كتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

المرائي والمان والمؤذي والتراب الذي لصق به ما تعلق به من أثر عمله وصدقته والوابل المطر الذي به حياة الأرض فإذا صادفها لينة قابلة نبت فيها الكلأ وإذا صادف الصخور والحجارة الصم لم ينبت فيها شيئا فجاء هذا الوابل إلى التراب الذي على الحجر فصادفه رقيقا فأزاله فأفضى إلى حجر غير قابل للنبات
وهذا يدل على أن قبح المن والأذى والرياء مستقر في العقول فلذلك نبهها على شبهه ومثاله
وعكس ذلك قوله تعالى ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير فإن كانت هذه الجنة التي بموضع عال حيث لا تحجب عنها الشمس والرياح وقد أصابها مطر شديد فأخرجت ثمرتها ضعفي ما يخرج غيرها إن كانت مستحسنة في العقل والحس فكذلك نفقة من أنفق ماله لوجه الله لا لجزاء من الخلق ولا لشكور بل بثبات من نفسه وقوة على الإنفاق لا يخرج النفقة وقلبه يرجف على خروجها ويداه ترتعشان ويضعف قلبه ويخور عند الإنفاق بخلاف نفقة صاحب التثبيت والقوة
ولما كان الناس في الإنفاق على هذين القسمين كان مثل نفقة صاحب الإخلاص والقوة والتثبيت كمثل الوابل ومثل نفقة الآخر كمثل الطل وهو المطر الضعيف فهذا بحسب كثرة الإنفاق وقلته وكمال الإخلاص والقوة واليقين فيه وضعفه أفلا تراه سبحانه نبه العقول على ما فيها من استحسان هذا واستقباح فعل الأول
وكذلك قوله أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون

فنبه سبحانه العقول على ما فيها من قبح الأعمال السيئة التي تحبط ثواب الحسنات وشبهها بحال شيخ كبير له ذرية ضعفاء بحيث يخشى عليهم الضيعة وعلى نفسه وله بستان هو مادة عيشه وعيش ذريته فيه النخيل والأعناب ومن كل الثمرات فأرجى وأفقر ما هو له وأسر ما كان به إذ أصابه نار شديدة فأحرقته فنبه العقول على أن قبح المعاصي التي تغرق الطاعات كقبح هذه الحال وبهذا فسرها عمر وابن عباس رضي الله عنهم لرجل غني عمل بطاعة الله زمانا فبعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله ذكره البخاري في صحيحه
أفلا تراه نبه العقول على قبح المعصية بعد الطاعة وضرب لقبحها هذا المثل ونقاة التعليل والأسباب والحكم وحسن الأفعال وقبحها يقولون ما ثم إلا محض المشيئة لا أن بعض الأعمال يبطل بعضا وليس فيها ما هو قبيح لعينه حتى يشبه بقبيح آخر وليس فيها ما هو منشأ لمفسدة أو مصلحة تكون سببا لها ولا لها علل غائية هي مفضية إليها وإنما هي متعلق المشيئة والإرادة والأمر والنهي فقط
والفقهاء لا يمكنهم البناء على هذه الطريقة ألبتة فكلهم مجمعون إذا تكلموا بلسان الفقه على بطلانها إذ يتكلمون في العلل والمناسبات الداعية لشرع الحكم ويفرقون بين المصالح الخالصة والراجحة والمرجوحة والمفاسد التي هي كذلك ويقدمون أرجح المصلحتين على مرجوحهما ويدفعون أقوى المفسدتين بإحتمال أدناهما ولا يتم لهم ذلك إلا بإستخراج الحكم والعلل ومعرفة المصالح والمفاسد الناشئة من الأفعال ومعرفة ربها
وكذلك الأطباء لا يصلح لهم علم الطب وعمله إلا بمعرفة قوى الأدوية والأمزجة والأغذية وطبائعها ونسبة بعضها إلى بعض ومقدار تأثير بعضها في بعض وانفعال بعضها عن بعض والموازنة بين قوة الدواء وقوة المرض وقوة المريض ودفع الضد بضده وحفظ ما يريدون حفظه بمثله ومناسبه فصناعة الطب

وعمله مبني على معرفة الأسباب والعلل والقوى والطبائع والخواص فلو نفوا ذلك وأبطلوه وأحالوا على محض المشيئة وصرف الإرادة المجردة عن الأسباب والعلل وجعلوا حقيقة النار مساوية لحقيقة الماء وحقيقة الدواء مساوية لحقيقة الغذاء ليس في أحدهما خاصية ولا قوة يتميز بها عن الآخر لفسد علم الطب ولبطلت حكمة الله فيه بل العالم مربوط بالأسباب والقوى والعلل الفاعلية والغائية
وعلى هذا قام الوجود بتقدير العزيز العليم والكل مربوط بقضائه وقدره ومشيئته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإذا شاء سلب قوة الجسم الفاعل منه ومنع تأثيرها وإذا شاء جعل في الجسم المنفعل قوة تدفعها وتمنع موجبها مع بقائها وهذا لكمال قدرته ونفوذ مشيئته
والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام
منهم من بالغ في نفيها وإنكارها فأضحك العقلاء على عقله وزعم أنه بذلك ينصر الشرع فجنى على العقل والشرع وسلط خصمه عليه
ومنهم من ربط العالم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار ومدبر لها يصرفها كيف أراد فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه
ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها ويتصرف فيها كما يشاء ويختار
وهذان طرفان جائران عن الصواب
ومنهم من أثبتها خلقا وأمرا قدرا وشرعا وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به من كونها تحت تدبيره ومشيئته وهي طوع المشيئة والإرادة ومحل جريان حكمها عليها فيقوي سبحانه بعضها ببعض ويبطل إن شاء بعضها ببعض ويسلب بعضها قوته وسببيته ويعريها منها ويمنعه من موجبها مع بقائها عليه ليعلم خلقه أنه الفعال لما يريد وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت مع كونه سببا
وهذا باب عظيم نافع في التوحيد وإثبات الحكم يوجب للعبد إذا

تبصر فيه الصعود من الأسباب إلى مسببها والتعلق به دونها وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارا وضارها نافعا ودواءها داء وداءها دواء فالإلتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد وإنكار أن تكون أسبابا بالكلية قدح في الشرع والحكمة والإعراض عنها مع العلم بكونها أسبابا نقصان في العقل وتنزيلها منازلها ومدافعة بعضها ببعض وتسليط بعضها على بعض وشهود الجمع في تفرقها والقيام بها هو محض العبودية والمعرفة وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة والله أعلم

فصل وأما غلط من غلط من أرباب السلوك والإرادة في هذا الباب فحيث
ظنوا أن شهود الحقيقة الكونية والفناء في توحيد الربوبية من مقامات العارفين بل أجل مقاماتهم فساروا شائمين لبرق هذا الشهود سالكين لأودية الفناء فيه وحثهم على هذا السير ورغبهم فيه ما شهدوه من حال أرباب الفرق الطبعي فأنفوا من صحبتهم في الطريق ورأوا مفارقتهم فرض عين لا بد منه فلما عرض لهم الفرق الشرعي في طريقهم ورد عليهم منه أعظم وارد فرق جمعيتهم وقسم وحدة عزيمتهم وحال بينهم وبين عين الجمع الذي هو نهاية منازل سيرهم فافترقت طرقهم في هذا الوارد العظيم
فمنهم من اقتحمه ولم يلتفت إليه وقال الإشتغال بالأوراد عن عين المورود انقطاع عن الغاية والقصد من الأوراد الجمعية على الآمر فما الإشتغال عن المقصود بالوسيلة بعد الوصول إليه والرجوع من حضرته إلى منازل السفر إليه وربما أنشد بعضهم
يطالب بالأوراد من كان غافلا ... فكيف بقلب كل أوقاته ورد
فإذا اضطر أحدهم إلى التفرقة بوارد الأمر قال ينبغي أن يكون الفرق على اللسان موجودا والجمع في القلب مشهودا

ثم من هؤلاء من يسقط الأوامر والنواهي جملة ويرى القيام بها من باب ضبط ناموس الشرع ومصلحة العموم ومبادىء السير فهي التي تحث أهل الغفلة على التشمير للسير فإذا جد في المسير استغنى بقربه وجمعيته عنها
ومنهم من لا يرى سقوطها إلا عمن شهد الحقيقة الكونية ووصل إلى مقام الفناء فيها فمن كان هذا مشهده سقط عنه الأمر والنهي عندهم
وقد يقولون شهود إلإرادة يسقط الأمر وفي هذا المشهد يقولون العارف لايستقبح قبيحة ولا يستحسن حسنة
ويقول قائلهم العارف لا ينكر منكرا لإستبصاره بسر الله في القدر ويقولون القيام بالعبادة مقام التلبيس ويحتجون بقوله تعالى وللبسنا عليهم ما يلبسون
وهذا من أقبح الجهل فإن هذا داخل في جواب لو التي ينتفي بها الملزوم وهو المقدم لإنتفاء اللازم وهو الجواب وهو التالي فانتفاء جعل الرسول ملكا كما اقترحوه لإنتفاء التلبيس من الله عليهم والكفار كانوا قد قالوا لولا أنزل عليه ملك أن أي نعاينه ونراه وإلا فالملك لم يزل يأتيه من عند الله بأمره ونهيه فهم اقترحوا نزول ملك يعاينونه فأخبرسبحانه عن الحكمة التي لأجلها لم يجعل رسوله إليهم من الملائكة ولا أنزل ملكا يرونه
فقال ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون أي لوجب العذاب وفرغ من الأمر ثم لا يمهلون إن أقاموا علىالتكذيب
وهذا نظير قوله في سورة الحجر وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين قال الله عز و جل ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين والحق ههنا العذاب ثم قال ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا أي لو أنزلنا عليهم

ملكا لجعلناه في صورة آدمي إذ لا يستطيعون التلقي عن الملك في صورته التي هو عليها وحيئنذ فيقع اللبس منا عليهم لأنهم لا يدرون أرجل هو أم ملك ولو جعلناه رجلا لخلطنا عليهم وشبهنا عليهم الذي طلبوه بغيره
وقوله ما يلبسون فيه قولان
أحدهما أنه جزاء لهم على لبسهم على ضعفائهم والمعنى أنهم شبهوا على ضعفائهم ولبسوا عليهم الحق بالباطل فشبه عليهم وتلبس عليهم الملك بالرجل
والثاني أنا نلبس عليهم ما لبسوا على أنفسهم وأنهم خلطوا على أنفسهم ولم يؤمنوا بالرسول منهم بعد معرفتهم صدقه وطلبوا رسولا ملكيا يعاينونه وهذا تلبيس منهم على أنفسهم فلو أجبناهم إلى ما اقترحوه لم يؤمنوا عنده
وللبسنا عليهم لبسهم على أنفسهم
وأي تعلق لهذا بالتلبيس الذي ذكرته هذه الطائفة من تعليق الكائنات والمثوبات والعقوبات بالأسباب وتعليق المعارف بالوسائط والقضايا بالحجج والأحكام والعلل والإنتقام بالجنايات والمثوبات بالطاعات مما هو محض الحكمة وموجبها
وأثر اسمه الحكيم في الخلق والأمر إنما قام بالأسباب وكذلك الدنيا والآخرة وكذلك الثواب والعقاب فجعل الأسباب منصوبة للتلبيس من أعظم الباطل شرعا وقدرا
وإن الذي أوقع هؤلاء في هذا الغلو هو نفرتهم من أرباب الفرق الأول ومشاهدتهم قبح ما هم عليه
وهم لعمر الله خير منهم مع ما هم عليه فإنهم مقرون بالجمع والفرق وأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه فرق بين المأمور والمحظور والمحبوب والمكروه وإن كانوا كثيرا ما يفرقون بأهوائهم ونفوسهم فهم في فرقهم النفسي خير من أهل هذا الجمع إذ هم

مقرون أن الله يأمر بالحسنات ويحبها وينهى عن السيئات ويبغضها وإذا فرقوا بحسب أهوائهم وفرقوا بنفوسهم لم يجعلوا هذا الفرق دينا يسقط عنهم أمر الله ونهيه بل يعترفون أنه ذنب قبيح وأنهم مقصرون بل مفرطون في الفرق الشرعي ونهاية ما معهم صحة إيمان مع غفلة وفرق نفساني وأولئك معهم جمع وشهود يصحبه فساد إيمان وخروج عن الدين
ومن العجب أنهم فروا من فرق أولئك النفسي إلى جمع أسقط التفرقة الشرعية ثم آل أمرهم إلى أن صار فرقهم كله نفسيا فهم في الحقيقة راجعون إلى فرقهم ولا بد فإن الفرق أمر ضروري للإنسان ولا بد فمن لم يفرق بالشرع فرق بالنفس والهوى فهم أعظم الناس اتباعا لأهوائهم يميلون مع الهوى حيث مال بهم ويزعمون أنه الحقيقة
وبالجملة فلهذا السلوك لوازم عظيمة البطلان منافية للإيمان جالبة للخسران أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل
وآخر أمر صاحبه الفناء في شهود الحقيقة العامة المشتركة بين الأبرار والفجار وبين الملائكة والشياطين وبين الرسل وأعدائهم وهي الحقيقة الكونية القدرية ومن وقف معها ولم يصعد إلى الفرق الثاني وهو الحقيقة الدينية النبوية فهو زنديق كافر

فصل ومنهم من لم ير إسقاط الفرق الثاني جملة بل إنما يسقطه عن
الواصل إلى عين الجمع الشاهد للحقيقة وما دام سالكا أو محجوبا عن شهود الحقيقة فالفرق لازم له
وهؤلاء أيضا من جنس الفريق الأول بل هم خواصهم فإذا وصل واصلهم إلى شهود حقيقة الجمع لم يجب عليه القيام بتفرقة الأوامر وإن قام بها فلحفظ

المرتبة وضبط الناموس وحفظ السالكين عن الذهاب مع الفرق الطبيعي قبل شهودهم الحقيقة ويسمون هذه الحال تلبيسا وقد تقدم ذكره
وسيأتي إن شاء الله تعالى كشف هذا التلبيس الذي يشيرون إليه كشفا بينا وقد تقدم أنهم يحتجون على سقوط الفرق عمن شهد الحقيقة بقوله تعالى واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
ويقولون إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان في هذا المقام وإنما كان في قيامه بالأعمال تشريعا وقد ذكرنا أن اليقين الموت وأنه من المعلوم بالإضطرار من دين الإسلام أن الأوامر والنواهي لا تسقط عن العبد ما دام في دار التكليف إلا إذا زال عقله وصار مجنونا

فصل ومنهم من يرى القيام بالأوامر والنواهي واجبا إذا لم تفرق
جمعيته فإذا فرقت جمعيته رأى الجمعية أوجب منها فيزعم أنه يترك واجبا لما هو أوجب منه وهذا أيضا جهل وضلال
فإن رأى أن الأمر لم يتوجه إليه من حال الجمعية فهو كافر وإن علم توجهه إليه وأقدم على تركه فله حكم أمثاله من العصاة والفساق
فصل ومنهم من يرى الأمر لا يسقط عنه ولكن إذا ورد عليه وارد الفناء
والجمع غيب عقله واصطلمه فلم يشعر بوقت الواجب ولا حضوره حتى يفوته فيقضيه فهذا متى استدعى ذلك الفناء وطلبه فليس بمعذور في اصطلامه بل هو عاص لله في استدعائه ما يعرضه لإضاعة حقه وهو مفرط أمره إلى الله ومتى هجم عليه بغير استدعاء وغلب عليه مع مدافعته له خشية إضاعة الحق فهذا معذور وليس بكامل في حاله بل الكمال وراء ذلك وهو الإنتقال عن وادي الجمع

والفناء والخروج عنه إلى أودية الفرق الثاني والبقاء فالشأن كل الشأن فيه وهو الذي كان ينادي عليه شيخ الطائفة على الإطلاق الجنيد بن محمد رحمه الله ووقع بينه وبين أصحاب هذا الجمع والفناء ما وقع لأجله فهجرهم وحذر منهم وقال عليكم بالفرق الثاني فإن الفرق فرقان الفرق الأول وهو النفسي الطبيعي المذموم وليس الشأن في الخروج منه إلى الجمع والفناء في توحيد الربوبية والحقيقة الكونية بل الشأن في شهود هذا الجمع واستصحابه في الفرق الثاني وهو الحقيقة الدينية ومن لم يتسع قلبه لذلك فليترك جمعه وفناءه تحت قدمه ولينبذه وراء ظهره مشتغلا بالفرق الثاني والكمال أيضا وراء ذلك وهو شهود الجمع في الفرق والكثرة في الوحدة وتحكيم الحقيقة الدينية على الحقيقة الكونية فهذا حال العارفين الكمل
يسقى ويشرب لا تلهيه سكرته ... عن النديم ولا يلهو عن الكاس
إني لاسمع بكاء الصبي وأنا في الصلاة فأتجوز فيها كراهة أن أشق على أمه وكان في صلاته واشتغاله بالله وإقباله عليه يشعر بعائشة إذا استفتحت الباب فيمشي خطوات يفتح لها ثم يرجع إلى مصلاه وذكر في صلاته تبرا كان عنده فصلى ثم قام مسرعا فقسمه وعاد إلى مجلسه فلم تشغله جمعيته العظمى التي لا يدرك لها من بعده رائحة عن هذه الجزيئات صلوات الله وسلامه عليه

فصل ومنهم من يتمكن الإيمان والعلم من قلبه فإذا جاء الأمر قام
إليه وبادر بجمعيته فإن صحبته وإلا طرحها وبادر إلى الأمر وعلم أنه لا يسعه غير ذلك وأن الجمعية فضل والأمر فرض ومن ضيع الفروض للفضول حيل بينه وبين الوصول لكن إذا جاءت المندوبات التي هي محل الأرباح والمكاسب

العظيمة والمصالح الراجحة من عيادة المريض واتباع الجنازة والجهاد المستحب وطلب العلم النافع والخلطة التي ينتفع بها وينفع غيره ولم يؤثرها على جمعيته إذا رأى جمعيته خيرا له وأنفع منها فهذا غير آثم ولا مفرط إلا إذا تركها رغبة عنها بالكلية واستبدالا بالجمعية فهذا ناقص
أما إذا قام بها أحيانا وتركها أحيانا لإشتغاله بجمعيته فهذا غير مذموم بل هذا حقيقة الإعتكاف المشروع وهو جمعية العبد على ربه وخلوته به وكان النبي يحتجر بحصير في المسجد في اعتكافه يخلو به مع ربه عز و جل ولم يكن يشتغل بتعليم الصحابة وتذكيرهم في تلك الحال ولهذا كان المشهور من مذهب أحمد وغيره أنه لا يستحب للمعتكف إقراء القرآن والعلم وخلوته للذكر والعبادة أفضل له واحتجوا بفعل النبي

فصل وأكمل من هؤلاء من إذا جاءه تفرقة الأمر ورآها أرجح من مصلحة
الجمعية ولم يمكنه الجمع في التفرقة اشترى الفاضل بالمفضول والراجح بالمرجوح فإذا كان المندوب مفضولا مرجوحا والجمع خيرا منه اشتغل بالجمع عنه فهذا أعلى الأقسام والرجل كل الرجل من يرد من تفرقته على جمعه ومن جمعه على تفرقته فيقوي كل واحد منهما بالآخر ولا يلغى الحرب بينهما فإذا جاءت تفرقة الأمر جد فيها وقام بها لجمعيته مقويا لها بالأمر فإذا جاءت حالة الجمعية تقوى بها على تفرقة الأمر والبقاء به فيرد من هذا على هذا ومن هذا على هذا فإذا جاءت تفرقة الأمر قال أتفرق لله ليجمعني عليه وإذا جاءت الجمعية قال أجتمع لأتقوى على أمر الله ورضاه لا لمجرد حظي ولذتي من هذه الجمعية فما أكثر من يغيب بحظه منها ولذتها ونعيمها وطيبها عن مراد الله منه
فتدبر هذا الفصل وأحط به علما فإنه من قواعد السلوك والمعرفة وكم قد

زلت فيه من أقدام وضلت فيه من أفهام ومن عرف ما عند الناس ونهض من مدينة طبعه إلى السير إلى الله عرف مقداره فمن عرفه عرف مجامع الطرق ومفترق الطرق التي تفرقت بالسالكين وأهل العلم والنظر والله سبحانه الموفق للصواب

فصل أصل ذلك كله هو الفرق بين محبة الله ورضاه ومشيئته وإرادته
الكونية ومنشأ الضلال في هذا الباب من التسوية بينهما أو اعتقاد تلازمهما فسوى بينهما الجبرية والقدرية وقالوا المشيئة والمحبة سواء أو متلازمان
ثم اختلفوا فقالت الجبرية الكون كله قضاؤه وقدره طاعته ومعاصيه خيره وشره فهو محبو به
ثم من تعبد منهم وسلك على هذا الإعتقاد رأى أن الأفعال جميعها محبوبة للرب إذ هي صادرة عن مشيئته وهي عين محبته ورضاه وفنى في هذا الشهود الذي كان اعتقادا ثم صار مشهدا فلزم من ذلك ما تقدم من أنه لا يستقبح سيئة ولا يستنكر منكرا وتلك اللوازم الباطلة المنافية للشرائع جملة
ولما ورد على هؤلاء قوله تعالى والله لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وقوله كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها واعتاص عليهم كيف يكون مكروها له وقد أراد كونه وكيف لا يحبه وقد أراد وجوده أولوا هذه الآيات ونحوها بأنه لا يحبها دينا ولا يرضاه شرعا ويكرهها كذلك بمعنى أنه لا يشرعها مع كونه يحب وجودها ويريده
فشهدوا في مقام الفناء كونها محبوبة الوجود ورأوا أن المحبة تقتضي موافقةالمحبوب المحبوب فيما يحبه والكون كله محبوبه فأحبوا بزعمهم جميع ما في الكون وكذبوا وتناقضوا فإنما أحبوا ما تهواه نفوسهم وإرادتهم فإذا كان في الكون

مالا يلائم أحدهم ويكرهه طبعه أبغضه ونفر منه وكرهه مع كونه مرادا للمحبوب فأين الموافقة وإنما وافقوا أهواءهم وإراداتهم
ثم بنوا على ذلك أنهم مأمورون بالرضاء بالقضاء وهذه قضاء من قضائه فنحن نرضى بها فمالنا ولإنكارها ومعاداة فاعلها ونحن مأمورون بالرضا بالقضاء فتركب من اعتقادهم كونها محبوبة للرب وكونهم مأمورين بالرضا بها والتسوية بين الأفعال وعدم استقباح شيء منها أو إنكاره
وانضاف إلى ذلك اعتقادهم جبر العبد عليها وأنها ليست فعله
فلزم من ذلك رفع الأمر والنهي وطي بساط الشرع والإستسلام للقدر والذهاب معه حيث كان وصارت لهم هذه العقائد مشاهد وكل أحد إذا ارتاض وصفا باطنه تجلى له فيه صورة معتقدة فهو يشاهدها بقلبه فيظنها حقا فهذا حال هذه الطائفة
وقالت القدرية النفاة ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له فليست مقدرة له ولا مقضية فهي خارجة عن مشيئته وخلقه
قالوا ونحن مأمورون بالرضا بالقضاء ومأمورون بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها فليست إذا بقضاء الله إذ الرضا والقضاء متلازمان كما أن محبته ومشيئته متلازمان أو متحدان
وهؤلاء لا يجيء من سالكيهم وعبادهم ما جاء من سالكي الجبرية وعبادهم ألبتة لمنافاة عقائدهم لمشاهد أولئك وعقائدهم بل غايتهم التعبد والورع وهم في تعظيم الذنوب والمعاصي خير من أولئك وأولئك قد يكونون أقوى حالا وتأثيرا منهم
فمنشأ الغلط التسوية بين المشيئة والمحبة واعتقادهم وجوب الرضا بالقضاء ونحن نبين ما في الفصلين إن شاء الله تعالى فإن القوة لله جميعا

فأما المشيئة والمحبة فقد دل على الفرق بينهما القرآن والسنة والعقل والفطرة وإجماع المسلمين
قال الله تعالى يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول فقد أخبر أنه لا يرضى بما يبيتونه من القول المتضمن البهت ورمى البريء وشهادة الزور وبراءة الجاني فإن الآية نزلت في قصة هذا شأنها مع أن ذلك كله بمشيئته إذ أجمع المسلمون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ يكن ولم يخالف في ذلك إلا القدرية المجوسية الذين يقولون يشاء مالا يكون ويكون مالا يشاء
وتأويل من تأول الآية على أنه لا يرضاه دينا مع محبته لوقوعه مما ينبغي أن يصان كلام الله عنه إذ المعنى عندهم أنه محبوب له ولكن لا يثاب فاعله عليه فهو محبوب بالمشيئة غير مثاب عليه شرعا
ومذهب سلف الأمة وأئمتها أنه مسخوط للرب مكروه له قدرا وشرعا مع أنه وجد بمشيئته وقضائه فإنه يخلق ما يحب وما يكره وهذا كما أن الأعيان كلها خلقه وفيها ما يبغضه ويكرهه كإبليس وجنوده وسائر الأعيان الخبيثة وفيها ما يحبه ويرضاه كأنبيائه ورسله وملائكته وأوليائه وهكذا الأفعال كلها خلقه ومنها ما هو محبوب له وما هو مكروه له خلقه لحكمة له في خلق ما يكره ويبغض كالأعيان وقال تعالى والله لا يحب الفساد مع أنه بمشيئته وقضائه وقدره وقال تعالى إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم فالكفر والشكر واقعان بمشيئة وقدره وأحدهما محبوب له مرضي والآخر مبغوض له مسخوط
وكذلك قوله عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر

كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها فهو مكروه له مع وقوعه بمشئته وقضائه وقدره
وفي الصحيح عن النبي أنه قال إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال فهذه كراهة لموجود تعلقت به المشيئة
وفي المسند إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته فهذه محبة وكراهة لأمرين موجودين اجتمعا في المشيئة وافترقا في المحبة والكراهة وهذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يذكر جميعه
وقد فطر الله عباده على قولهم هذا الفعل يحبه الله وهذا يكرهه الله ويبغضه وفلان يفعل مالا يحبه الله والقرآن مملوء بذكر سخطه وغضبه على أعدائه وذلك صفة قائمة به ويترتب عليها العذاب واللعنة لا أن السخط هو نفس العذاب واللعنة بل هما أثر السخط والغضب وموجبهما ولهذا يفرق بينهما كما قال تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ففرق بين عذابه وغضبه ولعنته وجعل كل واحد غير الآخر
وكان من دعاء النبي اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك
فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط وبفعل المعافاة من فعل العقوبة فالأول للصفة والثاني لأثرها المترتب عليها ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه فإعادتي مما أكره وأحذر ومنعه أن يحل بي هو بمشيئتك أيضا فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك فعياذي بك منك عياذي بحولك وقوتك وقدرتك ورحمتك وإحسانك مما يكون بحولك وقوتك

وقدرتك وعدلك وحكمتك فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ولا أستعيذ إلا بك من شيء هو صادر عن مشيئتك وخلقك بل هو منك ولا أستعيذ بغيرك من شيء هو صادر عن مشيئتك وقضائك بل أنت الذي تعيذني بمشيئتك مما هو كائن بمشيئتك فأعوذ بك منك
ولا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته
وأشرنا إلى شيء يسير من معناها ولو استقصينا شرحها لقام منه سفر ضخم ولكن قد فتح لك الباب فإن دخلت رأيت عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
والمقصود أن انقسام الكون في أعيانه وصفاته وأفعاله إلى محبوب للرب مرضى له ومسخوط مبغوض له مكروه له أمر معلوم بجميع أنواع الأدلة من العقل والنقل والفطرة والإعتبار فمن سوى بين ذلك كله فقد خالف فطرة الله التي فطر عليها عباده وخالف المعقول والمنقول وخرج عما جاءت به الرسل
ولأي شيء نوع الله سبحانه العقوبات البليغة في الدنيا والآخرة وأشهد عباده منها ما أشهدهم لولا شدة غضبه وسخطه على الفاعلين لما اشتدت كراهته وبغضه له فأوجبت تلك الكراهة والبغض منه وقوع أنواع المكاره بهم كما أن محبته لما يحبه من الأفعال ويرضاه أوجبت وقوع أنواع المحاب لمن فعلها وشهود ما في العالم من إكرام أوليائه وإتمام نعمه عليهم ونصرهم وإعزازهم وإهانة أعدائه وعقوبتهم وإيقاع المكاره بهم من أدل الدليل على حبه وبغضه وكراهته بل نفس موالاته لمن والاه ومعاداته لمن عاداه هي عين محبته وبغضه فإن الموالاة أصلها الحب والمعاداة أصلها البغض فإنكار صفة المحبة والكراهة إنكار لحقيقة الموالاة والمعاداة
وبالجملة فشهود القلوب لمحبته وكراهته كشهود العيان لكرامته وإهانته

فصل وأما حديث الرضا بالقضاء فيقال أولا بأي كتاب أم بأي سنة
أم بأي معقول علمتم وجوب الرضا بكل ما يقضيه ويقدره بل بجواز ذلك فضلا عن وجوبه هذا كتاب الله وسنة رسوله وأدلة العقول ليس في شيء منها الأمر بذلك ولا إباحته
بل من المقضي ما يرضى به ومنه ما يسخطه ويمقته فلا نرضى بكل قضاء كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه بل من القضاء ما يسخطه كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت عليه ويلعن ويذم
ويقال ثانيا ها هنا أمران قضاء وهو فعل قائم بذات الرب تعالى ومقضي وهو المفعول المنفصل عنه فالقضاء خير كله وعدل وحكمة فيرضى به كله والمقضي قسمان منه ما يرضى به ومنه مالا يرضى به
وهذا جواب من يقول الفعل غير المفعول والقضاء غير المقضي
وأما من يقول إن الفعل هو عين المفعول والقضاء هو عين المقضي فلا يمكنه أن يجيب بهذا الجواب
ويقال ثالثا القضاء له وجهان
أحدهما تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه فمن هذا الوجه يرضى به كله
الوجه الثاني تعلقه بالعبد ونسبته إليه فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى مالا يرضى به
مثال ذلك قتل النفس مثلا له اعتباران فمن حيث إنه قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلا للمقتول ونهاية لعمره يرضى به ومن حيث إنه صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه بإختياره وعصى الله بفعله يسخطه ولا يرضى به
فهذه نهاية أقدام العالم المقرين بالنبوات في هذه المسألة ومفترق طرقهم

قد حصرت لك أقوالهم ومآخذهم وأصول تلك الأقوال بحيث لا يشذ منها شيء وبالله التوفيق
ولا تنكر الإطالة في هذا الموضع فإنه مزلة أقدام الخلق وما نجا من معاطبه إلا أهل البصائر والمعرفة بالله وصفاته وأمره وشرائعه

فصل ثم قال صاحب المنازل فتوبة العامة الإستكثار من الطاعة وهو
يدعو إلى جحود نعمة الستر والإمهال ورؤية الحق على الله والإستغناء الذي هو عين الجبروت والتوثب على الله
العامة عندهم من عدا باب الجمع والفناء وإن كانوا أهل سلوك وإرادة وعلم هذا مرادهم بالعامة ويسمونهم أهل الفرق ويسميهم غلاتهم المحجوبين
ومراده أن توبتهم مدخولة عند الخواص منقوصة فإن توبتهم من استكثارهم لما يأتون به من الحسنات والطاعات أي رؤيتهم كثرتها وذلك يتضمن ثلاث مفاسد عند الخاصة
إحداها أن حسناتهم التي يأتون بها سيئات بالنسبة إلى مقام الخاصة فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين فهم محتاجون إلى التوبة من هذه الحسنات فلغفلتهم بإستكثارها عن عيوبها ورؤيتها وملاحظتها هم جاحدون نعمة الله في سترها عليهم وإمهالهم كستره على أهل الذنوب الظاهرة تحت ستره وإمهالهم كستره على أهل الذنوب الظاهرة تحت ستره وإمهاله لكن أهل الذنوب مقرون بستره وإمهاله وهؤلاء جاحدون لذلك لأنهم قد توفرت هممهم على استكثارهم من الحسنات دون مطالعة عيب النفس والعمل والتفتيش على دسائسهما وأن الحامل لهم على استكثارها رؤيتها والإعجاب بها ولو تفرغوا لتفتيشها ومحاسبة النفس عليها والتمييز بين ما فيها من الحظ والحق لشغلهم ذلك على استكثارها ولأجل هذا كان من عدم الحضور والمراقبة والجمعية

في العمل خف عليه واستكثر منه فكثر في عينه وصار بمنزلة العادة فإذا أخذ نفسه بتخليصها من الشوائب وتنقيتها من الكدر وما في ذلك من شوك الرياء وشبرق الإعجاب وجمعية القلب والهم على الله بكليته وجد له ثقلا كالجبال وقل في عينه ولكن إذا وجد حلاوته سهل عليه حمل أثقاله والقيام بأعبائه والتلذذ والتنعم به مع ثقله
وإذا أردت منهم هذا القدر كما ينبغي فانظر وقت أخذك في القراءة إذا أعرضت عن واجبها وتدبرها وتعقلها وفهم ما أريد بكل آية وحظك من الخطاب بها وتنزيلها على أدواء قلبك والتقيد بها كيف تدرك الختمة أو أكثرها أو ما قرأت منها بسهولة وخفة مستكثرا من القراءة فإذا ألزمت نفسك التدبر ومعرفة المراد والنظر إلى ما يخصك منه والتعبد به وتنزيل دوائه على أدواء قلبك والإستشفاء به لم تكد تجوز السورة أو الآية إلى غيرها وكذلك إذا جمعت قلبك كله على ركعتين أعطيتهما ما تقدر عليه من الحضور والخشوع والمراقبة لم تكد أن تصلي غيرهما إلا بجهد فإذا خلا القلب من ذلك عددت الركعات بلا حساب فالإستكثار من الطاعات دون مراعاة آفاتها وعيوبها ليتوب منها هي توبة العامة
المفسدة الثانية رؤية فاعلها أن له حقا على الله في مجازاته على تلك الحسنات بالجنات والنعيم والرضوان ولهذا كثرت في عينه مع غفلته عن أعماله ولو كانت أعمال الثقلين لا تستقل بدخول الجنة ولا بالنجاة من النار وأنه لن ينجو أحد ألبتة من النار بعمله إلا بعفو الله ورحمته
الثالثة استشعارهم الإستغناء عن مغفرة الله وعفوه بما يشهدون من استحقاق المغفرة والثواب بحسناتهم وطاعاتهم فإن ظنهم أن حصول النجاة والثواب بطاعاتهم واستكثارهم منها لذلك وكثرتها في عيونهم إظهار للإستغناء عن مغفرة الله وعفوه وذلك عين الجبروت والتوثب على الله

ولا ريب أن مجرد القيام بأعمال الجوارح من غير حضور ولا مراقبة ولا إقبال على الله قد يتضمن تلك المفاسد الثلاث وغيرها مع أنه قليل المنفعة دينا وأخرى كثير المؤنة فهو كالعمل على غير متابعة الأمر والإخلاص للمعبود فإنه وإن كثر متعب غير مفيد فهكذا العمل الخارجي القشوري بمنزلة النخالة الكثيرة المنظر القليلة الفائدة فإن الله لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وهكذا ينبغي أن يكون سائر الأعمال التي يؤمر بالحضور فيها والخشوع كالطواف وأعمال المناسك ونحوها فإن انضاف إلى ذلك إحسان ظنه بها واستكثارها وعدم التفاته إلى عيوبها ونقائصها والتوبة إلى الله واستغفاره منها : جاءت تلك المفاسد التي ذكرها وما هو أكثر منها وقد ظن بعض الشارحين لكلامه : أن مراده : الإزراء بالاستكثار من الطاعات وأن مجرد الفناء والشهود والاستغراق في حضرة المراقبة خير منها وأنفع وهذا باطل وكذب عليه وعلى الطريقة والحقيقة ولا ريب أن هذه طريقة المنحرفين من السالكين وهو تعبد بمراد العبد وحظه من الله وتقديم له على مراد الله ومحابه من العبد فإن للعبد حظا وعليه حقا فحق الله عليه : تنفيذ أوامره والقيام بها والاستكثار من طاعاته بحسب الإمكان والاشتغال بمحاربة أعدائه ومجادلتهم ولو فرق ذلك جمعيته وشتت حضوره فهذا هو العبودية التي هي مراد الله

وأما الجمعية والمراقبة والاستغراق في الفناء وتعطيل الحواس والجوارح عن إرسالها في الطاعات والاستكثار منها : فهذا مجرد حظ العبد ومراده وهو بلا شك أنعم وألذ وأطيب من تفرقة الاستكثار من الطاعات لا سيما إذا شهدوا تفرقة المستكثرين منها وقلة نصيبهم من الجمعية فإنهم تشتد نفرتهم منهم ويعيبون عليهم ويزرون بهم وقد يسمون من رأوه كثير الصلاة ثقاقيل الحصر ومن رأوه كثير الطواف حمر المدار ونحو ذلك وقد أخبرنى من رأى ابن سبعين قاعدا في طرف المسجد الحرام وهو يسخر من الطائفين ويذمهم ويقول : كأنهم الحمر حول المدار ونحو هذا وكان يقول : إقبالهم على الجمعية أفضل لهم ولا ريب أن هؤلاء مؤثرون لحظوظهم على حقوق ربهم واقفون مع أذواقهم ومواجيدهم فانين بها عن حق الله ومراده وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكي عن بعض العارفين أنه قال : العامة تعبدون الله وهؤلاء يعبدون نفوسهم وصدق رحمه الله فإن هؤلاء المستكثرين من الطاعات الذائقين لروح العبادة الراجين ثوابها قد رفع لهم علم الثواب وأنه مسبب عن الأعمال فشمروا إليه راجين أن تقبل منهم أعمالهم على عيبها ونقصها بفضل الله خائفين أن ترد عليهم إذ لا تصلح لله ولا تليق به فيردها بعدله وحقه فهم مستكثرون بجهدهم

من طاعاته بين خوفه ورجائه والإزراء على أنفسهم والحرص على استعمال جوارحهم في كل وجه من وجوه الطاعات رجاء مغفرته ورحمته وطمعا في النجاة فهم يقاتلون بكل سلاح لعلم ينجون قالوا : وأما ما أنتم فيه من الفناء ومشاهدة الحقيقة والقيومية والاستغراق في ذلك : فنحن في شغل عنه بتنفيذ أوامر صاحب الحقيقة والقيومية والاستكثار من طاعاته وتصريف الجوارح في مرضاته كما أنكم بفنائكم واستغراقكم فى شهود الحقيقة وحضرة الربوبية في شغل عما نحن فيه فكيف كنتم أولى بالله منا ونحن فى حقوقه ومراده منا وأنتم في حظوظكم ومرادكم منه قالوا : وقد ضرب لنا ولكم مثل مطابق لمن تأمله : بملك ادعى محبته مملوكان من مماليكه فاستحضرهما وسألهما عن ذلك فقالا : أنت أحب شيء إلينا ولا نؤثر عليك غيرك فقال : إن كنتما صادقين فاذهبا إلى سائر مماليكي وعرفاهم بحقوقي عليهم وأخبراهم بما يرضيني عنهم ويسخطني عليهم وابذلا قواكما في تخليصهم من مساخطي ونفذا فيهم أوامرى واصبرا على أذاهم وعودا مريضهم وشيعا ميتهم وأعينا ضعيفهم بقوا كما وأموالكما وجاهكما ثم اذهبا إلى بلاد أعدائي بهذه الملطفات وخالطوهم وادعوهم إلى موالاتى واشتغلا بهم ولا تخافوهم فعندي من جندي وأوليائي من يكفيكما شرهم فأما أحد المملوكين : فقام مبادرا إلى امتثال أمره وبعد عن حضرته في طلب مرضاته وأما الآخر فقال له : لقد غلب على قلبي من محبتك والاستغراق في مشاهدة حضرتك وجمالك : ما لا أقدر معه على مفارقة حضرتك ومشاهدتك فقال له : إن رضائي في أن تذهب مع صاحبك فتفعل كما فعل وإن بعدت عن مشاهدتي فقال : لا أوثر على مشاهدتك والاستغراق فيك شيئا

فأي المملوكين أحب إلى هذا الملك وأحظى عنده وأخص به وأقرب إليه أهذا الذى آثر حظه ومراده وما فيه لذته على مراد الملك وأمره ورضاه أم ذلك الذي ذهب في تنفيذ أوامره وفرغ لها قواه وجوارحه وتفرق فيها في كل وجه فما أولاه أن يجمعه أستاذه عليه بعد قضاء أوامره وفراغه منها ويجعله من خاصته وأهل قربه ! وما أولى صاحبه بأن يبعده عن قربه ويحجبه عن مشاهدته ويفرقه عن جمعيته عليه ويبدله بالتفرقة التي هرب منها في تفرقة أمره تفرقة في هواه ومراده بطبعه وبنفسه فليتأمل اللبيب هذا حق التأمل وليفتح عين بصيرته ويسير بقلبه فينظر في مقامات العبيد وأحوالهم وهممهم ومن هو أولى بالعبودية ومن هو البعيد منها ولا ريب أن من أظهر الاستغناء عن الله وطاعاته وتوثب عليه وأورثته الطاعات جبروتا وحجبا عن رؤيته عيوب نفسه وعمله وكثرت حسناته فى عينه فهو أبغض الخلق إلى الله تعالى وأبعدهم عن العبودية وأقربهم إلى الهلاك لا من استكثر من الباقيات الصالحات ومن مثل ما وصى به النبي من سأله مرافقته في الجنة فقال : أعنى على نفسك بكثرة السجود ومن قوله تعالى : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون 1718 قال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون وقال النبي : تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد وقال لمن سأله أن يوصيه بشيء يتشبث به : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله \ ح \ والدين كله استكثار من الطاعات وأحب خلق الله إليه : أعظمهم استكثارا منها وفي الحديث الصحيح الإلهي : ما تقرب إلي عبدى بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه

الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه فهذا جزاؤه وكرامته للمستكثرين من طاعته لا لأهل الفناء المستغرقين في شهود الربوبية وقال لآخر : عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة \ ح \

فصل وهذه الطريقة في الإرادة والطلب : نظير طريقة التجهم في العلم
والمعرفة تلك تعطيل للصفات والتوحيد وهذه تعطيل للأمر والعبودية وانظر إلى هذا النسب والإخاء الذى بينهما كيف شرك بينهما نفي اللفظ كما شرك بينها فى المعنى فتلك طريقة النفي وهذه طريقة الفناء تلك نفى لصفات المعبود وهذه فناء عن عبوديته وأما نفي خواص العبيد وفناؤهم : فأمر وراء نفي أولئك وفنائهم لأن نفيهم لصفات النقائص وما يضاد أوصاف الكمال وفناءهم عن إرادة غيره ومحبته وخوفه ورجائه ففناؤهم عن كل ما يخالف أمره ومحابه ونفيهم لكل ما يضاد كماله وجلاله ومن له فرقان فهو يعرف هذا وهذا وغيره لا اعتبار به وصاحب المنازل رحمه الله كان شديد الإثبات للأسماء والصفات مضادا للجهمية من كل وجه وله كتاب الفاروق استوعب فيه أحاديث الصفات وآثارها ولم يسبق إلى مثله وكتاب ذم الكلام وأهله طريقته فيه أحسن طريقة وكتاب لطيف في أصول الدين يسلك فيه طريقة أهل

الإثبات ويقررها وله مع الجهمية المقامات المشهودة وسعوا بقتله إلى السلطان مرارا عديدة والله يعصمه منهم ورموه بالتشبيه والتجسيم على عادة بهت الجهمية والمعتزلة لأهل السنة والحديث الذين لم يتحيزوا إلى مقالة غير ما دل عليه الكتاب والسنة ولكنه رحمه الله كانت طريقته في السلوك مضادة لطريقته في الأسماء والصفات فإنه لا يقدم على الفناء شيئا ويراه الغاية التي يشمر إليها السالكون والعلم الذي يؤمه السائرون واستولى عليه ذوق الفناء وشهود الجمع وعظم موقعه عنده واتسعت إشاراته إليه وتنوعت به الطرق الموصلة إليه علما وحالا وذوقا فتضمن ذلك تعطيلامن العبودية باديا على صفحات كلامه وزان تعطيل الجهمية لما اقتضته أصولهم من نفي الصفات ولما اجتمع التعطيلان لمن اجتمعا له من السالكين تولد منهما القول بوحدة الوجود المتضمن لإنكار الصانع وصفاته وعبوديته وعصم الله أبا إسماعيل باعتصامه بطريقة السلف في إثبات الصفات فأشرف من عقبة الفناء على وادى الاتحاد بأرض الحلول فلم يسلك فيها ولوقوفه على عقبته وإشرافه على تلك الربوع الخراب ودعوة الخلق أقسمت إلى الوقوف على تلك العقبة الاتحادية بالله جهد أيمانهم : إنه لمعهم ومنهم وحاشاه وتولى شرح كتابه أشدهم في الاتحاد طريقة وأعظمهم فيه مبالغة وعنادا لأهل الفرق : العفيف التلمساني ونزل الجمع الذي يشير إليه صاحب المنازل

على جمع الوجود وهو لم يرد به حيث ذكره إلا جمع الشهود ولكن الألفاظ مجملة وصادفت قلبا مشحونا بالاتحاد ولسانا فصيحا متمكنا من التعبير عن المراد ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

