كتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

ومجاهد والحسن وغيرهم : معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن قال ابن عباس رضي الله عنهما : ويجوز الاستثناء إلى سنة وقال عكرمة رحمه الله : واذكر ربك إذا غضبت وقال الضحاك والسدي : هذا في الصلاة أي إذا نسيت الصلاة فصلها متى ذكرتها وأما كلام صاحب المنازل : فيحمل على الإشارة لا على التفسير فذكر أربع مراتب إحداها : أن ينسى غير الله ولا ينسى نفسه لأنه ناس لغيره ولا يكون ناسيا إلا ونفسه باقية يعلم أنه ناس بها لما سوى المذكور الثانية : نسيان نفسه في ذكره وهي التي عبر عنها بقوله : ونسيت نفسك في ذكرك وفي هذه المرتبة : ذكره معه لم ينسه فقال في المرتبة الثالثة : ثم نسيت ذكرك في ذكره وهي مرتبة الفناء ثم قال في المرتبة الرابعة : ثم نسيت في ذكر الحق إياك كل ذكر وهذا الفناء بذكر الحق عبده عن ذكر العبد ربه فأما المرتبة الأولى : فهي أول درجات الذكر وهي أن تنسى غير المذكور ولا تنسى نفسك في الذكر وفي هذه المرتبة : لم يذكره بتمام الذكر إذ لتمامه مرتبتان فوقه
إحداهما : نسيان نفسه وهي المرتبة الثانية فيغيب بذكره عن نفسه فيعدم إدراكها بوجدان المذكور
الثانية : نسيان ذكره في ذكره كما سئل ذو النون عن الذكر فقال : غيبة الذاكر عن الذكر ثم أنشد :
لا لأني أنساك أكثر ذكراك ... ولكن بذاك يجري لساني وهذه هي المرتبة الثالثة

ففي الأولى : فنى عما سوى المذكور ولم يفن عن نفسه وفي الثانية : فن عن نفسه دون ذكره وفي الثالثة : فنى عن نفسه وذكره
وبقي بعد هذا مرتبة رابعة وهي : أن يفني بذكر الحق سبحانه له عن كل ذكر فإنه ما ذكر الله إلا بعد ذكر الله له فذكر الله للعبد سابق على ذكر العبد للرب ففي هذه المرتبة الرابعة : يشهد صفات المذكور سبحانه وذكره لعبده فيفنى بذلك عن شهود ما من العبد وهذا الذي يسمونه وجدان المذكور في الذكر والذاكر فإن الذاكر و ذكره و المذكور ثلاثة أشياء فالذاكر وذكره قد اضمحلا وفنيا ولم يبق غير المذكور وحده ولا شيء معه سواه فهو الذاكر لنفسه بنفسه من غير حلول ولا اتحاد بل الذكر منه بدأ وإليه يعود
وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له : ذكر قبله به صار العبد ذاكرا له وذكر بعده به صار العبد مذكورا كما قال تعالى : فاذكروني أذكركم البقرة : 152 وقال فيما يروي عنه نبيه : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير مهم
والذكر الذي ذكره الله به بعد ذكره له : نوع غير الذكر الذي ذكره به قبل ذكره له ومن كثف فهمه عن هذا فليجاوزه إلى غيره فقد قيل : إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع وسألت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوما فقلت له : إذا كان الرب سبحانه يرضى بطاعة العبد ويفرح بتوبته ويغضب من مخالفته فهل يجوز أن يؤثر المحدث في القديم حبا وبغضا وفرحا وغير ذلك فقال لي : الرب سبحانه هو الذي خلق أسباب الرضى والغضب والفرح وإنما كانت بمشيئته وخلقه فلم يكن ذلك التأثر من غيره بل من نفسه بنفسه والممتنع

أن يؤثر غيره فيه فهذا محال وأما أن يخلق هو أسبابا ويشاءها ويقدرها تقتضي رضاه ومحبته وفرحه وغضبه : فهذا ليس بمحال فإن ذلك منه بدأ وإليه يعود والله سبحانه أعلم

فصل قال : والذكر : هو التلخص من الغفلة والنسيان والفرق بين الغفلة
والنسيان : أن الغفلة ترك باختيار الغافل و النسيان ترك بغير اختياره ولهذا قال تعالى : ولا تكن من الغافلين الأعراف : 205 ولم يقل : ولا تكن من الناسيين فإن النسيان لا يدخل تحت التكليف فلا ينهى عنه قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الذكر الظاهر من : ثناء أو دعاء أو رعاية يريد بالظاهر : الجاري على اللسان المطابق للقلب لا مجرد الذكر اللساني فإن القوم لا يعتدون به فأما ذكر الثناء : فنحو : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
وأما ذكر الدعاء فنحو : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين الأعراف : 23 و : يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ونحو ذلك
وأما ذكر الرعاية : فمثل قول الذاكر : الله معي والله ناظر إلي الله شاهدي ونحو ذلك مما يستعمل لتقوية الحضور مع الله وفيه رعاية لمصلحة القلب ولحفظ الأدب مع الله والتحرز من الغفلة والاعتصام من الشيطان والنفس
والأذكار النبوية تجمع الأنواع الثلاثة فإنها متضمنة للثناء على الله والتعرض للدعاء والسؤال والتصريح به كما في الحديث : أفضل الدعاء الحمد لله قيل لسفيان بن عيينة : كيف جعلها دعاء قال : أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان يرجو نائله :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حباؤك إن شيمتك الحباء

إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء فهذا مخلوق واكتفى من مخلوق بالثناء عليه من سؤاله فكيف برب العالمين
والأذكار النبوية متضمنة أيضا لكمال الرعاية ومصلحة القلب والتحرز من الغفلات والاعتصام من الوساوس والشيطان والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : الذكر الخفي وهو الخلاص من القيود
والبقاء مع الشهود ولزوم المسامرة
يريد بالخفي ههنا : الذكر بمجرد القلب بما يعرض له من الواردات وهذا ثمرة الذكر الأول ويريد بالخلاض من القيود : التخلص من الغفلة والنسيان والحجب الحائلة بين القلب وبين الرب سبحانه والبقاء مع الشهود : ملازمة الحضور مع المذكور ومشاهدة القلب له حتى كأنه يراه
ولزوم المسامرة : هي لزوم مناجاة القلب لربه : تملقا تارة وتضرعا تارة وثناء تارة واستعظاما تارة وغير ذلك من أنواع المناجاة بالسر والقلب وهذا شأن كل محب وحبيبه كما قيل :
إذا ما خلونا والرقيب بمجلس ... فنحن سكوت والهوى يتكلم
فصل قال : الدرجة الثالثة : الذكر الحقيقي وهو شهود ذكر الحق إياك
والتخلص من شهود ذكرك ومعرفة افتراء الذاكر في بقائه مع الذكر
إنما سمي هذا الذكر في هذه الدرجة حقيقيا لأنه منسوب إلى الرب تعالى وأما نسبة الذكر للعبد : فليست حقيقية فذكر الله لعبده هو الذكر الحقيقي وهو شهود ذكر الحق عبده وأنه ذكره فيمن اختصه وأهله للقرب منه ولذكره

فجعله ذاكرا له ففي الحقيقة : هو الذاكر لنفسه بأن جعل عبده ذاكرا له وأهله لذكره وهذا المعني هو الذي أشار إليه في باب التوحيد بقوله : توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لأحد
أي هو الذي وحد نفسه في الحقيقة فتوحيد العبد منسوب إليه حقيقة ونسبته إلى العبد غير حقيقية إذ ذاك لم يكن به ولا منه وإنما هو مجعول فيه فإن سمي موحدا ذاكرا فلكونه مجرى ومحلا لما أجرى فيه كما يسمى أبيض وأسود وطويلا وقصيرا لكونه محلا لهذه الصفات لا صنع له فيها ولم توجبها مشيئته ولا حوله ولا قوته هذا مع ما يتصل بذلك من استيلاء القرب والفناء عن الرسم والغيبة بالمشهود عن الشهود وقوة الوارد فيتركب من ذلك ذوق خاص : أنه ما وحد الله إلا الله وما ذكر الله إلا الله وما أحب الله إلا الله فهذا حقيقة ما عند القوم فالعارفون منهم أرباب البصائر أعطوا مع ذلك العبودية حقها والعلم حقه وعرفوا أن العبد عبد حقيقة من كل وجه والرب رب حقيقة من كل وجه وقاموا بحق العبودية بالله لا بأنفسهم ولله لا لحظوظهم وفنوا بمشاهدة معاني أسمائه وصفاته عما سواه وبما له محبة ورضى عما به كونا ومشيئة فإن الكون كله به والذي له : هو محوبه ومرضيه فهو له وبه والمنحرفون فنوا بما به عما له فوالوا أعداءه وعطلوا دينه وسووا بين محابه ومساخطه ومواقع رضاه وغضبه والله المستعان قوله : التخلص من شهود ذكرك
يعني بفناء شهود ذكره لك عن شهود ذكرك له وهذا الشهود يريح العبد من رؤية النفس وملاحظة العمل ويميته ويحييه يميته عن نفسه ويحييه بربه ويفنيه ويقتطعه من نفسه ويوصله بربه وهذا هو عين الظفر بالنفس قال بعض العارفين : انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم قوله : ومعرفة افتراء الذاكر في بقائه مع الذكر

يعني أن الباقي مع الذكر يشهد على نفسه أنه ذاكر وذلك افتراء منه فإنه لا فعل له ولا يزول عنه هذا الافتراء إلا إذا فني عن ذكره فإن شهود ذكره وبقاءه معه افتراء يتضمن نسبة الذكر إليه وهي في الحقيقة ليست له فيقال : سبحان الله ! أي افتراء في هذا وهل هذا إلا شهود الحقائق على ما هي عليه فإنه إذا شهد نفسه ذاكرا بجعل الله له ذاكرا وتأهيله له وتقدم ذكره للعبد على ذكر العبد له فاجتمع في شهوده الأمران فأي افتراء ههنا وهل هذا إلا عين الحق وشهود الحقائق على ما هي عليه نعم الافتراء : أن يشهد ذلك به وبحوله وقوته لا بالله وحده
لكن الشيخ لا تأخذه في الفناء لومة لائم ولا يصغي فيه إلى عاذل والذي لا ريب فيه : أن البقاء في الذكر أكمل من الفناء فيه والغيبة به لما في البقاء من التفصيل والمعارف وشهود الحقائق على ما هي عليه والتمييز بين الرب والعبد وما قام بالعبد وما قام بالرب تعالى وشهود العبودية والمعبود وليس في الفناء شيء من ذلك والفناء كاسمه الفناء والبقاء بقاء كاسمه والفناء مطلوب لغيره والبقاء مطلوب لنفسه والفناء وصف العبد والبقاء وصف الرب : والفناء عدم والبقاء وجود والفناء نفي والبقاء إثبات والسلوك على درب الفناء مخطر وكم به من مفازة ومهلكة والسلوك على درب البقاء آمن فإنه درب عليه الأعلام والهداة والخفراء ولكن أصحاب الفناء يزعمون أنه طويل ولا يشكون في سلامته وإيصاله إلى المطلوب ولكنهم يزعمون أن درب الفناء أقرب وراكبه طائر وراكب درب البقاء سائر والكمل من السائرين يرون الفناء منزلة من منازل الطريق وليس نزولها عاما لكل سائر بل منهم من لا يراها ولا يمر بها وإنما الدرب الأعظم والطريق الأقوم هو درب البقاء ويحتجون على صاحب الفناء بالانتقال إليه من الفناء وإلا فهو عندهم على خطر والله المستعان وهو سبحانه أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفقر
هذه المنزلة أشرف منازل الطريق عند القوم وأعلاها وأرفعها بل هي روح كل منزلة وسرها ولبها وغايتها
وهذا إنما يعرف بمعرفة حقيقة الفقر والذي تريد به هذه الطائفة أخص من معناه الأصلي فإن لفظ الفقر وقع في القرآن في ثلاثة مواضع أحدها : قوله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف الآية البقرة : 273 أي الصدقات لهؤلاء كان فقراء المهاجرين نحو أربعمائة لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر وكانوا قد حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله فكانوا وقفا على كل سرية يبعثها رسول الله وهم أهل الصفة هذا أحد الأقوال في إحصارهم في سبيل الله
وقيل : هو حبسهم أنفسهم في طاعة الله وقيل : حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله وقيل : لما عادوا أعداء الله وجاهدوهم في الله تعالى : أحصروا عن الضرب في الأرض لطلب المعاش فلا يستطيعون ضربا في الأرض
والصحيح : أنهم لفقرهم وعجزهم وضعفهم لا يستطيعون ضربا في الأرض ولكمال عفتهم وصيانتهم يحسبهم من لم يعرف حالهم أغنياء
والموضع الثاني : قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء الآية التوبة : 60
والموضع الثالث : قوله تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله فاطر : 15

فالصنف الأول : خواص الفقراء والثاني : فقراء المسلمين خاصهم وعامهم والثالث : الفقر العام لأهل الأرض كلهم : غنيهم وفقيرهم مؤمنهم وكافرهم فالفقراء الموصوفون في الآية الأولى : يقابلهم أصحاب الجدة ومن ليس محصرا في سبيل الله ومن لا يكتم فقره تعففا فمقابلهم أكثر من مقابل الصنف الثاني والصنف الثاني : يقابلهم الأغنياء أهل الجدة ويدخل فيهم المتعفف وغيره والمحصر في سبيل الله وغيره والصنف الثالث : لا مقابل لهم بل الله وحده الغني وكل ما سواه فقير إليه ومراد القوم بالفقر : شيء أخص من هذا كله وهو تحقيق العبودية والافتقار إلى الله تعالى في كل حالة
وهذا المعنى أجل من أن يسمى فقرا بل هو حقيقة العبودية ولبها وعزل النفس عن مزاحمة الربوبية وسئل عنه يحيى بن معاذ فقال : حقيقته أن لا يستغني إلا بالله ورسمه : عدم الأسباب كلها
يقول : عدم الوثوق بها والوقوف معها وهو كما قال بعض المشايخ : شيء لا يضعه الله إلا عند من يحبه ويسوقه إلى من يريده وسئل رويم عن الفقر فقال : إرسال النفس في أحكام الله وهذا إنما يحمد في إرسالها في الأحكام الدينية والقدرية التي لا يؤمر بمدافعتها والتحرز منها

وسئل أبو حفص : بم يقدم الفقير على ربه فقال : ما للفقير شيء يقدم به على ربه سوى فقره
وحقيقة الفقر وكماله كما قال بعضهم وقد سئل : متى يستحق الفقير اسم الفقر فقال : إذا لم يبق عليه بقية منه فقيل له : وكيف ذاك فقال : إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له
وهذه من أحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إليه القوم وهو أن يصير كله لله عز و جل لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه فمتى بقي عليه شيء من أحكام نفسه ففقره مدخول ثم فسر ذلك بقوله : إذا كان له فليس له أي إذا كان لنفسه فليس لله وإذا لم يكن لنفسه فهو لله
فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء بحيث تكون كلك لله وإذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر
وهذا الفقر الذي يشيرون إليه : لا تنافيه الجدة ولا الأملاك فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جدتهم وملكهم كإبراهيم الخليل كان أبا الضيفان وكانت له الأموال والمواشي وكذلك كان سليمان وداود عليهما السلام وكذلك كان نبينا كان كما قال الله تعالى : ووجدك عائلا فأغنى الضحى : 8 فكانوا أغنياء في فقرهم فقراء في غناهم
فالفقر الحقيقي : دوام الافتقار إلى الله في كل حال وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه
فالفقر ذاتي للعبد وإنما يتجدد له لشهوده ووجوده حالا وإلا فهو حقيقة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه :
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذاتي

وله آثار وعلامات وموجبات وأسباب أكثر إشارات القوم إليها كقول بعضهم : الفقير لا تسبق همته خطوته يريد : أنه ابن حاله ووقته فهمته مقصورة على وقته لاتتعداه وقيل : أركان الفقر أربعة : علم يسوسه وورع يحجزه ويقين يحمله وذكر يؤنسه وقال الشبلي : حقيقة الفقر أن لا يستغني بشيء دون الله وسئل سهل بن عبدالله : متى يستريح الفقير فقال : إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه
وقال أبو حفص : أحسن ما يتوسل به العبد إلى الله : دوام الافتقار إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال وطلب القوت من وجه حلال وقيل : من حكم الفقر : أن لا تكون له رغبة فإذا كان ولابد فلا تجاوز رغبته كفايته
وقيل : الفقير من لا يملك ولا يملك وأتم من هذا : من يملك ولا يملكه مالك
وقيل : من أراد الفقر لشرف الفقر مات فقيرا ومن أراده لئلا يشتغل عن الله بشيء مات غنيا و الفقر له بداية ونهاية وظاهر وباطن فبدايته : الذل ونهايته : العز وظاهره : العدم وباطنه : الغنى كما قال رجل لآخر : فقر وذل فقال : لا بل فقر وعز قال : فقر وثراء قال : لا بل فقر وعرش وكلاهما مصيب واتفقت كلمة القوم على أن دوام الافتقار إلى الله مع التخليط خير من دوام الصفاء مع رؤية النفس والعجب مع أنه لا صفاء معهما وإذا عرفت معنى الفقر علمت أنه عين الغنى بالله فلا معنى لسؤال من سأل : أي الحالين أكمل الافتقار إلى الله أم الاستغناء به

فهذه مسألة غير صحيحة فإن الاستغناء به هو عين الافتقار إليه
وسئل عن ذلك محمد بن عبدالله الفرغاني فقال : إذا صح الافتقار إلى الله تعالى فقد صح الاستغناء بالله وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به فلا يقال أيهما أفضل : الافتقار أم الاستغناء لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى وإما كلامهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر وترجيح أحدهما على صاحبه فعند أهل التحقيق والمعرفة : أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق فالمسألة أيضا فاسدة في نفسها فإن التفضيل : عند الله تعالى بالتقوى وحقائق الإيمان لا بفقر ولا غنى كما قال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم الحجرات : 13 ولم يقل أفقركم ولا أغناكم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه : والفقر والغنى ابتلاء من الله لعبده كما قال تعالى : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول : ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول : ربي أهانن كلا الفحر : 1516 أي ليس كل من وسعت عليه وأعطيته : أكون قد أكرمته ولا كل من ضيقت عليه وقترت : أكون قد أهنته فالإكرام : أن يكرم الله العبد بطاعته والإيمان به ومحبته ومعرفته والإهانة : أن يسلبه ذلك قال يعني ابن تيمية ولا يقع التفاضل بالغني والفقر بل بالتقوى فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة سمعته يقول ذلك وتذاكروا هذه المسألة عند يحيى بن معاذ فقال : لا يوزن غدا الفقر ولا الغنى وإنما يوزن الصبر والشكر وقال غيره : هذه المسألة محال من وجه آخر وهو أن كلا من الغني والفقير لابد له من صبر وشكر فإن الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر بل قد يكون نصيب الغني وقسطه من الصبر أوفر لأنه يصبر عن قدرة فصبره أتم

من صبر من يصبر عن عجز ويكون شكر الفقير أتم لأن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعة الله والفقير أعظم فراغا للشكر من الغني فكلاهما لا تقوم قائمة إيمانه إلا على ساقي الصبر والشكر
نعم الذي يحكي الناس من هذه المسألة : فرعا من الشكر وفرعا من الصبر وأخذوا في الترجيح بينهما فجردوا غنيا منفقا متصدقا باذلا ماله في وجوه القرب شاكرا لله عليه وفقيرامتفرغا لطاعة الله ولأوراد العبادات من الطاعات صابرا على فقره فهل هو أكمل من ذلك الغني أم الغني أكمل منه فالصواب في مثل هذا : أن أكملهما أطوعهما فإن تساوت طاعتهما تساوت درجاتهما والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل رحمه الله : الفقر اسم للبراءة من الملكة
عدل الشيخ عن لفظ عدم الملكة إلى قوله : البراءة من الملكة لأن عدم الملكة ثابت في نفس الأمر لكل أحد سوى الله تعالى فالله سبحانه هو المالك حقيقة فعدم الملكة : أمر ثابت لكل ما سواه لذاته والكلام في الفقر الذي يمدح به صاحبه : هو فقر الاختيار وهو أخص من مطلق الفقر وهو براءة العبد من دعوى الملك بحيث لا ينازع مالكه الحق
ولما كانت نفس الإنسان ليست له وانما هي ملك لله فما لم يخرج عنها ويسلمها لمالكها ومولاها الحق : لم يثبت له في الفقر قدم فلذلك كان أول قدم الفقر : الخروج عن النفس وتسليمها لمالكها ومولاها فلا يخاصم لها ولا يتوكل لها ولا يحاجج عنها ولا ينتصر لها بل يفوض ذلك لمالكها وسيدها
قال بندار بن الحسين : لا تخاصم لنفسك فإنها ليست لك دعها لمالكها يفعل بها ما يريد

وقد أجمعت هذه الطائفة على أنه لا وصول إلى الله إلا من طريق الفقر ولا دخول عليه إلا من بابه والله اعلم

فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الاولى : فقر الزهاد وهو
قبض اليد عن الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها مدحا أو ذما والسلامة منها طلبا أو تركا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه الدنيا عند القوم : ماسوى الله تعالى من المال والجاه والصور والمراتب واختلف المتكلمون فيها على قولين حكاهما أبو الحسن الأشعري في مقالاته احدهما : أنها اسم لمدة بقاء هذا العالم والثاني : أنها اسم لما بين السماء والارض فما فوق السماء ليس من الدنيا وما تحت الأرض ليس منها
فعلى الاول : تكون الدنيا زمانا وعلى الثاني : تكون مكانا ولما كان لها تعلق بالجوارح والقلب واللسان كان حقيقة الفقر : تعطيل هذه الثلاثة عن تعلقها بها وسلبها منها فلذلك قال : قبض اليد عن الدنيا ضبطا أو طلبا يعني يقبض يده عن إمساكها إذا حصلت له فإذا قبض يده عن الامساك جاد بها وإن كانت غير حاصلة له كف يده عن طلبها فلا يطلب معدومها ولا يبخل بموجودها واما تعطيلها عن اللسان
فهو أن لا يمدحها ولا يذمها فإن اشتغاله بمدحها أو ذمها دليل على محبتها ورغبته فيها فاإن من أحب شيئا أكثر من ذكره وإنما اشتغل بذمها حيث فاتته كمن طلب العنقود فلم يصل إليه فقال : هو حامض ولا يتصدى لذم الدنيا إلا راغب محب مفارق فالواصل مادح والمفارق ذام
وأما تعطيل القلب منها فالسلامة من آفات طلبها وتركها فإن لتركها

آفات ولطلبها آفات والفقر سلامة القلب من آفات الطلب والترك بحيث لا يحجبه عن ربه بوجه من الوجوه الظاهرة والباطنة لا في طلبها وأخذها ولا في تركها والرغبة عنها فان قلت : عرفت الآفة في أخذها وطلبها فما وجه الآفة في تركها والرغبة عنها قلت : من وجوه شتى أحدها : أنه إذا تركها وهو بشر لا ملك تعلق قلبه بما يقيمه ويقيته ويعيشه وما هو محتاج اليه فيبقى في مجاهدة شديدة مع نفسه لترك معلومها وحظها من الدنيا وهذه قلة فقه في الطريق بل الفقيه العارف : يردها عنه بلقمة كما يرد الكلب إذا نبح عليه بكسرة ولا يقطع زمانه بمجاهدته ومدافعته بل أعطاها حظها وطالبها بما عليها من الحق
هذه طريقة الرسل وهي طريقة العارفين من أرباب السلوك كما قال النبي : إنلنفسك عليك حقا ولربك عليك حقا ولزوجك عليك حقا ولضيفك عليك حقا فأعط كلع ذي حق حقه
والعارف البصير يجعل عوض مجاهدته لنفسه في ترك شهوة مباحة : مجاهدته لأعداء الله من شياطين الإنس والجن وقطاع الطريق على القلوب كأهل البدع من بني العلم وبني الإرادة ويستفرغ قواه في حربهم ومجاهدتهم ويتقوى على حربهم بإعطاء النفس حقها من المباح ولا يشتغل بها
ومن آفات الترك : تطلعه إلى ما في أيدي الناس إذا مسته الحاجة إلى ما تركه فاستدامتها كان أنفع له من هذا الترك ومن افات تركها وعدم أخذها : ما يداخله من الكبر والعجب والزهو وهذا يقابل الزهد فيها وتركها كما أن كسرة الآخذ وذلته وتواضعه : يقابل الآخذ التارك ففي الأخذ آفات وفي الترك آفات فالفقر الصحيح : السلامة من آفات الأخذ والترك وهذا لا يحصل الا بفقه في الفقر

قوله رحمه الله فهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه يعني تكلم فيه أرباب السلوك وفضلوه ومدحوه

فصل قال : الدرجة الثانية : الرجوع الى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث
الخلاص من رؤية الاعمال ويقطع شهود الاحوال ويمحص من أدناس مطالعة المقامات
يريد بالرجوع إلى السبق : الالتفات إلى ما سبقت به السابقة من الله بمطالعة فضله ومنته وجوده وأن العبد وكل ما فيه من خير فهو محض جود الله وإحسانه وليس للعبد من ذاته سوى العدم وذاته وصفاته وإيمانه وأعماله كلها من فضل الله عليه فإذا شهد هذا وأحضره قلبه وتحقق به : خلصه من رؤية أعماله فإنه لا يراها إلا من الله وبالله وليست منه هو ولا به واتفقت كلمة الطائفة على أن رؤية الأعمال حجاب بين العبد وبين الله ويخلصه منها : شهود السبق ومطالعة الفضل وقوله : ويقطع شهود الأحوال لأنه إذا طالع سبق فضل الله : علم أن كل ما حصل له من حال أو غيره فهو محض جوده فلا يشهد له حالا مع الله ولا مقاما كما لم يشهد له عملا فقد جعل عدته للقاء ربه : فقره من أعماله وأحواله فهو لا يقدم عليه إلا بالفقر المحض فالفقر خير العلاقة التي بينه وبين ربه والنسبة التي ينتسب بها إليه والباب الذي يدخل منه عليه وكذلك قوله : يمحص من أدناس مطالعة المقامات
هو من جنس التخلص من رؤية الأعمال والانقطاع عن رؤية شهود الأحوال ومطالعة المقامات : دنس عند هذه الطائفة فمطالعة الفضل يمحص من هذا الدنس

والفرق بين الحال والمقام : أن الحال معنى يرد على القلب من غير اجتلاب له ولا اكتساب ولا تعمد و المقام يتوصل إليه بنوع كسب وطلب
فالأحوال عندهم مواهب والمقامات مكاسب فالمقام يحصل ببذل المجهود وأما الحال : فمن عين الجود
ولما دخل الواسطى نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان : بماذا كان يأمركم شيخكم فقالوا : كان يأمر بالتزام الطاعات ورؤية التقصير فيها فقال : أمركم بالمجوسية المحضة هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها قلت : لم يأمرهم أبو عثمان رحمه الله إلا بالحنيفية المحضة وهي القيام بالأمر ومطالعة التقصير فيه وليس في هذا من رائحة المجوسية شيء فإنه إذا بذل الطاعة لله وبالله صانه ذلك عن الاتحاد والشرك وإذا شهد تقصيره فيها صانه عن الإعجاب فيكون قائما بإياك نعبد وإياك نستعين
وأما ما أشار إليه الواسطي : فمشهد الفناء ولا ريب أن مشهد البقاء أكمل فإن من غاب عن طاعاته : لم يشهد تقصيره فيها ومن تمام العبودية : شهود التقصير فمشهد أبي عثمان أتم من مشهد الواسطي
وأبو عثمان هذا : هو سعيد بن إسماعيل النيسابوري من جلة شيوخ القوم وعارفيهم وكان يقال : في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم : أبو عثمان النيسابوري بنيسابور والجنيد ببغداد وأبو عبدالله بن الجلا بالشام وله كلام رفيع عال في التصوف والمعرفة وكان شديد الوصية باتباع السنة وتحكيمها ولزومها ولما حضرته الوفاة مزق ابنه قميصا على نفسه ففتح أبو عثمان عينيه وهو في السياق فقال : يا بني خلاف السنة في الظاهر علامة رياء في الباطن

فصل قال : الدرجة الثالثة : الاضطرار والوقوع في يد التقطع الوجداني
أو الاحتباس في بيداء قيد التجريد وهذا فقر الصوفية

الاضطرار شهود كمال الضرورة والفاقة علما وحالا
ويريد بالوقوع في يد التقطع الوجداني : حضرة الجمع التي ليس عندها آغيار فهي منقطعة عن الأغيار وحدانية في نفسها والوقوع في يدها : الاستسلام والإذعان لها والدخول في رقها
وقد تقدم أن حضرة الجمع عندهم : هي شهود الحقيقة الكونية ورؤيتها بنور الكشف حيث يشهدها منشأ جميع الكائنات والكائنات عدم بالنسبة إليها و أما الاحتباس في بيداء قيد التجريد فهو تجريد الفردانية أن يشهد معها غيرها وهو الفناء عن شهود السوى وسمعى ذلك احتباسا لأنه منع نفسه عن شهود الأغيار وجعل للتجريد قيدا وهو التقيد بشهود الحقيقة
وجعل القيد بيداء لوجهين أحدهما : أن الأغيار تبيد فيه وتنعدم ولا يكون معه سواه والثاني : لسعته وفضائه فصاحب مشهده : في بيداء واسعة وإن احتبس في قيد شهوده وقوله : وهذا فقر الصوفية قد يفهم منه : أن التصوف أعلى عنده من الفقر فإن هذه الدرجة الثالثة التي هي أعلى درجات الفقر عنده هي من بعض مقامات الصوفية وطائفة تنازعه في ذلك وتقول : التصوف دون هذا المقام بكثير والتصوف وسيلة إلى هذا الفقر فإن التصوف خلق وهذا الفقر حقيقة وغاية لا غاية وراءها

وقد تقدم ذكر الخلاف بين القوم في هذه المسألة وحكينا فيها ثلاثة أقوال هدين والثالث : أنه لا يفضل أحدهما على الآخر فإن كل واحد منهما لا تتم حقيقته إلا بالآخر وهذا قول الشاميين والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الغنى العالي
وهو نوعان : غنى بالله وغنى عن غير الله وهما حقيقة الفقر ولكن أرباب الطريق أفردوا للغنى منزلة
قال صاحب المنازل رحمه الله باب الغني قال الله تعالى : ووجدك عائلا فأغنى الضحى : 8 وفي الآية ثلاثة أقوال أحدها : أنه أغناه من المال بعد فقره : وهذا قول أكثر المفسرين لأنه قابله بقوله عائلا والعائل : هو المحتاج ليس ذا العيلة فأغناه من المال والثاني : أنه أرضاه بما أعطاه وأغناه به عن سواه فهو غنى قلب ونفس لا غنى مال وهو حقيقة الغنى والثالث : وهو الصحيح أنه يعم النوعين : نوعي الغنى فأغنى قلبه به وأغناه من المال ثم قال : الغنى اسم للملك التام
يعني أن من كان مالكا من وجه دون وجه فليس بغني وعلى هذا : فلا يستحق اسم الغنى بالحقيقة إلا الله وكل ما سواه فقير إليه بالذات قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : غنى القلب وهو سلامته من السبب ومسالمته للحكم وخلاصه من الخصومة

حقيقة غني القلب : تعلقه بالله وحده وحقيقة فقره المذموم : تعلقه بغيره فإذا تعلق بالله حصلت له هذه الثلاثة التي ذكرها
سلامته من السبب أي من التعلق به لا من القيام به والغني عند أهل الغفلة بالسبب ولذلك قلوبهم معلقة به وعند العارفين بالمسبب وكذلك الصناعة والقوة فهذه الثلاثة : هي جهات الغنى عند الناس وهي التي أشار إليها النبي في قوله : إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوى وفي رواية ولا لقوي مكتسب وهو غني بالشيء فصاحبها غني بها إذا سكنت نفسه إليها وإن كان سكونه إلى ربه : فهو غني به وكل ما سكنت النفس إليه فهي فقيرة إليه وأما مسالمة الحكم فعلى نوعين أحدهما : مسالمة الحكم الديني الأمري وهي معانقته وموافقته ضد محاربته والثاني : مسالمة الحكم الكوني القدري الذي يجري عليه بغير اختباره ولا قدره له على دفعه وهو غير مأمور بدفعه وفي مسالمة الحكم نكتة لابد منها وهي تجريد إضافته ونسبته إلى من صدر عنه بحيث لا ينسبه إلى غيره
وهذا يتضمن توحيد الربوبية في مسالمة الحكم الكوني وتوحيد الإلهية في مسألمة الحكم الديني وهما حقيقة إياك نعبد وإياك نستعين وأما الخلاص من الخصومة فإنما يحمد منه : الخلاص من الخصومة بنفسه لنفسه وأما إذا خاصم بالله ولله : فهذا من كمال العبودية وكان النبي يقول في استفتاحه : اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت

فصل قال : الدرجة الثانية : غنى النفس وهو استقامتها على المرغوب
وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة جعل الشيخ : غنى النفس فوق غنى القلب ومعلوم : أن أمور القلب أكمل وأقوى من أمور النفس لكن في هذا الترتيب نكتة لطيفة وهي أن النفس من جند القلب ورعيته وهي من أشد جنده خلافا عليه وشقاقا له ومن قبلها تتشوش عليه المملكة ويدخل عليه الداخل فإذا حصل له كمال بالغنى : لم يتم له إلا بغناها أيضا فإنها متى كانت فقيرة عاد حكم فقرها عليه وتشوش عليه غناه فكان غناها تماما لغناه وكمالا له وغناه أصلا بغناها فمنه يصل الغنى إليها ومنها يصل الفقر والضرر والعنت إليه إذا عرف هذا فالشيخ جعل غناها بثلاثة أشياء : استقامتها على المرغوب وهو الحق تعالى واستقامتها عليه : استدامة طلبه وقطع المنازل بالسير إليه الثاني : سلامتها من الحظوظ وهي تعلقاتها الظاهرة والباطنة بما سوى الله الثالث : براءتها من المراءاة وهي إرادة غير الله بشيء من أعمالها وأقوالها فمراءاتها دليل على شدة فقرها وتعلقها بالحظوظ من فقرها أيضا وعدم استقامتها على مطلوبها الحق أيضا : من فقرها وذلك يدل على أنها غير واجدة لله إذ لو وجدته لاستقامت على السير إليه ولقطعت تعلقاتها وحظوظها من غيره ولما أرادت بعملها غيره فلا تستقيم هذه الثلاثة إلا لمن قد ظفر بنفسه ووجد مطلوبه وما لم يجد ربه تعالى فلا استقامة له ولا سلامة لها من الحظوظ ولا براءة لها من الرياء

فصل قال : الدرجة الثالثة : الغنى بالحق وهو على ثلاث مراتب المرتبة
الأولى : شهود ذكره إياك والثانية : دوام مطالعة أوليته والثالثة : الفوز بوجوده أما شهود ذكره إياك فقد تقدم قريبا
وأما مطالعة أوليته فهو سبقه للأشياء جميعا فهو الأول الذي ليس قبله شيء قال بعضهم : ما رأيت شيئا إلا وقد رأيت الله قبله
فإن قلت : وأي غنى يحصل للقلب للقلب من مطالعة أولية الرب وسبقه لكل شيء ومعلوم أن هذا حاصل لكل أحد من غني أو فقير فما وجه الغنى الحاصل به
قلت : إذا شهد القلب سبقه للأسباب وأنها كانت في حيز العدم وهو الذي كساها حلة الوجود فهي معدومة بالذات فقيرة إليه بالذات وهو الموجود بذاته والغني بذاته لا بغيره فليس الغنى في الحقيقة إلا به كما أنه ليس في الحقيقة إلا له فالغنى بغيره : عين الفقر فإنه غني بمعدوم فقير وفقير كيف يستغني بفقير مثله وأما الفوز بوجوده فإشارة القوم كلهم إلى هذا المعنى وهو نهاية سفرهم وفي الأثر الإلهي : ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء
ومن لم يعلم معنى وجوده لله عز و جل والفوز به : فليحث على رأسه الرماد وليبك على نفسه والله أعلم
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المراد
أفردها القوم بالذكر وفي الحقيقة : فكل مريد مراد بل لم يصر

مريدا إلا بعد أن كان مرادا لكن القوم خصوا المريد بالمبتدىء و المراد بالمنتهي
قال أبو علي الدقاق : المريد متحمل والمراد محمول وقد كان موسى مريدا إذ : قال : رب اشرح لي صدري طه : 25 ونبينا كان مرادا إذ قيل له : ألم نشرح لك صدرك وسئل الجنيد عن المريد والمراد فقال : المريد يتولى سياسته العلم والمراد : يتولى رعايته الحق لأن المريد يسير والمراد يطير فمتى يلحق السائر الطائر

فصل قال صاحب المنازل :
باب المراد قال الله تعالى : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك القصص : 86 أكثر المتكلمين في هذا العلم جعلوا المريد والمراد اثنين وجعلوا مقام المراد فوق مقام المريد وإنما أشاروا باسم المراد إلى الضنائن الذين ورد فيهم الخبر
قلت : وجه استشهاده بالآية : أن الله سبحانه ألقى إلى رسوله كتابه وخصه بكرامته وأهله لرسالته ونبوته من غير أن يكون ذلك منه على رجاء أو ناله بكسب أو توسل إليه بعمل بل هو أمر أريد به فهو المراد حقيقة
وقوله : إن أكثرهم جعلوا المريد والمراد اثنين فهو تعرض إلى أن منهم من اكتفى عن ذكر مقام المراد بمنزلة الإرادة لأن صاحبها مريد مرادوأما إشارتهم إلى الضنائن فالمراد به : حديث يروى مرفوعا إلى النبي : إن لله ضنائن من خلقه يحييهم في عافية ويميتهم في عافية و الضنائن الخصائص يقال : هو ضنتي من بين الناس بكسر الضاد أي الذي أختص به وأضن بجودته أي أبخل بها أن أضيعها

وقد مثل للمريد والمراد بقوم بعث إليهم سلطانهم يستدعيهم إلى حضرته من بلاد نائية وأرسل إليهم بالأدلة والأموال والمراكب وأنواع الزاد وأمرهم بأن يتجشموا إليه قطع السبل والمفاوز وأن يجتهدوا في المسير حتى يلحقوا به وبعث خيلا له ومماليك إلى طائفة منهم فقال : احملوهم على هذه الخيل التي تسبق الركاب واخدموهم في طريقهم ولا تدعوهم يعانون مؤنة الشد والربط بل إذا نزلوا فأريحوهم ثم احملوهم حتى تقدموهم عليفلم يجد هؤلاء من مجاهدة السير ومكابدته ووعثاء السفر ما وجده غيرهم
ومن الناس من يقول : المريد ينتقل من منزلة الإرادة إلى أن يصير مرادا فكان محبا فصار محبوبا فكل مريد صادق نهاية أمره : أن يكون مرادا وأكثرهم على هذا وصاحب المنازل كأن عنده المراد هو المجذوب و المريد هو السالك على طريق الجادة

فصل قال : وللمراد ثلاث درجات الأولى أن يعصم العبد وهو مستشرف
للجفاء اضطرارا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ وسد مسالك المعاطب عليه إكراها
يعني : أن العبد إذا استشرفت نفسه للجفاء بينه وبين سيده بموافقة شهواته عصمه سيده اضطرارا بأن ينغص عليه الشهوات فلا تصفو له ألبتة بل لا ينال ما ينال منها إلا مشوبا بأنواع التنغيص الذي ربما أربى على لذتها واستهلكها بحيث تكون اللذة في جنب التنغيص كالخلسة والغفوة وكذلك يعوق الملاذ عليه بأن يحول بينه وبينها حتى لا يركن إليها ولا يطمئن إليها ويساكنها فيحول بينه وبين أسبابها فإن هيئت له قيض له مدافع يحول بينه وبين استيفائها

فيقول : من أين دهيت وإنما هي عين العناية والحمية والصيانة وكذلك يسد عنه طرق المعاصي فإنها طرق المعاطب وإن كان كارها عناية به وصيانة له

فصل قال : الدرجة الثانية : أن يضع عن العبد عوارض النقص ويعافيه
من سمة اللائمة ويملكه عواقب الهفوات كما فعل بسليمان عليه السلام حين قتل الخيل فحمله على الريح الرخاء فأغناه عن الخيل وفعل بموسى عليه السلام حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه ولم يعتب عليه كما عتب على آدم عليه السلام ونوح ودواد ويونس عليهم السلام
والفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها : أن في التي قبلها منعا من مواقعة أسباب الجفاء اضطرارا وفي هذه : إذا عرضت له أسباب النقيصة التي يستحق عليها اللائمة لم يعتبه عليها ولم يلمه وهذا نوع من الدلال وصاحبه من ضنائن الله وأحبابه فإن الحبيب يسامح بما لا يسامح به سواه لأن المحبة أكبر شفعائه وإذا هفا هفوة ملكه عاقبتها بأن جعلها سببا لرفعته وعلو درجته فيجعل تلك الهفوة سببا لتوبة نصوح وذل خاص وانكسار بين يديه وأعمال صالحة تزيد في قربه منه أضعاف ما كان عليه قبل الهفوة فتكون تلك الهفوة أنفع له من حسنات كثيرة وهذا من علامات اعتناء الله بالعبد وكونه من أحبابه وحزبه وقد استشهد الشيخ بقصة سليمان عليه السلام حين ألهته الخيل عن صلاة العصر فأخذته الغضبة لله والحمية فحملته على أن مسح عراقيبها وأعناقها بالسيف

وأتلف مالا شغله عن الله في الله فعوضه الله منه : أن حمله على متن الريح فملكه الله تعالى عاقبة هذه الهفوة وجعلها سببا لنيل تلك المنزلة الرفيعة
واستشهد بقصة موسى حين ألقى الألواح وفيها كلام الله عن رأسه وكسرها وجر بلحية أخيه وهو نبي مثله ولم يعاتبه الله على ذلك كما عتب على آدم عليه السلام في أكل لقمة من الشجرة وعلى نوح في ابنه حين سأل ربه أن ينجيه وعلى داود في شأن امرأة أوريا وعلى يونس في شأن المغاضبة
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : وكذلك لطم موسى عين ملك الموت ففقأها ولم يعتب عليه ربه وفي ليلة الإسراء عاتب ربه في النبي إذ رفعه فوقه ورفع صوته بذلك ولم يعتبه الله على ذلك قال : لأن موسى عليه السلام قام تلك المقامات العظيمة التي أوجبت له هذا الدلال فإنه قاوم فرعون أكبر أعداء الله تعالى وتصدى له ولقومه وعالج بني إسرائيل أشد المعالجة وجاهد في الله أعداء الله أشد الجهاد وكان شديد الغضب لربه فاحتمل له ما لم يحتمله لغيره
وذو النون لما لم يكن في هذا المقام : سجنه في بطن الحوت من غضبة وقد جعل الله لكل شيء قدرا

فصل قال : الدرجة الثالثة : اجتباء الحق عبده واستخلاصه إياه بخالصته
كما ابتدأ موسى وقد خرج يقتبس نارا فاصطنعه لنفسه وأبقى منه رسما معارا قلت : الاجتباء الاصطفاء والإيثار والتخصيص وهو افتعال من جبيت الشيء : إذا حزته وأحرزته إليك كجباية المال وغيره و الاصطناع أيضا الاصطفاء والاختيار يعني أنه اصطفى موسى واستخلصه لنفسه وجعله خالصا له من غير سبب كان من موسى ولا وسيلة فإنه خرج ليقتبس النار فرجع وهو كليم الواحد القهار وأكرم الخلق عليه ابتداء منه سبحانه من غير سابقة استحقاق ولا تقدم وسيلة وفي مثل هذا قيل :
أيها العبد كن لما لست ترجو ... من صلاح أرجى لما أنت راجي
إن موسى أتى ليقبس نارا ... من ضياء رآه والليل داجي فانثنى راجعا وقد كلمه الله وناجاه وهو خير مناجي وقوله : وأبقى منه رسما معارا
يحتمل أن يريد بالرسم : البقية التي تقدم بها عليه محمد ورفع فوقه بدرجات لأجل بقائها منه
ويحتمل وهو الأظهر أنه أخذه من نفسه واصطنعه لنفسه واختاره من بين العالمين وخصه بكلامه ولم يبق له من نفسه إلا رسما مجردا يصحب به الخلق وتجري عليه فيه أحكام البشرية إتماما لحكمته وإظهارا لقدرته فهو عارية معه فإذا قضى ما عليه : استرد منه ذلك الرسم وجعله من ماله فتكملت إذ ذاك مرتبة الاجتباء ظاهرا وباطنا حقيقة ورسما ورجعت العارية إلى مالكها الحق الذي يرجع إليه الأمر كله فكما ابتدأت منه عادت إليه
وموسى عليه السلام كان في مظهر الجلال ولهذا كانت شريعته شريعة جلال وقهر أمروا بقتل نفوسهم وحرمت عليهم الشحوم وذوات الظفر

وغيرها من الطيبات وحرمت عليهم الغنائم وعجل لهم من العقوبات ما عجل وحملوا من الآصار والأغلال ما لم يحمله غيرهم
وكان موسى من أعظم خلق الله هيبة ووقارا وأشدهم بأسا وغضبا لله وبطشا بأعداء الله وكان لا يستطاع النظر إليه
وعيسى : كان في مظهر الجمال وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان وكان لا يقاتل ولا يحارب وليس في شريعته قتال ألبتة والنصارى يحرم عليهم دينهم القتال وهم به عصاة لشرعه فإن الإنجيل يأمرهم فيه : أن : من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين ونحو هذا وليس في شريعتهم مشقة ولا آصار ولا أغلال وإنما النصارى ابتدعوا تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ولم تكتب عليهم
وأما نبينا : فكان في مظهر الكمال الجامع لتلك القوة والعدل والشدة في الله وهذا اللين والرأفة والرحمة وشريعته أكمل الشرائع فهو نبي الكمال وشريعته شريعة الكمال وأمته أكمل الأمم وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات ولذلك تأتي شريعته بالعدل إيجابا له وفرضا وبالفضل ندبا إليه واستحبابا وبالشدة في موضع الشدة وباللين في موضع اللين ووضع السيف موضعه ووضع الندى موضعه فيذكر الظلم

ويحرمه والعدل ويوجبه والفضل ويندب إليه في بعض آيات كقوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها الشورى : 40 فهذا عدل فمن عفى وأصلح فأجره على الله فهذا فضل إنه لا يحب الظالمين فهذا تحريم للظلم وقوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به النحل : 126 فهذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ندب إلى الفضل وقوله : فأن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون البقرة : 279280 تحريم للظلم وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة عدل وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون فضل وكذلك تحريم ما حرم على أمته صيانة وحمية
حرم عليهم كل خبيث وضار وأباح لهم كل طيب ونافع فتحريمه عليهم رحمة وعلى من قبلهم لم يخل من عقوبة وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم ووهب لهم من علمه وحلمه وجعلهم خير أمة أخرجت للناس وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم قبلهم كما كمل نبيهم من المحاسن بما فرقه في الأنبياء قبله وكمل في كتابه من المحاسن بما فرقها في الكتب قبله وكذلك في شريعته
فهؤلاء الضنائن وهم المجتبون الأخيار كما قال تعالى لهم : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج الحج : 78 وجعلهم شهداء على الناس فأقامهم في ذلك مقام الأنبياء الشاهدين على أممهم
وتفصيل تفضيل هذه الأمة وخصائصها يستدعي سفرا بل أسفارا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإحسان
وهي لب الإيمان وروحه وكماله وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل فجميعها منطوية فيها وكل ما قيل من أول الكتاب إلى ههنا فهو من الإحسان

قال صاحب المنازل رحمه الله وقد استشهد على هذه المنزلة بقوله تعالى : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان الرحمن : 60 : فالإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق وهو أن تعبد الله كأنك تراه أما الآية : فقال ابن عباس رضي الله عنه والمفسرون : هل جزاء من قال : لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة
وقد روى عن النبي أنه قرأ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان الرحمن : 60 ثم قال : هل تدورن ماذا قال ربكم قالوا : الله ورسوله أعلم قال : يقول : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة
وأما الحديث : فإشارة إلى كمال الحضور مع الله عز و جل ومراقبته الجامعة لخشيته ومحبته ومعرفته والإنابة إليه والإخلاص له ولجميع مقامات الإيمان قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الإحسان في القصد بتهذيبه علما وإبرامه عزما وتصفيته حالا يعني إحسان القصد يكون بثلاثة أشياء أحدها : تهذيبه علما بأن يجعله تابعا للعلم على مقتضاه مهذبا به منقى من شوائب الحظوظ فلا يقصد إلا ما يجوز في العلم و العلم هو اتباع الأمر والشرع والثاني : إبرامه عزما و الإبرام الإحكام والقوة أي يقارنه عزم يمضيه ولا يصحبه فتور وتوان يضعفه ويوهنه الثالث : تصفيته حالا
أي يكون حال صاحبه صافيا من الأكدار والشوائب التي تدل على كدر قصده فإن الحال مظهر القصد وثمرته وهو أيضا مادته وباعثه فكل منهما ينفعل عن الآخر فصفاؤه وتخليصه من تمام صفاء الآخر وتخليصه

فصل قال : الدرجة الثانية : الإحسان في الأحوال وهو أن تراعيها غيرة
وتسترها تظرفا وتصححها تحقيقا

