كتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

لهذا الرضى به فمن رضي بالله ربا رضيه الله له عبدا ومن رضي عنه في عطائه ومنعه وبلائه وعافيته : لم ينل بذلك درجة رضى الرب عنه إن لم يرض به ربا وبنبيه رسولا وبالإسلام دينا فإن العبد قد يرضى عن الله ربه فيما أعطاه وفيما منعه ولكن لا يرضى به وحده معبودا وإلها ولهذا إنما ضمن رضي العبد يوم القيامة لمن رضى به ربا كما قال النبي : من قال كل يوم : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة

فصل إذا عرف هذا فلنرجع إلى شرح كلامه قال : وبهذا الرضى نطق النزيل
يشير إلى قوله عز و جل : قال الله : هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدارضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم المائدة : 119 وقال تعالى فى آخر سورة المجادلة ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون وقال في آخر سورة لم يكن خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه
فتضمنت هذه الآيات : جزاءهم على صدقهم وإيمانهم وأعمالهم الصالحة ومجاهدة أعدائه وعدم ولا يتهم بأن رضي الله عنهم فأرضاهم فرضوا عنه وإنما حصل لهم هذا بعد الرضى به ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا قوله : وهو الرضى عنه في كل ما قضى ههنا ثلاثة أمور : الرضاء بالله والرضا عن الله والرضا بقضاء الله
فالرضى به فرض والرضى عنه وإن كان من أجل الأمور وأشرف أنواع العبودية فلم يطالب به العموم لعجزهم عنه ومشتقه عليهم وأوجبته طائفة كما أوجبوا الرضى به واحتجوا بحجج

منها : أنه إذا لم يكن راضيا عن ربه فهو ساخط عليه إذ لا واسطة بين الرضى والسخط وسخط العبد على ربه مناف لرضاه به ربا قالوا : وأيضا فعدم رضاه عنه يستلزم سوء ظنه به ومنازعته له في اختياره لعبده وأن الرب تبارك وتعالى يختار شيئا ويرضاه فلا يختاره العبد ولا يرضاه وهذا مناف للعبودية
قالوا : وفي بعض الآثار الإلهية من لم يرض بقضائى ولم يصبر على بلائي فليتخذ ربا سواي ولا حجة في شيء من ذلك
أما قوله : إنه لا يتخلص من السخط على ربه إلا بالرضى عنه إذ لا واسطة بين الرضا والسخط فكلام مدخول لأن السخط بالمقضي لا يستلزم السخط على من قضاه كما أن كراهة المقضي وبغضه والنفرة عنه لا تستلزم تعلق ذلك بالذي قضاه وقدره فالمقضي قد يسخطه العبد وهو راض عمن قضاه وقدره بل قد يجتمع تسخطه والرضى بنفس القضاء كما سيأتي إن شاء الله وأما قولكم : إنه يستلزم سوء ظن العبد بربه ومنازعته له في اختياره فليس كذلك بل هو حسن الظن بربه في الحالتين فإنه إنما يسخط المقدور وينازعه بمقدور آخر كما ينازع القدر الذي يكرهه ربه بالقدر الذي يحبه ويرضاه فينازع قدر الله بقدر الله بالله لله كما يستعيذ برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته ويستعيذ به منه
فأما كونه يختار لنفسه خلاف ما يختاره الرب فهذا موضع تفصيل لا يسحب عليه ذيل النفي والإثبات فاختيار الرب تعالى لعبده نوعان : أحدهما : اختيار ديني شرعي فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا النوع غير ما اختاره له سيده قال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا : أن يكون لهم الخيرة من أمرهم الأحزاب : 36 فاختيار العبد خلاف ذلك مناف لإيمانه وتسليمه ورضاه بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا

النوع الثاني : اختيار كوني قدري لا يسخطه الرب كالمصائب التي يبتلى الله بها عبده فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه ويدفعها ويكشفها وليس في ذلك منازعة للربوبية وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر
فهذا يكون تارة واجبا وتارة يكون مستحبا وتارة يكون مباحا مستوى الطرفين وتارة يكون مكروها وتارة يكون حراما وأما القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه مثل قدر المعائب والذنوب فالعبد مأمور بسخطها ومنهي عن الرضى بها
وهذا هو التفصيل الواجب في الرضى بالقضاء وقد اضطرب الناس في ذلك اضطرابا عظيما ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل فإن لفظ الرضى بالقضاء لفظ محمود مأمور به وهو من مقامات الصديقين فصارت له حرمة أوجبت لطائفة قبوله من غير تفصيل وظنوا أن كل ما كان مخلوقا للرب تعالى فهو مقضى مرضي مخلوقا له ينبغي له الرضى به ثم انقسموا على فرقتين فقالت فرقة : إذا كان القضاء والرضى متلازمين فمعلوم أنا مأمورون ببغض المعاصي والكفر والظلم فلا تكون مقضية مقدرة وفرقة قالت : قد دل العقل والشرع على أنها واقعة بقضاء الله وقدره فنحن نرضى بها
والطائفتان منحرفتان جائرتان عن قصد السبيل فأولئك أخرجوها عن قضاء الرب وقدره وهؤلاء رضوا بها ولم يسخطوها هؤلاء خالفوا الرب تعالى في رضاه وسخطه وخرجوا عن شرعه ودينه وأولئك أنكروا تعلق قضائه وقدره بها
واختلفت طرق أهل الإثبات للقدر والشرع في جواب الطائفتين فقالت طائفة : لم يقم دليل من الكتاب ولا السنة ولا الإجماع على جواز

الرضى بكل قضاء فضلا عن وجوبه واستحبابه فأين أمر الله عباده أو رسوله : أن يرضوا بكل ما قضاه الله وقدره
وهذه طريقة كثير من أصحابنا وغيرهم وبه أجاب القاضي أبو يعلى وابن الباقلاني قال : فإن قيل : أفترضون بقضاء الله وقدره قيل له : نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه الذي أمرنا أن نرضى به ولا نرضى من ذلك ما نهانا عنه أن نرضى به ولا نتقدم بين يدي الله تعالى ولا نعترض على حكمه وقالت طائفة أخرى : يطلق الرضى بالقضاء في الجملة دون تفاصيل المقضي المقدر فنقول : نرضى بقضاء الله جملة ولا نسخطه ولا نطلق الرضى على كل واحد من تفاصيل المقضي كما يقول المسلمون : كل شيء يبيد ويهلك ولا يقولون : حجج الله تبيد وتهلك ويقولون : الله رب كل شيء ولا يضيفون ربوبيته إلى الأعيان المستخبثة المستقذرة بخصوصها وقالت طائفة أخرى : نرضى بها من جهة إضافتها إلى الرب خلقا ومشيئة ونسخطها من جهة إضافتها إلى العبد كسبا له وقياما به
وقالت طائفة أخرى : بل نرضى بالقضاء ونسخط المقضي فالرضى والسخط لم يتعلقا بشيء واحد
وهذه الأجوبة لا يتمشى شيء منها على أصول من يجعل محبة الرب تعالى ورضاه ومشيئته واحدة كما هو أحد قول الأشعري وأكثر أتباعه
فإن هؤلاء يقولون : إن كل ما شاءه وقضاه فقد أحبه ورضيه وإذا كان الكون محبوبا له مرضيا فنحن نحب ما أحبه ونرضى ما رضيه وقولكم : إن الرضى بالقضاء يطلق جملة ولا يطلق تفصيلا فذلك لا يمنع دخوله في جملة المرضي به فيعود الإشكال

وقولكم : نرضى بها من جهة كونها خلقا لله ونسخطها من جهة كونها كسبا للعبد : فك2سب العبد إن كان أمرا وجوديا فهو خلق لله فنرضى به وإن كان أمرا عدميا فلا حقيقة له ترضى ولا تسخط وأما قولكم : نرضى بالقضاء دون المقضي : فهذا إنما يصح على قول من يجعل القضاء غير المقضي والفعل غير المفعول وأما من لم يفرق بينهما : فكيف يصح هذا على أصله وقد أورد القاضي أبو بكر الباقلانى على نفسه هذا السؤال فقال : فإن قيل : القضاء عندكم هو المقضي أو غيره
قيل : هو على ضربين فالقضاء بمعنى الخلق هو المقضي لأن الخلق هو المخلوق والقضاء الذي هو الإلزام والإعلام والكتابة : غير المقضى لأن الأمر غير المأمور والخبر غير المخبر عنه
وهذا الجواب لا يخلصه أيضا لأن الكلام ليس في الإلزام والإعلام والكتابة وإنما الكلام في نفس الفعل المقدور المعلم به المكتوب : هل مقدره وكاتبه سبحانه راض به أم لا وهل العبد مأمور بالرضى به نفسه أم لا هذا هو حرف المسألة
وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على من جعل مشيئته وقضاءه مستلزمان لمحبته ورضاه فكيف بمن جعل ذلك شيئا واحدا قال الله تعالى : سيقول الذين أشركوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل : هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون الأنعام : 148 وقال تعالى : وقال الذين أشركوا : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم النحل : 35 وقال تعالى : وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم الزخرف : 20 فهم استدلوا على محبته لشركهم ورضاه عنه

بمشيئته لذلك وعارضوا بهذا الدليل أمره ونهيه وفيه أبين الرد لقول من جعل مشيئته غير محبته ورضاه فالإشكال إنما نشأ من جعلهم المشيئة نفس المحبة ثم زادوه بجعلهم الفعل نفس المفعول والقضاء عين المقضي فنشأ من ذلك إلزامهم بكونه تعالى راضيا محبا لذلك والتزام رضاهم به
والذي يكشف هذه الغمة ويبصر من هذه العماية وينجي من هذه الورطة إنما هو التفريق بين ما فرق الله بينه وهو المشيئة والمحبة فإنهما ليسا واحدا ولا هما متلازمين بل قد يشاء ما لا يحبه ويحب ما لا يشاء كونه
فالأول : كمشيئته لوجود إبليس وجنوده ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه والثاني : كمحبته إيمان الكفار وطاعات الفجار وعدل الظالمين وتوبة الفاسقين ولو شاء ذلك لوجد كله وكان جميعه فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
فإذا تقرر هذا الأصل وأن الفعل غير المفعول والقضاء غير المقضي وأن الله سبحانه لم يأمر عباده بالرضى بكل ما خلقه وشاءه : زالت الشبهات وانحلت الإشكالات ولله الحمد ولم يبق بين شرع الرب وقدره تناقض بحيث يظن إبطال أحدهما للآخر بل القدر ينصر الشرع والشرع يصدق القدر وكل منهما يحقق الآخر
إذا عرف هذا فالرضى بالقضاء الديني الشرعي واجب وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان فيجب على العبد أن يكون راضيا به بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض قال الله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما النساء : 65 فأقسم : أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه وحتى يسلموا لحكمه تسليما وهذا حقيقة الرضى بحكمه فالتحكيم : في مقام الإسلام وانتفاء الحرج : في مقام الإيمان والتسليم : في مقام الإحسان

ومتى خالط القلب بشاشة الإيمان واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين وحيى بروح الوحي وتمهدت طبيعته وانقلبت النفس الأمارة مطمئنة راضية وادعة وتلقى أحكام الرب تعالى بصدر واسع منشرح مسلم : فقد رضي كل الرضى بهذا القضاء الديني المحبوب لله ولرسوله
والرضى بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من الصحة والغنى والعافية واللذة أمر لازم بمقتضى الطبيعة لأنه ملائم للعبد محبوب له فليس في الرضى به عبودية بل العبودية في مقابلته بالشكر والاعتراف بالمنة ووضع النعمة مواضعها التى يحب الله أن توضع فيها وأن لا يعصى المنعم بها وأن يرى التقصير في جميع ذلك والرضى بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب وهو من مقامات أهل الإيمان وفي وجوبه قولان وهذا كالمرض والفقر وأذى الخلق له والحر والبرد والآلام ونحو ذلك والرضى بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان : حرام يعاقب عليه وهو مخالفة لربه تعالى فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه فكيف تتفق المحبة ورضى ما يسخطه الحبيب ويبغضه فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضى بالقضاء
فإن قلت : كيف يريد الله سبحانه أمرا لا يرضاه ولا يحبه وكيف يشاؤه ويكونه وكيف تجتمع إرادة الله له وبغضه وكراهيته قيل : هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا وتباينت عنده طرقهم وأقوالهم فاعلم أن المراد نوعان : مراد لنفسه ومراد لغيره :

فالمراد لنفسه : مطلوب محبوب لذاته ولما فيه من الخير فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد والمراد لغيره : قد لا يكون في نفسه مقصودا للمريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده فيجتمع فيه الأمران : بغضه وإرادته ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما وهذا كالدواء المتناهي في الكراهة إذا علم متناوله أن فيه شفاءه وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده وكقطع المسافة الشاقة جدا إذا علم أنها توصله إلى مراده ومحبوبه بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته وطويت عنه مغبته فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب فهو سبحانه وتعالى يكره الشيء ويبغضه في ذاته ولاينافي ذلك إرادته لغيره وكونه سببا إلى ما هو أحب إليه من فوته
مثال أنه سبحانه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات وهو سبب شقاوة العبيد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل طريق وكل حيلة فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى مسخوط له لعنه الله ومقته وغضب عليه ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه وجودها أحب إليه من عدمها :
منها : أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرها وهي سبب كل شر في مقابلة ذات جبريل التي هي أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها وهي مادة كل خير فتبارك الله خالق هذا وهذا كما ظهرت لهم قدرته التامة في خلق الليل والنهار والضياء والظلام والداء والدواء والحياة والموت والحر والبرد

والحسن والقبيح والأرض والسماء والذكر والأنثى والماء والنار والخير والشر
وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته وسلطانه وملكه فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض وسلط بعضها على بعض وجعلها محال تصرفه وتدبيره وحكمته فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته
ومنها : ظهور آثار أسمائه القهرية مثل القهار والمنتقم والعدل والضار وشديد العقاب وسريع الحساب وذي البطش الشديد والخافض والمذل فإن هذه الأسماء والأفعال كمال فلا بد من وجود متعلقها ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملك : لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال ومنها : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد وقد أشار النبي إلى هذا بقوله : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم
ومنها : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة فإنه سبحانه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته فلا يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع ولا الثواب موضع العقاب ولا العقاب موضع الثواب ولا الخفض موضع الرفع ولا الرفع موضع الخفض ولا العز مكان الذل ولا الذل مكان العز ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه ولا ينهى عما ينبغي الأمر به
فهو أعلم حيث يجعل رسالته وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها

إليه ووصولها وأعلم بمن لا يصلح لذلك ولا يستأهله وأحكم من أن يمنعها أهلها وأن يضعها عند غير أهلها
فلو قدر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار ولم تظهر لخلقه ولفاتت الحكم والمصالح المترتبة عليها وفواتها شر من حصول تلك الأسباب فلو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر فلو قدر تعطيلها لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك الشر بما لا نسبة بينه وبينه

فصل ومنها : حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت
ولكان الحاصل بعضها لا كلها
فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها : من الموالاة فيه سبحانه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه وبذل النفس له في محاربة عدوه وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محاب الرب على محاب النفس
ومنها : عبودية التوبة والرجوع إليه واستغفاره فإنه سبحانه يحب التوابين ويحب توبتهم فلو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها ومنها : عبودية مخالفة عدوه ومراغمته في الله وإغاظته فيه وهي من أحب

أنواع العبودية إليه فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه ويسوءه وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس ومنها : أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه وسؤاله أن يجيره منه ويعصمه من كيده وأذاه ومنها : أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه بمخالفته وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المرتبة الشيطانية فلا يخلدون إلى غرور الأمل بعد ذلك
ومنها : أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته الذي حصوله مشروط بالمعاداة والمخالفة فأكثر عبادات القلوب والجوارح مرتبة على مخالفته
ومنها : أن نفس اتخاذه عدوا من أكبر أنواع العبودية وأجلها قال الله تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا فاطر : 6 فاتخاذه عدوا أنفع شىء للعبد وهو محبوب للرب
ومنها : أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر والطيب والخبيث وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد فخلق الشيطان مستخرجا لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ليترتب عليه آثاره وما في قوى أولئك من الشر ليترتب عليه آثاره وتظهر حكمته في الفريقين وينفذ حكمه فيهما ويظهر ما كان معلوما له مطابقا لعلمه السابق
وهذا هو السؤال الذي سألته ملائكته حين قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال : إني أعلم ما لا تعلمون البقرة : 30 فظنت الملائكة أن وجود من يسبح بحمده ويطيعه ويعبده أولى من

وجود من يعصيه ويخالفه فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح والغايات المحمودة في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة
ومنها : أن ظهور كثير من آياته وعجائب صنعه : حصل بسبب وقوع الكفر والشر من النفوس الكافرة الظالمة كآية الطوفان وآية الريح وآية إهلاك ثمود وقوم لوط وآية انقلاب النار على إبراهيم بردا وسلاما والآيات التي أجراها الله تعالى على يد موسى وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر كل آية منها في سورة الشعراء : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم الشعراء : 89 فلولا كفر الكافرين وعناد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة التي يتحدث بها الناس جيلا بعد جيل إلى الأبد ومنها : أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضا ويكسر بعضها بعضا : هو من شأن كمال الربوبية والقدرة النافذة والحكمة التامة والملك الكامل وإن كان شأن الربوبية كاملا في نفسه ولو لم تخلق هذه الأسباب لكن خلقها من لوازم كماله وملكه وقدرته وحكمته فظهور تأثيرها وأحكامها في عالم الشهادة : تحقيق لذلك الكمال وموجب من موجباته فتعمير مراتب الغيب والشهادة بأحكام الصفات من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه وأقسامه وغاياته
وبالجملة : فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتبت على خلق ما لا يحبه ولا يرضاه وتقديره ومشيئته : أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها فإن قلت : فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب قلت : هذا سؤال باطل إذ هو فرض وجود الملزوم بدون لازمه كفرض وجود الابن بدون الأب والحركة بدون المتحرك والتوبة بدون التائب فإن قلت : فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه أم هي مسخوطة من جميع الوجوه

قلت : هذا السؤال يورد على وجهين أحدهما : من جهة الرب سبحانه وتعالى وهل يكون محبا لها من جهة إفضائها إلى محبوبه وإن كان يبغضها لذاتها والثاني : من جهة العبد وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضا فهذا سؤال له شأن
فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه وهو من هذه الجهة شر وأما من جهة وجوده المحض : فلا شر فيه مثاله : أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها فإنها خلقت في الأصل متحركة لا تسكن فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه وحركتها من حيث هي حركة خير وإنما تكون شرا بالإضافة لا من حيث هي حركة والشر كله ظلم وهو وضع الشىء في غير موضعه فلو وضع في موضعه لم يكن شرا
فعلم أن جهة الشر فيه : نسبة إضافية ولهذا كانت العقوبات الموضوعات في محالها خيرا في نفسها وإن كانت شرا بالنسبة إلى المحل الذى حلت به لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له فصار ذلك الألم شرا بالنسبة إليها وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه موضعه فإنه سبحانه لا يخلق شرا محضا من جميع الوجوه والاعتبارات فإن حكمته تأبى ذلك بل قد يكون ذلك المخلوق شرا ومفسدة ببعض الاعتبارات وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده بل الواقع منحصر في ذلك فلا يمكن في جناب الحق جل جلاله أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه بكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما هذا من أبين المحال فإنه سبحانه بيده الخير والشر ليس إليه بل كل ما إليه فخير والشر

إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه فلو كان إليه لم يكن شرا فتأمله فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شرا
فإن قلت : لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة قلت : هو من هذه الجهة ليس بشر فإن وجوده هو المنسوب إليه وهو من هذه الجهة ليس بشر والشر الذي فيه : من عدم إمداده بالخير وأسبابه والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير فإن أردت مزيد إيضاح لذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : الإيجاد والإعداد والإمداد فهذه هي الخيرات وأسبابها فإيجاد السبب خير وهو إلى الله وإعداده خير وهو إليه أيضا وإمداده خير وهو إليه أيضا فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه ضده فإن قلت : فهلا أمده إذ أوجده
قلت : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه سبحانه يوجد ويمده وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده : أوجده بحكمته ولم يمده بحكمته فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده فإن قلت : فهلا أمد الموجودات كلها قلت : فهذا سؤال فاسد يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة وهذا عين الجهل بل الحكمة كل الحكمة : في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها وليس في خلق كل نوع منها تفاوت فكل نوع منها ليس في خلقه من تفاوت والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق وإلا فليس في الخلق من تفاوت
فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حق الفهم فراجع قول القائل :
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع

كما ذكر : أن الأصمعي اجتمع بالخليل بن أحمد وحرص على فهم العروض منه : فأعياه ذلك فقال له الخليل يوما : قطع لي هذا البيت وأنشده : إذا لم تستطع شيئا البيت ففهم ما أراد فأمسك عنه ولم يشتغل به
وسر المسألة : أن الرضى بالله يستلزم الرضى بصفاته وأفعاله وأسمائه وأحكامه ولا يستلزم الرضى بمفعولاته كلها بل حقيقة العبودية : أن يوافقه عبده في رضاه وسخطه فيرضى منها بما يرضى به ويسخط منها ما سخطه فإن قيل : فهو سبحانه يرضى عقوبة من يستحق العقوبة فكيف يمكن العبد أن يرضى بعقوبته له
قيل : لو وافقه في رضاه بعقوبته لانقلبت لذة وسرورا ولكن لا يقع منه ذلك فإنه لم يوافقه في محبته وطاعته التي هي سرور النفس وقرة العين وحياة القلب فكيف يوافقه في محبته للعقوبة التي هى أكره شيء إليه وأشق شيء عليه بل كان كارها لما يحبه من طاعته وتوحيده فلا يكون راضيا بما يختاره من عقوبته ولو قبل ذلك لارتفعت عنه العقوبة فإن قلت : فكيف يجتمع الرضى بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته
قلت : لا تنافي في ذلك فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب ويكرهه من جهة تألمه به كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه فإنه يجتمع فيه رضاه به وكراهته له فإن قلت : كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه قلت : لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التى رضيها له وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هى أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة بحيث يكون وقوعها منه مستلزما لمفسدة راجحة ومفوتا لمصلحة راجحة وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله :

ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل : اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين التوبة : 4647 فأخبر سبحانه : أنه كره انبعاثهم مع رسوله للغزو وهو طاعة وقربة وقد أمرهم به فلما كرهه منهم ثبطهم عنه ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت ستترتب على خروجهم لو خرجوا مع رسول الله فقال لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا أي فسادا وشرا ولأوضعوا خلالكم أي سعوا فيما بينكم بالفساد والشر يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم أي قابلون منهم مستجيبون لهم فيتولد من بين سعي هؤلاء بالفساد وقبول أولئك منهم من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم فاقتضت الحكمة والرحمة : أن منعهم من الخروج وأقعدهم عنه فاجعل هذا المثال أصلا لهذا الباب وقس عليه
فإن قلت : قد يتصور لي هذا في رضى الرب تعالى لبعض ما يخلقه من وجه وكراهته من وجه آخر فكيف لي بأن يجتمع الأمران في حقي بالنسبة إلى المعاصي والفسوق قلت : وهو متصور ممكن بل واقع فإن العبد يسخط ذلك ويبغضه ويكرهه من حيث هو فعل له بسببه وواقع بكسبه وإرادته واختياره ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإذنه الكوني فيه فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان وطائفة أخرى رأوا كراهة ذلك مطلقا وعدم الرضى به من كل وجه
وهؤلاء في الحقيقة لا يخالفون أولئك فإن العبد إذا كرهها مطلقا فإن الكراهة إنما تقع على الاعتبار المكروه منها وهؤلاء لم يكرهوا علم الرب وكتابته

ومشيئته وإلزامه حكمه الكوني وأولئك لم يرضوا بها من الوجه الذي سخطها الرب وأبغضها لأجله
وسر المسألة : أن الذي إلى الرب منها غير مكروه والذي إلى العبد منها هو المكروه والمسخوط فإن قلت : ليس إلى العبد شيء منها قلت : هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق والقدري أقرب إلى التخلص منه من الجبري وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية : هم أسعد بالتخلص منه من الفريقين فإن قلت : كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة
قلت : هذا الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر وقال : إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته في ذلك وقيل :
أصبحت منفعلا لما تختاره ... مني ففعلي كله طاعات وهؤلاء أعمى الخلق بصائر وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية فإن الطاعة هي موافقة الأمر لا موافقة القدر والمشيئة ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله وكان قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون كلهم مطيعين له فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته وانتقم منهم لأجلها وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله فإن قلت : ومع ذلك فاجمع لي بين الندم والتوبة وبين مشهد القيومية والحكمة قلت : العبد إذا شهد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه وكمال فقره إلى ربه وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين كان بالله في هذه الحال لا بنفسه

فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة فإن عليه حصنا حصينا من : فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال فإذا حجب عن هذا المشهد وسقط إلى وجوده الطبيعي وبقي بنفسه : استولى عليه حكم النفس والطبع والهوى وهذا الوجود الطبيعي قد نصبت فيه الشباك والأشراك وأرسلت عليه الصيادون فلابد أن يقع في شبكة من تلك الشباك وشرك من تلك الأشراك وهذا الوجود هو حجاب بينه وبين ربه فعند ذلك يقع الحجاب ويقوى المقتضى ويضعف المانع وتشتد الظلمة وتضعف القوى فأنى له بالخلاص من تلك الأشراك والشباك فإذا انقشع ضباب ذلك الوجود الطبيعي وانجاب ظلامه وزال قتامه وصرت بربك ذاهبا عن نفسك وطبعك
بدا لك سر طال عنك اكتتامه ... ولاح صباح كنت أنت ظلامه
فإن غبت عنه حل فيه وطنبت ... على منكب الكشف المصون خيامه
فأنت حجاب القلب عن سر غيبه ... ولولاك لم يطبع عليه ختامه
وجاء حديث لا يمل سماعه ... شهي إلينا نثره ونظامه
إذا ذكرته النفس زال عناؤها ... وزال عن القلب المعنى قتامه
فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة فإنه كان في المعصية بنفسه محجوبا فيها عن ربه وعن طاعته فلما فارق ذلك الوجود وصار في وجود آخر : بقي بربه لا بنفسه
وإذا عرف هذا فالتوبة والندم يكونان في هذا الوجود الذي هو فيه بربه وذلك لا ينافي مشهد الحكمة والقيومية بل يجامعه ويستمد منه وبالله التوفيق
قوله : ويصح بثلاثة شرائط باستواء الحالات عند العبد وسقوط الخصومة مع الخلق والخلاص من المسألة والإلحاح

يعني : أن الرضى عن الله إنما يتحقق بهذه الأمور الثلاثة فإن الراضي الموافق تستوي عنده الحالات من النعمة والبلية في رضاه بحسن اختيار الله له وليس المراد استواؤها عنده في ملاءمته ومنافرته فإن هذا خلاف الطبع البشري بل خلاف الطبع الحيواني
وليس المراد أيضا استواء الحالات عنده في الطاعة والمعصية فإن هذا مناف للعبودية من كل وجه وإنما تستوى النعمة والبلية عنده في الرضى بهما لوجوه أحدها : أنه مفوض والمفوض راض بكل ما اختاره له من فوض إليه ولا سيما إذا علم كمال حكمته ورحمته ولطفه وحسن اختياره له الثاني : أنه جازم بأنه لا تبديل لكلمات الله ولا راد لحكمه وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهو يعلم أن كلا من البلية والنعمة بقضاء سابق وقدر حتم الثالث : أنه عبد محض والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن بل يتلقاها كلها بالرضى به وعنه الرابع : أنه محب والمحب الصادق : من رضي بما يعامله به حبيبه الخامس : أنه جاهل بعواقب الأمور وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه السادس : أنه لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه ولو عرف أسبابها فهو جاهل ظالم وربه تعالى يريد مصلحته ويسوق إليه أسبابها ومن أعظم أسبابها : ما يكرهه العبد فإن مصلحته فيما يكره أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب قال الله تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون البقرة : 216 وقال تعالى وإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراكثيرا النساء : 19

السابع : أنه مسلم والمسلم من قد سلم نفسه لله ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه ولم يسخط ذلك الثامن : أنه عارف بربه حسن الظن به لا يتهمه فيما يجريه عليه من أقضيته وأقداره
فحسن ظنه به يوجب له استواء الحالات عنده ورضاه بما يختاره له سيده سبحانه التاسع : أنه يعلم أن حظه من المقدور ما يتلقاه به من رضى وسخط فلا بد له منه فإن رضي فله الرضى وإن سخط فله السخط العاشر : علمه بأنه إذا رضي انقلب في حقه نعمة ومنحة وخف عليه حمله وأعين عليه وإذا سخطه تضاعف عليه ثقله وكله ولم يزدد إلا شدة فلو أن السخط يجدي عليه شيئا لكان له فيه راحة أنفع له من الرضى به
ونكتة المسألة : إيمانه بأن قضاء الرب تعالى خير له كما قال النبي والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن الحادي عشر : أن يعلم أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه ولو لم يجر عليه منها إلا ما يحب لكان أبعد شيء عن عبودية ربه فلا تتم له عبوديته من الصبر والتوكل والرضى والتضرع والافتقار والذل والخضوع وغيرها إلا بجريان القدر له بما يكرهه وليس الشأن في الرضى بالقضاء الملائم للطبيعة إنما الشأن في القضاء المؤلم المنافر للطبع الثاني عشر : أن يعلم أن رضاه عن ربه سبحانه وتعالى في جميع الحالات يثمر رضى ربه عنه فإذا رضي عنه بالقليل من الرزق : رضي ربه عنه بالقليل من العمل وإذا رضي عنه في جميع الحالات واستوت عنده وجده أسرع شيء إلى رضاه إذا ترضاه وتملقه

الثالث عشر : أن يعلم أن أعظم راحته وسروره ونعيمه : فى الرضى عن ربه تعالى وتقدس في جميع الحالات فإن الرضى باب الله الأعظم ومستراح العارفين وجنة الدنيا فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه وأن لا يستبدل بغيره منه الرابع عشر : أن السخط باب الهم والغم والحزن وشتات القلب وكسف البال وسوء الحال والظن بالله خلاف ما هو أهله والرضى يخلصه من ذلك كله ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة الخامس عشر : أن الرضى يوجب له الطمأنينة وبرد القلب وسكونه وقراره والسخط يوجب اضطراب قلبه وريبته وانزعاجه وعدم قراره السادس عشر : أن الرضى ينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها ومتى نزلت عليه السكينة : استقام وصلحت أحواله وصلح باله والسخط يبعده منها بحسب قلته وكثرته وإذا ترحلت عنه السكينة ترحل عنه السرور والأمن والدعة والراحة وطيب العيش فمن أعظم نعم الله على عبده : تنزل السكينة عليه ومن أعظم أسبابها : الرضى عنه في جميع الحالات السابع عشر : أن الرضى يفتح له باب السلامة فيجعل قلبه سليما نقيا من الغش والدغل والغل ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضى وكلما كان العبد أشد رضى كان قلبه أسلم فالخبث والدغل والغش : قرين السخط وسلامة القلب وبره ونصحه : قرين الرضى وكذلك الحسد : هو من ثمرات السخط وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى الثامن عشر : أن السخط يوجب تلون العبد وعدم ثباته مع الله فإنه لا يرضى إلا بما يلائم طبعه ونفسه والمقادير تجري دائما بما يلائمه وبما لا يلائمه وكلما جرى عليه منها ما لا يلائمه أسخطه فلا تثبت له قدم على العبودية فإذا

رضي عن ربه في جميع الحالات استقرت قدمه في مقام العبودية فلا يزيل التلون عن العبد شيء مثل الرضى التاسع عشر : أن السخط يفتح عليه باب الشك في الله وقضائه وقدره وحكمته وعلمه فقل أن يسلم الساخط من شك يداخل قلبه ويتغلغل فيه وإن كان لا يشعر به فلو فتش نفسه غاية التفتيش لوجد يقينه معلولا مدخولا فإن الرضى واليقين أخوان مصطحبان والشك والسخط قرينان وهذا معنى الحديث الذي في الترمذى أو غيره : إن استطعت أن تعمل بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا العشرون : أن الرضى بالمقدور من سعادة ابن آدم وسخطه من شقاوته كما في المسند و الترمذى من حديث سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله : من سعادة ابن آدم : استخارة الله عز و جل ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله ومن شقوة ابن آدم : سخطه بما قضى الله ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله فالرضا بالقضاء من أسباب السعادة والتسخط على القضاء من أسباب الشقاوة الحادي والعشرون : أن الرضى يوجب له أن لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه وذلك من أفضل الإيمان أما عدم أساه على الفائت : فظاهر وأما عدم فرحه بما آتاه : فلأنه يعلم أن المصيبة فيه مكتوبة من قبل حصوله فكيف يفرح بشيء يعلم أن له فيه مصيبة منتظرة ولا بد الثاني والعشرون : أن من ملأ قلبه من الرضى بالقدر : ملأ الله صدره غنى وأمنا وقناعة وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ومن فاته حظه من الرضى : امتلأ قلبه بضد ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه فالرضى يفرغ القلب لله والسخط يفرغ القلب من الله

الثالث والعشرون : أن الرضى يثمر الشكر الذى هو من أعلى مقامات الإيمان بل هو حقيقة الإيمان والسخط يثمر ضده وهو كفر النعم وربما أثمر له كفر المنعم فإذا رضي العبد عن ربه في جميع الحالات : أوجب له ذلك شكره فيكون من الراضين الشاكرين وإذا فاته الرضى : كان من الساخطين وسلك سبيل الكافرين الرابع والعشرون : أن الرضى ينفي عنه آفات الحرص والكلب على الدنيا وذلك رأس كل خطيئة وأصل كل بلية وأساس كل رزية فرضاه عن ربه في جميع الحالات : ينفي عنه مادة هذه الآفات الخامس والعشرون : أن الشيطان إنما يظفر بالإنسان غالبا عند السخط والشهوة فهناك يصطاده ولا سيما إذا استحكم سخطه فإنه يقول مالا يرضى الرب ويفعل مالا يرضيه وينوي مالا يرضيه ولهذا قال النبي عند موت ابنه إبراهيم : يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول إلا ما يرضي الرب فإن موت البنين من العوارض التي توجب للعبد السخط على القدر فأخبر النبي : أنه لا يقول في مثل هذا المقام الذي يسخطه أكثر الناس فيتكلمون بما لا يرضي الله ويفعلون مالا يرضيه إلا ما يرضي ربه تبارك وتعالى ولهذا لما مات ابن الفضيل بن عياض رؤي في الجنازة ضاحكا فقيل له : أتضحك وقد مات ابنك فقال : إن الله قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه فأنكرت طائفة هذه المقالة على الفضيل وقالوا : رسول الله بكى يوم مات ابنه وأخبر أن : القلب يحزن والعين تدمع وهو في أعلى مقامات الرضى فكيف يعد هذا من مناقب الفضيل
والتحقيق : أن قلب رسول الله اتسع لتكميل جميع المراتب من الرضى عن الله والبكاء رحمة للصبي فكان له مقام الرضى ومقام الرحمة

ورقة القلب والفضيل لم يتسع قلبه لمقام الرضى ومقام الرحمة فلم يجتمع له الأمران والناس في ذلك على أربع مراتب أحدها : من اجتمع له الرضى بالقضاء ورحمة الطفل فدمعت عيناه رحمة والقلب راض الثاني : من غيبه الرضى عن الرحمة فلم يتسع للأمرين بل غيبه أحدهما عن الآخر الثالث : من غيبته الرحمة والرقة عن الرضى فلم يشهده بل فني عن الرضى الرابع : من لا رضى عنده ولا رحمة وإنما يكون حزنه لفوات حظه من الميت وهذا حال أكثر الخلق فلا إحسان ولا رضى عن الرحمن والله المستعان فالأول في أعلى مراتب الرضى والثاني دونه والثالث دون الثاني والرابع هو الساخط السادس والعشرون : أن الرضى هو اختيار ما اختاره الله لعبده والسخط كراهة ما اختاره الله له وهذا نوع محادة فلا يتخلص منه إلا بالرضى عن الله فى جميع الحالات السابع والعشرون : أن الرضى يخرج الهوى من القلب فالراضي هواه تبع لمراد ربه منه أعني المراد الذي يحبه ربه ويرضاه فلا يجتمع الرضى واتباع الهوى في القلب أبدا وإن كان معه شعبة من هذا وشعبة من هذا فهو للغالب عليه منهما الثامن والعشرون : أن الرضى عن الله في جميع الحالات يثمر للعبد رضى الله عنه كما تقدم بيانه في الرضى به فإن الجزاء من جنس العمل وفي أثر إسرائيلي

أن موسى سأل ربه عز و جل : ما يدنى من رضاه فقال : إن رضاي في رضاك بقضائي التاسع والعشرون : أن الرضى بالقضاء أشق شيء على النفس بل هو ذبحها في الحقيقة فإنه مخالفة هواها وطبعها وإرادتها ولا تصير مطمئنة قط حتى ترضى بالقضاء فحينئذ تستحق أن يقال لها : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي الفجر : 2730 الثلاثون : أن الراضي متلق أوامر ربه الدينية والقدرية بالانشراح والتسليم وطيب النفس والاستسلام والساخط يتلقاها بضد ذلك إلا ما وافق طبعه وإرادته منها وقد بينا أن الرضى بذلك لا ينفعه ولا يثاب عليه فإنه لم يرض به لكون الله قدره وقضاه وأمر به وإنما رضي به لموافقته هواه وطبعه فهو إنما رضي لنفسه وعن نفسه لا بربه عن ربه الحادي والثلاثون : أن المخالفات كلها أصلها من عدم الرضى والطاعات كلها أصلها من الرضى وهذا إنما يعرفه حق المعرفة من عرف صفات نفسه وما يتولد عنها من الطاعات والمعاصي الثاني والثلاثون : أن عدم الرضى يفتح باب البدعة والرضى يغلق عنه ذلك الباب ولو تأملت بدع الروافض والنواصب والخوارج لرأيتها ناشئة من عدم الرضى بالحكم الكوني أو الديني أو كليهما الثالث والثلاثون : أن الرضى معقد نظام الدين ظاهره وباطنه فإن القضايا لا تخلو من خمسة أنواع : فتنقسم قسمين : دينية وكونية وهي مأمورات ومنهيات ومباحات ونعم ملذة وبلايا مؤلمة

فإذا استعمل العبد الرضى في ذلك كله فقد أخذ بالحظ الوافر من الإسلام وفاز بالقدح المعلى الرابع والثلاثون : أن الرضى يخلص العبد من مخاصمة الرب تعالى في أحكامه وأقضيته فإن السخط عليه مخاصمة له فيما لم يرض به العبد وأصل مخاصمة إبليس لربه : من عدم رضاه بأقضيته وأحكامه الدينية والكونية فلو رضي لم يمسخ من الحقيقة الملكية إلى الحقيقة الشيطانية الإبليسية الخامس والثلاثون : أن جميع ما في الكون أوجبته مشيئة الله وحكمته وملكه فهو موجب أسمائه وصفاته فمن لم يرض بما رضى به ربه لم يرض بأسمائه وصفاته فلم يرض به ربا السادس والثلاثون : أن كل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه لا يخلو : إما أن يكون عقوبة على الذنب فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامي به المرض إلى الهلاك أو يكون سببا لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه فالمكروه ينقطع ويتلاشى وما يترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع فإذا شهد العبد هذين الأمرين انفتح له باب الرضى عن ربه في كل ما يقضيه له ويقدره السابع والثلاثون : أن حكم الرب تعالى ماض في عبده وقضاؤه عدل فيه كما في الحديث : ماض في حكمك عدل في قضاؤك ومن لم يرض بالعدل فهو من أهل الظلم والجور
وقوله : عدل في قضاؤك يعم قضاء الذنب وقضاء أثره وعقوبته فإن الأمرين من قضائه عز و جل وهو أعدل العادلين في قضائه بالذنب وفي قضائه بعقوبته
أما عدله في العقوبة : فظاهر وأما عدله في قضائه بالذنب : فلأن الذنب

عقوبة على غفلته عن ربه وإعراض قلبه عنه فإنه إذا غفل قلبه عن ربه ووليه ونقص إخلاصه : استحق أن يضرب بهذه العقوبة لأن قلوب الغافلين معدن الذنوب والعقوبات واردة عليها من كل جهة وإلا فمع كمال الإخلاص والذكر والإقبال على الله سبحانه وتعالى وذكره يستحيل صدور الذنب كما قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين يوسف : 24
فإن قلت : قضاؤه على عبده بإعراضه عنه ونسيانه إياه وعدم إخلاصه : عقوبة على ماذا
قلت : هذا طبع النفس وشأنها فهو سبحانه إذا لم يرد الخير بعبده خلي بينه وبين نفسه وطبعه وهواه وذلك يقتضي أثرها من الغفلة والنسيان وعدم الإخلاص واتباع الهوى وهذه الأسباب تقتضي آثارها من الآلام وفوات الخيرات واللذات كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها وآثارها

فإن قلت : فهلا خلقه على غير تلك الصفة قلت : هذا سؤال فاسد ومضمونه : هلا خلقه ملكا لا إنسانا فإن قلت : فهلا أعطاه التوفيق الذي يتخلص به من شر نفسه وظلمة طبعه قلت : مضمون هذا السؤال : هلا سوى بين جميع خلقه ولم خلق المتضادات والمختلفات وهذا من أفسد الأسئلة وقد تقدم بيان اقتضاء حكمته وربوبيته وملكه لخلق ذلك الثامن والثلاثون : أن عدم الرضى إما أن يكون لفوات ما أخطأه مما يحبه ويريده وإما لإصابة ما يكرهه ويسخطه فإذا تيقن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه : فلا فائدة في سخطه بعد ذلك إلا فوات ما ينفعه وحصول ما يضره التاسع والثلاثون : أن الرضى من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح : فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان قال أبو الدرداء : ذروة سنام الإيمان : الصبر للحكم والرضى بالقدر الأربعون : أن أول معصية عصي الله بها في هذا العالم : إنما نشأت من عدم الرضى فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا من تفضيل آدم وتكريمه ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم وآدم لم يرض بما أبيح له من الجنة حتى ضم إليه الأكل من شجرة الحمى ثم ترتبت معاصي الذرية على عدم الصبر وعدم الرضى

الحادي والأربعون : أن الراضي واقف مع اختيار الله له معرض عن اختياره لنفسه وهذا من قوة معرفته بربه تعالى ومعرفته بنفسه
وقد اجتمع وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط فقال الثوري : قد كنت أكره موت الفجاءة قبل اليوم وأما اليوم : فوددت أني ميت
فقال له يوسف بن أسباط : ولم فقال : لما أتخوف من الفتنة فقال يوسف : لكني لا أكره طول البقاء فقال الثوري : ولم تكره الموت قال : لعلي أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا فقيل لوهيب : أي شيء تقول أنت فقال : أنا لا أختار شيئا أحب ذلك إلي أحبه إلى الله فقبل الثوري بين عينيه وقال : روحانية ورب الكعبة
فهذا حال عبد قد استوت عنده حالة الحياة والموت وقف مع اختيار الله له منهما وقد كان وهيب رحمه الله له المقام العالى من الرضى وغيره الثاني والأربعون : أن يعلم أن منع الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن المحب عطاء وابتلاءه إياه عافية قال سفيان الثورى : منعه عطاء وذلك : أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم وإنما نظر فى خير عبده المؤمن فمنعه اختيارا وحسن نظر
وهذا كما قال فإنه سبحانه لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرا له ساءه ذلك القضاء أو سره فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء وإن كان في صورة المنع ونعمة وإن كانت في صورة محنة وبلاؤه وعافية وإن كان في صورة بلية ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل وكان ملائما لطبعه ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد المنع نعمة والبلاء رحمة وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية وتلذذ بالفقر أكثر من لذته

بالغنى وكان في حال القلة أعظم شكرا من حال الكثرة وهذه كانت حال السلف فالعاقل الراضي : من يعد البلاء عافية والمنع نعمة والفقر غنى
وأوحى الله إلى بعض أنبيائه : إذا رأيت الفقر مقبلا فقل : مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلا فقل : ذنب عجلت عقوبته فالراضي : هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه كما قال بعض العارفين : يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب وقد قال تعالى : وعسى أن تكرهوا شيئاوهو خير لكم البقرة : 216 وقد قال بعض العارفين : ارض عن الله في جميع ما يفعله بك فإنه ما منعك إلا ليعطيك ولا ابتلاك إلا ليعافيك ولا أمرضك إلا نيشفيك ولا أماتك إلا ليحييك فإياك أن تفارق الرضى عنه طرفة عين فتسقط من عينه الثالث والأربعون : أن يعلم أنه سبحانه هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والمظهر لكل شيء والمالك لكل شيء وهو الذي يخلق ما يشاء ويختار وليس للعبد أن يختار عليه وليس لأحد معه اختيار ولا يشرك في حكمه أحدا والعبد لم يكن شيئا مذكورا فهو سبحانه الذي اختار وجوده واختار أن يكون كما قدره له وقضاه : من عافية وبلاء وغنى وفقر وعز وذل ونباهة وخمول فكما تفرد سبحانه بالخلق تفرد بالاختيار والتدبير وليس للعبد شيء من ذلك فإن الأمر كله لله وقد قال تعالى لنبيه :

ليس لك من الأمر شىء فإذا تيقن العبد أن الأمر كله لله وليس له من الأمر قليل ولا كثير لم يكن له معول بعد ذلك غير الرضى بمواقع الأقدار وما يجري به من ربه الاختيار الرابع والأربعون : أن رضى الله عن العبد أكبر من الجنة وما فيها لأن الرضى صفة الله والجنة خلقه قال الله تعالى : ورضوان من الله أكبر التوبة : 72 بعد قوله : وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم التوبة : 72 وهذا الرضى جزاء على رضاهم عنه في الدنيا ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال الخامس والأربعون : أن العبد إذا رضي به وعنه في جميع الحالات : لم يتخير عليه المسائل وأغناه رضاه بما يقسمه له ويقدره ويفعله به عن ذلك وجعل ذكره في محل سؤاله بل يكون من سؤاله له الإعانة على ذكره وبلوغ رضاه فهذا يعطي أفضل ما يعطاه سائل كما جاء في الحديث من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين فإن السائلين سألوه فأعطاهم الفضل الذي سألوه والراضون رضوا عنه فأعطاهم رضاه عنهم ولا يمنع الرضى سؤاله أسباب الرضى بل أصحابه ملحون في سؤاله ذلك السادس والأربعون : أن النبي كان يندب إلى أعلى المقامات فإن عجز العبد عنه : حطه إلى المقام الوسط كما قال : اعبد الله كأنك تراه فهذا مقام المراقبة الجامع لمقامات الإسلام والإيمان والإحسان ثم قال فإن لم تكن تراه فإنه يراك فحطه عند العجز عن المقام عن المقام الأول إلى المقام الثاني وهوالعلم باطلاع الله عليه ورؤيته له ومشاهدته لعبده في الملأوالخلاء وكذا الحديث الآخر : إن استطعت أن تعمل لله بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا فرفعه إلى أعلى المقامات ثم