فصل قال : وتوبة الأوساط : من استقلال العبد المعصية وهو عين الجرأة
والمبارزة ومحض التزين بالحمية والاسترسال للقطيعة يريد : أن استقلال المعصية ذنب كما أن استكثار الطاعة ذنب والعارف من صغرت حسناته في عينه وعظمت ذنوبه عنده وكلما صغرت الحسنات فى عينك كبرت عند الله وكلما كبرت وعظمت في قلبك قلت وصغرت عند الله وسيئاتك بالعكس ومن عرف الله وحقه وما ينبغى لعظمته من العبودية : تلاشت حسناته عنده وصغرت جدا في عينه وعلم أنها ليست مما ينجو بها من عذابه وأن الذي يليق بعزته ويصلح له من العبودية : أمر آخر وكلما استكثر منها استقلها واستصغرها لأنه كلما استكثر منها فتحت له أبواب المعرفة بالله والقرب منه فشاهد قلبه من عظمته سبحانه وجلاله ما يستصغر معه جميع أعماله ولو كانت أعمال الثقلين وإذا كثرت في عينه وعظمت دل على أنه محجوب عن الله تعالى غير عارف به وبما ينبغي له وبحسب هذه المعرفة ومعرفته بنفسه يستكثر ذنوبه وتعظم في عينه لمشاهدته الحق ومستحقه وتقصيره في القيام به وإيقاعه على الوجه اللائق الموافق لما يحبه الرب ويرضاه من كل وجه إذا عرف هذا فاستقلال العبد المعصيته عين الجرأة على الله وجهل بقدر من عصاه وبقدر حقه وإنما كان مبارزة لأنه إذا استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها وخفت على قلبه وذلك نوع مبارزة وأما قوله : ومحض التزين بالحمية أي بالمحاماة عن النفس وإظهار براءة ساحتها لا سيما إن انضاف إلى ذلك مشاهدة الحقيقة والاحتجاج بالقدر وقوله :

وأي ذنب لي والمحرك لي غيري والفاعل في سواي وإنما أنا كالميت بين يدي الغاسل وما حيلة من ليس له حيلة وما قدرة من ليس له قدرة ونحو هذا مما يتضمن الجرأة على الله ومبارزته والمحاماة عن النفس واستصغار ذنوبه ومعاصيه إذا أضافها إلى الحكم فيسترسل إذا للقطيعة وهي المقاطعة لربه والانقطاع عنه فيصير خصما لله مع نفسه وشيطانه وهذا حال المحتجين بالقدر على الذنوب فإنهم خصماء الله عز و جل وهم مع الشياطين والنفوس على الله وهذا غاية البعد والطرد والانقطاع عن الله فإن قلت : فكيف كانت توبة العامة من استكثار الطاعات وتوبة من هم أخص منهم وأعلى درجة من استقلال المعصية وهلا كان الأمر بالضد قلت : الاوساط لما كانوا أشد طلبا لعيوب النفس والعمل وأكثر تفتيشا عليها : انكشف لهم من ذنوبهم ومعاصيهم ما لم ينكشف للعامة إذ حرص العامة على الاستكثار من الطاعات ولذلك كثرت في أعينهم وحرص هؤلاء على تنقية أنفسهم من الآفات والتفتيش على عيوب الأعمال فاستقلال السيئات آفة هؤلاء وقاطع طريقهم واستكثار الحسنات وعظمها في قلوب أولئك آفتهم وقاطع طريقهم فذكر ما هو الأخص الأغلب على كل واحدة من الطائفتين

فصل قال وتوبة الخواص : من تضييع الوقت فإنه يفضي إلى درك النقيصة
ويطفىء نور المراقبة ويكدر عين الصحبة ليس مراده بتضييع الوقت : إضاعته في الاشتغال بمعصية أو لغو أو الإعراض عن واجبه وفرضه فإنهم لو أضاعوه بهذا المعنى لم يكونوا من الخواص بل هذه توبة العامة بعينها و الوقت عند القوم : أخص منه في لغة العرب حتى إن منهم من يقول : الوقت : هو الحق ومنهم من يقول استغراق رسم العبد في وجود الحق يشيرون إلى الفناء فى حضرة الجمع والغالب على اصطلاحهم : أنه

من الإقبال على الله بالمراقبة والحضور والفناء فى الوحدانية ويقولون : هو صاحب وقت مع الله فخصوا الوقت بهذا الاسم تخصيصا للفظ العام ببعض أفراده وإلا فكل من هو مشغول بأمر يعنى به فان في شهوده وطلبه : فله وقت معه بل أوقاته مستغرقة فيه فتوبة هؤلاء من إضاعة هذا الوقت الخاص الذي هو وقت وجد صادق وحال صحيحة مع الله تعالى لا يكدرها الأغيار وربما يمر بك إشباع القول في الوقت والفرق بين الصحيح منه والفاسد فيما بعد إن شاء الله والقصد : أن إضاعة الوقت الصحيح يدعو إلى درك النقيصة إذ صاحب حفظه مترق على درجات الكمال فإذا أضاعه لم يقف موضعه بل ينزل إلى درجات من النقص فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد فالعبد سائر لا واقف فإما إلى فوق وإما إلى أسفل إما إلى أمام وإما إلى وراء وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف ألبتة ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار فمسرع ومبطىء ومتقدم ومتقدم ومتأخر وليس في الطريق واقف ألبتة وإنما يتخالفون فى جهة المسير وفي السرعة والبطء إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر المدثر : 3537 ولم يذكر واقفا إذ لا منزل بين الجنة والنار ولا طريق لسالك إلى غير الدارين ألبتة فمن لم يتقدم إلى هذه الآعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة فإن قلت : كل مجد في طلب شيء لا بد أن يعرض له وقفة وفتور ثم ينهض إلى طلبه قلت : لا بد من ذلك ولكن صاحب الوقفة له حالان : إما أن يقف ليجم نفسه ويعدها للسير فهذا وقفته سير ولا تضره الوقفة فإن لكل عمل شرة ولكل شرة فترة

وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه وجاذب جذبه من خلفه فإن أجابه أخره ولا بد فإن تداركه الله برحمته وأطلعه على سبق الركب له وعلى تأخره : نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع ووثب وجمز واشتد سعيا ليلحق الركب وإن استمر مع داعي التأخر وأصغى إليه لم يرض برده إلى حالته الأولى من الغفلة وإجابة داعي الهوى حتى يرده إلى أسوأ منها وأنزل دركا وهو بمنزلة النكسة الشديدة عقيب الإبلال من المرض فإنها أخطر منه وأصعب وبالجملة : فإن تدارك الله سبحانه وتعالى هذا العبد بجذبة منه من يد عدوه وتخليصه وإلا فهو في تأخر إلى الممات راجع القهقرى ناكص على عقيبه أو مول ظهره ولا قوة إلا بالله والمعصوم من عصمه الله وقوله : ويطفىء نور المراقبة يعني أن المراقبة تعطي نورا كاشفا لحقائق المعرفة والعبودية وإضاعة الوقت تغطي ذلك النور وتكدر الصحبة مع الله فإن صاحب الوقت مع صحبة الله وله مع الله معية خاصة بحسب حفظه وقته مع الله فإن كان مع الله كان الله معه فإذا أضاع وقته كدر عين هذه المعية الخاصة وتعرض لقطع هذه الصحبة فلا شيء أضر على العارف بالله من إضاعة وقته مع الله ويخشى عليه إن لم يتداركه بالرجوع : أن تستمر الإضاعة إلى يوم القيامة فتكون حسرته وندامته أعظم من حسرة غيره وندامته وحجابه عن الله أشد من حجاب من سواه ويكون حاله شبيها بحال قوم يؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا عاينوها وشاهدوا ما فيها صرفت وجوههم عنها إلى النار فإذن توبة الخواص تكون من تضييع أوقاتهم مع الله التي تدعو إلى هذه الأمور

فصل وفوق هذا مقام آخر من التوبة أرفع منه وأخص لا يعرفه إلا الخواص
المحبون الذين يستقلون في حق محبوبهم جميع أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم فلا

يرونها قط إلا بعين النقص والإزراء عليها ويرون شأن محبوبهم أعظم وقدره أعلى من أن يرضوا نفوسهم وأعمالهم له فهم أشد شيء احتقارا لها وإزراء بها وإذا غفلوا عن مراد محبوبهم منهم ولم يوفوه حقه : تابوا إليه من ذلك توبة أرباب الكبائر منها فالتوبة لا تفارقهم أبدا وتوبتهم لون وتوبة غيرهم لون وفوق كل ذي علم عليم يوسف : 76 وكلما ازدادوا حبا له ازدادوا معرفة بحقه وشهودا لتقصيرهم فعظمت لذلك توبتهم ولذلك كان خوفهم أشد وإزراؤهم على أنفسهم أعظم وما يتوب منه هؤلاء قد يكون من كبار حسنات غيرهم وبالجملة : فتوبة المحبين الصادقين العارفين بربهم وبحقه : هي التوبة وسواهم محجوب عنها وفوق هذه توبة أخرى الأولى بنا الإضراب عنها صفحا

فصل قال صاحب المنازل ولا يتم مقام التوبة إلا بالانتهاء إلى التوبة مما
دون الحق ثم رؤية علة التوبة ثم التوبة من رؤية تلك العلة التوبة مما دون الله : أن يخرج العبد بقلبه عن إرادة ما سوى الله تعالى فيعبده وحده لا شريك له بأمره وباستعانته فيكون كله له وبه وهذا أمر لا يصح إلا لمن استولى عليه سلطان المحبة فامتلأ قلبه من الله محبة له وإجلالا وتعظيما وذلا وخضوعا وانكسارا بين يديه وافتقارا إليه فإذا صح له ذلك بقيت عليه عندهم بقية أخرى هي علة في توبته وهي شعوره بها ورؤيته لها وعدم فنائه عنها وذلك بالنسبة إلى مقامه وحاله ذنب فيتوب من هذه الرؤية فههنا ثلاثة أمور : توبته مما سوى الله ورؤيته هذه التوبة وهي علتها وتوبته من رؤية تلك الرؤية وهذا عند القوم الغاية التي لا شيء بعدها والنهاية

التي لا تكون إلا لخاصة الخاصة ولعمر الله إن رؤية العبد فعله واحتجابه به عن ربه ومشاهدته له : علة في طريقه موجبة للتوبة وأما رؤيته له واقعا بمنة الله وفضله وحوله وقوته وإعانته : فهذا أكمل من غيبته عنه : وهو أكمل من المقام الذي يشيرون إليه وأتم عبودية وأدعى للمحبة وشهود المنة إذ يستحيل شهود المنة على شيء لا شعور للشاهد به ألبتة والذي ساقهم إلى ذلك : سلوك وادي الفناء فى الشهود فلا يشهد مع الحق سببا ولا وسيلة ولا رسما ألبتة ونحن لا ننكر ذوق هذا المقام وأن السالك ينتهي إليه ويجد له حلاوة ووجدا ولذة لا يجدها لغيره ألبتة وإنما يطالب أربابه والمشمرون إليه بأمر وراءه وهو أن هذا هو الكمال وهو أكمل من حال من شهد أفعاله ورآها ورأى تفاصيلها مشاهدا لها صادرة عنه بمشيئة الله وإرادته ومعونته فشهد عبوديته مع شهود معبوده ولم يغب في شهود العبودية عن المعبود ولا بشهود المعبود عن العبودية فكلاهما نقص والكمال : أن تشهد العبودية حاصلة بمنة المعبود وفضله ومشيئته فيجتمع لك الشهودان فإن غبت بأحدهما عن الآخر فالمقام مقام توبة وهل في الغيبة عن العبودية إلا هضم لها والواجب : أن يقع التحاكم في ذلك إلى الله ورسوله وإلى حقائق الإيمان دون الذوق فإننا لا ننكر ذوق هذه الحال وإنما ننكر كونها أكمل من غيرها فأين الإشارة في القرآن أو في السنة أو في كلام سادات العارفين من الصحابة ومن تبعهم إلى هذا الفناء وأنه هو الكمال وأن رؤية العبد لفعله بالله وحوله وفضله وشهوده له كذلك : علة تجب التوبة منها وهذا القدر مما يصعب إنكاره على القوم جدا ويرمون منكره بأنه محجوب من أهل الفرق وأنه لم يصل إلى هذا المقام ولو وصل إليه لما أنكره وليس في

شيء من ذلك حجة لتصحيح قولهم ولا جواب المطالبة فقد سألك هذا المحجوب عن مسألة شرعية وما ذكرتموه ليس بجواب لها ولعمر الله إنه يراكم محجوبين عن حال أعظم من هذه الحال ومقام أرفع منه وليس في مجرد الفناء والاستغراق في شهود القيومية وإسقاط الأسباب والعلل والحكم والوسائط كثير علم ولا معرفة ولا عبودية وهل المعرفة كل المعرفة والعبودية : إلا شهود الأشياء على ما هي عليه والقرآن كله مملوء من دعاء العباد إلى التفكر فى الآيات والنظر في أحوال المخلوقات ونظر الإنسان في نفسه وتفاصيل أحواله وأخص من ذلك : نظره فيما قدم لغده ومطالعته لنعم الله عليه بالإيمان والتوفيق والهداية وتذكر ذلك والتفكر فيه وحمد الله وشكره عليه وهذا لا يحصل مع الفناء حتى عن رؤية الرؤية وشهود الشهود ثم إن هذا غير ممكن ألبتة فإنكم إذا جعلتم رؤيته لتوبته علة يتوب منها فإن رؤيته لتلك الرؤية أيضا علة توجب عليه توبة وهلم جرا فلا ينتهي الأمر إلا بسقوط التمييز جملة والسكر والطمس المنافي للعبودية فضلا عن أن يكون غاية للعبودية فتأمل الآن تفاصيل عبودية الصلاة كيف لا تتم إلا بشهود فعلك الذى متى غبت عنه كان ذلك نقصا في العبودية فإذا قال المصلي : وجهت وجهي للذى فطر السموات والأرض حنيفا فعبودية هذا القول : أن يشهد وجهه وهو قصده وإرادته وأن يشهد حقيقته وهي إقباله على الله ثم إذا قال : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين فعبودية هذا القول : أن يشهد الصلاة والنسك المضافين ولو غاب عنهما كان قد أضاف إلى الله بلسانه ما هو غائب عن استحضاره بقلبه فكيف يكون هذا أكمل وأعلى من حال من استحضر فعله وعبوديته وأضافهما إلى الله وشهد مع

ذلك كونهما به فأين هذا من حال المستغرق الفاني المصطلم الذي قد غاب بمعبوده عن حقه وقد أخذ منه وغيب عنه نعم غاية هذا : أن يكون معذورا أما أن يكون مقامه أعلى مقام وأجله : فكلا وكذلك إذا قال في قراءته إياك نعبد وإياك نستعين فعبودية هذا القول : فهم معنى العبادة والاستعانة واستحضارهما وتخصيصهما بالله ونفيهما عن غيره فهذا أكمل من قول ذلك بمجرد اللسان وكذلك إذا قال في ركوعه : اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وما استقلت به قدمي فكيف يؤدي عبودية هذه الكلمات غائب عن فعله مستغرق في فنائه وهل يبقى غير أصوات جارية على لسانه ولولا العذر لم تكن هذه عبودية نعم رؤية هذه الأفعال والوقوف عندها والاحتجاب بها عن المنعم بها الموفق لها المان بها : من أعظم العلل والقواطع قال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم : أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين الحجرات : 17 فالعارف غائب بمنة الله عليه في طاعته مع شهودها ورؤيتها والجاهل غائب بها عن رؤية منة الله والفاني غائب باستغراقه في الفناء وشهود القيومية عن شهودها وهو ناقص وقد جعل الله لك شيء قدرا

فصل ونذكر نبذا تتعلق بأحكام التوبة تشتد الحاجة إليها ولا يليق
بالعبد جهلها منها : أن المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها فمتى أخرها عصى بالتأخير فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى وهي توبته من تأخير التوبة وقل أن تخطر هذه ببال التائب بل عنده : أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة

ولا ينجي من هذا إلا توبة عامة مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكنا من العلم فإنه عاص بترك العلم والعمل فالمعصية في حقه أشد وفي صحيح ابن حبان : أن النبي قال : الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل فقال أبو بكر فكيف الخلاص منه يا رسول الله قال : أن تقول : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه الله أنه ذنب ولا يعلمه العبد وفي الصحيح عنه : أنه كان يدعو في صلاته : اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي فى أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت إلهي لا إله إلا أنت وفي الحديث الآخر : اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله خطأه وعمده سره وعلانيته أوله وآخره \ ح \ فهذا التعميم وهذا الشمول لتأتي التوبة على ما علمه العبد من ذنوبه وما لم يعلمه

فصل وهل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره فيه قولان لأهل العلم
وهما روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه ولم يطلع على الخلاف من حكى الإجماع على صحتها كالنووي وغيره والمسألة مشكلة ولها غور ويحتاج الجزم بأحد القولين إلى دليل يحصل به الجزم والذين صححوها احتجوا بأنه لما صح الإسلام وهو توبة من الكفر

مع البقاء على معصية لم يتب منها فهكذا تصح التوبة من ذنب مع بقائه على آخر وأجاب الآخرون عن هذا بأن الإسلام له شأن ليس لغيره لقوته ونفاذه وحصوله تبعا بإسلام الأبوين أو أحدهما للطفل وكذلك بانقطاع نسب الطفل من أبيه أو بموت أحد أبويه في أحد القولين وكذلك يكون بكون سابيه ومالكه مسلما في أحد القولين أيضا وذلك لقوته وتشوف الشرع إليه حتى حصل بغير القصد بل بالتبعية واحتج الآخرون بأن التوبة : هى الرجوع إلى الله من مخالفته إلى طاعته وأي رجوع لمن تاب من ذنب واحد وأصر على ألف ذنب قالوا : والله سبحانه إنما لم يؤاخذ التائب لأنه قد رجع إلى طاعته وعبوديته وتاب توبة نصوحا والمصر على مثل ما تاب منه أو أعظم لم يراجع الطاعة ولم يتب توبة نصوحا قالوا : ولأن التائب إذا تاب إلى الله فقد زال عنه اسم العاصي كالكافر إذا أسلم زال عنه اسم الكافر فأما إذا أصر على غير الذنب الذي تاب منه فاسم المعصية لا يفارقه فلا تصح توبته وسر المسألة أن التوبة : هل تتبعض كالمعصية فيكون تائبا من وجه دون وجه كالإيمان والإسلام والراجح : تبعضها فإنها كما تتفاضل في كيفيتها كذلك تتفاضل في كميتها ولو أتى العبد بفرض وترك فرضا آخر لاستحق العقوبة على ما تركه دون ما فعله فهكذا إذا تاب من ذنب وأصر على آخر لأن التوبة فرض من الذنبين فقد

أدى أحد الفرضين وترك الآخر فلا يكون ما ترك موجبا لبطلان ما فعل كمن ترك الحج وأتى بالصلاة والصيام والزكاة والآخرون يجيبون عن هذا بأن التوبة فعل واحد معناه الإقلاع عما يكرهه الله والندم عليه والرجوع إلى طاعته فإذا لم توجد بكمالها لم تكن صحيحة إذ هي عبادة واحدة فالإتيان ببعضها وترك بعض واجباتها كالإتيان ببعض العبادة الواجبة وترك بعضها فإن ارتباط أجزاء العبادة الواحدة بعضها ببعض أشد من ارتباط العبادات المتنوعات بعضها ببعض وأصحاب القول الآخر يقولون : كل ذنب له توبة تخصه وهي فرض منه لا تتعلق بالتوبة من الآخر كما لا يتعلق أحد الذنبين بالآخر والذي عندي في هذه المسألة : أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه وأما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه : فتصح كما إذا تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر مثلا فإن توبته من الربا صحيحة وأما إذا تاب من ربا الفضل ولم يتب من ربا النسيئة وأصر عليه أو بالعكس أو تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو بالعكس : فهذا لا تصح توبته وهو كمن يتوب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها غير تائب منها أو تاب من شرب عصير العنب المسكر وهو مصر على شرب غيره من الأشربة المسكرة فهذا في الحقيقة لم يتب من الذنب وإنما عدل عن نوع منه إلى نوع آخر بخلاف من عدل عن معصية إلى معصية أخرى غيرها في الجنس إما لأن وزرها أخف وإما لغلبة دواعي الطبع إليها وقهر سلطان شهوتها له وإما لأن أسبابها حاضرة لديه عتيدة لا يحتاج إلى استدعائها بخلاف معصية يحتاج إلى استدعاء أسبابها وإما لاستحواذ قرنائه وخلطائه عليه فلا يدعونه يتوب منها وله بينهم حظوة بها و جاه فلا تطاوعه نفسه على إفساد جاهه بالتوبة كما قال أبو نواس لأبي العتاهية وقد لامه على تهتكه في المعاصي :

أتراني يا عتاهي ... تاركا تلك الملاهي
أتراني مفسدا بالنسك ... عند القوم جاهي فمثل هذا إذا تاب من قتل النفس وسرقة أموال المعصومين وأكل أموال اليتامى ولم يتب من شرب الخمر والفاحشة : صحت توبته مما تاب منه ولم يؤاخذ به وبقي مؤاخذا بما هو مصر عليه والله أعلم

فصل ومن أحكام التوبة أنه : هل يشترط في صحتها أن لا يعود إلى
الذنب أبدا أم ليس ذلك بشرط فشرط بعض الناس عدم معاودة الذنب وقال : متى عاد إليه تبينا أن التوبة كانت باطلة غير صحيحة والأكثرون على أن ذلك ليس بشرط وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه والعزم الجازم على ترك معاودته فإن كانت في حق آدمي : فهل يشترط تحلله فيه تفصيل سنذكره إن شاء الله فإذا عاوده مع عزمه حال التوبة على أن لا يعاوده صار كمن ابتدأ المعصية ولم تبطل توبته المتقدمة والمسألة مبنية على أصل وهو : أن العبد إذا تاب من الذنب ثم عاوده فهل يعود إليه إثم الذنب الذي قد تاب منه ثم عاوده بحيث يستحق العقوبة على الأول والآخر إن مات مصرا أو إن ذلك قد بطل بالكلية فلا يعود إليه إثمه وإنما يعاقب على هذا الأخير وفي هذا الأصل قولان فقالت طائفة : يعود إليه إثم الذنب الأول لفساد التوبة وبطلانها بالمعاودة قالوا : لأن التوبة من الذنب بمنزلة الإسلام من الكفر والكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم الكفر وتوابعه فإن ارتد عاد إليه الإثم الأول مع

إثم الردة كما ثبت فى الصحيح عن النبي أنه قال : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر فهذا حال من أسلم وأساء فى إسلامه ومعلوم أن الردة من أعظم الإساءة في الإسلام فإذا أخذ بعدها بما كان منه فى حال كفره ولم يسقطه الإسلام المتخلل بينهما فهكذا التوبة المتخللة بين الذنبين لا تسقط الإثم السابق كما لا تمنع الإثم اللاحق قالوا : واولأن صحة التوبة مشروطة باستمرارها والموافاة عليها والمعلق على الشرط يعدم عند عدم الشرط كما أن صحة الإسلام مشروطة باستمراره والموافاة عليه قالوا : والتوبة واجبة وجوبا مصينقا مدى العمر فوقتها مدة العمر إذ يجب عليه استصحاب حكمها في مدة عمره فهي بالنسبة إلى العمر كالإمساك عن المفطرات في صوم اليوم فإذا أمسك معظم النهار ثم نقض إمساكه بالمفطرات : بطل ما تقدم من صيامه ولم يعتد به وكان بمنزلة من لم يمسك شيئا من يومه قالوا : ويدل على هذا : الحديث الصحيح وهو قوله : إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وهذا أعم من أن يكون هذا العمل الثاني كفرا موجبا للخلود أو معصية موجبة للدخول فإنه لم يقل : فيرتد فيفارق الإسلام وإنما أخبر أنه يعمل بعمل يوجب له النار وفي بعض السنن : إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة فإذا كان عند الموت جار في وصيته فدخل النار فالخاتمة السيئة أعم من أن تكون خاتمة بكفر أو بمعصية والأعمال بالخواتيم فإن قيل : فهذا يلزم منه إحباط الحسنات بالسيئات وهذا قول المعتزلة والقرآن والسنة قد دلا على أن الحسنات هي التي تحبط السيئات لا العكس كما قال إن الحسنات يذهبن السيئات هود : 114 وقال النبي

لمعاذ : اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن قيل : والقرآن والسنة قد دلا على الموازنة وإحباط الحسنات بالسيئات فلا يضرب كتاب الله بعضه ببعض ولا يرد القرآن بمجرد كون المعتزلة قالوه فعل أهل الهوى والتعصب بل نقبل الحق ممن قاله ويرد الباطل على من قاله فأما الموازنة : فمذكورة في سورة الأعراف آيه : 79 والأنبياء آيه21 : 47 والمؤمنين آيه : 101111 والقارعة والحاقة آيه : 1937 وأما الإحباط : فقد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم محمد : 33 وتفسير الإبطال ها هنا بالردة لأنها أعظم المبطلات لا لأن المبطل ينحصر فيها وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى البقره : 264 فهذان سببان عرضا بعد للصدقة فأبطلاها شبه سبحانه بطلانها بالمن والأذى بحال المتصدق رياء فى بطلان صدقة كل واحد منهما وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض : أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون الحجرات : 2 وفي الصحيح عن النبي قال : من ترك صلاة العصر فقط حبط عمله وقالت عائشة رضى الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم وقد باع بيع العينة : أخبري زيدا : أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب وقد نص أحمد على هذا في رواية فقال : ينبغي للعبد أن يتزوج إذا خاف على نفسه فيستدين ويتزوج لا يقع في محظور فيحبط عمله فإذا استقرت قاعدة الشريعة أن من السيئات ما يحبط الحسنات بالإجماع ومنها ما يحبطها بالنص جاز ان المعاوده حسنة التوبة فتصير التوبة كأنها لم تكن فيلتقي العملان ولا حاجز بينهما فيكون التأثير لهما جميعا قالوا : وقد دل القرآن والسنة وإجماع السلف على الموازنة وفائدتها :

اعتبار الراجح فيكون التأثير والعمل له دون المرجوح قال ابن مسعود يحاسب يوم القيامة فمن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ومن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ثم قرأ : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم الأعراف : 89 ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الاعراف وعلى هذا : فهل يحبط الراجح المرجوح حتى يجعله كأن لم يكن أو يحبط ما قابله بالموازنة ويبقى التأثير للقدر الزائد فيه قولان للقائلين بالموازنة ينبني عليهما : أنه إذا كانت الحسنات أرجح من السيئات بواحدة مثلا فهل يدفع الراجح المرجوح جملة فيثاب على الحسنات كلها أو يسقط من الحسنات ما قابل السيئات فلا يثاب عليه ولا يعاقب على تلك السيئات فيبقى القدر الزائد لا مقابل له فيثاب عليه وحده وهذا الأصل فيه قولان لأصحاب الموازنة وكذلك إذا رجحت السيئات بواحدة هل يدخل النار بتلك الواحدة التي سلمت عن مقابل أو بكل السيئات التي رجحت على القولين هذا كله على أصل أصحاب التعليل والحكم

وأما على أصول الجبرية نفاة التعليل والحكم والأسباب واقتضائها للثواب والعقاب : فالأمر مردود عندهم إلى محض المشيئة من غير اعتبار شيء من ذلك ولا يدرى عندهم ما يفعل الله بل يجوز عندهم أن يعاقب صاحب الحسنات الراجحة ويثيب صاحب السيئات الراجحة وأن يدخل الرجلين النار مع استوائهما في العمل وأحدهما في الدرك تحت الآخر ويغفر لزيد ويعاقب عمرا مع استوائهما من جميع الوجوه وينعم من لم يطعه قط ويعذب من لم يعصه قط فليس عندهم سبب ولا حكمة ولا علة ولا موازنة ولا إحباط ولا تدافع بين الحسنات والسيئات والخوف على المحسن والمسيء واحد إذ من الجائز تعذيبهما وكل مقدور له فجائز عليه لا يعلم امتناعه إلا بإخبار الرسول : أنه لا يكون فيمتنع وقوعه لمطابقة خبره لعلمه الله عز و جل بعد وقوعه

فصل واحتج الفريق الآخر وهم القائلون بأنه لا يعود إليه إثم الذنب
الذي تاب منه بنقض التوبة بأن ذلك الإثم قد ارتفع بالتوبة وصار بمنزلة ما لم يعمله وكأنه لم يكن فلا يعود إليه بعد ذلك وإنما العائد إثم المستأنف لا الماضي قالوا : ولا يشترط في صحة التوبة العصمة إلى الممات بل إذا ندم وأقلع وعزم على الترك : محي عنه إثم الذنب بمجرد ذلك فإذا استأنفه استأنف إثمه قالوا : فليس هذا كالكفر الذي يحبط الأعمال فإن الكفر له شأن آخر ولهذا يحبط جميع الحسنات ومعاودة الذنب لا تحبط ما تقدمه من الحسنات قالوا : والتوبة من أكبر الحسنات فلو أبطلتها معاودة الذنب لأبطلت غيرها من الحسنات وهذا باطل قطعا وهو يشبه مذهب الخوارج المكفعرين بالذنب والمعتزلة المخلدين في النار بالكبيرة التى تقدمها الألوف من الحسنات فإن الفريقين متفقان على خلود أرباب الكبائر في النار ولكن الخوارج كفروهم والمعتزلة فسقوهم وكلا المذهبين باطل في دين الإسلام مخالف للمنقول

والمعقول وموجب العدل : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما النساء : 40 قالوا : وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده مرفوعا إلى النبي : إن الله يحب العبد المفتن التواب قلت : وهو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه فلو كانت معاودته تبطل توبته لما كان محبوبا للرب ولكان ذلك أدعى إلى مقته قالوا : وقد علق الله سبحانه قبول التوبة بالاستغفار وعدم الإصرار دون المعاودة فقال تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون آل عمران : 135 والإصرار : عقد القلب على ارتكاب الذنب متى ظفر به فهذا الذي يمنع مغفرته قالوا : وأما استمرار التوبة : فشرط في صحة كمالها ونفعها لا شرط في صحة ما مضى منها وليس كذلك العبادات كصيام اليوم وعدد ركعات الصلاة فإن تلك عبادة واحدة لا تكون مقبولة إلا بالإتيان بجميع أركانها وأجزائها وأما التوبة : فهي عبادات متعددة بتعدد الذنوب فكل ذنب له توبة تخصه فإذا أتى بعبادة وترك أخرى لم يكن ما ترك موجبا لبطلان ما فعل كما تقدم تقريره بل نظير هذا : أن يصوم من رمضان ويفطر منه بلا عذر فهل يكون ما أفطره منه مبطلا لأجر ما صامه منه بل نظير من صلى ولم يصم أو زكى ولم يحج ونكتة المسألة : أن التوبة المتقدمة حسنة ومعاودة الذنب سيئة فلا تبطل معاودته هذه الحسنة كما لا تبطل ما قارنها من الحسنات قالوا : وهذا على أصول السنة أظهر فإنهم متفقون على أن الشخص الواحد يكون فيه ولاية لله وعداوة من وجهين مختلفين ويكون محبوبا لله مبغوضا

له من وجهين أيضا بل يكون فيه إيمان ونفاق وإيمان وكفر ويكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الآخر فيكون من أهله كما قال تعالى هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان وقال : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون يوسف : 106 أثبت لهم الإيمان به مع مقارنة الشرك فإن كان مع هذا الشرك تكذيب لرسله لم ينفعهم ما معهم من الإيمان بالله وإن كان معه تصديق لرسله وهم مرتكبون لأنواع من الشرك لا تخرجهم عن الإيمان بالرسل وباليوم الآخر فهؤلاء مستحقون للوعيد أعظم من استحقاق أرباب الكبائر وشركهم قسمان : شرك خفي وشرك جلي فالخفي قد يغفر وأما الجلي فلا يغفره الله تعالى إلا بالتوبة منه فإن الله لا يغفر أن يشرك به وبهذا الأصل أثبت أهل السنة دخول أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها ودخولهم الجنة لما قام بهم من السببين فإذا ثبت هذا فمعاود الذنب : مبغوض لله من جهة معاودة الذنب محبوب له من جهة توبته وحسناته السابقة فيرتب الله سبحانه على كل سبب أثره ومسببه بالعدل والحكمة ولا يظلم مثقال ذرة وما ربك بظلام للعبيد فصلت : 46

فصل وإذا استغرقت سيئاته الحديثات حسناته القديمات وأبطلتها ثم تاب منها
توبة نصوحا خالصة : عادت إليه حسناته ولم يكن حكمه حكم المستأنف لها بل يقال له : تبت على ما أسلفت من خير فان الحسنات التى فعلها فى الإسلام أعظم من الحسنات التي يفعلها الكافر في كفره : من عتاقة وصدقة وصلة وقد قال حكيم بن حزام : يا رسول الله أرأيت عتاقة أعتقتها فى الجاهلية وصدقة تصدقت بها وصلة وصلت بها رحمي فهل لي فيها من أجر فقال : أسلمت على ما أسلفت من خير وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة وصارت كأنها لم تكن فتلاقت الطاعتان واجتمعتا والله أعلم

فصل ومن أحكامها : أن العاصي إذا حيل بينه وبين أسباب المعصية وعجز
عنها بحيث يتعذر وقوعها منه هل تصح توبته وهذا كالكاذب والقاذف وشاهد الزور إذا قطع لسانه والزاني إذا جب والسارق إذا أتي على أطرافه الأربعة والمزور إذا قطعت يده ومن وصل إلى حد بطلت معه دواعيه إلى معصية كان يرتكبها ففي هذا قولان للناس فقالت طائفة : لا تصح توبته لأن التوبة إنما تكون ممن يمكنه الفعل والترك فالتوبة من الممكن لا من المستحيل ولهذا لا تتصور التوبة من نقل الجبال عن أماكنها وتنشيف البحار والطيران إلى السماء ونحوه قالوا : ولأن التوبة مخالفة داعي النفس وإجابة داعي الحق ولا داعي للنفس هنا إذ يعلم استحالة الفعل منها قالوا : ولأن هذا كالمكره على الترك المحمول عليه قهرا ومثل هذا لا تصح توبته قالوا : ومن المستقر في فطر الناس وعقولهم : أن توبة المفاليس وأصحاب الجوائح : توبة غير معتبرة ولا يحمدون عليها وبل يسمونها توبة إفلاس وتوبة جائحة قال الشاعر : ورحت عن توبة سائلا وجدتها توبة إفلاس قالوا : ويدل على هذا أيضا : أن النصوص المتضافرة المتظاهرة قد دلت على أن التوبة عند المعاينة لا تنفع لأنها توبة ضرورة لا اختيار قال تعالى : إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال : إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار

أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما النساء : 1718 و الجهالة ههنا : جهالة العمل وإن كان عالما بالتحريم قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو لم يكن وكل من عصى الله فهو جاهل وأما التوبة من قريب : فجمهور المفسرين : على أنها التوبة قبل المعاينة قال عكرمة : قبل الموت وقال الضحاك : قبل معاينة ملك الموت وقال السدى والكلبى : أن يتوب فى صحته قبل مرض موته وفي المسند وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر وفى نسخة دراج أبى الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا : إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب عز و جل : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني

فهذا شأن التائب من قريب وأما إذا وقع في السياق فقال : إني تبت الآن لم تقبل توبته وذلك لأنها توبة اضطرار لا اختيار فهي كالتوبة بعد طلوع الشمس من مغربها ويوم القيامة وعند معاينة بأس الله قالوا : ولأن حقيقة التوبة : هي كف النفس عن الفعل الذى هو متعلق النهي والكف إنما يكون عن أمر مقدور وأما المحال : فلا يعقل كف النفس عنه ولأن التوبة هى الإقلاع عن الذنب وهذا لا يتصور منه الإيقاع حتى يتأتى منه الإقلاع قالوا : ولأن الذنب عزم جازم على فعل المحرم يقترن به فعله المقدور والتوبة منه : عزم جازم على ترك المقدور يقترن به الترك والعزم على غير المقدور محال والترك في حق هذا ضروري لا عزم غير مقدور بل هو بمنزلة ترك الطيران إلى السماء وتقل الجبال وغير ذلك والقول الثاني وهو الصواب أن توبته صحيحة ممكنة بل واقعة فإن أركان التوبة مجتمعة فيه والمقدور له منها الندم وفي المسند مرفوعا الندم توبة فإذا تحقق ندمه على الذنب ولومه نفسه عليه فهذه توبة وكيف يصح أن تسلب التوبة عنه مع شدة ندمه ندمه على الذنب ولومه نفسه عليه ولا سيما ما يتبع ذلك من بكائه وحزنه وخوفه وعزمه الجازم ونيته أنه لو كان صحيحا والفعل مقدورا له لما فعله وإذا كان الشارع قد نزل العاجز عن الطاعة منزلة الفاعل لها إذا صحت نيته كقوله في الحديث الصحيح : إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما وفي الصحيح أيضا عنه : إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا : وهم بالمدينة قال : وهم بالمدينة حبسهم العذر وله نظائر في الحديث فتنزيل العاجز عن المعصية التارك لها قهرا مع نيته تركها اختيارا لو أمكنه منزلة التارك المختار أولى

يوضحه : أن مفسدة الذنب التى يترتب عليها الوعيد تنشأ من العزم عليه تارة ومن فعله تارة ومنشأ المفسدة معدوم في حق هذا العاجز فعلا وعزما والعقوبة تابعة للمفسدة وأيضا فإن هذا تعذر منه الفعل ما تتعذر منه التمني والوداد فإذا كان يتمنى ويود لو واقع الذنب ومن نيته : أنه لو كان سليما لباشره فتوبته : بالإقلاع عن هذا الوداد والتمني والحزن على فوته فإن الإصرار متصور في حقه قطعا فيتصور في حقه ضده وهو التوبة بل هي أولى بالإمكان والتصور من الإصرار وهذا واضح والفرق بين هذا وبين المعاين ومن ورد القيامة : أن التكليف قد انقطع بالمعاينة وورود القيامة والتوبة إنما تكون في زمن التكليف وهذا العاجز لم ينقطع عنه التكليف فالأوامر والنواهي لازمة له والكف متصور منه عن التمني والوداد والأسف على فوته وتبديل ذلك بالندم والحزن على فعله والله أعلم

فصل ومن أحكامها : أن من توغل في ذنب وعزم على التوبة منه ولا
يمكنه التوبة منه إلا بارتكاب بعضه كمن أولج في فرج حرام ثم عزم على التوبة قبل النزع الذي هو جزء الوطء وكمن توسط أرضا مغصوبة ثم عزم على التوبة ولا يمكنه إلا بالخروج الذى هو مشى فيها وتصرف فكيف يتوب من الحرام بحرام مثله وهل تعقل التوبة من الحرام بحرام فهذا مما أشكل على بعض الناس حتى دعاه ذلك إلى أن قال بسقوط التكليف عنه في هذا الفعل الذي يتخلص به من الحرام قال : لأنه لا يمكن أن يكون مأمورا به وهو حرام وقد تعين في حقه طريقا للخلاص من الحرام لا يمكنه التخلص بدونه فلا حكم في هذا الفعل ألبتة وهو بمنزلة العفو الذي لا يدخل تحت التكليف

وقالت طائفة : بل هو حرام واجب فهو ذو وجهين مأمور به من أحدهما منهي عنه من الآخر فيؤمر به من حيث تعينه طريقا للخلاص من الحرام وهو من هذا الوجه واجب وينهى عنه من جهة كونه مباشرة للحرام وهو من هذا الوجه محرم فيستحق عليه الثواب والعقاب قالوا : ولا يمتنع كون الفعل في الشرع ذا وجهين مختلفين كالاشتغال عن الحرام بمباح فإن المباح إذا نظرنا إلى ذاته مع قطع النظر عن ترك الحرام قضينا بإباحته وإذا اعتبرناه من جهة كونه تاركا للحرام كان واجبا نعم غايته : أنه لا يتعين مباح دون مباح فيكون واجبا مخيرا قالوا : وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة هي حرام وهي واجبة وستر العورة بثوب الحرير كذلك : حرام واجب من وجهين مختلفين والصواب : أن هذا النزع والخروج من الأرض : توبة ليس بحرام إذ هو مأمور به ومحال أن يؤمر بالحرام وإنما كان النزع الذي هو جزء الوطء حراما بقصد التلذذ به وتكميل الوطء وأما النزع الذي يقصد به مفارقة الحرام وقطع لذة المعصية فلا دليل على تحريمه لا من نص ولا إجماع ولا قياس صحيح يستوي فيه الأصل والفرع فى علة الحكم ومحال خلو هذه الحادثة عن حكم الله فيها وحكمه فيها : الأمر بالنزع قطعا وإلا كانت الاستدامة مباحة وذلك عين المحال وكذلك الخروج من الأرض المغصوبة : مأمور به وإنما تكون الحركة والتصرف في ملك الغير حراما إذا كان على وجه الانتفاع بها المتضمن لإضرار مالكها أما إذا كان القصد ترك الانتفاع وإزالة الضرر عن المالك فلم يحرم الله ولا رسوله ذلك ولا دل على تحريمه نظر صحيح ولا قياس صحيح وقياسه على مشي مستديم الغصب وقياس نزع التائب على نزع المستديم : من أفسد القياس وأبينه بطلانا ونحن لا ننكر كون الفعل الواحد يكون له

وجهان ولكن إذا تحقق النهي عنه والأمر به : أمكن اعتبار وجهيه فإن الشارع أمر بستر العورة ونهى عن لبس الحرير فهذا الساتر لها بالحرير قد ارتكب الأمرين فصار فعله ذا وجهين وأما محل النزاع : فلم يتحقق فيه النهي عن النزع والخروج عن الأرض المغصوبة من الشارع ألبتة لا بقوله ولا بمعقول قوله إلا باعتبار هذا الفرد بفرد آخر بينهما أشد تباين وأعظم فرق في الحس والعقل والفطرة والشرع وأما إلحاق هذا الفرد بالعفو : فإن أريد به أنه : معفو له عن المؤاخذة به فصحيح وإن أريد أنه لا حكم لله فيه بل هو بمنزلة فعل البهيمة والنائم والناسي والمجنون : فباطل إذ هؤلاء غير مخاطبين وهذا مخاطب بالنزع والخروج فظهر الفرق والله الموفق للصواب فإن قيل : هذا يتأتى لكم فيما إذا لم يكن فى المفارقة بنزع أو خروج مفسدة فما تصنعون فيما إذا تضمن مفسدة مثل مفسدة الإقامة كمن توسط جماعة جرحى لسلبهم فطرح نفسه على واحد إن أقام عليه قتله بثقله وإن انتقل عنه لم يجد بدا من انتقاله إلى مثله يقتله بثقله وقد عزم على التوبة فكيف تكون توبته قيل : توبة مثل هذا : بالتزام أخف المفسدتين من الإقامة على الذنب المعين أو الانتقال عنه فإن تساوت مفسدة الإقامة على الذنب ومفسدة الانتقال عنه من كل وجه فهذا يؤمر من التوبة بالمقدور له منها وهو الندم والعزم الجازم على ترك المعاودة وأما الإقلاع : فقد تعذر في حقه إلا بالتزام مفسدة أخرى مثل مفسدته فقيل : إنه لا حكم لله في هذه الحادثة لاستحالة ثبوت شىء من الأحكام الخمسة فيها إذ إقامته على الجريح تتضمن مفسدة قتله فلا يؤمر بها ولا هو مأذون له فيها وانتقاله عنه يتضمن مفسدة قتل الآخر فلا يؤمر بالانتقال ولا يؤذن له فيه فيتعذر الحكم في هذه الحادثة وعلى هذا فتتعذر التوبة منها

والصواب : أن التوبة غير متعذرة فإن إلا حكم فإنه لا واقعة إلا ولله فيها حكم علمه من علمه وجهله من جهله فيقال : حكم الله في هذه الواقعة : كحكمه في الملجأ فإنه قد ألجىء قدرا إلى إتلاف أحد النفسين ولا بد والملجأ ليس له فعل يضاف إليه بل هو آلة فإذا صار هذا كالملجأ فحكمه : أن لا يكون منه حركة ولا فعل ولا اختيار فلا يعدل من واحد إلى واحد بل يتخلى عن الحركة والاختيار ويستسلم استسلام من هو عليه من الجرحى إذ لا قدرة له على حركة مأذون له فيها ألبتة فحكمه الفناء عن الحركة والاختيار وشهود نفسه كالحجر الملقى على هذا الجريح ولا سيما إن كان قد ألقى عليه بغير اختياره فليس له أن يلقي نفسه على جاره لينجيه بقتله والقدر ألقاه على الأول فهو معذور به فإذا انتقل إلى الثاني انتقل بالاختيار والإرادة فهكذا إذا ألقى نفسه عليه باختياره ثم تاب وندم لا نأمره بإلقاء نفسه على جاره ليتخلص من الذنب بذنب مثله سواء وتوبة مثل هذا إنما تتصور بالندم والعزم فقط لا بالإقلاع والإقلاع في حقه مستحيل فهو كمن أولج في فرج حرام ثم شد وربط في حال إيلاجه بحيث لا يمكنه النزع ألبته فتوبته بالندم والعزم والتجافي بقلبه عن السكون إلى الاستدامة وكذلك توبة الأول بذلك وبالتجافي عن الإرادة والاختيار والله أعلم

فصل ومن أحكامها : أنها إذا كانت متضمنة لحق آدمي : أن يخرج التائب
إليه منه إما بأدائه وإما باستحلاله منه بعد إعلامه به وإن كان حقا ماليا أو جناية على بدنه أو بدن موروثه كما ثبت عن النبي أنه قال : من كان لاخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات

