كتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

والتحقيق إن شاء الله أن علومهم تلاشت في علمه سبحانه واضمحلت فصارت بالنسبة إليه كلا علم فردوا العلم كله إلى وليه وأهله ومن هو أولى به فعلومهم وعلوم الخلائق جميعهم في جنب علمه تعالى كنقرة عصفور في بحر من بحار العالم والمخالجة المنازعة
قوله وأما الدرجة الثانية فأن لا ينازع شهودك شهوده هذا قريب من المعنى الأول والمعنى أن الشهود الذي كنت تنسبه إلى نفسك قبل الفناء تصير بعد تنسبه إليه سبحانه لا إليك
قوله الدرجة الثالثة أن لا يناسم رسمك سبقه الرسم عندهم هو الشخص وهو محدث مخلوق والرب تعالى هو القديم الخالق فإذا تحقق العبد بالحقيقة شهد الحق وحده منفردا عن خلقه فلم يناسم رسمه سبق الحق وأوليته والمناسمة كالمشامة يقال ناسمه أي شامه فاستعار الشيخ اللفظة لأدنى المقاربة والملابسة أي لا يداني رسمك سبقه ولو بأدنى مناسمة بل تشهد الحق وحده منفردا عن كل ما سواه
وهم يشيرون بذلك إلى أمر وهو أن الله سبحانه كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان فأما اللفظ الأول وهو كان الله ولا شيء معه فهذا قد روي في الصحيح في بعض ألفاظ حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وإن كان اللفظ الثابت كان الله ولم يكن شيء قبله وهو المطابق لقوله في الحديث الآخر الصحيح أنت الأول فليس قبلك شيء ولم يقل فليس معك شيء
وأما قوله وهو الآن على ما كان عليه فزيادة في الحديث ليست منه بل زادها بعض المتحذلقين وهي باطلة قطعا فإن الله مع خلقه بالعلم والتدبير والقدرة ومع أوليائه بالحفظ والكلاءة والنصرة وهم معه بالموافقة والمحبة وصارت هذه اللفظة مجنا وترسا للملاحدة من الاتحادية فقالوا إنه لا وجود

سوى وجوده أزلا وأبدا وحالا فليس في الوجود إلا الله وحده وكل ما تراه وتلمسه وتذوقه وتشمه وتباشره فهو حقيقة الله تعالى الله عن إفكهم علوا كبيرا
وأما أهل التوحيد فقد يطلقون هذه اللفظة ويريدون بها لفظا صحيحا وهو أن الله سبحانه لم يزل منفردا بنفسه عن خلقه ليس مخالطا لهم ولا حالا فيهم ولا ممازجا لهم بل هو بائن عنهم بذاته وصفاته
وأما الشيخ وأرباب الفناء فقد يعنون معنى آخر أخص من ذلك وهو المشار إليه بقوله لا يناسم رسمك سبقه أي لا ترى أنك معه بل تراه وحده ولهذا قال فتسقط الشهادات وتبطل العبارات وتفنى الإشارات يعني أنك إذا لم تشهد معه غيره وأسقطت الغير من الشهود لا من الوجود بخلاف ما يقول الملحد الاتحادي إنك تسقط الغير شهودا ووجودا سقطت الشهادات والعبارات والإشارات لإنها صفات العبد المحدث المخلوق والفناء يوجب إسقاطها
والمعنى أن الواصل إلى هذا المقام لا يرى مع الحق سواه فيمحو السوى في شهوده وعند الملحد يمحوه من الوجود والله أعلم وهو الموفق

فصل قال باب التلبيس قال الله تعالى وللبسنا عليهم ما يلبسون
ليته لم يستشهد بهذه الآية في هذا الباب فإن الاستشهاد بها على مقصوده أبعد شاهد عليه وأبطله شهاده وليته لم يسم هذا الباب بالتلبيس واختار له اسما أحسن منه موقعا
فأما الآية فإن معناها غير ما عقد له الباب من كل وجه فإن المشركين قالوا تعنتا في كفرهم لولا أنزل عليه ملك يعنون ملكا نشاهده ونراه يشهد له ويصدقه وإلا فالملك كان ينزل عليه بالوحي من الله فأجاب الله تعالى عن هذا وبين الحكمة في عدم إنزال الملك على الوجه الذي اقترحوه بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا ولم يؤمنوا ويصدقوه لعوجلوا بالعذاب

