كتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

وقال الحسن هي الجنة واختاره الزجاج والفراء وفسرت بشرى الدنيا بالثناء الحسن يجري له على ألسنة الناس وكل ذلك صحيح
فالثناء من البشرى والرؤيا الصالحة من البشرى وتبشير الملائكة له عند الموت من البشرى والجنة من أعظم البشرى قال الله تعالى وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأزنهار وقال تعالى وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون
قيل وسميت بذلك لأنها تؤثر في بشرة الوجه ولذلك كانت نوعين بشرى سارة تؤثر فيه نضارة وبهجة وبشرى محزنة تؤثر فيه بسورا وعبوسا ولكن إذا أطلقت كانت للسرور وإذا قيدت كانت بحسب ما تقيد به
قوله هو أصفى من الفرح واحتج على ذلك بأن الأفراح ربما شابها أحزان أي ربما مازجها ضدها بخلاف السرور
فيقال والمسرات ربما شابها أنكاد وأحزان فلا فرق
قوله ولذلك نزل القرآن باسمه في أفراح الدنيا في مواضع
يريد أن الله تعالى نسب الفرح إلى أحوال الدنيا في قوله تعالى حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة وفي قوله تعالى لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وقوله تعالى إنه لفرح فخور فإن الدنيا لا تتخلص أفراحها من أحزانها وأتراحها البتة بل ما من فرحة إلا ومعها ترحة سابقة أو مقارنة أو لاحقة ولا تتجرد الفرحة بل لا بد من ترحة تقارنها ولكن قد تقوى الفرحة على الحزن فينغمر حكمه وألمه مع وجودها وبالعكس
فيقال ولقد نزل القرآن أيضا بالفرح في أمور الآخرة في مواضع كقوله تعالى فرحين بما آتاهم الله من فضله وقوله تعالى فبذلك فليفرحوا فلا فرق بينهما من هذا الوجه الذي ذكره
قوله وورد اسم السرور في القرآن في موضعين في حال الآخرة

يريد بهما قوله تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا والموضع الثاني قوله ولقاهم نضرة وسرورا
فيقال وورد السرور في أحوال الدنيا في موضع على وجه الذم كقوله تعالى وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا
فقد رأيت ورود كل واحد من الفرح والسرور في القرآن بالنسبة إلى أحوال الدنيا وأحوال الآخرة فلا يظهر ما ذكره من الترجيح
بل قد يقال الترجيح للفرح لأن الرب تبارك وتعالى يوصف به ويطلق عليه اسمه دون السرور فدل على أن معناه أكمل من معنى السرور وأمر الله به في قوله تعالى فبذلك فليفرحوا وأثنى على السعداء به في قوله فرحين بما آتاهم الله من فضله
وأما قوله تعالى ولقاهم نضرة وسرورا وقوله وينقلب إلى أهله مسرورا فعدل إلى لفظ السرور لاتفاق رؤوس الآي ولو أنه ترجم الباب بباب الفرح لكان أشد مطابقة للآية التي استشهد بها والأمر في ذلك قريب فالمقصود أمر وراء ذلك
قال وهو في هذا الباب على ثلاث درجات الدرجة الأولى سرور ذوق ذهب بثلاثة أحزان حزن أورثه خوف الانقطاع وحزن هاجته ظلمة الجهل وحزن بعثته وحشة التفرق لما كان السرور ضد الحزن والحزن لا يجامعه كان مذهبا له ولما كان سببه ذوق الشيء السار فإنه كلما مان الذوق أتم كان السرور به أكمل وهذا السرور يذهب ثلاثة أحزان
الحزن الأول حزن أورثه خوف انقطاع وهذا حزن المتخلفين عن

ركب المحبين ووفد المحبة فأهل الانقطاع هم المتخلفون عن صحبة هذا الركب وهذا الوفد وهم الذين كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين فثبط عزائمهم وهممهم أن تسير إليه وإلى جنته وأمر قلوبهم أمرا كونيا قدريا أن تقعد مع القاعدين المتخلفين عن السعي إلى محغابه فلو عانيت قلوبهم حين أمرت بالقعود عن مرافقة الوفد وقد غمرتها الهموم وعقدت عليها سحائب البلاء فأحضرت كل حزن وغم وأمواج القلق والحسرات تتقاذف بها وقد غابت عنها المسرات ونابت عنها الأحزان لعلمت أن الأبرار في هذه الدار في نعيم وأن المتخلفين عن رفقتهم في جحيم
وهذا الحزن يذهب به ذوق طعم الإيمان فيذيق الصديق طعم الوعد الذي وعد به على لسان الرسول فلا يعقله ظن ولا يقطعه أمل ولا تعوقه أمنية كما تقدم فيباشر قلبه حقيقة قوله تعالى أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة المحضرين إوقوله تعالى ياأيها الناس وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وقوله تعالى وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين وأمثال هذه الآيات
قوله وحزن هاجته ظلمة الجهل
وهذا الحزن الثاني الذي يذهب سرور الذوق هو حزن ظلمة الجهل
والجهل نوعان جهل علم ومعرفة وهو مراد الشيخ ههنا وجهل عمل وغي وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب وكما أن العلم يوجب نورا وأنسا فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة وقد سمى الله سبحانه وتعالى العلم الذي بعث به رسوله نورا وهدى وحياة وسمى ضده ظلمة وموتا وضلالا قال الله تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات وقال تعالى

أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقال تعالى قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم وقال تعالى يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا وقال تعالى فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون وقال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فجعله روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح ونورا لما يحصل به من الهدى والرشاد
ومثل هذا النور في قلب المؤمن كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء
ومثل حال من فقد هذا النور بمن هو في ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور
الحزن الثالث حزن بعثته وحشة التفرق وهو تفرق الهم والقلب عن الله عز و جل ولهذا التفرق حزن ممض على فوات جمعية القلب على الله ولذاتها ونعيمها فلو فرضت لذات أهل الدنيا بأجمعها حاصلة لرجل لم يكن لها نسبة إلى لذة جمعية قلبه على الله وفرحه به وأنسه بقربه وشوقه إلى لقائه وهذا أمر لا يصدق به إلا من ذاقه فإنما يصدقك من أشرق فيه ما أشرق فيك ولله در القائل

أيا صاحبي أما ترى نارهم ... فقال تريني مالا أرى
سقاك الغرام ولم يسقني ... فأبصرت مالم أكن مبصرا
فلو لم يكن في التفرق المذكور إلا ألم الوحشة ونكد التشتت وغبار الشعث لكفى به عقوبة فكيف وأقل عقوبته أن يبتلى بصحبة المنقطعين ومعاشرتهم وخدمتهم فتصير أوقاته التي هي مادة حياته ولا قيمة لها مستغرفة في قضاء حوائجهم ونيل أغراضهم وهذه عقوبة قلب ذاق حلاوة الإقبال على الله والجمعية عليه والأنس به ثم آثر على ذلك سواه ورضي بطريقة بني جنسه وما هم عليه ومن له أدنى حياة في قلبه ونور فإنه يستغيث قلبه من وحشة هذا التفرق كما تستغيث الحامل عند ولادتها
ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته
وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته
وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه
وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه
وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه
وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا
فالتفرق يوقع وحشة الحجاب وألمه أشد من ألم العذاب قال الله تعالى كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم فاجتمع عليهم عذاب الحجاب وعذاب الجحيم
والذوق الذي يذهب وحشة هذا التفرق هو الذوق الذي ذكره الشيخ

في قوله ذوق الإرادة طعم الأنس فلا يعلق به شاغل ولا يفسده عارض ولا تكدره تفرقة

فصل قال الدرجة الثانية سرور شهود كشف حجاب العلم وفك رق التكليف
ونفي صغار الاختيار
يريد أن العلم حجاب على المعرفة فشهود كشف ذلك الحجاب حتى يفضي القلب إلى المعرفة يوجب سرورا
والعلم عند هذه الطائفة استدلال والمعرفة ضرورية فالعلم له الخبر والمعرفة لها العيان فالعلم عندهم حجاب على المعرفة وإن كان لا يوصل إليها إلا بالعلم والعلم لها كالصوان لما تحته فهو حجاب عليه ولا يوصل إليه إلا منه
ومثال هذا أنك إذا رأيت في حومة ثلج ثقبا خاليا استدللت به على أن تحته حيوانا يتنفس فهذا علم فإذا حفرته وشاهدت الحيوان فهذه معرفة
قوله وفك رق التكليف عبارة قلقة غير سديدة ورق التكليف لا يفك إلى الممات وكلما تقدم العبد منزلا شاهد من رق تكليفه مالم يكن شاهده من قبل فرق التكليف أمر لازم للمكلف ما بقي في هذا العالم
والذي يتوجه عليه كلامه أن السرور بالذوق الذي أشار إليه يعتق العبد من رق التكليف بحيث لا يعده تكليفا بل تبقى الطاعات غذاء لقلبه وسرورا له وقرة عين في حقه ونعيما لروحه يتلذذ بها ويتنعم بملابستها أعظم مما يتنعم بملابسة الطعام والشراب واللذات الجسمانية فإن اللذات الروحانية القلبية أقوى وأتم من اللذات الجسمانية فلا يجد في أوراد العبادة كلفة ولا تصير تكليفا في حقه فإن ما يفعله المحب الصادق ويأتي به في خدمة محبوبه هو أسر شيء إليه وألذه عنده ولا يرى ذلك تكليفا لما في التكليف من إلزام المكلف بما فيه كلفة ومشقة

عليه والله سبحانه إنما سمى أوامره ونواهيه وصية وعهدا وموعظة ورحمة ولم يطلق عليها اسم التكليف إلا في جانب النفي كقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ووقوع الوسع بعد الاستثناء من التكليف لا يوجب وقوع الاسم عليه مطلقا فهذا أقرب ما يؤول به كلامه
على أن للملحد ههنا مجالا وهو أن هذه الحال إنما هي لأقوام انتقلت عباداتهم من ظواهرهم إلى بواطنهم فانتقل حكم أورادهم إلى وارداتهم فاستغنوا بالواردات عن الأوراد وبالحقائق عن الرسوم وبالمعاني عن الصور فخلصوا من رق التكليف المختص بالعلم وقاموا بالحقيقة التي يقتضيها الحكم وهكذا الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل
قوله ونفى صغار الاختيار يريد به أن العبد متى كان مربوطا باختياراته محبوسا في سجن إراداته فهو في ذل وصغار فإذا وصل إلى هذه الدرجة انتفى عنه صغار الاختيار وبقي من جملة الأحرار
فيا لها من عبودية أوجبت حرية وحرية كملت عبودية
فيصير واقفا مع ما يختار الله له لا مع ما يختاره هو لنفسه بل يصير مع الله بمنزلة من لا اختيار له البتة فمن كان محجوبا بالعلم عن المعرفة نازعته اختياراته ونازعها فهو معها في ذل وصغار ومتى أفضى إلى المعرفة وكشف له عن حجابها شاهد البلاء نعيما والمنع عطاء والذل عزا والفقر غنى فانقاد باطنه لأحكام المعرفة وظاهره لأحكام العلم
على أن للملحد ههنا مجالا قد جال فيه هو وطائفته فقال هذا يوجب الانقياد لأحكام المعرفة والتخلص والراحة من أحكام العلم وقد قيل إن العالم يسعطك الخل والخردل والعارف ينشقك المسك والعنبر
قال ومعنى هذا أنك مع العالم في تعب ومع العارف في راحة لأن العارف يبسط عذر العوالم والخلائق والعالم يلوم وقد قيل من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم ومن نظر إليهم بعين الحقيقةعذرهم

فانظر ما تضمنه هذا الكلام الذي ملمسه ناعم وسمه زعاف قاتل من الانحلال عن الدين ودعوى الراحة من حكم العبودية والتماس الأعذار لليهود والنصارى وعباد الأوثان والظلمة والفجرة وأن أحكام الأمر والنهي الواردين على السن الرسل للقلوب بمنزلة سعط الخل والخردل وأن شهود الحقيقة الكونية الشاملة للخلائق والوقوف معها والانقياد لحكمها بمنزلة تنشيق المسك والعنبر
فليهن الكفار والفجار والفساق انتشاق هذا المسك والعنبر إذا شهدوا هذه الحقيقة وانقادوا لحكمها
ويا رحمة للأبرار المحكمين لما جاء به الرسول من كثرة سعوطهم بالخل والخردل
فإن قوله هذا يجوز وهذا لايجوز وهذا حلال وهذا حرام وهذا يرضي الله وهذا يسخطه خل وخردل عند هؤلاء الملاحدة وإلا فالحقيقة تشهدك الأمر بخلاف ذلك ولذلك إذا نظرت عندهم إلى الخلق بعين الحقيقة عذرت الجميع فتعذر من توعده الله ورسوله أعظم الوعيد وتهدده أعظم التهديد
ويا لله العجب إذا كانوا معذورين في الحقيقة فكيف يعذب الله سبحانه المعذور ويذيقه أشد العذاب وهلا كان الغنى الرحيم أولى بعذره من هؤلاء
نعم العالم الناصح يلوم بأمر الله والعارف الصادق يرحم بقدر الله ولا يتنافى عنده اللوم والرحمة ومن رحمته عقوبة من أمر الله بعقوبته فذلك رحمة له وللأمة وترك عقوبته زيادة في أذاه وأذى غيره وأنت مع العالم في تعب يعقب كل الراحة ومع عارف هؤلاء الملاحدة في راحة وهمية تعقب كل تعب وخيبة وألم كما ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد أن المسيح عليه السلام كان يقول على قدر ما تتعبون ههنا تستريحون هنالك وعلى قدر ما تستريحون ههنا تتبعون هنالك

فالعالم يحذرك ويمنعك الوقوف حتى تبلغ المأمن وعارف الملاحدة يوهمك الراحة من كد المسير ومؤنة السفر حتى تؤخذ في الطريق

فصل قال الدرجة الثالثة سرور سماع الإجابة وهو سرور يمحو آثار
الوحشة ويقرع باب المشاهدة ويضحك الروح
قيد الشيخ السماع بكونه سماع إجابة فإنه السماع المنتفع به لا مجرد سماع الإدراك فإنه مشترك بين المجيب والمعرض وبه تقوم الحجة وينقطع العذر ولهذا قال الله عن أصحابه سمعنا وعصينا وقال النبي لليهودي الذي سأله عن أمور من الغيب ينفعك إن حدثتك قال أسمع بأذني
وأما سماع الإجابة ففي مثل قوله تعالى وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون لهم وفي قوله سماعون للكذب أي مستجيبون له وهو المراد وهذا المراد بقول المصلى سمع الله لمن حمده أي أجاب الله حمد من حمده وهو السمع الذي نفاه الله عز و جل عمن لم يرد به خيرا في قوله ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم أي لجعلهم يسمعون سمع إجابة وانقياد وقيل المعنى لأفهمهم وعلى هذا يكون المعنى لأسمع قلوبهم فإن سماع القلب يتضمن الفهم
والتحقيق أن كلا الأمرين مراد فلو علم فيهم خيرا لأفهمهم ولجعلهم يستجيبون لما سمعوه وفهموه
والمقصود أن سماع الإجابة هو سماع انقياد القلب والروح والجوارح لما سمعته الأذنان
قوله ويمحو آثار الوحشة يعني يزيل بقايا الوحشة التي سببها ترك الانقياد التام فإنه على قدر فقد ذلك تكون الوحشة وزوالها إنما يكون بالانقياد التام وأيضا فإنه يبقى على أهل الدرجة الثانية آثار وهم أهل كشف حجاب

العلم فإنهم إذا انكشف عنهم حجاب العلم وأفضوا إلى المعرفة بقيت عليهم بقايا من آثار ذلك الحجاب فإذا حصلوا في هذه الدرجة زالت عنهم تلك البقايا
وقد يوجه كلامه على معنى آخر وهو أنه إذا دعا ربه سبحانه فسمع ربه دعاءه سماع إجابة وأعطاه ما سأله على حسب مراده ومطلبه أو أعطاه خيرا منه حصل له بذلك سرور يمحو من قلبه آثار ما كان يجده من وحشة البعد فإن للعطاء والإجابة سرورا وأنسا وحلاوة وللمنع وحشة ومرارة فإذا تكرر منه الدعاء وتكرر من ربه سماع وإجابة لدعائه محا عنه آثار الوحشة وأبدله بها أنسا وحلاوة
قوله ويقرع باب المشاهدة
يريد والله أعلم مشاهدة حضرة الجمع التي يشمر إليها السالكون عنده وإلا فمشاهدة الفضل والمنة قد سبقت في الدرجتين الأولتين وانتقل المشاهد لذلك إلى ما هو أعلامنه وهو مشاهدة الحضرة المذكورة
قوله ويضحك الروح يعني أن سماع إلإجابة يضحك الروح لسرورها بما حصل لها من ذلك السماع وإنما خص الروح بالضحك ليخرج به سرورا يضحك النفس والعقل والقلب فإن ذلك يكون قبل رفع الحجاب الذي أشار إليه إذ محله النفس فإذا ارتفع ومحا الشهود رسم النفس بالكلية كان الإدراك حينئذ بالروح فيضحكها بالسرور
وهذا مبني على قواعد القوم في الفرق بين أحكام النفس والقلب والروح
والفتح عندهم نوعان فتح قلبي وفتح روحي فالفتح القلبي يجمعه على الله ويلم شعثه والفتح الروحي يغنيه عنه ويجرده منه وبالله التوفيق

فصل ومنها منزلة السر قال صاحب المنازل
باب السر
قال الله تعالى الله أعلم بما في أنفسهم أصحاب السر هم الأخفياء الذين ورد فيهم الخبر
أما استشهاده بالآية فوجهه أن أتباع الرسل الذين صدقوهم وآثروا الله والدار الآخرة على قومهم وأصحابهم قد أودع الله قلوبهم سرا من أسرار معرفته ومحبته والإيمان به خفي على أعداء الرسل فنظروا إلى ظواهرهم وعموا عن بواطنهم فازدروهم واحتقروهم وقالوا للرسل اطرد هؤلاء عنك حتى نأتيك ونسمع منك وقالوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا فقال نوح عليه السلام لقومه ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين قال الزجاج المعنى إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعوني في بادي الرأي وظاهره فليس على أن أطلع على ما في أنفسهم فإذا رأيت من يوحد الله عملت على ظاهره ورددت علم ما في نفوسهم إلى الله وهذا معنى حسن
والذي يظهر من الآية أن الله يعلم ما في أنفسهم إذ أهلهم لقبول دينه وتوحيده وتصديق رسله والله سبحانه وتعالى عليم حكيم يضع العطاء في مواضعه وتكون هذه الآية مثل قوله تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين فإنهم أنكروا أن يكون الله سبحانه أهلهم للهدى والحق وحرمه رؤساء الكفار وأهل العزة والثروة منهم كأنهم استدلوا بعطاء الدنيا على عطاء الآخرة فأخبر الله سبحانه أنه أعلم بمن يؤهله لذلك لسر عنده من معرفة قدر النعمة

ورؤيتها من مجرد فضل المنعم ومحبته وشكره عليها وليس كل أحد عنده هذا السر فلا يؤهل كل أحد لهذا العطاء
قوله أصحاب السر هم الأخفياء الذين ورد فيهم الخبر
قد يريد به حديث سعد بن أبي وقاص حيث قال له ابنه أنت ههنا والناس يتنازعون في الإمارة فقال إني سمعت رسول الله يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي / ح /
وقد يريد به قوله رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره / ح / وقوله في الحديث الآخر وقد مر به رجل فقال ما تقولون في هذا فقالوا هذا حري إن شفع أن يشفع وإن خطب أن ينكح وإن قال أن يسمع لقوله ثم مر به آخر فقال ما تقولون في هذا فقالوا هذا حري إن شفع أن لا يشفع وإن خطب أن لا ينكح وإن قال أن لا يسمع لقوله فقال النبي هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا

فصل قال وهم على ثلاث طبقات الطبقة الأولى طائفة علت هممهم وصفت
قصودهم وصح سلوكهم ولم يوقف لهم على رسم ولم ينسبوا إلى اسم ولم يشر إليهم بالأصابع أولئك ذخائر الله حيث كانوا
ذكر لهم ثلاث صفات ثبوتية وثلاثا سلبية
الأولى علو هممهم وعلو الهمة أن لا تقف دون الله ولا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلا منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي علىالطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها

وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان فإن الآفات قواطع وجواذب وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه وإنما تجتذب من المكان السافل فعلو همة المرء عنوان فلاحه وسفول همته عنوان حرمانه
العلامة الثانية صفاء القصد وهو خلاصه من الشوائب التي تعوقه عن مقصوده فصفاء القصد تجريده لطلب المقصود له لا لغيره فهاتان آفتان في القصد إحداهما أن لا يتجرد لمطلوبه الثانية أن يطلبه لغيره لا لذاته
وصفاء القصد يراد به العزم الجازم على اقتحام بحر الفناء عند الشيخ ومن وافقه على أن الفناء غاية
ويراد به خلوص القصد من كل إرادة تزاحم مراد الرب تعالى بل يصير القصد مجردا لمراده الديني الأمري وهذه طريقة من يجعل الغاية هي الفناء عن إرادة السوى وعلامته اندراج حظ العبد في حق الرب تعالى بحيث يصير حظه هو نفس حق ربه عليه ولا يخفى على البصير الصادق علو هذه المنزلة وفضلها على منزلة الفناءوبالله التوفيق
العلامة الثالثة صحة السلوك وهو سلامته من الآفات والعوائق والقواط وهو إنما يصح بثلاثة أشياء
أحدها أن يكون على الدرب الأعظم الدرب النبوي المحمدي لا على الجواد الوضعية والرسوم الاصطلاحية وإن زخرفوا لها القول ودققوا لها الإشارة وحسنوا لها العبارة فتلك من بقايا النفوس عليهم وهم لا يشعرون
الثاني أن لا يجيب على الطريق داعي البطالة والوقوف والدعة
الثالث أن يكون في سلوكه ناظرا إلى المقصود وقد تقدم بيان ذلك
فبهذه الثلاثة يصح السلوك والعبارة الجامعة لها أن يكون واحدا لواحد في طريق واحد فلاا ينقسم طلبه ولا مطلوبه ولا يتلون مطلوبه
وأما الثلاثة السلبية التي ذكرها فأولها قوله ولم يوقف لهم على رسم

يريد أنهم قد انمحت رسومهم فلم يبق منها ما يقف عليه واقف
وهذا كلام يحتاج إلى شرح فإن الرسم الظاهر المعاين لا يمحي ما دام في هذا العالم ولا يرون محو هذا الرسم وهم مختلفون فيما يعبر بالرسم عنه
فطائفة قالت الرسم ما سوى الحق سبحانه ومحوه هو ذهاب الوقوف معه والنظر إليه والرضى به والتعلق به
ومنهم من يريد بالرسم الظواهر والعلامات
وهذا أقرب إلى وضع اللغة فإن رسم الدار هو الأثر الباقي منها الذي يدل عليها ولهذا يسمون الفقهاءوأهل الأثر ونحوهم علماء الرسوم لأنهم عندهم لم يصلوا إلى الحقائق بل اشتغلوا عن معرفتها بالظواهر والأدلة
فهذه الطائفة التي أشار إليها لا رسم لهم يقفون عنده بل قد اشتغلوا بالحقائق والمعاني عن الرسوم والظواهر
وللملحد ههنا مجال إذ عنده أن العبادات والأوامر والأوراد كلها رسوم وأن العباد وقفوا على الرسوم ووقفوا هم على الحقائق
ولعمر الله إنها لرسوم إلهية أتت على أيدي رسله ورسم لهم أن لا يتعدوها ولا يقصروا عنها فالرسل قعدوا على هذه الرسوم يدعون الخلق إليها ويمنعونهم من تجاوزها ليصلوا إلى حقائقها ومقاصدها فعطلت الملاحدة تلك الرسوم وقالوا إنما المراد الحقائق ففاتتهم الرسوم والحقائق معا ووصلوا ولكن إلى الحقائق الإلحادية الكفرية وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون
فأحسن ما حمل عليه قول الشيخ ولم يقفوا مع رسم أنهم لم ينقطعوا بشيء سوى الله عنه فكل ما قطع عن الله لم يقفوا معه وما أوصلهم إلى الله لم يفارقوه وكان وقوفهم معه
وقد يريد بقوله لم يوقف لهم على رسم أنهم لعلو هممهم سبقوا الناس

في السير فلم يقفوا معهم فهم المفردون السابقون فلسبقهم لم يوقف لهم على أثر في الطريق ولم يعلم المتأخر عنهم أين سلكوا والشمس بعدهم قد يرى آثار نيرانهم على بعد عظيم كما يرى الكوكب ويستخبر ممن رآهم أين رآهم فحاله كما قيل
أسائل عنكم كل غاد ورائح ... وأومي إلى أوطانكم وأسلم
العلامة الثانية قوله ولم ينسبوا إلى اسم أي لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس من الأسماء التي صارت أعلاما لأهل الطريق
وأيضا فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه فيعرفون به دون غيره من الأعمال فإن هذا آفة في العبودية وهي عبودية مقيدة وأما العبودية المطلقة فلا يعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم فلا يتقيد برسم ولا إشارة ولا اسم ولا بزي ولا طريق وضعي اصطلاحي بل إن سئل عن شيخه قال الرسول وعن طريقه قال الاتباع وعن خرقته قال لباس التقوى وعن مذهبه قال تحكيم السنة وعن مقصوده ومطلبه قال يريدون وجهه وعن رباطه وعن خانكاه قال في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وعن نسبه قال أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تيم وعن مأكله ومشربه قال ما لك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى الشجر حتى تلقى ربها واحسرتاه تقضي العمر وانصرمت ساعاته بين ذل العجز والكسل
واحسرتاه تقضى العمر وانصرمت ... ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد ... ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل

والعلامة الثالثة قوله ولم يشر إليهم بالأصابع يريد أنهم لخفائهم عن الناس لم يعرفوا بينهم حتى يشيروا إليهم بالأصابع وفي الحديث المعروف عن النبي لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فإن صاحبها سدد وقارب فارجوا له وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه شيئا فسئل راوي الحديث عن معنى أشير إليه بالأصابع فقال هو المستبدع في دينه الفاجر في دنياه
وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل فإن الناس إنما يشيرون بالأصابع إلى من يأتيهم بشيء فبعضهم يعرفه وبعضهم لا يعرفه فإذا مر أشار من يعرفه إلى من لا يعرفه هذا فلان وهذا قد يكون ذما له وقد يكون مدحا فمن كان معروفا باجتهاد وعبادة وزهد وانقطاع عن الخلق ثم انحط عن ذلك وعاد إلى حال أهل الدنيا والشهوات فإذا مر بالناس أشاروا إليه وقالوا هذا كان على طريق كذا وكذا ثم فتن وانقلب فهذا الذي قال في الحديث عنه فلا تعدوه شيئا لأنه انقلب على عقبيه ورجع بعد الشرة إلى أسوأ فترة
وقد يكون الرجل منهمكا في الدنيا ولذاتها ثم يوقظه الله لآخرته فيترك ما هو فيه ويقبل على شأنه فإذا مر أشار الناس إليه بالأصابع وقالوا هذا كان مفتونا ثم تداركه الله فهذا كانت شرته في المعاصي ثم صارت في الطاعات والأول كانت شرته في الطاعات ثم فترت وعادت إلى البدعة والفجور
وبالجملة فالإإشارة بالأصابع إلى الرجل علامة خير وشر ومورد هلاكه ونجاته والله سبحانه الموفق
قوله أولئك ذخائر الله حيث كانوا ذخائر الملك ما يخبأ عنده ويذخره لمهماته ولا يبذله لكل أحد وكذلك ذخيرة الرجل ما يذخره لحوائجه ومهماته وهؤلاء لما كانوا مستورين عن الناس بأسبابهم غير مشار إليهم

ولا متميزين برسم دون الناس ولا منتسبين إلى اسم طريق أو مذهب أو شيخ أو زي كانوا بمنزلة الذخائر المخبوءة وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات فإن الآفات كلها تحت الرسوم والتقيد بها ولزوم الطرق الاصطلاحية والأوضاع المتداولة الحادثة هذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله وهم لا يشعرون والعجب أن أهلها هم المعروفون بالطلب والإرادة والسير إلى الله وهم إلا الواحد بعد الواحد المقطوعون عن الله بتلك الرسوم والقيود
وقد سئل بعض الأئمة عن السنة فقال مالا اسم له سوى السنة
يعني أن أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها
فمن الناس من يتقيد بلباس لا يلبس غيره أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره أو مشية لا يمشي غيرها أو بزي وهيئة لا يخرج عنهما أو عبادة معينة لا يتعبد بغيرها وإن كانت أعلى منها أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظفر بالمطلوب الألى مصدودون عنه قد قيدتهم العوائد والرسوم والأوضاع والاصطلاحات عن تجريد المتابعة فأضحوا عنها بمعزل ومنزلتهم منها أبعد منزل فترى أحدهم يتعبد بالرياضة والخلوة وتفريغ القلب ويعد العلم قاطعا له عن الطريق فإذا ذكر له الموالاة في الله والعاداة فيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عد ذلك فضولا وشرا وإذا رأوا بينهم من يقوم بذلك أخرجوه من بينهم وعدوه غيرا عليهم فهؤلاء أبعد الناس عن الله وإن كانوا أكثر إشارة والله أعلم

فصل قال الطبقة الثانية طائفة أشاروا عن منزل وهم في غيره ووروا
بأمر وهم لغيره ونادوا على شأن وهم على غيره فهم بين غيرة عليهم تسترهم وأدب فيهم يصونهم وظرف يهذبهم
أهل هذه الطبقة استسروا اختيارا وإرادة لذلك صيانة لأحوالهم وكمالا

في تمكنهم فمقاماتهم عالية لا ترمقها العيون ولا تخالطها الظنون يشيرون إلى ما يعرفه المخاطب من مقامات المريدين السالكين وبدايات السلوك ويخفون ما مكنهم فيه الحق سبحانه وتعالى من أحوال المحبة ومواجيدها وآثار المعرفة وتوحيدها فهذه هي التورية التي ذكرها
فكأنهم يظهرون للمخاطب أنهم من أهل البدايات وهم في أعلى المقامات يتكلمون معهم في البداية والإرادة والسلوك ومقامهم فوق ذلك وهم محقون في الحالتين لكنهم يسترون أشرف أحوالهم ومقاماتهم عن الناس
وبالجملة فهم مع الناس بظواهرهم يخاطبونهم على قدر عقولهم ولا يخاطبونهم بما لا تصل إليه عقولهم فينكرون عليهم فيحسبهم المخاطب مثلهم فالناس عندهم وليسوا هم عند أحد
قوله أشاروا إلى منزل وهم في غيره يعني يشيرون إلى منزل التوبة والمحاسبة وهم في منزل المحبة والوجد والذوق ونحوها
وقد يريد أنهم يشيرون إلى أنهم عامة وهم خاصة الخاصة وإلى أنهم جهال وهم العارفون بالله وأنهم مسيئون وهم محسنون
وعلى هذا فيكونون من الطائفةالملامتيه الذين يظهرون مالا يمدحون عليه ويسرون ما يحمدهم الله عليه عكس المرائين المنافقين وهؤلاء طائفة معروفة لهم طريقة معروفة تسمى طريقة أهل الملامة وهم الطائفة الملامتية يزعمون أنهم يحتملون ملام الناس لهم على ما يظهرونه من الأعمال ليخلص لهم ما يبطنونه من الأحوال ويحتجون بقوله تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم فهم عاملون على أسقاط جاههم ومنزلتهم في قلوب الناس لما رأوا المغترين المغتر بهم من المنتسبين إلى السلوك يعملون على تزكية نفوسهم وتوفير جاههم في قلوب الناس فعاكسهم هؤلاء وأظهروا بطالة

وأبطنوا أعمالاوكتموا أحوالهم جهدهم وينشدون في هذه الحال
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود يا غاية المنى ... فكل الذي فوق التراب تراب
قال الإمام أحمد حدثنا عبدالرزاق حدثنا سفيان عن منصور عن هلال سياق ابن يساف قال كان عيسى عليه السلام يقول إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه حتى يخرج إلى الناس فيقولون ليس بصائم
ولهذا قال بعضهم التصوف ترك الدعاوي وكتمان المعاني وسئل الحارث ابن أسد عن علامات الصادق فقال أن لا يبالي أن يخرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطلاع الناس على اليسير من عمله
وهذا يحمد في حال ويذم في حال ويحسن من رجل ويقبح من آخر فيحمد إذا أظهر ما يجوز إظهاره ولا نقص عليه فيه ولا ذم من الله ورسوله ليكتم به حاله وعمله كما إذا أظهر الغنى وكتم الفقر والفاقة وأظهر الصحة وكتم المرض وأظهر النعمة وكتم البلية فهذا كله من كنوز الستر وله في القلب تأثير عجيب يعرفه من ذاقه وشكى رجل إلى الأحنف بن قيس شكاة فقال يا بن أخي قد ذهب ضوء بصري من عشرين سنة فما أخبرت به أحدا
وأما الحال التي يذم فيها فأن يظهر مالا يجوز إظهاره ليسيء به الناس الظن فلا يعظموه كما يذكر عن بعضهم أنه دخل الحمام ثم خرج وسرق ثياب رجل ومشى رويدا حتى أدركوه فأخذوها منه وسبوه فهذا حرام لا يحل تعاطيه ويقبح أيضا من المتبوع المقتدى به ذلك بل وما هو دونه لأنه يغر الناس ويوقعهم في التأسي بما يظهره من سوء
فالملامتية نوعان ممدوحون أبرار ومذمومون جهال وإن كانوا في خفارة صدقهم

فالأولون الذين لا يبالون بلوم اللوم في ذات الله والقيام بأمره والدعوة إليه وهم الذين قال الله فيهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم فأحب الناس إلى الله من لا تأخذه في الله لومة لائم وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم
والنوع الثاني المذموم هو الذي يظهر ما يلام عليه شرعا من محرم أو مكروه ليكتم بذلك حاله وقد قال النبي لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه / ح /
فلنرجع إلى شرح كلام الشيخ
قوله أشاروا إلى منزل وهم في غيره مثاله أنهم يتكلمون في التوبة والمحاسبة وهم في منزل المحبة والفناء
قوله ووروا بأمر وهم لغيره التورية أن يذكر لفظا يفهم به المخاطب معنى وهو يريد غيره مثاله أن يقول أحدهم أنا غني فيوهم المخاطب له أنه غني بالشيء ومراده غني بالله عنه كما قيل
غنيت بلا مال عن الناس كلهم ... وإن الغنى العالي عن الشيء لا به
وأن يقول ما صح لي مقام التوبة بعد ويريد ما صحت لي التوبة عن رؤية التوبة ونحو ذلك
قوله ونادوا على شأن وهم على غيره أي عظموا شأنا من شئون القوم ودعوا الناس إليه وهم في أعلى منه وهذا قريب مما قبله
قوله فهم بين غيرة عليهم تسترهم أي يغار الحق سبحانه عليهم فيسترهم عن الخلق ويغارون على أحوالهم ومقاماتهم فيسترون أحوالهم عن رؤية الخلق لها كما قيل
ألف الخمول صيانة وتسترا ... فكأنما تعريفه أن ينكرا
وكأنه كلف الفؤاد بنفسه ... فحمته غيرته عليها أن ترى

قوله وأدب فيهم يصونهم بهذا يتم أمرهم
وهو أن يقوم بهم أدب يصونهم عن ظن السوء بهم ويصونهم عن دناءة الأخلاق والأعمالب فأدبهم صوان على أحوالهم فهمته العلية ترتفع به وأدبه يرسو به إلى التراب كما قيل
أبلج سهل الأخلاق ممتنع ... يبرزه الدهر وهو يحتجب
إذا ترقت به عزائمه ... إلى الثريا رسا به الأدب
فأدب المريد والسالك صوان له وتاج على رأسه
قوله وظرف يهذبهم التهذيب هو التأديب والتصفية والظرف في هذه الطائفة أحلى من كل حلو وأزين من كل زين فما قرن شيء إلى شيء أحسن من ظرف إلى صدق وإخلاص وسر مع الله وجمعية عليه فإن أكثر من عني بهذا الشأن تضيق نفسه وأخلاقه عن سوى ما هو بصدده فتثقل وطأته علىأهله وجليسه ويضن عليه ببشره والتبسط إليه ولين الجانب له ولعمر الله إنه لمعذور وإن لم يكن في ذلك بمشكور فإن الخلق كلهم أغيار إلا من أعانك على شأنك وساعدك على مطلوبك
فإذا تمكن العبد في حاله وصار له إقبال على الله وجمعية عليه ملكة ومقاما راسخا أنس بالخلق وأنسوا به وانبسط إليهم وحملهم على ضلعهم وبطء سيرهم فعكفت القلوب على محبته للطفه وظرفه فإن الناس ينفرون من الكثيف ولو بلغ في الدين ما بلغ ولله ما يجلب اللطف والظرف من القلوب ويدفع عن صاحبه من الشر ويسهل له ما توعر على غيره فليس الثقلاء بخواص الأولياء وما ثقل أحد على قلوب الصادقين المخلصين إلا من آفة هناك وإلا فهذه الطريق تكسو العبد حلاوة ولطافة وظرفا فترى الصادق فيها من أحلى الناس وألطفهم وأظرفهم قد زالت عنه ثقالة النفس وكدورة الطبع وصار روحانيا سمائيا بعد أن كان حيوانيا أرضيا فتراه أكرم الناس عشرة

وألينهم عريكة وألطفهم قلبا وروحا وهذه خاصة المحبة فإنها تلطف وتظرف وتنظف
ومن ظرف أهل هذه الطبقة أن لا يظهر أحدهم على جليسه بحال ولا مقام ولا يواجهه إذا لقيه بالحال بل بلين الجانب وخفض الجناح وطلاقة الوجه فيفرش له بساط الأنس ويجلسه عليه فهو أحب إليه من الفرش الوثيرة وسئل محمد بن علي القصاب أستاذ الجنيد عن التصوف فقال أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم مع قوم كرام
وبالجملة فهذه الطريق لا تنافي اللطف والظرف والصلف بل هي أصلف شيء لكن ههنا دقيقة قاطعة وهي الاسترسال مع هذه الأمور فإنها أقطع شيء للمريد والسالك فمن استرسل معها قطعته ومن عاداها بالكلية وعرت عليه طريق سلوكه ومن استعان بها أراحته في طريقه أو أراحت غيره به وبالله التوفيق

فصل وأهل هذه الطبقة أثقل شيء عليهم البحث عما جريات الناس وطلب
تعرف أحوالهم وأثقل ما على قلوبهم سماعها فهم مشغولون عنها بشأنهم فإذا اشتغلوا بمالا يعنيهم منها فاتهم ما هو أعظم عناية لهم وإذا عد غيرهم الاشتغال بذلك وسماعه من باب الظرف والأدب وستر الأحوال كان هذامن خدع النفوس وتلبيسها فإنه يحط الهمم العالية من أوجها إلى حضيضها وربما يعز عليه أن يحصل همة أخرى يسعد بها إلى موضعه الذي كان فيه فأهل الهمم والفطن الثاقبة لا يفتحون من آذانهم وقلوبهم طريقا إلى ذلك إلا ما تقاضاه الأمر وكانت مصلحته أرجح وما عداه فبطالة وحط مرتبة

فصل قال الطبقة الثالثة طائفة أسرهم الحق عنهم فألاح لهم لائحا
أذهلهم عن إدراك ما هم فيه وهيمهم عن شهود ما هم له وضن بحالهم عن علمهم ما هم به فاستسروا عنهم مع شواهد تشهد لهم بصحة مقامهم عن قصد صادق يهيجه غيب وحب صادق يخفى عليه علمه ووجد غريب لا ينكشف له موقده وهذا من أدق مقامات أهل الولاية
أهل هذه الطبقة أحق باسم السر من الذين قبلهم فإنه إذا كانت أحوال القلب ومواهب الرب التي وضعها فيه سرا عن صاحبه بحيث لا يشعر هو بها شغلا عنها بالعزيز الوهاب سبحانه فلا يتسع قلبه لاشتغاله به وبغيره بل يشتغل بمجريها ومنشئها وواهبها عنها فهذا أقوى وجوه السر بل ذلك أخفى من السر ومن أعظم الستر والإخفاء أن يستر الله سبحانه وتعالى حال عبده ويخفيه عنه رحمة به ولطفا لئلا يساكنه وينقطع به عن ربه فإن ذلك خلعة من خلع الحق تعالى فإذا سترها صاحبها وملبسها عن عبده فقد أراد به أن لا يقف مع شيء دونه وقد يكون ذلك الستر مما يشتغل به العبد عن مشاهدة جلال الرب تعالى وكماله وجماله أعني مشاهدة القلب لمعاني تلك الصفات واستغراقه فيها وعلامة هذا الشهود الصحيح أن يكون باطنه معمورا بالإحسان وظاهره مغمورا بالإسلام فيكون ظاهره عنوانا لباطنه مصدقا لما اتصف به وباطنه مصححا لظاهره هذا هو الأكمل عند أصحاب الفناء
وأكمل منه أن يشهد ما وهبه الله له ويلاحظه ويراه من محض المنة وعين الجود فلا يفنى بالمعطى عن رؤية عطيته ولا يشتغل بالعطية عن معطيها وقد أمر الله سبحانه بالفرح بفضله ورحمته وذلك لا يكون إلا برؤية الفضل والرحمة وملاحظتهما وأمر بذكر نعمه وآلائه فقال تعالى يا أيها الناس

اذكروا نعمة الله عليكم وقال تعالى فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون وقال تعالى واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به
فلم يأمر الله سبحانه بالفناء عن شهود نعمته فضلا عن أن يكون مقام الفناء أرفع من مقام شهودها من فضله ومنته
وقد أشبعنا القول في هذا فيما تقدم ولا تأخذنا فيه لومة لائم ولا تأخذ أرباب الفناء في ترجيح الفناء عليه لومة لائم
فقوله أسرهم الحق عنهم أي شغلهم به عن ذكر أنفسهم فأنساهم بذكره ذكر نفوسهم وهذا ضد حال الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فإن أولئك لما نسوه أنساهم مصالح أنفسهم التي لا صلاح لهم إلا بها فلا يطلبونها وأنساهم عيوبهم فلا يصلحونها وهؤلاء أنساهم حظوظهم بحقوقه وذكر ما سواه بذكره والمقصود أنه سبحانه أخذهم إليه وشغلهم به عنهم
قوله وألاح لهم لائحا أذهلهم عن إدراك ما هم فيه
ألاح أي أظهر والمعنى أظهر لهم من معرفة جماله وجلاله لائحا ما لم تتسع قلوبهم بعده لإدراك شيء من أحوالهم ومقاماتهم وهذا رقيقة من حال أهل الجنة إذا تجلى لهم سبحانه وأراهم نفسه فإنهم لا يشعرون في تلك الحال بشيء من النعيم ولا يلتفتون إلى سواه البتة كما صرح به في الحديث الصحيح في قوله فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه
والمعنى أن هذا اللائح الذي ألاحه سبحانه لهم أذهلهم عن الشعور بغيره
قوله هيمهم عن شهود ماهم له يحتمل أن يكون مراده أن هذا اللائح هيمهم عن شهود ما خلقوا له فلم يبق فيهم اتساع للجمع بين الأمرين وهذا وإن كان لقوة الوارد فهو دليل على ضعف المحل حيث لم يتسع القلب معه لذكر ما خلق له والكمال أن يجتمع له الأمران

ويحتمل أن يريد به أن هذا اللائح غيبهم عن شهود أحوالهم التي هم لها في تلك الحال فغابوا بمشهودهم عن شهودهم وبمعروفهم عن معرفتهم وبمعبودهم عن عبادتهم فإن الهائم لا يشعر بما هو فيه ولا بحال نفسه وفي الصحاح الهيام كالجنون من العشق
قوله وضن بحالهم عن علمهم أي بخل به والمعنى لم يمكن علمهم أن يدرك حالهم وما هم عليه
قوله فاستسروا عنهم أي اختفوا حتى عن أنفسهم فلم تعلم نفوسهم كيف هم ولا تبادر بإنكار هذا تكن ممن لا يصل إلى العنقود فيقول هو حامض
قوله مع شواهد تشهد لهم بصحة مقامهم
يريد أنهم لم يعطلوا أحكام العبودية في هذه الحال فيكون ذلك شاهدا عليهم بفساد أحوالهم بل لهم مع ذلك شواهد صحيحة تشهد لهم بصحة مقاماتهم وتلك الشواهد هي القيام بالأمر وآداب الشريعة ظاهرا وباطنا
قوله عن قصد سابق يهيجه غيب
يجوز أن يتعلق هذا الحرف وما بعده بمحذوف دل عليه الكلام أي حصل لهم ذلك عن قصد صادق أي لازم ثابت لا يلحقه تلون يهيجه غيب أي أمر غائب عن إدراكهم هيج لهم ذلك القصد الصادق
قوله وحب صادق يخفى عليه مبدأ علمه أي هم لا يعرفون مبدأ ما بهم ولا يصل علمهم إليه لأنهم لما لاح لهم ذلك اللائح استغرق قلوبهم وشغل عقولهم عن غيره فهم مأخوذون عن أنفسهم مقهورون بواردهم

قوله ووجد غريب لا ينكشف لصاحبه موقده
أي لا ينكشف لصاحب هذا الوجد السبب الذي أهاجه له وأوقده في قلبه فهو لا يعرف السبب الذي أوجد نار وجده
قوله وهذا من أدق مقامات أهل الولاية جعله دقيقا لكون الحس مقهورا مغلوبا عند صاحبه والعلم والمعرفة لا يحكمان عليه فضلا عن الحس والعادة
وحاصل هذا المقام الاستغراق في الفناء وهو الغاية عند الشيخ
والصحيح أن أهل الطبقة الثانية أعلى من هؤلاء وأرفع مقاما وهم الكمل وهم أقوى منهم كما كان مقام رسول الله ليلة الإسراء أرفع من مقام موسى عليه السلام يوم التجلي ولم يحصل لرسول الله من الفناء ما حصل لموسى وكان حب امرأة العزيز ليوسف عليه السلام أعظم من حب النسوة ولم يحصل لها من تقطيع الأيدي ونحوه ما حصل لهن وكان حب أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله أعظم من حب عمر رضي الله عنه وغيره ولم يحصل له عند موته من الاضطراب والغشى والإقعاد ما حصل لغيره
فأهل البقاء والتمكن أقوى حالا وأرفع مقاما من أهل الفناء وبالله التوفيق

فصل ومنها النفس قال صاحب المنازل
باب النفس
قال الله تعالى فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك
وجه إشارته بالآية أن النفس يكون بعد مفارقة الحال وانفصاله عن

صاحبه فشبه الحال بالشيء الذي يأخذ صاحبه فيغته ويغطه حتى إذا أقلع عنه تنفس نفسا يستريح به ويستروح
قال ويسمى النفس نفسا لتروح المتنفس به
التنفيس هو الترويح يقال نفس الله عنك الكرب أي اراحك منه وفي الحديث الصحيح من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة
وهذه الأحرف الثلاثة وهي النون والفاء وما يثلثهما تدل حيث وجدت على الخروج والانفصال فمنه النفل لأنه زائد على الأصل خارج عنه ومنه النفر والنفي والنفس ونفقت الدابة ونفست المرأة ونفست إذا حاضت أو ولدت فالنفس خروج وانفصال يستريح به المتنفس
قال وهو على ثلاث درجات وهي تشابه درجات الوقت
وجه الشبه بينهما أن الأوقات تعد بالأنفاس كدرجاتها
وأيضا فالوقت كما قال هو حين وجد صادق فقيد الحين بالوجد والوجد بالصدق وقال في هذا الباب هو نفس في حين استتار فقيد النفس بالحين وبالوجد وقيد به الوقت فهو معتبر بهما
وأيضا فالوقت والنفس لهما أسباب تعرض للقلب بسبب حجبه عن مطلوبه أو مفارقة حال كان فيها فاستترت عنه فبينهما تشابه من هذه الوجوه وغيرها
قال والأنفاس ثلاثة نفس في حين استتار مملوء من الكظم متعلق بالعمل إن تنفس تنفس بالأسف وإن نطق نطق بالحزن وعندي هو متولد من وحشة الاستتار وهي الظلمة التي قالوا إنها مقام
فقوله نفس في حين استتار أي يكون له حال صادق وكشف صحيح فيستتر عنه بحكم الطبيعة والبشرية ولا بد فيضيق بذلك صدره ويمتلىء كظما

بحجب ما كان فيه واستتاره لأسباب فاعلية وغائية سترد عليك إن شاء الله فإذا تنفس في هذه الحال فتنفسه تنفس الحزين المكروب
قوله مملوء من الكظم الكظم هو الإمساك ومنه كظم غيظه إذا تجرعه وحبسه ولم يخرجه
قوله متعلق بالعمل يريد أن ذلك النفس متعلق بأحكام الظاهر لا بأحكام الحال وذلك هو البلاء الذي تقدم ذكر الشيخ له وهو بلاء العبد بين الاستجابة لداعي العلم وداعي الحال
وإنما كان ذلك نفس مكظوم لخلوه في هذه الحال من أحكام المحبة التي تهون الشدائد وتسهل الصعب وتحمل الكل وتعين على نوائب الحق وتعلقه بالعلم الذي هو داعي التفرق فإن كرب المحبة ممزوج بالحلاوة فإذا خلا من أحكامها إلى أحكام العلم فقد تلك الحلاوة واشتاق إلى ذلك الكرب كما قيل
ويشكو المحبون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكان لقلبي لذة الحب كلها ... فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي
قوله إن تنفس تنفس بالأسف
الأسف الحزن كقوله تعالى عن يعقوب يا أسفى على يوسف والأسف الغضب كقوله تعالى فلما آسفونا انتقمنا منهم وهو في هذا الموضع الحزن على ما توارى عنه من مطلوبه أو من صدق حاله
قوله وإن نطق نطق بالحزن يعني أن هذا المتنفس إن نطق بما يدل على الحزن على ما توارى عنه فمصدر تنفسه ونطقه حزنه على ما حجب عنه
قوله وعندي أنه يتولد من وحشة الاستتار والحجب
وكأن الاستتار بسبب السبب فيتولد السبب
يريد أن هذا الأسف وإن أضيف إلى الاستتار والحجاب فتولده

إنما هو من الوحشة التي سببها الاستتار من تلك الوحشة المتولدة من الاستتار وهذا صحيح فإنه لما كان مطلوبه مشاهدا له وحال محبته وأحكامها قائما به كان نصيبه من الأنس على قدر ذلك فإنه لما توارى عنه مطلوبه وأحكام محبته استوحش لذلك فتولد الحزن من تلك الوحشة
وبعد فالحزن يتولد من مفارقة المحبوب ليس له سبب سواه وإن تولد من حصول مكروه فذلك المكروه إنما كان كذلك لما فات به من المحبوب وفلا كان حزن إذا ولا هم ولا غم ولا أذى ولا كرب إلا في مفارقة المحبوب ولهذا كان حزن الفقر والمرض والألم والجهل والخمول والضيق وسوء الحال ونحو ذلك على فراق المحبوب من المال والوجد والعافية والعلم والسعة وحسن الحال ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى مفارقة المشتهيات من أعظم العقوبات فقال تعالى وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب فالفرح والسرور بالظفر بالمحبوب والهم والغم والحزن والأسف بفوات المحبوب فأطيب العيش عيش المحب الواصل إلى محبوبه وأمر العيش عيش من حيل بينه وبين محبوبه
والاستتار المذكور لا يكون إلا بعد كشف وعيان والرب تعالى يستر عنهم ما يستره رحمة بهم ولطفا بضعيفهم إذ لو دام له حال الكشف لمحقه بل رحمة ربه من به أن رده إلى أحكام البشرية ومقتضى الطبيعة
وأيضا ليتزايد طلبه ويقوى شوقه فإنه لو دامت له تلك الحال لألفها واعتادها ولم يقع منه موقع الماء من ذي الغلة الصادي ولا موقع الأمن من الخائف ولا موقع الوصال من المهجور فالرب سبحانه واراها عنه ليكمل فرحه ولذته وسروره بها
وأيضا فليعرفه سبحانه قدر نعمته بما أعطاه وخلع عليه فإنه لما ذاق قرارة الفقد عرف حلاوة الوجود فإن الأشياء تتبين بأضدادها