رده إلى أوسطها إن لم يستطع الأعلى فالأول : مقام الإحسان والذي حطه إليه : مقام الإيمان وليس دون ذلك إلا مقام الخسران السابع والأربعون : أنه أثنى على الراضين بمر القضاء بالحكم والعلم والفقه والقرب من درجة النبوة كما في حديث الوفد الذين قدموا على رسول الله فقال : ما أنتم فقالوا : مؤمنون فقال : ما علامة إيمانكم فقالوا : الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضى بمر القضاء والصدق في مواطن اللقاء وترك الشماتة بالأعداء فقال : حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء الثامن والأربعون : أن الرضى آخذ بزمام مقامات الدين كلها وهو روحها وحياتها فإنه روح التوكل وحقيقته وروح اليقين وروح المحبة وصحة المحب ودليل صدق المحبة وروح الشكر ودليله قال الربيع بن أنس : علامة حب الله : كثرة ذكره فإنك لا تحب شيئا إلا أكثرت من ذكره وعلامة الدين : الإخلاص لله في السر والعلانية وعلامة الشكر الرضى بقدر الله والتسليم لقضائه وقال أحمد بن أبي الحواري : ذاكرت أبا سليمان في الخبر المروي أول من يدعى إلى الجنة الحمادون فقال : ويحك ليس هو أن تحمده على المصيبة وقلبك يتعصى عليك إذا كنت كذلك فارجع إلى الصابرين إنما الحمد : أن تحمده وقلبك مسلم راض
فصار الرضى كالروح لهذه المقامات والأساس الذي تنبني عليه ولا يصح شيء منها بدونه ألبتة والله أعلم التاسع والأربعون : أن الرضى يقوم مقام كثير من التعبدات التي تشق على البدن فيكون رضاه أسهل عليه وألذ له وأرفع في درجته وقد ذكر في أثر إسرائيلي : إن عابدا عبد الله دهرا طويلا فأري في المنام : أن فلانة الراعية

رفيقتك في الجنة فسأل عنها إلى أن وجدها فاستضافها ثلاثا لينظر إلى عملها فكان يبيت قائما وتبيت نائمة ويظل صائما وتظل مفطرة فقال لها : أما لك عمل غير ما رأيت قالت : ما هو والله غير ما رأيت أو قالت : إلا ما رأيت لا أعرف غيره فلم يزل يقول لها : تذكري حتى قالت : خصيلة واحدة هي في وذلك : أني إن كنت في شدة لم أتمن أني في رخاء وإن كنت في مرض لم أتمن أنى في صحة وإن كنت في الشمس لم أتمن أنى فى الظل قال : فوضع العابد يده على رأسه وقال : أهذه خصيلة هذه والله خصلة عظيمة يعجز عنها العباد
وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه : من رضي بما أنزل من السماء إلى الأرض غفر له وفي أثر مرفوع : من خير ما أعطي العبد : الرضى بما قسم الله له وفي أثر آخر : إذا أحب الله عبدا ابتلاه فإن صبر اجتباه فإن رضي اصطفاه وفي أثر : إن بني إسرائيل : سألوا موسى أن يسأل ربه أمرا إذا هم فعلوه رضي عنهم فقال موسى : رب إنك تسمع ما يقولون فقال : قل لهم يرضون عني حتى أرضى عنهم
وفي أثر آخر عن النبي أحب أن يعلم ماله عند الله فلينظر مالله عنده فإن الله ينزل العبد منه حيث ينزله العبد من نفسه
وفي أثر آخر : من رضي من الله بالقليل من الرزق رضي الله منه بالقليل من العمل وقال بعض العارفين : أعرف في الموتى عالما ينظرون إلى منازلهم في الجنان في قبورهم يغدي عليهم ويراح برزقهم من الجنة بكرة وعشيا وهم في غموم وكروب في البرزخ لو قسمت على أهل بلد لماتوا أجمعين

قيل : وما كانت أعمالهم قال : كانوا مسلمين مؤمنين إلا أنهم لم يكن لهم من التوكل ولا من الرضى نصيب وفي وصية لقمان لابنه : أوصيك بخصال تقربك من الله وتباعدك من سخطه : أن تعبد الله لا تشرك به شيئا وأن ترضى بقدر الله فيما أحببت وكرهت وقال بعض العارفين : من يتوكل على الله ويرض بقدر الله فقد أقام الإيمان وفرغ يديه ورجليه لكسب الخير وأقام الأخلاق الصالحة التي تصلح للعبد أمره الخمسون : أن الرضى يفتح باب حسن الخلق مع الله تعالى ومع الناس فإن حسن الخلق من الرضى وسوء الخلق من السخط وحسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم وسوء الخلق يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب الحادي والخمسون : أن الرضى يثمر سرور القلب بالمقدور في جميع الأمور وطيب النفس وسكونها في كل حال وطمأنينة القلب عند كل مفزع مهلع من أمور الدنيا وبرد القناعة واغتباط العبد بقسمه من ربه وفرحه بقيام مولاه عليه واستسلامه لمولاه في كل شيء ورضاه منه بما يجريه عليه وتسليمه له الأحكام والقضايا واعتقاد حسن تدبيره وكمال حكمته ويذهب عنه شكوى ربه إلى غيره وتبرمه بأقضيته ولهذا سمى بعض العارفين الرضى : حسن الخلق مع الله فإنه يوجب ترك الاعتراض عليه في ملكه وحذف فضول الكلام التي تقدح في حسن خلقه فلا يقول : ما أحوج الناس إلى مطر ولا يقول : هذا يوم شديد الحر أو شديد البرد ولا يقول : الفقر بلاء والعيال هم وغم ولا يسمى شيئا قضاه الله وقدره باسم مذموم إذا لم يذمه الله سبحانه وتعالى فإن هذا كله ينافى رضاه وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القدر وقال ابن مسعود رضي الله عنه : الفقر والغنى مطيتان ما أبالي أيهما ركبت إن كان الفقر فإن فيه الصبر وإن كان الغنى فإن فيه البذل

وقال ابن أبي الحواري أو قيل له إن فلانا قال : وددت أن الليل أطول مما هو فقال : قد أحسن وقد أساء أحسن حيث تمنى طوله للعبادة والمناجاة وأساء حيث تمنى ما لم يرده الله أحب ما لم يحبه الله
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما أبالي على أي حال أصبحت وأمسيت : من شدة أو رخاء
وقال يوما لامرأته عاتكة أخت سعيد بن زيد وقد غضب عليها : والله لأسوأنك فقالت : أتستطيع أن تصرفني عن الإسلام بعد إذ هداني الله له قال : لا فقالت : فأي شيء تسوءني به إذا
تريد أنها راضية بمواقع القدر لا يسوءها منه شيء إلا صرفها عن الإسلام ولا سبيل له إليه وقال الثوري يوما عند رابعة : اللهم ارض عنا فقالت : أما تستحي أن تسأله الرضى عنك وأنت غير راض عنه فقال : أستغفر الله ثم قال لها جعفر بن سليمان : متى يكون العبد راضيا عن الله فقالت : إذا كان سروره بالمصيبة مثل سروره بالنعمة
وفي أثر إلهي : ما لأوليائي والهم بالدنيا إن الهم بالدنيا يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم
وقيل : أكثر الناس هما بالدنيا أكثرهم هما في الآخرة وأقلهم هما بالدنيا أقلهم هما في الآخرة فالإيمان بالقدر والرضى به : يذهب عن العبد الهم والغم والحزن وذكر عند رابعة ولي لله قوته من المزابل فقال رجل عندها : ما ضر هذا أن يسأل الله أن يجعل رزقه في غير هذا فقالت : اسكت يا بطال أما علمت أن أولياء الله هم أرضى عنه من أن يسألوه أن ينقلهم إلى معيشة حتى يكون هو

الذي يختار لهم
وفي أثر إسرائيلي : أن موسى : سأل ربه عما فيه رضاه فأوحى الله إليه : إن رضاه في كرهك وأنت لا تصبر على ما تكره فقال : يا رب دلنى عليه فقال : إن رضاه في رضاك بقضائي
وفي أثر آخر : أن موسى عليه السلام قال : يا رب أي خلقك أحب إليك فقال : من إذا أخذت منه محبوبه سالمني قال : فأي خلقك أنت عليه ساخط قال : من استخارني في أمر فإذا قضيته له سخط قضائي
وفي أثر آخر : أنا الله لا إله إلا أنا قدرت التقادير ودبرت التدابير وأحكمت الصنع فمن رضي فله الرضى مني حتى يلقانى ومن سخط فله السخط حتى يلقاني الثاني والخمسون : أن أفضل الأحوال : الرغبة في الله ولوازمها وذلك لا يتم إلا باليقين والرضى عن الله ولهذا قال سهل : حظ الخلق من اليقين على قدر حظهم من الرضى وحظهم من الرضى على قدر رغبتهم فى الله الثالث والخمسون : أن الرضى يخلصه من عيب ما لم يعبه الله ومن ذم ما لم يذمه الله فإن العبد إذا لم يرض بالشيء عابه بأنواع المعايب وذمه بأنواع المذام وذلك منه قلة حياء من الله وذم لما ليس له ذنب وعيب لخلقه وذلك يسقط العبد من عين ربه ولو أن رجلا صنع لك طعاما وقدمه إليك فعبته وذممته

لكنت متعرضا لمقته وإهانته ومستدعيا منه : أن يقطع ذلك عنك وقد قال بعض العارفين : إن ذم المصنوع وعيبه إذا لم يذمه صانعه غيبة له وقدح فيه الرابع والخمسون : أن النبي سأل الله الرضى بالقضاء كما في المسند والسنن : اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين
فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : سأله الرضى بعد القضاء لأنه حينئذ تبين حقيقة الرضى وأما الرضى قبله : فإنما هو عزم على أنه يرضى إذا أصابه وإنما يتحقق الرضى بعده قال البيهقي وروينا في دعاء النبي : اللهم إني أسألك الصحة والعفة والأمانة وحسن الخلق والرضى بالقدر الخامس والخمسون : أن الرضى بالقدر يخلص العبد من أن يرضي الناس بسخط الله وأن يذمهم على ما لم يؤته الله وأن يحمدهم على ما هو عين فضل الله فيكون ظالما لهم في الأول وهو رضاهم وذمهم مشركا بهم فى الثانى وهو حمدهم فإذا رضي بالقضاء تخلص من ذمهم وحمدهم فخلصه الرضى من ذلك كله
وقد روى عمرو بن قيس الملائي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن من ضعف اليقين : أن ترضي الناس بسخط الله وأن تحمدهم رزقالله وأن تذمهم على ما لم

يؤتك الله إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كره كاره وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط وقد رواه الثوري عن منصور عن خيثمة عن ابن مسعود عن النبي السادس والخمسون : أن الرضى يفرغ قلب العبد ويقلل همه وغمه فيتفرغ لعبادة ربه بقلب خفيف من أثقال الدنيا وهمومها وغمومها كما ذكر ابن أبي الدنيا عن بشر بن بشار المجاشعي وكان من العلماء قال : قلت لعابد : أوصنى قال : ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك فهو أحرى أن يفرغ قلبك ويقلل همك وإياك أن تسخط ذلك فيحل بك السخط وأنت عنه في غفلة لا تشعر به فيلقيك مع الذين سخط الله عليهم
وقال بعض السلف : ذروا التدبير والاختيار تكونوا في طيب من العيش فإن التدبير والاختيار يكدر على الناس عيشهم وقال أبو العباس بن عطاء : الفرح في تدبير الله لنا والشقاء كله في تدبيرنا وقال سفيان بن عيينة : من لم يصلح على تقدير الله لم يصلح على تقديره نفسه وقال أبو العباس الطوسي : من ترك التدبير عاش في راحة وقال بعضهم : لا تجد السلامة حتى تكون في التدبير كأهل القبور وقال : الرضاء ترك الخلاف على الرب فيما يجريه على العبد

وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله لقد تركتني هؤلاء الدعوات وما لي في شيء من الأمور كلها أرب إلا في مواقع قدر الله وكان كثيرا ما يدعو : اللهم رضني بقضائك وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته ولا تأخير شيء عجلته وقال : ما أصبح لي هوى في شيء سوى ما قضى الله عز و جل وقال شعبة : قال يونس بن عبيد : ما تمنيت شيئا قط وقال الفضيل بن عياض : الراضي لا يتمنى فوق منزلته وقال ذو النون : ثلاثة من أعلام التسليم : مقابلة القضاء بالرضى والصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء وثلاثة من أعلام التفويض : تعطيل إرادتك لمراده والنظر إلى ما يقع من تدبيره لك وترك الاعتراض على الحكم وثلاثة من أعلام التوحيد : رؤية كل شيء من الله وقبول كل شيء عنه وإضافة كل شيء إليه وقال بعض العارفين : أصل العبادة ثلاثة : لا ترد من أحكامه شيئا ولا تسأل غيره حاجة ولا تدخر عنه شيئا
وسئل ابن شمعون عن الرضى فقال : أن ترضى به مدبرا ومختارا وترضى عنه قاسما ومعطيا ومانعا وترضاه إلها ومعبودا وربا وقال بعض العارفين : الرضى ترك الاختيار وسرور القلب بمر القضاء وإسقاط التدبير من النفس حتى يحكم الله لها أو عليها
وقيل : الراضي من لم يندم على فائت من الدنيا ولم يتأسف عليها ولله در القائل :
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر ... والدهر ذو دول والرزق مقسوم

والخير أجمع فيما اختار خالقنا ... وفي اختيار سواه اللوم والشوم السابع والخمسون : أنه إذا لم يرض بالقدر وقع في لوم المقادير إما بقالبه وإما بقلبه وحاله ولوم المقادير لوم لمقدرها وكذلك يقع في لوم الخلق والله والناس يلومونه فلا يزال لائما ملوما وهذا مناف للعبودية
قال أنس رضي الله عنه : خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته : لم فعلته ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته ولا قال لي لشيء كان : ليته لم يكن ولا لشيء لم يكن : ليته كان وكان بعض أهله إذا لامني يقول : دعوه فلو قضي شيء لكان وقوله : لو قضى شيء لكان يتناول أمرين أحدهما : مالم يوجد من مراد العبد والثاني : ما وجد مما يكرهه وهو يتناول فوات المحبوب وحصول المكروه فلو قضي الأول لكان ولو قضي خلاف الآخر لكان فإذا استوت الحالتان بالنسبة إلى القضاء فعبودية العبد : أن يستوي عنده الحالتان بالنسبة إلى رضاه وهذا موجب العبودية ومقتضاها يوضحه : الثامن والخمسون : أنه إذا استوى الأمران بالنسبة إلى رضى الرب تعالى فهذا رضيه لعبده فقدره وهذا لم يرضه له فلم يقدره فكمال الموافقة : أن يستويا بالنسبة إلى العبد فيرضى ما رضيه له ربه في الحالين التاسع والخمسون : أن الله تعالى نهى عن التقدم بين يديه ويدى رسوله في حكمه الديني الشرعي وذلك عبودية هذا الأمر فعبودية أمره الكوني القدري : أن لا يتقدم بين يديه إلا حيث كانت المصلحة الراجحة في ذلك فيكون التقدم أيضا بأمره الكوني والديني فإذا كان فرضه الصبر أو ندبه أو فرضه الرضى حتى ترك ذلك : فقد تقدم بين يدي شرعه وقدره الستون : أن المحبة والإخلاص والإنابة : لا تقوم إلا على ساق الرضى

فالمحب راض عن حبيبه في كل حالة وقد كان عمران بن حصين رضى الله عنه استسقى بطنه فبقي ملقى على ظهره مدة طويلة لا يقوم ولا يقعد وقد نقب له في سريره موضع لحاجته فدخل عليه مطرف بن عبدالله الشخير فجعل يبكي لما رأى من حاله فقال له عمران : لم تبكي فقال : لأني أراك على هذه الحال الفظيعة فقال : لاتبك فإن أحبه إلي أحبه إليه وقال : أخبرك بشيء لعل الله أن ينفعك به واكتم علي حتى أموت إن الملائكة تزورني فآنس بها وتسلم علي فأسمع تسليمها
ولما قدم سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه إلى مكة وقد كف بصره جعل الناس يهرعون إليه ليدعو لهم فجعل يدعو لهم قال عبدالله بن السائب : فأتيته وأنا غلام فتعرفت إليه فعرفني فقلت : ياعم أنت تدعو للناس فيشفون فلو دعوت لنفسك لرد الله عليك بصرك فتبسم ثم قال : يا بني قضاء الله أحب إلى من بصري
وقال بعض العارفين : ذنب أذنبته أنا أبكى عليه ثلاثين سنة قيل : وما هو قال : قلت لشىء قضاه الله : ليته لم يقضه أو ليته لم يكن وقال بعض السلف : لو قرض لحمى بالمقاريض كان أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله : ليته لم يقضه وقيل لعبد الواحد بن زيد : ههنا رجل قد تعبد خمسين سنة فقصده فقال له : حبيبي أخبرني عنك هل قنعت به قال : لا قال : فهل أنست به قال : لا قال : فهل رضيت عنه قال : لا قال : فإنما مزيدك منه الصوم والصلاة قال : نعم قال : لولا أني أستحي منك لأخبرتك : أن معاملتك خمسين سنة مدخولة
يعنى أنه لم يقربه فيجعله في مقام المقربين فيوجده مواجيد العارفين بحيث يكون مزيده لديه : أعمال القلوب التي يستعمل بها كل محبوب مطلوب

لأن القناعة : حال الموفق والأنس به : مقام المحب والرضى : وصف المتوكل يعني أنت عنده في طبقات أصحاب اليمين فمزيدك عنده مزيد العموم من أعمال الجوارح وقوله : إن معاملته مدخولة يحتمل وجهين : أحدهما : أنها ناقصة عن معاملة المقربين التى أوجبت لهم هذه الأحوال الثاني : أنها لو كانت صحيحة سالمة لا علة فيها ولا غش : لأثمرت له الأنس والرضى والمحبة والأحوال العلية فإن الرب تعالى شكور إذا وصل إليه عمل عبده جمل به ظاهره وباطنه وأثابه عليه من حقائق المعرفة والإيمان بحسب عمله فحيث لم يجد له أثرا في قلبه من الأنس والرضى والمحبة : استدل على أنه مدخول غير سالم من الآفات الحادي والستون : أن أعمال الجوارح تضاعف إلى حد معلوم محسوب وأما أعمال القلوب : فلا ينتهي تضعيفها وذلك لأن أعمال الجوارح : لها حد تنتهي إليه وتقف عنده فيكون جزاؤها بحسب حدها وأما أعمال القلوب : فهي دائمة متصلة وإن توارى شهود العبد لها
مثاله : أن المحبة والرضى حال المحب الراضي لا تفارقه أصلا وإن توارى حكمها فصاحبها في مزيد متصل فمزيد المحب الراضي : متصل بدوام هذه الحال له فهو في مزيد ولو فترت جوارحه بل قد يكون مزيده في حال سكونه وفتوره أكثر من مزيد كثير من أهل النوافل بما لا نسبة بينهما ويبلغ ذلك بصاحبه إلى أن يكون مزيده في حال نومه أكثر من مزيد كثير من أهل القيام وأكله أكثر من مزيد كثير من أهل الصيام والجوع
فإن أنكرت هذا فتأمل مزيد نائم بالله وقيام غافل عن الله فالله سبحانه إنما ينظر إلى القلوب والهمم والعزائم لا إلى صور الأعمال وقيمة العبد : همته وإرادته فمن لا يرضيه غير الله ولو أعطي الدنيا بحذافيرها له شأن ومن

يرضيه أدنى حظ من حظوظها له شأن وإن كانت أعمالهما في الصورة واحدة وقد تكون أعمال الملتفت إلى الحظوظ أكثر وأشق وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وقد اختلف أرباب هذا الشأن في مسألة وهي : هل للرضى حد ينتهي إليه
فقال أبو سليمان الداراني : ثلاث مقامات لا حد لها : الزهد والورع والرضى وخالفه سليمان ابنه وكان عارفاحتى إن من الناس من كان يقدمه على أبيه فقال : بل من تورع في كل شيء : فقد بلغ حد الورع ومن زهد في غير الله : فقد بلغ حد الزهد ومن رضي عن الله في كل شيء : فقد بلغ حد الرضى
وقد اختلفوا في مسألة تتعلق بذلك وهي : أهل مقامات ثلاثة أحدهم : يحب الموت شوقا إلى الله ولقائه والثاني : يحب البقاء للخدمة والتقرب وقال الثالث : لا أختار بل أرضى بما يختار لي مولاي إن شاء أحياني وإن شاء أماتني فتحاكموا إلى بعض العارفين فقال : صاحب الرضى أفضلهم لأنه أقلهم فضولا وأقربهم إلى السلامة ولا ريب أن مقام الرضى فوق مقام الشوق والزهد في الدنيا بقي النظر في مقامي الآخرين : أيهما أعلى
فرجحت طائفة مقام من أحب الموت لأنه فى مقام الشوق إلى لقاء الله ومحبة لقائه ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ورجحت طائفة مقام مريد البقاء لتنفيذ أوامر الرب تعالى واحتجوا بأن الأول محب لحظه من الله وهذا محب لمراد الله منه لم يشبع منه ولم يقض منه وطرا
قالوا : وهذا حال موسى صلوات الله وسلامه عليه حين لطم وجه ملك الموت

ففقأ عينه لا محبة للدنيا ولكن لينفذ أوامر ربه ومراضيه في الناس فكأنه قال : أنت عبده وأنا عبده وأنت في طاعته وأنا في طاعته وتنفيذ أوامره
وحينئذ فنقول في الوجه الثاني والستين : إن حال الراضي المسلم ينتظم حاليهما جميعا مع زيادة التسليم وترك الاختيار فإنه قد غاب بمراد ربه منه من إحيائه وإماتته عن مراده هو من هذين الأمرين وكل محب فهو مشتاق إلى لقاء حبيبه مؤثر لمراضيه فقد أخذ بزمام كل من المقامين واتصف بالحالين وقال : أحب ذلك إلي أحبه إليه لا أتمنى غير رضاه ولا أتخير عليه إلا ما يحبه ويرضاه وهذا القدر كاف في هذا الموضع وبالله التوفيق فلنرجع إلى شرح كلامه قال : الثاني : سقوط الخصومة عن الخلق يعني أن الرضى إنما يصح بسقوط الخصومة مع الخلق فإن الخصومة تنافي حال الرضى وتنافي نسبة الأشياء كلها إلى من بيده أزمة القضاء والقدر ففي الخصومة آفات أحدها : المنازعة التي تضاد الرضى الثاني : نقص التوحيد بنسبة ما يخاصم فيه إلى عبد دون الخالق لكل شيء الثالث : نسيان الموجب والسبب الذى جر إلى الخصومة فلو رجع العبد إلى السبب والموجب لكان اشتغاله بدفعه أجدى عليه وأنفع له من خصومة من جرى على يديه فإنه وإن كان ظالما فهو الذي سلطه على نفسه بظلمه قال الله تعالى : أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم : أنى هذا قل : هو من عند أنفسكم آل عمران : 165 فأخبر أن أذى عدوهم لهم وغلبتهم لهم : إنما هو بسبب ظلمهم وقال الله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير الشورى : 30

فإذا اجتمعت بصيرة العبد على مشاهد القدر والتوحيد والحكمة والعدل : انسد عنه باب خصومة الخلق إلا فيما كان حقا لله ورسوله فالراضي لا يخاصم ولا يعاتب إلا فيما يتعلق بحق الله وهذه كانت حال رسول الله فإنه لم يكن يخاصم أحدا ولا يعاتبه إلا فيما يتعلق بحق الله كما أنه كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله فالمخاصمة لحظ النفس تطفىء نور الرضى وتذهب بهجته وتبدل بالمرارة حلاوته وتكدر صفوه قال : الشرط الثالث : الخلاص من المسألة للخلق والإلحاح
وذلك : لأن المسألة : فيها ضرب من الخصومة والمنازعة والمحاربة والرجوع عن مالك الضر والنفع إلى من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا بربه وفيها الغيبة عن المعطي المانع
والإلحاح ينافي حال الرضى ووصفه وقد أثنى الله سبحانه على الذين لا يسألون الناس إلحافا فقال تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا البقرة : 273
فقالت طائفة : يسألون الناس ما تدعو حاجتهم إلى سؤاله ولكن لا يلحفون فنفى الله عنهم سؤال الإلحاف لا مطلق السؤال
قال ابن عباس : إذا كان عنده غداء لم يسأل عشاء وإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء وقالت طائفة منهم الزجاج والفراء وغيرهما : بل الآية اقتضت ترك السؤال مطلقا لأنهم وصفوا بالتعفف والمعرفة بسيماهم دون الإفصاح بالمسألة لأنهم لو أفصحوا بالسؤال لم يحسبهم الجاهل أغنياء
ثم اختلفوا في وجه قوله تعالى : لا يسألون الناس إلحافا البقرة : 273

فقال الزجاح : المعنى لا يكون منهم سؤال فيقع إلحاف كما قال تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين أي لا تكون شفاعة فتنفع وكما فى قوله : لا يقبل منها عدل البقرة : 123 أي لا يكون عدل فيقبل ونظائره قال امروء القيس :
على لاحب لا يهتدى لمناره أي ليس له منار يهتدي به قال ابن الأنباري وتأويل الآية : لا يسألون ألبتة فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف فيجري هذا مجرى قولك : فلان لا يرجى خيره أي ليس له خير فيرجى
وقال أبو علي : لم يثبت في هذه الآية مسألة منهم لأن المعنى : ليس منهم مسألة فيكون منهم إلحاف قال : ومثل ذلك قول الشاعر :
لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر أي ليس بها أرنب فتفزع لهولها ولا ضب فينجحر وقال الفراء : نفى الإلحاف عنهم وهو يريد نفي جميع السؤال

فصل و المسألة في الأصل حرام وإنما أبيحت للحاجة والضرورة لأنها ظلم
في حق الربوبية وظلم في حق المسئول وظلم في حق السائل أما الأول : فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله واستعطاءه لغير الله وذلك نوع عبودية فوضع المسألة في غير موضعها وأنزلها بغير أهلها وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله وتوكله عليه ورضاه بقسمه واستغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس وذلك كله يهضم من حق التوحيد ويطفىء نوره ويضعف قوته
وأما ظلمه للمسئول : فلأنه سأله ما ليس عنده فأوجب له بسؤاله عليه حقا

لم يكن له عليه وعرضه لمشقة البذل أو لوم المنع فإن أعطاه أعطاه على كراهة وإن منعه منعه على استحياء وإغماض هذا إذا سأله ما ليس عليه وأما إذا سأله حقا هو له عنده : فلم يدخل في ذلك ولم يظلمه بسؤاله
وأما ظلمه لنفسه : فإنه أراق ماء وجهه وذل لغير خالقه وأنزل نفسه أدنى المنزلتين ورضي لها بأبخس الحالتين ورضي بإسقاط شرف نفسه وعزة تعففه وراحة قناعته وباع صبره ورضاه وتوكله وقناعته بما قسم له واستغناءه عن الناس بسؤالهم وهذا عين ظلمه لنفسه إذ وضعها في غير موضعها وأخمل شرفها ووضع قدرها وأذهب عزها وصغرها وحقرها ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسئول ويده تحت يده ولولا الضرورة لم يبح ذلك في الشرع
وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله : من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله قال : والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره فيتصدق به على الناس : خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه وفي صحيح مسلم عنه أيضا قال : قال رسول الله : لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس : خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه ذلك بأن اليد العليا خير من اليد السفلى

وابدأ بمن تعول زاد الإمام أحمد : ولأن يأخذ ترابا فيجعله في فيه : خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه
وفي صحيح البخاري عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي قال : لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه : خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه
وفى الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه : أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده : ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال وهو على المنبر وذكر الصدقة والتعفف والمسألة : اليد العليا خير من اليد السفلى فاليد العليا : هي المنفقة واليد السفلى : هي السائلة رواه البخارى ومسلم
وعن حكيم بن حزام رضى الله عنه قال : سألت رسول الله فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال : يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى قال حكيم : فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا وكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئا فقال عمر : إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم : أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم رضي الله عنه أحدا من الناس بعد رسول الله حتى توفي متفق على صحته

وروي عن الشعبى قال : حدثني كاتب المغيرة بن شعبة قال : كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة : أن اكتب إلي شيئا سمعته من رسول الله فكتب إليه : سمعت النبي يقول : إن الله كره لكم ثلاثا قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال رواه البخاري ومسلم
وعن معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله : لا تلحفوا فى المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئا فتخرج له مسألته مني شيئا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته
وفي لفظ : إنما أنا خازن فمن أعطيته عن طيب نفس فيبارك له فيه ومن أعطيته عن مسألة وشره كان كالذي يأكل ولا يشبع رواه مسلم
وعن أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه قال : حدثنى الحبيب الأمين أما هو : فحبيب إلي وأما هو عندي : فأمين عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : ألا تبايعون رسول الله وكنا حديثي عهد ببيعته فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ثم قال : ألا تبايعون رسول الله فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ثم قال : ألا تبايعون رسول الله قال : فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك قال : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا الله وأسر كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه رواه مسلم
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله : إن المسئلة كد يكد بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه رواه الترمذى وقال : حديث حسن صحيح
وفى مسند الإمام أحمد عن زيد بن عقبة الفزاري قال : دخلت على الحجاج ابن يوسف الثقفي فقلت : أصلح الله الأمير ألا أحدثك حديثا سمعته من سمرة بن

جندب عن رسول الله قال : بلى قال سمعته يقول : المسائل كد يكد بها الرجل وجهه فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك إلا أن يسأل رجل ذا سلطان أو يسأل في أمر لابد منه
وعن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله : من يتقبل لى بواحدة وأتقبل له بالجنة قال : قلت : أنا قال : لا تسأل الناس شيئا فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد : ناولنيه حتى ينزل هو فيتناوله رواه الإمام أحمد و أهل السنن
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : من أصابته فاقة فأنزلها بالناس : لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله : أوشك الله له بالغنى : إما بموت عاجل أو غنى عاجل رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح
وعن سهل بن الحنظلية قال : قال : قدم على رسول الله عيينة ابن حصن والأقرع بن حابس فسألاه فأمر لهما بما سألاه وأمر معاوية فكتب لهما بما سألا فأما الأقرع : فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق وأما عيينة : فأخذ كتابه فأتى النبي بكتابه فقال : يا محمد أراني حاملا إلى قومي كتابا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس فأخبر معاوية بقوله رسول الله فقال رسول الله : من سأل وعنده ما يغنيه : فإنما يستكثر من النار وفي لفظ : من جمر جهنم قالوا : يا رسول الله وما يغنيه وفي لفظ : وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة قال : قدر ما يغديه وما يعشيه وفي لفظ : أن يكون له شبع يوم وليلة رواه أبو داود والإمام أحمد
وعن ابن الفراسي أن الفراسي قال لرسول الله : أسأل يا رسول الله قال : لا وإن كنت سائلا لا بد فسل الصالحين رواه النسائي

وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة فأتيت النبي أسأله فقال : أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها ثم قال : يا قبيضة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال : سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال : سدادا من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا رواه مسلم
وعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي فسأله فأعطاه فلما وضع رجله على أسكفة الباب قال رسول الله : لو يعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا رواه النسائى
وعن مالك بن نضلة رضي الله عنه قال : قال رسول الله الأيدي ثلاثة فيد الله : العليا ويد المعطي : التي تليها ويد السائل : السفلى فأعط الفضل ولا تعجز عن نفسك رواه الإمام أحمد وأبو داود وعن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله قال : من سأل مسألة وهو عنها غني كانت شينا في وجهه يوم القيامة رواه الإمام أحمد
وعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله قال ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفا عليهن : لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا رفعه الله بها ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر رواه الإمام أحمد
وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال : سرحتني أمى إلى رسول الله أسأله فأتيته فقعدت قال : فاستقبلني فقال : من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله ومن استكفى كفاه الله ومن سأل وله قيمة

أوقية فقد ألحف فقلت : ناقتي هي خير من أوقية ولم أسأله رواه الإمام أحمد وأبو داود
وعن خالد بن عدي الجهني رضي الله عنه عن رسول الله قال من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه رواه الإمام أحمد فهذا أحد المعنيين في قوله : إن من شرط الرضى : ترك الإلحاح في المسألة وهو أليق المعنيين وأولاهما لأنه قرنه بترك الخصومة مع الخلق فلا يخاصمهم في حقه ولا يطلب منهم حقوقه والمعنى الثاني أنه لا يلح في الدعاء ولا يبالغ فيه فإن ذلك يقدح في رضاه وهذا يصح في وجه دون وجه فيصح إذا كان الداعي يلح في الدعاء بأغراضه وحظوظه العاجلة وأما إذا ألح على الله في سؤاله بما فيه رضاه والقرب منه : فإن ذلك لا يقدح في مقام الرضى أصلا وفي الأثر : إن الله يحب الملحين فى الدعاء وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم بدر للنبي يا رسول الله قد ألححت على ربك كفاك بعض مناشدتك لربك فهذا الإلحاح عين العبودية
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : من لم يسأل الله يغضب عليه
فإذا كان سؤاله يرضيه لم يكن الإلحاح فيه منافيا لرضاه
وحقيقة الرضى : موافقته سبحانه فى رضاه بل الذي ينافي الرضى : أن يلح عليه متحكما عليه متخيرا عليه ما لم يعلم : هل يرضيه أم لا كمن يلح على ربه في ولاية شخص أو إغنائه أو قضاء حاجته فهذا ينافي الرضى لأنه ليس على يقين أن مرضاة الرب في ذلك

فإن قيل : فقد يكون للعبد حاجة يباح له سؤاله إياها فيلح على ربه في طلبها حتى يفتح له من لذيذ مناجاته وسؤاله والذل بين يديه وتملقه والتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وتفريغ القلب له وعدم تعلقه في حاجته بغيره : ما لم يحصل له بدون الإلحاح فهل يكره له هذا الإلحاح وإن كان المطلوب حظا من حظوظه قيل : ها هنا ثلاثة أمور أحدها : أن يفنى بمطلوبه وحاجته عن مراده ورضاه ويجعل الرب تعالى وسيلة إلى مطلوبه بحيث يكون أهم إليه منه فهذا ينافي كمال الرضى به وعنه الثاني : أن يفتح على قلبه حال السؤال من معرفة الله ومحبته والذل له والخضوع والتملق : ما ينسيه حاجته ويكون ما فتح له من ذلك أحب إليه من حاجته بحيث يحب أن تدوم له تلك الحال وتكون آثر عنده من حاجته وفرحه بها أعظم من فرحه بحاجته لو عجلت له وفاته ذلك فهذا لا ينافي رضاه
وقال بعض العارفين : إنه لتكون لي حاجة إلى الله فأسأله إياها فيفتح علي من مناجاته ومعرفته والتذلل له والتملق بين يديه : ما أحب معه أن يؤخر عني قضاءها وتدوم لي تلك الحال
وفي أثر : إن العبد ليدعو ربه عز و جل فيقول الله عز و جل لملائكته : اقضوا حاجة عبدي وأخروها فإني أحب أن أسمع دعاءه ويدعوه آخر فيقول الله لملائكته اقضوا حاجته وعجلوها فإني أكره صوته وقد روى الترمذي وغيره عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : إن الله يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج وروي أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد فليكثر من الدعاء في الرخاء

وروى أيضا من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال : ليسأل أحدكم ربه حاجته حتى يسأله الملح وحتى يسأله شسع نعله إذا انقطع وفيه أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية وإن الدعاء لينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء
وإذا كان هذا محبة الرب تعالى للدعاء فلا ينافي الإلحاح فيه الرضى الثالث : أن ينقطع طمعه من الخلق ويتعلق بربه في طلب حاجته وقد أفرده بالطلب ولا يلوي على ما وراء ذلك فهذا قد تنشأ له المصلحة من نفس الطلب وإفراد الرب بالقصد والفرق بينه وبين الذي قبله : أن ذلك قد فتح عليه بما هو أحب إليه من حاجته فهو لا يبالي بفواتها بعد ظفره بما فتح عليه وبالله التوفيق

فصل قال : الدرجة الثالثة : الرضى برضى الله فلا يرى العبد لنفسه
سخطا ولا رضى فيبعثه على ترك التحكم وحسم الاختيار وإسقاط التمييز ولو أدخل النار إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها من الدرجات عنده : لأنها درجة صاحب الجمع الفاني بربه عن نفسه وعما منها قد غيبه شاهد رضى الله بالأشياء في وقوعها على مقتضى مشيئته عن شاهد رضاه هو فيشهد الرضى لله ومنه حقيقة ويرى نفسه فانيا ذاهبا مفقودا فهو يستوحش من نفسه ومن صفاتها ومن رضاها ومن سخطها فهو عامل على التغيب عن وجوده وعما منه مترام إلى العدم المحض قد تلاشى وجوده ونفسه وصفاتها في وجود مولاه الملك الحق وصفاته وأفعاله كما يتلاشى ضوء السراج الضعيف في جرم الشمس فغاب برضى

ربه عن رضاه هو وعن ربه في أقضيته وأقداره وغاب بصفات ربه عن صفاته وبأفعاله عن أفعاله فتلاشي وجوده وصفاته وأفعاله في جنب وجود ربه وصفاته بحيث صار كالعدم المحض وفي هذا المقام لا يرى لنفسه رضى ولا سخطا فيوجب له هذا الفناء : ترك التحكم على الله بأمر من الأمور وترك التخير عليه فتذهب مادة التحكم وتفنى وتنحسم مادة الاختيار وتتلاشى وعند ذلك يسقط تمييز العبد ويتلاشى هذا تقدير كلامه وبعد فههنا أمران : أحدهما : أن هذا حال يعرض لا مقام يطلب ويشمر إليه فإن هذه الحال متى عرضت له وارت عنه تمييزه ولا يمكن أن يدوم له ذلك بل يقصر زمنه ويطول ثم يرجع إلى تمييزه وعقله وصاحب هذه الحال مغلوب : إما سكران بحاله وإما فان عن وجوده والكمال وراء ذلك وهو أن يكون فانيا عن إرادته بإرادة ربه منه فيكون باقيا بوجود آخر غير وجوده الطبيعي وهو وجود مطهر كائن بالله ولله ومع الله وصاحب هذا في مقام : فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش قد فني عن وجوده الطبيعي والنفسي وبقي بهذا الوجود العلوي القدسي فيعود عليه تمييزه وفرقانه ورضاه عن ربه تعالى ومقامات إيمانه وهذا أكمل وأعلى من فنائه عنها كالسكران فإن قلت : فهل يمكن وصوله إلى هذا المقام من غير درب الفناء وعبوره إليه على غير جسره
قلت : اختلف في ذلك فطائفة ظنت أنه لا يصل إلى البقاء وإلى هذا الوجود المطهر إلا بعد عبوره على جسر الفناء فعدوه لازما من لوازم السير إلى الله وقالت طائفة : بل يمكن الوصول إلى البقاء على غير درب الفناء والفناء عندهم عارض من عوارض الطريق لا لازم وسببه : قوة الوارد وضعف المحل واستجلابه بتعاطي أسبابه

والتحقيق : أنه لا يصل إلى هذا المقام إلا بعد عبوره على جسر الفناء عن مراده بمراد سيده فما دام لم يحصل له هذا الفناء فلا سبيل له إلى ذلك البقاء وأما فناؤه عن وجوده : فليس شرطا لذلك البقاء ولا هو من لوازمه وصاحب هذا المقام : هو في رضاه عن ربه بربه لا بنفسه كما هو في توكله وتفويضه وتسليمه وإخلاصه ومحبته وغير ذلك من أحواله بربه لا بنفسه فيرى ذلك كله من عين المنة والفضل مستعملا فيه قد أقيم فيه لا أنه قد قام هو به فهو واقف بين مشهد لمن شاء منكم أن يستقيم التكوير : 28 ومشهد وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين التكوير : 29 والله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الشكر
وهي من أعلى المنازل وهي فوق منزلة الرضى وزيادة فالرضى مندرج في الشكر إذ يستحيل وجود الشكر بدونه
وهو نصف الإيمان كما تقدم والإيمان نصفان : نصف شكر ونصف صبر وقد أمر الله به ونهى عن ضده وأثنى على أهله ووصف به خواص خلقه وجعله غاية خلقه وأمره ووعد أهله بأحسن جزائه وجعله سببا للمزيد من فضله وحارسا وحافظا لنعمته وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته واشتق لهم اسما من أسمائه فإنه سبحانه هو الشكور وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكورا وهو غاية الرب من عبده وأهله هم القليل من عباده قال الله تعالى : واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون البقرة : 172 وقال : واشكروا لي ولا تكفرون البقرة : 152 وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه و سلم إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه النحل : 120121 وقال عن نوح عليه السلام : إنه كان عبداشكورا الإسراء : 3 وقال

تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون النحل : 78 وقال تعالى : واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون العنكبوت : 17 وقال تعالى : وسيجزي الله الشاكرين آل عمران : 144 وقال تعالى : وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد إبراهيم : وقال تعالى : إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور لقمان : 31
وسمى نفسه شاكرا وشكورا وسمى الشاكرين بهذين الاسمين فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه وحسبك بهذا محبة للشاكرين وفضلا
وإعادته للشاكر مشكورا كقوله : إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا الإنسان : 22 ورضى الرب عن عبده به كقوله : وإن تشكروا يرضه لكم الزمر : 7 وقلة أهله في العالمين تدل على أنهم هم خواصه كقوله : وقليل من عبادي الشكور سبأ : 13 وفي الصحيحين عن النبي : أنه قام حتى تورمت قدماه فقيل له : تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : أفلا أكون عبدا شكورا
وقال لمعاذ : والله يا معاذ إني لأحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وفي المسند و الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله : كان يدعو بهؤلاء الكلمات : اللهم أعني ولا تعن علي وانصرنى ولا تنصر علي وامكر لي ولا تمكر بي واهدني ويسر الهدى لي وانصرني على من بغى علي رب اجعلني لك شكارا لك ذكارا لكرهابا لك مطاوعا لك مخبتا إليك أواها منيبا رب تقبل توبتي واغسل حوبتي وأجب دعوتي وثبت حجتي واهد قلبي وسدد لساني واسلل سخيمة صدري

فصل وأصل الشكر في وضع اللسان : ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان
ظهورا بينا يقال : شكرت الدابة تشكر شكرا على وزن سمنت تسمن سمنا : إذا ظهر عليها أثر العلف ودابة شكور : إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تأكل وتعطى من العلف
وفي صحيح مسلم : حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم أي لتسمن من كثرة ما تأكل منها وكذلك حقيقته في العبودية وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده : ثناء واعترافا وعلى قلبه : شهودا ومحبة وعلى جوارحه : انقيادا وطاعة و الشكر مبني على خمس قواعد : خضوع الشاكر للمشكور وحبه له واعترافه بنعمته وثناؤه عليه بها وأن لا يستعملها فيما يكره فهذه الخمس : هي أساس الشكر وبناؤه عليها فمتى عدم منها واحدة : اختل من قواعد الشكر قاعدة وكل من تكلم في الشكر وحده فكلامه إليها يرجع وعليها يدور فقيل : حده الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع وقيل : الثناء على المحسن بذكر إحسانه وقيل : هو عكوف القلب على محبة المنعم والجوارح على طاعته وجريان اللسان بذكره والثناء عليه وقيل : هو مشاهدة المنة وحفظ الحرمة وما ألطف ما قال حمدون القصار : شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا وقال أبو عثمان : الشكر معرفة العجز عن الشكر وقيل : الشكر إضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة له وقال الجنيد : الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة

هذا معنى قول حمدون : أن يرى نفسه فيها طفيليا وقال رويم : الشكر استفراغ الطاقة وقال الشبلي : الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة قلت : يحتمل كلامه أمرين أحدهما : أن يفنى برؤية المنعم لا رؤية نعمه والثاني : أن لا تحجبه رؤية نعمه ومشاهدتها عن رؤية المنعم بها وهذا أكمل والأول أقوى عندهم
والكمال : أن تشهد النعمة والمنعم لأن شكره بحسب شهود النعمة فكلما كان أتم كان الشكر أكمل والله يحب من عبده : أن يشهد نعمه ويعترف له بها ويثني عليه بها ويحبه عليها لا أن يفنى عنها ويغيب عن شهودها وقيل : الشكر قيد النعم الموجوده وصيد النعم المفقودة وشكر العامة : على المطعم والمشرب والملبس وقوت الأبدان وشكر الخاصة : على التوحيد والإيمان وقوت القلوب وقال داود عليه السلام : يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة على من عندك تستوجب بها شكرا فقال : الآن شكرتني يا داود
وفي أثر آخر إسرائيلي : أن موسى قال : يارب خلقت آدم بيدك ونفخت فيه من روحك وأسجدت له ملائكتك وعلمته أسماء كل شيء وفعلت وفعلت فكيف أطاق شكرك قال الله عز و جل : علم أن ذلك مني فكانت معرفته بذلك شكرا لي وقيل : الشكر التلذذ بثنائه على ما لم تستوجب من عطائه وقال الجنيد وقد سأله سري عن الشكر وهو صبي الشكر : أن لا يستعان بشيء من نعم الله على معاصيه فقال : من أين لك هذا قال : من مجالستك وقيل : من قصرت يداه عن المكافآت فليطل لسانه بالشكر

والشكر معه المزيد أبدا لقوله تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم إبراهيم : 7 فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر
وفي أثر إلهي : يقول الله عز و جل : أهل ذكري أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب وقيل : من كتم النعمة فقد كفرها ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها وهذا مأخوذ من قوله : إن الله إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده وفي هذا قيل :
ومن الرزية : أن شكري صامت ... عما فعلت وأن برك ناطق
وأرى الصنيعة منك ثم أسرها ... إني إذا لندى الكريم لسارق

فصل وتكلم الناس في الفرق بين الحمد و الشكر أيهما أعلى وأفضل وفي
الحديث : الحمد رأس الشكر فمن لم يحمد الله لم يشكره
والفرق بينهما : أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه وأخص من جهة متعلقاته و الحمد أعم من جهة المتعلقات وأخص من جهة الأسباب
ومعنى هذا : أن الشكر يكون : بالقلب خضوعا واستكانة وباللسان ثناء واعترافا وبالجوارح طاعة وانقيادا ومتعلقه : النعم دون الأوصاف الذاتية فلا يقال : شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه وهو المحمود عليها كما هو محمود على إحسانه وعدله والشكر يكون على الإحسان والنعم فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس فإن الشكر يقع بالجوارح والحمد يقع بالقلب واللسان

