فكم السنة من شهر ؟ قال خمسمائة شهر قيل له : فكم الشهر من يوم ؟ قال : خمسمائة يوم قيل له : فكم اليوم ؟ قال : خمسمائة مما تعدون ] ذكره العقبي في عيون الأخبار له
[ و عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يدخل المسلمين الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفا ] قال : هذا حديث حسن صحيح و خرجه من حديث أنس أيضا و قال فيه حديث غريب
و في صحيح مسلم من حديث [ عبد الله بن عمرو قال : سمعت صلى الله عليه و سلم يقول : إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا ]
فصل : قال المؤلف رحمه الله : اختلاف هذه الأحاديث يدل على أن الفقراء مختلفوا الحال و كذلك الأغنياء و قد تقدم حديث أبي بكر بن أبي شيبة أول ثلاثة يدخلون الجنة : و لا تعارض و الحمد لله فإن الحديثين مختلفا المعاني و قد اختلف في أي فقراء هم السابقون و في مقدار المدة التي بها يسبقون و يرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يرد مطلق حديث أبي هريرة إلى مقيد روايته الأخرى و كذلك حديث جابر يرد أيضا إلى حديث عبد الله بن عمرو و يكون المعنى فقراء المسلمين المهاجرين إذ المدة فيها أربعين خريفا و يبقى حديث أبي سعيد الخدري في المدة بخمسمائة عام في فقراء المهاجرين و كذلك حديث أبي الدرداء في فقراء المسلمين بنصف يوم خمسمائة سنة
و وجه الجمع بينهما أن يقال إن سباق الفقراء من المهاجرين يسبقون سباق الأغنياء منهم بأربعين خريفا و غير سباق الأغنياء بخمسمائة عام و قد قيل : إن حديث أبي هريرة و أبي الدرداء و جابر يعم جميع فقراء قرون المسلمين فيدخل الجنة سباق فقراء كل قرن قبل غير السباق من أغنيائهم بخمسمائة عام على حديث أبي هريرة و أبي الدرداء و قيل : السباق بأربعين خريفا على ما تقدم من حديث جابر و الله أعلم
فصل : قلت : و قد احتج بأحاديث هذا الباب من فضل الفقراء على الغني و قد اختلف الناس في هذا المعنى و طال فيه الكلام بينهم حتى صنفوا فيه كتبا و أبوابا و احتج كل فريق لمذهبه في ذلك و الأمر قريب
و قد سئل أبو علي الدقاق : أي الوصفين أفضل : الغنى أو الفقر فقال : الغنى ؟ لأنه الحق و الفقر وصف الخلق و وصف الحق أفضل من وصف الخلق قال الله تعالى { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد } و بالجملة : فالفقير بالحقيقة العبد و إن كان له مال و إنما يكون غنيا إذا عول على مولاه و لم ينظر إلى أحد سواه فإن تعلق باله بشيء من الدنيا و رأى نفسه أنه فقير إليه فهو عبده قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تعس عبد الدينار ] الحديث خرجه البخاري و غيره و قد كتبناه عليه و بيناه و الحمد لله و إنما شرف العبد افتقاره إلى مولاه و عزه و خضوعه له
و لقد أحسن من قال :
( إذا تذللت الرقاب تواضعا ... منا إليك فعزها في ذلها )
فالغني المعلق الباب بالمال الحريص عليه الراغب فيه هو الفقير حقيقة و خادمه الذي يقول ما أبالي به و لا لي رغبة فيه و إنما هي ضرورة العيش فإذا وجدتها فغيرها زيادة تشغل عن الإرادة فهو الغني حقيقة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس ني عن كثرة العرض إنما الغني غنى النفس ] خرجه مسلم و أخذ عثمان بن سعدان الموصلي هذا المعنى فقال :
( تقنع بما يكفيك واستعمل الرضى ... فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي )
فليس الغنى عن كثرة المال إنما الغنى و الفقر من قبل النفس و قد أشبعنا القول في هذا في كتاب قمع الحرص و قد بقيت
قلت : هنا درجة ثالثة رفيعة و هي الكفاف التي سألها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ] و في رواية [ كفافا ] خرجه مسلم و معلوم أنه عليه الصلاة و السلام لا يسأل إلا أفضل الأحوال و أسنى المقامات و الأعمال و قد اتفق الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه و ما أبطر من الغنى مذموم
و في سنن ابن ماجه [ عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما من غني و لا فقير إلا يود يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا ] الكفاف : حالة متوسطة بين الغنى والفقر و قد قال عليه الصلاة و السلام : [ خير الأمور أوسطها ] فهي حالة سليمة من آفات الغنى المطغى و آيات الفقر المدقع الذي كان يتعوذ منهما النبي صلى الله عليه و سلم فكانت أفضل منهما ثم إن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير الذي لا يترفه في طيبات الدنيا و لا في زهرتها فكانت حاله إلى الفقير أقرب لقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر و كفى مرارته و آفاته وعلى هذا فأهل الكفاف هم إن شاء الله صدر كتيبه الفقراء الداخلين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام لأنهم وسطهم و الوسط العدل كما قال الله تعالى { و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } أي عدولا خيارا و ليسوا من الأغنياء كما ذكرنا
باب منه
الترمذي عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بالجابية فقال : [ يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا فقال أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم بفشوا الكذب حتى يحلف الرجل و لا يستخلف و يشهد الشاهد و لا يتشهد و لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له إلا كان ثالثهما الشيطان عليكم بالجماعة و إياكم و الفرقة فإن الشيطان مع الواحد و هو من الإثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة و من سرته حسنته و ساءته سيئته فذلكم المؤمن ]
قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح غريب
باب منه
ما جاء في صفة أهل الجنة و مراتبهم و سنهم و طولهم و شبابهم و عرقهم و ثيابهم و أمشاطهم و مجاهرهم و أزواجهم و في لسانهم و ليس في الجنة عزب
مسلم [ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أول زمرة يدخلون الجنة و في رواية : من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء أضاء و في رواية : ثم هم بعد ذلك منازل لا يبولون و لا يتغوطون و لا يتفلون و لا يتمخطون أمشاطهم الذهب و في رواية : الفضة و رشحهم المسك و مجاهرهم و أزواجهم الحور العين و في رواية : لكل و احد منهم زوجتان يرى مخ ساقيها من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم و لا تباغض قلوبهم قلب واحد يسبحون بكرة و عشيا ]
قال أبو علي : الألوة : هو العود و في رواية : أخلاقهم على خلق رجل واحد عل طول أبيهم و في رواية : على صورة أبيهم ستون ذراعا في السماء
و قال أبو كريب : على خلق رجل واحد و قال أبي هريرة حين تذاكروا : الرجال في الجنة أكثر أم النساء ؟ فقال لكل رجل منهم زوجتان اثنتان يرى مخ ساقيها من وراء اللحم و ما في الجنة عزب
الترمذي [ عن الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن المرأة من اهل الجنة ليرى ساقيها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها و ذلك بأن الله سبحانه و تعالى يقول : { كأنهن الياقوت و المرجان } فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته ]
و روى موقوفا عن البخاري [ عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما و لملأته ريحا و لنصيغها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها ]
الترمذي [ عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم و لا تبلى ثيابهم ] قال : حديث غريب
و خرج عنه أيضا [ عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يدخل أهل الجنة الجنة جرداء مرداء مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث و ثلاثين سنة ] قال : حديث غريب و روى عن قتادة مرسلا
و ذكر الميانش [ من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أهل الجنة مرد إلا موسى بن عمران فإن لحية إلى سرته ]
الترمذي [ عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لو أن ما يقله ظفر مما في الجنة بدا إلى الدنيا لتزخر له ما بين خوافق السموات و الأرض و لو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدت أساور لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم ] قال : حديث حسن غريب
[ و عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من مات من أهل الجنة من صغير و كبير يرون بني ثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها و لا ينقصون و كذلك أهل النار ] قال : حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين
فصل : في حديث أبي هريرة لكل واحد منهم زوجتان و قد تقدم من حديث عمران بن حصين : [ أن أقل ساكني الجنة النساء ]
قال علماؤنا : لم يختلفوا في جنس النساء و إنما اختلفوا في نوع من الجنس و هو نساء الدنيا و رجالها أيهما أكثر في الجنة فإن كانوا اختلفوا في المعنى الأول و هو جنس النساء مطلقا فحديث أبي هريرة حجة و إن كانوا اختلفوا في نوع من الجنس و هم أهل الدنيا فالنساء في الجنة أقل
قلت : يحتمل أن يكون هذا في وقت كون النساء في النار و أما بعد خروجهن في الشفاعة و رحمة الله تعالى حتى لا يبقى فيها أحد ممن قال لا إله إلا الله فالنساء في الجنة أكثر و حينئذ يكون لكل واحد منهم زوجتان من نساء الدنيا و أما الحور العين فقد تكون لكل واحد منهم الكثير منهن
[ و في حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم و اثنتان و سبعون زوجة ] ذكره الترمذي و قال فيه : حديث غريب
و مثله حديث أبي أمامة خرجه أبو محمد الدارمي و سيأتي و الأخبار دالة على هذا
و قوله و أمشاطهم الذهب و الفضة و مجامرهم الألوة و قد يقال هنا أي حاجة في الجنة للامتشاط و لا تتلبد شعورهم و لا تتسخ و أي حاجة للبخور و ريحهم أطيب من المسك و يجاب عن ذلك بأن نعيم أهل الجنة و كسوتهم ليس عن رفع ألم أعتراهم فليس أكلهم عن جوع و لا شربهم عن ظمأ و لا تعليهم عن نتن و إنما هي لذات متوالية و نعم متتابعة ألا ترى قوله تعالى لآدم { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } و حكمة ذلك أن الله تعالى نعمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا و زادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله عز و جل
قلت : و قد جاء مثل هذا في أهل الدنيا حيث قال : { إذ الأغلال في أعناقهم و السلاسل يسحبون * في الحميم ثم في النار يسجرون } و قال { إن لدينا أنكالا و جحيما } فعذبهم في النار بنوع ما كانوا يعذبون به في الدنيا قال الشعبي : أترون أن الله جعل الأنكال في الرجل خشية أن يهربوا لا و الله و لكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استثقلت بهم
ابن المبارك قال : أخبرنا سعيد بن أبي أيوب قال : حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : لسان أهل الجنة عربي و إذا خرجوا من قبورهم سرياني و قد تقدم و قال سفيان : بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6