وأيضا فليعرفه فقره وحاجته وضرورته إلى ربه وأنه غير مستغن عن فضله وبره طرفة عين وأنه إن انقطع عنه إمداده فسد بالكلية
وأيضا فليعرفه أن ذلك الفضل والعطاء ليس لسبب من العبد وأنه عاجز عن تحصيلها بكسب واختيار وأنها مجرد موهبة وصدقة تصدق الله بها عليه لا يبلغها عمله ولا ينالها سعيه
وأيضا فليعرفه عزه في منعه وبره في عطائه وكرمه وجوده في عوده عليه بما حجب عنه فينفتح على قلبه من معرفة الأسماء والصفات بسبب هذا الاستتار والكشف بعده أمور غريبة عجيبة يعرفها الذائق لها وينكرها من ليس من أهلها
وأيضا فإن الطبيعة والنفس لم يموتا ولم يعدما بالكلية ولولا ذلك لما قام سوق الامتحان والتكليف في هذا العالم بل قهرا بسلطان العلم والمعرفة والإيمان والمحبة والمقهورالمغلوب لا بد أن يتحرك أحيانا وإن قلت ولكن حركة أسير مقهور بعد أن كانت حركته حركة أمير مسلط
فمن تمام إحسان الرب إلى عبده وتعريفه قدر نعمته أن أراه في الأعيان ما كان حاكما عليه قاهرا له وقد تقاضى ما كان يتقاضاه منه أولا فحينئذ يستغيث العبد بربه ووليه ومالك أمره كله يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك
وأيضا فإنه يزيل من قلبه آفة الركون إلى نفسه أو عمله أو حاله كما قيل إن ركنت إلى العلم أنسيناكه وإن ركنت إلى الحال سلبناك إياه وإن ركنت إلى المعرفة حجبناها عنك وإن ركنت إلى قلبك أفسدناه عليك فلا يركن العبد إلى شيء سوى الله البتة ومتى وجد من قلبه ركونا إلى غيره فليعلم أنه قد أحيل على مفلس بل معدم وأنه قد فتح له الباب مكرا فليحذر ولوجه والله المستعان

قوله وهي الظلمة التي قالوا إنها مقام
يعني أن وحشة الاستتار ظلمة وقد قال قوم إنها مقام
ووجهه أن الرب سبحانه يقيم عبده بحكمته فيها لما ذكرناه من الحكم والفوائد وغيرها مما لم نذكره
فبهذا الاعتبار تكون مقاما ولكن صاحب هذا المقام أنفاسه أنفاس حزن وأسف وهلاك وتلف لما حجب عنه من المقام الذي كان فيه
والشيخ كأنه لا يرى ذلك مقاما فإن المقامات هي منازل في طريق المطلوب فكل أمر أقيم فيه السالك من حاله الذي يقدمه إلى مطلوبه فهو مقام وأما وحشة الاستتار فهي تأخر في الحقيقة لا تقدم فكيف تسمى مقاما بل هي ضد المقام
ومما يدل على أن وحشة الاستتار ليست مقاما أن كل مقام فهو تعلق بالحق سبحانه على وجه الثبوت وحقيقته بأن يكون العبد بالمقيم لا بالمقام
وأما حال الاستتار فهو حال انقطاع عن ذلك التعلق المذكور
والتحقيق في ذلك أن له وجهين هو من أحدهما ظلمة ووحشة ومن الثاني مقام فهو باعتبار الحال وباعتبار نفسه ليس مقاما وباعتبار المآل وما يترتب عليه وما فيه من تلك الحكم والفوائد المذكورة فهو مقام وبالله التوفيق

فصل قال والنفس الثاني نفس في حين التجلي وهو نفس شاخص عن مقام
السرور إلى روح المعاينة مملوء من نور الوجود شاخص إلى منقطع الإشارة
هذا النفس أعلى من الأول فإن الأول في حين استتار وظلمة وهذا نفس في حال تجل ونوره وحين التجلي هو زمان حصول الكشف والتجلي مشتق من الجلوة قيل وحقيقته إشراق نور الحق على قلوب المريدين

فإن أرادوا إشراق نور الذات فغلط شنيع منهم ولهذا قال من احترز منهم عن لك إشراق نور الصفات
فإن أرادواأيضا إشراق نفس الصفة فغلط كذلك فإن التجلي الذاتي والصفاتي لا يقع في هذا العالم ولا تثبت له القوى البشرية
والحق أنه إشراق نور المعرفة والإيمان واستغراق القلب في شهود الذات المقدسة وصفاتها استغراقا علميا نعم هو أرفع من العلم المجرد لأسباب
منها قوته فإن المعارف والعلوم تتفاوت
ومنها صفاء المحل ونقاؤه من الكدر المانع من ظهور العلم والمعرفة فيه
ومنها التجرد عن الموانع والشواغل
ومنها كمال الالتفات والتحديق نحو المعروف المشهود
ومنها كمال الأنس به والقرب منه إلى غير ذلك من الأسباب التي توجب للقلب شهودا وكشفا وراء مجرد العلم
قوله وهو نفس شاخص عن مقام السرور أي صادر عن مقام السرور والشخوص الخروج يقال شخص فلان إلى بلد كذا إذا خرج إليه
والمقصود أن هذا النفس صدرعن سرور وفرح بخلاف الأول فإنه صدر عن ظلمة ووحشة أثارت حزنا فهذا النفس صدر عن سماع الإجابة الذي يمحو آثار الوحشة
قوله إلى روح المعاينة هو بفتح الراء وهو النعيم والراحة التي تحصل بالمعاينة ضد الألم والوحشة الحاصلين في حين الاستتار فهذا النفس مصدره السرور ونهايته روح المعاينة صادرا عن مسرة طالبا المعاينة
وأصح ما يحمل عليه كلام الشيخ وأمثاله من أهل الاستقامة في المعانية أنها تزايد العلم حتى يصير يقينا ولا يصل أحد إلى عين اليقين في هذه الدار

وإن خالف في ذلك من خالف فالغلط من لوازم الطبيعة والعلم يميز بين الغلط والصواب
وقد أشعر كلام الشيخ ههنا بأن التجلي دون المعاينة فإن التجلي قد يكون من وراء ستر رقيق وحاجز لطيف والكشف والعيان هو الظهور من غير ستر فإذا كان مسرورا بحال التجلي كانت أنفاسه متعلقة بمقام المعاينة الذي هو فوق مقام التجلي ولهذا جعله شاخصا إليها
قوله مملوء من نور الوجود يريد أن هذا النفس مملوء من نور الوجود والوجود عنده هو حضرة الجمع فكأنه يقول هذا النفس منصبغ مكتس بنور الوجود فإن صاحبه لما تنفس به كان في مقام الجمع والوجود
قوله شاخص إلى منقطع الإشارة لما كان قلبه مملوءا من نور الوجود وكان شاخصا إلى المعاينة مستفرغا بكليته في طلبها كان شاخصا إلى حضرة الجمع التي هي منقطع الإشارة عندهم فضلا عن العبارة فلا إشارة هناك ولا عبارة ولا رسم بل تفنى الإشارات وتعجز العبارات وتضمحل الرسوم

فصل قوله والنفس الثالث نفس مطهر بماءالقدس قائم بإشارات الأزل وهو
النفس الذي يسمى بصدق النور
القدس الطهارة والتقديس التطهير والتنزيه ومراده بالقدس ههنا الشهود الذي يفنى الحادث الذي لم يكن ويبقى القديم الذي لم يزل فكأن صفات الحدوث عندهم مما يتطهر منها بالتجلي المذكور فالتجلي يطهر

العبد منها فإنه ما دام في الحجاب فهو باق مع إنيته وصفاته فإذا أشرق عليه نور التجلي طهره من صفاته وشهودها وتوسيطها بينه وبين مشهوده الحق
وحاصل كلامه أن هذا النفس صادر عن مشاهدة الأزل الماحي للحوادث المفنى لها فهذا النفس مطهر بالطهر المقدس عن كل غين وعن ملاحظة كل مقام بل هو مستغرق بنور الحق وآثار الحق تنطق عليه كما قال النبي إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه / ح / وقال ابن مسعود ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر وهذا نطق غير النطق النفساني الطبيعي ولهذا سمى هذا النفس بصدق النور لصدق شدة تعلقه بالنور وملازمته له
قوله قائم بإشارات الأزل أي هذا النفس منزه مطهر عن إشارات الحدوث فقد ترحل عنها وفارقها إلى إشارات الأزل ويعني بإشارات الأزل أنه قد فنى في عيانه الذي شخص إليه من لم يكن وبقي من لم يزل فصارت أنفاسه من جملة إشارات الأزل
ولم يرد الشيخ أن أنفاسه تنقلب أزلية فمن هو دون الشيخ لا يتوهم هذا بل أنفاس الخلق متعلقة بمن لم يكن وهذا نفسه متعلق بمن لم يزل
وبعد فللملحد ههنا مجال لكنه في الحقيقة وهم باطل وخيال
وفي قوله يسمى بصدق النور لطيفة وهي أن السالك يلوح له في سلوكه النور مرارا ثم يختف عنه كالبرق يلمع ثم يختفي فإذا قوي ذلك النور ودام ظهوره صار نورا صادقا
قوله فالنفس الأول للعيون سراج والثاني للقاصد معراج والثالث للمحقق تاج

أي النفس الأول سراج في ظلمة السلوك لتعلقه بالعلم كما تقدم والعلم سراج يهتدى به في طرقات القصد ويوضح مسالكها ويبين مراتبها فهو سراج للعيون
والنفس الثاني للقاصد معراج فإنه أعلى من الأول لأنه من نور المعرفة الرافعة للحجاب
والنفس الثالث للمحقق تاج لأنه نفس مطهر من أدناس الأكوان ومتصل بالكائن قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء فهذا تاج لقلبه بمنزلة التاج على رأس الملك
والنفس الأول يؤمن السالك من عثرته والثاني يوصله إلى طلبته والثالث يدله على علو مرتبته والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال شيخ الإسلام
باب الغربة
قال الله تعالى فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم
استشهاده بهذه الآية في هذا الباب يدل على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية وهم الذين أشار إليهم النبي في قوله بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذي يصلحون إذا فسد الناس / ح / وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن زهير عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن حنطب عن المطلب بن حنطب عن النبي قال طوبى للغرباء قالوا يا رسول الله ومن الغرباء قال الذين يزيدون إذا نقص الناس
فإن كان هذا الحديث بهذا اللفظ محفوظا لم ينقلب على الراوي لفظه وهو

الذين ينقصون إذا زاد الناس فمعناه الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتقى إذا نقص الناس من ذلك والله اعلم
وفي حديث الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال النزاع من القبائل / ح / وفي حديث عبدالله بن عمرو قال قال النبي ذات يوم ونحن عنده طوبى للغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال ناس صالحون قليل في ناس كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم / ح /
وقال أحمد حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا محمد بن مسلم حدثنا عثمان بن عبدالله عن سليمان بن هرمز عن عبدالله بن عمرو عن النبي قال إن أحب شيء إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء قال الفرارون بدينهم يجتمعون إلى عيسى ابن مريم عليه السلام يوم القيامة / ح /
وفي حديث آخر بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى لغرباء قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذي يحيون سنتي ويعلمونها الناس / ح /
وقال نافع عن مالك دخل عمر بن الخطاب المسجد فوجد معاذ بن جبل جالسا إلى بيت النبي وهو يبكي فقال له عمر ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن هلك أخوك قال لا ولكن حديثا حدثنيه حبيبي وأنا في هذا المسجد فقال ما هو قال إن الله يحب الأخفياء الأحفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة / ح /
فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون ولقلتهم في الناس جدا سموا غرباء فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات فأهل الإسلام في الناس

غرباء والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء وأهل العلم في المؤمنين غرباء وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا فلا غربة عليهم وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز و جل فيهم وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه وغربتهم هي الغربة الموحشة وإن كانوا هم المعروفين المشار إليهم كما قيل
فليس غريبا من تناءت دياره ... ولكن من تنأين عنه غريب
ولما خرج موسى عليه السلام هاربا من قوم فرعون انتهى إلى مدين على الحال التي ذكر الله وهو وحيد غريب خائف جائع فقال يا رب وحيد مريض غريب فقيل له يا موسى الوحيد من ليس له مثلي أنيس والمريض من ليس له مثلي طبيب والغريب من ليس بيني وبينه معاملة
فالغربة ثلاثة أنواع غربة أهل الله وأهل سنة رسوله بين هذا الخلق وهي الغربة التي مدح رسول الله أهلها وأخبر عن الدين الذي جاء به أنه بدأ غريبا وأنه سيعود غريبا كما بدأ وأن أهله يصيرون غرباء
وهذه الغربة قد تكون في مكان دون مكان ووقت دون وقت وبين قوم دون قوم ولكن أهل هذه الغربة هم أهل الله حقا فإنهم لم يأووا إلى غير الله ولم ينتسبوا إلى غير رسوله ولم يدعوا إلى غير ما جاء به وهم الذين فارقوا الناس أحوج ما كانوا إليهم فإذا انطلق الناس يوم القيامة مع آلهتهم بقوا في مكانهم فيقال لهم ألا تنطلقون حيث انطلق الناس

فيقولون فارقنا الناس ونحن أحوج إليهم منا اليوم وإنا ننتظر ربنا الذي كنا نعبده
فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس وأشد ما تكون وحشته إذا استأنسوا فوليه الله ورسوله والذين آمنوا وإن عاداه أكثر الناس وجفوه
وفي حديث القاسم عن أبي أمامة عن النبي قال عن الله تعالى إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاته أحسن عبادة ربه وكان رزقه كفافا وكان مع ذلك غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع وصبر على ذلك حتى لقي الله ثم حلت منيته وقل تراثه وقلت بواكيه / ح /
ومن هؤلاء الغرباء من ذكرهم أنس في حديثه عن النبي رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره / ح /
وفي حديث أبي إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل عن النبي قال ألا أخبركم عن ملوك أهل الجنة قالوا بلى يا رسول الله قال كل ضعيف أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره / ح / وقال الحسن المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها للناس حال وله حال الناس منه في راحة وهو من نفسه في تعب
ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم

فلغربتهم بين هذا الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم
ومعنى قول النبي هم النزاع من القبائل أن الله سبحانه بعث رسوله وأهل الأرض على أديان مختلفة فهم بين عباد أوثان ونيران وعباد صور وصلبان ويهود وصابئة وفلاسفة وكان الإسلام في أول ظهوره غريبا وكان من أسلم منهم واستجاب لله ولرسوله غريبا في حيه وقبيلته وأهله وعشيرته
فكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل بل آحادا منهم تغربوا عن قبائلهم وعشائرهم ودخلوا في الإسلام فكانوا هم الغرباء حقا حتى ظهر الإسلام وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا فزالت تلك الغربة عنهم ثم أخذ في الاغتراب والترحل حتى عاد غريبا كما بدأ بل الإسلام الحق الذي كان عليه رسول الله وأصحابه هو اليوم أشد غربة منه في أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة فالإسلام الحقيقي غريب جدا وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس
وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع ورئاسات ومناصب وولايات ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات والبدع التي هي منتهى فضيلتهم وعملهم والشهوات التي هي غايات مقاصدهم وإراداتهم
فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة غريبا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شحهم وأعجب كل منهم برأيه كما قال النبي مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيتم شحا

مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمرا لا يد لك به فعليك بخاصة نفسك وإياك وعوامهم فإن وراءكم أياما صبر الصابر فيهن كالقابض على الجمر / ح / ولهذا جعل للمسلم الصادق في هذا الوقت إذا تمسك بدينه أجر خمسين من الصحابة ففي سنن أبي داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة الخشني قال سألت رسول الله عن هذه الآية يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام فإن من وراءكم أيام الصبر الصبر فيهن مثل قبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قلت يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم / ح / وهذا الأجر العظيم إنما هو لغربته بين الناس والتمسك بالسنة بين ظلمات أهوائهم وآرائهم
فإذا أراد المؤمن الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه وفقها في سنة رسوله وفهما في كتابه وأراه ما الناس فيه من الأهواء والبدع والضلالات وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله وأصحابه فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نفسه على قدح الجهال وأهل البدع فيه وطعنهم عليه وإزرائهم به وتنفير الناس عنه وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعه وإمامه فأما إن دعاهم إلى ذلك وقدح فيما هم عليه فهنالك تقوم قيامتهم ويبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل ويجلبون عليه بخيل كبيرهم ورجله
فهو غريب في دينه لفساد أديانهم غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم غريب في صلاته لسوء صلاتهم

غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم غريب في نسبته لمخالفة نسبهم غريب في معاشرته لهم لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم
وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد من العامة مساعدا ولا معينا فهو عالم بين جهال صاحب سنة بين أهل بدع داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم منكر والمنكر معروف

فصل النوع الثاني من الغربة غربة مذمومة وهي غربة أهل الباطل
وأهل الفجور بين أهل الحق فهي غربة بين حزب الله المفلحين وإن كثر أهلها فهم غرباء على كثرة أصحابهم وأشياعهم أهل وحشة على كثرة مؤنسهم يعرفون في أهل الأرض ويخفون على أهل السماء
فصل النوع الثالث غربة مشتركة لا تحمد ولا تذم وهي الغربة عن
الوطن فإن الناس كلهم في هذه الدار غرباء فإنها ليست لهم بدار مقام ولا هي الدار التي خلقوا لها وقد قال النبي لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل / ح / وهكذا هو نفس الأمر لأنه أمر أن يطالع ذلك بقلبه ويعرفه حق المعرفة ولي من أبيات في هذا المعنى
وحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم

وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى ... وشطت به أوطانه ليس ينعم
فمن أجل ذا لا ينعم العبد ساعة ... من العمر إلا بعد ما يتألم
وكيف لا يكون العبد في هذه الدار غريبا وهو على جناح سفر لا يحل عن راحلته إلا بين أهل القبور فهو مسافر في صورة قاعد وقد قيل
وما هذه الأيام إلا مراحل ... يحث بها داع إلى الموت قاصد
وأعجب شيء لو تأملت أنها ... منازل تطوى والمسافر قاعد

فصل قال صاحب المنازل الاغتراب أمر يشار به إلى الانفراد عن
الأكفاء
يريد أن كل من انفرد بوصف شريف دون أبناء جنسه فإنه غريب بينهم لعدم مشاركه أو لقلته
قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى الغربة عن الأوطان وهذا الغريب موته شهادة ويقاس له في قبره من مدفنه إلى وطنه ويجمع يوم القيامة إلى عيسى بن مريم عليه السلام
لما كانت الغربة هي انفراد والانفراد إما بالجسم وإما بالقصد والحال وإما بهما كان الغريب غريب جسم أو غريب قلب وإرادة وحال أو غريبا بالاعتبارين
قوله وهذا الغريب موته شهادة يشير به إلى الحديث الذي يروى عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال موت الغريب شهادة ولكن هذا الحديث لا يثبت وقد روى من طرق لا يصح منها شيء قال الإمام أحمد هذا حديث منكر
وأما قوله ويقاس له في قبره من مدفنه إلى وطنه فيشير به إلى ما رواه

عبدالله بن وهب حدثني حيي بن عبدالله عن أبي عبدالرحمن البجلي عن عبدالله بن عمرو قال توفي رجل بالمدينة ممن ولد بالمدينة فصلى عليه رسول الله وقال ليته مات في غير مولده فقال رجل ولم يا رسول الله فقال إن الرجل إذا مات قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة / ح / رواه ابن لهيعة عن حيى بهذا الإسناد وقال وقف رسولالله صلى الله عليه و سلم علىقبر رجل بالمدينة فقال ياله لو مات غريبا فقيل وما للغريب يموت بغير أرضه فقال ما من غريب يموت بغير أرضه إلا قيس له من تربته إلى مولده في الجنة
قوله ويجمع يوم القيامة إلى عيسى بن مريم يشير إلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا القاسم بن جميل حدثنا محمد بن مسلم حدثنا عثمان بن عبدالله بن إدريس عن سليمان بن هرمز عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله أحب شيء إلى الله الغرباء قيل وما الغرباء يا رسول الله قال الفرارون بدينهم يجتمعون إلى عيسى بن مريم يوم القيامة / ح /

فصل قال الدرجة الثانية غربة الحال وهذا من الغرباء الذين طوبى لهم
وهو رجل صالح في زمان فاسد وبين قوم فاسدين أو عالم بين قوم جاهلين أو صديق بين قوم منافقين
يريد بالحال ههنا الوصف الذي قام به من الدين والتمسك بالسنة ولا يريد به الحال الاصطلاحي عند القوم والمراد به العالم بالحق العامل به الداعي إليه
وجعل الشيخ الغرباء في هذه الدرجة ثلاثة أنواع صاحب صلاح ودين بين قوم فاسدين وصاحب علم ومعرفة بين قوم جهال وصاحب صدق وإخلاص بين أهل كذب ونفاق فإن صفات هؤلاء وأحوالهم تنافي صفات من هم بين

أظهرهم فمثل هؤلاء بين أولئك كمثل الطير الغريب بين الطيور والكلب الغريب بين الكلاب
والصديق هو الذي صدق في قوله وفعله وصدق الحق بقوله وعمله فقد انجذبت قواه كلها للانقياد لله ولرسوله عكس المنافق الذي ظاهره خلاف باطنه وقوله خلاف عمله

فصل قال الدرجة الثالثة غربة الهمة وهي غربة طلب الحق وهي غربة
العارف لأن العارف في شاهده غريب ومصحوبه في شاهده غريب وموجوده لا يحمله علم أو يظهره وجد أو يقوم به رسم أو تطيقه إشارة أو يشمله اسم غريب فغربة العارف غربة الغربة لأنه غريب الدنيا والآخرة
إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها لأن الغربة الأولى غربة بالأبدان والثانية غربة بالأفعال والأحوال وهذه الثالثة غربة بالهمم فإن همة العارف حائمة حول معروفه فهو غريب في أبناء الآخرة فضلا عن أبناء الدنيا كما أن طالب الآخرة غريب في أبناء الدنيا
قوله لأن العارف في شاهده غريب شاهد العارف هو الذي يشهد عنده وله بصحة ما وجد وأنه كما وجد وبثبوت ما عرف وأنه كما عرف
وهذا الشاهد أمر يجده من قلبه وهو قربه من الله وأنسه به وشدة شوقه إلى لقائه وفرحه به فهذا شاهده في سره وقلبه
وله شاهد في حاله وعمله يصدق هذا الشاهد الذي في قلبه
وله شاهد في قلوب الصادقين يصدق هذين الشاهدين فإن قلوب الصادقين لا تشهد بالزور البتة فإذا خفي عليك شأنك وحالك فاسأل عنك قلوب الصادقين فإنها تخبره عن حالك
قوله ومصحوبه في شاهده غريب مصحوبه في شاهده هو الذي

يصحبه فيه من العلم والعمل والحال وهو غريب بالنسبة إلى غيره ممن لم يذق طعم هذا الشأن بل هو في واد وأهله في واد
وقوله وموجوده لا يحمله علم إلى آخره
يريد بموجوده ما يجده في شهوده وجدانا ذاتيا حقيقيا في هذه المراتب المذكورة لأن الشهود يشملها كلها حالة المشاهدة
فأما ما يحمله العلم فهو أحكام العلم التي متى انسلخ منها انسلخ من الإيمان
وموجوده في هذه المشاهدة في هذا الحال هو إصابته وجه الصواب الذي أراده الله ورسوله بشرعه وأمره وهذه الإصابة غريبة جدا عند أهل العلم بل هي متروكة عند كثير منهم فليس الحلال إلا ما أحله من قلدوه والحرام ما حرمه والدين ما أفتي به يقدم على النصوص وتترك له أقوال الرسول والصحابة وسائر أهل العلم
قوله أو يظهره وجد الوجد يظهر أمورا ينكرها من لم يكن له ذلك الوجد ويعرفها من كان له وهذا الوجد إن شهد له العلم بالقبول وزكاه فهو وجد صحيح وإلا فهو وجد فاسد وفيه انحراف
والمقصود أن ما يظهره وجد هذا العارف بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه غريب على غيره بحسب همته ومعرفته وطلبه
قوله أو يقوم به رسم الرسم هو الصورة الخلقية وصفاتها وأفعالها عندهم والذي يقوم به هذا الرسم هو الذي يقيمه من تعلق اسم القيوم به فإن القيوم هو القائم بنفسه الذي قيام كل شيء به أي هو المقيم لغيره فلا قيام لغيره بدون إقامته له وقيامه هو بنفسه لا بغيره
ويحتمل أن يريد به معنى آخر وهو ما يقوى رسمه على القيام به فإن وراء ذلك مالا يقوى رسم العبد على إظهاره ولا القيام به وهذا أظهر المعنيين

من كلامه وسياقه إنما يدل عليه ولهذا قال بعد ذلك أو تطيقه إشارة أي لا تقدر على إفهامه وإظهاره إشارة فتنهض الإشارة بكشفه
ثم قال أو يشمله رسم يعني أو تناله عبارة
فذكر الشيخ خمس مراتب الأولى مرتبة حمل العلم له الثانية مرتبة إظهار الوجد له الثالثة مرتبة قيام الرسم به الرابعة مرتبة إطاقة الإشارة له الخامسة مرتبة شمول العبارة له
ومقصوده أن موجود العارف أخفى وأدق من موجود غيره فهو غريب بالنسبة إلى موجود سواه وأخبر أن موجوده في هذه المراتب غريب فكيف بموجوده الذي لا يحمله علم ولا يظهره وجد ولا يقوم به رسم ولا تطيقه إشارة ولا تشمله عبارة فهذا أشد غربة
قوله فغربة العارف غربة الغربة والغربة أن يكون الإنسان بين أبناء جنسه غريبا مع أن له نسبا فيهم
وأما غربة المعرفة فلا يبقى معها نسبة بينه وبين أبناء جنسه إلا بوجه بعيد لأنه في شأن والناس في شأن آخر فغربته غربة الغربة
وأيضا فالصالحون غرباء في الناس والزاهدون غرباء في الصالحين والعارفون غرباء في الزاهدين
قوله لأنه غريب الدنيا وغريب الآخرة
يعني أن أبناء الدنيا لا يعرفونه لأنه ليس منهم وأهل الآخرة العباد الزهاد لا يعرفونه لأن شأنه وراء شأنهم همتهم متعلقة بالعبادة وهمته متعلقة بالمعبود مع قيامه بالعبادة فهو يرى الناس والناس لا يرونه كما قيل
تسترت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني

فصل قال شيخ الإسلام
باب الغرق
قال الله تعالى فلما أسلما وتله للجبين هذا اسم يشار به في هذا الباب إلى من توسط المقام وجاوز حد التفرق
وجه استددلاله بإشارة الآية أن إبراهيم لما بلغ ما بلغ هو وولده في المبادرة إلى الامتثال والعزم عل إيقاع الذبح المأمور به ألقاه الوالد على جبينه في الحال وأخذ الشفرة وأهوى إلى حلقه أعرض في تلك الحال عن نفسه وولده وفنى بأمر الله عنهما فتوسط بحر جمع السر والقلب والهم على الله وجاوز حد التفرقة المانعة من امتثال هذا الأمر
قوله فلما أسلما أي استسلما وانقادا لأمر الله فلم يبق هناك منازعة لا من الوالد ولا من الولد بل استسلام صرف وتسليم محض
قوله وتله للجبين أي صرعه على جبينه وهو جانب الجبهة الذي يلي الأرض عند النوم وتلك هي هيئة ما يراد ذبحه
قوله توسط المقام لا يريد به مقاما معينا ولذلك أبهمه ولم يقيده والمقام عندهم منزل من منازل السالكين وهو يختلف باختلاف مراتبه وله بداية وتوسط ونهاية فالغرق المشار إليه أن يصير في وسط المقام
فإن قيل الغرق أخص بنهاية المقام من توسطه لأنه استغراق فيه بحيث يستغرق قلبه وهمه فكيف جعله الشيخ توسطا فيه
قلت لما كانت همة الطالب في هذه الحال مجموعة على المقصود وهو معرض عما سواه قد فارق مقام التفرقة وجاوز حدها إلى مقام الجمع فابتدأ في المقام وأول كل مقام يشبه آخر الذي قبله فلما توسط فيه استغرق قلبه وهمه وإرادته كما يغرق من توسط اللجة فيها قبل وصوله إلى آخرها
قوله وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى استغراق العلم في عين الحال

وهذا رجل قد ظفر بالاستقامة وتحقق في الإشارة فاستحق صحة النسبة
هذه الدرجة التي بدأ بها هي أول درجاته لأن الرجل قد يكون عالما بالشيء ولا يكون متصفا بالتخلق به واستعماله فالعلم شيء والحال شيء آخر فعلم العشق والصحة والشكر والعافية غير حصولها والاتصاف بها فإذا غلب عليه حال تلك المعلومات صار علمه بها كالمغفول عنه وليس بمغفول عنه بل صار الحكم للحال
فإن العبد يعرف الخوف من حيث العلم ولكن إذا اتصف بالخوف وباشر الخوف قلبه غلب عليه حال الخوف والانزعاج واستغرق علمه في حاله فلم يذكر علمه لغلبة حاله عليه
ومن هذه حاله فقد ظفر بالاستقامة لأن العلوم إذا أثمرت الأحوال كانت عنها الاستقامة في الأعمال ووقوعها على وجه الصواب وتحقق صاحبها في الإشارة إلى ما وجده من الأحوال ولم تكن إشارته عن تخمين وظن وحسبان واستحق اسم النسبة في صحة العبودية إلى الرحمن عز و جل لقوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وقوله وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا الآيات وقوله عينا يشرب بها عباد الله وقوله يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون
والمقصود أن هذا قد انتقل من أحكام العمل وحده إلى أحكام العمل بالحال المصاحب للعلم فهو عامل بالمواجيد الحالية المصحوبة بالعلوم النبوية فإن انفراد العلم عن الحال تعطيل وبطالة وانفراد الحال عن العلم كفر وإلحاد والأكمل أن لا يغيب عن شهود العلم بالحال وإن استغرقه الحال عن شهود العلم مع قيامه بأحكامه لم يضره
قوله وهذا رجل قد ظفر بالاستقامة أي هو على محجة الطريق القاصد إلى الله الموصل إليه والظفر هو حصول الإنسان على مطلوبه

قوله وتحقق في الإشارة أي إشارته إشارة تحقيق ليست كإشارة صاحب البرق الذي يلوح ثم يذهب
قوله فاستحق صحة النسبة لأنه لما استقام وصح حاله بعمله وأثمر علمه حاله صحت نسبة العبودية له فإنه لا نسبة بين العبد ولرب إلا نسبة العبودية

فصل قال الدرجة الثانية استغراق الإشارة في الكشف وهذا رجل ينطق عن
موجوده ويسير مع مشهوده ولا يحس برعونة رسمه
إنما كانت هذه الدرجة أرفع مما قبلها لأن صاحب الدرجة الأولى غايته أن يشير إلى ما تحققه وإن فارقه وصاحب هذه الدرجة قد فنى عن الإشارة لغلبة توالي نور الكشف عليه فاستغراق الإشارة في الكشف هو ارتفاع حكمها فيه فإن الإشارة عندهم نداء على رأس العبد وبوح بمعنى العلة وقد ارتفعت العلل عن صاحب هذه الدرجة فاستغرقت إشارته في كشفه فلم يبق له إشارة في الكشف وإنما ترتفع اإلإشارة لاستغراق الكشف لها إلا أن صاحب هذه الدرجة فيه بقية من رعونة رسمه فلذلك قال ولا يحس برعونة رسمه ورعونة الرسم هي التفاته إلى إنيته
وقوله وهذا رجل ينطق عن موجوده
أي لا يستعير ما يذكره من الذوق والوجد من غيره ويكون لسانه ناطقا به على حال غيره وموجوده فهو ينطق عن أمر هو متصف به لا وصاف له
قوله ويسير مع مشهوده هو بالسين المهملة أي يسير إلى الله عز و جل عن شهود وكشف لا مع حجاب وغفلة فهو سائر إلى الله بالله مع الله
قوله ولا يحس برعونة رسمه الرسم عندهم هو ذات العبد التي تفنى عند الشهود وليس المراد بفنائها عدمها من الوجود العيني بل عدمها من الوجود الذهني العلمي هذا مرادهم بقولهم فنى من لم يكن وبقي من لم يزل

وقد يريدون به معنى آخر وهو اضمحلال الوجود المحدث الحاصل بين عدمين وتلاشيه في الوجود الذي لم يزل ولا يزال
وللملحد ههنا مجال يجول فيه ويقول إن الوجود المحدث لم تكن له حقيقة وإن الوجود القديم الدائم وحده هو الثابت لا وجود لغيره لا في ذهن ولا في خارج وإنما هو وجود فائض على الدوام على ماهيات معدومةفتكتسى بعين وجوده بحسب استعداداتها والمقصود شرح كلام الشيخ
والمراد برعونة الرسم ههنا بقية تبقى من صاحب الشهود لا يدركها لضعفها وقلتها واشتغاله بنور الكشف عن ظلمتها فهو لا يحس بها

فصل قال الدرجة الثالثة استغراق الشواهد في الجمع وهذا رجل شملته
أنوار الأولية ففتح عينه في مطالعة الأزلية فتخلص من الهمم الدنية
إنما كان هذا الاستغراق عنده أكمل مما قبله لأن الأول استغراق كاشف في كشف وهو متضمن لتفرقة وهذا استغراق عن شهود كشفه في الجمع فتمكن هذا في حال جمع همته مع الحق حتى غاب عن إدراك شهوده وذكر رسومه لما توالى عليه من الأنوار التي خصه الحق بها في الأزل وهي أنوار كشف اسمه الأول ففتح عين بصيرته في مطالعة الاختصاصات الأزلية فتخلص بذلك من الهمم الدنية المنقسمة بين تغيير مقسوم أو تفويت مضمون أو تعجيل مؤخر أو تأخير سابق ونحو ذلك
وقد يراد بالهمم الدنية تعلتها بما سوى الحق سبحانه وما كان له وعلى هذا فاستغراق شواهده في جمع الحكم وشموله
وقد يراد به معنى آخر وهو استغراق شواهد الأسماء والصفات في الذات الجامعة لها فإن الذات جامعة لأسمائها وصفاتها فإذا استغرق العبد في حضرة الجمع غابت الشواهد في تلك الحضرة

وأكمل من ذلك أن يشهد كثرة في وحدة ووحدة في كثرة بمعنى أن يشهد كثرة الأسماء والصفات في الذات الواحدة ووحدة الذات مع كثرة أسمائها وصفاتها
وقوله ففتح عينه في مطالعة الأزلية نظر بالله لا بنفسه واستمد من فضله وتوفيقه لا من معرفته وتحقيقه فشاهد سبق الله سبحانه وتعالى لكل شيء وأوليته قبل كل شيء فتخلص من همم المخلوقين المتعلقة بالأدنى وصارت له همة عالية متعلقة بربه الأعلى تسرح ي رياض الأنس به ومعرفته ثم تأوي إلى مقاماتها تحت عرشه ساجدة له خاضعة لعظمته متذللة لعزته لا تبغي عنه حولا ولا تروم به بدلا

فصل قال صاحب المنازل
باب الغيبة
قال الله تعالى فتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف
وجه الاستدلا له بإشارة الآية أن يعقوب لما امتلأ قلبه بحب يوسف عليه الصلاة و السلام وذكره أعرض عن ذكر أخيه مع قرب عهده بمصيبة فراقه فلم يذكره مع ذلك ولم يتأسف عليه غيبة عنه بمحبة يوسف واستيلائه على قلبه ولو استدل بقوله تعالى فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن لكان دليلا أيضا فإن مشاهدته في تلك الحال غيب عن النسوة السكاكين وما يقطعن بهن حتى قطعن أيديهن ولا يشعرن وذلك من قوة الغيبة
قال الشيخ الغيبة التي يشار إليها في هذا الباب على ثلاث درجات الأولى غيبة المريد في تخلص القصد عن أيدي العلائق ودرك العوائق لالتماس الحقائق

يريد غيبة المريد عن بلده ووطنه وعاداته في محل تخليص القصد وتصحيحه ليقطع بذلك العلائق وهي ما يتعلق بقلبه وقالبه وحسه من المألوفات ويسبق العوائق حتى لا تلحقه ولا تدركه
قوله لالتماس الحقائق متعلق بقوله غيبة المريد أي هذه الغيبة لالتماس الحقائق فإن العوائق والعلائق تحول بينه وبين طلبها وحصولها لمضادتها لها
والحقائق جمع حقيقة ويراد بها الحق تعالى وما نسب إليه فهو الحق وقوله الحق ووعده الحق ولقاؤه حق ورسوله حق وعبوديته وحده حق وعبودية ما سواه الباطل فكل شيء ما خلا الله باطل
والمقصود أن المريد إن لم يتخلص قصده في مطلوبه عما يعوقه من الشواغل أو ما يدركه من المعوقات لم يبلغ مقصوده ولم يصل إليه وإن وصل إليه فبعد جهد شديد ومشقة بسبب تلك الشواغل ولم يصل القوم إلى مطلبهم إلا بقطع العلائق ورفض الشواغل

فصل قال الدرجة الثانية غيبة السالك عن رسوم العلم وعلل السعي ورخص
الفتور
يريد أنه ينتقل عن أحكام العلم إلىالحال وهذا كلام فيه إجمال فالملحد يفهم منه أنه يفارق أحكام العلم ويقف مع أحكام الحال وهذا زندقة وإلحاد
والموحد يفهم منه أنه ينتقل من أحكام العلم وحده إلىأحكام الحال المصاحب للعلم فإن العلم الخالي عن الحال ضعف في الطريق والحال المجرد عن العلم ضلال عن الطريق ومن عبدالله بحال مجرد عن علم لم يزدد من الله إلا بعدا
قوله وعلل السعي يعني أن السالك يغيب عن علل سعيه وعمله

وهذه العلل عندهم هي اعتقاده أنه يصل بها إلى الله وسكونه إليها وفرحه بها ورؤيتها فيغيب عن هذه العلل
ومراده بغيبته عنها إعدامها حتى لا تحضره لا أنه يغيب عنها وهي موجودة قائمة نعم إذا اعتقد أن الله يوصله إليه بها ويفرح بها من جهة الفضل والمنة وسبق الأولية لا من جهة الاكتساب والفعل لم يضره ذلك بل هذا أكمل وهو في الحقيقة سكون إلى الله تعالى وفرح به واعتقاد أنه هو الموصل لعبد هإيهبما منه وحده لا بحول العبد وقوته فهذا لون وهذا لون
والحاصل أنه إذا انتقل عن أحكام العلم المجرد إلى أحكام الحال المصاحب للعلم غابت عنه علل السعي
وكذلك تغيب عنه رخص الفتور فلا ينظر إلى عزيمة السعي ولا يقف مع رخص الفتور فهما آفتان للسالك فإنه إما أن يجرد عزمه وهمته فينظر إلى ما منه وأن همته وعزيمته تحمله وتقوم به وإما أن يترخص برخص تفتر عزمه وهمته فكمال جده وصدقه وصحة طلبه يخلصه من رخص الفتور وكمال توحيده ومعرفته بربه ونفسه يخلصه من علل السعي

فصل قال الدرجة الثالثة غيبة العارف عن عيون الأحوال والشواهد
والدرجات في عين الجمع
إنما كانت هذه الدرجة عنده أعلى على طريقته في كون الفناء غاية الطالب
وهذه الدرجة هي غيبته عن خيرات ومقامات بما هو أكمل منها وأشرف عنده وهو حضرة الجمع
ومعنى غيبته عن عيون الأحوال هو أن لا يرى الأحوال ولا تراه فلذلك استعار لها عيونا لأن الأحوال تقتضي وجدا وموجودا ووجدانا وهذا

ينافي الفناء في حضرة الجمع فإن الجمع يمحو أثر الرسوم وقد عرفت مرارا أن هذا ليس بكمال ولا هو مطلوب لنفسه وغيره أكمل منه
وأما غيبته عن الشواهد فقد يريد بها شواهد المعرفة وأدلتها فيغيب بمعروفه عن الشواهد الدالة عليه في الخارج وفي نفسه
وقد يريد بالشواهد الأسماء والصفات والغيبة عنها بشهود الذات ولكن هذا ليس بكمال ولا هو أعلى من شهود الأسماء والصفات بل هذا الشهود هو شهود المعطلة المنكرين لحقائق الأسماء والصفات فإنهم ينتهون في فنائهم إلى شهود ذات مجردة
ومن ههنا دخل الملاحدة القائلون بوحدة الوجود وجعلوا شهود نفس الوجود المجرد عن التقييدات وعن سائر الأسماء والصفات هو شهود الحقيقة تعالى الله عن كفرهم وإلحادهم علوا كبيرا وشيخ الإسلام براء من هؤلاء ومن شهودهم
ومراد اهل الاستقامة بذلك أن يشهد الذات الجامعة لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى فيغيبه شهوده لهذه الذات المقدسة عن شهود صفة واسم
فالشواهد هي الأفعال الدالة علىالصفات المستلزمة للذات وشواهد المعرفة هي الأدلة التي حصلت عنها المعرفة فإذا طواها الشاهد من وجوده وشهد أنه ما عرف الله إلا به ولا دل عليه إلا هو غابت عنه شواهده في مشهوده كما تغيب معارفه في معروفه
وبكل حال فما عرف الله إلا بالله ولا دل على الله إلا الله ولا أوصل إلى الله إلا الله فهو الدال على نفسه بما نصبه من الأدلة وهو الذاكر لنفسه على لسان

عبده كما قال النبي إن الله قال على لسان نبيه سمع الله لمن حمده وهو المحب لنفسه بنفسه وبما خلق من عبيده الذين يحبونه والشاكر لنفسه بنفسه وبما أجراه على ألسنة عبيده وقلوبهم وجوارحهم من ذكره وشكره فمنه السبب وهو والغاية هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم
وللملحد ههنا مجال حيث يظن أن الذاكر والمذكور والذكر والعارف والمعروف والمعرفة والمحب والمحبوب والمحبة من عين واحدة لا بل ذلك هو العين الواحدة وأن الذي عرف الله وأحبه هو الله نفسه وإن تعددت مظاهره فالظاهر فيها واحد ظهر بوجوده العيني فيها فوجودها عين وجوده ووجوده فاض عليها وهذا أكفر من كل كفر وأعظم من كل إلحاد
والموحدون يقولون إنما فاض عليها إيجاده لا وجوده فظهر فيها فعله بل أثر فعله لا ذاته ولا صفاته فقامت به فقرا إليه واحتياجا لا وجودا وذاتا وأقامها بمشيئته وربوبيته لا بظهوره فيها
ولقد لحظ ملاحدة الاتحادية أمرا اشتبه عليهم في وحدة الموجد بوحدة الوجود وتوحيد الذات والصفات والأفعال بتوحيد الوجود وفيضان جوده بفيضان وجوده فوحدوا الوجود وزعموا أنه هو المعبود فصاروا عبيد الوجود المطلق الذي لا وجود له في غير الأذهان وعبيد الموجودات الخارجة في الأعيان فإن وجودها عندهم هو المسمى بالله تعالى الله عن هذا الإلحاد الذي تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وسبحان من هو فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله
أين حقيقة المخلوق من الماء المهين من ذات رب العالمين أين المكون من تراب من رب الأرباب أين الفقير بالذات إلى الغني بالذات أين وجود من

يضمحل وجوده ويفوت إلى حقيقة وجود الحي الذي لا يموت هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارىء المصور له الأسماء الحسني يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم

فصل قال صاحب المنازل
باب التمكن
قال الله تعالى ولا يستخفنك الذين لا يوقنون
وجه استدلاله بالآية في غاية الظهور وهو أن المتمكن لا يبالي بكثرة الشواغل ولا بمخالطة أصحاب الغفلات ولا بمعاشرة أهل البطالات بل قد تمكن بصبره ويقينه عن استفزازهم إياه واستخفافهم له ولهذا قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق فمن وفى الصبر حقه وتيقن أن وعد الله حق لم يستفزه المبطلون ولم يستخفه الذين لا يوقنون ومتى ضعف صبره ويقينه أو كلاهما استفزه هؤلاء واستخفه هؤلاء فجذبوه إليهم بحسب ضعف قوة صبره ويقينه فكلما ضعف ذلك منه قوي جذبهم له وكلما قوي صبره ويقينه قوي انجذابه منهم وجذبه لهم
فصل قال الشيخ التمكن فوق الطمأنينة وهو الإشارة إلى غاية الاستقرار
التمكن هو القدرة على التصرف في الفعل والترك ويسمى مكانة أيضا قال الله تعالى قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل الآية
وأكثر ما يطلق في اصطلاح القوم على من انتقل إلى مقام البقاء

بعد الفناء وهو الوصول عندهم وحقيقته ظفر العبد بنفسه وهو أن تتوارى عنه أحكام البشرية بطلوع شمس الحقيقة واستيلاء سلطانها فإذا دامت له هذه الحال أو غلبت عليه فهو صاحب تمكين
قال صاحب المنازل التمكن فوق الطمأنينة وهو الإشارة إلى غاية الاستقرار إنما كان فوق الطمأنينة لأنها تكون مع نوع من المنازعة فيطمئن القلب إلى ما يسكنه وقد يتمكن فيه وقد لا يتمكن ولذلك كان التمكن هو غاية الاستقرار وهو تفعل من المكان فكأنه قد صار مقامه مكانا لقلبه قد تبوأه منزلا ومستقرا
قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى تمكن المريد وهو أن يجتمع له صحة قصد يسيره ولمع شهود يحمله وسعة طريق تروحه
المريد في اصطلاحهم هو الذي قد شرع في السير إلى الله وهو فوق العابد ودون الواصل وهذا اصطلاح بحسب حال السالكين وإلا فالعابد مريد والسالك مريد والواصل مريد فالإرادة لا تفارق العبد ما دام تحت حكم العبودية
وقد ذكر الشيخ للتمكن في هذه الدرجة ثلاثة أمور صحة قصد وصحة علم وسعة طريق فبصحة القصد يصح سيره وبصحة العلم تنكشف له الطريق وبسعة الطريق يهون عليه السير وكل طالب أمر من الأمور فلا بد له من تعين مطلوبه وهو المقصود ومعرفة الطريق الموصل إليه والأخذ في السلوك فمتى فاته واحد من هذه الثلاث لم يصح طلبه ولا سيره فالأمر دائر بين مطلوب يتعين إيثاره على غيره وطلب يقوم بقصد من يقصده وطريق توصل إليه
فإذا تحقق العبد بطلب ربه وحده تعين مطلوبه فإذا بذل جهده في طلبه صح له طلبه فإذا تحقق باتباع أوامره واجتناب نواهيه صح له طريقه وصحة القصد والطريق موقوفة على صحة المطلوب وتعينه

فحكم القصد يتلقى من حكم المقصود فمتى كان المقصود أهلا للإيثار كان القصد المتعلق به كذلك فالقصد والطريق تابعان للمقصود
وتمام العبودية أن يوافق الرسول في مقصوده وقصده وطريقه فمقصوده الله وحده وقصده تنفيذ أوامره في نفسه وفي خلقه وطريقه اتباع ما أوحي إليه فصحبه الصحابة رضي الله عنهم على ذلك حتى لحقوا به ثم جاء التابعون لهم بإحسان فمضوا على آثارهم
ثم تفرقت الطرق بالناس فخيار الناس من وافقه في المقصود والطريق وأبعدهم عن الله ورسوله من خالفه في المقصود والطريق وهم أهل الشرك بالمعبود والبدعة في العبادة ومنهم من وافقه في المقصود وخالفه في الطريق ومنهم من وافقه في الطريق وخالفه في المقصود
فمن كان مراده الله والدار الآخرة فقد وافقه في المقصود فإن عبدالله بما به أمر على لسان رسوله فقد وافقه في الطريق وإن عبده بغير ذلك فقد خالفه في الطريق
ومن كان مقصوده من أهل العلم والعبادة والزهد في الدنيا الرياسة فقد خالفه في المقصود وإن تقيد بالأمر
فإن لم يتقيد به فقد خالفه في المقصود والطريق
فإذا عرف هذا فقول الشيخ تمكن المريد أن يجتمع له صحة قصد يسيره إشارة إلى صحة القصد
وقوله ولمع شهود يحمله إشارة إلى معرفة المقصود وقوة اليقين فيحصل لقلبه كشف يحمله على سلوكه فإن السالك إذا كشف له عن مقصوده حتى كأنه يعاينه جد في طلبه وذهبت عنه رخص الفتور
وقوله وسعة طريق تروحه إشارة إلى صحة طريقه وذلك بأمرين بسعتها حتى لا تضيق عليه فيعجز عن سلوكها وباستقامتها حتى لا يزيغ عنها

إلى غيرها فإن طريق الحق واسعة مستقيمة وطرق الباطل ضيقة معوجة وهذا يدل على رسوخ الشيخ في العلم ووقوفه مع السنة وفقهه في هذا الشأن

فصل قال الدرجة الثانية تمكن السالك وهو أن يجتمع له صحة انقطاع
وبرق كشف وضياء حال
هذه الدرجة أتم مما قبلها فإن تلك تمكن في تصحيح قصد الأعمال وهذه تمكن في حال التمكن والتمكن في الحال أبلغ من التمكن في القصد
ويريد بصحة الانقطاع انقطاع قلبه عن الأغيار وتعلقه بالشواغل الموجبة للأكدار ومع ذلك فقد حصل لقلبه برق كشف يجعل الإيمان له كالعيان ومع ذلك فحاله مع الله صاف من معارضات السوى فلا يعارض كشفه شبهة ولا همته إرادة بل هو متمكن في انقطاعه وشهوده وحاله
فصل قال الدرجة الثالثة تمكن العارف وهو أن يحصل في الحضرة فوق حجب
الطلب لابسا نور الوجود
العارف فوق السالك ولا يفارقه السلوك لكنه مع السلوك قد ظفر بالمعرفة فأخذ منها اسما أخص من اسم السالك وهكذا الشأن في سائر المقامات والأحوال فإنها لا تفارق من ترقى فيها ولكن إذا ترقى في مقام أخذ اسمه وكان أحق به مع ثبوت الأول له
والحضرة يراد بها حضرة الجمع وعندي أنها حضرة دوام المراقبة والتمكن من مقام الإحسان هذه حضرة الأنبياء والعارفين

وأما حضرة الجمع التي يشيرون إليها فكل فرقة تشير إلى شيء فأهل الفناء يريدون حضرة جمع الفناء في توحيد الربوبية وأهل الإلحاد يريدون حضرة جمع الوجود في وجود واحد وطائفة من السالكين يريدون حضرة جمع الأسماء والصفات في ذات واحدة
وإذا فسرت بحضرة دوام المراقبة والتمكن في فقام الإحسان كان ذلك أحسن وأصح وصاحب هذه الحضرة لدوام مراقبته قد انقشعت عنه سحب الغفلات ولم تشغله عن تلك الحضرة الشواغل الملهيات
قوله فوق حجب الطلب يعني أن العارف قد ارتفع عن مقام الطلب للمعرفة إلى مقام حصولها والطالب للأمر دون الواصل إليه فالطالب بعد في حجاب طلبه والعارف قد ارتفع فوق حجاب الطلب بما شاهده من الحقيقة فالطالب شيء والواجد شيء
وهذا كلام يحتاج إلى شرح وبيان فإن الطلب لا يفارق العبد ما دامت أحكام العبودية تجري عليه ولكنه متنقل في منازل الطلب ينتقل من عبودية إلى عبودية والمعبود واحد جل وعلا لا ينتقل عنه فكيف يمكن تجرد المعرفة عن الطلب
هذا موضع زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وظن المخدوعون المغرورون أنهم قد استغنوا بالمعرفة عن الطلب وأن الطلب وسيلة والمعرفة غاية ولا معنى للاشتغال بالوسيلة بعد الوصول إلى الغاية
فهؤلاء خرجوا عن الدين بالكلية بعد أن شمروا في السير فيها فردوا