فصل قال صاحب المنازل : الشكر : اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى
معرفة المنعم ولهذا سمى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن : شكرا
فمعرفة النعمة : ركن من أركان الشكر لا أنها جملة الشكر كما تقدم : أنه الاعتراف بها والثناء عليه بها والخضوع له ومحبته والعمل بما يرضيه فيها لكن لما كان معرفتها ركن الشكر الأعظم الذي يستحيل وجود الشكر بدونه : جعل أحدهما اسما للآخر قوله : لأنه السبيل إلى معرفة المنعم يعني أنه إذا عرف النعمة توصل بمعرفتها إلى معرفة المنعم بها
وهذا من جهة معرفة كونها نعمة لا من أي جهة عرفها بها ومتى عرف المنعم أحبه وجد في طلبه فإن من عرف الله أحبه لا محالة ومن عرف الدنيا أبغضها لا محالة
وعلى هذا : يكون قوله : الشكر اسم لمعرفة النعمة مستلزما لمعرفة المنعم ومعرفته تستلزم محبته ومحبته تستلزم شكره فيكون قد ذكر بعض أقسام الشكر باللفظ ونبه على سائرها باللزوم وهذا من أحسن اختصاره وكمال معرفته وتصوره قدس الله روحه قال : ومعاني الشكر ثلاثة أشياء : معرفة النعمة ثم قبول النعمة ثم الثناء بها وهو أيضا من سبل العامة أما معرفتها : فهو إحضارها في الذهن ومشاهدتها وتمييزها فمعرفتها : تحصيلها ذهنا كما حصلت له خارجا إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري فلا يصح من هذا الشكر قوله : ثم قبول النعمة

قبولها : هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه ولا بذل ثمن بل يرى نفسه فيها كالطفيلي فإن هذا شاهد بقبولها حقيقة قوله : ثم الثناء بها الثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان : عام وخاص فالعام : وصفه بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطاء ونحو ذلك والخاص : التحدث بنعمته والإخبار بوصولها إليه من جهته كما قال تعالى : وأما بنعمة ربك فحدث الضحى : 11 وفي هذا التحديث المأمور به قولان أحدهما : أنه ذكر النعمة والإخبار بها وقوله : أنعم الله علي بكذا وكذا قال مقاتل : يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة : من جبر اليتيموالهدى بعد الضلال والإغناء بعد العيلة والتحدث بنعمة الله شكر كما في حديث جابر مرفوعا : من صنع إليه معروف فليجز به فإن لم يجد ما يجزي به فليثن فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور
فذكر أقسام الخلق الثلاثة : شاكر النعمة المثني بها والجاحد لها والكاتم لها والمظهر أنه من أهلها وليس من أهلها فهو متحل بما لم يعطه وفي أثر آخر مرفوع : من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب والقول الثاني : أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية : هو الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته وتعليم الأمة قال مجاهد : هي النبوة قال الزجاج : أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي آتاك الله وقال الكلبي : هو القرآن أمره أن يقرأه

والصواب : أنه يعم النوعين إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها وإظهارها من شكرها قوله : وهو أيضا من سبل العامة يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل إذ جعل نصف الإسلام والإيمان من أضعف السبل
بل الشكر سبيل رسل الله وأنبيائه صلى الله عليهم وسلم أجمعين أخص خلقه وأقربهم إليه ويا عجبا ! أي مقام أرفع من الشكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان حتى المحبة والرضى والتوكل وغيرها فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى ولكن الشيخ وأصحاب الفناء كلهم يرون أن فوق هذا مقاما أجل منه وأعلى لأن الشكر عندهم يتضمن نوع دعوى وأنه شكر الحق على إنعامه ففي الشاكر بقية من بقايا رسمه لم يتخلص عنها ويفرغ منها فلو فني عنها بتحققه أن الحق سبحانه هو الذي شكر نفسه بنفسه وأن من لم يكن كيف يشكر من لم يزل علم أن الشكر من منازل العامة ولو أن السلطان كسا عبدا من عبيده ثوبا من ثيابه فأخذ يشكر السلطان على ذلك : لعد مخطئا مسيئا للأدب فإنه مدع بذلك مكافأة السلطان بشكره فإن الشكر مكافأة والعبد أصغر قدرا من المكافأة والشهود للحقيقة يقتضي اتحاد نسبة الأخذ والعطاء ورجوعها إلى وصف المعطي وقوته فالخاصة يسقط عندهم الشكر بالشهود وفي حقهم ما هو أعلى منه هذا غاية تقرير كلامهم وكسوته أحسن عبارة لئلا يتعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير ونحن معنا العصمة النافعة : أن كل أحد غير المعصوم

فمأخوذ من قوله ومتروك وكل سبيل لا يوافق سبيله فمهجور غير مسلوك
فأما تضمن الشكر لنوع دعوى فإن أريد بهذه الدعوى إضافة البعد الفعل إلى نفسه وأنه كان به وغاب بذلك عن كونه بحول الله وقوته ومنته على عبده : فلعمر الله هذه علة مؤثرة ودعوى باطلة كاذبة
وإن أريد : أن شهوده لشكره شهوده لنعمة الله عليه به وتوفيقه له فيه وإذنه له به ومشيئته عليه ومنته فشهد عبوديته وقيامه بها وكونها بالله فأي دعوى في هذا وأي علة نعم غايته : أنه لا يجامع الفناء ولا يخوض تياره فكان ماذا فأنتم جعلتم الفناء غاية فأوجب لكم ما أوجب وقدمتموه على ما قدمه الله ورسوله فتضمن ذلك تقديم ما أخر وتأخير ما قدم وإلغاء ما اعتبر واعتبار ما ألغى ولولا منة الله على الصادقين منكم بتحكيم الرسالة والتقيد بالشرع لكان أمرا غير هذا كما جرى لغير واحد من السالكين على هذه الطريق الخطرة فلا إله إلا الله كم فيها من قتيل وسليب وجريح وأسير وطريد
وأما قولكم : إن الشاكر فيه بقية من بقايا رسمه فيقال : إذا كانت هذه البقية محض العبودية ومركبها والحاملة لها : فأي نقص في هذا فإن العبودية لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بهذا الرسم فلا نقص في حمل العبودية عليه والسير به إلى الله عز و جل نعم النقص كل النقص : في حمل النفس والشهوة والحظ المخالف لمراد الرب تعالى الديني بني على هذا الرسم والسير به إلى النفس ولعل العامل على الفناء

بهذه المثابة وهو ملبوس عليه فالعارف يستقصى التفتيش عن كمائن النفس
وأما قولكم : من لم يكن كيف يشكر من لم يزل فهذا بالشطح أليق منه بالمعرفة فإن من لم يزل إذا أمر من لم يكن بالشكر ورضيه منه وأحبه وأثنى عليه به واستدعاه واقتضاه منه وأوجب له به المزيد وأضافه إليه واشتق منه له الاسم وأوقع عليه به الحكم وأخبر أنه غاية رضاه منه وأمره مع ذلك أن يشهد أن شكره به وبإذنه ومشيئته وتوفيقه : فهذا شكر من لم يكن لمن يزل وهو محض العبودية وأما ضربكم مثل كسوة السلطان لعبده وأخذه في الشكر له مكافأة : فهذا من أبطل الأمثلة عقلا ونقلا وفطرة وهو الحجاب الذي أوجب لمن قال : إن شكر المنعم لا يجب عقلا ما قال ذلك حتى زعم أن شكره قبيح عقلا ولولا الشرع لما حسن الإقدام عليه وضرب هذا المثل الذي ضربتموه بعينه وهذا من القياس الفاسد المتضمن قياس الخالق على المخلوق وبمثله عبدت الشمس والقمر والأوثان إذ قال المشركون : جناب العظيم لا يهجم عليه بغير وسائل ووسائط وسرت هاتان الرقيقتان فيمن فسد من أهل التعبد وأهل النظر والبحث والمعصوم من عصمه الله
فيقال : الفرق من وجوه كثيرة جدا تفوت الحصر
منها : أن الملك محتاج فقير إلى من أنعم عليه لا يقوم ملكه إلا به فهو محتاج إلى معاوضة بتلك الكسوة مثلا خدمة له وحفظا له وذبا عنه وسعيا في تحصيل مصالحه فكسوته له من باب المعاوضة والمعاونة فإذا أخذ في شكره فكأنه جعل ذلك ثمنا لنعمته وليس بثمن لها وأما إنعام الرب تعالى على عبده : فإحسان إليه وتفضل عليه ومجرد امتنان لا لحاجة منه إليه ولا لمعاوضة ولا لاستعانة به ولا ليتكثر به من قلة ولا ليتعزر به من ذلة ولا ليقوى به من ضعف سبحانه وبحمده

وأمره له بالشكر أيضا : إنعام آخر عليه وإحسان منه إليه إذ منفعة الشكر ترجع إلى العبد دنيا وآخرة لا إلى الله والعبد هو الذي ينتفع بشكره كما قال تعالى : ومن شكر فإنما يشكر لنفسه لقمان : 12 فشكر العبد إحسان منه إلى نفسه دنيا وأخرى فلا يذم ما أتى به من ذلك وإن كان لا يحسن مقابلة المنعم به ولا يستطيع شكره فإنه إنما هو محسن إلى نفسه بالشكر لا أنه مكافىء به لنعم الرب فالرب تعالى لا يستطيع أحد أن يكافىء نعمه أبدا ولا أقلها ولا أدنى نعمة من نعمه فإنه تعالى هو المنعم المتفضل الخالق للشكر والشاكر وما يشكر عليه فلا يستطيع أحد أن يحصى ثناء عليه فإنه هو المحسن إلى عبده بنعمه وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها فشكره نعمة من الله أنعم بها عليه تحتاج إلى شكر آخر وهلم جرا
ومن تمام نعمته سبحانه وعظيم بره وكرمه وجوده : محبته له على هذا الشكر ورضاه منه به وثناؤه عليه به ومنفعته وفائدته مختصة بالعبد لا تعود منفعته على اللهوهذا غاية الكرم الذى لا كرم فوقه ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة ويرضى عنك بذلك ثم يعيد إليك منفعة شكرك ويجعله سببا لتوالي نعمه واتصالها إليك والزيادة على ذلك منها
وهذا الوجه وحده يكفي اللبيب ليتنبه به على ما بعده
وأما كون الشهود يسقط الشكر : فلعمر الله إنه إسقاط لحق المشكور بحظ الشاهد نعم بحظ عظيم متعلق بالحق عز و جل لا حظ سفلي متعلق بالكائنات ولكن صاحبه قد سار من حرم إلى حرم

وكان يقع لي هذا القدر منذ أزمان ولا أتجرأ على التصريح به لأن أصحابه يرون من ذكرهم به بعين الفرق الأول فلا يصغون إليهم ألبتة لا سيما وقد ذاقوا حلاوته ولذته ورأوا تخبيط أهل الفرق الأول وتلوثهم بنفوسهم وعوالمها وانضاف إلى ذلك : أن جعلوه غاية فتركب من هذه الأمور ما تركب وإذا لاحت الحقائق فليقل القائل ما شاء

فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الشكر على المحاب
وهذا شكر تشاركت فيه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس ومن سعة رحمة الباري سبحانه : أن عده شكرا ووعد عليه الزيادة وأوجب فيه المثوبة إذا علمت حقيقة الشكر وأن جزء حقيقته : الاستعانة بنعم المنعم على طاعته ومرضاته : علمت اختصاص أهل الإسلام بهذه الدرجة وأن حقيقة الشكر على المحاب ليست لغيرهم
نعم لغيرهم منها بعض أركانها وأجزائها كالاعتراف بالنعمة والثناء على المنعم بها فإن جميع الخلق في نعم الله وكل من أقر بالله ربا وتفرده بالخلق والإحسان فإنه يضيف نعمته إليه لكن الشأن في تمام حقيقة الشكر وهو الاستعانة بها على مرضاته وقد كتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه : أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلا إلى معصيته
وقد عرف مراد الشيخ وهو أن هذا الشكر مشترك وهو الاعتراف بنعمه سبحانه والثناء عليه بها والإحسان إلى خلقه منها وهذا بلا شك يوجب حفظها عليهم والمزيد منها فهذا الجزء من الشكر مشترك وقد تكون ثمرته في الدنيا بعاجل الثواب وفي الآخرة : بتخفيف العقاب فإن النار دركات في العقوبة مختلفة

فصل قال : الدرجة الثانية : الشكر في المكاره وهذا ممن تستوى عنده
الحالات : إظهارا للرضى وممن يميز بين الأحوال : لكظم الغيظ وستر الشكوى ورعاية الأدب وسلوك مسلك العلم وهذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة
يعني أن الشكر على المكاره : أشد وأصعب من الشكر على المحاب ولهذا كان فوقه في الدرجة ولا يكون إلا من أحد رجلين : إما رجل لا يميز بين الحالات بل يستوي عنده المكروه والمحبوب فشكر هذا : إظهار منه للرضى بما نزل به وهذا مقام الرضى
الرجل الثانى : من يميز بين الأحوال فهو لا يحب المكروه ولا يرضى بنزوله به فإذا نزل به مكروه شكر الله تعالى عليه فكان شكره كظما للغيظ الذي أصابه وسترا للشكوى ورعاية منه للأدب وسلوكا لمسلك العلم فإن العلم والأدب يأمران بشكر الله على السراء والضراء فهو يسلك بهذا الشكر مسلك العلم لأنه شاكر لله شكر من رضي بقضائه كحال الذي قبله فالذي قبله أرفع منه
وإنما كان هذا الشاكر أول من يدعى إلى الجنة : لأنه قابل المكاره التي يقابلها أكثر الناس بالجزع والسخط وأوساطهم بالصبر وخاصتهم بالرضى فقابلها هو بأعلى من ذلك كله وهو الشكر فكان أسبقهم دخولا إلى الجنة وأول من يدعى منهم إليها
وقسم أهل هذه الدرجة إلى قسمين : سابقين ومقربين بحسب انقسامهم إلى من يستوي عنده الحالات من المكروه والمحبوب فلا يؤثر أحدهما على الآخر بل قد فني بإيثاره ما يرضى له به ربه عما يرضاه هو لنفسه وإلى من يؤثر المحبوب ولكن إذا نزل به المكروه قابله بالشكر

فصل قال : الدرجة الثالثة : أن لا يشهد العبد إلا المنعم فإذا شهد
المنعم عبودية : استعظم منه النعمة وإذا شهده حبا : استحلى منه الشدة وإذا شهده تفريدا : لم يشهد منه نعمة ولا شدة
هذه الدرجة يستغرق صاحبها بشهود المنعم عن النعمة فلا يتسع شهوده للمنعم ولغيره وقسم أصحابها إلى ثلاثة أقسام : أصحاب شهود العبودية وأصحاب شهود الحب وأصحاب شهود التفريد وجعل لكل منهم حكما هو أولى به فأما شهوده عبودية : فهو مشاهدة العبد للسيد بحقيقة العبودية والملك له فإن العبيد إذا حضروا بين يدي سيدهم فإنهم ينسون ما هم فيه من الجاه والقرب الذي اختصوا به عن غيرهم باستغراقهم في أدب العبودية وحقها وملاحظتهم لسيدهم خوفا أن يشير إليهم بأمر فيجدهم غافلين عن ملاحظته وهذا أمر يعرفه من شاهد أحوال الملوك وخواصهم
فهذا هو شهود العبد للمنعم بوصف عبوديته له واستغراقه عن الإحسان بما حصل له منه من القرب الذي تميز به عن غيره
فصاحب هذا المشهد : إذا أنعم عليه سيده في هذه الحال مع قيامه فى مقام العبودية يوجب عليه أن يستصغر نفسه في حضرة سيده غاية الاستصغار مع امتلاء قلبه من محبته فأي إحسان ناله منه في هذه الحالة رآه عظيما والواقع شاهد بهذا في حال المحب الكامل المحبة المستغرق في مشاهدة محبوبه إذا ناوله شيئا يسيرا فإنه يراه في ذلك المقام عظيما جدا ولا يراه غيره كذلك القسم الثاني : يشهد الحق شهود محبة غالبة قاهرة له مستغرق في شهوده كذلك فإنه يستحلي في هذه الحال الشدة منه لأن المحب يستحلي فعل المحبوب به وأقل ما في هذا المشهد : أن يخف عليه حمل الشدائد إن لم تسمح نفسه

باستحلائها وفي هذا من الحكايات المعروفة عند الناس ما يغني عن ذكرها كحال الذي كان يضرب بالسياط ولا يتحرك حتى ضرب آخر سوط فصاح صياحا شديدا فقيل له في ذلك فقال : العين التي كانت تنظر إلي وقت الضرب كانت تمنعني من الإحساس بالألم فلما فقدتها وجدت ألم الضرب وهذه الحال عارضة ليست بلازمة فإن الطبيعة تأبى استحلاء المنافي كاستحلاء الموافق نعم قد يقوى سلطان المحبة حتى يستحلى المحب ما يستمره غيره ويستخف ما يستثقله غيره ويأنس بما يستوحش منه الخلي ويستوحش مما يأنس به ويستلين ما يستوعره وقوة هذا وضعفه بحسب قهر سلطان المحبة وغلبته على قلب المحب القسم الثالث : أن يشهده تفريدا فإنه لا يشهد معه نعمة ولا شدة يقول : إن شهود التفريد : يفني الرسم وهذه حال الفناء المستغرق فيه الذي لا يشهد نعمة ولا بلية فإنه يغيب بمشهوده عن شهوده له ويفنى به عنه فكيف يشهد معه نعمة أو بلية كما قال بعضهم في هذا : من كانت مواهبه لا تتعدى يديه فلا واهب ولا موهوب وذلك مقام الجمع عندهم وبعضهم يحرم العبارة عنه
وحقيقته : اصطلام يرفع إحساس صاحبه برسمه فضلا عن رسم غيره لاستغراقه في مشهوده وغيبته به عما سواه وهذا هو مطلوب القوم وقد عرفت أن فوقه مقاما أعلى منه وأرفع وأجل وهو أن يصطلم بمراده عن غيره فيكون في حال مشاهدته واستغراقه : منفذا لمراسيمه ومراده ملاحظا لما يلاحظ محبوبه من المرادات والأوامر فتأمل الآن عبدين بين يدي ملك من ملوك الدنيا وهما على موقف واحد بين يديه أحدهما مشغول بمشاهدته فإن استغراقه في ملاحظة الملك ليس فيه

متسع إلى ملاحظة شيء من أمور الملك ألبتة وآخر مشغول بملاحظة حركات الملك وكلماته وإيشأمره ولحظاته وخواطره ليرتب على كل من ذلك ما هو مراد للملك
وتأمل قصة بعض الملوك : الذي كان له غلام يخصه بإقباله عليه وإكرامه والحظوة عنده من بين سائر غلمانه ولم يكن الغلام أكثرهم قيمة ولا أحسنهم صورة فقالوا له في ذلك فأراد السلطان أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره فيوما من الأيام كان راكبا في بعض شئونه ومعه الحشم وبالبعد منه جبل عليه ثلج فنظر السلطان إلى ذلك الثلج وأطرق فركض الغلام فرسه ولم يعلم القوم لماذا ركض فلم يلبث أن جاء ومعه شيء من الثلج فقال السلطان : ما أدراك أني أريد الثلج فقال الغلام : لأنك نظرت إليه ونظر الملوك إلى شيء لا يكون عن غير قصد فقال السلطان : إنما أخصه بإكرامي وإقبالي لأن لكل واحد منكم شغلا وشغله مراعاة لحظاتي ومراقبة أحوالي يعني في تحصيل مرادي
وسمعت بعض الشيوخ يقول : لو قال ملك لغلامين له بين يديه مستغرقين في مشاهدته والإقبال عليه : اذهبا إلى بلاد عدوي فأوصلا إليهم هذه الكتب وطالعاني بأحوالهم وافعلا كيت وكيت فأحدهما : مضى من ساعته لوجهه وبادر ما أمره به والآخر قال : أنا لا أدع مشاهدتك والاستغراق فيك ودوام النظر إليك ولا أشتغل بغيرك : لكان هذا جديرا بمقت الملك له وبغضه إياه وسقوطه من عينه إذ هو واقف مع مجرد حظه من الملك لا مع مراد الملك منه بخلاف صاحبه الأول وسمعته أيضا يقول : لو أن شخصين ادعيا محبة محبوب فحضرا بين يديه فأقبل أحدهما على مشاهدته والنظر إليه فقط وأقبل الآخر على استقراء مراداته ومراضيه وأوامره ليمتثلها فقال لهما : ما تريدان فقال أحدهما : أريد دوام

مشاهدتك والاستغراق في جمالك وقال الآخر : أريد تنفيذ أوامرك وتحصيل مراضيك فمرادي منك ما تريده أنت مني لا ما أريده أنا منك والآخر قال : مرادي منك تمتعي بمشاهدتك أكانا عنده سواء
فمن هو الآن صاحب المحبة المعلولة المدخولة الناقصة النفسانية وصاحب المحبة الصحيحة الصادقة الكاملة أهذا أم هذا وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكى عن بعض العارفين أنه قال : الناس يعبدون الله والصوفية يعبدون أنفسهم
أراد هذا المعنى المتقدم وأنهم واقفون مع مرادهم من الله لا مع مراد الله منهم وهذا عين عبادة النفس فليتأمل اللبيب هذا الموضع حق التأمل فإنه محك وميزان والله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الحياء
قال الله تعالى : ألم يعلم بأن الله يرى العلق : 14 وقال تعالى : إن الله كان عليكم رقيبا النساء : 1 وقال تعالى : يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور غافر : 1
وفي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله : مر برجل وهو يعظ أخاه في الحياء فقال : دعه فإن الحياء من الإيمان

وفيهما عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول اللهالحياء لا يأتي إلا بخير وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال : الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة فأفضلها : قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وفيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : كان رسول اللهأشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه وفى الصحيح عنه : إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت وفي هذا قولان أحدهما : أنه أمر تهديد ومعناه الخبر أي من لم يستح صنع ما شاء والثاني : أنه أمر إباحة أي انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله فإن كان مما لا يستحيى منه فافعله والأول أصح وهو قول الأكثرين وفي الترمذي مرفوعا : استحيوا من الله حق الحياء قالوا : إنا نستحيي يا رسول الله قال : ليس ذلكم ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى وليحفظ البطن وما حوى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء

فصل و الحياء من الحياة ومنه الحيا للمطر لكن هو مقصور وعلى حسب
حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء وقلة الحياء من موت القلب والروح فكلما كان القلب أحيى كان الحياء أتم
قال الجنيد رحمه الله : الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق

ومن كلام بعض الحكماء : أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيي منه وعمارة القلب : بالهيبة والحياء فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير وقال ذو النون : الحياء وجود الهيبة في القلب مع وحشة ما سبق منك إلى ربك والحب ينطق والحياء يسكت والخوف يقلق وقال السري : إن الحياء والأنس يطرقان القلب فإن وجدا فيه الزهد والورع وإلا رحلا وفي أثر إلهي يقول الله عز و جل : ابن آدم إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك ومحوت من أم الكتاب زلاتك وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة وفي أثر آخر : أوحى الله عز و جل إلى عيسى عليه الصلاة و السلام : عظ نفسك فإن اتعظت وإلا فاستحي مني : أن تعظ الناس وقال الفضيل بن عياض : خمس من علامات الشقوة : القسوة في القلب وجمود العين وقلة الحياء والرغبة في الدنيا وطول الأمل وفي أثر إلهي ما أنصفني عبدي يدعوني فأستحيي أن أرده ويعصيني ولا يستحيي مني
وقال يحيى بن معاذ : من استحيى من الله مطيعا استحيى الله منه وهو مذنب
وهذا الكلام يحتاج إلى شرح ومعنا : أن من غلب عليه خلق الحياء من الله حتى في حال طاعته فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستح خجل : فإنه إذا واقع ذنبا استحيى الله عز و جل من نظره إليه في تلك الحال لكرامته عليه فيستحيي أن يرى من وليه ومن يكرم عليه : ما يشينه عنده وفي الشاهد شاهد بذلك فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به وأحبهم إليه وأقربهم منه من صاحب أو ولد أو من يحبه وهو

يخونه فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياء عجيب حتى كأنه هو الجاني وهذا غاية الكرم
وقد قيل : إن سبب هذا الحياء : إنه يمثل نفسه في حال طاعته كأنه يعصي الله عز و جل فيستحيي منه في تلك الحال ولهذا شرع الاستغفار عقيب الأعمال الصالحة والقرب التي يتقرب بها العبد إلى الله عز و جل وقيل : إنه يمثل نفسه خائنا فيلحقه الحياء كما إذا شاهد رجلا مضروبا وهو صديق له أو من أحصر على المنبر عن الكلام فإنه يخجل أيضا تمثيلا لنفسه بتلك الحال
وهذا قد يقع ولكن حياء من اطلع على محبوبه وهو يخونه ليس من هذا فإنه لو اطلع على غيره ممن هو فارغ البال منه لم يلحقه هذا الحياء ولا قريب منه وإنما يلحقه مقته وسقوطه من عينه وإنما سببه والله أعلم شدة تعلق قلبه ونفسه به فينزل الوهم فعله بمنزلة فعله هو ولا سيما إن قدر حصول المكاشفة بينهما فإن عند حصولها يهيج خلق الحياء منه تكرما فعند تقديرها ينبعث ذلك الحياء هذا في حق الشاهد وأما حياء الرب تعالى من عبده : فذاك نوع آخر لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال فإنه تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا ويستحيي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام وكان يحيى بن معاد يقول : سبحان من يذنب عبده ويستحيى هو وفي أثر : من استحيى من الله استحيى الله منه
وقد قسم الحياء على عشرة أوجه : حياء جناية وحياء تقصير وحياء إجلال وحياء كرم وحياء حشمة وحياء استصغار للنفس واحتقار لها وحياء محبة وحياء عبودية وحياء شرف وعزة وحياء المستحيي من نفسه

فاما حياء الجناية : فمنه حياء آدم عليه السلام لما فر هاربا في الجنة قال الله تعالى : أفرارا مني يا آدم قال : لا يا رب بل حياء منك وحياء التقصير : كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فإذا كان يوم القيامة قالوا : سبحانك ! ما عبدناك حق عبادتك وحياء الإجلال : هو حياء المعرفة وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه وحياء الكرم : كحياء النبيمن القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب وطولوا الجلوس عنده فقام واستحيى أن يقول لهم : انصرفوا وحياء الحشمة : كحياء علي بن طالب رضى الله عنه أن يسأل رسول اللهعن المذي لمكان ابنته منه وحياء الاستحقار واستصغار النفس : كحياء العبد من ربه عز و جل حين يسأله حوائجه احتقار الشأن نفسه واستصغارا لها وفي أثر إسرائيلي إن موسى عليه السلام قال : يارب إنه لتعرض لى الحاجة من الدنيا فأستحيي أن أسألك هي يا رب فقال الله تعالى : سلنى حتى ملح عجينتك وعلف شاتك وقد يكون لهذا النوع سببان أحدهما : استحقار السائل نفسه واستعظام ذنوبه وخطاياه والثاني : استعظام مسؤله
وأما حياء المحبة : فهو حياء المحب من محبوبه حتى إنه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه وأحس به في وجهه ولا يدرى ما سببه وكذلك يعرض للمحب عند ملاقاته محبوبه ومناجاته له روعة شديدة ومنه قولهم : جمال رائع وسبب هذا الحياء والروعة مما لا يعرفه أكثر الناس
ولا ريب أن للمحبة سلطانا قاهرا للقلب أعظم من سلطان من يقهر البدن فأين من يقهر قلبك وروحك إلى من يقهر بدنك ولذلك تعجبت الملوك والجبابرة من قهرهم للخلق

وقهر المحبوب لهم وذلهم له فإذا فاجأ المحبوب محبه ورآه بغتة : أحس القلب بهجوم سلطانه عليه فاعتراه روعة وخوف
وسألنا يوما شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه عن هذه المسألة فذكرت أنا هذا الجواب فتبسم ولم يقل شيئا وأما الحياء الذي يعتريه منه وإن كان قادرا عليه كأمته وزوجته فسببه والله أعلم أن هذا السلطان لما زال خوفه عن القلب بقيت هيبته واحتشامه فتولد منها الحياء وأما حصول ذلك له في غيبة المحبوب : فظاهر لاستيلائه على قلبه فوهمه يغالطه عليه ويكابره حتى كأنه معه
وأما حياء العبودية : فهو حياء ممتزج من محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده وأن قدره أعلى وأجل منها فعبوديته له توجب استحياءه منه لا محالة وأما حياء الشرف والعزة فحياء النفس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء وإحسان فإنه يستحي مع بذله حياء شرف نفس وعزة وهذا له سببان أحدهما : هذا والثاني : استحياؤه من الآخذ حتى كأنه هو الآخذ السائل حتى إن بعض أهل الكرم لا تطاوعه نفسه بمواجهته لمن يعطيه حياء منه وهذا يدخل في حياء التلوم لأنه يستحيي من خجلة الآخذ
وأما حياء المرء من نفسه : فهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص وقناعتها بالدون فيجد نفسه مستحيا من نفسه حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى وهذا أكمل ما يكون من الحياء فإن العبد إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحيي من غيره

أجدر

فصل قال صاحب المنازل : الحياء : من أول مدارج أهل الخصوص يتولد
من تعظيم منوط بود إنما جعل الحياء من أول مدارج أهل الخصوص : لما فيه من ملاحظة حضور من يستحيي منه وأول سلوك أهل الخصوص : أن يروا الحق سبحانه حاضرا معهم وعليه بناء سلوكهم وقوله : إنه يتولد من تعظيم منوط بود يعني : أن الحياء حالة حاصلة من امتزاج التعظيم بالمودة فإذا اقترنا تولد بينهما الحياء والجنيد يقول : إن تولده من مشاهدة النعم ورؤية التقصير ومنهم من يقول : تولده من شعور القلب بما يستحيي منه فيتولد من هذا الشعور والنفرة حالة تسمى الحياء ولا تنافي بين هذه الأقوال فإن للحياء عدة أسباب قد تقدم ذكرها فكل أشار إلى بعضها والله أعلم
فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : حياء يتولد من علم
العبد بنظر الحق إليه فيجذبه إلى تحمل هذه المجاهدة ويحمله على استقباح الجناية ويسكته عن الشكوى
يعني : أن العبد متى علم أن الرب تعالى ناظر إليه أورثه هذا العلم حياء منه يجذبه إلى احتمال أعباء الطاعة مثل العبد إذا عمل الشغل بين يدي سيده فإنه يكون نشيطا فيه محتملا لأعبائه ولا سيما مع الإحسان من سيده إليه ومحبته لسيده بخلاف ما إذا كان غائبا عن سيده والرب تعالى لا يغيب نظره عن عبده ولكن يغيب نظر القلب والتفاته إلى نظره سبحانه إلى العبيد فإن القلب إذا

غاب نظره وقل التفاته إلى نظر الله تبارك وتعالى إليه : تولد من ذلك قلة الحياء والقحة
وكذلك يحمله على استقباح جنايته وهذا الاستقباح الحاصل بالحياء قدر زائد على استقباح ملاحظة الوعيد وهو فوقه
وأرفع منه درجة : الاستقباح الحاصل عن المحبة فاستقباح المحب أتم من استقباح الخائف ولذلك فإن هذا الحياء يكف العبد أن يشتكي لغير الله فيكون قد شكا الله إلى خلقه ولا يمنع الشكوى إليه سبحانه فإن الشكوى إليه سبحانه فقر وذلة وفاقة وعبوديةفالحياء منه فى مثل ذلك لا ينافيها

فصل قال : الدرجة الثانية : حياء يتولد من النظر في علم القرب
فيدعوه إلى ركوب المحبة ويربطه بروح الأنس ويكره إليه ملابسة الخلق
النظر في علم القرب : تحقق القلب بالمعية الخاصة مع الله فإن المعية نوعان : عامة وهى : معية العلم والإحاطة كقوله تعالى : وهو معكم أينما كنتم الحديد : 4 وقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا المجادلة : 7
وخاصة : وهى معية القرب كقوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون النحل : 128 وقوله : إن الله مع الصابرين البقرة : 153 وقوله : وإن الله لمع المحسنين العنكبوت : 69 فهذه معية قرب تتضمن الموالاة والنصر والحفظ وكلا المعنيين مصاحبة منه للعبد لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة وهذه مصاحبة موالاة ونصر وإعانة ف مع في لغة العرب تفيد الصحبة اللائقة لا تشعر بامتزاج ولا اختلاط ولا مجاورة ولا مجانبة فمن ظن شيئا من هذا فمن سوء فهمه أتي

وأما القرب : فلا يقع في القرآن إلا خاصا وهو نوعان : قربه من داعيه بالإجابة وقربه من عابده بالإثابة فالأول : كقوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان البقرة : 186 ولهذا نزلت جوابا للصحابة رضي الله عنهم وقد سألوا رسول الله : ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى هذه الآية والثاني : قوله : أقرب ما يكون العبد من ربه : وهو ساجد وأقرب ما يكون الرب من عبده : في جوف الليل فهذا قربه من أهل طاعته
وفى الصحيح : عن أبي موسى رضي الله عنه قال : كنا مع النبيفي سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال : يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته
فهذا قرب خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه واستواءه على عرشه بل يجامعه ويلازمه فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولكنه نوع آخر والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز تتقطع فيها أعناق المطي ويجده أقرب إليه من جليسه كما قيل
ألا رب من يدنو ويزعم أنه ... يحبك والنائي أحب وأقرب وأهل السنة أولياء رسول اللهوورثته وأحباؤه الذين هو عندهم أولى بهم من أنفسهم وأحب إليهم منها : يجدون نفوسهم أقرب إليه وهم في الأقطار النائية عنه من جيران حجرته في المدينة والمحبون المشتاقون للكعبة والبيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن

حولها هذا مع عدم تأتي القرب منها فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء وهو مستو على عرشه وأهل الذوق لا يلتفتون فى : ذلك إلى شبهة معطل بعيد من الله خلى من محبته ومعرفته والقصد : أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة وكلما ازداد حبا ازداد قربا فالمحبة بين قربين : قرب قبلها وقرب بعدها وبين معرفتين : معرفة قبلها حملت عليها ودعت إليها ودلت عليها ومعرفة بعدها هي من نتائجها وآثارها
وأما ربطه بروح الأنس : فهو تعلق قلبه بروح الأنس بالله تعلقا لازما لا يفارقه بل يجعل بين القلب والأنس رابطة لازمة ولا ريب أن هذا يكره إليه ملابسة الخلق بل يجد الوحشة في ملابستهم بقدر أنسه بربه وقرة عينه بحبه وقربه منه فإنه ليس مع الله غيره فإن لابسهم لابسهم برسمه دون سره وروحه وقلبه فقلبه وروحه في ملأ وبدنه ورسمه في ملأ

فصل قال : الدرجة الثالثة : حياء يتولد من شهود الحضرة وهي التي لا
تشوبها هيبة ولا تقارنها تفرقة ولا يوقف لها على غاية شهود الحضرة : انجذاب الروح والقلب من الكائنات وعكوفه على رب البريات فهو في حضرة قربه مشاهدا لها وإذا وصل القلب إليها غشيته الهيبة وزالت عنه التفرقة إذ ما مع الله سواه فلا يخطر بباله في تلك الحال سوى الله وحده وهذا مقام الجمعية وأما قوله : ولا يوقف لها على غاية فيعني أن كل من وصل إلى مطلوبه وظفر به : وصل إلى الغاية إلا صاحب هذا المشهد فإنه لا يقف بحضرة الربوبية على غاية فإن ذلك مستحيل بل إذا شهد تلك الروابى ووقف على تلك الربوع وعاين الحضرة التى هي غاية

الغايات شارف أمرا لا غاية له ولا نهاية والغايات والنهايات كلها إليه تنتهي وأن إلى ربك المنتهى النجم : 42 فانتهت إليه الغايات والنهايات وليس له سبحانه غاية ولا نهاية : لا في وجوده ولا في مزيد جوده إذ هو الأول الذي ليس قبله شيء و الآخر الذي ليس بعده شىء ولا نهاية وحمده وعطائهبل كلما ازداد له العبد شكرا زاده فضلا وكلما ازداد له طاعة زاده لمجده مثوبة وكلما ازداد منه قربا لاح له من جلاله وعظمته ما لم يشاهده قبل ذلك وهكذا أبدا لا يقف على غاية ولا نهاية ولهذا جاء : إن أهل الجنة في مزيد دائم بلا انتهاء فإن نعيمهم متصل ممن لا نهاية لفضله ولا لعطائه ولا لمزيده ولا لأوصافه فتبارك الله ذو الجلال والإكرام إن هذا لرزقنا ماله من نفاد ص : 54 ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته : ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصدق
وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه من صال به لم ترد صولته ومن نطق به علت على الخصوم كلمته فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال وهو أساس بناء الدين وعمود فسطاط اليقين ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين ومن مساكنهم

في الجنات : تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومعين
وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان : أن يكونوا مع الصادقين وخص المنعم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين التوبة : 119 وقال تعالى : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين النساء : 69 فهم الرفيق الأعلى وحسن أولئك رفيقا ولا يزال الله يمدهم بأنعمه وألطافه ومزيده إحسانا منه وتوفيقا ولهم مرتبة المعية مع الله فإن الله مع الصادقين ولهم منزلة القرب منه إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين
وأخبر تعالى أن من صدقه فهو خير له فقال : فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرالهم محمد : 21 وأخبر تعالى عن أهل البر وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم : من الإيمان والإسلام والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق فقال : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون البقرة : 177 وهذا صريح في أن الصدق بالأعمال الظاهرة والباطنة وأن الصدق هو مقام الإسلام والإيمان
وقسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق فقال : ليجزى الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم الأحزاب : 24 والإيمان أساسه الصدق والنفاق أساسه الكذب فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر
وأخبر سبحانه أنه فى يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه

قال تعالى : هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم المائدة وقال تعالى : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون الزمر : 34 فالذي جاء بالصدق : هو من شأنه الصدق فى قوله وعمله وحاله فالصدق : فى هذه الثلاثة
فالصدق في الأقوال : استواء اللسان على الأقوال كاستواء السنبلة على ساقها والصدق في الأعمال : استواء الأفعال على الأمر والمتابعة كاستواء الرأس على الجسد والصدق في الأحوال : استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص واستفراغ الوسع وبذل الطاقة فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به : تكون صديقيته ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه : ذروة سنام الصديقية سمي الصديق على الإطلاق و الصديق أبلغ من الصدوق والصدوق أبلغ من الصادق
فأعلى مراتب الصدق : مرتبة الصديقية وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل
وقد أمر الله تعالى رسوله : أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال : وقل : رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا الإسراء : 80 وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال : واجعل لى لسان صدق في الآخرين وبشر عباده بأن لهم عنده قدم صدق ومقعد صدق فقال تعالى : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم يونس : 2 وقال : إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر : 5455 فهذه خمسة أشياء : مدخل الصدق ومخرج الصدق ولسان الصدق وقدم الصدق ومقعد الصدق وحقيقة الصدق في هذه الأشياء : هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل

إلى الله وهو ما كان به وله من الأقوال والأعمال وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة
فمدخل الصدق ومخرج الصدق : أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله وفي مرضاته بالظفر بالبغية وحصول المطلوب ضد مخرج الكذب ومدخله الذي لا غاية له يوصل إليها ولا له ساق ثابتة يقوم عليها كمخرج أعدائه يوم بدر ومخرج الصدق كمخرجههو وأصحابه في تلك الغزوة
وكذلك مدخلهالمدينة : كان مدخل صدق بالله ولله وابتغاء مرضاة الله فاتصل به التأييد والظفر والنصر وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب فإنه لم يكن بالله ولا لله بل كان محادة لله ورسوله فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول اللهحصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب : أصابه معهم ما أصابهم فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله فهو مدخل صدق ومخرج صدق وكان بعض السلف إذا خرج من داره : رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك
يريد : أن لا يكون المخرج مخرج صدق ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه : بخروجهمن مكة ودخوله المدينة ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه وإلا فمداخله كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق إذ هي لله وبالله وبأمره ولابتغاء مرضاته
وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو مدخلا آخر إلا بصدق أو بكذب فمخرج كل واحد ومدخله : لا يعدو الصدق والكذب والله

المستعان وأما لسان الصدق : فهو الثناء الحسن عليهمن سائر الأمم بالصدق ليس ثناء بالكذب كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه : وجعلنا لهم لسان صدق عليا مريم : 50 والمراد باللسان ههنا : الثناء الحسن فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاء وفاقا وعبر به عنه
فإن اللسان يراد به ثلاثة معان : هذا واللغة كقوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم إبراهيم : 4 وقوله : واختلاف ألسنتكم وألوانكم الروم : 22 وقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين النحل : 103 ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به القيامة : 16 وأما قدم الصدق : ففسر بالجنة وفسر بمحمد وفسر بالأعمال الصالحة
وحقيقة القدم ما قدموه وما يقدمون عليه يوم القيامة وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك
فمن فسره بها أراد : ما يقدمون عليه ومن فسره بالأعمال وبالنبي : فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم فالثلاثة قدم صدق وأما مقعد الصدق : فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره وأنه حق ودوامه ونفعه وكمال عائدته فإنه متصل بالحق سبحانه كائن به وله فهو صدق غير كذب وحق غير باطل ودائم غير زائل ونافع غير ضار وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل ومن علامات الصدق : طمأنينة القلب إليه ومن علامات الكذب : حصول الريبة كما في الترمذي مرفوعا من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما

عنهما عن النبيقال : الصدق طمأنينة والكذب ريبة
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيقال : إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عندالله صديقا وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عندالله كذابا فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها وهي غايته فلا ينال درجتها كاذب ألبتة لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه فليس في هؤلاء صديق أبدا وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرمه وتحريم ما لم يحرمه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما لم يوجبه وكراهة ما أحبه واستحباب ما لم يحبه كل ذلك مناف للصديقية
وكذلك الكذب معه في الأعمال : بالتحلي بحلية الصادقين المخلصين والزاهدين المتوكلين وليس في الحقيقة منهم
فلذلك كانت الصديقية : كمال الإخلاص والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرا وباطنا حتى إن صدق المتبايعين يحل البركة في بيعهما وكذبهما يمحق بركة بيعهما كما في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : قال رسول الله : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما : محقت بركة بيعهما

فصل في كلمات في حقيقة الصدق قال عبدالواحد بن زيد : الصدق الوفاء
لله بالعمل وقيل : موافقة السر النطق وقيل : استواء السر والعلانية يعني أن الكاذب علانيته خير من سريرته كالمنافق الذي ظاهره خير من باطنه
وقيل : الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة وقيل : كلمة الحق عند من تخافه وترجوه وقال الجنيد : الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمرائي يثبت على حالة واحدة أربعين سنة وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وقد يسبق إلى الذهن خلافه وأن الكاذب متلون لأن الكذب ألوان فهو يتلون بتلونه والصادق مستمر على حالة واحدة فإن الصدق واحد في نفسه وصاحبه لا يتلون ولا يتغير
لكن مراد الشيخ أبي القاسم صحيح غير هذا فإن المعارضات والواردات التي ترد على الصادق لاترد على الكاذب المرائي بل هو فارغ منها فإنه لا يرد عليه من قبل الحق موارد الصادقين على الكاذبين المرائين ولا يعارضهم الشيطان كما يعارض الصادقين فإنه لا أرب له في خربة لا شيء فيها وهذه الواردات توجب تقلب الصادق بحسب اختلافها وتنوعها فلا تراه إلا هاربا من مكان إلى مكان ومن عمل إلى عمل ومن حال إلى حال ومن سبب إلى سبب لأنه يخاف في كل حال يطمئن إليها ومكان وسبب : أن يقطعه عن مطلوبه فهو لا يساكن حالة ولا شيئا دون مطلوبه فهو كالجوال في الآفاق في طلب الغنى الذي يفوق به الأغنياء والأحوال والأسباب تتقلب به وتقيمه وتقعده وتحركه وتسكنه حتى يجد فيها ما يعينه على مطلوبه وهذا عزيز فيها فقلبه في تقلب وحركة

شديدة بحسب سعة مطلوبه وعظمته وهمته أعلى من أن يقف دون مطلبه على رسم أو حال أو يساكن شيئا غيره فهو كالمحب الصادق الذي همته التفتيش على محبوبه وكذا حال الصادق في طلب العلم وحال الصادق في طلب الدنيا فكل صادق في طلب شيء لا يستقر له قرار ولا يدوم على حالة واحدة
وأيضا : فإن الصادق مطلوبه رضى ربه وتنفيذ أوامره وتتبع محابه فهو متقلب فيها يسير معها أين توجهت ركائبها ويستقل معها أين استقلت مضاربها فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكر ثم في غزو ثم في حج ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع ثم في أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو في قيام بسبب فيه عمارة الدين والدنيا ثم في عيادة مريض أو تشييع جنازة أو نصر مظلوم إن أمكن إلى غير ذلك من أنواع القرب والمنافع
فهو في تفرق دائم لله وجمعية على الله لا يملكه رسم ولا عادة ولا وضع ولا يتقيد بقيد ولا إشارة ولا بمكان معين يصلى فيه لا يصلى في غيره وزي معين لا يلبس سواه وعبادة معينة لا يلتفت إلى غيرها مع فضل غيرها عليها أو هي أعلى من غيرها في الدرجة وبعد ما بينهما كبعد ما بين السماء والأرض
فإن البلاء والآفات والرياء والتصنع وعبادة النفس وإيثار مرادها والاشارة إليها : كلها في هذه الأوضاع والرسوم والقيود التي حبست أربابها عن السير إلى قلوبهم فضلا عن السير من قلوبهم إلى الله تعالى فإذا خرج أحدهم عن

رسمه ووضعه وزيه وقيده وإشارته ولو إلى أفضل منه استهجن ذلك ورآه نقصا وسقوطا من أعين الناس وانحطاطا لرتبته عندهم وهو قد انحط وسقط من عين الله
وقد يحس أحدهم ذلك من نفسه وحاله ولا تدعه رسومه وأوضاعه وزيه وقيوده : أن يسعى في ترميم ذلك وإصلاحه وهذا شأن الكذاب المرائي الذي يبدي للناس خلاف ما يعلمه الله من باطنه العامل على عمارة نفسه ومرتبته وهذا هو النفاق بعينه ولو كان عاملا على مراد الله منه وعلى الصدق مع الله : لأثقلته تلك القيود وحبسته تلك الرسوم ولرأى الوقوف عندها ومعها عين الانقطاع عن الله لا إليه ولما بالى أي ثوب لبس ولا أي عمل عمل إذا كان على مراد الله من العبد
فكلام أبي القاسم الجنيد حق كلام راسخ في الصدق عالم بتفاصيله وآفاته ومواضع اشتباهه بالكذب
وأيضا فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي لا يطيقه إلا أصحاب العزائم فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل والرياء والكذب خفيف كالريشة لا يجد له صاحبه ثقلا ألبتة فهو حامل له في أي موضع اتفق بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله وقال بعضهم : لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره وقال بعضهم : الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف قال الله تعالى : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين البقرة : 94 قلت : هذه الآية فيها للناس كلام معروف قالوا : إنها معجزة للنبي أعجز بها اليهود ودعاهم إلى تمني الموت وأخبر : أنهم لا يتمنونه أبدا وهذا علم من أعلام نبوته إذ لا يمكن الاطلاع على بواطنهم إلا بأخبار الغيب ولم ينطق الله ألسنتهم بتمنيه أبدا