وإن كانت المظلمة بقدم فيه بغيبة أو قدف : فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه والتحلل منه أو إعلامه قد نال من عرضه ولا يشترط تعيينه أو لا يشترط لا هذا ولا هذا بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله تعالى من غير إعلام من قذفه واعتابه على ثلاثة أقوال وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف هل يشترط في توبة القاذف : إعلام المقذوف والتحلل منه أم لا ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم والمعروف في مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك اشتراط الإعلام والتحلل هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي : فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه لا سيما إذا كان من عليه الحق عارفا بقدره فلا بد من إعلام مستحقه به لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره واحتجوا بالحديث المذكور وهو قوله : من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قالوا : ولأن فى هذه الجناية حقين : حقا لله وحقا للآدمي فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه قالوا : ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه إن شاء اقتص وإن شاء عفا وكذلك توبة قاطع الطريق والقول الآخر : أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه بل يكفي توبته بينه وبين الله وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه

بضد ما ذكره به من الغيبة فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه وقذفه بذكر عفته وإحصانه ويستغفر له بقدر ما اغتابه وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقا وغما وقد كان مستريحا قبل سماعه فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله وأورثته ضررا في نفسه أو بدنه كما قال الشاعر :
فإن الذي يؤذيك منه سماعه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يقل وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه فضلا عن أن يوجبه ويأمر به قالوا : وربما كان إعلامه به سببا للعداوة والحرب بينه وبين القائل فلا يصفو له أبدا ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب والتراحم والتعاطف والتحابب قالوا : والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين أحدهما : أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه فلا يجوز إخفاؤها عنه فإنه محض حقه فيجب عليه أداؤه إليه بخلاف الغيبة والقذف فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس والثاني : أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه ولم تهج منه غضبا ولا عداوة بل ربما سره ذلك وفرح به بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلا ونهارا من أنواع القذف والغيبة والهجو فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت والله أعلم

فصل ومن أحكامها : أن العبد إذا تاب من الذنب : فهل يرجع إلى
ما كان عليه قبل الذنب من الدرجة التى حطه عنها الذنب أو لا يرجع إليها اختلف في ذلك

فقالت طائفة : يرجع إلى درجته لأن التوبة تجب الذنب بالكلية وتصيره كأن لم يكن والمقتضي لدرجته : ما معه من الإيمان والعمل الصالح فعاد إليها بالتوبة قالوا : لأن التوبة حسنة عظيمة وعمل صالح فإذا كان ذنبه قد حطه عن درجته فحسنته بالتوبة رقته إليها وهذا كمن سقط في بئر وله صاحب شفيق أدلى إليه حبلا تمسك به حتى رقي منه إلى موضعه فهكذا التوبة والعمل الصالح مثل هذا القرين الصالح والأخ الشفيق وقالت طائفة : لا يعود إلى درجته وحاله لأنه لم يكن في وقوف وإنما كان في وصعود فبالذنب صار في نزول وهبوط فإذا تاب نقص عليه ذلك القدر الذي كان مستعدا به للترقي قالوا : ومثل هذا مثل رجلين سائرين على طريق سيرا واحدا ثم عرض لأحدهما ما رده على عقبه أو أوقفه وصاحبه سائر فإذا استقال هذا رجوعه ووقفته وسار بإثر صاحبه : لم يلحقه أبدا لأنه كلما سار مرحلة تقدم ذاك أخرى قالوا : والأول يسيره بقوة أعماله وإيمانه وكلما ازداد سيرا ازدادت قوته وذلك الواقف الذي رجع قد ضعفت قوة سيره وإيمانه بالوقوف والرجوع وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحكي هذا الخلاف ثم قال : والصحيح : أن من التائبين من لا يعود إلى درجته ومنهم من يعود إليها ومنهم من يعود إلى أعلى منها فيصير خيرا مما كان قبل الدنب وكان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة قال : وهذا بحسب حال التائب بعد توبته وجده وعزمه وحذره وتشميره فإن كان ذلك أعظم مما كان له قبل الذنب عاد خيرا مما كان وأعلى درجة وإن كان مثله عاد إلى مثل حاله وإن كان دونه لم يعد إلى درجته وكان منحطا عنها وهذا الذي ذكره هو فصل النزاع في هذه المسألة

ويتبين هذا بمثلين مضروبين أحدهما : رجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمن فهو يعدو مرة ويمشي أخرى ويستريح تارة وينام أخرى فبينا هو كذلك إذ عرض له في سيره ظل ظليل وماء بارد ومقيل وروضة مزهرة فدعته نفسه إلى النزول على تلك الاماكن فنزل عليها فوثب عليه منها عدو فأخذه وقيده وكتفه ومنعه عن السير فعاين الهلاك وظن أنه منقطع به وأنه رزق الوحوش والسباع وأنه قد حيل بينه وبين مقصده الذي يؤمه فبينا هو على ذلك تتقاذفه الظنون إذ وقف على رأسه والده الشفيق القادر فحل كتافه وقيوده وقال له : اركب الطريق واحذر هذا العدو فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد واعلم أنك ما دمت حاذرا منه متيقظا له لا يقدر عليك فإذا غفلت وثب عليك وأنا متقدمك إلى المنزل وفرط لك فاتبعني على الأثر فإن كان هذا السائر تيسأ فطنا لبيبا حاضر الذهن والعقل استقبل سيره استقبالا آخر أقوى من الأول وأتم واشتد حذره وتأهب لهذا العدو وأعد له عدته فكان سيره الثاني أقوى من الأول وخيرا منه ووصوله إلى المنزل أسرع وإن غفل عن عدوه وعاد إلى مثل حاله الأول من غير زيادة ولا نقصان ولا قوة حذر ولا استعداد عاد كما كان وهو معرض لما عرض له أولا وإن أورثه ذلك توانيا فى سيره وفتورا وتذكرا لطيب مقيله وحسن ذلك الروض وعذوبة مائه وتفيؤ ظلاله وسكونا بقلبه إليه : لم يعد إلى مثل سيره ونقص عما كان المثل الثاني : عبد في صحة وعافية جسم عرض له مرض أوجب له حمية وشرب دواء وتحفظا من التخليط ونقص بذلك مادة ردية كانت منقصة لكمال قوته وصحته فعاد بعد المرض أقوى مما كان قبله كما قيل :
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل

وإن أوجب له ذلك المرض ضعفا في القوة وتداركه بمثل ما نقص من قوته عاد إلى مثل ما كان وإن تداركه بدون ما نقص من قوته عاد إلى دون ما كان عليه من القوة وفي هذين المثلين كفاية لمن تدبرهما وقد ضرب لذلك مثل آخر برجل خرج من بيته يريد الصلاة في الصف الأول لا يلوي على شيء في طريقه فعرض له رجل من خلفه جبذ ثوبه وأوقفه قليلا يريد تعويقه عن الصلاة فله معه حالان : أحدهما : أن يشتغل به حتى تفوته الصلاة فهذه حال غير التائب الثاني : أن يجاذبه على نفسه ويتفلت منه لئلا تفوته الصلاة ثم له بعد هذا التفلت ثلاثة أحوال أحدها : أن يكون سيره جمزا أو وثوبا ليستدرك ما فاته بتلك الوقفة فربما استدركه وزاد عليه الثاني : أن يعود إلى مثل سيره الثالث : أن تورثه تلك الوقفة فتورا وتهاونا فيفوته فضيلة الصف الأول أو فضيلة الجماعة وأول الوقت فهكذا حال التائبين السائرين سواء

فصل ويتبين هذا بمسألة شريفة وهي أنه : هل المطيع الذي لم يعص خير من
العاصي الذي تاب إلى الله توبة نصوحا أو هذا التائب أفضل منه اختلف في ذلك فطائفة رجحت من لم يعص على من عصى وتاب توبة نصوحا واحتجوا بوجوه أحدها : أن أكمل الخلق وأفضلهم : أطوعهم لله وهذا الذي لم يعص أطوع فيكون أفضل الثاني : أن في زمن اشتغال العاصي بمعصيته يسبقه المطيع عدة مراحل إلى

فوق فتكون درجته أعلى من درجته وغايته : أنه إذا تاب استقبل سيره ليلحقه وذاك في سير آخر فأنى له بلحاقه فهما بمنزلة رجلين مشتركين في الكسب كلما كسب أحدهما شيئا كسب الآخر مثله فعمد أحدهما إلى كسبه فأضاعه وأمسك عن الكسب المستأنف والآخر مجد فى الكسب فإذا أدركته حمية المنافسة وعاد إلى الكسب : وجد صاحبه قد كسب في تلك المدة شيئا كثيرا فلا يكسب شيئا إلا كسب صاحبه نظيره فأنى له بمساواته الثالث : أن غاية التوبة : أن تمحو عن هذا سيئاته ويصير بمنزلة من لم يعملها فيكون سعيه في مدة المعصية لا له ولا عليه فأين هذا السعي من سعي من هو كاسب رابح الرابع : أن الله يمقت على معاصيه ومخالفة أوامره ففي مدة اشتغال هذا بالذنوب : كان حظه المقت وحظ المطيع الرضا فالله لم يزل عنه راضيا ولا ريب أن هذا خير ممن كان الله راضيا عنه ثم مقته ثم رضى عنه فإن الرضى المستمر خير من الذى تخلله المقت الخامس : أن الذنب بمنزلة شرب السم والتوبة ترياقه ودواؤه والطاعة هي الصحة والعافية وصحة وعافية مستمرة : خير من صحة تخللها مرض وشرب سم أفاق منه وربما أديا به إلى التلف أو المرض أبدا السادس : أن العاصي على خطر شديد فإنه دائر بين ثلاثة أشياء أحدها : العطب والهلاك بشرب السم الثاني : النقصان من القوة وضعفها إن سلم من الهلاك والثالث : عود قوته إليه كما كانت أو خيرا منها بعيد والأكثر إنما هو القسمان الأولان ولعل الثالث نادر جدا فهو على يقين من ضرر السم وعلى رجاء من من حصول العافية بخلاف من لم يتناول ذلك السابع : أن المطيع قد أحاط على بستان طاعته حائطا حصينا لا يجد الأعداء إليه سبيلا فثمرته وزهرته وخضرته وبهجته في زيادة ونمو أبدا والعاصي

قد فتح فيه ثغرا وثلم فيه ثلمة ومكن منه السراق والأعداء فدخلوا فعاثوا فيه يمينا وشمالا : أفسدوا أغصانه وخربوا حيطانه وقطعوا ثمراته وأحرقوا فى نواحيه وقطعوا ماءه ونقصوا سقيه فمتى يرجع هذا إلى حاله الأول فإذا تداركه قيمه ولم شعثه وأصلح ما فسد منه وفتح طرق مائه وعمر ما خرب منه فإنه إما أن يعود كما كان أو أنقص أو خيرا ولكن لا يلحق بستان صاحبه الذى لم يزل على نضارته وحسنه بل في زيادة ونمو وتضاعف ثمرة وكثرة غرس والثامن : أن طمع العدو في هذا العاصي إنما كان لضعف علمه وضعف عزيمته ولذلك يسمى جاهلا قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة وكذلك قال الله تعالى في حق آدم : ولم نجد له عزما طه : 115 وقال في حق غيره : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل الأحقاف : 35 وأما من قويت عزيمته وكمل علمه وقوى إيمانه : لم يطمع فيه عدوه وكان أفضل التاسع : أن المعصية لا بد أن تؤثر أثرا سيئا ولا بد : إما هلاكا كليا وإما خسرانا وعقابا يعقبه : إما عفو ودخول الجنة وإما نقص درجة وإما خمود مصباح الإيمان وعمل التائب فى رفع هذه الآثار والتكفير وعمل المطيع فى الزيادة ورفع الدرجات ولهذا كان قيام الليل نافلة للنبي خاصة فإنه يعمل في زيادة الدرجات وغيره يعمل فى تكفير السيئات وأين هذا من هذا العاشر : أن المقبل على الله المطيع له يسير بجمله أعماله وكلما زادت طاعاته وأعماله ازداد كسبه بها وعظم وهو بمنزلة من سافر فكسب عشرة أضعاف رأس ماله فسافر ثانيا برأس ماله الأول وكسبه فكسب عشرة أضعافه أيضا فسافر ثالثا أيضا بهذا المال كله وكان ربحه كذلك وهلم جرا فإذا فتر عن السفر في آخر أمره مرة واحدة فاته من الربح بقدر جميع ما ربح أو أكثر منه وهذا معنى

قول الجنيد رحمه الله : لو أقبل صادق على الله ألف عام ثم أعرض عنه لحظة واحدة كان ما فاته أكثر مما ناله وهو صحيح بهذا المعنى فإنه قد فاته في مدة الإعراض ربح تلك الأعمال كلها وهو أزيد من الربح المتقدم فإذا كان هذا حال من أعرض فكيف من عصى وأذنب وفي هذا الوجه كفاية

فصل وطائفة رجحت التائب وإن لم تنكر كون الأول أكثر حسنات منه واحتجت
بوجوه أحدها : أن عبودية التوبه من احب العبوديات الى الله وأكرمها عليه فإنه سبحانه يحب التوابين ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذنب الذي يوجب وقوع محبوبه من التوبة وزيادة محبته لعبده فإن للتائبين عنده محبة خاصة يوضح ذلك : الوجه الثاني : أن للتوبة عنده سبحانه منزلة ليست لغيرها من الطاعات ولهذا يفرح سبحانه بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يقدر كما مثله النبي بفرح الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض الدوية المهلكة بعد ما فقدها وأيس من أسباب الحياة ولم يجىء هذا الفرح في شيء من الطاعات سوى التوبة ومعلوم أن لهذا الفرح تأثيرا عظيما في حال التائب وقلبه ومزيده لا يعبر عنه وهو من أسرار تقدير الذنوب على العباد فإن العبد ينال بالتوبة درجة المحبوبية فيصير حبيبا لله فإن الله يحب التوابين ويحب العبد المفتن التواب ويوضحه : الوجه الثالث : أن عبودية التوبة فيها من الذل والانكسار والخضوع والتملق لله والتذلل له ما هو أحب إليه من كثير من الأعمال الظاهرة وإن

زادت فى القدر والكمية على عبودية التوبة فإن الذل والانكسار روح العبودية ومخها ولبها يوضحه : الوجه الرابع : أن حصول مراتب الذل والانكسار للتائب أكمل منها لغيره فإنه قد شارك من لم يذنب في ذل الفقر والعبودية والمحبة وامتاز عنه بانكسار قلبه بالمعصية والله سبحانه أقرب ما يكون الى عبده عند ذله وانكسار قلبه كما في الأثر الإسرائيلي يا رب أين أجدك قال : عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ولأجل هذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد لأنه مقام ذل وانكسار بين يدي ربه وتأمل قول النبي فيما يروى عن ربه عز و جل أنه يقول يوم القيامة : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال : يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ابن آدم استسقيتك فلم تسقني قال : يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي ابن آدم مرضت فلم تعدني قال : يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال : أما إن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده فقال في عيادة المريض : لوجدتني عنده وقال في الإطعام والإسقاء : لوجدت ذلك عندي ففرق بينهما فإن المريض مكسور القلب ولو كان من كان فلا بد أن يكسره المرض فإذا كان مؤمنا قد انكسر قلبه بالمرض كان الله عنده وهذا والله أعلم هو السر في استجابة دعوة الثلاثة : المظلوم والمسافر والصائم للكسرة التي في قلب كل واحد منهم فإن غربة المسافر وكسرته مما يجده العبد في نفسه وكذلك الصوم فإنه يكسر سورة النفس السبعية الحيوانية ويذلها

والقصد : أن شمعة الخبر والفضل والعطايا إنما تنزل فى شمعدان الانكسار وللعاصى التائب من ذلك نصيب اوفر نصيب يوضحه الوجه الخامس : أن الذنب قد يكون أنفع للعبد إذا اقترنت به التوبة من كثير من الطاعات وهذا معنى قول بعض السلف : قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة ويعمل الطاعة فيدخل بها النار قالوا : وكيف ذلك قال : يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى : ذكر بنه فيحدث له إنكساراتوبة واستغفارا وندما فيكون ذلك سبب نجاته ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه إن قام وإن قعد وإن مشى كلما ذكرها أورثته عجبا وكبرا ومنة فتكون سبب هلاكه فيكون الذنب موجبا لترتب طاعات وحسنات ومعاملات قلبية من خوف الله والحياء منه والإطراق بين يديه منكسا رأسه خجلا باكيا نادما مستقيلا ربه وكل واحد من هذه الآثار أنفع للعبد من طاعة توجب له صولة وكبرا وازدراء بالناس ورؤيتهم بعين الاحتقار ولا ريب أن هذا الذنب خير عند الله وأقرب إلى النجاة والفوز من هذا المعجب بطاعته الصائل بها المان بها وبحاله على الله عز و جل وعباده وإن قال بلسانه خلاف ذلك فالله شهيد على ما في قلبه ويكاد يعادى الخلق إذا لم يعظموه ويرفعوه ويخضعوا له ويجد في قلبه بغضة لمن لم يفعل به ذلك ولو فتش نفسه حق التفتيش لرأى فيها ذلك كامنا ولهذا تراه عاتبا على من لم يعظمه ويعرف له حقه متطلبا لعيبه في قالب حمية لله وغضب له وإذا قام بمن يعظمه ويحترمه ويخضع له من الذنوب أضعاف ما قام بهذا فتح له باب المعاذير والرجاء وأغمض عنه عينه وسمعه وكف لسانه وقلبه وقال : باب العصمة عن غير الأنبياء مسدود وربما ظن أن ذنوب من يعظمه تكفر بإجلاله وتعظيمه وإكرامه إياه فإذا أراد الله بهذا العبد خيرا ألقاه في ذنب يكسره به ويعرفه قدره ويكفي

به عباده شره وينكس به رأسه ويستخرج به منه داء العجب والكبر والمنة عليه وعلى عباده فيكون هذا الذنب أنفع لهذا من طاعات كثيرة ويكون بمنزلة شرب الدواء ليستخرج به الداء العضال كما قيل بلسان الحال في قصة آدم وخروجه من الجنة بذنبه : يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك فقد استخرج بها منك داء لا يصلح أن تجاورنا به وألبست بها حلة العبودية
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل يا آدم إنما ابتليتك بالذنب لأني أحب أن أظهر فضلي وجودي وكرمي على من عصاني لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم يا آدم كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك يا آدم إذا عصمتك وعصمت بنيك من الذنوب فعلى من أجود بحلمى وعلى من أجود بعفوي ومغفرتي وتوبتي وأنا التواب الرحيم يا آدم لا تجزع من قولي لك : اخرج منها فلك خلقتها ولكن اهبط إلى دار المجاهدة وابذر بذر التقوى وأمطر عليه سحائب الجفون فإذا اشتد الحب واستغلظ واستوى على سوقه فتعال فاحصده يا آدم ما أهبطتك من الجنة إلا لتتوسل إلي في الصعود وما أخرجتك منها نفيا لك عنها ما أخرجتك فيها إلا لتعود إن جرى بيننا وبينك عتب وتناءت منا ومنك الديار فالوداد الذي عهدت مقيم والعثار الذى أصبت جيار يا آدم ذنب تذل به لدينا أحب إلينا من طاعة تدل بها علينا يا آدم أنين المذنبين : أحب إلينا من تسبيح المدلين

يا ابن آدم إنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتنى غفرت لك يا ابن آدم لو لقيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بى شيئا أتيتك بقرابها مغفرة ويذكر عن بعض العباد : أنه كان يسأل ربه في الطواف طاوفه بالبيت أن يعصمه ثم غلبته عيناه فنام فسمع قائلا يقول : أنت تسألني العصمة وكل عبادي يسألونني العصمة فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل وأجود بمغفرتى وعفوى وعلى من أتوب وأين كرمي وعفوي ومغفرتي وفضلي ونحو هذا من الكلام يا ابن آدم إذا آمنت بي ولم تشرك بي شيئا أقمت حملة عرشي ومن حوله يسبحون بحمدي ويستغفرون لك وأنت على فراشك وفي الحديث العظيم الإلهى حديث أبى ذر : يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فمن علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاإنه هو الغفور الرحيم الزمر : 53 يا عبدي لا تعجز فمنك الدعاء وعلي الإجابة ومنك الاستغفار وعلي المغفرة ومنك التوبة وعلي تبديل سيئاتك حسنات يوضحه : الوجه السادس : وهو قوله تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما الفرقان : 70 وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح وهو حقيقة التوبة قال ابن عباس رضى الله عنهما : ما رأيت النبي فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أنزلت وفرحه بنزول إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الفتح : 12 واختلفوا في صفة هذا التبديل وهل هو في الدنيا أو في الآخرة على قولين

فقال ابن عباس وأصحابه : هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها فبدلهم بالشرك إيمانا وبالزنا عفة وإحصانا وبالكذب صدقا وبالخيانة أمانة فعلى هذا معنى الآية : أن صفاتهم القبيحة وأعمالهم السيئة عوضها صفات جميلة وأعمالا صالحة كما يبدل المريض بالمرض صحة والمبتلى ببلائه عافية وقال سعيد بن المسيب وغيره من التابعين : هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة واحتج أصحاب هذا القول بما روى الترمذى في جامعه : حدثنا الحسين بن حريث قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال : قال رسول الله : إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار : يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ويخبأ عنه كبارها فيقال : عملت يوم كذا كذا وكذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من كبارها فيقال : أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول : إن لي ذنوبا ما أراها ههنا قال أبو ذر فلقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه فهذا حديث صحيح ولكن في الاستدلال به على صحة هذا القول نظر فإن هذا قد عذب بسيئاته ودخل بها النار ثم بعد ذلك أخرج منها وأعطي مكان كل سيئة حسنة صدقة تصدق الله بها عليه ابتداء بعدد ذنوبه وليس فى هذا تبديل تلك الذنوب بحسنات إذ ولو كان كذلك لما عوقب عليها كما لم يعاقب التائب والكلام إنما هو في تائب أثبت له مكان كل سيئة حسنة فزادت حسناته فأين في هذا الحديث ما يدل على ذلك والناس استقبلوا هذا الحديث مستدلين به في تفسير هذه الآية على هذا القول وقد علمت ما فيه لكن للسلف غور ودقة فهم لا يدركها كثير من المتأخرين فالاستدلال به صحيح بعد تمهيد قاعدة إذا عرفت عرف لطف الاستدلال به ودقته وهي أن الذنب لا بد له من أثر وأثره يرتفع بالتوبة تارة وبالحسنات

الماحية تارة وبالمصائب المكفرة تارة وبدخول النار ليتخلص من أثره تارة وكذلك إذا اشتد أثره ولم تقو تلك الأمور على محوه فلا بد إذا من دخول النار لأن الجنة لا يكون فيها ذرة من الخبيث ولا يدخلها إلا من طاب من كل وجه فإذا بقي عليه شيء من خبث الذنوب أدخل كير الامتحان ليخلص ذهب إيمانه من خبثه فيصلح حينئذ لدار الملك إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح وهي أقوى الأسباب وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار فإذا تطهر بالنار وزال أثر الوسخ والخبث عنه أعطي مكان كل سيئة حسنة فإذا تطهر بالتوبة النصوح وزال عنه بها أثر وسخ الذنوب وخبثها كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار وأحب إلى الله وإزالة النار بدل منها وهي الأصل فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول يوضحه : الوجه التاسع : وهو أن التائب قد بدل كل سيئة حسنه بندمه عليها إذ هو توبة تلك السيئة والندم توبة والتوبة من كل ذنب حسنة فصار كل ذنب عمله زائلا بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار فتأمله فإنه من ألطف الوجوه وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة وقد تكون دونها وقد تكون فوقها وهذا بحسب نصح هذه التوبة وصدق التائب فيها وما يقترن بها من عمل القلب الذي تزيد مصلحته ونفعه على مفسدة تلك السيئة وهذا من أسرار مسائل التوبة ولطائفها يوضحه : الوجه العاشر : أن ذنب العارف بالله وبأمره قد يترتب عليه حسنات أكبر منه وأكثر وأعظم نفعا وأحب إلى الله من عصمته من ذلك الذنب : من ذل وانكسار وخشية وإنابة وندم وتدارك بمراغمة العدو بحسنة أو حسنات أعظم

منه حتى يقول الشيطان : يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه ويندم الشيطان على إيقاعه في الذنب كندامة فاعله على ارتكابه لكن شتان ما بين الندمين والله تعالى يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظه كما تقدم أن هذا من العبودية من أسرارا فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة والتدارك وحصول محبوب الله تعالى من التوبة وما يتبعها من زيادة الأعمال هنا : ما يوجب جعل مكان السيئة حسنة بل حسنات وتأمل قوله في الآية يبدل الله سيئاتهم حسنات الفرقان : 70 ولم يقل مكان كل واحدة واحدة فهذا يجوز أن يبدل السيئة الواحدة بعدة حسنات بحسب حال المبدل وأما فى الحديث : فإن الذى عذب على ذنوبه لم يبدلها في الدنيا بحسنات من التوبة النصوح وتوابعها فلم يكن له ما يجعل مكان السيئة حسنات فأعطي مكان كل سيئة حسنة واحدة وسكت النبي عن كبار ذنوبه ولما انتهى إليها ضحك ولم يبين ما يفعل الله بها وأخبر أن الله يبدل مكان كل صغيرة حسنة ولكن فى الحديث إشارة لطيفة إلى أن هذا التبديل يعم كبارها وصغارها من وجهين أحدهما : قوله : أخبئوا عنه كبارها فهذا إشعار بأنه إذا رأى تبديل الصغائر ذكرها وطمع فى تبديلها فيكون تبديلها أعظم موقعا عنده من تبديل الصغائر وهو به أشد فرحا واغتباطا والثانى : ضحك النبي عند ذكر ذلك وهذا الضحك مشعر بالتعجب مما يفعل به من الإحسان وما يقر به على نفسه من الذنوب من غير أن يقرر عليها ولا يسأل عنها وإنما عرضت عليه الصغائر فتبارك الله رب العالمين وأجود الأجودين وأكرم الأكرمين البر اللطيف المتودد إلى عباده بأنواع الإحسان وإيصاله إليهم من كل طريق بكل نوع لا إله إلا هو الرحمن الرحيم

فصل وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاود الذنب
وبالإقلاع عنه فى الحال وبالندم عليه في الماضي وإن كان في حق آدمي : فلا بد من أمر رابع وهو التحلل منه وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها وإلا فالتوبة في كلام الله ورسوله كما تتضمن ذلك تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبا حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به هذا حقيقة التوبة وهي اسم لمجموع الأمرين لكنها إذا قرنت بفعل المأمور كانت عبارة عما ذكروه فإذا أفردت تضمنت الأمرين وهي كلفظة التقوى التى تقتضى عند إفرادها فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه وتقتضى عند اقترانها بفعل المأمور الانتهاء عن المحظور فإن حقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام فعل ما يحب وترك ما يكره فهي رجوع من مكروه إلى محبوب فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها والرجوع عن المكروه الجزء الآخر ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم

تفلحون النور : 31 فكل تائب مفلح ولا يكون مفلحا إلا من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وقال تعالى : ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون الحجرات : 11 وتارك المأمور ظالم كما أن فاعل المحظور ظالم وزوال اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين فالناس قسمان : تائب وظالم ليس إلا فالتائبون هم العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله التوبه : 112 فحفظ حدود الله : جزء التوبة والتوبة هي مجموع هذه الأمور وإنما سمي تائبا : لرجوعه إلى أمر الله من نهيه وإلى طاعته من معصيته كما تقدم فإذا التوبة هي حقيقة دين الإسلام والدين كله داخل في مسمى التوبة وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وإنما يحب الله من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فإذا التوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرا وباطنا إلى ما يحبه ظاهرا وباطنا ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان وتتناول جميع المقامات ولهذا كانت غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته كما تقدم وهي الغاية التي وجد لأجلها الخلق والأمر والتوحيد جزء منها بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها فضلا عن القيام بها علما وعملا وحالا ولم يجعل الله تعالى محبته للتوابين إلا وهم خواص الخلق لديه

ولولا أن التوبة اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان لم يكن الرب تعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم فجميع ما يتكلم فيه الناس من المقامات والأحوال هو تفاصيل التوبة وآثارها

فصل وأما الاستغفار فهو نوعان : مفرد ومقرون بالتوبة فالمفرد : كقول
نوح عليه السلام لقومه : استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا نوح : 1011 وكقول صالح لقومه : لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون النمل : 46 وكقوله تعالى : واستغفروا الله إن الله غفور رحيم البقره : 199 وقوله : وما كان الله يعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون الأنفال : 33 والمقرون كقوله تعالى : استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله هود : 3 وقول هود لقومه استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا هود : 52 وقول صالح لقومه : هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب هود : 61 وقول شعيب واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود هود : 90 فالاستغفار المفرد كالتوبة بل هو التوبة بعينها مع تضمنه طلب المغفرة من الله وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره لا كما ظنه بعض الناس : أنها الستر فإن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له ولكن

الستر لازم مسماها أو جزؤه فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم وحقيقتها : وقاية شر الذنب ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى والستر لازم لهذا المعنى وإلا فالعمامة لا تسمى مغفرا ولا القبع ونحوه مع ستره فلا بد في لفظ المغفر من الوقاية وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب في قوله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون الأنفال : 33 فإن الله لا يعذب مستغفرا وأما من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق ولهذا لا يمنع العذاب فالاستغفار يتضمن التوبة والتوبة تتضمن الاستغفار وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار : طلب وقاية شر ما مضى والتوبة : الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله فها هنا ذنبان : ذنب قد مضى فالاستغفار منه : طلب وقاية شره وذنب يخاف وقوعه فالتوبة : العزم على أن لا يفعله والرجوع إلى الله يتناول النوعين : رجوع إليه ليقيه شر ما مضى ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله وأيضا فإن المذنب بمنزلة من ركب طريقا تؤديه إلى هلاكه ولا توصله إلى المقصود فهو مأمور أن يوليها ظهره ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته والتى توصله إلى مقصوده وفيها فلاحه فههنا أمران لا بد منهما : مفارقة شيء والرجوع إلى غيره فخصت التوبة بالرجوع و الاستغفار بالمفارقة وعند إفراد أحدهما يتناول الأمرين ولهذا

جاء والله أعلم الأمر بهما مرتبا بقوله استغفروا ربكم ثم توبوا إليه هود : 3 52 90 فإنه الرجوع إلى طريق الحق : بعد مفارقة الباطل وأيضا فالاستغفار من باب إزالة الضرر والتوبة طلب جلب المنفعة فالمغفرة أن يقيه شر الذنب والتوبة : أن يحصل له بعد هذه الوقاية ما يحبه وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده والله أعلم

فصل وهذا يتبين بذكر التوبة النصوح وحقيقتها قال الله تعالى : يا
أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار التحريم : 8 فجعل وقاية شر السيئات وهو تكفيرها بزوال ما يكره العبد ودخول الجنات وهو حصول ما يحب العبد منوطا بحصول التوبة النصوح و النصوح على وزن فعول المعدول به عن فاعل قصدا للمبالغة كالشكور والصبور وأصل مادة ن ص ح لخلاص الشيء من الغش والشوائب الغريبة وهو ملاق في الاشتقاق الأكبر لنصح إذا خلص فالنصح في التوبة والعبادة والمشورة : تخليصها من كل غش ونقص وفساد وإيقاعها على أكمل الوجوه والنصح ضد الغش وقد اختلفت عبارات السلف عنها ومرجعها إلى شيء واحد فقال عمر بن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما : التوبة النصوح : أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع وقال الحسن البصري : هي أن يكون العبد نادما على ما مضى مجمعا على أن لا يعود فيه وقال الكلبي : أن يستغفر باللسان ويندم بالقلب ويمسك بالبدن وقال سعيد بن المسيب توبة نصوحا تنصحون بها أنفسكم جعلها بمعنى ناصحة للتائب كضروب المعدول عن ضارب وأصحاب القول الأول يجعلونها بمعنى المفعول أي قد نصح فيها التائب ولم

يشبها بغش فهي إما بمعنى منصوح فيها كركوبة وحلوبة بمعنى مركوبة ومحلوبة أو بمعنى الفاعلأى ناصحة كخالصة وصادقة وقال محمد بن كعب القرظي يجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان والإقلاع بالأبدان وإضمار ترك العود بالجنان ومهاجرة سيء الإخوان قلت : النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء الأول : تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته والثاني : إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرا بها الثالث : تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته ولحفظ حاله أو لحفظ قوته وماله أو استدعاء حمد الناس أو الهرب من ذمهم أو لئلا يتسلط عليه السفهاء أو لقضاء نهمته من الدنيا أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز و جل فالأول : يتعلق بما يتوب منه والثالث : يتعلق بمن يتوب إليه والأوسط : يتعلق بذات التائب ونفسه فنصح التوبة الصدق فيها والإخلاص وتعميم الذنوب بها ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه وتمحو جميع الذنوب وهي أكمل ما يكون من التوبة والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله

فصل في الفرق بين تكفير السيئات ومغفرة الذنوب وقد جاء في كتاب الله
تعالى ذكرهما مقترنين وذكر كلا منهما منفردا عن الآخر فالمقترنان كقوله تعالى حاكيا عن عباده المؤمنين : ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا

مع الأبرار آل عمران : 193 والمنفرد كقوله : والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم محمد : 2 وقوله في المغفرة : ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم محمد : 15 وكقوله : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا آل عمران : 147 ونظائره فههنا أربعة أمور : ذنوب وسيئات ومغفرة وتكفير فالذنوب : المراد بها الكبائر والمراد بالسيئات : الصغائر وهي ما تعمل فيه الكفارة من الخطأ وما جرى مجراه ولهذا جعل لها التكفير ومنه أخذت الكفارة ولهذا لم يكن لها سلطان ولا عمل في الكبائر في أصح القولين فلا تعمل في قتل العمد ولا في اليمين الغموس في ظاهر مذهب أحمد وأبي حنيفة والدليل على أن السيئات هي الصغائر والتكفير لها : قوله تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما النساء : 31 وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله كان يقول : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان : مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ولفظ المغفرة أكمل من لفظ التكفير ولهذا كان مع الكبائر والتكفير مع الصغائر فإن لفظ المغفرة يتضمن الوقاية والحفظ ولفظ

التكفير يتضمن الستر والإزالة وعند الإفراد : يدخل كل منهما في الآخر كما تقدم فقوله تعالى : كفر عنهم سيآتهم محمد : يتناول صغائرها وكبائرها ومحوها ووقاية شرها بل التكفير المفرد يتناول أسوأ الأعمال كما قال تعالى : ليكفر الله عنهم أسوأ الذى عملوا وإذا فهم هذا فهم السر في الوعد على المصائب والهموم والغموم والنصب والوصب بالتكفير دون المغفرة كقوله : فى الحديث الصحيح ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا أذى حتى الشوكه يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه فإن المصائب لا تستقل بمغفرة الذنوب ولا تغفر الذنوب جميعها إلا بالتوبة أو بحسنات تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب فهى كالبحر لا يتغير بالجيف وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث فلأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا فإن لم تف بطهرهم طهروا في نهر الجحيم يوم القيامة : نهر التوبة النصوح ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها ونهر المصائب العظيمة المكفرة فإذا أراد الله بعبده خيرا أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة فورد القيامة طيبا طاهرا فلم يحتج إلى التطهير الرابع

فصل وتوبة العبد إلى ربه محفوفة بتوبة من الله عليه قبلها وتوبة منه
بعدها فتوبته بين توبتين من الله سابقة ولاحقة فإنه تاب عليه أولا إذنا وتوفيقا

وإلهاما فتاب العبد فتاب الله عليه ثانيا قبولا وإثابة قال الله سبحانه وتعالى لقد تاب الله سبحانه تعالى على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم التوبه : 117118 فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم وأنها هي التي جعلتهم تائبين فكانت سببا ومقتضيأ لتوبتهم فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله تعالى عليهم والحكم ينتف لانتفاء علته ونظير هذا : هدايته لعبده قبل الاهتداء فيهتدي بهدايته فتوجب له تلك الهداية هداية أخرى يثيبه الله بها هداية على هدايته فإن من ثواب الهدى : الهدى بعده كما أن من عقوبة الضلالة : الضلالة بعدها قال الله تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى محمد : 17 فهداهم أولا فاهتدوا فزادهم هدى ثانيا وعكسه في أهل الزيغ كقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم الصف : 5 فهذه الإزاغة الثانية عقوبة لهم على زيغهم وهذا القدر من سر اسميه الأول والآخر فهو المعد وهو الممد ومنه السبب والمسبب وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعرف الخلق به : وأعوذ بك منك والعبد تواب والله تواب فتوبة العبد : رجوعه إلى سيده بعد الإباق وتوبة الله نوعان : إذن وتوفيق وقبول وإمداد

فصل و التوبة لها مبدأ ومنتهى فمبدؤها : الرجوع إلى الله بسلوك صراطه
المستقيم الذي نصبه لعباده موصلا إلى رضوانه وأمرهم بسلوكه بقوله : تعالى وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل الأنعام : 153 وبقوله : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض وبقوله : وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد الحجر : 24 ونهايتها : الرجوع إليه في المعاد وسلوك صراطه الذى نصبه موصلا إلى جنته فمن رجع إلى الله في هذه الدار بالتوبة : رجع إليه في المعاد بالثواب وهذا هو أحد التأويلات في قوله تعالى : ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا الفرقان : 71 قال البغوي وغيره : يتوب إلى الله متابا : يعود إليه بعد الموت متابا حسنا يفضل على غيره فالتوبة الأولى وهي قوله : ومن تاب رجوع عن الشرك والثانية : رجوع إلى الله للجزاء والمكافأة والتأويل الثاني : أن الجزاء متضمن معنى الأوامر والمعنى : ومن عزم على التوبة وأرادها فليجعل توبته إلى الله وحده ولوجهه خالصا لا لغيره التأويل الثالث : أن المراد لازم هذا المعنى وهو إشعار التائب وإعلامه بمن تاب إليه ورجع إليه والمعنى : فليعلم توبته إلى من ورجوعه إلى من فإنها إلى الله لا إلى غيره ونظير هذا على أحد التأويلين قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته المائده : 67 أي : اعلم ما يترتب على من عصى أوامره ولم يبلغ رسالته والتأويل الرابع : أن التوبة تكون أولا بالقصد والعزم على فعلها ثم إذا قوي العزم وصار جازما : وجد به فعل التوبة فالتوبة الأولى : بالعزم والقصد

لفعلها والثانية : بنفس إيقاع التوبة وإيجادها والمعنى : فمن تاب إلى الله قصدا ونية وعزما فتوبته إلى الله عملا وفعلا وهذا نظير قوله : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه

فصل و الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر بنص القرآن والسنة وإجماع السلف
وبلاعتبار قال تعالى : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم النساء : وقال تعالى : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم النجم : 32 وفي الصحيحعن النبي : أنه قال الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر وأما ما يحكى عن أبي إسحاق الإسفرائيني أنه قال : الذنوب كلها كبائر وليس فيها صغائر فليس مراده : أنها مستوية فى الإثم بحيث يكون إثم النظر المحرم كإثم الوطء في الحرام وإنما المراد : أنها بالنسبة إلى عظمة من عصي بها كلها كبائر ومع هذا فبعضها أكبر من بعض ومع هذا فالأمر في ذلك لفظي لا يرجع إلى معنى والذي جاء في لفظ الشارع تسمية ذلك لمما و محقرات كما في الحديث : إياكم ومحقرات الذنوب وقد قيل : إن اللمم المذكور فى الآية من الكبائر حكاه البغوي وغيره قالوا : ومعنى الاستثناء : أن يلم بالكبيرة مرة ثم يتوب منها ويقع فيها ثم ينتهي عنها لا يتخذها دأبه وعلى هذا يكون استثناء اللمم : من الاجتناب إذ معناه : لا يصدر منهم ولا تقع منهم الكبائر إلا لمما

والجمهور على أنه استثناء من الكبائر وهو منقطع أي لكن يقع منهم اللمم وحسن وقوع الانقطاع بعد الإيجاب والغالب خلافه أنه إنما يقع حيث يقع التفريغ إذ في الإيجاب هنا معنى النفي صريحا فالمعنى : لا يأتون ولا يفعلون كبائر الإثم والفواحش فحسن استثناء اللمم ولعل هذا الذي شجع أبا إسحاق على أن قال : الذنوب كلها كبائر إذ الأصل في الاستثناء الاتصال ولا سيما وهو من موجب ولكن النصوص وإجماع السلف على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر ثم اختلفوا في فصلين أحدهما : في اللمم ما هو والثاني : في الكبائر وهل لها عدد يحصرها أو حد يحدها فلنذكر شيئا يتعلق بالفصلين

فصل فأما اللمم فقد روي عن جماعة من السلف : أنه الإلمام بالذنب مرة
ثم لا يعود إليه وإن كان كبيرا قال البغوي هذا قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عطاء عن ابن عباس قال : وقال عبدالله بن عمرو بن العاص : اللمم ما دون الشرك قال السدي : قال أبو صالح : سئلت عن قول الله عز و جل : إلا اللمم فقلت : هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم والجمهور : على أن اللمم ما دون الكبائر وهو أصح الروايتين عن ابن عباس كما في صحيح البخارى من حديث طاووس عنه قال : ما رأيت أشبه

باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر : وزنا اللسان : النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه رواه مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة وفيه والعينان زناهما : النظر والأذنان : زناهما الاستماع واللسان : زناه الكلام واليد : زناها البطش والرجل : زناها الخطى وقال الكلبي : اللمم على وجهين كل ذنب لم يذكر الله عليه حدا في الدنيا ولا عذابا فى الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش والوجه الآخر : هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه وقال سعيد بن المسيب : هو ما ألم بالقلب أي ما خطر عليه قال الحسين بن الفضل : اللهم النظر من غير تعمد فهو مغفور فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو ذنب وقد روى عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله : إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما وذهبت طائفة ثالثة إلى أن اللمم ما فعلوه في الجاهلية قبل إسلامهم فالله لا يؤاخذهم به وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين : أنتم بالأمس كنتم تعملون معنا فأنزل الله هذه الآية وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم والصحيح : قول الجمهور : أن اللمم صغائر الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة ونحو ذلك هذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم وهو قول أبي هريرة وعبدالله بن مسعود وابن عباس ومسروق والشعبي ولا ينافى هذا قول أبي هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى : إنه يلم بالكبيرة ثم لا يعود إليها فإن اللمم إما أنه يتناول هذا وهذا ويكون على وجهين كما قال الكلبي

أو أن أبا هريرة وابن عباس ألحقا من ارتكب الكبيرة مرة واحدة ولم يصر عليها بل حصلت منه فلتة في عمره باللمم ورأيا أنها إنما تتغلظ وتكبر وتعظم في حق من تكررت منه مرارا عديدة وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم وغور علومهم ولا ريب أن الله يسامح عبده المرة والمرتين والثلاث وإنما يخاف العنت على من اتخذ الذنب عادته وتكرر منه مرارا كثيرة وفي ذلك آثار سلفية والاعتبار بالواقع يدل على هذا ويذكر عن علي رضي الله عنه : أنه دفع إليه سارق فأمر بقطع يده فقال : يا أمير المؤمنين والله ما سرقت غير هذه المرة فقال : كذبت فلما قطعت يده قال : اصدقني كم لك بهذه المرة فقال : كذا وكذا مرة فقال : صدقت إن الله لا يؤاخذ بأول ذنب أو كما قال فأول ذنب إن لم يكن هو اللمم فهو من جنسه ونظيره فالقولان عن أبي هريرة وابن عباس متفقان غير مختلفين والله أعلم وهذه اللفظة فيها معنى المقاربة والإعتاب بالفعل حينا بعد حين فإنه يقال : ألم بكذا إذا قاربه ولم يغشه ومن هذا سميت القبلة والغمزة لمما لأنها تلم بما بعدها ويقال : فلان لا يزورنا إلا لماما أى حينا بعد حين فمعنى اللفظة ثابت في الوجهين اللذين فسر الصحابة بهما الآية وليس معنى الآية والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم فإنهم لا يجتنبونه فإن هذا يكون ثناء عليهم بترك اجتناب اللمم وهذا محال وإنما هذا استثناء من مضمون الكلام ومعناه فان سياق الكلام في تقسيم الناس إلى محسن ومسيء وأن الله يجزى هذا بإساءته وهذا بإحسانه ثم ذكر المحسنين ووصفهم بأنهم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ومضمون هذا : أنه لا يكون محسنا مجزيا بإحسانه ناجيا من عذاب الله إلا من اجتنب كبائر الإثم والفواحش فحسن حينئذ استثناء اللمم وإن لم يدخل في الكبائر فإنه داخل في جنس الإثم والفواحش وضابط الانقطاع : أن يكون له دخول في جنس المستثنى منه وإن لم يدخل