على أدبارهم ونكصوا على أعقابهم ولم يفهموا مراد أهل الاستقامة بذكر حجب الطلب
واعلم أن كل ما منك حجاب على مطلوبك فإن وقفت معه فأنت دون الحجاب وإن قطعته إلى تجريد المطلوب صرت فوق الحجاب فطلبك وإرادتك وتوكلك وحالك وعملك كله حجاب إن وقفت معه أو ركنت إليه وإن جاوزته إلى الذي أنت به وله وفي يديه وتحت تصرفه ومشيئته وليس لك ذرة واحدة إلا به ومنه ولم تقف مع طلبك في إرادتك فقد صرت فوق حجاب الطلب
ففي الحقيقة أنت حجاب قلبك عن ربك فإذا كشفت الحجاب عن القلب أفضى إلى الرب ووصل إلى الحضرة المقدسة
وقولنا إذا كشفت الحجاب إخبار عن محل العبودية وإلا فكشفه ليس بيدك ولا أنت الكاشف له فإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو
ومن أعظم الضر حجاب القلب عن الرب وهو أعظم عذابا من الجحيم قال تعالى كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم
قوله لابسا نور الوجود المعنى الصحيح من هذه اللفظة أن نور الوجود نور ظفره بإقبال قلبه على الله عز و جل وجمع همه عليه وفنائه بمراده عن مراد نفسه فصار واحدا واحدا لما أكثر الخلق فاقد له قد لبس قلبه نور ذلك الوجود حتى فاض على لسانه وجوارحه وحركاته وسكناته فإن نطق علاه النور وإن سكت علاه النور

وأخص من هذا أنه قد فاض على قلبه نور اليقين بالأسماء والصفات فصار لقلبه من معرفتها والإيمان بها وذوق حلاوة ذلك نور خاص غير مجرد نور العبادة والإرادة والسلوك وإياك أن تلتفت إلى غير هذا فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله
وليس مراد الشيخ بالوجود ما يريده المتكلمون والفلاسفة ولا ما يريده الاتحادية الملاحدة وإنما مراده به الوجدان بعد الفقد كما يقال فلان واجد وفلان فاقد والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل
باب المكاشفة
قال الله تعالى فأوحى إلى عبده ما أوحى
وجه احتجاجه بإشارة الآية أن الله سبحانه كشف لعبده ما لم يكشفه لغيره وأطلعه على مالم يطلع عليه غيره فحصل لقلبه الكريم من انكشاف الحقائق التي لا تخطر ببال غيره ما خصه الله به والإيحاء هو الإعلام السريع الخفي ومنه الوحا الوحا أي الإسراع الإسراع
قوله ما أوحي أبهمه لعظمه فإن الإبهام قد يقع للتعظيم ونظيره قوله تعالى فغشيهم من اليم ما غشيهم أي أمر عظيم فوق الصفة
قال الشيخ المكاشفة مهاداة السر بين متباطنين يريد أن المكاشفة إطلاع أحد المتحابين المتصافيين صاحبه على باطن أمره وسره
قوله مهاداة السر أي تردد السر على وجه الألطاف والمودة
قوله بين متباطنين يعني بالمتباطنين باطن المكاشف والمكاشف فيحمل سر كل منهما إلى الآخر كما يحمل إليه هديته فيسري سر كل واحد منها إلى الآخر وإذا بلغ العبد في مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال وأحست روحه بالقرب

الخاص الذي ليس هو كقرب من المحسوس حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه فإن حجابه هو نفسه وقد رفع الله سبحانه عنه ذلك الحجاب بحوله وقوته أفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب فصار يعبده كأنه يراه فإذا تحقق بذلك وارتفع عنه حجاب النفس وانقشع عنه ضبابها ودخانها وكشطت عنه سحبها وغيومها فهناك يقال له
بدلك سر طال عنك اكتتامه ... ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه ... ولولاك لم يطبع عليه ختامه
فان غبت عنه حل فيه وطنبت ... على منكب الكشف المصون خيامه
وجاء حديث لا يمل سماعه ... شهي إلينا نثره ونظامه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها ... وزال عن القلب الكئيب قتامه
فلذلك قال الشيخ وهي في هذا الباب بلوغ ما وراء الحجاب وجودا
قوله وجودا احتراز من بلوغه سماعا وعلما وكثيرا ما يلتبس على العبد أحدهما بالآخر فأين وجود الحقيقة من العلم بها ومعرفتها كما تقدم ذلك مرارا فتعلق العلم بالقلب شيء واتصافه بالمعلوم شيء آخر
فمن الناس من يتعلق به سماع ذلك دون فهمه ومنهم من يتعلق به فهمه دون حقيقته والتعلق الكامل أن يتعلق به وجوده فلذلك قال بلوغ ما وراء الحجاب وجودا
قال الشيخ وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى مكاشفة تدل على التحقيق الصحيح وهي لا تكون مستدامة فإذا كانت حينا دون حين ولم يعارضها تفرق غير أن الغين ربما شاب مقامه على أنه قد بلغ مبلغا لا يلفته قاطع ولا يلويه سبب ولا يقتطعه حظ وهي درجة القاصد فإذا استدامت فهي الدرجة الثانية
المكاشفة الصحيحة علوم يحدثها الرب سبحانه وتعالى في قلب العبد

ويطلعه بها على أمور تخفى على غيره وقد يواليها وقد يمسكها عنه بالغفلة عنها ويواريها عنه بالغين الذي يغشى قلبه وهو أرق الحجب أو بالغيم وهو أغلظ منه أو بالران وهو أشدها
فالأول يقع للأنبياء عليهم السلام كما قال النبي إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله أكثر من سبعين مرة
والثاني يكون للمؤمنين والثالث لمن غلبت عليه الشقوة قال الله تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال ابن عباس وغيره هو الذنب بعد الذنب يغطي القلب حتى يصير كالران عليه
والحجب عشرة حجاب التعطيل ونفي حقائق الأسماء والصفات وهو أغلظها فلا يتهيأ لصاحب هذا الحجاب أن يعرف الله ولا يصل إليه البتة إلا كما يتهيأ للحجر أن يصعد إلى فوق
الثاني حجاب الشرك وهو أن يتعبد قلبه لغير الله
الثالث حجاب البدعة القولية كحجاب أهل الأهواء والمقالات الفاسدة على اختلافها
الرابع حجاب البدعة العملية كحجاب أهل السلوك المبتدعين في طريقهم وسلوكهم
الخامس حجاب أهل الكبائر الباطنة كحجاب أهل الكبر والعجب والرياء والحسد والفخر والخيلاء ونحوها
السادس حجاب أهل الكبائر الظاهرة وحجابهم أرق من حجاب إخوانهم من أهل الكبائر الباطنة مع كثرة عباداتهم وزهاداتهم واجتهاداتهم فكبائر هؤلاء أقرب إلى التوبة من كبائر أولئك فإنها قد صارت مقامات لهم لا يتحاشون من إظهارها وإخراجها في قوالب عبادة ومعرفة فأهل الكبائر الظاهرة أدنى إلى السلامة منهم وقلوبهم خير من قلوبهم

السابع حجاب أهل الصغائر
الثامن حجاب أهل الفضلات والتوسع في المباحات
التاسع حجاب أهل الغفلة عن استحضار ما خلقوا له وأريد منهم وما لله عليهم من دوام ذكره وشكره وعبوديته
العاشر حجاب المجتهدين السالكين المشمرين في السير عن المقصود
فهذه عشر حجب بين القلب وبين الله سبحانه وتعالى تحول بينه وبين هذا الشأن وهذه الحجب تنشأ من أربعة عناصر عنصر النفس وعنصر الشيطان وعنصر الدنيا وعنصر الهوى فلا يمكن كشف هذه الحجب مع بقاء أصولها وعناصرها في القلب البتة
وهذه الأربعة العناصر تفسد القول والعمل والقصد والطريق بحسب غلبتها وقلتها فتقطع طريق القول والعمل والقصد أن يصل إلى القلب وما وصل منه إلى القلب قطعت عليه الطريق أن يصل إلى الرب فبين القول والعمل وبين القلب مسافة يسافر فيها العبد إلى قلبه ليرى عجائب ما هنالك وفي هذه المسافة قطاع الطريق المذكورون فإن حاربهم وخلص العمل إلى قلبه دار فيه وطلب النفوذ من هناك إلى الله فإنه لا يستقر دون الوصول إليه وأن إلى ربك المنتهى فإذا وصل إلى الله سبحانه أثابه عليه مزيدا في إيمانه ويقينه ومعرفته وعقله وجمل به ظاهره وباطنه فهداه به لأحسن الأخلاق والأعمال وصرف عنه به سيء الأخلاق والأعمال وأقام الله سبحانه من ذلك العمل للقلب جندا يحارب به قطاع الطريق للوصول إليه فيحارب الدنيا بالزهد فيها وإخراجها من قلبه ولا يضره أن تكون في يده وبيته ولا يمنع ذلك من قوة يقينه بالآخرة يحارب الشيطان بترك الإستجابة لداعي الهوى فإن الشيطان مع الهوى لا يفارقه ويحارب الهوى بتحكيم الأمر المطلق والوقوف معه بحيث لا يبقى له هوى فيما يفعله ويتركه ويحارب النفس بقوة الإخلاص

هذا كله إذا وجد العمل منفذا من القلب إلى الرب سبحانه وتعالى وإن دار فيه ولم يجد منفذا وثبت عليه النفس فأخذته وصيرته جندا لها فصالت به وعلت وطغت فتراه أزهد ما يكون وأعبد ما يكون وأشده اجتهادا وهو أبعد ما يكون عن الله وأصحاب الكبائر أقرب قلوبا إلى الله منه وأدنى منه إلى الإخلاص والخلاص
فانظر إلى السجاد العباد الزاهد الذي بين عينيه أثر السجود كيف أورثه طغيان عمله أن أنكر على النبي وأورث أصحابه احتقار المسلمين حتى سلوا عليهم سيوفهم واستباحوا دماءهم
وانظر إلى الشريب السكير الذي كان كثيرا ما يؤتى به إلى النبي فيحده على الشراب كيف قامت به قوة إيمانه ويقينه ومحبته لله ورسوله وتواضعه وانكساره لله حتى نهى رسول الله عن لعنته
فظهر بهذا أن طغيان المعاصي أسلم عاقبة من طغيان الطاعات
وقد روى الإمام أحمد في كتاب الزهد أن الله سبحانه أوحى إلى موسى يا موسى أنذر الصديقين فإني لا أضع عدلي على أحد إلا عذبته من غير أن أظلمه وبشر الخطائين فإنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره فلنرجع إلى شرح كلامه
قوله مكاشفة تدل على التحقيق الصحيح كل يدعي أن التحقيق الصحيح معه
وكل يدعون وصال ليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك

إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى
فليس التحقيق الصحيح إلا المطابق لما عليه الأمر في نفسه وهو في العلم الكشف المطابق لما أخبر به الرسل وفي الإرادة الكشف المطابق لمراد الرب الديني من عبده وقولنا الديني احتراز من مراده الكوني فإن كل ما في الكون موجب هذه الإرادة
فالكشف الصحيح أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه معاينة لقلبه ويجرد إرادة القلب له فيدور معه وجودا وعدما هذا هو التحقيق الصحيح وما خالفه فغرور قبيح
قوله وهي لا تكون مستدامة هكذا رأيته في نسخ وفي أخرى وهي أن تكون مستديمة وكأن هذا الثاني أصح لأن سياق الكلام يدل على ذلك وأنها غير مستدامة في الدرجة الأولى فإذا استدامت صارت في الدرجة الثانية وبذلك يحصل الإختلاف بين الدرجتين وإلا فلو كانت مستدامة فيهما لكانت الدرجتان واحدة
قوله فإذا كانت حينا دون حين ولم يعارضها تفرق
يعني فهي الدرجة الأولى بشرط أن لا يقطع حكمها تفرق ولهذا قال لم يعارضها ولم يقل لم يعرض لها فإن التفرق لا بد أن يعرض لكن لا يعارضها ويقاومها بحيث يزيلها فإن العارض إذا عرض للقلب كرهه ومحاه وأزاله بسرعة
وأما المعارض فإنه يزيل الحاصل ويخلفه فيصير الحكم له فلذلك قال غير أن الغين ربما شاب مقامه على أنه قد بلغ مبلغا إلى آخره
يعني أن لوازم البشرية لا بد له منها ولو لم يكن إلا أخفها وهو الحجاب الرقيق الذي يعرض لقلبه وهو الغين لكنه لا يضره لأنه قد بلغ مبلغا لا يلفته قاطع أي لا توجب له القواطع التفات قلبه عن مقامه إليها بل إذا

لحظها بقلبه فر منها كما يفر الظبي من الكلب الصائد إذا أحس به ولا يلويه سبب أي لا يعوج قصده للحق سبب من الأسباب ولا يرده عنه
قوله ولا يقطعه حظ أي لا يقطعه عن بلوغ مقصوده حظ من الحظوظ النفسية والقاصد في هذه الدرجة هو الذي قد ظفر بالقصد الذي لا يلقى سببا إلا قطعه ولا حائلا إلا منعه ولا تحاملا إلا سهله فهذه درجة القاصد فإذا استدامت وتمكن فيها السالك فهي الدرجة الثانية
قال الشيخ وأما الدرجة الثالثة فمكاشفة عين لا مكاشفة علم وهي مكاشفة لا تذر سمة تشير إلى التذاذ أو تلجىء إلى توقف أو تنزل إلى رسم وغاية هذه المكاشفة المشاهدة
إنما كانت هذه الدرجة مكاشفة عين لغلبة نور الكشف على القلب فتنزلت هذه المكاشفة من القلب وحلت منه محل العلم الضروري الذي لا يمكن جحده ولا تكذيبه بل صارت للقلب بمنزلة المرئي للبصر والمسموع للأذن والوجدانيات للنفس وكما أن المشاهدة بالبصر لا تصح إلا مع صحة القوة المدركة وعدم الحائل من جسم أو ظلمة وانتفاء البعد المفرط فكذلك المكاشفة بالبصيرة تستلزم صحة القلب وعدم الحائل والشاغل وقرب القلب ممن يكاشفه بأسراره
وليس مراد الشيخ في هذا الباب الكشف الجزئي المشترك بين المؤمنين والكفار والأبرار والفجار كالكشف عما في دار إنسان أو عما في يده أو تحت ثيابه أو ما حملت به امرأته بعد انعقاده ذكرا أو أنثى وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك فإن ذلك يكون من الشيطان تارة ومن النفس تارة ولذلك يقع من الكفار كالنصارى وعابدي النيران والصلبان فقد كاشف ابن صياد النبي بما أضمره له وخبأه فقال له رسول الله إنما أنت من إخوان الكهان فأخبر أن ذلك

الكشف من جنس كشف الكهان وأن ذلك قدره وكذلك مسيلمة الكذاب مع فرط كفره كان يكاشف أصحابه بما فعله أحدهم في بيته وما قاله لأهله يخبره به شيطانه ليغوي الناس وكذلك الأسود العنسي والحارث المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبدالملك بن مروان وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله وقد رأينا نحن وغيرنا منهم جماعة وشاهد الناس من كشف الرهبان عباد الصليب ما هو معروف
والكشف الرحماني من هذا النوع هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة رضي الله عنهماإن امرأته حامل بأنثى وكشف عمر رضي الله عنه لما قال يا سارية الجبل وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن
والمقصود أن مراد القوم بالكشف في هذا الباب أمر وراء ذلك وأفضله وأجله أن يكشف للسالك عن طريق سلوكه ليستقيم عليها وعن عيوب نفسه ليصلحها وعن ذنوبه ليتوب منها
فما أكرم الله الصادقين بكرامة أعظم من هذا الكشف وجعلهم منقادين له عاملين بمقتضاه فإذا انضم هذا الكشف إلى كشف تلك الحجب المتقدمة عن قلوبهم سارت القلوب إلى ربها سير الغيث إذا استدبرته الريح
فلنرجع إلى شرح كلامه
فقوله الدرجة الثالثة مكاشفة عين لا مكاشفة علم أي متعلق هذه المكاشفة عين الحقيقة بخلاف مكاشفة العلم فإن متعلقهاالصورة الذهنية المطابقة للحقيقة الخارجية فكشف العلم أن يكون مطابقا لعلومه وكشف العيان أن يصيرالمعلوم مشاهدا للقلب كما تشاهد العين المرئي

ومن ظن من القوم أن كشف العين ظهور الذات المقدسة لعيانه حقيقة فقد غلط أقبح الغلط وأحسن أحواله أن يكون صادقا ملبوسا عليه فإن هذا لم يقع في الدنيا لبشر قط وقد منع منه كليم الرحمن
وقد اختلف السلف والخلف هل حصل هذا لسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه فالأكثرون على أنه لم ير الله سبحانه وحكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعا من الصحابة فمن ادعى كشف العيان البصري عن الحقيقة الإلهية فقد وهم وأخطأ وإن قال إنما هو كشف العيان القلبي بحيث يصير الرب سبحانه كأنه مرئي للعبد كما قال النبي اعبد الله كأنك تراه فهذا حق وهو قوة يقين ومزيد علم فقط
نعم قد يظهر له نور عظيم فيتوهم أن ذلك نور الحقيقة الإلهية وأنها قد تجلت له وذلك غلط أيضا فإن نور الرب تعالى لا يقوم له شيء ولما ظهر للجبل منه أدنى شيء ساخ الجبل وتدكدك وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى لا تدركه الأبصار قال ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى به لم يقم له شيء
وهذا النور الذي يظهر للصادق هو نور الإيمان الذي أخبر الله عنه في قوله مثل نوره كمشكاة فيها مصباح قال أبي بن كعب مثل نوره في قلب المؤمن فهذا نور يضاف إلى الرب ويقال هو نور الله كما أضافه الله سبحانه إلى نفسه والمراد نور الإيمان الذي جعله الله له خلقا وتكوينا كما قال تعالى ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور فهذا النور إذا تمكن من القلب وأشرق فيه فاض على الجوارح فيرى أثره في الوجه والعين ويظهر في القول والعمل وقد يقوى حتى يشاهده صاحبه عيانا وذلك لاستيلاء أحكام القلب عليه وغيبة أحكام النفس
والعين شديدة الارتباط بالقلب تظهر ما فيه فتقوى مادة النور في القلب

ويغيب صاحبه بما في قلبه عن أحكام حسه بل وعن أحكام العلم فينتقل من أحكام العلم إلى أحكام العيان
وسر المسألة أن أحكام الطبيعة والنفس شيء وأحكام القلب شيء وأحكام الروح شيء وأنوار العبادات شيء وأنوار استيلاء معاني الصفات والأسماء على القلب شيء وأنوار الذات المقدسة شيء وراء ذلك كله
فهذا الباب يغلط فيه رجلان أحدهما غليظ الحجاب كثيف الطبع والآخر قليل العلم يلتبس عليه ما في الذهن بما في الخارج ونور المعاملات بنور رب الأرض والسموات ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
قوله ولا مكاشفة الحال مكاشفة الحال هي المواجيد التي يجدها السالك بوارداته حتى يبقى الحكم لقلبه وحاله
قوله وهي مكاشفة لا تذر سمة تشير إلى الالتذاذ يريد أن هذه المكاشفة تمحو رسوم المكاشف فلا يبقى منه ما يحس بلذة فإن الأحوال والمواجيد لها لذه عظيمة أضعاف اللذة الحسية فإن لذتها روحانية قلبية والمكاشفة العينية تغيب المكاشف عن إدراك تلك اللذة والسمة هي العلامة فالمعنى أن هذه المكاشفة لا تذر له علامة تدل على لذة
قوله أو تلجىء إلى توقف يعني لا تذر له بقية تلجئه إلى وقفة فإن البقية التي تبقى على السالك من نفسه هي التي تلجئه إلى التوقف في سيره
قوله ولا تنزل على رسم أي لا تنزل هذه المكاشفة على من بقي فيه رسم حجاب بينه وبين هذه المكاشفة فإنها بمنزلة نور الشمس فلا تنزل في بيت عليه سقف حائل فإن الرسم عند القوم هو الحجاب بينهم وبين مطلوبهم والرسم هو النفس وأحكامها وصفاتها وهذه المكاشفة إذا قويت واستحكمت صارت مشاهدة ولذلك قال وغاية هذه المكاشفة هو مقام المشاهدة

فصل قال صاحب المنازل
باب المشاهدة
قال الله تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
قلت جعل الله سبحانه كلامه ذكرى لا ينتفع بها إلا من جمع هذه الأمور الثلاثة
أحدها أن يكون له قلب حي واع فإذا فقد هذا القلب لم ينتفع بالذكرى
الثاني أن يصغي بسمعه فيميله كله نحو المخاطب فإن لم يفعل لم ينتفع بكلامه
الثالث أن يحضر قلبه وذهنه عند المكلم له وهو الشهيد أي الحاضر غيرالغائب فإن غاب قلبه وسافر في موضع آخر لم ينتفع بالخطاب
وهذا كما أن المبصر لا يدرك حقيقةالمرئي إلا إذا كانت له قوة مبصرة وحدق بها نحو المرئي ولم يكن قلبه مشغولا بغير ذلك فإن فقد القوة المبصرة أو لم يحدق نحو المرئي أو حدق نحوه ولكن قلبه كله في موضع آخر لم يدركه فكثيرا ما يمر بك إنسان أو غيره وقلبك مشغول بغيره فلا تشعر بمروره فهذا الشأن يستدعي صحة القلب وحضوره وكمال الإصغاء

فصل قال الشيخ المشاهدة سقوط الحجاب بتا أي قطعا بحيث لا يبقى منه
شيء والمشاهدة هي المسقطة للحجاب وهي التي تكون عند سقوط الحجاب وليست هي نفس سقوط الحجاب لكن عبر عن الشيء بلازمه فإن سقوط الحجاب يلازم حصول المشاهدة
قوله وهي فوق المكاشفة هذا يدلك على أن مراد الشيخ ومن وافقه من اهل الاستقامة بالمكاشفة والمشاهدة قوة اليقين ومزيد العلم وارتفاع

الحجب المانعة من ذلك لا نفس معاينة الحقيقة فإن المكاشفة لو كانت هي معاينة الحقيقة لما كان فوقها مرتبة أخرى وإنما كانت المشاهدة عنده فوق المكاشفة لما ذكره من قوله لأن المكاشفة ولاية النعت وفيه شيء من بقايا الرسم والمشاهدة ولاية العين والذات
يريد أن المكاشفة تتعلق بالصفات الإلهية فولايتها ولاية النعوت والأوصاف أي سلطانها وما يتعلق به هو النعوت والصفات وسلطان المشاهدة وما يتعلق به هو نفس الذات الجامعة للنعوت والصفات فلذلك كانت فوقها وأكمل منها
والفرق بين ولاية النعت وولاية العين والذات أن النعت صفة ومن شاهد الصفة فلا بد أن يشاهد متعلقاتها فإن النظر في متعلقاتها يكسبه التعظيم للمتصف بها فإن من شاهد العلم القديم الأزلي متعلقا بسائر المعلومات التي لا تتناهى من واجب وممكن ومستحيل ومن شاهد الإرادة الموجبة لسائر الإرادات على تنوعها من الأفعال والأعيان والحركات والأوصاف التي لا تتناهى وشاهد القدرة التي هي كذلك وشاهد صفة الكلام الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر وأشجار العالم كلها أقلام يكتب بها كلام الرب جل جلاله لفنيت البحار ونفدت الأقلام وكلام الله عز و جل لا ينفد ولا يفنى
فمن شاهد الصفات كذلك وجال قلبه في عظمتها فهو مشغول بالصفات ومتفرق قلبه في متعلقاتها وتنوعها في أنفسها بخلاف من قصر نظره على نفس الذات وشاهد قدمها وبقاءها واستغرق قلبه في عظمة تلك الذات بقطع النظر عن صفاتها فهو مشاهد للعين والأول مشاهد للصفات فالأول في فرق

وهذا في جمع فمن استغرق قلبه في هذا المشهد استحق اسم المشاهد ووصف المشاهدة عند القوم إذا غاب عن إدراك رسمه وكل ما فيه من علم أو عمل أو حال هذا تقرير كلامه
وبعد فإن ولاية النعوت والصفات التي جعلها دون ولاية العين والذات ليس الأمر فيها كما زعم بل لا نسبة بينهما البتة فإن الله سبحانه وتعالى دعا عباده في كتبه الإلهية إلى الأول دون الثاني وبذلك نطقت كتبه ورسله فهذا القرآن من أوله إلى آخره إنما يدعو الناس إلى النظر في صفات الله وأفعاله وأسمائه دون الذات المجردة فإن الذات المجردة لا يلحظ معها وصف ولا يشهد فيها نعت ولا تدل على كمال ولا جلال ولا يحصل من شهودها إيمان فضلا عن أن يكون من أعلى مقامات العارفين
ويا سبحان الله أين يقع شهود صفات الكمال وتنوعها وكثرتها وما تدل عليه من عظمة الموصوف بها وجلاله وكماله وأنه ليس كمثله شيء في كماله لكثرة أوصافه ونعوته وأسمائه وامتناع أضدادها عليه وثبوتها له على أكمل الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه ما من شهود ذات قد غاب مشاهدها عن كل صفة ونعت واسم
فبين هذين المشهدين من التفاوت مالا يحصيه إلا الله وهذا هو مشهد من تأله وفني من الجهمية والمعطلة صرحوا بذلك وقالوا إن كمال هذا المشهد هو قصر النظر القلبي على عين الذات وتنزيهها عن الأعراض والأبعاض والأغراض والحدود والجهات
ومرادهم بالأعراض الصفات التي تقوم بالحي كالسمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام فلا سمع له ولا بصر ولا إرادة ولا حياة ولا علم ولا قدرة
ومرادهم بالأبعاض أنه لا وجه له ولا يدان ولم يخلق آدم بيده ولا يطوي سماواته بيده ولا يقبض الأرض باليد الأخرى ولا يمسك السموات على إصبع

ولا الأرضين على إصبع ولا الشجر على إصبع ونحو ذلك مما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله الصادق
ومرادهم بالأغراض أنه لا يفعل لحكمة ولا لعلة غائية ولا سبب لفعله ولا غاية مقصودة
ومرادهم بالحدود والجهات مسألة المباينة والعلو وأنه غير بائن عن خلقه ولا مستو على عرشه ولا ترفع إليه الأيدي ولا تصعد إليه الأعمال ولا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد بل ليس هناك إلا العدم المحض الذي هو لا شيء
فكمال الشهود عندهم أن يشهد العبد ذاتا مجردة عن كل اسم ووصف ونعت
وشيخ الإسلام عدو هذه الطائفة وهو بريء منهم براءة الرسل منهم ولكن بقيت عليه مثل هذه البقية وهي جعل مشهد العين والذات فوق مشهد الصفات على أنه لا سبيل للقوى البشرية إلى شهود الذات الإلهية البتة ولا يقع الشهود على تلك الحقيقة ولا جعل ذلك إليها وإنما إليها شهود الصفات والأفعال وأما حقيقة الذات والعين فغير معلومة للبشرية ولما سأل المشركون رسول الله عن حقيقة ربه سبحانه من أي شيء هو أنزل الله عز و جل قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ولذلك لما سأل فرعون موسى عن حقيقة ربه بقوله وما رب العالمين أجابه موسى بقوله رب السموات والأرض وما بينهما إذ لا وصول للبشر إلى حقيقة ذاته فدلهم على نفسه بصفاته الثبوتية من كونه صمدا وصفاته السلبية المتضمنة للثبوت من كونه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة الذات والكنه
فما هذا الشهود العين الذاتي الذي جعلتموه للمشاهد وجعلتموه فوق

المكاشفة وجعلتم ولاية المكاشفة النعت وولاية المشاهدة العين
فاعلم أن مراد الشيخ وأمثاله من العارفين أهل الاستقامة أن لا يقصر نظر القلب على صفة من الصفات بحيث يستغرق فيها وحدها بل يكون التفاته وشهوده واقعا على الذات الموصوفة بصفات الكمال المنعوتة بنعوت الجلال فحينئذ يكون شهوده واقعا على الذات والصفات جميعا
ولا ريب أن هذا فوق مشهد الصفة الواحدة أو الصفات
ولكن يقال الشهود لا يقع علىالصفة المجردة ولا يصح تجردها في الخارج ولا في الذهن بل متى شهد الصفة شهد قيامها بالموصوف ولا بد فما هذا الشهود الذاتي الذي هو فوق الشهود الوصفي
والأمر يرجع إلى شيء واحد وهو أن من كان بصفات الله أعرف ولها أثبت ومعارض الإثبات منتف عنده كان أكمل شهودا ولهذا كان أكمل الخلق شهودا من قال لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ولكمال معرفته بالأسماء والصفات استدل بما عرفه منها على أن الأمر فوق ما أحصاه وعلمه
فمشهد الصفات مشهد الرسل والأنبياء وورثتهم وكل من كان بها أعرف كان بالله أعلم وكان مشهده بحسب ما عرف منها وليس للعبد في الحقيقة مشاهدة ولا مكاشفة لا للذات ولا للصفات أعني مشاهدة عيان وكشف عيان وإنما هو مزيد إيمان وإيقان
ويجب التنبه والتنبيه ههنا على أمر وهو أن المشاهدة نتائح العقائد فمن كان معتقده ثابتا في أمر من الأمور فإنه إذا صفت نفسه وارتاضت وفارقت الشهوات والرذائل وصارت روحانية تجلت لها صورة معتقدها كما اعتقدته وربما قوى ذلك التجلي حتى يصير كالعيان وليس به فيقع الغلط من وجهين
أحدهما ظن أن ذلك ثابت في الخارج وإنما هو في الذهن ولكن لما

صفا الارتياض وانجلت عنه ظلمات الطبع وغاب بمشهوده عن شهوده واستولت عليه أحكام القلب بل أحكام الروح ظن أنه الذي ظهر له في الخارج ولا تأخذه في ذلك لومة لائم ولو جاءته كل آية في السموات والأرض وذلك عنده بمنزلة من عاين الهلال ببصره جهرة فلو قال له أهل السموات والأرض لم تره لم يلتفت إليهم
ولعمر الله إنا لا نكذبه فيما أخبر به عن رؤيته ولكن إنما نوقن أنه إنما رأى صورة معتقده في ذاته ونفسه لا الحقيقة في الخارج فهذا أحد الغلطين
وسببه قوة ارتباط حاسة البصر بالقلب فالعين مرآة القلب شديدة الاتصال به وتنضم إلى ذلك قوة الاعتقاد وضعف التمييز وغلبة حكم الهوى والحال على العلم وسماعه من القوم أن العلم حجاب
والغلط الثاني ظن أن الأمر كما اعتقده وأن ما في الخارج مطابق لاعتقاده فيتولد من هذين الغلطين مثل هذا الكشف والشهود
ولقد أخبر صادق الملاحدة القائلين بوحدة الوجود أنهم كشف لهم أن الأمر كما قالوه وشهدوه في الخارج كذلك عيانا وهذا الكشف والشهود ثمرة اعتقادهم ونتيجته فهذه إشارة ما إلى الفرقان في هذا الموضع والله أعلم

فصل قال وهي على ثلاث درجات الدرجة الأول مشاهدة معرفة تجري فوق
حدود العلم في لوائح نور الوجود منيخة بفناء الجمع

هذا بناء على أصول القوم وأن المعرفة فوق العلم فإن العلم عندهم هو إدراك المعلوم ولو ببعض صفاته ولوازمه والمعرفة عندهم إحاطة بعين الشيء على ما هو به كما حدها الشيخ ولا ريب أنها بهذا الاعتبار فوق العلم لكن على هذا الحد لا يتصور أن يعرف الله أحد من خلقه البتة وسيأتي الكلام على هذا الحد في موضعه إن شاء الله تعالى وليست المعرفة عند القوم مشروطة بما ذكروا وسنذكر كلامهم إن شاء الله
وقد ذكر بعضهم أن أعمال الأبرار بالعلم وأعمال المقربين بالمعرفة
وهذا كلام يصح من وجه ويبطل من وجه فالأبرار والمقربون عاملون بالعلم واقفون مع أحكامه وإن كانت معرفة المقربين أكمل من معرفة الأبرار فكلاهما أهل علم ومعرفة فلا يسلب الأبرار المعرفة ولا يستغني المقربون عن العلم وقد قال النبي لمعاذ بن جبل إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله فإذا هم عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فجعلهم عارفين بالله قبل إتيانهم بفرض الصلاة والزكاة بل جعلهم في أول أوقات دخولهم في الإسلام عارفين بالله ولا ريب أن هذه المعرفة ليست كمعرفة المهاجرين والأنصار فالناس متفاوتون في درجات المعرفة تفاوتا بعيدا
قوله في لوائح نور الوجود يعني أن شواهد المعرفة بوارق تلوح من نور الوجود والوجود عند الشيخ ثلاث مراتب وجود علم ووجود عين ووجود مقام كما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى
وهذه اللوائح التي أشار إليها تلوح في المراتب الثلاثة وقد ذكروا عن الجنيد أنه قال علم التوحيد مباين لوجوده ووجوده مباين لعلمه
ومعنى ذلك أن العبد قد يصح له العلم بانفراد الحق في ذاته وصفاته وأفعاله علما جازما لا يشك ولا يرتاب فيه ولكن إذا اختلفت عليه الأسباب

وتقاذفت به أمواجها لم يثبت قلبه في أوائل الصدمات ولم يبادر إذ ذاك إلى رؤية الأسباب كلها من الأول الذي دلت على وحدانيته وأوليته البراهين القطعية والمشاهدة الإيمانية فهذا عالم بالتوحيد غير واجد لمقامه ولا متصف بحال أكسبه إياها التوحيد فإذا وجد قلبه وقت اختلاف الأحوال وتباين الأسباب واثقا بربه مقبلا عليه مستغرقا في شهود وحدانيته في ربوبيته وإلهيته فإنه وحده هو المنفرد بتدبير عباده فقد وجد مقام التوحيد وحاله
وأهل هذا المقام متفاوتون في شهوده تفاوتا عظيما من مدرك لما هو فيه متنعم متلذذ في وقت دون وقت ومن غالب عليه هذه الحال ومن مستغرق غائب عن حظه ولذته بما هو فيه من وجوده فنور الوجود قد غشي مشاهدته لحاله ولم يصل إلى مقام الجمع بل قد أناخ بفنائه والوجود عنده هو حضرة الجمع ويسمى حضرة الوجود
قوله منيخة بفناء الجمع يعني قد شارفت مشاهدته لحاله منزل الجمع وأناخت به وتهيأ لدخوله وهذه استعارة فكأنه مثل المشاهد بالمسافر ومثل مشاهدته بناقته التي يسافر عليها فإنها الحاملة له وشبه حضرة الجمع بالمنزل والدار وقد أناخ المسافر بفنائها وهذا إشارة منه إلى إشرافه عليها وأن نور الوجود لا يلوح إلا منها

فصل قال الدرجة الثانية مشاهدة معاينة تقطع حبال الشواهد وتلبس
نعوت القدس وتخرس ألسنة الإشارات
إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها لأن تلك الدرجة مشاهدة برق عن العلم النظري بالتوحيد وتمكنت في وجود التوحيد حتى صار صاحبها يرى الأسباب كلها عن واحد متقدم عليها لا أول لوجوده حالا وذوقا وأناخ بفناء الجمع ليتبوأه منزلا لتوحيده ولكنه بعد لم يكمل استغراقه عن شهود رسمها

بالكلية فشواهد الرسوم بعد معه وصاحب هذه الدرجة قد انقطعت عنه حبال الشواهد وتمكن في مقام المشاهدة وتطهر من نعوت النفس ولبس نعوت القدس فتطهر من الالتفات إلى غير مشهوده فخرس لذلك لسانه عن الإشارة إلى ما هو فيه فهذه المشاهدة عنده فوق مشاهدة المعرفة لأن تلك من لوائح نور الوجود وهذه مشاهدة الوجود نفسه لا بوارق نوره فهي أعلى لأنها مشاهدة عيان والعيان والمعاينة أن تقع العين في العين
وقد عرفت أن هذا مستحيل في الدنيا ومن جوزه فقد أخطأ أقبح الخطأ وتعدى مقام الرسل وإنما غاية ما يصل إليه العارف مزيد إيمان ويقين بحيث يعبد الله كأنه يراه لقوة يقينه وإيمانه بوجوده وأسمائه وصفاته وأن الأنوار واللوامع والبوارق إنما هي أنوار الإيمان والطاعات من الذكر وقراءة القرآن ونحوها أوهي أنوار استغراقه في مطالعة الأسماء والصفات وإثباتها والإيمان بها بحيث يبقى كالمعاين لها فيشرق على قلبه نور المعرفة فيظنه نور الذات والصفات
وتقدم بيان السبب الموقع لهم في ذلك وأنهم لا يمكن رجوعهم في ذلك إلى المحجوبين الذين غلظ في هذا الباب حجابهم وكثفت عن إدراكه أرواحهم وقصرت عنه علومهم ومعارفهم ولم يكادوا يظفرون بذائق صحيح الذوق يفصل لهم أحكام أذواقهم ومشاهدتهم وينزلها منازلها ويبين أسبابها وعللها فوجود هذا أعز شيء والقوم لهم طلب شديد وهمم عالية ومطلبهم وهممهم عندهم فوق مطالب الناس وهممهم فتشهد أرواحهم مقامات المنكر عليهم وسفولها

واستغراقه في حظوظه وأحكام نفسه وطبيعته فلا تسمح نفوسهم بقبول قوله والرجوع إليه فلو وجدوا عارفا ذا قرآن وإيمان ينادي القرآن والإيمان على معرفته وتدل معرفته على مقتضى الإيمان والقرآن محكما للوحي على الذوق مستخرجا أحكام الذوق من الوحي ليس فظا ولا غليظا ولا مدعيا ولا محجوبا بالوسائل عن الغايات إشارته دون مقامه ومقامه فوق إشارته إن أشارة أشار بالله مستشهدا بشواهد الله وإن سكت سكت بالله عاكفا بسره وقلبه على الله فلو وجدوا مثل هذا لكان الصادقون أسرع إليه من النار في يابس الحطب والوقود والله المستعان
قوله وقطع حبال الشواهد شبه الشواهد بالحبال التي تجذب العبد إلى مطلوبه وهذا إنما يكون مع الغيبة عنه فإذا صار الأمر إلى العيان انقطعت حينئذ حبال الشواهد بحكم المعاينة
قوله وتلبس نعوت القدس القدس هو النزاهة والطهارة ونعوت القدس هي صفاته فيلبسه الحق سبحانه من تلك النعوت ما يليق به واستعار لذلك لفظة اللبس فإن تلك الصفات خلع وخلع الحق سبحانه وتعالى يلبسها من يشاء من عباده
وهذا موضع يتوارد عيه الموحدون والملحدون فالموحد يعتقد أن الذي ألبسه الله إياه هو صفات جمل اليه بها ظاهره وباطنه وهي صفات مخلوقه ألبست عبدا مخلوقا فكسى عبده حلة من حلل فضله وعطائه

والملحد يقول كساه نفس صفاته وخلع عليه خلعة من صفات ذاته حتى صار شبيها به بل هو هو ويقولون الوصول هو التشبه بالإله على قدر الطاقة وبعضهم يلطف هذا المعنى ويقول بل يتخلق بأخلاق الرب ورووا في ذلك أثرا باطلا تخلقوا بأخلاق الله
وليس ههنا غير التعبد بالصفات الجميلة والأخلاق الفاضلة التي يحبها الله ويخلقها لمن يشاء من عباده فالعبد مخلوق وخلعته مخلوقة وصفاته مخلوقة والله سبحانه وتعالى بائن بذاته وصفاته عن خلقه لا يمازجهم ولا يمازجونه ولا يحل فيهم ولا يحلون فيه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا

فصل قال الدرجة الثالثة مشاهدة جمع تجذب إلى عين الجمع مالكة لصحة
الورود راكبة بحر الوجود
صاحب هذه الدرجة أثبت عند الشيخ في مقام المشاهدة وأمكن في مقام الجمع الذي هو حضرة الوجود وأملك لحمل ما يرد عليه في مقامه من أنواع الكشوفات والمعارف ولذلك كانت مشاهدته مالكة لصحة الورود أي تشهد لنفسها بصحة ورودها إلى حضرة الجمع وتشهد الأشياء كلها لها بالصدق ويشهد المشهود أيضا لها بذلك فلا يبقى عندها احتمال شك ولا ريب
وهذا أيضا مورد للملحد والموحد
فالملحد يقول مشاهدة الجمع هي مشاهدة الوجود الواحد الجامع لجميع المعاني والصور والقوى والأفعال والأسماء وحضرة الجمع عنده هي حضرة هذا الوجود ومشاهدة هذا الجمع تجذب إلى عينه
قال وصفة هذا الجذب أن يحل الحق تعالى عقد خليقته بيد حقيقته فيرجع النور الفائض على صورة خليقته إلى أصله ويرجع العبد إلى عدميته فيبقى الوجود للحق والفناء للخلق ويقيم الحق تعالى وصفا من أوصافه نائبا

عنه في استجلاء ذاته فيكون الحق هو المشاهد ذاته بذاته في طور من أطوار ظهوره وهي مرتبة عبده فإذا ثبت الحق تعالى عبده بعد نفيه ومحوه وأبقاه بعد فنائه فعاد كما يعود السكران إلى صحوه وجد في ذاته أسرار ربه وطور صفاته وحقائق ذاته ومعالم وجوده ومطارح أشعة نوره ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته وعوده إليه فيرى العبد ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود المنزه الأصل الموهم الفرع فيؤدي استصحاب النظر إلى أصله أن الفرع لم يفارقه هو إلا بشكله والشكل على اختلاف ضروبه فمعنى عدمي لتعين إمكانه في وجوبه
فانظر ما في هذا الكلام من الإلحاد والكفر الصراح وجعل عين المخلوق نفس عين الخالق وأن الرب سبحانه أقام نفس أوصافه نائبة عنه في استجلاء ذاته وأنه شاهد ذاته بذاته في مراتب الخلق وأن الإإنسان إذا صحا من سكره وجد في ذاته حقائق ذات الرب ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته فيرى ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود المنزه الأصل يعني عن الانقسام والتكثر الموهم الفرع يعني الذي يوهم فروعه وتكثر مظاهره واختلاف أشكاله أنه متعدد وإنما هو وجود واحد والأشكال على اختلاف ضروبها أمور عدمية لأنها ممكنة وإمكانها يفنى في وجبها فلم يبق إلا وجوب واجب الوجود وهو واحد وإن اختلفت الأشكال التي ظهر فيها والأسماء التي أشارت إليه
فالاتحادي يشاهد وجودا واحدا جامعا لجميع الصور والأنواع والأجناس فاض عليها كلها فظهر فيها بحسب قوابلها واستعداداتها
وذلك الشهود يجذبه إلى انحلال عزمه عن التقيد بمعبود معين أو عبادة معينة بل يبقى معبوده الوجود المطلق الساري في الموجودات بأي معنى ظهر

وفي أي ماهية تحقق فلا فرق عنده بين السجود للصنم والشمس والقمر والنجوم وغيرها كما قال شاعر القوم
وإن خر للأحجار في البيد عاكف ... فلا تعد بالإنكار بالعصبية
وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار مذ ألف حجة
فما عبدوا غيري وما كان قصدهم ... سواي وإن لم يظهروا عقد نية
وما عقد الزنار حكما سوى يدي ... وإن حل بالإقرار لي فهي بيعتي
وكما قال عارفهم واعلم أن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله فالعارف يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر قال الله وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
قال وما قضى الله شيئا إلا وقع وما عبد غير لله في كل معبود فهذا مشهد الملحد
والموحد يشاهد بإيمانه ويقينه ذاتا جامعة للأسماء الحسنى والصفات العلى لها كل صفة كمال وكل اسم حسن وذلك يجذبه إلى نفس اجتماع همه على الله وعلى القيام بفرائضه
والطريق بمجموعها لا تخرج عن هذين السببين وإن طولوا العبارات ودققوا الإشارات فالأمر كله دائر على جمع الهمة على الله واستفراغ الوسع بغاية النصيحة في التقرب إليه بالنوافل بعد تكميل الفرائض فلا تطول ولا يطول عليك
وشيخ الإسلام مراده بالجمع الجاذب إلى عين الجمع أمر آخر بين هذا وبين جمع أهل الوحدة وعين جمعهم لا هو هذا ولا هو هذا فهو دائر على الفناء لا تأخذه فيه لومة لائم وهو الجمع الذي يدندن حوله وعين الجمع عنده

هو تفرد الرب سبحانه بالأزلية وبالدوام وبالخلق والفعل فكان ولا شيء ويكون بعد كل شيء وهو المكون لكل شيء فلا وجود في الحقيقة لغيره ولا فعل لغيره بل وجود غيره كالخيال والظلال وفعل غيره في الحقيقة كحركات الأشجار والنبات وهذا تحقيق الفناء في شهود الربوبية والأزلية والأبدية وطي بساط شهود الأكوان فإذا ظهر هذا الحكم انمحق وجود العبد في وجود الحق وتدبيره في تدبير الحق فصار سبحانه هو المشهود بوجود العبد متلاش مضمحل كالخيال والظلال
ولا يستعد لهذا عندهم إلا من اجتمعت إرادته على المراد وحده حالا لا تكلفا وطبعا لا تطبعا فقد تنبعث الهمة إلى أمر وتتعلق به وصاحبها معرض عن غير مطلبه متحل به ولكن إرادة السوى كامنة فيه قد توارى حكمها واستتر ولما يزل فإن القله إذا اشتغل بشيء اشتغالا تاما توارت عنه إرادته لغيره والتفاته إلى ما سواه مع كونه كامنا في نفسه مادته حاضرة عنده فإذا وجد فجوة وأدنى تخل من شاغله ظهر حكم تلك الإرادات التي كان سلطان شهوده يحول بينه وبينها فإذا الجمع وعين الجمع ثلاث مراتب
أعلاها جمع لهم على الله إرادة ومحبة وإنابة وجمع القلب والروح والنفس والجوارح على استفراغ الوسع في التقرب إليه بما يحبه ويرضاه دون رسوم الناس وعوائدهم فهذا جمع خواص المقربين وساداتهم
والثاني الاستغراق في الفناء في شهود الربوبية وتفرد الرب سبحانه بالأزلية والدوام وأن الوجود الحقيقي له وحده وهذا الجمع دون الجمع الأول بمراتب كثيرة
والثالث جمع الملاحدة الاتحادية وعين جمعهم وهو جمع الشهود في وحدة الوجود فعليك بتمييز المراتب لتسلم من المعاطب وسيأتي ذكر مراتب الجمع

والتمييز بين صحيحها وفاسدها في آخر باب التوحيد من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى والله المستعان
قوله مالكة لصحة الورود أي ضامنة لصحة ورودها شاهدة بذلك مشهودا لها به لأنها فوق مشاهدة المعرفة وفوق مشاهدة المعاينة
قوله راكبة بحر الوجود يعني تلك المشاهدة راكبة بحر الوجود فهي في لجة بحره لا في أنواره ولا في بوارقه
وقد تقدم الكلام على مراده بالوجود وأنه وجود علم ووجود عين ووجود مقام وسيأتي تمام الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى

فصل قال شيخ الإسلام
باب المعاينة
قال الله تعالى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل
قلت المعاينة مفاعلة من العيان وأصلها من الرؤية بالعين يقال عاينه إذا وقعت عينه عليه كما يقال شافهه إذا كلمه شفاها وواجهه إذا قابله بوجهه وهذا مستحيل في هذه الدار أن يظفر به بشر
وأما قوله ألم تر إلى ربك كيف مد الظل فالرؤية واقعة على نفس مد الظل لا على الذي مده سبحانه كما قال تعالى ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وقوله تعالى ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل فههنا أوقع الرؤية على نفس الفعل وفي قوله ألم تر إلى ربك كيف مد الظل أوقعها في اللفظ عليه سبحانه والمراد فعله من مد الظل هذا كلام عربي بين معناه غير محتمل ولا مجمل كما قيل في العزى
كفرانك اليوم لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
وهو كثير في كلامهم يقولون رأيت الله قد فعل كذا وكذا والمراد

رأيت فعله فالعيان والرؤية واقع على المفعول لا على ذات الفاعل وصفته ولا فعله القائم به

فصل قال صاحب المنازل المعاينة ثلاث إحداها معاينة الأبصار الثانية
معاينة عين القلب وهي معرفة عين الشيء على نعته علما يقطع الريبة ولا تشوبه حيرة الثالثة معاينة عين الروح وهي التي تعاين الحق عيانا محضأ والأرواح إنما طهرت وأكرمت بالبقاء لتعاين سنا الحضرة وتشاهد بها العزة وتجذب القلوب إلى فناء الحضرة
جعل الشيخ المعاينة للعين والقلب والروح وجعل لكل معاينة منها حكما فمعاينة العين هي رؤية الشيء عيانا إما بانطباع صورة المرئي في القوة الباصرة عند أصحاب الانطباع وإما باتصال الشعاع المنبسط من العين المتصل بالمرئي عند أصحاب الشعاع وإما بالنسبة والإضافة الخاصة بين العين وبين المرئي عند كثير من المتكلمين والأقوال الثلاثة لا تخلو عن خطأ وصواب والحق شيء غيرها وأن الله سبحانه جعل في العين قوة باصرة كما جعل في الأذن قوة سامعة وفي الأنف قوة شامة وفي اللسان قوة ناطقة وقوة ذائقة فهذه قوى أودعها الله سبحانه في هذه الأعضاء وجعل بينها وبينها رابطة وجعل لها أسباب من خارج وموانع تمنع حكمها وكل ما ذكروه من انطباع ومقابلة وشعاع ونسبة وإضافة فهو سبب وشرط والمقتضى هو القوة القائمة بالمحل وليس الغرض ذكر هذه المسألة فالمقصود أمر آخر
وأما معاينة القلب فهي انكشاف صورة المعلوم له بحيث تكون نسبته إلى القلب كنسبة المرئي إلى العين وقد جعل الله سبحانه القلب يبصر ويعمى كما تبصر العين وكما تعمى قال تعالى فإنها لا تعمى الأبصار ولكن

تعمى القلوب التي في الصدور فالقلب يرى ويسمع ويعمى ويصم وعماه وصممه أبلغ من عمى البصر وصممه
وأما ما يثبته متأخرو القوم من هذا القسم الثالث وهو رؤية الروح وسمعها وإرادتها وأحكامها التي هي أخص من أحكام القلب فهؤلاء اعتقادهم أن الروح غير النفس والقلب
ولا ريب أن ههنا أمورا معلومة وهي البدن وروحه القائم به والقلب المشاهد فيه وفي سائر الحيوان والغريزة وهي القوة العاقلة التي محلها القلب ونسبتها إلى القلب كنسبة القوة الباصرة إلى العين والقوة السامعة إلى الأذن ولهذا تسمى تلك القوة قلبا كما تسمى القوة الباصرة بصرا قال تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ولم يرد شكل القلب فإنه لكل أحد وإنما أراد القوة والغريزة المودعة فيه
والروح هي الحاملة للبدن ولهذه القوى كلها فلا قوام للبدن ولا لقواه إلا بها ولها باعتبار إضافتها إلى كل محل حكم واسم يخصها هناك فإذا أضيفت إلى محل البصر سميت بصرا وكان لها حكم يخصها هناك وإذا أضيفت إلى محل السمع سميت سمعا وكان لها حكم يخصها هناك وإذا أضيفت إلى محل العقل وهو القلب سميت قلبا ولها حكم يخصها هناك هي في ذلك كله روح
فالقوة الباصرة والعاقلة والسامعة والناطقة روح باصرة وسامعة وعاقلة وناطقة فهي في الحقيقة هذا العاقل الفاهم المدرك المحب العارف المحرك للبدن الذي هو محل الخطاب والأمر والنهي هو شيء واحد له صفات متعددة بحسب متعلقاته فإنه يسمى نفسا مطمئنة ونفسا لوامة ونفسا أمارة وليس هو ثلاثة أنفس بالذات والحقيقة ولكن هو نفس واحدة لها صفات متعددة
وهم يشيرون بالنفس إلى الأخلاق والصفات المذمومة فيقولون فلان له نفس وفلان ليس له نفس ومعلوم أنه لو فارقته نفسه لمات ولكن يريدون تجرده عن صفات النفس المذمومة