وقالت طائفة : لما ادعت اليهود : أن لهم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس وأنهم أبناؤه وأحباؤه وأهل كرامته كذبهم الله في دعواهم وقال : إن كنتم صادقين فتمنوا الموت لتصلوا إلى الجنة دار النعيم فإن الحبيب يتمنى لقاء حبيبه ثم أخبر سبحانه : أنهم لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم من الأوزار والذنوب الحائلة بينهم وبين ما قالوه فقال : ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم البقرة : 95 وقالت طائفة منهم محمد بن إسحاق وغيره هذه من جنس آية المباهلة وأنهم لما عاندوا ودفعوا الهدى عيانا وكتموا الحق : دعاهم إلى أمر يحكم بينهم وبينه وهو أن يدعوا بالموت على الكاذب المفتري و التمني سؤال ودعاء فتمنوا الموت وادعوا به على المبطل الكاذب المفتري
وعلى هذا فليس المراد : تمنوه لأنفسكم خاصة كما قاله أصحاب القولين الأولين بل معناه : ادعوا بالموت وتمنوه للمبطل وهذا أبلغ في إقامة الحجة وبرهان الصدق وأسلم من أن يعارضوا رسول الله بقولهم : فتمنوه أنتم أيضا إن كنتم محقين أنكم أهل الجنة لتقدموا على ثواب الله وكرامته كانوا أحرص شيء على معارضته فلو فهموا منه ما ذكره أولئك لعارضوه بمثله
وأيضا فإنا نشاهد كثيرا منهم يتمنى الموت لضره وبلائه وشدة حاله ويدعو به وهذا بخلاف تمنيه والدعاء به على الفرقة الكاذبة فإن هذا لا يكون أبدا ولا وقع من أحد منهم في حياة النبي ألبتة وذلك لعلمهم بصحة نبوته وصدقه وكفرهم به حسدا وبغيا فلا يتمنوه أبدا لعلمهم أنهم هم الكاذبون وهذا القول : هو الذي نختاره والله أعلم بما أراد من كتابه وقال إبراهيم الخواص : الصادق لا تراه إلا في فرض يؤديه أو فضل يعمل فيه وقال الجنيد : حقيقة الصدق : أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب وقيل : ثلاث لا تخطىء الصادق : الحلاوة والملاحة والهيبة

وفي أثر إلهي : من صدقني في سريرته صدقته في علانيته عند خلقي وقال سهل بن عبدالله : أول خيانة الصديقين : حديثهم مع أنفسهم وقال يوسف بن أسباط : لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلي من أضرب بسيفي في سبيل الله
وقال الحارث المحاسبي : الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من عمله فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من علامات الصديقين
وفي هذا نظر لأن كراهته لاطلاع الناس على مساوىء عمله من جنس كراهته للضرب والمرض وسائر الآلام وهذا أمر جبلي طبيعي ولا يخرج صاحبه عن الصدق لا سيما إذا كان قدوة متبعا فإن كراهته لذلك من علامات صدقة لأن فيها مفسدتين : مفسدة ترك الاقتداء به واتباعه على الخير وتنفيذه ومفسدة اقتداء الجهال به فيها فكراهيته لاطلاعهم على مساوىء عمله : لا تنافي صدقه بل قد تكون من علامات صدقه
نعم المنافي للصدق : أن لا يكون له مراد سوى عمارة حاله عندهم وسكناه في قلوبهم تعظيما له فلو كان مراده تنفيذا لأمر الله ونشرا لدينه وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ودعوة إلى الله : فهذا الصادق حقا والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها
وأظن أن هذا هو مراد المحاسبي بقوله : ولا يكره اطلاع الناس على السيء من عمله فإنهم يريدون ذلك فضولا ودخولا فيما لا يعني فB أبي بكر الصديق حيث قال : لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقا أو عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم عليه فهذا وأمثاله يعدونه ويرونه من سيء الأعمال عند العوام والجهال

وقال بعضهم : من لم يؤد الفرض الدائم لم يقبل منه الفرض المؤقت قيل : وما الفرض الدائم قال : الصدق وقيل : من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل وقيل : عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك فإنه ينفعك ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك فإنه يضرك وقيل : ما أملق تاجر صدوق

فصل قال صاحب المنازل : الصدق : اسم لحقيقة الشيء بعينه حصولا ووجودا
الصدق : هو حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه كما يقال : عزيمة صادقة إذا كانت قوية تامة وكذلك : محبة صادقة وإرادة صادقة وكذا قولهم : حلاوة صادقة إذا كانت قوية تامة ثابتة الحقيقة لم ينقص منها شيء ومن هذا أيضا : صدق الخبر لأنه وجود المخبر بتمام حقيقته في ذهن السامع فالتمام والوجود نوعان : خارجي وذهني فإذا أخبرت المخاطب بخبر صادق حصلت له حقيقة المخبر عنه بكماله وتمامه في ذهنه
ومن هذا : وصفهم الرمح بأنه صادق الكعوب إذا كانت كعوبه صلبة قوية ممتلئة قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : صدق القصد وبه يصح الدخول في هذا الشأن ويتلافى به كل تفريط ويتدارك به كل فائت ويعمر كل خراب وعلامة هذا الصادق : أن لا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد ولا يصبر على صحبة ضد ولا يقعد عن الجد بحال
يعني بصدق القصد : كمال العزم وقوة الإرادة بأن يكون في القلب داعية صادقة إلى السلوك وميل شديد يقهر السر على صحة التوجه فهو طلب لا يمازجه رياء ولا فتور ولا يكون فيه قسمة بحال ولا يصح الدخول في شأن السفر إلى الله والاستعداد للقائه إلا به

ويتلافى به كل تفريط فإنه حامل على كل سبب ينال به الوصول وقطع كل سبب يحول بينه وبينه فلا يترك فرصة تفوته وما فاته من الفرص السابقة تداركها بحسب الإمكان فيصلح من قلبه ما مزقته يد الغفلة والشهوة ويعمر منه ما خربته يد البطالة ويوقد فيه ما أطفأته أهوية النفس ويلم منه ما شعثته يد التفريط والإضاعة ويسترد منه ما نهبته أكف اللصوص والسراق ويزرع منه ما وجده بورا من أراضيه ويقلع ما وجده شوكا وشبرقا في نواحيه ويستفرغ منه ما ملأته مواد الأخلاط الردئية الفاسدة المترامية به إلى الهلاك والعطب ويداوي منه الجراحات التي أصابته من عبرات الرياءويغسل منه الأوساخ والحوبات التي تراكمت عليه على تقادم الأوقات حتى لو اطلع عليه لأحزنه سواده ووسخه الذي صار دباغا له فيطهره بالماء البارد من ينابيع الصدق الخالصة من جميع الكدورات قبل أن يكون طهوره بالجحيم والحميم فإنه لا يجاور الرحمن قلب دنس بأوساخ الشهوات والرياء أبدا ولابد من طهور فاللبيب يؤثر أسهل الطهورين وأنفعهما والله المستعان وقوله : وعلامة هذا الصادق : أن لا يتحمل داعية تدعو إلى نقض عهد يعني أن الصادق حقيقة : هو الذي قد انجذبت قوى روحه كلها إلى إرادة الله وطلبه والسير إليه والاستعداد للقائه ومن تكون هذه حاله : لا يحتمل سببا يدعوه إلى نقض عهده مع الله بوجه وقوله : ولا يصبر على صحبة ضده
الضد عند القوم : هم أهل الغفلة وقطاع طريق القلب إلى الله وأضر شيء على الصادق : صحبتهم بل لا تصبر نفسه على ذلك أبدا إلا جمع ضرورة وتكون صحبتهم له في تلك الحال بقالبه وشبحه دون قلبه وروحه فإن هذا لما استحكمت الغفلة عليه كما استحكم الصدق في الصادق : أحست روحه بالأجنبية التي بينه وبينهم بالمضادة فاشتدت النفرة وقوي الهرب وبحسب هذه الأجنبية

وإحساس الصادق بها : تكون نفرته وهربه عن الأضداد فإن هذا الضد إن نطق أحس قلب الصادق : أنه نطق بلسان الغفلة والرياء والكبر وطلب الجاهولو كان ذاكرا أو قارئا أو مصليا أو حاجا أو غير ذلك فنفر قلبه منه وإن صمت أحس قلبه : أنه صمت على غير حضور وجمعية على الله وإقبال بالقلب عليه وعكوف السر عليه فينفر منه أيضا فإن قلب الصادق قوي الإحساس فيجد الغيرية والأجنبية من الضد ويشم القلب القلب كما يشم الرائحة الخبيثة فيزوي وجهه لذلك ويعتريه عبوس فلا يأنس به إلا تكلفا ولا يصاحبه إلا ضرورة فيأخذ من صحبته قدر الحاجة كصحبة من يشتري منه أو يحتاج إليه في مصالحه كالزوجة والخادم ونحوه
قوله : ولا يقعد عن الجد بحال يعني أنه لما كان صادقا في طلبه مستجمع القوة : لم يقعد به عزمه عن الجد في جميع أحواله فلا تراه إلا جادا وأمره كله جد

فصل قال : الدرجة الثانية : أن لا يتمنى الحياة إلا للحق ولا يشهد
من نفسه إلا أثر النقصان ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص أي لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضى محبوبه ويقوم بعبوديته ويستكثر من الأسباب التي تقر به إليه وتدنيه منه لا لعلة من علل الدنيا ولا لشهوة من شهواتها كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لولا ثلاث لما أحببت البقاء : لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله ومكابدة الليل ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر
يريد رضي الله عنه : الجهاد والصلاة والعلم النافع وهذه درجات الفضائل وأهلها هم أهل الزلفى والدرجات العليا
وقال معاذ رضي الله عنه عند موته : اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء

لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولا لنكح الأزواج ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر وقوله : ولا يشهد من نفسه إلا أثر النقصان يعني لا يرى نفسه إلا مقصرا والموجب له لهذه الرؤية : استعظام مطلوبه واستصغار نفسه ومعرفته بعيوبها وقلة زاده في عينه فمن عرف الله وعرف نفسه : لم ير نفسه إلا بعين النقصان وأما قوله : ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص
فلأنه لكمال صدقه وقوة إرادته وطلبه للتقدم : يحمل نفسه على العزائم ولا يلتفت إلى الرفاهية التي في الرخص وهذا لابد فيه من التفصيل فإن الصادق يعمل على رضى الحق تعالى ومحابه فإذا كانت الرخص أحب إليه تعالى من العزائم : كان التفاته إلى ترفيهها وهو عين صدقه فإذا أفطر في السفر وقصر وجمع بين الصلاتين عند الحاجة إليه وخفف الصلاة عند الشغل ونحو ذلك من الرخص التي يحب الله تعالى أن يؤخذ بها : فهذا الالتفات إلى ترفيهها لا ينافي الصدق
بل ههنا نكتة وهي أنه فرق بين أن يكون التفاته إليها ترفها وراحة وأن يكون متابعة وموافقة ومع هذا فالالتفات إليها ترفها وراحة لا ينافي الصدق فإن هذا هو المقصود منها وفيه شهود نعمة الله على العبد وتعبده باسمه البر اللطيف المحسن الرفيق فإنه رفيق يحب الرفق وفي الصحيح : ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما لما فيه من روح التعبد باسم الرفيق اللطيف وإجمام القلب به لعبودية أخرى فإن القلب لا يزال يتنقل في منازل العبودية فإذا أخذ بترفيه رخصة محبوبه : استعد بها لعبودية أخرى وقد تقطعه عزيمتها عن عبودية هي أحب

إلى الله منها كالصائم في السفر الذي ينقطع عن خدمة أصحابه والمفطر الذي يضرب الأخبية ويسقي الركاب ويضم المتاع ولهذا قال فيهم النبي : ذهب المفطرون اليوم بالأجر أما الرخص التأويلية المستندة إلى اختلاف المذاهب والآراء التي تصيب وتخطىء : فالأخذ بها عندهم عين البطالة مناف للصدق

فصل قال : الدرجة الثالثة : الصدق في معرفة الصدق فإن الصدق لا
يستقيم في علم أهل الخصوص إلا على حرف واحد وهو أن يتفق رضى الحق بعمل العبد أو حاله أو وقته وإيقان العبد وقصده : بكون العبد راضيا مرضيا فأعماله إذن مرضية وأحواله صادقة وقصوده مستقيمة وإن كان العبد كسى ثوبا معارا فأحسن أعماله : ذنب وأصدق أحواله : زور وأصفى قصوده : قعود
يعني أن الصدق المتحقق إنما يحصل لمن صدق في معرفة الصدق فكأنه قال : لا يحصل حال الصدق إلا بعد معرفة علم الصدق
ثم عرف حقيقة الصدق فقال : لا يستقيم الصدق في علم أهل الخصوص إلا على حرف واحد وهو أن يتفق رضى الحق بعمل العبد أو حاله أو وقته وإيقانه وقصده وهذا موجب الصدق وفائدته وثمرته
فالشيخ ذكر الغاية الدالة على الحقيقة التي يعرف انتفاء الحقيقة بانتفائها وثبوتها بثبوتها فإن العبد إذا صدق الله : رضي الله بعمله وحاله ويقينه وقصده لا أن رضى الله نفس الصدق وإنما يعلم الصدق بموافقة رضاه سبحانه ولكن من أين يعلم العبد رضاه

فمن ههنا كان الصادق مضطرا أشد ضرورة إلى متابعة الأمر والتسليم للرسول في ظاهره وباطنه والاقتداء به والتعبد بطاعته في كل حركة وسكون مع إخلاص القصد لله عز و جل فإن الله تعالى لا يرضيه من عبده إلا ذلك وما عدا هذا فقوت النفس ومجرد حظها واتباع أهوائها وإن كان فيه من المجاهدات والرياضات والخلوات ما كان فإن الله سبحانه وتعالى أبى أن يقبل من عبده عملا أو يرضى به حتى يكون على متابعة رسوله خالصا لوجهه سبحانه
ومن ههنا يفارق الصادق أكثر السالكين بل يستوحش في طريقه وذلك لقلة سالكها فإن أكثرهم سائرون على طرق أذواقهم وتجريد أنفاسهم لنفوسهم ومتابعة رسوم شيوخهم والصادق في واد وهؤلاء في واد وقوله : فيكون العبد راضيا مرضيا
لأنه قد رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فرضي الله به عبدا وأعماله إذا مرضية لله وأحواله صادقة مع الله وقصوده مستقيمة على متابعة أوامر الله عز و جل وقوله وإن كان العبد كسي ثوبا معارا فأحسن أعماله : ذنب وأصدق أحواله : زور وأصفى قصوده : قعود هذا يراد به أمران أحدهما : أن يكسى حلية الصادقين ويلبس ثيابهم على غير قلوبهم وأرواحهم فثوب الصدق عارية له لا ملك له فهو كالمتشبع بما لم يعط فإنه كلابس ثوبي زور فهذا أحسن أعماله : ذنب يعاقب عليه كما يعاقب المقتول في الجهاد والقارىء القرآن المتنسك والمتصدق ويكونون أول من تسعر بهم النار يوم القيامة لما لبسوا ثياب الصادقين على قلوب المرائين هذا معنى صحيح ما أظن الشيخ قصده وإنما أظنه قصد معنى آخر وهو أنه متى تيقن العبد : أن وجوده ثوب

معار ليس منه ولا له وإنما إيجاده وصفاته وإرادته وقدرته وأعماله : عارية من الفعال وحده والعبد ليس له من ذاته إلا العدم فوجوده وحياته : ثوب أعيره فمتى نظر بعين الحقيقة إلى كسوته : رأى أحسن أعماله ذنويافي هذا المقام وأصدق أحواله زورا وأصفى قصوده قعودا فلا يرى لنفسه منه عملا ولا حالا ولا قصدا فإنه ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم فكل ما من النفس : فهو ذنب وزور وقعود وما كان مرضيا فهو بالله ومن الله ولله لا بالنفس ولا منها ولا لها فإن العبد إذا رأى أنه قد فعل الطاعة : كانت رؤيته لذلك ذنبا فإنه قد نسب الفعل إليه والله في الحقيقة هو المنفرد بالفعل فعلى هذا لا يتخلص العبد من الذنب قط فإنه إذا خلص فعله من الرياء ومن كل شيء يفسده : اقترن به آخر لا يمكنه الخلاص منه وهو اعتقاده : أنه هو الفاعل
والصواب : أن هذا ليس بذنب ولا هو مقدور للعبد ولا مأمور به والكمال في حقه : أن يشهد الأمر كما هو عليه وأنه فاعل حقيقة كما أضاف الله إليه الفعل في كتابه كله والله هو الذي جعله فاعلا فإذا شهد نفسه فاعلا حقيقة وشهد فاعليته بالله ومن الله لا من نفسه : فلا ذنب في هذا الشهود ولا زور بحمد الله وهو نظر بمجموع عينيه إلى السبب والمسبب والشرع والقدر والخلق والأمر وأنه متى شهد نفسه عاصيا مخالفا مذنبا : كان عاصيا بهذا الشهود لأن الفاعل فيه غيره وهذا مناف للعبودية أشد منافاة وهو من سير القوم إلى شهود الحقيقة الكونية واعتقادهم : أنه غاية السالكين
فإن قيل : الشيخ ههنا ما نطق بلسان الأبرار وإنما نطق بلسان المقربين ولا ريب أن حسنات الأبرار سيئات المقربين ولسنا نريد أن شهود فعله ذنب

في الشرع بل يكون حسنة كما ذكرتم لكن هو حسنة للبر ذنب للمقرب فإن نصيب البر من السيئة : ما جاء به العلم ونصيب المقرب : ما جاءت به المعرفة التي هي أخص من العلم قيل : هذا أيضا باطل قطعا فإن المعرفة الصحيحة : مطابقة للحق في نفسه شرعا وقدرا ومخالف ذلك فمعرفة فاسدة والحق في نفس الأمر : نسبة الأفعال إلى الفاعلين قياما ومباشرة وصدورا منهم وذلك محل الأمر والنهي والثواب والعقاب والقدح في ذلك مستلزم لإبطال الشرع والجزاء فإن الشرع إنما أمر بأفعالنا ونهى عنها والجزاء إنما ترتب عليها فشهود أفعالنا كذلك من تمام الإيمان بالشرع والجزاء ونسبتها إلى الرب تعالى قضاء وقدرا وخلقا للأسباب التي منها إرادتنا وقدرتنا فلم يجبرنا عليها ولم يكرهنا بل خلقها بما أعطانا من القدرة والإرادة اللتين هما من أسباب الفعل
فهذا المشهد يحقق عبودية إياك نستعين والمشهد الأول : يحقق عبودية إياك نعبد وهما يحققان مشهدي : فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاوما تشاءون إلا أن يشاء الله الإنسان : 2930 وقوله : لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين التكوير : 2829 وما جاء به العلم لا يناقض ما جاءت به المعرفة بل المعرفة روح العلم ولبه وكماله وحقيقتها : العلم الذي أثمر لصاحبه مقصوده ولسان الأبرار لا يخالف لسان المقربين إنما يخالف لسان الفجار نعم لسان المقربين أعلى منه وأرفع على مقتضى أعمالهم وأحوالهم فنسبته إليه : كنسبة مقام التوكل إلى الرضى والرضى إلى الحمد والشكر
فإن قيل : كلامكم هذا بلسان العلم ولو تكلمتم بلسان الحال لعلمتم صحة ما ذكرناه فإن صاحب الحال صاحب شهود وصاحب العلم صاحب غيبة

والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ونحن نشير إليكم إشارة حالية علمية تنزلا من الحال إلى العلم فنقول : الحال تأثر عن نور من أنوار الأحدية والفردانية يستر العبد عن نفسه ويبدي ظهور مشهوده ولا ريب أن في هذا الحال قد يعتقد أن الشاهد هو المشهود حتى قال أبو يزيد في مثل هذا الحال : سبحاني سبحاني وما في الجبة إلا الله ولا شك أن هذا الاعتقاد زور وإن كان سببه نور من أنوار الأحدية وصاحبه معذور ما دام مستورا عن نفسه بوارده فإذا رد إلى رسمه وعقله وحسه : حال ذلك الحال وزال وعلم صاحبه أنه كان زورا حيث ظن أن الشاهد هو المشهود فإن أنكرتم ذلك فلا كلام معكم وإن اعترفتم به حصل المقصود
فهذا معنى كون أصدق أحوال الصادق : زورا وإذا عرف هذا في الحال : عرف مثله في كون أحسن أعماله : ذنبا فإنه لصدقه في الطلب وبذله الجهد في العمل واستفراغه الوسع فيه يغيب بذلك عن شهود الحقيقة الكونية وأن المحرك له سواه وأنه آلة ومجرى للمشيئة وأن نفسه أعجز وأضعف من أن يكون لها أو بها أو منها : فعل أو إرادة أو حركة فإذا رجع إلى الحقيقة فشهد منة الله عليه وأنه هو المحرك له وأن مشيئته هي التي أوجبت سعيه : رأى أحسن أعماله : ذنبا بهذا الاعتبار
وأما رؤيته أصفى قصوده : قعودا فلأن القاصد إلى الحقيقة متى شهد مقصوده : قعد عن قصده فإن المقصود المراد : أقرب إلى اللسان من نطقه وإلى القلب من قصده فالقصد إليه : هو عين القعود عن القصد لأن القصد إنما يكون لبعيد عن القاصد أما من هو أقرب إلى القاصد من ذاته : فمتى شاهد القاصد الحقيقة : علم أن قصده عين القعود عن قصده والعبارة تزيد هذا المعنى جفوة والحوالة فيه على الحال والذوق

فالجواب أن يقال : من أحالك على الحال فما أنصفك فإنه أحالك على أمر مشترك بين الحق والباطل فإن كل من اعتقد شيئا وطلبه طلبا صادقا واستفرغ وسعه في الوصول إليه : كان له لا محالة فيه حال ليست لغيره بحسب صدقه في طلبه وجمع همته وقصده عليه وهذا يكون للأبرار والفجار بل لأولياء الله وأعدائه فيكون الرجل له شهود بمشهوده وحال في طلبه لا يوجب كونه حقاولا باطلا فإن كل من اعتقد عقيدة وارتاض وصقل قلبه بأنواع الرياضة وجزم بما اعتقده : تجلت له صورة معتقده في عالم نفسه فيظن ذلك كشفا صحيحا وإن كان صادقا في طلبه وحبه لما اعتقده : كان له فيه حال وتأثير بحسبه فالحوالة على الحال حوالة مفلس من العلم على غير مليء به
ومن ههنا دخل الداخل على أكثر السالكين وانعكس سيرهم حيث أحالوا العلم على الحال وحكموه عليه
وسير أولياء الله وعباده الأبرار والمقربين : بخلاف هذا وهو إحالة الحال على العلم وتحكيمه عليه وتقديمه ووزنه به وقبول حكمه فإن وافقه العلم وإلا كان حالا فاسدامنحرفاعن أحوال الصادقين بحسب بعده عن العلم فالعلم حاكم والحال محكوم عليه والعلم راع والحال من رعيته فمن لم يكن هذا أصل بناء سلوكه فسلوكه فاسد وغايته : الانسلاخ من العلم والدين كما جرى ذلك لمن جرى له وبالله المستعان
ونحن لا ننكر ما ذكرتم من غيبة الشاهد بمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته وبمحبوبه عن حبه لكن ننكر كون هذا أكمل حالا من صاحب البقاء والتمييز وشهود الحقائق على ما هي عليه فلا يحتاج أن يشهد حاله زورا لأنه لم يحصل له ما حصل لصاحب السكر والاصطلام من الزور فهو أكمل منه حقيقة وشرعا

وأما الغائب عن الحقيقة الكونية بشهود فعله : فإنه متى صحبه استصحاب عقد التوحيد وأن مصدر كل شيء مشيئة الله وحده وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يتحرك متحرك في ظاهره أو باطنه إلا به سبحانه : فلا تضره الغيبة عن هذا المشهد باستغراقه في القصد والطلب والفعل إذ حكمه جار عليه في هذه الحال وليس ضيق قلبه عن استحضار ذلك وقت استجماع إرادته وفعله وطلبه : ذنبا لا للخاصة ولا للعامة ولا بالنسبة إلى مقامه أيضا فإن الذنب تعمد مخالفة الأمر وهذا ليس كذلك ولا هو مطالب بالغيبة عن شهود الحقيقة والفناء فيها عن شهود الفعل وقيامه به مع اعتقاد أنه بمشيئة الله وحوله وقوته
وأما ما ذكرتم من أن مشاهدة القرب تجعل القصد قعودا : فكلام له خبىء وقد أفصح عنه بعض المغرورين المخدوعين بقوله :
ما بال عينك لا يقر قرارها ... وإلام ظلك لا ينى متنقلا فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا
وكأن صاحبه يشير إلى أنه وجود قلبه ولسانه ووجوده أقرب إليه من إرادته ولطفه هذا خبىء هذا الكلام وتعالى الله عن إلحاد هذا وأمثاله وإفكهم علوا كبيرا بل هو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه
وأما ما ذكرتم من القرب : فإن أردتم عموم قربه إلى كل لسان من نطقه وإلى كل قلب من قصده : فهذا لو صح لكان قرب قدرة وعلم وإحاطة لا قربا بالذات والوجود فإنه سبحانه لا يمازج خلقه ولا يخالطهم ولا يتحد بهم مع أن هذا المعنى لم يرد عن الله ورسوله ولا عن أحد من السلف الأخيار تسميته قربا ولم يجىء القرب في القرآن والسنة قط إلا خاصا كما تقدم
وإن أردتم القرب الخاص إلى اللسان والقلب : فهذا قرب المحبة وقرب الرضى والأنس كقرب العبد من ربه وهو ساجد وهو نوع آخر من القرب

لا مثال له ولا نظير فإن الروح والقلب يقربان من الله وهو على عرشه والروح والقلب في البدن وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك
وهذا القرب لا ينافي القصد والطلب بل هو مشروط بالقصد فيستحيل وجوده بدونه وكلما كان الطلب والقصد أتم : كان هذا القرب أقوى
فإن قيل : فكيف تصنعون بقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ق : 16 قيل : هذه الآية فيها قولان للناس
أحدهما : أنه قربه بعلمه ولهذا قرنه بعلمه بوسوسة نفس الإنسان و حبل الوريد حبل العنق وهو عرق بين الحلقوم والودجين الذي متى قطع مات صاحبه وأجزاء القلب وهذا الحبل يحجب بعضها بعضا وعلم الله بأسرار العبد وما في ضميره لا يحجبه شيء والقول الثاني : أنه قربه من العبد بملائكته الذين يصلون إلى قلبه فيكون أقرب إليه من ذلك العرق اختاره شيخنا
وسمعته يقول : هذا مثل قوله : نحن نقص عليك أحسن القصص يوسف : 3 وقوله : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه القيامة : 18 فإن جبريل عليه السلام هو الذي قصه عليه بأمر الله فنسب تعليمه إليه إذ هو بأمره وكذلك جبريل هو الذي قرأه عليه كما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية : فإذا قرأه رسولنا فأنصت لقراءته حتى يقضيها
قلت : أول الآية يأبى ذلك فإنه قال : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ق : 16 قال : وكذلك خلقه للإنسان إنما هو بالأسباب وتخليق الملائكة قلت : وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه في تخليق النطفة : فيقول الملك الذي يخلقه : يارب ذكر أم أنثى أسوى أم غير سوى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك فهو سبحانه الخالق وحده ولا ينافي ذلك

استعمال الملائكة بإذنه ومشيئته وقدرته في التخليق فإن أفعالهم وتخليقهم خلق له سبحانه فما ثم خالق على الحقيقة غيره
والمقصود : أن هذا موضع ضلت فيه أفهام وزلت فيه أقدام واشتبهت فيه معية العلم والقدرة والإحاطة بالقرب واشتبهت فيه آثار قرب المحبة والرضى والموافقة وغلبة ذكره ومراقبته بقرب ذاته واشتبه فيه ما في الذهن بما في الخارج واشتبه اضمحلال شهود الرسم وانمحاؤه من القلب بعدمه وفنائه واشتبهت فيه آثار الصفات بحقيقتها وأنوار المعرفة بأنوار الذات وأصحابه لتحكيمهم الحال والذوق لا يلتفتون إلى لسان العلم ولا يصغون إليه وفي هذا كفاية والله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإيثار قال الله تعالى
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون الحشر : 9 فالإيثار ضد الشح فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه والشحيح : حريص على ما ليس بيده فإذا حصل بيده شيء شح عليه وبخل بإخراجه فالبخل ثمرة الشح والشح يأمر بالبخل كما قال النبي : إياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا فالبخيل : من أجاب داعي الشح والمؤثر : من أجاب داعي الجود كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء وهو أفضل من سخاء البذل قال عبدالله بن المبارك : سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل

وهذا المنزل : هو منزل الجود والسخاء والإحسان وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه فإن المراتب ثلاثة إحداها : أن لا ينقصه البذل ولا يصعب عليه فهو منزلة السخاء الثانية : أن يعطي الأكثر ويبقي له شيئا أو يبقى مثل ما أعطى فهو الجود الثالثة : أن يؤثر غيره بالشئ مع حاجته إليه وهي مرتبة الإيثار وعكسها الأثرة وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله للأنصار رضي الله عنهم : إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض والأنصار : هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة الحشر : 9 فوصفهم بأعلى مراتب السخاء وكان ذلك فيهم معروفا وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين حتى إنه مرض مرة فاستبطأ إخوانه في العيادة فسأل عنهم فقالوا : إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين فقال : أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة ثم أمر مناديا ينادي : من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة من عاده
وقالوا له يوما : هل رأيت أسخى منك قال : نعم نزلنا بالبادية على امرأة فحضر زوجها فقالت : إنه نزل بك ضيفان فجاء بناقة فنحرها وقال : شأنكم فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها فقلنا : ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير فقال : إني لا أطعم ضيفاني البائت فبقينا عنده يومين أو ثلاثة والسماء تمطر وهو يفعل ذلك فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته وقلنا للمرأة : اعتذري لنا إليه ومضينا فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا : قفوا أيها الركب اللئام أعطيتموني ثمن قراي ثم إنه لحقنا وقال : لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي فأخذناه وانصرف

فتأمل سر التقدير حيث قدر الحكيم الخبير سبحانه استئثار الناس على الأنصار بالدنيا وهم أهل الإيثار ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك مع كونك من أهل الإيثار فاعلم أنه لخير يراد بك والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل و الجود عشر مراتب أحدها : الجود بالنفس وهو أعلى مراتبه كما قال
الشاعر :
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود الثانية : الجود بالرياسة وهو ثاني مراتب الجود فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته والجود بها والإيثار في قضاء حاجات الملتمس الثالثة : الجود براحته ورفاهيته وإجمام نفسه فيجود بها تعباوكدا في مصلحة غيره ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره كما قيل :
متيم بالندى لو قال سائله ... هب لي جميع كرى عينيك لم ينم الرابعة : الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود والجود به أفضل من الجود بالمال لأن العلم أشرف من المال
والناس في الجود به على مراتب متفاوتة وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ : أن لاينفع به بخيلا أبدا ومن الجود به : أن تبذله لمن يسألك عنه بل تطرحه عليه طرحا ومن الجود بالعلم : أن السائل إذا سألك عن مسألة : استقصيت له جوابها

جوابا شافيا لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا نعم أو لا مقتصرا عليها
ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في ذلك أمرا عجيبا : كان إذا سئل عن مسألة حكمية ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قدر ومأخذ الخلاف وترجيح القول الراجح وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته فيكون فرحه بتلك المتعلقات واللوازم : أعظم من فرحه بمسألته وهذه فتاويه رحمه الله بين الناس فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك فمن جود الإنسان بالعلم : أنه لا يقتصر على مسألة السائل بل يذكر له نظائرها ومتعلقها ومأخذها بحيث يشفيه ويكفيه وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي عن المتوضىء بماء البحر فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته فأجابهم عن سؤالهم وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه
وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال : أينقص الرطب إذا جف قالوا : نعم قال : فلا إذن ولم يكن يخفى عليه نقصان الرطب بجفافه ولكن نبههم على علة الحكم وهذا كثير جدا في أجوبته مثل قوله : إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق وفي لفظ : أرأيت إن منع الله الثمرة : بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق فصرح بالعلة التي يحرم لأجلها إلزامه بالثمن وهي منع الله الثمرة التي ليس للمشتري فيها صنع
وكان خصومه يعني شيخ الإسلام ابن تيمية يعيبونه بذلك ويقولون :

سأله السائل عن طريق مصر مثلا فيذكر له معها طريق مكة والمدينة وخراسان والعراق والهند وأي حاجة بالسائل إلى ذلك
ولعمر الله ليس ذلك بعيب وإنما العيب : الجهل والكبر وهذا موضع المثل المشهور :
لقبوه بحامض وهو خل ... مثل من لم يصل إلى العنقود الخامسة : الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد كما أن التعليم وبذل العلم زكاته السادسة : الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه كما قال : يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين اثنين : صدقة ويعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه : صدقة والكلمة الطيبة : صدقة وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة : صدقة ويميط الأذى عن الطريق : صدقة متفق عليه السابعة : الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضى الله عنهم كان إذا أصبح قال : اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي فمن شتمني أو قذفني : فهو في حل فقال النبي : من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم
وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه الثامنة : الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء وهذه مرتبة شريفة من مراتبه وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال وأعز له وأنصر وأملك لنفسه وأشرف لها ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة وهذا جود الفتوة قال تعالى : والجروح قصاص

فمن تصدق به فهو كفارة له المائدة : 45 وفي هذا الجود قال تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين الشورى : 40 فذكر المقامات الثلاثة في هذه الآية : مقام العدل وأذن فيه ومقام الفضل وندب إليه ومقام الظلم وحرمه التاسعة : الجود بالخلق والبشر والبسطة وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم وهو أثقل ما يوضع في الميزان قال النبي : لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه وفي هذا الجود من المنافع والمسار وأنواع المصالح ما فيه والعبد لا يمكنه أن يسع الناس بحاله ويمكنه أن يسعهم بخلقه واحتماله العاشرة : الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه ولا يستشرف له بقلبه ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه وهذا الذي قال عبدالله ابن المبارك : إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل
فلسان حال القدر يقول للفقير الجواد : وإن لم أعطك ما تجود به على الناس فجد عليهم بزهدك في أموالهم وما في أيديهم تفضل عليهم وتزاحمهم في الجود وتنفرد عنهم بالراحة
ولكل مرتبة من مراتب الجود مزيدوتأثير خاص في القلب والحال والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك والله المستعان

فصل قال صاحب المنازل رحمه الله : الإيثار : تخصيص واختيار والأثرة :
تحسن طوعا وتصح كرها فرق الشيخ بين الإيثار و الأثرة وجعل الإيثار اختيارا و الأثرة منقسمة إلى اختيارية واضطرارية وبالفرق بينهما يعلم معنى كلامه

فإن الإيثار هو البذل وتخصيصك لمن تؤثره على نفسك وهذا لا يكون إلااختيارا
وأما الأثرة فهي استئثار صاحب الشيء به عليك وحوزه لنفسه دونك فهذه لا يحمد عليها المستأثر عليه إلا إذا كانت طوعا مثل أن يقدر على منازعته ومجاذبته فلا يفعل ويدعه وأثرته طوعا فهذا حسن وإن لم يقدر على ذلك كانت أثرة كره
ويعني بالصحة : الوجود أي توجد كرها ولكن إنما تحسن إذا كانت طوعا من المستأثر عليه فحقيقة الإيثار بذل صاحبه وإعطاؤه و الأثرة استبداله هو بالمؤثر به فيتركه وما استبدل به : إما طوعا وإما كرها فكأنك آثرته باستئثاره حيث خليت بينه وبينه ولم تنازعه
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله فالسمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره : لهم معه ومع الأئمة بعده والأثرة : عدم منازعة الأمر مع الأئمة بعده خاصة فإنه لم يستأثر عليهم

فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : أن تؤثر الخلق
على نفسك فيما لا يحرم عليك دينا ولا يقطع عليك طريقا ولا يفسد عليك وقتا
يعني : أن تقدمهم على نفسك في مصالحهم مثل أن تطعمهم وتجوع وتكسوهم وتعرى وتسقيهم وتظمأ بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدين ومثل أن تؤثرهم بمالك وتقعد كلا مضطرا

مستشرفا للناس أو سائلا وكذلك إيثارهم بكل ما يحرمه على المؤثر دينه فإنه سفه وعجز يذم المؤثر به عند الله وعند الناس وأما قوله : ولا يقطع عليك طريقا أي لا يقطع عليك طريق الطلب والمسير إلى الله تعالى مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار فيكون مثلك كمثل مسافر سائر على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخد يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى فإيثارهم عليه عين الغبن وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره وما أقل المؤثرين الله على غيره
وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضا مثل أن يؤثر بوقته ويفرق قلبه في طلب خلفه أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته ويشتت خاطره فهذا أيضا إيثار غير محمود
وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع واشتغال القلب بالله ونظائر ذلك لا تخفى بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله : فلا تؤثر به أحدا فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله وأنت لا تعلم وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم وأي جهالة وسفه فوق هذا
ومن هذا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب وقالوا : إنه مكروه أو حرام كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة أو يؤثره بعلم يحرمه نفسه ويرفعه عليه فيفوز به دونه

وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله في حجرتها وأجابوا عنه بأن الميت ينقطع عمله بموته وبقربه فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت إذ لا تقرب في حق الميت وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها فالإيثار به قربة إلى الله عز و جل للمؤثر والله أعلم

فصل قال : ولا يستطاع إلا بثلاثة أشياء : بتعظيم الحقوق ومقت الشح
والرغبة في مكارم الأخلاق ذكر ما يعين على الإيثار فيبعث عليه وهو ثلاثة أشياء تعظيم الحقوق فإن من عظمت الحقوق عنده قام بواجبها ورعاها حق رعايتها واستعظم إضاعتها وعلم أنه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطا لأدائها الثاني : مقت الشح فإنه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار فإنه يرى أنه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلا بالإيثار الثالث : الرغبة في مكارم الأخلاق وبحسب رغبته فيها : يكون إيثاره لأن الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق
فصل قال : الدرجة الثانية : إيثار رضى الله على رضى غيره وإن عظمت
فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطول والبدن
إيثار رضى الله عز و جل على غيره : هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه وأعلاها لأولى العزم منهم وأعلاها لنبينا وعليهم

فإنه قاوم العالم كله وتجرد للدعوة إلى الله واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى وآثر رضى الله على رضى الخلق من كل وجه ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم بل كان همه وعزمه وسعيه كله مقصورا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته وإعلاء كلماته وجهاد أعدائه حتى ظهر دين الله على كل دين وقامت حجته على العالمين وتمت نعمته على المؤمنين فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال صلوات الله وسلامه عليه وأما قوله : وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن
فإن المحنة تعظم فيه أولا ليتأخر من ليس من أهله فإذا احتملها وتقدم انقلبت تلك المحن منحا وصارت تلك المؤن عونا وهذا معروف بالتجربة الخاصة والعامة فإنه ما آثر عبد مرضاة الله عز و جل على مرضاة الخلق وتحمل ثقل ذلك ومؤنته وصبر على محنته : إلا أنشأ الله من تلك المحنة والمؤنة نعمة ومسرة ومعونة بقدر ما تحمل من مرضاته فانقلبت مخاوفه أمانا ومظان عطبه نجاة وتعبه راحة ومؤنته معونة وبليته نعمة ومحنته منحة وسخطه رضى فيا خيبة المتخلفين ويا ذلة المتهيبين
هذا وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته : أن يسخط عليه من آثر رضاه ويخذله من جهته ويجعل محنته على يديه فيعود حامده ذاما ومن آثر مرضاته ساخطا فلا على مقصوده منهم حصل ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل وهذا أعجز الخلق وأحمقهم
هذا مع أن رضى الخلق : لا مقدور ولا مأمور ولا مأثور فهو مستحيل بل لا بد من سخطهم عليك فلأن يسخطوا عليك وتفوز برضى الله عنك أحب إليك وأنفع لك من أن يسخوا عليك والله عنك غير راض فإذا كان سخطهم لابد منه على التقديرين فآثر سخطهم الذي ينال به رضي الله فإن هم رضوا

عنك بعد هذا وإلا فأهون شيء رضى من لا ينفعك رضاه ولا يضرك سخطه في دينك ولا في إيمانك ولا في آخرتك فإن ضرك في أمر يسير في الدنيا فمضرة سخط الله أعظم وأعظم وخاصة العقل : احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما فوازن بعقلك ثم انظر أي الأمرين وأيهما خير فآثره وأيهما شر فابعد عنه فهذا برهان قطعي ضروري في إيثار رضي الله على رضى الخلق
هذا مع أنه إذا آثر رضى الله كفاه الله مؤنة غضب الخلق وإذا آثر رضاهم لم يكفوه مؤنة غضب الله عليه
قال بعض السلف : لمصانعة وجه واحد أيسر عليك من مصانعة وجوه كثيرة إنك إذا صانعت ذلك الوجه الواحد كفاك الوجوه كلها
وقال الشافعي رضي الله عنه : رضى الناس غاية لا تدرك فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمه
ومعلوم : أنه لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضى ربها ومولاها على غيره ولقد أحسن أبو فراس في هذا المعنى إلا أنه أساء كل الإساءة في قوله إذ يقوله لمخلوق لا يملك له ولا لنفسه نفعا ولا ضرا :
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب
ثم ذكر الشيخ رحمه الله ما يستطاع به هذا الإيثار العظيم الشأن فقال : ويستطاع هذا بثلاثة أشياء : بطيب العود وحسن الإسلام وقوة الصبر من المعلوم : أن المؤثر لرضى الله متصد لمعاداة الخلق وأذاهم وسعيهم في إتلافه ولابد هذه سنة الله في خلقه وإلا فما ذنب الأنبياء والرسل والذين يأمرون بالقسط من الناس والقائمين بدين الله الذابين عن كتابه وسنة رسوله عندهم

فمن آثر رضى الله فلابد أن يعاديه رذالة العالم وسقطهم وغرثاهم وجهالهم وأهل البدع والفجور منهم وأهل الرياسات الباطلة وكل من يخالف هديه هديه فما يقدم على معاداة هؤلاء إلا طالب الرجوع إلى الله عامل على سماع خطاب : يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية الفجر : 2728 ومن إسلامه صلب كامل لا تزعزعه الرجال ولا تقلقله الجبال ومن عقد عزيمة صبره محكم لا تحله المحن والشدائد والمخاوف
قلت : وملاك ذلك أمران : الزهد في الحياة والثناء فما ضعف من ضعف وتأخر من تأخر إلا بحبه للحياة والبقاء وثناء الناس عليه ونفرته من ذمهم له فإذا زهد في هذين الشيئين تأخرت عنه العوارض كلها وانغمس حينئذ في العساكر وملاك هذين الشيئين بشيئين : صحة اليقين وقوة المحبة وملاك هذين بشيئين أيضا : بصدق اللجإ والطلب والتصدي للأسباب الموصلة إليهما فإلى ههنا تنتهي معرفة الخلق وقدرتهم والتوفيق بعد بيد من أزمة الأمور كلها بيده وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما الإنسان : 3031

فصل قال : الدرجة الثالثة : إيثار إيثار الله فإن الخوض في الإيثار
دعوى في الملك ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله ثم غيبتك عن الترك
يعني بإيثار إيثار الله : أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك وأنه هو الذي تفرد بالإيثار لا أنت فكأنك سلمت الإيثار إليه فإذا آثرت غيرك بشيء فإن الذي آثره هو الحق لا أنت فهو المؤثر حقيقة إذ هو المعطي حقيقة

ثم بين الشيخ السبب الذي يصح به نسبة الإيثار إلى الله وترك نسبته إلى نفسك فقال : فإن الخوض في الإيثار : دعوى في الملك فإذا ادعى العبد : أنه مؤثر فقد ادعى ملك ما آثر به غيره والملك في الحقيقة : إنما هو لله الذي له كل شيء فإذا خرج العبد عن دعوى الملك فقد آثر إيثار الله وهو إعطاؤه على إيثار نفسه وشهد أن الله وحده هو المؤثر بملكه وأما من لا ملك له : فأي إيثار له وقوله : ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله
يعني أنك إذا آثرت إيثار الله بتسليمك معنى الإيثار إليه : بقيت عليك من نفسك بقية أخرى لابد من الخروج عنها وهي أن تعرض عن شهودك رؤيتك أنك آثرت الحق بإيثارك وأنك نسبت الإيثار إليه لا إليك فإن في شهودك ذلك ورؤيتك له : دعوى أخرى هي أعظم من دعوى الملك وهي أنك ادعيت أن لك شيئا آثرت به الله وقدمته على نفسك فيه بعد أن كان لك وهذه الدعوى أصعب من الأولى فإنها تتضمن ما تضمنته الأولى من الملك وتزيد عليها برؤية الإيثار به فالأول : مدع للملك مؤثر به وهذا مدع للملك ومدع للإيثار به فإذن يجب عليه ترك شهود رؤيته لهذا الإيثار فلا يعتقد أنه آثر الله بهذا الإيثار بل الله هو الذي استأثر به دونك فإن الأثرة واجبة له بإيجابه إياها بنفسه لا بإيجاب العبد إياها له
قوله : ثم غيبتك عن الترك يريد : أنك إذا نزلت هذا الشهود وهذه الرؤية : بقيت عليك بقية أخرى وهي رؤيتك لهذا الترك المتضمنة لدعوى ملكك للترك وهي دعوى كاذبة إذ ليس للعبد شيء من الأمر ولا بيده فعل ولا ترك وإنما الأمر كله لله
وقد تبين في الكشف والشهود والعلم والمعرفة : أن العبد ليس له شيء أصلا والعبد لا يملك حقيقة إنما المالك بالحقيقة سيده فالأثرة والإيثار والاستئثار كلها

لله ومنه وإليه سواء اختار العبد ذلك وعلمه أو جهله أم لم يختره فالأثرة واقعة كره العبد أم رضي فإنها استئثار المالك الحق بملكه تعالى وقد فهمت من هذا قوله : فإن الأثرة تحسن طوعا وتصح كرها والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الخلق
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم وإنك لعلى خلق عظيم القلم : 4 قال ابن عباس ومجاهد : لعلى دين عظيم لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام
وقال الحسن رضي الله عنه : هو آداب القرآن وقال قتادة : هو ما كان يأمر به من أمر الله وينهى عنه من نهى الله والمعنى : إنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن وفي الصحيحين : أن هشام بن حكيم : سأل عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله فقالت : كان خلقه القرآن فقال : لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئا وقد جمع الله له مكارم الأخلاق في قوله تعالى : خذ العفو واءمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين الأعراف : 199 قال جعفر بن محمد : أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية وقد ذكر : أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله لجبريل : ما هذا قال : لا أدري حتى أسأل فسأل ثم رجع إليه فقال : إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ولا ريب أن للمطاع مع الناس ثلاثة أحوال : أحدها : أمرهم ونهيهم بما فيه مصلحتهم الثاني : أخذه منهم ما يبذلونه مما عليهم من الطاعة