يريد بمراعاتها : حفظها وصونها غيرة عليها أن تحول فإنها تمر مر السحاب فإن لم يرع حقوقها حالت ومراعاتها : بدوام الوفاء وتجنب الجفاء ويراعيها أيضا بإكرام نزلها فإنها ضيف والضيف إن لم تكرم نزله ارتحل
ويراعيها أيضا بضبطها ملكة وشد يده عليها وأن لا يسمح بها لقاطع طريق ولا ناهب ويراعيها أيضا : بالانقياد إلى حكمها والإذعان لسلطانها إذا وافق الأمر ويراعيها أيضا : بسترها تظرفا وهو أن يسترها عن الناس ما أمكنه لئلا يعلموا بها ولا يظهرها إلا لحجة أو حاجة أو مصلحة راجحة فإن في إظهارها بدون ذلك آفات عديدة مع تعريضها للصوص والسراق والمغيرين
وإظهار الحال للناس عند الصادقين : حمق وعجز وهو من حظوظ النفس والشيطان وأهل الصدق والعزم لها أستر وأكتم من أرباب الكنوز من الأموال لأموالهم حتى إن منهم من يظهر أضدادها نفيا وجحدا وهم أصحاب الملامتيه ولهم طريقة معروفة وكان شيخ هذه الطائفة عبدالله بن منازل
واتفقت الطائفة على أن من أطلع الناس على حاله مع الله : فقد دنس طريقته إلا لحجة أو حاجة أو ضرورة وقوله : وتصحيحها تحقيقا
أي يجتهد في تحقيق أحواله وتصحيحها وتخليصها فإن الحال قد يمتزج بحق وباطل ولا يميزه إلا أولو البصائر والعلم وأهل هذه الطريق يقولون : إن الوارد الذي يبتدىء العبد من جانبه الأيمن والهواتف والخطاب : يكون في الغالب حقا والذي يبتدىء من الجانب الأيسر : يكون في الغالب باطلا وكذبا فإن أهل اليمين : هم أهل الحق وبأيمانهم يأخذون كتبهم ونورهم الظاهر على الصراط يكون بأيمانهم وكان رسول الله

يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله والله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف وأخبر أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وحظه من ابن آدم جهة الشمال ولهذا تكون اليد الشمال للاستجمار وإزالة النجاسة والأذى ويبدأ بالرجل الشمال عند دخول الخلاء ومن الفرقان أيضا : أن كل وارد يبقي الإنسان بعد انفصاله نشيطا مسرورا نشوانا : فإنه وارد ملكي وكل وارد يبقي الإنسان بعد انفصالة خبيث النفس كسلان ثقيل الأعضاء والروح يجنح إلى فتور : فهو وارد شيطاني
ومن الفرقان أيضا : أن كل وارد أعقب في القلب : معرفة بالله ومحبة له وأنسا به وطمأنينة بذكره وسكونا إليه : فهو ملكي إلهي وخلافه بخلافه
ومن الفرقان أيضا : أن كل وارد أعقب صاحبه تقدما إلى الله تعالى والدار الآخرة وحضورا فيها حتى كأنه يشاهد الجنة قد أزلفت والجحيم قد سعرت : فهو إلهي ملكي وخلافه شيطاني نفساني ومن الفرقان أيضا : أن كل وارد كان سببه النصيحة في امتثال الأمر والإخلاص والصدق فيه : فهو إلهي ملكي وإلا فهو شيطاني ومن الفرقان أيضا : أن كل وارد استنار به القلب وانشرح له الصدر وقوي به القلب : إلهي ملكي وإلا فهو شيطاني ومن الفرقان أيضا : أن كل وارد جمعك على الله فهو منه وكل وارد فرقك عنه وأخذك عنه : فمن الشيطان ومن الفرقان أيضا : أن الوارد الإلهي لا يصرف إلا في قربة وطاعة ولا يكون سببه إلا قربة وطاعة فمستخرجه الأمر ومصرفه الأمر والشيطاني بخلافه ومن الفرقان أيضا : أن الوارد الرحماني لا يتناقض ولا يتفاوت ولا يختلف بل يصدق بعضه بعضا والشيطاني بخلافه يكذب بعضه بعضا والله سبحانه أعلم

فصل قال : الدرجة الثالثة : الإحسان في الوقت وهو أن لا تزايل
المشاهدة أبدا ولا تخلط بهمتك أحدا وتجعل هجرتك إلى الحق سرمدا أي لا تفارق حال الشهود وهذا إنما يقدر عليه أهل التمكن الذين ظفروا بنفوسهم وقطعوا المسافات التي بين النفس وبين القلب والمسافات التي بين القلب وبين الله بمجاهدة القطاع التي على تلك المسافات وقوله : ولا تخلط بهمتك أحدا
يعني : أن تعلق همتك بالحق وحده ولا تعلق همتك بأحد غيره فإن ذلك شرك في طريق الصادقين قوله : وأن تجعل هجرتك إلى الحق سرمدا يعني : أن كل متوجه إلى الله بالصدق والإخلاص فإنه من المهاجرين إليه فلا ينبغي أن يتخلف عن هذه الهجرة بل ينبغي أن يصحبها سرمدا حتى يلحق بالله عز و جل
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويحمد غب السير من هو سائر ولله على كل قلب هجرتان وهما فرض لازم له على الأنفاس :
هجرة إلى الله سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية وهجرة إلى رسوله : بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته فيكون تعبده به أعظم من تعبد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل ومتاهات الطريق
فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحث على رأسه الرماد وليراجع الإيمان من أصله فيرجع وراءه ليقتبس نورا قبل أن يحال بينه وبينه ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور والله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة العلم
وهذه المنزلة إن لم تصحب السالك من أول قدم يضعة في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه : فسلوكه على غير طريق وهو مقطوع عليه طريق الوصول مسدود عليه سبل الهدى والفلاح مغلقة عنه أبوابها وهذا إجماع من الشيوخ العارفين ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق منهم ونواب إبليس وشرطه قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد رحمه الله : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى آثار الرسول
وقال : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة وقال : مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة وقال أبو حفص رحمه الله : من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله : ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين : الكتاب والسنة وقال سهل به عبدالله رحمه الله : كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء : فهو عذاب على النفس وقال السري : التصوف اسم لثلاثة معان : لا يطفىء نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله
وقال أبو يزيد : عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاأشد علي

من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لبقيت واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد
وقال مرة لخادمه : قم بنا إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالصلاح لنزوره فلما دخلا عليه المسجد تنخع ثم رمى بها نحو القبلة فرجع ولم يسلم عليه وقال : هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه وقال : لقد هممت أن أسأل الله تعالى أن يكفيني مؤنة النساء ثم قلت : كيف يجوز لي أن أسأل الله هذا ولم يسأله رسول الله ولم أسأله ثم إن الله كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أو حائط وقالوا : لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة وقال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله : من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله وقال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله : الصحبة مع الله : بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع الرسول : بإتباع سنته ولزوم ظاهر العلم ومع أولياء الله : بالاحترام والخدمة ومع الأهل : بحسن

الخلق ومع الإخوان : بدوام البشر ما لم يكن إثما ومع الجهال : بالدعاء لهم والرحمة
زاد غيره : ومع الحافظين : بإكرامهما واحترامهما وإملائهما ما يحمدانك عليه ومع النفس : بالمخالفة ومع الشيطان : بالعداوة
وقال أبو عثمان أيضا : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا : نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا : نطق بالبدعة قال الله تعالى : وإن تطيعوه تهتدوا النور : 54
وقال أبو الحسين : النووي من رأيتموه يدعي مع الله عز و جل حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربوا منه
وقال محمد بن الفضل البامجي من مشايخ القوم الكبار : ذهاب الإسلام من أربعة : لا يعملون بما يعلمون ويعملون بما لا يعلمون ولا يتعلمون ما يعملون ويمنعون الناس من التعلم والتعليم
وقال عمرو بن عثمان المكي : العلم قائد والخوف سائق والنفس حرون بين ذلك جموح خداعة رواغة فاحذرها وراعها بسياسة العلم وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد
وقال أبو سعيد الخراز كل باطن يخالفه الظاهر فهو باطل وقال ابن عطاء : من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه وقال : كل ما سألت عنه فاطلبه في مفازة العلم فإن لم تجده ففي ميدان الحكمة فإن لم تجده فزنه بالتوحيد فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة فاضرب به وجه الشيطان وألقى بنان الحمال بين يدي السبع فجعل السبع يشمه ولا يضره فلما أخرج

قيل له : ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع قال : كنت أتفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع
وقال أبو حمزة البغدادي من أكابر الشيوخ وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل : ما تقول يا صوفي من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله ومر الشيخ أبو بكر محمد بن موسى الواسطي يوم الجمعة إلى الجامع فانقطع شسع نعله فأصلحه له رجل صيدلاني فقال : تدري لم انقطع شسع نعلي فقلت : لا فقال : لأني ما اغتسلت للجمعة فقال : ههنا حمام تدخله فقال : نعم فدخل واغتسل وقال أبو إسحاق الرقي من أقران الجنيد : علامة محبة الله : إيثار طاعته ومتابعة رسوله وقال أبو يعقوب النهرجوري : أفضل الأحوال : ما قارن العلم
وقال أبو القاسم النصراباذي شيخ خراسان في وقته : أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع وتعظيم كرامات المشايخ ورؤية أعذار الخلق والمداومة على المداومة على الأوراد وترك ارتكاب الرخص والتأويلات وقال أبو بكر الطمستاني من كبار شيوخ الطائفة : الطريق واضح والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم فمن صحب الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه وعن الخلق وهاجر بقلبه إلى الله : فهو الصادق المصيب

وقال أبو عمرو بن نجيد : كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه
وقال : التصوف الصبر تحت الأوامر والنواهي وكان بعض أكابر الشيوخ المتقدمين يقول : يا معشر الصوفية لا تفارقوا السواد في البياض تهلكوا
وأما الكلمات التي تروى عن بعضهم : من التزهيد في العلم والاستغناء عنه كقول من قال : نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا يموت وأنتم تأخذونه من حي يموت وقول الآخر وقد قيل له : ألا ترحل حتى تسمع من عبدالرزاق فقال : ما يصنع بالسماع من عبدالرزاق من يسمع من الخلاق وقول الآخر : العلم حجاب بين القلب وبين الله عز و جل وقول الآخر : إذا رأيت الصوفي يشتغل بأخبرنا و حدثنا فاغسل يدك منه وقول الآخر : لنا علم الحرف ولكم علم الورق ونحو هذا من الكلمات التي أحسن أحوال قائلها : أن يكون جاهلا يعذر بجهله أو شاطحا معترفا بشطحه وإلا فلولا عبدالرزاق وأمثاله ولولا أخبرنا و حدثنا لما وصل إلى هذا وأمثاله شيء من الإسلام ومن أحالك على غير أخبرنا و حدثنا فقد أحالك : إما على خيال صوفي أو قياس فلسفي أو رأي نفسي فليس بعد القرآن و أخبرنا

و حدثنا إلا شبهات المتكلمين وآراء المنحرفين وخيالات المتصوفين وقياس المتفلسفين ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طرق الجحيم والشيطان الرجيم
و العلم ما قام عليه الدليل والنافع منه : ما جاء به الرسول و العلم خير من الحال : العلم حاكم و الحال محكوم عليه و العلم هاد والحال تابع و العلم آمر ناه و الحال منفذ قابل و الحال سيف إن لم يصحبه العلم فهو مخراق في يد لاعب الحال مركب لا يجارى فإن لم يصحبه علم ألقى صاحبه في الممالك والمتالف والحال كالمال يؤتاه البر والفاجر فإن لم يصحبه نور العلم كان وبالا على صاحبه الحال بلا علم كالسلطان الذي لا يزعه عن سطوته وازع الحال بلا علم كالنار التي لا سائس لها نفع الحال لا يتعدى صاحبه ونفع العلم كالغيث يقع على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر دائرة العلم تسع الدنيا والآخرة ودائرة الحال تضيق عن غير صاحبه وربما ضاقت عنه
العلم هاد والحال الصحيح مهتد به وهو تركة الأنبياء وتراثهم وأهله عصبتهم ووراثهم وهو حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور ورياض العقول ولذة الأرواح وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال
وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين والغي والرشاد والهدى والضلال به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد ويحمد ويمجد وبه اهتدى إليه السالكون ومن طريقه وصل إليه الواصلون ومن بابه دخل عليه القاصدون

به تعرف الشرائع والأحكام ويتميز الحلال من الحرام وبه توصل الأرحام وبه تعرف مراضي الحبيب وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب
وهو إمام والعمل مأموم وهو قائد والعمل تابع وهوالصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والأنيس في الوحشة والكاشف عن الشبهة والغني الذي لا فقر على من ظفر بكنزه والكنف الذي لا ضيعة على من آوى إلى حرزه مذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وطلبه قربة وبذله صدقة ومدارسته تعدل بالصيام والقيام والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام قال الإمام أحمد رضي الله عنه : الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه وروينا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة
ونص على ذلك أبو حنيفة رضي الله عنهوقال ابن وهب : كنت بين يدي مالك رضي الله عنه فوضعت ألواحي وقمت أصلي فقال : ما الذي قمت إليه بأفضل مما قمت عنه ذكره ابن عبدالبر وغيره واستشهد الله عز و جل بأهل العلم على أجل مشهود به وهو التوحيد وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته وفي ضمن ذلك تعديلهم فإنه سبحانه وتعالى لا يستشهد بمجروح
ومن ههنا : والله أعلم يؤخذ الحديث المعروف : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل المبطلين وهو حجة الله في أرضه ونوره بين عباده وقائدهم ودليلهم إلى جنته ومدنيهم من كرامته

ويكفي في شرفه : أن فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها وتظلهم بها وأن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر وحتى النمل في جحرها وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير ولقد رحل كليم الرحمن موسى بن عمران عليه الصلاة و السلام في طلب العلم هو وفتاه حتى مسهما النصب في سفرهما في طلب العلم حتى ظفر بثلاث مسائل وهو من أكرم الخلق على الله وأعلمهم به
وأمر الله رسوله أن يسأله المزيد منه فقال : وقل رب زدني علما طه : 114 وحرم الله صيد الجوارح الجاهلة وإنما أباح للأمة صيد الجوارح العالمة فهكذا جوارح الإنسان الجاهل لا يجدي عليه صيدها من الأعمال شيئا والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال صاحب المنازل رحمه الله : العلم ما قام بدليل ورفع الجهل
يريد : أن للعلم علامة قبله وعلامة بعده فعلامته قبله : ما قام به الدليل وعلامته بعده : رفع الجهل
قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : علم جلي به يقع العيان أو واستفاضة صحيحة أو صحة تجربة قديمة يريد بالجلي : الظاهر الذي لا خفاء به وجعله ثلاثة أنواع أحدها : ما وقع عن عيان وهو البصر والثاني : ما استند إلى السمع وهو علم الاستفاضة والثالث : ما استند إلى العقل وهو علم التجربة

فهذه الطرق الثلاثة وهي السمع والبصر والعقل هي طرق العلم وأبوابه ولا تنحصر طرق العلم فيما ذكره فإن سائر الحواس توجب العلم وكذا ما يدرك بالباطن وهي الوجدانيات وكذا ما يدرك بخبر المخبر الصادق وإن كان واحدا وكذا ما يحصل بالفكر والاستنباط وإن لم يكن عن تجربة فالعلم لا يتوقف على هذه الثلاثة التي ذكرها فقط والفرق بينه وبين المعرفة من وجوه ثلاثة : أحدها : أن المعرفة لب العلم ونسبة العلم إليها كنسبة الإيمان إلى الإحسان وهي علم خاص متعلقها أخفى من متعلق العلم وأدق والثاني : أن المعرفة هي العلم الذي يراعيه صاحبه بموجبه ومقتضاه فهي علم تتصل به الرعاية والثالث : أن المعرفة شاهد لنفسها وهي بمنزلة الأمور الوجدانية التي لا يمكن صاحبها أن يشك فيها ولا ينتقل عنها وكشف المعرفة أتم من كشف العلم والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : علم خفي ينبت في الأسرار الطاهرة من
الأبدان الزاكية بماء الرياضة الخالصة ويظهر في الأنفاس الصادقة لأهل الهمة العالية في الأحايين الخالية والأسماع الصاخبة وهو علم يظهر الغائب ويغيب الشاهد ويشير إلى الجمع
يعني : أن هذا العلم خفي على أهل الدرجة الأولى وهو المسمى بالمعرفة عند هذه الطائفة قوله : ينبت في الإسرار الطاهرة لفظ السر يطلق في لسانهم ويراد به أمور

أحدها : اللطيفة المودعة في هذا القالب التي حصل بها الإدراك والمحبة والإرادة والعلم وذلك هو الروح الثاني : معنى : قائم بالروح نسبته إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن وغالب ما يريدون به : هذا المعنى وعندهم : أن القلب أشرف ما في البدن والروح أشرف من القلب والسر ألطف من الروح وعندهم : للسر سر آخر لا يطلع عليه غير الحق سبحانه وصاحبه لا يطلع عليه وإن اطلع على سره فيقولون السر مالك عليه إشراف و سر السر مالا اطلاع عليه لغير الحق سبحانه والمعنى الثالث : يراد به ما يكون مصونا مكتوما بين العبد وبين ربه من الأحوال والمقامات كما قال بعضهم : أسرارنا بكر لم يفتضها وهم واهم ويقول قائلهم : لو عرف زرى سري لطرحته والمقصود قوله : ينبت في الأسرار الطاهرة
يعني : الطاهرة من كدر الدنيا والاشتغال بها وعلائقها التي تعوق الأرواح عن ديار الأفراح فإن هذه أكدار وتنفسات في وجه مرآة القلب والروح فلا تنجلي فيها صور الحقائق كما ينبغي والنفس تنفس فيها دائما بالرغبة في الدنيا والرهبة من فوتها فإذا جليت المرآة بإذهاب هذه الأكدار صفت وظهرت فيها الحقائق والمعارف وأما الأبدان الزكية فهي التي زكت بطاعة الله ونبتت على أكل الحلال فمتى خلصت الأبدان من الحرام وأدناس البشرية التي ينهى عنها العقل والدين والمروءة وطهرت الأنفس من علائق الدنيا : زكت أرض القلب فقبلت بذر العلوم والمعارف فإن سقيت بعد ذلك بماء الرياضة الشرعية النبوية المحمدية وهي التي

لا تخرج عن علم ولا تبعد عن واجب ولا تعطل سنة أنبتت من كل زوج كريم من علم وحكمة وفائدة وتعرف فاجتنى منها صاحبها ومن جالسه أنواع الطرف والفوائد والثمار المختلفة الألوان والأذواق كما قال بعض السلف : إذا عقدت القلوب على ترك المعاصي : جالت في الملكوت ثم رجعت إلى أصحابها بأنواع التحف والفوائد قوله : وتظهر في الأنفاس الصادقة يريد بالأنفاس أمرين : أحدهما : أنفاس الذكر والمعرفة والثاني : أنفاس المحبة والإرادة وما يتعلق بالمعروف المذكور وبالمحبوب المراد من الذاكر والمحب و صدقها خلوصها من شوائب الأغيار والحظوظ وقوله : لأهل الهمم العالية فهي التي لا تقف دون الله عز و جل ولا تعرج في سفرها على شيء سواه وأعلى الهمم : ما تعلق بالعلي الأعلى وأوسعها : ما تعلق بصلاح العباد وهي همم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وورثتهم وقوله : في الأحايين الخالية
يريد بها : ساعات الصفاء مع الله تعالى وأوقات النفحات الإلهية التي من تعرض لها يوشك أن لا يحرمها ومن أعرض عنها فهي عنه أشد إعراضا وقوله : في الأسماع الصاخية فهي التي صحت من تعلقها بالباطل واللغو وأصاخت لدعوة الحق ومنادي الإيمان فإن الباطل واللغو خمر الأسماع والعقول فصحوها بتجنبه والإصفاء إلى دعوة الحق
قوله : وهو علم يظهر الغائب أي يكشف ما كان غائبا عن العارف قوله : ويغيب الشاهد أي يغيبه عن شهود ما سوى مشهوده الحق ويشير إلى الجمع وهو مقام الفردانية واضمحلال الرسوم حتى رسم الشاهد نفسه والله سبحانه أعلم

فصل قال : الدرجة الثالثة : علم لدني إسناده وجوده وإدراكه عيانه
ونعته حكمه ليس بينه وبين الغيب حجاب
يشير القوم بالعلم اللدني إلى ما يحصل للعبد من غير واسطة بل بإلهام من الله وتعريف منه لعبده كما حصل للخضر عليه السلام يغير واسطة موسى قال الله تعالى : آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما الكهف : 65
وفرق بين الرحمة والعلم وجعلهما من عنده و من لدنه إذ لم ينلهما على يد بشر وكان من لدنه أخص وأقرب من عنده ولهذا قال تعالى : وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانانصيرا الإسراء : 80 ف السلطان النصير الذي من لدنه سبحانه : أخص وأقرب مما عنده ولهذا قال تعالى واجعل لي من لدنك سلطانانصيراوهو الذي أيده به والذي من عنده : نصره بالمؤمنين كما قال تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين الأنفال : 62
و العلم اللدني ثمرة العبودية والمتابعة والصدق مع الله والإخلاص له وبذل الجهد في تلقي العلم من مشكاة رسوله وكمال الانقياد له فيفتح له من فهم الكتاب والسنة بأمر يخصه به كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل : هل خصكم رسول الله بشيء دون الناس فقال :

لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه فهذا هو العلم اللدني الحقيقي
وأما علم من أعرض عن الكتاب والسنة ولم يتقيد بهما : فهو من لدن النفس والهوى والشيطان فهو لدني لكن من لدن من وإنما يعرف كون العلم لدنيا رحمانيا : بموافقته لما جاء به الرسول عن ربه عز و جل فالعلم اللدني نوعان : لدني رحماني ولدني شيطاني بطناوي والمحك : هو الوحي ولا وحي بعد رسول الله
وأما قصة موسى مع الخضر عليهما السلام : فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني إلحاد وكفر مخرج عن الإسلام موجب لإراقة الدم والفرق : أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولم يكن الخضر مأمورا بمتابعته ولو كان مأمورا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه ولهذا قال له : أنت موسى نبي بني إسرائل قال : نعم ومحمد مبعوث إلى جميع الثقلين فرسالته عامة للجن والإنس في كل زمان ولو كان موسى وعيسى عليهما السلام حيين لكانا من أتباعه وإذا نزل عيسى ابن مريم عليهما السلام فإنما يحكم بشريعة محمد
فمن ادعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى أو جوز ذلك لأحد من الأمة : فليجدد إسلامه وليتشهد شهادة الحق فإنه بذلك مفارق لدين الإسلام بالكلية فضلا عن أن يكون من خاصة أولياء الله وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه وهذا الموضع مقطع ومفرق بين زنادقة القوم وبين أهل الاستقامة منهم فحرك تره

قوله : إسناده وجوده يعني : أن طريق هذا العلم : هو وجدانه كما أن طريق غيره : هو الإسناد و إدراكه عيانه أي إن هذا العلم لا يؤخذ بالفكر والاستنباط وإنما يؤخذ عيانا وشهودا ونعته حكمه يعني : أن نعوته لا يوصل إليها إلا به فهي قاصرة عنه يعني أن شاهده منه ودليله وجوده وإنيته لميته فبرهان الإن فيه هو برهان اللم فهو الدليل وهو المدلول ولذلك لم يكن بينه وبين الغيوب حجاب بخلاف ما دونه من العلوم فإن بينه وبين العلوم حجابا
والذي يشير إليه القوم : هو نور من جناب المشهود يمحو قوى الحواس وأحكامها ويقوم لصاحبها مقامها فهو المشهود بنوره ويفني ما سواه بظهوره وهذا عندهم معنى الأثر الإلهي : فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع له وبصره الذي يبصر به فبي يسمع وبي يبصر
والعلم اللدني الرحماني : هو ثمرة هذه الموافقة والمحبة التي أوجبها التقرب بالنوافل بعد الفرائض واللدني الشيطاني : ثمرة الإعراض عن الوحي وتحكيم الهوى والشيطان والله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الحكمة
قال الله تعالى : يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا البقرة : 269 وقال تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما النساء : 113 وقال عن المسيح عليه السلام : ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل آل عمران : 48 الحكمة في كتاب الله نوعان : مفردة ومقترنة بالكتاب فالمفردة : فسرت بالنبوة وفسرت بعلم القرآن قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي علم القرآن : ناسخة ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله
وقال الضحاك : هي القرآن والفهم فيه وقال مجاهد : هي القرآن والعلم والفقه وفي رواية أخرى عنه : هي الإصابة في القول والفعل وقال النخعي : هي معاني الأشياء وفهمها وقال الحسن : الورع في دين الله كأنه فسرها بثمرتها ومقتضاها وأما الحكمة المقرونة بالكتاب : فهي السنة كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة وقيل : هي القضاء بالوحي وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر
وأحسن ما قيل في الحكمة : قول مجاهد ومالك : إنها معرفة الحق والعمل به والإصابة في القول والعمل وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان و الحكمة حكمتان : علمية وعملية فالعلمية : الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا قدرا وشرعا

و العلمية كما قال صاحب المنازل : وهي وضع الشيء في موضعه قال : وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : أن تعطي كل شيء حقه ولا تعديه حده ولا تعجله عن وقته ولا تؤخره عنه
لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها شرعا وقدرا ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاثة بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره ولا تتعدى بها حدها فتكون متعديا مخالفا للحكمة ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة ولا تؤخرها عنه فتفوتها وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعا وقدرا فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض وتعدي الحق : كسقيها فوق حاجتها بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد وتعجيلها عن وقتها : كحصاده قبل إدراكه وكماله
وكذلك ترك الغذاء والشراب واللباس : إخلال بالحكمة وتعدي الحد المحتاج إليه : خروج عنها أيضا وتعجيل ذلك قبل وقته : إخلال بها وتأخيره عن وقته : إخلال بها فالحكمة إذا : فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي والله تعالى أورث الحكمة آدم وبنيه فالرجل الكامل : من له إرث كامل من أبيه ونصف الرجل كالمرأة له نصف ميراث والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى وأكمل الخلق في هذا : الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأكملهم أولو العزم وأكملهم محمد ولهذا امتن الله سبحانه وتعالى عليه وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة كما قال تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم النساء : 113 وقال تعالى : كما أرسلنا

فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون البقرة : 151
فكل نظام الوجود مرتبط بهذه الصفة وكل خلل في الوجود وفي العبد فسببه : الإخلال بها فأكمل الناس : أوفرهم منها نصيبا وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال : أقلهم منها ميراثا ولها ثلاثة أركان : العلم والحلم والأناة وآفاتها وأضدادها : الجهل والطيش والعجلة فلا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : أن تشهد نظر الله في وعده وتعرف عدله
في حكمه وتلحظ بره في منعه
أي تعرف الحكمة في الوعد والوعيد وتشهد حكمه في قوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراعظيما النساء : 40 فتشهد عدله في وعيده وإحسانه في وعده وكل قائم بحكمته
وكذلك تعرف عدله في أحكامه الشرعية والكونية الجارية على الخلائق فإنه لا ظلم فيها ولا حيف ولا جور وإن أجراها على أيدي الظلمة فهو أعدل العادلين ومن جرت على يديه هو الظالم وكذلك تعرف بره في منعه
فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق ولا يغيض ما في يمينه سعة عطائه فما منع من منعه فضله إلا لحكمة كاملة في ذلك فإنه الجواد الحكيم وحكمته لا تناقض جوده فهو سبحانه لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته ولو بسط الله الرزق لعباده لفسدوا وهلكوا ولو علم في الكفار خيرا وقبولا لنعمة الإيمان وشكرا له عليها

ومحبة له واعترافا بها لهداهم إلى الإيمان ولهذا لما قالوا للمؤمنين أهؤلاء من الله عليهم من بيننا الأنعام : 53 أجابهم بقوله أليس الله بأعلم بالشاكرين
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : هم الذين يعرفون قدر نعمة الإيمان ويشكرون الله عليها فهو سبحانه ما أعطى إلا بحكمته ولا منع إلا بحكمته ولا أضل إلا بحكمته وإذا تأمل البصير أحوال العالم وما فيه من النقص : رآه عين الحكمة وما عمرت الدنيا والآخرة والجنة والنار إلا بحكمته وفي الحكمة ثلاثة أقوال للناس أحدها : أنها مطابقة علمه لمعلومه وإرادته ومشيئته لمراده هذا تفسير الجبرية وهو في الحقيقة نفي حكمته إذ مطابقة المعلوم والمراد : أعم من أن يكون حكمة أو خلافها فإن السفيه من العباد : يطابق علمه وإرادته لمعلومه ومراده مع كونه سفيها الثاني مذهب القدرية النفاة : أنها مصالح العباد ومنافعهم العائدة عليهم وهو إنكار لوصفه تعالى بالحكمة وردوها إلى مخلوق من مخلوقاته الثالث قول أهل الإثبات والسنة : أنها الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه بخلقه وأمره التي أمر لأجلها وقدر وخلق لأجلها وهي صفته القائمة به كسائر صفاته : من سمعه وبصره وقدرته وإرادته وعلمه وحياته وكلامه وللرد على طائفتي الجبرية والقدرية موضع غير هذا والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثالثة : أن تبلغ في استدلالك البصيرة وفي إرشادك
الحقيقة وفي إشارتك الغاية
يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهي البصيرة التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر وهذه هي الخصيصة التي

اختص بها الصحابة عن سائر الأمة وهي أعلى درجات العلماء قال تعالى : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني يوسف : 108 أي أنا وأتباعي على بصيرة وقيل : ومن اتبعني عطف على المرفوع بأدعو أي أنا أدعو إلى الله على بصيرة ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله على بصيرة
وعلى القولين فالآية تدل أن أتباعه هم أهل البصائر الداعين إلى الله على بصيرة فمن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى وقوله : وفي إرشادك الحقيقة
إما أن يريد : أنك إذا أرشدت غيرك تبلغ في إرشاده إلى الحقيقة أو تبلغ في إرشاد غيرك لك إلى الحقيقة ولا تقف دونها فعلى الأول : المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الثاني : إلى المفعول والمعنى : أنك تكون من أهل الوجود الذين إذا أشاروا لم يشيروا إلا إلى الغاية المطلوبة التي ليس وراءها مرمى
والقوم يسمون أخبارهم عن المعارف وعن المطلوب إشارات لأن المعروف أجل من أن يفصح عنه بعبارة مطابقة وشأنه فوق ذلك فالكامل من إشارته إلى الغاية ولا يكون ذلك إلا لمن فني عن رسمه وهواه وحظه وبقي بربه ومراده الديني الأمري وكل أحد فاشارته بحسب معرفته وهمته ومعارف القوم وهممهم تؤخذ من إشاراتهم والله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفراسة
قال الله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين الحجر : 75 قال مجاهد رحمه الله : المتفرسين : وقال ابن عباس رضي الله عنهما : للناظرين وقال قتادة : للمعتبرين وقال مقاتل : للمتفكرين

ولا تنافي بين هذه الأقوال فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين ومنازلهم وما آل إليه أمرهم : أورثه فراسة وعبرة وفكرة وقال تعالى في حق المنافقين : ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول محمد : 30 فالأول : فراسة النظر والعين والثاني : فراسة الأذن والسمع
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : علق معرفته إياهم بالنظر على المشيئة ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط بل أخبر به خبرا مؤكدا بالقسم فقال : ولتعرفنهم في لحن القول وهو تعريض الخطاب وفحوى الكلام ومغزاه و اللحن ضربان : صواب وخطأ فلحن الصواب نوعان أحدهما : الفطنة ومنه الحديث : ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض والثاني : التعريض والإشارة وهو قريب من الكناية ومنه قول الشاعر :
وحديث ألذه وهو مما ... يشتهي السامعون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا والثالث : فساد المنطق في الإعراب وحقيقته : تغيير الكلام عن وجهه : إما إلى خطإوإما إلى معنى خفي لم يوضع له اللفظ
والمقصود : أنه سبحانه أقسم على معرفتهم من لحن خطابهم فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه : أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من السيماء المرئية والفراسة تتعلق بالنوعين بالنظر والسماع وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن عن النبي قال : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بور الله ثم تلا قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين الحجر : 75

فصل و الفراسة ثلاثة أنواع : إيمانية وهي المتكلم فيها في هذه
المنزلة

وسببها : نور يقذفه الله في قلب عبده يفرق به بين الحق والباطل والحالي والعاطل والصادق والكاذب
وحقيقتها : أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة لكن الفريسة فعيلة بمعنى مفعولة وبناء الفراسة كبناء الولاية والإمارة والسياسة وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة قال أبو سعيد الخراز : من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق وتكون مواد علمه مع الحق بلا سهو ولا غفلة بل حكم حق جرى على لسان عبده
وقال الواسطي : الفراسة شعاشع أنوار لمعت في القلوب وتمكن معرفة جملة السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق إياها فيتكلم عن ضمير الخلق وقال الدراني : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب وهي من مقامات الإيمان وسئل بعضهم عن الفراسة فقال : أرواح تتقلب في الملكوت فتشرف على معاني الغيوب فتنطق عن أسرار الخلق نطق مشاهدة لا نطق ظن وحسبان
وقال عمرو بن نجيد : كان شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطىء ويقول : من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام بالمراقبه وظاهره باتباع السنة وتعود أكل الحلال : لم تخطىء فراسته وقال أبو جعفر الحداد : الفراسة أول خاطر بلا معارض فإن عارضه معارض آخر من جنسه فهو خاطر وحديث نفس
وقال أبو حفص النيسابوري : ليس لأحد أن يدعي الفراسة ولكن يتقي

الفراسة من الغير لأن النبي قال : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ولم يقل : تفرسوا وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي : إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون وكان الجنيد يوما يتكلم على الناس فوقف عليه شاب نصراني متنكرا فقال : أيها الشيخ ما معنى قول النبي : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه إليه وقال : أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام ويقال في بعض الكتب القديمة : إن الصديق لا تخطىء فراسته
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : العزيز في يوسف حيث قال لامرأته : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى : استأجره القصص : 26 وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما حيث استخلفه وفي رواية أخرى : وامرأة فرعون حين قالت : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا القصص : 9
وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء : أظنه كذا إلا كان كما قال ويكفي في فراسته : موافقته ربه في المواضع المعروفة
ومر به سواد بن قارب ولم يكن يعرفه فقال لقد أخطأ ظني أو أن هذا كاهن أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية فلما جلس بين يديه قال له ذلك عمر فقال : سبحان الله يا أمير المؤمنين ما استقبلت أحدا من جلسائك

بمثل ما استقبلتني به فقال له عمر رضي الله عنه : ما كنا عليه في الجاهلية أعظم من ذلك ولكن أخبرني عما سألتك عنه فقال : صدقت يا أمير المؤمنين كنت كاهنا في الجاهلية ثم ذكر القصة
وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه صادق الفراسة وقال أنس ابن مالك رضي الله عنه : دخلت على عثمان بن عفان رضي الله عنه وكنت رأيت امرأة في الطريق تأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه : يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه فقلت : أوحي بعد رسول الله فقال : ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة
وأصل هذا النوع من الفراسة : من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير فلا تكاد فراسته تخطىء قال الله : أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها الأنعام : 122 كان ميتا بالكفر والجهل فأحياه الله بالإيمان والعلم وجعل له بالقرآن والإيمان نورا يستضيء به في الناس على قصد السبيل ويمشي به في الظلم والله أعلم

فصل الفراسة الثانية : فراسة الرياضة والجوع والسهر والتخلي فإن
النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية وكثير من الجهال

يغتر بها وللرهبان فيها وقائع معلومة وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع ولا عن طريق مستقيم بل كشفها جزئي من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم
وللأطباء فراسة معروفة من حذقهم في صناعتهم ومن أحب الوقوف عليها فليطالع تاريخهم وأخبارهم وقريب من نصف الطب : فراسة صادقة يقترن بها تجربة والله سبحانه أعلم

فصل الفراسة الثالثة : الفراسة الخلقية وهي التي صنف فيها الأطباء
وغيرهم واستدلوا بالخلق على الخلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل وبكبره وبسعة الصدر وبعد ما بين جانبيه : على سعة خلق صاحبه واحتماله وبسطته وبضيقه على ضيقه وبخمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها وضعف حرارة قلبه وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة وهو الشكل على شجاعته وإقدامه وفطنته وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته ومكره وخداعه
ومعظم تعلق الفراسة بالعين فإنها مرآة القلب وعنوان ما فيه ثم باللسان فإنه رسوله وترجمانه وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته
وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة وبإفراطه في الجعودة على الشر وباعتداله على اعتدال صاحبه
وأصل هذه الفراسة : أن اعتدال الخلقة والصورة : هو من اعتدال المزاج

والروح وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال : يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال هذا إذا خليت النفس وطبيعتها
ولكن صاحب الصورة والخلقة المعتدلة يكتسب بالمقارنة والمعاشرة أخلاق من يقارنه ويعاشره ولو أنه من الحيوان البهيم فيصير من أخبث الناس أخلاقا وأفعالا وتعود له تلك طباعا ويتعذر أو يتعسر عليه الانتقال عنها
وكذلك صاحب الخلقة والصورة المنحرفة عن الاعتدال يكتسب بصحبة الكاملين بخلطتهم أخلاقا وأفعالا شريفة تصير له كالطبيعة فإن العوائد والمزاولات تعطي الملكات والأخلاق
فليتأمل هذا الموضع ولا يعجل بالقضاء بالفراسة دونه فإن القاضي حينئذ يكون خطؤه كثيرا فإن هذه العلامات أسباب لا موجبة وقد تتخلف عنها أحكامها لفوات شرط أو لوجود مانع
وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء : بعينه وأذنه وقلبه فعينه للسيماء والعلامات وأذنه : للكلام وتصريحه وتعريضه ومنطوقه ومفهومه وفحواه وإشاراته ولحنه وإيمائه ونحو ذلك وقلبه للعبور : والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه فيعبر إلى ما وراء ظاهره كعبور النقاد من ظاهر النقش والسكة إلى باطن النقد والاطلاع عليه : هل هو صحيح أو زغل وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة والدل إلى باطن الروح والقلب فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصيرفي ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد وكذلك نقد أهل الحديث فإنه يمر إسناد ظاهر كالشمس على متن مكذوب فيخرجه ناقدهم كما يخرج الصيرفي الزغل من تحت الظاهر من الفضة

وكذلك فراسة التمييز بين الصادق والكاذب في أقواله وأفعاله وأحواله
وللفراسة سببان أحدهما : جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته والثاني : ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطىء للعبد فراسة وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر : كانت فراسته بين بين
وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة وله الوقائع المشهورة وكذلك الشافعي رحمة الله وقيل : إن له فيها تآليف ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة وأن جيوش المسلمين تكسر وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن كلب الجيش وحدته في الأموال : وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة
ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام : أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال له : قل إن شاء الله فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا
وسمعته يقول ذلك قال : فلما أكثروا علي قلت : لا تكثروا كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ : أنهم مهزومون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام قال : وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو وكانت فراسته الجزئية في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر
ولما طلب إلى الديار المصرية وأريد قتله بعد ما أنضجت له القدور وقلبت له الأمور : اجتمع أصحابه لوداعه وقالوا : قد تواترت الكتب بأن

القوم عاملون على قتلك فقال : والله لا يصلون إلى ذلك أبدا قالوا : أفتحبس قال : نعم ويطول حبسي ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رؤوس الناس سمعته يقول ذلك
ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك وقالوا : الآن بلغ مراده منك فسجد لله شكرا وأطال فقيل له : ما سبب هذه السجدة فقال : هذا بداية ذله ومفارقة عزه من الآن وقرب زوال أمره فقيل له : متى هذا فقال : لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته فوقع الأمر مثل ما أخبر به سمعت ذلك منه
وقال مرة : يدخل علي أصحابي وغيرهم فأرى في وجوههم وأعينهم أمورالا أذكرها لهم فقلت له أو غيري لو أخبرتهم فقال : أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة وقلت له يوما : لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح فقال : لا تصبرون معي على ذلك جمعة أو قال : شهرا وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ولم يعين أوقاتها وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل رحمه الله : الفراسة : استئناس حكم غيب
والاستئناس : استفعال من آنست كذا إذا رأيته فإن أدركت بهذا

الاستئناس حكم غيب : كان فراسة وإن كان بالعين : كان رؤية وإن كان بغيرها من المدارك : فبحسبها قوله : من غير استدلال بشاهده
هذا الاستدلال بالشاهد على الغائب : أمر مشترك بين البر والفاجر والمؤمن والكافر كالاستدلال بالبروق والرعود على الأمطار وكاستدلال رؤساء البحر بالكدر الذي يبدو لهم في جانب الأفق على ريح عاصف ونحو ذلك وكاستدلال الطبيب بالسحنة والتفسرة على حال المريض
ويدق ذلك حتى يبلغ إلى حد يعجز عنه أكثر الأذهان وكما يستدل بسيرة الرجل وسيره على عاقبة أمره في الدنيا من خير أو شر فيطابق أو يكاد فهذا خارج عن الفراسة التي تتكلم فيها هذه الطائفة وهو نوع فراسة لكنها غير فراستهم وكذلك ما علم بالتجربة من مسائل الطب والصناعات والفلاحة وغيرها والله اعلم

فصل قال : وهي على ثلاث درجات الأولى : فراسة طارئة نادرة تسقط على
لسان وحشي في العمر مرة لحاجة سمع مريد صادق اليها لا يتوقف على مخرجها ولا يؤبه لصاحبها وهذا شىء لا يخلص من الكهانة وما ضاهاها لأنها لم تشر عن عين ولم تصدر عن علم ولم تسبق بوجود
يريد بهذا النوع : فراسة تجري على ألسنة الغافلين الذين ليست لهم يقظة أرباب القلوب فلذلك قال : طارئة نادرة تسقط على لسان وحشي الذي لم يأنس بذكر الله ولا اطمأن اليه قلب صاحبه فيسقط على لسانه مكاشفة في العمر مرة وذلك نادر ورمية من غير رام وقوله : لحاجة مريد صادق

يشير الى حكمة إجرائها على لسانه وهي حاجة المريد الصادق إليها فإذا سمعها على لسان غيره كان أشد تنبها له وكانت عنده أعظم موقعا وقوله : لا يوقف على مخرجها
يعني لا يعلم الشخص الذي وصلت إليه واتصلت به : ما سبب مخرج ذلك الكلام وإنما سمعه مقتطعا مما قبله ومما هيجه ولا يؤبه لصاحبها لأنه ليس هناك
قلت : وهذا من جنس الفأل وكان رسول يحب الفأل ويعجبه والطيرة من هذا ولكن المؤمن لا يتطير فإن التطير شرك ولا يصده ما سمع عن مقصده وحاجته بل يتوكل على الله ويثق به ويدفع شر التطير عنه بالتوكل وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي : انه قال : الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل
وهذه الزيادة وهي قوله : وما منا إلا يعني من يعتريه ولكن الله يذهبها بالتوكل مدرجة في الحديث من قول ابن مسعود وجاء ذلك مبينا ومن له يقظة يرى ويسمع من ذلك عجائب وهي من إلقاء الملك تارة على لسان الناطق وتارة من القاء الشيطان فالإلقاء الملكي : تبشير وتحذير وإنذار والإلقاء الشيطاني : تحزين وتخويف وشرك وصد عن المطالب
وصاحب الهمة والعزيمة : لا يتقيد بذلك : ولا يصرف إليه همته وإذا سمع ما يسره استبشر وقوي رجاؤه وحسن ظنه وحمد الله وسأله إتمامه واستعان به على حصوله وإذا سمع ما يسوءه : استعاذ بالله ووثق به وتوكل عليه ولجأ إليه والتجأ إلى التوحيد وقال اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك

ولا إله غيرك اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك
ومن جعل هذا نصب قلبه وعلق به همته : كان ضرره به أكثر من نفعه قوله : وهذا شيء لا يخلص من الكهانة
يعني : أنه من جنس الكهانة وأحوال الكهان معلومة قديما وحديثا في إخبارهم عن نوع من المغيبات بواسطة إخوانهم من الشياطين الذين يلقون إليهم السمع ولم يزل هؤلاء في الوجود ويكثرون في الأزمنة والأمكنة التي يخفى فيها نور النبوة ولذلك كانوا أكثر ما كانوا في زمن الجاهلية وكل زمان جاهلية وبلد جاهلية وطائفة جاهلية فلهم نصيب منها بحسب اقتران الشياطين بهم وطاعتهم لهم وعبادتهم إياهم
وقوله : وما ضاهأها أي وما شابهها من جنس الخط بالرمل وضرب الحصا والودع وزجر الطير الذي يسمونه السانح والبارح والقرعة الشركية لا الشرعية والاستقسام بالأزلام وغير ذلك مما تتعلق به النفوس الجاهلية المشركة التي عاقبة أمرها خسر وبوار وقوله : لأنها لم تشر عن عين أي عن عين الحقيقة التي لا يصدر عنها إلا حق يعني غير متصلة بالله عز و جل وقوله : ولم تصدر عن علم يعني أنها عن ظن وحسبان لا عن علم ويقين وصاحبها دائما في شك ليس على بصيرة من أمره وقوله : ولم تسبق بوجود
أي لم يسقها وجود الحقيقة لصاحبها بل هو فارغ بل غير واجد بل فاقد من غير أهل الوجود والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : فراسة تجنى من غرس الإيمان وتطلع من صحة
الحال وتلمع من نور الكشف
هذا النوع من الفراسة : مختص بأهل الإيمان ولذلك قال : تجنى من غرس الإيمان وشبه الإيمان بالغرس لأنه يزداد وينمو ويزكو على السقي ويؤتي أكله كل حين بإذن ربه وأصله ثابت في الأرض وفروعه في السماء فمن غرس الإيمان في أرض قلبه الطيبة الزاكية وسقى ذلك الغراس بماء الإخلاص والصدق والمتابعة : كان من بعض ثمره هذه الفراسة قوله : وتطلع من صحة الحال
يعني : أن صدق الفراسة من صدق الحال فكلما كان الحال أصدق وأصح فالفراسة كذلك قوله : وتلمع من نور الكشف يعني أن نور الكشف من جملة ما يولد الفراسة بل أصلها نور الكشف وقوة الفراسة : بحسب قوة هذا النور وضعفه وقوته وضعفه بحسب قوة مادته وضعفها والله أعلم
فصل قال : الدرجة الثالثة : فراسة سرية لم تجتلبها روية على لسان
مصطنع تصريحا أو رمزا يحتمل لفظ السرية وجهين :
أحدهما : الشرف أي فراسة شريفة فإن الرجل السري هو الرجل الشريف وجمعه سراة ومنه في أحد التأويلين قوله تعالى : قد جعل ربك تحتك سريا مريم : 24 أي سيدا مطاعا وهو المسيح وعلى هذا يكون سرية بوزن شريفة

والثاني : أن يكون من السر أي فراسة متعلقة بالأسرار لا بالظواهر فتكون سرية بوزن شريبة ومكيثة قوله : لم تجتلبها روية أي لا تكون عن فكرة بل تهجم على القلب هجوما لا يعرف سببه قوله : على لسان مصطنع أي مختار مصطفى على غيره تصريحا أو رمزا
يعني أن هذا المختار المصطفى يخبر بهذه الفراسة العالية عن أمور مغيبة تارة بالتصريح وتارة بالتلويح إما سترا لحاله وإما صيانة لما أخبر به عن الابتذال ووصوله إلى غير أهله وإما لغير ذلك من الأسباب والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التعظيم
وهذه المنزلة تابعة للمعرفة فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب وأعرف الناس به : أشدهم له تعظيما وإجلالا وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته ولا عرفه حق معرفته ولا وصفه حق صفته وأقوالهم تدور على هذا فقال تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا نوح : 13 قال ابن عباس ومجاهد : لا ترجون لله عظمة وقال سعيد بن جبير : ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته وقال الكلبي : لا تخافون لله عظمة
قال البغوي : و الرجاء بمعنى المخوف و الوقار العظمة اسم من التوقير وهو التعظيم وقال الحسن : لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة وقال ابن كيسان : لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا وروح العبادة : هو الإجلال والمحبة فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد والله سبحانه أعلم

فصل قال صاحب المنازل رحمه الله : التعظيم : معرفة العظمة مع التذلل
لها وهو على ثلاث درجات الأولى : تعظيم الأمر والنهي وهو أن لا يعارضا بترخص جاف ولا يعرضا لتشدد غال ولا يحملا على علة توهن الانقياد ههنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي أحدها : الترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال والثاني : الغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي فالأول : تفريط والثاني إفراط
وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان : إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيهمضيع له هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد وقد نهى الله عن الغلو بقوله : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق المائدة : 77
و الغلو نوعان نوع يخرجه عن كونه مطيعا كمن زاد في الصلاة ركعة أو صام الدهر مع أيام النهي أو رمي الجمرات بالصخرات الكبار التي يرمى بها في المنجنيق أو سعى بين الصفا والمروة عشرا أو نحو ذلك عمدا وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار كقيام الليل كله وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي والجور على النفوس في العبادات والأوراد الذي قال فيه النبي : إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من

الدلجة يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة فإن المسافر يستعين على قطع مسافة السفر بالسير فيها
وقال : ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد رواهما البخاري وفي صحيح مسلم عنه أنه قال : هلك المتنطعون قالها ثلاثا وهم المتعمقون المتشددون
وفي صحيح البخاري عنه : عليكم من الأعمال ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا وفي السنن عنه أنه قال : إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغضن إلى نفسك عبادة الله أو كما قال وقوله : ولا يحملا على علة توهن الانقياد
يريد : أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليهما بالإبطال كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بايقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه كما قيل :
أدرها فما التحريم فيها لذاتها ... ولكن لأسباب تضمنها السكر
إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى ... فسيان ماء في الزجاجة أو خمر
وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة وقد حمل طائفة من العلماء أن جعلوا تحريم ما عدا شراب خمر العنب معللا بالإسكار فله أن يشرب منه ما شاء ما لم يسكر
ومن العلل التي توهن الانقياد : أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور وفي بعض الآثار القديمة : يا بني إسرائيل لا تقولوا : لم أمر ربنا ولكن قولوا : بم أمر ربنا

وأيضا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادا للأمر وأقل درجاته : أن يضعف انقياده له
وأيضا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلا وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله فقال : أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده
وكل هذا من ترك تعظم الأمر والنهي وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا الله فكم عطلت لله من أمر وأباحت من نهى وحرمت من مباح ! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها

فصل قال : الدرجة الثانية : تعظيم الحكم : أن يبغي له عوج أو
يدافع بعلم أو يرضى بعوض
الدرجة الأولى : تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي وهذه الدرجة تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري وهو الذي يخصه المصنف باسم الحكم وكما يجب على العبد أن يرعى حكم الله الديني بالتعظيم فكذلك يرعى حكمه الكوني به فذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء : أحدها : أن لا يبغي له عوج أي يطلب له عوج أو يرى فيه عوج بل يراه كله مستقيما لأنه صادر عن عين الحكمة فلا عوج فيه وهذا موضع أشكل على الناس جدا فقال نفاة القدر : ما في خلق الرحمن من تفاوت ولا عوج والكفر والمعاصي مشتملة على أعظم التفاوت والعوج فليست بخلقه ولا مشيئته ولا قدره

وقالت : فرقة تقابلهم : بل هي من خلق الرحمن وقدره فلا عوج فيها وكل ما في الوجود مستقيم والطائفتان ضالتان منحرفتان عن الهدى وهذه الثانية أشد انحرافا لأنها جعلت الكفر والمعاصي طريقا مستقيما لا عوج فيه وعدم تفريق الطائفتين بين القضاء والمقضي والحكم والمحكوم به : هو الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه
وقول سلف الأمة وجمهورها : إن القضاء غير المقضي فالقضاء فعله ومشيئته وما قام به والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه وهو المشتمل على الخير والشر والعوج والاستقامة فقضاؤه كله حق والمقضي : منه حق ومنه باطل وقضاؤه كله عدل والمقضي : منه عدل ومنه جور وقضاؤه كله مرضي والمقضي : منه مرضي ومنه مسخوط وقضاؤه كله مسالم والمقضي : منه ما يسالم ومنه ما يحارب وهذا أصل عظيم تجب مراعاته وهو موضع مزلة أقدام كما رأيت والمنحرف عنه : إما جاهل للحكمة أو القدرة أو للأمر والشرع ولابد وعلى هذا يحمل كلام صاحب المنازل رحمه الله : أن لا يبتغي للحكم عوج وأما قوله : أو يدفع بعلم
فأشكل من الأول فإن العلم مقدم على القدر وحاكم عليه ولا يجوز دفع العلم بالحكم
فأحسن ما يحمل عليه كلامه أن يقال : قضاء الله وقدره وحكمه الكوني لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني بحيث تقع المدافعة بينهما لأن هذا مشيئته الكونية وهذا إرادته الدينية وإن كان المرادان قد يتدافعان ويتعارضان لكن من تعظيم كل منهما : أن لا يدافع بالآخر ولا يعارض فإنهما وصفان للرب تعالى وأوصافه لا يدافع بعضها ببعض وإن استعيذ ببعضها من بعض فالكل منه سبحانه وهو المعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعلم الخلق به : أعوذ برضاك

من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعود بك منك فرضاه وإن أعاذ من سخطه فإنه لا يبطله ولا يدفعه وإنما يدفع تعلقه بالمستعيذ وتعلقه بأعدائه باق غير زائل فهكذا أمره وقدره سواء فإن أمره لا يبطل قدره ولا قدره يبطل أمره ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه وهو أيضا من قضائه فما دفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره فلم يدفع العلم الحكم بل المحكوم به والعلم والحكم دفعا المحكوم به الذي قدر دفعه وأمر به
فتأمل هذا فإنه محض العبودية والمعرفة والإيمان بالقدر والاستسلام له والقيام بالأمر والتنفيذ له بالقدر فما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله ولا دفع مقدور الله بقدر الله وأمره وأما قوله : ولا يرضى بعوض
أي إن صاحب مشهد الحكم قد وصل إلى حد لا يطلب معه عوضا ولا يكون ممن يعبد الله بالعوض فإنه يشاهد جريان حكم الله عليه وعدم تصرفه في نفسه وأن المتصرف فيه حقا هو مالكه الحق فهو الذي يقيمه ويقعده ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال وإنما يطلب العوض من غاب عن الحكم وذهل عنه وذلك مناف لتعظيمه فمن تعظيمه : أن لا يرضى العبد بعوض يطلبه بعمله لأن مشاهدة الحكم وتعظيمه يمنعه أن يرى لنفسه ما يعاوض عليه فهذا الذي يمكن حمل كلامه عليه من غير خروج عن حقيقة الأمر والله سبحانه أعلم

فصل قال : الدرجة الثالثة : تعظيم الحق سبحانه وهو أن لا يجعل دونه
سببا ولا يرى عليه حقا أو ينازع له اختيارا
هذه الدرجة تتضمن تعظيم الحاكم سبحانه صاحب الخلق والأمر والتي قبلها تتضمن تعظيم قضائه لا مقضيه والأولى : تتضمن تعظيم أمره وذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء :

أحداها : أن لاتجعل دونه سببا
أي لاتجعل للوصلة إليه سببا غيره بل هو الذي يوصل عبده إليه فلا يوصل إلى الله إلا الله ولا يقرب إليه سواه ولا يدنى إليه غيره ولا يتوصل إلى رضاه إلا به فما دل على الله إلا الله ولا هدى إليه سواه ولا أدنى إليه غيره فإنه سبحانه هو الذي جعل السبب سببا فالسبب وسببيته وإيصاله : كله خلقه وفعله الثاني : أن لايرى عليه حقا أي لا ترى لأحد من الخلق لا لك ولا لغيرك حقا على الله بل الحق لله على خلقه وفي أثر إسرائيلي : أن داود عليه السلام قال : يا رب بحق آبائي عليك فأوحى الله إليه : يا داود أي حق لآبائك علي ألست أنا الذي هديتهم ومننت عليهم واصطفيتهم ولي الحق عليهم
وأما حقوق العبيد على الله تعالى : من اثباته لمطيعهم وتوبته على تائبهم وإجابته لسائلهم : فتلك حقوق أحقها الله سبحانه على نفسه بحكم وعده وإحسانه لاأنها حقوق أحقوها هم عليه فالحق فى الحقيقة لله على عبده وحق العبد عليه هو مااقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه هذا قول أهل التوفيق والبصائر وهو وسط بين قولين منحرفين قد تقدم ذكرهما مرارا والله سبحانه أعلم وأما قوله : و لا ينازع له اختيارا أى إذا رأيت الله عز و جل قد اختار لك أو لغيرك شيئا إما بأمره ودينه وإما بقضائه وقدره فلا تنازع اختياره بل ارض باختيار ما اختاره لك فإن ذلك من تعظيمه سبحانه
ولا يرد عليه قدره عليه من المعاصي فإنه سبحانه وإن قدرها لكنه لم يخترها له فمنازعتها غير اختياره من عبده وذلك من تمام تعظيم العبد له سبحانه والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإلهام والإفهام والوحى
والتحديث والرؤيا الصادقة
وقد تقدمت في أول الكتاب عند الكلام على مراتب الهداية وذكرنا كلام صاحب المنازل هناك
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة السكينة
هذه المنزلة من منازل المواهب لا من منازل المكاسب وقد ذكر الله سبحانه السكينة في كتابه في ستة مواضع : الأولى : قوله تعالى : وقال لهم نبيهم : إن آية ملكه : أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم البقرة : 248 الثاني قوله تعالى ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين التوبة : 26 الثالث : قوله تعالى إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها التوبة : 40 الرابع : قوله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما الفتح : 4 الخامس : قوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا الفتح : 18 السادس : قوله تعالى : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين الفتح : الآية
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور : قرأ آيات السكينة

وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له فى مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة قال : فلما اشتد علي الأمر قلت لأقاربي ومن حولي : اقرأوا آيات السكينة قال : ثم أقلع عني ذلك الحال وجلست وما بي قلبة
وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب مما يرد عليه فرأيت لها تأثيراعظيمافي سكونه وطمأنينته
وأصل السكينة هي الطمأنينة والوقار والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوففلا ينزعج بعد ذلك لما يرد عليه ويوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات ولهذا أخبر سبحانه عن إنزالها على رسوله وعلى المؤمنين في مواضع القلق والاضطراب كيوم الهجرة إذ هو وصاحبه في الغار والعدو فوق رءوسهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه لرآهما وكيوم حنين حين ولوا مدبرين من شدة بأس الكفار لا يلوي أحد منهم على أحد وكيوم الحديبية حين اضطربت قلوبهم من تحكم الكفار عليهم ودخولهم تحت شروطهم التي لا تحملها النفوس وحسبك بضعف عمر رضي الله عنه عن حملها وهو عمر حتى ثبته الله بالصديق رضي الله عنه
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : رأيت النبي

ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلدة بطنه وهو يرتجز بكلمة عبدالله بن رواحة رضي الله عنه :
لاهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
وفي صفة رسول الله في الكتب المتقدمة : إني باعث نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للخنا أسدده لكل جميل وأهب له كل خلق كريم ثم أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه

فصل قال صاحب المنازل :
السكينة : اسم لثلاثة أشياء أولها : سكينة بني إسرائيل التي أعطوها في التابوت قال أهل التفسير : هي ريح هفافة وذكروا صفتها قلت : اختلفوا : هل هي عين قائمة بنفسها أو معنى على قولين : أحدهما : أنها عين ثم اختلف أصحاب هذا القول في صفتها فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنها ريح هفافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان ويروى عن مجاهد : إنها صورة هرة لها جناحان وعينان لهما شعاع وجناحان من زمرد وزبرجد فإذا سمعوا صوتها أيقنوا بالنصر
وعن ابن عباس : هي طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء

وعن وهب بن منبه : هي روح من روح الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء أخبرتهم ببيان ما يريدون والثانى : انها معنى ويكون معنى قوله : وسكينة من ربكم أي ومجيئه إليكم : سكينة لكم وطمأنينة
وعلى الأول : يكون المعنى : إن السكينة في نفس التابوت ويؤيده عطف قوله : وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون البقرة : 248 قال عطاء بن أبي رباح : فيه سكينة هي ما تعرفون من الآيات فتسكنون إليها وقال قتادة والكلبي : هي من السكون أي طمأنينة من ربكم ففي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا

فصل قال : وفيها ثلاثة أشياء : للأنبياء معجزة ولملوكهم كرامة وهي
آية النصرة تخلع قلوب الأعداء بصوتها رعبا إذا التقى الصفان للقتال
وكرامات الأولياء : هي من معجزات الأنبياء لأنهم إنما نالوها على أيديهم وبسبب أتباعهم فهي لهم كرامات وللأنبياء دلالات فكرامات الأولياء : لا تعارض معجزات الأنبياء حتى يطلب الفرقان بينهما لأنها من أدلتهم وشواهد صدقهم
نعم : الفرقان بين ما للأنبياء وما للأولياء من وجوه كثيرة جدا ليس هذا موضع ذكرها وغير هذا الكتاب أليق بها
فصل قال : السكينة الثانية : هي التي تنطق على لسان المحدثين ليست هي
شيئا يملك إنما هي شيء من لطائف صنع الحق تلقى علي لسان المحدث الحكمة كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء وتنطق بنكت الحقائق مع ترويح الأسرار وكشف الشبه

السكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها وسكنت إليها الجوارح وخشعت واكتسبت الوقار وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش واللغو والهجر وكل باطل قال ابن عباس رضي الله عنهما : كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه
وكثيرا ما ينطق صاحب السكينة بكلام لم يكن عن فكرة منه ولا روية ولا هبة ويستغربه هو من نفسه كما يستغرب السامع له وربما لا يعلم بعد انقضائه بما صدر منه وأكثر ما يكون : هذا عند الحاجة وصدق الرغبة من السائل والمجالس وصدق الرغبة منه : هو إلى الله والإسراع بقلبه إلى بين يديه وحضرته مع تجرده من الأهواء وتجريده النصيحة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين وإزالة نفسه من البين
ومن جرب هذا عرف قدر منفعته وعظمها وساء ظنه بما يحسن به الغافلون ظنونهم من كثير من كلام الناس قوله : وليست شيئا يملك
يعني هي موهبة من الله تعالى ليست بسببية ولا كسبية وليست كالسكينة التي كانت في التابوت تنقل معهم كيف شاءوا وقوله : تلقى على لسان المحدث الحكمة أي تجرى الصواب على لسانه وقوله كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء عليهم السلام
يعني : أنها بواسطة الملائكة بحيث تلقي في قلوب أربابها الحكمة عنهم والطمأنينة والصواب كما أن الأنبياء تتلقى الوحي عن الله بواسطة الملائكة ولكن ما للأنبياء مختص بهم ولا يشاركهم فيه غيرهم وهو نوع آخر وقوله : تنطق المحدثين بنكت الحقائق مع ترويح الأسرار وكشف الشبه قد تقدم في أول الكتاب : ذكر مرتبة المحدث وأن هذا التحديث من

مراتب الهداية العشرة وأن المحدث هو الذي يحدث في سره بالشيء فيكون كما يحدث به والحقائقهي حقائق الإيمان والسلوك و نكتها عيونها ومواضع الإشارات منها ولا ريب أن تلك توجب للأسرار روحا تحيا به وتنعم وتكشف عنها شبهات لا يكشفها المتكلمون ولا الأصوليون فتسكن الأرواح والقلوب إليها ولهذا سميت سكينة ومن لم يفز من الله بذلك لم تنكشف عنه شبهاته فإنها لا يكشفها إلا سكينة الإيمان واليقين

فصل قال : السكينة الثالثة : هي التي نزلت على قلب النبي وقلوب
المؤمنين وهي شيء يجمع قوة وروحا يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين والضجر ويسكن إليه العصي والجرئ والأبي
هذا من عيون كلامه وغرره الذي تثني عليه الخناصر وتعقد عليه القلوب وتظفر به عن ذوق تام لا عن مجرد فذكر : أن هذا الشيء الذي أنزله الله في قلب رسوله وقلوب عباده المؤمنين يشتمل على ثلاثة معان : النور والقوة والروح وذكر له ثلاث ثمرات : سكون الخائف إليه وتسلي الحزين والضجر به واستكانة صاحب المعصية والجرأة على المخالفة والإباء إليه فبالروح الذي فيها : حياة القلب وبالنور الذي فيها : استنارته وضياؤه وإشراقه وبالقوة : ثباته وعزمه ونشاطه
فالنور : يكشف له عن دلائل الإيمان وحقائق اليقين ويميز له بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشد والشك واليقين والحياة : توجب كمال يقظته وفطنته وحضوره وانتباهه من سنة الغفلة وتأهبه للقائه والقوة : توجب له الصدق وصحة المعرفة وقهر داعي الغي والعنت

وضبط النفس عن جزعها وهلعها واسترسالها في النقائص والعيوب ولذلك ازداد بالسكينة إيمانا مع إيمانه والإيمان : يثمر له النور والحياة والقوة وهذه الثلاثة تثمره أيضا وتوجب زيادته فهو محفوف بها قبلها وبعدها
فبالنور : يكشف دلائل الإيمان وبالحياة : ينتبه من سنة الغفلة ويصير يقظانا وبالقوة : يقهر الهوى والنفس والشيطان كما قيل :
وتلك مواهب الرحمن ليست ... تحصل باجتهاد أو بكسب
ولكن لا غني عن بذل جهد ... بإخلاص وجد لا بلعب
وفضل الله مبذول ولكن ... بحكمته وعن ذا النص ينبى
فما من حكمة الرحمن وضع ال ... كواكب بين أحجار وترب
فشكرا للذي أعطاك منه ... فلو قبل المحل لزاد ربي

فصل فإذا حصلت هذه الثلاثة بالسكينة وهي النور والحياة والروح سكن
إليها العصي وهو الذي سكونه إلى المعصية والمخالفة لعدم سكينة الإيمان في قلبه صار سكونه إليها عوض سكونه إلى الشهوات والمخالفات فإنه قد وجد فيها مطلوبه وهو اللذة التي كان يطلبها من المعصية ولم يكن له ما يعيضه عنها فإذا نزلت عليه السكينة اعتاض بذلتها وروحها ونعيمها عن لذة المعصية فاستراحت بها نفسه وهاج إليها قلبه ووجد فيها من الروح والراحة واللذة ما لا نسبة بينه وبين اللذة الجسمانية النفسانية فصارت لذته روحانية قلبية بعد أن كانت جسمانية فانسلب منها وحبس عنها وخلصته فإذا تألقت بروقها قال :
تألق البرق نجديا فقلت له ... يا أيها البرق إني عنك مشغول
وإذا طرقته طيوفها الخيالية في ظلام ليل الشهوات نادى لسان حاله وتمثل بمثل قوله :

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام فإذا ودعته وعزمت على الرحيل ووعدته بالموافاة بقول الآخر :
قالت وقد عزمت على ترحالها ... ماذا تريد فقلت أن لا ترجعي
فإذا باشرت هذه السكينة قلبه سكنت خوفه وهو قوله : يسكن إليها الخائف وسلت حزنه فإنها لا حزن معها فهي سلوة المحزون ومذهبة الهموم والغموم وكذلك تذهب عنه وخم ضجره وتبعت نشوة العزم
وحالت بينه وبين الجرأة على مخالفة الأمر وبين إباء النفس والانقياد إليه والله أعلم

فصل قال : وأما سكينة الوقار التي نزلها نعتا لأربابها : فإنها ضياء
تلك السكينة الثالثة التي ذكرناها وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : سكينة الخشوع عند القيام للخدمة : رعاية وتعظيما وحضورا
سكينة الوقار هي نوع من السكينة ولكن لما كانت موجبة للوقار سماها الشيخ رحمه الله سكينة الوقار وقوله : نزلها نعتا يعني نزلها الله تعالى في قلوب أهلها ونعتهم بها وقوله : فإنها ضياء تلك السكينة الثالثة التي ذكرناها
أي نتيجتها وثمرتها وعنها نشأت كما أن الضياء عن الشمس حصل ولما كان النور والحياة والقوة التي ذكرناها مما يثمر الوقار : جعل سكينة الوقار كالضياء لتلك السكينة إذ هو علامة حصولها ودليل عليها كدلالة الضياء على حامله قوله : الدرجة الأولى : سكينة الخشوع عند القيام للخدمة يريد به الوقار والخشوع الذي يحصل لصاحب مقام الإحسان
ولما كان الإيمان موجبا للخشوع وداعيا إليه قال الله تعالى

ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق الحديد : 16 دعاهم من مقام الإيمان إلى مقام الإحسان يعني : أما آن لهم أن يصلوا إلى الإحسان بالإيمان وتحقيق ذلك بخشوعهم لذكره الذي أنزله إليهم قوله : رعاية وتعظيما وحضورا هذه ثلاثة أمور تحقق الخشوع في الخدمة وهي رعاية حقوقها الظاهرة والباطنة فليس يضيعها خشوع ولا وقار الثاني : تعظيم الخدمة وإجلالها وذلك تبع لتعظيم المعبود وإجلاله ووقاره فعلى قدر تعظيمه في قلب العبد وإجلاله ووقاره : يكون تعظيمه لخدمته وإجلاله لها ورعايته لها والثالث : الحضور وهو إحضار القلب فيها مشاهدة المعبود كأنه يراه فهذه الثلاثة تثمر له سكينة الوقار والله سبحانه أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : السكينة عند المعاملة بمحاسبة النفوس
وملاطفة الخلق ومراقبة الحق
هذه الدرجة هي التي يحوم عليها أهل التصوف والعلم الذي يشمرون إليه وهي سكينة للمعاملة التي بينهم وبين الله وبينهم وبين خلقه وتحصل بثلاثة أشياء أحدها : محاسبة النفس حتى تعرف ما لها وما عليها ولا يدعها تسترسل في الحقوق استرسالا فيضيعها ويهملها وأيضا فإن زكاتها وطهارتها موقوف على محاسبتها فلا تزكو ولا تطهر ولا تصلح ألبتة إلا بمحاسبتها
قال الحسن رضي الله عنه : إن المؤمن والله لا تراه إلا قائما على نفسه : ما أردت بكلمة كذا ما أردت بأكلة ما أردت بمدخل كذا ومخرج كذا ما أردت بهذا مالي ولهذا والله لا أعود إلى هذا ونحو هذا من الكلام

فبمحاسبتها يطلع على عيوبها ونقائصها فيمكنه السعي في إصلاحها الثاني : ملاطفة الخلق وهي معاملتهم بما يحب أن يعاملوه به من اللطف ولا يعاملهم بالعنف والشدة والغلظة فإن ذلك ينفرهم عنه ويغريهم به ويفسد عليه قلبه وحاله مع الله ووقته فليس للقلب أنفع من معاملة الناس باللطف فإن معاملة الناس بذلك : إما أجنبي فتكسب مودته ومحبته وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته وإما عدو ومبغض فتطفىء بلطفك جمرته وتستكفى شره ويكون احتمالك لمضض لطفك به دون احتمالك لضرر ما ينالك من الغلظة عليه والعنف به الثالث : مراقبة الحق سبحانه وهي الموجبة لكل صلاح وخير عاجل وآجل ولا تصح الدرجتان الأولتان إلا بهذه وهي المقصود لذاته وما قبله وسيلة إليه وعون عليه فمراقبة الحق سبحانه وتعالى : توجب إصلاح النفس واللطف بالخلق

فصل قال : الدرجة الثالثة : السكينة التي تثبت الرضى بالقسم وتمنع من
الشطح الفاحش وتقف صاحبها على حد الرتبة والسكينة لا تنزل إلا في قلب نبي أو ولي
هذه الدرجة الثالثة : كأنها عند الشيخ لأهل الصحو بعد السكر ولمن شام بوارق الحقيقة فقوله : تثبت الرضى بالقسم أي توجب لصاحبها أن يرضى بالمقسوم ولا تتطلع نفسه إلى غيره وتمنع من الشطح الفاحش
يعني مثل ما نقل عن أبي يزيد ونحوه بخلاف الجنيد وسهل وأمثالهما فإنهم لما كانت لهم هذه السكينة لم تصدر منهم الشطحات ولا ريب أن الشطح سببه عدم السكينة فإنها إذا استقرت في القلب منعته من الشطح وأسبابه

قوله : وتوقف صاحبها على حد الرتبة أي توجب لصاحبها الوقوف عند حده من رتبة العبودية فلا يتعدى مرتبة العبودية وحدها قوله : والسكينة لا تنزل إلا على قلب نبي أو ولي
وذلك لأنها من أعظم مواهب الحق سبحانه ومنحه ومن أجل عطاياه ولهذا لم يجعلها في القرآن إلا لرسوله وللمؤمنين كما تقدم فمن أعطيها فقد خلعت عليه خلع الولاية وأعطى منشورها
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الطمأنينة
قال الله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الرعد : 28 وقال تعالى : 0 يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي الفجر : 2730 الطمأنينة سكون القلب إلى الشيء وعدم اضطرابه وقلقه ومنه الأثر المعروف : الصدق طمأنينة والكذب ريبة أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع ويجد عنده سكونا إليه والكذب يوجب له اضطرابا وارتيابا ومنه قوله : البر ما اطمأن إليه القلب أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه وفي ذكر الله ها هنا قولان : أحدهما : أنه ذكر العبد ربه فإنه يطمئن إليه قلبه ويسكن فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله ثم اختلف أصحاب هذا القول فيه
فمنهم من قال : هذا في الحلف واليمين إذا حلف المؤمن على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه واطمأنت ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما

ومنهم من قال : بل هو ذكر العبد ربه بينه وبينه يسكن إليه قلبه ويطمئن والقول الثاني : أن ذكر الله ههنا القرآن وهو ذكره الذي أنزله على رسوله به طمأنينة قلوب المؤمنين فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه واضطرابه وقلقه من شكه والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوهام فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به وهذا القول هو المختار وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين الزخرف : 36
والصحيح : أن ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه من أعرض عنه : قيض له شيطانا يضله ويصده عن السبيل وهو يحسب أنه على هدى وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى : ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى طه : 124
والصحيح : أنه ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه ولهذا يقول المعرض عنه : رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال : كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى طه : 125126
وأما تأويل من تأوله على الحلف : ففي غاية البعد عن المقصود فإن ذكر الله بالحلف يجري على لسان الصادق والكاذب والبر والفاجر والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق ولو لم يحلف ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون فيه ولو حلف وجعل الله سبحانه الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم وجعل الغبطة

والمدحة والبشارة بدخول الجنة لأهل الطمأنينة فطوبى لهم وحسن مآب وفي قوله تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك الفجر : 2728 دليل على أنها لا ترجع إليه إلا إذا كانت مطمئنة فهناك ترجع إليه وتدخل في عباده وتدخل جنته وكان من دعاء بعض السلف : اللهم هب لي نفسا مطمئنة إليك

فصل قال صاحب المنازل : الطمأنينة : سكون يقويه أمن صحيح شبيه
بالعيان وبينها وبين السكينة فرقان : أحدهما : أن السكينة صوله تورث خمود الهيبة أحيانا و الطمأنينة سكون أمن في استراحة أنس والثاني : أن السكينة تكون نعتا وتكون حينا بعد حين و الطمأنينة لا تفارق صاحبها الطمأنينة موجب السكينة وأثر من آثارها وكأنها نهاية السكينة
فقوله : سكون يقويه أمن أي سكون القلب مع قوة الأمن الصحيح الذي لا يكون أمن غرور فإن القلب قد يسكن إلى أمن الغرور ولكن لا يطمئن به لمفارقة ذلك السكون له و الطمأنينة لا تفارقه فإنها مأخوذة من الإقامة يقال : اطمأن بالمكان والمنزل : إذا أقام به
وسبب صحة هذا الأمن المقوى للسكون : شبهه بالعيان بحيث لا يبقي معه شيء من مجوزات الظنون والأوهام بل كأن صاحبه يعاين ما يطمئن به فيأمن به اضطراب قلبه وقلقه وارتيابه
وأما الفرقان اللذان ذكرهما بينها وبين السكينة فحاصل الفرق الأول : أن السكينة تصول على الهيبة الحاصلة في القلب فتخمدها في بعض الأحيان فيسكن القلب من انزعاج الهيبة بعض السكون وذلك في بعض الأوقات

فليس حكما دائما مستمرا وهذا يكون لأهل الطمأنينة دائما ويصحبه الأمن والراحة بوجود الأنس فإن الاستراحة في السكينة قد تكون من الخوف والهيبة فقط والاستراحة في منزل الطمأنينة تكون مع زيادة أنس وذلك فوق محرد الأمن وقدر زائد عليه
وحاصل الفرق الثاني : أن الطمأنينة ملكة ومقام لا يفارق و السكينة تنقسم إلى سكينة هي مقام ونعت لا يزول وإلى سكينة تكون وقتا دون وقت هذا حاصل كلامه والذي يظهر لي في الفرق بينهما أمران سوى ما ذكر : أحدهما : أن ظفره وفوزه بمطلوبه الذي حصل له السكينة بمنزلة من واجهه عدو يريد هلاكه فهرب منه عدوه فسكن روعه والطمأنينة بمنزلة حصن رآه مفتوحا فدخله وأمن فيه وتقوى بصاحبه وعدته فللقلب ثلاثة أحوال أحدها : الخوف والاضطراب والقلق من الوارد الذي يزعجه ويقلقه الثاني : زوال ذلك الوارد الذي يزعجه ويقلقه عنه وعدمه الثالث : ظفره وفوزه بمطلوبه الذي كان ذلك الوارد حائلا بينه وبينه
وكل منهما يستلزم الآخر ويقارنه فالطمأنينة تستلزم السكينة ولا تفارقها وكذلك بالعكس لكن استلزام الطمأنينة للسكينة أقوى من استلزام السكينة للطمأنينة الثاني : أن الطمأنينة أعم فإنها تكون في العلم والخبر به واليقين والظفر بالمعلوم ولهذا اطمأنت القلوب بالقرآن لما حصل لها الإيمان به ومعرفته والهداية به في ظلم الآراء والمذاهب واكتفت به منها وحكمته عليها وعزلتها وجعلت له الولاية بأسرها كما جعلها الله فبه خاصمت وإليه حاكمت وبه صالت وبه دفعت الشبه
وأما السكينة : فإنها ثبات القلب عند هجوم المخاوف عليه وسكونه

وزوال قلقه واضطرابه كما يحصل لحزب الله عند مقابلة العدو وصولته والله سبحانه أعلم

فصل قال : وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : طمأنينة القلب بذكر
الله وهي طمأنينة الخائف إلى الرجاء والضجر إلى الحكم والمبتلى إلى المثوبة
قد تقدم أن الطمأنينة بذكر الله بكلامه وكتابه ولا ريب أن الذي ذكره في هذه الدرجة : هو من جملة الطمأنينة بذكره وهي أهم من ذلك فذكر طمأنينة الخائف إلى الرجاء فإن الخائف إذا طال عليه الخوف واشتد به وأراد الله عز و جل أن يريحه ويحمل عنه : أنزل عليه السكينة فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمأن به وسكن لهيب خوفه وأما طمأنينة الضجر إلى الحكم
فالمراد بها : أن من أدركه الضجر من قوة التكاليف وأعباء الأمر وأثقاله ولا سيما من أقيم مقام التبليغ عن الله ومجاهدة أعداء الله وقطاع الطريق إليه فإن ما يحمله ويتحمله فوق ما يحمله الناس ويتحملونه فلابد أن يدركه الضجر ويضعف صبره فإذا أراد الله أن يريحه ويحمل عنه : أنزل عليه سكينته فاطمأن إلى حكمه الديني وحكمه القدري ولا طمأنينة له بدون مشاهدة الحكمين وبحسب مشاهدته لهما تكون طمأنينته فإنه إذا اطمأن إلى حكمه الديني علم أنه دينه الحق وهو صراطه المستقيم وهو ناصره وناصر أهله وكافيهم ووليهم
وإذا اطمأن إلى حكمه الكوني : علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأنه ما يشاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا وجه للجزع والقلق إلا ضعف اليقين والإيمان فإن المحذور والمخوف : إن لم يقدر فلا سبيل إلى وقوعه وإن قدر فلا سبيل إلى صرفه بعد أن أبرم تقديره فلا جزع حينئذ لا مما قدر ولا مما لم يقدر نعم إن كان له في هذه النازلة حيلة فلا ينبغي أن يضجر عنها وإن لم يكن

فيها حيلة فلا ينبغي أن يضجر منها فهذه طمأنينة الضجر إلى الحكم وفي مثل هذا قال القائل :
ما قد قضى يا نفس فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر
وتحققي أن المقدر كائن ... يجري عليك حذرت أم لم تحذري وأما طمأنينة المبتلى إلى المثوبة فلا ريب أن المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه واطمأن بمشاهدة العوض وإنما يشتد به البلاء إذا غاب عنه ملاحظة الثواب وقد تقوى ملاحظة العوض حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمة ولا تستبعد هذا فكثير من العقلاء إذا تحقق نفع الدواء الكريه فإنه يكاد يلتذ به وملاحظته لنفعه تغيبه عن تألمه بمذاقه أو تخففه عنه والعمل المعول عليه : إنما هو على البصائر والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : طمأنينة الروح في القصد إلى الكشف وفي
الشوق إلى العدة وفي التفرقة إلى الجمع
طمأنينة الروح أن تطمئن في حال قصدها ولا تلتفت إلى ما وراءها والمراد بالكشف : كشف الحقيقة لا الكشف الجزئي السفلي وهو ثلاث درجات : كشف عن الطريق الموصل إلى المطلوب وهو الكشف عن حقائق الإيمان وشرائع الإسلام وكشف عن المطلوب المقصود بالسير : وهو معرفة الأسماء والصفات ونوعي التوحيد وتفاصيله ومراعاة ذلك حق رعايته وليس وراء ذلك إلا الدعاوى والشطح والغرور وقوله : وفي الشوق إلى العدة

يعني أن الروح تظهر في اشتياقها إلى ما وعدت به وشوقت إليه فطمأنينتها بتلك العدة : تسكن عنها لهيب اشتياقها وهذا شأن كل مشتاق إلى محبوب وعد بحصوله إنما يحصل لروحه الطمأنينة بسكونها إلى وعد اللقاء وعلمها بحصول الموعود به قوله وفي التفرقة إلى الجمع
أي وتطمئن الروح في حال تفرقتها إلى ما اعتادته من الجمع بأن توافيها روحه فتسكن إليه وتطمئن به كما يطمئن الجائع الشديد الجوع إلى ما عنده من الطعام ويسكن إليه قلبه وهذا إنما يكون لمن أشرف على الجمع من وراء حجاب رقيق وشام برقه فاطمأن بحصوله وأما من بينه وبينه الحجب الكثيفة : فلا يطمئن به

فصل قال : الدرجة الثالثة : طمأنينة شهود الحضرة إلى اللطف وطمأنينة
الجمع إلى البقاء وطمأنينة المقام إلى نور الأزل
هذه الدرجة الثالثة تتعلق بالفناء والبقاء فالواصل إلى شهود الحضرة : مطمئن إلى لطف الله و حضرة الجمع يريدون بها الشهود الذاتي فإن الشهود عندهم مراتب بحسب تعلقه فشهود الأفعال : أول مراتب الشهود ثم فوقه : شهود الأسماء والصفات ثم فوقه : شهود الذات الجامعة إلى الأفعال والأسماء والصفات والتجلي عند القوم : بحسب هذه الشهود الثلاثة
فأصحاب تجلي الأفعال : مشهدهم توحيد الربوبية وأصحاب تجلي الأسماء والصفات : مشهدهم توحيد الإلهية : وأصحاب تجلي الذات : يغنيهم به عنهم وقد يعرض لبعضهم بحسب قوة الوارد وضعف المحل عجز عن القيام والحركة فربما عطل بعض الفروض وهذا له حكم أمثاله من أهل العجز والتفريط والكاملون منهم قد يفترون في تلك الحال عن الأعمال الشاقة ويقتصرون على الفرائض وسننها وحقوقها ولا يقعد بهم ذلك الشهود والتجلي عنها ولا يؤثرون

عليه شيئا من النوافل والحركات التي لم تعرض عليهم ألبتة وذلك في طريقهم رجوع وانقطاع وأكمل من هؤلاء : من يصحبه ذلك في حال حركاته ونوافله فلا يعطل ذرة من أوراده والله سبحانه قد فاوت بين قوى القلوب أشد من تفاوت قوى الأبدان وفي كل شيء له آية وصاحب هذا المقام آية من آيات الله لأولي الألباب والبصائر
والمقصود : أنه لولا طمأنينته إلى لطف الله لمحقه شهود الحضرة وأفناه جملة فقد خر موسى صعقا لما تجلى ربه للجبل وتدكدك الجبل وساخ في الأرض من تجليه سبحانه هذا ولا يتوهم متوهم أن الحاصل في الدنيا للبشر كذلك ولا قريب منه أبدا وإنما هي المعارف واستيلاء مقام الإحسان على القلب فقط
وإياك وترهات القوم وخيالاتهم ورعوناتهم وإن سموك محجوبا فقل : اللهم زدني من هذا الحجاب الذي ما وراءه إلا الخيالات والترهات والشطحات فكليم الرحمن وحده مع هذا لم تتجل الذات له وأراه ربه تعالى أنه لا يثبت لتجلي ذاته لما أشهده من حال الجبل وخر الكليم صعقا مغشيا عليه لما رأى ما رأى من حال الجبل عند تجلي ربه له ولم يكن تجليا مطلقا قال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر ثور وقال عبدالله بن سلام رضي الله عنه وكعب الأحبار : ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سمع الخياط حتى صار دكا وقال السدي : ما تجلى إلا قدر الخنصر
و في مستدرك الحاكم من حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه أن النبي قرأ هذه الآية وقال : هكذا ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل وإسناده على شرط مسلم ولما حدث به حميد عن ثابت استعظمه بعض أصحابه وقال : تحدث بهذا فضرب بيده في

صدره وقال : يحدث به ثابت عن أنس عن رسول الله وتنكره أنت ولا أحدث به فإذا شهد لك المخدوعون بأنك محجوب عن ترهاتهم وخيالاتهم فتلك الشهادة لك بالاستقامة فلا تستوحش منها وبالله التوفيق وهو المستعان

فصل وأما طمأنينة الجمع إلى البقاء فمشهد شريف فاضل وهو مشهد الكمل
فإن حضرة الجمع تعفي الآثار وتمحو الأغيار وتحول بين الشاهد وبين رؤية القلب للخلق فيرى الحق سبحانه وحده قائما بذاته ويرى كل شيء قائم به متوحدا في كثرة أسمائه وأفعاله وصفاته ولا يرى معه غيره ولا يشهده عكس حال من يشهد غيره ولا يشهده وليس الشأن في هذا الشهود فإن صاحبه في مقام الفناء فإن لم ينتقل منه إلى مقام البقاء وإلا انقطع انقطاعا كليا ففي هذا المقام : إن لم يطمئن إلى حصول البقاء وإلا عطل الأمر وخلع ربقة العبودية من عنقه فإذا اطمأن إلى البقاء طمأنينة من يعلم أنه لا بد له منه وإن لم يصحبه وإلا فسد وهلك كان هذا من طمأنينة الجمع إلى البقاء والله أعلم
فصل وأما طمأنينة المقام إلى نور الأزل فيريد به : طمأنينة مقامه إلى
السابقة التي سبق بها في الأزل فلا تتغير ولا تتبدل ولهذا قال : طمأنينة المقام ولم يقل : طمأنينة الحال فإن الحال يزول ويحول ولو لم يحل لما سمى حالا بخلاف المقام
فإذا اطمأن إلى السابقة والحسنى التي سبقت له من الله في الأزل كان هذا طمأنينة المقام إلى الأزل وهذا هو شهود أهل البقاء بعد الفناء والله أعلم

3 بسم الله الرحمن الرحيم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الهمة وقد
صدرها صاحب المنازل بقوله تعالى ما زاغ البصر وما طغى
وقد تقدم أنه صدر بها باب الأدب وذكرنا وجهه
وأما وجه تصدير الهمة بها فهو الإشارة إلى أن همته ما تعلقت بسوى مشهوده وما أقيم فيه ولو تجاوزته همته لتبعها بصره
والهمة فعلة من الهم وهو مبدأ الإرادة ولكن خصوها بنهاية الإرادة فالهم مبدأها والهمة نهايتها
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في بعض الآثار الإلهية يقول الله تعالى إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وإنما أنظر إلى همته
قال والعامة تقول قيمة كل امرىء ما يحسن والخاصة تقول قيمة كل امرىء ما يطلب يريد أن قيمة المرء همته ومطلبه
قال صاحب المنازل
الهمة ما يملك الانبعاث للمقصود صرفا لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها
قوله يملك الانبعاث للمقصود أي يستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك وصرفا أي خالصا صرفا
والمراد أن همة العبد إذا تعلقت بالحق تعالى طلبا صادقا خالصا محضا فتلك هي الهمة العالية التي لا يتمالك صاحبها أي لا يقدر على المهلة ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود ولا يلتفت عنها

إلى ما سوى أحكامها وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه مالم تعقه العوائق وتقطعه العلائق والله أعلم

فصل قال وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى همة تصون القلب عن وحشة
الرغبة في الفاني وتحمله على الرغبة في الباقي وتصفيه من كدر التواني
الفاني الدنيا وما عليها أي يزهد القلب فيها وفي أهلها وسمى الرغبة فيها وحشة لأنها وأهلها توحش قلوب الراغبين فيها وقلوب الزاهدين فيها
أما الراغبون فيها فأرواحهم وقلوبهم في وحشة من اجسامهم إذ فاتها ما خلقت له فهي في وحشة لفواته
وأما الزاهدون فيها فإنهم يرونها موحشة لهم لأنها تحول بينهم وبين مطلوبهم ومحبوبهم ولا شيء أوحش عند القلب مما يحول بينه وبين مطلوبه ومحبوبه ولذلك كان من نازع الناس أموالهم وطلبها منهم أوحش شيء إليهم وأبغضه
وأيضا فالزاهدون فيها إنما ينظرون إليها بالبصائر والراغبون ينظرون إليها بالأبصار فيستوحش الزاهد مما يأنس به الراغب كما قيل
وإذا أفاق القلب واندمل الهوى ... رأت القلوب ولم تر الأبصار
وكذلك هذه الهمة تحمله على الرغبة في الباقي لذاته وهو الحق سبحانه والباقي بإبقائه هو الدار الآخرة
وتصفيه من كدر التواني أي تخلصه وتمحصه من أوساخ الفتور والتواني الذي هو سبب الإضاعة والتفريط والله أعلم

فصل قال الدرجة الثانية همة تورث أنفة من المبالاة بالعلل والنزول
على العمل والثقة بالأمل
العلل ههنا هي علل الأعمال من رؤيتها أو رؤية ثمراتها وإرادتها ونحو ذلك فإنها عندهم علل
فصاحب هذه الهمة يأنف على همته وقلبه من أن يبالي بالعلل فإن همته فوق ذلك فمبالاته بها وفكرته فيها نزول من الهمة
وعدم هذه المبالاة إما لأن العلل لم تحصل له لأن علو همته حال بينه وبينها فلا يبالي بما لم يحصل له وإما لأن همته وسعت مطلوبه وعلوه يأتي على تلك العلل ويستأصلها فإنه إذا علق همته بما هو أعلى منها تضمنتها الهمة العالية فاندرج حكمها في حكم الهمة العالية وهذا موضع غريب عزيز جدا وما أدري قصده الشيخ أو لا
وأما أنفته من النزول على العمل فكلام يحتاج إلى تقييد وتبيين وهو أن العالي الهمة مطلبه فوق مطلب العمال والعباد وأعلى منه فهو يأنف أن ينزل من سماء مطلبه العالي إلى مجرد العمل والعبادة دون السفر بالقلب إلى الله ليحصل له ويفوز به فإنه طالب لربه تعالى طلبا تاما بكل معنى واعتبار في عمله وعبادته ومناجاته ونومه ويقظته وحركته وسكونه وعزلته وخلطته وسائر أحواله فقد انصبغ قلبه بالتوجه إلى الله تعالى أيما صبغة
وهذاالأمر إنما يكون لأهل المحبة الصادقة فهم لا يقنعون بمجرد رسوم الأعمال ولا بالاقتصار على الطلب حال العمل فقط

وأما أنفته من الثقة بالأمل فإن الثقة توجب الفتور والتواني وصاحب هذه الهمة ليس من أهل ذلك كيف وهو طائر لا سائر والله أعلم

فصل قال الدرجةالثالثة همة تتصاعد عن الأحوال والمعاملات وتزرى
بالأعواض والدرجات وننحو عن النعوت نحو الذات
أي هذه الهمة أعلى من أن يتعلق صاحبها بالأحوال التي هي آثار الأعمال والواردات أو يتعلق بالمعاملات وليس المراد تعطيلها بل القيام بها مع عدم الالتفات إليها والتعلق بها
ووجه صعود هذه المهمة عن هذا ما ذكره من قوله وتزري بالأعواض والدرجات وتنحو عن النعوت نحو الذات أي صاحبها لا يقف عند عوض ولا درجة فإن ذلك نزول من همته ومطلبه أعلى من ذلك فإن صاحب هذه الهمة قد قصر همته على المطلب الأعلى الذي لا شيء أعلى منه والأعواض والدرجات دونه وهو يعلم أنه إذا حصل له فهناك كل عوض ودرجة عالية
وأما نحوها نحو الذات فيريد به أن صاحبها لا يقتصر على شهود الأفعال والأسماء والصفات بل الذات الجامعة لمتفرقات الأسماء والصفات والأفعال كما تقدم والله أعلم
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المحبة وهي
المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون وإليها شخص العاملون وإلى علمها شمر السابقون وعليها تفانى المحبون وبروح نسيمها تروح العابدون فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام

وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب فيالها من نعمة على المحبين سابغة
تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدا وتجي في الأول
أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم حي على الفلاح وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضى والسماح وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم وشكروا مولاهم على ما أعطاهم وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد ... حدا بك حادي الشوق فاطو المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم ... إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن ... نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ... ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادا اليهم وسر على ... طريق الهدى والفقر تصبح واصلا
وأحي بذكراهم سراك إذا ونت ... ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وإما تخافن الكلال فقل لها ... أمامك ورد الوصل فابغ المناهلا
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به ... فنورهم يهديك ليس المشاعلا

وحي على واد الأراك فقل به ... عساك تراهم فيه إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عند معرف ال ... أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن ... كفت فمتى يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن بقربهم ... منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا ... وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
فدعها رسوما دارسات فما بها ... مقيل فجاوزها فليست منازلا
رسوم عفت يفنى بها الخلق كم بها ... قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي ... عليه سرى وفد المحبة آهلا
وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة ... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
أول نقدة من أثمان المحبة بذل الروح فما للمفلس الجبان البخيل وسومها
بدم المحب يباع وصلهم ... فمن الذي يبتاع بالثمن
تالله ما هزلت فيستامها المفلسون ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون
لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس
فتأخر البطالون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنا فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله
فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة بتزكية يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم
فتأخرا أكثر المحبين وقام المجاهدون فقيل لهم إن نفوس المحبين وأموالهم

ليست لهم فهلموا إلى بيعة إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وأن لها شأنا فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار وقالوا والله لا نقيلك ولا نستقيلك
فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل له مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معا ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله
إذا غرست شجرة المحبة في القلب وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب أثمرت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بإذن ربها أصلها ثابت في قرار القلب وفرعها متصل بسدرة المنتهى
لا يزال سعي المحب صاعدا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه

فصل لا تحد المحبة بحد أوضح منها فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء
فحدها وجودها ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة
وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة وتنوعت بهم العبارات وكثرت الإشارات بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله وملكه للعبارة
وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة أشياء
أحدها الصفاء والبياض ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان

الثاني العلو والظهور ومنه حبب الماء وحبابه وهو ما يعلوه عند المطر الشديد وحبب الكأس منه
الثالث اللزوم والثبات ومنه حب البعير وأحب إذا برك ولم يقم قال الشاعر
حلت عليه بالفلاة ضربا ... ضرب بعير السوء إذ أحبا
الرابع اللب ومنه حبة القلب للبه وداخله ومنه الحبة لواحدة الحبوب إذي أصل الشيء ومادته وقوامه
الخامس الحفظ والإمساك ومنه حب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه وفيه معنى الثبوت أيضا
ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة فإنها صفاء المودة وهيجان إرادات القلب للمحبوب وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوما لا تفارقه ولإعطاء المحب محبوبه لبه وأشرف ما عنده وهو قلبه ولاجتماع عزماته وإرداته وهمومه على محبوبه
فاجتمعت فيها المعاني الخمسة ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة الحاء التي هي من أقصى الحلق والباء الشفوية التي هي نهايته فللحاء الابتداء وللباء الانتهاء وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه وقالوا في فعلها حبه وأحبة قال الشاعر
أحب أبا ثروان من حب تمره ... ولم تعلم أن الرفق بالجار أرفق
فوالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق
ثم اقتصروا على اسم الفاعل من أحب فقالوا محب ولم يقولوا حاب واقتصروا على اسم المفعول من حب فقالوا محبوب ولم يقولوا محب إلا قليلا كما قال الشاعر
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم

وأعطوا الحب حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة حركة مسماه وقوتها وأعطوا الحب وهو المحبوب حركة الكسر لخفتها عن الضمة وخفة المحبوب وخفة ذكره على قلوبهم وألسنتهم من إعطائه حكم نظائره كنهب بمعنى منهوب وذبح بمعنى مذبوح وحمل للمحمول بخلاف الحمل الذي هو مصدر لخفته ثم ألحقوا به حملا لا يشق على حامله حمله كحمل الشجرة والولد
فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني تطلعك على قدر هذه اللغة وأن لها شأنا ليس لسائر اللغات

فصل في ذكر رسوم وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها وشواهدها
والكلام على ما يحتاج إليه منها الأول قيل المحبة الميل الدائم بالقلب الهائم وهذا الحد لا تمييز فيه بين الحبة الخاصة والمشتركة والصحيحة والمعلولة
الثاني إيثار المحبوب على جميع المصحوب
وهذا حكم من أحكام المحبة وأثر من آثارها
الثالث موافقة الحبيب في المشهد والمغيب
وهذا أيضا موجبها ومقتضاها وهو أكمل من الحدين قبله فإنه يتناول المحبة الصادقة الصحيحة خاصة بخلاف مجرد الميل والإيثار بالإرادة فإنه إن لم تصحبه موافقة فمحبته معلولة
الرابع محو الحب لصفاته وإثبات المحبوب لذاته
وهذا أيضا من أحكام الفناء في المحبة أن تنمحي صفات المحب وتفنى في صفات محبوبه وذاته وهذا يستدعي بيانا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه وأخذه منه

الخامس مواطأة القلب لمرادات المحبوب
وهذا أيضا من موجباتها وأحكامها والموطأة الموافقة لمرادات المحبوب وأوامره ومراضيه
السادس خوف ترك الحرمة مع إقامة الخدمة
وهذا أيضا من أعلامها وشواهدها وآثارها أن يقوم بالخدمة كما ينبغي مع خوفه من ترك الحرمة والتعظيم
السابع استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك
وهذا قول أبي يزيد وهو أيضا من أحكامها وموجباتها وشواهدها والمحب الصادق لو بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله واستحيى منه ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه
الثامن استكثار القليل من جنايتك واستقلال الكثير من طاعتك وهو قريب من الذي قبله لكنه مخصوص بما من المحب
التاسع معانقة الطاعة ومباينة المخالفة
وهو لسهل بن عبدالله وهو أيضا حكم المحبة وموجبها
العاشر دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب وهو للجنيد وفيه غموض ومراده أن استيلاء ذكر المحبوب وصفاته وأسمائه على قلب المحب حتى لا يكون الغالب عليه إلا ذلك ولا يكون شعوره وإحساسه في الغالب إلا بها فيصير شعوره وإحساسه بدلا من شعوره وإحساسه بصفات نفسه وقد يحتمل معنى أشرف من هذا وهو تبدل صفات المحب الذميمة التي لا توافق صفات المحبوب بالصفات الجميلة المحبوبة التي توافق صفاته والله أعلم
الحادي عشر أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء
وهو لأبي عبدالله القرشي وهو أيضا من موجبات المحبة وأحكامها والمراد أن تهب إرادتك وعزمك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه

وتجعلها حبسا في مرضاته ومحابه فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك فتأخذه منه له
الثاني عشر أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب وهو للشبلي وكمال المحبة يقتضي ذلك فإنه ما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة
الثالث عشر إقامة العتاب على الدوام وهو لابن عطاء وفيه غموض ومراده أن لا تزال عاتبا على نفسك في مرضاة المحبوب وأن لا ترضى له فيها عملا ولا حالا
الرابع عشر أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك وهو للشبلي أيضا
وفيه كلام سنذكره إن شاء الله في منزلة الغيرة ومراده احتقارك لنفسك واستصغارها أن يكون مثلك من محبيه
الخامس عشر إرادة غرست أغصانها في القلب فأثمرت الموافقة والطاعة
السادس عشر أن ينسى المحب حظه في محبوبه وينسى حوائجه إليه وهو لأبي يعقوب السوسي ومراده أن استيلاء سلطانها على قلبه غيبه عن حظوظه وعن حوائجه واندرجت كلها في حكم المحبة
السابع عشر مجانبة السلو على كل حال وهو للنصراباذي وهو أيضا من لوازمها وثمراتها كما قيل
مرت بأرجاء الخيال طيوفه ... فبكت على رسم السلو الدارس
الثامن عشر توحيد المحبوب بخالص الإرادة وصدق الطلب
التاسع عشر سقوط كل محبة من القلب إلا محبة الحبيب وهو لمحمد بن الفضل ومراده توحيد المحبوب بالمحبة
العشرون غض طرف القلب عما سوى المحبوب غيرة وعن المحبوب هيبة وهذا يحتاج إلى تبيين
أما الأول فظاهر وأما الثاني فإن غض طرف القلب عن المحبوب مع

كمال محبته كالمستحيل ولكن عند استيلاء الهيبة يقع مثل هذا وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم وقد قيل إن هذا تفسير قول النبي حبك الشيء يعمي ويصم أي يعمى عما سواه غيرة وعنه هيبة
وليس هذا مراد الحديث ولكن المراد به أن حبك للشيء يعمي ويصم عن تأمل قبائحه ومساويه فلا تراها ولا تسمعها وإن كانت فيه وليس المراد به ذكر المحبة المطلوبة المتعلقة بالرب ولا يقال في حب الرب تبارك وتعالى حبك الشيء ولا يوصف صاحبها بالعمى والصم
ونحن لا ننكر المرتبتين المذكورتين فإن المحب قد يعمى ويصم عنه بالهيبة والإجلال ولكن لا توصف محبة العبد لربه تعالى بذلك وليس أهلها من أهل العمى والصمم بل هم أهل الأسماع والأبصار على الحقيقة ومن سواهم هم البكم العمي الصم الذين لا يعقلون
الحادي والعشرون ميلك للشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك في حبه
قال الجنيد سمعت الحارث المحاسبي يقول ذلك
الثاني والعشرون المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول لمت بعض الإباحية فقال لي ذلك ثم قال والكون كله مراده فأي شيء أبغض منه
قال الشيخ فقلت له إذا كان المحبوب قد أبغض أفعالا وأقوالا وأقواما وعاداهم فطردهم ولعنهم فأحببتهم تكون مواليا للمحبوب أو معاديا له قال فكأنما ألقم حجرا وافتضح بين أصحابه وكان مقدما فيهم مشارا إليه
وهذا الحد صحيح وقائله إنما أراد أنها تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه لا المراد الذي قدره وقضاه لكن

لقلة حظ المتأخرين منهم وغيرهم من العلم وقعوا فيما وقعوا فيه من الإباحة والحلول والاتحاد والمعصوم من عصمه الله
الثالث والعشرون المحبة بذل المجهود وترك الاعتراض على المحبوب وهذا أيضا من حقوقها وثمراتها وموجباتها
الرابع والعشرون سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف وأنشد
فأسكر القوم دور الكأس بينهم ... لكن سكري نشا من رؤية الساقي
وينبغي صون المحبة والحبيب عن هذه الألفاظ التي غاية صاحبها أن يعذر بصدقه وغلبة الوارد عليه وقهره له فمحبة الله أعلى وأجل من أن تضرب لها هذه الأمثال وتجعل عرضة للأفواه المتلوثة والألفاظ المبتدعة ولكن الصادق في خفارة صدقه
الخامس والعشرون أن لا يؤثر على المحبوب غيره وأن لا يتولى أمورك غيره
السادس والعشرون الدخول تحت رق المحبوب وعبوديته والحرية من استرقاق ما سواه
السابع والعشرون المحبة سفر القلب في طلب المحبوب ولهج اللسان بذكره على الدوام
قلت أما سفر القلب في طلب المحبوب فهو الشوق إلى لقائه وأما لهج اللسان بذكره فلا ريب أن من أحب شيئا أكثر من ذكره
الثامن والعشرون أن المحبة هي مالا ينقص بالجفاء ولا تزيد بالبر وهو

ليحيى بن معاذ بل الإرادة والطلب والشوق إلى المحبوب لذاته فلا ينقص ذلك جفاؤه ولا يزيده بره
وفي ذلك ما فيه فإن المحبة الذاتية تزيد بالبر ولا تنقصها زيادتها بالبر وليس ذلك بعلة ولكن مراد يحيى أن القلب قد امتلأ بالمحبة الذاتية فإذا جاء البر من محبوبه لم يجد في القلب مكانا خاليا من حبه يشغله محبة البر بل تلك المحبة قد استحقت عليه بالذات بلا سبب ومع هذا فلا يزيل الوهم فإن المحبة لا نهاية لها وكلما قويت المعرفة والبر قويت المحبة ولا نهاية لجمال المحبوب ولا بره فلا نهاية لمحبته بل لو اجتمعت محبة الخلق كلهم وكانت على قلب رجل واحد منهم كان ذلك دون ما يستحقه الرب جل جلاله ولهذا لا تسمى محبة العبد لربه عشقا كما سيأتي لأنه إفراط المحبة والعبد لا يصل في محبة الله إلى حد الإفراط البتة والله أعلم
التاسع والعشرون المحبة أن يكون كلك بالمحبوب مشغولا وذلك له مبذولا
الثلاثون وهو من أجمع ما قيل فيها قال أبو بكر الكتاني جرت مسألة في المحبة بمكة أعزها الله تعالى أيام الموسم فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سنا فقالوا هات ما عندك يا عراقي فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه قائم بأداء حقوقه ناظر إليه بقلبه أحرقت قلبه أنوار هيبته وصفا شربه من كأس وده وانكشف له الجبار من أستار غيبه فإن تكلم فبالله وإن نطق فعن الله وإن تحرك فبأمر الله وإن سكن فمع الله فهو بالله ولله ومع الله
فبكى الشيوخ وقالوا ما على هذا مزيد جزاك الله يا تاج العارفين

فصل في الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها وهي عشرة
أحدها قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه
الثاني التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة
الثالث دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر
الرابع إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى
الخامس مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب
السادس مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته
السابع وهو من أعجبها انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات
الثامن الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة
التاسع مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك

العاشر مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز و جل
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب وملاك ذلك كله أمران 1 استعداد الروح لهذا الشأن 2 وانفتاح عين البصيرة وبالله التوفيق

فصل والكلام في هذه المنزلة معلق بطرفين طرف محبة العبد لربه وطرف
محبة الرب لعبده والناس في إثبات ذلك ونفيه أربعة أقسام فأهل يحبهم ويحبونه على إثبات الطرفين وأن محبة العبد لربه فوق كل محبة تقدر ولا نسبة لسائر المحاب إليها وهي حقيقة لا إله إلا الله وكذلك عندهم محبة الرب لأوليائه وأنبيائه ورسله صفة زائدة على رحمته وإحسانه وعطائه فإن ذلك أثر المحبة وموجبها فإنه لما أحبهم كان نصيبهم من رحمته وإحسانه وبره أتم نصيب
والجهمية المعطلة عكس هؤلاء فإنه عندهم لا يحب ولا يحب ولم يمكنهم تكذيب النصوص فأولوا نصوص محبة العباد له على محبة طاعته وعبادته والازدياد من الأعمال لينالوا بها الثواب وإن أطلقوا عليهم بها لفظ المحبة ينالون به من الثواب والأجر والثواب المنفصل عندهم هو المحبوب لذاته والرب تعالى محبوب لغيره حب الوسائل
وأولوا نصوص محبته لهم بإحسانه إليهم وإعطائهم الثواب وربما أولوها بثنائه عليهم ومدحه لهم ونحو ذلك وربما أولوها بإراداته لذلك فتارة يؤولونها بالمفعول المنفصل وتارة يؤولونها بنفس الإرادة
ويقولون الإرادة إن تعلقت بتخصيص العبد بالأحوال والمقامات العلية سميت محبة وإن تعلقت بالعقوبة والانتقام سميت غضبا وإن تعلقت بعموم الإحسان والإنعام الخاص سميت برا وإن تعلقت بإيصاله في خفاء

من حيث لا يشعر ولا يحتسب سميت لطفا وهي واحدة ولها أسماء وأحكام باعتبار متعلقاتها
ومن جعل محبته للعبد ثناءه عليه ومدحه له ردها إلى صفة الكلام فهي عنده من صفات الذات لا من صفات الأفعال والفعل عنده نفس المفعول فلم يقم بذات الرب محبة لعبده ولا لأنبيائه ورسله البتة
ومن ردها إلى صفة الإرادة جعلها من صفات الذات باعتبار أصل الإرادة ومن صفات الأفعال باعتبار تعلقها
ولما رأى هؤلاء أن المحبة إرادة وأن الإرادة لا تتعلق إلا بالمحدث المقدور والقديم يستحيل أن يراد أنكروا محبة العباد والملائكة والأنبياء والرسل له وقالوا لا معنى لها إلا إرادة التقرب إليه والتعظيم له وإرادة عبادته فأنكروا خاصة الإلهية وخاصة العبودية واعتقدوا أن هذا من موجبات التوحيد والتنزيه فعندهم لا يتم التوحيد والتنزيه إلا بجحد حقيقة الإلهية وجحد حقيقة العبودية
وجميع طرق الأدلة عقلا ونقلا وفطرة وقياسا واعتبارا وذوقا ووجدا تدل على إثبات محبة العبد لربه والرب لعبده
وقد ذكرنا لذلك قريبا من مائة طريق في كتابنا الكبير في المحبة وذكرنا فيه فوائد المحبة وما تثمر لصاحبها من الكمالات وأسبابها وموجباتها والرد على من أنكرها وبيان فساد قوله وأن المنكرين لذلك قد أنكروا خاصة الخلق والأمر والغاية التي وجدوا لأجلها فإن الخلق والأمر والثواب والعقاب إنما نشأ عن المحبة ولأجلها وهي الحق الذي به خلقت السموات والأرض وهي الحق الذي تضمنه الأمر والنهي وهي سر التأليه وتوحيدها هو شهادة أن لا إله إلا الله
وليس كما زعم المنكرون أن الإله هو الرب الخالق فإن المشركين

كانوا مقرين بأنه لا رب إلا الله ولا خالق سواه وبأنه وحده المنفرد بالخلق والربوبية ولم يكونوا مقرين بتوحيد الإلهية وهو المحبة والتعظيم بل كانوا يؤلهون مع الله غيره وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله وصاحبه ممن اتخذ من دون الله أندادا
قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فأخبر أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية فإن أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية بخلاف ند المحبة فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم ثم قال والذين آمنوا أشد حبا لله وفي تقدير الآية قولان
أحدهما والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله
والثاني والذين آمنوا أشد حبا لله من محبة المشركين في الأنذار فإن محبة المؤمنين خالصة ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها والمحبة الخالصة أشد من المشتركة والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى يحبونهم كحب الله فإن فيها قولان
أحدهما يحبونهم كما يحبون الله فيكون قد أثبت لهم محبة الله ولكنها محبة يشركون فيها مع الله أندادا
والثاني أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول ويقول إنما ذموا بأن أشركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له
وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم وهذا أصح القولين
وقيل الباء بمعنى عن والمعنى ثم الذين كفروا عن ربهم يعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره وهذا ليس بقوي إذ لا تقول العرب عدلت بكذا أي عدلت عنه وإنما جاء هذا في فعل السؤال نحو سألت بكذا أي عنه كأنهم ضمنوه اعتنيت به واهتممت ونحو ذلك
وقال تعالى إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وهي تسمى آية المحبة قال أبو سليمان الداراني لما ادعت القلوب محبة الله أنزل الله لها محنة قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله

قال بعض السلف ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحنة قل إن كنتم تحبون الله فايتبعوني يحببكم الله
وقال يحبكم الله إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها فدليلها وعلامتها اتباع الرسول وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم فما لم تحصل المتابعة فليست محبتكم له حاصلة ومحبته لكم منتفية
وقال تعالى يا أيا الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم فقد ذكر لهم أربع علامات
أحدها أنهم أذلة على المؤمنين قيل معناه أرقاء رحماء مشفقين عليهم عاطفين عليهم فلما ضمن أذلة هذا المعنى عداه بأداة على قال عطاء للمؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده وعلى الكافرين كالأسد على فريسته أشداء على الكفار رحماء بينهم
العلامة الثالثة الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد واللسان والمال وذلك تحقيق دعوى المحبة
العلامة الرابعة أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم وهذا علامة صحة المحبة فكل محب يأخذه اللوم عن محبوبه فليس بمحب على الحقيقة كما قيل
لا كان من لسواك فيه بقية ... يجد السبيل بها إليه اللوم وقال تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب إلى قوله محذورا فذكر المقامات الثلاث الحب وهو ابتغاء القرب إليه والتوسل إليه بالأعمال الصالحة والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب
ومن المعلوم قطعا أنك لا يتنافس إلا في قرب من تحب قربه وحب قربه

تبع لمحبة ذاته بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه وعند الجهمية والمعطلة ما من ذلك كله شيء فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيء ولا يقرب من ذاته شيء ولا يحب لذاته ولا يحب
فأنكروا حياة القلوب ونعيم الأرواح وبهجة النفوس وقرة العيون وأعلى نعيم الدنيا والأخرة ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة وضربت دونهم ودون الله حجب على معرفته ومحبته فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلا عند تعطيل أسمائه وصفاته فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت والتنفير عن محبة الله عز و جل ومعرفته وتوحيده والله المستعان
وقال تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وقال أحبابه وأولياؤه إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا
وقال تعالى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فجعل غاية أعمال الأبرار والمقربين والمحبين إرادة وجهه
وقال تعالى وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما فجعل إرادته غير إرادة الآخرة وهذه الأرادة لوجهه موجبة للذة النظر إليه في الآخرة كما في مستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان في الحديث المرفوع عن النبي أنه كان يدعو اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة

الحق في الغضب والرضى وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين
فقد اشتمل هذا الحديث الشريف على ثبوت لذة النظر إلى وجه الله وعلى ثبوت الشوق إلى لقائه وعند الجهمية لا وجه له سبحانه ولا ينظر إليه فضلا أن يحصل به لذة كما سمع بعضهم داعيا يدعو بهذا الدعاء فقال ويحك هب أن له وجها أفتلتذ بالنظر إليه
وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وفي الصحيحين عنه أيضا عن النبي إذا أحب الله العبد دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض / ح / وذكر في البغض عكس ذلك
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها في حديث أمير السرية الذي كان يقرأ قل هو الله أحد لأصحابه في كل صلاة وقال لأنها صفة الرحمن فأنا

أحب أن أقرأ بها فقال النبي أخبروه أن الله يحبه وفي جامع الترمذي من حديث أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي أنه قال كان من دعاء داود اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يبلغني حبك اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد وفيه أيضا من حديث عبدالله بن يزيد الخطمي أن النبي كان يقول في دعائه اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا فيما تحب
والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم كقوله تعالى والله يحب الصابرين والله يحب المحسنين إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص فإن الله يحب المتقين
وقوله في ضد ذلك والله لا يحب الفساد والله لا يحب كل مختال فخور والله لا يحب الظالمين إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا
وكم في السنة أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا وإن الله يحب كذا وكذا كقوله أحب الأعمال إلى الله الصلاة على أول وقتها ثم بر الوالدين ثم الجهاد في سبيل اللهوأحب الأعمال إلى الله الإيمان بالله ثم الجهاد في سبيل الله ثم حج مبرور وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وقوله إن الله يحب أن يؤخذ برخصه
وأضعاف أضعاف ذلك وفرحه العظيم بتوبة عبده الذي هو أشد فرح يعلمه العباد وهو من محبته للتوبة وللتائب

فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان ولتعطلت منازل السير إلى الله فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها بل هي حقيقة الإخلاص بل هي نفس الإسلام فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله فمن لا محبة له لا إسلام له البتة بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله فإن الإله هو الذي يأله العباد حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة له بمعنى مألوه وهو الذي تألهه القلوب أي تحبه وتذل له
وأصل التأله التعبد والتعبد آخر مراتب الحب يقال عبده الحب وتيمه إذا ملكه وذلله لمحبوبه
فالمحبة حقيقة العبودية وهل تمكن الإنابة بدون المحبة والرضى والحمد والشكر والخوف والرجاء وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين فإنه إنما يتوكل على المحبوب في حصول محابه ومراضيه
وكذلك الزهد في الحقيقة هو زهد المحبين فإنهم يزهدون في محبة ما سوى محبوبهم لمحبته
وكذلك الحياء في الحقيقة إنما هو حياء المحبين فإنه يتولد من بين الحب والتعظيم وأما مالا يكون عن محبة فذلك خوف محض
وكذلك مقام الفقر فإنه في الحقيقة فقر الأرواح إلى محبوبها وهو أعلى أنواع الفقر فإنه لا فقر أتم من فقر القلب إلى من يحبه ولا سيما إذا وحده في الحب ولم يجد منه عوضا سواه هذا حقيقة الفقر عند العارفين
وكذلك الغنى هو غنى القلب بحصول محبوبه وكذلك الشوق إلى الله تعالى ولقائه فإنه لب المحبة وسرها كما سيأتي
فمنكر هذه المسألة ومعطلها من القلوب معطل لذلك كله وحجابه أكثف الحجب وقلبه أقسى القلوب وأبعدها عن الله وهو منكر لخلة

إبراهيم عليه السلام فإن الخلة كمال المحبة وهو يتأول الخليل بالمحتاج فخليل الله عنده هو المحتاج فكم على قوله لله من خليل من بر فاجر بل مؤمن وكافر إذ كثير من الفجار والكفار من ينزل حوائجه كلها بالله صغيرها وكبيرها ويرى نفسه أحوج شيء إلى ربه في كل حالة
فلا بالخلة أقر المنكرون ولا بالعبودية ولا بتوحيد الإلهية ولا بحقائق الإسلام والإيمان والإحسان ولهذا ضحى خالد بن عبدالله القسرى بمقدم هؤلاء وشيخهم جعد بن درهم وقال في يوم عيد الله الأكبر عقيب خطبته أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه فشكر المسلمون سعيه وC وتقبل منه

فصل في مراتب المحبة
أولها العلاقة وسميت علاقة لتعلق القلب بالمحبوب قال الشاعر
أعلاقة أم الوليد بعيد ما ... أفنان رأسك كالثغام المخلس
الثانية الإرادة وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له
الثالثة الصبابة وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه كانصباب الماء في الحدور فاسم الصفة منها صب والفعل صبا إليه يصبو صبا وصبابة فعاقبوا بين المضاعف والمعتل وجعلوا الفعل من المعتل والصفة من المضاعف ويقال صبا وصبوة وصبابة فالصبا أصل الميل والصبوة فوقه والصبابة الميل اللازم وإنصباب القلب بكليته
الرابعة الغرام وهو الحب اللازم للقلب الذي لا يفارقه بل يلازمه

كملازمة الغريم لغريمه ومنه سمي عذاب النار غراما للزومه لأهله وعدم مفارقته لهم قال تعالى إن عذابها كان غراما
الخامسة الوداد وهو صفو المحبة وخالصها ولبها والودود من أسماء الرب تعالى وفيه قولان
أحدهما أنه المودود قال البخاري رحمه الله في صحيحه الودود الحبيب
والثاني أنه الواد لعباده أي المحب لهم وقرنه باسمه الغفور إعلاما بأنه يغفر الذنب ويحب التائب منه ويوده فحظ التائب نيل المغفرة منه
وعلى القول الأول الودود في معنى يكون سر الاقتران أي اقتران الودود بالغفور استدعاء مودة العباد له ومحبتهم إياه باسم الغفور
السادسة الشغف يقال شغف بكذا فهو مشغوف به وقد شغفه المحبوب أي وصل حبه إلى شغاف قلبه كما قال النسوة عن امرأة العزيز قد شغفها حبا وفيه ثلاثة أقوال
أحدها أنه الحب المستولي على القلب بحيث يحجبه عن غيره قال الكلبي حجب حبه قلبها حتى لا تعقل سواه
الثاني الحب الواصل إلى داخل القلب قال صاحب هذا القول المعنى أحبته حتى دخل حبه شغاف قلبها أي داخله
الثالث أنه الحب الواصل إلى غشاء القلب والشغاف غشاء القلب إذا وصل الحب إليه باشر القلب قال السدى الشغاف جلدة رقيقة على القلب يقول دخله الحب حتى أصاب القلب
وقرأ بعض السلف شعفها بالعين المهملة ومعناه ذهب الحب بها كل مذهب وبلغ بها أعلى مراتبه ومنه شعف الجبال لرؤوسها
السابعة العشق وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه وعليه

عليه تأول إبراهيم ومحمد بن عبدالوهاب ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال محمد هو العشق
ورفع إلى ابن عباس شاب رضي الله عنهما وهو يعرفه قد صار كالخلال فقال ما به قالوا العشق فجعل ابن عباس رضي الله عنهما عامة دعائه بعرفة الاستعاذة من العشق
وفي اشتقاقه قولان أحدهما أنه من العشقة محركة وهي نبت أصفر يلتوي على الشجر فشبه به العاشق
والثاني أنه من الإفراط وعلى القولين فلا يوصف به الرب تبارك وتعالى ولا العبد في محبة ربه وإن أطلقه سكران من المحبة قد أفناه الحب عن تمييزه كان في خفارة صدقه ومحبته
الثامنة التتيم وهو التعبد والتذلل يقال تيمه الحب أي ذلله وعبده وتيم الله عبدالله وبينه وبين اليتم الذي هو الانفراد تلاق في الاشتقاق الأوسط وتناسب في المعنى فإن المتيم المنفرد بحبه وشجوه كانفراد اليتيم بنفسه عن أبيه وكل منهما مكسور ذليل هذا كسره يتم وهذا كسره تتيم
التاسعة التعبد وهو فوق التتيم فإن العبد هو الذي قد ملك المحبوب رقه فلم يبق له شيء من نفسه البتة بل كله عبد لمحبوبه ظاهرا وباطنا وهذا هو حقيقة العبودية ومن كمل ذلك فقد كمل مرتبتها
ولما كمل سيد ولد آدم هذه المرتبة وصفه الله بها في أشرف مقاماته مقام الإسراء كقوله سبحان الذي أسرى بعبده ومقام الدعوة كقوله وأنه لما قام عبدالله يدعوه ومقام التحدي كقوله وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا وبذلك استحق التقديم على الخلائق في الدنيا والآخرة
وكذلك يقول المسيح عليه الصلاة و السلام لهم إذا طلبوا منه الشفاعة بعد

الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته الله تعالى وكمال مغفرة الله له
وحقيقة العبودية الحب التام مع الذل التام والخضوع للمحبوب تقول العرب طريق معبد أي قد ذللته الأقدام وسهلته
العاشرة مرتبة الخلة التي انفرد بها الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم كما صح عنه أنه قال إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وقال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الرحمن والحديثان في الصحيح وهما يبطلان قول من قال الخلة لابراهيم والمحبة لمحمد فابراهيم خليله ومحمد حبيبه
والخلة هي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير المحبوب كما قيل
قد تخللت مسلك الروح مني ... ولذا سمي الخليل خليلا
وهذا هو السر الذي لأجله والله أعلم أمر الخليل بذبح ولده وثمرة فؤاده وفلذة كبده لأنه لما سأل الولد فأعطيه تعلقت به شعبة من قلبه والخلة منصب لا يقبل الشركة والقسمة فغار الخليل على خليله أن يكون في قلبه موضع لغيره فأمره بذبح الولد ليخرج المزاحم من قلبه فلما وطن نفسه على ذلك وعزم عليه عزما جازما حصل مقصود الأمر فلم يبق في إزهاق نفس الولد مصلحة فحال بينه وبينه وفداه بالذبح العظيم وقيل له يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا أي عملت عمل المدق إنا كنا كذلك نجزي المحسنين نجزي من بادر إلى طاعتنا فنقر عنه كما أقررنا عينك بامتثال أوامرنا وإبقاء الولد وسلامته إن هذا لهو البلاء المبين وهو اختبار المحبوب لمحبه وامتحانه إياه

ليؤثر مرضاته فيتم عليه نعمه فهو بلاء محنة ومنحة عليه معا
وهذه الدعوة إنما دعا إليها بها خواص خلقه وأهل الألباب والبصائر منهم فما كل أحد يجيب داعيها ولا كل عين قريرة بها وأهلها هم الذين حصلوا في وسط قبضة اليمين يوم القبضتين وسائر أهل اليمين في أطرافها
فما كل عين بالحبيب قريرة ... ولا كل من نودي يجيب المناديا
ومن لا يجب داعي هداك فخله ... يجب كل من أضحى إلى الغي داعيا
وقل للعيون الرمد إياك أن تري ... سنا الشمس فاستغشي ظلام اللياليا
وسامح نفوسا لم يهبها لحبهم ... ودعها وما اختارت ولا تك جافيا
وقل للذي قد غاب يكفي عقوبة ... مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيا
ووالله لو أضحى نصيبك وافرا ... رحمت عدوا حاسدا لك قاليا
ألم تر آثار القطيعة قد بدت ... على حاله فارحمه إن كنت راثيا
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ... ولاءمها قطع من الليل باديا
فجالت وصالت فيه حتى إذا النه ... ار بدا استخفت وأعطت تواريا
فيا محنة الحسناء تهدى إلى امرىء ... ضرير وعنين من الوجد خاليا
إذا ظلمة الليل انجلت بضيائها ... يعود لعينيه ظلاما كما هيا
فضن بها إن كنت تعرف قدرها ... إلى أن ترى كفؤا أتاك موافيا
فما مهرها شيء سوى الروح أيها ال ... جبان تأخر لست كفؤا مساويا
فكن أبدا حيث استقلت ركائب ال ... محبة في ظهر العزائم ساريا
وأدلج ولا تخش الظلام فإنه ... سيكفيك وجه الحب في الليل هاديا
وسقها بذكراه مطاياك إنه ... سيكفي المطايا طيب ذكراه حاديا
وعدها بروح الوصل تعطيك سيرها ... فما شئت واستبق العظام البواليا
وأقدم فإما منية أو منية ... تريحك من عيش به لست راضيا
فما ثم إلا الوصل أو كلف بهم ... وحسبك فوزا ذاك إن كنت واعيا

أما سئمت من عيشها نفس واله ... تبيت بنار البعد تلقى المكاويا
أما موته فيهم حياة وذله ... هو العز والتوفيق مازال غاليا
أما يستحي من يدعي الحب باخلا ... بما لحبيب عنه يدعوه ذا ليا
أما تلك دعوى كاذب ليس حظه ... من الحب إلا قوله والأمانيا
أما أنفس العشاق ملك لغيرهم ... بإجماع أهل الحب ما زال فاشيا
أما سمع العشاق قول حبيبة ... لصب بها وافي من الحب شاكيا
ولما شكوت الحب قالت كذبتني ... فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
فلا حب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتخرس حتى لا تجيب المناديا
وتنحل حتى لا يبقى لك الهوى ... سوى مقلة تبكي بها وتناجيا

فصل قال صاحب المنازل رحمه الله المحبة تعلق القلب بين الهمة
والأنس
يعني تعلق القلب بالمحبوب تعلقا مقترنا بهمة المحب وأنسه بالمحبوب في حالتي بذله ومنعه وإفراده بذلك التعلق بحيث لا يكون لغيره فيه نصيب
وإنما أشار إلى أنها بين الهمة والأنس لأن المحبة لما كانت هي نهاية شدة الطلب وكان المحب شديد الرغبة والطلب كانت الهمة من مقومات حبه وجملة صفاته ولما كان الطلب بالهمة قد يعرى عن الأنس وكان المحب لا يكون إلا مستأنسا بجمال محبوبه وطمعه بالوصول إليه فمن هذين يتولد الأنس وجب أن يكون المحب موصوفا بالأنس فصارت المحبة قائمه بين الهمة والأنس
ويريد بالبذل والمنع أحد أمرين إما بذل الروح والنفس لمحبوبه ومنعها عن غيره فيكون البذل والمنع صفة المحب وإما بذل الحبيب ومنعه فتتعلق همة المحب به في حالتي بذله ومنعه
ويريد بالإفراد معنيين إما إفراد المحبوب وتوحيده بذلك التعلق وإما

فناؤه في محبته بحيث ينسى نفسه وصفاته في ذكر محاسن محبوبه حتى لا يبقى إلا المحبوب وحده
والمقصود إفراد المحب المبوبه بالتوحيد والمحبة والله أعلم

فصل قال والمحبة أول أودية الفناء والعقبة التي ينحدر منها على
منازل المحو وهي آخر منزل تلتقي فيه مقدمة العامة وساقة الخاصة
إنما كانت المحبة أول أودية الفناء لأنها تفنى خواطر المحب عن التعلق بالغير وأول ما يفنى من المحب خواطره المتعلقة بما سوى محبوبه لأنه إذا انجذب قلبه بكليته إلى محبوبه انجذبت خواطره تبعا
ويريد بمنازل المحو مقاماته
وأولها محو الأفعال في فعل الحق تعالى فلا يرى لنفسه ولا لغيره فعلا
والثاني محو الصفات التي في العبد فيراها عارية أعيرها وهبة وهبها ليستدل بها على بارئه وفاطره وعلى وحدانيته وصفاته فيعلم بواسطة حياته معنى حياة ربه وبواسطة علمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه وغضبه ورضاه معنى علم ربه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وكلامه وغضبه ورضاه ولولا هذه الصفات فيه لما عرفها من ربه
وهذا أحد التأويلات في الأثر الإسرائيلي اعرف نفسك تعرف ربك
وهذه الصفات في الحقيقة أثر الصفات الإلهية فيه فإنها أثر أفعال الحق وأفعاله موجب صفاته وأسمائه فإذن عاد الأمر كله إلى افعاله وعادت أفعاله إلى صفاته
ففي هذه المنزلة يمحو العبد شهود صفاته ووجودها الذي ليس بحقيقي ويثبت شهود صفات المعبود ووجودها الحقيقي فالله سبحانه منح عبده هذه الصفات ليعرفه بها ويستدل بها عليه فإن لم يفعلها عطل عليه طريق المعرفة والاستدلال بها

فصارت بمنزلة العدم ولهذا يوصف الغافل عن الله بالصمم والبكم والعمى والموت وعدم العقل
الثالث محو الذات وهو شهود تفرد الحق تعالى بالوجود أزلا وأبدا وأنه الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء ووجود كل ما سواه قائم به وأثر صنعه فوجوه هو الوجود الواجب الحق الثابت لنفسه أزلا وأبدا وأنه المتفرد بذلك
وهذا المحو يصح باعتبارين
أحدهما اعتبار الوجود الذاتي ولا ريب في إثبات محوه بهذا الاعتبار
إذ ليس مع الله موجود بذاته سواه وكل ما سواه فموجود بإيجاده سبحانه
الاعتبار الثاني المحو في المشهد فلا يشهد فاعلا غير الحق سبحانه ولا سفات غير صفاته ولا موجودا سواه لغيبته بكمال شهوده عن شهود غيره
وأما محو ذلك من الوجود جملة فهو محو الزنادقة وطائفة الاتحادية وصاحب المنازل وكل ولي لله بريء منهم حالا وعقيدة
والمقصود أن من عقبة المحبة ينحدر المحب على منازل المحو
ولما كانت منازل المحو والفناء غاية عند صاحب المنازل جعل المحبة عقبة ينحدر منها إليها وأما جعل المحبة غاية فمنازل المحو عنده أودية يصعد منها إلى روح المحبة وليس بعد المحبة الصحيحة إلا منازل البقاء أما الفناء والمحو فعقبات وأودية في طريقها عند هؤلاء والله أعلم
قوله وهي آخر منزلة تلتقي فيها مقدمة العامة وساقة الخاصة
هذا بناء على الأصل الذي ذكره وهو أن المحبة ينحدر منها على أودية الفناء فهي أول أودية الفناء فمقدمة العامة هم في آخر مقام المحبة وساقة

الخاصة في أول منزل الفناء ومنزلة الفناء متصلة بآخر منزلة المحبة فتلتقي حينئذ مقدمة العامة بساقه الخاصة هذا شرح كلامه
وعند الطائفة الأخرى الأمر بالعكس وهو أن مقدمة أرباب الفناء يلتقون بساقة أو باب المحبة فإنهم أمامهم في السير وهم أمام الركب دائما وهذا بناء على أن أهل البقاء في المحبة أعلى شأنا من أهل الفناء وهو الصواب والله أعلم

فصل قال وما دونها أغراض لأعواض يعني ما دون المحبة من المقامات
فهي أغراض من المخلوقين لأجل أعواض ينالونها وأما المحبون فإنهم عبيد والعبد ونفسه وعمله ومنافعه ملك لسيده فكيف يعاوضه على ملكه والأجير عن أخذ الأجرة ينصرف والعبد في الباب لا ينصرف فلا عبودية إلا عبودية أهل المحبة الخالصة أولئك هم الفائزون بشرف الدنيا والآخرة وأولئك لهم الأمن وهم مهتدون
فصل قال والمحبة هي سمة الطائفة وعنوان الطريقة ومعقد النسبة
يعني سمة هذه الطائفة المسافرين إلى ربهم الذين ركبوا جناح السفر إليه ثم لم يفارقوه إلى حين اللقاء وهم الذين قعدوا على الحقائق وقعد من سواهم على الرسوم
وعنوان طريقتهم أي دليلها فإن العنوان يدل على الكتاب والمحبة تدل على صدق الطالب وأنه من أهل الطريق
ومعقد النسبة أي النسبة التي بين الرب وبين العبد فإنه لا نسبة بين الله وبين العبد إلا محض العبودية من العبد والربوبية من الرب وليس في العبد شيء من الربوبية ولا في الرب شيء من العبودية فالعبد عبد من كل وجه والرب

تعالى هو الإله الحق من كل وجه ومعقد نسبة العبودية هو المحبة فالعبودية معقودة بها بحيث متى انحلت المحبة انحلت العبودية والله أعلم

فصل قال وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى محبة تقطع الوساوس وتلذ
الخدمة وتسلي عن المصائب
قوله تقطع الوساوس فإن الوساوس والمحبة متناقضان فإن المحبة توجب استيلاء ذكر المحبوب على القلب والوساوس تقتضي غيبته عنه حتى توسوس له نفسه بغيره فبين المحبة والوساوس تناقض شديد كما بين الذكر والغفلة فعزيمة المحبة تنفي تردد القلب بين المحبوب وغيره وذلك سبب الوساوس وهيهات أن يجد المحب الصادق فراغا لوسواس الغير لاستغراق قلبه في حضوره بين يدي محبوبه وهل الوسواس إلا لأهل الغفلة والإعراض عن الله تعالى ومن أين يجتمع الحب والوسواس
لا كان من لسواك فيه بقية ... فيها يقسم فكره ويوسوس
قوله وتلذ الخدمة أي المحب يلتذ بخدمة محبوبه فيرتفع عن رؤية التعب الذي يراه الخلي في أثناءالخدمة وهذا معلوم بالمشاهدة
قوله وتسلى عن المصائب فإن المحب يجد في لذة المحبة ما ينسيه المصائب ولا يجد من مسها ما يجد غيره حتى كأنه قد اكتسى طبيعة ثانية ليست طبيعة الخلق بل يقوى سلطان المحبة حتى يلتذ المحب بكثير من المصائب التي يصيبه بها حبيبه أعظم من التذاذ الخلى بحظوظه وشهواته والذوق والوجود شاهد بذلك والله أعلم
فصل قال وهي محبة تنبت من مطالعة المنة وتثبت باتباع السنة وتنمو
على الإجابة بالفاقة

قوله تنبت من مطالعة المنة أي تنشأ من مطالعة العبد منة الله عليه ونعمه الباطنة والظاهرة فبقدر مطالعته ذلك تكون قوة المحبة فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها وليس للعبد قط إحسان إلا من الله ولا إساءة إلا من الشيطان
ومن أعظم مطالعة منة الله على عبده تأهيله لمحبته ومعرفته وإرادة وجهه ومتابعة حبيبه وأصل هذا نور يقذفه الله في قلب العبد فإذا دار ذلك النور في قلب العبد وذاته أشرقت ذاته فرأى فيه نفسه وما أهلت له من الكمالات والمحاسن فعلت به همته وقويت عزيمته وانقشعت عنه ظلمات نفسه وطبعه لأن النور والظلمة لا يجتمعان إلا ويطرد أحدهما صاحبة فرقيت الروح حينئذ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأول
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
وهذا النور كالشمس في قلوب المقربين السابقين وكالبدر في قلوب الأبرار أصحاب اليمين وكالنجم في قلوب عامة المؤمنين وتفاوتهم فيه كتفاوت ما بين الزهرة والسهى
قوله وتثبت باتباع السنة أي ثباتها إنما يكون بمتابعة الرسول في أعماله وأقواله وأخلاقه فبحسب هذا الاتباع يكون منشأ هذه المحبة وثباتها وقوتها وبحسب نقصانه يكون نقصانها كما تقدم أن هذا الاتباع يوجب المحبة والمحبوبية معا ولا يتم الأمر إلا بهما فليس الشأن في أن تحب الله بل الشأن في أن يحبك الله ولا يحبك الله إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرا وباطنا وصدقته خبرا وأطعته أمرا وأجبته دعوة وآثرته طوعا وفنيت عن حكم غيره بحكمه وعن محبته غيره من الخلق بمحبته وعن طاعة غيره بطاعته وإن لم يكن ذلك فلا تتعن وارجع من حيث شئت فالتمس نورا فلست على شيء

وتأمل قوله فاتبعوني يحببكم الله أي الشأن في أن الله يحبكم لا في أنكم تحبونه وهذا لا تنالونه إلا باتباع الحبيب
قوله وتنمو على الإجابة بالفاقة الإجابة بالفاقة أن يجيب الداعي بموفور الأعمال وهو خال منها كأنه لم يعملها بل يجيب دعوته بمجرد الإفلاس والفقر التام فإن طريقة الفقر والفاقة تأبى أن يكون لصاحبها عمل أو حال أو مقام وإنما يدخل على ربه بالإفلاس المحض والفاقة المجردة ولا ريب أن المحبة تنمو على هذا المشهد وهذه الإجابة وما أعزه من مقام وأعلاه من مشهد وما أنفعه للعبد وما أجلبه للمحبة والله المستعان

فصل قال الدرجة الثانية محبة تبعث على إيثار الحق على غيره وتلهج
اللسان بذكره وتعلق القلب بشهوده وهي محبة تظهر من مطالعة الصفات والنظر إلى الآيات والارتياض بالمقامات
هذه الدرجة أعلى مما قبلها باعتبار سببها وغايتها فإن سبب الأولى مطالعة الإحسان والمنة وسبب هذه مطالعة الصفات وشهود معاني آياته المسموعة والنظر إلى آياته المشهودة وحصول الملكة في مقامات السلوك وهو الارتياض بالمقامات ولذلك كانت غايتها أعلى من غاية ما قبلها
فقوله تبعث على إيثار الحق على غيره أي لكمالها وقوتها فإنها تقتضي من المحب أن يترك لأجل الحق ما سواه فيؤثره على غيره ولا يؤثر غيره عليه ويجعل اللسان لهجا بذكره فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره
وتعلق القلب بشهوده لفرط استيلائه على القلب وتعلقه به حتى كأنه لا يشاهد غيره
وقوله وهي محبة تظهر من مطالعة الصفات يعني إثباتها أولا ومعرفتها ثانيا ونفي التحريف والتعطيل عن نصوصها ثالثا ونفي التمثيل والتكييف عن

معانيها رابعا فلا يصح له مطالعة الصفات الباعثة على المحبة الصحيحة إلا بهذه الأمور الأربعة وكلما أكثر قلبه من مطالعتها ومعرفة معانيها ازدادت محبته للموصوف بها ولذلك كانت الجهمية قطاع طريق المحبة بين المحبين وبينهم السيف الأحمر
وقوله والنظر إلى الآيات أي نظر الفكر والاعتبار إلى آياته المشهودة وفي آياته المسموعة وكل منهما داع قوي إلى محبته سبحانه لأنها أدلة على صفات كماله ونعوت جلاله وتوحيد ربوبيته وإلهيته وعلى حكمته وبره وإحسانه ولطفه وجوده وكرمه وسعة رحمته وسبوغ نعمته فإدامة النظر فيها داع لا محالة إلى محبته وكذلك الارتياض بالمقامات فإن من كانت له رياضة وملكة في مقامات الإسلام والإيمان والإحسان كانت محبته أقوى لأن محبة الله له أتم وإذا أحب الله عبدا أنشأ في قلبه محبته

فصل قال الدرجة الثالثة محبة خاطفة تقطع العبارة وتدفع الإشارة ولا
تنتهي بالنعوت
يعني أنها تخطف قلوب المحبين لما يبدو لهم من جمال محبوبهم ويشير الشيخ بذلك إلى الفناء في المحبة والشهود وإن العبارة تنقطع دون حقيقة تلك المحبة ولا تبلغها ولا تصل إليها الإشارة فإنها فوق العبارة والإشارة
وحقيقتها عندهم فناء الحدوث في القدم واضمحلال الرسوم في نور الحقيقة التي تظهر لقلوب المحبين فتملك عليها العبارة والإشارة والصفة فلا يقدر المحب أن يعبر عما يجده لأن واردها قد خطف فهمه والعبارة تابعة للفهم فلا يقدر المحب أن يشير إليه إشارة تامة
والعبارة عندهم تحت الإشارة وأبعد منها ولذلك جعل حظها

القطع وحظ الإشارة الدفع فإن مقام المحبة يقبل العبارة وهذه الدرجة الثالثة لا تقبل إشارة ما ولا تقبل عبارة
وعندهم إنما تمتنع العبارة والإشارة في مقام التوحيد حيث لا يبقى للمحبة رسم ولا اسم ولا إشارة وهو الغاية عندهم كما سيأتي
والصواب أن توحيد المحبة أكمل من هذا التوحيد الذي يشيرون إليه وأعلى مقاما وأجل مشهدا وهو مقام الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام وخواص المقربين
وأما توحيد الفناء فدونه بكثير وليس ذلك من مقامات الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن توحيدهم توحيد بقاء ومحبة لا توحيد فناء وغيبة وسكر واصطلام
ولما كان المحب عند أرباب الفناء لم يخلص إلى مقام توحيد الفناء بالكلية بل رسوم المحبة معه بعد جعلوا المحبة هي العقبة التي ينحدر منها إلى أودية الفناء كما تقدم
والصواب الذي لا ريب فيه عند أرباب التحقيق والبصائر أن لسان المحبة أتم ومقامها أكمل وحالها أشرف وصاحبها من أهل الصحو بعد السكر والتمكين بعد التلوين والبقاء بعد الفناء ولسانه نائب عن كل لسان وبيانه واف بكل ذوق ومقامه أعلى من كل مقام فهو أمين على كل من دونه من أرباب المقامات لأن مقامه أمير على المقامات كلها
أمين أمين عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يجودا
وأما كون نعوت المحبة لا تتناهى فلأن لها في كل مقام نسبة وتعلقا به وهي روح كل مقام والحاملة له وأقدام السالكين إنما تتحرك بها فلها تعلق بكل قدم وحال ومقام فلا تتناهى نعوتها البتة والله أعلم

فصل قوله وهذه المحبة هي قطب هذا الشأن وما دونها محاب نادت عليها
الألسن وادعتها الخليقة وأوجبتها العقول
يريد أن مدار شأن السالكين المسافرين إلى الله على هذه المحبة الثالثة وإنما كان ذلك كذلك لخلوصها من الشوائب والعلل والأغراض وصاحبها مراد ومجذوب ومطلوب وما دونها من المحاب فصاحبها باق مع إرادته من محبوبه أما محبة الإحسان والأفعال فظاهر
وأما محبة الصفات فصاحبها مع لذة روحه ونعيم قلبه بمطالعة الصفات فإن لذة الأرواح والعقول لا محالة في مطالعة صفات الكمال ونعوت الجمال
وصاحب هذه المحبة الثالثة قد ارتقى عن هاتين الدرجتين وأخذ منه وغيب عنه وهذا مبنى على أصله في كون الفناء غاية وقد عرفته
وقوله ونادت عليها الألسن أي وصفتها الألسن فأكثرت صفاتها وتمكنت من التعبير عنها
وادعتها الخليقة بخلاف الدرجة الثالثة فإنه لا وصول لأحد إليها إلا بالحق تعالى فهي غير كسبية ولا تنال بسبب فلا يمكن فيها الدعوى فإن شأنها أجل من ذلك
قوله وأوجبتها العقول يريد أن العقل يحكم بوجوبها وهو كما قال فإن العقول تحكم بوجوب تقديم محبة الله على محبة النفس والأهل والمال والولد وكل ما سواه وكل من لم يحكم عقله بهذا فلا تعبأ بعقله فإن العقل والفطرة والشرعة والاعتبار والنظر تدعو كلها إلى محبته سبحانه بل إلى توحيده في المحبة وإنما جاءت الرسل بتقرير ما في الفطر والعقول كما قيل
هب الرسل لم تأت من عنده ... ولا أخبرت عن جمال الحبيب
أليس من الواجب المست ... حق محبته في اللقا والمغيب

فمن لم يكن عقله آمرا ... بذا ماله في الحجى من نصيب
وإن العقول لتدعو إلى ... محبة فاطرها من قريب
أليست على ذاك مجبولة ... ومفطورة لا بكسب غريب
أليس الجمال حبيب القلوب ... لذات الجمال وذات القلوب
أليس جميلا يحب الجمال ... تعالى إله الورى عن نسيب
أما بعد ذلك إحسانه ... بداع إليه لقلب المنيب
أليس إذا كملا أوجبا ... كمال المحبة للمستجيب
فمن ذا يشابه أوصافه ... تعالى إله الورى عن ضريب
ومن ذا يكافىء إحسانه ... فيألهه قلب عبد منيب
وهذا دليل على أنه ... إلى كل ذي الخلق أولى حبيب
فيا منكرا ذاك والله أن ... ت عين الطريد وعين الحريب
ويامن يحب سواه كمث ... ل محبته أنت عبد الصليب
ويامن يوحد محبوبه ... ويرضيه في مشهد أو مغيب
ولو سخط الخلق في وجهه ... لقال هوانا ولو بالنسيب
حظيت وخابوا فلا تبتئس ... بكيد العدو وهجر الرقيب

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الغيرة قال
الله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن
وفي الصحيح عن أبي الأحوص عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله ما أحد أغير من الله ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من الله ومن أجل ذلك أثنى على نفسه وما أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين / ح /

وفي الصحيح أيضا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرةBه أن رسول الله قال إن الله يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه / ح /
وفي الصحيح أيضا أن النبي قال أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني / ح /
ومما يدخل في الغيرة قوله تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا
قال السري لأصحابه أتدرون ما هذا الحجاب حجاب الغيرة ولا أحد أغير من الله إن الله تعالى لم يجعل الكفار أهلا لفهم كلامه ولا أهلا لمعرفته وتوحيده ومحبته فجعل بينهم وبين رسوله وكلامه وتوحيده حجابا مستورا عن العيون غيرة عليه أن يناله من ليس أهلا له
والغيرة منزلة شريفة عظيمة جدا جليلة المقدار ولكن الصوفية المتأخرين منهم من قلب موضوعها وذهب بها مذهبا آخر باطلا سماه غيرة فوضعها في غير موضعها ولبس عليه أعظم تلبيس كما ستراه
والغيرة نوعان غيرة من الشيء وغيرة على الشيء
والغيرة من الشيء هي كراهة مزاحمته ومشاركته لك في محبوبك
والغيرة على الشيءهي شدة حرصك على المحبوب أن يفوز به غيرك دونك أو يشاركك في الفوز به
والغيرة أيضا نوعان غيرة العبد من نفسه على نفسه كغيرته من نفسه على قلبه ومن تفرقته على جمعيته ومن إعراضه على إقباله ومن صفاته المذمومة على صفاته الممدوحة وهذه الغيرة خاصية النفس الشريفة الزكية العلوية وما

للنفس الدنية المهينة فيها نصيب وعلى قدر شرف النفس وعلو همتها تكون هذه الغيرة
ثم الغيرة أيضا نوعان غيرة الحق تعالى على عبده وغيرة العبد لربه لا عليه فأما غيرة الرب على عبده فهي أن لا يجعله للخلق عبدا بل يتخذه لنفسه عبدا فلا يجعل له فيه شركاء متشاكسين بل يفرده لنفسه ويضن به على غيره وهذه أعلى الغيرتين
وغيرة العبد لربه نوعان أيضا غيرة من نفسه وغيرة من غيره فالتي من نفسه أن لا يجعل شيئا من أعماله وأقواله وأحواله وأوقاته وأنفاسه لغير ربه والتي من غيره أن يغضب لمحارمه إذا انتهكها المنتهكون ولحقوقه إذا تهاون بها المتهاونون
وأما الغيرة على الله فأعظم الجهل وأبطل الباطل وصاحبها من أعظم الناس جهلا وربما أدت بصاحبها إلى معاداته وهو لا يشعر وإلى انسلاخه من أصل الدين والإسلام وربما كان صاحبها شرا على السالكين إلى الله من قطاع الطريق بل هو من قطاع طريق السالكين حقيقة وأخرج قطع الطريق في قالب الغيرة وأين هذا من الغيرة لله التي توجب تعظيم حقوقه وتصفية أعماله وأحواله لله فالعارف يغار لله والجاهل يغار على الله فلا يقال أنا أغار على الله ولكن أنا أغار لله
وغيرة العبد من نفسه أهم من غيرته من غيره فإنك إذا غرت من نفسك صحت لك غيرتك لله من غيرك وإذا غرت له من غيرك ولم تغر من نفسك فالغيرة مدخولة معلولة ولا بد فتأملها وحقق النظر فيها
فليتأمل السالك اللبيب هذه الكلمات في هذا المقام الذي زلت فيه أقدام كثير من السالكين والله الهادي والموفق المثبت