والمحققون منهم يقولون إن النفس إذا تلطفت وفارقت الرذائل صارت روحا ومعلوم أنها لم تعدم ويخلق لها مكانها روح لم تكن ولكن عدمت منها الصفات المذمومة وصارت مكانها الصفات المحمودة فسميت روحا
وهذا اصطلاح مجرد وإلا فالله سبحانه وتعالى سماها نفسا في القرآن في جميع أحوالها أمارة ولوامة ومطمئنة قال تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها ويدخل في هذا جميع أنفس العباد حتى الأنبياء وسماها رسول الله روحا على الإطلاق مؤمنة كانت أو كافرة برة أو فاجرة كقوله إن الروح إذا قبض تبعه البصر وقوله إن الله قبض أرواحنا حيث شاء وردها حيث شاء وقوله في حديث قبض الروح وصفته إن كان مؤمنا كان كذا وكذا وإن كان كافرا كان كذا وكذا فسمى المقبوض روحا كما سماه الله في كتابه نفسا وهذا المقبوض والمتوفى شيء واحد لا ثلاثة ولا اثنان وأذا قبض تبعته القوى كلها العقل وما دونه لأنه كان حامل الجميع ومركبه
إذا عرفت هذا فالمعاينة نوعان معاينة بصر ومعاينة بصيرة فمعاينة البصر وقوعه على نفس المرئي أبو ومثاله الخارجي كرؤية مثال الصورة في المرآة والماء ومعاينة البصيرة وقوع القوة العاقلة على المثال العلمي المطابق للخارج فيكون إدراكه له بمنزلة إدراك العين للصورة الخارجية وقد يقوى سلطان هذا الإدراك الباطن بحيث يصير الحكم له ويقوى استحضار القوة العاقلة لمدركها بحيث يستغرق فيه فيغلب حكم القلب على حكم الحس والمشاهدة فيستولي على السمع والبصر بحيث يراه ويسمع خطابه في الخارج وهو في النفس والذهن لكن لغلبة الشهود وقوة الإستحضار وتمكن حكم القلب واستيلائه على القوى صار كأنه مرئي بالعين مسموع بالأذن بحيث لا يشك المدرك ولا يرتاب في ذلك البتة ولا يقبل عذلا

وحقيقة الأمر أن ذلك كله شواهد وأمثلة علمية تابعة للمعتقد فذلك الذي أدرك بعين القلب والروح إنما هو شاهد دال على الحقيقة وليس هو نفس الحقيقة فإن شاهد نور جلال الذات في قلب العبد ليس هو نفس نور الذات الذي لا تقوم له السموات والأرض فإنه لو ظهر لها لتدكدكت ولأصابها ما أصاب الجبل وكذلك شاهد نور العظمة في القلب إنما هو نور التعظيم والإجلال لا نور نفس المعظم ذي الجلال والإكرام
وليس مع القوم إلا الشواهد والأمثلة العلمية والرقائق التي هي ثمرة قرب القلب من الرب وأنسه به واستغراقه في محبته وذكره واستيلاء سلطان معرفته عليه والرب تبارك وتعالى وراء ذلك كله منزه مقدس عن اطلاع البشر على ذاته أو أنوار ذاته أو صفاته أو أنوار صفاته وإنما هي الشواهد التي تقوم بقلب العبد كما يقوم بقلبه شاهد من الآخرة والجنة والنار وما أعد الله لأهلهما
وهذا هو الذي وجده عبدالله بن حرام الأنصاري يوم أحد لما قال واها لريح الجنة إني أجد والله ريحها دون أحد ومن هذا قوله إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة قال حلق الذكر ومنه قوله ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنةفهو روضة لأهل العلم والإيمان لما يقوم بقلوبهم من شواهد الجنة حتى كأنها لهم رأي عين وإذا قعد المنافق هناك لم يكن ذلك المكان في حقه روضة من رياض الجنة ومن هذا قوله الجنة تحت ظلال السيوف / ح /

فالعمل إنما هو على الشواهد وعلى حسب شاهد العبد يكون عمله ونحن نشير بعون الله وتوفيقه إلى الشواهد إشارة يعلم بها حقيقة الأمر
فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها وقلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها وسرعة انقضائها ويرى أهلها وعشاقها صرعى حولها قد بدعت بهم وعذبتهم بأنواع العذاب وأذاقتهم أمر الشراب أضحكتهم قليلا وأبكتهم طويلا سقتهم كؤوس سمها بعد كؤوس خمرها فسكروا بحبها وماتوا بهجرها
فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحل قلبه عنها وسافر في طلب الدار الآخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الآخرة ودوامها وأنها هي الحيوان حقا فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها بل هي دار القرار ومحط الرحال ومنتهى السير وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قال النبي ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم ترجع وقال بعض التابعين ما الدنيا في الآخرة إلا أقل من ذرة واحدة في جبال الدنيا
ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها واضطرامها وبعد قعرها وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها فيشاهدهم وقد سيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون والسلاسل والأغلال في أعناقهم فلما انتهوا إليها فتحت في وجوههم أبوابها فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفا ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا فأراهم شاهد الإيمان وهم إليها يدفعون وأتى النداء من قبل رب العالمين وقفوهم

إنهم مسئولون ثم قيل لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أولا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون فيراهم شاهد الإيمان وهم في الحميم على وجوههم يسحبون وفي النار كالحطب يسجرون لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش فبئس اللحاف وبئس الفراش وإن استغاثوا من شدة العطش يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه فإذا شربوه قطع أمعاءهم في أجوافهم وصهر ما في بطونهم شرابهم الحميم وطعامهم الزقوم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير
فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات ولبس ثياب الخوف والحذر وأخصب قلبه من مطر أجفانه وهان عليه كل مصيبة تصيبه في غير دينه وقلبه
وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بعده من المعاصي والمخالفات فيذيب هذا الشاهد من قلبه الفضلات والمواد المهلكة وينضجها ثم يخرجها فيجد القلب لذة العافية وسرورها
فيقوم به بعد ذلك شاهد من الجنة وما أعد الله لأهلها فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فضلا عما وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصل الكفيل بأعلى أنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والصور والبهجة والسرور فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم الدائم بحذافيره فيها تربتها المسك وحصباؤها الدر وبناؤها لبن الذهب والفضة وقصب اللؤلؤ وشرابها أحلى من العسل وأطيب رائحة من المسك وأبرد من الكافور وألذ من الزنجبيل ونساؤها لو برز وجه إحداهن في هذه

الدنيا لغلب على ضوء الشمس ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور وفاكهتهم دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرش مرفوعة وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون وشرابهم عليه خمرة لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون فهم على الأرائك فتكئون وفي تلك الرياض يحبرون وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون
فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد والنظر إلى وجه الرب جل جلاله وسماع كلامه منه بلا واسطة كما قال النبي بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم وقال يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ قوله تعالى سلام قولا من رب رحيم ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم
فإذا انضم هذا الشاهد إلى الشواهد التي قبله فهناك يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابها فلا يلتفت في طريقه يمينا ولا شمالا
هذا وفوق ذلك شاهد آخر تضمحل فيه هذه الشواهد ويغيب به العبد عنها كلها وهو شاهد جلال الرب تعالى وجماله وكماله وعزه وسلطانه وقيوميته وعلوه فوق عرشه وتكلمه بكتبه وكلمات تكوينه وخطابه لملائكته وأنبيائه
فإذا شاهده شاهد بقلبه قيوما قاهرا فوق عباده مستويا على عرشه منفردا بتدبير مملكته آمرا ناهيا مرسلا رسله ومنزلا كتبه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويحب ويغضب ويرحم إذا استرحم ويغفر إذا استغفر ويعطي إذا سئل ويجيب إذا دعي ويقيل إذا استقيل أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وأعز من كل شيء وأقدر من كل شيء وأعلم من كل شيء وأحكم من كل شيء فلو كانت قوى الخلائق كلهم على

واحد منهم ثم كانوا كلهم على تلك القوة ثم نسبت تلك القوى إلى قوة البعوضة بالنسبة إلى قوة الأسد ولو قدر جمال الخلق كلهم على واحد منهم ثم كانوا كلهم بذلك الجمال ثم نسب إلى جمال الرب تعالى لكان دون سراج ضعيف بالنسبة إلى عين الشمس ولو كان علم الأولين والآخرين على رجل منهم ثم كان كل الخلق على تلك الصفة ثم نسب إلى علم الرب تعالى لكان ذلك بالنسبة إلى علم الرب كنقرة عصفور في بحر وهكذا سائر صفاته كسمعه وبصره وسائر نعوت كماله فإنه يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات فلا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين سواء عنده من أسر القول ومن جهر به فالسر عنده علانية والغيب عنده شهادةيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويرى نياط عروقها ومجاري القوت في أعضائها يضع السماوات على إصبع من أصابع يده والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع ويقبض سماواته بإحدى يديه والأرضين باليد الأخرى فالسماوات السبع في كفه كخردلة في كف العبد ولو أن الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم قاموا صفا واحدا ما أحاطوا بالله عز و جل لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره من خلقه
فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد اضمحلت فيه الشواهد المتقدمة من غير أن تعدم بل تصير الغلبة والقهر لهذا الشاهد وتندرج فيه الشواهد كلها ومن هذا شاهده فله سلوك وسير خاص ليس لغيره ممن هو عن هذا في غفلة أو معرفة مجملة
فصاحب هذا الشاهد سائر إلى الله في يقظته ومنامه وحركته وسكونه وفطره وصيامه له شأن وللناس شأن هو في واد والناس في واد

خليلى لا والله ما أنا منكما ... إذا علم من آل ليلى بدا ليا
والمقصود أن العيان والكشف والمشاهدة في هذه الدار إنما تقع عليى الشواهد والأمثلة العلمية وهو المثل الأعلى الذي ذكره سبحانه في ثلاثة مواضع من كتابه في سورة النحل وسورة الروم وسورة الشورى وهو ما يقوم بقلوب عابديه ومحبيه والمنيبين إليه من هذا الشاهد وهو الباعث لهم على العبادة والمحبة والخشية والإنابة وتفاوتهم فيه لا ينحصر طرفاه فكل منهم له مقام معلوم لا يتعداه وأعظم الناس حظا في ذلك معترف بأنه لا يحصى ثناء عليه سبحانه وأنه فوق ما يثنى عليه المثنون وفوق ما يحمده الحامدون كما قيل
وما بلغ المهدن نحوك مدحة ... وإن أطنبوا أن الذي فيك أعظم
لك الحمد كل الحمد لا مبدان له و ... ولا منتهى والله بالحمد أعلم
وطهارة القلب ونزاهته من الأوصاف المذمومة والإرادات السفلية وخلوه وتفريغه من التعلق بغير الله سبحانه هو كرسى هذا الشاهد الذي يجلس عليه ومقعده الذي يتمكن فيه فحرام على قلب متلوث بالخبائث والأخلاق الرديئة والصفات الذميمة متعلق بالمرادات السافلة أن يقوم به هذا الشاهد وأن يكون من أهله
نزه فؤادك عن سوانا وائتنا ... فجنابنا حل لكل منزه
والصبر طلسم لكنز لقاءنا ... من حل ذا الطلسم فاز بكنزه
إذا طلعت شمس التوحيد وباشرت جوانبها الأرواح ونورها البصائر تجلت بها ظلمات النفس والطبع وتحركت بها الأرواح في طلب من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فسافر القلب في بيداء الأمر ونزل منازل العبودية منزلا منزلا فهو ينتقل من عبادة إلى عبادة مقيم على معبود واحد فلا تزال شواهد الصفات قائمة بقلبه توقظه إذا رقد وتذكره إذا غفل إذا غفل وتحدو به إذا سار وتقيمه إذا قعد إن قام بقلبه شاهد من الربوبية والقيومية رأى أن الأمر كله لله

ليس لأحد معه من الأمر شيء ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون
وإن قام بقلبه شاهد من الإلهية رأى في ذلك الشاهد الامر والنهي والنبوات والكتب والشرائع والمحبة والرضى والكراهة والبغض والثواب والعقاب وشاهد الأمر نازلا ممن هو مستو على عرشه وأعمال العباد صاعدة إليه ومعروضة عليه يجزي بالإحسان منها في هذه الدار وفي العقبى نضرة وسرورا ويقدم إلى ما لم يكن عن أمره وشرعه منها فيجعله هباء منثورا
وإن قام بقلبه شاهد من الرحمة رأى الوجود كله قائما بهذه الصفة قد وسع من هي صفته كل شيء رحمة وعلما وانتهت رحمته إلى حيث انتهى علمه فاستوى على عرشه برحمته لتسع كل شيء كما وسع عرشه كل شيء
وإن قام بقلبه شاهد العزة والكبرياء والعظمة والجبروت فله شأن آخر

وهكذا جميع شواهد الصفات فما ذكرناه إنما هو أدنى تنبيه عليها فالكشف والعيان والمشاهدة لا تتجاوز الشواهد البتة فلنرجع إلى شرح كلامه
فقوله في الدرجة الثانية إنها معاينة عين القلب وهي معرفة الشيء على نعته لا يريد به معرفته على نعته الذي هو عليه في الخارج من كل وجه فان هذا ممتنع على معرفه ما في الآخرة من المخلوقات كما قال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء فكيف بمعرفة رب الأرض والسماء وإن غاية المعرفة أن تتعلق به على نعته على وجه مجمل أو مفصل تفصيلا من بعض الوجوه
قوله علما يقطع الريبة ولا يشوبه حيرة هذا حق فان المعرفة متى شابها ريبة أو حيرة لم تكن معرفة صحيحة كما أن رؤية العين لو شابها ذلك لم تكن رؤية تامة فالمعرفة ما قطع الشك والريبة والوسواس
قوله والمعاينة الثالثة عين الروح وهي التي تعاين الحق عيانا محضا
إن أراد بالحق ضد الباطل أي تعاين ما هو حق بحيث ينكشف لها كما ينكشف المرئي للبصر فصحيح وإن أراد بالحق الرب تبارك وتعالى فإن لم يحمل كلامه على قوة اليقين ومزيد الإيمان ونزول الروح في مقام الإحسان وإلا فهو باطل فإن الرب تبارك وتعالى لا يعاينه في هذه الدار بصر ولا روح بل المثال العلمي حظ الروح والقلب كما تقدم
قوله والأرواح إنما طهرت وأكرمت بالبقاء لتعاين سنا الحضرة وتشاهد بهاء العزة وتجذب القلوب إلى فناء الحضرة
يعني أن الأرواح خلقت للبقاء لا للفناء هذا هو الحق وما خالف فيه إلا شرذمة من الناس من أهل الإلحاد القائلين إن الأرواح تفنى بفناء الأبدان لكونها قوة من قواها وعرضا من أعراضها
وهؤلاء قسمان أحدهما منكر لمعاد الأبدان والثاني من يقر بمعاد الأبدان ويقول إن الله عز و جل يعيد قوى البدن وأعراضه ومنها الروح

فتفنى بفناء البدن فليس عند الطائفتين روح قائمة بنفسها تساكن البدن وتفارقه وتتصل به وتنفصل عنه
وأما الحق الذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم فهو أن هذه الأرواح باقية بعد مفارقة أبدانها لا تفنى ولا تعدم وأنها منعمة أو معذبة في البرزخ فإذا كان يوم المعاد ردت إلى أبدانها فتنعم معها أو تعذب ولا تعدم ولا تفنى
فقوله والأرواح إنما طهرت وأكرمت بالبقاء لتعاين سنا الحضرة يريد الأرواح الطاهرة الزكية وفي نسخة لتناغي سنا الحضرة والأول أظهر وألصق بالباب الذي ترجمه بباب المعاينة والمراد بالحضرة الحضرة الإلهية وبالسنا النور الذي يلمع قال الله تعالى يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ومعاينة ذلك إنما هو في الدار الآخرة والمعاين ههنا هو نور المعرفة والمثال العلمي
قوله ويشاهد بهاء العزة البهاء في اللغة الحسن قاله الجوهري يقال منه بهى الرجل بالكسر وبهو أيضا فهو بهي
والعزة يراد بها ثلاث معان عزة القوة وعزة الامتناع وعزة القهر والرب تبارك وتعالى له العزة التامة بالاعتبارات الثلاث ويقال من الأول عز يعز بفتح العين في المستقبل ومن الثاني عز يعز بكسرها ومن الثالث عز يعز بضمها أعطو أقوى الحركات لأقوى المعاني وأخفها لأخفها وأوسطها لأوسطها وهذه العزة مستلزمة للوحدانية إذ الشركة تنقص العزة ومستلزمة لصفات الكمال لأن الشركة تنافي كمال العزة ومستلزمة لنفي أضدادها ومستلزمة لنفي مماثلة غيره له في شيء منها
فالروح تعاين بقوة معرفتها وإيمانها بهاء العزة وجلالها وعظمتها وهذه المعاينة هي نتيجة العقيدة الصحيحة المطابقة للحق في نفس الأمر المتلقاة من مشكاة الوحي فلا يطمع فيها واقف مع أقيسة المتفلسفين وجدل المتكلمين وخيالات المتصوفين

قوله وتجذب القلوب إلى فناء الحضرة هو بكسر الفاء أي جانب الحضرة يعني أن الأرواح لقوة طلبها وشدة شوقها تسوق القلوب وتجذبها إلى هناك فإن طلب الروح وسيرها أقوى من طلب القلب وسيره كما كانت معاينتها أتم من معاينته
وبالجملة فأحكام الروح عندهم فوق أحكام القلب وأخص منها
والمقصود أن الروح متى عاينت الحق جذبت القوى كلها والقلب إلى حضرته فينقاد معها انقيادا بلا استعصاء بخلاف جذب القلب فإن الجوارح قد تستعصي عليه بعض الاستعصاء وتأبى شيئا من الإباء وأما جذب الروح فلا استعصاء معه ولا إباء وبالله التوفيق

فصل قال صاحب المنازل باب الحياة قال الله تعالى أو من
كان ميتا فأحييناه
استشهاده بهذه الآية في هذا الباب ظاهر جدا فإن المراد بها من كان ميت القلب بعدم روح العلم والهدى والإيمان فأحياه الرب تعالى بروح أخرى غير الروح التي أحيا بها بدنه وهي روح معرفته وتوحيده ومحبته وعبادته وحده لا شريك له إذ لا حياة للروح إلا بذلك وإلا فهي في جملة الأموات ولهذا وصف الله تعالى من عدم ذلك بالموت فقال أو من كان ميتا فأحييناه وقال تعالى إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء وسمى وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح فقال تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فأخبر أنه روح تحصل به الحياة وأنه نور تحصل به الإضاءة وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون وقال تعالى رفيع الدرجات

ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق فالوحي حياة الروح كما أن الروح حياة البدن ولهذا من فقد هذه الروح فقد فقد الحياة النافعة في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فحياته حياة البهائم وله المعيشة الضنك وأما في الآخرة فله جهنم لا يموت فيها ولا يحيا
وقد جعل الله الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته وعبادته فقال تعالى من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون وقد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضى والرزق الحسن وغير ذلك والصواب أنها حياة القلب ونعيمه وبهجته وسروره بالإيمان ومعرفة الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة كما كان بعض العارفين يقول إنه لتمر بي أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب وقال غيره إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا
وإذا كانت حياة القلب حياة طيبة تبعته حياة الجوارح فإنه ملكها ولهذا جعل الله المعيشة الضنك لمن أعرض عن ذكره وهي عكس الحياة الطيبة
وهذه الحياة الطيبة تكون في الدور الثلاث أعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار والمعيشة الضنك أيضا تكون في الدور الثلاث فالأبرار في النعيم هنا وهنالك والفجار في الجحيم هنا وهنالك قال الله تعالى للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير وقال تعالى وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله فذكر الله سبحانه وتعالى ومحبته وطاعته والإقبال عليه ضامن لأطيب الحياة في الدنيا والآخرة والإعراض عنه والغفلة ومعصيته كفيل بالحياة المنغصة والمعيشة الضنك في الدنيا والآخرة

فصل قال صاحب المنازل الحياة في هذا الباب يشار بها إلى ثلاثة
اشياء الحياة الأولى حياة العلم من موت الجهل ولها ثلاثة أنفاس نفس الخوف ونفس الرجاء ونفس المحبة
قوله الحياة في هذا الباب يريد الحياة الخاصة التي يتكلم عليها القوم دون الحياة العامة المشتركة بين الحيوان كله بل بين الحيوان والنبات وللحياة مراتب ونحن نشير إليها
المرتبة الأولى حياة الأرض بالنبات قال تعالى ولله أنزل من السماء ماء فأحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وقال في الماء وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج وقال وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا وجعل هذه الحياة دليلا على الحياة يوم المعاد وهذه حياة حقيقة في هذه المرتبة مستعملة في في كل لغة جارية على ألسن الخاصة والعامة قال الشاعر يمدح عبد المطلب
بشيبة الحمد أحيا الله بلدتنا ... لما فقدنا الحيا وأجلوز المطر
وهذا أكثر من أن نذكر شواهده
المرتبة الثانية حياة النمو والاغتذاء وهذه الحياة مشتركة بين النبات والحيوان الذي يعيش بالغذاء قال الله تعالى وجعلنا من الماء كل شيء حي
وقد اختلف الفقهاء في الشعور هل تحلها الحياة على قولين والصواب أنها تحلها حياة النمو والغذاء دون الحسن والحركة ولهذا لا تنجس بالموت إذ لو أوجب لها فراق النمو والاغتذاء النجاسة لنجس الزرع والشجر لمفارقته هذه الحياة له ولهذا كان الجمهور على أن الشعور لا تنجس بالموت

المرتبة الثالثة حياة الحيوان المغتذي بقدر زائد على نموه واغتذائه وهي إحساسه وحركته ولهذا يألم بورود الكيفيات المؤلمة عليه وبتفرق الاتصال ونحو ذلك وهذه الحياة فوق حياة النبات وهذه الحياة تقوى وتضعف في الحيوان الواحد بحسب أحواله فحياته بعد الولادة أكمل منها وهو جنين في بطن أمه وحياته وهو صحيح معافى أكمل منها وهو سقيم عليل
فنفس هذه الحياة تتفاوت تفاوتا عظيما في محالها فحياة الحية أكمل من حياة البعوضة ومن قال غير هذا فقد كابر الحس والعقل
المرتبة الرابعة حياة الحيوان الذي لا يغتذي بالطعام والشراب كحياة الملائكة وحياة الأرواح بعد مفارقتها لأبدانها فإن حياتها أكمل من حياة الحيوان المغتذي ولهذا لا يلحقها كلال ولا فتور ولا نوم ولا إعياء قال تعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون وكذلك الأرواح إذا تخلصت من هذه الأبدان وتجردت صار لها حياة أخرى أكمل من هذه إن كانت سعيدة وإن كانت شقية كانت عمله ناصبة في العذاب
المرتبة الخامسة الحياة التي أشار إليها المصنف وهي حياة العلم من موت الجهل فإن الجهل موت لأصحابه كما قيل
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... فليس لهم حتى النشور نشور

فإن الجاهل ميت القلب والروح وإن كان حي البدن فجسده قبر يمشي به على وجه الأرض قال الله تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقال تعالى إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين وقال تعالى إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء وقال تعالى إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور وشبههم في موت قلوبهم بأهل القبور فإنهم قد ماتت أرواحهم وصارت أجسامهم قبورا لها فكما أنه لا يسمع أصحاب القبور كذلك لا يسمع هؤلاء وإذا كانت الحياة هي الحس والحركة وملزومهما فهذه القلوب لما لم تحس بالعلم والإيمان ولم تتحرك له كانت ميتة حقيقة وليس هذا تشبيها لموتها بموت البدن بل ذلك موت القلب والروح
وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد من كلام لقمان أنه قال لابنه يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل القطر وقال معاذ بن جبل تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم ويقتدي بأفعالهم وينتهى إلى رأيهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة التفكر فيه يعدل الصيام

ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام وهو إمام العمل والعمل تابع له يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء رواه الطبراني وابن عبد البر وغيرهما وقد روي مرفوعا إلى النبي والوقف أصح
والمقصود قوله لأن العلم حياة القلوب من الجهل فالقلب ميت وحياته بالعلم والإيمان

فصل المرتبة السادسة حياة الإرادة والهمة وضعف الإرادة والطلب من
ضعف حياة القلب وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى وإرادته ومحبته أقوى فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين طلبه وإرادته فضعف الطلب وفتور الهمة إما من نقصان الشعور والإحساس وإما من وجود الآفة المضعفة للحياة فقوة الشعور وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة وضعفهما دليل على ضعفها وكما أن علو الهمة وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة والإرادة الخالصة فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة وأخس الناس حياة أخسهم همة وأضعفهم محبة وطلبا وحياة البهائم خير من حياته كما قيل
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
وتكدح فيما سوف تنكر غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى ... كما غر باللذات في النوم حالم
والمقصود أن حياة القلب بالعلم والإرادة والهمة والناس إذا شاهدوا ذلك من الرجل قالوا هو حي القلب وحياة القلب بدوام الذكر وترك الذنوب كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله

رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس ولم يربحوا ... ولم يغل في البيع أثمانها
فقد رتع القوم في جيفة ... يبين لذي اللب خسرانها
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول من واظب على يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر أربعين مرة أحيى الله بها قلبه
وكما أن الله سبحانه جعل حياة البدن بالطعام والشراب فحياة القلب بدوام الذكر والإنابة إلى الله وترك الذنوب والغفلة الجاثمة على القلب والتعلق بالرذائل والشهوات المنقطعة عن قريب يضعف هذه الحياة ولا يزال الضعف يتوالى عليه حتى يموت وعلامة موته أنه لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا كما قال عبد الله بن مسعود أتدرون من ميت القلب الذي قيل فيه
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
قالوا ومن هو قال الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا
والرجل هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه إذ أكثر هؤلاء الخلق يخافون موت أبدانهم ولا يبالون بموت قلوبهم ولا يعرفون من الحياة إلا الحياة الطبيعية وذلك من موت القلب والروح فإن هذه الحياة الطبيعية شبيهة بالظل الزائل والنبات السريع الجفاف والمنام الذي يخيل كأنه حقيقة فإذا استيقظ عرف أنه كان خيالا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أن الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل واحد ثم جاءه الموت لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء وقد قيل إن الموت موتان موت إرادي وموت طبيعي فمن أمات نفسه موتا إراديا

كان موته الطبيعي حياة له ومعنى هذا أن الموت الإرادي هو قمع الشهوات المردية وإخماد نيرانها المحرقة وتسكين هوائجها المتلفة فحينئذ يتفرغ القلب والروح للتفكر فيما فيه كمال العبد ومعرفته والاشتغال به ويرى حينئذ أن إيثار الظل الزائل عن قريب على العيش اللذيذ الدائم أخسر الخسران فأما إذا كانت الشهوات وافدة واللذات مؤثرة والعوائد غالبة والطبيعة حاكمة فالقلب حينئذ إما أن يكون أسيرا ذليلا أو مهزوما مخرجا عن وطنه ومستقره الذي لا قرار له إلا فيه أو قتيلا ميتا وما لجرح به إيلام وأحسن أحواله أن يكون في حرب يدال له فيها مرة ويدال عليه مرة فإذا مات العبد موته الطبيعي كانت بعده حياة روحه بتلك العلوم النافعة والأعمال الصالحة والأحوال الفاضلة التي حصلت له بإماتة نفسه فتكون حياته ههنا على حسب موته الإرادي في هذه الدار
وهذا موضع لا يفهمه إلا ألباء الناس وعقلاؤهم ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العلية والنفوس الزكية الأبية

فصل المرتبة السابعة من مراتب الحياة حياة الأخلاق والصفات
المحمودة التي هي حياة راسخة للموصوف بها فهو لا يتكلف الترقي في درجات الكمال ولا يشق عليه لاقتضاء أخلاقه وصفاته لذلك بحيث لو فارقه ذلك لفارق ما هو من طبيعته وسجيته فحياة من قد طبع على الحياء والعفة والجود والسخاء والمروءة والصدق والوفاء ونحوها أتم من حياة من يقهر نفسه ويغالب طبعه حتى يكون كذلك فإن هذا بمنزلة من تعارضه أسباب الداء وهو يعالجها ويقهرها بأضدادها وذلك بمنزلة من قد عوفي من ذلك

وكلما كانت هذه الأخلاق في صاحبها أكمل كانت حياته أقوى وأتم ولهذا كان خلق الحياء مشتقا من الحياة اسما وحقيقة فأكمل الناس حياة أكملهم حياء ونقصان حياء المرء من نقصان حياته فإن الروح إذا ماتت لم تحس بما يؤلمها من القبائح فلا تستحي منها فإذا كانت صحيحة الحياة أحست بذلك فاستحيت منه وكذلك سائر الأخلاق الفاضلة والصفات الممدوحة تابعة لقوة الحياة وضدها من نقصان الحياة ولهذا كانت حياة الشجاع أكمل من حياة الجبان وحياة السخي أكمل من حياة البخيل وحياة الفطن الذكي أكمل من حياة الفدم البليد ولهذا لما كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أكمل الناس حياة حتى إن قوة حياتهم تمنع الأرض أن تبلى أجسامهم كانوا أكمل الناس في هذه الأخلاق ثم الأمثل فالأمثل من أتباعهم
فانظر الآن إلى حياة حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم وحياة جواد شجاع بر عادل عفيف محسن تجد الأول ميتا بالنسبة إلى الثاني ولله در القائل
وما للمرء خير في حياة ... إذ ما عد من سقط المتاع

فصل المرتبة الثامنة من مراتب الحياة حياة الفرح والسرور وقرة
العين بالله وهذه الحياة إنما تكون بعد الظفر بالمطلوب الذي تقر به عين طالبه فلا حياة نافعة له بدونه وحول هذه الحياة يدندن الناس كلهم وكلهم قد أخطأ طريقها وسلك طرقا لا تفضي إليها بل تقطعه عنها إلا أقل القليل
فدار طلب الكل حول هذه الحياة وحرمها أكثرهم
وسبب حرمانهم إياها ضعف العقل والتمييز والبصيرة وضعف الهمة والإرادة فإن مادتها بصيرة وقادة وهمة نقادة والبصيرة كالبصر تكون عمى وعورا وعمشا

ورمدا وتامة النور والضياء وهذه الآفات قد تكون لها بالخلقة في الأصل وقد تحدث فيها بالعوارض الكسبية
والمقصود أن هذه المرتبة من مراتب الحياة هي أعلى مراتبها ولكن كيف يصل إليها من عقله مسبي في بلاد الشهوات وأمله موقوف على اجتناء اللذات وسيرته جارية على أسوأ العادات ودينه مستهلك بالمعاصي والمخالفات وهمته واقفة مع السفليات وعقيدته غير متلقاة من مشكاة النبوات
فهو في الشهوات منغمس وفي الشبهات منتكس وعن الناصح معرض وعلى المرشد معترض وعن السراء نائم وقلبه في كل واد هائم فلو أنه تجرد من نفسه ورغب عن مشاركة أبناء جنسه وخرج من ضيق الجهل إلى فضاء العلم ومن سجن الهوى إلى ساحة الهدى ومن نجاسة النفس إلى طهارة القدس لرأى الإلف الذي نشأ بنشأته وزاد بزيادته وقوى بقوته وشرف عند نفسه وأبناء جنسه بحصوله وسد قذى في عين بصيرته وشجا في حلق إيمانه ومرضا متراميا إلى هلاكه
فإن قلت قد أشرت إلى حياة غير معهودة بين أموات الأحياء فهل يمكنك وصف طريقها لأصل إلى شيء من أذواقها فقد بان لي أن ما نحن فيه من الحياة حياة بهيمية ربما زادت علينا فيها البهائم بخلوها عن المنكرات والمنغصات وسلامة العاقبة
قلت لعمر الله إن اشتياقك إلى هذه الحياة وطلب علمها ومعرفتها لدليل على حياتك وأنك لست من جملة الأموات
فأول طريقها أن تعرف الله وتهتدي إليه طريقا يوصلك إليه ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة فينجذب

إليها بكليته ويزهد في التعلقات الفانية ويدأب في تصحيح التوبة والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة وترك المنهيات الظاهرة والباطنة ثم يقوم حارسا على قلبه فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله ولا بخطرة فضول لا تنفعه فيصفو بذلك قلبه عن حديث النفس ووسواسها فيفدى من أسرها ويصير طليقا فحينئذ يخلو قلبه بذكر ربه ومحبته والإنابة إليه ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه إلى فضاء الخلوة بربه وذكره كما قيل
وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس في السر خاليا
فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه
فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول واستولت روحانيته على قلبه فجعله إمامه ومعلمه وأستاذه وشيخه وقدوته كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديا إليه فيطالع سيرته ومبادئ أمره وكيفية نزول الوحي عليه ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه في حركاته وسكونه ويقظته ومنامه وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه
فإذا رسخ قلبه في ذلك فتح عليه بفهم الوحي المنزل عليه من ربه بحيث لو قرأ السورة شاهد قلبه ما أنزلت فيه وما أريد بها وحظه المختص به منها من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة فيجتهد في التخلص منها كما يجتهد في الشفاء من المرض المخوف وشاهد حظه من الصفات والأفعال الممدوحة فيجتهد في تكميلها وإتمامها
فإذا تمكن من ذلك انفتح في قلبه عين أخرى يشاهد بها صفات الرب جل جلاله حتى تصير لقلبه بمنزلة المرئي لعينه فيشهد علو الرب سبحانه فوق خلقه واستواءه على عرشه ونزول الأمر من عنده بتدبير مملكته وتكليمه

بالوحي وتكليمه لعبده جبريل به وإرساله إلى من يشاء بما يشاء وصعود الأمور إليه وعرضها عليه
فيشاهد قلبه ربا قاهرا فوق عباده آمرا ناهيا باعثا لرسله منزلا لكتبه معبودا مطاعا لا شريك له ولا مثيل ولا عدل له ليس لأحد معه من الأمر شيء بل الأمر كله له فيشهد ربه سبحانه قائما بالملك والتدبير فلا حركة ولا سكون ولا نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع ولا قبض ولا بسط إلا بقدرته وتدبيره فيشهد قيام الكون كله به وقيامه سبحانه بنفسه فهو القائم بنفسه المقيم لكل ما سواه
فإذا رسخ قلبه في ذلك شهد الصفة المصححة لجميع صفات الكمال وهي الحياة التي كمالها يستلزم كمال السمع والبصر والقدرة والإرادة والكلام وسائر صفات الكمال وصفة القيومية الصحيحة المصححة لجميع الأفعال فالحي القيوم من له كل صفة كمال وهو الفعال لما يريد
فإذا رسخ قلبه في ذلك فتح له مشهد القرب والمعية فيشهده سبحانه معه غير غائب عنه قريبا غير بعيد مع كونه فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه قائما بالصنع والتدبير والخلق والأمر فيحصل له مع التعظيم والإجلال الأنس بهذه الصفة فيأنس به بعد أن كان مستوحشا ويقوى به بعد أن كان ضعيفا ويفرح به بعد أن كان حزينا ويجد بعد أن كان فاقدا فحينئذ يجد طعم قوله ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه
فأطيب الحياة على الإطلاق حياة هذا العبد فإنه محب محبوب متقرب إلى ربه وربه قريب منه قد صار له حبيبه لفرط استيلائه على قلبه ولهجه بذكره وعكوف همته على مرضاته بمنزلة سمعه وبصره ويده ورجله وهذه

آلات إدراكه وعمله وسعيه فإن سمع سمع بحبيبه وإن أبصر أبصر به وإن بطش بطش به وإن مشى مشى به
فإن صعب عليك فهم هذا المعنى وكون المحب الكامل المحبة يسمع ويبصر ويبطش ويمشي بمحبوبه وذاته غائبة عنه فأضرب عنه صفحا وخل هذا الشأن لأهله
خل الهوى لأناس يعرفون به ... قد كابدوا الحب حتى لان أصبعه
فإن السالك إلى ربه لا تزال همته عاكفة على أمرين استفراغ القلب في صدق الحب وبذل الجهد في امتثال الأمر فلا يزال كذلك حتى يبدو على سره شواهد معرفته وآثار صفاته وأسمائه ولكن يتوارى عنه ذلك أحيانا ويبدو أحيانا يبدو من عين الجود ويتوارى بحكم الفترة والفترات أمر لازم للعبد فكل عامل له شرة ولكل شرة فترة فأعلاها فترة الوحي وهي للأنبياء وفترة الحال الخاص للعارفين وفترة الهمة للمريدين وفترة العمل للعابدين وفي هذه الفترات أنواع من الحكمة والرحمة والتعرفات الإلهية وتعريف قدر النعمة وتجديد الشوق إليها ومحض التواجد إليها وغير ذلك
ولا تزال تلك الشواهد تتكرر وتتزايد حتى تستقر وينصبغ بها قلبه وتصير الفترة غير قاطعة له بل تكون نعمة عليه وراحة له وترويحا وتنفيسا عنه
فهمة المحب إذا تعلقت روحه بحبيبه عاكفا على مزيد محبته وأسباب قوتها فهو يعمل على هذا ثم يترقى منه إلى طلب محبة حبيبه له فيعمل على حصول ذلك ولا يعدم الطلب الأول ولا يفارقه ألبتة بل يندرج في هذا الطلب الثاني فتتعلق همته بالأمرين جميعا فإنه إنما يحصل له منزلة كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به بهذا الأمر الثاني وهو كونه محبوبا لحبيبه كما قال في الحديث فإذا أحببته كنت سمعه وبصره الخ فهو يتقرب إلى ربه حفظا لمحبته له واستدعاء لمحبة ربه له

فحينئذ يشد مئزر الجد في طلب محبة حبيبه له بأنواع التقرب إليه فقلبه للمحبة والانابة والتوكل والخوف والرجاء ولسانه للذكر وتلاوة كلام حبيبه وجوارحه للطاعات فهو لا يفتر عن التقرب من حبيبه
وهذا هو السير المفضي إلى هذه الغاية التي لا تنال إلا به ولا يتوصل إليها إلا من هذا الباب وهذه الطريق وحينئذ تجمع له في سيره جميع متفرقات السلوك من الحضور والهيبة والمراقبة ونفي الخواطر وتخلية الباطن
فإن المحب يشرع أولا في التقربات بالأعمال الظاهرة وهي ظاهر التقرب ثم يترقى من ذلك إلى حال التقرب وهو الانجذاب إلى حبيبه بكليته بروحه وقلبه وعقله وبدنه ثم يترقى من ذلك إلى حال الإحسان فيعبد الله كأنه يراه فيتقرب إليه حينئذ من باطنه بأعمال القلوب من المحبة والإنابة والتعظيم والإجلال والخشية فينبعث حينئذ من باطنه الجود ببذل الروح والجود في محبة حبيبه بلا تكلف فيجود بروحه ونفسه وأنفاسه وإرادته وأعماله لحبيبه حالا لا تكلفا فإذا وجد المحب ذلك فقد ظفر بحال التقرب وسره وباطنه وإن لم يجده فهو يتقرب بلسانه وبدنه وظاهره فقط فليدم على ذلك وليتكلف التقرب بالإذكار والأعمال على الدوام فعساه أن يحظى بحال القرب
ووراء هذا القرب الباطن أمر آخر أيضا وهو شيء لا يعبر عنه بأحسن من عبارة أقرب الخلق إلى الله عن هذا المعنى حيث يقول حاكيا عن ربه تبارك وتعالى من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة فيجد هذا المحب في باطنه ذوق معنى هذا الحديث ذوقا حقيقيا
فذكر من مراتب القرب ثلاثة ونبه بها على ما دونها وما فوقها فذكر تقرب العبد إليه بالبر وتقربه سبحانه إلى العبد ذراعا فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعا فإذا

ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذ إلى ربه فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة وههنا منتهى الحديث منبها على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر أو إحالة له على المراتب المتقدمة فكأنه قيل له وقس على هذا فعلى قدر ما تبذل منك متقربا إلى ربك يتقرب إليك بأكثر منه وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور في مراتبه أي من تقرب إلى حبيبه بروحه وجميع قواه وإرادته وأقواله وأعماله تقرب الرب منه سبحانه بنفسه في مقابلة تقرب عبده إليه
وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية ولا مماسة بل هو قرب حقيقي والرب تعالى فوق سماواته على عرشه والعبد في الأرض
وهذا الموضع هو سر السلوك وحقيقة العبودية وهو معنى الوصول الذي يدندن حوله القوم
وملاك هذا الأمر هو قصد التقرب أولا ثم التقرب ثانيا ثم حال القرب ثالثا وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب
وحقيقة هذا الانبعاث أن تفنى بمراده عن هواك وبما منه عن حظك بل يصير ذلك هو مجموع حظك ومرادك وقد عرفت أن من تقرب إلى حبيبه بشيء من الأشياء جوزي على ذلك بقرب هو أضعافه وعرفت أن أعلى أنواع التقرب تقرب العبد بجملته بظاهره وباطنه وبوجوده إلى حبيبه فمن فعل ذلك فقد تقرب بكله ولم تبق منه بقية لغير حبيبه كما قيل
لا كان من لسواك فيه بقية ... يجد السبيل بها إليه العذل
وإذا كان المتقرب إليه بالأعمال يعطي أضعاف أضعاف ما تقرب به فما

الظن بمن أعطي حال التقرب وذوقه ووجده فما الظن بمن تقرب إليه بروحه وجميع إرادته وهمته وأقواله وأعماله
وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه فإنه أهل أن يجاد عليه بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه عوضا عن كل شيء جزاءا وفاقا فإن الجزاء من جنس العمل وشواهد هذا كثيرة
منها قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ففرق بين الجزائين كما ترى وجعل جزاء المتوكل عليه كونه سبحانه حسبه وكافيه
ومنها أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته
ومنها أن من بذل لله شيئا أعاضه الله خيرا منه
ومنها قوله تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون
ومنها قوله في الحديث القدسي من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير منه
ومنها قوله من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا الحديث
فالعبد لا يزال رابحا على ربه أفضل مما قدم له وهذا المتقرب بقلبه وروحه وعمله يفتح عليه ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة بل حياة من ليس كذلك بالنسبة إلى حياته كحياة الجنين في بطن أمه بالنسبة إلى حياة أهل الدنيا ولذتهم فيها بل أعظم من ذلك
فهذا نموذج من بيان شرف هذه الحياة وفضلها وإن كان علم هذا يوجب لصاحبه حياة طيبة فكيف إن انصبغ القلب به وصار حالا ملازما لذاته فالله المستعان

فهذه الحياة هي حياة الدنيا ونعيمها في الحقيقة فمن فقدها فقده لحياته الطبيعية أولى به
هذي حياة الفتى فإن فقدت ... ففقده للحياة أليق به
فلا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه واطمأنت قلوبهم به واستأنسوا بقربه وتنعموا بحبه ففي القلب فاقة لا يسدها إلا محبة الله والإقبال عليه والإنابة إليه ولا يلم شعثه بغير ذلك ألبتة ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم وآلام وحسرات فإنه إن كان ذا همة عالية تقطعت نفسه على الدنيا حسرات فإن همته لا ترضى فيها بالدون وإن كان مهينا خسيسا فعيشه كعيش أخس الحيوانات فلا تقر العيون إلا بمحبة الحبيب الأول
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل

فصل المرتبة التاسعة من مراتب الحياة حياة الأرواح بعد مفارقتها
الأبدان وخلاصها من هذا السجن وضيقه فإن من روائه فضاء وروحا وريحانا وراحة نسبة هذه الدار إليه كنسبة بطن الأم إلى هذه الدار أو أدنى من ذلك قال بعض العارفين لتكن مبادرتك إلى الخروج من الدنيا كمبادرتك إلى الخروج من السجن الضيق إلى أحبتك والاجتماع بهم في البساتين المونقة قال الله تعالى في هذه الحياة فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم
ويكفي في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى ومفارقة الرفيق المؤذي المنكد الذي تنغص رؤيته ومشاهدته الحياة فضلا عن مخالطته وعشرته إلى الرفيق الأعلى الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا في جوار الرب الرحمن الرحيم

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف
ولو لم يكن في الموت من الخير إلا أنه باب الدخول إلى هذه الحياة وجسر يعبر منه إليها لكفي به تحفة المؤمن
جزى الله عنا الموت خيرا فإنه ... أبر بنا من كل بر وألطف
يعجل تخليص النفوس من الأذى ... ويدني إلى الدار التي هي أشرف
فالاجتهاد في هذا العمر القصير والمدة القليلة والسعي والكدح وتحمل الأثقال والتعب والمشقة إنما هو لهذه الحياة والعلوم والأعمال وسيلة إليها وهي يقضه وما قبلها من الحياة نوم وهي عين وما قبلها أثر وهي حياة جامعة بين فقد المكروه وحصول المحبوب في مقام الأنس وحضرة القدس حيث لا يتعذر مطلوب ولا يفقد محبوب حيث الطمأنينة والراحة والبهجة والسرور حيث لا عبارة للعبد عن حقيقة كنهها لأنها في بلد لا عهد لنا به ولا إلف بيننا وبين ساكنه فالنفس لإلفها لهذا السجن الضيق النكد زمانا طويلا تكره الانتقال منه إلى ذلك البلد وتستوحش إذا استشعرت مفارقته
وحصول العلم بهذه الحياة إنما وصل إلينا بخبر إلهي على يد أكمل الخلق وأعلمهم وأنصحهم فقامت شواهدها في قلوب أهل الإيمان حتى صارت لهم بمنزلة العيان ففرت نفوسهم من هذا الظل الزائل والخيال المضمحل والعيش الفاني المشوب بالتنغيص وأنواع الغصص رغبة في هذه الحياة وشوقا إلى ذلك الملكوت ووجدا بهذا السرور وطربا على هذا الحد واشتياقا لهذا النسيم الوارد من محل النعيم المقيم
ولعمر الله إن من سافر إلى بلد العدل والخصب والأمن والسرور صبر في طريقه على كل مشقة وإعواز وجدب وفارق المتخلفين أحوج ما كان إليهم وأجاب المنادي إذا نادى به حي على الفلاح وبذل نفس في الوصول بذل

المحب بالرضى والسماح وواصل السير بالغدو والرواح فحمد عند الوصول مسراه وإنما يحمد المسافر السري عند الصباح
عند الصباح يحمد القوم السري ... وفي الممات يحمد القوم اللقا
وما هذا والله بالصعب ولا بالشديد مع هذا العمر القصير الذي هو بالنسبة إلى تلك الدار كساعة من نهار كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون فلو أن أحدنا يجر على وجهه يتقي به الشوك والحجارة إلى هذه الحياة لم يكن ذلك كثيرا ولا غبنا في جنب ما يوقاه
فواحسرتاه على بصيرة شاهدت هاتين الحياتين على ما هما عليه وعلى همة تؤثر الأدنى على الأعلى وما ذاك إلا بتوفيق من أزمة الأمور بيديه ومنه ابتداء كل شيء وانتهاؤه إليه أقعد نفوس من غلبت عليهم الشقاوة عن السفر إلى هذه الدار وجذب قلوب من سبقت لهم منه الحسنى وأقامهم في الطريق وسهل عليهم ركوب الأخطار فأضاع أولئك مراحل أعمارهم مع المتخلفين وقطع هؤلاء مراحل أعمارهم مع السائرين وعقدت الغبرة وثار العجاج فتوارى عنه السائرون والمتخلفون وسينجلي عن قريب فيفوز العاملون ويخسر المبطلون
ومن طيب هذه الحياة ولذتها قال النبي ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا وأن لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع إلى الدنيا لما يرى من كرامة الله له يعني ليقتل فيه مرة أخرى وسمع بعض العارفين منشدا ينشد

إنما العيش في بهيمية الل ... ذة لا ما يقوله الفلسفي
حكم كأس المنون أن يتساوى ... في حساها البليد والألمعي
ويصير الغبي تحت ثرى الأر ... ض كما صار تحتها اللوذعي
فسل الأرض عنهما إن أزال الش ... ك والشبهة السؤال الجلي
فقال قاتله الله ما أشد معاندته للدين والعقل هذا نفس عدو الفطرة والشريعة والعقل والإيمان والحكمة يا مسكين أمن أجل أن الموت تساوى فيه الصالح والطالح والعالم والجاهل وصاروا جميعا تحت أطباق الثرى أيجب أن يتساووا في العاقبة أما تساوى قوم سافروا من بلد إلى بلد في الطريق فلما بلغوا القصد نزل كل واحد في مكان كان معد له وتلقى بغير ما تلقى به رفيقه في الطريق أما لكل قوم دار فأجلس كل واحد منهم حيث يليق به وقوبل هذا بشيء وهذا بضده أما قدم على الملك من جاءه بما يحبه فأكرمه عليه ومن جاءه بما يسخطه فعاقبه عليه أما قدم ركب المدينة فنزل بعضهم في قصورها وبساتينها وأماكنها الفاضلة ونزل قوم على قوارع الطريق بين الكلاب أما قدم اثنان من بطن الأم الواحدة فصار هذا إلى الملك وهذا إلى الأسر والعناء
وقولك سل الأرض عنهما أما إنا قد سألناها فأخبرتنا أنها قد ضمت أجسادهم وجثثهم وأوصالهم لا كفرهم وإيمانهم ولا أنسابهم وأحسابهم ولا حلمهم وسفههم ولا طاعتهم وجثثهم ومعصيتهم ولا يقينهم وشكهم ولا توحيدهم

وشركهم ولا جورهم وعدلهم ولا علمهم وجهلهم فأخبرتنا عن هذه الجثث البالية والأبدان المتلاشية والأوصال المتمزقة وقالت هذا خبر ما عندي
وأما خبر تلك الأرواح وما صارت إليه فسلوا عنها كتب رب العالمين ورسله الصادقين وخلفاءهم الوارثين سلوا القرآن فعنده الخبر اليقين وسلوا من جاء به فهو بذلك أعرف العارفين وسلوا العلم والإيمان فهما الشاهدان المقبولان وسلوا العقول والفطر فعندها حقيقة الخبر أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون تعالى الله أحكم الحاكمين عن هذا الظن والحسبان الذي لا يليق إلا بأجهل الجاهلين
ثم قال الناظر في هذا الباب رجلان رجل ينظر إلى الأشياء ورجل ينظر في الأشياء فالأول يحار فيها فإن صورها وأشكالها وتخاطيطها تستفرغ ذهنه وحسه وتبدد فكره وقلبه فنظره إليها بعين حسه لا يفيده منها ثمرة الاعتبار ولا زبدة الاختبار لأنه لما فقد الاعتبار أولا فإنه فقد الاختيار ثانيا
وأما الناظر في الأشياء فإن نظره يبعثه على العبور من صورها إلى حقائقها والمراد بها وما اقتضى وجودها من الحكمة البالغة والعلم التام فيفيده هذا النظر تمييز مراتبها ومعرفة نافعها من ضارها وصحيحها من سقيمها وباقيها من فانيها وقشرها من لبها ويميز بين الوسيلة والغاية وبين وسيلة الشيء ووسيلة ضده فيعرف حينئذ أن الدينا قشر والآخرة لبه وأن الدنيا محل الزرع والآخرة وقت الحصاد وأن الدنيا معبر وممر والآخرة دار مستقر
وإذا عرف أن الدنيا طريق وممر كان حريا بتهيئه الزاد لقراره ويعلم

حينئذ أنه لم ينشأ في هذه الدار للاستيطان والخلود ولكن للجواز إلى مكان آخر هو المنزل والمتبوأ وأن الإنسان دعي إلى ذلك بكل شريعة وعلى لسان كل نبي وبكل إشارة ودليل ونصب له على ذلك علم وضرب لأجله كل مثل ونبه عليه بنشأته الأولى ومبادئه وسائر أحواله وأحوال طعامه وشرابه وأرضه وسمائه بحيث أزيلت عنه الشبهة وأوضحت له المحجة وأقيمت عليه الحجة وأعذر إليه غاية الإعذار وأمهل أتم الإمهال فاستبان لذي العقل الصحيح والفطرة السليمة أن الظعن عن هذا المكان ضروري والانتقال عنه حق لا مرية فيه وأن له محلا آخر له قد أنشئ ولأجله قد خلق وله هيئ فمصيره إليه وقدومه بلا ريب عليه وأن داره هذه منزل عبور لا منزل قرار
وبالجملة من نظر في الموجودات ولم يقنع بمجرد النظر إليها وحدها وجدها دالة على أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أكمل منها وأن هذه الحياة بالنسبة إليها كالمنام بالنسبة إلى اليقظة وكالظل بالنسبة إلى الشخص وسمعها كلها تنادي بما نادى به ربها وخالقها وفاطرها يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وتنادى بلسان الحال بما نادى به ربها بصريح المقال واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا وقال تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون وقال تعالى اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان

وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ثم ندبهم إلى المسابقة إلى الدار الآخرة الباقية التي لا زوال لها فقال سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
وسمع بعض العارفين منشدا ينشد عن بعض الزنادقة عند موته وهو محمد ابن زكريا الرازي المتطبب
لعمري ما أدري وقد اذن البلى ... بعاجل ترحالي إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجه ... عن الهيكل المنحل والجسد البالي
فقال وما علينا من جهله إذا لم يدر أين ترحاله ولكننا ندري إلى أين ترحالنا وترحاله أما ترحاله فإلى دار الأشقياء ومحل المنكرين لقدرة الله وحكمته والمكذبين بما اتفقت عليه كلمة المرسلين عن ربهم أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون
وأما ترحالنا أيها المسلمون المصدقون بلقاء ربهم وكتبه ورسله فإلى نعيم دائم وخلود متصل ومقام كريم وجنة عرضها السموات والأرض في جوار رب العالمين وأرحم الراحمين وأقدر القادرين وأحكم الحاكمين الذي له الخلق والأمر وبيده النفع والضر الأول بالحق الموجود بالضرورة المعروف بالفطرة الذي أقرت به العقول ودلت عليه كل الموجودات وشهدت بوحدانيته وربوبيته جميع المخلوقات وأقرت بها الفطر المشهود وجوده وقيوميته بكل حركة وسكون بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون الذي خلق السماوات والأرض

وأنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة من أنواع النباتات وبث به في الأرض جميع الحيوانات أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه ويكشف السوء ويفرج الكربات ويقيل العثرات الذي يهدي خلقه في ظلمات البر والبحر ويرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته فيحبي الأرض بوابل القطر الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ويرزق من في السماوات والأرض من خلقه وعبيده الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويدبر الأمر الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا المستعان به على كل نائبة وفادحة والمعهود منه كل بر وكرامة الذي عنت له الوجوه وخشعت له الأصوات وسبحت بحمده الأرض والسموات وجميع الموجودات الذي لا تسكن الأرواح إلا بحبه ولا تطمئن القلوب إلا بذكره ولا تزكو العقول إلا بمعرفته ولا يدرك النجاح إلا بتوفيقه ولا تحيا القلوب إلا بنسيم لطفه وقربه ولا يقع أمر إلا بإذنه ولا يهتدي ضال إلا بهدايته ولا يستقيم ذو أود إلا بتقويمه ولا يفهم أحد إلا بتفهيمه ولا يتخلص من مكروه إلا برحمته ولا يحفظ شيء إلا بكلاءته ولا يفتتح أمر إلا باسمه ولا يتم إلا بحمده ولا يدرك مأمول إلا بتيسيره ولا تنال سعادة إلا بطاعته ولا حياة إلا بذكره ومحبته ومعرفته ولا طابت الجنة إلا بسماع خطابه ورؤيته الذي وسع كل شيء رحمة وعلما وأوسع كل مخلوق فضلا وبرا
فهو الإله الحق والرب الحق والملك الحق والمنفرد بالكمال المطلق من كل الوجوه المبرأ عن النقائص والعيوب من كل الوجوه لا يبلغ المثنون وإن

استوعبوا جميع الأوقات بكل أنواع الثناء ثناء عليه بل ثناؤه أعظم من ذلك فهو كما أثنى على نفسه هذا الجار
وأما الدار فلا تعلم نفس حسنها وبهاءها وسعتها ونعيمها وبهجتها وروحها وراحتها فيها مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين فهي الجامعة لجميع أنواع الأفراح والمسرات الخالية من جميع المنكدات والمنغصات ريحانة تهتز وقصر مشيد وزوجة حسناء وفاكهة نضيجة
فتر حالنا أيها الصادقون المصدقون إلى هذه الدار بإذن ربنا وتوفيقه وإحسانه
وترحال الكاذبين المكذبين إلى الدار التي أعدت لمن كفر بالله ولقائه وكتبه ورسله
ولن يجمع الله بين الموحدين له الطالبين لمرضاته الساعين في طاعته الدائبين في خدمته المجاهدين في سبيله وبين الملحدين الساعين في مساخطه الدائبين في معصيته المستفرغين جهدهم في أهوائهم وشهواتهم في دار واحدة إلا على سبيل الجواز والعبور كما جمع بينهما في هذه الدنيا ويجمع بينهم في موقف القيامة فحاشاه من هذا الظن السيء الذي لا يليق بكماله وحكمته

فصل وفي هذه المرتبة تعلم حياة الشهداء وأنهم عند ربهم يرزقون
وأنها أكمل من حياتهم في هذه الدنيا وأتم وأطيب وإن كانت أجسادهم متلاشية ولحومهم متمزقة وأوصالهم متفرقة وعظامهم نخرة فليس العمل على الطلل وإنما الشأن في الساكن قال الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وقال تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون وإذا كان الشهداء إنما نالوا هذه

الحياة بمتابعة الرسل وعلى أيديهم فما الظن بحياة الرسل في البرزخ ولقد أحسن القائل ما شاء
فالعيش نوم والمنية يقظة ... والمرء بينهما خيال ساري
فللرسل والشهداء والصديقين من هذه الحياة التي هي يقظة من نوم الدنيا أكملها وأتمها وعلى قدر حياة العبد في هذا العالم يكون شوقه إلى هذه الحياة وسعيه وحرصه على الظفر بها والله المستعان

فصل المرتبة العاشرة من مراتب الحياة الحياة الدائمة الباقية بعد
طي هذا العالم وذهاب الدنيا وأهلها في دار الحيوان وهي الحياة التي شمر اليها المشمرون وسابق إليها المتسابقون ونافس فيها المتنافسون وهي التي أجرينا الكلام إليها ونادت الكتب السماوية ورسل الله جميعهم عليها وهي التي يقول من فاته الاستعداد لها إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد وهي التي قال الله عز و جل فيها وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون
والحياة المتقدمة كالنوم بالنسبة إليها وكل ما تقدم من وصف السير ومنازله وأحوال السائرين وعبوديتهم الظاهرة والباطنة فوسيلة إلى هذه الحياة إنما الحياة الدنيا بالنسبة إليها كما قال النبي ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع
وكما قيل تنفست الآخرة فكانت الدنيا نفسا من أنفاسها فأصاب أهل

السعادة نفس نعيمها فهم على هذا النفس يعملون وأصاب أهل الشقاوة نفس عذابها فهم على ذلك النفس يعملون
وإذا كانت حياة أهل الإيمان والعمل الصالح في هذه الدار حياة طيبة فما الظن بحياتهم في البرزخ وقد تخلصوا من سجن الدنيا وضيقها فما الظن بحياتهم في دار النعيم المقيم الذي لا يزول وهم يرون وجه ربهم تبارك وتعالى بكرة وعشيا ويسمعون خطابه
فإن قلت ما سبب تخلف النفس عن طلب هذه الحياة التي لا خطر لها وما الذي زهدها فيها وما سبب رغبتها في الحياة الفانية المضمحلة التي هي كالخيال والمنام أفساد في تصورها وشعورها أم تكذيب بتلك الحياة أم لآفة في العقل وعمي هناك أم إيثار للحاضر المشهود بالعيان على الغائب المعلوم بالإيمان
قيل بل ذلك لمجموع أمور مركبة من ذلك كله
وأقوى الأسباب في ذلك ضعف الإيمان فإن الإيمان هو روح الأعمال وهو الباعث عليها والآمر بأحسنها والناهي عن أقبحها وعلى قدر قوة الإيمان يكون أمره ونهيه لصاحبه وائتمار صاحبه وانتهاؤه قال الله تعالى قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين
وبالجملة فإذا قوي الإيمان قوي الشوق إلى هذه الحياة واشتد طلب صاحبه لها
السبب الثاني جثوم الغفلة على القلب فإن الغفلة نوم القلب ولهذا تجد كثيرا من الإيقاظ في الحس نياما في الواقع فتحسبهم أيقاظا وهو رقود ضد حال من يكون يقظان القلب وهو نائم فإن القلب إذا قويت فيه الحياة لا ينام إذا نام البدن وكمال هذه الحياة كان لنبينا ولمن أحيا الله قلبه بمحبته واتباع رسالته على بصيرة من ذلك بحسب نصيبه منهما
فالغفلة واليقظة يكونان في الحس والعقل والقلب فمستيقظ القلب وغافله

كسمتيقظ البدن ونائمه وكما أن يقظة الحس على نوعين فكذلك يقظة القلب على نوعين
فالنوع الأول من يقظة الحس أن صاحبها ينفذ في الأمور الحسية ويتوغل فيها بكسبه وفطانته واحتياله وحسن تأتيه
والنوع الثاني أن يقبل على نفسه وقلبه وذاته فيعتنى بتحصيل كماله فيلحظ عوالي الأمور وسفاسفها فيؤثر الأعلى على الأدنى ويقدم خير الخيرين بتفويت أدناهما ويرتكب أخف الشرين خشية حصول أقواهما ويتحلى بمكارم الأخلاق ومعالي الشيم فيكون ظاهره جميلا وباطنه أجمل من ظاهره وسريرته خيرا من علانيته فيزاحم أصحاب المعالي عليها كما يتزاحم أهل الدينار والدرهم عليهما فبهذه اليقظة يستعد للنوعين الآخرين منهما
أحدهما يقظه تبعثه على اقتباس الحياة الدائمة الباقية التي لا خطر لها من هذه الحياة الزائلة الفانية التي لا قيمة لها
فإن قلت مثل لي كيف تقتبس الحياة الدائمة من الحياة الفانية وكيف يكون هذا فإني لا أفهمه
قلت وهذا أيضا من نوم القلب بل من موته وهل تقتبس الحياة الدائمة إلا من هذه الحياة الزائلة وأنت قد تشعل سراجك من سراج آخر قد أشفى على الانطفاء فيتقد الثاني ويضيء غاية الإضاءة ويتصل ضوءه وينطفئ الأول والمقتبس لحياته الدائمة من حياته المنقطعة إنما ينتقل من دار منقطعة إلى دار باقية وقد توسط الموت بين الدارين فهو قنطرة لا يعبر إلى تلك الدار إلا عليها وباب لا يدخل إليها إلا منه فهما حياتان في دارين بينهما موت وكما أن نور تلك الدار مقتبس من نور هذه الدار فحياتها كذلك مقتبسة من حياتها فعلى قدر نور الإيمان في هذه الدار يكون نور العبد في تلك الدار وعلى قدر حياته في هذه الدار تكون حياته هناك

نعم هذا النور والحياة الذي يقتبس منه ذلك النور والحياة لا ينقطع بل يضيء للعبد في البرزخ وفي موقف القيامة وعلى الصراط فلا يفارقه إلى دار الحيوان يطفأ نور الشمس وهذا النور لا يطفأ وتبطل الحياة المحسوسة وهذه الحياة لا تبطل هذا أحد نوعي يقظة القلب
النوع الثاني يقظة تبعث على حياة لا تدركها العبارة ولا ينالها التوهم ولا يطابق فيها اللفظ لمعناه ألبتة والذي يشار به إليها حياة المحب مع حبيبه الذي لا قوام لقلبه وروحه وحياته إلا به ولا غنى له عنه طرفة عين ولا قرة لعينه ولا طمأنينة لقلبه ولا سكون لروحه إلا به فهو أحوج إليه من سمعه وبصره وقوته بل ومن حياته فإن حياته بدونه عذاب وآلام وهموم وأحزان فحياته موقوفة على قربه وحبه ومصاحبته وعذاب حجابه عنه أعظم من العذاب الآخر كما أن نعيم القلب والروح بإزالة ذلك الحجاب أعظم من النعيم بالأكل والشرب والتمتع بالحور العين فهكذا عذاب الحجاب أعظم من عذاب الجحيم ولهذا جمع الله سبحانه لأوليائه بين النعيمين في قوله للذين أحسنوا الحسنى وزيادة فالحسنى الجنة والزيادة رؤية وجهه الكريم في جنات عدن وجمع لأعدائه بين العذابين في قوله كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم
والمقصود أن الغفلة هي نوم القلب عن طلب هذه الحياة وهي حجاب عليه فإن كشف هذا الحجاب بالذكر وإلا تكاثف حتى يصير حجاب بطالة ولعب واشتغال بما لا يفيد فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب معاص وذنوب صغار تبعده عن الله فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى يصير حجاب كبائر توجب مقت الرب تعالى له وغضبه ولعنته فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاف حتى صار حجاب بدع عملية يعذب العامل فيها نفسه ولا تجدي عليه شيئا فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب بدع

قولية اعتقادية تتضمن الكذب على الله ورسوله والتكذيب بالحق الذي جاء به الرسول فإن بادر إلى كشفه وإلا تكاثف حتى صار حجاب شك وتكذيب يقدح في اصول الإيمان الخمسة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه فلغلظ حجابه وكثافته وظلمته وسواده لا يرى حقائق الإيمان ويتمكن منه الشيطان يعده ويمنيه والنفس الأمارة بالسوء تهوى وتشتهي وسلطان الطبع قد ظفر بسلطان الإيمان فأسره وسجنه إن لم يهلكه وتولى تدبير المملكة واستخدام جنود الشهوات وأقطعها العوائد التي جرى عليها العمل وأغلق باب اليقظة وأقام عليه بواب الغفلة وقال إياك أن تؤتى من قبلك واتخذ حجابا من الهوى وقال إياك أن تمكن أحدا يدخل علي إلا معك فأمر هذه المملكة قد صار إليك وإلى البواب فيا بواب الغفلة ويا حاجب الهوى ليلزم كل منكما ثغره فإن أخليتما فسد أمر مملكتنا وعادت الدولة لغيرنا وسامنا سلطان الإيمان شر الخزي والهوان ولا نفرح بهذه المدينة أبدا
فلا إله إلا الله إذا اجتمعت على القلب هذه العساكر مع رقة الإيمان وقلة الأعوان والإعراض عن ذكر الرحمن والانخراط في سلك أبناء الزمان وطول الأمل المفسد للإنسان أن أكثر العاجل الحاضر على الغائب الموعود به بعد طي هذه الأكوان فالله المستعان وعليه التكلان
فهذا فصل مختصر نافع في ذكر الحياة وأنواعها والتشويق في أشرفها وأطيبها فمن صادف من قلبه حياة انتفع به وإلا فخود تزف إلى ضرير مقعد
فلنرجع إلى شرح كلام صاحب المنازل
قال ولها ثلاثة أنفاس نفس الخوف ونفس الرجاء ونفس المحبة
لما كان كل حيوان متنفسا فإن النفس موجب الحياة وعلامتها كانت أنفاس الحياة المشار إليها ثلاثة أنفاس نفس الخوف ومصدره مطالعة الوعيد

وما أعد الله لمن آثر الدنيا على الآخرة والمخلوق على الخالق والهوى على الهدى والغي على الرشاد
ونفس الرجاء ومصدره مطالعة الوعد وحسن الظن بالرب تعالى وما الله أعد لمن آثر الله ورسوله والدار الآخرة وحكم الهدى على الهوى والوحي على الآراء والسنة على البدعة وما كان عليه رسول الله وأصحابه على عوائد الخلق
ونفس بالمحبة مصدره مطالعة الأسماء والصفات ومشاهدة النعماء والآلاء
فإذا ذكر ذنوبه تنفس بالخوف وإذا ذكر رحمة ربه وسعة مغفرته وعفوه تنفس بالرجاء وإذا ذكر جماله وجلاله وكماله وإحسانه وإنعامه تنفس بالحب
فليزن العبد إيمانه بهذه الأنفاس الثلاثة ليعلم ما معه من الإيمان فإن القلوب مفطورة على حب الجمال والاجمال والله سبحانه جميل بل له الجمال التام الكامل من جميع الوجوه جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال وجمال الأسماء وإذا جمع جمال المخلوقات كله على شخص واحد ثم كانت جميعها على جمال ذلك الشخص ثم نسب هذا الجمال إلى جمال الرب تبارك وتعالى كان أقل من نسبة سراج ضعيف إلى عين الشمس
فالنفس الصادر عن هذه الملاحظة والمطالعة اشرف أنفاس العبد على الاطلاق فأين نفس المشتاق المحب الصادق إلى نفس الخائف الراجي ولكن لا يحصل له هذا النفس إلا بتحصيل ذينك النفسين فإن أحدهما ثمرة تركه للمخالفات والثاني ثمرة فعله للطاعات فمن هذين النفسين يصل إلى النفس الثالث

فصل قال الحياة الثانية حياة الجمع من موت التفرقة ولها ثلاثة
أنفاس نفس الاضطرار ونفس الافتقار ونفس الافتخار

ومراده إن شاء الله بالجمع في هذه الدرجة جمع القلب على الله وجمع الخواطر والعزوم في التوجه إليه سبحانه لا الجمع الذي هو حضرة الوجود لأنه قد ذكر حياة هذا الجمع في الدرجة الثالثة وسماها حياة الوجود
وإنما كان جمع القلب على الله والخواطر على السير إليه حياة حقيقية لأن القلب لا سعادة له ولا فلاح ولا نعيم ولا فوز ولا لذة ولا قرة عين إلا بأن يكون الله وحده هو غاية طلبه ونهاية قصده ووجهه الأعلى هو كل بغيته فالتفرقة المتضمنة للإعراض عن التوجه إليه واجتماع القلب عليه هي مرضه إن لم يمت منها
قال ولهذه الحياة ثلاثة أنفاس نفس الاضطرار وذلك لانقطاع أمله مما سوى الله فيضطر حينئذ بقلبه وروحه ونفسه وبدنه إلى ربه ضرورة تامة بحيث يجد في كل منبت شعرة منه فاقة تامة إلى ربه ومعبوده فهذا النفس نفس مضطر إلى مالا غنى له عنه طرفة عين وضرورته إليه من جهة كونه ربه وخالقه وفاطره وناصره وحافظه ومعينه ورازقه وهاديه ومعافيه والقائم بجميع مصالحه ومن جهة كونه معبوده وإلهه وحبيبه الذي لا تكمل حياته ولا تنفع إلا بأن يكون هو وحده أحب شيء إليه واشوق شيء إليه وهذا الاضطرار هو اضطرار إياك نعبد والاضطرار الأول اضطرار إياك نستعين
ولعمر الله إن نفس الافتقار هو هذا النفس أو من نوعه ولكن الشيخ جعلهما نفسين فجعل نفس الاضطرار بداية ونفس الافتقار توسط ونفس الافتخار نهاية وكأن نفس الاضطرار يقطع الخلق من قلبه ونفس الافتقار يعلق قلبه بربه
والتحقيق أنه نفس واحد ممتد أوله انقطاع وآخره اتصال
وأما نفس الافتخار فهو نتيجة هذين النفسين لأنهما إذا صحا للعبد حصل له القرب من ربه والأنس به والفرج به وبالخلع التي خلعها ربه على قلبه

وروحه مما لا يقوم لبعضه ممالك الدنيا بحذافيرها فحينئذ يتنفس نفسا آخر يجد به من التفريج والترويح والراحة والانشراح ما يشبه من بعض الوجوه بنفس من جعل في عنقه حبل ليخنق به حتى يموت ثم كشف عنه وقد حبس نفسه فتنفس نفس من أعيدت عليه حياته وتخلص من أسباب الموت
فإن قلت ما للعبد والافتخار وأين العبودية من نفس الافتخار
قلت لا يريد بذلك أن العبد يفتخر بذلك ويختال على بني جنسه بل هو فرح وسرور لا يمكن دفعه عن نفسه بما فتح عليه ربه ومنحه إياه وخصه به وأولى ما فرح به العبد فضل ربه عليه فإنه تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويحب الفرح بذلك لأنه من الشكر ومن لا يفرح بنعمة المنعم لا يعد شكورا فهو افتخار بما هو محض منة الله ونعمته على عبده لا افتخار بما من العبد فهذا هو الذي ينافي العبودية لا ذاك
وهنا سر لطيف وهو أن هذا النفس يفخر على أنفاسه التي ليست كذلك كما تفخر الحياة على الموت والعلم على الجهل والسمع على الصمم والبصر على العمى فيكون الافتخار للنفس على النفس لا للمتنفس على الناس والله أعلم

فصل قال الحياة الثالثة حياة الوجود وهي حياة بالحق ولها ثلاثة
أنفاس نفس الهيبة وهو يميت الاعتدال ونفس الوجود وهو يمنع الانفصال ونفس الانفراد وهو يورث الاتصال وليس وراء ذلك ملحظ للنظارة ولا طاقة للاشارة
هذه المرتبة من الحياة هي حياة الواجد وهي أكمل من النوعين اللذين قبلها ووجود العبد لربه هو الذي أشار إليه في الحديث الإلهي بقوله فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي

والمشار إليه في قوله ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء
وسيأتي في باب الوجود من مزيدا لهذا إن شاء الله تعالى
وإنما كانت حياة الوجود أكمل الحياة لشرفها وكمالها بموجدها وهو الحق سبحانه وتعالى فمن حبي بوجوده فقد فاز بأعلى أنواع الحياة
فان قلت يصعب علي فهم معنى الحياة بوجوده
قلت لأجل الحجاب الذي ضرب بينك وبين هذه الحياة فافهم الحياة بوجود الفناء وبوجود المالك القادر إذا كان معك وناصرك دون مجرد وجوده ولا معرفة بينك وبينه ألبتة فحقيقة الحياة هي الحياة بالرب تعالى لا الحياة بالنفس والفناء وأسباب العيش
وقد تفسر حياة الوجود بشهود القيومية حيث لا يرى شيئا من الأشياء إلا وهو بالله وهو الذي أقامه وبحال هذا الشهود وهو أن لا يلتفت بقلبه إلى شيء سوى الله ولا يخافه ولا يرجوه بل قد قصر خوفه ورجاءه وتوكله وإنابته على الحي القيوم قيوم الوجود وقيمه وقيامه ومقيمه وحده فمتى حصل له هذا الشهود وهذا الحال فقد حصلت له حياة الوجود
فتارة يتنفس بالهيبة وهي سطوة نور الصفات وذلك عند أول ما يسطع نور الوجود فيقع القلب في هيبة تستغرق حسه عن الالتفات إلى شيء من عوالم النفس وذلك هو الاعتلال الذي يميته النفس الثاني وهو قوله ونفس يميت الاعتلال فتموت منه علل أعماله وآثار حظوظه وشهود إنيته
قوله ونفس الوجود يريد به وجود العبد بربه فيتنفس بهذا الوجود كما يسمع به ويبصر به ويبطش به ويمشي به
ولا تصغ إلى غير هذا فتزل قدم بعد ثبوتها
قوله وهو يمنع الانفصال الانفصال عند القوم انقطاع القلب عن الرب

وبقاؤه بنفسه وطبيعته والاتصال هو بقاؤه بربه وفناؤه عن أحكام نفسه وطبعه وهواه وقد يراد بالاتصال الفناء في شهود القيومية وبالانفصال الغيبة عن هذا الشهود
وأما الملحد فيفسر الاتصال والانفصال بالاتصال الذاتي والانفصال الذاتي وهذا محال أيضا فإنه لم يزل متصلا به بل لم يزل إياه عنده فالأول يتعلق بالإرادة والهمة وهو أعلى الأنواع والثاني يتعلق بالشهود والشعور وهو دونه وهو عند الشيخ أعلى لأنه إنما يكون في وادي الفناء
والثالث للملاحدة القائلين بوحدة الوجود
قوله ونفس الانفراد وهو يورث الاتصال
نفس الانفراد هو المصحوب بشهود الفردانية وهي تفرد الرب سبحانه بالربوبية والإلهية والتدبير والقيومية فلا يثبت لسواه قسطا في الربوبية ولا يجعل لسواه حظا في الإلهية ولا في القيومية بل يفرده بذلك في شهوده كما أفرده به في علمه ثم يفرده به في الحال التي أوجبها له الشهود فيكون الله سبحانه فردا في علم العبد ومعرفته فردا في شهوده فردا في حاله في شهوده
وهذاالنفس يورثه الاتصال بربه بحيث لا يبقى له مراد غيره ولا إرادة غير مراده الديني الذي يحبه ويرضاه فيستفرغ حبه قلبه وتستفرغ مرضاته سعيه وليس وراء ذلك مقام يلحظه النظارة لا بالقلب ولا بالروح
فإن كمال هذا الاتصال والشغل بالحق سبحانه قد استفرغ المقامات واستوعب الإشارات والله المستعان

فصل قال صاحب المنازل باب القبض قال الله تعالى ثم قبضناه
إلينا قبضا يسيرا
قلت قد أبعد في تعلقه بإشارة لآية إلى القبض الذي يريده ولا تدل عليه

الآية بوجه ما وإنما يشارك القبض المترجم عليه في اللفظ فقط فإن القبض في الآية هو قبض الظل وهو تقلصه بعد امتداده قال الله تعالى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا فأخبر تعالى أنه بسط الظل ومده وأنه جعله متحركا تبعا لحركة الشمس ولو شاء لجعله ساكنا لا يتحرك إما بسكون المظهر له والدليل عليه وإما بسبب آخر ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا وهو شيء بعد شيء لم يقبضه جملة فهذا من أعظم آياته الدالة على عظيم قدرته وكمال حكمته فندب الرب سبحانه عباده إلى رؤية صنعته وقدرته وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته ولو شاء لجعله لاصقا بأصل ما هو ظل له من جبل وبناء وشجر وغيره فلم ينتفع به أحد
فإن كان الانتفاع به تابعا لمده وبسطه وتحوله من مكان إلى مكان ففي مده وبسطه ثم قبضه شيئا فشيئا من المصالح والمنافع مالا يخفى ولا يحصى فلو كان ساكنا دائما أو قبض دفعة واحدة لتعطلت مرافق العالم ومصالحه به وبالشمس فمد الظل وقبضه شيئا فشيئا لازم لحركة الشمس على ما قدرت عليه من مصالح العالم وفي دلالة الشمس على الظلال ما تعرف به أوقات الصلوات وما مضى من اليوم وما بقي منه وفي تحركه وانتقاله ما يبرد به ما أصابه من حر الشمس وينفع الحيوانات والشجر والنبات فهو من آيات الله الدالة عليه
وفي الآية وجه آخر وهو أنه سبحانه مد الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحى الأرض تحتها فألقت القبة ظلها عليها فلو شاء سبحانه لجعله ساكنا مستقرا في تلك الحال ثم خلق الشمس ونصبها دليلا على ذلك الظل فهو يتبعها في حركتها يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص فهو تابع لها تبعية المدلول لدليله
وفيها وجه آخر وهو أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه

وهي الأجرام التي تلقي الظلال فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه
وقوله تعالى قبضناه إلينا كأنه يشعر بذلك وقوله قبضا يسيرا يشبه قوله ذلك حشر علينا يسير وقوله قبضناه بصيغة الماضي لا ينافي ذلك كقوله أتى أمر الله والوجه في الآية هو الأول
وهذان الوجهان إن أراد من ذكرهما دلالة الآية عليهما إشارة وإيماء فقريب وإن أراد أن ذلك هو المراد من لفظها فبعيد لأنه سبحانه جعل ذلك آية ودلالة عليه للناظر فيه كما في سائر آياته التي يدعو عباده إلى النظر فيها فلا بد أن يكون ذلك أمرا مشهودا تقوم به الدلالة وتحصل به التبصرة
وأبعد من هذا ما تعلق به صاحب المنازل في باب القبض بقبض الظل كما أشار إليه في خطبة كتابه حيث يقول الذي مد ظل التكوين على الخليقة مدا طويلا ثم جعل شمس التمكين لصفوته عليه دليلا ثم قبض ظل التفرقة عنهم إليه قبضا يسيرا فاستعار للتكوين لفظ الظل إعلاما بأن المكونات بمنزلة الظلال في عدم استقلالها بأنفسها إذ لا يتحرك الظل إلا بحركة صاحبه وقوله مدا طويلا إشارة إلى أنه سبحانه لا يزال يخلق شيئا بعد شيء خلقا لا يتناهى لسعة قدرته ووجوب أبديته
ثم إن حقيقة الظل هي عدم الشمس في بقعة ماء لسائر سترها فإنما تتعين تلك الحقيقة بالشمس فكذلك المكون إنما تتعين حقيقته بالمكون له سبحانه وتعالى وشمس التمكين هي التوحيد الجامع لقلوب صفوته عن التفرق في شعاب ظل التكوين ثم قبض ظل التفرقة عنهم إليه قبضا يسيرا أي أخذ ظل التفرقة عنهم أخذا سهلا
فالشيخ أحال باستشهاده بالآية في الباب المذكور على ما تقدم له في الخطبة

ووجه الإشارة بالآية يعلم من قوله ثم قبضناه إلينا والقبض في هذا الباب لم يرد به قبض الإضافة ولهذا قال الشيخ
القبض في هذا الباب أسم يشار به إلى مقام الضنائن الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه
فالقبض نوعان قبض في الأحوال وقبض في الحقائق فالقبض في الأحوال أمر يطرق القلب يمنعه عن الانبساط والفرح وهو نوعان أيضا
أحدهما ما يعرف سببه مثل تذكر ذنب أو تفريط أو بعد أو جفوة أو حدوث ما هو نحو ذلك
والثاني مالا يعرف سببه بل يهجم على القلب هجوما لا يقدر على التخلص منه وهذا هو القبض المشار إليه على ألسنة القوم وضده البسط فالقبض والبسط عندهم حالتان للقلب لا يكاد ينفك عنهما
وقال أبو القاسم الجنيد في معنى القبض والبسط معنى الخوف والرجاء فالرجاء يبسط إلى الطاعة والخوف يقبض عن المعصية
فكلهم تكلم في القبض والبسط على هذا المنهج حتى جعلوه أقساما قبض تأديب وقبض تهذيب وقبض جمع وقبض تفريق ولهذا يمتنع صاحبه إذا تمكن منه من الأكل والشرب والكلام وفعل الأوراد والانبساط إلى الأهل وغيرهم
فقبض التأديب يكون عقوبة على غفلة أو خاطر سوء أو فكرة رديئة
وقبض التهذيب يكون إعدادا لبسط عظيم شأنه يأتي بعده فيكون القبض قبله كالتنبيه عليه والمقدمة له كما كان الغت والغط مقدمة بين يدي الوحي وإعدادا لوروده وهكذا الشدة مقدمة بين يدي الفرج والبلاء مقدمة بين يدي العافية والخوف الشديد مقدمة بين يدي الأمن وقد جرت سنة الله سبحانه أن هذه الأمور النافعة المحبوبة إنما يدخل إليها من أبواب أضدادها

وأما قبض الجمع فهو ما يحصل للقلب حال جمعيته على الله من انقباضه عن العلم وما فيه فلا يبقى فيه فضل ولا سعة لغير من اجتمع قلبه عليه وفي هذه الحال من أراد من صاحبه ما يعهده منه من المؤانسة والمذاكرة فقد ظلمه
وأما قبض التفرقة فهو القبض الذي يحصل من تفرق قلبه عن الله وتشتته عنه في الشعاب والأودية فأقل عقوبته ما يجده من القبض الذي يتمنى معه الموت
وأما القبض الذي أشار إليه صاحب المنازل فهو شيء وراء هذا كله فإنه جعله من قسم الحقائق وذلك القبض الذي تقدم ذكره من قسم البدايات ولهذا قال القبض في هذا الباب اسم يشار به إلى مقام الضنائن ومن هنا حسن استشهاده بإشارة الآية لأنه تعالى أخبر عن قبض الظل إليه والقبض في هذا الباب يتضمن قبض القلب عن غيره إليه وجمعيته بعد التفرقة عليه والضنائن جمع ضنينة وهي الخاصة يضن بها صاحبها أي يبخل ببذلها ويصطفيها لنفسه ولهذا قال الذين ادخرهم الحق اصطناعا لنفسه
والادخار افتعال من الذخر وهو ما يعده المرء لحوائجه ومصالحه والاصطناع بمعنى الاصطفاء قال تعالى لموسى واصطنعتك لنفسي والاصطناع في الأصل اتخاذ الصنيعة وهي الخير تسديه إلى غيرك قال الشاعر
وإذا اصطنعت صنيعة فاقصد بها ... وجه الذي يولي الصنائع أودع
قال ابن عباس اصطنعتك لوحيي ورسالتي وقال الكلبي اخترتك بالرسالة لنفسي لكي تحبني وتقوم بأمري
وقيل اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجتي فتكلم عبادي عني
قال أبو إسحاق اخترتك بالإحسان إليك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في الخطاب والتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم

وقيل مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه وخصائص أهلا لكرامته وتقريبه فلا يكون أحد أقرب منه منزلة إليه ولا ألطف محلا فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه بحيث يسمع به ويبصر به ويطلع على سره
والمقصود أن الرب سبحانه حال بين هؤلاء الضنائن وبين التعلق بالخلق وصرف قلوبهم وهممهم وعزائمهم إليه
قال وهم على ثلاث فرق فرقة قبضهم إليه قبض التوقي فضن بهم عن أعين العالمين
هذا الحرف في التوقي بالقاف من الوقاية وليس من الوفاة أي سترهم عن أعين الناس وقاية لهم وصيانة عن ملابستهم فغيبهم عن أعين الناس فلم يطلعهم عليهم وهؤلاء هم أهل الانقطاع والعزلة عن الناس وقت فساد الزمان ولعلهم الذين قال فيهم النبي يوشك أن يكون خير مال المرء غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر وقوله ورجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره وهذه الحال تحمد في بعض الأماكن والأوقات دون بعضها وإلا فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من هؤلاء فالعزلة في وقت تجب فيه ووقت تستحب فيه ووقت تباح فيه ووقت تكره فيه وقت تحرم فيه
ويجوز أن يكون قبض التوفي بالفاء أجسادهم وقلوبهم من بين العالمين وهم في الدنيا لكن لما لم يخالطوا الناس كانوا بمنزلة من قد توفي وفارق الدنيا
قال وفرقة قبضهم بسترهم في لباس التلبيس وأسبل عليهم أكلة الرسوم فأخفاهم عن عيون العالم

هذه الفرقة هم مع الناس مخالطون والناس يرون ظواهرهم وقد ستر الله حقائقهم وأحوالهم عن رؤية الخلق لها فحالهم ملتبس على الناس لا يعرفونه فإذا رأوا منهم ما يرون من أبناء الدنيا من الأكل والشرب واللباس والنكاح وطلاقة الوجه وحسن العشرة قالوا هؤلاء من أبناء الدنيا وإذا رأوا ذلك الجد والهمم والصبر والصدق وحلاوة المعرفة والإيمان والذكر وشاهدوا منهم أمورا ليست من أمور أبناء الدنيا قالوا هؤلاء من أبناء الآخرة فالتبس حالهم عليهم وهم مستورون عن الناس بأسبابهم وصنائعهم ولباسهم لم يجعلوا لطلبهم وإرادتهم إشارة تشير إليهم اعرفوني فهؤلاء يكونون مع الناس والمحجوبون لا يعرفونهم ولا يرفعون بهم رءوسا وهم من سادات أولياء الله صانهم الله عن معرفة الناس كرامة لهم لئلا يفتتنوا بهم وإهانة للجهال بهم فلا ينتفعون بهم
وهذه الفرقة بينها وبين الأولى من الفضل مالا يعلمه إلا الله فهم بين الناس بأبدانهم وبين الرفيق الأعلى بقلوبهم فإذا فارقوا هذا العالم انتقلت أرواحهم إلى تلك الحضرة فإن روح كل عبد تنتقل بعد مفارقة البدن إلى حضرة من كان يألفهم ويحبهم فإن المرء مع من أحبه
قوله وأسبل عليهم أكلة الرسوم أي أجرى عليهم أحكام الخلق يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون ويسكنون حيث يسكنون ويمشون معهم في الأسواق ويعانون معهم الأسباب وهم في واد والناس في واد فمشاركتهم إياهم في ذلك هي التي سترتهم عن معرفتهم وعن إدراك حقائقهم فهم تحت ستور المشاركة
ووراء هاتيك الستور محجب ... بالحسن كل العز تحت لوائه

لو أبصرت عيناك بعض جماله ... لبذلت منك الروح في إرضائه
ما طابت الدنيا بغير حديثه ... كلا ولا الأخرى بدون لقائه
يا خاسرا هانت عليه نفسه ... إذ باعها بالغبن من أعدائه
لو كنت تعلم قدر ما قد بعته ... لفسخت ذاك البيع قبل وفائه
أو كنت كفوا للرشاد وللهدى ... أبصرت لكن لست من أكفائه
قوله وفرقة قبضهم منهم إليه فصافاهم مصافاة سر فضن بهم عليهم هذه الفرقة إنما كانت أعلى من الفرقتين المتقدمتين لأن الحق سبحانه قد سترهم عن نفوسهم لكمال ما أطلعهم عليه وشغلهم به عنهم فهم في أعلى الأحوال والمقامات ولا التفات لهم إليها فهؤلاء قلوبهم معه سبحانه لا مع سواه فلم يكونوا من السوى ولا السوى منهم بل هم مع السوى بالمجاورة والامتحان لا بالمساكنة والألفة قلوبهم عامرة بالأسرار وأرواحهم تحن إليه حنين الطيور إلى الأوكار قد سترهم وليهم وحبيبهم عنهم وأخذهم إليه منهم
قوله فصافاهم مصافاة سر أي جعل مواجيدهم في أسرارهم وقلوبهم للطف إدراكهم فلم تظهر عليهم في ظواهرهم لقوة الاستعداد
قوله فضن بهم عليهم أي أخذهم عن رسومهم فأفناهم عنهم وأبقاهم به
وقد علمت من هذا أن القبض المشار إليه في هذا الباب ليس هو القبض الذي يشير إليه القوم في البدايات والسلوك والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل باب البسط قال الله تعالى يذرؤكم فيه
قلت وجه تعلقه بإشارة الآية هو أن الله سبحانه يعيشكم فيما خلق لكم من الأنعام المذكورة قال الكلبي يكثركم في هذا التزيج ولولا هذا التزويج

لك لم يكثر النسل والمعنى يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر من جعله لكم أزواجا فإن سبب خلقنا وخلق الحيوان بالأزواج والضمير في قوله فيه يرجع إلى الجعل ومعنى الذرء الخلق وهو هنا الخلق الكثير فهو خلق وتكثير فقيل في بمعنى الباء أي يكثركم بذلك وهذا قول الكوفيين والصحيح أنها على بابها والفعل تضمن معنى ينشئكم وهو يتعدى بفي كما قال تعالى وننشئكم فيما لا تعلمون فهذا تفسير الآية
ولما كانت الحياة حياتين حياة الأبدان وحياة الأرواح وهو سبحانه الذي يحيي قلوب أوليائه وأرواحهم بإكرامه ولطفه وبسطه كان ذلك تنمية لها وتكثيرا وذرءا والله أعلم
قال صاحب المنازل البسط أن يرسل شواهد العبد في مدارج العلم ويسبل على باطنه رداء الاختصاص وهم أهل التلبيس وإنما بسطوا في ميدان البسط بعد ثلاث معان لكل معنى طائفة
يريد أن البسط إرسال ظواهر العبد وأعماله على مقتضى العلم ويكون باطنه مغمورا بالمراقبة والمحبة والأنس بالله فيكون جماله في ظاهره وباطنه فظاهره قد اكتسى الجمال بموجب العلم وباطنه قد اكتسى الجمال بالمحبة والرجاء والخوف والمراقبة والأنس فالاعمال الظاهرة له دثار والاحوال الباطنة له شعار فلا حاله ينقص عليه ظاهر حكمه ولا علمه يقطع وارد حاله وقد جمع سبحانه بين الجمالين أعني جمال الظاهر وجمال الباطن في غير موضع من كتابه
منها قوله تعالى يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير
ومنها قوله تعالى في نساء الجنة فيهن خيرات حسان فهن حسان الوجوه خيرات الأخلاق

ومنها قوله تعالى ولقاهم نضرة وسرورا فالنضرة جمال الوجوه والسرور وجمال القلوب
ومنها قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة فالنضرة تزين ظواهرهم والنظر يجمل بواطنهم
ومنها قوله تعالى وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا فالأساور جملت ظواهرهم والشراب الطهور طهر بواطنهم
ومنها قوله تعالى إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد فجمل ظاهرها بالكواكب وباطنها بالحراسة من الشياطين رجعنا إلى شرح كلامه
قوله وهم أهل التلبيس يعني أنهم المذكورون في باب القبض وهم الفرقة الثانية الذين ستروا بلباس التلبيس عن أعين الناس فلا ترى حقائقهم
قوله وإنما بسطوا في ميدان البسط أي بسطهم الحق سبحانه على لسان رسوله لا ما يظنه الملحد أنه السماع الشهي وملاحظة المنظر البهي ورؤية الصور المستحسنات وسماع الآلات المطربات
نعم هذا ميدان بسطه الشيطان يقتطع به النفوس عن الميدان الذي نصبه الرحمن فميدان الرحمن الذي بسطه هو الذي نصبه لأنبيائه وأوليائه وهو ما كان عليه رسول الله مع أصحابه وأهله ومع الغريب والقريب وهي سعة الصدر ودوام البشر وحسن الخلق والسلام على من لقيه والوقوف مع من استوقفه والمزاح بالحق مع الصغير والكبير أحيانا وإجابة الدعوة ولين الجانب حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبا أو مستحبا أو مباحا يعين عليهما
قوله فطائفة بسطت رحمة للخلق يباسطونهم ويلابسونهم فيستضيئون بنورهم والحقائق مجموعة والسرائر مصونة

جعل الله انبساطهم مع الخلق رحمة لهم كما قال تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فالرب سبحانه بسط هؤلاء مع خلقه ليقتدى بهم السالك ويهتدي بهم الحيران ويشفى بهم العليل ويستضاء بنور هدايتهم ونصحهم ومعرفتهم في ظلمات دياجي الطبع والهوى فالسالكون يقتدون بهم إذا سكتوا وينتفعون بكلماتهم إذا نطقوا فإن حركاتهم وسكونهم لما كانت بالله ولله وعلى أمر الله جذبت قلوب الصادقين إليهم وهذا النور الذي أضاء على الناس منهم هو نور العلم والمعرفة
والعلماء ثلاثة عالم استنار بنوره واستنار به الناس فهذا من خلفاء الرسل وورثة الأنبياء وعالم استنار بنوره ولم يستنر به غيره فهذا إن لم يفرط كان نفعه قاصرا على نفسه فبينه وبين الأول ما بينهما وعالم لم يستنر بنوره ولا استنار به غيره فهذا علمه وبال عليه وبسطته للناس فتنة لهم وبسطة الأول رحمة لهم
قوله وتصميم والحقائق مجموعة والسرائر مصونة أي انبسطوا والحقائق التي في سرائرهم مجموعة في بواطنهم فالانبساط لم يشتت قلوبهم ولم يفرق هممهم ولم يحل عقد عزائمهم
قوله وسرائرهم مصونة مستورة لم يكشفوها لمن انبسطوا إليه وإن كان البسط يقتضي الإلف وإطلاع كل من المتباسطين على سر صاحبه فإياك ثم إياك أن تطلع من باسطته على سرك مع الله ولكن اجذبه وشوقه واحفظ وديعة الله عندك لا تعرضها للاسترجاع
قال وطائفة بسطت لقوة معاينتهم وتصميم مناظرهم لأنهم طائفة لا تخالج الشواهد مشهودهم ولا تضرب رياح الرسوم موجودهم فهم مبسوطون في قبضة القبض
إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها لأن ما قبلها لأرباب الأعمال وهذه

لأرباب الأحوال بسطت الأولى رحمة للخلق وبسطت هذه اختصاصا بالحق
وقوله لقوة معاينتهم إما أن يكون المعنى لقوة إدراك معاينتهم أو لقوة ظهور معاينتهم لبواطنهم أو لقوتها وبيانها في نفسها
والمعنى أنه لا يطمع البسط أن يحجبهم عن معاينة مطلوبهم لأن قوة المعاينة منعت وصول البسط إلى إزالتها وإضعافها
قوله وتصميم مناظرهم يعني ثبات مناظر قلوبهم وصحتها فليسوا ممن يحول بين نظر قلوبهم وبين ما تراه قتر من شك ولا غيم من ريب فاللطيفة الانسانية المدركة لحقيقة ما أخبروا به من الغيب صحيحة وهي شديدة التوجه إلى مشهودها فلم يقدر البسط على حجبها عن مشهودها
قوله لأنهم طائفة لا تخالج الشواهد مشهودهم أي لا تمازج الشواهد مشهودهم فيكون إدراكهم بالاستدلال بل مشهودهم حاضر لهم لم يدركوه بغيره فلا تخالط مشاهدتهم له شواهد من غيره والشواهد مثل الأمارات والعلامات
وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وبيان وتفصيل
فإن الله سبحانه أقام الشواهد عليه وملأ بها كتابه وهدى عباده إلى النظر فيها والاستدلال بها ولكن العارف إذا حصل له منها الدلالة ووصل منها إلى اليقين انطوى حكمها عن شهوده وسافر قلبه منها إلى المطلوب المدلول عليه بها ورآها كلها أثرا من آثار أسمائه وصفاته وأفعاله المشهود المدلول عليه بها معاينة للقلب والبصيرة للصانع إذا عاين صنعته فكأنه يرى الباني وهو يبني ما شاهده من البناء المحكم المتقن لأن الشواهد والأدلة تبطل ويبطل حكمها
فتأمل هذا الموضع فإنه قد غلط فيه فريقان فريق أساءوا الظن بمن طوى حكم الشواهد والأدلة ونسبوهم إلى ما نسبوهم إليه وفريق رأوا أن الشواهد نفس المشهود والدليل عين المدلول عليه ولكن كان في الابتداء شاهدا ودليلا وفي الانتهاء مشهودا ومدلولا

قوله ولا تضرب رياح الرسوم موجودهم شبه الرسوم بالرياح لأن معاني الصور الخلقية تمر على أهل الشهود الضعيف فتحرك بواطنهم بنوع من الشك والريب فهؤلاء الذين بسطهم الحق تعالى سالمون من ذلك
قوله فهم منبسطون في قبضة القبض أي هم في حال انبساطهم غير محجوبين عن معاني القبض بل هم مبسوطون بقبضه إياهم عن غيره فلا يتنافى في حقهم البسط والقبض بل قبضهم إليه في بسطهم وبسطهم به في قبضهم وجعل للقبض قبضة ترشيحا للاستعارة
قال وطائفة بسطت أعلاما على الطريق وأئمة للهدى ومصابيح للسالكين
إنما كانت هذه الفرقة أعلى من الفرقتين لأنها شاركتهما في درجتيهما واختصت عنهما بهذه الدرجة فاتصفت بما اتصفت به الأولى من الأعمال واتصفت بما اتصفت به الثانية من الأحوال وزادت عليهما بالنفع للسالكين والهداية للحائرين والإرشاد للطالبين فاهتدى بهم الحائر وسار بهم الواقف واستقام بهم الحاند وأقبل بهم المعرض وكمل بهم الناقص ورجع بهم الناكص وتقوى بهم الضعيف وتنبه على المقصود من هو في الطريق وهؤلاء هم خلفاء الرسل حقا وهم أولوا البصر واليقين فجمعوا بين البصيرة والبصر قال الله تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فنالوا إمامة الدين بالصبر واليقين

فصل قال صاحب المنازل باب السكر قال الله تعالى حاكيا عن موسى
كليمه رب أرني أنظر إليك
وجه استدلاله باشارة الآتية أن موسى لما استقر في قلبه وروحه وسمعه وبصره الاستلذاذ بكلام ربه له فحصل له من سماع ذلك الكلام وطيب

ذلك الخطاب ولذة ذلك التكليم ما يجل ويعظم ويكبر أن يسمى سكرا أو يشبه بالسكر جرى على لسانه أن طلب الرؤية له سبحانه في تلك الحال
قال السكر في هذا الباب اسم يشار به إلى سقوط التمالك في الطرب وهذا من مقامات المحبين خاصة فإن عيون الفناء لا تقبله ومنازل العلم لا تبلغه
قوله يشار به إلى سقوط التمالك يعني عدم الصبر تقول ما تمالكت أن أفعل كذا أي ما قدرت أن أصبر عنه فكأنه قال هو اسم لقوة الطرب الذي لا يدفعه الصبر
وهذا المعنى لم يعبر عنه في القرآن ولا في السنة ولا العارفون من السلف بالسكر أصلا وإنما ذلك من اصطلاح المتأخرين وهو بئس الاصطلاح فإن لفظ السكر والمسكر من الألفاظ المذمومة شرعا وعقلا وعامة ما يستعمل في السكر المذموم الذي يمقته الله ورسوله قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وعبر به سبحانه عن الهول الشديد الذي يحصل للناس عند قيام الساعة فقال تعالى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ويقال فلان أسكره حب الدنيا وكذلك يستعمل في سكر الهوى المذموم فأين أطلق الله سبحانه أو رسوله أو الصحابة أو أئمة الطريق المتقدمون على هذا المعنى الشريف الذي هو من أشرف أحوال محبيه وعابديه اسم السكر المستعمل في سكر الخمر وسكر الفواحش كما قال عن قوم لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فوصف بالسكر أرباب الفواحش وأرباب الشراب المسكر فلا يليق استعماله في أشرف الأحوال والمقامات ولا سيما في قسم الحقائق ولا يطلق على كليم الرحمن اسم

السكر في تلك الحال والاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة
وأيضا فمن المعلوم أن هذا الحال يحصل في الجنة عند رؤية الرب تعالى وسماع كلامه على أتم الوجوه ولا يسمى سكرا ونحن لا ننكر المعنى المشار إليه بهذا الاسم وإنما المنكر تسميته بهذا الاسم ولا سيما إذا انضاف إلى ذلك اسم الشراب أو تسمية المعارف بالخمر والواردات بالكؤوس والله جل جلاله بالساقي فهذه الاستعارات والتسمية هي التي فتحت هذا الباب
وأما قوله وهو من مقامات المحبين خاصة فلا بد من بيان حقيقة السكر وسببه وتولده وهل هو مقدور أو غير مقدور وبيان انقسامه باعتبار ذاته وأسبابه ومحله لتكون الفائدة بذلك أتم
فنقول وبالله التوفيق السكر لذة ونشوة يغيب معها العقل الذي يحصل به التمييز فلا يعلم صاحبه ما يقول قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فجعل الغاية التي يزول بها حكم السكر أن يعلم ما يقول فإذا علم ما يقول خرج عن حد السمر قال الإمام أحمد السكران من لم يعرف ثوبه من ثوب غيره ونعله من نعل غيره ويذكر عن الشافعي أنه قال إذا اختلط كلامه المنظوم وأفشى سره المكتوم
فالسكر يجمع معنيين وجود لذة وعدم تمييز وقاصد السكر قد يقصدهما جميعا وقد يقصد أحدهما فإن النفس لها هوى وشهوات تلتذ بإدراكها والعلم بما في تلك اللذات من المفاسد العاجلة والآجلة يمنعها من تناولها والعقل يأمرها بأن لا تفعل فإذا زال العلم الكاشف المميز والعقل الآمر الناهي انبسطت النفس في هواها وصادفت مجالا واسعا
وحرم الله سبحانه السكر لشيئين ذكرهما في كتابه وهما إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وذلك يتضمن حصول المفسدة الناشئة من النفوس بواسطة زوال العقل وانتفاء المصلحة التي لا تتم

إلا بالعقل وإيقاع العداوة من الأول والصد عن ذكر الله من الثاني
وقد يكون سبب السكر غير تناول المسكر إما ألم شديد يغيب به العقل حتى يكون كالسكران وقد يكون سببه مخوف عظيم هجم عليه وهلة واحدة حتى يغيب عقل من هجم عليه ومن هذا قوله تعالى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد فهم سكارى من الدهش والخوف وليسوا بسكارى من الشراب فسكرهم سكر خوف ودهش لا سكر لذة وطرب
وقد يكون سببه قوة الفرح بإدراك المحبوب بحيث يختلط كلامه وتتغير أفعاله بحيث يزول عقله ويعربد أعظم من عربدة شارب الخمر وربما قتله سكر هذا الفرح لسبب طبيعي وهو انبساط دم القلب وهلة واحدة انبساطا غير معتاد والدم حامل الحار الغريزي فيبرد القلب بسبب انبساط الدم عنه فيحدث الموت ومن هذا قول سكران الفرح بوجد راحلته في المفازة بعد أن استشعر الموت اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة فرحه وسكرة الفرح فوق سكرة الشراب فصور في نفسك حال فقير معدم عاشق للدنيا أشد العشق ظفر بكنز عظيم فاستولى عليه آمنا مطمئنا كيف تكون سكرته أو من غاب عنه غلامه بمال له عظيم مدة سنين حتى أضر به العدم فقدم عليه من غير انتظار له بماله كله وقد كسب أضعافه
وقد يوجبه غضب شديد يحول بين الغضبان وبين تمييزه بل قد يكون سكر الغضب أقوى من سكر الطرب ولهذا قال النبي لا يقض القاضي بين اثنين وهو غضبان ولا يستريب من شم رائحة الفقه أن الغضب إذا وصل بصاحبه إلى هذه الحال فطلق لم يقع طلاقه وقد نص الإمام أحمد على أن الإغلاق الذي قال فيه النبي لا طلاق ولا عتاق في إغلاق أنه الغضب وقال أبو داود أظنه الغضب والشافعي سمى نذر اللجاج والغضب نذر الغلق وذلك لأن الغضبان قد انغلق عليه باب