الثالث : أن الناس معه قسمان : موافق له موال ومعاد له معارض وعليه في كل واحد من هذه واجب فواجبه في أمرهم ونهيهم : أن يأمر بالمعروف وهو المعروف الذي به صلاحهم وصلاح شأنهم وينهاهم عن ضده وواجبه فيما يبذلونه له من الطاعة : أن يأخذ منهم ما سهل عليهم وطوعت له به أنفسهم سماحة واختيارا ولا يحملهم على العنت والمشقة فيفسدهم وواجبه عند جهل الجاهلين عليه : الإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالمثل والانتقام منهم لنفسه فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين الأعراف : 199 قال عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما : أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وقال مجاهد : يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس مثل قبول الأعذار والعفو والمساهلة وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقاقق بواطنهم
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : خذ ما عفا لك من أموالهم وهو الفاضل عن العيال وذلك معنى قوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل : العفو البقرة : 219
ثم قال تعالى : وأمر بالعرف وهو كل معروف وأعرفه : التوحيد ثم حقوق العبودية وحقوق العبيد ثم قال تعالى وأعرض عن الجاهلين يعني إذا سفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه كقوله تعالى : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما الفرقان : 63 وعلى هذا فليست بمنسوخة بل يعرض عنه مع إقامة حق الله عليه ولا ينتقم لنفسه وهكذا كان خلقه قال أنس رضي الله عنه : كان رسول الله أحسن الناس خلقا وقال : ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله ولا شممت رائحة قط أطيب

من رائحة رسول الله ولقد خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي قط : أف ولا قال لشيء فعلته : لم فعلته ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلت كذا متفق عليهما
وأخبر رسول الله : أن البر : هو حسن الخلق
وفي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : سألت رسول الله عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس
فقابل البر بالإثم وأخبر : أن البر حسن الخلق والإثم : حواز الصدور وهذا يدل على أن حسن الخلق : هو الدين كله وهو حقائق الإيمان وشرائع الإسلام ولهذا قابله بالإثم وفي حديث آخر : البر : ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في الصدر وقد فسر حسن الخلق بأنه البر فدل على أن حسن الخلق : طمأنينة النفس والقلب والإثم حواز الصدور وما حاك فيها واسترابت به وهذا غير حسن الخلق وسوئه في عرف كثير من الناس كما سيأتي في الصحيحين عن رسول الله : خياركم : أحاسنكم أخلاقا
وفي الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي : ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء قال الترمذي : حديث حسن صحيح
وفيه أيضا وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال : تقوى الله وحسن الخلق وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال : الفم والفرج
وفيه أيضا عن عائشة رضي الله عنها عن النبي وصححه إن من أكمل المؤمنين إيمانا : أحسنهم خلقا وخياركم : خياركم لنسائهم

وفي الصحيح عن عائشة عنه : إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم رواه أبو داود وعن ابن عمر رضي الله عنهما عنه : أنا زعيم ببيت في ربض الجنة : لمن ترك المراء وإن كان محقا وببيت في وسط الجنة : لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ويبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه رواه الطبراني وإسناده صحيح فجعل البيت العلوي جزاء لأعلى المقامات الثلاثة وهي حسن الخلق والأوسط لأوسطها وهو ترك الكذب والأدنى لأدناها وهو ترك المماراة وإن كان معه حق ولا ريب أن حسن الخلق مشتمل على هذا كله
وفي الترمذي عن جابر رضي الله عنه عنه : إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة : أحاسنكم أخلاقا وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة : الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون قالوا : يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون قال : المتكبرون الثرثار : هو كثير الكلام بغير فائده دينية والمتشدق : المتكلم بملء فيه تفاصحا وتعاظما وتطاولا وإظهارا لفضله على غيره وأصله : من الفهق وهو الامتلاء

فصل الدين كله خلق فمن زاد عليك في الخلق : زاد عليك في الدين
وكذلك التصوف قال الكتاني : التصوف هو الخلق فمن زاد عليك في الخلق : فقد زاد عليك في التصوف وقد قيل : إن حسن الخلق بذل الندى وكف الأذى واحتمال الأذى وقيل : حسن الخلق : بذل الجميل وكف القبيح وقيل : التخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل

وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها : الصبر والعفة والشجاعة والعدل فالصبر : يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ وكف الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة والعفة : تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة
والشجاعة : تحمله على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته وتحمله على كظم الغيظ والحلم فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنائها ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش كما قال : ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد : الذي يملك نفسه عند الغضب وهوحقيقة الشجاعة وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه
والعدل : يحمله على اعتدال أخلاقه وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان : الجهل والظلم والشهوة والغضب فالجهل : يريه الحسن في صورة القبيح والقبيح في صورة الحسن والكمال نقصا والنقص كمالا والظلم : يحمله على وضع الشيء في غير موضعه فيغضب في موضع الرضى

ويرضى في موضع الغضب ويجهل في موضع الأناة ويبخل في موضع البذل ويبذل في موضع البخل ويحجم في موضع الإقدام ويقدم في موضع الإحجام ويلين في موضع الشدة ويشتد في موضع اللين ويتواضع في موضع العزة ويتكبر في موضع التواضع
والشهوة : تحمله على الحرص والشح والبخل وعدم العفة والنهمة والجشع والذل والدناءات كلها والغضب : يحمله على الكبر والحقد والحسد والعدوان والسفه ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق : أخلاق مذمومة وملاك هذه الأربعة أصلان : إفراط النفس في الضعف وإفراطها في القوة
فيتولد من إفراطها في الضعف : المهانة والبخل والخسة واللؤم والذل والحرص والشح وسفساف الأمور والأخلاق ويتولد من إفراطها في القوة : الظلم والغضب والحدة والفحش والطيش ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر : أولاد غية كثيرون فإن النفس قد تجمع قوة وضعفا فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر وأذلهم إذا قهر ظالم عنوف جبار فإذا قهر صار أذل من امرأة : جبان عن القوي جريء على الضعيف فالأخلاق الذميمة : يولد بعضها بعضا كما أن الأخلاق الحميدة : يولد بعضها بعضا
وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما وطرفاه خلقان ذميمان كالجود : الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير والتواضع : الذي يكتنفه خلقا الذل والمهانة والكبر والعلو
فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت : إما إلى كبر وعلو وإما إلى ذل ومهانة وحقارة وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت : إما إلى قحة

وجرأة وإما إلى عجز وخور ومهانة بحيث يطمع في نفسه عدوه ويفوته كثير من مصالحه ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس
وكذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت : إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط وإما إلى غلظة كبد وقسوة قلب وتحجر طبع كما قال بعضهم :
تبكي علينا ولا نبكي على أحد ... فنحن أغلظ أكبادا من الإبل
وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت : إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة وإما إلى الذل والمهانة والحقارة ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف كما قيل :
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجىء إليها اللئام وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت : إما إلى عجلة وطيش وعنف وإما إلى تفريط وإضاعة والرفق والأناة بينهما وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين انحرفت : إما إلى كبر وإما إلى ذل والعزة المحمودة بينهما وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت : إما إلى تهور وإقدام غير محمود وإما إلى جبن وتأخر مذموم وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة انحرفت : إما إلى حسد وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون
وإذا انحرفت عن القناعة انحرفت : إما إلى حرص وكلب وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت : إما إلى قسوة وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس كمن لا يقدم على ذبح شاة ولا إقامة حد وتأديب ولد

ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك وقد ذبح أرحم الخلق بيده في موضع واحد ثلاثا وستين بدنة وقطع الأيدي من الرجال والنساء وضرب الأعناق وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم
وكذلك طلاقة الوجه والبشر المحمود فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد وطي البشر عن البشر وبين الاسترسال مع كل أحد بحيث يذهب الهيبة ويزيل الوقار ويطمع في الجانب كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة والنفرة في قلوب الخلق
وصاحب الخلق الوسط : مهيب محبوب عزيز جانبه حبيب لقاؤه وفي صفة نبينا : من رآه بديهة هابه ومن خالطه عشرة أحبه والله أعلم

فصل نافع جدا عظيم النفع للسالك يوصله عن قريب ويسيره بأخلاقه التي
لا يمكنه إزالتها فإن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية : تغيير الأخلاق التي طبعت النفوس عليها وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ولم يظفر أكثرهم بتبديلها لكن النفس اشتغلت بتلك الرياضات عن ظهور سلطانها فإذا جاء سلطان تلك الأخلاق وبرز : كسر جيوش الرياضة وشتتها واستولى على مملكة الطبع
وهذا فصل يصل به السالك مع تلك الأخلاق ولا يحتاج إلى علاجها وإزالتها ويكون سيره أقوى وأجل وأسرع من سير العامل على إزالتها ونقدم قبل هذا مثلا نضربه مطابقا لما نريده وهو : نهر جار في صببه ومنحدره ومنته إلى تغريق أرض وعمران ودور وأصحابها يعلمون أنه لا ينتهي حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم وأموالهم فانقسموا ثلاث فرق

فرقة صرفت قواها وقوى أعمالها إلى سكره وحبسه وإيقافه فلا تصنع هذه الفرقة كبير أمر فإنه يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر فيكون إفساده وتخريبه أعظم
وفرقة رأت هذه الحالة وعلمت أنه لا يغنى عنها شيئا فقالت : لا خلاص من محذوره إلا بقطعه من أصل الينبوع فرامت قطعه من أصله فتعذر عليها ذلك غاية التعذر وأبت الطبيعة النهرية عليهم ذلك أشد الإباء فهم دائما في قطع الينبوع وكلما سدوه من موضع نبع من موضع فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزراعات والعمارات وغرس الأشجار فجاءت فرقة ثالثة خالفت رأي الفرقتين وعلموا أنهم قد ضاع عليهم كثير من مصالحهم فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى العمران فصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون به فصرفوه إلى أرض قابلة للنبات وسقوها به فأنبتت أنواع العشب والكلإ والثمار المختلفة الأصناف فكانت هذه الفرقة هم أصوب الفرق في شأن هذا النهر
فإذا تبين هذا المثل فالله سبحانه قد اقتضت حكمته : أن ركب الإنسان بل وسائر الحيوان على طبيعة محمولة على قوتين : غضبية وشهوانية وهي الإرادية وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها وهما مركوزتان في جبلة كل حيوان فبقوة الشهوة والإرادة : يجذب المنافع إلى نفسه وبقوة الغضب : يدفع المضار عنها فإذا استعمل الشهوة في طلب ما يحتاج إليه : تولد منها الحرص وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه : تولد منه القوة والغيرة فإذا عجز عن ذلك الضار : أورثه قوة الحقد وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبدا به أورثه الحسد فإن ظفر به : أورثته شدة شهوته وإرادته : خلق البخل والشح وإن اشتد حرصه وشهوته على الشيء ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها فيه : أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم ومنه يتولد : الكبر

والفخر والخيلاء فإنها أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب وتزوج أحدهما بصاحبه
فإذا تبين هذا : فالنهر مثال هاتين القوتين وهو منصب في جدول الطبيعة ومجراها إلى دور القلب وعمرانه وحواصله يخربها ويتلفها ولابد فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه فخرب ديار الإيمان وقلع آثاره وهدم عمرانه وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة من حنظل وضريع وشوك وزقوم وهو الذي يأكله أهل النار يوم القيامة يوم المعاد وأما النفوس الزكية الفاضلة : فإنها رأت ما يؤل إليه أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق فأصحاب الرياضات والمجاهدات والخلوات والتمرينات : راموا قطعه من ينبوعه فأبت عليهم ذلك حكمة الله تعالى وما طبع عليه الجبلة البشرية ولم تنقد له الطبيعة فاشتد القتال ودام الحرب وحمى الوطيس وصارت الحرب دولا وسجالا وهؤلاء صرفوا قواهم إلى مجاهدة النفس على إزالة تلك الصفات
وفرقة أعرضوا عنها وشغلوا نفوسهم بالأعمال ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات مع تخليتهم إياها على مجراها لكن لم يمكنوا نهرها من إفساد عمرانهم بل اشتغلوا بتحصين العمران وإحكام بنائه وأساسه ورأوا أن ذلك النهر لابد أن يصل إليه فإذا وصل وصل إلى بناء محكم فلم يهدمه بل أخذ عنه يمينا وشمالا فهؤلاء صرفوا قوة عزيمتهم وإرادتهم في العمارة وإحكام البناء وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفا من هدم البناء
وسألت يوما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وبتنظيفها فقال لي جملة كلامه : النفس مثل الباطوس وهو جب القذر كلما نبشته ظهر وخرج ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل

ولا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره وكلما نبشت شيئا ظهر غيره فقلت سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ فقال لي : مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها : انقطع ولم يمكنه السفر قط ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك
فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا وأثنى على قائله إذا تبين هذا فهذه الفرقة الثالثة : رأت أن هذه الصفات ما خلقت سدى ولا عبثا وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك والثمار والحطب وأنها صوان وأصداف لجواهر منطوية عليها وأن ما خاف منه أولئك هو نفس سبب الفلاح والظفر فرأوا أن الكبر نهر يسقي به العلو والفخر والبطر والظلم والعدوان ويسقي به علو الهمة والأنفة والحمية والمراغمة لأعداء الله وقهرهم والعلو عليهم وهذه درة في صدفته فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس واستخرجوا هذه الدرة من صدفته وأبقوه على حاله في نفوسهم لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع وقد رأى النبي أبا دجانة يتبختر بين الصفين فقال : إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع
فانظر كيف خلى مجرى هذه الصفة وهذا الخلق يجري في أحسن مواضعه وفي الحديث الآخر وأظنه في المسند : إن من الخيلاء ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله فالخيلاء التي يحبها الله : اختيال الرجل في الحرب وعند الصدقة فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودية وكيف استحال القاطع موصلا فصاحب الرياضات والعامل بطريق الرياضات والمجاهدات والخلوات : هيهات هيهات إنما يوقعه ذلك في الآفات والشبهات والضلالات فإن

تزكية النفوس مسلم إلى الرسل وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما وبيانا وإرشادا لا خلقا ولا إلهاما فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم قال الله تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين الجمعة : 2 وقال تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون البقرة : 151
وتزكية النفوس : أصعب من علاج الأبدان وأشد فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجىء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم وبمحض الانقياد والتسليم لهم والله المستعان
فإن قلت : هل يمكن أن يقع الخلق كسبيا أو هو أمر خارج عن الكسب
قلت : يمكن أن يقع كسبيا بالتخلق والتكلف حتى يصير له سجية وملكة وقد قال النبي لأشج عبد القيس رضي الله عنه : إن فيك لخلقين يحبهما الله : الحلم والأناة فقال : أخلقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما فقال : بل جبلك الله عليهما فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله
فدل على أن من الخلق : ما هو طبيعة وجبلة وما هو مكتسب وكان النبي يقول في دعاء الاستفتاح : اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت فذكر الكسب والقدر والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل : الخلق : ما يرجع إليه المتكلف من نعمته أي
خلق كل متكلف : فهو ما اشتملت عليه نعوته فتكلفه يرده إلى خلقه كما قيل :
إن التخلق يأتي دونه الخلق ...
وقال الآخر :
يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل فمتكلف ما ليس من نعته ولا شيمته : يرجع إلى شيمته ونعته وسجيته فذاك الذي يرجع إليه : هو الخلق قال : واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم : أن التصوف هو الخلق وجميع الكلام فيه يدور على قطب واحد وهو بذل المعروف وكف الأذى قلت : من الناس من يجعلها ثلاثة : كف الأذى واحتمال الأذى وإيجاد الراحة

ومنهم : من يجعلها اثنين كما قال الشيخ بذل المعروف وكف الأذى ومنهم من يردها إلى واحد وهو بذل المعروف والكل صحيح قال : وإنما يدرك إمكان ذلك في ثلاثة أشياء في العلم والجود والصبر ف العلم يرشده إلى مواقع بذل المعروف والفرق بينه وبين المنكر وترتيبه في وضعه مواضعه فلا يضع الغضب موضع الحلم ولا بالعكس ولا الإمساك موضع البذل ولا بالعكس بل يعرف مواقع الخير والشر ومراتبها وموضع كل خلق : أين يضعه وأين يحسن استعماله
و الجود يبعثه على المسامحة بحقوق نفسه والاستقصاء منها بحقوق غيره فالجود هو قائد جيوش الخير
و الصبر يحفظ عليه استدامة ذلك ويحمله على الاحتمال وكظلم الغيظ وكف الأذى وعدم المقابلة وعلى كل خير كما تقدم وهو أكبر العون على نيل كل مطلوب من خير الدنيا والآخرة قال الله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاةوإنها لكبيرة إلا على الخاشعين البقرة : 45
فهذه الثلاثة أشياء : بها يدرك التصوف والتصوف : زاوية من زوايا السلوك الحقيقي وتزكية النفس وتهذيبها لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ومعية من تحبه فإن المرء مع من أحب كما قال سمنون : ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة فإن المرء مع من أحب والله أعلم

فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : أن تعرف مقام الخلق
وأنهم بأقدارهم مربوطون وفي طاقتهم محبوسون وعلى الحكم موقوفون فتستفيد بهذه المعرفة ثلاثة أشياء : أمن الخلق منك حتى الكلب ومحبة الخلق إياك ونجاة الخلق بك فبهذه الدرجة : يكون تحسين الخلق مع الخلق في معاملتهم وكيفية مصاحبتهم

وبالثانية : تحسين الخلق مع الله في معاملته وبالثالثة : درجة الفناء على قاعدته وأصله
يقول : إذا عرفت مقام الخلق ومقاديرهم وجريان الأحكام القدرية عليهم وأنهم مقيدون بالقدر لا خروج لهم عنه ألبتة ومحبوسون في قدرتهم وطاقتهم لا يمكنهم تجاوزها إلى غيرها وأنهم موقوفون على الحكم الكوني القدري لايتعدونه استفدت بهذه المعرفة ثلاثة أشياء : أمن الخلق منك وذلك : أنه إذا نظر إليهم بعين الحقيقة : لم يطالبهم بما لا يقدرون عليه وامتثل فيهم أمر الله تعالى لنبيه بأخذ العفو منهم فأمنوا من تكليفه إياهم وإلزامه لهم ما ليس في قواهم وقدرهم وأيضا فإنهم يأمنون لائمته فإنه في هذه الحال عاذر لهم فيما يجري عليهم من الأحكام فيما لم يأمر الشرع بإقامته فيهم لأنهم إذا كانوا محبوسين في طاقتهم فينبغي مطالبتهم بما يطالب به المحبوس وعذرهم بما يعذر به المحبوس وإذا بدا منهم في حقك تقصير أو إساءة أو تفريط فلا تقابلهم به ولا تخاصمهم بل اغفر لهم ذلك واعذرهم نظرا إلى جريان الأحكام عليهم وأنهم آلة وههنا ينفعك الفناء بشهود الحقيقة عن شهود جنايتهم عليك كما قال بعض العارفين لرجل تعدى عليه وظلمه : إن كنت ظالما فالذي سلطك علي ليس بظالم
وههنا للعبد أحد عشر مشهدا فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه أحدها : المشهد الذي ذكره الشيخ رحمه الله وهو مشهد القدر وأن ما جرى عليه : بمشيئة الله وقضائه وقدره فيراه كالتأذي بالحر والبرد والمرض والألم وهبوب الرياح وانقطاع الأمطار فإن الكل أوجبته مشيئة الله فما شاء الله كان ووجب وجوده وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده وإذا شهد هذا : استراح وعلم أنه كائن لا محالة فما للجزع منه وجه وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت

فصل المشهد الثاني : مشهد الصبر فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء
أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة وعلم أنه إن لم يصبر اختيارا على هذا وهو محمود صبر اضطرارا على أكبر منه وهو مذموم
فصل المشهد الثالث : مشهد العفو والصفح والحلم فإنه متى شهد ذلك
وفضله وحلاوته وعزته : لم يعدل عنه إلا لعشي في بصيرته فإنه ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا كما صح عن النبي وعلم بالتجربة والوجود وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل
هذا وفي الصفح والعفو والحلم : من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام : ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام
فصل المشهد الرابع : مشهد الرضى وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا
يكون إلا للنفوس المطمئنة سيما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته : رضيت بما نالها في الله وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره ومتى تسخط به وتشكى منه كان ذلك دليلا على كذبه في محبته والواقع شاهد بذلك والمحب الصادق كما قيل :
من أجلك جعلت خدي أرضا ... للشامت والحسود حتى ترضى
ومن لم يرض بما يصيبه في سبيل محبوبه فلينزل عن درجة المحبة وليتأخر فليس من ذا الشأن

فصل المشهد الخامس : مشهد الإحسان وهو أرفع مما قبله وهو أن يقابل
إساءة المسيء إليه بالإحسان فيحسن إليه كلما أساء هو إليه ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك
وههنا ينفع استحضار مسألة اقتضاء الهبة الثواب وهذا المسكين قد وهبك حسناته فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها لتثبت الهبة وتأمن رجوع الواهب فيها وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم وأهل العزائم
ويهونه عليك أيضا : علمك بأن الجزاء من جنس العمل فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلك فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك فهذا لابد منه وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها
فصل المشهد السادس : مشهد السلامة وبرد القلب وهذا مشهد شريف جدا لمن
عرفه وذاق حلاوته وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه فيكون بذلك مغبونا والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام

فصل المشهد السابع : مشهد الأمن فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام :
أمن ما هو شر من ذلك وإذا انتقم : واقعه الخوف ولا بد فإن ذلك يزرع العداوة والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيرا فكم من حقير أردى عدوه الكبير فإذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل : أمن من تولد العداوة أو زيادتها ولابد أن عفوه وحلمه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه ويكف من جزعه بعكس الانتقام والواقع شاهد بذلك أيضا
فصل المشهد الثامن : مشهد الجهاد وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من
جهاده في سبيل الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامة دين الله وإعلاء كلماته
وصاحب هذا المقام : قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع فإنه قد وجب أجره على الله
وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولهذا منع النبي من سكنى مكة أعزها الله ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله
ولما عزم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم : تلك دماء وأموال ذهبت في الله وأجورها على الله ولا دية لشهيد فأصفق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق
فمن قام لله حتى أوذي في الله : حرم الله عليه الانتقام كما قال لقمان لابنه : وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور لقمان : 17

فصل المشهد التاسع : مشهد النعمة وذلك من وجوه أحدها : أن يشهد نعمة
الله عليه في أن جعله مظلوما يترقب النصر ولم يجعله ظالما يترقب المقت والأخذ فلو خير العاقل بين الحالتين ولابد من إحداهما لاختار أن يكون مظلوما
ومنها : أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه فإنه ما أصاب المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه فذلك في الحقيقة دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب ومن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء : فهو مغبون سفيه فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته ومن كان على يديه وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته
ومنها : أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمر فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين فهينة وأنها في الحقيقة نعمة والمصيبة الحقيقية مصيبة الدين ومنها : توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة وفي بعض الآثار : أنه يتمنى

أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء
هذا وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض فالعاقل يعد هذا ذخرا ليوم الفقر والفاقة ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئا

فصل المشهد العاشر : مشهد الأسوة وهو مشهد شريف لطيف جدا فإن العاقل
اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه فإنهم أشد الخلق امتحانا بالناس وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم وشأن نبينا وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله وقد قال له ورقة بن نوفل : لتكذبن ولتخرجن ولتؤذين وقال له : ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم
أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده : الأمثل فالأمثل ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهال لهم وقد صنف في ذلك ابن عبدالبر كتابا سماه محن العلماء
فصل المشهد الحادي عشر : مشهد التوحيد وهو أجل المشاهد وأرفعها فإذا
امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به والإنس به واطمأن إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقائه واتخذه وليا دون من سواه بحيث فوض إليه أموره كلها ورضي به وبأقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه : فإنه لا يبقى

في قلبه متسع لشهود أذى الناس له ألبتة فضلا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه فهو قلب جائع غير شبعان فإذا رأى أي طعام رآه هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها : فإنه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

فصل وأما قوله : أن يستفيد بمعرفة أقدار الناس وجريان الأحكام عليهم
: محبتهم له ونجاتهم به فلأنه إذا عاملهم بهذه المعاملة : من إقامة أعذارهم والعفو عنهم وترك مقابلتهم : استوت كراهتهم ومحبتهم له وكان ذلك سببا لنجاتهم الأخروية أيضا إذ يرشدهم ذلك إلى القبول منه وتلقي ما يأمرهم به وينهاهم عنه أحسن التلقي هذه طباع الناس
فصل قال : الدرجة الثانية : تحسين خلقك مع الحق وتحسينه منك : أن
تعلم أن كل ما يأتي منك يوجب عذرا وأن كل ما يأتي من الحق يوجب شكرا وأن لا ترى له من الوفاء بدا هذه الدرجة مبنية على قاعدتين إحداهما : أن تعلم أنك ناقص وكل ما يأتي من الناقص ناقص فهو يوجب اعتذاره منه لا محالة فعلى العبد أن يعتذر إلى ربه من كل ما يأتي به من خير وشر أما الشر : فظاهر وأما الخير : فيعتذر من نقصانه ولا يراه صالحا لربه فهو مع إحسانه معتذر في إحسانه ولذلك مدح الله أولياءه بالوجل منه مع إحسانهم بقوله : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة المؤمنون : 60 وقال النبي

: هو الرجل يصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه فإذا خاف فهو بالاعتذار أولى والحامل له على هذا الاعتذار أمران أحدهما : شهود تقصيره ونقصانه والثاني : صدق محبته فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه وهو معتذر إليه مستحي منه : أن يواجهه بما واجهه به وهو يرى أن قدره فوقه وأجل منه وهذا مشاهد في محبة المخلوقين
القاعدة الثانية : استعظام كل ما يصدر منه سبحانه إليك والاعتراف بأنه يوجب الشكر عليك وأنك عاجزة عن شكره ولا يتبين هذا إلا في المحبة الصادقة فإن المحب يستكثر من محبوبه كل ما يناله فإذا ذكره بشيء وأعطاه إياه : كان سروره بذكره له وتأهيله لعطائه : أعظم عنده من سروره بذلك العطاء بل يغيب بسروره بذكره له عن سروره بالعطية وإن كان المحب يسره ذكر محبوبه له وإن ناله بمساءة كما قال القائل :
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالكا فكيف إذا ناله محبوبه بمسرة وإن دقت فإنه لا يراها إلا جليلة خطيرة فكيف هذا مع الرب تعالى الذي لا يأتي أبدا إلا بالخير ويستحيل خلاف ذلك في حقه كما يستحيل عليه خلاف كماله وقد أفصح أعرف الخلق بربه عن هذا بقوله : والشر ليس إليك أي لا يضاف إليك ولا ينسب إليك ولا يصدر منك فإن أسماءه كلها حسنى وصفاته كلها كمال وأفعاله كلها فضل وعدل وحكمة ورحمة ومصلحة فبأي وجه ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى فكل ما يأتي منه فله عليه الحمد والشكر وله فيه النعمة والفضل قوله : وأن لا يرى من الوفاء بدا يعني : أن معاملتك للحق سبحانه بمقتضى الاعتذار من كل ما منك والشكر

على ما منه : عقد مع الله تعالى لازم لك أبدا لا ترى من الوفاء به بدا فليس ذلك بأمر عارض وحال يحول بل عقد لازم عليك الوفاء به إلى يوم القيامة

فصل قال : الدرجة الثالثة : التخلق بتصفية الخلق ثم الصعود عن تفرقة
التخلق ثم ثم ثم التخلق بمجاوزة الأخلاق هذه الدرجة ثلاثة أشياء أحدها : تصفية الخلق بتكميل ما ذكر في الدرجتين قبله فيصفيه من كل شائبة وقذى ومشوش فإذا فعلت ذلك صعدت من تفرقته إلى جمعيتك على الله فإن التخلق والتصوف تهذيب واستعداد للجمعية وإنما سماه تفرقة : لأنه اشتغال بالغير والسلوك يقتضي الإقبال بالكلية والاشتغال بالرب وحده عما سواه
ثم يصعد إلى ما فوق ذلك وهو مجاوزة الأخلاق كلها بأن يغيب عن الخلق والتخلق وهذه الغيبة لها مرتبتان عندهم إحداهما : الاشتغال بالله عز و جل عن كل ما سواه والثانية : الفناء في الفردانية التي يسمونها حضرة الجمع وهي أعلى الغايات عندهم وهي موهبية لا كسبية لكن العبد إذا تعرض وصدق في الطلب : رجى له الظفر بمطلوبه والله أعلم
فصل ومدار حسن الخلق مع الحق ومع الخلق : على حرفين ذكرهما عبدالقادر
الكيلاني فقال : كن مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا نفس فتأمل ما أجل هاتين الكلمتين مع اختصارهما وما أجمعهما لقواعد

السلوك ولكل خلق جميل وفساد الخلق إنما ينشأ من توسط الخلق بينك وبين الله تعالى وتوسط النفس بينك وبين خلقه فمتى عزلت الخلق حال كونك مع الله تعالى وعزلت النفس حال كونك مع الخلق فقد فزت بكل ما أشار إليه القوم وشمروا إليه وحاموا حوله والله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التواضع
قال الله تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا الفرقان : 63 أي سكينة ووقارا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين قال الحسن : علماء حلماء وقال محمد بن الحنفية : أصحاب وقار وعفة لا يسفهون وإن سفه عليهم حلموا والهون بالفتح في اللغة : الرفق واللين و الهون بالضم : الهوان فالمفتوح منه : صفة أهل الإيمان والمضموم صفة أهل الكفران وجزاؤهم من الله النيران
وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين المائدة : 54 لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة على تضمينا لمعاني هذه الأفعال فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول فالمؤمن ذلول كما في الحديث : المؤمن كالجمل الذلول والمنافق والفاسق ذليل وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق : الكذاب والنمام والبخيل والجبار وقوله : أعزة على الكافرين هو من عزة القوة والمنعة والغلبة قال عطاء رضي الله عنه : للمؤمنين كالوالد لولده وعلى الكافرين كالسبع على فريسته

كما قال في الآية الأخرى : أشداء على الكفار رحماء بينهم الفتح : 29 وهذا عكس حال من قيل فيهم :
كبرعلينا وجبنا عن عدوكم ... لبئست الخلتان : الكبر والجبن وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال : قال رسول الله : إن الله أوحى إلي : أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر وفي الصحيحين مرفوعا : ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر
وفي حديث احتجاج الجنة والنار : أن النار قالت : مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون وقالت الجنة : مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وهو في الصحيح وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله : يقول الله عز و جل : العزة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني عذبته
وفي جامع الترمذي مرفوعا عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه : لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في ديوان الجبارين فيصيبه ما أصابهم وكان النبي يمر على الصبيان فيسلم عليهم وكانت الأمة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت وكان إذا أكل لعق أصابعه الثلاث وكان يكون في بيته في خدمة أهله ولم يكن ينتقم لنفسه قط وكان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويحلب الشاة لأهله ويعلف البعير ويأكل مع الخادم ويجالس المساكين ويمشي مع الأرملة واليتيم

في حاجتهما ويبدأ من لقيه بالسلام ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء
وكان هين المؤنة لين الخلق كريم الطبع جميل المعاشرة طلق الوجه بساما متواضعا من غير ذلة جوادا من غير سرف رقيق القلب رحيما بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين لين الجانب لهم وقال : ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو تحرم عليه النار تحرم على كل قريب هين لين سهل رواه الترمذي وقال : حديث حسن وقال : لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت رواه البخاري وكان يعوض المريض ويشهد الجنازة ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف

فصل سئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال : يخضع للحق وينقاد له
ويقبله ممن قاله وقيل : التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب وهذا مذهب الفضيل وغيره وقال الجنيد بن محمد : هو خفض الجناح ولين الجانب وقال أبو يزيد البسطامي : هو أن لا يرى لنفسه مقاما ولا حالا ولا يرى في الخلق شرا منه
وقال ابن عطاء : هو قبول الحق ممن كان والعز في التواضع فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار

وقال إبراهيم بن شيبان : الشرف في التواضع والعز في التقوي والحرية في القناعة
ويذكر عن سفيان الثوري رحمه الله أنه قال : أعز الخلق خمسة أنفس : عالم زاهد وفقيه صوفي وغني متواضع وفقير شاكر وشريف سني وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما : رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت : يا أمير المؤمنين لا ينبغي لك هذا فقال : لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها
وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره يقولطرقوا للأمير
وركب زيد بن ثابت مرة فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه فقال : مه يا ابن عم رسول الله فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا فقال : أرني يدك فأخرجها إليه فقبلها فقال : هكذا أمرنا نفعل بأهل بيت رسول الله
وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة رضي الله عنهم حللا فبعث إلى معاذ حلة مثمنة فباعها واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم فبلغ ذلك عمر فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها فعاتبه معاذ فقال عمر : لأنك بعت الأولى فقال معاذوما عليك ادفع لي نصيبي وقد حلفت لأضربن بها رأسك فقال عمر رضي الله عنه : رأسي بين يديك وقد يرفق الشاب بالشيخ
ومر الحسن بن علي صبيان معهم كسر خبز فاستضافوه فنزل فأكل معهم ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم وقال : اليد لهم لأنهم لا يجدون شيئا غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه
ويذكر أن أبا ذر رضي الله عنه عير بلالا رضي الله عنه بسواده ثم ندم فألقى بنفسه فحلف : لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال

وقال رجاء بن حيوة قومت ثياب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب باثني عشر درهما وكانت قباء وعمامة وقميصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة
ورأى محمد بن واسع ابنا له يمشي مشية منكرة فقال : تدري بكم شريت أمك بثلاثمائة درهم وأبوك لا كثر الله في المسلمين مثله أنا وأنت تمشي هذه المشية وقال حمدون القصار : التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة لا في الدين ولا في الدنيا
وقال إبراهيم بن أدهم : ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات : كنت في سفينة وفيها رجل مضحاك كان يقول : كنا في بلاد الترك فأخذ العلج هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي ويهزني لأنه لم يكن فى تلك السفينة أحد أحقر مني والأخرى : كنت عليلا في مسجد فدخل المؤذن وقال : اخرج فلم أطق فأخذ برجلي وجرني إلى خارج والأخرى : كنت بالشام وعلي فرو فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته فسرني ذلك وفي رواية : كنت يوما جالسا فجاء إنسان فبال علي
وقال بعضهم : رأيت في الطواف رجلا بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عن الطواف ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل شيئا فتعجبت منه فقال لي : إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه
وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم فكتب إليه عمر : بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فإذا أتاك كتابي فبع

0 الخاتم وأشبع به ألف بطن واتخذ خاتما بدرهمين واجعل فصه حديدا صينيا واكتب عليه : رحم الله امرءا عرف قدر نفسه والله اعلم

فصل أول ذنب عصى الله به أبو الثقلين : الكبر والحرص فكان الكبر
ذنب إبليس اللعين فآل أمره إلى ما آل إليه وذنب آدم على نبينا وعليه السلام : كان من الحرص والشهوة فكان عاقبته التوبة والهداية وذنب إبليس حمله على الاحتجاج بالقدر والإصرار وذنب آدم أوجب له إضافته إلى نفسه والاعتراف به والاستغفار
فأهل الكبر والإصرار والاحتجاج بالأقدار : مع شيخهم وقائدهم إلى النار إبليس وأهل الشهوة : المستغفرون التائبون المعترفون بالذنوب الذين لا يحتجون عليها بالقدر : مع أبيهم آدم في الجنة
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : التكبر شر من الشرك فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى والمشرك يعبد الله وغيره
قلت : ولذلك جعل الله النار دار المتكبرين كما قال الله تعالى في سورة الزمر وفي سورة غافر : فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين غافر : الزمر : 72 وفي سورة النحل : فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوي المتكبرين النحل : 29 وفي سورة تنزيل : أليس في جهنم مثوى للمتكبرين الزمر : 60
وأخبر أن أهل الكبر والتجبر هم الذين طبع الله على قلوبهم فقال تعالى كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار غافر : 35 وقال : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر رواه مسلم

وقال : الكبر بطر الحق وغمص الناس وقال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به النساء : 8 تنبيها على أنه لا يغفر الكبر الذي هو أعظم من الشرك وكما أن من تواضع لله رفعه فكذلك من تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه وصغره وحقره ومن تكبر عن الانقياد للحق ولو جاءه على يد صغير أو من يبغضه أو يعاديه فإنما تكبره على الله فإن الله هو الحق وكلامه حق ودينه حق والحق صفته ومنه وله فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله : فإنما رد على الله وتكبر عليه والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل : التواضع : أن يتواضع العبد لصولة الحق
يعني : أن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له والذل والانقياد والدخول تحت رقه بحيث يكون الحق متصرفا فيه تصرف المالك في مملوكه فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع ولهذا فسر النبي الكبر بضده فقال : الكبر بطر الحق وغمص الناس فبطر الحق : رده وجحده والدفع في صدره كدفع الصائل و غمص الناس احتقارهم وازدراؤهم ومتى احتقرهم وازدراهم : دفع حقوقهم وجحدها واستهان بها ولما كان لصاحب الحق مقال وصولة : كانت النفوس المتكبرة لا تقر له بالصولة على تلك الصولة التي فيها ولا سيما النفوس المبطلة فتصول على صولة الحق بكبرها وباطلها فكان حقيقة التواضع : خضوع العبد لصولة الحق وانقياده لها فلا يقابلها بصولته عليها قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : التواضع للدين وهو أن لا يعارض بمعقول منقولا ولا يتهم للدين دليلا ولا يرى إلى الخلاف سبيلا

التواضع للدين هو الانقياد لما جاء به الرسول والاستسلام له والإذعان وذلك بثلاثة أشياء الأول : أن لا يعارض شيئا مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم المسماة : بالمعقول والقياس والذوق والسياسة
فالأولى : للمنحرفين أهل الكبر من المتكلمين الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة وقالوا : إذا تعارض العقل والنقل : قدمنا العقل وعزلنا النقل إما عزل تفويض وإما عزل تأويل والثاني : للمتكبرين من المنتسبين إلى الفقه قالوا : إذا تعارض القياس والرأي والنصوص : قدمنا القياس على النص ولم نلتفت إليه والثالث : للمتكبرين المنحرفين من المنتسبين إلى التصوف والزهد فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر قدموا الذوق والحال ولم يعبأوا بالأمر والرابع : للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة فهؤلاء الأربعة : هم أهل الكبر والتواضع : التخلص من ذلك كله الثاني : أن لا يتهم دليلا من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة أو ناقص الدلالة أو قاصرها أو أن غيره كان أولى منه ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه وليعلم أن الآفة منه والبلية فيه كما قيل :
وكم من عائب قولاصحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والفهوم
وهكذا الواقع في الواقع حقيقة : أنه ما اتهم أحد دليلا للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن المأفون في عقله وذهنه فالآفة من الذهن العليل لا في نفس الدليل وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك وينبو فهمك عنه فاعلم أنه

لعظمته وشرفه استعصى عليك وأن تحته كنزا من كنوز العلم ولم تؤت مفتاحه بعد هذا في حق نفسك
وأما بالنسبة إلى غيرك : فاتهم آراء الرجال على نصوص الوحي وليكن ردها أيسر شيء عليك للنصوص فما لم تفعل ذلك فلست على شيء ولو ولو وهذا لا خلاف فيه بين العلماء قال الشافعي قدس الله روحه : أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله : لم يحل له أن يدعها لقول أحد الثالث : أن لا يجد إلى خلاف النص سبيلا ألبتة لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله بل إذا أحس بشيء من الخلاف : فهو كخلاف المقدم على الزنا وشرب الخمر وقتل النفس بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك وهو داع إلى النفاق وهو الذي خافه الكبار والأئمة على نفوسهم
واعلم أن المخالف للنص لقول متبوعه وشيخه ومقلده أو لرأيه ومعقوله وذوقه وسياسته إن كان عند الله معذورا ولا والله ما هو بمعذور فالمخالف لقوله لنصوص الوحي أولى بالعذر عند الله ورسوله وملائكته والمؤمنين من عباده
فواعجبا إذا اتسع بطلان المخالفين للنصوص لعذر من خالفها تقليدا أو تأويلا أو لغير ذلك فكيف ضاق عن عذر من خالف أقوالهم وأقوال شيوخهم لأجل موافقة النصوص وكيف نصبوا له الحبائل وبغوه الغوائل ورموه بالعظائم وجعلوه أسوأ حالا من أرباب الجرائم فرموه بدائهم وانسلوا منه لواذا وقذفوه بمصابهم وجعلوا تعظيم المتبوعين ملاذا لهم ومعاذا والله أعلم

فصل قال : ولا يصح ذلك إلا بأن يعلم : أن النجاة في البصيرة
والاستقامة بعد الثقة وأن البينة وراء الحجة يقول : إن ما ذكرناه من التواضع للدين بهذه الأمور الثلاثة : الأولى : علمه أن النجاة من الشقاء والضلال : إنما هي في البصيرة فمن لا بصيرة له : فهو من أهل الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة والبصيرة نور يجعله الله في عين القلب يفرق به العبد بين الحق والباطل ونسبته إلى القلب : كنسبة ضوء العين إلى العين وهذه البصيرة وهبية وكسبية فمن أدار النظر في أعلام الحق وأدلته وتجرد لله من هواه : استنارت بصيرته ورزق فرقانا يفرق به بين الحق والباطل الثاني : أن يعلم أن الاستقامة إنما تكون بعد الثقة أي لا يتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلا بعد الثقة بصحة ما معه من العلم وأنه مقتبس من مشكاة النبوة ومن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة الثالث : أن يعلم أن البينة وراء الحجة و البينة مراده بها : استبانة الحق وظهوره وهذا إنما يكون بعد الحجة إذا قامت استبان الحق وظهر واتضح وفيه معنى آخر وهو : أن العبد إذا قبل حجة الله بمحض الإيمان والتسليم والانقياد : كان هذا القبول هو سبب تبينها وظهورها وانكشافها لقلبه فلا يصبر على بينة ربه إلا بعد قبول حجته
وفيه معنى آخر أيضا : أنه لا يتبين له عيب عمله من صحته إلا بعد العلم الذي هو حجة الله على العبد فإدا عرف الحجة اتضح له بها ما كان مشكلا عليه من علومه وما كان معيبا من أعماله وفيه معنى آخر أيضا : وهو أن يكون وراء بمعنى أمام والمعنى : أن

الحجة إنما تحصل للعبد بعد تبينها فإذا لم تتبين له لم تكن له حجة يعني فلا يقنع من الحجة بمجرد حصولها بلا تبين فإن التبين أمام الحجة والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : أن ترضى بما رضي الحق به لنفسه عبدا
من المسلمين أخا وأن لا ترد على عدوك حقا وأن تقبل من المعتذر معاذيره
يقول : إذا كان الله قد رضي أخاك المسلم لنفسه عبدا أفلا ترضى أنت به أخا فعدم رضاك به أخا وقد رضيه سيدك الذي أنت عبده عبدا لنفسه عين الكبر وأي قبيح أقبح من تكبر العبد على عبد مثله لا يرضى بأخوته وسيده راض بعبوديته
فيجيء من هذا : أن المتكبر غير راض بعبودية سيده إذ عبوديته توجب رضاه بأخوة عبده وهذا شأن عبيد الملوك فإنهم يرون بعضهم خشداشية بعض ومن ترفع منهم عن ذلك : لم يكن من عبيد أستاذهم قوله : وأن لا ترد على عدوك حقا أي لا تصح لك درجة التواضع حتى تقبل الحق ممن تحب وممن تبغض فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك وإذا لم ترد عليه حقه فكيف تمنعه حقا له قبلك بل حقيقة التواضع أنه إذا جاءك قبلته منه وإذا كان له عليك حق أديته إليه فلا تمنعك عداوته من قبول حقه ولا من إيتائه إياه وأما قبولك من المعتذر معاذيره فمعناه : أن من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقا كانت أو باطلا وتكل سريرته إلى الله تعالى كما فعل رسول الله في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو فلما قدم جاءوا يعتذرون إليه فقبل أعذارهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى وعلامة الكرم والتواضع : أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه عليه

ولا تحاجه وقل يمكن أن يكون الأمر كما تقول ولو قضى شيء لكان والمقدور لا مدفع له ونحو ذلك

فصل قال : الدرجة الثالثة : أن تتضع للحق فتنزل عن رأيك وعوائدك
في الخدمة ورؤية حقك في الصحبة وعن رسمك في المشاهدة
بقول : التواضع بأن تخدم الحق سبحانه وتعبده بما أمرك به على مقتضى أمره لا على ما تراه من رأيك ولا يكون الباعث لك داعي العادة كما هو باعث من لا بصيرة له غير أنه اعتاد أمرا فجرى عليه ولو اعتاد ضده لكان كذلك وحاصله : أنه لا يكون باعثه على العبودية مجرد رأي وموافقة هوى ومحبة ولاعادة بل الباعث مجرد الأمر والرأي والمحبة والهوى والعوائد : منفذة تابعة لا أنها مطاعة باعثة وهذه نكتة لا يتنبه لها إلا أهل البصائر وأما نزوله عن رؤية حقه في الصحبة
فمعناه : أن لا يرى لنفسه حقا على الله لأجل عمله فإن صحبته مع الله بالعبودية والفقر المحض والذل والإنكسار فمتى رأى لنفسه عليه حقا فسدت الصحبة وصارت معلولة وخيف منها المقت ولا ينافي هذا ما أحقه سبحانه على نفسه من إثابة عابديه وإكرامهم فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره وجوده وإحسانه لا باستحقاق العبيد وأنهم أوجبوه عليه بأعمالهم
فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي هو مفترق الطرق والناس فيه ثلاث فرق فرقة رأت أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقا فقالت : لا يجب على الله شيء ألبتة وأنكرت وجوب ما أوجب على نفسه وفرقة رأت أنه سبحانه أوجب على نفسه أمورا لعبده فظنت أن العبد

أوجبها عليه بأعماله وأن أعماله كانت سببا لهذا الإيجاب والفرقتان غالطتان
والفرقة الثالثة : أهل الهدى والصواب قالت : لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحا ولا يدخل أحدا عمله الجنة أبدا ولا ينجيه من النار والله تعالى بفضله وكرمه ومحض جوده وإحسانه أكد إحسانه وجوده وبره بأن أوجب لعبده عليه سبحانه حقا بمقتضى الوعد فإن وعد الكريم إيجاب ولو ب عسى ولعل
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : عسى : من الله واجب ووعد اللئيم خلف ولو اقترن به العهد والحلف
والمقصود : أن عدم رؤية العبد لنفسه حقا على الله لا ينافي ما أوجبه الله على نفسه وجعله حقا لعبده قال النبي لمعاذ بن جبل رضي الله عنه : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد قال : الله ورسوله أعلم قال : حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت : الله ورسوله أعلم قال : حقهم عليه : أن لا يعذبهم بالنار فالرب سبحانه ما لأحد عليه حق ولا يضيع لديه سعي كما قيل :
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعد له أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع وأما قوله : وتنزل عن رسمك في المشاهدة
أي من جملة التواضع للحق : فناؤك عن نفسك فإن رسمه هي نفسه والنزول عنها : فناؤه عنها حين شهوده الحضرة وهذا النزول يصح أن يقال كسبي باعتبار وإن كان عند القوم غير كسبي لأنه يحصل عند التجلي والتجلي نور والنور يقهر الظلمة ويبطلها والرسم عند القوم ظلمة فهي تنفر من النور بالذات فصار النزول عن الرسم حين التجلي ذاتيا ووجه كونه كسبيا : أنه نتيجة المقامات الكسبية ونتيجة الكسبي كسبي