كما حكى عن واحد من مشهوري الصوفية أنه قال لا أستريح حتى لا أرى من يذكر الله يعني غيرة عليه من أهل الغفلة وذكرهم
والعجب أن هذا يعد من مناقبه ومحاسنه
وغاية هذا أن يعذر فيه لكونه مغلوبا على عقله وهو من أقبح الشطحات وذكر الله على الغفلة وعلى كل حال خير من نسيانه بالكلية والألسن متى تركت ذكر الله الذي هو محبوبها اشتغلت بذكر ما يبغضه ويمقت عليه فأي راحة للعارف في هذا وهل هو إلا أشق عليه وأكره إليه
وقول آخر لا أحب أن أرى الله ولا أنظر إليه فقيل له كيف قال غيرة عليه من نظر مثلي
فانظر إلى هذه الغيرة القبيحة الدالة على جهل صاحبها مع أنه في خفارة ذله وتواضعه وانكساره واحتقاره لنفسه
ومن هذا ما يحكى عن الشبلي أنه لما مات ابنه دخل الحمام ونور لحيته حتى أذهب شعرها كله فكل من أتاه معزيا قال إيش هذا يا أبا بكر قال وافقت أهلي في قطع شعورهم فقال له بعض أصحابه أخبرني لم فعلت هذا فقال علمت أنهم يعزونني على الغفلة ويقولون آجرك الله ففديت ذكرهم لله على الغفلة بلحيتي
فانظر إلى هذه الغيرة المحرمة القبيحة التي تضمنت أنواعا من المحرمات حلق الشعر عند المصيبة وقد قال رسول الله ليس منا من

حلق وسلق وخرق أي حلق شعره ورفع صوته بالندب والنياحة وخرق ثيابه ومنها حلق اللحية وقد أمر رسول الله بإعفائها وتوفيرها ومنها منع إخوانه من تعزيته ونيل ثوابها
ومنها كراهته لجريان ذكر الله على ألسنتهم بالغفلة وذلك خير بلا شك من ترك ذكره
فغاية صاحب هذا أن تغفر له هذه الذنوب ويعفى عنه وأما أن يعد ذلك في مناقبه وفي الغيرة المحمودة فسبحانك هذا بهتان عظيم
ومن هذا ما ذكر عن أبي الحسين النوري أنه سمع رجلا يؤذن فقال طعنه وسم الموت
وسمع كلبا ينبح فقال لبيك وسعديك فقالوا له هذا ترك للدين
وصدقوا والله يقول للمؤذن في تشهده طعنه وسم الموت ويلبي نباح الكلب
فقال أما ذاك فكان يذكر الله عن رأس الغفلة وأما الكلب فقد قال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده
فيالله ماذا ترى رسول الله يواجه هذا القائل لو رآه يقول ذلك أو عمر بن الخطاب أو من عد ذلك في المناقب والمحاسن
وسمع الشبلي رجلا يقول جل الله فقال أحب أن تجله عن هذا

وأذن مرة فلما بلغ الشهادتين قال لولا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك وقال بعض الجهال من القوم لا إله إلا الله من أصل القلب ومحمد رسول الله من القرط
ونحن نقول محمد رسول الله من تمام قول لا إله إلا الله فالكلمتان يخرجان من أصل القلب من مشكاة واحدة لا تتم إحداهما إلا بالأخرى

فصل قال صاحب المنازل
باب الغيرة
قال الله تعالى حاكيا عن نبيه سليمان عليه السلام ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق
ووجه استشهاده بالآية أن سليمان عليه السلام كان يحب الخيل فشغله استحسانها والنظر إليها لما عرضت عليه عن صلاة النهار حتى توارت الشمس بالحجاب فلحقته الغيرة لله من الخيل إذ استغرقه استحسانها والنظر إليها عن خدمة مولاه وحقه فقال ردوها علي فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف غيرة لله
قال الغيرة سقوط الاحتمال ضنا والضيق عن الصبر نفاسة
أي عجز الغيور عن احتمال ما يشغله عن محبوبه ويحجبه عنه ضنا به أي بخلا به أن يعتاض عنه بغيره وهذا البخل هو محض الكرم عند المحبين الصادقين
وأما الضيق عن الصبر نفاسة فهو أن يضيق ذرعه بالصبر عن محبوبه وهذا هو الصبر الذي لا يذم من أنواع الصبر سواه أو ما كان من وسيلته والحامل له على هذا الضيق مغالاته بمحبوبه وهي النفاسة فإنه لمنافسته ورغبته لا يسامح نفسه بالصبر عنه والمنافسة هي كمال الرغبة في الشيء

ومنع الغير منه إن لم يمدح فيه المشاركة والمسابقة إليه إن محدت فيه المشاركة قال تعالى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وبين المنافسة والغبطة جمع وفرق وبينهما وبين الحسد أيضا جمع وفرق
فالمنافسة تتضمن مسابقة واجتهادا وحرصا والحسد يدل على مهانة الحاسد وعجزه وإلا فنافس من حسدته فذلك أنفع لك من حسده كما قيل
إذا أعجبتك خلال امرىء ... فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرما ... ت إذا جئتها حاجب يحجبك
والغبطة تتضمن نوع تعجب وفرح للمغبوط واستحسان لحاله

فصل قال وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى غيرة العابد على ضائع
يستر ضياعه ويستدرك فواته ويتدارك قواه
العابد هو العامل بمقتضى العلم النافع للعمل الصالح فغيرته على ما ضاع عليه من عمل صالح فهو يسترد ضياعه بأمثاله ويجبر ما فاته من الأوراد والنوافل وأنواع القرب بفعل أمثالها من جنسها وغير جنسها فيقضى ما ينفع فيه القضاء ويعوض ما يقبل العوض ويجبر ما يمكن جبره
وقوله ويستدرك فواته الفرق بين استرداد ضائعه واستدراك فائته أن الأول يمكن أن يسترد بعينه كما إذا فاته الحج في عام تمكن منه فأضاعه في ذلك العام استدركه في العام المقبل وكذلك إذا أخر الزكاة عن وقت وجوبها استدركها بعد تأخيرها ونحو ذلك
وأما الفائت فإنما يستدرك بنظيره كقضاء الواجب المؤقت إذا فات وقته أو يكون مراده باسترداد الضائع واستدراك الفائت نوعي التفريط في الأمر والنهي فيسترد ضائع هذا بقضائه وفعل أمثاله ويستدرك فائت هذا أي سالفه بالتوبة والندم

وأما تدارك قواه فهو أن يتدارك قوته ببذلها في الطاعة قبل أن تتبدل بالضعف فهو يغار عليها أن تذهب في غير طاعة الله ويتدارك قوى العمل الذي لحقه الفتور عنه بأن يكسوه قوة ونشاطا غيرة له وعليه
فهذه غيرة العباد على الأعمال والله أعلم

فصل قال الدرجةالثانية غيرة المريد وهي غيرة على وقت فات وهي غيرة
قاتلة فإن الوقت وحي التقضي أبي الجانب بطي الرجوع
والمريدون هم أرباب الأحوال والعباد أرباب الأوراد والعبادات وكل مريد عابد وكل عابد مريد لكن القوم خصوا أهل المحبة وأذواق حقائق الإيمان باسم المريد وخصوا أصحاب العمل المجرد باسم العابد وكل مريد لا يكون عابدا فزنديق وكل عابد لا يكون مريدا فمراء
والوقت عند العابد هو وقت العبادة والأوراد وعند المريد هو وقت الإقبال على الله والجمعية عليه والعكوف عليه بالقلب كله
والوقت أعز شيء عليه يغار عليه أن ينقضي بدون ذلك فإذا فاته الوقت لا يمكنه استدراكه البتة لأن الوقت الثاني فقد استحق واجبه الخاص فإذا فاته وقت فلا سبيل له إلى تداركه كما في المسند مرفوعا من أفطر يوما من رمضان متعمدا من غير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر وإن صامه
وقوله وهي غيرة قاتلة يعني مضرة ضررا شديدا بينا يشبه القتل لأن حسرة الفوت قاتلة ولا سيما إذا علم المتحسر أنه لا سبيل له إلى الاستدراك
وأيضا فالغيرة على التفويت تفويت آخر كما يقال الاشتغال بالندم على الوقت الفائت تضييع للوقت الحاضر ولذلك يقال الوقت سيف إن لم تقطعه وإلا قطعك

ثم بين الشيخ السبب في كون هذه الغيرة قاتلة فقال
فإن الوقت وحي التقضي أي سريع الانقضاء كما تقول العرب الوحا الوحا العجل العجل والوحي الإعلام في خفاء وسرعة ويقال جاء فلان وحيا أي مجيئا سريعا فالوقت منقض بذاته منصرم بنفسه فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته وعظم فواته واشتدت حسراته فكيف حاله إذا علم عند تحقق الفوت مقدار ما أضاع وطلب الرجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع وطلب تناول الفائت وكيف يرد الأمس في اليوم الجديد وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ومنع مما يحبه ويرتضيه وعلم أن ما اقتناه ليس مما ينبغي للعاقل أن يقتنيه وحيل بينه وبين ما يشتهيه
فيا حسرات ما إلى رد مثلها ... سبيل ولو ردت لهان التحسر
هي الشهوات اللاء كانت تحولت ... إلى حسرات حين عز التصبر
فلو انها ردت بصبر وقوة ... تحولن لذات وذو اللب يبصر
ويقال إن أصعب الأحوال المنقطعة انقطاع الأنفاس فإن أربابها إذا صعد النفس الواحد صعدوه إلى نحو محبوبهم صاعدا إليه متلبسا بمحبته والشوق إليه فإذا أرادوا دفعه لم يدفعوه حتى يتبعوه نفسا آخر مثله فكل أنفاسهم بالله وإلى الله متلبسة بمحبته والشوق إليه والأنس به فلا يفوتهم نفس من أنفاسهم مع الله إلا إذا غلبهم النوم وكثير منهم يرى في نومه أنه كذلك لالتباس روحه وقلبه فيحفظ عليه أوقات نومه ويقظته ولا تستنكر هذه الحال فإن المحبة إذا غلبت على القلب وملكته أوجبت له ذلك لا محالة
والمقصود أن الواردات سريعة الزوال تمر أسرع من السحاب وينقضي الوقت بما فيه فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك فإنه عائد عليك لا محالة لهذا يقال للسعداء كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية ويقال للأشقياء ذلك بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون

فصل قال الدرجة الثالثة غيرة العارف على عين غطاها غين وسر غشيه
رين ونفس علق برجاء أو التفت إلى عطاء
أي يغار على بصيرة غطاها ستر أو حجاب فإن الغين بمنزلة الغطاء والحجاب وهو غطاء رقيق جدا وفوقه الغيم وهو لعموم المؤمنين وفوقه الرين والران وهو للكفار
وقوله وسر غشيه رين أي حجاب أغلظ من الغيم الأول
والسر ههنا إما اللطفية المدركة من الروح وإما الحال التي بين العبد وبين الله عز و جل فإذا غشيه رين النفس والطبيعة استغاث صاحبه كما يستغيث المعذب في عذابه غيرة على سره من ذلك الرين
وقوله ونفس علق برجاء والتفت إلى عطاء
يعني أن صاحب النفس يغار على نفسه إذا تعلق برجاء من ثواب منفصل ولم يتعلق بإرادة الله ومحبته فإن بين النفسين كما بين متعلقهما
وكذلك قوله أو التفت إلى عطاء يعني أنه يلتفت إلى عطاء من دون الله فيرضى به ولا ينبغي أن يتعلق إلا بالله ولا يلتفت إلا إلى المعطي الغني الحميد وهو الله وحده والله أعلم
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الشوق قال
الله تعالى من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت
قيل هذا تعزية للمشتاقين وتسلية لهم أي انا أعلم أن من كان يرجو لقائي فهو مشتاق إلي فقد أجلت له أجلا يكون عن قريب فإنه آت لا محالة وكل آت قريب

وفيه لطيفة أخرى وهي تعليل المشتاقين برجاء اللقاء
لولا التعلل بالرجاء لقطعت ... نفس المحب صبابة وتشوقا
ولقد يكاد يذوب منه قلبه ... مما يقاسي حسرة وتحرقا
حتى إذا روح الرجاء أصابه ... سكن الحريق إذا تعلل باللقا
وقد كان النبي يقول في دعائه أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك
قال بعضهم كان النبي دائم الشوق إلى لقاء الله لم يسكن شوقه إلى لقائه قط ولكن الشوق مائة جزء تسعة وتسعون له وجزء مقسوم على الأمة فأراد أن يكون ذلك الجزء مضافا إلى ماله من الشوق الذي يختص به والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل والشوق أثر من آثار المحبة وحكم من أحكامها فإنه سفر القلب إلى
المحبوب في كل حال
وقيل هو اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب
وقيل هو احتراق الأحشاء ومنها يتهيج ويتولد ويلهب القلوب ويقطع الأكباد
والمحبة أعلى منه لأن الشوق عنها يتولد وعلى قدرها يقوى ويضعف قال يحيى بن معاذ علامة الشوق فطام الجوارح عن الشهوات
وقال أبو عثمان علامته حب الموت مع الراحة والعافية كحال يوسف لما ألقي في الجب لم يقل توفني ولما أدخل السجن لم يقل توفني ولما تم له الأمر والأمن والنعمة قال توفني مسلما
قال ابن خفيف الشوق ارتياح القلوب بالوجد ومحبة اللقاء بالقرب

وقيل هو لهب ينشأ بين أثناء الحشى يسنح عن الفرقة فإذا وقع اللقاء طفىء
قلت هذه مسألة نزاع بين المحبين وهي أن الشوق هل يزول باللقاء أم لا ولا يختلفون أن المحبة لا تزول باللقاء
فمنهم من قال يزول باللقاء لأن الشوق هو سفر القلب إلى محبوبه فإذا قدم عليه ووصل إليه صار مكان الشوق قرة عينه به وهذه القرة تجامع المحبة ولا تنافيها
قال هؤلاء وإذا كان الغالب على القلب مشاهدة المحبوب لم يطرقه الشوق وقيل لبعضهم هل تشتاق إليه فقال لا إنما الشوق إلى غائب وهو حاضر
وقالت طائفة بل يزيد الشوق بالقرب والوصول ولا يزول لأنه كان قبل الوصول على الخبر والعلم وبعده قد صار على العيان والشهود ولهذا قيل
وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام
قال الجنيد سمعت السري يقول الشوق أجل مقام للعارف إذا تحقق فيه وإذا تحقق في الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه وعلى هذا فأهل الجنة دائما في شوق إلى الله مع قربهم منه ورؤيتهم له
قالوا ومن الدليل على أن الشوق يكون حال اللقاء أعظم أنا نرى المحب يبكي عند لقاء محبوبه وذلك البكاء إنما هو من شدة شوقه إليه ووجده به ولذلك يجد عند لقائه نوعا من الشوق لم يجده في حال غيبته عنه

فصل النزاع في هذه المسألة أن الشوق يراد به حركة القلب واهتياجه
للقاء المحبوب فهذا يزول باللقاء ولكن يعقبه شوق آخر أعظم منه تثيره حلاوة الوصل ومشاهدة جمال المحبوب فهذا يزيد باللقاء والقرب ولا يزول والعبارة عن هذا وجوده والإشارة إليه حصوله

وبعضهم سمى النوع الأول شوقا والثاني اشتياقا
قال القشيري سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يفرق بين الشوق والاشتياق ويقول الشوق يسكن باللقاء والاشتياق لا يزول باللقاء قال وفي معناه أنشدوا
ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته ... حتى يعود إليه الطرف مشتاقا
وقال النصراباذي للخلق كلهم مقام الشوق وليس لهم مقام الاشتياق ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له فيه أثر ولا قرار
قال الدقاق في قول موسى وعجلت إليك رب لترضى قال معناه شوقا إليك فستره بلفظ الرضى
وقيل إن أهل الشوق إلى لقاء الله يتحسون حلاوة القرب عند وروده لما قد كشف لهم من روح الوصول أحلى من الشهد فهم في سكراته في أعظم لذة وحلاوة وقيل من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء كما قال بعضهم أنا أدخل في الشوق والأشياء تشتاق إلي وأتأخر عن جميعها وفي مثل هذا قيل
إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت ... عن الماء فاشتاقت إليها المناهل
وكانت عجوز مغيبة فقدم غائبها من السفر ففرح به أهله وأقاربه وقعدت هي تبكي فقيل لها ما يبكيك فقال ذكرني قدوم هذا الفتى يوم القدوم على الله عز و جل
يامن شكا شوقه من طول فرقته ... اصبر لعلك تلقى من تحب غدا
وقيل خرج داود عليه السلام يوما إلى الصحراء منفردا فأوحى الله تعالى إليه مالي أراك منفردا فقال إلهي استأثر شوقي إلى لقائك على قلبي فحال بيني وبين صحبة الخلق فقال ارجع إليهم فإنك إن أتيتني بعبد آبق أثبتك في اللوح المحفوظ جهبذا

فصل قال صاحب المنازل رحمه الله الشوق هبوب القلب إلى غائب وفي
مذهب هذه الطائفة علة الشوق عظيمة فإن الشوق إنما يكون إلى الغائب ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة ولهذه العلة لم ينطق القرآن باسمه
قلت هو صدر الباب بقوله تعالى من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت فكأنه جعل الرجاء شوقا بلسان الاعتبار لا بلسان التفسير أو أن دلالة الرجاء على الشوق باللزوم لا بالتضمن ولا بالمطابقة
قوله هبوب القلب إلى غائب يعني سفره إليه وهويه إليه
وأما العلة التي ذكرها في الشوق فقد تقدم أن من الناس من جعل الشوق في حال اللقاء أكمل منه في حال المغيب فعلى قول هؤلاء لا علة فيه
وأما من جعله سفر القلب إلى المحبوب في حال غيبته عنه فعلى قوله يجيء كلام المصنف ووجهه مفهوم
وقوله فإن مذهب هذه الطائفة الذي هو الفناء يريد أن الفناء إنما قام على المشاهدة فإن بدايته كما قرره هو المحبة التي في نهاية مقامات المريدين والفناء إنما يكون مع المشاهدة ومع المشاهدة لا عمل للشوق
فيقال هذا باطل من وجوه
أحدها أن المشاهدة لا تزيل الشوق بل تزيده كما تقدم
الثاني أنه لا مشاهدة أكمل من مشاهدة أهل الجنة وهم إلى يوم المزيد وهو يوم الجمعة أشوق شيء كما في الحديث وكذلك هم أشوق شيء إلى رؤية ربهم وسماع كلامه تعالى وهم في الجنة فإن هذا إنما يحصل لهم في حال دون حال كما في حديث ابن عمر المسند وغيره إن أعلى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى وجه ربه كل يوم مرتين

ومعلوم قطعا أن شوق هذا إلى الرؤية قبل حصولها أعظم شوق يقدر وحصول المشاهدة لأهل الجنة أتم منها لأهل الدنيا
الثالث أنه لا سبيل في الدنيا إلى مشاهدة تزيل الشوق البتة ومن ادعى هذا فقد كذب وافترى فإنه لم يحصل هذا لموسى بن عمران كليم الرحمن عز و جل فضلا عمن دونه فما هذه المشاهدة التي مبنى مذهب هذه الطائفة عليها بحيث لا يكون معها شوق أهي كمال المشاهدة عيانا وجهرة سبحانك هذا بهتان عظيم
أم نوع من مشاهدة القلب لمعروفه مع اقترانها بالحجب الكثيرة التي لا يحصيها إلا الله فهل تمنع هذه المشاهدة الشوق إلى كمالها وتمامها وهل الأمر إلا بالعكس في العقل والفطرة والحقيقة لأن من شاهد محبوبه من بعض الوجوه كان شوقه إلى كمال مشاهدته أشد وأعظم وتكون تلك المشاهدة الجزئية سببا لاشتياقه إلى كمالها وتمامها فأين العلة في الشوق وأين المشاهدة المانعة من الشوق
وهذا بحمد الله ظاهر ومن نازع فيه كان مكابرا والله أعلم

فصل قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى شوق العابد إلى الجنة
ليأمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل
يعني شوق العابد إلى الجنة فيه هذه الحكم الثلاث
أحدها حصول الأمن الباعث على الأمل فإن الخوف المجرد عن الأمن من كل وجه لا ينبعث صاحبه لعمل البتة إن لم يقارنه أمل فإن تجرد عنه قطع وصار قنوطا
الثاني فرح الحزين فإن الحزن المجرد أيضا إن لم يقترن به الفرح قتل

صاحبه فلولا روح الفرح لتعطلت قوى الحزين وقعد حزنه به ولكن إذا قعد به الحزن قام به روح الفرح
الثالث روح الظفر فإن الآمل إن لم يصحبه روح الظفر مات أمله والله أعلم
فصل قال الدرجة الثانية شوق إلى الله عز و جل زرعه الحب الذي ينبت
على حافات المنن فعلق قلبه بصفاته المقدسة فاشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وأعلام فضله وهذا شوق تغشاه المبار وتخالجه المسار ويقاومه الاصطبار
الشوق إلى الله لا ينافي الشوق إلى الجنة فإن أطيب ما في الجنة قربه تعالى ورؤيته وسماع كلامه ورضاه نعم الشوق إلى مجرد الأكل والشرب والحور العين في الجنة ناقص جدا بالنسبة إلى شوق المحبين إلى الله تعالى بل لا نسبة له إليه البتة وهذا الشوق درجتان
إحداهما شوق زرعه الحب الذي سببه الإحسان والمنة وهو الذي قال فيه ينبت على حافات المنن فسببه مطالعة منة الله وإحسانه ونعمه
وقد تقدم بيان ذلك في منزلة المحبة وتبين أن محبة الأسماء والصفات أكمل وأقوى من محبة الإحسان والآلاء
وفي قوله تنبت على حافات المنن أي جوانبه إشارة إلى عدم تمكنها وقوتها وأنها من نبات الحافات التي هي جوانب المنن لا من نبات الأسماء والصفات
وقوله فعلق قلبه بصفاته المقدسة يعني الصفات المختصة بالمنن والإحسان كالبر والمنان والمحسن والجواد والمعطي والغفور ونحوها

وقوله المقدسة يعني المطهرة المنزهة عن تأويل المحرفين وتشبيه الممثلين وتعطل المعطلين وإنما قلنا إن مراده هذه الصفات الخاصة لوجهين
أحدهما أن تعلق القلب بالصفات العامة إنما يكون في الدرجة الثالثة
الثاني أنه جعل ثمرة هذا التعلق شوق العبد إلى معاينة لطائف كرم الرب ومننه وإحسانه وآيات بره وهي علامات بره بالعبد وإحسانه إليه وكذلك أعلام فضله وهو ما يفضل عليه به ويفضله به على غيره
قوله وهذا شوق تغشاه المبار يعني أنه شوق معلول ليس خالصا لذات المحبوب بل لما ينال منه من المبار فقد غشيته أي أدركته المبار
قوله وتخالجه المسار أي تجاذبه فإن المخالجة هي المجاذبة فإذا خالط هذا الشوق الفرح كان ممزوجا بنوع من الحظ
وقوله ويقاومه الاصطبار أي أن صاحبه يقوى على الصبر فيقاوم صبره شوقه ولا يغلبه بخلاف الشوق في الدرجة الثالثة

فصل قال الدرجة الثالثة نار أضرمها صفو المحبة فنغصت العيش وسلبت
السلوة ولم ينهنهها معزى دون اللقاء
يريد أن الشوق في هذه المرتبة شبيه بالنار التي أضرمها صفو المحبة وهو خالصها وشبهه بالنار لالتهابه في الأحشاء
وفي قوله صفو المحبة إشارة إلى أنها محبة لم تكن لأجل المنة والنعم ولكن محبة متعلقة بالذات والصفات
قوله فنغصت العيش أي منعت صاحبها السكون إلى لذيذ العيش والتنغيص قريب من التكدير
قوله وسلبت السلوة أي نهبت السلو وأخذته قهرا

والسلوة هي الخلاص من كرب المحبة وإلقاء حملها عن الظهر والإعراض عن المحبوب تناسيا
وقوله لم ينهنهها معزى دون اللقاء أي لم يكفها ويردها قرار دون لقاء المحبوب وهذه لا يقاومها الاصطبار لأنه لا يكفها دون لقاء من يحب قرار

فصل وقد يقوى هذا الشوق ويتجرد عن الصبر فيسمى قلقا وبذلك سماه
صاحب المنازل واستشهد عليه بقوله تعالى حاكيا عن كليمه موسى عليه السلام وعجلت إليك ربي لترضى فكأنه فهم أن عجلته إنما حمله عليها القلق وهو تجريد الشوق للقائه وميعاده
وظاهر الآية أن الحامل لموسى على العجلة هو طلب رضى ربه وأن رضاه في المبادرة إلى أوامره والعجلة إليها ولهذا احتج السلف بهذه الآية على أن الصلاة في أول الوقت أفضل سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر ذلك قال إن رضى الرب في العجلة إلى أوامره
ثم حده صاحب المنازل بأنه تجريد الشوق بإسقاط الصبر أي تخلصه من كل شائبة بحيث يسقط معه الصبر فإن قارنه اصطبار فهو شوق
ثم قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى قلق يضيق الخلق ويبغض الخلق ويلذذ الموت
يعني يضيق خلق صاحبه عن احتمال الأغيار فلا يبقى فيه اتساع لحملهم فضلا عن تقييدهم له وتعوقه بأنفاسهم
ويبغض الخلق يعني لا شيء أبغض إلى صاحبه من اجتماعه بالخلق لما في ذلك من التنافر بين حاله وبين خلطتهم
وحدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال كان في بداية أمره يخرج أحيانا إلى الصحراء يخلو عن الناس لقوة ما يرد عليه فتبعته يوما

فلما أصحر تنفس الصعداء ثم جعل يتمثل بقول الشاعر وهو لمجنون ليلى من قصيدته الطويلة
وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وصاحب هذه الحال إن لم يرده الله سبحانه إلى الخلق بتثبيت وقوة وإلا فإنه لا صبر له على مخالطتهم
قوله ويلذذ الموت فإن صاحبه يرجو فيه لقاء محبوبه فإذا ذكر الموت التذ به كما يلتذ المسافر بتذكر قدومه على أهله وأحبابه

فصل قال الدرجة الثانية قلق يغالب العقل ويخلي السمع ويطاول الطاقة
أي يكاد يقهر العقل ويغلبه فهو والعقل تارة وتارة ولكن لما لم يصل إلى درجة الشهود لم يصطلمه فإن العقل لا يصطلمه إلا الشهود ولذلك قال يغالب ولم يقل يغلب
وأما إخلاؤه السمع فهو يتضمن إخاءه من شيء وإخلاءه لشيء فيخليه من استماعه ذكر الغير ويخليه لاستماعه أوصاف المحبوب وذكره وحديثه وقد يقوى إلى أن يبعد بين قلب صاحبه وبين إدراك الحواس لانقهار الحس لسلطان القلق
قوله ويطاول الطاقة يعني يصابرها ويقاومها فلا تقدر طاقة الاصطبار على دفعه ورده والله أعلم
فصل قال الدرجة الثالثة قلق لا يرحم أبدا ولا يقبل أمدا ولا يبقى
أحدا
يريد أن هذا القلق له القهر والغلبة لأنه ربما كان عن شهود فإذا علق بالقلب لم يبق عليه حتى يلقيه في فناء الشهود

ولا يقبل أمدا أي لا يقبل حدا ومقدارا يقف عنده وينقضي به كما ينقضي ذو الأمد فإنه حاكم غير محكوم عليه مالك للقلب غير مملوك له
ولا يبقى أحدا أي يلقى صاحبه في الشهود الذي تفنى فيه الرسوم وتضمحل فلا يبقى معه على أحد رسمه حتى يفنيه والله أعلم

فصل ثم يقوى هذا القلق ويتزايد حتى يورث القلب حالة شبيهة بشدة ظمأ
الصادي الحران إلى الماء وهذه الحالة هي التي يسميها صاحب المنازل العطش واستشهد عليه بقوله تعالى عن الخليل فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي كأنه أخذ من إشارة الآية أنه لشدة عطشه إلى لقاء محبوبه لما رأى الكوكب قال هذا ربي فإن العطشان إذا رأى السراب ذكر به الماء فاشتد عطشه إليه
وهذا ليس معنى الآية قطعا وإنما القوم مولعون بالإشارات وإلا فالآية قد قيل إنها على تقدير الاستفهام أي أهذا ربي وليس بشيء
وقيل إنها على وجه إقامة الحجة على قومه فتصور بصورة الموافق ليكون أدعى إلى القبول ثم توسل بصورة الموافقة إلى إعلامهم بأنه لا يجوز أن يكون المعبود ناقصا آفلا فإن المعبود الحق لا يجوز أن يغيب عن عابديه وخلقه ويأفل عنهم فإن ذلك مناف لربوبيته لهم أو أنه انتقل من مراتب الاستدلال على المعبود حتى أوصله الدليل إلى الذي فطر السماوات والأرض فوجه إليه وجهه حنيفا موحدا مقبلا عليه معرضا عما سواه والله سبحانه أعلم

فصل قال العطش كناية عن غلبة ولوع بمأمول الولوع بالشيء هو
التعلق به بصفة المحبة مع أمل الوصول إليه
وقيل في حد الولوع إنه كثرة ترداد القلب إلى الشيء المحبوب كما يقال فلان مولع بكذا وقد أولع به
وقيل هو لزوم القلب للشيء فكأنه مثل أغرى به فهو مغرى
قال وهو على ثلاث درجات الأولى عطش المريد إلى شاهد يرويه أو إشارة تشفيه أو عطفة تؤويه
ولما كان المريد من أهل طلب الشواهد على الاعتبار ومثير العزمات وتعلق العباد بالأعمال
وقوله شاهد يرويه يحتمل أنه من الرواية أي يرويه عمن أقامه له فيكون ذلك إشارة إلى شواهد العلم فهو شديد العطش إلى شواهد يرويها عن الصادقين من أهل السلوك يزداد بها تثبيتا وقوة بصيرة فإن المريد إذا تجددت له حالة أو حصل له وارد استوحش من تفرده بها فإذا قام عنده بمثلها شاهد حال لمريد آخر صادق قد سبقه إليها استأنس بها أعظم استئناس واستدل بشاهد ذلك المريد على صحة شاهده فلذلك يشتد عطشه إلى شاهد يرويه عن الصادقين
ويحتمل أنه من الري فيكون مضموم الياء يعني إذا حصل له الري بذلك الشاهد ونزل على قلبه منزلة الماء البارد من الظمآن فقرر عنده صحته وأنه شاهد حق
ويرجح هذا ذكر الري مع العطش ويرجح الأول ذكره لفظة الري في قوله أو عطفة ترويه والأمر قريب

قوله أو إشارة تشفيه أي تشفي قلبه من علة عارضة فإذا وردت عليه الإشارة إما من صادق مثله أو من عالم أو من شيخ مسلك أو من آية فهمها أو عبرة ظفر بها اشتفى بها قلبه وهذا معلوم عند من له ذوق
قوله أو إلى عطفة ترويه أي عطفة من جانب محبوبه عليه تروي لهيب عطشه وتبرده ولا شيء أروى لقلب المحب من عطف محبوبه عليه ولا شيء أشد للهيبه وحريقه من إعراض محبوبه عنه ولهذا كان عذاب أهل النار باحتجاب ربهم عنهم أشد عليهم مما هم فيه من العذاب الجسماني كما أن نعيم أهل الجنة برؤيته تعالى وسماع خطابه ورضاه وإقباله أعظم من نعيمهم الجسماني

فصل قال الدرجة الثانية عطش السالك إلى أجل يطويه ويوم يريه ما
يغنيه ومنزل يستريح فيه
إما أن يريد بالأجل الذي يطويه انقضاء مدة سجن القلب والروح في البدن حتى تصل إلى ربها وتلقاه وهذا هو الظاهر من كلامه
وأما أن يريد به عطشه إلى مقصود السلوك من وصوله إلى محبوبه وقرة عينه وجمعيته عليه فهو يطوي مراحل سيره حثيثا ليصل إلى هذا المقصود وحينئذ يعود إليه سير آخر وراء هذا السير مع عدم مفارقته له فإنه إنما وصل به إليه فلو فارقه لانقطع انقطاعا كليا ولكن يبقى له سير وهو مستلق على ظهره يسبق به السعاة
ويرجح هذا المعنى الثاني أن المريد الصادق لا يحب الخروج من الدنيا حتى يقضى نحبه لعلمه أنه لا سبيل إلى انقضائه في غير هذه الدار فإذا علم أنه قد

قضى نحبه أحب حينئذ الخروج منها ولكن لا يقضي نحبه حتى يوفى ما عليه
والناس ثلاثة موف قد قضى نحبه ومنتظر للوفاء ساع فيه حريص عليه ومفرط في وفاء ما عليه من الحقوق والله المستعان
قوله ويوم يريه ما يغنيه أي يوم يرى فيه ما يغني قلبه ويسد فاقته من قرة عينه بمطلوبه ومراده
قوله ومنزل يستريح فيه أي منزل من منازل السير ومقام من مقامات الصادقين يستريح فيه قلبه ويسكن فيه ويخلص من تلون الأحوال عليه فإن المقامات منازل والأحوال مراحل فصاحب الحال شديد العطش إلى مقام يستقر فيه وينزله

فصل قال الدرجة الثالثة عطش المحب إلى جلوة ما دونها سحاب علة ولا
يغطيها حجاب تفرقة ولا يعرج دونها على انتظار
عطش المحب فوق عطش المريد والسالك وإن كان كل محب سالكا وكل مريد سالكا وكل سالك ومريد محب لكن خص المحب بهذا الاسم لتمكنه من المحبة ورسوخ قلبه فيها والمريد والسالك يشمران إلى علمه الذي رفع له ووصل إليه ولذلك جعل الأولى لأهل البدايات والثانية للمتوسطين والثالثة لأهل النهايات
وقوله عطش المحب إلى جلوة ما دونها سحاب
يريد بالجلوة استجلاء القلب لصفات المحبوب ومحاسنه وانكشافها له

وقوله ما دونها سحاب أي لا يسترها شيء من سحب النفس وهي سحب العلل التي هي بقايا في العبد تحول بينه وبين استجلائه صفات محبوبه وتعوقه عنه فمهما بقي في العبد بقية من نفسه فهي سحاب وغيم ساتر على قدره فكثيف ورقيق وبين بين
قوله ولا يغطيها حجاب الحجاب في لسان الطائفة النفس وصفاتها وأحكامها وهم مجمعون على أن النفس من أعظم الحجب بل هي الحجاب الأكبر فإن حجاب الرب سبحانه عن ذاته هو النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وحجابه من عبده هو نفسه وظلمته فلو كشف عنه هذا الحجاب لوصل إلى ربه والوصول عند القوم عبارة عن ارتفاع هذا الحجاب وزواله فالحجاب الذي يشتد على المحب ويشتد عطشه إلى زواله هو حجاب الظلمة والنفس وهو الحجاب الذي بينه وبين الله
وأما الحجاب الذي بين الله وبين خلقه وهو حجاب النور فلا سبيل إلى كشفه في هذا العالم البتة ولا يطمع في ذلك بشر ولم يكلم الله بشرا إلا من وراء حجاب وهذا الحجاب كاشف للعبد موصل له إلى مقام الإحسان الذي يعبر عنه القوم بمقام المشاهدة والأول ساتر للعبد قاطع له حائل بينه وبين الإحسان وحقيقة الإيمان
والتفرقة كلها عندهم حجب إلا تفرقة في الله وبالله ولله فإنها لا تحجب العبد عنه بل توصله إليه فلذلك قال ولا يغطيها حجاب تفرقة فإن التفرقة إنما تكون حجابا إذا كانت بالنفس ولها
قوله ولا يعرج دونها على انتظار يعني لا يعرج المشاهد لم يشاهده على

انتظار أمر آخر وراءها كما يعرج المحب المحجوب على انتظار زوال حجابه والمراد أنه حصل له مشهد تام لا يبقى له بعده ما ينتظره
وهذا عندي وهم بين فإنه لا غاية لجمال المحبوب وكمال صفاته بحيث يصل المشاهد لها إلى حالة لا ينتظر معها شيئا آخر
هذا وسنبين إن شاء الله تعالى أنه لا يصح لأحد في الدنيا مقام المشاهدة أبدا وأن هذا من أوهام القوم وترهاتهم وإنما غاية ما يصل إليه العبد الشواهد ولا سبيل لأحد قط في الدنيا إلى مشاهدة الحق سبحانه وإنما وصوله إلى شواهد الحق ومن زعم غير هذا فلغلبة الوهم عليه وحسن ظنه بترهات القوم وخيالاتهم
ولله در الشبلي حيث سئل عن المشاهدة فقال من أين لنا مشاهدةالحق لنا شاهد الحق هذا وهو صاحب الشطحات المعروفة وهذا من أحسن كلامه وأبينه 3وأراد بشاهد الحق ما يغلب على القلوب الصادقة العارفة الصافية من ذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه وتوقيره بحيث يكون ذلك حاضرا فيها مشهودا لها غير غائب عنها ومن أشار إلى غير ذلك فمغرور مخدوع وغايته أن يكون في خفارة صدقة وضعف تمييزه وعلمه
ولا ريب أن القلوب تشاهد أنوارا بحسب استعدادها تقوى تارة وتضعف أخرى ولكن تلك أنوار الأعمال وإلإيمان والمعارف وصفاء البواطن والأسرار لا أنها أنوار الذات المقدسة فإن الجبل لم يثبت لليسير من ذلك النور حتى تدكدك وخر الكليم صعقا مع عدم تجليه له فما الظن بغيره
فإياك ثم إياك وترهات القوم وخيالاتهم وأوهامهم فإنها عند العارفين أعظم من حجاب النفس وأحكامها فإن المحجوب بنفسه معترف بأنه في ذلك الحجاب

وصاحب هذه الخيالات والأوهام يرى أن الحقيقة قد تجلت له أنوارها ولم يحصل ذلك لموسى بن عمران كليم الرحمن فحجاب هؤلاء أغلظ بلا شك من حجاب اولئك ولا يقر لنا بهذا إلا عارف قد أشرق في باطنه نور السنة المحمدية فرأى ما الناس فيه وما أعز ذلك في الدنيا وما أغر به بين الخلق وبالله المستعان
فالصادقون في أنوار معارفهم وعباداتهم وأحوالهم ليس إلا وأنوار ذات الرب تبارك وتعالى وراء ذلك كله وهذا الموضع من مقاطع الطريق ولله كم زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وحارت فيه أوهام ونجا منه صادق البصيرة تام المعرفةعلمه متصل بمشكاة النبوة وبالله التوفيق

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الوجد ثبت
في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي أنه قال ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار / ح /
وقد استشهد صاحب المنازل بقوله تعالى في أهل الكهف وربطنا على قلوبهم إذا قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا وهذا من أحسن الاستدلال والاستشهاد فإن هؤلاء كانوا بين قومهم الكفار في خدمة ملكهم الكافر فما هو إلا أن وجدوا حقيقة الإيمان والتوفيق وذاقوا حلاوته وباشر قلوبهم فقاموا من بين قومهم وقالوا ربنا رب السموات والأرض الآية
والربط على قلوبهم يتضمن الشد عليها بالصبر والتثبيت وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش وفروا بدينهم إلى الكهف

والربط على القلب عكس الخذلان فالخذلان حله من رباط التوفيق فيغفل عن ذكر ربه ويتبع هواه ويصير أمره فرطا
والربط على القلب شده برباط التوفيق فيتصل بذكر ربه ويتبع مرضاته ويجتمع عليه شمله فلهذا استشهد عليه بهذه الآية في مقام الوجد
والشيخ جعل مقام الوجد غير مقام الوجود كما سيأتي إن شاء الله تعالى فإن الوجود عند القوم هو الظفر بحقيقة الشيء والوجد هو ما يصادف القلب ويرد عليه من واردات المحبة والشوق والإجلال والتعظيم وتوابع ذلك والمواجيد عندهم فوق الوجد فإن الوجد مصادفة والمواجيد ثمرات الأوراد وكلما كثرت الأوراد قويت المواجيد
والوجود عندهم فوق ذلك وهو الظفر بحقيقة المطلوب ولا يكون إلا بعد خمود البشرية وانسلاخ أحكام النفس انسلاخا كليا
قال الجنيد علم التوحيد مباين لوجوده ووجوده مباين لعلمه
ولا يريد بالمباينة المخالفة والمناقضة فإنه يطابقه مطابقة العلم للمعلوم 3وإنما يريد بالمباينة أن حال الموحد وذوقه للتوحيد وانصباغ قلبه بحاله أمر وراء علمه به ومعرفته به والمباينة بينهما كالمباينة بين علم الشوق والتوكل والخوف ونحوها وبين حقائقها ومواجيدها
فالمراتب أربعة أضعفها التواجد وهو نوع تكلف وتعمل واستدعاء واختلفوا فيه هل يسلم لصاحبه أم لا على قولين فطائفه قالت لا يسلم لصاحبه وينكر عليه لما فيه من التكلف والتصنع المباين لطريق الصادقين وبناء هذا الأمر على الصدق المحض

وطائفة قالت يسلم لصاحبه إذا كان قصده استدعاء الحقيقة لا التشبه بأهلها واحتجوا بقول عمر رضي الله عنه وقد رأى رسول الله وأبا بكر يبكيان في شأن اسارى بدر وما قبلوا منهم من الفداء أخبراني ما يبكيكما فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت ورووا أثرا أبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا
قالوا والتكلف والتعمل في أوائل السير والسلوك لا بد منه إذ لا يطالب صاحبه بما يطالب به صاحب الحال ومن تأمله بنية حصول الحقيقة لمن رصد الوجد لا يذم والتواجد يكون بما يتكلفه العبد من حركات ظاهرة والمواجيد لمن يتأوله من أحكام باطنة
المرتبة الثانية المواجيد وهي نتائج الأوراد وثمراتها
المرتبة الثالثة الوجد وهو ثمرة أعمال القلوب من الحب في الله والبغض فيه كما جعله النبي ثمرة كون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما وثمرة الحب فيه وكراهة عوده في الكفر كما يكره أن يقذف في النار فهذا الوجد ثمرة هذه الأعمال القلبية التي هي الحب في الله والبغض في الله
المرتبة الرابعة الوجود وهي أعلى ذروة مقام الإحسان فمن مقام الإحسان يرقى إليه فإنه إذا غلب على قلبه مشاهدة معبوده حتى كأنه يراه وتمكن في ذلك صار له ملكة أخمدت أحكام نفسه وتبدل بها أحكاما أخر وطبيعة ثانية حتى كأنه أنشىء نشأة أخرى غير نشأته الأولى وولد ولادا جديدا
ومما يذكر عن المسيح عليه السلام أنه قال يا بني إسرائيل لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر ذلك ويفسره بأن الولادة نوعان أحدهما هذه المعروفة والثانية ولادة القلب والروح وخروجهما من مشيمة النفس وظلمة الطبع

قال وهذه الولادة لما كانت بسبب الرسول كان كالأب للمؤمنين وقد قرأ أبي بن كعب رضي الله عنه النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم
قال ومعنى هذه الآية والقراءة في قوله تعالى وأزواجه أمهاتهم إذ ثبوت أمومة أزواجه لهم فرع عن ثبوت أبوته
قال فالشيخ والمعلم والمؤدب أب الروح والوالد أب الجسم
ويقال في الحب وجد في الغضب موجدة وفي الظفر وجدان ووجود

فصل قال صاحب المنازل الوجد لهب يتأجج من شهود عارض القلق
لما كان الوجود أعلى من الوجد جعل سبب الوجد شهودا عارضا وجعل الوجود نفس الظفر بالشيء كما سيأتي وإنما أوجب اللهب لأن صاحبه لما شهد محبوبه أورثه ذلك لهيب القلب إليه ولما لم يظفر به أورثه القلق فلذلك جعله لهيبا مقلقا
قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى وجد عارض يستفيق له شاهد السمع أو شاهد البصر أو شاهد الفكر أبقى على صاحبه أثرا أو لم يبق
قوله وجد عارض أي متجدد ليس بلازم يستفيق له شاهد السمع أي ينتبه السمع من سنته لوروده عليه وهذا إذا كان المنبه له خطابا من خارج أو من نفسه وأما إفاقة شاهد البصر فلما يراه ويعاينه من آيات الله فينتقل منها إلى ما نصبت آية له وعليه وأما إفاقة شاهد الفكر ففيما يفتح له من المعاني التي أوقعه عليها فكره وتأمله
وهذه الشواهد الثلاثة التي دعا الله سبحانه عباده إلى تبينها والاستشهاد بها وقبول الحق الذي تشهد به وترتيب حكم هذه الشهادة عليها من التوحيد والإقرار

والإيمان قال الله تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال أفلم يدبروا القول وقال أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أفقاطها وقال انظروا ماذا في خلق السماوات والأرض وقال أفلم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وقال وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون والقرآن مملوء من هذا
فإذا استفاق شاهد السمع والبصر والفكر ووجد القلب حلاوة المعروفة والإيمان خرج من جملة النيام الغافلين
قوله أبقى على صاحبه أثرا أو لم يبق يعني أن ذلك الوجد العارض قد يبقى على واجده أثرا من أحكامه بعد مفارقته وقد لا يبقي والظاهر أنه لا بد أن يبقي أثرا لكن قد يخفى وينغمر بما يعقبه بعده ويخلفه من أضداده

فصل قال الدرجة الثانية وجد تستفيق له الروح بلمع نور أزلي أو سماع
نداء أولى أو جذب حقيقي إن أبقى على صاحبه لباسه وإلا أبقى عليه نوره
إنما كان هذا الوجد أعلى من الوجد الأول لأن محل اليقظة فيه هو الروح ومحلها في الأول السمع والبصر والفكر والروح هي الحاملة للسمع والبصر والفكر وهذه الأوصاف من صفاتها
وأيضا فلعلو وجد الروح سبب آخر وهو علو متعلقه فإن متعلق وجد السمع والبصير والفكر الآيات والبصائر ومتعلق وجد الروح تعلقها بالمحبوب لذاته ولذلك جعل سببه لمع نور أزلي يعني شهودها لمع نور الحقيقة الأزلي وهذا الشهود لا حظ فيه للسمع ولا للبصر ولا للفكر بل تستنير به الأسماع والأبصار لأن الروح لما استنارت بهذه اليقظة والإفاقة ثم استنارت بنورها الأسماع

والأبصار لا سيما وصاحبها في هذه الحال إنما يسمع بالله ويبصر به وإذا كان سمعه وبصره وبطشه بالله فما الظن بحركة روحه وقلبه وأحكامها
وقوله أو سماع نداء أولى إن أراد به تعرف الحق تعالى إلى عباده بواسطة الخطاب على ألسنة رسله وهذا هو الخطاب الأزلي فصحيح وإن أراد به خطاب الملك له فليس بخطاب أزلي وإن أراد ما سمعه في نفسه من الخطاب فهو خطاب وهمي وإن ظنه أزليا فإياك والأوهام والغرور
ونحن لا ننكر الوجود ولا ندفع الشهود وإنما نتكلم مع القوم في رتبته وإنشائه ومن أين بدأ وإلى أين يعود فلا ننكر واعظ الله في قلب عبده المؤمن الذي يأمره وينهاه ولكن ذلك في قلب كل مؤمن جعله الله واعظا له يأمره وينهاه ويناديه ويحذره ويبشره وينذره وهو الداعي الذي يدعو فوق الصراط والداعي على رأس الصراط كتاب الله كما في المسند والترمذي من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي قال ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوق الصراط فالصراط المستقيم الإسلام والأبواب المفتحة محارم الله فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن / ح /
فما ثم خطاب قط إلا من جهة من هاتين إما خطاب القرآن وإما خطاب هذا الواعظ
ولكن لما كانت الروح قد تتجرد ويقوى تعلقها بالحق تعالى بل قد تتلاشى بما سواه وقد يقترن بذلك نوع غيبة من حسه ويقوى داعي هذا الواعظ ويستولي على قلبه وروحه بحيث يمتلىء به فتؤديه الروح إلى الأذن فيخرج عن الأذن إليها إذ هي مبدؤه وإليها يعود فيظنه خطابا خارجا

وينضاف إلى ذلك نوع من ضعف العلم ومعرفة المراتب فينشأ الغلط والوهم
قوله أو جذب حقيقي يعني أن من أسباب هذا الوجد جذبة حقيقية من جذبات الرب تعالى لعبده استفاقت لها روحه من منامها وحييت بها بعد مماتها واستنارت بها بعد ظلماتها فالوجد خلعة هذه الجذبة
قوله إن أبقى على صاحبه لباسه وإلا أبقى عليه نوره
يريد بلباسه مقامه يعني إن أبقى عليه تحقق مقامه فيه وإلا أبقى عليه أثره فمقامه يورثه عزا ومهابة وخلافة نبوة ومنشور صديقيه وأثره يورثه حلاوة وسكينة وأنسا في نفسه وأنسا للقلوب به وهوى الأفئدة إليه

فصل قال الدرجة الثالثة وجد يخطف العبد من يد الكونين ويمحص معناه
من درن الحظ ويسلبه من رق الماء والطين إن سلبه أنساه اسمه وإن لم يسلبه أعاره رسمه
فقوله يخطف العبد من يد الكونين أي يغنيه عن شهود ما سوى الله من كوني الدنيا والآخرة فيختطف القلب من شهود هذا وهذا بشهود المكون
قوله ويمحص معناه من درن الحظ أي يخلص عبوديته التي هي حقيقته وسره من وسخ حظوظ نفسه وإراداتها المزاحمة لمراد ربه منه فإن تحقيق العبودية التي هي معنى العبد لا يكون إلا بفقد النفس الحاملة للحظوظ فمتى فقدت حظوظها تمحصت عبوديتها وكلما مات منها حظ حيي منها عبودية ومعنى وكلما حيى فيها حظ ماتت عبودية حتى يعود الأمر على نفسين وروحين وقلبين قلب حي وروح حية بموت نفسه وحظوظها وقلب ميت وروح