القصد والتمييز بشدة غضبه وإذا كان الإكراه غلقا فالغضب الشديد أولى أن يكون غلقا وكذلك السكر غلق والجنون غلق فالغلق والإغلاق أيضا كلمة جامعة لمن انغلق عليه باب القصد والتمييز بسبب من الأسباب وقد أشبعنا الكلام في هذا في كتابنا المسمى إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان

فصل ومن أسباب السكر حب الصور وغيرها سواء كانت مباحة أو محرمة فإن
الحب إذا استحكم وقوي أسكر صاحبه وهذا مشهور في أشعارهم وكلامهم كما قال الشاعر
سكران سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقة من به سكران
وقال آخر من أبيات
تسقيك من عينها خمرا ومن يدها ... خمرا فما لك من سكرين من بد
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
وفي المسند عن النبي حبك الشيء يعمي ويصم أي يعمي عن رؤية مساوئ المحبوب ويصم عن سماع العذل واللوم فيه وإذا تمكن واستمكن أعمي قلبه وأصمه بالكلية وهذا أبلغ من السكر فإذا انضم إلى سكر المحبة فرحة الوصال قوي السكر وتضاعف فيخرج صاحبه عن حكم العقل وهو لا يشعر وأكثر ما ترى من عربدة العاشق وتخليطه هو من هذا السكر ولكن لما ألف الناس ذلك واشتركوا فيه لم ينكروه وإنما ينكره من كان خارجا عنه فإذا أفاقوا بين الأموات علموا أنهم حينئذ كانوا في سكرتهم يعمهون
فصل ومن أقوى أسباب السكر الموجبة له سماع الأصوات المطربة لا سيما
إن كانت من صورة مستحسنة وصادفت محلا قابلا فلا تسأل عن سكر السامع
وهذا السكر يحدث عندها من جهتين

إحداهما أنها في نفسها توجب لذة قوية ينغمر معها العقل
الثانية أنها تحرك النفس إلى نحو محبوبها وجهته كائنا ما كان فيحصل بتلك الحركة والشوق والطلب مع التخيل للمحبوب وإحضاره في النفس وإدناء صورته إلى القلب واستيلائها على الفكر لذة عظيمة تقهر العقل فتجتمع لذة الألحان ولذة الأشجان فتسكر الروح سكرا عجيبا أقوى وألذ من سكر الشراب وتحصل به نشوة ألذ من نشوة الشراب
ومن ههنا استشهد الشيخ على السكر بقول موسى عليه السلام لما سمع كلام الرب جل جلاله رب أرني أنظر إليك وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أن الله سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة لداود مجدني بذلك الصوت الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول يا رب كيف وقد أذهبته المعصية فيقول الله تعالى أنا أرده عليك فيقوم عند ساق العرش فيمجده فإذا سمع أهل الجنة صوته استفرغ نعيم أهل الجنة وأعظم من ذلك إذا سمعوا كلام الرب جل جلاله وخطابه لهم منه إليهم بلا واسطة وقد ذكر عبد الله بن أحمد في كتاب السنة أثرا في ذلك كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن إذا سمعوه من الرحمن جل جلاله
فإذا انضاف إلى ذلك رؤيتهم وجهه الكريم الذي تغنيهم لذة رؤيته عن الجنة ونعيمها فأمر لا تدركه العبارة ولا قليلا من كثير فهذا صوت لا يلج كل أذن وصيب لا تحيا به كل أرض وعين لا يشرب منها كل وارد وسماع لا يطرب عليه كل سامع ومائدة لا يجلس عليها طفيلي
فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول
السكر سببه اللذة القاهرة للعقل وسبب اللذة إدراك المحبوب فإذا كانت المحبة قوية وإدراك المحبوب قويا كانت اللذة بإدراكه تابعة لقوة هذين الأمرين فإذا كان العقل قويا مستحكما لم يتغير لذلك وإن كان ضعيفا

حدث السكر المخرج له عن حكمه فقد يضاف إلى قوة الوارد وقد يضاف إلى ضعف المحل وقد يجتمع الأمران
قال صاحب المنازل وعيون الفناء لا تقبله ومنازل العلم لا تبلغه
لما كان الفناء يفنى من العبد كل ما سوى مشهوده ويفني معاني كل شيء وكان السكر كما حده بأنه سقوط التمالك في الطرب كان في السكران بقية طرب بها وأحس بها بطربه بحيث لم يتمالك في الطرب والفناء يأبى ذلك فحقائقه لا تقبل السكر
والحاصل أن الفناء استغراق محض والسكر معه لذة وطرب لا يتمالك صاحبها ولا يقدر أن يفنى عنها
والمقصود أن السكر ليس من أعلى مقامات العارفين الواصلين لأن أعلى مقاماتهم هو الفناء عنده فمقامهم لا يقبل السكر
قوله ومنازل العلم لا تبلغه صحيح فإن علم المحبة والشوق والعشق شيء وحال المحبة شيء آخر والسكر لا ينشأ عن علم المحبة وإنما ينشأ عن حالها فكأنه يقول السكر صفة وحالة نقص لمن مقامه فوق مقام العلم ودون مقام الشهود والفناء وهو مختص بالمحبة لأن المحبة هي آخر منزلة يلتقي فيها مقدمة العامة وهم أهل طور العلم وساقة الخاصة وهم أهل طور الشهود والفناء فالبرزخ الحاصل بين المقامين هو مقام المحبة فاختص به السكر

فصل قال وللسكر ثلاث علامات الضيق عن الاشتغال بالخبر والتعظيم
قائم واقتحام لجة الشوق والتمكن دائم والغرق في بحر السرور والصبر هائم
يريد أن المحب تشغله شدة وجده بالمحبوب وحضور قلبه معه وذوبان جوارحه من شدة الحب عن سماع الخبر عنه وهذا الكلام ليس على إطلاقه فإن المحب الصادق أحب شيء إليه الخبر عن محبوبه وذكره كما قال عثمان

ابن عفان رضي الله عنه لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله وقال بعض العارفين كيف يشبعون من كلام محبوبهم وهو غاية مطلوبهم
والذي يريده الشيخ وأمثاله بهذا أن المحب الصادق يمتلئ قلبه بالمحبة فتكون هي الغالبة عليه فتحمله غلبتها وتمكنها على أن لا يغفل عن محبوبه ولا يشتغل قلبه بغيره ألبتة فيسمع من الفارغين ما ورد في حق المحبين ويسمع منهم أوصاف حبيبه والخبر عنه فلا يكاد يصبر على أن يسمع ذلك أبدا لضيق قلبه عن سماعه من قلب غافل وإلا فلو سمع هذا الخبر ممن هو شريكه في شجوه وأنيسه في طريقه وصاحبه في سفره لما ضاق عنه بل لاتسع له غاية الاتساع فهذا وجه
ووجه ثان وهو أن السكران بالمحبة قد امتلأ قلبه بمشاهدة المحبوب فاجتمعت قوى قلبه وهمه وإرادته عليه ومعاني الخبر فيها كثرة وانتقال من معنى إلى معنى فقلبه يضيق في هذه الحال عنها حتى إذا صحا اتسع قلبه لها
قوله والتعظيم قائم أي ضيق قلبه عن اشتغاله بالخبر ليس اطراحا له ورغبة عنه وكيف وهو خبر عن محبوبه واردا منه بل لضيقه في تلك الحال عن الاشتغال به وتعظيمه قائم في قلبه فهو مشغول بوجده وحاله عما يفرقه عنه وهذا يحسن إذا كان المشتغل به أحب إلى حبيبه من المشتغل عنه فأما إذا كان ما أعرض عنه أحب إلى الحبيب مما اشتغل به فشرع المحبة يوجب عليه إيثار أعظم المحبوبين إلى حبيبه وإلا كان مع نفسه ووجده ولذته
قوله واقتحام لجة الشوق والتمكن دائم اقتحام لجة الشوق وهو ركوب بحره وتوسطه لا الدخول في حاشيته وطرفه والتمكن المشار إليه هو لزوم أحكام العلم من العمل به ولزوم أحكام الورع والقيام بالأوراد الشرعية فلزوم ذلك دوامه علامة صحة الشوق
قوله والغرق في بحر السرور والصبر هائم أي يكون المحب غريقا في بحر

السرور ولا يفارقه السرور حتى كأنه بحر قد غرق فيه فكما أن الغريق لا يفارقه الماء كذلك المحب لا يفارقه السرور ومن ذاق مقام المحبة عرف صحة ما يقوله الشيخ فإن نعيم المحبة في الدنيا رقيقة ولطيفة من نعيم الجنة في الآخرة بل هو جنة الدنيا فما طابت الدنيا إلا بمعرفة الله ومحبته ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته فنعيم المحب دائم وإن مزج بالآلام أحيانا فلو عرف المشغولون بغير الحق سبحانه ما فيه أهل محبته وذكره ومعرفته من النعيم لتقطعت قلوبهم حسرات ولعلموا أن الذي حصلوه لا نسبة له إلى ما ضيعوه وحرموه كما قيل
ولا خير في الدنيا ولا في نعيمها ... وأنت وحيد مفرد غير عاشق
وقال الآخر
وما الناس إلا العاشقون ذوو الهوى ... ولا خير فيمن لا يحب ويعشق
وقال الآخر
هل العيش إلا أن تروح وتغتدي ... وأنت بكأس العشق في الناس نشوان
وقال الآخر
وما تلفت إلا من العشق مهجتي ... وهل طاب عيش لامرئ غير عاشق
وقال الآخر
وما سرني أني خلي من الهوى ... ولو أن لي ما بين شرق ومغرب
وقال الآخر
ولا خير في الدنيا بغير صبابة ... ولا في نعيم ليس فيه حبيب
وقال الآخر
وما طابت الدنيا بغير محبة ... وأي نعيم لامرئ غير عاشق
وقال الآخر
أسكن إلى سكن تلذ بحبه ... ذهب الزمان وأنت منفرد به

وقال الآخر
إذا لم تذق في هذه الدار صبوة ... فموتك فيها والحياة سواء
وقال الآخر
وما ذاق طعم العيش من لم يكن له ... حبيب إليك يطمئن ويسكن
وقال الآخر
ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر ... حبيبا ولا وافى إليه حبيب
قال الآخر
يزور فتنجلي عني هموم ... لأن جلاء حزني في يديه
ويمضي بالمسرة حين يمضي ... لأن حوالتي فيها عليه
قال أبو المنجاب رأيت في الطواف فتى نحيف الجسم بين الضعف يلوذ ويتعوذ وينشد
وودت بأن الحب يجمع كله ... فيقذف في قلبي وينغلق الصدر
ولا ينقضي ما في فؤادي من الهوى ... ومن فرحي بالحب أو ينقضي العمر
والأخبار في المحبين وأشعارهم في ذلك أكثر من أن تحصى هذا وكل منهم معذب بمحبوبه سوى الحق سبحانه ولو ظفر بوصاله فما الظن بمن قصر حبه على الحبيب الأول وكلما دعته نفسه إلى محبة غيره تمثل بقول القائل
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
قوله والصبر هائم أن يكون غريقا في سروره بالمحبة وصبره مفقود والهيمان هو التشتت والحيرة
قوله وما سوى هذا فحيرة تنحل اسم السكر جهلا أو هيمانا يسمى باسمه جورا يقول وما سوى ما ذكرناه من العلامات الثلاث وإن كان من المحبة إلا أنه لا ينبغي أن يسمى سكرا مثل الحياة فإنها تعطي اسم السكر عند الجهال ومثل الهيمان فإنه يسميه من لا يعرف السكر سكرا وذلك جور وخروج عن التحقيق وعدول عن الصواب

قوله وما سوى ذلك فكله يناقض البصائر كسكر الحرص وسكر الجهل وسكر الشهوة أي هذه الأنواع من السكر أنواع مذمومة تناقض البصائر فسكر الحرص ينشأ من شدة الرغبة في الدنيا وعدم الزهد فيها والحريص عليها سكران في صورة صاح وكذلك سكر الجهل فإن الجهل جهلان جهل العلم وجهل العمل فإذا تحكم الجهلان فلا تسأل عن سكر صاحبهما وكذلك سكر الشهوة فإن لها سكرا أشد من سكر الخمر وكذلك سكر الغضب وسكر الفرح وكذلك سكر السلطان والرئاسة فإن للرئاسة سكرا وعربدة لا تخفى وكذلك الشباب له سكرة قوية وهي شبعه من الجنون وكذلك الخوف له سكرة تحول بين الخائف وبين حكم العقل
سكرات خمس إذا مني المر ... ء بها صار ضحكة للزمان
سكرة الحرص والحداثة والعش ... ق وسكر الشراب والسلطان
وآخر ذلك سكرة الموت التي تأتي بالحق هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون

فصل قال صاحب المنازل باب الصحو قال الله تعالى حتى إذا فزع
عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير
وجه استدلاله بإشارة الآية أن الله سبحانه إذا تكلم بالوحي صعقت الملائكة وأخذهم شبه الغشي من تكلم الرب جل جلاله فإذا كشف الفزع عن قلوبهم وخلي عنها وأفاقوا من ذلك الغشي قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فيستخبر كل أهل سماء من يليهم حتى ينتهي الأمر إلى أهل السماء السابعة فيسألون جبريل يا جبريل ماذا قال ربنا فيقول قال الحق وهو العلي الكبير
قال الصحو فوق السكر وهو يناسب مقام البسط والصحو مقام

صاعد عن الانتظار مغن عن الطلب طاهر من الحرج فإن السكر إنما هو في الحق والصحو إنما هو بالحق كل ما كان في عين الحق لم يخل من حيرة لا حيرة الشبهة بل حيرة مشاهدة نور العزة وما كان بالحق لم يخل من صحة ولم تحف عليه نقيصة ولم تتعاوره علة
والصحو من منازل الحياة وأودية الجمع ولوائح الوجود
قوله الصحو فوق السكر يعني أن السكر يكون في الانفصال والصحو في الاتصال وأيضا فالسكر فناء والصحو بقاء
وأيضا فالسكر غيبة والصحو حضور وأيضا فالسكر غلبة والصحو تمكن وأيضا فالسكر كالنوم والصحو كاليقظة
وبعضهم يفضل مقام السكر على مقام الصحو ويقول لولا البقية التي بقيت فيه لما صحا وينشد متمثلا
ومهما بقي للصحو فيك بقية ... يجد نحوك اللاحي سبيلا إلى العذل
وهذا غلط محض لما ذكرنا نعم السكر فوق الصحو الفارغ والسكران بالمحبة خير من الصاحي منها والصاحي بها خير من السكران فيها
قوله وهو يناسب مقام البسط وجه المناسبة بينهما أن الانبساط لا يكون إلا مع الصحو وإلا فالسكر لا يحتمل الانبساط
قوله والصحو مقام صاعد عن الانتظار يعني انتظار الحضور فإن الصاحي متمكن في الحضور ولذلك أشبه مقامه مقام البسط فالصحو أعلى من أن يصحبه الانتظار لأن صاحبه قد اتصل فهو لا ينتظر الاتصال ولذلك قال مغن عن الطلب فإن الطالب إنما يطلب الوصول إلى مطلوبه وهذا قد اتصل فصحوه مغن له عن طلبه
وهذا الكلام ليس على إطلاقه فإن الطلب لا يفارق العبد ما دامت الحياة

تصحبه نعم صحوه مغن عن طلب حظ من حظوظه وأما طلب محاب محبوبه ومراضيه فهو أكمل ما يكون لها طلبا
فإن قيل إن مراد الشيخ أنه مغن عن التوجه والسلوك فإنه واصل والسالك لا يزال في الطريق
قلت العبد لا يزال في الطريق حتى يلحق الله تعالى قال الله تعالى واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهو الموت بإجماع أهل العلم كلهم قال الحسن لم يجعل الله لعباده المؤمنين أجلا دون الموت
وتقسيم أبناء الآخرة إلى طالب وسالك وواصل صحيح باعتبار فاسد باعتبار فكأنهم جعلوا السير إلى الله تعالى بمنزلة السير إلى بيته فالناس ثلاثة طالب للسفر ومسافر في الطريق وواصل إلى البيت
وهذا موضع زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام ولا بد من تحقيقه
فنقول وبالله التوفيق ومنه الاستمداد وهو المستعان
هذا المثال غير مطابق فإن الوصول إلى البيت هو غاية الطريق فإذا وصل فقد انقطعت طريقه وانتهى سفره وليس كذلك الوصول إلى الله فإن العبد إذا صل إلى الله جذبه سيره وقوى سفره فعلامة الوصول إلى الله الجد في السير والاجتهاد في السفر وهذا الموضع هو مفرق الطريقين بين الموحدين والملحدين فالملحد يقول السفر وسيئته والاشتغال بالوسيلة بعد الوصول إلى الغاية بطالة ومتى وصل العبد سقطت عنه أحكام السفر وصار كما قيل
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
ودعي بعض هؤلاء إلى الصلاة وقد أقيمت فقال
يطالب بالأولاد من كان غافلا ... فكيف بقلب كل أوقاته ورد
وقيل لملحد آخر منهم ألا تصلي فقال أنتم مع أورادكم ونحن مع وارداتنا وهؤلاء هم الذين صاح بهم أئمة الطريق وأخرجوهم من دائرة

الإسلام وقال بعضهم نعم وصلوا ولكن إلى الشيطان لا إلى الرحمن وقال آخر وصلوا ولكن إلى سقر
فكل واصل إلى الله فهو طالب له وسالك في طريق مرضاته
نعم بداية الأمر الطلب وتوسطه السلوك ونهايته الوصول وسيأتي بيان حقيقة الوصول الذي يشير إليه القوم في الباب الذي يلي هذا إن شاء الله تعالى
والمقصود أن قوله مغن عن الطلب كلام يحتاج إلى تأويل وحمل على معنى يصح فإما أن يحمل على أنه مغن عن تكلف الطلب فلا يريد هذا على هذا المعنى
وإما أن يحمل على أنه مغن عن رؤيته وهذا أقرب ولكن لا يريده
وإما أن يحمل على أنه قد وصل إلى مشاهدة الأولية حيث تنطوي الأكوان والأسباب ولا يبقى للطلب تأثير ألبتة فإنه من عين الجود وحصول المطلوب لم يكن موقوفا عليه ولا به وإنما هو ممن وجود كل شيء به وحده فهو الموجد والمعد والممد وبيده الأسباب وسببيتها وقواها وموانعها ومعارضها فالأمر كله له وبه ومصيره إليه فهذا معنى صحيح في نفسه ولكن صاحب هذا المقام لا يستغنى عن الطلب
قوله طاهر من الحرج أي خال منه لا حرج عليه لأنه قائم بوظائف العبودية في سكره وصحوه
قوله فإن السكر إنما هو في الحق والصحو إنما هو بالحق
يريد أن السكر إنما هو في محبته والشوق إليه فقلبه مستغرق في الحب والصحو إنما هو بالحق أي بوجوده وهذا كلام يحتاج إلى شرح وبيان وعبارة وافية فنقول والله المستعان
المحب له حالتان حالة استغراق في محبة محبوبه كاستغراق صاحب السكر في سكره وذلك عند استغراقه في شهود جماله وكماله فلا يبقىفيه متسع لسواه

ولا فضل لغيره فإذا رآه من لم يعرف حاله ظنه سكرا فهذا استغراق في محبوبه وصفاته ونعوته
الحالة الثانية حالة صحو يفيق فيها على عبوديته والقيام بمرضاته كالمسارعة إلى محابه فهو في هذا الحال به أي متصرف في أوامره ومحابه به ليس غائبا عنه بأوامره ولا غائبا به عن أوامره فلا يشغله واجب أوامر وحقوقه عن واجب محبته والإنابة إليه والرضى به ولا يشغله واجب حبه عن أوامره بل هو مقتد بإمام الحنفاء إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه فإنه كان في أعلى مقامات المحبة وهي الخلة ولم يشغله ذلك عن القيام بخصال الفطرة من الختان وقص الشارب وتقليم الأظافر فضلا عما هو فوق ذلك فوفى المقامين حقهما ولهذا أثنى الله عليه بذلك فقال وإبراهيم الذي وفى
قوله وكلما كان في عين الحق لم يخل من حيرة
يريد بذلك تفضيل مقام الصحو على مقام السكر ورفعه عليه وأن السكر لما كان في عين الحق كان مستلزما لنوع من الحيرة ثم استدرك فقال لا حيرة الشبهة فإنها تنافي أصل عقد الإيمان ولكن حيرة المشاهدة أنوار العزة وهي دهشة تعتري الشاهد لأمر عظيم جدا لا عهد له بمثله بخلاف مقام الصحو فإنه لقوته وثباته وتمكنه لا يعرض له ذلك
وحاصل كلامه أن من كان ناظرا في عين الحقيقة لزمته الحيرة وهي حيرة مشاهدة أنوار العزة لا حيرة من ضل عن طريق مقصوده فإن الشبهة هي اشتباه الطريق على السالك بحيث لا يدري أعلى حق هو أم على باطل وقد تقدم بيان أن مشاهدة نور الذات المقدسة في هذه الدار محال فلا نعيده
قوله وما كان بالحق لم يخل من صحة ولم تحف عليه نقيصة ولم تتعاوره علة هذا تقرير منه لرفع مقام الصحو على مقام السكر فإنه لما كان بالله كان محفوظا محروسا من النفس والشيطان اللذين هما مصدر كل باطل وهذا

الحفظ هو معنى قوله فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فأين الباطل ههنا ثم قال فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي \ ح \ تحقيقا لحفظ سمعه وبصره وبطشه ومشيه
قوله ولم تتعاوره علة التعاور الاختلاف أي لم تتخالف عليه العلل والعلل ملاحظة الأغيار وطاعة القلب للسوى وإجابته لداعيه
قوله والصحو من منازل الحياة وأودية الجمع ولوائح الوجود هذا تقرير أيضا لرفع مقامه على مقام السكر وقد تقدم ذكر الحياة ومراتبها وأقسامها
والمناسبة بين الصحو والحياة أن الحياة هي المصححة لجميع المقامات والأحوال فهي التي ترمي على جميعها كما ترمي الأودية أمواهها على البحار
قوله وأودية الجمع الجمع يراد به جمع الوجود وجمع الشهود وجمع الارادة فالأول جمع أهل الالحاد الاتحادية والثاني جمع أهل الفناء والثالث جمع الرسل وورثتهم كما سيأتي تفصيل ذلك في باب الجمع إن شاء الله تعالى فالصحو من أودية الجمع العالي لا النازل ولا المتوسط
قوله ولوائح الوجود اللوائح جمع لائحة وهي ما يلوح لك كالبرق وغيره وسيأتي الكلام على الوجود الذي الصحو من لوائحه في بابه إن شاء الله تعالى

فصل قال صاحب المنازل باب الاتصال قال الله تعالى ثم دنى فتدلى
فكان قاب قوسين أو أدني آيس العقول فقطع البحث بقوله أو أدنى
كأن الشيخ فهم من الآية أن الذي دنى فتدلى فكان من محمد قاب قوسين أو أدنى هو الله عز و جل وهذا وإن قاله جماعة من المفسرين فالصحيح أن ذلك هو جبريل عليه الصلاة و السلام فهو الموصوف

بما ذكر من أول السورة إلى قوله ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هكذا فسره النبي في الحديث الصحيح قالت عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله عن هذه الآية فقال جبريل لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ولفظ القرآن لا يدل على ذاك غير ذلك من وجوه
أحدها أنه قال علمه شديد القوى وهذا جبريل الذي وصفه الله بالقوة في سورة التكوير فقال إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين
الثاني أنه قال ذو مرة أي حسن الخلق وهو الكريم المذكور في التكوير
الثالث أنه قال فاستوى وهو بالأفق الأعلى وهو ناحية السماء العليا وهذا استواء جبريل بالأفق الأعلى وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه
الرابع أنه قال ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فهذا دنو جبريل وتدليه إلى الأرض حيث كان رسول الله وأما الدنو والتدلي في حديث المعراج فرسول الله كان فوق السموات فهناك دنى الجبار جل جلاله منه وتدلى فالدنو والتدلي في الحديث غير الدنو والتدلي في الآية وإن اتفقا في اللفظ
الخامس أنه قال ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة

المنتهى والمرئي عند السدرة هو جبريل قطعا وبهذا فسره النبي فقال لعائشة ذاك جبريل
السادس أن مفسر الضمير في قوله ولقد رآه وفي قوله ثم دنى فتدلى وفي قوله فاستوى وفي قوله وهو بالأفق الأعلى واحد فلا يجوز أن يخالف بين المفسر والمفسر من غير دليل
السابع أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين الملكي والبشري ونزه البشرى عن الضلال والغواية ونزه الملكي عن أن يكون شيطانا قبيحا ضعيفا بل هو قوي كريم حسن الخلق وهذا نظير الوصف المذكور في سورة التكوير سواء
الثامن أنه أخبر هناك أنه رآه بالأفق المبين وههنا أخبر أنه رآه بالأفق الأعلى وهو واحد وصف بصفتين فهو مبين وهو أعلى فإن الشيء كلما علا بان ظهر
التاسع أنه قال ذو مرة والمرة الخلق الحسن المحكم فأخبر عن حسن خلق الذي علم النبي ثم ساق الخبر كله عنه نسقا واحدا
العاشر أنه لو كان خبرا عن الرب تعالى لكان القرآن قد دل على أن رسول الله رأى ربه سبحانه مرتين مرة بالأفق ومرة عند السدرة ومعلوم أن الأمر لو كان كذلك لم يقل النبي لأبي ذر وقد سأله هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه فكيف يخبر القرآن أنه رآه مرتين ثم يقول رسول الله أنى أراه وهذا أبلغ من قوله لم أره لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط وهذا يتضمن النفي وطرفا من الإنكار على السائل كما إذا قال لرجل هل كان كيت وكيت فيقول كيف يكون ذلك
الحادي عشر أنه لم يتقدم للرب جل جلاله ذكر يعود الضمير عليه في

قوله ثم دنى فتدلى والذي يعود الضمير عليه لا يصلح له وإنما هو لعبده
الثاني عشر أنه كيف يعود الضمير إلى ما لم يذكر ويترك عوده إلى المذكور مع كونه أولى به
الثالث عشر أنه قد تقدم ذكر صاحبكم وأعاد عليه الضمائر التي تليق به ثم ذكر بعده شديد القوى ذا المرة وأعاد عليه الضمائر التي تليق به والخبر كله عن هذين المفسرين وهما الرسول الملكي والرسول البشري
الرابع عشر أنه سبحانه أخبر أن هذا الذي دنى فتدلى كان بالأفق الأعلى وهو أفق السماء بل هو تحتها قد دنى من رسول رب العالمين ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك كان من فوق العرش لا إلى الأرض
الخامس عشر أنهم لم يماروه صلوات الله وسلامه عليه على رؤية ربه ولا أخبرهم بها لتقع مماراتهم له عليها وإنما ماروه على رؤية ما أخبرهم من الآيات التي أراه الله إياها ولو أخبرهم الرب تعالى لكانت مماراتهم له عليها أعظم من مماراتهم على رؤية المخلوقات
السادس عشر أنه سبحانه قرر صحة ما رآه الرسول وأن مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله لقد رأى من آيات ربه الكبرى فلو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى والمماراة على ذلك منهم لكان تقرير تلك الرؤية أولى والمقام إليها أحوج والله أعلم
قوله آيس العقول بقوله أو أدنى يعني أن العقول لا تقدر أن تثبت على معرفة اتصال هو أدنى من قاب قوسين وهذا بناء على ما فهمه من الآية وإلا فالعقول غير آيسة من دنو رسوله الملكي من رسوله البشري حتى صار في القرب منه قاب قوسين أو أدنى من قوسين فإنه دنو عبد من عبد ومخلوق من مخلوق
يبقى أن يقال فما فائدة ذكر أو فيقال هي لتقرير المذكور قبلها

وأن القرب إن لم ينقص عن قدر قوسين لم يزد عليهما وهذا كقوله وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون والمعنى أنهم إن لم يزيدوا على المائة الألف لم ينقصوا عنها فهو تقرير لنصية عدد المائة الألف فتأمله
قال والاتصال ثلاث درجات الدرجة الأولى اتصال الاعتصام ثم اتصال الشهود ثم اتصال الوجود واتصال الاعتصام تصحيح القصد ثم تصفية الإرادة ثم الحال
أما القسمان الأولان وهما اتصال الاعتصام واتصال الشهود فلا إشكال فيهما فإنهما مقاما الإيمان والإحسان فاتصال الاعتصام مقام الإيمان واتصال الشهود مقام الإحسان
وعندي أنه ليس وراء ذلك مرمى وكل ما يذكر بعد ذلك من اتصال صحيح فهو من مقام الإحسان فاتصال الوجود لا حقيقة له ولكن لا بد من ذكر مراد الشيخ وأهل الاستقامة بهذا الاتصال ومراد أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود منه إذا انتهينا إلى ذكره إن شاء الله
فأما اتصال الاعتصام فقد قال الله تعالى واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير وقال تعالى ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم وقال تعالى إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله وقال واعتصموا بحبل الله جميعا فالاعتصام به نوعان اعتصام توكل واستعانة وتفويض ولجإ وعياذ وإسلام النفس إليه والاستسلام له سبحانه
والثاني اعتصام بوحيه وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم ومعقولاتهم وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم فمن لم يكن كذلك فهو منسل من هذا الاعتصام فالدين كله في الاعتصام به وبحبله علما وعملا وإخلاصا واستعانة ومتابعة واستمرارا على ذلك إلى يوم القيامة

قوله ثم اتصال الشهود وتقدم ذكر المشاهدة قريبا وبينا أن المشاهدة هي تحقق مقام الإحسان فالاتصال الأول اتصال العلم والعمل والثاني اتصال الحال والمعرفة
قوله ثم اتصال الوجود الوجود الظفر بحقيقة الشيء ومعاذ الله أن يريد الشيخ أن وجود العبد يتصل بوجود الرب فيصير الكل وجودا واحدا كما يظنه الملحد فإن كفر النصارى جزء يسير من هذا الكفر وهو أيضا كلام لا معنى له فإن العبد بل لا عبد في الحقيقة عندهم لم يزل كذلك ولو كان أفسق الخلق وأفجرهم فنفس وجوده متصل بوجود ربه بل هو عين وجوده بل لا رب عندهم ولا عبد
وإنما يريد الشيخ باتصال الوجود أن العبد يجد ربه بعد أن كان فاقدا له فهو بمنزلة من كان يطلب كنزا ولا وصول له إليه فظفر به بعد ذلك ووجده واستغنى به غاية الغنى فهذا اتصال الوجود كما في الأثر اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء
وهذا الوجود من العبد لربه يتنوع بحسب أحوال العبد ومقامه فإن التائب الصادق في توبته إذا تاب إليه وجده غفورا رحيما والمتوكل إذا صدق في التوكل عليه وجده حسيبا كافيا والداعي إذا صدق في الرغبة إليه وجده قريبا مجيبا والمحب إذا صدق في محبته وجده ودودا حبيبا والملهوف إذا صدق في الاستغاثة به وجده كاشفا للكرب مخلصا منه والمضطر إذا صدق في الاضطرار إليه وجده رحيما مغيثا والخائف إذا صدق في اللجإ إليه وجده مؤمنا من الخوف والراجي إذا صدق في الرجاء وجده عند ظنه به

فمحبه وطالبه ومريده الذي لا يبغي به بدلا ولا يرضى بسواه عوضا إذا صدق في محبته وإرادته وجده أيضا وجودا أخص من تلك الموجودات فإنه إذا كان المريد منه يجده فكيف بمريده ومحبه فيظفر هذا الواجد بنفسه وبربه
أما ظفره بنفسه فتصير منقادة له مطيعة له تابعة لمرضاته غير آبية ولا أمارة بل تصير خادمة له مملوكة بعد أن كانت مخدومة مالكة
وأما ظفره بربه فقربه منه وأنسه به وعمارة سره به وفرحه وسروره به أعظم فرح وسرور فهذا حقيقة اتصال الوجود والله المستعان
قوله فاتصال الاعتصام تصحيح القصد ثم تصفية الإرادة ثم تحقيق الحال
قلت تصحيح القصد يكون بشيئين إفراد المقصود وجمع الهم عليه وحقيقته توحيد القصد والمقصود فمتى انقسم قصده أو مقصوده لم يكن صحيحا وقد عبر عنه الشيخ فيما تقدم بأنه قصد يبعث على الارتياض ويخلص من التردد ويدعو إلى مجانبة الأعواض فالاتصال في هذه الدرجة بهذا القصد
وقوله ثم تصفية الإرادة هو تخليصها من الشوائب وتعيلقها بالسوى أو بالأعواض بل تكون إرادة صافية من ذلك كله بحيث تكون متعلقة بالله وبمراده الديني الشرعي كما تقدم بيانه
وقوله ثم تحقيق الحال أي يكون له حال محقق ثابت لا يكتفي بمجرد العلم حتى يصحبه العمل ولا بمجرد العمل حتى يصحبه الحال فتصير الإرادة والمحبة والإنابة والتوكل وحقائق الإيمان حالا لقلبه قد انصبغ قلبه بها بحيث لو تعطلت جوارحه كان قلبه في العمل والسير إلى الله وربما يكون عمل قلبه أقوى من عمل جوارحه
قوله الدرجة الثانية اتصال الشهود وهو الخلاص من الاعتلال والغنى عن الاستدلال وسقوط شتات الأسرار

الاعتلال هو العوائق والعلل والخلاص منها هو الصحة ولهذا كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها فإن الأولى اتصال بصحة القصود والأعمال وهذه اتصال برؤية من العمل له على تحقيق مشاهدته بالبصيرة فيتخلص العبد بذلك من علل الأعمال واستكثارها واستحسانها والسكون إليها
قوله والغنى عن الاستدلال أي هو مستغن بمشاهدة المدلول عليه عن طلب الدليل فإن طالب الدليل إنما يطلبه ليصل به إلى معرفة المدلول فإذا كان مشاهدا للمدلول فماله ولطلب الدليل
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
فكيف يحتاج إلى إقامة الدليل عليه من النهار بعض آياته الدالة عليه ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ولهذا خاطب الرسل قومهم خطاب من لا يشك في ربه ولا يرتاب في وجوده قالت لهم رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض
قوله وسقوط شتات الأسرار يعني أن الخلاص من الاعتلال والفناء باتصال الشهود عن الاستلال يسقطان عنه شتات الأسرار وهو تفرق باله وتشتت قلبه في الأكوان فإن اتصال شهوده يجمعه على المشهود كما أن دوام الذكر الذي تواطأ عليه القلب واللسان وشهود المذكور يجمعه عليه ويسقط شتاته فالشتات مصحوب الغيبة وسقوطه مصحوب الحضور والله المستعان
قوله الدرجة الثالثة اتصال الوجود وهذا الاتصال لا يدرك منه نعت ولا مقدار إلا اسم معار ولمح إليه مشار يقول لما يعهد في هذا النوع من الاتصال وكان أعز شيء وأغربه عن النفوس علما وحالا لم تف العبارة بكشفه فإن اللفظ لملوم والعبارة فتانة إما أن تزيغ إلى زيادة مفسدة أو نقص

مخل أو تعدل بالمعنى إلى غيره فيظن أنه هو الذي تمكن العبارة عنه من ذلك أنه غلبه نور القرب وتمكن المحبة وقوة الأنس وكمال المراقبة واستيلاء الذكر القلبي فيذهب العبد عن إدراكه بحاله لما قهره من هذه الأمور فيبقى بوجود آخر غير وجوده الطبيعي
وما أظنك تصدق بهذا وأنه يصير له وجود آخر وتقول هذا خيال ووهم فلا تعجل بانكار مالم تحط بعلمه فضلا عن ذوق حاله وأعط القوس باريها وخل المطايا وحاديها فلو أنصفت لعرفت أن الوجود الحاصل لمعذب مضيق عليه في أسوأ حال وأضيق سجن وأنكد عيش إذا فارق هذه الحال وصار إلى ملك هني واسع نافذة فيه كلمته مطاع أمره قد انقادت له الجيوش واجتمعت عليه الأمة فإن وجوده حينئذ غير الوجود الذي كان فيه وهذا تشبيه على التقريب وإلا فالأمر أعظم من ذلك وأعظم فلهذا قال لا يدرك منه نعت يطابقه ويحيط به فإن الأمور العظيمة جدا نعتها لا يكشف حقيقتها على ما هي عليه وليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء وإنما نذكر بعض لوازمها ومتعلقاتها فيدل بالمذكور على غيره
قوله ولا مقدار يريد مقدار الشرف والمنزلة كما تقول فلان كبير المقدار
قوله إلا اسم معار ولمح إليه يشار لما كان الاسم لا يبلغ الحقيقة ولا يطابقها فكأنه لغيرها وأعير إطلاقه عليها عارية وكذلك اللمح المشار هو الذي يشار به إشارة إلى الحقيقة
وبعد فالشيخ يدندن حول بحر الفناء وكأنه يقول صاحب هذا الاتصال قد فنى في الوجود بحيث صار نقطة انحل تعينها واضمحل تكونها ورجع عودها على بدئها ففني من لم يكن وبقي من لم يزل فهنالك طاحت الإشارات وذهبت العبارات وفنيت الرسوم وعنت الوجوه للحي القيوم

فصل قال صاحب المنازل باب الانفصال قال الله تعالى ويحذركم الله
نفسه ليس في المقامات شيء فيه من التفاوت ما في الانفصال
وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه المقرب المبعد فليحذر القريب من الإبعاد والمتصل من الانفصال فإن الحق جل جلاله غيور لا يرضى ممن عرفه ووجد حلاوة معرفته واتصل قلبه بمحبته والأنس به وتعلقت روحه بإرادة وجهه الأعلى أن يكون له التفات إلى غيره ألبتة
ومن غيرته سبحانه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والله سبحانه يغار أشد الغيرة على عبده أن يلتفت إلى سواه فإذا أذاقه حلاوة محبته ولذة الشوق إليه وأنس معرفته ثم ساكن غيره باعده من قربه وقطعه من وصله وأوحش سره وشتت قلبه ونغص عيشه وألبسه رداء الذل والصغار والهوان فنادى عليه حاله إن لم يصرح به قاله هذا جزاء من تعوض عن وليه وإلهه وفاطره ومن لا حياة له إلا به بغيره وآثر غيره عليه فاتخذ سواه له حبيبا ورضي بغيره أنيسا واتخذ سواه وليا قال الله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا
فإذا ضرب هذا القلب بسوط البعد والحجاب وسلط عليه من يسومه سوء العذاب وملئ من الهموم والغموم والأحزان وصار محلا للجيف والأقذار والأنتان وبدل بالأنس وحشة وبالعز ذلا وبالقناعة حرصا وبالقرب بعدا وطردا وبالجمع شتاتا وتفرقة كان هذا بعض جزائه فحينئذ تطرقه الطوارق والمؤلمات وتعتريه وفود الأحزان والهموم بعد وفود المسرات
قرأ قارئ بين يدي السرى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فقال السري تدرون ما هذا

الحجاب هو حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله فمن عرفه وذاق حلاوة قربه ومحبته ثم رجع عنه إلى مساكنة غيره ثبط جوارحه عن طاعته وعقل قلبه عن إرادته ومحبته وأخره عن محل قربه وولاه ما اختاره لنفسه
وقال بعضهم احذره فإنه غيور لا يحب أن يرى في قلب عبده سواه
ومن غيرته أن صفيه آدم لما ساكن بقلبه الجنة وحرص على الخلود فيها أخرجه منها ومن غيرته سبحانه أن إبراهيم خليله لما أخذ اسماعيل شعبة من قلبه أمره بذبحه حتى يخرج من قلبه ذلك المزاحم
إنما كان الشرك عنده ذنبا لا يغفر لتعلق قلب المشرك به وبغيره فكيف بمن تعلق قلبه كله بغيره وأعرض عنه بكليته
إذا أردت أن تعرف ما حل بك من بلاء الانفصال وذل الحجاب فانظر لمن استعبد قلبك واستخدم جوارحك وبمن شغل سرك وأين يبيت قلبك إذا أخذت مضجعك وإلى أين يطير إذا استيقظت من منامك فذلك هو معبودك وإلهك فإذا سمعت النداء يوم القيامة لينطلق كل واحد مع من كان يعبده انطلقت معه كائنا من كان
لا إله إلا الله ما أشد غبن من باع أطيب الحياة في هذه الدار المتصلة بالحياة الطيبة هناك والنعيم المقيم بالحياة المنغصة المنكدة المتصلة بالعذاب الأليم والمدة ساعة من نهار أو عشية أو ضحاها أو يوم أو بعض يوم فيه ربح الأبد أو خسارة الأبد
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويذهب هذا كله ويزول

فصل قال الشيخ ليس في المقامات شيء فيه من التفاوت ما في الانفصال
يعني أن بين درجات المقامات تناسب واختلاف يسير ومقام الانفصال قليل التناسب في درجاته كثير التفاوت كما سنذكره

قال ووجوهه ثلاثة أحدها انفصال هو شرط الاتصال وهو الانفصال عن الكونين بانفصال نظرك إليهما وانفصال توقفك عليهما وانفصال مبالاتك بهما
يعني أن انفصال العبد عن رسومه بالفناء هو شرط اتصال وجوده بالبقاء فلا ولاء لله ورسوله إلا بالبراء مما يضاد ذلك ويخالفه وقد قال إمام الحنفاء لقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني وقال الفتية وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فلم تعتزلوه
وهذه العبارة التي ذكرها الشيخ في بادي الرأي لا تخلو عن إنكار حتى يبين معناها والمراد بها فإن الكونين عبارة عن جميع ما خلقه الله في الدنيا والآخرة ويعبر عنهما بعالم الغيب وعالم الشهادة وفيهما الرسل والأنبياء والملائكة والأولياء فكيف ينفصل عنهم ولا ينظر إليهم ولا يقف بقلبه عليهم ولا يبالي بهم
فاعلم أن في لسان القوم من الاستعارات وإطلاق العام وإرادة الخاص وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف غيرهم ولهذا يقولون نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة والإشارة لنا والعبارة لغيرنا وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد ويريدون بها معنى لا فساد فيه وصار هذا سببا لفتنة طائفتين طائفة تعلقوا عليهم بظاهر عباراتهم فبدعوهم وضللوهم وطائفة نظروا إلى مقاصدهم ومغزاهم فصوبوا تلك

العبارات وصححوا تلك الإشارات فطالب الحق يقبله ممن كان ويرد ما خالفه على من كان
ومراد الشيخ وأهل الاستقامة أن النفس لما كانت مائلة إلى الملذوذات المحسوسة والمعنوية المشاهدة المعاينة كان النظر إليها والوقوف معها علة في الطريق والقصد جميعا وكان شاغلا لها عن النظر إلى المقصود وحده والوقوف معه دون غيره والالتفات إليه دون ما سواه فمتى قوي تعلق القلب بالمقصود الأعلى بحيث يشغله ذكره عن ذكر غيره وحبه عن حب غيره وخوفه عن خوف غيره ورجاؤه عن رجاء غيره وكان أنسه به خاصة انفصل عن ذكر غيره في حال شغله به سبحانه إذ ليس فيه اتساع لغيره فانفصل في هذه الحال نظره إلى الكونين وانفصل توقفه عليهما وانفصلت مبالاته بهما ضرا أو نفعا أو عطاء أو منعا وهذه الحال لا تدوم فإذا رجع إلى الكون بحكم طبيعته وأنه جزء من الكون ذكر الرسل والأنبياء والملائكة والأولياء بالتعظيم والاحترام وأحسن الذكر وذكر أعداءهم باللعن وأقبح الذكر فهذه وظيفته في هذه الحال وتلك وظيفته في ذلك المقام
والمقصود أنه انفصال شهود في الأحوال لا انفصال وجود ولا انفصال شهود دائما أبدا ولا تلتفت إلى غير هذا فإنه خيال وخبال ووهم لا نطيل الكتاب بذكره
قال الثاني انفصال عن رؤية الانفصال الذي ذكرناه وهو ان لا يتراءى عندك في شهود التحقيق شيء يوصل بالانفصال منهما إلى شيء
إنما كانت هذه الدرجة أعلى عنده مما قبلها من حيث كانت الأولى وسيلة إليها وكانت هذه غاية لها ومرتبة عليها فإن المنفصل من الكونين شغلا بالله عز و جل قد تسكن نفسه إلى مقامه من الأنفصال ويساكنه بسره وقلبه

ويغيب عنه أنه محض منة الله ومجرد عطائه فيحتاج إلى أن ينفصل عن رؤية انفصاله ويضيف ذلك إلى أهله ووليه المان به
وهذا التفصيل يتضمن التفاوت الذي أشار إليه الشيخ في أول الباب فإنه ذكر في الدرجة الأولى أن الانفصال شرط في الاتصال وقال ههنا لا يتراءى عندك في شهود التحقيق سبب يوصل بالانفصال منهما إلى شيء وهذا يناقض ما ذكره ولا يجتمع معنى كلاميه بل بينهما تفاوت التناقض فأين شرط حصول الشيء من شهود عدم كونه سببا وشرطا
والجواب عن هذا أن كون الشيء شرطا وسببا لحصول شيء لا يناقض أن يكون عدم رؤيته شرطا لحصول ذلك الشيء فيكون حصوله مشروطا بوجود ذلك الشيء في نفس الأمر وبعدم رؤية العبد له فتكون الرؤية مانعة وإيضاح ذلك ببيان كلامه
فقوله انفصال عن رؤية الانفصال يعني أن العبد يرى حالة الشهود أنه انفصل عن الكونين ثم اتصل بجناب العزة فيشهد اتصالا بعد انفصال وهذه الرؤية في التحقيق ليست صحيحة لأنه لم ينفصل عن الكونين أصلا لكنه توهم ذلك فإذا تبين أنه لم ينفصل عن الكونين فقد انفصل عن الانفصال المذكور لتحققه أنه لم يكن صحيحا
ثم بين كيف يصح له انفصاله عن انفصاله بقوله أن لا يتراءى أي أي لا يظهر لك شيء في شهود التحقيق يكون هو السبب الموجب للاتصال فكأنه قال أن تشهد التحقيق فيريك شهوده أنك ما انفصلت بنفسك عن شيء ولا اتصلت بنفسك بشيء بل الأمر كله بيد غيرك فهو الذي فصلك وهو الذي وصلك
وأما الملحد فيفسر كلامه بغير هذا ويقول إذا شهدت الحقيقة أرتك أنك ما انفصلت من شيء ولا اتصلت بشيء فإن تلك اثنينية تنافي الوحدة المطلقة

فانظر ما في الألفاظ المجملة الاصطلاحية من الاحتمال وكيف يجرها كل أحد إلى نحلته ومذهبه ولهذا يقول الملحد إنه ليس هناك اتصال ولا انفصال إنما هو في نظر العبد ووهمه فقط فإذا صار من أهل التحقيق علم بعد ذلك أنه لا انفصال ولا اتصال وينشد في هذا المعنى بيتا مشهورا لطائفة الاتحادية
فما فيك لي شيء لشيء موافق ... ولا منك لي شيء لشيء مخالف
قال الثالث انفصال عن الاتصال وهو انفصال عن شهود مزاحمة الاتصال عين السبق فإن الانفصال والاتصال على عظم تفاوتهما في الاسم والرسم في العلة سيان
الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها أن ما قبلها انفصال عن سكونه إلى انفصاله ورؤيته له وهو في هذه الدرجة انفصال عن رؤية اتصاله فيتجرد عن رؤية كونه متصلا فإن هذه الرؤية علة في الاتصال بل كمال الاتصال غيبته عن رؤية كونه متصلا لكمال استغراقه بما هو فيه من حقيقة الاتصال فيحصل من الدرجتين انفصاله عن الانفصال والاتصال معا
فههنا جال الملحد وصال وفتح فاه ناطقا بالإلحاد وقال هذا يدل على أن الانفصال والاتصال لا حقيقة لهما في نفس الأمر بل في نظر الناظر فلا حقيقة لهما في نفس الأمر لكن في وهم المكاشف فأين الاتصال والانفصال في العين الواحدة وإنما الوهم والخيال قد حكما على أكثر الخلق
وقد أعاذ الله الشيخ من أن يظن به هذا الإلحاد وإنما مراده ما ذكرناه
وقد كشف عن مراده بقوله وهو انفصال عن شهود مزاحمة الاتصال عين السبق أي ينفصل عن شهود مزاحمته لاتصاله عما سبق في الأزل من الأول الآخر سبحانه فإنه إذا لاحظ السبق وما تقرر فيه حيث لم يكن هو ولا شيء

من الأشياء لم يزاحم شهود اتصاله لشهود ما سبق له به الأزل بل اضمحل فعله وشهوده ووجوده إلى ذلك الوجود الأزلي بحيث كأنه لم يكن فإذا نسب فعله وصفاته ووجوده إلى ذلك الوجود اضمحل وتلاشى وصار كالظل والخيال للشخص
قوله فإن الاتصال والانفصال على عظم تفاوتهما في الاسم والرسم في العلة سيان
معناه أن معنى اسم الاتصال يضاد اسم الانفصال كما يضاد اسمه اسمه وهما متساويان في العلة أي رؤية الاتصال علة ورؤية الانفصال علة فتساويا من هذا الوجه وإن تضادا لفظا ومعنى والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال صاحب المنازل باب المعرفة قال الله تعالى وإذا سمعوا ما
أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق المعرفة إحاطة بعين الشيء كما هو
قلت وقع في القرآن لفظ المعرفة ولفظ العلم فلفظ المعرفة كقوله مما عرفوا من الحق وقوله الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وأما لفظ العلم فهو أوسع إطلاقا كقوله فاعلم أنه لا إله إلا الله وقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو الآية وقوله الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق وقوله وقل رب زدني علما وقوله افمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى وقوله قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وقوله وقال الذين أتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث وقوله وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا وقوله وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها

إلا العالمون وقوله قال الذي عنده علم من الكتاب وقوله اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها وقوله اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولوى وقوله واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وقوله فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وهذا كثير
واختار سبحانه لنفسه اسم العلم وما تصرف منه فوصف نفسه بأنه عالم وعليم وعلام وعلم ويعلم وأخبر أن له علما دون لفظ المعرفة في القرآن ومعلوم أن الاسم الذي اختاره الله لنفسه أكمل نوعه المشارك له في معناه
وإنما جاء لفظ المعرفة في القرآن في مؤمني أهل الكتاب خاصة كقوله ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون إلى قوله مما عرفوا من الحق وقوله الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وهذه الطائفة ترجح المعرفة على العلم جدا وكثير منهم لا يرفع بالعلم رأسا ويعده قاطعا وحجابا دون المعرفة وأهل الاستقامة منهم أشد الناس وصية للمريدين بالعلم وعندهم أنه لا يكون ولي لله كامل الولاية من غير أولي العلم أبدا فما اتخذ الله ولا يتخذ وليا جاهلا والجهل رأس كل بدعة وضلالة ونقص والعلم أصل كل خير وهدى وكمال