فى نفسه ولم يتناوله لفظه كقوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما فإن السلام داخل في الكلام الذي هو جنس اللغو والسلام وكذلك قوله لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا النبأ : 2425 فإن الحميم والغساق داخل فى جنس الذوق المنقسم فكأنه قيل في الأول : لا يسمعون فيها شيئا إلا سلاما وفي الثاني : لا يذوقون فيها شيئا إلا حميما وغساقا ونص على فرد من أفراد الجنس تصريحا ليكون نفيه بطريق التصريح والتنصيص لا بطريق العموم الذى يتطرق إليه تخصيص هذا الفرد وكذلك قوله : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن النساء : 157 فإن الظن داخل في الشعور الذي هو جنس العلم والظن وأدق من هذا : دخول الانقطاع فيما يفهمه الكلام بلازمه كقوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف النساء : 22 إذ مفهوم هذا : أن نكاح منكوحات الآباء سبب للعقوبة إلا ما قد سلف منه قبل التحريم فإنه عفو وكذلك : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف النساء : 23 وإن كان المراد به : ما كان في شرع من تقدم فهو استثناء من القبح المفهوم من ذلك التحريم والذم لمن فعله فحسن أن يقال : إلا ما قد سلف فتأمل هذا فإنه من فقه العربية وأما قوله لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى الدخان : 56 فهذا الاستثناء هو لتحقيق دوام الحياة وعدم ذوق الموت وهو يجعل النفي الأول العام بمنزلة النص الذي لا يتطرق إليه استثناء ألبتة إذ لو تطرق إليه استثناء فرد من أفراده لكان أولى بذكره من العدول عنه إلى الاستثناء المنقطع مجزى هذا الاستثناء مجرى التأكيد والتنصيص على حفظ العموم وهذا جار في كل منقطع فتأمله فإنه من أسرار العربية فقوله : وما بالربع من أحد الأواري يفهم منه لو وجدت فيها أحدا لاستثنيته ولم أعدل إلى الأواري التي ليست بأحد

وقريب من هذا لفظة أو فى قوله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة البقره : 74 وقوله : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون الصافات : 147 هو كالتنصيص على أن المراد بالأول الحقيقة لا المبالغة فإنها إن لم تزد قسوتها على الحجارة فهي كالحجارة فى القسوة لا دونها وأنه إن لم يزد عددهم على مئة ألف لم ينقص عنها فذكر أو ههنا كالتنصيص على حفظ المئة الألف وأنها ليست مما أريد بها المبالغة والله أعلم

فصل وأما الكبائر : فاختلف السلف فيها اختلافا لا يرجع إلى تباين وتضاد
وأقوالهم متقاربة وفى الصحيحين من حديث الشعبي عن عبدالله بن عمرو عن النبي قال : الكبائر : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس وفيهما عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قالوا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئا فقال : ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت وفى الصحيح من حديث أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبدالله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال قلت : ثم أي قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال : قلت : ثم أي قال : أن تزانى بحليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديق قول النبي والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون الفرقان : 68

وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : يا رسول الله وما هن قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقدف المحصنات الغافلات المؤمنات وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم : سمعت حميد بن عبدالرحمن يحدث عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي قال : من أكبر الكبائر : أن يسب الرجل والديه قالوا : وكيف يسب الرجل والديه قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه وفى حديث أي هريرة رضي الله عنه آخرعن النبي : قال إن من أكبر الكبائر : استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم بغير حق وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : أكبر الكبائر : الشرك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله قال سعيد بن جبير : سأل رجل ابن عباس عن الكبائر أسبع هن قال : هن إلى السبعمائة أقرب إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وقال : كل شيء عصي الله به فهو كبيرة من عمل شيئا منها فليستغفر الله فإن الله لا يخلد في النار من الأمة إلا من كان راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بالقدر وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ما نهى الله عنه في سورة النساء من أولها إلى قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم النساء : 31 فهو كبيرة وقال علي بن أبي طلحة : هي كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وقال الضحاك : هي ما أوعد الله عليه حدا في الدنيا أو عذابا في الآخرة وقال الحسين بن الفضل : ما سماه الله في القرآن كبيرا أو عظيما نحو قوله :

إنه كان حوبا كبيرا النساء : 2 إن قتلهم كان خطئا كبيرا الإسراء : 31 إن الشرك لظلم عظيم لقمان : 13 إن كيدكن عظيم يوسف : 28 سبحانك ! هذا بهتان عظيم النور : 16 إن ذلكم كان عند الله عظيما الأحزاب : 53 وقال سفيان الثورى : الكبائر ما كان فيه من المظالم بينك وبين العباد والصغائر : ما كان بينك وبين الله لأن الله كريم يعفو واحتج بحديث يزيد بن هرون عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله : ينادي مناد من قبل بطنان العرش يوم القيامة : يا أمة محمد إن الله عز و جل قد عفا عنكم جمعكم المؤمنين والمؤمنات فتواهبوا المظالم بينكم وادخلوا الجنة برحمتي قلت : مراد سفيان الثوري أن الذنوب التي بين العبد وبين الله أسهل أمرا من مظالم العباد فإنها تزول بالاستغفار والعفو والشفاعة وغيرها وأما مظالم العباد : فلا بد من استيفائها وفى المعجم الطبرانى الظلم عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين : ديوان لا يغفر الله منه شيئا وهو الشرك بالله ثم قرأ : إن الله لا يغفر أن يشرك به النسار : 48 وديوان لا يترك الله منه شيئا وهو مظالم العباد بعضهم بعضا وديوان لا يعبأ الله به شيئا وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين الله ومعلوم أن هذا الديوان مشتمل على الكبائر والصغائر لكن مستحقه أكرم الأكرمين وما يعفو عنه من حقه ويهبه أضعاف أضعاف ما يستوفيه فأمره أسهل من الديوان الذي لايترك منه شيئا لعدله وإيصال كل حق إلى صاحبه وقال مالك بن مغول : الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل السنة قلت : يريد أن البدعة من الكبائر وأنها أكبر من كبائر أهل السنة فكبائر أهل السنة صغائر بالنسبة إلى البدع وهذا معنى قول بعض السلف : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها

وقيل : الكبائر ذنوب العمد والسيئات : الخطأ والنسيان وما أكره عليه وحديث النفس المرفوعة عن هذه الأمة قلت : هذا من أضعف الأقوال طردا وعكسا فإن الخطأ والنسيان والإكراه لا يدخل تحت جنس المعاصي حتى يكون أحد قسميها والعمد نوعان : نوع كبائر ونوع صغائر ولعل صاحب هذا القول يرى : أن الذنوب كلها كبائر وأن الصغائر ما عفا الله لهذه الأمة عنه ولم يدخل تحت التكليف وهذا غير صحيح فإن الكبائر والصغائر نوعان تحت جنس المعصية ويستحيل وجود النوع بدون جنسه وقيل : الكبائر ذنوب المستحلين مثل ذنب إبليس والصغائر : ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم قلت : أما المستحل : فذنبه دائر بين الكفر والتأويل فإنه إن كان عالما بالتحريم فكافر وإن لم يكن عالما به فمتأول أو مقلد وأما المستغفر : فإن استغفاره الكامل يمحو كبائره وصغائره فلا كبيرة مع الاستغفار فهذا الفرق ضعيف أيضا إلا أن يكون مراد صاحبه : أن ما يفعله المستحل من الذنب أعظم عقوبة مما يفعله المعترف بالتحريم النادم على الذنب المستغفر منه وهذا صحيح وقال السدى : الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبار والسيئات مقدماتها وتوابعها مما يجتمع فيه الصالح والفاسق مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها واحتج بقول النبي : بالعينان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه وقيل : الكبائر ما يستصغره العباد والصغائر : ما يستعظمونه فيخافون مواقعته واحتج أرباب هذه المقالة بما روى البخارى فى صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا

نعدها على عهد رسول الله من الموبقات قلت : أما قول السدى الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبار فبيان للشيء بنفسه فإن الذنوب الكبائر : هي الكبائر وإنما مراده : أن المنهي عنه قسمان أحدهما : ما هو مشتمل على المفسدة بنفسه ونفس فعله منشأ المفسدة فهذا كبيرة كقتل النفس والسرقة والقذف والزنا الثاني : ما كان من مقدمات ذلك ومباديه كالنظر واللمس والحديث والقبلة الذي هو مقدمة الزنا فهو من الصغائر فالصغائر : من جنس المقدمات والكبائر : من جنس المقاصد والغايات وأما من قال : ما يستصغره العباد فهو كبائر وما يستكبرونه فهو صغائرا فإن أراد : أن الفرق راجع إلى استكبارهم واستصغارهم فهو باطل فإن العبد يستصغر النظرة ويستكبر الفاحشة وإن أراد : أن استصغارهم للذنب يكبره عند الله واستعظامهم له يصغره عند الله تعالى فهذا صحيح فإن العبد كلما صغرت ذنوبه عنده كبرت عند الله وكلما كبرت عنده صغرت عند الله والحديث إنما يدل على هذا المعنى فإن الصحابة لعلو مرتبتهم عند الله وكمالهم كانوا يعدون تلك الأعمال موبقات ومن بعدهم لنقصان مرتبتهم عنهم وتفاوت ما بينهم صارت تلك الأعمال في أعينهم أدق من الشعر وإذا أردت فهم هذا فانظر : هل كان في الصحابة من إذا سمع نص رسول اللهعارضه بقياسه أو ذوقه أو وجده أو عقله أو سياسته وهل كان قط أحد منهم يقدم على نص رسول الله عقلا أو قياسا أو ذوقا أو سياسة أو تقليد مقلد فلقد أكرم الله أعينهم وصانها أن تنظر إلى وجه من هذا حاله أو يكون في زمانهم ولقد حكم عمر بن الخطاب رضى الله عنه على من قدم حكمه على نص الرسول بالسيف وقال : هذا حكمي فيه

فيالله كيف لو رأى ما رأينا وشاهد ما بلينا به من تقديم رأي كل فلان وفلان على قول المعصوم ومعاداة من اطرح آراءهم وقدم عليها قول المعصوم فالله المستعان وهو الموعد وإليه المرجع وقيل : الكبائر : الشرك وما يؤدي إليه والصغائر : ما عدا الشرك من ذنوب أهل التوحيد واحتج أرباب هذه المقالة بقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء : 48 واحتجوا بقوله فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا : لأيتتك بقرابها مغفرةا واحتجوا أيضا بالحديث الذى روي مرفوعا وموقوفا : الظلم ثلاث دواوين ديوان لا يغفر الله منه شيئا وهو الشرك وديوان لا يترك الله منه شيئا وهو ظلم العباد بعضهم بعضا وديوان لا يعبأ به الله شيئا وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه فهذا جملة ما احتج به أرباب هذه المقالة ولا حجة لهم في شيء منه أما الآية : فإن غايتها التفريق بين الشرك وغيره وأن الشرك لان يغفر إلا بالتوبة منه وأما ما دون الشرك : فهو موكول إلى مشيئة وهذا يدل على أن المعاصي دون الشرك وهذا حق فإن أراد أرباب هذا القول هذا : فلا نزاع فيه وإن أرادوا أن كل ما دون الشرك : فهو صغيرة فى نفسه فباطل فإن قيل : فإذا كان الشرك وغيره مما تأتي عليه التوبة فما وجه الفرق بين الشرك وما دونه وهل هما في حق التائب أم غير التائب أم أحدهما في حق التائب والآخر في حق غيره وما الفرق بين هذه الآية وبين قوله قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم الزمر : 53

فالجواب : أن كل واحدة من الآيتين لطائفة فآية النساء إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء : 48 هي لغير التائبين فى القسمين والدليل عليه : أنه فرق بين الشرك وغيره في المغفرة ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام : أن الشرك يغفر بالتوبة وإلا لم يصح إسلام كافر أبدا وأيضا فإنه خصص مغفرة ما دون الشرك بمن يشاء ومغفرة الذنوب للتائبين عامة لا تخصيص فيها فخصص وقيد وهذا يدل على أنه حكم غير التائب وأما آية الزمر إن الله يغفر الذنوب جميعا الزمر : 53 فهي في حق التائب لأنه أطلق وعمم فلم يخصها بأحد ولم يقيدها بذنب ومن المعلوم بالضرورة : أن الكفر لا يغفره وكثير من الذنوب لا يغفرها فعلم أن هذا الإطلاق والتعميم في حق التائب فكل من تاب من أي ذنب كان : غفر له وأما الحديث الآخر : لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرةا فلا يدل على أن ما عدا الشرك كله صغائر بل يدل على أن من لم يشرك بالله شيئا فذنوبه مغفورة كائنة ما كانت ولكن ينبغي أن يعلم ارتباط ايمان القلوب بأعمال الجوارح وتعلقها بها وإلا لم يفهم مراد الرسول ويقع الخلط والتخبيط فاعلم أن هذا النفي العام للشرك أن لا يشرك بالله شيئا ألبتة لا يصدر من مصر على معصية أبدا ولا يمكن مدمن الكبيرة والمصر على الصغيرة أن يصفو له التوحيد حتى لا يشرك بالله شيئا هذا من أعظم المحال ولا يلتفت إلى جدلي لاحظ له من أعمال القلوب بل قلبه كالحجر أو أقسى يقول : وما المانع وما وجه الإحالة ولو فرض ذلك واقعا لم يلزم منه محال لذاته فدع هذا القلب المفتون بجدله وجهله واعلم أن الإصرار على المعصية يوجب

من خوف القلب من غير الله ورجائه لغير الله وحبه لغير الله وذله لغير الله وتوكله على غير الله : ما يصير به منغمسا في بحار الشرك والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه إن كان له عقل فإن ذل المعصية لا بد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفا من غير الله تعالى وذلك شرك ويورثه محبة لغير الله واستعانة بغيره في الأسباب التي توصله إلى غرضه فيكون عمله لا بالله ولا لله وهذا حقيقة الشرك نعم قد يكون معه توحيد أبي جهل وعباد الأصنام وهو توحيد الربوبية وهو الاعتراف بأنه لا خالق إلا الله ولو أنجى هذا التوحيد وحده لأنجى عباد الأصنام والشأن في توحيد الإلهية الذي هو الفارق بين المشركين والموحدين والمقصود : أن من لم يشرك بالله شيئا يستحيل أن يلقى الله بقراب الأرض خطايا مصرا عليها غير تائب منها مع كمال توحيده الذي هو غاية الحب والخضوع والذل والخوف والرجاء للرب تعالى وأما حديث الدواوين : فإنما فيه أن حق الرب تعالى لا يؤوده أن يهبه ويسقطه ولا يحتفل به ويعتني به كحقوق عباده وليس معناه : أنه لا يؤاخذ به ألبتة أو أنه كله صغائر وإنما معناه : أنه يقع فيه من المسامحة والمساهلة والإسقاط والهبة ما لا يقع مثله في حقوق الآدميين فظهر أنه لا حجة لهم في شيء مما احتجوا به والله أعلم وقالت فرقة : الصغائر ما دون الحدين والكبائر : ما تعلق به أحد الحدين ومرادهم بالحدين : عقوبة الدنيا والآخرة فكل ذنب عليه عقوبة مشروعة محدودة في الدنيا كالزنا وشرب الخمر والسرقة والقذف أو عليه وعيد في الآخرة كأكل مال اليتيم والشرب في آنية الفضة والذهب وقتل الإنسان نفسه وخيانته أمانته ونحو ذلك فهو من الكبائر وصدق ابن عباس رضي الله عنهما في قوله هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع

فصل وههنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الكبيرةا قد يقترن بها من الحياء
والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في أعلى رتبها وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب وهو قدر زائد على مجرد الفعل والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره وأيضا فإنه يعفى للمحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ويسامح بما لا يسامح به غيره وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : انظر إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها وجر بلحية نبي مثله وهو هارون ولطم عين ملك الموت ففقأها وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمدورفعه عليه وربه تعالى يحتمل له ذلك ويحبه ويكرمه ويدلله لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له وصدع بأمره وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة فكانت هذه الأمور كالشعرة فى البحر وانظر إلى يونس بن متى حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت ولم يحتمل له ما احتمل لموسى وفرق بين من إذا أتى بذنب واحد ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع كما قيل : وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله وتذكر به إذا وقع في الشدائد قال تعالى عن ذي النون فلولا أنه كان من المسبحين للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون وفرعون لما لم تكن له سابقة خير تشفع له وقال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل قال له جبريل آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين يونس : 8990 وفى المسندا عنه : إنه قال إن ما تذكرون من جلال الله من التسبيح والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن أفلا يحب أحدكم أن يكون له من يذكر به ا ولهذا من رجحت حسناته على سيئاته أفلح ولم يعذب ووهبت له سيئاته لأجل حسناته ولأجل هذا يغفر لصاحب التوحيد ما لا يغفر لصاحب الإشراك لأنه قد قام به مما يحبه الله ما اقتضى أن يغفر له ويسامحه ما لا يسامح به المشرك وكما كان توحيد العبد أعظم كانت مغفرة الله له أتم فمن لقيه لا يشرك به شيئا ألبتة غفر له ذنوبه كلها كائنة ما كانت ولم يعذب بها ولسنا نقول : إنه لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد بل كثير منهم يدخل بذنوبه ويعذب على مقدار جرمه ثم يخرج منها ولا تنافي بين الأمرين لمن أحاط علما بما قدمناه ونزيد ههنا إيضاحا لعظم هذا المقام من شدة الحاجة إليه اعلم أن أشعة لا إله إلا الله بتدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى فمن الناس : من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس ومنهم : من نورها في قلبه كالكوكب الدريومنهم : من نورها في قلبه كالمشعل العظيم

وآخر : كالسراج المضيء وآخر كالسراج الضعيف ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة علما وعملا ومعرفة وحالا وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد : أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئا فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه أو حصل أضعافه بكسبه فهو هكذا أبدا مع لصوص الجن والإنس ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله وأن الله رب كل شيء ومليكه كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون بل التوحيد يتضمن من محبة الله والخضوع له والذل وكمال الانقياد لطاعته وإخلاص العبادة له وإرادة وجهة الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها ومن عرف هذا عرف قول النبي : إن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله وقوله لا يدخل النار من قال : لا إله إلا الله وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال : المعنى لا يدخلها خالدا ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة

والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار فلا بد من قول القلب وقول اللسان وقول القلب : يتضمن من معرفتها والتصديق بها ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله المختصة به التي يستحيل ثبوتها لغيره وقيام هذا المعنى بالقلب : علما ومعرفة ويقينا وحالا : ما يوجب تحريم قائلها على النار وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب فإنما هو القول التام كقوله : من قال في يوم : سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر وليس هذا مرتبا على مجرد قول اللسان نعم من قالها بلسانه غافلا عن معناها معرضا عن تدبرها ولم يواطىء قلبه لسانه ولا عرف قدرها وحقيقتها راجيا مع ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب فتكون صورة العملين واحدة وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض

وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل وطاشت لأجله السجلات : لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة وإذا اردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك وذكر من هو معرض عنك غافل ساه مشغول بغيرك قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبة غيرك وإيثاره عليك هل يكون ذكرهما واحدا أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة أو عبداك أو زوجتاك عندك سواء وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية وحملته وهو في تلك الحال على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت فهذا أمر آخر وإيمان آخر ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها وقريب من هذا : ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى فقام بقلبها ذلك الوقت مع عدم الآلة وعدم المعين وعدم من ترائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملآن حتى أمكنها الرقي من البئر ثم تواضعها لهذا المخلوق الذى جرت عادة الناس بضربه فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب من غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها فهكذا الأعمال والعمال عند الله والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبا والله المستعان

فصل فإن قيل : قد ذكرتم : أن المحب يسامح بما لا يسامح به
غيره ويعطى للولي عما لا يعفى لسواه وكذلك العالم أيضا يغفر له ما لا يغفر للجاهل كما روى الطبراني بإسناد جيد مرفوعا إلى النبي : إن الله سبحانه إذا جمع الناس يوم القيامة فى صعيد واحد قال للعلماء : إني كنت أعبد بفتواكم وقد علمت أنكم كنتم تخلطون كما يخلط الناس وإنى لم أضع علمي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم هذا معنى الحديث وقد روي مسندا ومرسلا فهذا الذي ذكرتم صحيح وهو مقتضى الحكمة والجود والإحسان ولكن ماذا تصنعون بالعقوبة المضاعفة التى ورد التهديد بها فى حق أولئك إن وقع منهم ما يكره كقوله تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين الأحزاب : 30 وقوله تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا الإسراء : 7475 أى لولا تثبيتنا لك لقد كدت تركن إليهم بعض الشيء ولو فعلت لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات أى ضاعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة وقال تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين الحاقة : 4446 اي : لو أتى بشيءمن عند نفسه لأخذنا منه بيمينه وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه وقد أعاذه الله من الركون إلى أعدائه بذرة من قلبه ومن التقول عليه سبحانه وكم من راكن إلى أعدائه ومتقول عليه من قبل نفسه قد أمهله ولم يعبأ به كأرباب البدع كلهم المتقولين على أسمائه وصفاته ودينه وما ذكرتم في قصة يونس هو من هذا الباب فإنه لم يسامح بغضبة وسجن لأجلها فى بطن الحوت ويكفي حال أبي البشر حيث لم يسامح بلقمة وكانت سبب إخراجه من الجنة

فالجواب : أن هذا أيضا حق ولا تنافي بين الأمرين فإن من كملت عليه نعمة الله واختصه منها بما لم يختص به غيره : في أعطاءه منها ما حرمه غيره فحبي بالإنعام وخص بالإكرام وخص بمزيد التقريب وجعل في منزلة الولي الحبيب اقتضت حاله من حفظ مرتبة الولاية والقرب والاختصاص : بأن يراعي مرتبته من أدنى مشوش وقاطع فلشدة الاعتناء به ومزيد تقريبه واتخاذه لنفسه واصطفائه على غيره تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم ونعمه عليه أكمل والمطلوب منه فوق المطلوب من غيره فهو إذا غفل وأخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد البراني مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك أيضا فيجتمع في حقه الأمران وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدم تناقضهما فالواقع شاهد به فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم ويأخذهم ويؤدبهم بما لم يأخذ به غيرهم وقد ذكرنا شواهد هذا وهذا ولا تناقض بين الأمرين وأنت إذا كان لك عبدان أو ولدان أو زوجتان أحدهما : أحب إليك من الآخر وأقرب إلى قلبك وأعز عليك : عاملته بهذين الأمرين واجتمع في حقه المعاملتان بحسب قربه منك وحبك له وعزته عليك فإذا نظرت إلى كمال إحسانك إليه وإتمام نعمتك عليه : اقتضت معاملته بما لا تعامل به من دونه من التنبيه وعدم الإهمال وإذا نظرت إلى إحسانه ومحبته لك وطاعته وخدمته وكمال عبوديته ونصحه : وهبت له وسامحته وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره فالمعاملتان بحسب ما منك وما منه وقد ظهر اعتبار هذا المعنى في الشرع حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزوج إذا تعداه إلى الزنا : الرجم وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد وكذلك ضاعف

الحد على الحر الذى قد ملكه نفسه وأتم عليه نعمته ولم يجعله مملوكا لغيره وجعل حد العبد المنقوص بالرق الذي لم يحصل له هذه النعمة : نصف ذلك فسبحان من بهرت حكمته في خلقه وأمره وجزائه عقول العالمين وشهدت بأنه أحكم الحاكمين لله سر تحت كل لطيفة فأخو البصائر غائص يتملق

فصل في أجناس ما يتاب منه ولا يستحق العبد اسم التائب حتى يتخلص منها
وهى اثنا عشر جنسا مذكورة فى كتاب الله عز و جل هي أجناس المحرمات : الكفر والشرك والنفاق والفسوق والعصيان والإثم والعدوان والفحشاء والمنكر والبغي والقول على الله بلا علم واتباع غير سبيل المؤمنين فهذه الاثنا عشر جنسا عليها مدار كل ما حرم الله وإليها انتهاء العالم بأسرهم إلا أتباع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وقد يكون في الرجل أكثرها وأقلها أو واحدة منها وقد يعلم ذلك وقد لا يعلم فالتوبة النصوح : هي بالتخلص منها والتحصن والتحرز من مواقعتها وإنما يمكن التخلص منها لمن عرفها ونحن نذكرها ونذكر ما اجتمعت فيه وما افترقت تتبين حدودها وحقائقها والله الموفق لما وراء ذلك كما وفق له ولا حول ولا قوة إلا بالله وهذا الفصل من أنفع فصول الكتاب والعبد أحوج شيء إليه فأما الكفر فنوعان : كفر أكبر وكفر أصغر فالكفر الأكبر : هو الموجب للخلود في النار والأصغر : موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود كما في قوله تعالى وكان

مما يتلى فنسخ لفظه : لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم وقولهفي الحديث الصحيح : إثنتان في أمتي هما بهم كفر : الطعن في النسب والنياحة وقوله في السنن : من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد وفي الحديث الآخر : من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد وقوله لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وهذا تأويل ابن عباس وعامة الصحابة فى قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون المائده : 44 قال ابن عباس : ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وكذلك قال طاووس وقال عطاء : هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق ومنهم : من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا له وهو قول عكرمة وهو تأويل مرجوح فإن نفس جحوده كفر سواء حكم أو لم يحكم ومنهم : من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله قال : ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام وهذا تأويل عبدالعزيز الكناني وهو أيضا بعيد إذ الوعيد على نفي الحكم بالمنزل وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه ومنهم : من تأولها على الحكم بمخالفة النص تعمدا من غير جهل به ولا خطأ في التأويل حكاه البغوي عن العلماء عموما ومنهم : من تأولها على أهل الكتاب وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما وهو بعيد وهو خلاف ظاهر اللفظ فلا يصار إليه ومنهم : من جعله كفرا ينقل عن الملة والصحيح : أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصيانا لأنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر وإن

اعتقد أنه غير واجب وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله تعالى فهذا كفر أكبر وإن جهله وأخطأه : فهذا مخطىء له حكم المخطئين والقصد : أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر فإنها ضد الشكر الذي هو العمل بالطاعة فالسعي : إما شكر وإما كفر وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا والله أعلم

فصل وأما الكفر الأكبر فخمسة أنواع : كفر تكذيب وكفر استكبار وإباء
مع التصديق وكفر إعراض وكفر شك وكفر نفاق فأما كفر التكذيب : فهو اعتقاد كذب الرسل وهذا القسم قليل في الكفار فإن الله تعالى أيد رسله وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة وأزال به المعذرة قال الله تعالى عن فرعون وقومه وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا النمل : 14 وقال لرسوله : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون الأنعام : 33 وإن سمي هذا كفر تكذيب أيضا فصحيح إذ هو تكذيب باللسان وأما كفر الإباء والاستكبار : فنحو كفر إبليس فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول وأنه جاء بالحق من عند الله ولم ينقد له إباء واستكبارا وهو الغالب على كفر أعداء الرسل كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه : أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون المؤمنون : 47 وقول الأمم لرسلهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا إبراهيم : 10 وقوله كذبت ثمود بطغواها الشمس : 11 وهو كفر اليهود كما قال تعالى : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به البقره : 89 وقال يعرفونه كما يعرفون أبناءهم البقره : 146 وهو كفر أبي طالب أيضا فإنه صدقه ولم يشك في صدقه ولكن أخذته الحمية وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم ويشهد عليهم بالكفر

وأما كفر الإعراض : فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به ألبتة كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي : والله أقول لك كلمة إن كنت صادقا فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أكلمك وأما كفر الشك : فإنه لا يجزم بصدقه ولا بكذبه بل يشك في أمره وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسولجملة فلا يسمعها ولا يلتفت إليها وأما مع إلتفاته إليها ونطره فيها : فإنه لا يبقى معه شك لأنها مستلزمة للصدق ولا سيما بمجموعها فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار وأما كفر النفاق : فهو أن يظهر بلسانه الإيمان وينطوي بقلبه على التكذيب فهذا هو النفاق الأكبر وسيأتى بيان أقسامه إن شاء الله تعالى

فصل وكفر الجحود نوعان : كفر مطلق عام وكفر مقيد خاص فالمطلق : أن
يجحد جملة ما أنزله الله وإرساله الرسول والخاص المقيد : أن يجحد فرضا من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته أو صفة وصف الله بها نفسه أو خبرا أخبر الله به عمدا أو تقديما لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض وأما جحد ذلك جهلا أو تأويلا يعذر فيه صاحبه : فلا يكفر صاحبه به كحديث الذي جحد قدرة الله عليه وأمر أهله أن يحرقوه ويذروه في الريح ومع

هذا فقد غفر الله له ورحمه لجهله إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه ولم يجحد قدرة الله على إعادته عنادا أو تكذيبا

فصل وأما الشرك فهو نوعان : أكبر وأصغر فالأكبر : لا يغفره الله إلا
بالتوبة منهوهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين ولهذا قالوا لآلهتهم في النار : الله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين الشعراء : 9798 مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم بل كلهم يحبون معبوداتهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرد وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد وإن عثر وإن مرض وإن استوحش فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه

وهكذا كان عباد الأصنام سواء وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم فأولئك كانت آلهتهم من الحجر وغيرهم اتخذوها من البشر قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين : والذين اتخذوا من دونه أولياء : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون الزمر : 3 ثم شهد عليهم بالكفر والكذب وأخبر : أنه لا يهديهم فقال : إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار الزمر : 3 فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله وما أعز من يخلص من هذا بل ما أعز من لا يعادي من أنكره والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم : أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه ورضي قوله وعمله وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء فإنه سبحانه يأذن لمن شاء في الشفاعة لهم حيث لم يتخذهم شفعاء من دونه فيكون أسعد الناس بشفاعة من يأذن الله له : صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله ربه ومولاه و الشفاعة التي أثبتها الله ورسوله : هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده والتي نفاها الله : هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء فيعاملون بنقيض قصدهم من شفعائهم ويفوز بها الموحدون

وتأمل قول النبيلأبي هريرة وقد سأله : من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله قال : أسعد الناس بشفاعتي : من قال لا إله إلا الله خالصا من مكبه كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته : تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين : أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله فقلب النبيما باتخاذهم أولياءهم شفعاء وعبادتهم ومولاتهم من دون الله فقلب النبي ما في زعمهم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة : هو تجريد التوحيد فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع ومن جهل المشرك : اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا : أنه يشفع له وينفعه عند الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم من ولاهم والهم ولم يعلموا أن الله ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله كما قال تعالى في الفصل الأول : من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه البقره : 255 وفي الفصل الثاني ولا يشفعون إلا لمن ارتض الأنبياء : 28 وبقي فصل ثالث وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولين والآخرين كما قال أبو العالية : كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون : ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين ا فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها : لا شفاعة إلا بإذنه ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله فالله تعالى : لا يغفر شرك العادلين به غيره كما قال تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون الأنعام : 1 وأصح القولين : أنهم يعدلون به غيره في العبادة والموالاة والمحبة كما في الآية الأخرى الله إن كنا لفى ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين الشعراء : 9798 وكما فى آية البقرة ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله البقره : 165 وترى المشرك يكذب حاله وعمله قوله فإنه يقول : لا نحبهم كحب الله

ولا نسويهم بالله ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت أعظم مما يغضب لله ويستبشر بذكرهم ويتبشبش به سيما إذا ذكر عنهم ماليس فيهم : من إغاثة اللهفات وكشف الكربات وقضاء الحاجات وأنهم الباب بين الله وبين عباده فإنك ترى المشرك يفرح ويسر ويحن قلبه وتهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده لحقته وحشة وضيق وحرج ورماك بنقص الإلهية التي له وربما عاداك رأينا والله منهم هذا عيانا ورمونا بعداوتهم وبغوا لنا الغوائل والله مخزيهم في الدنيا والآخرة ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم : عاب آلهتنا فقال هؤلاء : تنقصتم مشايخنا وأبواب حوائجنا إلى الله وهكذا قال النصارى للنبي لما قال لهم : بإن المسيح عبد الله قالوا : تنقصت المسيح وعبته وهكذا قال أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانا تعبد ومساجد تقصد وأمر بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله قالوا : تنقصت أصحابها

فانظر إلى هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا الكهف : 17 وقد قطع الله تعالى كل الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعا قطعا يعلم من تأمله وعرفه : أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت العنكبوت : 41 فقال تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له سبأ : 2223 فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع : إما مالك لما يريده عابده منه فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مترتبا متنقلا من الأعلى إلى ما دونه فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواداه لمن عقلها والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية

وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما عابه القرآن وذمه : وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف : أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه فينقض بذلك عرى الإسلام عن قلبه ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد ويبدع بتجريد متابعة الرسولومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا والله المستعان

فصل وأما الشرك الأصغر : فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير
الله كما ثبت عن النبيأنه قال : من حلف بغير الله فقد أشرك وقول الرجل للرجل : ما شاء الله وشئتا و هذا من الله ومنا و أنا بالله وبك و مالي إلا الله وأنتا و بأنا متوكل على الله وعليك و لولا أنت لم يكن كذا وكذاا وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب قائله ومقصده وصح عن النبيأنه قال لرجل قال له : ما شاء الله وشئت : أجعلتنى لله ندا قل : ما شاء الله وحده وهذا اللفظ أخف من غيره من الألفاظ ومن أنواع الشرك : سجود المريد للشيخ فإنه شرك من الساجد والمسجود له والعجب : أنهم يقولون : ليس هذا سجود وإنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراما وتواضعا فيقال لهؤلاء : ولو سميتموه ما سميتموه فحقيقة السجود :

وضع الرأس لمن يسجد له وكذلك السجود للصنم وللشمس وللنجم وللحجر كله وضع الرأس قدامه ومن أنواعه : ركوع المتعممين بعضهم لبعض عند الملاقاة وهذا سجود في اللغة وبه فسر قوله تعالى : ادخلوا الباب سجدا البقره : 58 أي منحنين وإلا فلا يمكن الدخول بالجبهة على الأرض ومنه قول العرب : سجدت الأشجار إذا أمالتها الريح ومن أنواعه : حلق الرأس للشيخ فإنه تعبد لغير الله ولا يتعبد بحلق الرأس إلا في النسك لله خاصة ومن أنواعه : التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم فإن التوبة لا تكون إلا لله كالصلاة والصيام والحج والنسك فهي خالص حق الله وفي المسند : أن رسول اللهأتى بأسير فقال : اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال رسول الله : عرف الحق لأهله فالتوبة عبادة لا تنبغي إلا لله كالسجود والصيام ومن أنواعه : النذر لغير الله فإنه شرك وهو أعظم من الحلف بغير الله فإذا كان من حلف بغير الله فقد أشرك فكيف بمن نذر لغير الله مع أن في السنن من حديث عقبة بن عامر عنه النذر حلفةا ومن أنواعه : الخوف من غير الله والتوكل على غير الله والعمل لغير الله والإنابة والخضوع والذل لغير الله وابتغاء الرزق من عند غيره وحمد غيره على ما أعطى والغنية بذلك عن حمده سبحانه والذم والسخط على ما لم يقسمه ولم

يجر به القدر وإضافة نعمه إلى غيره واعتقاد أن يكون في الكون ما لا يشاؤه ومن أنواعه : طلب الحوائج من الموتى والاستغانة بهم والتوجه إليهم وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده كما تقدم فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه وإنما السبب لإذنه : كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها وهذه حالة كل مشرك والميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له كما أوصانا النبي إذا زرنا قبور المسلمين : أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرةا فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة واستقضاء الحوائج والاستغاثة بهم وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد وسموا قصدها حجا واتخذوا عندها الوقفة وحلق الرأس فجمعوا بين الشرك بالمعبود الحق وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبة أهله إلى التنقص للأموات وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم وعيبهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به وأنهم يوالونهم عليه وهؤلاء هم أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم ولله خليله إبراهيم عليه السلام حيث يقول واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده فجرد حبه لله وخوفه لله ورجاءه لله وذله لله وتوكله على الله واستعانته بالله والتجاءه إلى الله واستغاثته بالله وأخلص قصده لله متبعا لأمره متطلبا

لمرضاته إذا سأل سأل الله وإذا استعان استعان بالله وإذا عمل عمل لله فهو لله وبالله ومع الله والشرك أنواع كثيرة لا يحصيها إلا الله ولو ذهبنا نذكر أنواعه لاتسع الكلام أعظم اتساع ولعل الله أن يساعد بوضع كتاب فيه وفي أقسامه وأسبابه ومباديه ومضرته وما يندفع به فإن العبد إذا نجا منه ومن التعطيل وهما الداءان اللذان هلكت بهما الأمم فما بعدهما أيسر منهما وإن هلك بهما فبسبيل من هلك ولا آسى على الهالكين

فصل وأما النفاق : فالداء العضال الباطن الذى يكون الرجل ممتلئا منه
وهو لا يشعر فإنه أمر خفي على الناس وكثيرا ما يخفى على من تلبس به فيزعم أنه مصلح وهو مفسد وهو نوعان : أكبر وأصغر فالأكبر : يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولا للناس يهديهم بإذنه وينذرهم بأسه ويخوفهم عقابه وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر وذكر طوائف العالم الثلاثة فى أول سورة البقرة : المؤمنين والكفار والمنافقين فذكر في المؤمنين أربع آيات وفي الكفار آيتين وفي المنافقين ثلاث عشرة آية لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدا لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة

يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح وهو غاية الجهل والإفساد فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه ! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه ! وكم من علم له قد طمسوه ! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه ! وكم ضربوا بمعاول الشبه فى أصول غراسه ليقلعوها ! وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها ! فلا يزال الإسلام وأهله منهم فى محنة وبلية ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية ويزعمون أنهم بذلك مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون البقره : 12 يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون الصف : 8 اتفقوا على مفارقة الوحي فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون المؤمنون : 53 يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا الأنعام : 112 ولأجل ذلك اتخذوا هذا القرآن مهجورا الفرقان : 30 درست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها وأفلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله ولم يرفعوا به رأسا ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأسا خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها منهم كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فقايلوها بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع فى الصدور منها والأعجاز وقالوا : ما لك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل الاجتياز أعدوا

لدفعها أصناف العدد وضروب القوانين وقالوا لما حلت بساحتهم : مالنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئا من اليقين وعوامهم قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه خلفنا من المتأخرين فإنهم أعلم بها من السلف الماضين وأقوم بطرائق الحجج والبراهين وأولئك غلبت عليهم السذاجة وسلامة الصدور ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر ولكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وترك المحظور فطريقة المتأخرين : أعلم وأحكم وطريقة السلف الماضين : أجهل لكنها أسلم أنزلوا نصوص السنة والقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان اسمه على السكة وفي الخطبة فوق المنابر مرفوع والحكم النافذ لغيره فحكمه غير مقبول ولا مسموع لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران فالظواهر ظواهر الأنصار والبواطن قد تحيزت إلى الكفار فألسنتهم ألسنة المسالمين وقلوبهم قلوب المحاربين ويقولون آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين البقره رأس مالهم الخديعة والمكر وبضاعتهم الكذب والختر وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون وهم بينهم آمنون يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون البقره : 9 قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون البقره : 10 من علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق ففسادهم في الأرض كثير وأكثر الناس عنه

غافلون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا : إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون البقره : 1112 المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارا فهمه في حمل المنقول وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة وما هو عندهم بمقبول وأهل الاتباع عندهم سفهاء فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون البقره : 13 لكل منهم وجهان وجه يلقى به المؤمنين ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين وله لسانان : أحدهما يقبله بظاهره المسلمون والآخر يترجم به عن سره المكنون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون البقره : 14 قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقارا وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا بما عندهم من العلم الذى لا ينفع الاستكثار منه أشرا واستكبارا فتراهم أبدا بالمتمسكين بصريح الوحى يستهزئون الله يستهزىء بهم ويمدهم فى ظغيانهم يعمهون البقره : 15 خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات فركبوا مراكب الشبه والشكوك تجري بهم في موج الخيالات فلعبت بسفنهم الريح العاصف فألقتها بين سفن الهالكين أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين البقره : 16 أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال ثم طفىء ذلك النور وبقيت نارا تأجج ذات لهب واشتعال فهم بتلك النار معذبون وفي تلك الظلمات يعمهون مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون البقره : 17

أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون صم بكم عمي فهم لا يرجعون البقره : 18 صاب عليهم صيب الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف التي وظعت عليهم في المساء والصباح فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وجدوا فى الهرب والطلب فى آثارهم والصياح فنودي عليهم على رءوس الأشهاد وكشفت حالهم للمستبصرين وضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم : المناظرين والمقلدين فقيل : أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين البقره : 19 ضعفت أبصار بصائرهم عن احتمال ما في الصيب من بروق أنواره وضياء معانيه وعجزت أسماعهم عن تلقي وعوده وعيده وأوامره ونواهيه فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه لا ينتفع بسمعه السامع ولا يهتدي ببصره البصير كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير البقره : 20 لهم علامات يعرفون بها مبينة في السنة والقرآن بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان قام بهم والله الرياء وهو أقبح مقام قامه الإنسان وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا النساء : 142 أحدهم كالشاة العائرة بين الغنمين تيعر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تستقر مع إحدى الفئتين فهم واقفون بين الجمعين ينظرون أيهم أقوى وأعز

قبيلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا النساء : 143 يتربصون الدوائر بأهل السنة والقرآن فإن كان لهم فتح من الله قالوا : إلم تكن معكم واقسموا على ذلك بالله جهد ايمانهم وان كان لأعداء الكتاب والسنة من النصرة نصيب قالوا : ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم وان النسب بيننا قريب فيا من يريد معرفتهم ! خذ صفتهم من كلام رب العالمين فلا تحتاج بعده دليلا : الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين بيلا النساء : يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته ولينه ويشهد الله على ما في قلبه من كذبه ومينه فتراه عند الحق نائما وفي الباطل على الأقدام فخذ وصفهم من قول القدوس السلام : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام البقره : 204 أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد والعباد ونواهيهم عما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد وأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة والذكر والزهد والاجتهاد وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد البقره : 205 فهم جنس بعضه يشبه بعضا يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه كم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليتجنبوه فاسمعوا أيها المؤمنون المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض

يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا لله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون التوبه : 67 إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسولهرأيتهم عنه معرضين فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا النساء : 61 فكيف لهم بالفلاح والهدى بعد ما أصيبوا في عقولهم وأديانهم وأنى لهم التخلص من الضلال والردى ! وقد اشترا الكفر بإيمانهم فما أخسر تجارتهم البائرة ! وقد استبدلوا بالرحيق المختوم حريقا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله : إن أردنا لا إحسانا وتوفيقا النساء : 62 نشب زقوم الشبه والشكوك فى قلوبهم فلا يجدون له مسيغا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا النساء : 63 تبا لهم ما أبعدهم عن حقيقة الإيمان ! وما أكذب دعواهم للتحقيق والعرفان فالقوم فى شأن وأتباع الرسول في شأن لقد أقسم الله جل جلاله في كتابه بنفسه المقدسة قسما عظيما يعرف مضمونه أولو البصائر فقلوبهم منه على حذر إجلالا له وتعظيما فقال تعالى تحذيرا لأوليائه وتنبيها على حال هؤلاء وتفهيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما تسبق يمين أحدهم كلامه من غير أن يعترض عليه لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وكشف ما لديه وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون ليحسب السامع أنهم صادقون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون المنافقون : 2

تبا لهم برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان فلما رأوا طول الطريق وبعد الشقة نكصوا على أعقابهم ورجعوا وظنوا أنهم يتمتعون بطيب العيش ولذة المنام في ديارهم فما متعوا به ولا بتلك الهجعة انتفعوا فما هو إلا أن صاح بهم الصائح فقاموا عن موائد أطعمتهم والقوم جياع ما شبعوا فكيف حالهم عند اللقاء وقد عرفوا ثم أنكروا وعموا بعد ما عاينوا الحق وأبصروا ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون المنافقون : 3 أحسن الناس أجساما وأخلبهم لسانا وألطفهم بيانا وأخبثهم قلوبا وأضعفهم جنانا فهم كالخشب المسندة التى لا ثمر لها قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم ! قاتلهم الله أنى يؤفكون المنافقون : 4 يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول إلى شرق الموتى فالصبح عند طلوع الشمس والعصر عند الغروب وينقرونها نقر الغراب إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب ولا يشهدون الجماعة بل إن صلى أحدهم ففي البيت أو الدكان وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان هذه معاملتهم للخلق وتلك معاملتهم للخالق فخذ وصفهم من أول المطففين وآخر والسماء والطارق الطارق : 1 فلا ينبئك عن أوصافهم مثل خبير يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير التوبه : 73 فما أكثرهم ! وهم

الأقلون وما أجبرهم ! وهم الأذلون وما أجهلهم ! وهم المتعالمون وما أغرهم بالله ! إذ هم بعظمته جاهلون ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون التوبة : 56 إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا : قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل : لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون التوبه : 5051 وقال تعالى فى شأن السلفين المختلفين والحق لا يندفع بمكابرة أهل الزيغ والتخليط إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط آل عمران : 120 كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وفساد نياتهم فثبطهم عنها وأقعدهم وأبغض قربهم منه وجواره لميلهم إلى أعدائه فطردهم عنه وأبعدهم وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم وأشقاهم وما أسعدهم وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين فقال تعالى ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم وأن ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم فقال وهو أحكم الحاكمين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين
ثقلت عليهم النصوص فكرهوها وأعياهم حملها فألقوها عن أكتافهم ووضعوها وتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها وصالت عليهم نصوص

الكتاب والسنة فوضعوا لها قوانين ردوها بها ودفعوها ولقد هتك الله أستارهم وكشف أسرارهم وضرب لعباده أمثالهم واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر وبينها لهم فقال ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم
هذا شأن من ثقلت عليه النصوص فرآها حائلة بينه وبين بدعته وهواه فهي في وجهه كالبنيان المرصوص فباعها بمحصل من الكلام الباطل واستبدل منها بالفصوص فأعقبهم ذلك أن أفسد عليهم إعلانهم وإسرارهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم
أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وفلتات اللسان ووسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف والنقاد كيف والناقد البصير قد كشفها لكم أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم
فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق وتجلى الله جل جلاله للعباد وقد كشف عن ساق ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون

أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو أدق من الشعرة وأحد من الحسام وهو دحض مزلة مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطيء الأقدام فقسمت بين الناس الأنوار وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب وأعطوا نورا ظاهرا مع أهل الإسلام كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة والزكاة والحج والصيام فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور فضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتيح باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة ينادون من تقدمهم من وفد الإيمان ومشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو لناظر الإنسان انظرونا نقتبس من نوركم لنتمكن في هذا المضيق من العبور فقد طفئت أنوارنا ولا جواز اليوم إلا بمصباح من النور قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا حيث قسمت الأنوار فهيهات الوقوف لأحد في مثل هذا المضمار كيف نلتمس الوقوف في هذا المضيق فهل يلوي اليوم أحد على أحد في هذا الطريق وهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق فذكروهم باجتماعهم معهم وصحبتهم لهم في هذه الدار كما يذكر الغريب صاحب الوطن بصحبته له في الأسفار ألم نكن معكم نصوم كما تصومون ونصلي كما تصلون ونقرأ كما تقرؤون ونتصدق كما تصدقون ونحج كما تحجون فما الذي فرق بيننا اليوم حتى انفردتم دوننا بالمرور قالوا بلى ولكنكم كانت ظواهركم معنا وبواطنكم مع كل ملحد وكل ظلوم كفور ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير

لا تستطل أوصاف القوم فالمتروك والله أكثر من المذكور كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات وتتعطل بهم أسباب المعايش وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات سمع حذيفة رضي الله عنه رجلا يقول اللهم أهلك المنافقين فقال يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك
تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين لعلمهم بدقة وجله وتفاصيله وجمله ساءت ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين قال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما يا حذيفة نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله منهم قال لا ولا أزكي بعدك أحدا وقال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل ذكره البخاري وذكر عن الحسن البصري ما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن ولقد ذكر عن بعض الصحابة أنه كان يقول في دعائه اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق قيل وما خشوع النفاق قال أن يرى البدن خاشعا والقلب ليس بخاشع
تالله لقد ملئت قلوب القوم إيمانا ويقينا وخوفهم من النفاق شديد وهمهم لذلك ثقيل وسواهم كثير منهم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم وهم يدعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل
زرع النفاق ينبت على ساقيتين ساقية الكذب وساقية الرياء ومخرجهما من عينين عين ضعف البصيرة وعين ضعف العزيمة فإذا تمت هذه الأركان الأربع استحكم نبات النفاق وبنيانه ولكنه بمدارج السيول على شفا جرف هار فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم تبلى السرائر وكشف المستور وبعثر

ما في القبور وحصل ما في الصدور تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب
قلوبهم عن الخيرات لاهية وأجسادهم إليها ساعية والفاحشة في فجاجهم فاشية وإذا سمعوا الحق كانت قلوبهم عن سماعه قاسية وإذا حضروا الباطل وشهدوا الزور انفتحت أبصار قلوبهم وكانت آذانهم واعية
فهذه والله أمارات النفاق فاحذرها أيها الرجل قيل أن تنزل بك القاضية إذا عاهدوا لم يفوا وإن وعدوا أخلفوا وإن قالوا لم ينصفوا وإن دعوا إلى الطاعة وقفوا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدفوا وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها وانصرفوا فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزي والخسران فلا تثق بعهودهم ولا تطمئن إلى وعودهم فإنهم فيها كاذبون وهم لما سواها مخالفون ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه بما كانوا يكذبون

فصل وأما الفسوق فهو في كتاب الله نوعان مفرد مطلق ومقرون بالعصيان
والمفرد نوعان أيضا فسوق كفر يخرج عن الإسلام وفسوق لا يخرج عن الإسلام فالمقرون كقوله تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون
والمفرد الذي هو فسوق كفر كقوله تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله الآية وقوله عز و جل ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون

وقوله وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها الآية فهذا كله فسوق كفر
وأما الفسوق الذي لا يخرج عن الإسلام فكقوله تعالى وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم الآية وقوله يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ الآية فإن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط لما بعثه رسول الله إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدقا وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع القوم بمقدمه تلقوه تعظيما لأمر رسول الله فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله فقال إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى فغضب رسول الله وهم أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله فقالوا يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال له انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير فرجع إلى رسول الله وأخبره الخبر فنزل يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا الآية
والنبأ هو الخبر الغائب عن المخبر إذا كان له شأن والتبين طلب بيان حقيقة والإحاطة بها علما
وههنا فائدة لطيفة وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه

ورد شهادته جملة وإنما أمر بالتبين فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق ولو أخبر به من أخبر فهكذا ينبغي الإعتماد في رواية الفاسق وشهادته وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري وفسقه من جهات أخر فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق وبطل كثير من الأخبار الصحيحة ولا سيما من فسقه من جهة الإعتقاد والرأي وهو متحر للصدق فهذا لا يرد خبره ولا شهادته
وأما من فسقه من جهة الكذب فإن كثر منه وتكرر بحيث يغلب كذبه على صدقه فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته وإن ندر منه مرة ومرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله
والمقصود ذكر الفسوق الذي لا يخرج إلى الكفر
والفسوق الذي تجب التوبة منه أعم من الفسوق الذي ترد به الرواية والشهادة وكلامنا الآن فيما تجب التوبة منه وهو قسمان فسق من جهة العمل وفسق من جهة الإعتقاد
ففسق العمل نوعان مقرون بالعصيان ومفرد
فالمقرون بالعصيان هو ارتكاب ما نهى الله عنه والعصيان هو عصيان أمره كما قال الله تعالى لا يعصون الله ما أمرهم وقال موسى لأخيه هرون عليهما السلام ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري وقال الشاعر
أمرتك أمرا جازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فالفسق أخص بارتكاب النهى ولهذا يطلق عليه كثيرا كقوله تعالى وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم والمعصية أخص بمخالفة الأمر كما تقدم ويطلق كل منهما على صاحبه كقوله تعالى إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه

فسمى مخالفته للأمر فسقا وقال وعصى آدم ربه فغوى فسمى ارتكابه للنهي معصية فهذا عند الإفراد فإذا اقترنا كان أحدهما لمخالفة الأمر والآخر لمخالفة النهي
والتقوى اتقاء مجموع الأمرين وبتحقيقها تصح التوبة من الفسوق والعصيان بأن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله ويترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله
وفسق الإعتقاد كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله ويوجبون ما أوجب الله ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك
وهؤلاء كالخوارج المارقة وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم
وأما غالية الجهمية فكغلاة الرافضة ليس للطائفتين في الإسلام نصيب

ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة وقالوا هم مباينون للملة
وليس مقصودنا الكلام في أحكام هؤلاء وإنما المقصود تحقيق التوبة من هذه الأجناس العشرة
فالتوبة من هذا الفسوق بإثبات ما أثبته الله لنفسه ورسوله من غير تشبيه ولا تمثيل وتنزيهه عما نزه نفسه عنه ونزهه عنه رسوله من غير تحريف ولا تعطيل وتلقى النفي والإثبات من مشكاة الواحي لا من آراء الرجال ونتائج أفكارهم التي هي منشأ البدعة والضلالة
فتوبة هؤلاء الفساق من جهة الإعتقادات الفاسدة بمحض اتباع السنة ولا يكتفى منهم بذلك أيضا حتى يبينوا فساد ما كانوا عليه من البدعة إذ التوبة من ذنب هي بفعل ضده ولهذا شرط الله تعالى في توبة الكاتمين ما أنزل الله من البينات والهدى البيان لأن ذنبهم لما كان بالكتمان كانت توبتهم منه بالبيان قال الله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم وذنب المبتدع فوق ذنب الكاتم لأن ذاك كتم الحق وهذا كتمه ودعا إلى خلافه فكل مبتدع كاتم ولا ينعكس
وشرط في توبة المنافق الإخلاص لأن ذنبه بالرياء فقال تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ثم قال إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عليما ولذلك كان الصحيح من القولين أن توبة القاذف إكذابه نفسه لأنه ضد الذنب الذي ارتكبه وهتك به عريض المسلم المحصن

فلا تحصل التوبة منه إلا بإكذابه نفسه لينتفي عن المقذوف العار الذي ألحقه به بالقذف وهو مقصود التوبة
وأما من قال إن توبته أن يقول أستغفر الله من القذف ويعترف بتحريمه فقول ضعيف لأن هذا لا مصلحة فيه للمقذوف ولا يحصل له به براءة عرضه مما قذفه به فلا يحصل به مقصود التوبة من هذا الذنب فإن فيه حقين حقا لله وهو تحريم القذف فتوبته منه باستغفاره واعترافه بتحريم القذف وندمه عليه وعزمه على أن لا يعود وحقا للعبد وهو إلحاق العار به فتوبته منه بتكذيبه نفسه فالتوبة من هذا الذنب بمجموع الأمرين
فإن قيل إذا كان صادقا قد عاين الزنا فأخبره به فكيف يسوغ له تكذيب نفسه وقذفها بالكذب ويكون ذلك من تمام توبته
قيل هذا هو الإشكال الذي قال صاحب هذا القول لأجله ما قال إن توبته الإعتراف بتحريم القذف والإستغفار منه وهو موضع يحتاج فيه إلى بيان الكذب الذي حكم الله به على القاذف وأخبر أنه كاذب عنده ولو كان خبره مطابقا للواقع فنقول
الكذب يراد به أمران أحدهما الخبر غير المطابق لمخبره وهو نوعان كذب عمد وكذب خطأ فكذب العمد معروف وكذب الخطأ ككذب أبي السنابل بن بعكك في فتواه للمتوفى عنها إذا وضعت حملها أنها لا تحل حتى تتم لها أربعة أشهر وعشرا فقال النبي كذب أبو السنابل ومنه قوله كذب من قالها لمن قال حبط عمل عامر حيث قتل نفسه خطأ ومنه قول عبادة بن الصامت كذب أبو محمد حيث قال الوتر واجب فهذا كله من كذب الخطأ ومعناه أخطأ قائل ذلك
والثاني من أقسام الكذب الخبر الذي لا يجوز الإخبار به وإن كان

خبره مطابقا لمخبره كخبر القاذف المنفرد برؤية الزنا والإخبار به فإنه كاذب في حكم الله وإن كان خبره مطابقا لمخبره ولهذا قال تعالى فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فحكم الله في مثل هذا أن يعاقب عقوبة المفترى الكاذب وإن كان خبره مطابقا وعلى هذا فلا تتحقق توبته حتى يعترف بأنه كاذب عند الله كما أخبر الله تعالى به عنه فإذا لم يعترف بأنه كاذب وجعله الله كاذبا فأي توبة له وهل هذا إلا محض الإصرار والمجاهرة بمخالفة حكم الله الذي حكم به عليه

فصل واختلف في توبة السارق إذا قطعت يده هل من شرطها ضمان العين
المسروقة لربها
وأجمعوا على أن من شرط صحة توبته أداؤها إليه إذا كانت موجودة بعينها وإنما اختلفوا إذا كانت تالفة فقال الشافعي وأحمد من تمام توبته ضمانها لمالكها ويلزمه ذلك موسرا كان أو معسرا وقال أبو حنيفة إذا قطعت يده وقد استهلكت العين لم يلزمه ضمانها ولا تتوقف صحة توبته على الضمان لأن قطع اليد هو مجموع الجزاء والتضمين عقوبة زائدة عليه لا تشرع
قال وهذا بخلاف ما إذا كانت العين قائمة فإن صاحبها قد وجد عين ماله فلم يكن أخذها عقوبة ثانية بخلاف التضمين فإنه غرامة وقد قطع طرفه فلا نجمع عليه غرامة الطرف وغرامة المال
قالوا ولهذا لم يذكر الله في عقوبة السارق والمحارب غير إقامة الحد عليهما ولو كان الضمان لما أتلفوه واجبا لذكره مع الحد ولما جعل مجموع جزاء المحاربين ما ذكره من العقوبة بأداة إنما التي هي عندكم للحصر فقال إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية ومدلول هذا الكلام عند من يجعل أداة إنما للحصر أنه لا جزاء لهم غير ذلك

قالوا وقد روى النسائي في سننه عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي أنه قضى في السارق إذا أقيم عليه الحد أنه لا غرم عليه
قالوا وهذا هو المستقر في فطر الناس وعليه عملهم أنهم يقعطون السراق ولا يغرمونهم ما أتلفوه من أموال الناس وما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن
قالوا ولأنها لو ثبتت في ذمته بعد القطع لكان قد ملكها إذ لا يجتمع لربها البدل والمبدل وثبوت بدلها في ذمته يستلزم تقدير ملكها وهو شبهة في إسقاط القطع
وأصحاب القول الأول يقولون هذه العين تعلق بها حقان حق لله وحق لمالكها وهما حقان متغايران لمستحقين متباينين فلا يبطل أحدهما الآخر بل يستوفيان معا لأن القطع حق لله والضمان حق للمالك ولهذا لا يسقط القطع بإسقاطه بعد الرفع إلى الإمام ولو أسقط الضمان سقط
وهذا كما إذا أكره أمة غيره على الزنا لزمه الحد لحق الله والمهر لحق السيد وكذلك إذا أكره الحرة على الزنا أيضا بل لو زنا بأمة ثم قتلها لزمه حد الزنا وقيمتها لمالكها وهو نظير ما إذا سرقها ثم قتلها قطعت يده لسرقتها وضمنها لمالكها
قالوا وكذلك إذا قتل في الإحرام صيدا مملوكا لمالكه فعليه الجزاء لحق الله وقيمة الصيد لمالكه وكذلك إذا غصب خمر ذمي وشربها لزمه الحد حقا لله ولزمه عندكم ضمانها للذمي ولم يلزمه ضمان عند الجمهور لأنها ليست بمال فلا تضمن بالإتلاف كالميتة
قالوا وأما قولكم إن قطع اليد مجموع الجزاء إن أردتم أنه مجموع العقوبة فصحيح فإنه لم يبق عليه عقوبة ثانية ولكن الضمان ليس بعقوبة للسرقة ولهذا يجب في حق غير الجاني كمن أتلف مال غيره خطأ أو إكراها

أو في حال نومه أو أتلفه إتلافا مأذونا له فيه كالمضطر إلى أكله أو المضطر إلى إلقائه في البحر لإنجاء السفينة ونحو ذلك فليس الضمان من العقوبة في شيء
وأما قولكم إن الله لم يذكر في القرآن تضمين السارق والمحارب فهو لم ينفه أيضا وإنما سكت عنه فحكمه مأخوذ من قواعد الشرع ونصوصه كقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وهذا قد اعتدى بالإتلاف فيعتدى عليه بالتضمين ولهذا أوجبنا رد العين إذا كانت قائمة ولم يذكر في القرآن وليس هذا من باب الزيادة على النص بل من باب إعمال النصوص كلها لا يعطل بعضها ويعمل ببعضها وكذلك الجواب عن قوله تعالى في المحاربين إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أي عقوبتهم
قالوا وأما حديث عبدالرحمن بن عوف فمنقطع لا يثبت يرويه سعد بن إبراهيم عن منصور وقد طعن في الحديث ابن المنذر فقال سعد بن إبراهيم مجهول وقال ابن عبدالبر الحديث ليس بالقوي
وأما استقرار ذلك في فطر الناس فمن قال إنه مستقر في فطرهم أن الغني الواجد إذا سرق مال فقير محتاج أو يتيم وأتلفه وقطعت يده أنه لا يضمن مال هذا الفقير واليتيم مع تمكنه من الضمان وقدرته عليه وضرورة صاحبه وضعفه وهل المستقر في فطر الناس إلا عكس هذا
وأما قولكم لو ثبت في ذمته بعد القطع لكان قد ملكها فضعيف جدا لأنها بالإتلاف قد استقرت في ذمته ولهذا له المطالبة ببذلها اتفاقا وهذا الإستقرار في ذمته لا يمنع القطع فإنه يقطع بعد إتلافها واستقرارها في ذمته فكيف يزيل القطع ما ثبت في ذمته ويكون مبرئا له منه
وتوسط فقهاء المدينة مالك وغيره بين القولين فقالوا إن كان له مال ضمنها بعد القطع وإن لم يكن له مال فلا ضمان عليه

وهذا استحسان حسن جدا وما أقر به من محاسن الشرع وأولاه بالقبول والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل وأما الإثم والعدوان فهما قرينان قال الله تعالى وتعاونوا على
البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وكل منهما إذا أفرد تضمن الآخر فكل إثم عدوان إذ هو فعل ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر الله به فهو عدوان على أمره ونهيه وكل عدوان إثم فإنه يأثم به صاحبه ولكن عند اقترانهما فهما شيئان بحسب متعلقهما ووصفهما
فالإثم ما كان محرم الجنس كالكذب والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة
فالعدوان تعدى ما أبيح منه إلى القدر المحرم والزيادة كالإعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه إما بأن يتعدى على ماله أو بدنه أو عرضه فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه وإذا قال فيه كلمة قال فيه أضعافها فهذا كله عدوان وتعد للعدل
وهذا العدوان نوعان عدوان في حق الله وعدوان في حق العبد وعدوان في حق العبد فالعدوان في حق الله كما إذا تعدى ما أباح الله له من الوطء الحلال في الأزواج والمملوكات إلى ما حرم عليه من سواهما كما قال تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وكذلك تعدى ما أبيح له من زوجته وأمته إلى ما حرم عليه منها كوطئها في حيضها أو نفاسها أو في غير موضع الحرث أو في إحرام أحدهما أو صيامه الواجب ونحو ذلك
وكذلك كل من أبيح له منه قدر معين فتعداه إلى أكثر منه فهو من العدوان كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر فتناول الكأس كلها

أو أبيح له نظرة الخطبة والسوم والشهادة والمعاملة والمداواة فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور فتعدى المباح إلى القدر المحظور وحام حول الحمى المحوط المحجور فصار ذا بصر حائر وقلب عن مكانه طائر أرسل طرفه رائدا يأتيه بالخبر فخامر عليه وأقام في تلك الخيام فبعث القلب في آثاره فلم يشعر إلا وهو أسير يحجل في قيوده بين تلك الخيام فما أقلعت لحظات ناظره حتى تشحط بينهن قتيلا وما برحت تنوشه سيوف تلك الجفون حتى جندلته تجديلا هذا خطر العدوان وما أمامه أعظم وأخطر وهذا فوت الحرمان وما حرمه من فوات ثواب من غض طرفه لله عز و جل أجل وأكبر سافر الطرف في مفاوز محاسن المنظور إليه فلم يربح إلا أذى السفر وغرر بنفسه في ركوب تلك البيداء وما عرف أن راكبها على أعظم الخطر يا لها من سفرة لم يبلغ المسافر منها ما نواه ولم يضع فيها عن عاتقه عصاه حتى قطع عليه فيها الطريق وقعد له فيها الرصد على كل نقب ومضيق لا يستطيع الرجوع إلى وطنه والإياب ولا له سبيل إلى المرور والذهاب يرى هجير الهاجرة من بعيد فيظنه برد الشراب حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وتيقن أنه كان مغرورا بلامع السراب تالله ما استوت هذه الذلة وتلك اللذة في القيمة فيشتريها بها العارف الخبير ولا تقاربا في المنفعة فيتحير بينهما البصير ولكن على العيون غشاوة فلا تفرق بين مواطن السلامة ومواضع العثور والقلوب تحت أغطية الغفلات راقدة فوق فرش الغرور فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
ومن أمثلة العدوان تجاوز ما أبيح من الميتة للضرورة إلى ما لم يبح منها إما بأن يشبع وإنما أبيح له سد الرمق على أحد القولين في مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة

وأباح مالك له الشبع والتزود إذا احتاج إليه فإذا استغنى عنها وأكلها واقيا لماله وبخلا عن شراء المذكى ونحوه كان تناولها عدوانا قال تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم قال قتادة والحسن لا يأكلها من غير اضطرار ولا يعدو شبعه وقيل غير باغ غير طالبها وهو يجد غيرها ولا عاد أي لا يتعدى ما حد له منها فيأكل حتى يشبع ولكن سد الرمق وقال مقاتل غير مستحل لها ولا متزود منها
وقيل لا يبغى بتجاوز الحد الذي حد له منها ولا يتعدى بتقصيره عن تناوله حتى يهلك فيكون قد تعدى حد الله بمجاوزته أو التقصير عنه فهذا آثم وهذا آثم وقال مسروق من اضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل ولم يشرب حتى مات دخل النار وهذا أصح القولين في الآية وقال ابن عباس وأصحابه والشافعي غير باغ على السلطان ولا عاد في سفره فلا يكون سفر معصية وبنوا على ذلك أن العاصي بسفره لا يترخص
والقول الأول أصلح لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها إذ الآية لا تعرض فيها للسفر بنفي ولا إثبات ولا للخروج على الإمام ولا هي مختصة بذلك ولا سيقت له وهي عامة في حق المقيم والمسافر والبغي والعدوان فيها يرجعان إلى الأكل المقصود بالنهي لا إلى أمر خارج عنه لا تعلق له بالأكل ولأن نظير هذا قوله تعالى في الآية الأخرى فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فهذا هو الباغي العادي والمتجانف للإثم المائل إلى القدر الحرام من أكلها وهذا هو الشرط الذي لا يباح له بدونه ولأنها إنما أبيحت للضرورة فتقدرت الإباحة بقدرها وأعلمهم أن الزيادة عليها بغي وعدوان وإثم فلا تكون الإباحة للضرورة سببا لحله والله أعلم
والإثم والعدوان هما الإثم والبغي المذكوران في سورة الأعراف مع أن البغي غالب استعماله في حقوق العباد والإستطالة عليهم

وعلى هذا فإذا قرن البغي بالعدوان كان البغي ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والإبتداء بالأذى والعدوان تعدى الحق في استيفائه إلى أكبر منه فيكون البغي والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله
فههنا أربعة أمور حق لله وله حد وحق لعباده وله حد فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما رواءهما أو التقصير عنهما فلا يصل إليهما

فصل وأما الفحشاء والمنكر فالفحشاء صفة لموصوف قد حذف تجريدا لقصد
الصفة وهي الفعلة الفحشاء والخصلة الفحشاء وهي ما ظهر قبحها لكل أحد واستفحشه كل ذي عقل سليم ولهذا فسرت بالزنا واللواط وسماها الله فاحشة لتناهي قبحهما وكذلك القبيح من القول يسمى فحشا وهو ما ظهر قبحه جدا من السب القبيح والقذف ونحوه
وأما المنكر فصفة لموصوف محذوف أيضا أي الفعل المنكر وهو الذي تستنكره العقول والفطر ونسبته إليها كنسبة الرائحة القبيحة إلى حاسة الشم والمنظر القبيح إلى العين والطعم المستكره إلى الذوق والصوت المستنكر إلى الأذن فما اشتد إنكار العقول والفطر له فهو فاحشة كما فحش إنكار الحواس له من هذه المدركات
فالمنكر لها ما لم تعرفه ولم تألفه والقبيح المستكره لها الذي تشتد نفرتها عنه هو الفاحشة ولذلك قال ابن عباس الفاحشة الزنا والمنكر ما لم يعرف في شريعة ولا سنة
فتأمل تفريقه بين ما لم يعرف حسنه ولم يؤلف وبين ما استقر قبحه في الفطر والعقول

وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريما وأعظمها إثما ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان ولا تباح بحال بل لا تكون إلا محرمة وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير الذي يباح في حال دون حال
فإن المحرمات نوعان محرم لذاته لا يباح بحال ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت قال الله تعالى في المحرم لذاته قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال والإثم والبغي بغير الحق ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثما فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به وتغيير دينه وتبديله ونفي ما أثبته وإثبات ما نفاه وتحقيق ما أبطله وإبطال ما حققه وعداوة من والاه وموالاة من عاداه وحب ما أبغضه وبغض ما أحبه ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله
فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثما وهو أصل الشرك والكفر ووعليه أسست البدع والضلالات فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم
ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض وحذروا فتنتهم أشد التحذير وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد وقد أنكر تعالى على من نسب إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه من عنده بلا برهان من الله فقال ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب الآية

فكيف بمن نسب إلى أوصافه سبحانه وتعالى ما لم يصف به نفسه أو نفى عنه منها ما وصف به نفسه
قال بعض السلف ليحذر أحدكم أن يقول أحل الله كذا وحرم الله كذا فيقول الله كذبت لم أحل هذا ولم أحرم هذا
يعني التحليل والتحريم بالرأي المجرد بلا برهان من الله ورسوله
وأصل الشرك والكفر هو القول على الله بلا علم فإن المشرك يزعم أن من اتخذه معبودا من دون الله يقر به إلى الله ويشفع له عنده ويقضى حاجته بواسطته كما تكون الوسائط عند الملوك فكل مشرك قائل على الله بلا علم دون العكس إذ القول على الله بلا علم قد يتضمن التعطيل والإبتداع في دين الله فهو أعم من الشرك والشرك فرد من أفراده
ولهذا كان الكذب على رسول الله موجبا لدخول النار

واتخاذ منزلة منها مبوءا وهو المنزل اللازم لا يفارقه صاحبه لأنه متضمن للقول على الله بلا علم كصريح الكذب عليه لأن ما انضاف إلى الرسول فهو مضاف إلى المرسل والقول على الله بلا علم صريح افتراء الكذب عليه ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا
فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس فلا تتحقق التوبة منه إلا بالتوبة من البدع
وأتى بالتوبة منها لمن لم يعلم أنها بدعة أو يظنها سنة فهو يدعو إليها ويحض عليها فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي تجب عليه التوبة منها إلا بتضلعه من السنة وكثرة اطلاعه عليها ودوام البحث عنها والتفتيش عليها ولا ترى صاحب بدعة كذلك أبدا
فإن السنة بالذات تمحق البدعة ولا تقوم لها وإذا طلعت شمسها في قلب العبد قطعت من قلبه ضباب كل بدعة وأزالت ظلمة كل ضلالة إذ لا سلطان للظلمة مع سلطان الشمس ولا يرى العبد الفرق بين السنة والبدعة ويعينه على الخروج من ظلمتها إلى نور السنة إلا المتابعة والهجرة بقلبه كل وقت إلى الله بالإستعانة والإخلاص وصدق اللجإ إلى الله والهجرة إلى رسوله بالحرص على الوصول إلى أقواله وأعماله وهديه وسنته فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن هاجر إلى غير ذلك فهو حظه ونصيبه في الدنيا والآخرة والله المستعان

فصل ومن أحكام التوبة
أن من تعذر عليه أداء الحق الذي فرط فيه ولم يمكنه تداركه ثم تاب فكيف حكم توبته وهذا يتصور في حق الله سبحانه وحقوق عباده

فأما في حق الله فكمن ترك الصلاة عمدا من غير عذر مع علمه بوجوبها وفرضها ثم تاب وندم فاختلف السلف في هذه المسألة
فقالت طائفة توبته بالندم والإشتغال بأداء الفرائض المستأنفة وقضاء الفرائض المتروكة وهذا قول الأئمة الأربعة وغيرهم
وقالت طائفة توبته باستئناف العمل في المستقبل ولا ينفعه تدارك ما مضى بالقضاء ولا يقبل منه فلا يجب عليه وهذا قول أهل الظاهر وهو مروى عن جماعة من السلف
وحجة الموجبين للقضاء قول النبي من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها
قالوا فإذا وجب القضاء على النائم والناسي مع عدم تفريطهما فوجوبه على العامد والمفرط أولى
قالوا ولأنه كان يجب عليه أمران الصلاة وإيقاعها في وقتها فإذا ترك أحد الأمرين بقي الآخر
قالوا ولأن القضاء إن قلنا يجب عليه بالأمر الأول فظاهر وإن قلنا يجب عليه بأمر جديد فأمر النائم والناسي به تنبيه على العامد كما تقدم
قالوا ولأن مصلحة الفعل إن لم يمكن العبد تداركها تدارك منها ما أمكن
وقد فاتت مصلحة الفعل في الوقت فيتدارك ما أمكن منها وهو الفعل في خارج الوقت
قالوا وقد قال النبي إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وهذا قد استطاع الإتيان بالمأمور خارج الوقت وقد تعذر عليه الإتيان به في وقته فيجب عليه الإتيان بالمستطاع

قالوا وكيف يظن بالشرع أنه يخفف عن هذا المتعمد المفرط العاصي لله ورسوله بترك الوجوب ويوجبه على المعذور بالنوم أو النسيان
قالوا ولأن الصلاة خارج الوقت بدل عن الصلاة في الوقت والعبادة إذا كان لها بدل وتعذر المبدل انتقل المكلف إلى البدل كالتيمم مع الوضوء وصلاة القاعد عند تعذر القيام والمضطجع عند تعذر القعود وإطعام العاجز عن الصيام لكبر أو مرض غير مرجو البرء عن كل يوم مسكينا ونظائر ذلك كثيرة في الشرع
قالوا ولأن الصلاة حق مؤقت فتأخيره عن وقته لا يسقط إلا بمبادرته خارج الوقت كديون الآدميين المؤجلة
قالوا ولأن غايته أنه أثم بالتأخير وهذا لا يسقط القضاء كمن أخر الزكاة عن وقت وجوبها تأخيرا أثم به أو أخر الحج تأخيرا ثم به
قالوا ولو ترك الجمعة حتى صلاها الإمام عمدا عصى بتأخيرها ولزمه أن يصلى الظهر ونسبة الظهر إلى الجمعة كنسبة صلاة الصبح بعد طلوع الشمس إلى صلاتها قبل الطلوع
قالوا وقد أخر النبي صلاة العصر يوم الأحزاب إلى أن صلاها بعد غروب الشمس فدل على أن فعلها ممكن خارج الوقت في العمد سواء كان معذورا به كهذا التأخير وكتأخير من أخرها من الصحابة يوم بنى قريظة إلى بعد غروب الشمس أو لم يكن معذورا به كتأخير المفرط فتأخيرهما إنما تختلف في الإثم وعدمه لا في وجوب التدارك بعد الترك
قالوا ولو كانت الصلاة خارج الوقت لا تصح ولا تجب لما أمر النبي الصحابة يوم بني قريظة بتأخير صلاة العصر إلى أن يصلوها فيهم فأخرها بعضهم حتى صلاها فيهم بالليل فلم يعنفهم ولم يعنف من صلاها في الطريق لاجتهاد الفريقين

قالوا ولأن كل تائب له طريق إلى التوبة فكيف تسد عن هذا طريق التوبة ويجعل إثم التضييع لازما له وطائرا في عنقه فهذا لا يليق بقواعد الشرع وحكمته ورحمته ومراعاته لمصالح العباد في المعاش والمعاد
فهذا أقصى ما يحتج به لهذه المقالة
قال أصحاب القول الآخر العبادة إذا أمر بها على صفة معينة أو في وقت بعينه لم يكن المأمور ممتثلا للأمر إلا إذا أوقعها على الوجه المأمور به من وصفها ووقتها وشرطها فلا يتناولها الأمر بدونه
قالوا وإخراجها عن وقتها كإخراجها عن استقبال القبلة مثلا وكالسجود على الخد بدل الجبهة والبروك على الركبة بدل الركوع ونحوه
قالوا والعبادات التي جعل لها ظرف من الزمان لا تصح إلا فيه كالعبادات التي جعل لها ظرف من المكان فلو أراد نقلها إلى أمكنة أخرى غيرها لم تصح إلا في أمكنتها ولا يقوم مكان مقام مكان آخر كأمكنة المناسك من عرفة ومزدلفة والجمار والسعي بين الصفا والمروة والطواف بالبيت فنقل العبادة إلى أزمنة غير أزمنتها التي جعلت أوقاتا لها شرعا إلى غيرها كنقلها عن أمكنتها التي جعلت لها شرعا إلى غيرها لا فرق بينهما في الإعتداد وعدمه كما لا فرق بينهما في الإثم
قالوا فنقل الصلاة المحدودة الوقت أولا وآخرا عن زمنها إلى زمن آخر كنقل الوقوف بعرفة عن زمنه إلى مزدلفة ونقل أشهر الحج عن زمنها إلى زمن آخر
قالوا فأي فرق بين من نقل صوم رمضان إلى شوال أو صلى العصر نصف الليل وبين من حج في المحرم ووقف فيه فكيف تصح صلاة هذا وصيامه دون حج هذا وكلاهما مخالف لأمر الله تعالى عاص آثم
قالوا فحقوق الله المؤقتة لا يقبلها الله في غير أوقاتها فكما لا تقبل قبل

دخول أوقاتها لا تقبل بعد خروج أوقاتها فلو قال أنا أصوم شوال عن رمضان كان كما لو قال أنا أصوم شعبان الذي قبله عنه
قالوا فإن الحق الليلي لا يقبل بالنهار والنهاري لا يقبل بالليل ولهذا جاء في وصية الصديق لعمر رضي الله عنهما التي تلقاها بالقبول هو وسائر الصحابة واعلم أن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وحقا بالنهار لا يقبله بالليل
قالوا ولأنها إذا فات وقتها المحدود لها شرعا لم تبق تلك العبادة بعينها ولكن شيء آخر غيرها فإذا فعلت العصر بعد غروب الشمس لم تكن عصرا فإن العصر صلاة هذا الوقت المحدود وهذه ليست عصرا فلم يفعل مصليها العصر ألبتة وإنما أتى بأربع ركعات صورتها صورة صلاة العصر لا أنها هي
قالوا وقد ثبت عن النبي أنه قال من ترك صلاة العصر حبط عمله وفي لفظ الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله فلو كان له سبيل إلى التدارك وفعلها صحيحة لم يحبط عمله ولم يوتر أهله وماله مع صحتها منه وقبولها لأن معصية التأخير عندكم لا تحقق الترك والفوات لاستدراكه بالفعل في الوقت الثاني
قالوا وهذه الصلاة مردودة بنص الشارع فلا يسوغ أن يقال بقبولها وصحتها مع تصريحه بردها وإلغائها كما ثبت في الصحيح عنه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وفي لفظ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد وهذا عمل على خلاف أمره فيكون ردا والرد بمعنى المردود كالخلق بمعنى المخلوق والضرب بمعنى المضروب
وإذا ثبت أن هذه الصلاة مردودة فليست بصحيحة ولا مقبولة
قالوا ولأن الوقت شرط في سقوط الإثم وامتثال الأمر فكان شرطا في براءة

الذمة والصحة كسائر شروطها من الطهارة والإستقبال وستر العورة فالأمر تناول الشروط تناولا واحدا فكيف ساغ التفريق بينها مع استوائها في الوجوب والأمر والشرطية
قالوا وليس مع المصححين لها بعد الوقت لا نص ولا إجماع ولا قياس صحيح وسنبطل جميع أقيستهم التي قاسوا عليها ونبين فسادها
قالوا وفي مسند الإمام أحمد وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال من أفطر يوما من رمضان لغير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر فكيف يقال يقضيه عنه يوم مثله
قالوا ولأن صحة العبادة إن فسرت بموافقة الأمر فلا ريب أن هذه العبادة غير موافقة له فلا تكون صحيحة وإن فسرت بسقوط القضاء فإنما يسقط القضاء ما وقع على الوجه المأمور به وهذا لم يقع كذلك ولا سبيل إلى وقوعه على الوجه المأمور به فلا سبيل إلى صحته وإن فسرت بما أبرأ الذمة فهذه لم تبريء الذمة من الإثم قطعا ولم يثبت بدليل يجب المصير إليه إبراؤها للذمة من توجه المطالبة بالمأمور
قالوا ولأن الصحيح من العبادات ما اعتبره الشارع ورضيه وقبله وهذا لا يعلم إلا بإخباره عن صحتها أو بموافقتها أمره وكلاهما منتف عن هذه العبادة فكيف يحكم لها بالصحة
قالوا فالصحة والفساد حكمان شرعيان مرجعهما إلى الشارع فالصحيح ما شهد له بالصحة أو علم أنه وافق أمره أو كان مماثلا لما شهد له بالصحة فيكون حكم المثل مثله وهذه العبادة قد انتفى عنها كل واحد من هذه الأمور
ومن أفسد الإعتبار اعتبارها بالتأخير المعذور به أو المأذون فيه وهو اعتبار

الشيء بضده وقياسه على مخالفه في الحقيقة والشرع وهو من أفسد القياس كما سيأتي
قالوا وأما استدلالكم بقول النبي من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فأوجب القضاء على المعذور فالمفرط أولى فهذه الحجة إلى أن تكون عليكم أقرب منها أن تكون لكم فإن صاحب الشرع شرط في فعلها بعد الوقت أن يكون الترك عن نوم أو نسيان والمعلق على الشرط يعدم عند عدمه فلم يبق معكم إلا مجرد قياس المفرط العاصي المستحق للعقوبة على عذره الله ولم ينسب إلى تفريط ولا معصية كما ثبت عنه في الصحيح ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت التي بعدها وأي قياس في الدنيا أفسد من هذا القياس وأبطل
قالوا وأيضا فهذا لم يؤخر الصلاة عن وقتها بل وقتها المأمور به لمثله حين استيقظ وذكر كما قال النبي من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فإن الله يقول أقم الصلاة لذكري وهذه اللام عند كثير من النحاة اللام الوقتية أي عند ذكري أو في وقت ذكري
قالوا والنبي ما صلى الصبح يوم الوادي بعد طلوع الشمس إلا في وقتها حقيقة
قالوا والأوقات ثلاثة أنواع وقت للقادر المستيقظ الذاكر غير المعذور فهي خمسة ووقت للذاكر المستيقظ المعذور وهي ثلاثة فإن في حقه وقت الظهر والعصر واحد ووقت المغرب والعشاء واحد ووقت الفجر واحد فالأوقات في حق هذا ثلاثة وإذا أخر الظهر إلى أن فعلها فين وقت العصر فإنما صلاها في وقتها

ووقت في حق غير المكلف بنوم أو نسيان فهو غير محدود ألبتة بل الوقت في حقه عند يقظته وذكره لا وقت له إلا ذلك
هذا الذي دلت عليه نصوص الشرع وقواعده وهذا المفرط المضيع خارج عن هذه الأقسام وهو قسم رابع فبأيها تلحقونه
قالوا وقد شرع الله سبحانه قضاء رمضان لمن أفطره لعذر من حيض أو سفر أو مرض ولم يشرعه قط لمن أفطره متعمدا من غير عذر لا بنص ولا بإيماء ولا تنبيه ولا تقتضيه قواعده وإنما غاية ما معكم قياسه على المعذور مع إطراد قواعد الشرع على التفريق بينهما بل قد أخبر الشارع أن صيام الدهر لا يقضيه عن يوم يفطره بلا عذر فضلا عن يوم مثله
قالوا وأما قولكم إنه كان يجب عليه أمران العبادة وإيقاعها في وقتها فإذا ترك أحدهما بقي عليه الآخر فهذا إنما ينفع فيما إذا لم يكن أحد الأمرين مرتبطا بالآخر ارتباط الشرطية كمن أمر بالحج والزكاة فترك أحدهما لم يسقط عنه الآخر أما إذا كان أحدهما شرطا في الآخر وقد تعذر الإتيان بالشرط الذي لم يؤمر بالمشروط إلا به فكيف يقال إنه يؤمر بالآخر بدونه ويصح منه بدون وصفه وشرطه فأين أمره الله بذلك وهل الكلام إلا فيه
قالوا وإن قلنا إنما يجب القضاء بأمر جديد فلا أمر معكم بالقضاء في محل النزاع وقياسه على مواقع الإجماع ممتنع كما بيناه وإن قلنا يجب بالأمر الأول فهذا فيما إذا كان القضاء نافعا ومصلحته كمصلحة الأداء كقضاء المريض والمسافر والحائض للصوم وقضاء المغمى عليه والنائم والناسي أما إذا كان القضاء غير مبريء للذمة ولا هو معذور بتأخير الواجب عن وقته فهذا لم يتناوله الأمر الأول ولا أمر ثان وإنما هو القياس الذي علم افتراق الأصل والفرع فيه في وصف ظاهر التأثير مانع للإلحاق
قالوا وأما قولكم إنه إذا لم يمكن تدارك مصلحة الفعل تدارك منها

ما أمكن فهذا إنما يفيد إذا لم يمكن حصول المصلحة على شرط تزول المصلحة بزواله والتدارك بعد فوات شرطه وخروجه عن الوجه المأمور به ممتنع إلا بأمر آخر من التوبة وتكثير النوافل والحسنات وأما تدارك غير هذا الفعل فكلا ولما
قالوا وأما قوله إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم فقد أبعد النجعة من احتج به فإن هذا إنما يدل على أن المكلف إذا عجز عن جملة المأمور به أتى بما يقدر عليه منه كمن عجز عن القيام في الصلاة أو عن إكمال غسل أعضاء الوضوء أو عن إكمال الفاتحة أو عن تمام الكفاية في الإنفاق الواجب ونحو ذلك أتى بما يقدر عليه ويسقط عنه ما عجز عنه أما من ترك المأمور به حتى خرج وقته عمدا وتفريطا بلا عذر فلا يتناوله الحديث ولو كان الحديث متناولا له لما توعده بإحباط عمله وتشبيهه بمن سلب أهله وماله وبقى بلا أهل ولا مال
قالوا وأما قولكم إنه لا يظن بالشرع تخفيفه عن هذا العامد المفرط بعدم إيجاب القضاء عليه وتكليف المعذور به فكلام بعيد عن التحقيق بين البطلان فإن هذا المعذور إنما فعل ما أمر به في وقته كما تقدم فهو في فعل ما أمر به كغير المعذور الذي صلى في وقته ونحن لم نسقط القضاء عن العامد المفرط تخفيفا عنه بل لأنه غير نافع له ولا مقبول منه ولا مأمور به فلا سبيل له إلى تحصيل مصلحة ما تركه فأين التخفيف عنه
قالوا وأما قولكم إن الصلاة خارج الوقت بدل عن الصلاة في الوقت وإذا تعذر المبدل انتقل إلى بدله فهل هذا إلا مجرد دعوى وهل وقع النزاع

إلا في هذا فما الدليل على أن صلاة هذا المفرط العامد بدل ونحن نطالبكم بالأمر بها أولا وبكونها مقبولة نافعة ثانيا وبكونها بدلا ثالثا ولا سبيل لكم إلى إثبات شيء من ذلك ألبتة
وإنما يعلم كون الشيء بدلا بجعل الشارع له كذلك كشرعه التيمم عند العجز عن استعمال الماء والإطعام عند العجز عن الصيام وبالعكس كما في كفارة اليمين فأين جعل الشرع قضاء هذا المفرط المضيع بدلا عن فعله العبادة في الوقت وهذ ذلك إلا القياس الذي قد تبين فساده
قالوا وأما قياسكم فعلها خارج الوقت على صحة أداء ديون الآدميين بعد وقتها فمن هذا النمط لأن وقت الوجوب في حقه ليس محدود الطرفين كوقت الصلاة فالوجوب في حقه ليس مؤقتا محدودا بل هو على الفور كالزكاة والحج عند من يراه على الفور فلا يتصور فيه إخراج عن وقت محدود هو شرط لفعله
نعم أولى الأوقات به الوقت الأول على الفور وتأخيره عنه لا يوجب كونه قضاء
فإن قيل فما تصنعون بقضاء رمضان فإنه محدود على جهة التوسعة بما بين رمضانين ولا يجوز تأخيره مع القدرة إلى رمضان آخر ومع هذا لو أخره لزمه فعله وإطعام كل يوم مسكينا كما أفتى به الصحابة رضي الله عنهم وهذا دليل على أن العبادة المؤقتة لا يتعذر فعلها بعد خروج وقتها المحدود لها شرعا
قيل قد فرق الشارع بين أيام رمضان وبين أيام القضاء فجعل أيام رمضان محدودة الطرفين لا يجوز تقدمها ولا تأخرها وأطلق أيام قضائه فقال سبحانه كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر فأطلق العدة ولم يوقتها وهذا يدل على أنها تجزيء في أي أيام كانت ولم يجيء نص عن الله ولا عن رسوله ولا إجماع على تقييدها بأيام لا تجزيء في غيرها

وليس في الباب إلا حديث عائشة رضي الله عنها كان يكون على الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان من الشغل برسول الله ومعلوم أن هذا ليس صريحا في التوقيت بما بين الرمضانين كتوقيت أيام رمضان بما بين الهلالين فاعتبار أحدهما بالآخر ممتنع وجمع بين ما فرق الله بينهما فإنه جعل أيام رمضان محدودة بحد لا تتقدم عنه ولا تتأخر وأطلق أيام القضاء وأكد إطلاقها بقوله أخر وأفتى من أفتى من الصحابة بالإطعام لمن أخرها إلى رمضان آخر جبرا لزيادة التأخير عن المدة التي بين الرمضانين ولا تخرج بذلك عن كونها قضاء بل هي قضاء وإن فعلت بعد رمضان آخر فحكمها في القضاء قبل رمضان وبعده واحد بخلاف أيام رمضان
يوضح هذا انه لو أفطر يوما من أيام رمضان عمدا بغير عذر لم يتمكن أن يقيم مقامه يوما آخر مثله ألبتة ولو أفطر يوما من أيام القضاء قام اليوم الذي بعد مقامه
وسر الفرق أن المعذور لم يتعين في حقه أيام القضاء بل هو مخير فيها وأي يوم صامه قام مقام الآخر وأما غير المعذور فأيام الوجوب متعينة في حقه لا يقوم غيرها مقامها
قالوا وأما من ترك الجمعة عمدا فإنما أوجبنا عليه الظهر لأن الواجب في هذا الوقت أحد الصلاتين ولا بد إما الجمعة وإما الظهر فإذا ترك الجمعة فوقت الظهر قائم وهو مخاطب بوظيفة الوقت