ميتة بحياة نفسه وحظوظه وبين ذلك مراتب متفاوتة في الصحة والمرض وبين بين لا يحصيها إلا الله عز و جل
قوله ويسلبه من رق الماء والطين أي يعتقه ويحرره من رق الطبيعة والجسم المركب من الماء والطين إلى رق رب العالمين فخادم الجسم الشقي بخدمته عبدالماء والطين كما قيل
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
والناس في هذا المقام ثلاثة عبد محض وحر محض ومكاتب قد أدى بعض كتابته وهو يسعى في بقية الأداء
فالعبد المحض عبد الماء والطين الذي قد استعبدته نفسه وشهوته وملكته وقهرته فانقاد لها انقياد العبد إلى سيده الحاكم عليه
والحر المحض هو الذي قهر شهوته ونفسه وملكها فانقادت معه وذلت له ودخلت تحت رقه وحكمه
والمكاتب من قد عقد له سبب الحرية وهو يسعى في كمالها فهو عبد ومن وجه حر من وجه وبالبقية التي بقيت عليه من الأداء يكون عبدا ما بقي عليه درهم فهو عبد ما بقي عليه حظ من حظوظ نفسه
فالحر من تخلص من رق الماء والطين وفاز بعبودية رب العالمين فاجتمعت له العبودية والحرية فعبوديته من كمال حريته وحريته من كمال عبوديته
قوله إن سلبه أنساه اسمه وإن لم يسلبه أعاره رسمه أي هذا الوجد إن سلب صاحبه بالكلية فأفناه عنه وأخذه منه أنساه اسمه لأن الاسم تبع للحقيقة فإذا سلب الحقيقة نسي اسمها وإن لم يسلبه بالكلية بل أبقى منه رسما فهو معار عنده بصدد الاسترجاع فإن العواري يوشك أن تسترد ويشير بالأول إلى حالة الفناء الكامل وبالثاني إلى حالة الغيبة التي يؤوب منها غائبها والله أعلم

فصل وقد تعرض للسالك دهشة في حال سلوكه شبيهة بالبهتة التي تحصل
للعبد عند مفاجأة رؤية محبوبه وليست من منازل السلوك خلافا لأبي إسماعيل الأنصاري حيث جعلها من المنازل بل من غارياتها فإن هذه الحالة ليست مذكورة في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السالكين ولا عدها أحد من المتقدمين من المنازل والمقامات ولهذا لم يجد ما يستشهد به عليها سوى حال النسوة مع يوسف عليه السلام لما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن
فصدر الباب بقوله تعالى فلما رأينه أكبرنه أي أعظمنه
فإن كان مقصوده ما حصل لهن من إعظامه وإجلاله فذلك منزلة التعظيم وإن كان مراده ما ترتب على رؤيته لهن من غيبتهن عن أنفسهن وعن أيديهن وما فيها حتى قطعنها فتلك منزلة الفناء
وإن كان مقصوده من الدهشة والبهتة التي حصلت لهن عند مفاجأته وهو الذي قصده فذلك أمر عارض من عوارض الطريق عند مفاجأة ما يغلب على صبر الإنسان وعقله ولا ريب أن ذلك عارض من عوارض الطريق ليس بمقام للسالكين ولا منزل مطلوب لهم فعوارض الطريق شيء ومنازلها ومقاماتها شيء
فلهذا قال في تعريفه الدهش بهتة تأخذ العبد عند مفاجأة ما يغلب على عقله أو صبره أو علمه
يشير إلى الشهود الذي يغلب على عقله والحب الذي يغلب على صبره والحال التي تغلب على علمه
قال وهو على ثلاث درجات الأولى دهشة المريد عند صولة الحال على علمه والوجد على طاقته والكشف على همته
يعني أن علمه يقتضي شيئا وحاله يصول عليه بخلافه فهذا غايته أن يكون معذورا إن لم يكن مفرطا فإن الحال لا يصول على العلم إلا وأحدهما فاسد

إما الصائل أو المصول عليه فإذا اقتضى العلم سكونا فصال عليه الحال بحركته فهي حركة فاسدة غاية صاحبها أن يكون معذورا لا مشكورا وإذا اقتضى العلم حركة فصال الحال عليه بسكونه فهو سكون فاسد
مثال الأول اقتضاء العلم للسكون والخشوع عند وارد السماع القرآني وصولة الحال عليه حتى يزعق ويشق ثيابه أو يلقي نفسه لورود ما يدهشه من معاني المسموع على قلبه فيصول حاله على عمله حتى لو كان في صلاة فرض لأبطلها وقطعها
ومثال الثاني اقضاء العلم حركة مفرقة في رضى المحبوب فيصول الحال عليها بسكونه وجمعيته حتى يقهرها وهذه من مقاطع القوم وآفاتهم وما نجا منها إلا أهل البصائر منهم العاملون على تجريد العبودية وكثرة صور هذا مغنية عن كثرة الأمثلة فإن أكثرهم يقدم حال الجمعية على ملابسة الأغيار والأعداء في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويصول حال الجمعية عنده على الحركة التي يأمر بها العلم كما صالت حركةالأول على السكون الذي يأمر به العلم
قوله والوجد على الطاقة يعني أن وجد المحب ربما غلب صبره وصال على طاقته فصرخ إلى محبوبه واستغاث به حتى يأتي النصر من عنده بل صراخه به واستغاثته به عين نصره إياه حيث حفظ عليه وجده ولم يرده فيه إلى صبر يسلو به ويجفو فيكون ذلك نوع طرد
قوله والكشف على همته يعني أن الهمة تستدعي صدق الطلب ودوامه والكشف هو الشهود وهو في مظنة فسخ الهمة وإبطال حكمها لأنها تقتضي الطلب وهو يقتضي الفتور لأن الطلب للغائب عن المطلوب فهمته متعلقة بتحصيله وصاحب الكشف في حضور مع مطلوبه فكشفه صائل على همته كما قال بعضهم إذا برقت بارقة من بوارق الحقيقة لم يبق معها حال ولا همة 3وهذا أيضا عارض مطلوب الزوال والبقاء معه انقطاع كلي فإن السالك في همة ما دامت روحه في جسده فإذا فارقته الهمة انقطع واستحسر

فصل قال في الدرجة الثانية دهشة السالك عند صولة الجمع على رسمه
والسبق على وقته والمشاهدة على روحه
الجمع عند القوم ما أسقط التفرقة وقطع الإشارة وباين الكائنات ورسم العبد عندهم هو صورته الظاهرة والباطنة فشهود الجمع يقتضي أن يستولي على فناء تلك الرسوم فيه فللجمع صولة على رسم السالك يغشاه عندهم بهتة هي الدهشةالمشار إليها
وأما صولة السبق على وقته فالسبق هو الأزل وهو سابق على وقت السالك وإنما بالاتصال الأزل على وقته لأن وقته حادث فان فهو يرى فناءه في بقاء الأزل وسبقه فيغلبه شهود السبق ويقهره على شهود وقته فلا يتسع له
وأما صولة المشاهدة على روحه فلما كانت المشاهدة تعلق إدراك الروح بشهود الحق تعالى فهي شهود الحق بالحق كما قال تعالى في الحديث القدسي فبي يسمع وبي يبصر اقتضى هذا الشهود صولة على الروح فحيث صار الحكم له دونها انطوى حكم الشاهد في شهوده وقد عرفت ما في ذلك فيما تقدم
قال الدرجة الثالثة دهشة المحب عند صولة الاتصال على لطف العطية وصولة نور القرب على نور العطف وصولة شوق العيان على شوق الخبر
الاتصال عنده على ثلاثة مراتب اتصال الاعتصام واتصال الشهود واتصال الوجود كما سيأتي الكللام عليه إن شاء الله وبيان ما فيه من حق وباطل يجل عنه جناب الحق تعالى
والعطية ههنا هي الواردات التي ترد في لطف وخفاء على قلب العبد من قبل الحق تعالى وهي ألطاف يعامل المحبوب بها محبه توجب قربا خالصا هو المسمى بالاصال فيصول ذلك القرب على لطف العطية فيغيب العبد عنها

وعن شهودها وينسيه إياها لما أوجبه له ذلك القرب من الدهش وقد يكون سبب ذلك تواتر أنواع العطايا عليه حتى يدهشه كثرتها وتنوعها فتوجب له كثرتها دهشة تمنعه من مطالعتها مع انضمام ذلك إلى صولة القرب وهي واردات وأنوار يتصل بعضها ببعض تمحو ظلم نفسه ورسمه
وأما صولة نور القرب على نور العطف فهو قريب من هذا أو هو بعينه وإنما كرر المعنى بلفظ آخر فإن لطف العطية كله نور عطف والاتصال هو القرب نفسه تعالى الله عن غير ذلك من اتصال يتوهمه ملاحدة الطريق وزنادقتهم
وأما صولة شوق العيان على شوق الخبر
فمراده بها أن المريد في أول الأمر سالك على شوق الخبر في مقام الإيمان فإذا ترقى عنه إلى مقام الإحسان وتمكن منه بقي شوقه بشوق العيان فصال هذا الشوق على الشوق الأول فإن كان هذا مراده وإلا فالعيان في الدنيا لا سبيل للبشر إليه البتة ومن زعم خلاف ذلك فأحسن أحواله أن يكون ملبوسا عليه وليس فوق الإحسان للصديقين مرتبة إلا بقاؤهم فيه فإن سمى ذلك عيانا فالتسمية الشرعية المخلصة التي لا لبس فيها أولى وأحرى
وأكثر آفات الناس من الألفاظ ولا سيما في هذه المواضع التي يعز فيها تصور الحق على ما هو عليه والتعبير المطابق فيتولد من ضعف التصور وقصور التعبير نوع تخبيط ويتزايد على ألسنة السامعين له وقلوبهم بحسب قصورهم وبعدهم من العلم فتفاقم الخطب وعظم الأمر والتبس طريق أولياء الله الصادقين بطرائق الزنادقة الملحدين وعز المفرق بينهما فدخل على الدين من الفساد من ذلك مالا يعلمه إلا الله وأشير إلى أعظم الخلق كفرا بالله عز و جل وإلحادا في دينه اله من شيوخ التحقيق والمعرفة والسلوك

ولولا ضمان الله بحفظ دينه وتكفلة بأن يقيم له من يجدد أعلامه ويحيى منه ما أماته المبطلون وينعش ما أخمله الجاهلون لهدمت أركانه وتداعى بنيانه ولكن الله ذو فضل على العالمين

فصل في منزلةالهيمان وقد يعرض للسالك عند ورود بعض المعاني
والواردات العجيبة على قلبه فرط تعجب واستحسان واستلذاذ يزيل عنه تماسكه فيورثه ذلك الهيمان
وليس ذلك من مقامات السير ولا منازل الطريق المقصودة بالنزول فيها للمسافرين خلافا لصاحب المنازل حيث عد ذلك من أعلى المنازل وغاياتها وعبر عنه بمنزلة الهيمان ولهذا ليس له ذكر في القرآن ولا في السنة ولا في لسان سلف القوم
وقد تكلف له صاحب المنازل الاستشهاد بقوله تعالى وخر موسى صعقا وما أبعد الآية من استشهاده وكأنه ظن أن موسى ذهب عن تماسكه لما ورد عليه في حالة الخطاب والتكليم الإلهي فأورثه ذلك هيمانا صعق منه وليس كما ظنه وإنما صعق موسى عند تجلي الرب تعالى للجبل واضمحلاله وتدكدكه من تجلي الرب تعالى
فالاستشهاد بالآية في منزلة الفناء التي تضمحل فيها الرسوم أنسب وأظهر لأن تدكدك الجبل هو اضمحلال رسمه عند ورود نور التجلي عليه والصعق فناء في هذه الحال لهذا الوارد المفني لبشرية موسى عليه الصلاة و السلام
وقد حده بأنه الذهاب عن التماسك تعجبا أو حيرة
يعني أن الهائم لا يقدر على إمساك نفسه للوارد تعجبا منه وحيرة
قال وهو أثبت دواما وأملك للنعت من الدهش
يعني أن الهائم قد يستمر هيمانه مدةطويلة بخلاف المدهوش وصاحب

الهيمان يملك عنان القول فيصرفه كيف يشاء ويتمكن من التعبير عنه وأما الدهش فلضيق معناه وقصر زمانه لم يملك النعت فالهائم أملك بنعت حاله ووارده من المدهوش
قال وهو على ثلاث درجات الأولى هيمان في شيم أوائل برق اللطف عند قصد الطريق مع ملاحظة العبد خسة قدره وسفالة منزلته وتفاهة قيمته
يريد أن القاصد للسلوك إذا نظر إلى مواقع لطف ربه به حيث أهله لما لم يؤهل له أهل البلاء وهم أهل الغفلة والإعراض عنه أورثه ذلك النظر تعجبا يوقعه في نوع من الهيمان قال بعض العارفين في الأثر المروى إذا رأيتم أهل البلاء فسلوا الله العافية تدرون من أهل البلاء هم أهل الغفلة عن الله
وتقوى هذه الحال إذا انضاف إليها شهود العبد خسة قدر نفسه فاستصغرها أن تكون أهلا لما أهلت له وكذلك شهود سفالة منزلته أي انحطاط رتبته وكذلك شهود تفاهة قيمته أي خستها وقلتها وحاصل ذلك كله احتقاره لنفسه واستعظامه للطف ربه به وتأهيله له فيتولد من بين هذين الهيمان المذكور ولا ريب أنه يتولد من بين هذين الشهودين أمور أخرى أجل وأعظم وأشرف من الهيمان من محبة وحمد وشكر وعزم وإخلاص ونصيحة في العبودية وسرور وفرح بربه وأنس به هي مطلوبة لذاتها بخلاف عارض الهيمان فإنه لا يطلب لذاته وليس هو من منازل العبودية

فصل قال الدرجة الثانية هيمان في تلاطم أمواج التحقيق عند ظهور
براهينه وتواصل عجائبه ولوامع انواره
يريد أن السالك والمريد إذا لاحت له أنوار تحقق العلم والمعرفة اهتدى بها إلى القصد عن بصيرة مستجدة ويقظة مستعدة فاستنار بها قلبه وأشرق

لها سره فتلاطمت عليه أمواج التحقيق عند ظهور البراهين فهام قلبه فيها وهذا أمر يعرفه بالذوق كل طالب لأمر عظيم انفتحت له الطرق والأبواب إلى تحصيله
ويريد بتواصل عجائبه تتابع عجائب التحقيق وأن بعضها لا يحجب عن بعض ولا يقف في طريق بعض وكذلك لوامع أنواره وأعظم ما يجد هذا الواجد عند استغراقه في تدبر القرآن ويحصل ذلك بحسب استعداده وأهليته للفهم ونسبة ما دون ذلك إليه كتفلة في بحر

فصل قال الدرجة الثالثة هيمان عند الوقوع في عين القدم ومعاينة
سلطان الأزل والغرق في بحر الكشف
يريد هيمان الفناء والوقوع في عين القدم إنما يكون باضمحلال الرسم وفنائه في شهود القدم فإنه يفنى من لم يكن مشهودا ويبقى من لم يزل وكذلك معاينة سلطان الأزل لا يبقى معها معاينة رسوم الكائنات وأطلال الحادثات وأما بحر الكشف الذي أشار إليه فهو انكشاف الحقيقة لعين القلب ولاتعتقد ان للسالك وراء مقام الإحسان شيئا أعلى منه بل إلإحسان مراتب وأما الكشف الحقيقي للحقيقة فلا سبيل إليه في الدنيا البتة
والقوم يلوح لأحدهم أنوار هي ثمرات الإيمان ومعاملات القلوب وآثار الأحوال الصادقة فيظنونها نور الحقيقة ولا يأخذهم في ذلك لومة لائم وإنما

هي أنوار في بواطنهم ليس إلا وباب العصمة عن غير الرسل مسدود إلا عمن اتفقت عليه الأمة والله أعلم

فصل في نور البرق
ومن أنوار إياك نعبد وإياك نستعين نور البرق الذي يبدو للعبد عند دخوله في طريق الصادقين
وهو لامع يلمع لقلبه يشبه لامع البرق
قال صاحب المنازل البرق باكورة تلمع للعبد فتدعوه إلى الدخول في هذه الطريق
واستشهد عليه بقوله تعالى وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا
ووجه الاستشهاد أن النار التي رآها موسى كانت مبدأ في طريق نبوته
والبرق مبدأ في طريق الولاية التي هي وراثة النبوة
وقوله باكورة الباكورة هي أول الشيء ومنه باكورة الثمار وهو لما سبق نوعه في النضج
وقوله يلمع للعبد أي يبدو له ويظهر فتدعوه إلى الدخول في هذه الطريق ولم يرد طريق أهل البدايات فإن تلك هي اليقظة التي ذكرها في أول كتابه وإنما أراد طريق أرباب التوسط والنهايات
وعلى هذا فالبرق الذي أشار إليه هو برق الأحوال لا برق الأعمال أو برق لا سبب له من السالك إنما هو مجرد موهبة
والدليل على أنه أراد ما يحصل لأرباب التوسط والنهايات أنه أخذ بعد تعريفه يفرق بينه وبين الوجد
فقال والفرق بينه وبين الوجد أن الوجد يقع بعد الدخول فيه والبرق قبله فالوجد زاد والبرق إذن

يريد أن البرق نور يقذفه الله في قلب العبد ويبديه له فيدعوه به إلى الدخول في الطريق والوجد هو شدة الطلب وقوته الموجبة لتأجيج اللهيب من الشهود كما تقدم
والوجد زاد يعني أنه يصحب السالك كما يصحبه زاده بل هو من نفائس زاده والبرق إذن يعني إذنا في السلوك والإذن إنما يفسح للسالك في المسير لا غير
قال وهو ثلاث درجات الأولى برق يلمع من جانب العدة في عين الرجاء فيستكثر فيه العبد القليل من العطاء ويستقل فيه الكثير من الإعياء ويستحلي فيه مرارة القضاء
يعني بالعدة ما وعد الله أولياءه من أنواع الكرامة في هذه الدار وعند اللقاء
وقوله يلمع في عين الرجاء أي يبدو في حقيقةالرجاء من أفقه وناحيته فيوجب له ذلك استكثار القليل ولا قليل من الله من عطائه والحامل له على هذا الاستكثار أربعة أمور
أحدها نظره إلى جلالة معطيه وعظمته
الثاني احتقاره لنفسه فإن ازدراءه لها يوجب استكثار ما يناله من سيده
الثالث محبته له فإن المحبة إذا تمكنت من العبد استكثر قليل ما يناله من محبوبه
الرابع أن هذا قبل العطاء لم يكن له إلف به ولا اتصال بالعطية فلما فاجأته استكثرها
وأما استقلاله الكثير من الإعياء وهو التعب والنصب فلأنه لما بدا له برق الوعود من أفق الرجاء حمله ذلك على الجد والطلب وحمل عنه مشقة السير فلم يجد من مس الإعياء والنصب ما يجده من لم يشم ذلك
وكذلك استحلاؤه في هذا البرق مرارة القضاء وهو البلاء الذي

يختبر به الله عز و جل عباده ليبلوهم أيهم أصبر وأصدق وأعظم إيمانا ومحبة وتوكلا وإنابة فإذا لاح للسالك هذا البرق استحلى فيه مرارة القضاء

فصل قال الدرجة الثانية برق يلمع من جانب الوعيد في عين الحذر
فيستقصر فيه العبد الطويل من الأمل ويزهد في الخلق على القرب ويرغب في تطهير السر
هذا البرق أفقه وعينه غير أفق البرق الأول فإن هذا يلمع من أفق الحذر وذاك من أفق الرجاء فإذا شام هذا البرق استقصر فيه الطويل من الأمل وتخيل في كل وقت أن المنية تعافصه وتفاجئه فاشتد حذره من هجومها مخافة أن تحل به عقوبةالله ويحال بينه وبين الاستعتاب والتأهب للقاء فيلقى ربه قبل الطهر التام فلا يؤذن له بالدخول عليه بغير طهارة كما أنه لم يؤذن له في دار التكليف بالدخول عليه للصلاة بغير طهارة
وهذا يذكر العباد بالتطهر للموافاة والقدوم عليه والدخول وقت اللقاء لمن عقل عن الله وفهم أسرار العبادات فإذا كان العبد لا يدخل عليه حتى يستقبل بيته المحرم بوجهه ويستر عورته ويطهر بدنه وثيابه وموضع مقامه بين يديه ثم يخلص له النية فهكذا الدخول عليه وقت اللقاء لا يحصل إلا بأن يستقبل ربه بقلبه كله ويستر عوراته الباطنة بلباس التقوى ويطهر قلبه وروحه وجوارحه من أدناسها الظاهرة والباطنة ويتطهر لله طهرا كاملا ويتأهب للدخول أكمل تأهب وأوقات الصلاة نظير وقت الموافاة
فإذا تأهب العبد قبل الوقت جاءه الوقت وهو متأهب فيدخل على الله وإذا فرط في التأهب خيف عليه من خروج الوقت قبل التأهب إذ هجوم وقت الموافاة مضيق لا يقبل التوسعة فلا يمكن العبد من التطهر والتأهب عند

هجوم الوقت بل يقال له هيهات فات ما فات وقد بعدت بينك وبين التطهر المسافات فمن شام برق الوعيد بقصر الأمل لم يزل على طهارة
وأما تزهيده في الخلق على القرب وإن كانوا أقاربه أو مناسبيه أو مجاوريه وملاصقيه أو معاشريه ومخالطيه فلكمال حذره واستعداده واشتغاله بما أمامه وملاحظة الوعيد من أفق ذلك البارق الذي ليس بخلب بل هو أصدق بارق
ويحتمل أن يريد بقوله عن قرب أي عن أقرب وقت فلا ينتظر بزهده فيهم أملا يؤمله ولا وقتا يستقبله
قوله ويرغب في تطهير السر يعني تطهير سره عما سوى الله وقد تقدم بيانه

فصل قال الدرجة الثالثة برق يلمع من جانب اللطف في عين الافتقار
فينشىء سحاب السرور ويمطر مطر الطرب ويجري من نهر الافتخار
هذا البرق يلمع من أفق ملاطفة الرب تعالى لعبده بأنواع الملاطفات ومطلع هذا البرق في عين الافتخار الذي هو باب السلوك إلى الله تعالى والطريق الأعظم الذي لا يدخل عليه إلا منه وكل طريق سواه فمسدود ومع هذا فلا يصل العبد منه إلا بالمتابعة فلا طريق إلى الله البتة أبدا ولو تعنى المتعنون وتمنى المتمنون إلا الافتقار ومتابعة الرسول فقط فلا يتعب السالك نفسه في غير هذه الطريق فإنه على غير شيء وهو صيد الوحوش والسباع
قوله فينشىء سحاب السرور أي ينشىء للعبد سرورا خاصا وفرحا بربه لا عهد له بمثله ولا نظير له في الدنيا ونفحة من نعيم الجنة ونسمة من ريح شمالهم فإذا نشأ له ذلك السحاب أمطر عليه صيب الطرب فطرب باطنه وسره

لما ورد عليه من عند سيده ووليه وإذا اشتد ذلك الطرب جرى به نهر الافتخار يتميز به عن أبناء جنسه بما خصه الله به وإما أن يريد به افتخاره على الشيطان وهذه مخيلة محمودة طربا وافتخارا عليه فإن الله لا يكره ذلك ولهذا يحب المختال بين الصفين عند الحرب لما في ذلك من مراغمة أعدائه ويحب الخيلاء عند الصدقة كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث لسر عجيب يعرفه أولو الصدقات والبذل من نفوسهم عند ارتياحهم للعطاء وابتهاجهم به واختيالهم على النفس الشحيحة الأمارة بالبخل وعلى الشيطان المزين لها ذلك
وهم ينفدون المال في أول الغنى ... ويستأنفون الصبر في آخر الصبر
مغاوير للعليا مغابير للحمى
مفاريج للغمى مداريك للوتر
وتأخذهم في ساعة الجود هزة ... كما تأخذ المطراب عن نزوة الخمر
فهذا الافتخار من تمام العبودية
أو يريد به أنه حري بالافتخار بما تميز به ولم يفتخر به إبقاء على عبوديته وافتقاره وكلا المعنيين صحيح والله أعلم
وسر ذلك أن العبد إذا لاحظ ما هو فيه من الالطاف وشهده من عين المنة ومحض الجود شهد مع ذلك فقره إليه في كل لحظة وعدم استغنائه عنه طرفة عين فكان ذلك من أعظم أبواب الشكر وأسباب المزيد وتوالي النعم عليه وكلما توالت عليه النعم أنشأت في قلبه سحائب السرور وإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه وامتلأ بها أفقه أمطرت عليه وابل الطرب بما هو فيه من لذيذ السرور فإن لم يصبه وابل فطل وحينئذ يجري على لسانه وظاهره نهر الافتخار من غير عجب ولا فخر بل فرحا بفضل الله ورحمته كما قال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا فالافتخار على ظاهره والافتقار والانكسار في باطنه ولا ينافي أحدهما الآخر

وتأمل قول النبي أنا سيد ولد آدم ولا فخر / ح / فكيف أخبر بفضل الله ومنته عليه وأخبر أن ذلك لم يصدر منه افتخارا به على من دونه ولكن إظهارا لنعمة الله عليه وإعلاما للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله وعلو منزلته لديه لتعرف الامة نعمة الله عليه وعليهم
ويشبه هذا قول يوسف الصديق للعزيز اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فإخباره عن نفسه بذلك لما كان متضمنا لمصلحة تعود على العزيز وعلى الأمة وعلى نفسه كان حسنا إذ لم يقصد به الفخر عليهم فمصدر الكلمة والحامل عليها يحسنها ويهجنها وصورته واحدة

فصل في منزلة الذوق
ومنها منزلة الذوق والذوق مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر ولا يختص ذلك بحادسة الفم في لغة القرآن بل ولا في لغة العرب قال الله تعالى وذوقوا عذاب الحريق وقال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وقال تعالى هذا فليذوقوه حميم وغساق وقال فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون
فتأمل كيف جمع بين الذوق واللباس ليدل على مباشرة المذوق وإحاطته وشموله فأفاد الإخبار عن إذاقته أنه واقع مباشر غير منتظر فإن الخوف قد يتوقع ولا يباشر وأفاد الإخبار عن لباسه أنه محيط شامل كاللباس للبدن
وفي الصحيح عنه ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فأخبر أن للإيمان طعما وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب
وقد عبر النبي عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان وحصوله للقلب ومباشرته له بالذوق تارة وبالطعام والشراب تارة وبوجود

الحلاوة تارة كما قال ذاق طعم الإيمان وقال ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار / ح /
ولما نهاهم عن الوصال قالوا إنك تواصل قال إني لست كهيئتكم إني أطعم واسقى وفي لفظ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني وفي لفظ إن لي مطعما يطعمني وساقيا يسقيني
وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم ولو كان كما ظنه هذا الظان لما كان صائما فضلا عن أن يكون مواصلا ولما صح جوابه بقوله إني لست كهيئتكم فأجاب بالفرق بينه وبينهم ولو كان يأكل ويشرب بفيه الكريم حسا لكان الجواب أن يقول وأنا لست أواصل أيضا فلما أقرهم على قولهم إنك تواصل علم أنه كان يمسك عن الطعام والشراب ويكتفي بذلك الطعام والشراب العالي الروحاني الذي يغني عن الطعام والشراب المشترك الحسي
وهذا الذوق هو الذي استدل به هرقل على صحة النبوة حيث قال لأبي سفيان فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه فقال لا قال وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب
فاستدل بما يحصل لأتباعه من ذوق الإيمان الذي خالطت بشاشته القلوب لم يسخطه ذلك القلب أبدا على أنه دعوة نبوة ورسالة لا دعوى ملك ورياسة
والمقصود أن ذوق حلاوة الإيمان والإحسان أمر يجده القلب تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطعام إلى الفم وذوق حلاوة الجماع إلى إلفة النفس كما قال النبي حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك فللإيمان طعم وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد ولا تزول الشبه والشكوك عن القلب

إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحال فباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشر فيذوق طعمه ويجد حلاوته والله الموفق

فصل قال صاحب المنازل باب الذوق قال الله تعالى هذا ذكر في
تنزيل هذه الآية على الذوق صعوبة والذي يظهر والله أعلم أن الشيخ أراد أن الذوق مقدمة الشراب كما أن التذكر مقدمة المعرفة ومنه يدخل إلى مقام الإيمان والإحسان فإنه إذا تذكر أبصر الحقيقة كما قال تعالى تذكروا فإذا هم مبصرون أبصر الحقيقة كما قال تعالى 7 : 201 تذكروا فإذاهم مبصرون فالتذكر بهذا الذكر الذي قصه الله تعالى يشهد صاحبه الإيمان بالمعاد وما أعد الله لأوليائه عند لقائه فيصير إيمانهم بذلك ذوقا لا خبرا محضا لأنه نشأ عن تذكرهم بذكره سبحانه وتأملهم حقائقه وأسراره وما فيه من الهدى والبيان فالتذكر سبب الذوق والله سبحانه أعلم
فصل قال والذوق أبقى من الوجد وأجلى من البرق يريد به أن
منزلة الذوق أثبت وأرسخ من منزلة الوجد وذلك لأن أثر الذوق يبقى في القلب ويطول بقاؤه كما يبقى أثر ذوق الطعام والشراب في القوة الذائقة ويبقى على البدن والروح فإن الذوق مباشرة كما تقدم والوجد عند الشيخ لهيب يتأجج من شهود عارض مقلق فهو عنده من العوارض كالهيمان والقلق فإنه ينشأ من مكاشفة لا تدوم فلذلك جعله أبقى من الوجد
وأما قوله وأجلى من البرق فإن البرق أسرع انقضاء وكشفه دون كشف الذوق وهذا صحيح

ولكن جعله الذوق أبقى من الوجد وأعلى منه فيه نظر وقد يقال إن النبي جعل الوجد فوق الذوق وأعلى منزلة منه فإنه قال ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان الحديث / ح / وقال في الذوق ذاق طعم الإيمان فوجد حلاوة الشيء المذوق أخص من مجرد ذوقه ولما كانت الحلاوة أخص من الطعم قرن بها الوجد الذي هو أخص من مجرد الذوق فقرن الأخص بالأخص والأعم بالأعم
وليس المراد بوجد حلاوة الإيمان الوجد الذي هو لهيب القلب فإن ذلك مصدر وجد بالشيء وجدا وإنما هو من الوجود الذي هو الثبوت فمصدر هذا الفعل الوجود والوجدان فوجد الشيء يجده وجدانا إذا حصل له وثبت كما يجد الفاقد الشيء الذي بعد منه ومنه قوله تعالى ووجد الله عنده وقوله ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما وقوله ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى وقوله إنا وجدناه صابرا فهذا كله من الوجود والثبوت وكذلك قوله وجد بهن حلاوة الإيمان
فوجدان الشيء ثبوته واستقراه ولا ريب أن ذوق طعم الإيمان وجدان له إذ يمتنع حصول هذا الذوق من غير وجدان ولكن اصطلاح كثير من القوم على أن الذائق أخص من الواجد فكأنه شارك الواجد في الحصول وامتاز عنه بالذوق فإنه قد يجد الشيء ولا يذوقه الذوق التام
وهذا ليس كما قالوه بل وجود هذه الحقائق للقلب ذوق لها وزيادة وثبوت واستقرار والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى ذوق التصديق طعم العدة
فلا يعقله ظن ولا يقطعه أمل ولا تعوقه أمنية

يريد أن العبد المصدق إذا ذاق طعم الوعد من الله على إيمانه وتصديقه وطاعته ثبت على حكم الوعد واستقام
فلم يعقله ظن أي لم يحبسه ظن تقول عقلت فلانا عن كذا أي منعته عنه وصددته ومنه عقال البعير لأنه يحبسه عن الشرود ومنه العقل لأنه يحبس صاحبه عن فعل مالا يحسن ولا يجمل ومنه عقلت الكلام وعقلت معناه إذا حبسته في صدرك وحصلته في قلبك بعد أن لم يكن حاصلا عندك ومنه العقل للدية لأنها تمنع آخذها من العدوان على الجاني وعصبته
والمقصود أن ذوق طعم الإيمان بوعد الله يمنع الذائق أن يحبسه ظن عن الجد في الطلب والسير إلى ربه والظن هو الوقوف عن الجزم بصحة الوعد والوعيد بحيث لا يترجح عنده جانب التصديق
وكأن الشيخ يقول الذائق بالتصديق طعم الوعد لا يعارضه ظن يعقله عن صدق الطلب ويحبس عزيمته عن الجد فيه وفي حديث سيد الاستغفار قوله وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أي مقيم على التصديق بوعدك وعلى القيام بعهدك وعلى القيام بعهدك بحسب استطاعتي
والحامل على هذه الإقامة والثبات ذوق طعم الإيمان ومباشرته للقلب ولو كان الإيمان مجازا لا حقيقة لم يثبت القلب على حكم الوعد والوفاء بالعهد ولا يفيد في هذا المقام إلا ذوق طعم الإيمان وثوب العارية لا يجمل لابسه ولا سيما إذا عرف الناس أنه ليس له وأنه عارية عليه كما قيل
ثوب الرياء يشف عما تحته ... فإذا اشتملت به فإنك عاري
وكان بعض الصحابة يكثر التلبية في إحرامه ثم يقول لبيك لو كان رياء لاضمحل وقد نفى الله تعالى اإلإيمان عمن ادعاه وليس له فيه ذوق فقال تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم فهؤلاء مسلمون وليسوا بمؤمنين لأنهم ليسوا ممن

باشر الإيمان قلبه فذاق حلاوته وطعمه وهذا حال أكثر المنتسبين إلى الإسلام وليس هؤلاء كفارا فإنه سبحانه أثبت لهم الإسلام بقوله ولكن قولوا أسلمنا ولم يرد قولوا بألسنتكم من غير مواطأة القلب فإنه فرق بين قولهم آمنا وقولهم أسلمنا ولكن لما لم يذوقوا طعم الإيمان قال لم تؤمنوا ووعدهم سبحانه وتعالى مع ذلك على طاعتهم أن لا ينقصهم من أجور أعمالهم شيئا
ثم ذكر أهل الإيمان الذين ذاقوا طعمه وهم الذين آمنوا به وبرسوله ثم لم يرتابوا في إيمانهم وإنما انتفى عنهم الريب لأن الإيمان قد باشر قلوبهم وخالطتها بشاشته فلم يبق للريب فيه موضع وصدق ذلك الذوق بذلهم أحب شيء إليهم في رضى ربهم تعالى وهو أموالهم وأنفسهم ومن الممتنع حصول هذا البذل من غير ذوق طعم الإيمان ووجود حلاوته فإن ذلك إنما يحصل بصدق الذوق والوجد كما قال الحسن ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل
فالذوق والوجد أمر باطن والعمل دليل عليه ومصدق له كما أن الريب والشك والنفاق أمر باطن والعمل دليل عليه ومصدق له فالأعمال ثمرات العلوم والعقائد فاليقين يثمر الجهاد ومقامات الإحسان فعلى حسب قوته تكون ثمرته ونتيجته والريب والشك يثمر الأعمال المناسبة له وبالله التوفيق
قوله ولا يقطعه أمل أي من علامات الذوق أن لا يقطع صاحبه عن طلبه أمر دنيا وطمع في غرض من أغراضها فإن الأمل والطمع يقطعان طريق القلب في سيره إلى مطلوبه
ولم يقل الشيخ إنه لا يكون له أمل بل قال لا يقطعه أمل فإن الأمل إذا قام به ولم يقطعه لم يضره وإن عوق سيره بعض التعويق وإنما البلاء في الأمل القاطع للقلب عن سيره إلى الله

وعند الطائفة أن كل ما سوى الله فإرادته أمل قاطع كائنا ما كان فمن كان ذلك أمله ومنتهى طلبه فليس من أهل ذوق الإيمان فإنه من ذاق حلاوة معرفة الله والقرب منه والأنس به لم يكن له أمل في غيره وإن تعلق أمله لسواه فهو لإعانته على مرضاته ومحابه فهو يؤمله لأجله لا يؤمله معه
فإن قلت فما الذي يقطع به العبد هذا الأمل
قلت قوة رغبته في المطلب الأعلى الذي ليس شيء أعلى منه ومعرفته بخسة ما يؤمل دونه وسرعة ذهابه فيوشك انقطاعه وأنه في الحقيقة كخيال طيف أو سحابة صيف فهو ظل زائل ونجم قد تدلى للغروب فهو عن قريب آفل قال النبي مالي وللدنيا إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها / ح / وقال ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع / ح / فشبه الدنيا في جنب الآخرة بما يعلق على الإصبع من البلل حين تغمس في البحر
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أن الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل ثم جاءه الموت لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء
وقال مطرف بن عبدالله أو غيره نعيم الدنيا بحذافيره في جنب نعيم الآخرة أقل من ذرة في جنب جبال الدنيا
ومن حدق عين بصيرته في الدنيا والآخرة علم أن الأمر كذلك
فكيف يليق بصحيح العقل والمعرفة أن يقطعه أمل من هذا الجزء الحقير عن نعيم لا يزول ولا يضمحل فضلا عن أن يقطعه عن طلب من نسبة هذا النعيم الدائم إلى نعيم معرفته ومحبته والأنس به والفرح بقربه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة قال الله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله

أكبر فيسير من رضوانه ولا يقال له يسير أكبر من الجنات وما فيها
وفي حديث الرؤية فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه وفي حديث آخر إنهم إذا رأوه سبحانه لم يلتفتوا إلى شيء مما هم فيه من النعيم حتى يتوارى عنهم
فمن قطعه عن هذا أمل فقد فاز بالحرمان ورضي لنفسه بغاية الخسران والله المستعان وعليه التكلان وما شاء الله كان
قوله ولا تعوقه أمنية الأمنية هي ما يتمناه العبد من الحظوظ وجمعها أماني والفرق بينها وبين الأمل أن الأمل يتعلق بما يرجى وجوده والأمنية قد تتعلق بما لا يرجى حصوله كما يتمنى العاجز المراتب العالية
والأماني الباطلة هي رؤوس أموال المفاليس بها يقطعون أوقاتهم ويلتذون بها كالتذاذ من زال عقله بالمسكر أو بالخيالات الباطلة
وفي الحديث المرفوع الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني
ولا يرضى بالأماني عن الحقائق إلا ذوو النفوس الدنيئة الساقطة كما قيل
واترك منى النفس لا تحسبه يشبعها ... إن المنى رأس أموال المفاليس
وأمنية الرجل تدل على علو همته وخستها وفي أثر إلهي إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وإنما أنظر إلى همته والعامة تقول قيمة كل امرىء ما يحسنه والعارفون يقولون قيمه كل امرىء ما يطلب

فصل قال الدرجة الثانية ذوق الإرادة طعم الأنس فلا يعلق به شاغل
ولا يفسده عارض ولا تكدره تفرقة
الإرادة وصف المريد والفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها أن الأولى وصف حال العابد الذي ذاق بتصديقه طعم وعد الرب عز و جل فجد في العبادة

وأعمال البر لثقته بالوعد عليها وصاحب هذه الدرجة ذاقت إرادته طعم الأنس فهي حال المريد
ولهذا علق حال صاحب الدرجة الأولى بالوعد الجميل وعلق حال صاحب هذه الدرجة بالأنس بالله والأنس به سبحانه أعلى من الأنس بما يرجوه العابد من نعيم الجنة فإذا ذاق المريد طعم الأنس جد في إرادته واجتهد في حفظ أنسه وتحصيل الأسباب المقوية له
فلا يعلق به شاغل أي لا يتعلق به شيء يشغله عن سلوكه وسيره إلى الله لشدة طلبه الباعث عليه أنسه الذي قد ذاق طعمه وتلذذ بحلاوته
والأنس بالله حالة وجدانية وهي من مقامات الإحسان تقوى بثلاثة أشياء دوام الذكر وصدق المحبة وإحسان العمل
وقوة الأنس وضعفه على حسب قوة القرب فكلما كان القلب من ربه أقرب كان أنسه به أقوى وكلما كان منه أبعد كانت الوحشة بينه وبين ربه أشد
قوله ولا يفسده عارض العارض المفسد هو الذي يعذل المحب ويلومه على النشاط في رضى محبوبه وطاعته ويدعوه إلى الالتفات إليه والوقوف معه دون مطلبه العالي فهو كالذي يجيء عرضا يمنع المار في طريقة عن المرور ويلفته عن جهة مقصده إلى غيرها
وهذا العارض عند القوم هو إرادة السوى فإن كل ما سوى الله فهو عارض وإرادة السوى توقف السالك وتنكس الطالب وتحجب الواصل فإياك وإرادة السوى وإن علا فإنك تحجب عن الله بقدر إرادتك لغيره قال تعالى إخبارا عن عباده المقربين إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا وقال تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة

والعشي يريدون وجهه وقال تعالى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى
قوله ولا تكدره تفرقة الكدر ضد الصفاء والتفرقة ضد الجمعية والجمعية هي جمع القلب والهمة على الله بالحضور معه بحال الأنس خاليا من تفرقة الخواطر والتفرقة من أعظم مكدرات القلب وهي تزيل الصفاء الذي أثمره له الإسلام والأيمان والإحسان فإن القلب يصفو بذلك فتجيء التفرقة فتكدر عليه ذلك الصفاء وتشعث القلب فيجد الصادق ألم ذلك الشعث وأذاه فيجتهد في لمه و لا يلم شعث القلوب بشيء غير الإقبال على الله والإعراض عما سواه فهناك يلم شعثه ويزول كدره ويصح سفره ويجد روح الحياة ويذوق طعم الحياة الملكية

فصل قال الدرجة الثالثة ذوق الانقطاع طعم الاتصال وذوق الهمة طعم
الجمع وذوق المسامرة طعم العيان
الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها أن تلك بقاء مع الأحوال وهذه الدرجة خروج وفناء عن الأحوال فإن المتمكن في حال فنائه عن الأسباب أعمالا كانت أو أحوالا هو الذي يجد طعم الاتصال حقيقة فإنه على حسب تجرده عن الالتفات إلى الأسباب يكون اتصاله وعلى حسب التفاته إليها يكون انقطاعه وكلما تمكن في جمع همه على الحق سبحانه وجد لذة الجمع عليه وذاق طعم القرب منه والأنس به
فالانقطاع عند القوم هو أنس القلب بغيره تعالى والالتفات إلى ما سواه والاتصال تجريد التعلق به وحده والانقطاع عما سواه بالكلية
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير كلامه
فقوله ذوق الانقطاع طعم الاتصال استعارة وإلا فالذائق هو صاحب

الانقطاع لا نفس الانقطاع فإنه هو الذي ذاق الانقطاع والاتصال وبالجملة فالمراد أن المنقطع هو المحجوب والمتصل هو المشاهد بقلبه المكاشف بسره
وأحسن من التعبير بالاتصال التعبير بالقرب فإنها العبارة السديدة التي ارتضاها الله ورسوله في هذا المقام
وأما التعبير بالوصل والاتصال فعبارة غير سديدة يتشبث بها الزنديق الملحد والصديق الموحد فالموحد يريد بالاتصال القرب وبالانفصال والانقطاع البعد والملحد يريد به الحلول تارة والاتحاد تارة
حتى قال بعض هؤلاء المنقطع ليس في الحقيقة منقطعا بل لم يزل متصلا لكنه كان غائبا عن المشاهدة فلما شاهد وجد نفسه لم يكن منقطعا بل لم يزل متصلا
قال وليس قولنا لم يزل متصلا بسديد فإن الاتصال لا يصح إلا بين اثنين فلا المحجوب منقطعا ولا المكاشف متصلا وإنما هي عبارات للتقريب والتفهيم وأنشد في ذلك
ما بال عيسك لا يقر قرارها ... وإلام ظلك لا يني متنقلا
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا
وبإزاء هؤلاء طائفة غلظ حجابهم وكثفت أرواحهم عن هذا الشأن فزعموا أن القرب والبعد والأنس ليس له حقيقة تتعلق بالخالق سبحانه وإنما ذلك القرب من داره وجنته بالطاعات وأنس القلب بما وعد عليها من الثواب والبعد ضد ذلك لأن العبد لا يقرب من ربه ولا يبعد عنه ولا يأنس به

وصرحوا بأنه لا يريده ولا يحبه فلا يصح تعلق الإرادة والمحبة به فسار هؤلاء مغربين وسار أولئك مشرقين كما قيل
سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب
ومصباح الموحد السالك على درب الرسول وطريقه يتوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس
قوله وذوق الهمة طعم الجمع جعل الهمة ذائقةوإنما الذوق لصاحبها توسعا والهمة قد عبر عنها الشيخ فيما تقدم بأنها ما يملك الانبعاث إلى المقصود صرفا أي حالة وصفية لها سطوة وملكة تحمل صاحبها على المقصود وتبعثه عليه بعثا لا يخالطه غيره
فالهمة عندهم طلب الحق من غير التفات إلى غيره والجمع شهود الفردانية التي تفنى فيها رسوم المشاهد وهذا جمع في الربوبية
وأعلى منه الجمع في الألوهية وهو جمع قلبه وهمه وسره على محبوبه ومراضيه ومراده منه فهو عكوف القلب بكليته على الله عز و جل لا يلتفت عنه يمنة ولا يسرة فإذا ذاقت الهمة طعم هذا الجمع اتصل اشتياق صاحبها وتأججت نيران المحبة والطلب في قلبه ويجد صبره عن محبوبه من أعظم كبائره كما قيل
والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لا يحمد
وقد تقدم ذكر الأثر الإلهي إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وإنما أنطر إلى همته
فلله همة نفس قطعت جميع الأكوان وسارت فما ألقت عصى السير إلا بين يدي الرحمن تبارك وتعالى فسجدت بين يديه سجدة الشكر على الوصول

إليه فلم تزل ساجدة حتى قيل لها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي
فسبحان من فاوت بين الخلق في هممهم حتى ترى بين الهمتين أبعد مما بين المشرقين والمغربين بل أبعد مما بين أسفل سافلين وأعلى عليين وتلك مواهب العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
قوله وذوق المسامرة طعم العيان مرادهم بالمسامرة مناجاة القلب ربه وإن سكت اللسان فلذة استيلاء ذكره تعالى ومحبته على قلب العبد وحضوره بين يديه وأنسه به وقربه منه حتى يصير كأنه يخاطبه ويسامره ويعتذر إليه تارة ويتملقه تارة ويثني عليه تارة حتى يبقى القلب ناطقا بقوله أنت الله الذي لا إله إلا أنت من غير تكلف له بذلك بل يبقى هذا حالا له ومقاما ولا ينكر وصول القوم إلى هذا فقد قال النبي الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه / ح / فإذا بلغ في مقام الإحسان بحيث يكون كأنه يرى الله سبحانه فهكذا مخاطبته ومناجاته له
لكن الأولى العدول عن لفظ المسامرة إلى المناجاة فإنه اللفظ الذي اختاره رسول الله في هذا وعبر به عن حال العبد بقوله إذا قام أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه / ح / وفي الحديث الآخر كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض / ح /
فلا تعدل عن ألفاظه فأنها معصومة وصادرة عن معصوم والإجمال والإشكال في اصطلاحات القوم وأوضاعهم وبالله التوفيق

فصل ومن ذلك منزلة اللخط قال شيخ الإسلام باب اللحظ قال الله
تعالى ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني
قلت يريد والله أعلم بالاستشهاد بالآية أن الله سبحانه أراد أن يري موسى من كمال عظمته وجلاله ما يعلم به أن القوة البشرية في هذه الدار لا تثبت لرؤيته ومشاهدته عيانا لصيرورة الجبل دكا عند تجلي ربه سبحانه أدنى تجل كما رواه ابن جرير في تفسيره من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس عن النبي فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا / ح / قال حماد هكذا ووضع الإبهام على مفصل الخنصر الأيمن فقال حميد لثابت أتحدث بمثلي هذا فضرب ثابت صدر حميد ضربة بيده وقال رسول الله يحدث به وأنا لا أحدث به رواه الحاكم في صحيحه وقال هو على شرط مسلم وهو كما قال
والمقصود أن الشيخ استشهد بهذه الآية في باب اللحظ لأن الله سبحانه أمر موسى أن ينظر إلى الجبل حين تجلى له ربه فرأى أثر التجلي في الجبل دكا فخر موسى صعقا
قال الشيخ اللحظ لمح مسترق الصواب قراءة هذه الكلمة على الصفة بالتخفيف فوصف اللمح بأنه مسترق كما يقال سارقته النظر وهو لمح بخفية بحيث لا يشعر به الملموح
ولهذا الاستراق أسباب منها تعظيم الملموح وإجلاله فالناظر يسارقه النظر ولا يحد نظره إليه إجلالا له كما كان أصحاب النبي لا يحدون النظر إليه إجلالا له وقال عمرو بن العاص لم أكن أملأ عيني منه