كما جرت واستمرت به سنته تعالى مع الكفار في آيات الاقتراح إذا جاءتهم ولم يؤمنوا بها فقال ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ثم بين سبحانه أنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لما حصل به مقصودهم لأنه إن أنزله في صورته لم يقدروا على التلقي عنه إذ البشر لا يقدرون على مخاطبة الملك ومباشرته وقد كان النبي وهو أقوى الخلق إذا نزل عليه الملك كرب لذلك وأخذه البرحاء وتحدر منه العرق في اليوم الشاتي وإن جعله في صورة رجل حصل لهم لبس هل هو رجل أم ملك فقال تعالى ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم في هذه الحال ما يلبسون على أنفسهم حينئذ فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك فهذا معنى الآية فأين تجده مما عقد له الباب

فصل قال التلبيس تورية بشاهد معار عن موجود قائم لما كانت التورية
إظهار خلاف المراد بأن يذكر شيئا يوهم أنه مراده وليس هو بمراده بل وري بالمذكور عن المراد فسر التلبيس بها وفي الحديث كان رسول الله إذا أراد غزوة وري بغيرها مثاله أن يريد غزو خيبر فيقول للناس كيف طريق نجد وما بها من المياه ونحو ذلك
فههنا شيئآن أمر ستر الموري الملبس وأمر ستر ما وري عنه فاشار المصنف إلى الأمرين بقوله تورية شاهد معار عن موجود قائم فأما التورية فقد عرفتها وأما الشاهد فهو الذي تورى به عن مرادك وتستشهد به وأما المعار فهو الشاهد الذي استعير لغيره ليشهد له فهو شاهد استعير لمشهود قائم فالتورية أن تذكر ما يحتمل معنيين ومقصودك خلاف الذي يظهر منهما والتلبيس يشبه التعمية والتخليط ومنه قوله ولا تلبسوا الحق بالباطل والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل قال الشيخ وهو اسم لثلاثة معان أولها تلبيس الحق سبحانه بالكون
على أهل التفرقة وهو تعليقه الكوائن بالأسباب والأماكن والأحايين وتعليقه المعارف بالوسائط والقضايا بالحجج والأحكام بالعلل والانتقام بالجنايات والمثوبة بالطاعات وأخفى الرضى والسخط اللذين يوجبان الفصل والوصل ويظهران الشقاوة والسعادة
شيخ الإسلام حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عمله خير من علمه وصدق رحمه الله فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى وقد أخطأ في هذا الباب لفظا ومعنى
أما اللفظ فتسميته فعل الله الذي هو حق وصواب وحكمة ورحمة وحكمه الذي هو عدل وإحسان وأمره الذي هو دينه وشرعه تلبيسا فمعاذ الله ثم معاذ الله من هذه التسمية ومعاذ الله من الرضى بها والإقرار عليها والذب عنها والانتصار لها ونحن نشهد بالله أن هذا تلبيس على شيخ الإسلام فالتلبيس وقع عليه ولا نقول وقع منه ولكنه صادق لبس عليه ولعل متعصبا له يقول أنتم لا تفهمون كلامه فنحن نبين مراده على وجهه إن شاء الله ثم نتبع ذلك بما له وعليه
فقوله أولها تلبيس الحق بالكون على أهل التفرقة والحق ههنا المراد به الرب تعالى والكون اسم لكل ما سواه وأهل التفرقة ضد