فصل والفرق بين العلم والمعرفة لفظا ومعنى أما اللفظ ففعل المعرفة

يقع على مفعول واحد تقول عرفت الدار وعرفت زيدا قال تعالى فعرفهم وهم له منكرون وقال يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
وفعل العلم يقتضي مفعولين كقوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات وإن وقع على مفعول واحد كان بمعنى المعرفة كقوله وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وأما الفرق المعنوي فمن وجوه
أحدها أن المعرفة تتعلق بذات الشيء والعلم يتعلق بأحواله فنقول عرفت أباك وعلمته صالحا عالما ولذلك جاء الأمر في القرآن بالعلم دون المعرفة كقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وقوله اعلموا أن الله شديد العقاب وقوله فاعلموا أنما أنزل بعلم الله
فالمعرفة حضور صورة الشيء ومثاله العلمي في النفس والعلم حضور أحواله وصفاته ونسبتها إليه فالمعرفة تشبه التصور والعلم يشبه التصديق
الثاني أن المعرفة في الغالب تكون لما غاب عن القلب بعد إدراكه فإذا أدركه قيل عرفه أو تكون لما وصف له بصفات قامت في نفسه فإذا رآه وعلم أنه الموصوف بها قيل عرفه قال الله تعالى ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم وقال تعالى وجاء أخوه يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم لما كانت صفاته معلومة عندهم فرأوه عرفوه بتلك الصفات وفي الحديث الصحيح إن الله تعالى يقول لآخر أهل الجنة دخولا أتعرف الزمان الذي كنت فيه فيقول نعم فيقول تمن فيتمنى على ربه وقال تعالى وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فالمعرفة تشبه الذكر للشيء وهو حضور ما كان غائبا عن الذكر ولهذا كان ضد المعرفة الإنكار وضد العلم الجهل قال تعالى يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ويقال عرف الحق فأقر به وعرفه فأنكره

الوجه الثالث من الفرق أن المعرفة تفيد تمييز المعروف عن غيره والعلم يفيد تمييز ما يوصف به عن غيره وهذا الفرق غير الأول فإن ذاك يرجع إلى إدراك الذات وإدراك صفاتها وهذا يرجع إلى تخليص الذات من غيرها وتخليص صفاتها من صفات غيرها
الفرق الرابع أنك إذا قلت علمت زيدا لم يفد المخاطب شيئا لأنه ينتظر بعد أن تخبره على أي حال علمته فإذا قلت كريما أو شجاعا حصلت له الفائدة وإذا قلت عرفت زيدا استفاد المخاطب أنك أثبته وميزته عن غيره ولم يبق منتظرا لشيء آخر وهذا الفرق في التحقيق إيضاح للفرق الذي قبله
الفرق الخامس وهو فرق العسكري في فروقه وفروق غيره أن المعرفة علم بعين الشيء مفصلا عما سواه بخلاف العلم فإنه قد يتعلق بالشيء مجملا وهذا يشبه فرق صاحب المنازل فإنه قال المعرفة إحاطة بعين الشيء كما هو وعلى هذا الحد فلا يتصور أن يعرف الله ألبتة ويستحيل عليه هذا الباب بالكلية فإن الله سبحانه لا يحاط به علما ولا معرفة ولا رؤية فهو أكبر من ذلك وأجل وأعظم قال تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما بل حقيقة هذا الحد انتفاء تعلق المعرفة بأكبر المخلوقات حتى بأظهرها وهو الشمس والقمر بل لا يصح أن يعرف أحد نفسه وذاته ألبتة
والفرق بين العلم والمعرفة عند أهل هذا الشأن أن المعرفة عندهم هي العلم الذي يقوم العالم بموجبه ومقتضاه فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده بل لا يصفون بالمعرفة إلا من كان عالما بالله وبالطريق الموصل إلى الله وبآفاتها وقواطعها وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة فالعارف عندهم من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وافعاله ثم صدق الله في معاملته ثم أخلص له في قصوده ونياته ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته ثم دعا إليه على بصيرة

بدينه وآياته ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله ولم يشبها بآراء الرجال وأذواقهم ومواجيدهم ومقاييسهم ومعقولاتهم ولم يزن بها ما جاء به الرسول عليه من الله أفضل صلواته فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة إذا سمى به غيره على الدعوى والاستعارة
وقد تكلموا على المعرفة بآثارها وشواهدها فقال بعضهم من إمارات المعرفة بالله حصول الهيبة منه فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته
وقال ايضا المعرفة توجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته
وقال لي بعض أصحابنا ما علامة المعرفة التي يشيرون إليها فقلت له أنس القلب بالله قال لي علامتها أن يحس بقرب قلبه من الله فيجده قريبا منه
وقال الشبلي ليس لعارف علاقة ولا لمحب شكوى ولا لعبد دعوى ولا لخائف قرار ولا لأحد من الله فرار
وهذا كلام جيد فإن المعرفة الصحيحة تقطع من القلب العلائق كلها وتعلقه بمعروفه فلا يبقى فيه علاقة بغيره ولا تمر به العلائق إلا وهي مجتازة لا تمر مرور استيطان
وقال أحمد بن عاصم من كان بالله أعرف كان له أخوف ويدل على هذا قوله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقول النبي أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية \ ح \
وقال آخر من عرف الله تعالى ضاقت عليه الدنيا بسعتها

وقال غيره من عرف الله تعالى اتسع عليه كل ضيق
ولا تنافي بين هذين الأمرين فإنه يضيق عليه كل مكان لا يساعد فيه على شأنه ومطلوبه ويتسع عليه ما ضاق على غيره لأنه ليس فيه ولا هو مساكن له بقلبه فقلبه غير محبوس فيه
والأول في بداية المعرفة والثاني في نهايتها التي يصل إليها العبد
وقال آخر من عرف الله تعالى صفا له العيش فطابت له الحياة وهابه كل شيء وذهب عنه خوف المخلوقين وأنس بالله
وقال غيره من عرف الله قرت عينه بالله وقرت عينه بالموت وقرت به كل عين ومن لم يعرف الله تقطع قلبه على الدنيا حسرات ومن عرف الله لم يبق له رغبة فيما سواه ومن ادعى معرفة الله وهو راغب في غيره كذبت رغبته معرفته ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به وخافه ورجاه وتوكل عليه وأناب إليه ولهج بذكره واشتاق إلى لقائه واستحيا منه وأجله وعظمه على قدر معرفته به وعلامة العارف أن يكون قلبه مرآة إذا نظر فيها الغيب الذي دعي إلى الإيمان به فعلى قدر جلاء تلك المرآة يتراءى له فيها الله سبحانه والدار الآخرة والجنة والنار والملائكة والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كما قيل
إذا سكن الغدير على صفاء ... وجنب أن يحركه النسيم
بدت فيه السماء بلا امتراء ... كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك قلوب أرباب التجلي ... يرى في صفوها الله العظيم
وهذه رؤية المثل الأعلى كما تقدم
ومن علامات المعرفة أن يبدو لك الشاهد وتفنى الشواهد وتنحل العلائق وتنقطع العوائق وتجلس بين يدي الرب تعالى وتقوم وتضطجع على التأهب للقائه كما يجلس الذي شد أحماله وأزمع السفر على التأهب له ويقوم على

ذلك ويضطجع عليه كما ينزل المسافر في المنزل فهو قائم وجالس ومضطجع على التأهب
وقيل للجنيد إن أقواما يدعون المعرفة يقولون إنهم يصلون بترك الحركات من باب البر والتقوى فقال الجنيد هذا قول أقوام تكلموا بإسقاط الأعمال وهو عندي عظيم والذي يسرق ويزني أحسن حالا من الذي يقول هذا إن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإلى الله رجعوا فيها ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بيني وبينها
ومن علامات العارف أنه لا يطالب ولا يخاصم ولا يعاتب ولا يرى له على أحد فضلا ولا يرى له على أحد حقا
ومن علاماته أنه لا يأسف على فائت ولا يفرح بآت لأنه ينظر إلى الأشياء بعين الفناء والزوال لأنها في الحقيقة كالظلال والخيال وقال الجنيد لا يكون العارف عارفا حتى يكون كالأرض يطؤها البر والفاجر وكالسحاب يظل كل شيء وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب وقال يحيى بن معاذ يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين بكاء على نفسه وثناء على ربه وهذا من أحسن الكلام فإنه يدل على معرفته بنفسه وعيوبه وآفاته وعلى معرفته بربه وكماله وجلاله فهو شديد الازراء على نفسه لهج بالثناء على ربه
وقال أبو يزيد إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم والوقوف مع ماله
يريد تضييع حظوظهم والوقوف مع حقوق الله سبحانه وتعالى فتغنيهم حقوقه عن حظوظهم
وقال آخر لا يكون العارف عارفا حتى لو أعطى ملك سليمان لم يشغله عن الله طرفة عين وهذا يحتاج إلى شرح فإن ما هو دون ذلك يشغل القلب لكن يكون اشتغاله بغير الله فذلك اشتغال به سبحانه لأنه إذا اشتغل بغيره لأجله لم يشتغل عنه

قال ابن عطاء المعرفة على ثلاثة أركان الهيبة والحياء والأنس وقيل لذي النون بم عرفت الله ربك قال عرفت ربي بربي ولولا ربي لما عرفت ربي وقيل لعبد الله بن المبارك بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فأنى عبد الله بأصل المعرفة التي لا يصح لأحد معرفة ولا إقرار بالله سبحانه إلا به وهو المباينة والعلو على العرش
ومن علامات العارف أن يعتزل الخلق بينه وبين الله حتى كأنهم أموات لا يملكون له ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا ويعتزل نفسه بينه وبين الخلق حتى يكون بينهم بلا نفس وهذا معنى قول من قال العارف يقطع الطريق بخطوتين خطوة عن نفسه وخطوة عن الخلق
وقيل العارف ابن وقته وهذا من أحسن الكلام وأخصره فهو مشغول بوظيفة وقته عما مضى وصار في العدم وعما لم يدخل بعد في الوجود فهمه عمارة وقته الذي هو مادة حياته الباقية
ومن علاماته أنه مستأنس بربه مستوحش ممن يقطعه عنه ولهذا قيل العارف من أنس بالله فأوحشه من الخلق وافتقر إلى الله فأغناه عنهم وذل لله فأعزه فيهم وتواضع لله فرفعه بينهم واستغنى بالله فأحوجهم إليه
وقيل العارف فوق ما يقول والعالم دون ما يقول يعني أن العالم علمه أوسع من حاله وصفته والعارف حاله وصفته فوق كلامه وخبره
وقال أبو سليمان الداراني إن الله تعالى يفتح للعارف على فراشه مالم يفتح له وهو قائم يصلي وقال غيره العارف تنطق المعرفة على قلبه وحاله وهو ساكت
وقال ذو النون لكل شيء عقوبة وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله
وقال بعضهم رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين وهذا كلام ظاهره منكر جدا يحتاج إلى شرح فالعارف لا يرائي المخلوق طلبا للمنزلة في قلبه وإنما يكون رؤياه نصيحة وإرشادا وتعليما ليقتدى به فهو يدعو إلى الله بعمله

كما يدعو إليه بقوله فهو ينتفع بعلمه وينفع به غيره وإخلاص المريد مقصور على نفسه فالعارف جمع بين الإخلاص والدعوة إلى الله فإخلاصه في قلبه وهو يظهر عمله وحاله ليقتدى به والعارف ينفع بسكوته والعالم إنما ينفع بكلامه ولو سكتوا أثنت عليك الحقائق
وقال ذو النون الزهاد ملوك الآخرة وهم فقراء العارفين وسئل الجنيد عن العارف فقال لون الماء لون إنائه وهذه كلمة رمز بها إلى حقيقة العبودية وهو أن يتلون بتلون أقسام العبودية فبينا تراه مصليا إذ رأيته ذاكرا أو قارئا أو معلما أو متعلما أو مجاهدا أو حاجا أو مساعدا للضيف أو مغيثا للملهوف فيضرب في كل غنيمة من الغنائم بسهم فهو مع المتسببين متسبب ومع المتعلمين متعلم ومع الغزاة غاز ومع المصلين مصل ومع المتصدقين متصدق فهو يتنقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية وهو مقيم على معبود واحد لا ينتقل إلى غيره
وقال يحيى بن معاذ العارف كائن بائن وهذا يفسر على وجوه
منها أنه كائن مع الخلق بظاهره بائن عنهم بسره وقلبه
ومنها أنه كائن بربه بائن عن نفسه
ومنها أنه كائن مع أبناء الآخرة بائن عن أبناء الدنيا
ومنها أنه كائن مع الله بموافقته بائن عن الناس في مخالفته
ومنها أنه داخل في الأشياء خارج منها فإن من الناس من هو داخل فيها لا يقدر على الخروج منها ومنهم من هو خارج عنها لا يقدر على الدخول فيها والعارف داخل فيها خارج منها ولعل هذا أحسن الوجوه
وقال ذو النون علامة العارف ثلاثة لا يطفئ نور معرفته نور ورعه ولا

يعتقد باطنا من العلم ينقضه عليه ظاهر من الحكم ولا تحمله كثرة نعم الله على هتك أستار محارم الله
وهذا من أحسن الكلام الذي قيل في المعرفة وهو محتاج إلى شرح فإن كثيرا من الناس يرى أن التورع عن الأشياء من قلة المعرفة فإن المعرفة متسعة الأكناف واسعة الأرجاء فالعارف واسع موسع والسعة تطفئ نور الورع فالعارف لا تنقص معرفته ورعه ولا يخالف ورعه معرفته كما قال بعضهم العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر فعنده أن مشاهدة القدر والحقيقة الكونية هو غاية المعرفة وإذا شاهد الحقيقة عذر الخليقة لأنهم مأسورون في قبضة القدر فمن يعذر أصحاب الكبائر والجرائم بل أرباب الكفر فهو أبعد خلق الله عن الورع بل ظلام معرفته قد أطفأ نور إيمانه
قوله باطن العلم الذي ينقضه ظاهر الحكم فإنه يشير به إلى ما عليه المنحرفون ممن ينسب إلى السلوك فإنهم يقع لهم أذواق ومواجيد وواردت تخالف الحكم الشرعي وتكون تلك معلومه لهم لا يمكنهم جحدها فيعتقدونها ويتركون بها ظاهر الحكم وهذا كثير جدا وهو الذي انتقد أئمة الطريق على هؤلاء وصاحوا بهم من كل ناحية وبدعوهم وضللوهم به
قوله ولا تحمله كثرة نعم الله على هتك أستار محارم الله كثرة النعم تطغي العبد وتجمله على أن يصرفها في وجوهها وغير وجوهها وهي تدعو إلى أن يتناول العبد وتحمله بها ما حل وما لا يحل وأكثر المنعم عليهم لا يقتصرون في صرف النعمة على القدر الحلال بل يتعداه إلى غيره وتسول له نفسه أن معرفته بالله ترد عليه ما انتهبته منهم أيدي الشهوات والمخالفات ويقول العارف لا تضره الذنوب

كما تضر الجاهل وربما يسول له أن ذنوبه خير من طاعات الجهال وهذا من أعظم المكر والأمر بضد ذلك فيحتمل من الجاهل مالا يحتمل من العارف وإذا عوقب الجاهل ضعفا عوقب العارف ضعفين وقد دل على هذا شرع الله وقدره ولهذا كانت عقوبة الحر في الحدود مثلي عقوبة العبد وقال تعالى في نساء النبي يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين فإذا أكملت النعمة على العبد فقابلها بالإساءة والعصيان كانت عقوبته أعظم فدرجته أعلى وعقوبته أشد
وقال أيضا ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند أبناء الدنيا يريد أنه ليس من المعرفة وصف المعرفة لغير أهلها سواء كانوا عبادا أو من أبناء الدنيا
وقال أبو سعيد المعرفة تأتي من عين الوجود وبذل المجهود وهذا كلام حسن يشير إلى أن المعرفة ثمرة بذل المجهود في الأعمال وتحقق الوجد في الأحوال فهي ثمرة عمل الجوارح وحال القلب لا ينال بمجرد العلم والبحث فمن ليس له عمل ولا حال فلا معرفة له
وسئل ذو النون عن العارف فقال كان ههنا فذهب
فسئل الجنيد عما أراد بكلامه هذا فقال لا يحصره حال عن حال ولا يحجبه منزل عن التنقل في المنازل فهو مع كل أهل منزل بمثل الذي هم فيه يجد مثل الذي يجدون وينطق بمعالمها لينتفعوا
وقال محمد بن الفضل المعرفة حياة القلب مع الله
وسئل أبو سعيد هل يصل العارف إلى حال يجفو عليه البكاء فقال نعم إنما البكاء في أوقات سيرهم إلى الله فإذا نزلوا بحقائق القرب وذاقوا طعم الوصول من بره زال عنهم ذلك

وقال بعض السلف نوم العارف يقظة وأنفاسه تسبيح ونوم العارف أفضل من صلاة الغافل
وإنما كان نوم العارف يقظة لأن قلبه حي فعيناه تنامان وروحه ساجدة تحت العرش بين يدي ربها وفاطرها جسده في الفرش وقلبه حول العرش وإنما كان نومه أفضل من صلاة الغافل لأن بدن الغافل واقف في الصلاة وقلبه يسبح في حشوش الدنيا والأماني ولذلك كانت يقظته نوم لأن قلبه موات
وقيل مجالسة العارف تدعوك من ست إلى ست من الشك إلى اليقين ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الغفلة إلى الذكر ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة ومن الكبر إلى التواضع ومن سوء الطوية إلى النصيحة

فصل قال صاحب المنازل المعرفة على ثلاث درجات والخلق فيها على ثلاث
فرق الدرجة الأولى معرفة الصفات والنعوت وقد وردت أساميها بالرسالة وظهرت شواهدها في الصنعة بتبصر النور القائم في السر وطيب حياة العقل لزرع الفكر وحياة القلب بحسن النظر بين التعظيم وحسن الاعتبار وهي معرفة العامة التي لا تنعقد شرائط اليقين إلا بها وهي على ثلاثة أركان إثبات الصفات باسمها من غير تشبيه ونفي التشبيه عنها من غير تعطيل والإياس من إدراك كنهها وابتغاء تأويلها
قلت الفرق بين الصفة والنعت من وجوه ثلاثة

أحدها أن النعت يكون بالأفعال التي تتجدد كقوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار الآية وقوله الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ونظائر ذلك
والصفة هي الأمور الثابتة اللازمة للذات كقوله تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر إلى قوله العزيز الحكيم ونظائر ذلك
الفرق الثاني أن الصفات الذاتية لا يطلق عليها اسم النعوت كالوجه واليدين والقدم والأصابع وتسمى صفات وقد أطلق عليها السلف هذا الاسم وكذلك متكلموا أهل الإثبات سموها صفات وأنكر بعضهم هذه التسمية كأبي الوفاء بن عقيل وغيره وقال لا ينبغي أن يقال نصوص الصفات بل آيات الإضافات لأن الحي لا يوصف بيده ولا وجهه فإن ذلك هو الموصوف فكيف تسمى صفة
وأيضا فالصفة معنى يعم الموصوف فلا يكون الوجه واليد صفة
والتحقيق أن هذا نزاع لفظي في التسمية فالمقصود إطلاق هذه الإضافات عليه سبحانه ونسبتها إليه والإخبار عنه بها منزهة عن التمثيل والتعطيل سواء سميت صفات أو لم تسم
الفرق الثالث أن النعوت ما يظهر من الصفات ويشتهر ويعرفه الخاص والعام والصفات أعم فالفرق بين النعت والصفة فرق ما بين الخاص والعام ومنه قولهم في تحلية الشيء نعته كذا وكذا لما يظهر من صفاته

وقيل هما لغتان لا فرق بينهما ولهذا يقول نجاة البصرة باب الصفة ويقول نحاة الكوفة باب النعت والمراد واحد والأمر قريب ونحن في غير هذا فلنرجع إلى المقصود
وهو أنه لا يستقر للعبد قدم في المعرفة بل ولا في الإيمان حتى يؤمن بصفات الرب جل جلاله ويعرفها معرفة تخرجه عن حد الجهل بربه فالإيمان بالصفات وتعرفها هو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان وثمرة شجرة الإحسان فمن جحد الصفات فقد هدم أساس الإسلام والإيمان وثمرة شجرة الإحسان فضلا عن أن يكون من أهل العرفان وقد جعل الله سبحانه منكر صفاته مسيء الظن به وتوعده بما لم يتوعد به غيره من أهل الشرك والكفر والكبائر فقال تعالى وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا ابصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فأخبر سبحانه أن إنكارهم هذه الصفة من صفاته من سوء ظنهم به وأنه هو الذي أهلكهم وقد قال في الظانين به ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولم يجيء مثل هذا الوعيد في غير من ظن السوء به سبحانه وجحد صفاته وإنكار حقائق أسمائه من أعظم ظن السوء به
ولما كان أحب الأشياء إليه حمده ومدحه والثناء عليه بأسمائه وصفاته وأفعاله كان إنكارها وجحدها أعظم الإلحاد والكفر به وهو شر من الشرك فالمعطل شر من المشرك فإنه لا يستوي جحد صفات الملك وحقيقة ملكه والطعن في أوصافه هو والتشريك بينه وبين غيره في الملك فالمعطلون أعداء الرسل بالذات بل كل شرك في العالم فأصله التعطيل فإنه لولا تعطيل كماله أو بعضه

وظن السوء به لما أشرك به كما قال إمام الحنفاء وأهل التوحيد لقومه أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين أي فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدتم معه غيره وما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان أم ظننتم أنه يخفى عليه شيء من أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها كالملوك أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم أم هو قاس فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده أم ذليل فيحتاج إلى ولي يتكثر به من القلة ويتعزز به من الذلة أم يحتاج إلى الولد فيتخذ صاحبة يكون الولد منها ومنه تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا
والمقصود أن التعطيل مبدأ الشرك وأساسه فلا تجد معطلا إلا وشركه على حسب تعطيله فمستقل ومستكثر

فصل والرسل من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
أرسلوا بالدعوة إلى الله وبيان الطريق الموصل إليه وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفا مفصلا حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه يكلم ملائكته ويدبر أمر مملكته ويسمع أصوات خلقه ويرى أفعالهم وحركاتهم ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم يأمر وينهى ويرضى ويغضب ويحب ويسخط ويضحك من قنوطهم وقرب غيره ويجيب دعوة مضطرهم ويغيث ملهوفهم ويعين محتاجهم ويجبر كسيرهم ويغني فقيرهم ويميت ويحيي ويمنع ويعطي يؤتى الحكمة من يشاء مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن

يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير كل يوم هو في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويقصم ظالما ويرحم مسكينا ويغيث ملهوفا ويسوق الأقدار إلى مواقيتها ويجريها على نظامها ويقدم ما يشاء تقديمه ويؤخر ما يشاء تأخيره فأزمة الأمور كلها بيده ومدار تدبير الممالك كلها عليه وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة
القاعدة الثانية تعريفهم بالطريق الموصل إليه وهو صراطه المستقيم الذي نصبه لرسله وأتباعهم وهو امتثال أمره واجتناب نهيه والإيمان بوعده ووعيده
القاعدة الثالثة تعريف الحال بعد الوصول وهو ما تضمنه اليوم الآخر من الجنة والنار وما قبل ذلك من الحساب والحوض والميزان والصراط
فقعدت المعطلة والجهمية على رأس القاعدة الأولى فحالوا بين القلوب وبين معرفة ربها وسموا إثبات صفاته وعلوه فوق خلقه واستواءه على عرشه تشبيها وتجسيما وحشوا فنفروا عنه صبيان العقول وسموا نزوله إلى سماء الدنيا وتكلمه بمشيئته ورضاه بعد غضبه وغضبه بعد رضاه وسمعه الحاضر لأصوات العباد ورؤيته المقارنة لأفعالهم ونحو ذلك حوادث وسموا وجهه الأعلى ويديه المبسوطتين وأصابعه التي يضع عليها الخلائق يوم القيامة جوارح وأعضاء مكرا منهم كبارا بالناس كمن يريد التنفير عن العسل فيمكر في العبارة ويقول مائع أصفر يشبه العذرة المائعة أو ينفر عن شيء مستحسن فيسميه بأقبح الأسماء فعل الماكر المخادع فليس مع مخالف الرسل سوى المكر في القول والعمل
فلما تم للمعطلة مكرهم وسلك في القلوب المظلمة الجاهلة بحقائق الإيمان وما جاء به الرسول ترتب عليه الإعراض عن الله وعن ذكره ومحبته والثناء

عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله فانصرفت قوى حبها وشوقها وأنسها إلى سواه
وجاء أهل الآراء الفاسدة والسياسات الباطلة والأذواق المنحرفة والعوائد المستمرة فقعدوا على رأس هذا الصراط وحالوا بين القلوب وبين الوصول إلى نبيها وما كان عليه هو وأصحابه وعابوا من خالفهم في قعودهم عن ذلك ورغب عما اختاروه لأنفسهم ورموه بما هم أولى به منه كما قيل رمتني بدائها وانسلت
وجاء أصحاب الشهوات المفتونون بها الذين يعدون حصولها كيف كان هو الظفر في هذه الحياة والبغية فقعدوا على رأس طريق المعاد والاستعداد للجنة ولقاء الله وقالوا اليوم خمر وغدا أمر اليوم لك ولا تدري غدا لك أو عليك وقالوا لا نبيع ذرة منقودة بدرة موعودة
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
وقالوا للناس خلوا لنا الدنيا ونحن قد خلينا لكم الآخرة فإن طلبتم منا ما بأيدينا أحلناكم على الآخرة
أناس ينقدون عيش النعيم ... ونحن نحال على الآخرة
فإن لم تكن مثلما يزعمو ... ن فتلك إذا كرة خاسرة
فالإيمان بالصفات ومعرفتها وإثبات حقائقها وتعلق القلب بها وشهوده لها هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته وهو روح السالكين وحاديهم إلى الوصول ومحرك عزماتهم إذا فتروا ومثير هممهم إذا قصروا فإن سيرهم إنما هو على الشواهد فمن كان لا شاهد له فلا سير له ولا طلب ولا سلوك له وأعظم الشواهد صفات محبوبهم ونهاية مطلوبهم وذلك هو العلم الذي رفع لهم في السير فشمروا إليه كما قالت عائشة رضي الله عنها من رأى رسول الله فقد رآه غاديا رائحا لم يضع لبنة على لبنة ولكن رفع له علم فشمر إليه ولا يزال العبد في التواني والفتور والكسل حتى يرفع الله عز و جل له بفضله ومنه علما يشاهده بقلبه فيشمر إليه ويعمل عليه

فإن عطلت شواهد الصفات ووضعت أعلامها عن القلوب وطمست آثارها وضربت بسياط البعد وأسبل دونها حجاب الطرد وتخلفت مع المتخلفين وأوحى إليها القدر أن اقعدي مع القاعدين فإن أوصاف المدعو إليه ونعوت كماله وحقائق أسمائه هي الجاذبة للقلوب إلى محبته وطلب الوصول إليه لأن القلوب إنما تحب من تعرفه وتخافه وترجوه وتشتاق إليه وتلتذ بقربه وتطمئن إلى ذكره بحسب معرفتها بصفاته فإذا ضرب دونها حجاب معرفة الصفات والإقرار بها امتنع منها بعد ذلك ما هو مشروط بالمعرفة وملزوم لها إذ وجود الملزوم بدون لازمه والمشروط بدون شرطه ممتنع
فحقيقة المحبة والإنابة والتوكل ومقام الإحسان ممتنع على المعطل امتناع حصول المغل من معطل البذر بل أعظم امتناعا
كيف تصمد القلوب إلى من ليس داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مباينا له ولا محايثا بل حظ العرش منه كحظ الآبار والوهاد والأماكن التي يرغب عن ذكرها وكيف تأله القلوب من لا يسمع كلامها ولا يرى مكانها ولا يحب ولا يحب ولا يقوم به فعل ألبتة ولا يتكلم ولا يكلم ولا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يقوم به رأفة ولا رحمة ولا حنان ولا له حكمة ولا غاية يفعل ويأمر لأجلها
فكيف يتصور على ذلك ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه ورؤية وجهه الكريم في جنات النعيم وهو مستو على عرشه فوق جميع خلقه أم كيف تأله القلوب من لا يحب ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا يفرح ولا يضحك
فسبحان من حال بين المعطلة وبين محبته ومعرفته والسرور والفرح به والشوق إلى لقائه وانتظار لذة النظر إلي وجهه الكريم والتمتع بخطابه في محل كرامته ودار ثوابه فلو رآها أهلا لذلك لمن عليها به وأكرمها به إذ ذاك أعظم كرامة يكرم بها عبده والله أعلم حيث يجعل كرامته ويضع نعمته

وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون وليس جحودهم صفاته سبحانه وحقائق أسمائه في الحقيقة تنزيها وإنما هو حجاب ضرب عليهم فظنوه تنزيها كما ضرب حجاب الشرك والبدع المضلة والشهوات المردية على قلوب أصحابها وزين لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنة
عدنا إلى شرح كلامه
قوله وقد وردت أساميها بالرسالة إلى آخره
ذكر أن إثبات الصفات دل عليها الوحي الذي جاء من عند الله على لسان رسوله والحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة فاستدل بها على صفات صانعها والعقل الذي طابت حياته بزرع الفكر والقلب الذي حيي بحسن النظر بين التعظيم والاعتبار
فأما الرسالة فإنها جاءت بإثبات الصفات إثباتا مفصلا على وجه أزال الشبهة وكشف الغطاء وحصل العلم اليقيني ورفع الشك والريب فثلجت له الصدور واطمأنت به القلوب واستقر به الإيمان في نصابه ففصلت الرسالة الصفات والنعوت والأفعال أعظم من تفصيل الأمر والنهي وقررت إثباتها أكمل تقرير في أبلغ لفظ وأبعده من الإجمال والاحتمال وأمنعه من قبول التأويل وكذلك كان تأويل آيات الصفات وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد وأخباره بل أبعد منه لوجوه كثيرة ذكرتها في كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة بل تأويل آيات الصفات بما يخرجها عن حقائقها

كتأويل آيات الأمر والنهي سواء فالباب كله باب واحد ومصدره واحد ومقصوده واحد وهو إثبات حقائقه والإيمان بها
وكذلك سطا على تأويل آيات المعاد قوم وقالوا فعلنا فيها كفعل المتكلمين في آيات الصفات بل نحن أعذر فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات والعلو وقيام الأفعال أعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير فإذا ساغ لكم تأويلها فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد
وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات الأمر والنهي وقالوا فعلنا فيها كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها وتنوعها وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية
قالوا وما يظن أنه معارض من العقليات لنصوص الصفات فعندنا معارض عقلي لنصوص المعاد من جنسه أو أقوى منه
وقال متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها وظواهرها الذي سوغ لنا هذا التأويل القواعد التي اصطلحتموها لنا وجعلتموها أصلا نرجع إليه فلما طردناها كان طردها أن الله ما تكلم بشيء قط ولا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا له صفة تقوم به ولا يفعل شيئا وطرد هذا الأصل لزوم تأويل آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب
وقد ذكرنا في كتاب الصواعق أن تأويل آيات الصفات وأخبارها بما يخرجها عن حقائقها هو أصل فساد الدنيا والدين وزوال الممالك وتسليط أعداء الإسلام عليه إنما كان بسب التأويل ويعرف هذا من له اطلاع وخبرة بما جرى في العالم ولهذا يحرم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم لصحته لأنه سبب لفساد العالم وتعطيل الشرائع
ومن تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن والسنة علم قطعا بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها فإنها وردت على وجه لا يحتمل معه التأويل بوجه

فانظر إلى قوله تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك هل يحتمل هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الرب جل جلاله بإتيان ملائكته أو آياته وهل يبقى مع هذا السياق شبهة أصلا أنه إتيانه بنفسه وكذلك قوله إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده إلى أن قال وكلم الله موسى تكليما ففرق بين الإيحاء العام والتكليم الخاص وجعلهما نوعين ثم أكد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون وكذلك قوله وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فنوع تكليمه إلى تكليم بواسطة وتكليم بغير واسطة وكذلك قوله لموسى عليه السلام إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ففرق بين الرسالة والكلام والرسالة إنما هي بكلامه وكذلك قول النبي إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو ليس دونه سحاب وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب \ ح \ ومعلوم أن هذا البيان والكشف والاحتراز ينافي إرادة التأويل قطعا ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين
قوله وظهرت شواهدها في الصنعة
هذا هو الطريق الثاني من طرق إثبات الصفات وهو دلالة الصنعة عليها فإن المخلوق يدل على وجود خالقه على حياته وعلى قدرته وعلى علمه ومشيئته فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزاما ضروريا وما فيه من الإتقان والإحكام ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته وما فيه من الإحسان والنفع ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدل على رحمة خالقه وإحسانه وجوده وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه فمعطي الكمال أحق بالكمال وخالق الأسماع والأبصار والنطق أحق بأن يكون سميعا بصيرا متكلما وخالق الحياة والعلوم والقدر والإرادات أحق بأن يكون هو كذلك

في نفسه فما في المخلوقات من أنوع التخصيصات هو من أدل شيء على إرادة الرب سبحانه ومشيئته وحكمته التي اقتضت التخصيص
وحصول الإجابة عقيب سؤال الطالب على الوجه المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزئيات وعلى سمعه لسؤال عبيده وعلى قدرته على قضاء حوائجهم وعلى رأفته ورحمته بهم
والإحسان إلى المطيعين والتقرب إليهم والإكرام وإعلاء درجاتهم يدل على محبته ورضاه وعقوبته للعصاة والظلمة وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة تدل على صفة الغضب والسخط والإبعاد والطرد والإقصاء يدل على المقت والبغض
فهذه الدلالات من جنس واحد عند التأمل ولهذا دعا سبحانه في كتابه عباده إلى الاستدلال بذلك على صفاته فهو يثبت العلم بربوبيته ووحدانيته وصفات كماله بآثار صفته المشهودة والقرآن مملوء بذلك
فيظهر شاهد اسم الخالق من نفس المخلوق وشاهد اسم الرازق من وجود الرزق والمرزوق وشاهد اسم الرحيم من شهود الرحمة المبثوثة في العالم واسم المعطي من وجود العطاء الذي هو مدرار لا ينقطع لحظة واحدة واسم الحليم من حلمه عن الجناة والعصاة وعدم معاجلتهم واسم الغفور والتواب من مغفرة الذنوب وقبول التوبة ويظهر شاهد اسمه الحكيم من العلم بما في خلقه وأمره من الحكم والمصالح ووجوه المنافع وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره يعرفه من عرفه ويجهله من جهله فالخلق والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته
وكل سليم العقل والفطرة يعرف قدر الصانع وحذقه وتبريزه على غيره وتفرده بكمال لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة صنعته فكيف لا تعرف صفات من هذا العالم العلوي والسفلي وهذه المخلوقات من بعض صنعه

وإذا اعتبرت المخلوقات والمأمورات وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت والصفات وحقائق الأسماء الحسنى وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى بمكابرة ويكفي ظهور شاهد الصنع فيك خاصة كما قال تعالى وفي أنفسكم أفلا تبصرون فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب جل جلاله ونعوته وأسمائه فهي كلها تشير إلى الأسماء الحسنى وحقائقها وتنادي عليها وتدل عليها وتخبر بها بلسان النطق والحال كما قيل
تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل
فلست ترى شيئا أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها ونعوت كماله وحقائق أسمائه وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها فهي تدل عقلا وحسا وفطرة ونظرا واعتبارا
قوله بتبصير النور القائم في السر يعني أن النور الإلهي الذي جعله الله لعبده ويلقيه إليه ويودعه في سره هو الذي يبصره بشواهد صفاته فكلما قوي هذا النور في قلب العبد كان بصره بالصفات أتم وأكمل وكلما قل نصيبه من هذا النور وطفئ مصباحه في قلبه طفئ نور التصديق بالصفات وإثباتها في قلبه فإنه إنما يشاهدها بذلك النور فإذا فقده لم يشاهدها وجاءت الشبه الباطلة مع تلك الظلمة فلم يكن له نصيب منها سوى الإنكار
قوله وطيب حياة العقل لزرع الفكر أي يدرك الصفات بذلك النور القائم في سره وطيب حياة عقله التي طيبها زرع الفكر الصحيح المتعلق بما دعا الله سبحانه عباده إلى الفكر فيه بقوله ويتفكرون في خلق السموات والأرض وقوله أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقوله كذلك يبين الله لكم

الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة فيتفكرون في الآيات التي بينها لهم فيستدلون بها على توحيده وصفات كماله وصدق رسله والعلم بلقائه ويتفكرون في الدنيا وانقضائها واضمحلالها وآفاتها والآخرة ودوامها وبقائها وشرفها وقوله ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون فالفكر الصحيح المؤيد بحياة القلب ونور البصيرة يدل على إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال وأما فكر مصحوب بموت القلب وعمي البصيرة فإنما يعطي صاحبه نفيها وتعطيلها
قوله وحياة القلب بحسن النظر بين التعظيم وحسن الاعتبار يعني أنه ينضاف إلى نور البصيرة وطيب حياة العقل حياة القلب بحسن النظر الدائر بين تعظيم الخالق جل جلاله وحسن الاعتبار بمصنوعاته الدالة عليه فلا بد من الأمرين فإنه إن غفل بالتعظيم عن حسن الاعتبار لم يحصل له الاستدلال على الصفات وإن حصل له الاعتبار من غير تعظيم الخالق سبحانه لم يستفد به إثبات الصفات فإذا اجتمع له تعظيم الخالق وحسن النظر في صنعه أثمرا له إثبات صفات كماله ولا بد
والاعتبار هو أن يعبر نظره من الأثر إلى المؤثر ومن الصنعة إلى الصانع ومن الدليل إلى المدلول فينتقل إليه بسرعة لطف إدراك فينتقل ذهنه من الملزوم إلى لازمه قال الله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار والاعتبار افتعال من العبور وهو عبور القلب من الملزوم إلى لازمه ومن النظير إلى نظيره
وهذا الاعتبار يضعف ويقوى حتى يستدل صاحبه بصفات الله تعالى وكماله على ما يفعله لحسن اعتباره وصحة نظره وهو اعتبار الخواص واستدلالهم

فإنهم يستدلون بأسماء الله وصفاته وأفعاله وأنه يفعل كذا ولا يفعل كذا فيفعل ما هو موجب حكمته وعلمه وغناه وحمده ولا يفعل ما يناقض ذلك وقد ذكر سبحانه هذين الطريقين في كتابه فقال تعالى في الطريق الأولى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ثم قال في الطريق الثانية أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فمخلوقاته دالة على ذاته وأسمائه وصفاته وأسماؤه وصفاته دالة على ما يفعله ويأمر به وما لا يفعله ولا يأمر به
مثال ذلك أن اسمه الحميد سبحانه يدل على أنه لا يأمر بالفحشاء والمنكر واسمه الحكيم يدل على أنه لا يخلق شيئا عبثا واسمه الغني يدل على أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا واسمه الملك يدل على ما يستلزم حقيقة ملكه من قدرته وتدبيره وعطائه ومنعه وثوابه وعقابه وبث رسله في أقطار مملكته وإعلام عبيده بمراسيمه وعهوده إليهم واستوائه على سرير مملكته الذي هو عرشه المجيد فمتى قام بالعبد تعظيم الحق جل وحسن النظر في الشواهد والتبصر والاعتبار بها صارت الصفات والنعوت مشهودة لقلبه قبلة له
قوله وهي معرفة العامة التي لا تنعقد شرائط اليقين إلا بها
لا يريد بالعامة الجهال الذين هم عوام الناس وإنما يريد أن هذه هي المعرفة التي وقف عندها العموم ولم يتعدوها وأما معرفة أهل الذوق والمحبة الخاصة فأخص من هذا كما سيأتي
قوله وهي على ثلاثة أركان إثبات الصفة من غير تشبيه إلى آخرها هذه ثلاثة أشياء
أحدها إثبات تلك الصفة فلا يعاملها بالنفي والإنكار
الثاني أنه لا يتعدى بها اسمها الخاص الذي سماها الله به بل يحترم الاسم كما يحترم الصفة فلا يعطل الصفة ولا يغير اسمها ويعيرها اسما آخر كما تسمي

الجهمية والمعطلة سمعه وبصره وقدرته وحياته وكلامه أعراضا ويسمون وجهه ويديه وقدمه سبحانه جوارح وأبعاضا ويسمون حكمته وغاية فعله المطلوبة عللا وأغراضا ويسمون أفعاله القائمة به حوادث ويسمون علوه على خلقه واستواءه على عرشه تحيرا ويتواصون بهذا المكر الكبار إلى نفي ما دل عليه الوحي والعقل والفطرة وآثار الصنعة من صفاته فيسطون بهذه الأسماء التي سموها هم وآباؤهم على نفي صفاته وحقائق أسمائه
الثالث عدم تشبيهها بما للمخلوق فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فالعارفون به المصدقون لرسله المقرون بكماله يثبتون له الأسماء والصفات وينفون عنه مشابهة المخلوقات فيجمعون بين الإثبات ونفي التشبيه وبين التنزيه وعدم التعطيل فمذهبهم حسنة بين سيئتين وهدى بين ضلالتين فصراطهم صراط المنعم عليهم وصراط غيرهم صراط المغضوب عليهم والضالين قال الإمام أحمد رحمه الله لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين وقال التشبيه أن تقول يد كيدي تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
قوله والإياس من إدراك كنهها وابتغاء تأويلها
يعني أن العقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله وهذا معنى قول السلف بلا كيف أي بلا كيف يعقله البشر فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته كيفية تعرف نعوته وصفاته ولا يقدح ذلك في الإيمان بها ومعرفة معانيها فالكيفية وراء ذلك كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر ولا نعرف حقيقة كيفيته مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم
فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كله والجمال كله والعلم كله والقدرة كلها والعظمة كلها والكبرياء كلها

من لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وما وراء ذلك الذي يقبض سمواته بيده فتغيب كما تغيب الخردلة في كف أحدنا الذي نسبة علوم الخلائق كلها إلى علمه أقل من نسبة نقرة عصفور من بحار العلم الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض من حين خلقت إلى قيام الساعة أقلام لفني المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماته الذي لو أن الخلق من أول الدنيا إلى آخرها إنسهم وجنهم وناطقهم وأعجمهم جعلوا صفا واحدا ما أحاطوا به سبحانه الذي يضع السموات على إصبع من أصابعه والأرض على أصبع والجبال على إصبع والاشجار على إصبع ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك
فقاتل الله الجهمية والمعطلة أين التشبيه ههنا وأين التمثيل لقد اضمحل ههنا كل موجود سواه فضلا عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال ويشابهه فيه فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته وولاها ما تولت من وقوفها مع الألفاظ التي لا حرمة لها والمعاني التي لا حقائق لها
ولما فهمت هذه الطائفة من الصفات الإلهية ما تفهمه من صفات المخلوقين فرت إلى إنكار حقائقها وابتغاء تحريفها وسمته تأويلا فشبهت أولا وعطلت ثانيا وأساءت الظن بربها وبكتابه وبنبيه وبأتباعه
أما إساءة الظن بالرب فإنها عطلت صفات كماله ونسبته إلى أنه أنزل كتابا مشتملا على ما ظاهره كفر وباطل وأن ظاهره وحقائقه غير مرادة
وأما إساءة ظنها بالرسول فلأنه تكلم بذلك وقرره وأكده ولم يبين للأمة أن الحق في خلافه وتأويله
وأما إساءة ظنها بأتباعه فبنسبتهم لهم إلى التشبيه والتمثيل والجهل والحشو وهم عند أتباعه أجهل من أن يكفروهم إلا من عاند الرسول وقصد نفي ما جاء

به والقوم عندهم في خفارة جهلهم قد حجبت قلوبهم عن معرفة الله وإثبات حقائق أسمائه وأوصاف كماله

فصل قال الدرجة الثانية معرفة الذات مع إسقاط التفريق بين الصفات
والذات وهي تثبت بعلم الجمع وتصفو في ميدان الفناء وتستكمل بعلم البقاء وتشارف عين الجمع
نشرح كلامه ومراده أولا ثم نبين ماله وعليه فيه
فكانت هذه الدرجة عنده أرفع مما قبلها لأن التي قبلها نظر في الصفات وهذه متعلقة بالذات الجامعة للصفات وإن كانت الذات لا تخلو عن الصفات فهي قائمة بها ولا تقول نقول إن صفاتها عينها ولا غيرها لما في لفظ الغير من الإجمال والاشتباه فإن الغيرين قد يراد بهما ما جاء افتراقهما ذاتا أو زمانا أو مكانا وعلى هذا فليست الصفات مغايرة للذات وقد يراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر فيفترقان في الوجود الذهني لا في الوجود الخارجي فالصفات غير الذات بهذا الاعتبار لأنه قد يقع الشعور بالذات حال ما يغفل عن صفاتها فتتجرد عن صفاتها في شعور العبد لا في نفس الأمر
وقوله مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات التفريق بين الصفات والذات في الوجود مستحيل وهو ممكن في الشهود بأن يشهد الصفة ويذهل عن شهود الموصوف أو يشهد الموصوف ويذهل عن شهود الصفة فتجريد الذات أو الصفات إنما يمكن في الذهن فالمعرفة في هذه الدرجة تعلقت بالذات والصفات جميعا فلم يفرق العلم والشهود بينهما ولا ريب أن ذلك أكمل من شهود مجرد الصفة أو مجرد الذات
ولا يريد الشيخ أنك تسقط التفريق بين الذات والصفات في الخارج والعلم

بحيث تكون الصفات هي نفس الذات فهذا لا يقوله الشيخ وإن كان كثير من أرباب الكلام يقولون إن الصفات هي الذات فليس مرادهم أن الذات نفسها صفة فهذا لا يقوله عاقل وإنما مرادهم أن صفاتها ليست شيئا غيرها فإن أراد هؤلاء أن مفهوم الصفة هو مفهوم الذات فهذا مكابرة وإن أرادوا أنه ليس ههنا أشياء غير الذات انضمت إليها وقامت بها فهذا حق
والتحقيق أن صفات الرب جل جلاله داخلة في مسمى اسمه فليس اسمه الله والرب والإله أسماء لذات مجردة لا صفة لها ألبتة فإن هذه الذات المجردة وجودها مستحيل وإنما يفرضها الذهن فرض الممتنعات ثم يحكم عليها واسم الله سبحانه والرب والإله اسم لذات لها جميع صفات الكمال ونعوت الجلال كالعلم والقدرة والحياة والإرادة والكلام والسمع والبصر والبقاء والقدم وسائر الكمال الذي يستحقه الله لذاته فصفاته داخلة في مسمى اسمه فتجريد الصفات عن الذات والذات عن الصفات فرض وخيال ذهني لا حقيقة له وهو أمر اعتباري لا فائدة فيه ولا يترتب عليه معرفة ولا إيمان ولا هو علم في نفسه وبهذا أجاب السلف الجهمية لما استدلوا على خلق القرآن بقوله تعالى الله خالق كل شيء قالوا والقرآن شيء
فأجابهم السلف بأن القرآن كلامه وكلامه من صفاته وصفاته داخلة في مسمى اسمه كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ووجهه ويديه فليس الله اسما لذات لا نعت لها ولا صفة ولا فعل ولا وجه ولا يدين ذلك إله معدوم مفروض في الأذهان لا وجود له في الأعيان كإله الجهمية الذي فرضوه غير خارج عن العالم ولا داخل فيه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا محايث له ولا مباين وكإله الفلاسفة الذي فرضوه وجودا مطلقا لا يتخصص بصفة ولا نعت ولا له مشيئة ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام وكإله الاتحادية الذي فرضوه وجودا ساريا في الموجودات ظاهرا فيها هو عين وجودها وكإله النصارى الذي فرضوه

قد اتخذ صاحبة وولدا وتدرع بناسوت ولده واتخذ منه حجابا فكل هذه الآلهة مما عملته أيدي أفكارها وإله العالمين الحق هو الذي دعت إليه الرسل وعرفوه بأسمائه وصفاته وأفعاله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه موصوف بكل كمال منزه عن كل نقص لا مثال له ولا شريك ولا ظهير ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم غني بذاته على عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه بذاته
قوله وهي تثبت بعلم الجمع وتصفو في ميدان الفناء يعني أن هذه المعرفة الخاصة تثبت بعلم الجمع ولم يقل بحال الجمع ولا بعينه ولا مقامه فإن علمه أولا هو سبب ثبوتها فإن هذه المعرفة لا تنال إلا بالعلم فهو شرط فيها وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في الجمع عن قريب
فإذا علم العبد انفراد الرب سبحانه بالأزل والبقاء والفعل وعجز من سواه عن القدرة على إيجاد ذرة أو جزء من ذرة وأنه لا وجود له من نفسه فوجوده ليس له ولا به ولا منه وتوالى هذا العلم عن القلب يسقط ذكر غيره سبحانه عن البال والذكر كما سقط غناه وربوبيته وملكه وقدرته فصار الرب سبحانه وحده هو المعبود والمشهود والمذكور كما كان وحده هو الخالق المالك الغني الموجود بنفسه أزلا وأبدا وأما ما سواه فوجوده وتوابع وجوده عارية ليست له وكلما فني العبد عن ذكر غيره وشهوده صفت هذه المعرفة في قلبه فلهذا قال وتصفو في ميدان الفناء استعار الشيخ للفناء ميدانا وأضافه إليه لاتساع مجاله لأن صاحبه قد انقطع التفاته إلى ضيق الأغيار وانجذبت روحه وقلبه إلى الواحد القهاوألبس فهي تجول في ميدان أوسع من السموات والأرض بعد أن كانت مسجونة في سجون المخلوقات فإذا استمر له عكوف قلبه على الحق سبحانه ونظر قلبه إليه كأنه يراه ورؤية تفرده بالخلق والأمر والنفع والضر

والعطاء والمنع كملت وتمت في هذه الدرجة معرفته واستكملت بهذا البقاء الذي أوصله إليه الفناء وشارفت عين الجمع بعد علمه فغاب العارف عن معرفته بمعروفه وعن ذكره بمذكوره وعن محبته وإرادته بمراده ومحبوبه فلذلك قال ويستكمل بعلم البقاء ويشارف عين الجمع
ولهذه المعرفة ثلاثة أركان أشار إليها الشيخ بقوله إرسال الصفات على الشواهد وإرسال الوسائط على المدارج وإرسال العبارات على المعالم شواهد الصفات هي التي تشهد بها وتدل عليها من الكتاب والسنة
شاهده العقل والفطرة وآثار الصنعة فإذا تمكن العبد في التوحيد علم أن الحق سبحانه هو الذي علمه صفات نفسه بنفسه لم يعرفها العبد من ذاته ولا بغير تعريف الحق له بما أجراه له سبحانه على قلبه من معرفة تلك الشواهد والانتقال منها إلى المشهود المدلول عليه فهو سبحانه الذي شهد لنفسه في الحقيقة إذ تلك الشواهد مصدرها منه فشهد لنفسه بنفسه بما قاله وفعله وجعله شاهدا لمعرفته فهو الأول والآخر والعبد آلة محضة ومنفعل ومحل لجريان الشواهد وآثارها وأحكامها عليه ليس له من الأمر شيء فهذا معنى إرسال الصفات على الشواهد فإذا أرسلها عليها تبين له أن الحكم للصفات دون الشواهد بل الشواهد هي آثار الصفات فهذا وجه
ووجه ثان أيضا وهو أن الشواهد بوارق وتجليات تبدو للشاهد فإذا أرسل الصفات على تلك الشواهد تواري حكم تلك البوارق والتجليات في الصفات وكان الحكم للصفات فحينئذ يترقى العبد إلى شهود الذات شهودا علميا عرفانيا كما تقدم
قوله وإرسال الوسائط على المدارج الوسائط هي الأسباب المتوسطة بين الرب والعبد التي بها تظهر المعرفة وتوابعها والمدارج هي المنازل والمقامات التي يترقى العبد فيها إلى المقصود وقد تكون المدارج الطرق التي يسلكها

إليه ويدرج فيها فإرسال الوسائط التي من الرب على المدارج التي هي منازل السير وطرقه توجب كون الحكم لها دون المدارج فيغيب عن شهود المدارج بالوسائط وقد غاب عن شهود الوسائط بالصفات فيترقى حينئذ إلى شهود الذات
وحقيقة الأمر أن يعلم أن الرب سبحانه ما أطلعه على معرفته إلا بشواهد منه سبحانه وبوسائط ليست من العبد فهو قادر على قبض تلك الشواهد والوسائط وعلى إجرائها على غيره فإن الأمر كله له وتلك الوسائط لا توجب بنفسها شيئا قال الله تعالى لرسوله ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك وقال للأمة على لسانه قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به وقال تعالى قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ويعلم العبد أن ما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله من شواهد معرفته والإيمان به هي معالم يهتدي بها عباده إليه ويعرفون بها كماله وجلاله وعظمته فإذا تيقنوا صدقه ولم يشكوا فيه وتفطنوا لآثار أسمائه وصفاته في أنفسهم وفي سواهم انضم شاهد العقل والفطرة إلى شاهد الوحي والشرع فانتقلوا حينئذ من الخبر إلى العيان فالعبارات معالم على الحقائق المطلوبة والمعالم هي الإمارات التي يعلم بها المطلوب فإذا أوصل العارف كل معنى مما تقدم ذكره على مقصوده وصرف همته إلى مجريه وناصبه ومصدره اجتمع همه عليه وتمكن في معرفة الذات التي لها صفات الكمال ونعوت الجلال
ومقصوده أن يبين في هذه الأركان الثلاثة حال صاحب معرفة الذات وكيف تترتب الأشياء في نظره ويترقى فيها إلى المقصود
مثال ذلك أن الشواهد أرسلته إلى الصفات بإرسالها عليها فانتقل من مشاهدتها إلى مشاهدة الصفات والوسائط التي كان يراها آية على المدارج انتقل فانتقل منها إلى المدارج ولم يلقها وإنما تعلق بما هي آية له والعبارات التي كانت