قالوا ولا سيما عند من يجعل الجمعة بدلا من الظهر فإنه إذا فاته البدل رجع إلى الأصل وهذا إن كان القضاء ثابتا بالإجماع أو بالنص وإن كان فيه خلاف أجبنا بالجواب المركب
فنقول إن كان ترك الجمعة مساويا لترك الصلاة حتى يخرج وقتها فالحكم في الصورتين واحد ولا فرق حينئذ عملا بما ذكرنا من الدليل وإن كان بينهما فرق مؤثر بطل الإلحاق فامتنع القياس فعلى التقديرين بطل القياس
قالوا وأما تأخير النبي صلاة العصر يوم الأحزاب إلى غروب الشمس فللناس في هذا التأخير هل هو منسوخ أم لا قولان
فقال الجمهور كأحمد والشافعي ومالك هذا كان قبل نزول صلاة الخوف ثم نسخ بصلاة الخوف وكان ذلك التأخير كتأخير صلاة الجمع بين الصلاتين فلا يجوز اعتبار الترك المحرم به ويكون الفرق بينهما كالفرق بين تأخير النائم والناسي وتأخير المفرط بل أولى فإن هذا التأخير حينئذ مأمور به فهو كتأخير المغرب ليلة جمع إلى مزدلفة
القول الثاني أنه ليس بمنسوخ بل هو باق وللمقاتل تأخير الصلاة حال القتال واشتغاله بالحرب والمسايفة وفعلها عند تمكنه منها وهذا قول أبي حنيفة ويذكر رواية عن أحمد
وعلى التقديرين فلا يصح إلحاق تأخير العامد المفرط به وكذلك تأخير الصحابة العصر يوم بني قريظة فإنه كان تأخيرا مأمورا به عند طائفة من أهل العلم كأهل الظاله أو تأخيرا سائغا للتأويل عند بعضهم ولهذا لم يعنف النبي من صلاها في الطريق في وقتها ولا من أخرها إلى الليل حتى صلاها في بني قريظة لأن هؤلاء تمسكوا بظاهر الأمر وأولئك نظروا إلى المعنى والمراد منهم وهو سرعة السير
واختلف علماء الإسلام في تصويب أي الطائفتين

فقالت طائفة لو كنا مع القوم لصلينا في الطريق مع الذين فهموا المراد وعقلوا مقصود الأمر فجمعوا بين إيقاع الصلاة في وقتها وبين المبادرة إلى العدول ولم يفتهم مشهدهم إذ المقدار الذي سبقهم به أولئك لحقوهم به لما اشتغلوا بالصلاة وقت النزول في بني قريظة
قالوا فهؤلاء أفقه الطائفتين جمعوا بين الامتثال والاجتهاد والمبادرة إلى الجهاد مع فقه النفس
وقالت طائفة لو كنا معهم لأخرنا الصلاة مع الذين أخروها إلى بني قريظة فهم الذين أصابوا حكم الله قطعا وكان هذا التأخير واجبا لأمر رسول الله به فهو الطاعة لله ذلك اليوم خاصة والله يأمر بما يشاء فأمره بالتأخير في وجوب الطاعة كأمره بالتقديم فهؤلاء كانوا أسعد بالنص وهم الذين فازا بالأجرين وإنما لم يعنف الآخرين لأجل التأويل والاجتهاد فإنهم إنما قصدوا طاعة الله ورسوله وهم أهل الأجر الواحد وهم كالحاكم الذي يجتهد فيخطىء الحق
والمقصود أن إلحاق المفرط العاصي بالتأخير بهؤلاء في غاية الفساد
قالوا وأما قولكم هذا تائب نادم فكيف تسد عليه طريق التوبة ويجعل إثم التضييع لازما له وطائرا في عنقه فمعاذ الله أن نسد عليه بابا فتحه الله لعباده المذنبين كلهم ولم يغله عن أحد إلى حين موته أو إلى وقت طلوع الشمس من مغربها وإنما الشأن في طريق توبته وتحقيقها هل يتعين لها القضاء أم يستأنف العمل ويصير ما مضى لا له ولا عليه ويكون حكمه حكم الكافر إذا أسلم في استئناف العمل وقوبل التوبة فإن ترك فريضة من فراض الإسلام لا يزيد على ترك الإسلام بجملته وفرائضه فإذا كانت توبة تارك الإسلام مقبولة صحيحة لا يشترط في صحتها إعادة ما فاته في حال إسلامه أصليا كان أو مرتدا كما أجمع عليه الصحابة في ترك أمر المرتدين لما رجعوا إلى الإسلام بالقضاء فقبول توبة تارك الصلاة وعدم توقفها على القضاء أولى والله أعلم

فصل وأما في حقوق العباد فيتصور في مسائل إحداها من غصب أموالا
ثم تاب وتعذر عليه ردها إلى أصحابها أو إلى ورثتهم لجهله بهم أو لانقراضهم أو لغير ذلك فاختلف في توبة مثل هذا
فقالت طائفة لا توبة له إلا بأداء هذه المظالم إلى أربابها فإذا كان ذلك قد تعذر عليه فقد تعذرت عليه التوبة والقصاص أمامه يوم القيامة بالحسنات والسيئات ليس إلا
قالوا فإن هذا حق للآدمي لم يصل إليه والله سبحانه لا يترك من حقوق عباده شيئا بل يستوفيها لبعضهم من بعض ولا يجاوزه ظلم ظالم فلا بد أن يأخذ للمظلوم حقه من ظالمه ولو لطمة ولو كلمة ولو رمية بحجر
قالوا وأقرب ما لهذا في تدارك الفارط منه أن يكثر من الحسنات ليتمكن من الوفاء منها يوم لا يكون الوفاء بدينار ولا بدرهم فيتجر تجارة يمكنه الوفاء منها ومن أنفع ما له الصبر على ظلم غيره له وأذاه وغيبته وقذفه فلا يستوفى حقه في الدنيا ولا يقابله ليحيل خصمه عليه إذا أفلس من حسناته فإنه كما يؤخذ منه ما عليه يستوفى أيضا ماله وقد يتساويان وقد يزيد أحدهما عن الآخر
ثم اختلف هؤلاء في حكم ما بيده من الأموال
فقالت طائفة يوقف أمرها ولا يتصرف فيها ألبتة
وقالت طائفة يدفعها إلى الإمام أو نائبه لأنه وكل أربابها فيحفظها لهم ويكون حكمها حكم الأموال الضائعة
وقالت طائفة أخرى بل بال التوبة مفتوح لهذا ولم يغلقه الله عنه ولا عن مذنب وتوبته أن يتصدق بتلك الأموال عن أربابها فإذا كان يوم استيفاء الحقوق كان هلم الخيار بين أن يجيزا ما فعل وتكون أجورها لهم وبين أن لا يجيزوا ويأخذوا من حسناته بقدر أموالهم ويكون ثواب تلك الصدقة

له إذ لا يبطل الله سبحانه ثوابها ولا يجمع لأربابها بين العوض والمعوض فيغرمه إياها ويجعل أجرها لهم وقد غرم من حسناته بقدرها
وهذا مذهب جماعة من الصحابة كما هو مروى عن ابن مسعود ومعاوية وحجاج بن الشاعر فقد روى أن ابن مسعود اشترى من رجل جارية ودخل يزن له الثمن فذهب رب الجارية فانتظره حتى يئس من عوده فتصدق بالثمن وقال اللهم هذا عن رب الجارية فإن رضى فالأجر له وإن أبى فالأجر لي وله من حسناتي بقدره وغل رجل من الغنيمة ثم تاب فجاء بما غله إلى أمي الجيش فأبى أن يقبله منه وقال كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا فأتى حجاج بن الشاعر فقال يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم فإن الله يوصل ذلك إليهم أو كما قال ففعل فلما أخبر معاوية قال لأن أكون أفيتتك بذلك أحب إلي من نصف ملكي
قالوا وكذلك اللقطة إذا لم يجد ربها بعد تعريفها ولم يرد أن يتملكها تصدق بها عنه فإن ظهر مالكها خيره بين الأجر والضمان
قالوا وهذا لأن المجهول في الشرع كالمعدوم فإذا جهل الملك صار بمنزلة المعدوم وهذا مال لم يعلم له مالك معين ولا سبيل إلى تعطيل الانتفاع به لما فيه من المفسدة والضرر بمالكه وبالفقراء وبمن هو في يده أما المالك فلعدم وصول نفعه إليه وكذلك الفقراء وأما من هو في يده فلعدم تمكنه من الخلاص من إثمه فيغرمه يوم القيامة من غير انتفاع به ومثل هذا لا تبيحه شريعة فضلا عن أن تأمر به وتوجبه فإن الشرائع مبناها على المصالح بحسب الإمكان وتكميلها وتعطيل المفاسد بحسب الإمكان وتقيلها وتعطيل هذا المال ووقفه ومنعه عن الانتفاع به مفسدة محضة لا مصلحة فيها فلا يصار إليه
قالوا وقداستقرت قواعد الشرع على أن الإذن العرفي كاللفظي فمن رأى

رأى بمال غيره موتا وهو مما يمكن استدراكه بذبحه فذبحه إحسانا إلى مالكه ونصحا له فهو مأذون له فيه عرفا وإن كان المالك سفيها فإذا ذبحه لمصلحة مالكه لم يضمنه لأنه محسن و ما على المحسنين من سبيل وكذلك إذا غصبه ظالم أو خاف عليه منه فصالحه عليه ببعضه ليس الباقي لمالكه وهو غائب عنه أو رآه آيلا إلى تلف محض فباعه وحفظ ثمنه له ونحو ذلك فإن هذا كله مأذون فيه عرفا من المالك وقد باع عروة بن الجعد البارقي وكيل النبي ملك النبي بغير إذنه لفظا واشترى له ببعض ثمنه مثل ما وكله في شرائه بذلك الثمن كله ثم جاءه بالثمن وبالمشترى فقبله النبي ودعا له
وأشكل هذا على بعض الفقهاء وبناه على تصرف الفضولي فأورد عليه أن الفضولي لا يقبض ولا يقبض وهذا قبض وأقبض
وبناه آخرون على أنه كان وكيلا مطلقا في كل شيء وهذا أفسد من الأول فإنه لا يعرف عن رسول الله أنه وكل أحدا وكالة مطلقة ألبتة ولا نقل ذلك عنه مسلم
والصواب أنه مبني على هذه القاعدة أن الإذن العرفي كالإذن اللفظي ومن رضي بالمشتري وخرج ثمنه عن مكله فهو بأن يرضى به ويحصل له الثمن أشد رضى
ونظير هذا مريض عجز أصحابه في السفر أو الحضر عن استئذانه في إخراج شيء من ماله في علاجه وخيف عليه فإنهم يخرجون من ماله ما هو مضطر إليه بدون استئذانه بناء على العرف في ذلك ونظائر ذلك مما مصلحته وحسنه مستقر في فطر الخلق ولا تأتي شريعة بتحريمه كثير
وإذا ثبت ذلك فمن المعلوم أن صاحب هذا المال الذي قد حيل بينه وبينه أشد شيء رضى بوصول نفعه الآخروي إليه وهو أكره شيء لتعطيله أو إبقائه

مقطوعا عن الإنتفاع به دنيا وأخرى وإذا وصل إليه ثواب ماله سره ذلك أعظم من سروره بوصوله إليه في الدنيا فكيف يقال مصلحة تعطيل هذا المال عن انتفاع الميت والمساكين به ومن هو بيده أرجح من مصلحة إنفاقه شرعا بل أي مصلحة دينية أو دنيوبة في هذا التعطيل وهل هو إلا محض المفسدة
ولقد سئل شيخنا أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه سأله شيخ فقال هربت من أستاذي وأنا صغير إلى الآن لم أطلع له على خبر وأنا مملوك وقد خفت من الله عز و جل وأريد براءة ذمتي من حق أستاذي من رقبتي وقد سألت جماعة من المفتين فقالوا لي اذهب فاقعد في المستودع فضحك شيخنا وقال تصدق بقيمتك أعلى ما كانت عن سيدك ولا حاجة لك بالمستودع تقعد فيه عبثا في غير مصلحة وإضرارا بك وتعطيلا عن مصالحك ولا مصلحة لأستاذك في هذا ولا لك ولا للمسلمين أو نحو هذا من الكلام والله أعلم

فصل المسألة الثانية إذا عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العوض
كالزانية والمغنى وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم ثم تاب والعوض بيده
فقالت طائفة يرده إلى مالكه إذ هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح
وقالت طائفة بل توبته بالتصدق به ولا يدفعه إلى من أخذه منه وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أصوب القولين فإن قابضه إنما قبضه ببذل مالكه له ورضاه ببذله وقد استوفى عوضه المحرم فكيف يجمع له بين العوض والمعوض وكيف يرد عليه مالا قد استعان به على معاصي الله ورضى

بإخارجه فيما يستعين به عليها ثانيا وثالثا وهل هذا إلا محض إعانته على الإثم والعدوان وهل يناسب هذا محاسن الشرع أن يقضى للزاني بكل ما دفعه إلى من زنى بها ويؤخذ منها ذلك طوعا أو كرها فيعطاه وقد نال عوضه
وهب أن هذا المال لم يملكه الآخذ فملك صاحبه قد زال عنه بإعطائه لمن أخذه وقد سلم له ما في قبالته من النفع فكيف يقال ملكه باق عليه ويجب رده إليه وهذا بخلاف أمره بالصدقة به فإنه قد أخذه من وجه خبيث برضى صاحبه وبذله له بذلك وصاحبه قد رضى بإخراجه عن ملكه بذلك وأن لا يعود إليه فكان أحق الوجوه به صرفه في المصلحة التي ينتفع بها من قبضه ويخفف عنه الإثم ولا يقوى الفاجر به ويعان ويجمع له بين الأمرين
وهكذا توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدر الحرام ويطيب باقي ماله والله أعلم

فصل إذا غصب مالا ومات ربه وتعذر رده عليه تعين عليه رده إلى وارثه
فإن مات الوارث رده إلى وارثه وهلم جرا فإن لم يرده إلى ربه ولا إلى أحد ورثته فهل تكون المطالبة به في الآخرة للموروث إذ هو ربه الأصلي وقد غصبه عليه أو للوارث الأخير إذ الحق فد انتقل إليه
فيه قولان للفقهاء وهم وجهان في مذهب الشافعي
ويحتمل أن يقال المطالبة للموروث ولكل واحدة من الورثة إذ كل منهم قد كان يستحقه ويجب عليه الدفع إليه فقد ظلمه بترك إعطائه ما وجب عليه دفعه إليه فيتوجه عليه المطالبة في الآخرة له
فإن قيل فكيف يتخلص بالتوبة من حقوق هؤلاء
قيل طريق التوبة أن يتصدق عنهم بمال تجري منافع ثوابه عليهم بقدر

ما فات كل واحد منهم من منفعة ذلك المال لو صار إليه متحريا للممكن من ذلك وهكذا لو تطاولت على المال سنون وقد كان يمكن ربه أن ينميه بالربح فتوبته بأن يخرج المال ومقدار ما فوته من ربح ماله
فإن كان قد ربح فيه بنفسه فقيل الربح كله للمالك وهو قول الشافعي وظاهر مذهب أحمد رحمهما الله
وقيل كله للغاصب وهو مذهب أبي حنيفة ومالك رحمهما الله
وكذلك لو أودعه مالا فاتجر به وربح فربحه له دون مالكه عندهما وضمانه عليه
وفيها قول ثالث أنهما شريكان في الربح وهو رواية عن أحمد رحمه الله واختيار شيخنا رحمه الله وهو أصح الأقوال فتضم حصة المالك من الربح إلى أصل المال ويتصدق بذلك
وهكذا لو غصب ناقة أو شاة فنتجت أولادا فقيل أولاده كلها للمالك فإن ماتت أو شيء من النتاج رد أولادها وقيمة الأم وما مات من النتاج هذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عند أصحابه
وقال مالك إذا ماتت فربها بالخيار بين أخذ قيمتها يوم ماتت وترك نتاجها للغاصب وبين أخذ نتاجها وترك قيمتها وعلى القول الثالث الراجح يكون عليه قيمتها وله نصف النتاج والله أعلم

فصل اختلف الناس هل من الذنوب ذنب لا تقبل توبته أم لا
فقال الجمهور التوبة تأتي على كل ذنب فكل ذنب يمكن التوبة منه وتقبل
وقالت طائفة لا توبة للقاتل وهذا مذهب ابن عباس المعروف عنه

وإحدى الروايتين عن أحمد وقد ناظر ابن عباس في ذلك أصحابه فقالوا أليس قد قال الله تعالى في سورة الفرقان ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى أن قال إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما فقال كانت هذه الآية في الجاهلية وذلك أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأتوا رسول الله فقالوا إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزل والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية فهذه في أولئك وأما التي في سورة النساء وهي قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاب عظيما فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم وقال زيد بن ثابت لما نزلت التي في الفرقان والذين لا يدعون مع الله إلها آخر عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء وباللينة آية الفرقان قال ابن عباس آية الفرقان مكية وآية النساء مدنية نزلت ولم ينسخها شيء
قال هؤلاء ولأن التوبة من قتل المؤمن عمدا متعذرة إذ لا سبيل إليها إلا باستحلاله أو إعادة نفسه التي فوتها عليه إلى جسده إذ التوبة من حق الآدمي لا تصح إلا بأحدهما وكلاهما متعذر على القاتل فكيف تصح توبته من حق آدمي لم يصل إليه ولم يستحله منه
ولا يرد عليهم هذا في المال إذا مات ربه ولم يوفه إياه لأنه يتمكن من إيصال نظيره إليه بالصدقة
قالوا ولا يرد علينا أن الشرك أعظم من القتل وتصح التوبة منه فإن ذلك محض حق الله فالتوبة منه ممكنة وأما حق الآدمي فالتوبة موقوفة على أدائه إليه واستحلاله وقد تعذر

واحتج الجمهور بقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم فهذه في حق التائب وبقوله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فهذه في حق غير التائب لأنه فرق بين الشرك وما دونه وعلق المغفرة بالمشيئة فخصص وعلق وفي التي قبلها عمم وأطلق
واحتجوا بقوله تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى فإذا تاب هذا القاتل وآمن وعمل صالحا فإن الله عز و جل غفار له
قالوا وقد صح عن النبي حديث الذي قتل المائة ثم تاب فنفعته توبته وألحق بالقرية الصالحة التي خرج إليها وصح عنه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله قال وحوله عصابة من أصحابه بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك
قالوا وقد قال فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة وقال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وقال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وقال إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله وفي حديث الشفاعة أخرجوا من النار من في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان وفيه يقول الله تعالى وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله وأضعاف هذه النصوص كثير تدل على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد

قالوا وأما هذه الآية التي في النساء فهي نظائر أمثالها من نصوص الوعيد كقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين وقوله ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدا فيها وقوله إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا وقوله من قتل نفسه بحديدة فحديدته يتوجأبها خالدا مخلدا في نار جهنم ونظائره كثيرة
وقد اختلف الناس في هذه النصوص على طرق
أحدها القول بظاهرها وتخلد أرباب هذه الجرائم في النار وهو قول الخوارج والمعتزلة ثم اختلفوا
فقالت الخوارج هم كفار لأنه لا يخلد في النار إلا كافر وقالت المعتزلة ليسوا بكفار بل فساق مخلدون في النار هذا كله إذا لم يتوبوا
وقالت فرقة بل هذا الوعيد في حق المستحل لها لأنه كافر وأما من فعلها معتقدا تحريمها فلا يلحقه هذا الوعيد وعيدالخلود وإن لحقه وعيد الدخول
وقد أنكر الإمام أحمد هذا القول وقال لو استحل ذلك ولم يفعله كان كافرا والنبي إنما قال من فعل كذا وكذا
وقالت فرقة ثالثة الاستدلال بهذه النصوص مبني على ثبوت العموم وليس في اللغة ألفاظ عامة ومن ههنا أنكر العموم من أنكره وقصدهم تعطيل هذه الأدلة عن استدلال المعتزلة والخوارج بها لكن ذلك يستلزم تعطيل الشرع جملة بل تعطيل عامة الأخبار فهؤلاء ردوا باطلا بأبطل منه وبدعة بأقبح منها وكانوا كمن رام أن يبني قصرا فهم مصرا
وقالت فرقة رابعة في الكلام إضمار
قالوا والإضمار في كلامهم كثير معروف

ثم اختلفوا في هذا المضمر فقالت طائفة بإضمار الشرط والتقدير فجزاؤه كذا إن جازاه أو إن شاء
وقالت فرقة خامسة بإضمار الإستثناء والتقدير فجزاؤه كذا إلا أن يعفو وهذه دعوى لا دليل في الكلام عليها ألبتة ولكن إثباتها بأمر خارج عن اللفظ
وقالت فرقة سادسة هذا وعيد وإخلاف الوعيد لا يذم بل يمدح والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيد ولا يجوز عليه خلف الوعد والفرق بينهما أن الوعيد حقه فإخلافه عفو وهبة وإسقاط وذلك موجب كرمه وجوده وإحسانه والوعد حق عليه أوجبه على نفسه والله لا يخلف الميعاد
قالوا ولهذا مدح به كعب بن زهير رسول الله حيث يقول
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
وتناظر في هذه المسألة أبو عمرو بن العلاء وعمرو بن عبيد فقال عمرو بن عبيد يا أبا عمرو لا يخلف الله وعده وقد قال ومن يقتل مؤمنا متعمدا الآية فقال له أبو عمرو ويحك يا عمرو من العجمة أتيت إن العرب لا تعد إخلاف الوعيد ذما بل جودا وكرما أما سمعت قول الشاعر
ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... ولا يختشى من سطوة المتهدد
وإني إن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقالت فرقة سابعة هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضى للعقوبة ولا يلزم من وجود مقتضى الحكم وجوده فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه وانتفاء مانعه وغاية هذه النصوص الإعلام بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها وقد قام الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالإجماع وبعضها بالنص فالتوبة مانع بالإجماع والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها والحسنات العظيمة الماحية مانعة والمصائب الكبار المكفرة مانعة وإقامة الحدود في

الدنيا مانع بالنص ولا سبيل إلى تعطي لهذه النصوص فلا بد من إعمال النصوص من الجانبين
ومن ههنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات اعتبارا بمقتضى العقاب ومانعه وإعمالا لأرجحها
قالوا وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما وعلى هذا بناء الأحكام الشرعية والأحكام القدرية وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود وبه ارتباط الأسباب ومسبباتها خلقا وأمرا وقد جعل الله سبحانه لكل ضد ضدا يدافعه ويقاومه ويكون الحكم للأغلب منهما فالقوة مقتضية للصحة والعافية وفساد الأخلاط وبغيها مانع من عمل الطبيعة وفعل القوة والحكم للغالب منهما وكذلك قوى الأدوية والأمراض والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطي وأحدهما يمنع كمال تأثير الآخر ويقاومه فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له
ومن ههنا يعلم انقسام الخلق إلى من يدخل الجنة ولا يدخل النار وعكسه ومن يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه
ومن له بصيرة نورة يرى بها كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله حتى كأنه يشاهده رأى عين ويعلم أن هذا هو مقتضى إلهيته سبحانه وربوبيته وعزته وحكمته وأنه يستحيل عليه خلاف ذلك ونسبة خلاف ذلك إليه نسبة مالا يليق به إليه فيكون نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره وهذا يقين الإيمان وهو الذي يحرق السيئات كما تحرق النار الحطب
وصاحب هذا المقام من الإيمان يستحيل إصراره على السيئات وإن وقعت

منه وكثرت فإن ما معه من نور الإيمان يأمره بتجديد التوبة كل وقت بالرجوع إلى الله بعدد أنفاسه وهذا من أحب الخلق إلى الله
فهذه مجامع طرق الناس في نصوص الوعيد

فصل واختلفوا فيما إذا تاب القاتل وسلم نفسه فقتل قصاصا هل يبقى
عليه يوم القيامة للمقتول حق
فقالت طائفة لا يبقى عليه شيء لأن القصاص حده والحدود كفارة لأهلها وقد استوفى ورثة المتقول حق موروثهم وهم قائمون مقامه في ذلك فكأنه قد استوفاه بنفسه إذ لا فرق بين استيفاء الرجل حقه بنفسه أو بنائبه ووكيله
يوضح هذا أنه أحد الجنايتين فإذا استوفيت منه لم يبق عليه شيء كما لو جنى على طرفه فاستقاد منه فإنه لا يبقى له عليه شيء
وقالت طائفة المقتول قد ظلم وفاتت عليه نفسه ولم يستدرك ظلامته والوارث إنما أدرك ثأر نفسه وشفاء غيظه وأي منفعة حصلت للمقتول بذلك رأى ظلامة استوفاها من القاتل
قالوا فالحقوق في القتل ثلاثة حق لله وحق للمقتول وحق للوارث فحق الله لا يزول إلا بالتوبة وحق الوارث قد استوفاه بالقتل وهو مخير بين ثلاثة أشياء بين القصاص والعفو مجانا أو إلى مال فلو أحله أو أخذ منه مالا لم يسقط حق المقتول بذلك فكذلك إذا اقتص منه لأنه أحد الطرق الثلاثة في استيفاء حقه فكيف يسقط حق المقتول بواحد منها دون الآخرين
قالوا ولو قال القتيل لا تقتلوه لأطالبه بحقي يوم القيامة فقتلوه أكان يسقط حقه ولم يسقطه فإن قلتم يسقط فباطل لأنه لم يرض بإسقاطه وإن قلتم لا يسقط فكيف تسقطونه إذا اقتص منه مع عدم العلم برضا المقتول بإسقاط حقه

وهذه حجج كما ترى في القوة لا تندفع إلا بأقوى منها أو بأمثالها
فالصواب والله أعلم أن يقال إذا تاب القاتل من حق الله وسلم نفسه طوعا إلى الوارث ليستوفى منه حق موروثه سقط عنه الحقان وبقي حق الموروث لا يضيعه الله ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويض المقتول لأن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله والتوبة النصوح تهدم ما قبلها فيعوض هذا عن مظلمته ولا يعاقب هذا لكمال توبته وصار هذا كالكافر المحارب لله ولرسوله إذا قتل مسلما في الصف ثم أسلم وحسن إسلامه فإن الله سبحانه يعوض هذا الشهيد المقتول ويغفر للكافر بإسلامه ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلما فإن هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله
وعلى هذا إذا سلم نفسه وانقاد فعفا عنه الولي وتاب القاتل توبة نصوحا فالله تعالى يقبل توبته ويعوض المقتول
فهذا الذي يمكن أن يصل إليه نظر العالم واجتهاده والحكم بعد ذلك لله إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم

فصل في مشاهد الخلق في المعصية
وهي ثلاثة عشر مشهدا
مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة ومشهد اقتضاء رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة ومشهد الجبر ومشهد القدر ومشهد الحكمة ومشهد التوفيق والخذلان ومشهد التوحيد ومشهد الأسماء والصفات ومشهد الإيمان وتعدد شواهده ومشهد الرحمة ومشهد العجز والضعف ومشهد الذل والافتقار ومشهد المحبة والعبودية
فالأربعة الأول للمنحرفين والثمانية البواقي لأهل الاستقامة وأعلاها المشهد العاشر

وهذا الفصل من أجل فصول الكتاب وأنفعها لكل أحد وهو حقيق بأن تثنى عليه الخناصر ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى سفر الهجرتين في طريق السعادتين

فصل فأما مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة فمشهد الجهال الذين لا فرق
بينهم وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية فضلا عن درجة الملائكة فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفلوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها
فمنهم من نفسه كلبية لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب ونبح كل كلب يدنو منها فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة ولا يسمح لكلب بشيء منها وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق ميتة أو مذكى خبيث أو طيب ولا يستحى من قبيح إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك وإن منعته هرك ونبحك
ومنهم من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكدر والعلف كلما زيد في علفه زيد في كده أبكم الحيوان وأقله بصيرة ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله كتابه فلم يحمله معرفة ولا فقها ولا عملا ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه وفي هذين المثلين أسرار عظيمة ليس هذا موضوع ذكرها

ومنهم من نفسه سبعية غضبية همته العدوان على الناس وقهرهم بما وصلت إليه قدرته طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه
ومنهم من نفسه فأرية فاسق بطبعه مفسد لما جاروه تسبيحه بلسان الحال سبحان من خلقه للفساد
ومنهم من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات كالحية والعقرب وغيرهما وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر والجمل القدر والعين وحدها لم تفعل شيئا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب وقابلت المعين على غرة منه وغفلة وهو أعزل من سلاحه فلدغته كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه فإما عطب وإما أذى ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة بل إذا وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته عن حمل سلاحه كل وقت فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح كالحية إذا قابلت درعا سابغا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف فحق على من أراد حفظ نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرعا متحصنا لابسا أداة الحرب مواظبا على أوراد التعوذات والتحصينات النبوية التي في القرآن والتي في السنة
وإذا عرف الرجل بالأذى بالعين ساغ بل وجب حبسه وإفراده عن الناس ويطعم ويسقي حتى يموت ذكر ذلك غير واحد من الفقهاء ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف لأن هذا من نصيحة المسلمين ودفع الأذى عنهم ولو قيل فيه غير ذلك لم يكن بعيدا من أصول الشرع

فإن قيل فهل تقيدون منه فإذا قتل بعينه
قيل إن كان ذلك بغير اختياره بل غلب على نفسه لم يقتص منه وعليه الدية وإن تعمد وقدر على رده وعلم أنه يقتل به ساغ للولي أن يقتله بمثل ما قتل به فيعينه إن شاء كما عان هو المقتول وأما قتله بالسيف قصاصا فلا لأن هذا ليس مما يقتل غالبا ولا هو مماثل لجنايته
وسألت شيخنا أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن القتل بالحال هل يوجب القصاص
فقال للولي أن يقتله بالحال كما قتل به
فإن قيل فما الفرق بين القتل بهذا وبين القتل بالسحر حيث توجبون القصاص به بالسيف
قلنا الفرق من وجهين
أحدهما أن السحر الذي يقتل به هو السحر الذي يقتل مثله غالبا ولا ريب أن هذا كثير في السحر وفيه مقالات وأبواب معروفة للقتل عند أربابه
الثاني أنه لا يمكن أن يقتص منه بمثل ما فعل لكونه محرما لحق الله فهو كما لو قتله باللواط وتجريع الخمر فإنه يقتص منه بالسيف
وليس هذا موضع ذكر هذه المسائل وإنما ذكرت لما ذكرنا أن من النفوس البشرية ما هي على نفوس الحيوانات العادية وغيرها وهذا هو تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء
وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام عند الإناسن وفي داره أو أنها تحاريه وهو كما اعتمدوه وقد وقع لنا ولغيرنا من ذلك في المنام وقائع كثيرة فكان تأويلها مطابقا لأقوام على طباع تلك

الحيوانات وقد رأى النبي في قصة أحد بقرا تنحر فكان من أصيب من المؤمنين بنحر الكفار فإن البقر أنفع الحيوانات للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما فيها من السكينة والمنافع والذل بكسر الذال فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية والجواميس كبارهم ورؤساؤهم ورأى عمر بن الخطاب كأن ديكا نقره ثلاث نقرات فكان طعن أبي لؤلؤة له والديك رجل أعجمي شرير
ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوى عليها فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوىء فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله
ومنهم من هو على طبيعة الطاوس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش وليس وراء ذلك من شيء
ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان وأغلظه كبدا
ومنهم من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث وعلى طبيعة القرد
وأحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسا وأكرمها طبعا وكذلك الغنم وكل من ألف ضربا من ضورب هذه الحيوانت اكتسب من طبعه وخلقه فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى فإن الغاذي شبيه بالمغتذى
ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما تورث آكلها من شبه نفوسها بها والله أعلم
والمقصود أنأصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى ميل نفوسهم وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك ألبتة

فصل المشهد الثاني
مشهد رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة كمشهد زنادقة الفلاسفة والأطباء الذين يشهدون أن ذلك من لوازم الخلقة الإنسانية وأن تركيب الإنسان من الطبائع الأربع وامتزاجها واختلاطها كما يقتضى بغي بعضها على بعض وخروجه عن الاعتدال بحسب اختلاف هذه الاخلاط فكذلك تركيبه من البدن والنفس والطبيعة والأخلاط الحيوانية تتقاضاه آثار هذه الخلقة ورسوم تلك الطبيعة ولا تنقهر إلا بقاهر إما من نفسه وإما من خارج عنه وأكثر النوع الإنساني ليس له قاهر من نفسه فاحتياجه إلى قاهر فوقه يدخله تحت سياسة وإيالة ينتظم بها أمره ضرورة كحاجته إلى مصاحله من الطعام والشراب واللباس
وعند هؤلاء أن العاقل متى كان له وازع من نفسه قاهر لم يحتج إلى أمر غيره ونهيه وضبطه
فمشهد هؤلاء من حركات النفس الاختيارية الموجبة للجنايات كمشهدهم من حركات الطبيعة الاضطرارية الموجبة للتغيرات وليس لهم مشهد وراء ذلك
فصل المشهد الثالث
مشهد أصحاب الجبر وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم وأنها واقعة بغير قدرتهم بل لا يشهدون أنها أفعالهم ألبتة
يقولون إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا قادر وأن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه وأنه آلة محضة وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار
وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر وحملوا ذنوبهم عليه

وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طعات خيرها وشرها لموافقتها للمشيئة والقدر
ويقولون كما أن موافقة الأمر طاعة فموافقة المشيئة طاعة كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله تعالى لأفعالهم دليلا على أمره بها ورضاه وهؤلاء شر من القدرية النفاة وأشد منهم عداوة لله ومناقضة لكتبه ورسله ودينه حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده وينسب ربه تعالى إلى ظلمه بلسان الحال والمقال ويقول ما ذنبه وقد صان وجهه عن السجود لغير خالقه وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه ثم كيف يمكنه السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه وهل كان في ترك السجود لغير الله إلا محسنا ولكن
إذا كان المحب قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب
وهؤلاء أعداء الله حقا وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه وإذا ناح منهم نائح على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرا عجبا ورأيت من ظلمهم الأقدار واتهامهم الجبار ما يبدو على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم وتسمع من أحدهم من التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه فهؤلاء هم الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته
ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرا فرقة القدرية

فصل المشهد الرابع
مشهد القدرية النفاة يشهدون أن هذه الجنايات والذنوب هم الذين أحدثوها وأنها واقعة بمشيئتهم دون مشيئة الله تعالى وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاء ولا خلق أفعالهم وأنه لا يقدر أن يهدي أحدا

ولا يضله إلا بمجرد البيان لا أنه يلهمه الهدى والضلال والفجور والتقوى فيجعل ذلك في قلبه
ويشهدون أنه يكون في ملك الله مالا يشاؤه وأنه يشاء مالا يكون وأن العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة الله
فالمعاصي والذنوب خلقهم وموجب مشيئتهم لا أنها خلق الله ولا تتعلق بمشيئته وهم لذلك مبخوسو الحظ جدا من الاستعانة بالله والتوكل عليه والاعتصام به وسؤاله أن يهديهم وأن يثبت قلوبهم وأن لا يزيغها وأن يوفقهم لمرضاته ويجنبهم معصيته إذ هذا كله واقع بهم وعين أفعالهم لا يدخل تحت مشيئة الرب شيء منها
والشيطان قد رصى منهم بهذا القدر فلا يؤزهم إلى المعاصي ذلك الأز ولا يزعجهم إليها ذلك الإزعاج وله في ذلك غرضان مهمان
أحدهما أن يقر في قلوبهم صحة هذا المشهد وهذه العقيدة وأنكم تاركون الذنوب والكبائر التي يقع فيها أهل السنة فدل على أن الأمر مفوض إليكم واقع بكم وأنكم العاصمون لأنفسكم المانعون لها من المعصية
الغرض الثاني أنه يصطاد على أيديهم الجهال فإذا رأوهم أهل عبادة وزهادة وتورع عن المعاصي وتعظيم لها قالوا هؤلاء أهل الحق والبدعة آثر عنده وأحب إليه من المعصية فإذا ظفر بها منهم واصطاد الجهال على أيديهم كيف يأمرهم بالمعصية بل ينهاهم عنها ويقبحها في أعينهم وقلوبهم ولا يكشف هذه الحقائق إلا أرباب البصائر

فصل المشهد الخامس
وهو أحد مشاهد أهل الإستقامة مشهد الحكمة وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه ويلوم ويعاقب عليه وأنه

لو شاء لعصمه منه ولحال بينه وبينه وأنه سبحانه لا يعصى قسرا وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئا عبثا ولا سدى وأن له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر وطاعة ومعصية وحكمة باهرة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها وتكل الألسن عن التعبير عنها
فمصدر قضائه وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حمته الألباب وقد قال تعالى لملائكته لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فأجابهم سبحانه بقوله إني أعلم ما لا تعلمون فلله سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم وأنواع التعرفات إلى خلقه وتنويع آياته ودلائل ربوبيته ووحدانيته وإلهيته وحكمته وعزته وتمام ملكه وكمال قدرته وإحاطة علمه ما يشهده أولو البصائر عيانا ببصائر قلوبهم فيقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك إن هي إلا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة
ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فكم من آية في الأرض بينة دالة على الله وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه حق كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم كآيته في إغراق قوم نوح وعلو الماء على رءوس الجبال حتى أغرق جميع أهل الأرض ونجى أولياءه وأهل معرفته وتوحيده فكم في ذلك من آية وعبرة ودلالة باقية على ممر الدهور وكذلك إهلاك قوم عاد وثمود
وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى عليه السلام إليهم بل قبل مبعثه إلى حين إغراقهم لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات

والعجائب وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه وأمنعه عن الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر وكذلك فعل سبحانه فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر
وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم وإلقائهم له في النار حتى صارت تلك الآية حتى نال إبراهيم بها ما نال من كمال الخلة
وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده بسبب صبرهم على أذى قومهم وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم
وكذلك اتخاذ الله تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم بسبب صبرهم على أذى بني آدم من أهل المعاصي والظلم ومجاهدتهم في الله وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو بعينه وعلمه واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات
إلى غير ذلك من المصالح والحكم التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله ويسخطه وكان ذلك محض الحكمة لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده من فوته بتقدير عدم المعصية
فحصول هذا المحبوب العظيم أحب إليه من فوات ذلك المبغوض المسخوط فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبا له لكن حصول هذا المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المبغوض أحب إليه وفوات هذا المحبوب أكره إليه من فوات ذلك المكروه المسخوط وكمال حكمته تقتضي حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين وأن لا يعطل هذا الأحب بتعطيل ذلك المكروه وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا كفرضه وجود المسببات بدون أسبابها والملزومات بدون لوازمها مما تمنعه حكمة الله وكمال قدرته وربوبيته
ويكفي من هذا مثال واحد وهو أنه لولا المعصية من أبي البشر بأكله من الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى

من امتحان خلقه وتكليفهم وإرسال رسله وإنزال كتبه وإظهار آياته وعجائبه وتنويعها وتصريفها وإكرام أوليائه وإهانة أعدائه وظهور عدله وفضله وعزته وانتقامه وعفوه ومغفرته وصفحه وحلمه وظهور من يعبده ويحبه ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان
فلو قدر أن آدم لم يأكل من الشجرة ولم يخرج من الجنة هو وأولاده لم يكن شيء من تلك ولا ظهر من القوة إلى الفعل ما كان كامنا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة ولم يتميز خبيث الخلق من طيبهم ولم تتم المملكة حيث لم يكن هناك إكرام وثواب وعقوبة وإهانة ودار سعادة وفضل ودار شقاوة وعدل
وكم في تسليط أوليائه على أعدائه وتسليط أعدائه على أوليائه والجمع بينهما في دار واحدة وابتلاء بعضهم ببعض من حكمة بالغة ونعمة سابغة
وكم فيها من حصول محبوب للرب وحمد له من أهل سمواته وأرضه وخضوع له وتذلل وتبعد وخشية وافتقار إليه وانكسار بين يديه أن لا يجعلهم من أعدائه إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم وإعراضه عنهم ومقته لهم وما أعد لهم من العذاب وكل ذلك بمشيئته وإرادته وتصرفه في مملكته فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون على أشد وجل وأعظم مخافة وأنم انكسار
فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له وهارون ومارون وضعت رؤوسها بين يدي الرب خضوعا لعظمته واستكانه لعزته وخشية من إبعاده وطرده وتذللا لهيبته وافتقارا إلى عصمته ورحمته وعلمت بذلك منته عليهم وإحسانه إليهم وتخصيصه لهم بفضله وكرامته
وكذلك أولياؤه المتقون إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم وغضبه عليهم وخذلانه لهم ازدادوا خضوعا وذلا وافتقارا وانكسارا وبه استعانة

وإليه إنابة وعليه توكلا وفيه رغبة ومنه رهبة وعلموا أنهم لا ملجألهم منه إلا إليه وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو ولا ينجيهم من سخطهم إلا مرضاته فالفضل بيده أولا وآخرا
وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه والبصير يطالع ببصيرته ما وراءه فيطلعه على عجائب من حكمته لا تبلغها العبارة ولا تنالها الصفة
وأما حظ العبد في نفسه وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية وكل مؤمن له من ذلك شرب معلوم ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه والله الموفق والمعين

فصل المشهدالسادس مشهد التوحيد
وهو أن يشهد انفراد الرب تبارك وتعالى بالخلق والحكم وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه وأن الخلق مقهورون تحت قبضته وأنه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابعه إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه فالقلوب بيده وهو مقلبها ومصرفها كيف شاء وكيف أراد وأنه هو الذي آتى نفوس المؤمنين تقواها وهو الذي هداها وزكاها وألهم نفوس الفجار فجورها وأشقاها من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له يهدي من يشاء بفضله ورحمته ويضل من يشاء بعدله وحكمته هذا فضله وعطاؤه وما فضل الكريم بممنون وهذا عدله وقضاؤه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
قال ابن عباس رضي الله عنهما الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده ومن آمن بالقدر صدق إيمانه توحيده

وفي هذه المشهد يتحقق للعبد مقام إيام نعبد وإياك نستعين علما وحالا فيثبت قدم العبد في توحيد الربوبية ثم يرقى منه صاعدا إلى توحيد الإلهية فإنه إذا تيقن أن الضر والنفع والعطاء والمنع والهدى والضلال والسعادة والشقاء كل ذلك بيد الله لا بيد غيره وأنه الذي يقلب القلوب ويصرفها كيف يشاء وأنه لا موفق إلا من وفقه وأعانه ولا مخذول إلا من خذله وأهانه وتخلى عنه وأن أصح القلوب وأسلمها وأقومها وأرقها وأصفاها وأشدها وألينها من اتخذه وحده إلها ومعبودا فكان أحب إليه من كل ما سواه وأخوف عنده من كل ما سواه وأرجى له من كل ما سواه فتتقدم محبته في قلبه جميع المحاب فتنساق المحاب تبعا لها كما ينساق الجيش تبعا للسلطان ويتقدم خوفه في قلبه جميع المخوفات فتنساق المخاوف كلها تبعا لخوفه ويتقدم رجاؤه في قلبه جميع الرجاء فينساق كل رجاء تبعا لرجائه
فهذا علامة توحيد الإلهية في هذا القلب والباب الذي دخل إليه منه توحيد الربوبية أي باب توحيدالإلهية هو توحيدالربوبية
فإن أول ما يتعلق القلب يتعلق بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية كما يدعو الله سبحانه عباده في كتابه بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر ويحتج عليهم به ويقررهم به ثم يخبر أنهم ينقضونه بشركهم به في الإلهية
وفي هذا المشهد يتحقق له مقام إياك نعبد قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون أي فأين يصرفون عن شهادة أن لا إله إلا الله وعن عبادته وحده وهم يشهدون أنه لا رب غيره ولا خالق سواه وكذلك قوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون فتعلمون أنه إذا كان هو وحده مالك الأر ضومن فيها وخالقهم وربهم ومليكهم فهو وحده إلههم ومعبودهم فكما لا رب لهم غيره فهكذا لا إله لهم سواه قل من رب السموات السبع ورب

العرش العظيم سيقولون الله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكون كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه الآيات وهكذا قوله في سورة النمل قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون إلى آخر الآيات
يحتج عليهم بأن من فعل لهم هذا وحده فهو الإله لهم وحده فإن كان معه رب فعل هذا فينبغي أن تعبدوه وإن لم يكن معه رب فعل هذا فكيف تجعلون معه إلها آخر
ولهذا كان الصحيح من القولين في تقدير الآية أإله مع الله فعل هذا حتى يتم الدليل فلا بد من الجواب بلا فإذا لم يكن معه إله فعل كفعله فكيف تعبدون آلهة أخرى سواه فعلم أن إلهية ما سواه باطلة كما أن ربوبية ما سواه باطلة بإقراركم وشهادتكم
ومن قال المعنى هل مع الله إله آخر من غير ان يكون المعنى فعل هذا فقوله ضعيف لوجهين
أحدهما أنهم كانوا يقولون مع الله آهلة أخرى ولا ينكرون ذلك
الثاني أنه لا يتم الدليل ولا يحلصل إفحامهم وإقامة الحجة عليهم إلا بهذا التقدير أي فإذا كنتم تقولون إنه ليس معه إله آخر فعل مثل فعله فكيف تجعلون معه إلها آخر لا يخلق شيئا وهو عاجز وهذا كقوله أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار وقوله هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه وقوله أفمن يخلق كمن لا يخلق وقوله والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون وقوله واتخذوا من دونه آلهة