أهل الجمع وسيأتي معنى الجمع عنده بعد هذا إن شاء الله فأهل التفرقة الذين لم يصلوا إلى مقام الجمع فأهل التفرقة عنده لبس عليهم الحق بالباطل فإنهم لبس عليهم الحق بالكون وهو الباطل وكل شيء ما خلا الله باطل وأهل التفرقة عندهم الذين غلب عليهم النظر إلى الأسباب حتى غفلوا عن المسبب ووقفوا معها دونه والتلبيس فعل من أفعال الرب تعالى وهو سبحانه يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولذلك استدل على هذا المعنى بالآية وهي قوله تعالى وللبسنا عليهم ما يلبسون ليعرفك أن هذا الفعل لا تمنع نسبته إلى الله كما لا تمنع نسبة الإضلال إليه
ووجه هذا التلبيس أنه سبحانه أضاف الأفعال الصادرة عن محض قدرته ومشيئته إلى أسباب وأزمنة وأمكنة فلبس الحق سبحانه على أهل التفرقة حيث علق الكوائن وهي الأفعال بالأسباب فنسبها أهل التفرقة إلى أسبابها وعموا عن رؤية الحق سبحانه ففي الحقيقة لا فعل إلا لله وأهل التفرقة يجهلون ذلك ويقولون فعل فلان وفعل الماء وفعل الهواء وفعلت النار وكذلك تعليقه سبحانه المعارف بالوسائط وهي الأدلة السمعية والعقلية والفطرية وتعليقه المسموعات والمبصرات والملموسات بآلاتها وحواسها من السمع والبصر والشم والذوق واللمس وهو سبحانه الخالق لتلك الإدراكات مقارنة لهذه الحواس وعندها لا بها ولا بقوى مودعة فيها وهو سبحانه قادر على خلق هذه المعارف بغير هذه الوسائط فحجب أهل التفرقة فهذه الوسائط عن إله قادر سبحانه حقيقة الذي لا فعل في الحقيقة إلا له فكأنه لبس على أهل التفرقة أي أضلهم بشهودهم الأسباب وغيبتهم بها عنه
وكذلك القضايا وهي الوقائع بين العباد علقها بالحجج الموجبه لها فكل

قضاء وحكم لها بد له من حجة يستند إليها فيحجب صاحب التفرقة بتلك الحجة عن المصدر الأول الذي منه ابتداء كل شيء ويقف مع الحجة ولا ينظر إلى من حكم بها وجعلها مظهرا لنفوذ حكمه وقضائه
وكذلك تعليقه الأحكام بالعلل وهي المعاني والمناسبات والحكم والمصالح التي من أجلها ثبتت الأحكام وهو سبحانه واضع تلك المعاني ومضيف الأحكام إليها وإنما هي في الحقيقة مضافة إليه سبحانه
وكذلك ترتيبه الانتقام على الجنايات وربطه الثواب بالطاعات كل ذلك مضاف إليه سبحانه وحده لا إلى الجنايات ولا إلى الطاعات فإضافة ذلك إليها تلبيس على أهل التفرقة وموضع التلبيس في ذلك كله أن أهل التفرقة يظنون أنه لولا تلك الوسائط لما وجدت معرفة ولا وقعت قضية ولا كان حكم ولا ثواب ولا عقاب ولا انتقام وهذا تلبيس عليهم فإن هذه الأمور إنما أوجبها محض مشيئة الله الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فانطوى حكم تلك الوسائط والأسباب والعلل في بساط المشيئة الأزلية واضمحلت في عين الحكم الأزلي وصارت من جملة الكائنات التي هي منفعلة لا فاعلة ومطيعة لا مطاعة ومأمورة لا آمرة وخلق من خلقه لا واسطة بينه وبين خلقه فهي به لا بهم ولهذا عاذالعارفون به منه وهربوا منه إليه والتجأوا منه إليه وفروا منه إليه وتوكلوا به عليه وخافوه بما منه لا من غيره فشهدوا أوليته في كل شيء وتفرده في الصنع وأنه ما ثم ما يوجب من الأشياء إلا مشيئته وحده فمشيئته هي السبب في الحقيقة وما يشاهد أو يعلم من الأسباب فمحل ومجرى لنفوذ المشيئة لا أنه مؤثر وفاعل فالوسائط لا بد أن تنتهي إلى أول لامتناع التسلسل ولهذا قال النبي فمن أعدى الأول والله سبحانه قدر المقادير وكتب الآثار والأعمال والشقاء والسعادة والثواب والعقاب حيث لا واسطة هناك ولا سبب