إجلالا له ولو سئلت أن أصفه لكم لما قدرت لأني لم أكن أملأ عيني منه
ومنها خوف اللامح سطوته ومنها محبته ومنها الحياء منه ومنها ضعف القوة الباصرة عن التحديق فيه وهذا السبب هو السبب الغالب في هذا الباب
ويجوز أن تقرأ بكسر الراء وتشديد القاف أي نظرا يسترق صاحبه أي يأسر قلبه ويجعله رقيقا أي عبدا مملوكا للمنظور إليه لما شاهد من جماله وكماله فاسترق قلبه فلم يكن بينه وبين رقة له إلا مجرد وقوع لحظه عليه
فهكذا صاحب هذه الحال إذا لاحظ بقلبه جلال الربوبية وكمال الرب سبحانه وكمال نعوته ومواقع لطفه وفضله وبره وإحسانه استرق قلبه له وصارت له عبودية خاصة
قال وهو في هذا الباب على ثلاث درجات الدرجة الأولى ملاحظة الفضل سبقا وهي تقطع طريق السؤال إلا ما استحقته الربوبية من إظهار التذلل لها وتنبت السرور إلا ما يشوبه من حذر المكر وتبعث على الشكر إلا ما قام به الحق عز و جل من حق الصفة
الشيخ عادته في كل باب أن يقول وهو على ثلاث درجات وقال ههنا وهو في هذا الباب على ثلاث درجات فعين هذا الباب هنا دون غيره من الأبواب لأن اللحظ مشترك بين لحظ البصر ولحظ البصيرة والشيخ إنما أراد ههنا هذا الثاني دون الأول فإن كلامه فيه خاصة وهو لما صدر بالآية والأمر بالنظر فيها إنما توجه إلى الأمر بنظر العين استدرك كلامه
وقال اللحظ الذي نشير إليه في هذا الباب ليس هو لحظ العين والله أعلم
قوله ملاحظة الفضل سبقا الفضل هو العطاء الإلهي والسبق هو ما سبق له بالتقدير قبل خروجه إلى الدنيا كما قال تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون وقال ولقد سبقت

كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وهذا الكلام يفسر على معنيين
أحدهما أن العبد إذا رأى ما قدره الله له قد سبق به تقديره فهو واصل إليه لا محالة ولا بد أن يناله سكن جأشه واطمأن قلبه ووطن نفسه وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وأنه ما يفتح الله له وللناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده فإذا تيقن ذلك وذاق طعم الإيمان به قطع ذلك عليه طريق الطلب من ربه لأن ما سبق له به القدر كائن واصل لا محالة
ثم استدرك الشيخ أن العبد لا بد له من سؤال ربه والطلب منه فقال
إلا ما استحقته الربوبية من إظهار التذلل لها أي لا يعتقد أن سؤاله وطلبه يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يحذره فإن القدر السابق قد استقر بوصول المقدور إليه سأله أو لم يسأله يسأله ولاكن يكون سؤاله على وجه التذلل وإظهار فقر العبودية وذلها بين يدي عز الربوبية فإن الرب سبحانه يحب من عبده أن يسأله ويرغب إليه لأن وصول بره وإحسانه إليه موقوف على سؤاله بل هو المتفضل به ابتداء بلا سبب من العبد ولا توسط سؤاله وطلبه بل قدر له ذلك الفضل بلا سبب من العبد ثم أمره بسؤاله والطلب منه إظهارا لمرتبة العبودية والفقر والحاجة واعترافا بعز الربوبية وكمال غنى الرب وتفرده بالفضل والإحسان وأن العبد لا غنى له عن فضله طرفة عين فيأتي بالطلب والسؤال إتيان من يعلم أنه لا يستحق بطلبه وسؤاله شيئا ولكن ربه تعالى يحب أن يسأل ويرغب إليه ويطلب منه كما قال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون وقال واسألوا الله من فضله وقال قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم

وقال ادعوا ربكم تضرعا وخفية وقال وادعوه خوفا وطمعا
وقال النبي ليسأل أحدكم ربه كل شيء حتى شسع نعله إذا انقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر وقال من لم يسأل الله يغضب عليه وروى الترمذي عن ابن مسعود عن النبي قال سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل من فضله وما سئل الله شيئا أحب إليه من العافية وقال إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لنفحاته واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم وقال ما من داع يدعو الله بدعوة إلا آتاه بها أحد ثلاث إما أن يعجل له حاجته وإما أن يعطيه من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها قالوا إذا نكثر يا رسول الله قال فالله أكثر وقال ليس شيء أكرم على الله من الدعاء
وقال تعالى في الحديث القدسي فيما رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم وقال وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه
وفي هذا يقول القائل
لو لم ترد بذل ما أرجو وأطلبه ... من جود كفك ما عودتني الطلبا
والله سبحانه وتعالى يحب تذلل عبيده بين يديه وسؤالهم إياه وطلبهم حوائجهم منه وشكواهم إليه وعياذهم به منه وفرارهم منه إليه كما قيل

قالوا أتشكوا إليه ... ما ليس يخفى عليه
فقلت ربي يرضى ... ذل العبيد لديه
وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا عبد الوهاب عن إسحاق عن مطرف بن عبدالله قال تذاكرت ما جماع الخير فإذا الخير كثير الصيام والصلاة وإذا هو في يد الله تعالى وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك فإذا جماع الخير الدعاء
وفي هذا المقام غلط طائفتان من الناس
طائفة ظنت أن القدر السابق يجعل الدعاء عديم الفائدة
قالوا فإن المطلوب إن كان قد قدر فلا بد من وصوله دعا العبد أو لم يدع وإن لم يكن قد قدر فلا سبيل إلى حصوله دعا أو لم يدع
ولما رأوا الكتاب والسنة والآثار قد تظاهرت بالدعاء وفضله والحث عليه وطلبه قالوا هو عبودية محضة لا تأثير له في المطلوب البتة وإنما تعبدنا به الله وله أن يتعبد عباده بما شاء كيف شاء
والطائفة الثانية ظنت أن بنفس الدعاء والطلب ينال المطلوب وأنه موجب لحصوله حتى كأنه سبب مستقل وربما انضاف إلى ذلك شهودهم أن هذا السبب منهم وبهم وأنهم هم الذين فعلوه وأن نفوسهم هي التي فعلته وأحدثته وإن علموا أن الله خالق أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم وإراداتهم فربما غاب عنهم شهود كون ذلك بالله ومن الله لا بهم ولا منهم وأنه هو الذي حركهم للدعاء وقذفه في قلب العبد واجراه على لسانه
فهاتان الطائفتان غالطتان أقبح غلط وهما محجوبتان عن الله
فالأولى محجوبة عن رؤية حكمته في الأسباب ونصبها لإقامة العبودية وتعلق الشرع والقدر بها فحجابها كثيف عن معرفة حكمة الله سبحانه وتعالى في شرعه وأمره وقدره

والثانية محجوبة عن رؤية مننه وفضله وتفرده بالربوبية والتدبير وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حول للعبد ولا قوة له بل ولا للعالم أجمع إلا به سبحانه وأنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ومشيئته
وقول الطائفة الأولى إن المطلوب إن قدر لا بد من حصوله وإنه إن لم يقدر فلا مطمع في حصوله
جوابه أن يقال بقي قسم ثالث لم تذكروه وهو انه قدر بسببه فإن وجد سببه وجد ما رتب عليه وإن لم يوجد سببه لم يوجد ومن أسباب المطلوب الدعاء والطلب اللذين إذا وجدا ما رتب عليهما كما أن أسباب الولد الجماع ومن أسباب الزرع البذر ونحو ذلك وهذا القسم الثالث هو الحق
ويقال للطائفة الثانية لا موجب إلا مشيئة الله تعالى وليس ههنا سبب مستقل غيرها فهو الذي جعل السبب سببا وهو الذي رتب على السبب حصول المسبب ولو شاء لأوجده بغير ذلك السبب وإذا شاء منع سببية السبب وقطع عنه اقتضاء أثره وإذا شاء أقام له مانعا يمنعه عن اقتضاء أثره مع بقاء قوته فيه وإذا شاء رتب عليه ضد مقتضاه وموجبه
فالأسباب طوع مشيئته سبحانه وقدرته وتحت تصرفه وتدبيره يقلبها كيف شاء فهذا أحدالمعنيين في كلامه
والمعنى الثاني أن من لاحظ بعين قلبه ما سبق له من ربه من جزيل الفضل والإحسان والبر من غير معاوضة ولا سبب من العبد أصلا فإنه سبقت له تلك السابقة وهو في العدم لم يكن شيئا البتة شغلته تلك الملاحظة بطلب الله ومحبته وإرادته عن الطلب منه وقطعت عليه طريق السؤال اشتغالا بذكره وشكره ومطالعة منته عن مسألته لا لأن مسألته والطلب منه نقص بل لأنه في هذه الحال لا يتسع للأمرين بل استغراقه في شهود المنة وسبق الفضل قطع عليه طريق الطلب والسؤال وهذا لا يكون مقاما لازما له لا يفارقه بل هذا حكمه في هذه الحال والله أعلم

فصل قوله وينبت السرور إلا ما يشوبه من حذر المكر يعني أن
هذا اللحظ من العبد ينبت له السرور إذا علم أن فضل ربه قد سبق له بذلك قبل أن يخلقه مع علمه به وبأحواله وتقصيره على التفصيل ولم يمنعه علمه به أن يقدر له ذلك الفضل والإحسان فهو أعلم به إذ أنشأه من الأرض وإذ هو جنين في بطن أمه ومع ذلك فقدر له من الفضل والجود ما قدره بدون سبب منه بل مع علمه بأنه يأتي من الأسباب ما يقتضي قطع ذلك ومنعه عنه
فإذا شاهد العبد ذلك اشتد سروره بربه وبمواقع فضله وإحسانه وهذا فرح محمود غير مذموم قال الله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ففضله الإسلام والإيمان ورحمته العلم والقرآن وهو يحب من عبده أن يفرح بذلك ويسر به بل يحب من عبده أن يفرح بالحسنة إذا عملها وأن يسر بها وهو في الحقيقة فرح بفضل الله حيث وفقه الله لها وأعانه عليها ويسرها له ففي الحقيقة إنما يفرح العبد بفضل الله وبرحمته
ومن أعظم مقامات الإيمان الفرح بالله والسرور به فيفرح به إذ هو عبده ومحبه ويفرح به سبحانه ربا وإلها ومنعما ومربيا أشد من فرح العبد بسيده المخلوق المشفق عليه القادر على مايريده العبد ويطلبه منه المتنوع في الإحسان إليه والذب عنه
وسيأتي عن قريب إن شاء الله تمام هذا المعنى في باب السرور
قوله إلا ما يشوبه من حذر المكر أي يمازجه فإن السرور والفرح يبسط النفس وينسيها وينسبها عيوبها وآفاتها ونقائصها إذ لو شهدت ذلك وأبصرته لشغلها ذلك عن الفرح

وأيضا فإن الفرح بالنعمة قد ينسيه المنعم فيشتغل بالخلعة التي خلعها عليه عنه فيطفح عليه السرور حتى يغيب بنعمته عنه وهنا يكون المكر إليه أقرب من اليد للفم
ولله كم ها هنا من مسترد منه ما وهب له عزة وحكمة وربما كان ذلك رحمة به إذ لو استمر على تلك الولاية لخيف عليه من الطغيان كما قال تعالى كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى فإذا كان هذا غنى بالحطام الفاني فكيف بالغنى بما هو أعلى من ذلك وأكثر فصاحب هذا إن لم يصحبه حذر المكر خيف عليه أن يسلبه وينحط عنه
والمكر الذي يخاف عليه منه أن يغيب الله سبحانه عنه شهود أوليته في ذلك ومنته وفضله وأنه محض منته عليه وأنه به وحده ومنه وحده فيغيب عن شهود حقيقة قوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله وقوله قل إن الأمر كله لله وقوله وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم وقوله وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك وقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من احد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وأمثال ذلك فيغيبه عن شهود ذلك ويحيله على معرفته في كسبه وطلبه فيحيله على نفسه التي لها الفقر بالذات ويحجبه عن الحوالة على المليء الوفي الذي له الغنى التام كله بالذات فهذا من أعظم أسباب المكر والله المستعان
ولو بلغ العبد من الطاعة ما بلغ فلا ينبغي له أن يفارقه هذا الحذر وقد خافه خيار خلقه وصفوته من عباده قال شعيب وقد قال له قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم

بعد إذ نجانا الله منها إلى قوله على الله توكلنا فرد الأمر إلى مشيئة الله تعالى وعلمه أدبا مع الله ومعرفة بحق الربوبية ووقوفا مع حد العبودية وكذلك قال إبراهيم لقومه وقد خوفوه بآلهتهم فقال ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما فرد الأمر إلى مشيئة الله وعلمه وقد قال تعالى أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
وقد اختلف السلف هل يكره أن يقول العبد في دعائه اللهم لا تؤمني مكرك
فكان بعض السلف يدعو بذلك ومراده لا تخذلني حتى آمن مكرك ولا أخافه وكرهه مطرف بن عبدالله بن الشخير
وقال الإمام أحمد حدثنا عبدالوهاب عن إسحاق عن مطرف أنه كان يكره أن يقول اللهم لا تنسني ذكرك ولا تؤمني مكرك ولكن أقول اللهم لا تنسني ذكرك وأعوذ بك أن آمن مكرك حتى تكون أنت تؤمنني
وبالجملة فمن أحيل على نفسه فقد مكر به
قال الإمام أحمدحدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا الصلت بن طريف المعولي حدثنا غيلان بن جرير عن مطرف قال وجدت هذا الإنسان ملقى بين الله عز و جل وبين الشيطان فإن يعلم الله تعالى في قلبه خيرا جبذه إليه وإن لم يعلم فيه خيرا وكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فقد هلك
وقال جعفر بن سليمان حدثنا ثابت عن مطرف قال لو أخرج قلبي فجعل في يدي هذه في اليسار وجيء بالخير فجعل في هذه اليمنى ثم قربت من الأخرى ما استطعت أن أولج في قلبي شيئا حتى يكون الله عز و جل يضعه
ومما يدل على أن الفرح من أسباب المكر مالم يقارنه خوف قوله تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا

بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون وقال قوم قارون له لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين فالفرح متى كان بالله وبما من الله به مقارنا للخوف والحذر لم يضر صاحبه ومتى خلا عن ذلك ضره ولا بد
قوله ويبعث على الشكر إلا ما قام به الحق عز و جل من حق الصفة هذا الكلام يحتمل معنيين
أحدهما أن يريد أن هذه الملاحظة تبعثه على الشكر لله في السراء والضراء في كل حين إلا ما عجزت قدرته عن شكره فإن الحق سبحانه هو الذي يقوم به لنفسه بحق كماله المقدس وكمال صفاته ونعوته فتلك الملاحظة تبسط للعبد الشكر الذي يعجز عنه ولا يقدر أن يقوم به فإن شكر العبد لربه نعمة من الله أنعم بها عليه فهي تستدعي شكرا آخر عليها وذلك الشكر نعمة أيضا فيستدعي شكرا ثالثا وهلم جرا فلا سبل إلى القيام بشكر الرب على الحقيقة ولا يشكره على الحقيقة سواه فإنه هو المنعم بالنعمة وبشكرها فهو الشكور لنفسه وإن سمى عبده شكورا فمدحة الشكر في الحقيقة راجعة إليه وموقوفة عليه فهو الشاكر لنفسه بما أنعم على عبده فما شكره في الحقيقة سواه مع كون العبد عبدا والرب ربا فهذا أحد المعنيين في كلامه
المعنى الثاني أن هذا اللحظ يبسطه للشكر الذي هو وصفه وفعله لا الشكر الذي هو صفة الرب جل جلاله وفعله فإنه سمى نفسه بالشكور كما قال تعالى وكان الله شاكرا عليما وقال أهل الجنة إن ربنا لغفور شكور فهذاالشكر الذي هو وصفه سبحانه لا يقوم إلا به ولا يبعث العبد على الملاحظة المذكورة إلا على وجه واحد وهو أنه إذا لاحظ سبق الفضل منه سبحانه علم أنه فعل ذلك لمحبته للشكر فإنه تعالى يحب أن يشكر كما قال موسى يا رب هلا ساويت بين عبادك فقال إني أحب أن اشكر

كان يحب الشكر فهو أولى أن يتصف به كما أنه سبحانه وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال محسن يحب المحسنين صبور يحب الصابرين عفو يحب العفو قوى والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف فكذلك هو شكور يحب الشاكرين فملاحظة العبد سبق الفضل تشهده صفة الشكر وتبعثه على القيام بفعل الشكر والله أعلم

فصل قال الدرجة الثانية ملاحظة نور الكشف وهي تسبل لباس التولي
وتذيق طعم التجلي وتعصم من عوار التسلي
هذه الدرجة أتم مما قبلها فإن تلك الدرجة ملاحظة ما سبق بنور العلم وهذه ملاحظة كشف بحال قد استولى على قلبه حتى شغله عن الخلق فأسبل عليه لباس توليه الله وحده وتوليه عما سواه
ونور الكشف عندهم هو مبدأ الشهود وهو نور تجلى معاني الأسماء الحسنى على القلب فتضيء به ظلمة القلب ويرتفع به حجاب الكشف
ولا تلتفت إلى غير هذا فتزل قدم بعد ثبوتها فإنك تجد في كلام بعضهم تجلي الذات يقتضي كذا وكذا وتجلي الصفات يقتضي كذا وكذا وتجلي الأفعال يقتضي كذا وكذا والقوم عنايتهم بالألفاظ فيتوهم المتوهم أنهم يريدون تجلي حقيقة الذات والصفات والأفعال للعيان فيقع من يقع منهم في الشطحات والطامات والصادقون العارفون برآء من ذلك

وإنما يشيرون إلى كمال المعرفة وارتفاع حجب الغفلة والشك والإعراض واستيلاءسلطان المعرفة على القلب بمحو شهود السوى بالكلية فلا يشهد القلب سوى معروفه
وينظرون هذا بطلوع الشمس فإنها إذا طلعت انطمس نور الكواكب ولم تعدم الكواكب وإنما غطى عليها نور الشمس فلم يظهر لها وجود وهي في الواقع موجودة في أماكنها وهكذا نور المعرفة إذا استولى على القلب قوى سلطانها وزالت الموانع والحجب عن القلب
ولا ينكر هذا إلا من ليس من أهله
ولا يعتقد أن الذات المقدسة والأوصاف برزت وتجلت للعبد كما تجلى سبحانه سبحانه للطور وكما يتجلى يوم القيامة للناس إلا غالط فاقد للعلم وكثيرا ما يقع الغلط من التجاوز من نور العبادات والرياضة والذكر إلى نور الذات والصفات
فإن العبادة الصحيحة والرياضة الشرعية والذكر المتواطىء عليه القلب واللسان يوجب نورا على قدر قوته وضعفه وربما قوى ذلك النور حتى يشاهد بالعيان فيغلط فيه ضعيف العلم والتمييز بين خصائص الربوبية ومقتضيات العبودية فيظنه نور الذات وهيهات ثم هيهات نور الذات لا يقوم له شيء ولو كشف سبحانه وتعالى الحجاب عنه لتدكدك العالم كله كما تدكدك الجبل وساخ لما ظهر له القدر اليسير من التجلي
وفي الصحيح عنه إن الله سبحانه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل

النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه أحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه / ح /
فالإسلام له نور والإيمان له نور أقوى منه والإحسان له نور أقوى منهما فإذا اجتمع الإسلام والإيمان والإحسان وزالت الحجب الشاغلة عن الله تعالى امتلأ القلب والجوارح بذلك النور لا بالنور الذي هو صفة الرب تعالى فإن صفاته لا تحل في شيء من مخلوقاته كما أن مخلوقاته لا تحل فيه فالخالق سبحانه بائن عن المخلوق بذاته وصفاته فلا اتحاد ولا حلول ولا ممازجة تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا
قوله ويعصم من عوار التسلي العوار العيب والتسلي السلوة عن المحبوب الذي لا حياة للقلب ولا نعيم إلا بحبه والقرب منه والأنس بذكره فإن سلو القلب وغفلته عن ذكره هو من أعظم العيوب فهذه الملاحظة إذا صدقت عصمت صاحبها عن عيب سلوته عن مطلوبه ومراده فإنه في هذه الدرجة مستغرق في شهود الأسماء والصفات وقد استولى على قلبه نور الإيمان بها ومعرفتها ودوام ذكرها ومع هذا فباب السلوة عليه مسدود وطريقها عليه مقطوع والمحب يمكنه التسلي قبل ان يشاهد جمال محبوبه ويستغرق في شهود كماله ويغيب به عن غيره فإذا وصل إلى هذه الحال كان كما قيل
مرت بأرجاء الخيال طيوفه ... فبكب على رسم السلو الدارس

فصل قال الدرجة الثالثةملاحطة عين الجمع وهي توقظ لاستهانةالمجاهد
ات والتخلص من رعونة المعارضات وتفيد مطالعة البدايات
هذه الدرجة عنده أرفع مما قبلها فإن ما قبلها مطالعة كشف الأنوار تشير إلى نوع كسب واختيار وهذه مطالعة تجذب القلب من التفرق في أودية إلإرادات وشعاب الأحوال والمقامات إلى ما استولى عليه من عين الجمع

الناظر إلى الواحد الفرد الأول الذي ليس قبله شيء الآخر الذي ليس بعده شيء الظاهر الذي ليس فوقه شيء الباطن الذي ليس دونه شيء سبق كل شيء بأوليته وبقي بعد كل شيء بآخريته وعلا فوق كل شيء بظهوره وأحاط بكل شيء ببطونه
فالنظر بهذه العين يوقظ قلبه لاستهانته بالمجاهدات
ومعنى ذلك أن السالك في مبدأ أمره له شرة وفي طلبه حدة تحمله على أنواع المجاهدات وترميه عليها لشدة طلبه ففتوره نائم واجتهاده يقظان
فإذا وصل إلى هذه الدرجة استهان بالمجاهدات الشاقة في جنب ما حصل له من مقام الجمع على الله واستراح من كدها فإن ساعة من ساعات الجمع على الله أنفع وأجدى عليه من القيام بكثير من المجاهدات البدنية التي لم نيرضها الله عليه فإذا جمع همه وقلبه كله على الله وزال كل مفرق ومشتت كانت هذه هي ساعات عمره في الحقيقة فتعوض بها عما كان يقاسيه من كد المجاهدات وتعبها
وهذا موضع غلط فيه طائفتان من الناس
إحداهما غلت فيه حتى قدمته علىالفرائض والسنن ورأت نزولها عنه إلى القيام بالأوامر انحطاطا من الأعلى إلى الأدنى حتى قيل لبعض من زعم أنه ذاق ذلك قم إلى الصلاة فقال
يطالب بالأوراد من كان غافلا ... فكيف بقلب كل أوقاته ورد
وقال آخر لا تسيب واردك لو ردك
وهؤلاء بين كافر وناقص
فمن لم ير القيام بالفرائض إذا حصلت له الجمعية فهو كافر منسلخ من الدين ومن عطل لها مصلحة راجحة كالسنن الرواتب والعلم النافع والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنفع العظيم المتعدي فهو ناقص

والطائفة الثانية لا تعبأ بالجمعية ولا تعمل عليها ولعلها لا تدري ما مسماها ولا حقيقتها
وطريقة الأقوياء أهل الاستقامة القيام بالجمعية بالجمعة في التفرقة ما أمكن فيقوم أحدهم بالعبادات ونفع الخلق والإحسان إليهم مع جمعيته على الله فإن ضعف عن اجتماع الأمرين وضاق عن ذلك قام بالفرائض ونزل عن الجمعية ولم يلتفت إليها إداء كان لا يقدر على تحصيلها إلا بتعطيل الفرض فإن ربه سبحانه يريد منه إداء فرائضه ونفسه تريد الجمعية لما فيها من الراحة واللذة والتخلص من ألم التفرقة وشعثها فالفرائض حق ربه والجمعية حظه هو

فالعبودية الصحيحة توجب عليه تقديم أحد الأمرين على الآخر فإذا جاء إلى النوافل وتعارض عنده الأمران فمنهم من يرجح الجمعية
ومنهم من يرجح النوافل ومنهم من يؤثر هذا في وقت وهذا في وقت
والتحقيق إن شاء الله أن تلك النوافل إن كانت مصلحتها أرجح من الجمعية ولا تعوضه الجمعية عنها اشتغل بها ولو فاتت الجمعية كالدعوة إلى الله وتعليم العلم النافع وقيام وسط الليل والذكر أول الليل وآخره وقراءة القرآن بالتدبر ونفل الجهاد والإحسان إلى المضطر وإغاثة الملهوف ونحو ذلك فهذا كله مصلحته أرجح من مصلحة الجمعية
وإن كانت مصلحته دون الجمعية كصلاة الضحى وزيارة الإخوان والغسل لحضور الجنائز وعيادةالمرضى وإجابةالدعوات وزيارةالقدس وضيافةالإخوان ونحو ذلك فهذا فيه تفصيل
فإن قويت جمعيته فظهر تأثيرها فيه فهي أولى له وأنفع من ذلك وإن ضعفت الجمعية وقوي أخلاصه في هذه الأعمال فهي أنفع له وأفضل من الجمعية والمعول عليه في ذلك كله إيثار أحب الأمرين إلى الرب تعالى
وذلك يعرف بنفع العمل وثمرته من زيادة الإيمان به وترتب الغايات الحميدة عليه وكثرة مواظبة الرسول وشدة اعتنائه به وكثرة الوصية به وإخباره أن الله يحب فاعله ويباهي به الملائكة ونحو ذلك
ونكتة المسألة وحرفها أن الصادق في طلبه يؤثر مرضاة ربه على حظه فإن كان رضى الله في القيام بذلك العمل وحظه في الجمعية خلى الجمعية تذهب وقام بما فيه رضى الله ومتى علم الله من قلبه أن تردده وتوقفه ليعلم أي الأمرين أحب إلى الله وأرضى له أنشأ له من ذلك التوقف والتردد حالة شريفة فاضلة حتى لو قدم المفضول لظنه أنه الأحب إلى الله ردت تلك النية والإرادة عليه ما ذهب عليه وفاته من زيادة العمل الآخر وبالله التوفيق

وفي كلامه معنى آخر وهو أن صاحب المجاهدات مسافر بعزمه وهمته إلى الله فإذا لاحط عين الجمع وهي الوحدانية التي شهود عينها هو انكشاف حقيقتها للقلب كان بمنزلة مسافر جاد في سيره وقد وصل إلى المنزل وقرت عينه بالوصول وسكنت نفسه كما قيل
فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
ولكن هذا الموضع مورد الصديق الموحد والزنديق الملحد
فالزنديق يقول الاشتغال بالسير بعد الوصول عيب لا فائدة فيه والوصول عنده هو ملاحظة عين الجمع فإذا استغرق في هذا الشهود وفنى به عن كل ما سواه ظن أن ذلك هو الغاية المطلوبة بالأوراد والعبادات وقد حصلت له الغاية فرأى قيامه بها أولى به وأنفع له من الاشتغال بالوسيلة فالعبادات البدنية عنده وسيلة لغاية وقد حصلت فلا معنى للاشتغال بالوسيلة بعدها كما يقول كثير من الناس إن العلم وسيلة إلى العمل فإذا اشتغلت بالغاية لم تحتج إلى الوسيلة
وقد اشتد نكير السلف من أهل الاستقامة من الشيوخ على هذه الفرقة وحذروا منهم وجعلوا أهل الكبائر وأصحاب الشهوات خيرا منهم وأرجى عاقبة
وأما الصديق الموحد فإذا وصل إلى هناك صارت أعماله القلبية والروحية أعظم من أعماله البدنية ولم يسقط من أعماله شيئا ولكنه استراح من كد المجاهدات بملاحظة عين الجمع وصار بمنزلة مسافر طلب ملكا عظيما رحيما جوادا فجد في السفر إليه خشية أن يقتطع دونه فلما وصل إليه ووقع بصره عليه بقي له سير آخر في مرضاته ومحابه فالأول كان سيرا إليه وهذا سير في محابه ومراضيه فهذا أقرب ما يقال في كلام الشيخ وأمثاله في ذلك

وبعد فالعبد وإن لاحظ عين الجمع ولم يغب عنها فهو سائر إلى الله ولا ينقطع سيره إليه ما دام في قيد الحياة ولا يصل العبد ما دام حيا إلى الله وصولا يستغنى به عن السير إليه البتة وهذا عين المحال بل يشتد سيره إلى الله كلما زادت ملاحظته لتوحيده وأسمائه وصفاته ولهذا كان رسول الله أعظم الخلق اجتهادا وقياما بالأعمال ومحافظة عليها إلى أن توفاه الله وهو أعظم ما كان اجتهادا وقياما بوظائف العبودية فلو اتى العبد بأعمال الثقلين جميعها لم تفارقه حقيقة السير إلى الله وكان بعد في طريق الطلب والإرادة
وتقسيم السائرين إلى الله إلى طالب وسائر وواصل أو إلى مريد ومراد تقسيم فيه مساهلة لا تقسيم حقيقي فإن الطلب والسلوك والإرادة لو فارق العبد لانقطع عن الله بالكلية
ولكن هذا التقسيم باعتبار تنقل العبد في أحوال سيره وإلا فإرادة العبد المراد وطلبه وسيره أشد من إرادة غيره وطلبه وسيره
وأيضا فإنه مراد أولا حيث أقيم في مقام الطلب وجذب إلى السير فكل مريد مراد وكل واصل وسالك وطالب لا يفارقه طلبه ولا سيره وإن تنوعت طرق السير بحسب اختلاف حال العبد
فمن السالكين من يكون سيره ببدنه وجوارحه أغلب عليه من سيره بقلبه وروحه
ومنهم من سيره بقلبه أغلب عليه أعني قوة سيره وحدته
ومنهم وهم الكمل الأقوياء من يعطي كل مرتبة حقها فيسير إلى الله ببدنه وجوارحه وقلبه وروحه
وقد أخبر الله سبحانه عن صفوة أوليائه بأنهم دائما في مقام الإرادة له فقال

تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وقال تعالى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى فالعبد أخص أوصافه وأعلى مقاماته أن يكون مريدا صادق الإرادة عبدا في إرادته بحيث يكون مراده تبعا لمراد ربه الديني منه ليس له إرادة في سواه
وقد يحمل كلام الشيخ على معنى آخر وهو أن يكون معنى قوله إن ملاحظة عين الجمع توقظ الاستهانة بالمجاهدات أنه يوقظه من نوم الاستهانة بالمجاهدات وتكون اللام للتعليل أي يوقظه من سنة التقصير لاستهانته بالمجاهدات وهذا معنى صحيح في نفسه فإن العبد كلما كان إلى الله أقرب كان جهاده في الله أعظم قال الله تعالى وجاهدوا في الله حق جهاده
وتأمل أحوال رسول الله وأصحابه فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب في مقام عظم جهادهم واجتهادهم لا كما ظنه بعض الملاحدة المنتسبين إلى الطريق حيث قال القرب الحقيقي تنقل العبد من الأحوال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة ويريح الجسد والجوارح من كد العمل
وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة التي هي من أماني النفس وخدع الشيطان وكأن قائلهم إنما عنى نفسه وذوى مذهبه بقوله
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
وقد صرح أهل الاستقامة وأئمة الطريق بكفر هؤلاء فأخرجوهم من الإسلام وقالوا لو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة أي ما دام قادرا عليه

وهؤلاء يظنون أنهم يستغنون بهذه الحقيقة عن ظاهر الشريعة
وأجمعت هذه الطائفة على أن هذا كفر وإلحاد وصرحوا بأن كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر
قال سرى السقطي من ادعى باطن حقيقة ينقضها ظاهر حكم فهو غالط وقال سيد الطائفة الجنيد بن محمد علمنا هذا مشتبه بحديث رسول الله وقال إبراهيم بن محمد النصرابادي أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف وترك ما أحدثه الآخرون والمقام على ما سلك الأولون وسئل إسماعيل بن نجيد ما الذي لا بد للعبد منه فقال ملازمة العبودية على السنة ودوام المراقبة وسئل ما التصوف فقال الصبر تحت الأمر والنهي وقال احمد بن أبي الحواري من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله وقال الشبلي يوما ومد يده إلى ثوبه لولا أنه عارية لمزقته فقيل له رؤيتك في تلك الغلبة ثيابك وأنها عارية فقال نعم أرباب الحقائق محفوظ عليهم في كل الأوقات الشريعة وقال أبو يزيد البسطامي لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود والشريعة وقال عبدالله الخياط الناس قبل رسول الله كانوا مع ما يقع في قلوبهم فجاء النبي فردهم من القلب إلى الدين والشريعة ولما حضرت أبا عثمان الحيرى الوفاة مزق ابنه أبو بكر

قميصه ففتح أبو عثمان عينيه وقال يا بني خلاف السنة في الظاهر من رياء باطن في القلب ومن كلام ابن عثمان هذا أسلم الطرق من الاغترار طريق السلف ولزوم الشريعة وقال عبدالله بن مبارك لا يظهر على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة وكل موضع ترى فيه اجتهادا ظاهرا بلا نور فاعلم أن ثم بدعة خفية وقال سهل بن عبدالله الزم السواد على البياض حدثنا وأخبرنا إن أردت أن تفلح
ولقد كان سادات الطائفة أشد ما كانوا اجتهادا في آخر أعمارهم
قال القشيري سمعت أبا علي الدقاق يقول رؤى في يد الجنيد سبحة فقيل له أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة فقال طريق وصلت به إلى ربي تبارك وتعالى لا أفارقه أبدا وقال إسماعيل بن نجيد كان الجنيد يجيء كل يوم إلى السوق فيفتح باب حانوته فيدخله ويسبل الستر ويصلي أربعمائة ركعة ثم يرجع إلى بيته ودخل عليه ابن عطاء وهو في النزع فسلم عليه فلم يرد عليه ثم رد عليه بعد ساعة فقال اعذرني فإني كنت في وردي ثم حول وجهه إلى القبلة وكبر ومات وقال أبو سعيد بن الأعرابي سمعت أبا بكر العطار يقول حضرت أبا القاسم الجنيد أنا وجماعة من أصحابنا فكان قاعدا يصلي ويثني رجله إذا أراد أن يسجد فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجليه فثقلت عليه حركتها وكانتا قد تورمتا فقال له بعض أصحابه ما هذا يا أبا القاسم فقال هذه نعم الله الله أكبر فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري يا أبا القاسم لو اضطجعت فقال يا أبا محمد هذا

وقت يؤخذ فيه الله أكبر فلم يزل ذلك حاله حتى مات ودخل عليه شاب وهو في مرضه الذي مات فيه وقد تورم وجهه وبين يديه مخدة يصلي إليها فقال وفي هذه الساعة لا تترك الصلاة فلما سلم دعاه وقال شيء وصلت به إلى الله فلا أدعه ومات بعد ساعة رحمة الله عليه
وقال أبو محمد الجريري كنت واقفا على رأس الجنيد في وقت وفاته وكان يوم جمعة ويوم نيروز وهو يقرأ القرآن فقلت له يا أبا القاسم ارفق بنفسك فقال يا أبا محمد أرأيت أحدا أحوج إليه مني في مثل هذا الوقت وهو ذا تطوى صحيفتي وقال أبو بكر العطوي كنت عند الجنيد حين مات فختم القرآن ثم ابتدأ في ختمة أخرى فقرأ من البقرة سبعين آية ثم مات
وقال محمد بن إبراهيم رأيت الجنيد في النوم فقلت ما فعل الله بك فقال طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار وتذاكروا بين يديه أهل المعرفة وما استهانوا به من الأوراد والعبادات بعد ما وصلوا إليه فقال الجنيد العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك وقال الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته ولزم طريقته فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه وقال من ظن أنه يصل ببذل المجهود فمتعن ومن ظن أنه يصل بغير بذل المجهود فمتمن وقال أبو نعيم سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن جعفر بن هانىء يقول سألت الجنيد ما علامة الإيمان فقال علامته طاعة من آمنت به والعمل بما يحبه ويرضاه وترك التشاغل عنه بما ينقضي ويزول

فرحمة الله على أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه ما أتبعه لسنة الرسول وما وما أقفاه لطريقة أصحابه
وهذا باب يطول تتبعه جدا يدلك على أن أهل الاستقامة في نهاياتهم أشد اجتهادا منهم في بداياتهم بل كان اجتهادهم في البداية في عمل مخصوص فصار اجتهادهم في النهاية الطاعة المطلقة وصارت إرادتهم دائرة معها فتضعف الاجتهاد في المعنى المعين لأنه كان مقسوما بينه وبين غيره
ولا تصغ الى قول ملحد قاطع للطريق في قالب عارف يقول إن منزلة القرب تنقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة وتحمل على الاستهانة بالطاعات الظاهرة وتريحه من كد القيام بها

فصل قوله وتخلص من رعونة المعارضات يريد أن هذه الملاحظة تخلص
العبد من رعونة معارضة حكم الله الديني والكوني الذي لم يأمر بمعارضته فيستسلم للحكمين فإن ملاحظة عين الجمع تشهده أن الحكمين صدرا عن عزيز حكيم فلا يعارض حكمه برأي ولا عقل ولا ذوق ولا خاطر
وأيضا فتخلص قلبه من معارضات السوى للأمر فإن الأمر يعارض بالشهوة والخبر يعارض بالشك والشبهة فملاحظة عين الجمع تخلص قلبه من هاتين المعارضتين وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من لقي الله به هذا تفسير أهل الحق والاستقامة
وأما أهل الإلحاد فقالوا المراد بالمعارضات ههنا الإنكار على الخلق فيما يبدو منهم من أحكام البشرية لأن المشاهد لعين الجمع يعلم أن مراد الله من الخلق ما هم عليه فإذا علم ذلك بحقيقة الشهود كانت المعارضات والإنكار عليهم من رعونات الأنفس المحجوبة

وقال قدوتهم في ذلك العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر وهذا عين الاتحاد والإلحاد والانسلاخ من الدين بالكلية وقد أعاذ الله شيخ الإسلام من ذلك وإذا كان الملحد يحمل كلام الله ورسوله ما لا يحتمله فما الظن بكلام مخلوق مثله
فيقال إنما بعث الله رسله وأنزل كتبه بالإنكار على الخلق بما هم عليه من أحكام البشرية وغيرها فبهذا أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وانقسمت الدار إلى دار سعادة للمنكرين ودار شقاوة للمنكر عليهم فالطعن في ذلك طعن في الرسل والكتب والتخلص من ذلك انحلال من ربقة الدين ومن تأمل أحوال الرسل مع أممهم وجدهم كانوا قائمين بالإنكار عليهم أشد القيام حتى لقوا الله تعالى وأوصوا من آمن بهم بالإنكار على من خالفهم وأخبر النبي أن المتخلص من مقامات الإنكار الثلاثة ليس معه من الإيمان حبة خردل وبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد المبالغة حتى قال إن الناس إذا تركوه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده
وأخبر أن تركه يمنع إجابة دعاء الأخيار ويوجب تسلط الأشرار
وأخبر أن تركه يوقع المخالفة بين القلوب والوجوه ويحل لعنه الله كما لعن الله بني إسرائيل على تركه
فكيف يكون الإنكار من رعونات النفوس وهو مقصود الشريعة
وهل الجهاد إلا على أنواع الإنكار وهو جهاد باليد وجهاد أهل العلم إنكار باللسان
وأما قوله إن المشاهد أن مراد الله من الخلائق ما هم عليه
فيقال له الرب تعالى له مرادان كوني وديني فهب أن مراده الكوني منهم ما هم عليه فمراده الديني الأمري الشرعي هو الإنكار على أصحاب المراد الكوني فإذا عطلت مراده الديني لم تكن واقفا مع مراده الديني الذي يحبه

ويرضاه ولا ينفعك وقوفك مع مراده الكوني الذي قدره وقضاه إذ لو نفعك ذلك لم يكن للشرائع معنى البتة ولا للحدود والزواجر ولا للعقوبات الدنيوية ولا للأخذ على أيدي الظلمة والفجار وكف عدوانهم وفجورهم فإن العارف عندك يشهد أن مراد الله منهم هو ذلك وفي هذا فساد الدنيا قبل الأديان
فهذا المذهب الخبيث لا يصلح عليه دنيا ولا دين ولكنه رعونة نفس قد أخلدت إلى الإلحاد وكفرت بدين رب العباد واتخذت تعطيل الشرائع دينا ومقاما ووساوس الشيطان مسامرة وإلهاما وجعلت أقدار الرب تعالى مبطلة لما بعث به رسله ومعطلة لما أنزل به كتبه وجعلوا هذا الإلحاد غاية المعارف الألهية وأشرف المقامات العلية ودعوا إلى ذلك النفوس المبطلة الجاهلة بالله ودينه فلبوا دعوتهم مسرعين واستخف الداعي منهم قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين
وأما قوله إن الإنكار من معارضات النفوس المحجوبة
فلعمر الله إنهم لفي حجاب منيع من هذا الكفر والإلحاد ولكنهم يشرفون على أهله وهم في ضلالتهم يعمهون وفي كفرهم يترددون ولأتباع الرسل يحاربون وإلى خلاف طريقهم يدعون وبغير هداهم يهتدون وعن صراطهم المستقيم ناكبون ولما جاءا به يعارضون يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء إلا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا

إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون إولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين

فصل قوله وتفيد مطالعة البدايات يحتمل كلامه أمرين أحدهما أن
ملاحظة عين الجمع تفيد صابحها مطالعة السوابق التي ابتدأه الله بها فتفيده ملاحظة عين الجمع نظرة إلى أولية الرب تعالى في كل شيء
ويحتمل أن يريد بالبدايات بدايات سلوكه وحدة طلبه فإنه في حال سلوكه لا يلتفت إلى ما وراءه لشدة شغله بما بين يديه وغلبة أحكام الهمة عليه فلا يتفرغ لمطالعة بداياته فإذا لاحظ عين الجمع قطع السلوك الأول وبقى له سلوك ثان فتفرغ حينئذ إلى مطالعة بداياته ووجد اشتياقا منه إليها كما قال الجنيد واشوقاه إلى أوقات البداية
يعني لذة أوقات البداية وجمع الهمة على الطلب والسير إلى الله فإنه كان مجموع الهمة على السير والطلب فلما لاحظ عين الجمع فنيت رسومه وهو لا يمكنه الفناء عن بشريته وأحكام طبيعته فتقاصت طباعه ما فيها فلزمته الكلف فارتاح إلى أوقات البدايات لما كان فيها من لذة الإعراض عن الخلق واجتماع الهمة
ومر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على رجل وهو يبكي من خشية الله فقال هكذا كنا حتى قست قلوبنا
وقد أخبر النبي إن لكل عامل شرة ولك شرة فترة
فالطالب الجاد لا بدأن تعرض له فترة فيشتاق في تلك الفترة إلى حاله وقت الطلب والاجتهاد
ولما فتر الوحي عن النبي كان يغدو إلى شواهق الجبال

ليلقى نفسه فيبدو له جبريل عليه السلام فيقول له إنك رسول الله فيسكن لذلك جأشه وتطمئن نفسه
فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لا بد منه فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد ولم تخرجه من فرض ولم تدخله في محرم رجى له أن يعود خيرا مما كان
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه إن لهذه القلوب إقبالا وإدبارا فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل وإن أدبرت فألزموها الفرائض
وفي هذه الفترات والغيوم والحجب التي تعرض للسالكين من الحكم مالا يعلم تفصيله إلا الله وبها يتبين الصادق من الكاذب
فالكاذب ينقلب على عقبيه ويعود إلى رسوم طبيعته وهواه 3والصادق ينتظر الفرج ولا ييأس من روح الله ويلقى نفسه بالباب طريحا ذليلا مسكينا مستكينا كالإناء الفارغ الذي لا شيء فيه البتة ينتظر أن يضع فيه مالك الإناء وصانعه ما يصلح له لا بسبب من العبد وإن كان هذا الافتقار من أعظم الأسباب لكن ليس هو منك بل هو الذي من عليك به وجردك منك وأخلاك عنك وهو الذي يحول بين المرء وقلبه
فإذا رأيته قد أقامك في هذا المقام فاعلم أنه يريد أن يرحمك ويملأ إناءك فإن وضعت القلب في غير هذا الموضع فاعلم أنه قلب مضيع فسل ربه ومن هو بين أصابعه أن يرده عليك ويجمع شملك به ولقد أحسن القائل
إذا ما وضعت القلب في غير موضع ... بغير إناء فهو قلب مضيع

فصل ومنها الوقت قال صاحب المنازل
باب الوقت
قال الله تعالى ثم جئت على قدر يا موسى الوقت اسم لظرف الكون وهو اسم في هذا الباب لثلاثة معان على ثلاث درجات المعنى الأول حين وجد صادق لأنياس ضياء فضل جذبه صفاء رجاء أو لعصمة جذبها صدق خوف أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة
وجه استشهاده بالآية أن الله سبحانه قدر مجيء موسى أحوج ما كان الوقت إليه فإن العرب تقول جاء فلان على قدر إذا جاء وقت الحاجة إليه قال جرير
نال الخلافة إذ كانت على قدر ... كما أتى ربه موسى على قدر
وقال مجاهد على موعد وهذا فيه نظر لأنه لم يسبق بين الله سبحانه وبين موسى موعد للمجيءحتى يقال إنه أتى على ذلك الموعد
ولكن وجه هذا أن المعنى جئت على الموعد الذي وعدنا أن ننجزه والقدر الذي قدرنا أن يكون في وقته وهذا كقوله تعالى إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا لأن الله سبحانه وتعالى وعد بإرسال نبي في آخر الزمان يملأ الأرض نورا وهدى فلما سمعوا القرآن علموا أن الله أنجز ذلك الوعد الذي وعد به
واستشهاده بهذه الآية يدل على محله من العلم لأن الشيء إذا وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه كان أحسن وأنفع وأجدى كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه وكما إذا وقع الفرج في وقته الذي يليق به

ومن تأمل أقدار الرب تعالى وجريانها في الخلق علم أنها واقعة في أليق الأوقات بها
فبعث الله سبحانه موسى أحوج ما كان الناس إلى بعثته وبعث عيسى كذلك وبعث محمد وعليهم أجمعين أحوج ما كان أهل الأرض إلى إرساله فهكذا وقت العبد مع الله يعمره بأنفع الأشياء له أحوج ما كان إلى عمارته
قوله الوقت ظرف الكون الوقت عبارة عن مقاربة حادث لحادث عند المتكلمين فهو نسبة بين حادثين فقوله ظرف الكون أي وعاء التكوين فهو الوعاء الزماني الذي يقع فيه التكوين كما أن ظرف المكان هو الوعاء المكاني الذي يحصل فيه الجسم
ولكن الوقت في اصطلاح القوم أخص من ذلك
قال أبو على الدقاق الوقت ما أنت فيه فإن كنت في الدنيا فوقتك الدنيا وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى وإن كنت بالسرور فوقتك السرور وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن
يريد أن الوقت ما كان الغالب على الإنسان من حاله
وقد يريد أن الوقت ما بين الزمانين الماضي والمستقبل وهو اصطلاح أكثر الطائفة ولهذا يقولون الصوفي والفقير ابن وقته
يريدون أن همته لا تتعدى وظينة عمارته بما هو أولى الأشياء به وأنفعها له فهو قائم بما هو مطالب به في الحين والساعة الراهنة فهو لا يهتم بماضي وقته وآتيه بل يهتم بوقته الذي هو فيه فإن الاشتغال بالوقت الماضي والمستقبل يضيع الوقت الحاضر وكلما حضر وقت اشتغل عنه بالطرفين فتصير أوقاته كلها فوات

قال الشافع رضي الله عنه صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين سمعتهم يقولون الوقت سيف فإن قطعته وإلا قطعك ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل
قلت يا لهما من كلمتين ما أنفعهما وأجمعهما وأدلهما على علو همة قائلهما ويقظته ويكفي في هذا ثناء الشافعي على طائفة هذا قدر كلماتهم
وقد يريدون بالوقت ما هو أخص من هذا كله وهو ما يصادفهم في تصريف الحق لهم دون ما يختارونه لأنفسهم ويقولون فلان بحكم الوقت أي مستسلم لما يأتي من عند الله من غير اختيار
وهذا يحسن في حال ويحرم في حال وينقص صاحبه في حال فيحسن في كل موضع ليس لله على العبد فيه أمر ولا نهي بل في موضع جريان الحكم الكوني الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي كالفقر والمرض والغربة والجوع والألم والحر والبرد ونحو ذلك
ويحرم في الحال التي يجري عليه فيها الأمر والنهي والقيام بحقوق الشرع فإن التضييع لذلك والاستسلام والاسترسال مع القدر انسلاخ من الدين بالكلية وينقص صاحبه في حال تقتضي قياما بالنوافل وأنواع البر والطاعة
وإذا أراد الله بالعبد خيرا أعانه بالوقت وجعل وقته مساعدا له وإذا أراد

به شرا جعل وقته عليه وناكده وقته فكلما أراد التأهب للمسير لم يساعده الوقت والأول كلما همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده
وقد قسم بعضهم الصوفية أربعة أقسام أصحاب السوابق وأصحاب العواقب وأصحاب الوقت وأصحاب الحق قال
فأما أصحاب السوابق فقلوبهم أبدا فيما سبق لهم من الله لعلمهم أن الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد
ويقولون من أقصته السوابق لم تدنه الوسائل ففكرهم في هذا أبدا ومع ذلك فهم يجدون في القيام بالأوامر واجتناب النواهي والتقرب إلى الله بأنواع القرب غير واثقين بها ولا ملتفتين إليها ويقول قائلهم
من أين أرضيك إلا أن توفقني ... هيهات هيهات ما التوفيق من قبلي
إن لم يكن لي في المقدور سابقة ... فليس ينفع ما قدمت من عملي
وأما أصحاب العواقب فهم متفكرون فيما يختم به أمرهم فإن الأمور بأواخرها والأعمال بخواتيمها والعاقبة مستورة كما قيل
لا يغرنك صفا الأوقات ... فإن تحتها غوامض الآفات
فكم من ربيع نورت أشجاره وتفتحت أزهاره وزهت ثماره لم يلبث أن أصابته جائحة سماوية فصار كما قال الله عز و جل حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها إلى قوله يتفكرون
فكم من مريد كبا به جواد عزمه ... فخر صريعا لليدين وللفم
وقيل لبعضهم وقد شوهد منه خلاف ما كان يعهد عليه ما الذي أصابك فقال حجاب وقع وأنشد
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا
تعجبين من سقمي ... صحتي هي العجب