لا يخلقون شيا وهم يخلقون وهو كثير في القرآن وبه تتم الحجة كما تبين
والمقصود أن العبد يحصل له هذا في المشهد من مطالعة الجنايات والذنوب وجريانها عليه وعلى الخليقة بتقدير العزيز الحكيم وأنه لا عاصم من غضبه وأسباب سخطه إلا هو ولا سبيل إلى طاعته إلا بمعونته ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه فموارد الأمور كلها منه ومصادرها إليه وأزمة التوفيق جميعها بيديه فلا مستعان للعباد إلا به ولا متكل إلا عليه كما قال شعيب خطيب الأنبياء وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب

فصل المشهد السابع مشهد التوفيق والخذلان
وهو من تمام هذا المشهد وفروعه ولكن أفرد بالذكر لحاجة العبد إلى شهوده وانتفاعه به وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك وأن الخذلان هو أن يخلى بينك وبين نفسك فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه له ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له فهو دائر بين توفيقه وخذلانه فإن وفقه فبفضله ورحمته وإن خذله فبعدله وحكمته وهو المحمود على هذا وهذا له أتم حمد وأكمله ولم يمنع العبد شيئا هو له وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله
فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه علم شدة ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نفس وكل لحفظ وطرفة عين وأن إيمانه وتوحيده بيده تعالى لو تخلى عنه طرفة عين لثل عرش تويحده ولخرت سماء إيمانه على الأرض وأن الممسك له هو من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه فهجيرى قلبه ودأب

لسانه يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك ودعواه يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك
ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه كما يشهد ربوبيته وخلقه فيسأله توفيقه مسألة المضطر ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف ويلقي نفسه بين يديه طريحا ببابه مستسلما له ناكس الرأس بين يديه خاضعا ذليلا مستكينا لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ونشورا
والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد بأن يجعله قادرا على فعل ما يرضيه مريدا له محبا له مؤثرا له على غيره ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه إليه وهذا مجرد فعله والعبد محل له قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم فهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصح له حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله لا يمنعه أهله ولا يضعه عند غير أهله وذكر هذا عقيب قوله واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ثم جاء به بحرف الاستدراك فقال ولكن الله حبب إليكم الإيمان
يقول سبحانه لم تكن محبتكم للإيمان وإرادتكم له وتزيينه في قلوبكم منكم ولكن الله هو الذي جعله في قلوبكم كذلك فآثرتموه ورضيتموه فلذلك فلذلك لا تقدموا بين يدي رسولي ولا تقولوا حتى يقو لولا تفعلوا حتى يأمر فالذي حبب إليكم الإيمان أعلم بمصالح عباده منكم وأنت مفلولا توفيقه لكم لما أذعنت نفوسكم للإيمان فلم يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم ولا تقدمتم به إليها فنفوسكم تصر وتعجز عن ذلك ولا تبلغه فلو أطاعكم رسولي في كثير مما

تريدون لشق عليكم ذلك ولهلكتم وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون ولا تظنوا أن نفوسكم تريد لكم الرشد والصلاح كما أردتم الإيمان فلولا أني حببته إليكم وزينته في قلوبكم وكرهت إليكم ضده لما وقع منكم ولا سمحت به أنفسكم
وقد ضرب للتوفيق والخذلان مثل ملك أرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولا وكتب معه إليهمن كتابا يعلمهم أن العدو مصبحهم عن قريب ومجتاحهم ومخرب البلد ومهلك من فيها وأرسل إليهم أموالا ومراكب وزادا وعدة وأدلة وقال ارتحلوا مع هؤلاء الأدلة وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه ثم قال لجماعة من مماليكه اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده واحملوه ولا تذروه يعقد واذهبوا إلى فلان كذلك وإلى فلان وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي فذهب خواص مماليكه إلى من أمروا بحملهم فلم يتركوهم يقرون بل حملوهم حملا وساقوهم سوقا إلى الملك فاجتاح العدو من بقي في المدينة وقتلهم وأسر من أسر
فهل يعد الملك ظالما لهؤلاء أم عادلا فيهم نعم خص أولئك بإحسانه وعنايته وحمرها من عداهم إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه بل ذلك فضلة يؤتيه من يشاء
وقد فسرت القدرية الجبرية التوفيق بأنه خلق الطاعة والخذلان بأنه خلق المعصية
ولكن بنو ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم وردوا الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة
وقابلهم القدرية النفاة ففسروا التوفيق بالبيان العام والهدى العام

والتمكن من الطاعة والإقبال عليها وتهيئة أسبابها هذا حاصل لكل كافر ومشرك بلغته الحجة وتمكن من الإيمان
فالتوفيق عندهم أمر مشترك بين الكفار والمؤمنين إذ الإقدار والتمكين والدلالة والبيان قد عم به الفريقين ولم يفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم والكفار بخذلان امتنع به الإيمان منهم ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباة وظلما
والتزموا لهذا الأصل لوازم قامت بها عليهم سوق الشناعة بين العقلاء ولم يجدوا بدا من التزامها فظهر فساد مذهبهم وتناقض قولهم لمن أحاط به علما وتصوره حق تصوره وعلم أنه من أبطل مذهب في العالم وأردأه
وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صارط مستقيم فلم يرضوا بطريق هؤلاء ولا بطريق هؤلاء وشهدوا انحراف الطريقين عن الصراط المستقيم فأثبتوا القضاء والقدر وعموم مشيئة الله للكائنات وأثبتوا الأسباب والحكم والغايات والمصالح ونزهوا الله عز و جل أن يكون في ملكه ما لا يشاء أو أن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته أو أن يكون شيء من أفعالهم واقعا بغير اختياره وبدون مشيئته ومن قال ذلك فلم يعرف ربه ولم يثبت له كمال الربوبية
ونزهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح وأن يخلق شيئا سدى وأن تخلوا أفعاله عن حكم بالغة لأجلها أو جدها وأسباب بها سببها وغايات جعلت طرقا ووسائل إليها وأن له في كل ما خلقه وقضاه حكمة بالغة وتلك الحكمة صفة له قائمة به ليست مخلوقة كما تقول القدرية النفاة للقدر والحكمة في الحقيقة
فأهل الصراط المستقيم بريئون من الطائفتين إلا من حق تتضمنه مقالاتهم فإنهم يوافقونهم عليه ويجمعون حق كل منهما إلى حق الأخرى ولا يبطلون

ما معهم من الحق لما قالوه من الباطل فهم شهداء الله على الطوائف وأمناؤه عليهم حكام بينهم حاكمون عليهم ولا يحكم عليهم أحد منهم يكشفون أحوال الطوائف ولا يكشفهم إلا من كشف له عن معرفة ما جاء به الرسول وعرف الفرق بينه وبين غيره ولم يلتبس عليه وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته ليسوا من الذين فرقوا دنيهم وكانوا شيعا ولا من الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا بل ممن هم على بينة من ربه وبصيرة في إيمانه ومعرفة بما عند الناس والله الموفق

فصل المشهد الثامن مشهد الأسماء والصفات
وهو من أجل المشاهد وهو أعلى مما قبله وأوسع
والمطلع على هذا المشهد معرفة تعلق الوجود خلقا وأمرا بالأسماء الحسنى والصفات العلى وارتباطه بها وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها
وهذا من أجل المعارف وأشرفها وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة فإن أسماءه أوصاف مدح وكمال وكل صفة لها مقتض وفعل إما لازم وإما متعد ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه كل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها
ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال وتعطيل الأفعال عن المفعولات كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله وأفعاله عن صفاته وصفاته عن أسمائه وتعيطل أسمائه وأوصافه عن ذاته
وإذا كانت أوصافه صفات كمال وأفعاله حكما ومصالح وأسماؤه حسنى ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه ولها ينكر سبحانه على من عطله

عن أمره ونهيه وثوابه وعقابه وأنه بذلك نسبه إلى ما لا يليق به وإلى ما يتنزه عنه وأن ذلك حكم سيىء ممن حكم به عليه وأن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره ولا عظمه حق تعظيمه كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسال الرسل وإنزال الكتب وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين كالأبرار والفجار والمؤمنين والكفار أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون فأخبر أن هذا حكم سيء لا يليق به تأباه أسماؤه وصفته وقال سبحانه أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم عن هذا الظن والحسبان الذين تأباه أسماؤه وصفاته
ونظائر هذا في القرآن كثيرة ينفي فيها عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته إذ ذلك مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها
فاسمه الحميد المجيد يمنع ترك الإنسان سدى مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب وكذلك اسمه الحكيم يأبى ذلك وكذلك اسمه الملك واسمه الحي يمنع أن يكون معطلا من الفعل بل حقيقة الحياة الفعل فكل حي فعال وكونه سبحانه خالقا قيوما من موجبات حياته ومقتضياتها واسمه السميع البصير يوجب مسموعا ومرئيا واسمه الخالق يقتضي مخلوقا وكذلك الرزاق واسمه الملك يقتضي مملكة وتصرفا وتدبيرا وإعطاء ومنعا وإحسانا وعدلا وثوابا وعقابا واسم البر المحسن المعطي المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها

إذا عرف هذا فمن أسمائه سبحانه الغفار التواب العفو فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ولا بد من جناية تغفر وتوبة تقبل وجرائم يعفى عنها ولا بد لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم الخالق الرزاق المعطي المانع للمخلوق والمرزوق والمعطي والممنوع وهذه الأسماء كلها حسنى
والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه فهو عفو يحب العفو ويحب المغفرة ويحب التوبة ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال
وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سمواته وأهل أرضه ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده
وهو سبحانه الحميد المجيد وحمده ومجده يقتضيان آثارهما
ومن آثارهما مغفرة الزلات وإقالة العثرات والعفو عن السيئات والمسامحة على الجنايات مع كمال اقدرة على استيفاء الحق والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها فحلمه بعد علمه وعفوه بعد قدرته ومغفرته عن كمال عزته وحكمته كما قال المسيح صلى الله عليه و سلم إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك لست كمن يغفر عجزا ويسامح جهلا بقدر الحق بل أنت عليم بحقك قادر على استيفائه حكيم في الأخذ به
فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال وغايتها أيضا مقتضى حمده ومجده كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته
فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة والآيات الباهرة والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته واستدعاء محبتهم له وذكرهم له وشكرهم له وتعبدهم له

بأسمائه الحسنى إذ كل اسم فله تعبد مختص به علما ومعرفة وحالا وأكمل الناس عبودية : المتعبد بجميع الأسماء والصفات التى يطلع عليها البشر فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر كمن يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم أو يحجبه عبودية اسمه المعطي عن عبودية اسمه المانع أو عبودية اسمه الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك وهذه طريقة الكمل من السائرين إلى الله وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن قال الله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها الأعراف : 180 والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ويثنوا عليه بها ويأخذوا بحظهم من عبوديتها وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته فهو عليم يحب كل عليم جواد يحب كل جواد وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال عفو يحب العفو وأهله حيي يحب الحياء وأهله بر يحب الأبرار شكور يحب الشاكرين صبور يحب الصابرين حليم يحب أهل الحلم فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح : خلق من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له ليترتب عليه المحبوب له المرضي له فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب فربما كان مكروه العباد إلى محبوبها سبب ما مثله سبب والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع : محبوب يفضي إلى محبوب ومكروه يفضي إلى محبوب وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه

والثالث : مكروه يفضي إلى مكروه والرابع : محبوب يفضي إلى مكروه وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره الذي ما خلق ما خلق ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها لا تكون إلا محبوبة للرب مرضية له والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له ومكروه له فالطاعات والتوحيد : أسباب محبوبة له موصلة إلى الإحسان والثواب المحبوب له أيضا والشرك والمعاصي : أسباب مسخوطة له موصلة إلى العدل المحبوب له وإن كان الفضل أحب إليه من العدل فاجتماع العدل والفضل أحب إليه من انفراد أحدهما عن الآخر لما فيهما من كمال الملك والحمد وتنوع الثناء وكمال القدرة فإن قيل : كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه قيل : هذا سؤال باطل لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع والذي يقدر في الذهن وجوده شيء آخر سوى غير هذا المطلوب المحبوب للرب وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم بلا علم بل قد يكون مبغوضا للرب تعالى لمنافاته حكمته فإذا حكم الذهن عليه بأنه محبوب له كان نسبة له إلى ما لا يليق به ويتعالى عنه فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التأمل فإنه مزلة أقدام ومضلة أفهام ولو أمسك عن الكلام من لا يعلم لقل الخلاف وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كتاب أو يستوعبه خطاب وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة تطلع على ما وراءها والله الموفق والمعين

فصل المشهد التاسع : مشهد زيادة الإيمان وتعدد شواهده وهو من ألطف
المشاهد وأخصها بأهل المعرفة ولعل سامعه يبادر إلى إنكاره ويقول : كيف يشهد زيادة الإيمان من الذنوب والمعاصي ولا سيما من ذنوب العبد ومعاصيه وهل ذلك إلا منقص للإيمان فإنه بإجماع السلف : يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية

فاعلم أن هذا حاصل من التفات العارف إلى الذنوب والمعاصي منه ومن غيره وإلى ترتب آثارها عليها وترتب هذه الآثار عليها علم من أعلام النبوة وبرهان من براهين صدق الرسل وصحة ما جاءوا به فإن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أمروا العباد بما فيه صلاح ظواهراهم وبواطنهم في معاشهم ومعادهم ونهوهم عما فيه فساد ظواهرهم وبواطنهم في المعاش والمعاد وأخبروهم عن الله عز و جل : أنه يحب كذا وكذا ويثيب عليه بكذا وكذا وأنه يبغض كيت وكيت ويعاقب عليه بكيت وكيت وأنه إذا أطيع بما أمر به : شكر عليه بالإمداد والزيادة والنعم في القلوب والأبدان والأموال ووجد العبد زيادته وقوته في حاله كلها وأنه إذا خولف أمره ونهيه ترتب عليه من النقص والفساد والضعف والذل والمهانة والحقارة وضيق العيش وتنكد الحياة ما ترتب كما قال تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون النحل : 97 وقال تعالى : قل : يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير الزمر : 10 وقال تعالى : وان استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله هود : 3 وقال تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى طه : 124 وفسرت المعيشة الضنك : بعذاب القبر والصحيح : أنها في الدنيا وفي البرزخ فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش وكثرة

الخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى إزالته بسكر ثان فهو هكذا مدة حياته وأي عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب شعور فقلوب أهل البدع والمعرضين عن القرآن وأهل الغفلة عن الله وأهل المعاصي فى جحيم قبل الجحيم الأكبر وقلوب الأبرار في نعيم قبل النعيم الأكبر إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم الإنفطار : 1314 هذا في دورهم الثلاث ليس مختصا بالدار الآخرة وإن كان تمامه وكماله وظهوره : إنما هو في الدار الآخرة وفي البرزخ دون ذلك كما قال تعالى : وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك الطور : 47 وقال تعالى : ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل : عسى أن يكون ردف لكم بعض الذى تستعجلون النمل : 7172 وفي هذه الدار دون ما في البرزخ ولكن يمنع من الإحساس به : الاستغراق في سكرة الشهوات وطرح ذلك عن القلب وعدم التفكر فيه والعبد قد يصيبه ألم حسي فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه ويجعل إقباله على غيره لئلا يشعر به جملة فلو زال عنه ذلك الالتفات لصاح من شدة الألم فما الظن بعذاب القلوب وآلامها ! وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارا محبوبة لذيذة طيبة لذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها وجعل للسيئات والمعاصي آلاما وآثارا مكروهة وحزازات تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة قال

ابن عباس : إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه وقوة في البدن وزيادة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق وهذا يعرفه صاحب البصيرة ويشهده من نفسه ومن غيره فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير الشورى : 30 وقال لخيار خلقه وأصحاب نبيه : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم : أنى هذا قل هو من عند أنفسكم آل عمران : 165 وقال : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك النساء : 79 والمراد بالحسنة والسيئة هنا : النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله ولهذا قال : ما أصابك ولم يقل : ما أصبت فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب ومخالفة أوامر الرب فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال : أمر مشهود في العالم لا ينكره ذو عقل سليم بل يعرفه المؤمن والكافر والبر والفاجر وشهود العبد هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته : مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل ؤوبالثواب والعقاب فإن هذا عدل مشهود محسوس فى هذا العالم ومثوبات وعقوبات عاجلة دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة كما قال بعض الناس : إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتداركه بالتوبة : انتظرت أثره السيء فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت يكون هجيراى : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ويكون ذلك من شواهد الإيمان

وأدلته فإن الصادق متى أخبرك أنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا فجعلت كلما فعلت شيئا من ذلك حصل لك ما قال من المكروه لم تزدد إلا علما بصدقه وبصيرة فيه وليس هذا لكل أحد بل أكثر الناس ترين الذنوب على قلبه فلا يشهد شيئا من ذلك ولا يشعر به ألبتة وإنما يكون هذا لقلب فيه نور الإيمان وأهوية الذنوب والمعاصي تعصف فيه فهو يشاهد هذا وهذا ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة تلك الأهوية والرياح فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح وتقلب السفينة وتكفئها ولا سيما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح فهكذا المؤمن يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب إذا أريد به الخير وإن أريد به غير ذلك فقلبه في واد آخر ومتى انفتح هذا الباب للعبد : انتفع بمطالعة تاريخ العالم وأحوال الأمم وماجريات الخلق بل انتفع بماجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس وفهم حينئذ معنى قوله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت الرعد : 33 وقوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم آل عمران : 18 فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة وجدب ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط وهو عدل الله وقسطه وإن أجراه على يد ظالم فالمسلط له أعدل العادلين كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض : بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار الآية الإسراء : 5 فالذنوب مثل السموم مضرة بالذات فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها وإلا قهرت القوة الإيمانية وكان الهلاك كما قال بعض السلف : المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه وتغير القلوب عليه وجفولها منه

وانسداد الأبواب في وجهه وتوعر المسالك عليه وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتى ووقوعه على السبب الموجب لذلك : مما يقوي إيمانه فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال رأى العز بعد الذل والغنى بعد الفقر والسرور بعد الحزن والأمن بعد الخوف والقوة في قلبه بعد ضعفه ووهنه ازداد إيمانا مع إيمانه فتقوى شواهد الإيمان في قلبه وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته فهذا من الذين قال الله فيهم ليكفعر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون الزمر : 35 وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه وأعطاه حقه : صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها فنفعه الله في نفسه ونفع به من شاء من خلقه والله أعلم

فصل المشهد العاشر : مشهد الرحمة فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من
قلبه تلك الغلظة والقسوة والكيفية الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب حتى لو قدر عليه لأهله وربما دعا الله عليه أن يهلكه ويأخذه غضبا منه لله وحرصا على أن لا يعصى فلا يجد في قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء ولا يذكرهم إلا بلسان الطعن فيهم والعيب لهم والذم فإذا جرت عليه المقادير وخلي ونفسه استغاث الله والتجأ اليه وتململ بين يديه تململ السليم ودعاه دعاء المضطر فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين رقة وتلك القساوة على الخاطئين رحمة ولينا مع قيامه بحدود الله وتبدل دعاؤه عليهم دعاء لهم وجعل لهم وظيفة من عمره يسأل الله أن يغفر لهم فما أنفعه له من مشهد ! وما أعظم جدواه عليه والله أعلم

فصل فيورثه ذلك : المشهد الحادي عشر وهو مشهد العجز والضعف وأنه أعجز
شيء عن حفظ نفسه وأضعفه وأنه لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح يمينا وشمالا ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح وتتلاعب بها الأمواج ترفعها تارة وتخفضها تارة أخرى تجري عليه أحكام القدر وهو كالآلة طريحا بين يدي وليه ملقى ببابه واضعا خده على ثرى أعتابه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع لا يردها عنها إلا الراعي فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاء وهكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه من شياطين الإنس والجن فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلا وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم بل هو نصيب من ظفر به منهم وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقا ويعرف ربه وهذا أحد التأويلات للكلام المشهور من عرف نفسه عرف ربه وليس هذا حديثا عن رسول الله إنما هو أثر إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضا يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك وفيه ثلاث تأويلات : أحدهما : أن من عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة ومن عرفها بالذل عرف ربه بالعز ومن عرفها بالجهل عرف ربه بالعلم فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق والحمد والثناء والمجد والغنى والعبد فقير ناقص محتاج وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه وعيبه وفقره وذله وضعفه : ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله

التأويل الثاني : أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى به فمعطي الكمال أحق بالكمال فكيف يكون العبد حيا متكلما سميعا بصيرا مريدا عالما يفعل باختياره ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه فهذا من أعظم المحال بل من جعل العبد متكلما أولى أن يكون هو متكلما ومن جعله حيا عليما سميعا بصيرا فاعلا قادرا أولى أن يكون كذلك فالتأويل الأول من باب الضد وهذا من باب الأولوية والتأويل الثالث : أن هذا من باب النفي أي كما أنك لا تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك فلا تعرف حقيقتها ولا ماهيتها ولا كيفيتها فكيف تعرف ربك وكيفية صفاته والمقصود : أن هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف فتزول عنه رعونات الدعاوى والإضافات إلى نفسه ويعلم أنه ليس له من الأمر شيء إن هو إلا محض القهر والعجز والضعف

فصل فحينئذ يطلع منه على : المشهد الثاني عشر وهو مشهد الذل
والانكسار والخضوع والافتقار للرب جل جلاله فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة : ضرورة تامة وافتقارا تاما إلى ربه ووليه ومن بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعادته وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها وإنما تدرك بالحصول فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شىء بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل الذى لا شىء فيه ولا به ولا منه ولا فيه منفعة ولا يرغب فى مثله وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه فحينئد يستكثر فى هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير ويرى أنه لا يستحق قليلا منه ولا كثيرا فأي خير ناله من

الله استكثره على نفسه وعلم أن قدره دونه وأن رحمة ربه هى التى اقتضت ذكره به وسياقته إليه واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغى لربه عليه واستكثر قليل معاصيه وذنوبه فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور ! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه ! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه ! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم وأحب القلوب إلى الله سبحانه : قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة وملكته هذه الذلة فهو ناكس الرأس بين يدي ربه لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلا من الله قيل لبعض العارفين : أيسجد القلب قال : نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء فهذا سجود القلب فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد السجود المراد منه إذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم وخشع الصوت والجوارح كلها وذل العبد وخضع واستكان ووضع خده على عتبة العبودية ناظرا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم فلا يرى إلا متملقا لربه خاضعا له ذليلا مستعطفا له يسأله عطفه ورحمته فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له الذى لا غنى له عنه ولا بد له منه فليس له هم غير استرضائه واستعطافه لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته له يقول : كيف أغضب من حياتى في رضاه وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره وصاحب هذا المشهد : يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس ويربيه أحسن التربية ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية وهو القيم بمصالحه كلها فبعثه أبوه في حاجة له فخرج عليه فى طريقه

عدو فأسره وكتفه وشده وثاقا ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة فتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه فبينا هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد نحره في آخر الأمر إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريبا فسعى إليه وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث : يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه ! انظر إلى ولدك وما هو فيه ودموعه تستبق على خديه قد اعتنقه والتزمه وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به فهل تقول : إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحا ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكيا بين يديه يقول : يا رب يا رب ارحم من لا راحم له سواك ولا ناصر له سواك ولا مؤوي له سواك ولا مغيث له سواك مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك أنت معاذه وبك ملاذه يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره

فصل فإذا استبصر في هذا المشهد تمكن من قلبه وباشره وذاق طعمه
وحلاوته ترقى منه إلى : المشهد الثالث عشر وهو الغاية التي شمر إليها السالكون وأمها القاصدون ولحظ إليها العاملون وهو مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقائه والابتهاج به والفرح والسرور به فتقر به عينه ويسكن إليه قلبه وتطمئن إليه جوارحه ويستولى

ذكره على لسان محبه وقلبه فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية وإرادات التقرب إليه وإلى مرضاته مكان إرادة معاصيه ومساخطه وحركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي قد امتلأ قلبه من محبته ولهج لسانه بذكره وانقادت الجوارح لطاعته فإن هذه الكسرة الخاصة لها تأثير عجيب في المحبة لا يعبر عنه ويحكى عن بعض العارفين أنه قال : دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه ولا مزاحم فيه ولا معوق فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو سبحانه قد أخذ بيدي وأدخلني عليه وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول : من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية وقال بعض العارفين : لا طريق أقرب إلى الله من العبودية ولا حجاب أغلظ من الدعوى ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل واجتهاد ولا يضر مع الذل والافتقار بطالة يعني بعد فعل الفرائض والقصد : أن هذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله وترميه على طريق المحبة فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق وإن كانت طرق سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابا من المحبة لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس ورؤيتها بعين الضعف والعجز

والعيب والنقص والذم بحيث يشاهدها ضيعة وعجزا وتفريطا وذنبا وخطيئة : نوع آخر وفتح آخر والسالك بهذه الطريق غريب في الناس هم في واد وهو في واد وهي تسمى طريق الطير يسبق النائم فيها على فراشه السعاة فيصبح وقد قطع الطريق وسبق الركب بينا هو يحدثك وإذا به قد سبق الطرف و فات السعاة والله المستعان خير الغافرين وهذا الذي حصل له من آثار محبة الله له وفرحه بتوبة عبده فإنه سبحانه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم أعظم فرح وأكمله فكلما طالع العبد منن ربه سبحانه عليه قبل الذنب وفي حال مواقعته وبعده وبره به وحلمه عنه وإحسانه إليه : هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق إلى لقائه فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وأي إحسان أعظم من إحسان من يبارزه العبد بالمعاصي وهو يمده بنعمه ويعامله بألطافه ويسبل عليه ستره ويحفظه من خطفات أعدائه المترقبين له أدنى عثرة ينالون منه بها بغيتهم ويردهم عنه ويحول بينهم وبينه وهو في ذلك كله بعينه يراه ويطلع عليه فالسماء تستأذن ربها أن تحصبه والأرض تستأذنه أن تخسف به والبحر يستأذنه أن يغرقه كما في مسند الإمام أحمد عن النبي ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه : أن يغرق ابن آدم والملائكة تستأذنه : أن تعاجله وتهلكه والرب تعالى يقول : دعوا عبدي فأنا أعلم به إذ أنشأته من الأرض إن كان عبدكم فشأنكم به وإن كان عبدي فمني وإلي عبدى وعزتي وجلالي إن أتاني ليلا قبلته وإن أتاني نهارا قبلته وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا وإن مشى إلي هرولت إليه وإن استغفرني غفرت له وإن استقالني أقلته وإن تاب إلي تبت عليه من أعظم مني جودا وكرما وأنا الجواد الكريم عبيدي يبيتون يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم في مضاجعهم وأحرسهم على فرشهم من

أقبل إلي تلقيته من بعيد ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد ومن أراد مرادي أردت ما يريد أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا إلي فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب ولنقتصر على هذا القدر من ذكر التوبة وأحكامها وثمراتها فإنه ما أطيل الكلام فيها إلا لفرط الحاجة والضرورة إلى معرفتها ومعرفة أحكامها وتفاصيلها ومسائلها والله الموفق لمراعاة ذلك والقيام به عملا وحالا كما وفق له علما ومعرفة فما خاب من توكل عليه ولاذ به ولجأ إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله

فصل قد علمت أن من نزل في منزل التوبة وقام في مقامها نزل في جميع
منازل الإسلام فإن التوبة الكاملة متضمنة لها وهي مندرجة فيها ولكن لابد من إفرادها بالذكر والتفصيل تبيينا لحقائقها وخواصها وشروطها فإذا استقرت قدمه فى منزل التوبة نزل بعده منزل الإنابة وقد أمر الله تعالى بها في كتابه وأثنى على خليله بها فقال : وأنيبوا إلى ربكم الزمر : 54 وقال : إن إبراهيم لحليم أواه منيب هود 75 وأخبر أن آياته إنما يتبصر بها ويتذكر أهل الإنابة فقال أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها إلى أن قال تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ق 68 وقال تعالى هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب غافر 13 وقال تعالى منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة الآية فمنيبين منصوب على الحال من الضمير المستكن في قوله فأقم وجهك لأن هذا الخطاب له ولأمته أي أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه نظيره قوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ويجوز أن يكون حالا من المفعول فى

قوله فطر الناس عليها أي فطرهم منيبين إليه فلو خلو وفطرهم لما عدلت عن الإنابة إليه ولكنها تحول وتتغير عما فطرت عليه كما قال ما من مولود إلا يولد على الفطرة وفي رواية : على الملة حتى يعرب عنه لسانه وقال عن نبيه داود فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب ص : 24 وأخبر أن ثوابه وجنته لأهل الخشية والإنابة فقال : وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ق : 3134 وأخبر سبحانه أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة فقال : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى الزمر : 17 و الإنابة إنابتان : إنابة لربوبيته وهي إنابة المخلوقات كلها يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر قال الله تعالى : وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه الروم : 33 فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام بل تجامع الشرك والكفر كما قال تعالى في حق هؤلاء ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم الروم : 3334 فهذا حالهم بعد إنابتهم و الإنابة الثانية إنابة أوليائه وهي إنابة لإلهيته إنابة عبودية ومحبة وهي تتضمن أربعة أمور : محبته والخضوع له والإقبال عليه والإعراض عما سواه فلا يستحق اسم المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربعة وتفسير السلف لهذه اللفظة يدور على ذلك وفي اللفظة معنى الإسراع والرجوع والتقدم و المنيب إلى الله : المسرع إلى مرضاته الراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه

قال صاحب المنازل : الإنابة في اللغة : الرجوع وهي ههنا الرجوع إلى الحق

وهى ثلاثة أشياء : الرجوع إلى الحق إصلاحا كما رجع إليه اعتذارا والرجوع إليه وفاء كما رجع إليه عهدا والرجوع إليه حالا كما رجعت إليه إجابة لما كان التائب قد رجع إلى الله بالاعتذار والإقلاع عن معصيته كان من تتمة ذلك : رجوعه إليه بالاجتهاد والنصح في طاعته كما قال : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا الفرقان : 70 وقال : إلا الذين تابوا وأصلحوا البقره : 160 فلا تنفع توبة وبطالة فلا بد من توبة وعمل صالح : ترك لما يكره وفعل لما يحب تخل عن معصيته وتحل بطاعته وكذلك الرجوع إليه بالوفاء بعهده كما رجعت إليه عند أخذ العهد عليك فرجعت إليه بالدخول تحت عهده أولا فعليك بالرجوع بالوفاء بما عاهدته عليه ثانيا والدين كله : عهد ووفاء فإن الله أخذ عهده على جميع المكلفين بطاعته فأخذ عهده على أنبيائه ورسله على لسان ملائكته أو منه إلى الرسول بلا واسطة كما كلم موسى وأخذ عهده على الأمم بواسطة الرسل وأخذ عهده على الجهال بواسطة العلماء فأخذ عهده على هؤلاء بالتعليم وعلى هؤلاء بالتعلم ومدح الموفين بعهده وأخبرهم بما لهم عنده من الأجر فقال : ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما الفتح : 10 وقال : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا الإسراء : 34 وقال : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم النحل : 91 وقال : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا البقره : 177 وهذا يتناول عهودهم مع الله بالوفاء له بالإخلاص والإيمان والطاعة وعهودهم مع الخلق وأخبر النبي : أن من علامات النفاق الغدر بعد العهد فما أناب إلى الله عز و جل من خان عهده وغدر به كما أنه لم ينب إليه من لم يدخل تحت عهده فالإنابة لا تتحقق إلا بالتزام العهد والوفاء به وقوله : والرجوع إليه حالا كما رجعت إليه إجابة

أي هو سبحانه قد دعاك فأجبته بلبيك وسعديك قولا فلا بد من الإجابة حالا تصدق به المقال فإن الأحوال تصدق الأقوال أو تكذبها وكل قول فلصدقه وكذبه شاهد من حال قائله فكما رجعت إلى الله إجابة بالمقال فارجع إليه إجابة بالحال قال الحسن رحمه الله : ابن آدم لك قول وعمل وعملك أولى بك من قولك ولك سريرة وعلانية وسريرتك أملك بك من علانيتك

فصل قال : وإنما يستقيم الرجوع إليه إصلاحا بثلاثة أشياء : بالخروج
من التبعات والتوجع للعثرات واستدراك الفائتات والخروج من التبعات : هو بالتوبة من الذنوب التي بين العبد وبين الله وأداء الحقوق التي عليه للخلق والتوجع للعثرات يحتمل شيئين أحدهما : أن يتوجع لعثرته إذا عثر فيتوجع قلبه وينصدع وهذا دليل على إنابته إلى الله بخلاف من لا يتألم قلبه ولا ينصدع من عثرته فإنه دليل على فساد قلبه وموته الثاني : أن يتوجع لعثرة أخيه المؤمن إذا عثر حتى كأنه هو الذي عثر بها ولا يشمت به فهو دليل على رقة قلبه وإنابته واستدراك الفائتات : هو استدراك ما فاته من طاعة وقربة بأمثالها أو خير منها ولا سيما في بقية عمره عند قرب رحيله إلى الله فبقية عمر المؤمن لا قيمة لها يستدرك بها ما فات ويحيي بها ما أمات
فصل قال : وإنما يستقيم الرجوع إليه عهدا : بثلاثة أشياء بالخلاص من
لذة الذنب وبترك الاستهانة بأهل الغفلة تخوفا عليهم مع الرجاء لنفسك وبالاستقصاء في رؤية علة الخدمة

إذا صفت له الإنابة إلى ربه تخلص من الفكرة في لذة الذنب وعاد مكانها ألما وتوجعا لذكره والفكرة فيه فما دامت لذة الفكرة فيه موجودة في قلبه فإنابته غير صافية فإن قيل : أي الحالين أعلى حال من يجد لذة الذنب في قلبه فهو يجاهدها لله ويتركها من خوفه ومحبته وإجلاله أو حال من ماتت لذة الذنب في قلبه وصار مكانها ألما وتوجعا وطمأنينة إلى ربه وسكونا إليه والتذاذا بحبه وتنعما بذكره قيل : حال هذا أكمل وأرفع وغاية صاحب المجاهدة أن يجاهد نفسه حتى يصل إلى مقام هذا ومنزلته ولكنه يتلوه في المنزلة والقرب ومنوط به فإن قيل : فأين أجر مجاهدة صاحب اللذة وتركه محابه لله وإيثاره رضى الله على هواه وبهذا كان النوع الإنساني أفضل من النوع الملكي عند أهل السنة وكانوا خير البرية والمطمئن قد استراح من ألم هذه المجاهدة وعوفي منها فبينهما من التفاوت ما بين درجة المعافى والمبتلى قيل : النفس لها ثلاثة أحوال : الأمر بالذنب ثم اللوم عليه والندم منه ثم الطمأنينة إلى ربها والإقبال بكليتها عليه وهذه الحال أعلى أحوالها وأرفعها وهي التي يشمر إليها المجاهد وما يحصل له من ثواب مجاهدته وصبره فهو لتشميره إلى درجة الطمأنينة إلى الله فهو بمنزلة راكب القفار والمهامه والأهوال ليصل إلى البيت فيطمئن قلبه برؤيته والطواف به والآخر بمنزلة من هو مشغول به طائفا وقائما وراكعا وساجدا ليس له التفات إلى غيره فهذا مشغول بالغاية وذاك بالوسيلة وكل له أجر ولكن بين أجر الغايات وأجر الوسائل بون وما يحصل للمطمئن من الأحوال والعبودية والإيمان فوق ما يحصل لهذا المجاهد نفسه في ذات الله وإن كان أكثر عملا فقدر عمل المطمئن المنيب بجملته وكيفيته أعظم وإن كان هذا المجاهد أكثر عملا وذلك فضل الله يؤتيه من

يشاء فما سبق الصديق الصحابة بكثرة عمل وقد كان فيهم من هو أكثر صياما وحجا وقراءة وصلاة منه ولكن بأمر آخر قام بقلبه حتى إن أفضل الصحابة كان يسابقه ولا يراه إلا أمامه ولكن عبودية مجاهد نفسه على لذة الذنب والشهوة قد تكون أشق ولا يلزم من مشقتها تفضيلها في الدرجة فأفضل الأعمال الإيمان بالله والجهاد أشق منه وهو تاليه في الدرجة ودرجة الصديقين أعلى من درجة المجاهدين والشهداء وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ذكر الشهداء فقال : إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته

فصل ومن علامات الإنابة : ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم مع
فتحك باب الرجاء لنفسك فترجو لنفسك الرحمة وتخشى على أهل الغفلة النقمة ولكن ارج لهم الرحمة واخش على نفسك النقمة فإن كنت لا بد مستهينا بهم ماقتا لهم لانكشاف أحوالهم لك ورؤية ما هم عليه فكن لنفسك أشد مقتا منك لهم وكن لهم أرجى لهم لرحمة الله منك لنفسك قال بعض السلف : لن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتا وهذا الكلام لا يفقه معناه إلا الفقيه في دين الله فإن من شهد حقيقة الخلق وعجزهم وضعفهم وتقصيرهم بل تفريطهم وإضاعتهم لحق الله وإقبالهم على غيره وبيعهم حظهم من الله بأبخس الثمن من هذا العاجل الفاني لم يجد بدا من مقتهم ولا يمكنه غير ذلك ألبتة ولكن إذا رجع إلى نفسه وحاله وتقصيره وكان على بصيرة من ذلك : كان لنفسه أشد مقتا واستهانة فهذا هو الفقيه

وأما الاستقصاء في رؤية علل الخدمة : فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس وتمييز حق الرب منها من حظ النفس ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظا لنفسك وأنت لا تشعر فلا إله إلا الله كم فى النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال : أن تكون لله خالصة وأن تصل إليه ! وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر ألبتة وهو غير خالص لله ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا وهو خالص لوجه الله ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها فبين العمل وبين القلب مسافة وفى تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب فيكون الرجل كثير العمل وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه وبين الحق والباطل ولا قوة في أمره فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق ورأى الحق والباطل وميز بين أولياء الله وأعدائه وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال ثم بين القلب وبين الرب مسافة وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه من كبر وإعجاب وإدلال ورؤية العمل ونسيان المنة وعلل خفية لو استقصى فى طلبها لرأى العجب ومن رحمة الله تعالى : سترها على أكثر العمال إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها من اليأس والقنوط والاستحسار وترك العمل وخمود العزم وفتور الهمة ولهذا لما ظهرت رعاية أبي عبدالله الحارث بن أسد المحاسبي واشتغل بها العباد عطلت منهم مساجد كانوا يعمرونها بالعبادة والطبيب الحاذق يعلم كيف يطب النفوس فلا يعمر قصرا ويهدم مصرا

فصل قال : وإنما يستقيم الرجوع إليه حالا بثلاثة أشياء : بالإياس من
عملك وبمعاينة اضطرارك وشيم برق لطفه بك

الإياس من العمل يفسر بشيئين أحدهما : أنه إذا نظر بعين الحقيقة إلى الفاعل الحق والمحرك الأول وأنه لولا مشيئته لما كان منك فعل فمشيئته أوجبت فعلك لا مشيئتك : بقي بلا فعل فههنا تنفع مشاهدة القدر والفناء عن رؤية الأعمال والثاني : أن تيأس من النجاة بعملك وترى النجاة إنما هى برحمته تعالى وعفوه وفضله كما في الصحيح عن النبي أنه قال : لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فالمعنى الأول يتعلق ببداية الفعل والثاني بغايته ومآله وأما معاينة الاضطرار : فإنه إذا أيس من عمله بداية وأيس من النجاة به نهاية شهد به شهد فى كل ذرة منه ضرورة تامة إليه وليست ضرورته من هذه الجهة وحدها بل من جميع الجهات وجهات ضرورته لا تنحصر بعدد ولا لها سبب بل هو مضطر إليه بالذات كما أن الله عز و جل غني بالذات فإن الغنى وصف ذاتي للرب والفقر والحاجة والضرورة وصف ذاتي للعبد قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه :
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذاتي وأما شيم برق لطفه بك : فإنه إذا تحقق له قوة ضرورية وأيس من عمله والنجاة به نظر إلى ألطاف الله وشام برقها وعلم أن كل ما هو فيه وما يرجوه وما تقدم له : لطف من الله به ومنة من بها عليه وصدقة تصدق بها عليه بلا سبب منه إذ هو المحسن بالسبب والمسبب والأمر له من قبل ومن بعد وهو الأول والآخر لا اله غيره ولا رب سواه

فصل ثم ينزل القلب منزل التذكر وهو قرين الإنابة قال الله تعالى وما
يتذكر إلا من ينيب غافر : 123 وقال : تبصرة وذكرى لكل عبد

منيب ق : 8 وهو من خواص أولي الألباب كما قال تعالى : إنما يتذكر أولو الألباب الرعد : 19 وقال تعالى : وما يذكر إلا أولو الألباب البقره : 269 و التذكر و التفكر منزلان يثمران أنواع المعارف وحقائق الإيمان والإحسان والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكره وبتذكره على تفكره حتى يفتح قفل قلبه بإذن الفتاح العليم قال الحسن البصري ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت

قال صاحب المنازل التذكر فوق التفكر لأن التفكر طلب والتذكر وجود يريد أن
التفكر التماس الغايات من مباديها كما قال : التفكر تلمس البصيرة واستدراك البغية وأما قوله : التذكر وجود فلأنه يكون فيما قد حصل بالتفكر ثم غاب عنه بالنسيان فإذا تذكره وجده فظفر به و التذكر تفعل من الذكر وهو ضد النسيان وهو حضور صورة المذكور العلمية فى القلب واختير له بناء التفعل لحصوله بعد مهلة وتدرج كالتبصر والتفهم والتعلم فمنزلة التذكر من التفكر منزلة حصول الشيء المطلوب بعد التفتيش عليه ولهذا كانت آيات الله المتلوة والمشهودة ذكرى كما قال في المتلوة ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب غافر : 5354 وقال عن القرآن : وإنه لتذكرة للمتقين الحاقة : 69 وقال في آياته المشهودة : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج

والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ق : 58 ف التبصر آلة البصر و التذكره آلة الذكر وقرن بينهما وجعلهما لأهل الإنابة لأن العبد إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر فاستدل بها على ما هي آيات له فزال عنه الإعراض بالإنابة والعمى بالتبصرة والغفلة بالتذكرة لأن التبصرة توجب له حصول صورة المدلول في القلب بعد غفلته عنها فترتب المنازل الثلاثة أحسن ترتيب ثم إن كلا منها يمد صاحبه ويقويه ويثمره وقال تعالى في آياته المشهودة : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ق : 3637 والناس ثلاثة : رجل قلبه ميت فذلك الذي لا قلب له فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه الثاني : رجل له قلب حي مستعد لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة : إما لعدم ورودها أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها فهو غائب القلب ليس حاضرا فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه والثالث : رجل حي القلب مستعد تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وألقى السمع وأحضر قلبه ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه فهو شاهد القلب ملق السمع فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة فالأول : بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر والثاني : بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه فكلاهما لا يراه

والثالث : بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور وأتبعه بصره وقابله على توسط من البعد والقرب فهذا هو الذي يراه فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور فإن قيل : فما موقع أو من هذا النظم على ما قررت قيل : فيها سر لطيف ولسنا نقول : إنها بمعنى الواو كما يقوله ظاهرية النحاة فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد مليء باستخراج العبر واستنباط الحكم فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار فإذا سمع الآيات كانت له نورا على نور وهؤلاء أكمل خلق الله وأعظمهم إيمانا وبصيرة حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول مشاهد لهم لكن لم يشعروا بتفاصيله وأنواعه حتى قيل : إن مثل حال الصديق مع النبي كمثل رجلين دخلا دارا فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته والآخر : وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته لكن علم أن فيها أمورا عظيمة لم يدرك بصره تفاصيلها ثم خرجا فسأله عما رأى فى الدار فجعل كلما أخبره بشيء صدقه لما عنده من شواهده وهذه أعلى درجات الصديقية ولا تستبعد أن يمن الله المنان على عبد بمثل هذا الإيمان فإن فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حسبان فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة ازداد بها نورا إلى نوره فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبه ولم يغب حصل له التذكر أيضا فإن لم يصبها وابل فطل والوابل والطل في جميع الأعمال وآثارها وموجباتها وأهل الجنة سابقون مقربون وأصحاب يمين وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما حتى إن شراب أحد النوعين الصرف يطيب به شراب النوع الآخر ويمزج به مزجا قال الله تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك الحق ويهدي إلى صراط العزيز