ولا علة فأهل التفرقة وقفوا مع الوسائط وأهل الجمع نفذ بصرهم من الوسائط والأسباب إلى من أقامها وربط بها أحكامها
قوله وأخفى الرضى والسخط الذين هما موضع الوصل والفصل يعني أنه سبحانه أخفى عن عباده ما سبق لهم عنده من سخطه على من سخط عليه ورضاه عمن رضي عنه الموجبين لوصل من وصله وقطع من قطعه
ومراده أن هذا مع السبب الصحيح في نفس الأمر وهو رضاه وسخطه وإنما لبس سبحانه على أهل التفرقة الأمر بما ذكره من الجنايات والطاعات والعلل والحجج ولا سبب في الحقيقة إلا رضاه وسخطه وذلك لا علة له فالرضى هو الذي أوجب المثوبة لا الطاعة والسخط هو الذي أوجب العقوبة لا المعصية والمشيئة هي التي أوجبت الحكم لا الوسائط فأخفى الرب سبحانه ذلك عن خلقه وأظهر لهم أسبابا أخر علقوا بها الأحكام وذلك تلبيس من الحق عليهم فأهل التفرقة وقفوا مع هذا التلبيس وأهل الجمع صعدوا عنه وجاوزوه إلى مصدر الأشياء كلها وموجدها بمشيئته فقط
فبالغ الشيخ في ذلك حتى جعل الرضى والسخط يظهران السعادة والشقاوة ولم يجعل الرضى والسخط مؤثرين فيهما وذلك لأن السعادة والشقاوة سبقت عنده سبقا محضا مستندا إلى محض المشيئة لا علة لهما والرضى والسخط أظهرا ما سبق به التقدير من السعادة والشقاوة فهذا أحسن ما يقال في شرح كلامه وتقريره وحمله على أحسن الوجوه وأجملها
وأما ما فيه من التوحيد وانتهاء الأمور إلى مشيئة الرب جل جلاله وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فذلك عقد نظام الإيمان ومع ذلك فلا يكفي وحده إذ غايته تحقيق توحيد الربوبية الذي لا ينكره عباد الأصنام وإنما الشأن في أمر آخر وراء هذا هذا بابه والمدخل إليه والدليل عليه ومنه يوصل إليه وهو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب وعليه الثواب

والعقاب والشرائع كلها تفاصيله وحقوقه وهو توحيد الإلهية والعبادة وهو الذي لا سعادة للنفوس إلا بالقيام به علما وعملا وحالا وهو أن يكون الله وحده أحب إلى العبد من كل ما سواه وأخوف عنده من كل ما سواه وأرجى له من كل ما سواه فيعبده بمعاني الحب والخوف والرجاء بما يحبه هو ويرضاه وهو ما شرعه على لسان رسوله لا بما يريده العبد ويهواه وتلخيص ذلك في كلمتين إياك أريد بما تريد فالأولى توحيد وإخلاص والثانية اتباع للسنة وتحكيم للأمر
والمقصود أن ما أشار إليه في هذا الباب غايته تقرير توحيد الأفعال وهو توحيد الربوبية
وأما جعله ما نصبه من الأسباب في خلقه وأمره وأحكامه وثوابه وعقابه تلبيسا فتلبيس من النفس عليه وليس ذلك عند العارفين بالله ورسله وأسمائه وصفاته من التلبيس في شيء وإنما ذلك مظهر أسمائه وصفاته وحكمته ونعمته وقدرته وعزته إذ ظهور هذه الصفات والأسماء تستلزم محال وتعلقات تتعلق بها ويظهر فيها آثارها وهذا أمر ضروري للصفات والأسماء إذ العلم لا بد له من معلوم وصفة الخالقية والرازقية تستلزم وجود مخلوق ومرزوق وكذلك صفة الرحمة والإحسان والحلم والعفو والمغفرة والتجاوز تستلزم فكيف يكون تعليق الأحكام والثواب والعقاب بها تلبيسا وهل ذلك محال تتعلق بها ويظهر فيها آثارها فالأسباب والوسائط مظهر الخلق والأمر إلا حكمة بالغة باهرة وآيات ظاهرة وشواهد ناطقة بربوبية منشئها وكماله وثبوت أسمائه وصفاته فإن الكون كما هو محل الخلق والأمر ومظهر الأسماء