وثمرته وإن حصلت ضرورة بالذات : لم يمتنع أن يطلق عليها كونها كسبية باعتبار السبب والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفتوة هذه المنزلة
حقيقتها هي منزلة الإحسان إلى الناس وكف الأذى عنهم واحتمال أذاهم فهي استعمال حسن الخلق معهم فهي في الحقيقة نتيجة حسن الخلق واستعماله والفرق بينها وبين المروءة : أن المروءة أعم منها فالفتوة نوع من أنواع المروءة فإن المروءة استعمال ما يجمل ويزين مما هو مختص بالعبد أو متعد إلى غيره وترك ما يدنس ويشين مما هو مختص أيضا به أو متعلق بغيره و الفتوة إنما هي استعمال الأخلاق الكريمة مع الخلق
فهي ثلاثة منازل : منزلة التخلق وحسن الخلق ومنزلة الفتوة ومنزلة المروءة وقد تقدمت منزلة الخلق وهذه منزلة شريفة لم تعبر عنها الشريعة باسم الفتوة بل عبرت عنها باسم مكارم الأخلاق كما في حديث يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه عن النبي : إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال وأصل الفتوة من الفتى وهو الشاب الحديث السن قال الله تعالى عن أهل الكهف : إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى الكهف : 13 وقال عن قوم إبراهيم : إنهم قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم الأنبياء : 60 وقال تعالى عن يوسف ودخل معه السجن فتيان يوسف : 36 وقال لفتيانه : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم يوسف : 62

فاسم الفتى لا يشعر بمدح ولا ذم كاسم الشاب والحدث ولذلك لم يجىء اسم الفتوة في القرآن ولا في السنة ولا في لسان السلف وإنما استعمله من بعدهم في مكارم الأخلاق وأصلها عندهم : أن يكون العبد أبدا : في أمر غيره
وأقدم من علمته تكلم في الفتوة جعفر بن محمد ثم الفضيل بن عياض والإمام أحمد وسهل بن عبدالله والجنيد ثم الطائفة فيذكر أن جعفر بن محمد سئل عن الفتوة فقال للسائل : ما تقول أنت فقال : إن أعطيت شكرت وإن منعت صبرت فقال : الكلاب عندنا
كذلك فقال السائل : يا ابن رسول الله فما الفتوة عندكم فقال : إن أعطينا آثرنا وإن منعنا شكرنا وقال الفضيل بن عياض : الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان وقال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية ابنه عبدالله عنه وقد سئل عن الفتوة فقال : ترك ما تهوى لما تخشى ولا أعلم لأحد من الأئمة الأربعة فيها سواه

وسئل الجنيد عن الفتوة فقال : لا تنافر فقيرا ولا تعارض غنيا وقال الحارث المحاسبي : الفتوة أن تنصف ولا تنتصف
وقال عمر بن عثمان المكي : الفتوة حسن الخلق وقال محمد بن علي الترمذي : الفتوة أن تكون خصما لربك على نفسك وقيل : الفتوة أن لا ترى لنفسك فضلا على غيرك وقال الدقاق : هذا الخلق لا يكون كماله إلا لرسول الله فإن كل أحد يقول يوم القيامة : نفسي نفسي وهو يقول : أمتي أمتي
وقيل : الفتوة كسر الصنم الذي بينك وبين الله تعالى وهو نفسك فإن الله حكى عن خليله إبراهيم عليه السلام : أنه جعل الأصنام جذاذا فكسر الأصنام له فالفتى من كسر صنما واحدا في الله وقيل : الفتوة أن لا تكون خصما لأحد يعني في حفظ نفسك وأما في حق الله فالفتوة : أن تكون خصما لكل أحد ولو كان الحبيب المصافيا وقال الترمذي : الفتوة أن يستوي عندكم المقيم والطارىء وقال بعضهم : الفتوة أن لا يميز بين أن يأكل عنده ولي أو كافر وقال الجنيد أيضا : الفتوة كف الأذى وبذل الندى وقال سهل : هي اتباع السنة وقيل : هي الوفاء والحفاظ وقيل : فضيلة تأتيها ولا ترى نفسك فيها وقيل : أن لا تحتجب ممن قصدك وقيل : أن لا تهرب إذا أقبل العافي يعني طالب المعروف وقيل : إظهار النعمة وإسرار المحنة وقيل : أن لا تدخر ولا تعتذر
وقيل : تزوج رجل بامرأة فلما دخلت عليه رأى بها الجدري فقال : اشتكيت عيني ثم قال : عميت فبعد عشرين سنة ماتت ولم تعلم أنه بصير فقيل له في ذلك فقال : كرهت أن يحزنها رؤيتي لما بها فقيل له : سبقت الفتيان وقيل : ليس من الفتوة أن تربح على صديقك

واستضاف رجل جماعة من الفتيان فلما فرغوا من الطعام خرجت جارية تصب الماء على أيديهم فانقبض واحد منهم وقال : ليس من الفتوة أن تصب النسوان الماء على أيدي الرجال فقال آخر منهم : أنا منذ سنين أدخل إلى هذه الدار ولم أعلم أن امرأة تصب الماء على أيدينا أو رجلا وقدم جماعة فتيان لزيارة فتى فقال الرجل : يا غلام قدم السفرة فلم يقدم فقالها ثانياوثالثا فلم يقدم فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : ليس من الفتوة أن يستخدم الرجل من يتعاصى عليه في تقديم السفرة كل هذا فقال الرجل : لم أبطأت بالسفرة فقال الغلام : كان عليها نمل فلم يكن من الأدب تقديم السفرة إلى الفتيان مع النمل ولم يكن من الفتوة إلقاء النمل وطردهم عن الزاد فلبثت حتى دب النمل فقالوا : يا غلام مثلك يخدم الفتيان
ومن الفتوة التي لا تلحق : ما يذكر أن رجلا نام من الحاج في المدينة ففقد هميانا فيه ألف دينار فقام فزعا فوجد جعفر بن محمد فعلق به وقال : أخذت همياني فقال : أي شيء كان فيه قال : ألف دينار فأدخله داره ووزن له ألف دينار ثم إن الرجل وجد هميانه فجاء إلى جعفر معتذرا بالمال فأبى أن يقبله منه وقال : شيء أخرجته من يدي لا أسترده أبدا فقال الرجل للناس : من هذا فقالوا : هذا جعفر بن محمد رضي الله عنه

فصل قال صاحب المنازل نكتة الفتوة : أن لا تشهد لك فضلا ولا ترى
لك حقا يقول : قلب الفتوة وإنسان عينها : أن تفنى بشهادة نقصك وعيبك عن فضلك وتغيب بشهادة حقوق الخلق عليك عن شهادة حقوقك عليهم والناس في هذا مراتب فأشرفها : أهل هذه المرتبة وأخسها : عكسهم

وهم أهل الفناء في شهود فضائلهم عن عيوبهم وشهود حقوقهم على الناس عن شهود حقوق الناس عليهم
وأوسطهم : من شهد هذا وهذا فيشهد ما في العيب والكمال ويشهد حقوق الناس عليه وحقوقه عليهم قال : وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : ترك الخصومة والتغافل عن الزلة ونسيان الأذية هذه الدرجة من باب الترك والتخلي وهي أن لا يخاصم أحدا فلا ينصب نفسه خصما لأحد غيرها فهي خصمه
وهذه المنزلة أيضا ثلاث درجات لا يخاصم بلسانه ولا ينوي الخصومة بقلبه ولا يخطرها على باله هذا في حق نفسه
وأما في حق ربه : فالفتوة أن يخاصم بالله وفي الله ويحاكم إلى الله كما كان النبي يقول في دعاء الاستفتاح : وبك خاصمت وإليك حاكمت وهذه درجة فتوة العلماء الدعاة إلى الله تعالى وأما التغافل عن الزلة فهو أنه إذا رأى من أحد زلة يوجب عليه الشرع أخذه بها : أظهر أنه لم يرها لئلا يعرض صاحبها للوحشة ويريحه من تحمل العذر وفتوة التغافل : أرفع من فتوة الكتمان مع الرؤية
قال أبو علي الدقاق : جاءت امرأة فسألت حاتما عن مسألة فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة فخجلت فقال حاتم : ارفعي صوتك فأوهمها أنه أصم فسرت المرأة بذلك وقالت : إنه لم يسمع الصوت فلقب بحاتم الأصم وهذا التغافل هو نصف الفتوة
وأما نسيان الأذية فهو بأن تنسى أذية من نالك بأذى ليصفو قلبك له ولا تستوحش منه قلت : وهنا نسيان اخر أيضا وهو من الفتوة وهو نسيان إحسانك إلى

من أحسنت إليه حتى كأنه لم يصدر منك وهذا النسيان أكمل من الأول وفيه قيل :
ينسى صنائعه والله يظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرا

فصل قال : الدرجة الثانية : أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك وتعتذر
إلى من يجني عليك سماحة لا كظما ومودة لا مصابرة هذه الدرجة أعلى مما قبلها وأصعب فإن الأولى : تتضمن ترك المقابلة والتغافل وهذه تتضمن الإحسان إلى من أساء إليك ومعاملته بضد ما عاملك به فيكون الإحسان والإساءة بينك وبينه خطتين فخطتك : الإحسان وخطته : الإساءة وفي مثلها قال القائل :
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النبي مع الناس يجدها هذه بعينها ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة وما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وكان بعض أصحابه الأكابر يقول : وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه
وما رأيته يدعو على أحد منهم قط وكان يدعو لهم وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له فنهرني وتنكر لي واسترجع ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم وقال : إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه ونحو هذا من الكلام فسروا به ودعوا له وعظموا هذه الحال منه فC ورضى عنه وهذا مفهوم وأما الاعتذار إلى من يجني عليك فإنه غير مفهوم في بادي الرأي إذ لم

يصدر منك جناية توجب اعتذارا وغايتك : أنك لا تؤاخذه فهل تعتذر إليه من ترك المؤاخذة
ومعنى هذا : أنك تنزل نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه والجاني خليق بالعذر والذي يشهدك هذا المشهد : أنك تعلم أنه إنما سلط عليك بذنب كما قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير الشورى : 30 فإذا علمت أنك بدأت بالجناية فانتقم الله منك على يده : كنت في الحقيقة أولى بالاعتذار والذي يهون عليك هذا كله : مشاهدة تلك المشاهد العشرة المتقدمة فعليك بها فإن فيها كنوز المعرفة والبر وقوله : سماحة لا كظما ومودة لا مصابرة يعني : اجعل هذه المعاملة منك صادرة عن سماحة وطيبة نفس وانشراح صدر لا عن كظم وضيق ومصابرة فإن ذلك دليل على أن هذا ليس في خلقك وإنما هو تكلف يوشك أن يزول ويظهر حكم الخلق صريحا فتفتضح وليس المقصود إلا إصلاح الباطن والسر والقلب
وهذا الذي قاله الشيخ لا يمكن إلا بعد العبور على جسر المصابرة والكظم فإذا تمكن منه أفضى به إلى هذه المنزلة بعون الله والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثالثة : أن لا تتعلق في السير بدليل ولا تشوب
إجابتك بعوض ولا تقف في شهودك على رسم هذه ثلاثة أمور اشتملت عليها هذه الدرجة أما عدم تعلقه في السير بدليل : فقد بين مراده به في آخر الباب إذ يقول :

وفي علم الخصوص : من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال لم يحل له دعوى الفتوة أبدا وهذا موضع عظيم يحتاج إلى تبيين وتقدير والمراد : أن السائر إلى الله يسير على قدم اليقين وطريق البصيرة والمشاهدة فوقوفه مع الدليل : دليل على أنه لم يشم رائحة اليقين والمراد بهذا : أن المعرفة عندهم ضرورية لا استدلالية وهذا هو الصواب ولهذا لم تدع الرسل قط الأمم إلى الإقرار بالصانع سبحانه وتعالى وإنما دعوهم إلى عبادته وتوحيده وخاطبوهم خطاب من لا شبهة عنده قط في الإقرار بالله تعالى ولا هو محتاج إلى الاستدلال عليه ولهذا : قالت لهم رسلهم : أفي الله شك فاطر السموات والأرض إبراهيم : 10 وكيف يصح الاستدلال على مدلول هو أظهر من دليله حتى قال بعضهم : كيف أطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء فتقيد السائر بالدليل وتوقفه عليه دليل على عدم يقينه بل إنما يتقيد بالدليل الموصل له إلى المطلوب بعد معرفته به فإنه يحتاج بعد معرفته إلى دليل يوصله إليه ويدله على طريق الوصول إليه وهذا الدليل : هو الرسول فهو موقوف عليه يتقيد به لا يخطو خطوة إلا وراءه
وأيضافالقوم يشيرون إلى الكشف ومشاهدة الحقيقة وهذا لا يمكن طلبه بالدليل أصلا ولا يقال : ما الدليل على حصول هذا وإنما يحصل بالسلوك في منازل السير وقطعها منزلة منزلة حتى يصل إلى المطلوب فوصوله إليه بالسير لا بالاستدلال بخلاف وصول المستدل فإنه إنما يصل إلى العلم ومطلوب القوم وراءه والعلم منزلة من منازلهم كما سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ولهذا يسمون أصحاب الاستدلال : أصحاب القال وأصحاب الكشف : أصحاب الحال والقوم عاملون على الكشف الذي يحصل بنور العيان لا على العلم الذي ينال بالاستدلال والبرهان

وهذا موضع غلط واشتباه فإن الدليل في هذا المقام شرط وكذلك العلم وهو باب لا بد من دخوله إلى المطلوب ولا يوصل إلى المطلوب إلا من بابه كما قال تعالى : وائتوا البيوت من أبوابها البقرة : 189 ثم إنه يخاف على من لا يقف مع الدليل ما هو أعظم الأمور وأشدها خطرا وهو الانقطاع عن الطلب بالكلية والوصول إلى مجرد الخيال والمحال فمن خرج عن الدليل : ضل سواء السبيل
فإن قيل : تعلقه في المسير بالدليل : يفرق عليه عزمه وقلبه فإن الدليل يفرق والمدلول يجمع فالسالك يقصد الجمعية على المدلول فماله ولتفرقة الدليل قيل : هذه هي البلية التي لأجلها أعرض من أعرض من السالكين عن العلم ونهى عنه وجعلت علة في الطريق ووقع هذا في زمن الشيوخ القدماء العارفين فأنكروه غاية الإنكار وتبرأوا منه ومن قائله وأوصوا بالعلم وأخبروا أن طريقهم مقيدة بالعلم لا يفلح فيها من لم يتقيد بالعلم والجنيد كان من أشد الناس مبالغة في الوصية بالعلم وحثا لأصحابه عليه والتفرق في الدليل خير من الجمعية على الوهم والخيال فإنه لا يعرف كون الجمعية حقا إلا بالدليل والعلم فالدليل والعلم ضروريان للصادق لا يستغنى عنهما نعم يقينه ونور بصيرته وكشفه : يغنيه عن كثير من الأدلة التي يتكلفها المتكلفون وأرباب القال فإنه مشغول عنها بما هو أهم منها وهو الغاية المطلوبة
مثاله : أن المتكلم يفني زمانه في تقرير حدوث العالم وإثبات وجود الصانع وذلك أمر مفروغ منه عند السالك الصادق صاحب اليقين فالذي يطلبه هذا الاستدلال الذي هو عرضة الشبه والأسئلة والإيرادات التي لا نهاية لها هو كشف ويقين للسالك فتقيده في سلوكه بحال هذا المتكلم انقطاع وخروج عن الفتوة وهذا حق لا ينازع فيه عارف فترى المتكلم يبحث في الزمان والمكان

والجواهر والأعراض والأكوان وهمته مقصورة عليها لا يعدوها ليصل منها إلى المكون وعبوديته والسالك قد جاوزها إلى جمع القلب على المكون وعبوديته بمقتضى أسمائه وصفاته لا يلتفت إلى غيره ولا يشتغل قلبه بسواه
فالمتكلم متفرق مشتغل في معرفة حقيقة الزمان والمكان والعارف قد شح بالزمان أن يذهب ضائعا في غير السير إلى رب الزمان والمكان وبالجملة : فصاحب هذه الدرجة لا يتعلق في سيره بدليل ولا يمكنه السير إلا خلف الدليل وكلاهما يجتمع في حقه فهو لا يفتقر إلى دليل على وجود المطلوب ولا يستغني طرفة عين عن دليل يوصله إلى المطلوب فسير الصادق على البصيرة واليقين والكشف لا على النظر والاستدلال وأما قوله : ولا تشوب إجابتك بعوض أي تكون إجابتك لداعي الحق خالصة إجابة محبة ورغبة وطلب للمحبوب ذاته غير مشوبة بطلب غيره من الحظوظ والأعواض فإنه متى حصل لك حصل لك كل عوض وكل حظ به وكل قسم كما في الأثر الإلهي : ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء فمن أعرض عن طلب ما سوى الله ولم يشب طلبه له بعوض بل كان حبا له وإرادة خالصة لوجهه فهو في الحقيقة الذي يفوز بالأعواض والأقسام والحظوظ كلها فإنه لما لم يجعلها غاية طلبه توفرت عليه في حصولها وهو محمود مشكور مقرب ولو كانت هي مطلوبة لنقصت عليه بحسب اشتغاله بطلبها وإرادتها عن طلب الرب تعالى لذاته وإرادته
فهذا قلبه ممتليء بها والحاصل له منها : نزر يسير والعارف ليس قلبه متعلقا بها وقد حصلت له كلها فالزهد فيها لا يفيتكها بل هو عين حصولها والزهد في الله هو الذي يفيتكه ويفيتك الحظوظ وإذا كان لك أربعة عبيد أحدهم :

يريدك ولا يريد منك بل إرادته مقصورة عليك وعلى مرضاتك والثاني : يريد منك ولا يريدك بل إرادته مقصورة على حظوظه منك والثالث : يريدك ويريد منك والرابع : لا يريدك ولا يريد منك بل هو متعلق القلب ببعض عبيدك فله يريد ومنه يريد فإن آثر العبيد عندك وأحبهم إليك وأقربهم منك منزلة والمخصوص من إكرامك وعطائك بما لا يناله العبيد الثلاثة : هو الأول هكذا نحن عندالله سواء وأما قوله : ولا تقف في شهودك على رسم فيعني : أن لا يكون منك نظر إلى السوي عند الشهود كما تقدم مرارا وهذا عند القوم غير مكتسب فإن الشهود إذا صح محا الرسوم ضرورة في نظر الشاهد فلا حاجة إلى أن يشرط عليه عدم الوقوف عليها والشهود الصحيح ماح لها بالذات لكن أوله قد لا يستغني عن الكسب ونهايته لا تقف على كسب قال : واعلم أن من أحوج عدوه إلى شفاعة ولم يخجل من المعذرة إليه : لم يشم رائحة الفتوة
يعني أن العدو متى علم أنك متألم من جهة ما نالك من الأذى منه احتاج إلى أن يعتذر إليك ويشفع إليك شافعا يزيل ما في قلبك منه فالفتوة كل الفتوة : أن لا تحوجه إلى الشفاعة بأن لا يظهر له منك عتب ولا تغير عما كان له منك قبل معاداته ولا تطوي عنه بشرك ولا برك وإذا لم تخجل أنت من قيامه بين يديك مقام المعتذر لم يكن لك في الفتوة نصيب
ولا تستعظم هذا الخلق فإن للفتيان ما هو أكبر منه ولا تستصعبه فإنه موجود في كثير من الشطار والعشراء الذين ليس لهم في حال المعرفة ولا في لسانها نصيب فأنت أيها العارف أولى به

قال : وفي علم الخصوص : من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال : لم يحل له دعوى الفتوة أبدا كأنه يقول : إذا لم تحوج عدوك إلى العذر والشفاعة ولم تكلفه طلب الاستدلال على صحة عذره فكيف تحوج وليك وحبيبك إلى أن يقيم لك الدليل على التوحيد والمعرفة ولا تشير إليه حتى يقيم لك دليلا على وجوده ووحدانيته وقدرته ومشيئته فأين هذا من درجة الفتوة
وهل هذا إلا خلاف الفتوة من كل وجه
ولو أن رجلا دعاك إلى داره فقلت للرسول : لا آتي معك حتى تقيم لي الدليل على وجود من أرسلك وأنه مطاع وأنه أهل أن يغشى بابه لسكنت في دعوى الفتوة زنيما فكيف بمن وجوده ووحدانيته وقدرته وربوبيته وإلهيته : أظهر من كل دليل تطلبه فما من دليل يستدل به إلا ووحدانية الله وكماله أظهر منه فإقرار الفطر بالرب سبحانه خالق العالم : لم يوقفها عليه موقف ولم تحتج فيه إلى نظر واستدلال : أفي الله شك فاطر السموات والأرض إبراهيم : 10 فأبعد الناس من درجة الفتوة : طالب الدليل على ذلك
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المروءة
المروءة فعولة من لفظ المرء كالفتوة من الفتى والإنسانية من الإنسان ولهذا كان حقيقتها : اتصاف النفس بصفات الإنسان التي فارق بها الحيوان البهيم والشيطان الرجيم فإن في النفس ثلاثه دواع متجاذبة : داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشيطان : من الكبر والحسد والعلو والبغي والشر والأذى والفساد والغش وداع يدعوها إلى أخلاق الحيوان وهو داعي الشهوة

وداع يدعوها إلى أخلاق الملك : من الإحسان والنصح والبر والعلم والطاعة فحقيقة المروءة : بغض ذينك الداعيين وإجابة الداعي الثالث وقلة المروءة وعدمها : هو الاسترسال مع ذينك الداعيين والتوجه لدعوتهما أين كانت فالإنسانية والمروءة والفتوة : كلها في عصيان الداعيين وإجابة الداعي الثالث
كما قال بعض السلف : خلق الله الملائكة عقولا بلا شهوة وخلق البهائم شهوة بلا عقول وخلق ابن آدم وركب فيه العقل والشهوة فمن غلب عقله شهوته : التحق بالملائكة ومن غلبت شهوته عقله : التحق بالبهائم ولهذا قيل في حد المروءة : إنها غلبة العقل للشهوة وقال الفقهاء في حدها : هي استعمال ما يجمل العبد ويزينه وترك ما يدنسه ويشينه وقيل : المروءة استعمال كل خلق حسن واجتناب كل خلق قبيح وحقيقة المروءة تجنب للدنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال فمروءة اللسان : حلاوته وطيبه ولينه واجتناء الثمار منه بسهولة ويسر ومروءة الخلق : سعته وبسطه للحبيب والبغيض ومروءة المال : الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلا وعرفا وشرعا ومروءة الجاه : بذله للمحتاج إليه ومروءة الإحسان : تعجيله وتيسيره وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه ونسيانه بعد وقوعه فهذه مروءة البذل
وأما مروءة الترك : فترك الخصام والمعاتبة والمطالبة والمماراة والإغضاء عن عيب ما يأخذه من حقك وترك الاستقصاء في طلبه والتغافل عن عثرات

الناس وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد منهم عثرة والتوقير للكبير وحفظ حرمة النظير ورعاية أدب الصغير وهي على ثلاث درجات
الدرجة الأولى : مروءة المرء مع نفسه وهي أن يحملها قسراعلى ما يجمل ويزين وترك ما يدنس ويشين ليصير لها ملكة في العلانية فمن أراد شيئا في سره وخلوته : ملكه في جهره وعلانيته فلا يكشف عورته في الخلوة ولا يتجشأ بصوت مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلا ولا يخرج الريح بصوت وهو يقدر على خلافه ولا يجشع وينهم عند أكله وحده
وبالجملة : فلا يفعل خاليا ما يستحي من فعله في الملإ إلا مالا يحظره الشرع والعقل ولا يكون إلا في الخلوة كالجماع والتخلي ونحو ذلك الدرجة الثانية : المروءة مع الخلق بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخلق الجميل ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه وليتخذ الناس مرآة لنفسه فكل ما كرهه ونفر عنه من قول أو فعل أو خلق فليجتنبه وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله
وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكل من خالطه وصاحبه من كامل وناقص وسيء الخلق وحسنه وعديم المروءة وغزيرها وكثير من الناس : يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها كما روي عن بعض الأكابر : أنه كان له مملوك سيء الخلق فظ غليظ لا يناسبه فسئل عن ذلك فقال : أدرس عليه مكارم الأخلاق وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق في ضد أخلاقه ويكون بتمرين النفس على مصاحبته ومعاشرته والصبر عليه الدرجة الثالثة : المروءة مع الحق سبحانه بالاستحياء من نظره إليك وإطلاعه عليك في كل لحظة ونفس وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان فإنه قد اشتراها منك وأنت ساع في تسليم المبيع وتقاضي الثمن وليس من

المروءة : تسليمه على ما فيه من العيوب وتقاضي الثمن كاملاأو رؤية منته في هذا الإصلاح وأنه هو المتولي له لا أنت فيغنيك الحياء منه عن رسوم الطبيعة والاشتغال بإصلاح عيوب نفسك عن التفاتك إلى عيب غيرك وشهود الحقيقة عن رؤية فعلك وصلاحك
وكل ما تقدم في منزلة الخلق و الفتوة فإنه بعينه في هذه المسألة فلذلك اقتصرنا منها على هذا القدر وصاحب المنازل رحمه الله استغني بما ذكر في الفتوة والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة البسط والتخلي عن القبض
وهي منزلة شريفة لطيفة وهي عنوان على الحال وداعية لمحبة الخلق
وقد غلط صاحب المنازل حيث صدرها بقوله تعالى حاكيا عن كليمه موسى عليه الصلاة و السلام : إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء الأعراف : 155 وكأنه فهم من هذا الخطاب : انبساطا بين موسى وبين الله تعالى حمله على أن قال : إن هي إلا فتنتك وسمعت بعض الصوفية يقول لآخر وهما في الطواف لما قال : إن هي إلا فتنتك تدارك هذا الانبساط بالتذلل بقوله : أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين الأعراف : 155 أو نحو من هذا الكلام
وكل هذا وهم وفهم خلاف المقصود فالفتنة ههنا : هي الامتحان والاختبار كقوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا وقوله : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتهم فيه الجن : 1617 وقوله : ونبلوكم بالشر والخير فتنة الأنبياء : 35 والمعنى : أن هذه الفتنة اختبار منك لعبدك وامتحان تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء فأى تعلق لهذا بالانبساط وهل هذا إلا توحيد وشهود

للحكمة وسؤال للعصمة والمغفرة وليس للعارف في هذه المنزلة حظ مع الله وإنما هي متعلقة بالخلق
وصاحب المنازل : جعلها ثلاث درجات الأولى : مع الناس والثانية والثالثة : مع الله وسنبين ما في كلامه بحول الله وقوته وتوفيقه قال : الانبساط : إرسال السجية والتحاشي من وحشة الحشمة السجية الطبع وجمعها سجايا يقال : سجية وخليفة وطبيعة وغريزة و إرسالها تركها في مجراها
والتحاشي من وحشة الحشمة التحاشي : هو تجنب الوحشة الواقعة بينك وبين من تحبه وتخدمه فإن مرتبته تقتضي احتشامه والحياء منه وإجلاله عن انبساطك إليه وذلك نوع وحشة فالانبساط : إزالة تلك الوحشة لا تسقطك من عينه بل تزيدك حبا إليه ولا سيما إذا وقع في موقعه قال : وهو السير مع الجبلة أي المشي مع ما جبل الله عليه العبد من الأخلاق من غير تكلف
قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الانبساط مع الخلق وهو أن لا تعتزلهم ضنا على نفسك أو شحا على حظك وتسترسل له في فضلك وتسعهم بخلقك وتدعهم يطؤونك والعلم قائم وشهود المعنى دائم يريد : لا تبخل عليهم بنفسك فيحملك ذلك البخل على اعتزالهم وتشح بحظك في الخلوة وراحة العزلة : أن تذهب بمخالطتهم بل تحملك السماحة والجود والبذل على أن تترك ذلك لراحة إخوانك بك وانتفاعهم بمجالستك فتتكرم عليهم بحظك في عزلتك وخلوتك وتؤثرهم به على نفسك وهذا من الفتوة والمروءة والتخلق ضد من أضدادها قوله : وتسترسل لهم في فضلك

يعني : إذا استرسلت معهم ولم تجذب عنهم عنانك : نالوا من فضلك فيكون استرسالك سببا لنيلهم لفضلك وقبض العنان سببا للحرمان وتسعهم بخلقك باحتمال ما يبدو منهم من سوء العشرة فخذ منهم ما أمر الله نبيه أن يأخذه من أخلاق الناس وهو العفو وتدعهم يطؤونك أي يدوسونك من لينك وتواضعك وخفض جناحك بحيث لا تترك لنفسك بينهم رتبة تتقاضاهم أن يحترموك لأجلها هذا معنى كلامه وقوله : والعلم قائم وشهود المعنى دائم أما قيام العلم : فهو أن يكون هذا الاسترسال موافقا للشرع غير مخرج عن حدوده وآدابه بحيث لا تحملهم على تعدي حدود الله وتضييع حقه وحقوق عباده
وأما دوام شهود المعنى فهو حفظ حالك وقلبك مع الله ودوام إقبالك عليه بقلبك كله فأنت معهم مسترسل بشبحك ورسمك وصورتك فقط ومفارقهم بقلبك وسرك مشاهدا للمعنى الذي به حياتك فإذا فارقته كنت كالحوت إذا فارق الماء فإن هذا المعنى هو حياة القلب والروح فإذا فات العبد علته الكآبة وغمره الهم والغم والأحزان وتلون في أفعاله وأقواله وتاه قلبه في الأودية والشعاب وفقد نعيم الدنيا والآخرة وهذا هو الذي أشار إليه يحيى الصرصري في قوله :
إذا صار قلب العبد للسر معدنا ... تلوح على أعطافه بهجة السنا
وإن فاته المعنى علته كآبة ... فأصبح في أفعاله متلونا فمتى كان شهود هذا المعنى قائما في قلبك : لا يضرك مخالطة من لا تسلبك إياه مخالطته والانبساط إليه

فصل قال : الدرجة الثانية : الانبساط مع الحق وهو أن لا يحبسك
خوف ولا يحجبك رجاء ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء يريد : أن لا يمنعك عن الانبساط إليه خوف فإن مقام الخوف لا يجامع مقام الانبساط والخوف من أحكام اسم القابض والانبساط من أحكام اسم الباسط و البسط عندهم : من مشاهدة أوصاف الجمال والإحسان والتودد والرحمة و القبض من مشاهدة أوصاف الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام وبعضهم يجعل الخوف من منازل العامة والانبساط من منازل الخاصة إذ الانبساط لا يكون إلا للعارفين أرباب التجليات وليس في حق هؤلاء خوف وأما قوله : ولا يحجبك رجاء فلأن الراجي لطلبه حاجته تحتاج إلى التملق والتذلل فيحجبه رجاؤه وطمعه فيما يناله من المعظم عن انبساطه كالسائل للغني فإن سؤاله وطمعه يمنعه من انبساطه إليه فإذا غاب عن ذلك انبسط وقوله : ولا يحول بينك وبينه آدم ولا حواء استعارة
والمعنى : أنك تراه أقرب إليك من أبيك وأمك وأرحم بك منهما وأشفق عليك فلا توسط بينك وبينه أبا خرجت من صلبه ولا أما ركضت في رحمها
وفيه معنى آخر وهو الإشارة إلى أنك تشاهد خلقه لك بلا واسطة كما خلق آدم وحواء فتشاهد خلقه لك بيده ونفخه فيك من روحه وإسجاد ملائكته لك وإبعاد إبليس حيث لم يسجد لك وأنت في صلب أبيك آدم

وهذا يوجب لك شهود الانطواء عن الانبساط وهو رحب الهمة لانطواء انبساط العبد في بسط الحق جل جلاله
ومعنى هذا : أن لا يرى العبد لنفسه انبساطا ولا انقباضا بل ينطوي انبساطه ويضمحل في صفة البسط التي للحق جل جلاله وهذا شهود معنى اسم الباسط عز و جل فهذا تقدير كلامه على أن فيه مقبولا ومردودا ولا معنى لتعلق هذه الصفة بالرب تعالى ألبتة وأما تعلقها بالخلق : فصحيح
نعم ههنا مقام اشتباه وفرق وهو أن المحب الصادق : لابد أن يقارنه أحيانا فرح بمحبوبه ويشتد فرحه به ويرى مواقع لطفه به وبره به وإحسانه إليه وحسن دفاعه عنه والتلطف في إيصاله المنافع والمسار والمبار إليه بكل طريق ودفع المضار والمكاره عنه بكل طريق وكلما فتش عن ذلك اطلع منه على أمور عجيبة لا يقف وهمه ومقتبسه لها على غاية بل ما خفي عنه منها أعظم فيداخله من شهود هذه الحالة نوع إدلال وانبساط وشهود نفسه في منزلة المراد المحبوب ولا يسلم من آفات ذلك إلا خواص العارفين
وصاحب هذا المقام نهايته : أن يكون معذورا وما يبدو منه من أحكامه بالشطحات أليق منه بأحكام العبودية
ولم يكن لأحد من البشر في منزلة القرب والكرامة والحظوة والجاه : ما لرسول الله من ربه تبارك وتعالى فكان أشد الخلق لله

خشية وتعظيما وإجلالا وحاله كلها مع الله تشهد بتكميل العبودية وأين درجة الانبساط من المخلوق من التراب إلى الانبساط مع رب الأرباب
نعم لا ينكر فرح القلب بالرب تعالى وسروره به وابتهاجه وقرة عينه ونعيمه بحبه والشوق إلى لقائه : إلا كثيف الحجاب حجري الطباع فلا بهذا الميعان ولا بذاك الجمود والقسوة
وبهذا ومثله طرق المتأخرون من القوم السبيل إليهم وفتحوا للمقالة فيهم بابا فالعبد الخائف الوجل المشفق الذليل بين يدي الله عز و جل المنكس الرأس بين يديه الذي لا يرضى لربه شيئا من عمله : هو أحوج شيء إلى عفوه ورحمته ولا يرى نفسه في نعمته إلا طفيليا ولا يرى نفسه محسنا قط وإن صدر منه إحسان : علم أنه ليس من نفسه ولا بها ولا فيها وإنما هو محض منة الله عليه وصدقته عليه فما لهذا والانبساط
نعم انبساطه انبساط فرح وسرور ورضى وابتهاج فإن كان المراد بالانبساط هذا : فلا ننكره لكنه غير الاسترسال المذكور والاستشهاد عليه بالآية يبين مراده والله أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة العزم
وقد ذكرنا في أول الكتاب أنه نوعان

أحدهما : عزم المريد على الدخول في الطريق وهو بداية والثاني : عزم السالك وهو مقام ذكره صاحب المنازل في وسط كتابه في قسم الأصول فقال : هو تحقيق القصد طوعا أو كرها أما قوله : تحقيق القصد فهو أن يكون قصده محققا لا يشوبه شيء من التردد
وأما تقسيمه هذا التحقيق إلى طوع وكره : فصحيح فإن المختار : تحقيق قصده طوعا وأما المكره : فتحقيق قصده كرها فإنه إذا أكره على فعل وعزم عليه : فقد حقق قصده كرها لا طوعا واختلف الفقهاء والأصوليون في المكره : هل يسمى مختارا أم لا
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : والتحقيق أنه محمول على الاختيار فله اختيار في الفعل وبه صح وقوعه فإنه لولا إرادته واختياره : لما وقع الفعل ولكنه محمول على أن هذه الإرادة والاختيار ليست من قبله فهو مختار باعتبار أن حقيقة الإرادة والاختيار منه وغير مختار باعتبار أن غيره حمله على الاختيار ولم يكن مختارا من نفسه هذا معنى كلامه قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : إباء الحال على العلم لشيم برق الكشف واستدامة نور الأنس والإجابة لإماتة الهوى يريد ب إباء الحال على العلم استعصاؤه عليه وأن صاحب الحال : تأبى عليه حاله أن ينزل منه إلى درجة العلم ويصعب عليه ذلك كل الصعوبة وهو انحطاط في رتبته ولا يريد امتناع الحال عن طاعة العلم وتحكيمه فإن هذا انحلال وانسلاخ

من الطريق بالكلية فكل حال لا يطيع العلم ولا يحكمه فهو حال فاسد مبعد عن الله لكن من وصل إلى حال العلم لم يحجبه حاله أن ينزل إلى درجة العلم وينحط إليها بلا حال فإن كان مراده هذا المعني : فهو صحيح وإن كان مراده : امتناع الحال عن طاعة العلم لأن العلم يدعو إلى أحكام الغيبة والحجاب والحال يدعو إلى أنس الكشف والحضور فصاحب الحال لا يلتفت إلى العلم : فباطل فإن العلم شرط في الحال تستحيل معرفة صحته بدونه
نعم لا ينكر حصوله بدون العلم لكن صاحبه على غير بصيرة ولا وثوق به وشيم برق الكشف هو النظر إليه على بعد فإن صاحب الحال : عامل على شيم برق الكشف لأن شيم برق الكشف : يوجب نورا يأنس به القلب فعزيمة صاحبه : على استدامته وحفظه وأما الإجابة لإماته الهوى فهو أن السالك إذا أشرف على الكشف : أحس بحالة شبيهة بالموت حتى أن منهم من يسقط إلى الأرض ويظن ذلك موتا وهذه الحال من مبادىء الفناء فتهوى نفسه العود إلى الحجاب خوفا من الانعدام لما جبلت عليه النفس البشرية من كراهة الموت فإذا حصل العزم أميت هذا الهوى ولم يلتفت إليه رغبة فيما يطلبه من الفناء في الفردانية فإن الحقيقة لا تبدأ إلا بعد فناء البشرية
وهذا الذي قاله حق لا ينكره إلا من لم يذقه وإنما الكلام في مرتبته وأنه غاية أو توسط أو لازم أو عارض فشيخنا رحمه الله كان يرى أنه عارض من عوارض الطريق لا يعرض للكمل ومن السالكين من لم يعرض له ألبتة
ومن الناس من يراه لازما للطريق لابد منه
ومن الناس من يراه غاية لا شيء فوقه

ومنهم من يراه توسطا وفوقه ما هو أجل منه وأرفع وهو حالة البقاء والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : الاستغراق في لوائح المشاهدة واستنارة
ضياء الطريق واستجماع قوى الاستقامة هذه ثلاثة أشياء أحدها : فقدان الإحساس بغيره لاستغراقه في مشاهدته الثاني : استنارة ضياء الطريق
يعني ظهور الجادة له ووضوحها واتصالها بمطلوبه وهذا كمن هو سائر إلى مدينة فإذا شارفها ورآها : رأى الطريق حينئذ واضحة إليها واستنار له ضياؤها واتصالها بالمدينة وكان قبل مشاهدة المدينة على علم أو ظن يجوز معه أن يضيع عن باب المدية وأما الآن : فقد أمن من أن يضيع عن الباب وكذلك هذا السالك : قد انقطعت عنه الموانع واستبان له الطريق وأيقن بالوصول وصارت حاله حال معاين باب المدينة من حين يقع بصره عليه وكحال معاين الشفق الأحمر قرب طلوع الشمس حيث تيقن أن الشمس بعده قوله : واستجماع قوى الاستقامة يعني : تستجمع له قوى الظاهر والباطن على قصد الوصول والعزم عليه لمشاهدته ما هو سائر إليه وهكذا عادة المسافر : أنه إذا عاين القرية التي يريد دخولها أسرع السير وبذل الجهد وكذلك المسابق إذا عاين الغاية : استفرغ قوى جريه وسوقه وكذلك الصادق في آخر عمره : أقوى عزما وقصدا من أوله لقرابه من الغاية التي يجري إليها والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثالثة : معرفة علة العزم على التخلص من العزم
ثم الخلاص من تكاليف ترك العزم فإن العزائم لم تورث أربابها ميراثا أكرم من وقوفهم على علل العزائم معرفة علة العزم هي نسبته إلى نفسه فإذا عرف أن العزم مجرد فضل الله وإيثاره وتوفيقه وأنه ليس من العبد : فنسبته إياه بعد ذلك إلى نفسه علة قادحة فيه فإذا لاح له لائح الكشف وشهد توحيد الفضل علم حينئذ علة عزمه وهو نسبته إياه إلى نفسه ورؤيته له فإذا عرف هذه العلة عزم على التخلص منها بالعزم على التخلص من العزم وهذا قد يسبق منه إلى الذهن تناقض وتدافع فكيف يتخلص من العزم بالعزم ومراده : أن يعزم على التخلص من العزم المنسوب إليه بالعزم الذي هو مجرد فضل الله وموهبته ولا تناقض حينئذ فيتخلص من العزم بالعزم كما ينازع القدر بالقدر وأما الخلاص من ترك تكاليف العزم فهو أنه إذا تخلص من هذا العزم وتركه : بقيت عليه بقية وهي رؤيته أنه قد ترك فعليه التخلص من رؤية هذا الترك فهو يطلب الآن الخلاص من رؤية ترك العزم كما كان يطلب ترك العزم
قوله : فإن العزائم لم تورث أربابها ميراثا أكرم من وقوفهم على علل العزائم مدار علل العزائم : على ثلاثة أشياء : أحدها : فتورها وضعفها الثاني : عدم تجردها من الأغراض وشوائب الحظوظ الثالث : رؤية العزائم وشهودها ونسبتها إلى أنفسهم

فإذا عرف هذه الثلاثة : عرف علل العزائم والله المستعان وهو سبحانه وتعالى أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإرادة
قال الله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه الأنعام : 52 وقال تعالى : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى الليل : 1921 وقال تعالى : وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراعظيما الأحزاب : 29
وقد أشكل على المتكلمين تعلق الإرادة بالله وكون وجهه تعالى مرادا قالوا : الإرادة لا تتعلق إلا بالحادث وأما بالقديم : فلا لأن القديم لا يراد وأولوا الإرادة المتعلقة به بإرادة التقرب إليه ثم إنه لا يتصور عندهم التقرب إليه فأولوا ذلك بإرادة طاعته الموجبة لجزائه هذا حاصل ما عندهم وحجابهم في هذا الباب : غليظ كثيف من أغلظ الحجب وأكثفها ولهذا تجدهم أهل قسوة ولا تجد عليهم روح السلوك ولا بهجة المحبة والطلب والإرادة عند أرباب السلوك : هي التجرد عن الإرادة فلا تصح عندهم الإرادة إلا لمن لا إرادة له ولا تظن أن هذا تناقض بل هو محض الحق واتفاق كلمة القوم عليه
وقد تنوعت عبارات القوم عنها وغالبهم يخبر عنها بأنها ترك العادة ومعنى هذا : أن عادة الناس غالبا التعريج على أوطان الغفلة وإجابة داعي الشهوة والإخلاد إلى أرض الطبيعة والمريد منسلخ عن ذلك فصار خروجه عنه : أمارة ودلالة على صحة الإرادة فسمي انسلاخه وتركه إرادة وقيل : نهوض القلب في طلب الحق

ويقال : لوعة تهون كل روعة قال الدقاقي : الإرادة لوعة في الفؤاد لذعة في القلب غرام في الضمير انزعاج في الباطن نيران تأجج في القلوب
وقيل : من صفات المريد التحبب إلى الله بالنوافل والإخلاص في نصيحة الأمة والأنس بالخلوة والصبر على مقاساة الأحكام والإيثار لأمره والحياء من نظره وبذل المجهود في محبوبه والتعرض لكل سبب يوصل إليه والقناعة بالخمول وعدم قرار القلب حتى يصل إلى وليه ومعبوده
وقال حاتم الأصم : إذا رأيت المريد يريد غير مراده فاعلم أنه أظهر نذالته وقيل : من حكم المريد : أن يكون نومه غلبة وأكله فاقة وكلامه ضرورة وقال بعضهم : نهاية الإرادة : أن تشير إلى الله فتجده مع الإشارة فقيل له : وابنتستوعبه الإشارة فقال : أن تجد الله بلا إشارة وهذا كلام متينفإن المراتب ثلاثة : أعلاها : أن يكون واجدا لله في كل وقت لا يتوقف وجوده له على الإشارة منه ولا من غيره الثاني : أن يكون له ملكة وحال وإرادة تامة بحيث إنه متى أشير له إلى الله وجده عند إشارة المشير الثالث : أن لا يكون كذلك ويتكلف وجدانه عند الإشارة إليه فالمرتبة الأولى : للمقربين السابقين والوسطى : للأبرار المقتصدين والثالثة : للغافلين
وقال أبو عثمان الحيري : من لم تصح إرادته ابتداء فإنه لا يزيده مرور الأيام عليه إلا إدبارا

وقال : المريد إذا سمع شيئا من علوم القوم فعمل به : صار حكمة في قلبه إلى آخر عمره ينتفع به وإذا تكلم انتفع به من سمعه ومن سمع شيئا من علومهم ولم يعمل به كان حكاية يحفظها أياما ثم ينساها وقال الواسطي : أول مقام المريد : إرادة الحق بإسقاط إرادته وقال يحيى بن معاذ : أشد شيء على المريد : معاشرة الأضداد وسئل الجنيد : ما للمريد حظ في مجازات الحكايات فقال : الحكايات جند من جند الله يثبت الله بها قلوب المريدين ثم قرأ قوله تعالى : وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك هود : 120
وقد ذكر عن الجنيد كلمتان في الإرادة مجملتان تحتاج كل منهما إلى تفسير الكلمة الواحدة : قال أبو عبدالرحمن السلمي : سمعت محمد بن مخلد يقول : سمعت جعفرا يقول : سمعت الجنيد يقول : المريد الصادق غني من العلماء
وقال أيضا : سمعت الجنيد يقول : إذا أراد الله بالمريد خيرا : أوقعه إلى الصوفيه ومنعه صحبة القراء
قلت : إذا صدق المريد وصح عقد صدقه مع الله : فتح الله على قلبه ببركة الصدق وحسن المعاملة مع الله : ما يغنيه عن العلوم التي هي نتائج أفكار الناس وآرائهم وعن العلوم التي هي فضلة ليست من زاد القبر وعن كثير من إشارات الصوفية وعلومهم التي أفنوا فيها أعمارهم : من معرفة النفس وآفاتها وعيوبها ومعرفة مفسدات الأعمال وأحكام السلوك فإن حال صدقه وصحة طلبه : يريه ذلك كله بالفعل
ومثال ذلك : رجل قاعد في البلد يدأب ليله ونهاره في علم منازل الطريق وعقباتها وأوديتها ومواضع المتاهات فيها والموارد والمفاوز وآخر : حمله الوجد وصدق الإرادة على أن ركب الطريق وسار فيها فصدقه يغنيه عن علم ذلك القاعد ويريه إياها في سلوكه عيانا

وأما أن يغنيه صدق إرادته عن علم الحلال والحرام وأحكام الأمر والنهي ومعرفة العبادات وشروطها وواجباتها ومبطلاتها وعن علم أحكام الله ورسوله على ظاهره وباطنه : فقد أعاذ الله من هو دون الجنيد من ذلك فضلا عن سيد الطائفة وإمامها وإنما يقول ذلك قطاع الطريق وزنادقة الصوفية وملاحدتهم الذين لا يرون اتباع الرسول شرطا في الطريق وأيضا فإن المريد الصادق : يفتح الله على قلبه وينوره بنور من عنده مضاف إلىا معه من نور العلم يعرف به كثيرا من أمر دينه فيستغني به عن كثير من علم الناس فإن العلم نور وقلب الصادق ممتلىء بنور الصدق ومعه نور الإيمان والنور يهدي إلى النور والجنيد أخبر بهذا عن حاله وهذا أمر جزئي ليس على عمومه بل صدقه يغنيه عن كثير من العلم وأما عن جملة العلم : فكلام أبي القاسم الثابت عنه في ضرورة الصادق إلى العلم وأنه لا يفلح من لم يكن له علم وأن طريق القوم مقيدة بالعلم وأنه لا يحل لأحد أن يتكلم في الطريق إلا بالعلم فمشهور معروف قد ذكرنا فيما مضى طرفا منه كقوله : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة
وأيضا فإن علم العلماء الذين أشار إليهم : هو ما فهموه واستنبطوه من القرآن والسنة