عنده ألفاظا خارجة عن المعبر عنه صارت أمارات توصله إلى الحقيقة المعبر عنها فبهذه الأركان الثلاثة يصير بها من أهل معرفة الذات عنده
قوله وهذه معرفة الخاصة التي تؤنس من أفق الحقيقة أي تدرك وتحس من ناحية الحقيقة والإيناس والإدراك والإحساس قال الله تعالى فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وقال موسى إني آنست نارا والمقصود أن العارف إذا علق همه بأفق الحقيقة وأعرض عن المسباب الوسائط لا إعراض جحود وإنكار بل إعراض اشتغال ونظر إلى عين المقصود أوصله ذلك إلى معرفة الذات الجامعة لصفات الكمال والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال الدرجة الثالثة معرفة مستغرقة في محض التعريف لا يوصل
إليها الاستدلال ولا يدل عليها شاهد ولا تستحقها وسيلة وهي على ثلاثة أركان مشاهدة القرب والصعود عن العلم ومطالعة الجمع وهي معرفة خاصة الخاصة
إنما كانت هذه المعرفة عنده أرفع مما قبلها لأن ما قبلها متعلقة بالوسائط والشواهد متصلة إلى المطلوب وهذه متعلقة بعين المقصود فقط طاوية للوسائط والشواهد فالوسائط صاعدة عنها إليه وهي غالبة على حال العارف وشهوده وقد استغرقت إدراكه لما هو فيه بحيث غاب عن معرفته بمعروفه وعن ذكره بمذكوره وعن وجوده بموجوده
فقوله مستغرقة في محض التعريف
المعرفة صفة العبد وفعله والتعريف فعل الرب وتوفيقه فاستغرقت صفة العبد في فعل الرب وتعريفه نفسه لعبده
وقوله لا يوصل إليها بالاستدلال يريد أن هذه المعرفة في الدرجة الثالثة لا يوصل إليها بسبب فإن الأسباب قد انطوت والوسائل قد انقطعت

دونها فلا يدل عليها شاهد غيرها بل هي شاهد نفسها فشاهدها وجودها ودليلها نفسها ولا تعجل بإنكار هذا فالأمور الوجدانية كذلك ودليلها نفسها وشاهدها حقيقتها فتصير هذه المعرفة للعارف كالأمور الوجدانية كاللذة والفرح والحب والخوف وغيرها من الأمور التي لا يطلب من قامت به شاهدا عليها من سوى أنفسها
ولعمر الله أن هذه درجة من المعرفة منيفة ورتبة شريفة تنقطع دونها أعناق مطايا السائرين فلذلك لا يوصل إليها بالاستدلال ولا يدل عليها شاهد ولا تستحقها وسيلة والأعمال والأحوال والمقامات كلها وسائل وهي لا تستحق هذه الدرجة من المعرفة وإنما هي فضل من الفضل كله بيده وهو ذو الفضل العظيم وكون الوسائل المذكورة لا تستحقها لا تمنع من القيام بها على أتم الوجوه وبذل الجهد فيها ومع ذلك فلا تستحقها الوسائل
قوله وهي على ثلاثة أركان مشاهدة القرب والصعود عن العلم ومطالعة الجمع إنما كانت هذه الثلاثة أركانا لها لأن صاحب هذه المعرفة قد وصل من القرب إلى مقام يليق به بحسب معرفته فكلما كانت معرفته أتم كان قربه أتم فإن شهود الوسائط والوسائل حجاب عن عين القرب وإلغاؤها وجحودها حجاب عن أصل الإيمان
وأما صعوده عن العلم فليس المراد به صعوده عن أحكامه فإن ذلك سقوط ونزول إلى الحضيض الأدنى لا صعود إلى المطلب الأعلى وإنما المراد أنه يصعد بأحكام العلم عن الوقوف معه وتوسيطه بينه وبين المطلوب فإن الوسائط قد طوي بساطها في هذا الشهود والعرفان أعني بساط الوقوف معها والنظر إليها فيدرك مشهوده ومعروفه به سبحانه لا بالعلم والخبر بل بالمشاهدة والعيان وإن كان لم يصل إلى ذلك إلا بالعلم والخبر لكنه قد صعد من العلم والخبر إلى المعلوم المخبر عنه

وأما مطالعة الجمع فهي الغاية عند هذه الطائفة ونحن لا ننكر ذلك لكن أي جمع هو هل هو جمع الوجود كما يقوله الاتحادي أم جمع الشهود كما يقوله صاحب الفناء في توحيد الربوبية أم هو جمع الإرادة كلها في مراد الرب تعالى الديني الأمري فالشأن في هذا الجمع الذي مطالعته من أعلى أنواع المعرفة
نعم ههنا جمع آخر مطالعته هي كل المعرفة وهو جمع الأفعال في الصفات وجمع الصفات في الذات وجمع الأسماء في الذات والصفات والأفعال فمطالعة هذا الجمع هي غاية المعرفة وأعلى أنواعها وهي لعمر الله معرفة خاصة الخاصة والله المستعان وبه التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله

فصل قال صاحب المنازل باب الفناء قال الله تعالى كل من عليها
فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
الفناء المذكور في الآية ليس هو الفناء الذي تشير إليه الطائفة فإن الفناء في الآية الهلاك والعدم أخبر سبحانه أن كل من على الأرض يعدم ويموت ويبقى وجهه سبحانه وهذا مثل قوله إنك ميت وإنهم ميتون ومثل قوله كل نفس ذائقة الموت قال الكلبي ومقاتل لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض فلما قال تعالى كل شيء هالك إلا وجهه أيقنت الملائكة بالهلاك قال الشعبي إذا قرأت كل من عليها فان فلا تسكت حتى تقرأ ويبقى وجه ربك ذو الجلال وهذا من فقهه في القرآن وكمال علمه إذ المقصود الإخبار بفناء من عليها مع بقاء وجهه سبحانه فإن الآية سيقت لتمدحه بالبقاء وحده ومجرد فناء الخليقة ليس فيه مدحه إنما المدح في بقائه بعد فناء خلقه فهي نظير قوله كل شيء هالك إلا وجهه
وأما الفناء الذي تترجم عنه الطائفة فأمر غير هذا ولكن وجد

الإشارة بالآية أن الفناء المشار إليه هو ذهاب القلب وخروجه من هذا العالم وتعلقه بالعلي الكبير الذي له البقاء فلا يدركه الفناء ومن فني في محبته وطاعته وإرادة وجهه أوصله هذا الفناء إلى منزل البقاء فالآية تشير إلى أن العبد حقيق أن لا يتعلق بمن هو فان ويذر من له البقاء وهو ذو الجلال والإكرام فكأنها تقول إذا تعلقت بمن هو فان انقطع ذلك التعلق عند فنائه أحوج ما تكون إليه وإذا تعلقت بمن هو باق لا يفنى لم ينقطع تعلقك ودام بدوامه
والفناء الذي يترجم عليه هو غاية التعلق ونهايته فإنه انقطاع عما سوى الرب تعالى من كل وجه ولذلك قال
الفناء في هذا الباب اضمحلال ما دون الحق علما ثم جحدا ثم حقا
قلت الفناء ضد البقاء والباقي إما باق بنفسه من غير حاجة إلى من يبقيه بل بقاؤه من لوازم نفسه وهو الله تعالى وحده وما سواه فبقاؤه ببقاء الرب وليس له من نفسه بقاء كما أنه ليس له من نفسه وجود فإيجاده وإبقاؤه من ربه وخالقه وإلا فهو ليس له من نفسه إلا العدم قبل إيجاده والفناء بعد إيجاده
وليس المعنى أن نفسه وذاته اقتضت عدمه وفناءه وإنما الفناء أنك إذا نظرت إلى ذاته بقطع النظر عن إيجاد موجده له كان معدوما وإذا نظرت إليه بعد وجوده مع قطع النظر عن إبقاء موجده له استحال بقاؤه فإنه إنما يبقى بابقائه كما أنه إنما يوجد بإيجاده فهذا معنى قولنا إنه بنفسه معدوم وفان فافهمه
وقد اختلف الناس هل إفناء الموجود وإعدامه بخلق عرض فيه يسمى

الفناء والإعدام أم بإمساك خلق البقاء له إذ هو في كل وقت محتاج إلى أن يخلق له بقاء يبقيه وهي مسألة الإعدام المشهورة
والتحقيق فيها أن ذاته لا تقتضي الوجود وهو معدوم بنفسه فإذا قدر الرب تعالى لوجوده أجلا ووقتا انتهى وجوده عند حضور أجله فرجع إلى أصله وهو العدم نعم قد يقدر له وقتا ثم يمحو سبحانه ذلك الوقت ويريد إعدامه قبل وقته كما أنه سبحانه يمحو ما يشاء ويريد استمرار وجوده بعد الوقت المقدر إلى أمد آخر فإنه يمحو ما يشاء ويثبت قال الله تعالى حاكيا عن نبيه نوح عليه السلام قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى فإذا أراد الله سبحانه إبقاء الشيء أبقاه إلى حين يشاء وإذا أراد إفناءه أعدمه بمشيئته كما يوجده بمشيئته
فإن قيل متعلق المشيئة لا بد أن يكون أمرا وجوديا فكيف يكون العدم متعلق المشيئة
قيل متعلق المشيئة أمران إيجاد وإعدام وكلاهما ممكن فقول القائل لا بد أن يكون متعلق المشيئة أمرا وجوديا دعوى باطلة نعم العدم المحض لا تتعلق به المشيئة وأما الإعدام فهو أخص من العدم
ولولا أنا في أمر أخص من هذا لبسطنا الكلام في هذه المسألة وذكرنا أوهام الناس وأغلاطهم فيها
وقوله الفناء اسم لاضمحلال ما دون الحق علما يعني يضمحل عن القلب والشهود علما وإن لم تكن ذاته فانية في الحال مضمحلة فتغيب صور الموجودات في شهود العبد بحيث تكون كأنها دخلت في العدم كما كانت قبل أن توجد ويبقى الحق تعالى ذو الجلال والإكرام وحده في قلب الشاهد كما كان وحده قبل إيجاد العوالم

قوله علما ثم جحدا ثم حقا هذه الثلاثة هي مراتب الاضمحلال إذا ورد على العبد على الترتيب فإذا جاء وهلة واحدة لم يشهد شيئا من ذلك وإن كان قد يعرف ذلك إذا عاد إلى علمه وشهوده فإن الرب سبحانه إذا رقى عبده بالتدريج نور باطنه وعقله بالعلم فرأى أنه لا خالق سواه ولا رب غيره ولا يملك الضر والنفع والعطاء والمنع غيره وأنه لا يستحق أن يعبد بنهاية الخضوع والحب سواه وكل معبود سوى وجهه الكريم فباطل فهذا توحيد العلم
ثم إذا رقاه الحق سبحانه درجة أخرى فوق هذه أشهد عود المفعولات إلى أفعاله سبحانه وعود أفعاله إلى أسمائه وصفاته وقيام صفاته بذاته فيضمحل شهود غيره من قلبه وجحد أن يكون لسواه من نفسه شيء ألبتة ولم يجحد السوي كما يجحده الملاحدة فإن هذا الجحود عين الإلحاد
ثم إذا رقاه درجة أخرى أشهده قيام العوالم كلها جواهرها وأعراضها ذواتها وصفاتها به وحده أي بإقامته لها وإمساكه لها فإنه سبحانه يمسك السماوات والأرض أن تزولا ويمسك البحار أن تغيض أو تفيض على العالم ويمسك السماء أن تقع على الأرض ويمسك الطير في الهواء صافات ويقبضن ويمسك القلوب الموقنة أن تزيغ عن الإيمان ويمسك حياة الحيوان أن تفارقه إلى الأجل المحدود ويمسك على الموجودات وجودها ولولا ذلك لاضمحلت وتلاشت والكل قائم بأفعاله وصفاته التي هي من لوازم ذاته فليس الوجود الحقيقي إلا له أعني الوجود الذي هو مستغن فيه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه بالذات لا قيام له بنفسه طرفة عين
ولما كان للفناء مبدأ وتوسط وغاية أشار إلى مراتبه الثلاثة فالمرتبة الأولى فناء أهل العلم المتحققين به والثانية فناء أهل السلوك والإرادة والثالثة فناء أهل المعرفة المستغرقين في شهود الحق سبحانه
فأول الأمر أن تفنى قوة علمه وشعوره بالمخلوقين في جنب علمه ومعرفته بالله

وحقوقه ثم يقوي ذلك حتى يعدهم كالأموات وكالعدم ثم يقوي ذلك حتى يغيب عنهم بحيث يكلم ولا يسمع ويمر به ولا يرى وذلك أبلع من حال السكر ولكن لا تدوم له هذه الحال ولا يمكن أن يعيش عليها

فصل قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى فناء المعرفة في المعروف
وهو الفناء علما وفناء العيان في المعاين وهو الفناء جحدا وفناء الطلب في الوجود وهو الفناء حقا
هذا تفصيل ما أجمله أولا ونبين ما أرادوا بالعلم والجحد والحق
ففناء المعرفة في المعروف هو غيبة العارف بمعروفه عن شعوره بمعرفته ومعانيها فيفنى به سبحانه عن وصفه هنا وما قام به فإن المعرفة فعله ووصفه فإذا استغرق في شهود المعروف فني عن صفة نفسه وفعلها ولما كانت المعرفة فوق العلم وأخص منه كان فناء المعرفة في المعروف مستلزما لفناء العلم في المعرفة فيفنى أولا في المعرفة ثم تفنى المعرفة في المعروف
وأما فناء العيان في المعاين فالعيان فوق المعرفة فإن المعرفة مرتبة فوق العلم ودون العيان فإذا انتقل من المعرفة إلى العيان فني عيانه في معاينه كما فنيت معرفته في معروفه
وأما فناء الطلب في الوجود فهو أن لا يبقى لصاحب هذا الفناء طلب لأنه ظفر بالمطلوب المشاهد وصار واجدا بعد أن كان طالبا فكان إدراكه أولا علما ثم قوي فصار معرفة ثم قوي فصار عيانا ثم تمكن فصار معرفة ثم تمكن فصار وجودا
ولعلك أن تستنكر أو تستبعد هذه الألفاظ ومعانيها فاسمع ضرب مثل يهون عليك ذلك ويقربه منك مثل ملك عظيم السلطان شديد السطوة تام الهيبة قوي البأس استدعى رجلا من رعيته قد اشتد جرمه وعصيانه له

فحضر بين يديه وغلب على ظنه إتلافه فأحواله في حال حضوره مختلفة بالنسبة إلى ما يشاهده فتارة يتذكر جرمه وسطوة السلطان وقدرته عليه فيفكر فيما سيلقاه وتارة تقهره الحال التي هو فيها فلا يذكر ما كان منه ولا ما أحضر من أجله لغلبة الخوف على قلبه ويأسه من الخلاص ولكن عقله وذهنه معه وتارة يغيب قلبه وذهنه بالكلية فلا يشعر أين هو ولا من إلى جانبه ولا بما يراد به وربما جرى على لسانه في هذه الحال مالا يريده فهذا فناء الخوف
ومثال ثان في فناء الحب محب استغرقت محبته شخصا في غاية الجمال والبهاء وأكبر أمنيته الوصول إليه ومحادثته ورؤيته فبينا هو على حاله قد ملأ الحب قلبه وقد استغرق فكره في محبوبه وإذا به قد دخل عليه محبوبه بغتة على أحسن هيئة فقابله قريبا منه وليس دونه سواه أفليس هذا حقيقا أن يفنى عن رؤية غيره بمشاهدته وأن يفنى عن شهوده بمشهوده بل وعن حبه بمحبوبه فيملك عليه المحبوب سمعه وبصره وإرادته وإحساسه ويغيب به عن ذاته وصفاته وانظر إلى النسوة كيف قطعن أيديهن لما طلع عليهن يوسف وشاهدن ذلك الجمال ولم يتقدم لهن من عشقه ومحبته ما تقدم لامرأة العزيز فأفناهن شهود جماله عن حالهن حتى قطعن أيديهن
وأما امرأة العزيز فإنها وإن كانت صاحبة المحبة فإنها كانت قد ألفت رؤيته ومشاهدته فلما خرج لم يتغير عليها حالها كما تغير على العواذل فكان مقامها البقاء ومقامهن الفناء وحصل لهن الفناء من وجهين

أحدهما ذهولهن عن الشعور بقطع ما في أيديهن حتى تخطاه القطع إلى الأيدي
الثاني فناؤهن عن الإحساس بألم القطع وهكذا الفناء بالمخوف والفرح بالمحبوب يفنى صاحبه عن شعوره وعن إحساسه بالكيفيات النفسانية
هذا في مشاهدة مخلوق محدث له أشباه أمثال وله من يقاربه ويدانيه في الجمال وإنما فاق بني جنسه في الحسن والجمال ببعض الصفات وامتاز ببعض المعاني المخلوقة المصنوعة فما الظن بمن له الجمال كله والكمال كله والإحسان والإجمال ونسبة كل جمال في الوجود إلى جماله وجلاله أقل من نسبة سراج ضعيف إلى عين الشمس ولما علم سبحانه أن قوى البشر لا تحتمل في هذه الدار رؤيته احتجب عن عباده إلى يوم القيامة فينشئهم نشأة يتمكنون بها من مشاهدة جمال ورؤية وجهه وأنت ترى بعض آياته ومخلوقاته ومبدعاته كيف يفنى فيها مشاهدها عن غيرها ولكن هذا كله في المشاهدات العيانية والواردات الوجدانية
وأما المعارف الإلهية فإن حالة البقاء فيها أكمل من حالة الفناء وهي حالة نبينا صلوات الله وسلامه عليه وحال الكمل من أتباعه ولهذا رأى ما رأى ليلة الإسراء وهو ثابت القلب رابط الجأش حاضر الإدراك تام التمييز ولو رأى غيره بعض ذلك لما تمالك
فإن قلت ربما أفهم معنى فناء المعرفة في المعروف وفناء العيان في المعاين فما معنى فناء الطلب في الوجود حتى يكون هو الفناء حقا
قلت متى فهمت الأمرين اللذين قبله فهمت معناه فإن الواجد لما ظفر بموجوده فني طلبه له واضمحل وهذا مشهود في الشاهد فإنك ترى طالب أمر مهم فإذا ظفرت يداه به وأدركه كيف يبرد طلبه ويفنى في وجوده لكن هذا محال في حق العارف فإن طلبه لا يفارقه بل إذا وجد اشتد طلبه فلا

يزال طالبا فكلما كان أوجد كان أطلب نعم الذي يفنى طلب حظه في طلب محبوبه وطلب مراضيه وليس بعد هذا غاية ولكن الذي يشير إليه القوم أن العبد يصل في منزلة المحبة والمعرفة والاستغراق في المشاهدة إلى حالة تستولي فيها عليه أنواع القرب وآثار الصفات بحيث يذهل لبه عن شعوره بطلبه وإرادته ومحبته
وأيضاح ذلك أن العبد إذا أقبل على ربه وتفقد أحواله وتمكن من شهود قيام ربه عليه فإنه يكون في أول أمره مكابدا وصابرا ومرابطا فإذا صبر وصابر ورابط صبر في نفسه وصابر عدوه ورابط على ثغر قلبه أن يدخل فيه خاطر لا يحبه وليه الحق ظهر حينئذ في قلبه نور من إقباله على ربه فإذا قوي ذلك النور غيبه عن وجوده الذهني وسري به في مطاوي الغيب فحينئذ يصفو له إقباله على ربه فإذا صفا له ذلك غاب عن وجوده العيني والذهني فغاب بنور إقباله على ربه بوصول خالص الذكر وصافيه إلى قلبه حيث خلا من كل شاغل من الوجود العيني والذهني وصار واحدا لواحد فيستولي نور المراقبة على أجزاء باطنه فيمتلئ قلبه من نور التوجه بحيث يغمر قلبه ويستره عما سواه ثم يسري ذلك النور من باطنه فيعم أجزاء ظاهره فيتشابه الظاهر والباطن فيه وحينئذ يفنى العبد عما سواه ويبقى بالمشهد الروحي الذاتي الموجب للمحبة الخاصة الملهبة للروح
فمنهم من يضعف لقلة الوارد فلا يمكنه أن يتسع لغير ما باشر سره وقلبه من آثار الحب الخاص ومنهم من يقوى ويتسع نظره فيجد آثار الجلال والجمال المقدس في قلبه وروحه ويجد العبودية والمحبة والدعاء والافتقار والتوكل والخوف والرجاء وسائر الأعمال القلبية قائمة بقلبه لا تشغله عن مشهد الروح ولا تستغرق مشهد الروح عنه ويجد ملاحظته للأوامر والنواهي حاضرا في جذر قلبه حيث نزلت الأمانة فلا يشغله مشهد الروح المستغرق ولا مشهد القلب عن ملاحظة مراضي الرب تعالى ومحابه وحقه على عبده ويجد ترك التدبير والاختيار

وصحة التفويض موجودا في محل نفسه فيعامل الله سبحانه بذلك بحيث لا تشغله مشاهدة الأولى عنه ويقوم بملاحظة عقله لأسرار حكمة الله في خلقه وأمره ولا يحجبه ذلك كله عن ملاحظة عبوديته فيبقى مغمور الروح بملاحظة الفردانية وجلالها وكمالها وجمالها قد استغرقته محبته والشوق إليه معمور القلب بعبادات القلوب معمور القلب بملاحظة الحكمة ومعاني الخطاب طاهر القلب عن سفساف الأخلاق مع الله تعالى ومع الخلق قد صار عبدا محضا لربه بروحه وقلبه وعقله ونفسه وبدنه وجوارحه قد قام كل بما عليه من العبودية بحيث لا تحجبه عبودية بعضه عن عبودية البعض الآخر قد فنى عن نفسه وبقي بريه كما قال أبو بكر الكتاني جرت مسألة بمكة أيام الموسم في المحبة فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سنا فقالوا له هات ما عندك يا عراقي فأطرق ساعة ودمعت عيناه ثم قال عبد ذاهب عن نفسه ومتصل بذكر ربه قائم بأداء حقوقه ناظر إليه بقلبه أحرق قلبه أنوار هيبته وصفا شربه من كأس وده وانكشف له الجبار من أستار غيبه فإن تكلم فبالله وإن نطق فعن الله وإن عمل فبأمر الله وإن سكن فمع الله فهو لله وبالله ومع الله
فبكى الشيوخ وقالوا ما على هذا مزيد جبرك الله يا تاج العارفين

فصل قال الشيخ الدرجة الثانية فناء شهود الطلب لإسقاطه وفناء شهود
العلم لإسقاطه وفناء شهود العيان لإسقاطه
إنما كانت هذه الدرجة من الفناء أعلى عنده مما قبلها لأنها أبلغ في الفناء من جهة فناء أربابها عن فنائهم فقد سقط عن قلوبهم ذكر أحوالهم ومقاماتهم لما هم فيه من الشغل بربهم
وقوله لإسقاطه أي لإسقاط الشهود لا إسقاط المشهود فالطلب والعلم والعيان قائم وقد سقط الشهود لاستغراق صاحبه في المطلوب المعاين

فصل قال الدرجة الثالثة الفناء عن شهود الفناء وهو الفناء حقا
شائما برق العين راكبا بحر الجمع سالكا سبيل البقاء
الفرق بين الفناء في هذه الدرجة والتي قبلها أنه في التي قبلها قد فني عن شهود طلبه وعلمه وعيانه مع شعوره بفنائه عن ذلك وفي هذه الدرجة قد فني عن ذلك كله وفني عن شهود فنائه كما يقال آخر من يموت ملك الموت
وإنما كان هذا الفناء عنده هو الفناء حقا لأنه قد فني فيه كل ما سوى الحق سبحانه لأن صاحبه يشهد الفناء قد فني فلم يبق سوى الواحد القهار
وقوله شائما برق العين الشائم الناظر من بعد وبرق العين نور الحقيقة وقد تقدم التنبيه على استحالة تعلق هذا بالنور الخارجي وإنما هو أنوار القرب والمراقبة والحضور مع الله
وقوله راكبا بحر الجمع الجمع الذي يشيرون إليه عبارة عن شخوص البصيرة إلى مجرد مصدر المتفرقات كلها كما سيأتي بيانه في بابه إن شاء الله تعالى وركوب لجة هذا الجمع هو فناؤه فيه
قوله سالكا سبيل البقاء يعني أن من فنى فقد تأهل للبقاء بالحق وهذا البقاء هو بعد الفناء فإنه إذا تحقق بالفناء رفع له علم الحقيقة فشمر إليه سالكا في طريق البقاء وهي القيام بالأوراد وحفظ الواردات فحينئذ يرجى له الوصول
فصل لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة والتابعين
مدح لفظ الفناء ولا ذمه ولا استعملوا لفظه في هذا المعنى المشار إليه البتة ولا ذكره

مشايخ الطريق المتقدمون ولا جعلوه غاية ولا مقاما وقد كان القوم أحق بكل كمال وأسبق إلى كل غاية محمودة ونحن لا ننكر هذا اللفظ مطلقا ولا نقبله مطلقا
ولا بد فيه من التفصيل وبيان صحيحه من معلوله ووسيلته من غايته فنقول وبالله التوفيق وهو الفتاح العليم
حقيقة الفناء المشار إليه هو استهلاك الشيء في الوجود العلمي الذهني وههنا تقسمه أهل الاستقامة وأهل الزيغ والإلحاد فزعم أهل الاتحاد القائلون بوحدة الوجود أن الفناء هو غاية الفناء عن وجود السوى فلا يثبت للسوى وجود ألبتة لا في الشهود ولا في العيان بل يتحقق بشهود وحدة الوجود فيعلم حينئذ أن وجود جميع الموجودات هو عين وجود الحق فما ثم وجودان بل الموجود واحد وحقيقة الفناء عندهم أن يفنى عما لا حقيقة له بل هو وهم وخيال فيفنى عما هو فان في نفسه لا وجود له فيشهد فناء وجود كل ما سواه في وجوده وهذا تعبير محض وإلا ففي الحقيقة ليس عند القوم سوى ولا غير وإنما السوي والغير في الوهم والخيال فحول هذا الفناء يدندنون وعليه يحومون
وأما أهل التوحيد والاستقامة فيشيرون بالفناء إلى أمرين أحدهما أرفع من الآخر
الأمر الأول الفناء في شهود الربوبية والقيومية فيشهد تفرد الرب تعالى بالقيومية والتدبير والخلق والرزق والعطاء والمنع والضر والنفع وأن جميع الموجودات منفعلة لا فاعلة وماله منها فعل فهو منفعل في فعله محل محض

لجريان أحكام الربوبية عليه لا يملك شيئا منها لنفسه ولا لغيره فلا يملك ضرا ولا نفعا فإذا تحقق العبد بهذا المشهد خمدت منه الخواطر والإرادات نظرا إلى القيوم الذي بيده تدبير الأمور وشخوصا منه إلى مشيئته وحكمته فهو ناظر منه به إليه فإن بشهوده عن شهود ما سواه ومع هذا فهو ساع في طلب الوصول إليه قائما بالواجبات والنوافل
الأمر الثاني الفناء في مشهد الإلهية وحقيقته الفناء عن إرادة ما سوى الله ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجائه فيفنى بحبه عن حب ما سواه وبخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه وحقيقة هذا الفناء إفراد الرب سبحانه بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والإجلال ونحن نشير إلى مبادئ ذلك توسطه وغايته فنقول
اعلم أن القلب إذا خلى من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رياسة أو صورة وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العدة والتأهب للقدوم على الله عز و جل فذلك أول فتوحه وتباشير فجره فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضى به ربه منه فيفعله ويتقرب به إليه وما يسخطه منه فيجتنبه وهذا عنوان صدق إرادته فإن كل من أيقن بلقاء الله وأنه سائله عن كلمتين يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين لا بد أن يتنبه لطلب معرفة معبوده والطريق الموصلة إليه فإذا تمكن في ذلك فتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات فلا شيء أشوق إليه من ذلك فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه وتشت قلبه فيأنس بها ويستوحش من الخلق
ثم يفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لا يكاد يشبع منها ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب ونيل الشهوات بحيث إنه إذا دخل في الصلاة ود أن لا يخرج منها ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله

فلا يشبع منه وإذا سمعه هدأ قلبه به كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شديد المحبة له ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به وجلاله وكمال نعوته وصفاته وحكمته ومعاني خطابه بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتى يغيب فيه ويحس بقلبه وقد دخل في عالم آخر غير ما الناس فيه
ثم يفتح له باب الحياء من الله وهو أول شواهد المعرفة وهو نور يقع في القلب يريه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه عز و جل فيستحي منه في خلواته وجلواته ويرزق عند ذلك دوام المراقة للرقيب ودوام التطلع إلى حضرة العلي الأعلى حتى كأنه يراه ويشاهده فوق سمواته مستويا على عرشه ناظرا إلى خلقه سامعا لأصواتهم مشاهدا لبواطنهم فإذا استولى عليه هذا الشاهد غطى عليه كثيرا من الهموم بالدنيا وما فيها فهو في وجود والناس في وجود آخر هو في وجود بين يدي ربه ووليه ناظرا إليه بقلبه والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا فهو يراهم وهم لا يرونه ولا يرون منه إلا ما يناسب عالمهم ووجودهم
ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده فيشهده مالك الضر والنفع والخلق والرزق والإحياء والإماتة فيتخذه وحده وكيلا ويرضى به ربا ومدبرا وكافيا وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه وصفات كماله ونعوت جلاله فلا يحجبه خلقه عنه سبحانه بل يناديه كل من المخلوقات بلسان حاله اسمع شهادتي لمن أحسن كل شيء خلقه فأنا صنع الله الذي أتقن كل شيء
فإذا استمر له ذلك فتح عليه باب القبض والبسط فيقبض عليه حتى يجد ألم القبض لقوة وارده ثم يقبض وعاءه بأنوار الوجود فيفنى عن وجوده وينمحي كما يمحو نور الشمس نور الكواكب ويطوي الكون عن قلبه بحيث لا يبقى

فيه إلا الله الواحد القهار وتفيض أنوار المعرفة والمعاملة والصدق والإخلاص والمحبة من قلبه كما يفيض نور الشمس عن جرمها فيغرق حينئذ في الأنوار كما يغرق راكب البحر في البحر وذلك إنما يكون في الرياضة والمجاهدة وزوال أحكام الطبيعة وطول الوقوف في الباب
وهذا هو من علم اليقين لا من عين اليقين ولا من حق اليقين إذ لا سبيل إليهما في الدار فإن عين اليقين مشاهدة وحق اليقين مباشرة نعم قد يكون حق اليقين في هذه الدنيا بالنسبة إلى الوجود الذهني وما يقوم بالقلوب فقط ليس إلا كما تقدم تقريره مرارا ونحن لا تأخذنا في ذلك لومة لائم وهم لا تأخذهم في كون ذلك في العيان لومة لائم وهم عندنا صادقون ملبوس عليهم ونحن عندهم محجوبون عن ذلك غير واصلين إليه
فإن استمر على حاله واقفا بباب مولاه لا يلتفت عنه يمينا ولا شمالا ولا يجيب غير من يدعوه إليه ويعلم أن الأمر وراء ذلك وأنه لم يصل بعد ومتى توهم أنه قد وصل انقطع عنه المزيد رجى أن يفتح له فتح آخر هو فوق ما كان فيه مستغرقا قلبه في أنوار مشاهدة الجلال بعد ظهور أنوار الوجود الحق ومحو وجوده هو ولا يتوهم أن وجود صفاته وذاته تبطل بل الذي يبطل هو وجوده النفساني الطبعي ويبقى له وجود قلبي روحاني ملكي فيبقى قلبه سابحا في بحر من أنوار آثار الجلال فتنبع الأنوار من باطنه كما ينبع الماء من العين حتى يجد الملكوت الأعلى كأنه في باطنه وقلبه ويجد قلبه عاليا على ذلك كله صاعدا إلى من ليس فوقه شيء ثم يرقيه الله سبحانه فيشهده أنوار الإكرام بعد ما شهد أنوار الجلال فيستغرق في نور من أنوار أشعة الجمال وفي هذا المشهد يذوق المحبة الخاصة الملهبة للأرواح والقلوب فيبقى القلب مأسورا في يد حبيبه ووليه ممتحنا بحبه وإن شئت أن تفهم ذلك تقريبا فانظر إليك وإلى غيرك وقد امتحنت بصورة بديعة الجمال ظاهرا وباطنا فملكت عليك

قلبك وفكرك وليلك ونهارك فيحصل لك نار من المحبة فتضرم في أحشائك يعز معها الاصطبار وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
فياله من قلب ممتحن مغمور مستغرق بما ظهر له من اشعة أنوار الجمال الأحدى والناس مفتونون ممتحنون بما يفنى من المال والصور والرياسة معذبون بذلك قبل حصوله وحال حصوله وبعد حصوله وأعلاهم مرتبة من يكون مفتونا بالحور العين أو عاملا على تمتعه في الجنة بالأكل والشرب واللباس والنكاح وهذا المحب قد ترقى في درجات المحبة على أهل المقامات ينظرون إليه في الجنة كما ينظرون إلى الكوكب الدري الغابر في الأفق لعلو درجته وقرب منزلته من حبيبه ومعيته معه فإن المرء مع من أحب ولكل عمل جزاء وجزاء المحبة المحبة والوصول والاصطناع والقرب فهذا هو الذي يصلح وكفى بذلك شرفا وفخرا في عاجل الدنيا فما ظنك بمقاماتهم العالية عند مليك مقتدر فكيف إذا رأيتهم في موقف القيامة وقد أسمعهم المنادي لينطلق كل قوم مع ما كانوا يعبدون فيبقون في مكانهم ينتظرون معبودهم وحبيبهم الذي هو أحب شيء إليهم حتى يأتيهم فينظرون إليه ويتجلى لهم ضاحكا
والمقصود أن هذا العبد لا يزال الله يرقيه طبقا بعد طبق ومنزلا بعد منزل إلى أن يوصله إليه ويمكن له بين يديه أو يموت في الطريق فيقع أجره على الله فالسعيد كل السعيد والموفق كل الموفق من لم يلتفت عن ربه تبارك وتعالى يمينا ولا شمالا ولا اتخذ سواه ربا ولا وكيلا ولا حبيبا ولا مدبرا ولا حكما ولا ناصرا ولا رازقا
وجميع ما تقدم من مراتب الوصول إنما هي شواهد وامثلة إذا تجلت له الحقائق في الغيب بحسب استعداده ولطفه ورقته من حيث لا يراها ظهر من تجليها شاهد في قلبه وذلك الشاهد دال عليها ليس هو عينها فإن نور الجلال في القلب ليس هو نور ذي الجلال في الخارج فإن ذلك لا تقوم له السماوات

والأرض ولو ظهر للوجود لتدكدك لكنه شاهد دال على ذلك كما أن المثل الأعلى شاهد دال على الذات والحق وراء ذلك كله منزه عن حلول واتحاد وممازجة لخلقه وإنما تلك رقائق وشواهد تقوم بقلب العارف تدل على قرب الالطاف منه في عالم الغيب حيث يراها وإذا فني فانما يفنى بحال نفسه لا بالله ولا فيه وإذا بقي فإنما يبقى بحاله هو ووصفه لا ببقاء ربه وصفاته ولا يبقى بالله إلا الله ومع ذلك فالوصول حق يجد الواصل آثار تجلي الصفات في قلبه وآثار تجلي الحق في قلبه ويوقف القلب فوق الأكوان كلها بين يدي الرب تعالى وهو على عرشه ومن هناك يكاشف بآثار الجلال والإكرام فيجد العرش والكرسي تحت مشهد قلبه حكما وليس الذي يجده تحت قلبه حقيقة العرش والكرسي بل شاهد ومثال علمي يدل على قرب قلبه من ربه وقرب ربه من قلبه وبين الذوقين تفاوت فإذا قرب الرب تعالى من قلب عبده بقيت الأكوان كلها تحت مشهد قلبه وحينئذ يطلع في أفقه شمس التوحيد فينقشع بها ضباب وجوده ويضمحل ويتلاشى وذاته وحقيقته موجودة بائنة عن ربه وربه بائن عنه فحينئذ يغيب العبد عن نفسه ويفنى وفي الحقيقة هو باق غير فان ولكنه ليس في سره غير الله قد فنى فيه عن كل ما سواه
نعم قد يتفق له في هذه الحالة أن لا يجد شيئا غير الله فذلك لاستغراق قلبه في مشهوده وموجوده ولو كان ذلك في نفس الأمر لكان العبد في هذه الحال خالقا بارئا مصورا أزليا أبديا
فعليك بهذا الفرقان واحذر فريقين هما أعدى عدو لهذا الشأن فريق الجهمية المعطلة التي ليس عندها فوق العرش إلا العدم المحض فشم رائحة هذا المقام من أبعد الأمكنة حرام عليها وفريق أهل الاتحاد القائلين بوحدة الوجود وأن العبد ينتهي في هذا السفر إلى أن يشهد وجوده هو عين وجود الحق جل جلاله وعيشك بجهلك خير من معرفة هاتين الطائفتين وانقطاعك مع الشهوات خيرك معهما والله المستعان وعليه التكلان

فصل قال الشيخ باب البقاء قال الله عز و جل والله خير وأبقى
البقاء الذي يشير إليه القوم هو صفة العبد ومقامه والبقاء في الآية هو بقاء الرب ودوام وجوده وإنما ذكره مؤمنو السحرة في هذا المكان لأن عدو الله فرعون توعدهم على الإيمان بإتلاف حياتهم وإفناء ذواتهم فقالوا له وإن فعلت ذلك فالذي آمنا به وانتقلنا من عبوديتك إلى عبوديته ومن طلب رضاك والمنزلة عندك إلى طلب رضاه والمنزلة عنده خير منك وأدوم وعذابك ونعيمك ينقطع ويفرغ وعذابه هو ونعيمه وكرامته لا تنقطع ولا تبيد فكيف نؤثر المنقطع الفاني الأدنى على الباقي المستمر الأعلى
ولكن وجه الإشارة بالآية أن الوسائل والتعلقات والمحبة والإرادة تابعة لغاياتها ومحبوبها ومرادها فمن كانت غاية محبته وإرادته منقطعة انقطع تعلقه عند انقطاعها وذهب عمله وسعيه واضمحل ومن كان مطلوبه وغايته باقيا دائما لا زوال له ولا فناء ولا يضمحل ولا يتلاشى دام تعلقه ونعيمه به بدوامه فالوسائل تابعة للغايات والتعلقات تابعة لمتعلقاتها والمحبة تابعة للمحبوب فليس المحبوب الذي يتلاشى ويضمحل ويفنى كالمحبوب الذي كل شيء هالك إلا وجهه فالمحب باق ببقاء محبوبه يشرف بشرفه ويعظم خطره بحسب محبوبه ويستغنى بغناه ويقوى بقوته ويعز بعزه ويعظم شأنه في النفوس بخدمته وإرادته ومحبته تالله لولا حجاب الغفلة والعوائد والهوى والمخالفات لذاق القلب أعظم الألم بتعلقه بغير الحبيب الأول ولذاق أعظم اللذة والسرور بتعلقه به فالله المستعان

فصل قال الشيخ البقاء اسم لما بقي قائما بعد فناء الشواهد وسقوطها
له في هذه العبارة تسامح وأرباب هذا الشأن همهم المعاني فهم يسامحون في العبارات مالا يسامح فيه غيرهم

فالبقاء هو الدوام واستمرار الوجود وهو نوعان مقيد ومطلق فالمقيد البقاء إلى مدة والمطلق الدائم المستمر لا إلى غاية
والبقاء أوضح من هذا الحد الذي ذكره ولكن لما كان مراده البقاء الذي هو صفة العبد ومقامه قال هو اسم لما بقي بعد فناء الشواهد وهذا عام في سائر أنواع ما بقي العبد متصفا به بعد فناء الأدلة والآثار التي دلت على الحقيقة
والشواهد عنده هي الرسوم كلها وربما يراد بها معالم الشهود وهو الذي عناه فيما تقدم فإذا جعلت الشواهد ههنا معالم الشهود كان المعنى أن المعالم توصل إلى الشهود ويبقى الشهود قائما بعد فناء معالمه
وحقيقة الأمر أن الحق سبحانه يفنيهم عما سواه ويبقيهم به وما سواه هو المعالم والرسوم
قال وهو على ثلاث درجات بقاء المعلوم بعد سقوط العلم عينا لا علما وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا لا نعتا وبقاء مالم يزل حقا بإسقاط مالم يكن محوا
قلت أما بقاء المعلوم بعد سقوط العلم فقد يظهر في بادي الأمر امتناعه إذ كونه معلوما مع سقوط العلم به جمع بين النقيضين وكأنه معلوم غير معلوم فإن المعلوم لا يكون معلوما إلا بالعلم فكيف يكون معلوما مع سقوطه
وجواب هذا أن هنا أمرين
أحدهما وجود صورة المعلوم في قلب العالم وإدراكه لها وشعوره بها
والثاني علمه بعلمه وشعوره وهو أمر وراء حضور تلك الصورة وهذا في سائر المدارك فقد يدى الرائي الشيء ويسمعه ويشمه ويغيب عن علمه وشعوره بصفة نفسه التي هي إدراكه فيغيب بمدركه عن إدراكه وبمعلومه عن علمه وبمرئيه عن رؤيته فإن قلت أوضح لي هذا لينجلي فهمه

فاعلم أن ههنا قوة مدركة له إذا تعلقت به صار معلوما مدركا فتولد من بين هذين الأمر حالة ثالثة تسمى الشعور والعلم والإدراك
مثال ذلك ما يدركه بحاسة الذوق والشم فإنه لا بد من وجود المدرك المذوق المشموم ولا بد من قوة في الآلة والمحل المخصوص تقابل المدرك وتتعلق به فيتولد من بين الأمرين كيفية الشم والذوق وكذلك في الملموس والمسموع والمرئي فتمام الإدراك أن يحيط علما بهذه الأمور الثلاثة فيشعر بالمدرك وبالقوة المدركة وبحالة الإدراك فإذا استغرق القلب في شهوده المعلوم غاب به عن شهود القوة التي بها يعلم وعن حالة العلم ومثل هذا برجل أدرك بلمسه ما التذ به أعظم لذة حصلت له فاستغرقته تلك اللذة عما سواها فأسقطت شعوره بها دون وجودها ولهذا قال الشيخ بقاء المعلوم بعد سقوط العلم عيانا لا علما فعيانا حال من البقاء لا من السقوط أي بقاؤه وجودا لا نعتا فإنه في مرتبة العلم باق نعتا ووصفا وفي هذه المرتبة باق وجودا وعيانا لا علما مجردا
وهذا وجه ثان في كلامه أنه يبقى وجوده وعينه لا مجرد العلم به فالعلم به لم يعدم ولكن انتقل العبد من وجود العلم إلى وجود المعلوم
وكذلك قوله في الدرجة الثانية وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا لا نعتا الشهود فوق العلم لأنه علم عيان فينتقل من مجرد الشهود إلى الوجود فيبقى المشهود موجودا له بعد أن كان مشهودا ومرتبة الوجود فوق مرتبة الشهود فإن الوجود حصول ذاتي والشهود حصول علمي وإن كان فوق العلم
قوله في الدرجة الثالثة وبقاء من لم يزل حقا بإسقاط ما لم يكن محوا أي يغلب على القلب سلطان الحقيقة ونور الجمع حتى ينطمس من قلبه أثر المخلوقات

كما ينطمس نور الكواكب بطلوع الشمس ويبقى فيه تعظيم من لم يزل وذكره وحبه والاشتغال به لا بغيره
فالدرجة الأولى بقاء في مرتبة العلم والثانية بقاء في مرتبة الشهود والثالثة بقاء في مرتبة الوجود فهذا وجه
ويمكن شرح كلامه على وجه آخر وهو أن المعلوم يسقط شهود العلم فالعلم يسقط والمعلوم يثبت فالعبد إذا بقي بعد الفناء سقط علمه في مشهد عيانه بحيث تبقى مرتبة العلم عيانا فيسقط العلم بالعيان بحيث يصير عينا لا علما فإذا نظرت إلى العلم باعتبار العين وهي حضرة الجمع سقط العلم فإذا نظرت إليه باعتبار الفرق لم يسقط فسقوطه في حضرة الجمع وثبوته في مقام الفرق
قوله وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا يعني بقاء الحق الذي هو المشهود بعد سقوط الشهود الذي هو المخلوق كان المشهود صفة المشاهد والمشاهد وصفاته مخلوق ومشهوده سبحانه غير مخلوق كما أن علمه وذكره ومعرفته مخلوقة والمعلوم المذكور المعروف سبحانه غير مخلوق وإذا كان الموصوف قد فني وصفاته تابعة له في الفناء فيفنى شهوده ويبقى مشهوده
قوله وجودا لا نعتا أي سقط وجود شهوده لا نعته والإخبار عنه
قوله وبقاء ما لم يزل حقا بإسقاط مالم يكن محوا يوضح المراد من الدرجتين اللتين قبل ومعناه بقاء الحق وفناء المخلوق والحق سبحانه لم يزل باقيا فلم يتجدد له البقاء والفناء المتعلق بالمخلوق فناؤهم في شهود المشاهد ومحو رسومهم من قلبه بالكلية لا فناؤهم في الخارج
وحاصل ذلك أن يفنى من قلبك إرادة السوى وشهوده والالتفات إليه ويبقى فيه إرادة الحق وحده وشهوده والالتفات بالكلية إليه والإقبال بجمعيتك عليه فحول هذا يدندن العارفون وإليه يشمر السالكون وإن وسعوا له العبارات وصرفوا إليه القول والله أعلم

فصل قال باب التحقيق قال الله تعالى أو لم تؤمن قال بلى
ولكن ليطمئن قلبي التحقيق تلخيص مصحوبك من الحق ثم بالحق ثم في الحق وهذه أسماء درجاته الثلاث
وجه تعلقه بإشارة الآية إن إبراهيم طلب الانتقال من الإيمان بالعلم بإحياء الله الموتى إلى رؤية تحقيقه عيانا فطلب بعد حصول العلم الذهني تحقيق الوجود الخارجي فإن ذلك أبلغ في طمأنينة القلب ولما كان بين العلم والعيان منزلة أخرى قال النبي نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى وإبراهيم لم يشك ورسول الله لم يشك ولكن أوقع اسم الشك على المرتبة العلمية باعتبار التفاوت الذي بينها وبين مرتبة العيان في الخارج وباعتبار هذه المرتبة سمي العلم اليقيني قبل مشاهدة معلومه ظنا قال تعالى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون وقال تعالى الذين يظنون أنهم ملاقو الله وهذا الظن علم جازم كما قال تعالى واعلموا أنكم ملاقوه لكم بين الخبر والعيان فرق وفي المسند مرفوعا ليس الخبر كالعيان ولهذا لما أخبر الله موسى أنه قد فتن قومه وأن السامري أضلهم لم يحصل له من الغضب والكيفية وإلقاء الألواح ما حصل له عند مشاهدة ذلك
إذا عرف هذا فقوله التحقيق تلخيص مصحوبك من الحق ههنا أربعة ألفاظ بتفسيرها يفهم مراده إن شاء الله
أحدها لفظ التحقيق وهو تفعيل من حقق الشيء تحقيقا فهو مصدر فعله حقق الشيء أي أثبته وخلصه من غيره
الثانية لفظ التلخيص ومعناه تخليص الشيء من غيره فخلصه ولخصه

يشتركان لفظا ومعنى وإن كان التلخيص أغلب على ما في الذهن والتخليص أغلب على ما في الخارج فالتلخيص تلخيص الشيء في الذهن بحيث لا يدخل فيه غيره والتخليص إفراده في الخارج عن غيره
الثالث المصحوب وهو ما يصحب الإنسان في قصده ومعرفته من معلوم ومراد
الرابع الحق وهو الله سبحانه وما كان موصلا إليه مدنيا للعبد من رضاه
إذا عرف هذا فمصحوب العبد من الحق هو معرفته ومحبته وإراده وجهه الكريم وما يستعين به على الوصول إليه وما هو محتاج إليه في سلوكه فالتحقيق هو تخليصه من المفسدات القاطعة عنه الحائلة بين القلب وبين الموصل إليه وتحصينه من المخالطات وتخليصه من المشوشات فإن تلك قواطع له عن مصحوبه الحق وهي نوعان لا ثالث لهما عوارض محبوبة وعوارض مكروهة
فصاحب مقام التحقيق لا يقف مع العوارض المحبوبة فإنها تقطعه عن مصحوبه ومحبوبه ولا مع العوارض المكروهة فإنها قواطع أيضا ويتغافل عنها ما أمكنه فإنها تمر بالمكاثرة والتغافل مرا سريعا لا يوسع دوائرها فإنه كلما وسعها اتسعت ووجدت مجالا فسيحا فصالت فيه وجالت ولو ضيقها بالإعراض عنها والتغافل لاضمحلت وتلاشت فصاحب مقام التحقيق ينساها ويطمس آثارها ويعلم أنها جاءت بحكم المقادير في دار المحن والآفات
قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مرة العوارض والمحن هي كالحر والبرد فإذا علم العبد أنه لا بد منهما لم يغضب لورودهما ولم يغتم لذلك ولم يحزن
فإذا صبر العبد على هذه العوارض ولم ينقطع بها رجى له أن يصل إلى مقام التحقيق فيبقى مع مصحوبه الحق وحده فتهذب نفسه وتطمئن مع الله وتنفطم عن عوائد السوء حتى تغمر محبة الله قلبه وروحه وتعود جوارحه متابعة

للأوامر فيحس قلبه حينئذ بأن معية الله معه وتوليه له فيبقى في حركاته وسكناته بالله لا بنفسه وترد على قلبه التعريفات الإلهية وذلك إنما يكون في منزل البقاء بعد الفناء والظفر بالمحبة الخاصة ويشهد الإلهية والقيومية والفردانية فإن على هذه المشاهد الثلاثة مدار المعرفة والوصول
والمقصود أن صاحب مقام التحقيق يعرف الحق ويميز بينه وبين الباطل فيمسك بالحق ويلغي الباطل فهذه مرتبة ثم يتبين له أن ذلك ليس به بل بالله وحده فيبرأ حينئذ من حوله وقوته ويعلم أن ذلك بالحق ثم يتمكن في ذلك المقام ويرسخ فيه قلبه فيصير تحقيقه بالله وفي الله
ففي الأول يخلص له مطلوبه من غيره ويتجرد له من سواه
وفي الثاني يخلص له إضافته إلى غيره وأن يكون سواه سبحانه
وفي الثالث تجرد له شهوده وقصوره بحيث صارت في مطلوبه
فالأول سفر إلى الله والثاني سفر بالله والثالث سفر في الله
وإن أشكل عليك معنى السفر فيه والفرق بينه وبين السفر إليه ففرق بين حال العابد الزاهد السائر إلى الله الذي لم يفتح له في الأسماء والصفات والمعرفة الخاصة وبين حال العارف الذي قد كشف له في معرفة الاسماء والصفات والصفات والفقه فيها ما حجب عن غيره
قوله أما الدرجة الأولى وهي تخليص مصحوبك من الحق فإن لا يخالج علمك علمه يعني أنك كنت تنسب العلم إلى نفسك قبل وصولك إلى مقام التحقيق ففي حالة التحقيق تعود نسبته إلى معلمه ومعطيه الحق ولعل هذا معنى قول الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذ جمعهم الرب تبارك وتعالى وقال ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا قيل قالوه تأدبا معه سبحانه إذ ردوا العلم إليه وقيل معناه لا علم لنا بحقيقة الباطن وإنما أجابنا من أجابنا ظاهرا والباطن غيب وأنت علام الغيوب

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7