الناكصون على أعقابهم أضعاف أضعاف من اقتحم العقبة
خذ من الألف واحدا ... واطرح الكل من بعده
وأما أصحاب الوقت فلم يشتغلوا بالسواق ولا بالعواقب بل اشتغلوا بمراعاة الوقت وما يلزمهم من أحكامه وقالوا العارف ابن وقته لا ماضي له ولا مستقبل
ورأى بعضهم الصديق رضي الله عنه في منامه فقال له أوصني فقال هل كن ابن وقتك
وأما أصحاب الحق فهم مع صاحب الوقت والزمان ومالكهما ومدبرهما مأخوذون بشهوده عن مشاهدة الأوقات لا يتفرغون لمراعاة وقت ولا زمان كما قيل
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلى ... ولرعي النجوم كنت مخلى
إن للعاشقين عن قصر اللي ... ل وعن طوله من العشق شغلا
قال الجنيد دخلت على السرى يوما فقلت له كيف أصبحت فأنشأ يقول
ما في النهار ولا في الليل لي فرج ... فلا أبالي أطال الليل أم قصرا
ثم قال ليس عند ربكم ليل ولا نهار
يشير إلى أنه غير متطلع إلى الأوقات بل هو مع الذي يقدر الليل والنهار

فصل قال صاحب المنازل الوقت اسم في هذا الباب لثلاث معان المعنى
الأول حين وجد صادق أي وقت وجد صادق أي زمن من وجد يقوم بقلبه وهو صادق منه غير متكلف له ولا متعمل في تحصيله
يكون متعلقه إيناس ضياء فضل أي رؤية ذلك والإيناس الرؤية

قال الله تعالى فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا وليس هو مجرد الرؤية بل رؤية ما يأنس به القلب ويسكن إليه ولا يقال لمن رأى عدوه أو مخوفا آنسه
ومقصوده أن هذا الوقت وقت وجد صاحبه صادق فيه لرؤيته ضياء فضل الله ومنته عليه والفضل هو العطاء الذي لا يستحقه المعطى أو يعطى فوق استحقاقه فإذا آنس هذا الفضل وطالعه بقلبه أثار ذلك فيه وجدا آخر باعثا على محبة صاحب الفضل والشوق إلى لقائه فإن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها
ودخلت يوما على بعض أصحابنا وقد حصل له وجد أبكاه فسألته عنه فقال ذكرت ما من الله به علي من السنة ومعرفتها والتخلص من شبه القوم وقواعدهم الباطلة وموافقة العقل الصريح والفطرة السليمة لما جاء به الرسول فسرني ذلك حتى أبكاني
فهذا الوجد أثاره إيناس فضل الله ومنته
قوله جذبه صفاء رجاء أي جذب ذلك الوجد أو الإيناس أو الفضل رجاء صاف غير مكدر والرجاء الصافي هو الذي لا يشوبه كدر توهم معاوضة منك وأن عملك هو الذي بعثك على الرجاء فصفاء الرجاء يخرجه عن ذلك بل يكون رجاء محضا لمن هو مبتدئك بالنعم من غير استحقاقك والفضل كله له ومنه وفي يده أسبابه وغاياته ووسائله وشروطه وصرف موانعه كلها بيد الله لا يستطيع العبد أن ينال منه شيئا بدون توفيقه وإذنه ومشيئته
وملخص ذلك أن الوقت في هذه الدرجة الأولى عبارة عن وجد صادق سببه رؤية فضل الله على عبده لأن رجاءه كان صافيا من الأكدار
قوله أو لعصمة جذبها صدق خوف اللام في قوله أو لعصمة

معطوف على اللام في قوله أو لإيناس ضياء فضل أي وجد لعصمة جذبها صدق خوف فاللام ليست للتعليل بل هي على حدها في قولك ذوق لكذا ورؤية لكذا فمتعلق الوجد عصمة وهي منعة وحفظ ظاهر وباطن جذبها صدق خوف من الرب سبحانه
والفرق بين الوجد في هذ الدرجة والتي قبلها أن الوجد في الأولى جذبه صدق الرجاء وفي الثانية جذبه صدق الخوف وفي الثالثة التي ستذكر جذبه صدق الحب فهو معنى قوله أو التلهب شوق جذبه اشتعال محبة
وخدمته التورية في اللهيب والأشتعال والمحبة متى قويت اشتعلت نارها في القلب فحدث عنها لهيب الاشتياق إلى لقاء الحبيب وهذه الثلاثة التي تضمنتها هذه الدرجة وهي الحب والخوف والرجاء هي التي تبعث على عمارة الوقت بما هو الأولى لصاحبه والأنفع له وهي أساس السلوك والسير إلى الله وقد جمع الله سبحانه الثلاثة في قوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وهذه الثلاثة هي قطب رحى العبودية وعليها دارت رحى الأعمال والله أعلم

فصل قال والمعنى الثاني اسم لطريق سالك يسير بين تمكن وتلون ولكنه
إلى التمكن ما هو يسلك الحال ويلتفت إلى العلم فالعلم يشغله في حين والحال يحمله في حين فبلاؤه بينهما يذيقه شهودا طورا ويكسوه عبدة طورا ويريه غيرة تفرق طورا
هذا المعنى هو المعنى الثاني من المعاني الثلاثة من معاني الوقت عنده
قوله اسم لطريق سالك هو على الإضافة أي لطريق عبد سالك

قوله يسير بين تمكن وتلون أي ذلك العبد يسير بين تمكن وتلون
والتمكن هو الانقياد إلى أحكام العبودية بالشهود والحال والتلون في هذا الموضع خاصة هو الانقياد إلى أحكما العبودية بالعلم فالحال يجمعه بقوته وسلطانه فيعطيه تمكينا والعلم بلونه بحسب متعلقاته وأحكامه
قوله لكنه إلى التمكن ما هو يسلك الحال ويلتفت إلى العلم
يعني أن هذا العبد هو سالك إلى التمكن ما دام يسلك الحال ويلتفت إلى العلم فأما إن سلك العلم والتفت إلى الحال لم يكن سالكا إلى التمكن
فالسالكون ضربان سالكون على الحال ملتفتون إلى العلم وهم إلى التمكن أقرب وسالكون على العلم ملتفتون إلى الحال وهم إلى التلون أقرب هذا حاصل كلامه
وهذه الثلاثة هي المفرقة بين أهل العلم وأهل الحال حتى كأنهما غيران وحزبان وكل فرقة منهما لا تأنس بالأخرى ولا تعاشرها إلا على إغماض ونوع استكراه
وهذا من تقصير الفريقين حيث ضعف أحدهما عن السير في العلم وضعف الآخر عن الحال في العلم فلم يتمكن كل منهما من الجمع بين الحال والعلم فأخذ هؤلاء العلم وسعته ونوره ورجحوه وأخذ هؤلاء الحال وسلطانه وتمكينه ورجحوه وصار الصادق الضعيف من الفريقين يسير بأحدهما ملتفتا إلى الآخر
فهذا مطيع للحال وهذا مطيع للعلم لكن المطيع للحال متى عصى به العلم كان منقطعا محجوبا وإن كان له من الحال ما عساه أن يكون والمطيع للعلم متى أعرض به عن الحال كان مضيعا منقوصا مشتغلا بالوسيلة عن الغاية
وصاحب التمكين يتصرف علمه في حاله ويحكم عليه فينقاد لحكمه ويتصرف حاله في علمه فلا يدعه أن يقف معه بل يدعوه إلى غاية العلم فيجيبه

ويلبي دعوته فهذه حال الكمل من هذه الأمة ومن استقرأ احوال الصحابة رضي الله عنهم وجدها كذلك
فلما فرق المتأخرون بين الحال والعلم دخل عليهم النقص والخلل والله المستعان يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير فكذلك يهب لمن يشاء علما ولمن يشاء حالا ويجمع بينهما لمن يشاء ويخلي منهما من يشاء
قوله فالعلم يشغله في حين أي يشغله عن السلوك إلى تمكن الحال لأن العلم متنوع التعلقات فهو يفرق والحال يجمع لأنه يدعوه إلى الفناء وهناك سلطان الحال
قوله والحال يحمله في حين أي يغلب عليه الحال تارة فيصير محمولا بقوة الحال وسلطانه على السلوك فيشتد سيره بحكم الحال يعني وإذا غلبه العلم شغله عن السلوك وهذا هو المعهود من طريقة المتأخرين أن العلم عندهم يشغل عن السلوك ولهذا يعدون السالك من سلك على الحال ملتفتا عن العلم
وأما على ما قررناه من أن العلم يعين على السلوك ويحمل عليه ويكون صاحبه سالكا به وفيه فلا يشغله العلم عن سلوكه وإن أضعف سيره على درب الفناء فلا ريب أن العلم لا يجامع الفناء فالفناء ليس هو غاية السالكين إلى الله بل ولا هو لازم من لوازم الطريق وإن كان عارضا من عوارضها يعرض لغير الكمل كما تقدم تقرير ذلك
فبينا أن الفناء الكامل الذي هو الغاية المطلوبة هو الفناء عن محبة ما سوى الله وإرادته فيفنى بمحبة الله عن محبة ما سواه وبإرادته ورجائه والخوف منه والتوكل عليه والإنابة إليه عن إرادة ما سواه وخوفه ورجائه والتوكل عليه
وهذا الفناء لا ينافي العلم بحال ولا يحول بين العبد وبينه بل قد يكون في

أغلب الأحوال من أعظم أعوانه وهذا أمر غفل عنه أكثر المتأخرين بحيث لم يعرفوه ولم يسلكوه ولكن لم يخل الله الأرض من قائم به داع إليه
قوله فبلاؤه بينهما أي عذابه وألمه بين داعي الحال وداعي العلم فإيمانه يحمله على إجابة داعي العلم ووارده يحمله على إجابة داعي الحال فيصير كالغريم بين مطالبين كل منهما يطالبه بحقه وليس بيده إلا ما يقضي أحدهما
وقد عرفت أن هذا من الضيق وإلا فمع السعة يوفى كلا منهما حقه
قوله يذيقه شهودا طورا أي ذلك البلاء الحاصل بين الداعيين يذيقه شهودا طورا وهو الطور الذي يكون الحاكم عليه فيه هو العلم
قوله ويكسوه عبرة طورا الظاهر أنه عبرة بالباء الموحدة والعين أي اعتبارا بأفعاله واستدلالا عليه بها فإنه سبحانه دل على نفسه بأفعاله فالعلم يكسو صاحبه اعتبارا واستدلالا على الرب بأفعاله
ويصح أن يكون غيرة بالغين المعجمة والياء المثناة من تحت ومعناه أن العلم يكسوه غيرة من حجابة عن مقام صاحب الحال فيغار من احتجابه عن الحال بالعلم وعن العيان بلاستدلالا وعن الشهود الذي هو مقام الإحسان بلايمان الذي هو إيمان بالغيب قوله ويريه غيرة تفرق طورا هذا بالغين المعجمة ليس إلا أي ويريه العلم غيرة تفرقه في أوديته فيفرق بين أحكام الحال وأحكام العلم وهو حال صحو وتمييز
وكأن الشيخ يشير إلى أن صاحب هذا المقام تغار تفرقته من جمعيته على الله فنفسه تفر من الجمعية على الله إلى تفرق العلم فإنه لا أشق على النفوس من جمعيتها على الله فهي تهرب من الله إلى الحال تارة وإلى العمل تارة وإلى العلم تارة هذه نفوس السالكين الصادقين

وأما من ليس من أهل هذا الشأن فنفوسهم تفر من الله إلى الشهوات والراحات فأشق ما على النفوس جمعيتها على الله وهي تناشد صاحبها أن لا يوصلها إليه وأن يشغلها بما دونه فإن حبس النفس على الله شديد وأشد منه حبسها على أوامره وحبسها عن نواهيه فهي دائما ترضيك بالعلم عن العمل وبالعمل عن الحال وبالحال عن الله سبحانه وتعالى وهذا أمر لا يعرفه إلا من شد مئزر سيره إلى الله وعلم أن كل ما سواه فهو قاطع عنه
وقد تضمن كلامه في هذه الدرجة ثلاث درجات كما أشار إليه درجة الحال ودرجة العلم ودرجة التفرقة بين الحال والعلم وهذه الثلاث الدرجات هي المختصة بالمعنى الثاني من معاني الوقت والله أعلم

فصل قال والمعنى الثالث قالوا الوقت الحق أرادوا به استغراق رسم
الوقت في وجود الحق وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي لكنه هو اسم في هذا المعنى الثالث لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفا لا وجودا محضا وهو فوق البرق والوجد وهو يشارف مقام الجمع لو دام وبقي ولا يبلغ وادي الوجود لكنه يكفي مؤنة المعاملة ويصفي عين المسامرة ويشم روائح الوجود
هذا المعنى الثالث من معاني الوقت أخص مما قبله وأصعب تصورا وحصولا فإن الأول وقت سلوك يتلون وهذا وقت كشف يتمكن ولذلك أطلقوا عليه اسم الحق لغلبة حكمه على قلب صاحبه فلا يحس برسم الوقت بل يتلاشى ذكر وقته من قلبه لما قهره من نور الكشف
فقوله قالوا الوقت هو الحق
يعني أن بعضهم أطلق اسم الحق على الوقت ثم فسر مرادهم بذلك وأنهم عنوا به استغراق رسم الوقت في وجود الحق ومعنى هذا أن السالك بهذا المعنى الثالث للحق إذا اشتد استغراقته في وقته يتلاشى عنه وقته بالكلية

وتقريب هذا إلى الفهم أنه إذا شهد استغراق وقته الحاضر في ماهية الزمان فقد استغرق الزمان رسم الوقت إلى ما هو جزء يسير جدا من أجزائه وانغمر فيه كما تنغمر القطرة في البحر ثم إن الزمان المحدود الطرفين يستغرق رسمه في وجود الدهر وهو ما بين الأزل والأبد ثم إن الدهر يستغرق رسمه في دوام الرب جل جلاله وذلك الدوام هو صفة الرب فهناك يضمحل الدهر والزمان والوقت ولا يبقى له نسبة إلى دوام الرب جل جلاله البتة فاضمحل الزمان والدهر والوقت في الدوام الإلهي كما تضمحل الأنوار المخلوقة في نوره وكما يضمحل علم الخلق في علمه وقدرهم في قدرته وجمالهم في جماله وكلامهم في كلامه بحيث لا يبقى للمخلوق نسبة ما إلى صفات الرب جل جلاله
والقوم إذا أطلق أهل الاستقامة منهم ما في الوجود إلا الله أو ما ثم موجود على الحقيقة إلا الله أو هناك يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل ونحو ذلك من العبارات فهذا مرادهم لا سيما إذا حصل هذا الاستغراق في الشهود كما هو في الوجود وغلب سلطانه على سلطان العلم وكان العلم مغمورا بوارده وفي قوة التمييز ضعف وقد توارى العلم بالشهود وحكم الحال
فهناك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت وتزل أقدام كثيرة إلى الحضيض الأدنى ولا ريب أن وجود الحق سبحانه ودوامه يستغرق وجود كل ما سواه ووقته وزمانه بحيث يصير كأنه لا وجود له
ومن هنا غلط القائلون بوحدة الوجود وظنوا أنه ليس لغيره وجود البتة وغرهم كلمات مشتبهات جرت على ألسنة أهل الاستقامة من الطائفة فجعلوها عمدة لكفرهم وضلالهم وظنوا أن السالكين سيرجعون إليهم وتصير طريقة الناس واحدة ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

قوله وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي
يريد أن الحق سابق على الاسم الذي هو الوقت أي منزه عن أن يسمى بالوقت فلا ينبغي إطلاقه عليه لأن الأوقات حادثة
قوله لكنه اسم في هذا المعنى الثالث لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفا لا وجودا محضا
تلاشي الرسوم اضمحلالها وفناؤها والرسوم عندهم ما سوى الله وقد صرح الشيخ أنها إنما تتلاشى في وجود العبد الكشفي بحيث لا يبقى فيه سعة للإحساس بها لما استغرقه من الكشف فهذه عقيدة أهل الاستقامة من القوم
وأما الملاحدة أهل وحدة الوجود فعندهم أنها لم تزل متلاشية في عين وجود الحق بل وجودها هو نفس وجوده وإنما كان الحس يفرق بين الوجوديين فلما غاب عن حسه بكشفه تبين أن وجودها هو عين وجود الحق
ولكن الشيخ كأنه عبر بالكشف والوجود عن المقامين اللذين ذكرهما في كتابه والكشف هو دون الوجود عنده فإن الكشف يكون مع بقاء بعض رسوم صاحبه فليس معه استغراق في الفناء والوجود لا يكون معه رسم باق ولذلك قال لا وجودا محضا فإن الوجود المحض عنده يفني الرسوم وبكل حال فهو يفنيها من وجود الواجد لا يفنيها في الخارج
وسر المسألة أن الواصل إلى هذا المقام يصير له وجود آخر غير وجوده الطبيعي المشترك بين جميع الموجودات ويصير له نشأة أخرى لقلبه وروحه نسبة النشأة الحيوانية إليها كنسبة النشأة في بطن الأم إلى هذه النشأة المشاهدة في العالم وكنسبة هذه النشأة إلى النشأة الأخرى
فللعبد أربع نشآت نشأة في الرحم حيث لا بصر يدركه ولا يد تناله ونشأة في الدنيا ونشأة في البرزخ ونشأة في المعاد الثاني وكل نشأة أعظم من التي قبلها وهذه النشأة للروح والقلب أصلا وللبدن تبعا

فللروح في هذا العالم نشأتان إحداهما النشأة الطبيعية المشتركة والثانية نشأة قلبية روحانية يولد بها قلبه وينفصل عن مشيمة طبعه كما ولد بدنه وانفصل عن مشيمة البطن
ومن لم يصدق بهذا فليضرب عن هذا صفحا وليشتغل بغيره
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أن المسيح عليه السلام قال للحواريين إنكم لن تلجوا ملكوت السموات حتى تولدوا مرتين
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول هي ولادة الأرواح والقلوب من الأبدان وخروجها من عالم الطبيعة كما ولدت الأبدان من البدن وخرجت منه والولادة الأخرى هي الولادة المعروفة والله أعلم
قوله وهو فوق البرق والوجد
يعني أن هذا الكشف الذي تلاشت فيه الرسوم فوق منزلتي البرق والوجد فإنه أثبت وأدوم والوجود فوقه لأنه يشعر بالدوام
قوله وهو يشارف مقام الجمع لو دام
أي لو دام هذا الوقت لشارف مقام الجمع وهو ذهاب شعور القلب بغير الحق سبحانه وتعالى شغلا به عن غيره فهو جمع في الشهود
وعند الملاحدة هو جمع في الوجود
ومقصوده أنه لو دام الوقت بهذا المعنى الثالث لشارف حضرة الجمع لكنه لا يدوم
قوله ولا يبلغ وادي الوجود يعني أن الوقت المذكور لا يبلغ السالك فيه وادي الوجود حتى يقطعه ووادي الوجود هو حضرة الجمع
قوله لكنه يلقى مؤنة المعاملة
يعني أن الوقت المذكور وهو الكشف المشارف لحضرة الجمع يخفف عن العامل أثقال المعاملة مع قيامه بها أتم القيام بحيث تصير هي الحاملة له

فإنه كان يعمل على الخبر فصار يعمل على العيان هذا مراد الشيخ
وعند الملحد أنه يفنى عن المعاملات الجسمانية ويرد صاحبه إلى المعاملات القلبية وقد تقدم إشباع الكلام في هذا المعنى
قوله ويصفى عن المسامرة المسامرة عند القوم هي الخطاب القلبي الروحي بين العبد وربه وقد تقدم أن تسميتها بالمناجاة أولى فهذا الكشف يخلص عن المسامرة من ذكر غير الحق سبحانه ومناجاته
قوله ويشم روائح الوجود أي صاحب مقام هذا الوقت الخاص يشم روائح الوجود وهو حضرة الجمع فإنهم يسمونها بالجمع والوجود ويعنون بذلك ظهور وجود الحق سبحانه وفناء وجود ما سواه وقد عرفت أن فناء وجود ما سوله بأحد اعتبارين إما سواه بأحد اعتبارين إما فناؤه من شهود العبد فلا يشهده وإما اضملاله وتلاشيه بالنسبة إلى وجود الرب ولا تلتفت إلى غير هذين المعنيين فهو إلحاد وكفر والله المستعان

فصل منزلة الصفاء ومنها منزلة الصفاء قال صاحب المنازل
باب الصفاء
قال الله عز و جل وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار الصفا اسم للبراءة من الكدر وهو في هذا الباب سقوط التلوين
أما الاستشهاد بالآية فوجهه أن المصطفى مفتعل من الصفوة وهي خلاصة الشيء وتصفيته مما يشوبه ومنه اصطفى الشيء لنفسه أي خلصه من شوب شركة غيره له فيه ومنه الصفي وهو السهم الذي كان يصطفيه

رسول الله لنفسه من الغنيمة ومنه الشيء الصافي وهو الخالص من كدر غيره
قوله الصفاء إسم للبراءة من الكدر
البراءة هي الخلاص والكدر امتزاج الطيب بالخبيث
قوله وهو في هذا الباب سقوط التلوين
التلوين هو التردد والتذبذب كما قيل
كل يوم تتلون ... ترك هذا بك أجمل
قال وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى صفاء علم يهذب لسلوك الطريق ويبصر غاية الجد ويصحح همة القاصد
ذكر الشيخ له في هذه الدرجة ثلاث فوائد
الفائدة الأولى علم يهذب لسلوك الطريق وهذا العلم الصافي الذي أشار إليه هو العلم الذي جاء به رسول الله
وكان الجنيد يقول دائما علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به
وقال غيره من العارفين كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر
وقال الجنيد علمنا هذا متشبك بحديث رسول الله
وقال أبو سليمان الداراني إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة وقال النصرابادي أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع والاقتداء بالسلف وترك ما أحدثه الآخرون والإقامة على ما سلكه الأولون

وقد تقدم ذكر بعض ذلك
فهذا العلم الصافي المتلقى من مشكاة الوحي والنبوة يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية وحقيقتها التأدب بآداب رسول الله باطنا وظاهرا وتحكيمه باطنا وظاهرا والوقوف معه حيث وقف بك والمسير معه حيث سار بك بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألقيت إليه أمرك كله سره وظاهره واقتديت به في جميع أحوالك ووقفت مع ما يأمرك به فلا تخالفه البته فتجعل رسول الله لك شيخا وإماما وقدوة وحاكما وتعلق قلبك بقلبه الكريم وروحانيتك بروحانيته كما يعلق المريد روحانيته بروحانية شيخه فتجيبه إذا دعاك وتقف معه إذا استوقفك وتسير إذا سار بك وتقيل إذا قال وتنزل إذا نزل وتغضب لغضبه وترضى لرضاه وإذا أخبرك عن شيء أنزلته منزلة ما تراه بعينك وإذا أخبرك عن الله بخبر أنزلته منزله ما تسمعه من الله بإذنك

وبالجملة فتجعل الرسول شيخك وأستاذك ومعلمك ومربيك ومؤدبك وتسقط الوسائط بينك وبينه إلا في التبليغ كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية ولا تثبت وساطة إلا في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك
وهذان التجريدان هما حقيقة شهادة أن لاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله والله وحده هو المعبود المألوه الذي لا يستحق العبادة سواه ورسوله المطاع المتبع المهتدى به الذي لا يستحق الطاعة سواه ومن سواه فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته فيطاع تبعا للأصل
وبالجملة فالطريق مسدودة إلا على من اقتفى آثار الرسول واقتدى به في ظاهره وباطنه
فلا يتعنى السالك على غير هذا الطريق فليس حظه من سلوكه إلا التعب وأعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب
ولا يتعنى السالك على هذا الطريق فإنه واصل ولو زحف زحفا فأتباع الرسول إذا قعدت بهم أعمالهم قامت بهم عزائمهم وهمهم ومتابعتهم لنبيهم كما قيل
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدا وتجي في الأول
والمنحرفون عن طريقه إذا قامت بهم أعمالهم واجتهاداتهم قعد بهم عدولهم عن طريقه

فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
قوله ويبصر غاية الجد الجد الاجتهاد والتشمير والغاية النهاية
يريد أن صفاء العلم يهدي صاحبه إلى الغاية المقصودة بالاجتهاد والتشمير فإن كثيرا من السالكين بل أكثرهم سالك بجده واجتهاده غير منتبه إلى المقصود
وأضرب لك في هذا مثلا حسنا جدا وهو أن قوما قدموا من بلاد بعيدة عليهم أثر النعيم والبهجة والملابس السنية والهيئة العجيبة فعجب الناس لهم فسألوهم عن حالهم فقالوا بلادنا من أحسن البلاد وأجمعها لسائر أنواع النعيم وأرخاها وأكثرها مياها وأصحها هواء وأكثرها فاكهة وأعظمها اعتدالا وأهلها كذلك احسن الناس صورا وأبشارا ومع هذا فملكها لا يناله الوصف جمالا وكمالا وإحسانا وعلما وحلما وجودا ورحمة للرعية وقربا منهم وله الهيبة والسطوة على سائر ملوك الأطراف فلا يطمع أحد منهم في مقاومته ومحاربته فأهل بلده في أمان من عدوهم لا يحل الخوف بساحتهم ومع هذا فله أوقات يبرز فيها لرعيته ويسهل لهم الدخول عليه ويرفع الحجاب بينه وبينهم فإذا وقعت أبصارهم عليه تلاشى عندهم كل ما هم فيه من النعيم واضمحل حتى لا يلتفتون إلى شيء منه فإذا أقبل على واحد منهم أقبل عليه سائر أهل المملكة بالتعظيم والإجلال ونحن رسله إلى أهل البلاد ندعوهم إلى حضرته وهذه كتبه إلى الناس ومعنا من الشهود ما يزيل سوء الظن بنا ويدفع اتهامنا بالكذب عليه
فلما سمع الناس ذلك وشاهدوا أحوال الرسل انقسموا أقساما
فطائفة قالت لا نفارق أوطاننا ولا نخرج من ديارنا ولا نتجشم مشقة السفر البعيد ونترك ما ألفناه من عيشنا ومنازلنا ومفارقة آبائنا وأبنائنا

وإخواننا لأمر وعدنا به في غير هذه البلاد ونحن لا نقدر على تحصيل ما نحن فيه إلا بعد الجهد والمشقة فكيف ننتقل عنه
ورأت هذه الفرقة مفارقتها لأوطانها وبلادها كمفارقة أنفسها لأبدانها فإن النفس لشدة إلفها للبدن أكره ما إليها مفارقته ولو فارقته إلى النعيم المقيم فهذه الطائفة غلب عليها داعي الحس والطبع على داعي العقل والرشد
والطائفة الثانية لما رأت حال الرسل وما هم فيه من البهجة وحسن الحال وعلموا صدقهم تأهبوا للسير إلى بلاد الملك فأخذوا في المسير فعارضهم أهلوهم وأصحابهم وعشائرهم من القاعدين وعارضهم إلفهم مساكنهم ودورهم وبساتينهم فجعلوا يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى فإذا تذكروا طيب بلاد الملك وما فيها من سلوه العيش تقدموا نحوها وإذا عارضهم ما ألفوه واعتادوه من ظلال بلادهم وعيشها وصحبة أهلهم وأصحابهم تأخروا عن المسير والتفتوا إليهم فهم دائما بين الداعيين والجاذبين إلى أن يغلب أحدهما ويقوى على الآخر فيصيرون إليه
والطائفة الثالثة ركبت ظهور عزائمها ورأت أن بلاد الملك أولى بهافوطنت أنفسها على قصدها ولم يثنها لوم اللوام لكن في سيرها بطء بحسب ضعف ما كشف لها من احوال تلك البلاد وحال الملك
والطائفة الرابعة جدت في السير وواصلته فسارت سيرا حثيثا فهم كما قيل
وركب سروا والليل مرخ سدوله ... على كل مغبر المطالع قاتم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها ... فصار سراهم في ظهور العزائم
تريهم نجوم الليل ما يطلبونه ... على عاتق الشعرى وهام النعائم
فهؤلاء هممهم مصروفة إلى السير وقواهم موقوفة عليه من غير تثنية منهم إلى المقصود الأعظم والغاية العليا

والطائفة الخامسة أخذوا في الجد في المسير وهمتهم متعلقة بالغاية فهم في سيرهم ناظرون إلى المقصود بالمسير فكأنهم يشاهدونه من بعد وهو يدعوهم إلى نفسه وإلى بلاده فهم عاملون على هذا الشاهد الذي قام بقلوبهم
وعمل كل أحد منهم على قدر شاهده فمن شاهد المقصود بالعمل في علمه كان نصحه فيه وإخلاصه وتحسينه وبذل الجهد فيه أتم ممن لم يشاهده ولم يلاحظه ولم يجد من مس التعب والنصب ما يجده الغائب والوجود شاهد بذلك فمن عمل عملا لملك بحضرته وهو يشاهده ليس حاله كحال من عمل في غيبته وبعده عنه وهو غير متيقن وصوله إليه
وقوله ويصحح همة القاصد أي ويصحح له صفاء هذا العلم همته ومتى صحت الهمة علت وارتفعت فإن سقوطها ودناءتها من علتها وسقمها وإلا فهي كالنار تطلب الصعود والاتفاع مالم تمنع
وأعلى الهمم همة اتصلت بالحق سبحانه طلبا وقصدا وأوصلت الخلق إليه دعوة ونصحا وهذه همة الرسل وأتباعهم وصحتها بتمييزها من انقسام طلبها وانقسام مطلوبها وانقسام طريقها بل توحد مطلوبها بالإخلاص وطلبها بالصدق وطريقها بالسلوك خلف الدليل الذي نصبه الله دليلا لا من نصبه هو دليلا لنفسه
ولله الهمم ما أعجب شأنها وأشد تفاوتها فهمة متعلقة بمن فوق العرش وهمة حائمة حول الأنتان والحش والعامة تقول قيمة كل امرىء ما يحسنه والخاصة تقول قيمة المرء ما يطلبه وخاصة الخاصة تقول همة المرء إلى مطلوبه
وإذا أردت أن تعرف مراتب الهمم فانظر إلى همة ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه وقد قال له رسول الله سلني فقال أسألك مرافقتك في الجنة وكان غيره يسأله ما يملأ بطنه أو يواري جلده
وانظر إلى همة رسول الله حين عرضت عليه مفاتيح

كنوز الأرض فأباها ومعلوم أنه لو أخذها لأنفقها في طاعة ربه تعالى فأبت له تلك الهمة العالية أن يتعلق منها بشيء مما سوى الله ومحابه وعرض عليه أن يتصرف بالملك فأباه واختار التصرف بلعبودية المحضة فلا إله إلا الله خالق هذه الهمة وخالق نفس تحملها وخالق همم لا تعدو همم أخس الحيوانات

فصل قال الدرجة الثانية صفاء حال يشاهد به شواهد التحقيق ويذاق به
حلاوة المناجاة وينسى به الكون
هذه الدرجة إنما كانت أعلى مما قبلها لأنها همة حال والحال ثمرة العلم ولا يصفو حال إلا بصفاء العلم المثمر له وعلى حسب شوب العلم يكون شوب الحال وإذا صفا الحال شاهد العبد بصفائه آثار الحقائق وهي الشواهد فيه وفي غيره وعليه وعلى غيره ووجد حلاوة المناجاة وإذا تمكن في هذه الدرجة نسي الكون وما فيه من المكونات
وهذه الدرجة تختص بصفاء الحال كما اختصت الأولى بصفاء العلم
والحال هو تكيف القلب وانصباغه بحكم الواردات على اختلافها والحال يدعو صاحبه إلى المقام الذي جاء منه الوارد كما تدعوه رائحة البستان الطيبة إلى دخوله والمقام فيه فإذا كان الوارد من حضرة صحيحة وهي حضرة الحقيقة الإلهية لا الحقيقة الخيالية الذهنية شاهد السالك بصفائه شواهد التحقيق وهي علاماته والتحقيق هو حكم الحقيقة وتأثر القلب والروح بها والحقيقة ما تعلق بالحق المبين سبحانه فالله هو الحق والحقيقة ما نسب

إليه وتعلق به والتحقيق تأثر القلب بآثار الحقيقة ولكل حق حقيقة ولك حقيقة تحقيق يقوم بمشاهدة الحقيقة
قوله ويذاق به حلاوة المناجاة المناجاة مفاعلة من النجوى وهو الخطاب في سر العبد وباطنه والشيخ ذكر في هذه الدرجة ثلاثة أمور
أحدها مشاهدة شواهد التحقيق الثاني ذوق حلاوة المناجاة فإنه متى صفا له حاله من الشوائب خلصت له حلاوته من مرارة الأكدار فذاق تلك الحلاوة في حال مناجاته فلو كان الحال مشوبا مكدرا لم يجد حلاوة المناجاة والحال المستندة إلى وارد تذاق به حلاوة المناجاة هو من حضرة الأسماء والصفات بحسب ما يصادف القلب من ظهورها وكشف معانيها
فمن ظهر له اسم الودود مثلا وكشف له عن معاني هذا الاسم ولطفه وتعلقه بظاهر العبد وباطنه كان الحال الحاصل له من حضرة هذا الاسم مناسبا له فكان حال اشتغال حب وشوق ولذه مناجاة لا أحلى منها ولا أطيب بحسب استغراقه في شهود معنى هذا الاسم وخطه من أثره
فإن الودود وإن كان بمعنى المودود كما قال البخاري في صحيحه الودود الحبيب واستغرق العبد في مطالعة صفات الكمال التي تدعو العبد إلى حب الموصوف بها أثمر له صفاء علمه بها وصفاء حاله في تعبده بمقتضاها ما ذكره الشيخ من هذه الأمور الثلاثة وغيرها
وكذلك إن كان اسم فاعل بمعنى الواد وهو المحب أثمرت له مطالعة ذلك حالا تناسبه
فإنه إذا شاهد بقلبه غنيا كريما جوادا عزيزا قادرا كل أحد محتاج إليه بالذات وهو غني بالذات عن كل ما سواه وهو مع ذلك يود عباده ويحبهم ويتودد إليهم بإحسانه إليهم وتفضله عليهم كان له من هذا الشهود حالة صافية خالصة من الشوائب

وكذلك سائر الأسماء والصفات فصفاء الحال بحسب صفاء المعرفة بها وخلوصها من دم التعطيل وفرث التمثيل فتخرج المعرفة من بين ذلك فطرة خالصة سائغة للعارفين كما يخرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين
والأمر الثالث قوله وينسى به الكون أي ينسى الكون بما يغلب على قلبه من اشتغاله بهذه الحال المذكورة والمراد بالكون المخلوقات أي يشتغل بالحق عن الخلق

فصل قال الدرجة الثالثة صفاء اتصال يدرج حظ العبودية في حق
الربوبية ويغرق نهايات الخبر في بدايات العيان ويطوي خسة التكاليف في عين الأزل
في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير يجبره حسن حال صاحبه وصدقه وتعظيمه لله ورسوله ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له ولا ريب أن بين ارباب الأحوال وبين أصحاب التمكن تفاوتا عظيما وانظر إلى غلبة الحال على الكليم عليه السلام لما شاهد آثار التجلي الإلهي على الجبل كيف خر صعقا وصاحب التمكن صلوات الله وسلامه عليه لما أسري به ورأى ما رأى لم يصعق ولم يخر بل ثبت فؤاده وبصره
ومراد القوم بالاتصال والوصول اتصال العبد بربه ووصوله إليه لا بمعنى اتصال ذات العبد بذات الرب كما تتصل الذاتان إحداهما بالأخرى ولا بمعنى انضمام إحدى الذاتين إلى الأخرى والتصاقها بها وإنما مرادهم بالاتصال والوصول إزالة النفس والخلق من طريق السير إلى الله ولا تتوهم سوى ذلك فإنه عين المحال

فإن السالك لا يزال سائرا إلى الله تعالى حتى يموت فلا ينقطع سيره إلا بالموت فليس في هذه الحياة وصول يفرغ معه السير وينتهي وليس ثم اتصال حسي بين ذات العبد وذات الرب فالأول تعطيل وإلحاد والثاني حلول واتحاد وإنما حقيقة الأمر تنحية النفس والخلق عن الطريق فإن الوقوف معهما هو الانقطاع وتنحيتهما هو الاتصال
وأما الملاحدة القائلون بوحدة الوجود فإنهم قالوا العبد من أفعال الله وأفعاله من صفاته وصفاته من ذاته فأنتج لهم هذا التركيب أن العبد من ذات الرب تعالى الله وتقدس عما يقولون علوا كبيرا
وموضع الغلط أن العبد من مفعولات الرب تعالى لا من أفعاله القائمة بذاته ومفعولاته آثار أفعاله وأفعاله من صفاته القائمة بذاته فذاته سبحانه مستلزمة لصفاته وأفعاله ومفعولاته منفصلة عنه تلك مخلوقة محدثة والرب تعالى هو الخالق بذاته وصفاته وأفعاله
فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع اصطلاح القوم عليها فإنها أصل البلاء وهي مورد الصديق والزنديق فإذا سمع الضعيف المعرفة والعلم بالله تعالى لفظ اتصال وانفصال ومسامرة ومكالمة وأنه لا وجود في الحقيقة

إلا وجود الله وأن وجود الكائنات خيال ووهم وهو بمنزلة وجود الظل القائم بغعيره فاسمع منه ما يملأ الآذان من حلول واتحاد وشطحات
والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسها فغلط الغالطون في فهم ما أرادوه ونسبوهم إلى إلحادهم وكفرهم واتخذوا كلماتهم المتشابهة ترسا له وجنة حتى قال قائلهم
ومنك بدا حب بعز تمازجا ... بنا ووصالا كنت أنت وصلته
ظهرت لمن أبقيت بعد فنائه ... وكان بلا كون لأنك كنته
فيسمع الغر التمازج والوصال فيظن أنه سبحانه نفس كون العبد فلا يشك أن هذا هو غاية التحقيق ونهاية الطريق ثم لنرجع إلى شرح كلامه
قوله يدرج حظ العبودية في حق الربوبية
المعنى الصحيح الذي يحمل عليه هذا الكلام أن من تمكن في قلبه شهود الأسماء والصفات وصفا له علمه وحاله اندرج عمله جميعه وأضعافه وأضعاف أضعافه في حق ربه تعالى ورآه في جنب حقه أقل من خردلة بالنسبة إلى جبال الدنيا فسقط من قلبه اقتضاء حظه من المجازاة عليه لاحتقاره له وقلته عنده وصغره في عينه
قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا صالح عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد أن الله تعالى أوحى إلى داود يا داود أنذر عبادي الصادقين فلا يعجبن بأنفسهم ولا يتكلن على أعمالهم فإنه ليس أحد من عبادي أنصبه للحساب وأقيم عليه عدلي إلا عذبته من غير أن أظلمه وبشر عبادي الخطائين أنه لا يتعاظمني ذنب أن أغفره وأتجاوز عنه
وقال الإمام أحمد وحدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا ثابت البناني قال تعبد رجل سبعين سنة وكان يقول في دعائه رب اجزني بعملي فمات فأدخل الجنة فكان فيها سبعين عاما فلما فرغ وقته قيل له اخرج فقد استوفيت عملك فقلب أمره أي شيء كان في الدنيا أوثق في نفسه فلم يجد شيئا أوثق

في نفسه من دعاء الله والرغبة إليه فأقبل يقول في دعائه رب سمعتك وأنا في الدنيا وأنت تقيل العثرات فأقل اليوم عثرتي فترك في الجنة
وقال أحمد بن حنبل حدثنا هاشم حدثنا صالح عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد قال قال موسى إلهي كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمتك لا يجازيها عملي كله فأوحى الله تعالى إليه يا موسى الآن شكرتني
فهذا المعنى الصحيح من اندراج حظ العبودية في حق الربوبية
وله محمل آخر صحيح أيضا وهو أن ذات العبد وصفاته وأفعاله وقواه وحركاته كلها مفعولة للرب مملوكة له ليس يملك العبد منها شيئا بل هو محض ملك الله فهو المالك لها المنعم على عبده بإعطائه إياها فالمال ماله والعبد عبده والخدمة مستحقة عليه بحق الربوبية وهي من فضل الله عليه فالفضل كله لله ومن الله وبالله
قوله ويعرف نهايات الخبر في بدايات العيان الخبر متعلق الغيب والعيان متعلق الشهادة وهو إدراك عين البصيرة لصحة الخبر وثبوت مخبره
ومراده ببدايات العيان أوائل الكشف الحقيقي الذي يدخل منه إلى مقام الفناء ومقصوده أن يرى الشاهد ما أخبر به الصادق بقلبه عيانا قال الله تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وقال تعالى أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى فقد قال أفمن رأى بعين قلبه أن ما أنزل الله إلى رسوله هو الحق كمن هو أعمى لا يبصر ذلك وقال النبي في مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه / ح / ولا ريب أن تصديق الخبر واليقين به يقوى القلب حتى يصير الغيب بمنزلة المشاهد بالعين فصاحب هذا المقام كأنه يرى ربه سبحانه فوق سماواته على عرشه مطلعا على عباده ناظرا إليهم يسمع كلامهم ويرى ظواهرهم وبواطنهم
وكأنه يسمعه وهو يتكلم بالوحي ويكلم به عبده جبريل ويأمره وينهاه بما

يريد ويدبر أمر المملكة وأملاكه صاعدة إليه بالأمر نازلة من عنده به
وكأنه يشاهده وهو يرضى ويغضب ويحب ويبغض ويعطي ويمنع ويضحك ويفرح ويثني على أوليائه بين ملائكته ويذم أعداءه
وكأنه يشاهده ويشاهد يديه الكريمتين وقد قبضت إحداهما السموات السبع والأخرى الأرضين السبع وقد طوى السموات السبع بيمينه كما يطوى السجل على أسطر الكتاب
وكأنه يشاهده وقد جاء لفصل القضاء بين عباده فأشرقت الأرض بنوره ونادى وهو مستو على عرشه بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم
وكأنه يسمع ندائه لآدم يا آدم قم فابعث بعث النار بإذنه الآن وكذلك نداؤه لأهل الموقف ماذا أجبتم المرسلين وماذا كنتم تعبدون
وبالجملة فيشاهد بقلبه ربا عرفت به الرسل كما عرفت به الكتب ودينا دعت إليه الرسل وحقائق أخبرت بها الرسل فقام شاهد ذلك بقلبه كما قام شاهد ما أخبر به أهل التواتر وإن لم يره من البلاد والوقائع فهذا إيمانه يجري مجرى العيان وإيمان غيره فمحض تقليد العميان
قوله ويطوى خسة التكاليف ليت الشيخ عبر عن هذه اللفظة بغيرها فوالله إنها لأقبح من شوكة في العين وشجى في الحلق وحاشا التكاليف أن توصف بخسة أو تلحقها خسة وإنما هي قرة عين وسرور قلب وحياة روح صدر التكليف بها عن حكيم حميد فهي أشرف ما وصل إلى العبد من ربه وثوابه عليها أشرف ما أعطاه الله للعبد
نعم لو قال يطوى ثقل التكاليف ويخفف أعباءها ونحو ذلك فلعله كان

أولى ولولا مقامه في الإيمان والمعرفة والقيام بالأوامر لكنا نسيء به الظن والذي يحتمل أن يصرف كلامه إليه وجهان
أحدهما أن الصفاء المذكور في هذه الدرجة لما انطوت في حكمه الوسائط والأسباب واندرج فيه حظ العبودية في حق الربوبية انطوت فيه رؤية كون العبادة تكليفا فإن رؤيتها تكليفا خسة من الرائي لأنه رآها بعين أنفته وقيامه بها ولم يرها بعين الحقيقة فإنه لم يصل إلى مقام فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولو وصل إلى ذلك لرآها بعين الحقيقة ولا خسة فيها هناك البتة فإن نظره قد تعدى من قيامه بها إلى قيامها بالقيوم الذي قام به كل شيء فكان لها وجهان
أحدهما هي به خسيسة وهو وجه قيامها بالعبد وصدورها منه
والثاني هي به شريفة وهو وجه كونها بالرب تعالى وأوليته أمرا وتكوينا وإعانة فالصفاء يطويها من ذلك الوجه خاصة
والمعنى الثاني الذي يحتمله كلامه أن يكون مراده أن الصفاء يشهده عين الأزل وسبق الرب تعالى وأوليته لكل شيء فتنطوي في هذا المشهد أعماله التي عملها ويراها خسيسة جدا بالنسبة إلى عين الأزل فكأنه قال تنطوي أعماله وتصير بالنسبة إلى هذه العين خسيسة جدا لا تذكر بل تكون في عين الأزل هباء منثورا لا حاصل لها
فإن الوقت الذي هو ظرف التكليف يتلاشى جدا بالنسبة إلى الأزل وهو وقت خسيس حقير حتى كأنه لا حاصل له ولا نسبة له إلى الأزل والأبد في مقدار الأعمال الواقعة فيه وهي يسيرة بالنسبة إلى مجموع ذلك الوقت الذي هو

يسير جدا بالنسبة إلى مجموع الزمان الذي هو يسير جدا بالنسبة إلى عين الأزل
فهذا أقرب ما يحمل عليه كلامه مع قلقه وقد اعتراه فيه سوء تعبير وكأنه أطلق عليها الخسة لقلتها وخفتها بالنسبة إلى عظمة المكلف بها سبحانه وما يستحقه والله سبحانه أعلم

فصل ومنها السرور قال صاحب المنازل
باب السرور
قال الله تعالى بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون
تصدير الباب بهذه الآية في غاية الحسن فإن الله تعالى أمر عباده بالفرح بفضله ورحمته وذلك تبع للفرح والسرور بصاحب الفضل والرحمة فإن من فرح بما يصل إليه من جواد كريم محسن بر يكون فرحه بمن أوصل ذلك إليه أولى وأحرى
ونذكر ما في هذه الآية من المعنى ثم نشرح كلام المصنف
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم فضل الله الإسلام ورحمته القرآن فجعلوا رحمته أخص من فضله فإن فضله الخاص عام على أهل الإسلام ورحمته بتعليم كتابه لبعضهم دون بعض فجعلهم مسلمين بفضله وأنزل إليهم كتابه برحمته قال تعالى وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فضل الله القرآن ورحمته أن جعلنا من أهله
قلت يريد بذلك أن ههنا أمرين

أحدهما الفضل في نفسه والثاني استعداد المحل لقبوله كالغيث يقع على الأرض القابلة للنبات فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له والله أعلم
والفرح لذة تقع في القلب بإدراك المحبوب ونيل المشتهى فيتولد من إدراكه حالة تسمى الفرح والسرور كما أن الحزن والغم من فقد المحبوب فإذا فقده تولد من فقده حالة تسمى الحزن والغم وذكر سبحانه الأمر بالفرح بفضله وبرحمته عقيب قوله يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضل الله ورحمته التي تتضمن الموعظة وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة فأخبر سبحانه أن ما آتى عباده من الموعظة التي هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب وشفاء الصدور المتضمن لعافيتها من داء الجهل والظلمة والغي والسفه وهو أشد ألما لها من أدواء البدن ولكنها لما ألفت هذه الأدواء لم تحس بألمها وإنما يقوى إحساسها بها عند المفارقة للدنيا فهناك يحضرها كل مؤلم محزن وما آتاها من ربها الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه وحياة الروح به والرحمة التي تجلب لها كل خير ولذة وتدفع عنها كل شر ومؤلم
فذلك خير من كل ما يجمع الناس من أعراض الدنيا وزينتها أي هذا هو الذي ينبغي أن يفرح به ومن فرح به فقد فرح بأجل مفروح به لا ما يجمع أهل الدنيا منها فإنه ليس بموضع للفرح لأنه عرضة للآفات ووشيك الزوال ووخيم العاقبة وهو طيف خيال زار الصب في المنام ثم انقضى المنام وولى الطيف وأعقب مزاره الهجران
وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين مطلق ومقيد

فالمطلق جاء في الذم كقوله تعالى لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وقوله إنه لفرح فخور
والمقيد نوعان أيضا مقيد بالدنيا ينسي صاحبه فضل الله ومنته فهو مذموم كقوله حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون
والثاني مقيد بفضل الله وبرحمته وهو نوعان أيضا فضل ورحمة بالسبب وفضل بالمسبب فالأول كقوله قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون والثاني كقوله فرحين بما آتاهم الله من فضله
فالفرح بالله وبرسوله وبالإيمان وبالسنة وبالعلم وبالقرآن من أعلى مقامات العارفين قال الله تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون
وقال والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك
فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له وإيثاره له على غيره فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته له ورغبته فيه فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله له ولا يحزنه فواته
فالفرح تابع للمحبة والرغبة
والفرق بينه وبين الاستبشار أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله والاستبشار يكون به قبل حصوله إذا كان على ثقة من حصوله ولهذا قال تعالى فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم
والفرح صفة كمال ولهذا يوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها كفرحه بتوبة التائب أعظم من فرحة الواجد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها واليأس من حصولها
والمقصود أن الفرح أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته والفرح والسرور نعيمه والهم والحزن عذابه والفرح بالشيء فوق الرضى به فإن الرضى

طمأنينة وسكون وانشراح والفرح لذة وبهجة وسرور فكل فرح راض وليس كل راض فرحا ولهذا كان الفرح ضد الحزن والرضى ضد السخط والحزن يؤلم صاحبه والسخط لا يؤلمه إلا إن كان مع العجز عن الانتقام والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل السرور اسم لاستبشار جامع وهو أصفى من
الفرح لأن الأفراح ربما شانه الأحزان ولذلك نزل القرآن باسمه في أفراح الدنيا في مواضع وورد السرور في موضعين من القرآن في حال الآخرة
السرور والمسرة مصدر سره سرورا ومسرة وكأن معنى سره أثر في أسارير وجهه فإنه تبرق منه أسارير الوجه كما قال شاعر العرب
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
وهذا كما يقال رأسه إذا أصاب رأسه وبطنه وظهره إذا أصاب بطنه وظهره وأمه إذا أصاب أم رأسه
وأما الاستبشار فهو استعفال من البشرى والبشارة هي أول خبر صادق سار
والبشرى يراد بها أمران أحدهما بشارة المخبر والثاني سرور المخبر قال الله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة فسرت البشرى بهذا وهذا ففي حديث عبادة بن الصامت وأبي الدرداء رضي الله عنهما عن النبي هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له / ح /
وقال ابن عباس بشرى الحياة الدنيا هي عند الموت تأتيهم ملائكة الرحمة بالبشرى من الله وفي الآخرة عند خروج نفس المؤمن إذا خرجت يعرجون بها إلى الله تزف كما تزف العروس تبشر برضوان الله

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7