والمريد الصادق : هو الذي قرأ القرآن وحفظ السنة والله يرزقه ببركة صدقه ونور قلبه فهما في كتابه وسنة رسوله يفنيه عن تقليد فهم غيره
وأما قوله يعني الجنيد إذا أراد الله بالمريد خيرا : أوقعه على الصوفية ومنعه صحبة القراء
فالقراء في لسانهم : هم أهل التنسك والتعبد سواء كانوا يقرءون القرآن أم لا فالقارىء عندهم : هو الكثير التعبد والتنسك الذي قد قصر همته على ظاهر العبادة دون أرواح المعارف ودون حقائق الإيمان وروح المحبة وأعمال القلوب فهمتهم كلها إلى العبادة ولا خبر عندهم مما عند أهل التصوف وأرباب القلوب وأهل المعارف ولهذا قال من قال : طريقنا تفت لا تقسر
فسير هؤلاء : بالقلوب والأرواح وسير أولئك : بمجرد القوالب والأشباح وبين أرواح هؤلاء وقلوبهم وأرواح هؤلاء وقلوبهم : نوع تناكر وتنافر ولا يقدر أحدهم على صحبة النوع الآخر إلا على نوع إغضاء وتحميل للطبيعة ما تأباه وهو من جنس ما بينهم وبين ظاهرية الفقهاء من التنافر ويسمونهم : أصحاب الرسوم ويسمون أولئك : القراء والطائفتان عندهم : أهل ظواهر لا أرباب حقائق هؤلاء مع رسوم العلم وهؤلاء مع رسوم العبادة ثم إنهم في أنفسهم فريقان : صوفية وفقراء وهم متنازعون في ترجيح الصوفية على الفقراء أو بالعكس أو هما سواء على ثلاثة أقوال فطائفة رجحت الصوفي منهم كثير من أهل العراق وعلى هذا صاحب العوارف وجعلوا نهاية الفقير : بداية الصوفي
وطائفة رجحت الفقير وجعلوا الفقر لب التصوف وثمرته وهم كثير من أهل خراسان

وطائفة ثالثة قالوا : الفقر والتصوف شيء واحد وهؤلاء هم أهل الشام ولا يستقيم الحكم بين هؤلاء وهؤلاء حتى تتبين حقيقة الفقر والتصوف وحينئذ يعلم : هل هما حقيقة واحدة أو حقيقتان ويعلم راجحهما من مرجوحهما وسترى ذلك مبينا إن شاء الله في منزلتي الفقر والتصوف إذا انتهينا إليهما إن ساعد الله ومن بفضله وتوفيقه فلا حول ولا قوة إلا بالله وبه المستعان وعليه التكلان وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والمقصود : أن المراتب عندهم ثلاثة : مرتبة التقوى وهي مرتبة التعبد والتنسك ومرتبة التصوف وهي مرتبة التفتي بكل خلق حسن والخروج من كل خلق ذميم
ومرتبة الفقر وهي مرتبة التجرد وقطع كل علاقة تحول بين القلب وبين الله تعالى
فهذه مراتب طلاب الآخرة ومن عداهم : فمع القاعدين المتخلفين فأشار أبو القاسم الجنيد إلى أن المريد لله بصدق إذا أراد الله به خيرا : أوقعه على طائفة الصوفية يهذبون أخلاقه ويدلونه على تزكية نفسه وإزالة أخلاقها الذميمة والاستبدال بالأخلاق الحميدة ويعرفونه منازل الطريق ومفازاتها وقواطعها وآفاتها
وأما القراء : فيدقونه بالعبادة من الصوم والصلاة دقا ولا يذيقونه شيئا من حلاوة أعمال القلوب وتهذيب النفوس إذ ليس ذلك طريقهم ولهذا بينهم وبين أرباب التصوف نوع تنافر كما تقدم

والبصير الصادق : يضرب في كل غنيمة بسهم ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها ولا يتحيز إلى طائفة وينأى عن الأخرى بالكلية : أن لا يكون معها شيء من الحق فهذه طريقة الصادقين ودعوى الجاهلية كامنة في النفوس ولا أعني بذلك أصغريهم ولكني أريد به الدوينا سمع النبي في بعض غزواته قائلا يقول : يا للمهاجرين وآخر يقول : يا للأنصار ! فقال : ما بال دعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم هذا وهما اسمان شريفان سماهم الله بهما في كتابه فنهاهم عن ذلك وأرشدهم إلى أن يتداعوا ب المسلمين و المؤمنين و عباد الله وهي الدعوى الجامعة بخلاف المفرقة ك الفلانية و الفلانية فالله المستعان
وقال لأبي ذر : إنك امروء فيك جاهلية فقال : على كبر السن مني يا رسول الله قال : نعم فمن يأمن القراء بعدك يا شهر ولا يذوق العبد حلاوة الإيمان وطعم الصدق واليقين حتى تخرج الجاهلية كلها من قلبه والله لو تحقق الناس في هذا الزمان ذلك من قلب رجل لرموه عن قوس واحدة وقالوا : هذا مبتدع ومن دعاة البدع فإلى الله المشتكى وهو المسئول الصبر والثبات فلابد من لقائه وقد خاب من افترى طه : 61 وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون الشعراء : 227

فصل قال صاحب المنازل رحمه الله : باب الإرادة : قال الله تعالى قل
كل يعمل على شاكلته الإسراء : 84
في تصديره الباب بهذه الآية دلالة على عظم قدره وجلالة محله من هذا العلم فإن معنى الآية : كل يعمل على ما يشاكله ويناسبه ويليق به فالفاجر يعمل على ما يليق به وكذلك الكافر والمنافق ومريد الدنيا وجيفتها : عامل على ما يناسبه ولا يليق به سواه ومحب الصور : عامل على ما يناسبه ويليق به
فكل امرىء يهفو إلى ما يحبه وكل امرىء يصبو إلى ما يناسبه فالمريد الصادق المحب لله : يعمل ما هو اللائق به والمناسب له فهو يعمل على شاكلة إرادته وما هو الأليق به والأنسب لها قال : الإرادة : من قوانين هذا العلم وجوامع أبنيته وهي الإجابة لدواعي الحقيقة طوعا أو كرها
يريد : أن هذا العلم مبني على الإرادة فهي أساسه ومجمع بنائه وهو مشتمل على تفاصيل أحكام الإرادة وهي حركة القلب ولهذا سمي علم الباطن كما أن علم الفقه يشتمل على تفاصيل أحكام الجوارح ولهذا سموه علم الظاهر فهاتان حركتان اختياريتان وللعبد حركة طبيعية اضطرارية فالعلم المشتمل على تفاصيلها وأحكامها : هو علم الطب فهذه العلوم الثلاثة : هي الكفيلة بمعرفة حركات النفس والقلب وحركات اللسان والجوارح وحركات الطبيعة
فالطبيب : ينظر في تلك الحركات من جهة تأثر البدن عنها صحة واعتلالا وفي لوازم ذلك ومتعلقاته

والفقيه : ينظر في تلك الحركات من جهة موافقتها لأمر الشرع ونهيه وإذنه وكراهته ومتعلقات ذلك
والصوفي : ينظر في تلك الحركات من جهة كونها موصلة له إلى مراده أو قاطعة عنه ومفسدة لقلبه أو مصححة له وأما قوله : وهي الإجابة لداعي الحقيقة ف الإجابة هي الانقياد والإذعان و الحقيقة عندهم : مشاهدة الربوبية و الشريعة التزام العبودية فالشريعة : أن تعبده والحقيقة : أن تشهده فالشريعة : قيامك بأمره والحقيقة : شهودك لوصفه وداعي الحقيقة : هو صحة المعرفة فإن من عرف الله أحبه ولا بد
ولابد في هذه الإجابة من ثلاثة أشياء : نفس مستعدة قابلة لا تعوز إلا الداعي ودعوة مستمعة وتخلية الطريق من المانع فما انقطع من انقطع إلا من جهة من هذه الجهات الثلاث
وقوله : طوعا أو كرها يشير إلى المجذوب المختطف من نفسه والسالك إرادة واختيارا ومجاهدة قال : وهي على ثلاث درجات الدرجة الأولى : ذهاب عن العادات بصحة العلم والتعلق بأنفاس السالكين مع صدق القصد وخلع كل شاغل من الإخوان ومشتت من الأوطان هذا يوافق من حد الإرادة بأنها : مخالفة العادة وهي ترك عوائد النفس وشهواتها ورعوناتها وبطالاتها ولا يمكن ذلك إلا بهذه الأشياء التي أشار إليها وهي : صحبة العلم ومعانقته فإنه النور الذي يعرف العبد مواقع ما ينبغي إيثار طلبه وما ينبغي إيثار تركه فمن لم يصحبه العلم : لم تصح له إرادة باتفاق كلمة الصادقين ولا عبرة بقطاع الطريق
وقال بعضهم : متى رأيت الصوفي والفقير يقدح في العلم فاتهمه على الإسلام

ومنها : التعلق بأنفاس السالكين ولا ريب أن كل من تعلق بأنفاس قوم انخرط في مسلكهم ودخل في جماعتهم وقال : أنفاس السالكين ولم يقل : أنفاس العابدين فإن العابدين من شأنهم القيام بالأعمال وشأن السالكين مراعاة الأحوال وقوله : مع صدق القصد
يكون بأمرين أحدهما : توحيده والثاني : توحيد المقصود فلا يقع في قصدك قسمة ولا في مقصودك وقوله : وخلع كل شاغل من الإخوان : ومشتت من الأوطان
يشير إلى ترك الموانع والقواطع العائقة عن السلوك : من صحبة الأغيار والتعلق بالأوطان التي ألف فيها البطالة والنذالة فليس على المريد الصادق أضر من عشرائه ووطنه القاطعين له عن سيره إلى الله تعالى فليغترب عنهم بجهده والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : تقطع بصحبة الحال وترويح الأنس والسير
بين القبض والبسط أي ينقطع إلى صحبة الحال وهو الوارد الذي يرد على القلب من تأثيره بالمعاملة السالب لوصف الكسل والفتور الجالب له إلى مرافقة الرفيق الأعلى الذين أنعم الله عليهم فينتقل من مقام العلم إلى مقام الكشف ومن مقام رسوم الأعمال إلى مقام حقائقها وأذواقها ومواجيدها وأحوالها فيترقى من الإسلام إلى الإيمان ومن الإيمان إلى الإحسان
وأما ترويح الأنس الذي أشار إليه : فإن السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت قرة عين له وقوة ولذة

فتصير الصلاة قرة عينه بعد أن كانت عملا عليه ويستريح بها بعد أن كان يطلب الراحة منها فله ميراث من قوله أرحنا بالصلاة يا بلال وجعلت قرة عيني في الصلاة بحسب إرادته ومحبته وأنسه بالله سبحانه وتعالى ووحشته مما سواه وأما السير بين القبض والبسط ف القبض و البسط حالتان تعرضان لكل سالك يتولدان من الخوف تارة والرجاء تارة فيقبضه الخوف ويبسطه الرجاء
ويتولدان من الوفاء تارة والجفاء تارة فوفاؤه : يورثه البسط ورجاؤه يورثه القبض
ويتولدان من التفرقة تارة والجمعية تارة فتفرقته تورثه القبض وجمعيته تورثه البسط ويتولدان من أحكام الوارد تارة فوارد يورث قبضا ووارد يورث بسطا وقد يهجم على قلب السالك قبض لا يدري ما سببه وبسط لا يدري ما سببه وحكم صاحب هذا القبض : أمران الأول : التوبة والاستغفار لأن ذلك القبض نتيجة جناية أو جفوة ولا يشعر بها والثاني : الاستسلام حتى يمضي عنه ذلك الوقت ولا يتكلف دفعه ولا يستقبل وقته مغالبة وقهرا ولا يطلب طلوع الفجر في وسط الليل وليرقد حتى يمضي عامة الليل ويحين طلوع الفجر وانقشاع ظلمة الليل بل يصبر حتى يهجم عليه الملك فالله يقبض ويبسط وكذلك إذا هجم عليه وارد البسط : فليحذر كل الحذر من الحركة والاهتزاز وليحرزه بالسكون والانكماش فالعاقل يقف على البساط ويحذر من الانبساط وهذا شأن عقلاء أهل الدنيا ورؤسائهم : إذا ما ورد عليهم ما يسرهم ويبسطهم

ويهيج أفراحهم قابلوه بالسكون والثبات والاستقرار حتى كأنه لم يهجم عليهم وقال كعب بن زهير في مدح المهاجرين :
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم قوما ... وليسوا مجازيعا إذا نيلوا قال : الدرجة الثالثة : ذهول مع صحبة الاستقامة وملازمة الرعاية على تهذيب الأدب
الذهول ههنا : الغيبة في المشاهدة بالحال الغالب المذهل لصاحبه عن التفاته إلى غيره وهذا إنما ينفع إذا كان مصحوبا بالإستقامة وهي حفظ حدود العلم والوقوف معها وعدم إضاعتها وإلا فأحسن أحوال هذا الذاهل : أن يكون كالمجنون الذي رفع عنه القلم فلا يقتدى به ولا يعاقب على تركه الاستقامة وأما إن كان سبب الذهول المخرج عن الإستقامة باستدعائه وتكلفه وإرادته : فهو عاص مفرط مضيع لأمر الله له حكم أمثاله من المفرطين وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : متى كان السبب محظورا لم يكن السكران معذورا وقوله : وملازمة الرعاية على تهذيب الأدب
يريد به : ملازمته رعاية حقوق الله مع التأدب بآدابه فلا يخرجه ذهول عن استقامته ولا عن رعاية حقوق سيده ولا عن الوقوف بالأدب بين يديه والله المستعان

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأدب
قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة التحريم : 6 قال ابن عباس وغيره : أدبوهم وعلموهم وهذه اللفظة مؤذنة بالاجتماع فالأدب : اجتماع خصال الخير في العبد ومنه المأدبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس

وعلم الأدب : هو علم إصلاح اللسان والخطاب وإصابة مواقعه وتحسين ألفاظه وصيانته عن الخطاء والخلل وهو شعبة من الأدب العام والله أعلم

فصل و الأدب ثلاثة أنواع : أدب مع الله سبحانه وأدب مع رسوله
وشرعه وأدب مع خلقه فالأدب مع الله ثلاثة أنواع أحدها : صيانة معاملته : أن يشوبها بنقيصة الثاني : صيانة قلبه أن يلتفت إلى غيره الثالث : صيانة إرادته أن تتعلق بما يمقتك عليه قال أبو علي الدقاق : العبد يصل بطاعة الله إلى الجنة ويصل بأدبه في طاعته إلى الله وقال : رأيت من أراد أن يمد يده في الصلاة إلى أنفه فقبض على يده وقال ابن عطاء : الأدب الوقوف مع المستحسنات فقيل له : وما معناه فقال : أن تعامله سبحانه بالأدب سرا وعلنا ثم أنشد
إذا نطقت جاءت بكل ملاحة ... وإن سكتت جاءت بكل مليح وقال أبو علي : من صاحب الملوك بغير أدب أسلمه الجهل إلى القتل وقال يحيى بن معاذ : إذا ترك العارف أدبه مع معروفه فقد هلك مع الهالكين وقال أبو علي : ترك الأدب يوجب الطرد فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب وقال يحيى بن معاذ : من تأدب بأدب الله صار من أهل محبة الله وقال ابن المبارك : نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم
وسئل الحسن البصري رحمه الله عن أنفع الأدب فقال : التفقه في الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما لله عليك

وقال سهل : القوم استعانوا بالله على مراد الله وصبروا لله على آداب الله وقال ابن المبارك : طلبنا الأدب حين فاتنا المؤدبون وقال : الأدب للعارف كالتوبة للمستأنف وقال أبو حفص لما قال له الجنيد : لقد أدبت أصحابك أدب السلاطين فقال : حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن فالأدب مع الله حسن الصحبة معه بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء كحال مجالس الملوك ومصاحبهم
وقال أبو نصر السراج : الناس في الأدب على ثلاث طبقات :
أما أهل الدنيا : فأكبر آدابهم : في الفصاحة والبلاغة وحفظ العلوم وأسمار الملوك وأشعار العرب
وأما أهل الدين : فأكثر آدابهم : في رياضة النفوس وتأديب الجوارح وحفظ الحدود وترك الشهوات
وأما أهل الخصوصية : فأكبر آدابهم : في طهارة القلوب ومراعاة الأسرار والوفاء بالعهود وحفظ الوقت وقلة الالتفات إلى الخواطر وحسن الأدب في مواقف الطلب وأوقات الحضور ومقامات القرب وقال سهل : من قهر نفسه بالأدب فهو يعبد الله بالإخلاص وقال عبدالله بن المبارك : قد أكثر الناس القول في الأدب ونحن نقول : إنه معرفة النفس ورعوناتها وتجنب تلك الرعونات وقال الشبلي : الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب وقال بعضهم : الحق سبحانه يقول : من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي : ألزمته الأدب ومن كشفت له عن حقيقة ذاتي : ألزمته العطب فاختر الأدب أو العطب

ويشهد لهذا : أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات وقال أبو عثمان : إذا صحت المحبة تأكدت على المحب ملازمة الأدب وقال النوري رحمه الله : من لم يتأدب للوقت فوقته مقت وقال ذو النون : إذا خرج المريد عن استعمال الأدب : فإنه يرجع من حيث جاء وتأمل أحوال الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم كيف تجدها كلها مشحونة بالأدب قائمة به قال المسيح عليه السلام : إن كنت قلته فقد علمته المائدة : 116 ولم يقل : لم أقله وفرق بين الجوابين في حقيقة الأدب ثم أحال الأمر على علمه سبحانه بالحال وسره فقال : تعلم ما في نفسي ثم برأ نفسه عن علمه بغيب ربه وما يختص به سبحانه فقال : ولا أعلم ما في نفسك ثم أثنى على ربه ووصفه بتفرده بعلم الغيوب كلها فقال : إنك أنت علام الغيوب ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أمره ربه به وهو محض التوحيد فقال : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : أن اعبدوا الله ربي وربكم المائدة : 117 ثم أخبر عن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم وأنه بعد وفاته لا اطلاع له عليهم وأن الله عز و جل وحده هو المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيني كنت أنت الرقيب عليهم المائدة : 117 ثم وصفه بأن شهادته سبحانه فوق كل شهادة وأعم فقال : وأنت على كل شيء شهيد ثم قال : إن تعذبهم فإنهم عبادك المائدة : 118 وهذا من أبلغ الأدب مع الله في مثل هذا المقام أي شأن السيد رحمة عبيده والإحسان إليهم وهؤلاء عبيدك ليسوا عبيدا لغيرك فإذا عذبتهم مع كونهم عبيدك فلولا أنهم عبيد سوء من أبخس

العبيد وأعتاهم على سيدهم وأعصاهم له : لم تعذبهم لأن قربة العبودية تستدعي إحسان السيد إلى عبده ورحمته فلماذا يعذب أرحم الراحمين وأجود الأجودين وأعظم المحسنين إحسانا عبيده لولا فرط عتوهم وإباؤهم عن طاعته وكمال استحقاقهم للعذاب
وقد تقدم قوله : إنك أنت علام الغيوب المائدة : 116 أي هم عبادك وأنت أعلم بسرهم وعلانيتهم فإذا عذبتهم : عذبتهم على علم منك بما تعذبهم عليه فهم عبادك وأنت أعلم بما جنوه واكتسبوه فليس في هذا استعطاف لهم كما يظنه الجهال ولا تفويض إلى محض المشيئة والملك المجرد عن الحكمة كما تظنه القدرية وإنما هو إقرار واعتراف وثناء عليه سبحانه بحكمته وعدله وكمال علمه بحالهم واستحقاقهم للعذاب
ثم قال : وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم المائدة : 118 ولم يقل الغفور الرحيم وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم والأمر بهم إلى النار فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة بل مقام براءة منهم فلو قال : فإنك أنت الغفور الرحيم لأشعر باستعطافه ربه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على من غضب الرب عليهم فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم
والمعنى : إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم ليست عن عجز عن الانتقام منهم ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه ولجهله بمقدار إساءته إليه والكمال : هو مغفرة القادر العالم وهو العزيز الحكيم وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب وفي بعض الآثار : حملة العرش أربعة : اثنان يقولان : سبحانك اللهم ربنا

وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واثنان يقولان : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ولهذا يقترن كل من هاتين الصفتين بالأخرى كقوله : والله عليم حليم وقوله : وكان الله عفوا قديرا
وكذلك قول إبراهيم الخليل صلى الله عليه و سلم الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين الشعراء : 7880 ولم يقل وإذا أمرضني حفظا للأدب مع الله
وكذلك قول الخضر عليه السلام في السفينة : فأردت أن أعيبها الكهف : 79 ولم يقل فأراد ربك أن أعيبها وقال في الغلامين : فأراد ربك أن يبلغا أشدهما الكهف : 82
وكذلك قول مؤمني الجن : وأنا لا ندري : أشر أريد بمن في الأرض الجن : 10 ولم يقولوا : أراده ربهم ثم قالوا : أم أراد بهم ربهم رشدا وألطف من هذا قول موسى عليه السلام : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير القصص : 24 ولم يقل أطعمني وقول آدم عليه السلام : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين الأعراف : 23 ولم يقل : رب قدرت علي وقضيت علي وقول أيوب عليه السلام : مسني الضر وأنت أرحم الراحمين الأنبياء : 83 ولم يقل فعافني واشفني
وقول يوسف لأبيه وإخوته : هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذا أخرجني من السجن يوسف : 100 ولم يقل : أخرجني من الجب حفظا للأدب مع إخوته وتفتيا عليهم : أن لا يخجلهم بما جرى في الجب وقال : وجاء بكم من البدو ولم يقل : رفع عنكم جهد الجوع والحاجة أدبا معهم وأضاف ما جرى إلى السبب ولم يضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه فقال : من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين إخوتي فأعطى الفتوة

والكرم والأدب حقه ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
ومن هذا أمر النبي الرجل : أن يستر عورته وإن كان خاليا لا يراه أحد أدبا مع الله على حسب القرب منه وتعظيمه وإجلاله وشدة الحياء منه ومعرفة وقاره وقال بعضهم : الزم الأدب ظاهرا وباطنا فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهرا وما أساء أحد الأدب باطنا إلا عوقب باطنا وقال عبدالله بن المبارك رحمه الله : من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السنن ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة وقيل : الأدب في العمل علامة قبول العمل
وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل ولهذا كان الأدب : استخراج ما في الطبيعة من الكمال من القوة إلى الفعل
فإن لله سبحانه هيأ الإنسان لقبول الكمال بما أعطاه من الأهلية والاستعداد التي جعلها فيه كامنة كالنار في الزناد فألهمه ومكنه وعرفه وأرشده وأرسل إليه رسله وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوة التي أهله بها لكماله إلى الفعلقال الله تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها الشمس : 710 فعبر عن خلق النفس بالتسوية والدالة على الاعتدال والتمام ثم أخبر عن قبولها للفجور والتقوى وأن ذلك نالها منه امتحانا واختبارا ثم خص بالفلاح من زكاها فنماها وعلاها ورفعها بآدابه التي أدب بها رسله وأنبياءه وأولياءه وهي التقوى ثم حكم بالشقاء على من دساها فأخفاها وحقرها وصغرها وقمعها بالفجور والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل وجرت عادة القوم : أن يذكروا في هذا المقام قوله تعالى عن نبيه
حين أراه ما أراه : ما زاغ البصر وما طغى النجم : 17 وأبو القاسم القشيري صدر باب الأدب بهذه الآية وكذلك غيره
وكأنهم نظروا إلى قول من قال من أهل التفسير : إن هذا وصف لأدبه في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا ولا تجاوز ما رآه وهذا كمال الأدب والإخلال به : أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله أو يتطلع أمام المنظور فالالتفات زيغ والتطلع إلى ما أمام المنظور : طغيان ومجاوزة فكمال إقبال الناظر على المنظور : أن لا يصرف بصره عنه يمنة ولا يسرة ولا يتجاوزه
هذا معنى ما حصلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وفي هذه الآية أسرار عجيبة وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر : تواطأ هناك بصره وبصيرته وتوافقا وتصادقا فيما شاهده بصره فالبصيرة مواطئة له وما شاهدته بصيرته فهو أيضا حق مشهود بالبصر فتواطأ في حقة مشهد البصر والبصيرة ولهذا قال سبحانه وتعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى النجم : 1112 أي ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره
ولهذا قرأها أبو جعفر ما كذب الفؤاد ما رأى بتشديد الذال أي لم يكذب الفؤاد البصر بل صدقه وواطأه لصحة الفؤاد والبصر أو استقامة البصيرة والبصر وكون المرئي المشاهد بالبصر والبصيرة حقا وقرأ الجمهور ما كذب الفؤاد بالتخفيف وهو متعد و ما رأى مفعوله : أي ما كذب قلبه ما رأته عيناه بل واطأه ووافقه فلمواطأة قلبه لقالبه وظاهره لباطنه وبصره لبصيرته : لم يكذب الفؤاد البصر ولم يتجاوز البصر حده فيطغى

ولم يمل عن المرئي فيزيغ بل اعتدل البصر نحو المرئي ما جاوزه ولا مال عنه كما اعتدل القلب في الإقبال على الله والإعراض عما سواه فإنه أقبل على الله بكليته وللقلب زيغ وطغيان كما للبصر زيغ وطغيان وكلاهما منتف عن قلبه وبصره فلم يزغ قلبه التفاتا عن الله إلى غيره ولم يطغ بمجاوزته مقامه الذي أقيم فيه
وهذا غاية الكمال والأدب مع الله الذي لا يلحقه فيه سواه فإن عادة النفوس إذا أقيمت في مقام عال رفيع : أن تتطلع إلى ما هو أعلى منه وفوقه ألا ترى إلى موسى لما أقيم في مقام التكليم والمناجاة : طلبت نفسه الرؤية ونبينا لما أقيم في ذلك المقام وفاه حقه : فلم يلتفت بصره ولا قلبه إلى غير ما أقيم فيه ألبتة ولأجل هذا ما عاقه عائق ولا وقف به مراد حتى جاوز السموات السبع حتى عاتب موسى ربه فيه وقال : يقول بنو إسرائيل : إني كريم الخلق على الله وهذا قد جاوزني وخلفني علوا فلو أنه وحده ولكن معه كل أمته وفي رواية للبخاري : فلما جاوزته بكى قيل : ما يبكيك قال : أبكي أن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي ثم جاوزه علوا فلم تعقه إرادة ولم تقف به دون كمال العبودية همة ولهذا كان مركوبه في مسراه يسبق خطوه الطرف فيضع قدمه عند منتهى طرفه مشاكلا لحال راكبه وبعد شأوه الذي سبق به العالم أجمع في سيره فكان قدم البراق لا يختلف عن موضع نظره كما كان قدمه لا يتأخر عن محل معرفته فلم يزل في خفارة كمال أدبه مع الله سبحانه وتكميل مراتب عبوديته له حتى خرق حجب السموات وجاوز السبع الطباق وجاور سدرة المنتهى ووصل إلى محل من القرب سبق به الأولين والآخرين فانصبت

إليه هناك أقسام القرب انصبابا وانقشعت عنه سحائب الحجب ظاهرا وباطنا حجابا حجابا وأقيم مقاما غبطه به الأنبياء والمرسلون فإذا كان في المعاد أقيم مقاما من القرب ثانيا يغبطه به الأولون والآخرون واستقام هناك على صراط مستقيم من كمال أدبه مع الله ما زاغ البصر عنه وما طغى فأقامه في هذا العالم على أقوم صراط من الحق والهدى وأقسم بكلامه على ذلك في الذكر الحكيم فقال تعالى : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم يس : 14 فإذا كان يوم المعاد أقامه على الصراط يسأله السلامة لأتباعه وأهل سنته حتى يجوزونه إلى جنات النعيم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

فصل و الأدب هو الدين كله فإن ستر العورة من الأدب والوضوء وغسل
الجنابة من الأدب والتطهر من الخبث من الأدب حتى يقف بين يدي الله طاهرا ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته للوقوف بين يدي ربه
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد الأعراف : 31 فعلق الأمر بأخذ الزينة لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له : أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة

وكان لبعض السلف حلة بمبلغ عظيم من المال وكان يلبسها وقت الصلاة ويقول : ربي أحق من تجملت له في صلاتي ومعلوم : أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده لا سيما إذا وقف بين يديه فأحسن ما وقف بين يديه بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرا وباطنا ومن الأدب : نهى النبي المصلي : أن يرفع بصره إلى السماء فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : هذا من كمال أدب الصلاة : أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقا خافضا طرفه إلى الأرض ولا يرفع بصره إلى فوق قال : والجهمية لما لم يفقهوا هذا الأدب ولا عرفوه ظنوا أن هذا دليل أن الله ليس فوق سمواته على عرشه كما أخبر به عن نفسه واتفقت عليه رسله وجميع أهل السنة
قال : وهذا من جهلهم بل هذا دليل لمن عقل عن الرسول على نقيض قولهم إذ من الأدب مع الملوك : أن الواقف بين أيديهم يطرق إلى الأرض ولا يرفع بصره إليهم فما الظن بملك الملوك سبحانه وسمعته يقول في نهيه عن قراءة القرآن في الركوع والسجود : إن القرآن هو أشرف الكلام وهو كلام الله وحالتا الركوع

والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد فمن الأدب مع كلام الله : أن لا يقرأ في هاتين الحالتين ويكون حال القيام والانتصاب أولى به
ومن الأدب مع الله : أن لا يستقبل بيته ولا يستدبره عند قضاء الحاجة كما ثبت عن النبي في حديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم والصحيح : أن هذا الأدب : يعم الفضاء والبنيان كما ذكرنا في غير هذا الموضع ومن الأدب مع الله في الوقوف بين يديه في الصلاة : وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة ففي الموطأ لمالك عن سهل بن سعد : أنه من السنة و : كان الناس يؤمرون به ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء فعظيم العظماء أحق به
ومنها : السكون في الصلاة وهو الدوام الذي قال الله تعالى فيه : الذين هم على صلاتهم دائمون المعارج : 23 قال عبدالله بن المبارك عن ابن لهيعة : حدثني يزيد بن أبي حبيب : أن أبا الخير أخبره قال : سألنا عقبة بن عامر عن قوله تعالى : الذين هم على صلاتهم دائمون أهم الذين يصلون دائما قال : لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه

قلت : هما أمران الدوام عليها والمداومة عليها فهذا الدوام والمداومة في قوله تعالى : والذين هم على صلاتهم يحافظون المعارج : 34 وفسر الدوام بسكون الأطراف والطمأنينة وأدبه في استماع القراءة : أن يلقي السمع وهو شهيد وأدبه في الركوع : أن يستوي ويعظم الله تعالى حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم منه ويتضاءل ويتصاغر في نفسه حتى يكون أقل من الهباء
والمقصود : أن الأدب مع الله تبارك وتعالى : هو القيام بدينه والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا
ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء : معرفته بأسمائه وصفاته ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق علما وعملا وحالا والله المستعان

فصل وأما الأدب مع الرسول : فالقرآن مملوء به
فرأس الأدب معه : كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولا أو يحمله شبهة أو شكا أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره وإلا فإن طلب السلامة : أعرض عن

أمره وخبره وفوضه إليهم وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه : تأويلا وحملا فقال : نؤوله ونحمله
فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بهذه الحال ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء فقلت له : سألتك بالله لو قدر أن الرسول حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه : أكان فرضا علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم فقال : بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه فقلت : فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ فوضع إصبعه على فيه وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة
هذا أدب الخواص معه لا مخالفة أمره والشرك به ورفع الأصوات وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم وعزل كلامه عن اليقين وأن يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه بل المعول في باب معرفة الله : على العقول المنهوكة المتحيرة المتناقضة وفي الأحكام : على تقليد الرجال وآرائها والقرآن والسنة إنما نقرؤهما تبركا لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات

والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون المؤمنون : 6374
والناصح لنفسه العامل على نجاتها : يتدبر هذه الآيات حق تدبرها ويتأملها حق تأملها وينزلها على الواقع : فيرى العجب ولا يظنها اختصت بقوم كانوا فبانوا فالحديث لك واسمعي يا جارة والله المستعان
ومن الأدب مع الرسول : أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن كما قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله الحجرات : 1 وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم
قال مجاهد رحمه الله : لا تفتاتوا على رسول الله وقال أبو عبيدة : تقول العرب : لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب أي لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه
وقال غيره : لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهى
ومن الأدب معه : أن لا ترفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به أترى ذلك موجبا لقبول الأعمال ورفع الصوت فوق صوته موجبا لحبوطها ومن الأدب معه : أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره قال تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا النور : 63 وفيه قولان للمفسرين أحدهما : أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا بل قولوا : يا رسول الله يا نبي الله فعلى هذا : المصدر مضاف إلى المفعول أي دعاءكم الرسول الثاني : أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضا إن شاء

أجاب وإن شاء ترك بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من أجابته ولم يسعكم التخلف عنها ألبتة فعلى هذا : المصدر مضاف إلى الفاعل أي دعاؤه إياكم
ومن الأدب معه : أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد منهم مذهبا في حاجته حتى يستأذنه كما قال تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه النور : 62 فإذا كان هذا مذهبا مقيدابحاجةعارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين : أصوله وفروعه دقيقه وجلبله هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون النحل : 43 الأنبياء : 7
ومن الأدب معه : أن لا يستشكل قوله بل تستشكل الآراء لقوله ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا نعم هو مجهول وعن الصواب معزول ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد فكل هذا من قلة الأدب معه وهو عين الجرأة

فصل وأما الأدب مع الخلق : فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق
بهم فلكل مرتبة أدب والمراتب فيها أدب خاص فمع الوالدين : أدب خاص وللأب منهما : أدب هو أخص به ومع العالم : أدب آخر ومع السلطان أدب يليق به وله مع الأقران أدب يليق بهم ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته
ولكل حال أدب : فللأ كل آداب وللشرب آداب وللركوب والدخول والخروج والسفر والإقامة والنوم آداب وللبول آداب وللكلام آداب وللسكوت والاستماع آداب

وأدب المرء : عنوان سعادته وفلاحه وقلة أدبه : عنوان شقاوته وبواره فما استجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب ولا استجلب حرمانها بمثل قلة الأدب
فانظر إلى الأدب مع الوالدين : كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصخرة والإخلال به مع الأم تأويلا وإقبالا على الصلاة كيف امتحن صاحبه بهدم صومعته وضرب الناس له ورميه بالفاحشة
وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر : كيف تجد قلة الأدب هي التي ساقته إلى الحرمان وانظر قلة أدب عوف مع خالد : كيف حرمه السلب بعد أن برد بيديه وانظر أدب الصديق رضي الله عنه مع النبي في الصلاة : أن يتقدم بين يديه فقال : ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله كيف أورثه مقامه والإمامة بالأمة بعده فكان ذلك

التأخر إلى خلفه وقد أومأ إليه أن : اثبت مكانك جمزا وسعيا إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطي والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل الأدب : حفظ الحد بين الغلو والجفاء بمعرفة ضرر
العدوان
هذا من أحسن الحدود فإن الانحراف إلى أحد طرفي الغلو والجفاء : هو قلة الأدب والأدب : الوقوف في الوسط بين الطرفين فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودا له فكلاهما عدوان والله لا يحب المعتدين والعدوان : هو سوء الأدب
وقال بعض السلف : دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه فإضاعة الأدب بالجفاء : كمن لم يكمل أعضاء الوضوء ولم يوف الصلاة آدابها التي سنها رسول الله وفعلها وهي قريب من مائة أدب : ما بين واجب ومستحب
وإضاعته بالغلو : كالوسوسة في عقد النية ورفع الصوت بها والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرا وتطويل ما السنة تخفيفه وحذفه كالتشهد الأول والسلام الذي حذفه سنة وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله لا على ما يظنه سراق الصلاة والنقارون لها ويشتهونه فإن النبي لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه وقد صانه الله من ذلك وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصافات ويأمرهم بالتخفيف وتقام صلاة الظهر فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله ويتوضأ ويدرك رسول الله في الركعة الأولى فهذا هو التخفيف الذي أمر به لا نقر الصلاة وسرقها فإن ذلك اختصار بل اقتصار على ما يقع عليه الاسم ويسمى به مصليا وهو كأكل المضطر في المخمصة ما يسد به رمقه : فليته شبع على القول الآخر وهو كجائع قدم

إليه طعام لذيذ جدا فأكل منه لقمة أو لقمتين فماذا يغنيان عنه ولكن لو أحس بجوعه لما قام من الطعام حتى يشبع منه وهو يقدر على ذلك لكن القلب شبعان من شيء آخر
ومثال هذا التوسط في حق الأنبياء عليهم السلام : أن لا يغلو فيهم كما غلت النصارى في المسيح ولا يجفو عنهم كما جفت اليهود فالنصاري عبدوهم واليهود قتلوهم وكذبوهم والأمة الوسط : آمنوا بهم وعزروهم ونصروهم واتبعوا ما جاءوا به ومثال ذلك في حقوق الخلق : أن لا يفرط في القيام بحقوقهم ولا يستغرق فيها بحيث يشتغل بها عن حقوق الله أو عن تكميلها أو عن مصلحة دينه وقلبه وأن لا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية فإن الطرفين من العدوان الضار وعلى هذا الحد فحقيقة الأدب : هي العدل والله أعلم

فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : منع الخوف : أن
لا يتعدى إلى اليأس وحبس الرجاء : أن يخرج إلى الأمن وضبط السرور : أن يضاهىء الجرأة يريد : أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله فإن هذا الخوف مذموم

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : حد الخوف ما حجزك عن معاصي الله فما زاد على ذلك : فهو غير محتاج إليه
وهذا الخوف الموقع في الإياس : إساءة أدب على رحمة الله تعالى التي سبقت غضبه وجهل بها وأما حبس الرجاء : أن يخرج إلى الأمن فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن معه العقوبة فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وهذا إغراق في الطرف الآخر بل حد الرجاء : ما طيب لك العبادة وحملك على السير فهو بمنزلة الرياح التي تسير السفينة فإذا انقطعت وقفت السفينة وإذا زادت ألقتها إلى المهالك وإذا كانت بقدر : أوصلتها إلى البغية
وأما ضبط السرور : أن يخرج إلى مشابهة الجرأة فلا يقدر عليه إلا الأقوياء أرباب العزائم الذين لا تستفزهم السراء فتغلب شكرهم ولا تضعفهم الضراء فتغلب صبرهم كما قيل :
لا تغلب السراء منهم شكرهم ... كلا ولا الضراء صبر الصابر والنفس قرينة الشيطان ومصاحبته وتشبهه في صفاته ومواهب الرب تبارك وتعالى تنزل على القلب والروح فالنفس تسترق السمع فإذا نزلت على القلب تلك المواهب : وثبت لتأخذ قسطها منها وتصيره من عدتها وحواصلها فالمسترسل معها الجاهل بها : يدعها تستوفي ذلك فبينا هو في موهبة القلب والروح وعدة وقوة له إذ صار ذلك كله من حاصل النفس وآلتها وعددها فصالت به وطغت لأنها رأت غناها به والإنسان يطغى أن رآه استغنى بالمال فكيف بما هو أعظم خطرا وأجل قدرا من المال بما لا نسبة بينهما : من علم أو حال أو معرفة أو كشف فإذا صار ذلك من حاصلها : انحرف العبد به ولابد إلى طرف مذموم من جرأة أو شطح أو إدلال ونحو ذلك فوالله كم ههنا من قتيل وسليب وجريح يقول : من أين أتيت ومن أين

دهيت ومن أين أصبت وأقل ما يعاقب به من الحرمان بذلك : أن يغلق عنه باب المزيد ولهذا كان العارفون وأرباب البصائر : إذا نالوا شيئا من ذلك انحرفوا إلى طرف الذل والانكسار ومطالعة عيوب النفس واستدعوا حارس الخوف وحافظوا على الرباط بملازمة الثغر بين القلب وبين النفس ونظروا إلى أقرب الخلق من الله وأكرمهم عليه وأدناهم منه وسيلة وأعظمهم عنده جاها وقد دخل مكة يوم الفتح وذقنه تمس قربوس سرجه : انخفاضا وانكسارا وتواضعا لربه تعالى في مثل تلك الحال التي عادة النفوس البشرية فيها : أن يملكها سرورها وفرحها بالنصر والظفر والتأييد ويرفعها إلى عنان السماء
فالرجل : من صان فتحه ونصيبه من الله وواره عن استراق نفسه وبخل عليها به والعاجز : من جاد لها به فيا له من جود ما أقبحه وسماحة ما أسفه صاحبها والله المستعان

فصل قال : الدرجة الثانية : الخروج عن الخوف إلى ميدان القبض والصعود
من الرجاء إلى ميدان البسط ثم الترقي من السرور إلى ميدان المشاهدة ذكر في الدرجة الأولى : كيف يحفظ الحد بين المقامات حتى لا يتعدى إلى غلو أو جفاء وذلك سوء أدب
فذكر مع الخوف : أن يخرجه إلى اليأس ومع الرجاء : أن يخرجه إلى الأمن ومع السرور : أن يخرجه إلى الجرأة
ثم ذكر في هذه الدرجة : أدب الترقي من هذه الثلاثة إلى ما يحفظه عليها ولا يضيعها بالكلية كما أن في الدرجة الأولى : لا يبالغ به بل يكون خروجه من الخوف إلى القبض يعني لا يزايل الخوف بالكلية فإن قبضه لا يؤيسه ولا يقنطه ولا يحمله على مخالفة ولا بطالة وكذلك رجاؤه لا يقعد به عن ميدان

البسط بل يكون بين القبض والبسط وهذه حال الكمل وهي السير بين القبض والبسط وسروره : لا يقعد به عن ترقيه إلى ميدان مشاهدته بل يرقى بسروره إلى المشاهدة ويرجع من رجائه إلى البسط ومن خوفه إلى القبض
ومقصوده : أن ينتقل من أشباح هذه الأحوال إلى أرواحها فإن الخوف شبح والقبض روحه والرجاء شبح والبسط روحه والسرور شبح والمشاهدة روحه فيكون حظه من هذه الثلاثة : أرواحها وحقائقها لا صورها ورسومها

فصل قال : الدرجة الثالثة : معرفة الأدب ثم الفناء عن التأدب بتأديب
الحق ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب قوله : معرفة الأدب يعني لابد من الاطلاع على حقيقته في كل درجة وإنما يكون ذلك في الدرجة الثالثة فإنه يشرف منها على الأدب في الدرجتين الأوليين فإذا عرفه وصار له حالا فإنه ينبغي له أن يفنى عنه بأن يغلب عليه شهود من أقامه فيه فينسبه إليه تعالى دون نفسه ويفنى عن رؤية نفسه وقيامها بالأدب بشهود الفضل لمن أقامها فيه ومنته فهذا هو الفناء عن التأدب بتأديب الحق قوله : ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب
يعني : أنه يفنى عن مشاهدة الأدب بالكلية لاستغراقه في شهود الحقيقة في حضرة الجمع التي غيبته عن الأدب ففناؤه عن الأدب فيها : هو الأدب حقيقة فيستريح حينئذ من كلفة حمل أعباء الأدب وأثقاله لأن استغراقه في شهود الحقيقة لم يبق عليه شيئا من أعباء الأدب والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة اليقين
وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون وإليه شمر العاملون وعمل القوم إنما كان عليه وإشاراتهم كلها إليه وإذا تزوج الصبر باليقين : ولد بينهما حصول الإمامة في الدين قال الله تعالى وبقوله يهتدي المهتدون : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون السجدة : 24
وخص سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين فقال وهو أصدق القائلين : وفي الأرض آيات للموقنين الذرايات : 20 وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين فقال : والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون البقرة : 45
وأخبر عن أهل النار : بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين فقال تعالى : وإذا قيل : إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم : ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين الجاثية : 32
ف اليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال القلوب التي هي من أعمال الجوارح وهو حقيقة الصديقية وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره
وروى خالد بن يزيد عن السفيانين عن التيمي عن خيثمة عن عبدالله بن مسعود عن النبي قال : لا ترضين أحدا بسخط الله ولا تحمدن أحدا على فضل الله ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله فإن ما رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهية كاره وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط واليقين قرين التوكل ولهذا فسر التوكل بقوة اليقين

والصواب : أن التوكل ثمرته ونتيجته ولهذا حسن اقتران الهدى به قال الله تعالى : فتوكل على الله إنك على الحق المبين النمل : 79 فالحق : هو اليقين وقالت رسل الله : وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا إبراهيم : 12 ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم فامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضي به وشكراله وتوكلاعليه وإنابة إليه فهو مادة جميع المقامات والحامل لها واختلف فيه : هل هو كسبي أو موهبي فقيل : هو العلم المستودع في القلوب يشير إلى أنه غير كسبي وقال سهل : اليقين من زيادة الإيمان ولا ريب أن الإيمان كسبي والتحقيق : أنه كسبي باعتبار أسبابه موهبي باعتبار نفسه وذاته قال سهل : ابتداؤه المكاشفة كما قال بعض السلف : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ثم المعاينة والمشاهدة وقال ابن خفيف : هو تحقق الأسرار بأحكام المغيبات وقال أبو بكر بن طاهر : العلم تعارضه الشكوك واليقين لا شك فيه وعند القوم : اليقين لا يساكن قلبا فيه سكون إلى غير الله وقال ذو النون : اليقين يدعو إلى قصر الأمل وقصر الأمل يدعو إلى الزهد والزهد يورث الحكمة وهي تورث النظر في العواقب قال : وثلاثة من أعلام اليقين : قلة مخالطة الناس في العشرة وترك المدح لهم في العطية والتنزه عن ذمهم عند المنع وثلاثة من أعلامه أيضا : النظر إلى الله في كل شيء والرجوع إليه في كل أمر والاستعانة به في كل حال
وقال الجنيد : اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب وقال ابن عطاء : على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين

وأصل التقوى مباينة النهي وهو مباينة النفس فعلى قدر مفارقتهم النفس : وصلوا إلى اليقين
وقيل : اليقين هو المكاشفة وهو على ثلاثة أوجه : مكاشفة في الأخبار ومكاشفة بإظهار القدرة ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان ومراد القوم بالمكاشفة : ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلا وهذا نهاية الإيمان وهو مقام الإحسان وقد يريدون بها أمرا آخر وهو ما يراه أحدهم في برزخ بين النوم واليقظة عند أوائل تجرد الروح عن البدن ومن أشار منهم إلى غير هذين : فقد غلط ولبس عليه
وقال السري : اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك ولا ترد عنك مقضيا وقال أبو بكر الوراق : اليقين ملاك القلب وبه كمال الإيمان وباليقين عرف الله وبالعقل عقل عن الله وقال الجنيد : قد مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا
وقد اختلف في تفضيل اليقين على الحضور والحضور على اليقين فقيل : الحضور أفضل لأنه وطنات واليقين خطرات وبعضهم رجح اليقين وقال : هو غاية الإيمان والأول : رأى أن اليقين ابتداء الحضور فكأنه جعل اليقين ابتداء والحضور دواما وهذا الخلاف لا يتبين فإن اليقين لا ينفك عن الحضور ولا الحضور عن