الحميد فكل مؤمن يرىذ هذا ولكن رؤية أهل العلم له لون ورؤية غيرهم له لون آخر

قال صاحب المنازل أبنية التذكر ثلاثة : الانتفاع بالعظة والاستبصار
بالعبرة والظفر بثمرة الفكرة الانتفاع بالعظة : هو أن يقدح في القلب قادح الخوف والرجاء فيتحرك للعمل طلبا للخلاص من الخوف ورغبة في حصول المرجو و العظة هي الأمر والنهي المعروف بالترغيب والترهيب و العظة نوعان : عظة بالمسموع وعظة بالمشهود فالعظة بالسموع : الانتفاع بما يسمعه من الهدى والرشد والنصائح التي جاءت على يد الرسل وما أوحى إليهم وكذلك الانتفاع بالعظة من كل ناصح ومرشد في مصالح الدين والدنيا و العظة بالمشهود : الانتفاع بما يراه ويشهده في العالم من مواقع العبر وأحكام القدر ومجاريه وما يشاهده من آيات الله الدالة على صدق رسله وأما استبصار العبرة : فهو زيادة البصيرة عما كانت عليه في منزل التفكر بقوة الاستحضار لأن التذكر يعتقل المعاني التي حصلت بالتفكر في مواقع الآيات والعبر فهو يظفر بها بالتفكر وتنصقل له وتنجلي بالتذكر فيقوي العزم على السير بحسب قوة الاستبصار لأنه يوجب تحديد النظر فيما يحرك المطلب إذ الطلب فرع الشعور فكلما قوي الشعور بالمحبوب اشتد سفر القلب إليه وكلما اشتغل الفكر به ازداد الشعور به والبصيرة فيه والتذكر له وأما الظفر بثمرة الفكرة : فهذا موضع لطيف وللفكرة ثمرتان : حصول المطلوب تماما بحسب الإمكان والعمل بموجبه رعاية لحقه فإن العقل حال التفكر كان قد كل بأعماله في تحصيل المطلوب

فلما حصلت له المعاني وتخمرت في القلب واستراح العقل : عاد فتذكر ما كان حصله وطالعه فابتهج به وفرح به وصحح في هذا المنزل ما كان فاته في منزل التفكر لأنه قد أشرف عليه في مقام التذكر الذي هو أعلى منه فأخذ حينئذ في الثمرة المقصودة وهي العمل بموجبه مراعاة لحقه فإن العمل الصالح : هو ثمرة العلم النافع الذي هو ثمرة التفكر وإذا أردت فهم هذا بمثال حسي : فطالب المال ما دام جادا في طلبه فهو في كلال وتعب حتى إذا ظفر به استراح من كد الطلب وقدم من سفر التجارة فطالع ما حصله وأبصره وصحح في هذه الحال ما عساه غلط فيه في حال اشتغاله بالطلب فإذا صح له وبردت غنيمته له أخذ في صرف المال في وجوه الانتفاع المطلوبة منه والله أعلم

فصل قال : وإنما ينتفع بالعظة بعد حصول ثلاثة أشياء : شدة الافتقار إليها
والعمى عن عيب الواعظ وتذكر الوعد والوعيد إنما يشتد افتقار العبد إلى العظة وهي الترغيب والترهيب إذا ضعفت إنابته وتذكره وإلا فمتى قويت إنابته وتذكره : لم تشتد حاجته إلى التذكير والترغيب والترهيب ولكن تكون الحاجة منه شديدة إلى معرفة الأمر النهي و العظة يراد بها أمران : الأمر والنهي المقرونان بالرغبة والرهبة ونفس الرغبة والرهبة فالمنيب المتذكر : شديد الحاجة إلى الأمر والنهي والمعرض الغافل شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب والمعارض المتكبر : شديد الحاجة إلى المجادلة فجاءت هذه الثلاثة في حق هؤلاء الثلاثة في قوله : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن النحل : 125 أطلق الحكمة ولم يقيدها بوصف الحسنة إذ كلها حسنة ووصف الحسن لها ذاتي وأما الموعظة فقيدها بوصف الإحسان إذ ليس كل موعظة حسنة

وكذلك الجدال قد يكون بالتي هي أحسن وقد يكون بغير ذلك وهذا يحتمل أن يرجع إلى حال المجادل وغلظته ولينه وحدته ورفقه فيكون مأمورا بمجادلتهم بالحال التي هي أحسن ويحتمل أن يكون صفة لما يجادل به من الحجج والبراهين والكلمات التي هي أحسن شيء وأبينه وأدله على المقصود وأوصله إلى المطلوب والتحقيق : أن الآية تتناول النوعين وأما ما ذكره بعض المتأخرين : أن هذا إشارة إلى أنواع القياسات ف الحكمة هى طريقة البرهان و الموعظة الحسنة هي طريقة الخطابة و المجادلة بالتي هي أحسن طريقة الجدل فالأول : بذكر المقدمات البرهانية لمن لا يرضى إلا بالبرهان ولا ينقاد إلا له وهم خواص الناس والثاني : بذكر المقدمات الخطابية التي تثير رغبة ورهبة لمن يقنع بالخطابة وهم الجمهور والثالث : بذكر المقدمات الجدلية للمعارض الذي يندفع بالجدل وهم المخالفون فتنزيل القرآن على قوانين أهل المنطق اليوناني واصطلاحهم وذلك باطل قطعا من وجوه عديدة ليس هذا موضع ذكرها وإنما ذكر هذا استطرادا لذكر العظة وأن المنيب المتذكر لا تشتد حاجته إليها كحاجة الغافل المعرض فإنه شديد الحاجة جدا إلى العظة ليتذكر ما قد نسيه فينتفع بالتذكر وأما العمى عن عيب الواعظ : فإنه إذا اشتغل به حرم الانتفاع بموعظته لأن النفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا ينتفع به وهذا بمنزلة من يصف له الطبيب دواء لمرض به مثله والطبيب معرض عنه غير ملتفت إليه بل الطبيب المذكور عندهم : أحسن حالا من هذا الواعظ المخالف لما يعظ به لأنه قد يقوم عنده دواء آخر عنده مقام هذا الدواء وقد يرى أن به قوة على ترك التداوي وقد يقنع بعمل الطبيعة وغير ذلك بخلاف هذا الواعظ فإن ما يعظ به طريق معين للنجاة لا يقوم غيرها مقامها ولا بد منها ولأجل هذه النفرة قال

شعيب عليه السلام لقومه : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه هود : 88 وقال بعض السلف : إذا أردت أن يقبل منك الأمر والنهي : فإذا أمرت بشيء فكن أول الفاعلين له المؤتمرين به وإذا نهيت عن شيء فكن أول المنتهين عنه وقد قيل : يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام من الضنى ومن الضنى تمسي وأنت سقيم لا تنه عن خلق وتأتى مثله ... عار عليك إذا فعلت ذميم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقول ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم فالعمى عن عيب الواعظ : من شروط تمام الانتفاع بموعظته وأما تذكر الوعد والوعيد : فإن ذلك يوجب خشيته والحذر منه ولا تنفع الموعظة إلا لمن آمن به وخافه ورجاه قال الله تعالى إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة هود : 103 وقال : سيذكر من يخشى الأعلى : 10 وقال : إنما أنت منذر من يخشاها النازعات : 45 وأصرح من ذلك قوله تعالى فذكر بالقرآن من يخاف وعيد بالوعد والوعيد وذكره : شرط في الانتفاع بالعظات والآيات والعبر يستحيل حصوله بدونه قال وإنما تستبصر العبرة بثلاثة أشياء : بحياة العقل ومعرفة الأيام والسلامة من الأغراض إنما تتميز العبرة وترى وتتحقق بحياة العقل و العبرة هي الاعتبار وحقيقتها : العبور من حكم الشيء إلى حكم مثله فإذا رأى من قد أصابته محنة وبلاء لسبب ارتكبه علم أن حكم من ارتكب ذلك السبب كحكمه وحياة العقل : هي صحة الإدراك وقوة الفهم وجودته وتحقق الانتفاع

بالشيء والتضرر به وهو نور يخص الله به من يشاء من خلقه وبحسب تفاوت الناس في قوة ذلك النور وضعفه ووجوده وعدمه يقع تفاوت أذهانهم وأفهامهم وإدراكاتهم ونسبته إلى القلب كنسبة النور الباصر إلى العين ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة : أن من أدمن يا حي ياقيوم لا إله إلا أنت أورثه ذلك حياة القلب والعقل وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه شديد اللهج بها جدا وقال لي يوما : لهذين الاسمين وهما الحي القيوم تأثير عظيم في حياة القلب وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم وسمعته يقول : من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر ياحي ياقيوم لاإله إلا أنت برحمتك أستغيث حصلت له حياة القلب ولم يمت قلبه ومن علم عبوديات الأسماء الحسنى والدعاء بها وسر ارتباطها بالخلق والأمر وبمطالب العبد وحاجاته عرف ذلك وتحققه فإن كل مطلوب يسأل بالمناسب له فتأمل أدعية القرآن والأحاديث النبوية تجدها كذلك وأما معرفة الأيام : فيحتمل أن يريد به أيامه التى تخصه وما يلحقه فيها من الزيادة والنقصان ويعلم قصرها وأنها أنفاس معدودة منصرمة كل نفس منها يقابله آلاف آلاف من السنين في دار البقاء فليس لهذه الأيام الخالية قط نسبة إلى أيام البقاء والعبد منساق زمنه وفي مدة العمر إلى النعيم أو إلى الجحيم وهي كمدة المنام لمن له عقل حي وقلب واع فما أولاه أن لايصرف منها نفسا إلا في أحب الأمور إلى الله فلو صرفه فيما يحبه وترك الأحب لكان مفرعطا فكيف إذا صرفه فيمالا ينفعه فكيف إذا صرفه فيما يمقته عليه ربه فالله المستعان ولا قوة إلا به ويحتمل أن يريد بالأيام أيام الله التي أمر رسله بتذكير أممهم بها كما قال تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى

النور وذكرهم بأيام الله إبراهيم : 5 وقد فسرت أيام الله بنعمه وفسرت بنقمة من أهل الكفر والمعاصي فالأول تفسير ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد والثاني : تفسير مقاتل والصواب : أن أيامه تعم النوعين وهي وقائعه التي أوقعها بأعدائه ونعمه التي ساقها إلى أوليائه وسميت هذه النعم والنقم الكبار المتحدث بها أياما لأنها ظرف لها تقول العرب فلان عالم بأيام العرب وأيام الناس أي بالوقائع التي كانت في تلك الأيام فمعرفة هذه الأيام توجب للعبد استبصار العبر وبحسب معرفته بها تكون عبرته وعظته قال الله تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب يوسف : 111 ولا يتم ذلك إلا بالسلامة من الأغراض وهي متابعة الهوى والانقياد لداعي النفس الأمارة بالسوء فإن اتباع الهوى يطمس نور العقل ويعمي بصيرة القلب ويصد عن اتباع الحق ويضل عن الطريق المستقيم فلا تحصل بصيرة العبرة معه ألبتة والعبد إذا اتبع هواه فسد رأيه ونظره فأرته نفسه الحسن في صورة القبيح والقبيح في صورة الحسن فالتبس عليه الحق بالباطل فأنى له الانتفاع بالتذكر والتفكر أو بالعظة

فصل قال : وإنما تجتنى ثمرة الفكرة بثلاثة أشياء : بقصر الأمل
والتأمل في القرآن وقلة الخلطة والتمني والتعلق بغير الله والشبع والمنام يعنى : أن في منزل التذكر تجتني ثمرة الفكرة لأنه أعلى منها وكل مقام تجتنى ثمرته في الذي هو أعلى منه ولا سيما على ما قرره في خطبة كتابه أن كل مقام يصحح ما قبله ثم ذكر أن هذه الثمرة تجتنى بثلاثة أشياء أحدها : قصر الأمل والثاني : تدبر القرآن والثالث : تجنب مفسدات القلب الخمسة

فأما قصر الأمل : فهو العلم بقرب الرحيل وسرعة انقضاء مدة الحياة وهو من أنفع الأمور للقلب فإنه يبعثه على معافصة الأيام وانتهاز الفرص التي تمر مر السحاب ومبادرة طي صحائف الأعمال ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء ويحثه على قضاء جهاز سفره وتدارك الفارط ويزهده في الدنيا ويرغبه في الآخرة فيقوم بقلبه إذا داوم مطالعة قصر الأمل شاهد من شواهد اليقين يريه فناء الدنيا وسرعة انقضائها وقلة ما بقي منها وأنها قد ترحلت مدبرة ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها وأنها لم يبق منها إلا كما بقي من يوم صارت شمسه على رءوس الجبال ويريه بقاء الآخرة ودوامها وأنها قد ترحلت مقبلة وقد جاء أشراطها وعلاماتها وأنه من لقائها كمسافر خرج صاحبه يتلقاه فكل منهما يسير إلى الآخر فيوشك أن يلتقيا سريعا ويكفى فى قصر الأمل قوله تعالى : أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون الشعراء : 20520 وقوله تعالى ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم يونس : 45 وقوله تعالى : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها وقوله تعالى قالوا لبثنا يوما أوبعض يوم فاسأل العادين قال : إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون المؤمنون : 1131 وقوله تعالى كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون وقوله تعالى يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة : إن لبثتم إلا يوما طه : 103104 وخطب النبيأصحابه يوما والشمس على رءوس الجبال فقال : إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه ومر رسول اللهببعض أصحابه وهم يعالجون خصا لهم قد وهى وهم يصلحونه فقال : ما هذا قالوا : خص لنا قد وهى فنحن نعالجه فقال : ما أرى الأمر إلا أعجل من هذا

وقصر الأمل بناؤه على أمرين : تيقن زوال الدنيا ومفارقتها وتيقن لقاء الآخرة وبقائها ودوامها ثم يقايس بين الأمرين ويؤثر أولاهما بالإيثار

فصل وأما التأمل في القرآن : فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه وجمع
الفكر على تدبره وتعقله وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر قال الله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ص : 29 وقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها محمد : 24 وقال تعالى أفلم يدبروا القول المؤمنون : 68 وقال تعالى إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون الزخرف : 3 وقال الحسن : نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملا فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته : من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع منه الفكر على معاني آياته فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة وتثبت قواعد الإيمان في قلبه وتشيد بنيانه وتوطد أركانه وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم وتبصره مواقع العبر وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه وقواطع الطريق وآفاتها وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه وافتراقهم فيما يفترقون فيه

وبالجملة : تعرفه الرب المدعو إليه وطريق الوصول اليه وما له من الكرامة إذا قدم عليه وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى : ما يدعو إليه الشيطان والطريق الموصلة إليه وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه فهذه ستة أمور ضرورية للعبد معرفتها ومشاهدتها ومطالعتها فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم فتريه الحق حقا والباطل باطلا وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلال والغي والرشاد وتعطيه قوة في قلبه وحياة وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا فيصير في شأن والناس فى شأن آخر فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه والعلم بالله وماله من أوصاف الكمال وما ينزه عنه من سمات النقص وعلى الإيمان بالرسل وذكر براهين صدقهم وأدلة صحة نبوتهم والتعريف بحقوقهم وحقوق مرسلهم وعلى الإيمان بملائكته وهم رسله في خلقه وأمره وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي وما يختص بالنوع الإنسانى منهم من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه ويقدم عليه وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق التى لا يشعرون فيها بألم ولا نكد ولا تنغيص وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل التى لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح وتفاصيل ذلك أتم تفصيل وأبينه وعلى تفاصيل الأمر والنهي والشرع والقدر والحلال والحرام والمواعظ والعبر والقصص والأمثال والأسباب والحكم والمبادىء والغايات في خلقه وأمره فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل

وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل وتناديه كلما فترت عزماته وونى في سيره : تقدم الركب وفاتك الدليل فاللحاق اللحاق والرحيل الرحيل وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو أو قاطع من قطاع الطريق نادته : الحذر الحذر ! فاعتصم بالله واستعن به وقل : حسبي الله ونعم الوكيل وفي تأمل القرآن وتدبره وتفهمه : أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد وبالجملة : فهو أعظم الكنوز طلسمه الغوص بالفكر إلى قرار معانيه :
نزه فؤادك عن سوى روضاته ... فرياضه حل لكل منزه
والفهم طلسم لكنز علومه فاقصد إلى الطلسم تحظ بكنزه
لا تخش من بدع لهم وحوادث ... ما دمت فى كنف الكتاب وحرزه
من كان حارسه الكتاب ودرعه ... لم يخش من طعن العدو ووخزه
لا تخش من شبهاتهم واحمل إذا ما قابلتك بنصره وبعزه
والله ما هاب امرؤ شبهاتهم ... إلا لضعف القلب منه وعجزه
يا ويح تيس ظالع يبغي مسا ... بقة الهزبر بعدوه وبجمزه
ودخان زبل يرتقى للشمس يس ... تر عينها لما سرى فى أزه
وجبان قلب أعزل قد رام يأس ... ر فارسا شاكى السلاح بهزه

فصل وأما مفسدات القلب الخمسة : فهي التي أشار إليها : من كثرة
الخلطة والتمني والتعلق بغير الله والشبع والمنام فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب فنذكر آثارها التي اشتركت فيها وما تميز به كل واحد منها

اعلم أن القلب يسير إلى الله عز و جل والدار الآخرة ويكشف عن طريق الحق ونهجه وآفات النفس والعمل وقطاع الطريق بنوره وحياته وقوته وصحته وعزمه وسلامة سمعه وبصره وغيبه الشواغل والقوطع عنه وهذه الخمسة تطفىء نوره وتعور عين بصيرته وتثقل سمعه إن لم تصمه وتبكمه وتضعف قواه كلها وتوهن صحته وتفتر عزيمته وتوقف همته وتنكسه إلى وراءه ومن لا شعور له بهذا فميت القلب وما لجرح بميت إيلام فهي عائقة له عن نبل كماله قاطعه له عن الوصول الى ما خلق له وجعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه فإنه لا نعيم له ولا لذة ولا ابتهاج ولا كمال إلا بمعرفة الله ومحبته والطمأنينة بذكره والفرح والابتهاج بقربه والشوق إلى لقائه فهذه جنته العاجلة كما أنه لا نعيم له في الآخرة ولا فوز إلا بجواره في دار النعيم في الجنه الآجلة فله جنتان لا يدخل الثانية منهما إن لم يدخل الأولى وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة وقال بعض العارفين : إنه ليمر بالقلب أوقات أقول : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب وقال بعض المحبين : مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها قالوا : وما أطيب ما فيها قال : محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والإقبال عليه والإعراض عما سواه أو نحو هذا من الكلام وكل من له قلب حى يشهد هذا ويعرفه ذوقا وهذه الأشياء الخمسة : قاطعة عن هذا حائلة بين القلب وبينه عائقة له عن سيره ومحدثة له أمراضا وعللا إن لم يتداركها المريض خيف عليه منها فأما ما تؤثره كثرة الخلطة : فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى

يسود ويوجب له تشتتا وتفرقا وهما وغما وضعفا وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء وإضاعة مصاحله والاشتغال عنها بهم وبأمورهم وتقسم فكره في أودية مطالبهم وإراداتهم فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة هذا وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ودفعت من نعمة وأنزلت من منحة وعطلت من منحة وأحلت من رزية وأوقعت في بلية وهل آفة الناس إلا الناس وهل كان على أبي طالب عند الوفاة أضر من قرناء السوء لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا وقضاء وطر بعضهم من بعض تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة ويعض المخلط عليها يديه ندما كما قال تعالى : ويوم يعض الظالم على يديه يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني الفرقان : 2729 وقال تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين الزخرف : 67 وقال خليله إبراهيم لقومه إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين العنكبوت : 25 وهذا شأن كل مشتركين في غرض يتوادون ما داموا متساعدين على حصوله فإذا انقطع ذلك الغرض أعقب ندامة وحزنا وألما وانقلبت تلك المودة بغضا ولعنة وذما من بعضهم لبعض لما انقلب ذلك الغرض حزنا وعذابا كما يشاهد في هذه الدار من أحوال المشتركين في خزيه إذا أخذوا وعوقبوا فكل متساعدين على باطل متوادين عليه : لا بد أن تنقلب مودتهما بغضا وعداوة والضابط النافع في أمر الخلطة : أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة والأعياد والحج وتعلم العلم والجهاد والنصيحة ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات فإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر ولم يمكنه اعتزالهم : فالحذر

الحذر أن يوافقهم وليصبر على أذاهم فإنهم لا بد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له وتعظيم وثناء عليه منهم ومن المؤمنين ومن رب العالمين وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له ومقت وذم منهم ومن المؤمنين ومن رب العالمين فالصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة وأحمد مآلا وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه ويشجع نفسه ويقوي قلبه ولا يلتفت إلى الوارد الشيطاني القاطع له عن ذلك بأن هذا رياء ومحبة لإظهار علمك وحالك ونحو ذلك فليحاربه وليستغن بالله ويؤثر فيهم من الخير ما أمكنه فإن أعجزته المقادير عن ذلك فليسل قلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين وليكن فيهم حاضرا غائبا قريبا بعيدا نائما يقظانا ينظر إليهم ولا يبصرهم ويسمع كلامهم ولا يعيه لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية الزكية وما أصعب هذا وأشقه على النفوس وإنه ليسير على من يسره الله عليه فبين العبد وبينه أن يصدق الله تبارك وتعالى ويديم اللجأ إليه ويلقي نفسه على بابه طريحا ذليلا ولا يعين على هذا إلا محبة صادقة والذكر الدائم بالقلب واللسان وتجنب المفسدات الأربع الباقية الآتي ذكرها ولا ينال هذا إلا بعدة صالحة ومادة قوة من الله عز و جل وعزيمة صادقة وفراغ من التعلق بغير الله تعالى والله تعالى أعلم

فصل المفسد الثاني : من مفسدات القلب ركوبه بحر التمنى وهو بحر لا ساحل
له وهو البحر الذي يركبه مفاليس العالم كما قيل إن المنى رأس أموال المفاليس وبضاعة ركابه مواعيد الشيطان

وخيالات المحال والبهتان فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة والخيالات الباطلة تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة وهي بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية ليست لها همة تنال بها الحقائق الخارجية بل أعتاضت عنها بالأماني الذهبية وكل بحسب حاله : من متمن للقدرة والسلطان وللضرب فى الأرض والتطراف في البلدان أو للأموال والأثمان أو للنسوان والمردان فيمثل المتمني صورة مطلوبه في نفسه وقد فاز بوصولها والتذ بالظفر بها مبيننا هو على هذه الحال إذ استيقظ فإذا يده والحصير وصاحب الهمة العلية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان والعمل الذى يقربه إلى الله ويدنيه من جواره فأماني هذا إيمان ونور وحكمة وأماني أولئك خدع وغرور وقد مدح النبيمتمني الخير وربما جعل أجره في بعض الأشياء كأجر فاعله كالقائل : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان الذي يتقي في ماله ربه ويصل فيه رحمه ويخرج منه حقه وقال : هما في الأجر سواء وتمنىفي حجة الوداع : أنه لو كان تمتع وحل ولم يسق الهدي وكان قد قرن فأعطاه الله ثواب القران بفعله وثواب التمتع الذي تمناه بأمنيته فجمع له بين الأجرين

فصل المفسد الثالث من مفسدات القلب التعلق بغير الله تبارك وتعالى وهذا
أعظم مفسداته على الإطلاق فليس عليه أضر من ذلك ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به وخذله من جهة ما تعلق به وفاته تحصيل مقصوده من الله عز و جل بتعلقه بغيره والتفاته إلى سواه فلا على نصيبه من الله حصل ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل قال الله تعالى :

واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا مريم : 8182 وقال تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرونلا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون يس : 7475 فأعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله فإن مافاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به وهو معرض للزوال والفوات ومثل المتعلق بغير الله : كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت وبالجملة : فأساس الشرك وقاعدته التي بنى عليها : التعلق بغير الله ولصاحبه الذم والخذلان كما قال تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا الإسراء : 22 مذموما لا حامد لك مخذولا لا ناصر لك إذ قد يكون بعض الناس مقهورا محمودا كالذي قهر بباطل وقد يكون مذموما منصورا كالذي قهر وتسلط عليه بباطل وقد يكون محمودا منصورا كالذي تمكن وملك بحق والمشرك المتعلق بغير الله قسمه أردأ الأقسام الأربعة لا محمود ولا منصور

فصل المفسد الرابع من مفسدات القلب : الطعام والمفسد له من ذلك نوعان :
أحدهما ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات وهي نوعان : محرمات لحق الله كالميتة والدم ولحم الخنزير وذي الناب من السباع والمخلب من الطير ومحرمات لحق العباد كالمسروق والمغصوب والمنهوب وما أخذ بغير رضى صاحبه إما قهرا وإما حياء وتذمما والثاني : ما يفسده بقدره : وتعدي حده كالإسراف في الحلال والشبع المفرط فإنه يثقله عن الطاعات ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولتها حتى يظفر بها فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها والتأذى بثقلها وقوى عليه مواد الشهوة وطرق مجاري الشيطان ووسعها فإنه يجرى من ابن آدم مجرى الدم فالصوم يضيق مجاريه ويسد عليه طرقها والشبع يطرقها

ويوسعها ومن أكل كثيرا شرب كثيرا فنام كثيرا فخسر كثيرا وفي الحديث المشهور : ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ويحكى أن إبليس لعنه الله عرض ليحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام فقال له يحيى : هل نلت مني شيئا قط قال : لا إلا أنه قدم إليك الطعام ليلة فشهيته إليك حتى شبعت منه فنمت عن وردك فقال يحيى : الله علي أن لا أشبع من طعام أبدا فقال إبليس : وأنا لله علي أن لا أنصح آدمي أبدا

فصل المفسد الخامس كثرة النوم فإنه يميت القلب ويثقل البدن ويضيع الوقت
ويورث كثرة الغفلة والكسل ومنه المكروه جدا ومنه الضار غير النافع للبدن وأنفع النوم : ما كان عند شدة الحاجة إليه ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه وكثر ضرره ولا سيما نوم العصر والنوم أول النهار إلا لسهران ومن المكروه عندهم : النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس فإنه وقت غنيمة وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس فإنه أول النهار ومفتاحه ووقت نزول الأرزاق وحصول القسم وحلول البركة ومنه ينشأ النهار وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة فينبغى أن يكون نومها كنوم المضطر وبالجملة فأعدل النوم وأنفعه : نوم نصف الليل الأول وسدسه الأخير وهو مقدار ثمان ساعات وهذا أعدل النوم عند الأطباء وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافا بحسبه

ومن النوم الذي لا ينفع أيضا : النوم أول الليل عقيب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء وكان رسول اللهيكرهه فهو مكروه شرعا وطبعا وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات فمدافعته وهجره مورث لآفات أخرى عظام : من سوء المزاج ويبسه وانحراف النفس وجفاف الرطوبات المعينة على الفهم والعمل ويورث أمراضا متلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا بدنه معها وما قام الوجود إلا بالعدل فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير وبالله المستعان

فصل ثم ينزل القلب منزل الاعتصام وهو نوعان : اعتصام بالله واعتصام
بحبل الله قال الله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا آل عمران : 103 وقال : واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير الحج : 78 و الاعتصام افتعال من العصمة وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف فالعصمة : الحمية والاعتصام : الاحتماء ومنه سميت القلاع : العواصم لمنعها وحمايتها ومدار السعادة الدنيوية والأخروية : على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين فأما الاعتصام بحبله : فإنه يعصم من الضلالة والاعتصام به : يعصم من الهلكة فإن السائر الى الله كالسائر على طريق نحو مقصده فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق والعدة والقوة والسلاح التى بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها

نالاعتصام بحبل الله : يوجب له الهداية واتباع الدليل والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي يستلئم بها فى طريقه ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى فقال ابن عباس : تمسكوا بدين الله وقال ابن مسعود : هو الجماعة وقال : عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة وقال مجاهد وعطاء : بعهد الله وقال قتادة والسدي وكثير من أهل التفسير هو القرآن قال ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي : إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه عن النبيفي القرآن : هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تختلف به الألسن ولا يخلق على كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء وقال مقاتل : بأمر الله وطاعته ولا تفرقوا كما تفرقت اليهود والنصارى وفي الموطأ من حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللهقال : إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم : قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال رواه مسلم في الصحيح

قال صاحب المنازل : الاعتصام بحبل الله : هو المحافظة على طاعته مراقبا
لأمره

ويريد بمراقبة الأمر : القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأحبها لا لمجرد العادة أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر كما قال طلق بن حبيب رضي الله عنه في التقوى : هى العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله وهذا هو الإيمان والاحتساب المشار إليه فى كلام النبيكقوله من صام رمضان إيمانا واحتسابا ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له فالصيام والقيام : هو الطاعة و الإيمان مراقبة الأمر وإخلاص الباعث : هو أن يكون الإيمان الآمر لا شيء سواه و الاحتساب رجاء ثواب الله فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل والله أعلم

فصل وأما الاعتصام به : فهو التوكل عليه والامتناع به والاحتماء به
وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه ويعصمه ويدفع عنه فإن ثمرة الاعتصام به : هو الدفع عن العبد والله يدافع عن الذين آمنوا فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب ويحميه منه فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه الظاهر والباطن وشر نفسه ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه فتفقد في حقه أسباب العطب فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها ويدفع عنه قدره بقدره وإرادته بإرادته ويعيذه به منه
فصل وأما صاحب المنازل فقال : الاعتصام بالله الترقي عن كل موهوم الموهوم
عنده ما سوى الله تعالى و الترقي عنه الصعود من شهود

نفعه وضره وعطائه ومنعه وتأثيره إلى الله تعالى وهذه إشارة إلى الفناء ومراده : الصعود عن شهود ما سوى الله إلى الله والكمال في ذلك : الصعود عن إرادة ما سوى الله إلى إرادته والاتحادي يفسره بالصعود عن وجود ما سواه إلى وجوده بحيث لا يرى لغيره وجودا ألبتة ويرى وجود كل موجود هو وجوده فلا وجود لغيره إلا في الوهم الكاذب عنده قال : وهو على ثلاث درجات : اعتصام العامة بالخبر استسلاما وإذعانا بتصديق الوعد والوعيد وتعظيم الأمر والنهي وتأسيس المعاملة على اليقين والانصاف يعني أن العامة اعتصموا بالخبر الوارد عن الله استسلاما من غير منازعة بل إيمانا واستسلاما وانقادوا إلى تعظيم الأمر والنهي والإذعان لهما والتصديق بالوعد والوعيد وأسسوا معاملتهم على اليقين لا على الشك والتردد وسلوك طريقة الاحتياط كما قال القائل : زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت : إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما هذه طريق أهل الريب والشك يقومون بالأمر والنهي احتياطا وهذه الطريق لا تنجي من عذاب الله ولا تحصل لصاحبها السعادة ولا توصله إلى المأمن وأما الإنصاف الذي أسسوا معاملتهم عليه : فهو الإنصاف في معاملتهم لله ولخلقه فأما الإنصاف في معاملة الله : فأن يعطى العبودية حقها وأن لا ينازع ربه صفات إلهيته التي لا تليق بالعبد ولا تنبغي له : من العظمة والكبرياء والجبروت ومن إنصافه لربه : أن لا يشكر سواه على نعمه وينساه ولا يستعين بها

على معاصيه ولا يحمد على رزقه غيره ولا يعبد سواه كما في الأثر الإلهي إني والجن والإنس في نبإ عظيم : أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي وفي أثر آخر : ابن آدم : ما أنصفتني خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد أتحبب إليك بالنعم وأنا عنك غني وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح وفي أثر آخر : يا ابن آدم ما من يوم جديد إلا يأتيك من عندي رزق جديد وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح تأكل رزقي وتعصيني وتدعوني فأستجيب لك وتسألني فأعطيك وأنا أدعوك إلى جنتي فتأبى ذلك وما هذا من الإنصاف وأما الإنصاف في حق العبيد : فأن يعاملهم مثل ما يحب أن يعاملوه به ولعمر الله هذا الذي ذكر أنه اعتصام العامة : هو اعتصام خاصة الخاصة في الحقيقة ولكن الشيخ ممن رفع له علم الفناء فشمر إليه فلا تأخذه فيه لومة لائم ولا يرى مقاما أجل منه

فصل قال : واعتصام الخاصة : بالانقطاع وهو صون الإرادة قبضا وإسبال الخلق
عن الخلق بسطا ورفض العلائق عزما وهو التمسك بالعروة الوثقى يريد انقطاع النفس عن أغراضها من هذه الوجوه الثلاثة فيصون إرادته ويقبضها عما سوى الله سبحانه وهذا شبيه بحال أبي يزيد رحمه الله فيما أخبر به عن نفسه لما قيل له : ما تريد فقال : أريد أن لا أريد الثاني : إسبال الخلق على الخلق بسطا وهذا حقيقة التصوف فإنه كما

قال أبو بكر الكتانى : التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف فإن حسن الخلق وتزكية النفس بمكارم الأخلاق : يدل على سعة قلب صاحبه وكرم نفسه وسجيته وفي هذا الوصف : يكف الأذى ويحمل الأذى ويوجد الراحة ويدير خده الأيسر لمن لطم الأيمن ويعطي رداءه لمن سلبه قميصه ويمشى ميلين مع من سخره ميلا وهذا علامة انقطاعه عن حظوظ نفسه وأغراضها وأما رفض العلائق عزما : فهو العزم التام على رفض العلائق وتركها في ظاهره وباطنه والأصل هو قطع علائق الباطن فمتى قطعها لم تضره علائق الظاهر فمتى كان المال في يدك وليس في قلبك لم يضرك ولو كثر ومتى كان في قلبك ضرك ولو لم يكن في يدك منه شيء قيل للإمام أحمد : الرجل زاهدا ومعه ألف دينار قال : نعم على شريطة ألالا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت ولهذا كان الصحابة أزهد الأمة مع ما بأيديهم من الأموال

وقيل لسفيان الثورى : أيكون ذو المال زاهدا قال : نعم إن كان إذا زيد فى ماله شكر وإن نقص شكر وصبر وإنما يحمد قطع العلائق الظاهرة في موضعين : حيث يخاف منها ضررا في دينه أو حيث لا يكون فيها مصلحة راجحة والكمال من ذلك : قطع العلائق التى تصير كلاليب على الصراط تمنعه من العبور وهي كلاليب الشهوات والشبهات ولا يضره ما تعلق به بعدها

فصل قال : واعتصام خاصة الخاصة : بالاتصال وهو شهود الحق تفريدا بعد
الاستحذاء له تعظيما والاشتغال به قربا لما كان ذلك الانقطاع موصلا إلى هذا الاتصال : كان ذلك للمتوسطين وهذا عنده لأهل الوصول ويعني بشهود الحق تفريدا : أن يشهد الحق سبحانه وحده منفردا ولا شيء معه وذلك لفناء الشاهد في الشهود والحوالة في ذلك عند القوم : على الكشف وقد تقدم أن هذا ليس بكمال وأن الكمال : أن يفنى بمراده عن مراد نفسه وأما فناؤه بشهوده عن شهود ما سواه : فدون هذا الفناء في الرتبة كما تقدم وأما قوله : بعد الاستحذاء له تعظيما فالشيخ لكثرة لهجه بالاستعارات عبر عن معنى لطيف عظيم بلفظة الاستحذاء التي هي استفعال من المحاذاة وهي المقابلة التي لا يبقى فيها جزء من المحاذي خارجا عما حاذاه بل قد واجهه وقابله بكليته وجميع أجزائه ومراده بذلك : القرب وارتفاع الوسائط المانعة

منه ولا ريب أن العبد يقرب من ربه والرب يقرب من عبده فأما قرب العبد : فكقوله تعالى : واسجد واقترب العلق : 19 وقوله فى الأثر الإلهي من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا وكقوله : وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التى يمشى بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي وفي الحديث الصحيح : أقرب ما يكون الرب من عبده : فى جوف الليل الأخير وفي الحديث أيضا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وفي الحديث الصحيح لما ارتفعت أصواتهم بالتكبير مع النبيفي السفر فقال : يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته فعبر الشيخ رحمه الله عن طلب القرب منه ورفض الوسائط الحائلة بينه وبين القرب المطلوب الذي لا تقر عيون عابديه وأوليائه إلا به : بالاستحذاء وحقيقته : موافاة العبد إلى حضرته وقدامه وبين يديه عكس حال من نبذه وراءه ظهريا وأعرض عنه ونأى بجانبه بمنزلة من ولى المطاع ظهره ومال بشقه عنه وهذا الأمر لا يدرك معناه إلا بوجوده وذوقه وأحسن ما يعبر عنه : بالعبارة النبوية المحمدية وأقرب عبارات القوم : أنه التقريب برفع الوسائط التى بارتفاعها يحصل للعبد حقيقة التعظيم فلذلك قال الاستحذاء له تعظيما ومن أراد فهم هذا كما ينبغي فعليه بفهم اسمه تعالى الباطن وفهم

اسمه القريب مع امتلاء القلب بحبه ولهج اللسان بذكره ومن ههنا يؤخذ العبد إلى الفناء الذى كان مشمرا إليه عاملا عليه فإن كان مشمرا إلى الفناء المتوسط وهو الفناء عن شهود السوى لم يبق فى قلبه شهود لغيره ألبتة بل تضمحل الرسوم وتفنى الإشارات ويفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل وفى هذا المقام يجيب داعي الفناء طوعا ورغبة لا كرها لأن هذا المقام امتزج فيه الحب بالتعظيم مع القرب وهو منتهى سفر الطالبين لمقام الفناء وإن كان العبد مشمرا للفناء العالي وهو الفناء عن إرادة السوى : لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني بل يتحد المرادان فيصير عين مراد الرب هو مراد العبد وهذا حقيقة المحبة الخالصة وفيها يكون الاتحاد الصحيح وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة فتدبر هذا الفرقان في هذا الموضع الذى طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه أفهام الواجدين وفي هذا المقام حقيقة يفنى من لم يكن إرادة وإيثارا ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وتوكلا ويبقى من لم يزل وفيه ترتفع الوسائط بين الرب والعبد حقيقة ويحصل له الاستحذاء المذكور مقرونا بغاية الحب وغاية التعظيم وفي هذا المقام : يجيب داعي الفناء في المحبة طوعا واختيارا لا كرها بل ينجذب إليه انجذاب قلب المحب وروحه الذي قد ملأت المحبة قلبه بحيث لم يبق فيه جزء فارغ منها إلى محبوبه الذي هو أكمل محبوب وأجله وأحقه بالحب وهذا الفناء أوجبه الحب الكامل الممتزج بالتعظيم والإجلال والقرب ومحو ما سوى مراد المحبوب من القلب بحيث لم يبق في القلب إلا المحبوب ومراده وهذا حقيقة الاعتصام به وبحبله والله المستعان

وأما قوله : والاشتغال به قربا أي يشغله قرب الحق عن كل ما سواه وهذا حقيقة القرب ألا ترى أن القريب من السلطان جداالمقبل عليه المكلم له : لا يشتغل بشيء سواه ألبتة فعلى قدر القرب من الله يكون اشتغال العبد به والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفرار
قال الله تعالى : ففروا إلى الله الذاريات : 50 وحقيقة الفرار : الهرب من شيء إلى شيء وهو نوعان : فرار السعداء وفرار الأشقياء ففرار السعداء : الفرار إلى الله عز و جل وفرار الأشقياء : الفرار منه لا إليه وأما الفرار منه إليه : ففرار أوليائه قال ابن عباس في قوله تعالى : ففروا إلى الله الذاريات : 50 : فروا منه إليه واعملوا بطاعته وقال سهل بن عبدالله : فروا مما سوى الله إلى الله وقال آخرون : اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة وقال صاحب المنازل : هو الهرب مما لم يكن إلى من لم يزل وهو على ثلاث درجات : فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا ومن الكسل إلى التشمير جدا وعزما ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء يريد بما لم يكن الخلق وبما لم يزل الحق وقوله : فرار العامة : من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا الجهل نوعان : عدم العلم بالحق النافع وعدم العمل بموجبه ومقتضاه فكلاهما جهل لغة وعرفا وشرعا وحقيقة قال موسى : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين البقره : 67 لما قال له قومه : أتتخذنا هزوا البقره : 67 أى من المستهزئين وقال يوسف الصديق : وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين يوسف : 33 أي من مرتكبي ما حرمت عليهم وقال تعالى : إنما التوبة

على الله للذين يعملون السوء بجهالة النساء : قال قتادة : أجمع أصحاب رسول اللهأن كل ما عصى الله به فهو جهالة وقال غيره : أجمع الصحابة رضي الله عنه أن كل من عصى الله فهو جاهل وقال الشاعر : ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وسمى عدم مراعاة العلم جهلا إما لأنه لم ينتفع به فنزل منزلة الجاهل وإما لجهله بسوء ما تجني عواقب فعله فالفرار المذكور : هو الفرار من الجهلين : من الجهل بالعلم إلى تحصيله اعتقادا ومعرفة وبصيرة ومن جهل العمل إلى السعي النافع والعمل الصالح قصدا وسعيا قوله ومن الكسل إلى التشمير جدا وعزما أي : يفر من إجابة داعي الكسل إلى داعي العمل والتشمير بالجد والاجتهاد و الجد ههنا هو صدق العمل وإخلاصه من شوائب الفتور ووعود التسويف والتهاون وهو تحت السين وسوف وعسى ولعل فهى أضر شىء على العبد وهي شجرة ثمرها الخسران والندامات والفرق بين الجد والعزم : أن العزم صدق الإرادة واستجماعها و الجد صدق العمل وبذل الجهد فيه وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتلقى أوامره بالعزم والجد فقال : خذوا ما آتيناكم بقوة البقره : 63 وقال : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة الأعراف : : 145 وقال : يا يحيى خذ الكتاب بقوة مريم : 12 أي بجد واجتهاد وعزم لا كمن يأخذ ما أمر به بتردد وفتور وقوله : ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء يريد هروب العبد من ضيق صدره بالهموم والغموم والأحزان والمخاوف التي تعتريه في هذه الدار من جهة نفسه وما هو خارج عن نفسه مما يتعلق بأسباب مصالحه ومصالح من يتعلق به وما يتعلق بماله وبدنه وأهله وعدوه يهرب من

ضيق صدره بذلك كله إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى وصدق التوكل عليه وحسن الرجاء لجميل صنعه به وتوقع المرجو من لطفه وبره ومن أحسن كلام العامة قولهم : لا هم مع الله قال الله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب الطلاق : 23 قال الربيع بن خثيم : يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس وقال أبو العالية : مخرجا من كل شدة وهذا جامع لشدائد الدنيا والآخرة ومضايق الدنيا والآخرة فإن الله يجعل للمتقي من كل ما ضاق على الناس واشتد عليهم فى الدنيا والآخرة مخرجا وقال الحسن : مخرجا مما نهاه عنه ومن يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق : 3 أي كافي من يثق به فى نوائبه ومهماته يكفيه كل ما أهمه و الحسب الكافي حسبنا الله التوبه : 59 كافينا الله وكلما كان العبد حسن الظن بالله حسن الرجاء له صادق التوكل عليه : فإن الله لا يخيب أمله فيه ألبتة فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل ولا يضيع عمل عامل وعبر عن الثقة وحسن الظن بالسعة فإنه لا أشرح للصدر ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله ورجائه له وحسن ظنه به

فصل قال : وفرار الخاصة من الخبر : إلى الشهود ومن الرسوم : إلى الأصول
ومن الحظوظ : إلى التجريد يعني أنهم لا يرضون أن يكون إيمانهم عن مجرد خبر حتى يترقوا منه إلى مشاهدة المخبر عنه فيطلبون الترقى من علم اليقين بالخبر إلى عين اليقين بالشهود كما طلب إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه ذلك من ربه إذ قال : رب أرنى : كيف تحيي الموتى قال : أو لم تؤمن قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي البقره : 260 فطلب إبراهيم أن يكون اليقين عيانا والمعلوم مشاهدا وهذا هو المعنى الذي عبر عنه النبيبالشك فى قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم حيث قال رب أرني كيف تحيي الموتى وهولم يشك

ولا إبراهيم حاشاهما من ذلك وإنما عبر عن هذا المعنى بهذه العبارة هذا أحد الأقوال في الحديث وفيه قول ثان : أنه على وجه النفي أي لم يشك إبراهيم حيث قال ما قال ولم نشك نحن وهذا القول صحيح أيضا أي لو كان ما طلبه للشك لكنا نحن أحق به منه لكن لم يطلب ما طلب شكا وإنما طلب ما طلبه طمأنينة فالمراتب ثلاث علم يقين يحصل عن الخبر ثم تتجلى حقيقة المخبر عنه للقلب أو البصر حتى يصير العلم به عين يقين ثم يباشره ويلابسه فيصير حق يقين فعلمنا بالجنة والنار الآن علم يقين فإذا أزلفت الجنة للمتقين في الموقف وبرزت الجحيم للغاوين وشاهدوهما عيانا كان ذلك عين يقين كما قال تعالى : لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين التكاثر : 67 فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فذلك حق اليقين وسنزيد ذلك إيضاحا إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إليه وأما قوله : ومن الرسوم إلى الأصول فإنه يريد بالرسوم ظواهر العلم والعمل وبالأصول : حقائق الإيمان ومعاملات القلوب وأذواق الإيمان ووارداته فيفر من إحكام العلم والعمل إلى خشوع السر للعرفان فإن أرباب العزائم في السير لا يقنعون برسوم الأعمال وظواهرها ولا يعتدون إلا بأرواحها وحقائقها وما يثبته لهم التعرف الإلهي وهو نصيبهم من الأمر والتعرف الإلهي لا يقتضي مفارقة الأمر كما يظن قطاع الطريق وزنادقة الصوفية بل يستخرج منهم حقائق الأمر وأسرار العبودية وروح المعاملة فحظهم من الأمر : حظ العالم بمراد المتكلم من كلامه تصريحا وإيماء وتنبيها وإشارة وحظ غيرهم منه : حظ التالي له حفظا بلا فهم ولا معرفة لمراده وهؤلاء أحوج شيء إلى الأمر لأنهم لم يصلوا إلى تلك التعرفات والحقائق إلا به فالمحافظة عليه لهم علما ومعرفة وعملا وحالا ضرورية لا عوض لهم عنه ألبتة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7