اليقين بل في اليقين من زيادة الإيمان ومعرفة تفاصيله وشعبه وتنزيلها منازلها : ما ليس في الحضور فهو أكمل منه من هذا الوجه وفي الحضور من الجمعية وعدم التفرقة والدخول في الفناء : ما قد ينفك عنه اليقين فاليقين أخص بالمعرفة والحضور أخص بالإرادة والله أعلم
وقال النهرجوري : إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء عنده مصيبة وقال أبو بكر الوراق : اليقين على ثلاثة أوجه : يقين خبر ويقين دلالة ويقين مشاهدة يريد بيقين الخبر : سكون القلب إلى خبر المخبر ووتوثقة به وبيقين الدلالة : ما هو فوقه : وهو أن يقيم له مع وثوقه بصدقه الأدلة الدالة على ما أخبر به وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد والقرآن فإنه سبحانه مع كونه أصدق الصادقين يقيم لعباده الأدلة والأمثال والبراهين على صدق أخباره فيحصل لهم اليقين من الوجهين : من جهة الخبر ومن جهة الدليل
فيرتفعون من ذلك إلى الدرجة الثالثة وهي يقين المكاشفة بحيث يصبر المخبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم فنسبة الإيمان بالغيب حينئذ إلى القلب : كنسبة المرئي إلى العين وهذا أعلى أنواع المكاشفة وهي التي أشار إليها عامر بن عبد قيس في قوله : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وليس هذا من كلام رسول الله ولا من قول علي كما يظنه من لا علم له بالمنقولات وقال بعضهم : رأيت الجنة والنار حقيقة قيل له : وكيف قال : رأيتهما بعيني رسول الله ورؤيتي لهما بعينيه : آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني فإن بصري قد يطغى ويزيغ بخلاف بصره و اليقين يحمله على الأهوال وركوب الأخطار وهو يأمر بالتقدم دائما فإن لم يقارنه العلم : حمل على المعاطب

و العلم يأمر بالتأخر والإحجام فإن لم يصحبه اليقين قعد بصاحبه عن المكاسب والغنائم والله أعلم

فصل قال صاحب المنازل رحمه الله اليقين : مركب الآخذ في هذا الطريق
وهو غاية درجات العامة وقيل : أول خطوة للخاصة لما كان اليقين هو الذي يحمل السائر إلى الله كما قال أبو سعيد الخراز : العلم ما استعملك واليقين ما حملك سماه مركبا يركبه السائر إلى الله فإنه لولا اليقين ما سار ركب إلى الله ولا ثبت لأحد قدم في السلوك إلا به
وإنما جعله آخر درجات العامة : لأنهم إليه ينتهون ثم حكى قول من قال : إنه أول خطوة للخاصة
يعني : أنه ليس بمقام لهم وإنما هو مبدأ لسلوكهم فمنه يبتدئون سلوكهم وسيرهم وهذا لأن الخاصة عنده سائرون إلى عين الجمع والفناء في شهود الحقيقة لا تقف بهم دونها همة ولا يعرجون دونها على رسم فكل ما دونها فهو عندهم من مشاهد العامة ومنازلهم ومقاماتهم حتى المحبة وحسبك بجعل اليقين نهاية للعامة وبداية لهم قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : علم اليقين وهو قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق ذكر الشيخ رحمه الله في هذه الدرجة ثلاثة أشياء هي متعلق اليقين وأركانه الأولى : قبول ما ظهر من الحق تعالى والذي ظهر منه سبحانه : أوامره ونواهيه وشرعه ودينه الذي ظهر لنا منه على ألسنة رسله فنتلقاه بالقبول

والانقياد والاذعان والتسليم للربوبية والدخول تحت رقع العبودية الثاني : قبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الحق سبحانه على لسان رسله من أمور المعاد وتفصيله والجنة والنار وما قبل ذلك : من الصراط والميزان والحساب وما قبل ذلك : من تشقق السماء وانفطارها وانتثار الكواكب ونسف الجبال وطي العالم وما قبل ذلك : من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه فقبول هذا كله إيمانا وتصديقا وإيقانا هو اليقين بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة ولا شك ولا تناس ولا غفلة عنه فإنه إن لم يهلك يقينه أفسده وأضعفه الثالث : الوقوف عل ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله
وهو علم التوحيد الذي أساسه : إثبات الأسماء والصفات وضده : التعطيل والنفي والتجهم فهذا التوحيد يقابله التعطيل
وأما التوحيد القصدي الإرادي الذي هو إخلاص العمل لله وعبادته وحده : فيقابله الشرك والتعطيل شر من الشرك فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها وهو جحد لحقيقة الإلهية فإن ذاتا لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا ترضى ولا تغضب ولا تفعل شيئا وليست داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة ولا مجانية له ولا مباينة له ولا مجاورة ولا مجاوزة ولا فوق العرش ولا تحت العرش ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يساره : سواء هي والعدم
والمشرك مقر بالله وصفاته لكن عبد معه غيره فهو خير من المعطل للذات والصفات

فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق : علم الأمر والنهي وعلم الأسماء والصفات والتوحيد وعلم المعاد واليوم الآخر والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : عين اليقين وهو المغني بالاستدلال عن
الاستدلال وعن الخبر بالعيان وخرق الشهود حجاب العلم الفرق بين علم اليقين وعين اليقين : كالفرق بين الخبر الصادق والعيان وحق اليقين : فوق هذا
وقد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك : أن عنده عسلا وأنت لا تشك في صدقه ثم أراك إياه فازددت يقينا ثم ذقت منه فالأول : علم اليقين والثاني : عين اليقين والثالث : حق اليقين
فعلمنا الآن بالجنة والنار : علم يقين فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك : عين اليقين فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار : فذلك حينئذ حق اليقين قوله : هو المغني بالاستدلال عن الاستدلال

يريد بالاستدلال : الإدراك والشهود يعني صاحبه قد استغنى به عن طلب الدليل فإنه
إنما يطلب الدليل ليحصل له العلم بالمدلول فإذا كان المدلول مشاهدا له وقد أدركه بكشفه فأي حاجة به إلى الاستدلال وهذا معنى الاستغناء عن الخبر بالعيان وأما قوله : وخرق الشهود حجاب العلم
فيريد به : أن المعارف التي تحصل لصاحب هذه الدرجة : هي من الشهود الخارق لحجاب العلم فإن العلم حجاب عن الشهود ففي هذه الدرجة يرتفع الحجاب ويفضي إلى المعلوم بحيث يكافح بصيرته وقلبه مكافحة

فصل قال : الدرجة الثالثة : حق اليقين وهو إسفار صبح الكشف ثم الخلاص
من كلفة اليقين ثم الفناء في حق اليقين
اعلم أن هذه الدرجة لا تنال في هذا العالم إلا للرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإن نبينا صلى الله عليه و سلم رأى بعينه الجنة والنار وموسى عليه السلام سمع كلام الله منه إليه بلا واسطة وكلمه تكليما وتجلى للجبل وموسى ينظر فجعله دكا هشيما
نعم يحصل لنا حق اليقين من مرتبة وهي ذوق ما أخبر به الرسول من حقائق الإيمان المتعلقة بالقلوب وأعمالها فإن القلب إذا باشرها وذاقها صارت في حقه حق يقين وأما في أمور الآخرة والمعاد ورؤية الله جهرة عيانا وسماع كلامه حقيقة بلا واسطة فحظ المؤمن منه في هذه الدار : الإيمان وعلم اليقين وحق اليقين : يتأخر إلى وقت اللقاء
ولكن لما كان السالك عنده ينتهي إلى الفناء ويتحقق شهود الحقيقة ويصل إلى عين الجمع قال : حق اليقين : هو إسفار صبح الكشف

يعنى : تحققه وثبوته وغلبة نوره على ظلمة ليل الحجاب فينتقل من طور العلم إلى الاستغراق في الشهود بالفناء عن الرسم بالكلية وقوله : ثم الخلاص من كلفة اليقين
يعني : أن اليقين له حقوق يجب على صاحبه أن يؤديها ويقوم بها ويتحمل كلفها ومشاقها فأذا فني في التوحيد حصل له أمور أخرى رفيعة عالية جدا يصير فيها محمولا بعد أن كان حاملا وطائرا بعذ أن كان سائرا فتزول عنه كلفة حمل تلك الحقوق بل يبقى له كالنفس وكالماء للسمك وهذا أمر التحكم فيه إلى الذوق والإحساس فلا تسرع إلى إنكاره
وتأمل حال ذلك الصحابي الذي أخذ تمراته وقعد يأكلها على حاجة وجوع وفاقة إليها فلما عاين سوق الشهادة قد قامت ألقى قوته من يده وقال : إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات وألقاها من يده وقاتل حتى قتل وكذلك أحوال الصحابة رضي الله عنهم كانت مطابقة لما أشار إليه
ولكن بقيت نكتة عظيمة وهي موضع السجدة وهي أن فناءهم لم يكن في توحيد الربوبية وشهود الحقيقة التي يشير إليها أرباب الفناء بل في توحيد الإلهية ففنوا بحبه تعالى عن حب ما سواه وبمراده منهم عن مرادهم وحظوظهم فلم يكونوا عاملين على فناء ولا إلا استغراق في الشهود بحيث يفنون به عن مراد محبوبهم منهم بل قد فنوا بمراده عن مرادهم فهم أهل بقاء في فناء وفرق في جمع وكثرة في وحدة وحقيقة كونية في حقيقة دينية
هم القوم لا قوم إلا هم ... ولولاهم ما اهتدينا السبيلا

فنسبة أحوال من بعدهم الصحيحة الكاملة إلى أحوالهم : كنسبة ما يرشح من الظرف والقربة إلى ما في داخلها وأما الطريق المنحرفة الفاسدة : فسبيل غير سبيلهم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأنس بالله
قال صاحب المنارل رحمه الله : وهو روح القرب ولهذا صدر منزلته بقوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان البقرة : 186
فاستحضار القلب هذا البر والإحسان واللطف : يوجب قربه من الرب سبحانه وتعالى وقربه منه يوجب له الأنس و الأنس ثمرة الطاعة والمحبة فكل مطيع مستأنس وكل عاص مستوحش كما قيل :
فإن كنت قد أوحشتك الذنوب ... فدعها إذا شئت واستأنس والقرب يوجب الأنس والهيبة والمحبة
قال صاحب المنازل رحمه الله وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : الأنس بالشواهد وهو استحلاء الذكر والتغذى بالسماع والوقوف على الإشارات هذه اللفطه يجرونها في كلامهم أعني لفظة الشواهد ومرادهم بها : أمران أحدهما : شواهد الحقيقة وهي ما يقوم بقلب العبد حتى كأنه يشاهده ويبصره لغلبته عليه فكل ما يستولي على قلب صاحبه ذكره فإنه شاهده فمنهم من يكون شاهده العمل ومنهم من يكون شاهده الذكر ومنهم من يكون شاهده المحبة ومنهم من يكون شاهده الخوف

فالمريد : يأنس بشاهده ويستوحش لفقده والثاني : شاهد الحال وهو الأثر الذي يقوم به ويظهر عليه من عمله وسلوكه وحاله فإن شاهده لابد أن يظهر عليه
ومراد صاحب المنازل : الشاهد الأول الذي يأنس به المريد وهو الحامل له على استحلاء الذكر طلبا لظفره بحصول المذكور فهو يستأنس بالذكر طلبا لاستئناسه بالمذكور ويتغذى بالسماع كما يتغذى الجسم بالطعام والشراب فإن كان محبا صادقا طالبا لله عاملا على مرضاته : كان غذاؤه بالسماع القرآني الذي كان غذاء سادات العارفين من هذه الأمة وأبرها قلوبا وأصحها أحوالا وهم الصحابة رضي الله عنهم
وإن كان منحرفا فاسد الحال ملبوسا عليه مغرورا مخدوعا : كان غذاؤه بالسماع الشيطاني الذي هو قرآن الشيطان المشتمل على محاب النفوس ولذاتها وحظوظها وأصحابه : أبعد الخلق من الله وأغلظهم عنه حجابا وإن كثرت إشاراتهم إليه
وهذا السماع القرآني سماع أهل المعرفة بالله والاستقامة على صراطه المستقيم ويحصل للأذهان الصافية منه معان وإشارات ومعارف وعلوم تتغذى بها القلوب المشرقة بنور الأنس فتجد بها ولها لذة روحانية يصل نعيمها إلى القلوب ولأرواح وربما فاض حتى وصل إلى الأجسام فيجد من اللذة مالم يعهد مثله من اللذات الحسية وللتغذي بالسماع سر لطيف نذكره للطف موضعه
وهو الذي أوقع كثيرا من السالكين في إيثار سماع الأبيات لما رأى فيه من غذاء القلب وقوته نعيمه فلو جئته بألف آية وألف خبر لما أعطاك شطرا من إصغائه وكان ذلك عنده أعظم من الظواهر التي يعارض بها الفلاسفة وأرباب الكلام

اعلم أن الله عز و جل جعل للقلوب نوعين من الغذاء : نوعا من الطعام والشراب الحسي وللقلب منه خلاصته وصفوه ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله والثاني : غذاء روحاني معنوي خارج عن الطعام والشراب : من السرور والفرح والابتهاج واللذة والعلوم والمعارف وبهذا الغذاء كان سماويا علويا وبالغذاء المشترك كان أرضيا سفليا وقوامه بهذين الغذاءين وله ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس وغذاء يصل إليه منها
فله ارتباط بحاسة اللمس ويصل إليه منها غذاء وكذلك حاسة الشم وكذلك حاسة الذوق وكذلك ارتباط بحاستي السمع والبصر : أشد من ارتباطه

بغيرهما ووصول الغذاء منهما إليه أكمل وأقوى من سائر الحواس وانفعاله عنهما أشد من انفعاله عن غيرهما ولهذا تجد في القرآن اقترانه بهما أكثر من اقترانه بغيرهما بل لا يكاد يقرن إلا بهما أو بأحدهما قال الله تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون النحل : 78 وقال تعالى : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون الأحقاف : 26 وقال تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون الأعراف : 179 وقال تعالى في صفة الكفار : صم بكم عمي فهم لا يعقلون البقرة : 171 وقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور الحج : 46 وهذا كثير جدا في القرآن
لأن تأثره بما يراه ويسمعه : أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه ولأن هذه الثلاثة : هي طرق العلم وهي : السمع والبصر والعقل
وتعلق القلب بالسمع وارتباطه به : أشد من تعلقه بالبصر وارتباطه به ولهذا يتأثر بما يسمعه من الملذوذات أعظم مما يتأثر بما يراه من المستحسنات وكذلك في المكروهات سماعا ورؤية ولهذا كان الصحيح من القولين : أن حاسة السمع أفضل من حاسة البصر لشدة تعلقها بالقلب وعظم حاجته إليها وتوقف كماله عليها ووصول العلوم إليه بها وتوقف الهدى على سلامتها

ورجحت طائفة حاسة البصر لكمال مدركها وامتناع الكذب فيه وزوال الريب والشك به ولأنه عين اليقين وغاية مدرك حاسة السمع علم اليقين وعين اليقين أفضل وأكمل من علم اليقين ولأن متعلقها رؤية وجه الرب عز و جل في دار النعيم ولا شيء أعلى وأجل من هذا التعلق
وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما حسنا فقال : المدرك بحاسة السمع أعم وأشمل والمدرك بحاسة البصر : أتم وأكمل فللسمع العموم والشمول والإحاطة بالموجود والمعدوم والحاضر والغائب والحسي والمعنوي وللبصر : التمام والكمال
وإذا عرف هذا فهذه الحواس الخمس لها أشباح وأرواح وأرواحها حظ القلب ونصيبه منها
فمن الناس : من ليس لقلبه منها نصيب إلا كنصيب الحيوانات البهيمية منها فهو بمنزلتها وبينه وبينها أول درجة الإنسانية ولهذا شبه الله سبحانه أولئك بالأنعام بل جعلهم أضل فقال تعالى : أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا الفرقان : 44 ولهذا نفى الله عن الكفار السمع والبصر والعقول إما لعدم انتفاعهم بها فنزلت منزلة المعدوم وإما لأن النفي توجه إلى أسماع قلوبهم وأبصارها وإدراكها ولهذا يظهر لهم ذلك عند انكشاف حقائق الأمور كقول أصحاب السعير : لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير الملك : 10 ومنه في أحد التأويلين قوله تعالى وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون الأعراف : 198 فإنهم كانوا ينظرون إلى صورة النبي بالحواس الظاهرة ولا يبصرون صورة نبوته ومعناها بالحاسة الباطنة التي هي بصر القلب والقول الثاني : أن الضمير عائد على الأصنام ثم فيه قولان أحدهما : أنه على التشبيه أي كأنهم ينظرون إليك ولا أبصار لهم يرونك بها

والثاني : المراد به المقابلة تقول العرب : داري تنظر دارك أي تقابلها وكذلك السمع ثابت لهم وبه قامت الحجة عليهم ومنتف عنهم وهو سمع القلب فإنهم كانوا يسمعون القرآن من حيث السمع الحسي المشترك كالغنم التي لا تسمع إلا نعيق الراعي بها دعاء ونداء ولم يسمعوه بالروح الحقيقي الذي هو روح حاسة السمع التي هي حظ القلب فلو سمعوه من هذه الجهة : لحصلت لهم الحياة الطيبة التي منشؤها من السماع المتصل أثره بالقلب ولزال عنهم الصمم والبكم ولأنقذوا نفوسهم من السعير بمفارقة من عدم السمع والعقل
فحصول السمع الحقيقي : مبدأ لظهور آثار الحياة الطيبة التي هي أكمل أنواع الحياة في هذا العالم فإن بها يحصل غذاء القلب ويعتدل فتتم قوته وحياته وسروره ونعيمه وبهجته وإذا فقد غذاءه الصالح : احتاج إلى أن يعتاض عنه بغذاء قبيح خبيث وإذا فسد غذاؤه وخبث : ونقص من حياته وقوته وسروره ونعيمه بحسب ما فسد من غذائه كالبدن إذا فسد غذاؤه نقص
فلما كان تعلق السمع الظاهر الحسي بالقلب أشد والمسافة بينهما أقرب من المسافة بين البصر وبينه ولذلك يؤدي آثار ما يتعلق بالسمع الظاهر إلى القلب أسرع مما يؤدي إليه آثار البصر الظاهر ولهذا ربما غشي على الإنسان إذا سمع كلاما يسره أو يسؤه أو صوتا لذيذا طيبا مطربا مناسبا ولا يكاد يحصل له ذلك من رؤية الأشياء المستحسنة بالبصر الظاهر وقد يكون هذا المسموع شديد التأثير في القلب ولا يشعر به صاحبه لاشتغاله بغيره ولمباينة ظاهره لباطنه ذلك الوقت فإذا حصل له نوع تجرد ورياضة : ظهرت قوة ذلك التأثير والتأثر فكلما تجردت الروح والقلب وانقطعتا عن علائق البدن كان حظهما من ذلك السماع أوفى وتأثرهما به أقوى فإن كان المسموع معنى شريفا بصوت لذيذ : حصل للقلب حظه ونصيبه من

إدراك المعنى وابتهج به أتم ابتهاج على حسب إدراكه له وللروح حظها ونصيبها من لذة الصوت ونغمته وحسنه فابتهجت به فتضاعف اللذة ويتم الابتهاج ويحصل الارتياح حتى ربما فاض على البدن والجوارح وعلى الجليس
وهذا لا يحصل على الكمال في هذا العالم ولا يحصل إلا عند سماع كلام الله فإذا تجردت الروح وكانت مستعدة وباشر القلب روح المعنى وأقبل بكليته على المسموع فألقى السمع وهو شهيد وساعده طيب صوت القارىء : كاد القلب يفارق هذا العالم ويلج عالما آخر ويجد له لذة وحالة لا يعهدها في شيء غيره ألبتة وذلك رقيقة من حال أهل الجنة في الجنة
فيا له من غذاء ما أصلحه وما أنفعه وحرام على قلب قد ترب على غذاء السماع الشيطاني : أن يجد شيئا من ذلك في سماع القرآن بل إن حصل له نوع لذة فهو من قبل الصوت المشترك لا من قبل المعنى الخاص وليس في نعيم أهل الجنة أعلى من رؤيتهم وجه الله محبوبهم سبحانه وتعالى عيانا وسماع كلامه منه
وذكر عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب السنة أثرا لا يحضرني الآن : هل هو موقوف أو مرفوع : إذا سمع الناس القرآن يوم القيامة من الرحمن عز و جل فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك وإذا امتلأ القلب بشيء وارتفعت المباينة الشديدة بين الظاهر والباطن : أدت الأذن إلى القلب من المسموع ما يناسبه وإن لم يدل عليه ذلك المسموع ولا قصده المتكلم ولا يختص ذلك بالكلام الدال على معنى بل قد يقع في الأصوات المجردة
قال القشيري : سمعت أبا عبدالله السلمي يقول : دخلت على أبي عثمان المغربي ورجل يستقي الماء من البئر على بكرة فقال : يا أبا عبدالرحمن أتدري

إيش تقول هذه البكرة فقلت : لا فقال تقول : الله الله ومثل ذلك كثير كما سمع أبو سليمان الدمشقي من المنادي : يا سعتر بري : اسع تر بري
وهذا السماع الروحاني تبع لحقيقة القلب ومادته منه فالاتحاد به يظن به السامع : أنه أدرك ذلك المعنى لا محالة من الصوت الخارجي وسبب ذلك اتحاد السمع بالقلب
وأكمل السماع : سماع من يسمع بالله ما هو مسموع من الله وهو كلامه وهو سماع المحبين المحبوبين كما في الحديث الذي في صحيح البخاري عن رسول الله فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي
والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة فإذا امتلأ من محبة الله وسمع كلام محبوبه أي بمصاحبته وحضوره في قلبه فله من سماعه هذا شأن ولغيره شأن آخر والله أعلم

فصل والثاني على ثلاثة أقسام : أحدها : من اتصف قلبه بصفات نفسه بحيث
صار قلبه نفسا محضة

فغلبت عليه آفات الشهوات ودعوات الهوى فهذا حظه من السماع : كحظ البهائم لا يسمع إلا دعاء ونداء والفرق الذي بينها وبينه : غير طائل القسم الثاني : من اتصفت نفسه بصفات قلبه فصارت نفسه قلبا محضا فغلبت عليه المعرفة والمحبة والعقل واللب وعشق صفات الكمال فاستنارت نفسه بنور القلب واطمأنت إلى ربها وقرت عينها بعبوديته وصار نعيمها في حبه وقربه فهذا حظه من السماع مثل أو قريب من حظ الملائكة وسماعه غذاء قلبه وروحه وقرة عينه ونعيمه من الدنيا ورياضه التي يسرح فيها وحياته التي بها قوامه وإلى هذا المعنى قصد أرباب سماع القصائد والأبيات ولكن أخطأوا الطريق وأخذوا عن الدرب شمالا ووراء القسم الثالث : من له منزلة بين منزلتين وقلبه باق على فطرته الأولى ولكن ما تصرف في نفسه تصرفا أحالها إليه وأزال به رسومها وجلا عنه ظلمتها ولا قويت النفس على القلب بإحالته إليها وتصرفت فيه تصرفا أزالت عنه نوره وصحته وفطرته
فبين القلب والنفس منازلات ووقائع والحرب بينهما دول وسجال تدال النفس عليه تارة ويدال عليها تارة
فهذا حظه من السماع : حظ بين الحظين ونصيبه منه بين النصيبين فإن صادفه وقت دولة القلب : كان حظه منه قويا وإن صادفه وقت دولة النفس : كان ضعيفا

ومن ههنا يقع التفاوت من الناس في الفقه عن الله والفهم عنه والابتهاج والنعيم بسماع كلامه
وصاحب هذه الحال في حال سماعه يشتغل القلب بالحرب بينه وبين النفس فيفوته من روح المسموع ونعيمه ولذته بحسب اشتغاله عنه بالمحاربة ولا سبيل له إلى حصول ذلك بتمامه حتى تضع الحرب أوزارها وربما صادفه في حال السماع وارد حق أو الظفر بمعنى بديع لا يقدر فكره على صيده كل وقت فيغيب به ويستغرق فيه عما يأتي بعده فيعجز عن صيد تلك المعانيويدهشه ازدحامها فيبقى قلبه باهتا كما يحكى أن بعض العرب : أرسل صائدا له على صيد فخرج الصيد عليه من أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فوقف باهتا ينظر يمينا وشمالا ولم يصطد شيئا فقال
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد فوظيفته في مثل هدا الحال : أن يفنى عن وارده ويعلق قلبه بالمتكلم وكأنه يسمع كلامه منه ويجعل قلبه نهرا لجريان معاينة ويفرغه من سوى فهم المراد وينصب إليه انصبابا يتلقى فيه معاينه كتلقى المحب للأحباب القادمين عليه لا يشغله حبيب منهم عن حبيب بل يعطي كل قادم حقه وكتلقي الضيوف والزوار وهذا إنما يكون مع سعة القلب وقوة الاستعداد وكمال الحضور
فإذا سمع خطاب الترغيب والتشويق واللطف والإحسان : لا يفنى به عما يجيء بعده من خطاب التخويف والترهيب والعدل بل يسمع الخطاب الثاني مستصحبا لحكم الخطاب الأول ويمزج هذا بهذا ويسير بهما ومعهما جميعا عاكفا بقلبه على المتكلم وصفاته سبحانه
وهذا سير في الله وهو نوع آخر أعلى وأرفع من مجرد المسير إليه ولا ينقطع بذلك سيره إليه بل يدرج سيره فان سير القلب في معاني أسمائه وصفاته وتوحيده ومعرفته

ومتى بقيت للقلب في ذلك ملكة واشتد تعلقه به : لم تحجبه معانى المسموع وصفات المتكلم بعضها عن بعض ولكن في الابتداء يعسر عليه ذلك وفي التوسط يهون عليه ولا انتهاء ههنا ألبته والله المستعان فهذه كلمات تشير الى معاني سماع أهل المعرفة والإيمان والأحوال المستقيمة وأما السماع الشيطاني : فبالضد من ذلك وهو مشتمل على أكثر من مائة مفسدة ولولا خوف الإطالة لسقناها مفصلة
وسنفرد لها مصنفا مستقلا إن شاء الله
فهذا ما يتعلق بقوله : إن من الأنس بالشواهد : التغذي بالسماع وقوله : والوقوف على الإشارات الإشارات هي المعاني التي تشير إلى الحقيقة من بعد ومن وراء حجاب وهي تارة تكون من مسموع وتارة تكون من مرئي وتارة تكون من معقول وقد تكون من الحواس كلها فالإشارات : من جنس الأدلة والأعلام وسببها : صفاء يحصل بالجمعية فيلطف به الحس والذهن فيستيقظ لإدراك أمور لطيفة لا يكشف حس غيره وفهمه عن إدراكها وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : الصحيح منها : ما يدل عليه اللفظ بإشارته من باب قياس الأولى قلت : مثاله قوله تعالى : لا يمسه إلا المطهورن الواقعة : 79 قال : والصحيح في الآية أن المراد به : الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة منها : أنه وصفه بأنه مكنون و المكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة

ومنها : أنه قال : لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة ولو أراد المتوضئين لقال : لا يمسه إلا المتطهرون كما قال تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين البقرة : 222 فالملائكة مطهرون والمؤمنون متطهرون ومنها : أن هذا إخبار ولو كان نهيا لقال : لا يمسسه بالجزم والأصل في الخبر : أن يكون خبرا صورة ومعنى
ومنها : أن هذا رد على من قال : إن الشيطان جاء بهذا القرآن فأخبر تعالى : أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين ولا وصول لها إليه كما قال تعالى في آية الشعراء : وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون الشعراء : 21021 وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة
ومنها : أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس : فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة عبس : 1216
قال مالك في موطئه : أحسن ما سمعت في تفسير قوله : لا يمسه إلا المطهرون أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس ومنها : أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف ومنها : أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس : لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم : أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان ولا ينال منه ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : لكن تدل

الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر
وسمعته يقول في قول النبي : لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت فكيف تلج معرفة الله عز و جل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلىء بكلاب الشهوات وصورها فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة
ومن هذا : أن طهارة الثوب الطاهر والبدن إذا كانت شرطا في صحة الصلاة والاعتداد بها فإذا أخل بها كانت فاسدة فكيف إذا كان القلب نجسا ولم يطهره صاحبه فكيف يعتد له بصلاته وإن أسقطت القضاء وهل طهارة الظاهر إلا تكميل لطهارة الباطن ومن هذا : أن استقبال القبلة في الصلاة شرط لصحتها وهي بيت الرب فتوجه المصلي إليها ببدنه وقالبه شرط فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن بل وجه بدنه إلى البيت ووجه قلبه إلى غير رب البيت وأمثال ذلك من الإشارات الصحيحة التي لا تنال إلا بصفاء الباطن وصحة البصيرة وحسن التأمل والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثانية : الأنس بنور الكشف وهو أنس شاخص عن الأنس
الأول تشوبه صولة الهيمان ويضربه موج الفناء وهو الذي غلب قوما على عقولهم وسلب قوما طاقة الاصطبار وحل عنهم قيود العلم وفي هذا ورد الخبر بهذا الدعاء : أسألك شوقا إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة

يجوز أن تكون الباء في قوله : بنور الكشف باء السبية أو باء الإلصاق
فإن كانت باء السببية : كان المعنى : الأنس الحاصل بسبب نور الكشف وإن كانت باء الإلصاق كان المعنى : الأنس المتلبس بنور الكشف فإن قلت : ما الفرق بين الأنس ونور الكشف حتى يكون أحدهما سببا للآخر أو متلبسا به قلت : الفرق بينهما : أن نور الكشف من باب المعارف وانكشاف الحقيقة للقلب وأما الأنس : فمن باب القرب والدنو والسكون إلى من يأنس به والطمأنينة إليه فضده : الوحشة وضد نور الكشف : ظلمة الحجاب وقوله : شاخص عن الأنس الأول أي مرتفع عنه وأعلى منه قوله : تشوبه صولة الهيمان
وذلك : لأن هذا الأنس المذكور يكون مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها كاسم الجميل والبر واللطيف والودود والحليم والرحيم ونحوها ثم يقوى التعلق بها إلى أن يستغرق العقل فيما زجه نوع من الأسماء فيقهر العقل بصولته
و الهيمان هو الحركة إلى كل جهة بسبب الحيرة والدهشة وذلك إنما يكون مع نوع عدم تمييز وقوة إرادة قاهرة لا يملك صاحبها ضبطها وقوله : ويضربه موج الفناء
أي إن صاحب هذا الأنس : يطالع مبادىء الفناء محيطة به فهي تقلبه كما يقلب الموج الغريق وهذا قبل استيلاء سلطان الفناء على وجوده وقوله : وهو الذي غلب قوما على عقولهم أي سلبهم إياها لأنهم شاهدوا شيئا فوق مدارك العقول وفوق كل

مدرك بالحواس الظاهرة والباطنة ولا إلف لهم به فأوجبت قوة المشاهدة والوارد وضعف المحل والحامل : غلبته على العقل والكامل من القوم يثبت لذلك ولا يتحرك بل يبقى كأنه جبل وتلا الجنيد في مثل هذه الحال وقد قيل له أما يغيرك ما تسمع فتلا وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب النمل : 88 وبعضهم تلا في مثل ذلك : وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال الكهف : 18
وقوم أقوى تمكينا من هؤلاء : لم يغلبهم على عقولهم بل سلبهم طاقة صبرهم فبدا منهم ما ينافي الصبر وأما قوله : وحل عنهم قيود العلم فكلام لابد من تأويله وتكلف وجه يصححه
وأحسن ما يحمل عليه : أن العلم يقيد صاحبه والمعرفة تطلقه وتوسع بطانه وتريه حقائق الأشياء فتزول عنه التقيدات التي كانت حاصلة بسبب خفاء نور المعرفة وكشفها عليه فإن العارف صاحب ضياء الكشف أوسع بطانا وقلبا وأعظم إطلاقا بلا شك من صاحب العلم ونسبته إليه كنسبة صاحب العلم إلى الجاهل فكما أن العالم أوسع بطانا من الجاهل وله إطلاق بحسب علمه فالعارف بما معه من روح العلم وضياء الكشف ونوره هو أكثر إطلاقا وأوسع بطانا من صاحب العلم فيتقيد العالم بظواهر العلم وأحكامه والعارف لا يراها قيودا
ومن ههنا تزندق من تزندق وظن أنه إذا لاحت له حقائقها وبواطنها : خلع قيود ظواهرها ورسومها اشتغالا بالمقصود عن الوسيلة وبالحقيقة عن الرسم فهؤلاء هم المقطوعون عن الله القطاع لطريق الله وهم معاطب الطريق وآفاتها واتفق أن العارفين تكلموا في الحقائق وأمروا بالانتقال من الرسوم

والظواهر إليها وأن لا يقف عندها فظن هؤلاء الزنادقة : أنهم جوزوا خلعها والانحلال منها
ولا ريب أن من جوز ذلك : فهو مثل هؤلاء والله يركم الخبيث بعضه على بعض فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون فصاحب المنازل : أشار إلى المعنى الحق الصحيح كما أشار إليه شيوخ القوم
وأما استدلاله بقول النبي : أسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة فليس مطابقا لما ذكره في هذه الدرجة فأين طلب الشوق إلى لقائه الباعث على كمال الاستعداد وعلى خفة أعباء السير والمزيل لكل فتور والحامل على كل صدق وإخلاص وإنابة وصحة معاملة إلى أمر مشوب بصولة الهيمان تضربه أمواج الفناء بحيث غلب قوما على عقولهم وسلب قوما صبرهم بحيث صيرهم في عالم الفناء ورسول الله : لم يكن ليسأل حالة الفناء قط وإنما سأل شوقا موجبا للبقاء مصاحبا له طيب الحياة وقرة العين ولذة القلب وبهجة الروح
وصاحب المنازل كأنه فهم منه اشتياقه إلى المشاهدة من غير غلبة على عقل ولا فقد لاصطبار ولهذا قال : من غير ضراء مضرة وهي الغلبة على العقل ولا فتنة مضلة وهي مفارقة أحكام العلم

وهذا غايته : أن يؤخذ من إشارة الحديث على عادة القوم وأما أن يكون هو نفس المراد : فلا
وإنما المسئول : أن يهب له شوقا إلى لقائه مصاحبا للعافية والهداية فلا تصحبه فتنة ولا محنة وهذا من أجل العطايا والمواهب فإن كثيرا ممن يحصل له هذا لا يناله إلا بعد امتحان واختبار : هل يصلح أم لا ومن لم يمتحن ولم يختبر فأكثرهم لم يؤهل لهذا
فتضمن هذا الدعاء : حصول ذلك والتأهيل له مع كمال العافية بلا محنة والهداية بلا فتنة وبالله التوفيق والله أعلم

فصل قال : الدرجة الثالثة : أنس اضمحلال في شهود الحضرة لا يعبر عن
غيبه ولا يشار إلى حده ولا يوقف على كنهه الاضمحلال الانعدام و شهود الحضرة هو مشاهدة الحقيقة والفناء في ذلك الشهود قوله : ولا يعبر عن غيبه إلى آخره
حاصله : أن هذا أمر وراء العبارة لا تناله العبارة ولا يحاط به عينا ولا حدا ولا كنها ولا حقيقة فإن حقيقته : تستغرق العبارة والإشارة والدلالة وفي وصفه يقول قائلهم :
فألقوا حبال مراسيهم ... فغطاهم البحر ثم انطبق وههنا إنما حوالة القوم على الذوق وإشارتهم : إلى الفناء الذي يصطلم المشير وإشارته والمعبر وعبارته مع ظهور سلطان الحقيقة التي هي فوق الإشارة والعبارة والدلالة والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الذكر
وهي منزلة القوم الكبرى التي منها يتزودون وفيها يتجرون وإليها دائما يترددون
و الذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ومن منعه عزل وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا وعمارة ديارهم التى إذا تعطلت عنه صارت بورا وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب
إذا مرضنا تداوينا بذكركم فنترك الذكر أحيانا فننتكس به يستدفعون الآفات ويستكشفون الكربات وتهون عليهم به المصيبات إذا أظلمهم البلاء فإليه ملجؤهم وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم فهو رياض جنتهم التي فيها يتقبلون ورءوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون يدع القلب الحزين ضاحكا مسرورا ويوصل الذاكر إلى المذكور بل يدع الذاكر مذكورا
وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة و الذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة بل هم يأمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال : قياما وقعودا وعلى جنوبهم فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها فكذلك القلوب بور وخراب وهو عمارتها وأساسها
وهو جلاء القلوب وصقالها ودواؤها إذا غشيها اعتلالها وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقا : ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقا وإذا واطأ في ذكره

قلبه للسانه : نسي في جنب ذكره كل شيء وحفظ الله عليه كل شيء وكان له عوضا من كل شيء
به يزول الوقر عن الأسماع والبكم عن الألسن وتنقشع الظلمة عن الأبصار زين الله به ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين فاللسان الغافل : كالعين العمياء والأذن الصماء واليد الشلاء وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته قال الحسن البصري رحمه الله : تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة وفي الذكر وقراءة القرآن فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق وبالذكر : يصرع العبد الشيطان كما يصرع الشيطان أهل الغفلة والنسيان قال بعض السلف : إذا تمكن الذكر من القلب فإن دنا منه الشيطان صرعه كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان فيجتمع عليه الشياطين فيقولون : ما لهذا فيقال : قد مسه الإنسي
وهو روح الأعمال الصالحة فإذا خلا العمل عن الذكر كان كالجسد الذي لا روح فيه والله أعلم

فصل وهو في القرآن على عشرة أوجه الأول : الأمر به مطلقا ومقيدا
الثاني : النهي عن ضده من الغفلة والنسيان الثالث : تعليق الفلاح باستدامته وكثرته الرابع : الثناء على أهله والإخبار بما أعد الله لهم من الجنة والمغفرة الخامس : الإخبار عن خسران من لها عنه بغيره السادس : أنه سبحانه جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له السابع : الإخبار أنه أكبر من كل شيء

الثامن : أنه جعله خاتمة الأعمال الصالحة كما كان مفتاحها التاسع : الإخبار عن أهله بأنهم هم أهل الانتفاع بآياته وأنهم أولو الألباب دون غيرهم العاشر : أنه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة وروحها فمتى عدمته كانت كالجسد بلا روح

فصل في تفصيل ذلك
أما الأول : فكقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما الأحزاب : 4143 وقوله تعالى : واذكر ربك في نفسك تضرعاوخيفة الأعراف : 205 وفيه قولان أحدهما : في سرك وقلبك والثاني : بلسانك بحيث تسمع نفسك وأما النهي عن ضده : فكقوله : ولا تكن من الغافلين الأعراف : 205 وقوله : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم الحشر : 19
وأما تعليق الفلاح بالإكثار منه : فكقوله : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون الأنفال : 45 الجمعه : 10
وأما الثناء على أهله وحسن جزائهم : فكقوله : إن المسلمين والمسلمات إلى قوله والذاكرين الله كثيرا والذاكرات : أعد الله لهم مغفرة وأجراعظيما الأحزاب : 35
وأما خسران من لها عنه فكقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون المنافقون : 9
وأما جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له فكقوله : فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون البقرة : 152

وأما الإخبار عنه بأنه أكبر من كل شيء فكقوله تعالى : اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر العنكبوت : 45 وفيها أربعة أقوال : أحدها : أن ذكر الله أكبر من كل شيء فهو أفضل الطاعات لأن المقصود بالطاعات كلها : إقامة ذكره فهو سر الطاعات وروحها الثاني : أن المعني : أنكم إذا ذكرتموه ذكركم فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له فعلى هذا : المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الأول : مضاف إلى المذكور الثالث : أن المعنى : ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر بل إذا تم الذكر : محق كل خطيئة ومعصية هذا ما ذكره المفسرون
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : معنى الآية : أن في الصلاة فائدتين عظيمتين إحداهما : نهيها عن الفحشاء والمنكر والثانية : اشتمالها على ذكر الله وتضمنها له ولما تضمنته من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر
وأما ختم الأعمال الصالحة به : فكما ختم به عمل الصيام بقوله : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون البقرة : 185 وختم به الحج في قوله فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا البقرة : 200
وختم به الصلاة كقوله : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم النساء : 103

وختم به الجمعة كقوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون الجمعة : 10 ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا وإذا كان آخر كلام العبد : أدخله الله الجنة
وأما اختصاص الذاكرين بالانتفاع بآياته وهم أولو الألباب والعقول فكقوله تعالى : إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعوداوعلى جنوبهم آل عمران : 190191
وأما مصاحبته لجميع الأعمال واقترانه بها وأنه روحها : فإنه سبحانه قرنه بالصلاة كقوله : وأقم الصلاة لذكرى طه : 14 وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه بل هو روح الحج ولبه ومقصوده كما قال النبي : إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار : لإقامة ذكر الله
وقرنه بالجهاد وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران ومكافحة الاعداء فقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله لعلكم تفلحون الأنفال : 45 وفي أثر إلهي يقول الله تعالى : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يستشهد به وسمعته يقول : المحبون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال كما قال عنترة :
ولقد ذكرتك والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم وقال الآخر :
ذكرتك والخطي يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر
قال آخر :
ولقد ذكرتك والرماح شواجر ... بحوى وبيض الهند تقطر من دمي وهذا كثير في أشعارهم وهو مما يدل على قوة المحبة فإن ذكر المحب محبوبه

في تلك الحال التي لا يهم المرء فيها غير نفسه يدل على أنه عنده بمنزلة نفسه أو أعز منها وهذا دليل على صدق المحبة والله أعلم

فصل والذاكرون : هم أهل السبق كما روى مسلم في صحيحه من حديث العلاء
عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله يسير في طريق مكة فمر على جبال يقال له جمدان فقال : سيروا هذا جمدان سبق المفردون قالوا : وما المفردون يا رسول الله قال : الذاكرون الله كثيراوالذاكرات والمفردون إما الموحدون وإما الآحاد الفرادي وفي المسند مرفوعا من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا : وما ذاك يا رسول الله قال : ذكر الله عز و جل
وروى شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت الأغر قال : أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله قال : لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده وهو في صحيح مسلم
ويكفي في شرف الذكر : أن الله يباهي ملائكته بأهله كما في صحيح مسلم عن معاوية رضي الله عنه : أن رسول الله : خرج على حلقة من أصحابه فقال : ما أجلسكم قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا قال : آلله ما أجلسكم إلا ذلك قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذلك

قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكن أتاني جبريل فأخبرني : أن الله يباهي بكم الملائكة وسأل أعرابي رسول الله : أي الأعمال أفضل فقال : أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله وقال له رجل : إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فمرني بأمر أتشبث به فقال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله
وفي المسند وغيره من حديث جابر قال : خرج علينا رسول الله فقال : أيها الناس ارتعوا في رياض الجنة قلنا : يا رسول الله وما رياض الجنة فقال : مجالس الذكر وقال : اغدوا وروحوا واذكروا من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله : فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه وروى النبي عن أبيه أبراهيم ليلة الإسراء أنه قال له : أقرىء أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رواه الترمذي وأحمد وغيرهما
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي : مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره : مثل الحي والميت ولفظ مسلم : مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه : مثل الحي والميت فجعل بيت الذاكر بمنزلة بيت الحي وبيت الغافل بمنزلة بيت الميت وهو القبر
وفي اللفظ الأول : جعل الذاكر بمنزلة الحي والغافل بمنزلة الميت فتضمن اللفظان : أن القلب الذاكر كالحي في بيوت الأحياء والغافل

كالميت في بيوت الأموات ولا ريب أن أبدان الغافلين قبور لقلوبهم وقلوبهم فيها كالأموات في القبور كما قيل :
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ... وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور وكما قيل :
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ... وأجسامهم فهي القبور الدوارس
وأرواحهم في وحشة من حبيبهم ... ولكنها عند الخبيث أوانس
وفي أثر إلهي : يقول الله تعالى : إذا كان الغالب على عبدي ذكري : أحبني وأحببته وفي آخر : فبي فافرحوا وبذكري فتنعموا وفي آخر : ابن آدم ما أنصفتني أذكرك وتنساني وأدعوك وتهرب إلى غيري وأذهب عنك البلايا وأنت معتكف على الخطايا يا ابن آدم ما تقول غدا إذ جئتني وفي آخر : ابن آدم اذكرني حين تغضب : أذكرك حين أغضب وارض بنصرتي لك فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك وفي الصحيح : في الأثر الذي يرويه رسول الله عن ربه تبارك وتعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وقد ذكرنا في الذكر نحو مائة فائدة في كتابنا الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب وذكرنا هناك أسرار الذكر وعظم نفعه وطيب ثمرته وذكرنا فيه : أن الذكر ثلاثة أنواع ذكر الأسماء والصفات ومعانيها والثناء على الله بها وتوحيد الله بها
وذكر الأمر والنهي والحلال والحرام وذكر الآلاء والنعماء والإحسان

والأيادي وأنه ثلاثة أنواع أيضا : ذكر يتواطأ عليه القلب واللسان وهو أعلاها وذكر بالقلب وحده وهو في الدرجة الثانية وذكر باللسان المجرد وهو في الدرجة الثالثة

فصل قال صاحب المنازل : قال الله تعالى : واذكر ربك إذا نسيت
الكهف : 24 يعني : إذا نسيت غيره ونسيت نفسك في ذكرك ثم نسيت ذكرك في ذكره ثم نسيت في ذكر الحق إياك كل ذكر ليته قدس الله روحه لم يقل فلا والله ما عنى الله هذا المعنى ولا هو مراد الآية ولا تفسيرها عند أحد من السلف ولا من الخلف
وتفسير الآية عند جماعة المفسرين : أنك لا تقل لشيء أفعل كذا وكذا حتى تقول : إن شاء الله فإذا نسيت أن تقولها فقلها متى ذكرتها وهذا هو الاستثناء المتراخي الذي جوزه ابن عباس وتأول عليه الآية وهو الصواب
فغلط عليه من لم يفهم كلامه ونقل عنه أن الرجل إذا قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا أو قال : نسائي الأربع طوالق ثم بعد سنة يقول : إلا واحدة أو إلا زينب إن هذا الاستثناء ينفعه وقد صان الله عن هذا من هو دون غلمان ابن عباس بكثير فضلا عن البحر حبر الأمة وعالمها الذي فقهه الله في الدين وعلمه التأويل وما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالإفهام القاصرة ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال جدا وإن ساعد الله أفردنا له كتابا والذي أجمع عليه المفسرون : أن أهل مكة سألوا النبي عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فقال : أخبركم غدا ولم يقل : إن شاء الله فتلبث الوحي أياما ثم نزلت هذه الآية قال ابن عباس

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7