والصفات فهو بجميع ما فيه شواهد وأدلة وآيات دعا الله سبحانه عباده إلى النظر فيها والاستدلال بها على وجود الخالق والاعتبار بما تضمنته من الحكم والمصالح والمنافع على علمه وحكمته ورحمته وإحسانه وبما تضمنته من العقوبات على عدله وأنه يغضب ويسخط ويكره ويمقت وبما تضمنته من المثوبات والإكرام على أنه يحب ويرضى ويفرح فالكون بجملة ما فيه آيات وشواهد وأدلة لم يخلق الله فيهشيئا تلبيسا ولا وسطه عبثا ولا خلقه سدى
فالأسباب والوسائط والعلل محل استذكار المتفكرين واعتبار الناظرين ومعارف المستدلين إن في ذلك لآيات للمتوسمين وكم في القرآن من الحث على النظر والاعتبار بها والتفكر فيها وذم من أعرض عنها والإخبار بأن النظر فيها والاستدلال يوجب العلم والمعرفة بصدق رسله فهو آيات كونية مشاهدة تصدق الآيات القرآنية
فما علق بها آثارها سدى ولا رتب عليها مقتضياتها وأحكامها باطلا ولا جعل توسيطها تلبيسا ألبتة بل ذلك موجب كماله وكمال نعوته وصفاته وبها عرفت ربوبيته وإلهيته وملكه وصفاته وأسماؤه
هذا ولم يخلقها سبحانه عن حاجة منه إليها ولا توقفا لكماله المقدس عليها فلم يتكثر بها من قلة ولم يتعزز بها من ذلة بل اقتضى كماله أن يفعل ما يشاء ويأمر ويتصرف ويدبر كما يشاء وأن يحمد ويعرف ويذكر ويعبد ويعرف الخلق صفات كماله ونعوت جلاله ولذلك خلق خلقا يعصونه ويخالفون أمره لتعرف ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه كمال مغفرته وعفوه وحلمه وإمهاله ثم أقبل بقلوب من شاء منهم إليه فظهر كرمه في قبول توبته وبره

ولطفه في العود عليه بعد الإعراض عنه كما قال النبي لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم فلمن كانت تكون مغفرته لو لم يخلق الأسباب التي يعفو عنها ويغفرها والعبد الذي له يغفر فخلق العبد المغفور له وتقدير الذنب الذي يغفر والتوبة التي يغفر بها هو نفس مقتضى العزة والحكمة وموجب الأسماء الحسنى والصفات العلا ليس من التلبيس في شيء فتعليق الكوائن بالأسباب كتعليق الثواب والعقاب بالأسباب ولهذا سوى صاحب المنازل بين الأمرين وهو محض الحكمة وموجب الكمال الإلهي ومقتضى الحمد التام ومظهر صفة العزة والقدرة والملك والشرائع كلها من أولها إلى آخرها مبنية على تعليق الأحكام بالعلل والقضايا بالحجج والثواب بالطاعة والعقوبات بالجرائم فهل يقال إن الشرائع كلها تلبيس بأي معنى فسر التلبيس
ولعمر الله لقد كان في غنية عن هذا الباب وعن هذه التسمية ولقد أفسد الكتاب بذلك
هذا ولا يجهل محل الرجل من العلم والسنة وطريق السلوك وآفته وعلله ولكن قصده تجريد توحيد الأفعال والربوبية قاده إلى ذلك وانضم إليه اعتقاده أن الفناء في هذا التوحيد هو غاية السلوك ونهاية العارفين وساعده اعتقاد كثير من المنتسبين إلى السنة الرادين على القدرية في الأسباب أنها لا تأثير لها البتة ولا فيها قوى ولا يفعل الله شيئا بشيء ولا شيئا لشيء فينكرون أن يكون في أفعاله باء سببية أو لام تعليل وما جاء من ذلك حملوا الباء فيه على باء المصاحبة واللام فيه على لام العاقبة وقالوا يفعل الله الإحراق والإغراق والإزهاق عند ملاقاة النار والماء والحديد لا بهما ولا بقوى فيهما ولا فرق في نفس

الأمر بين النار وبين الهواء والتراب والخشب وانضم إلى ذلك أن العبد ليس بفاعل أصلا وإنما هو منفعل محض ومحل جريان تصاريف الأحكام عليه وأن الفاعل فيه سواه والمحرك له غيره وإذا قيل إنه فاعل أو متحرك فهو تلبيس
فهذه الأصول أوجبت هذا التلبيس على نفاة الحكم والأسباب وقابلهم آخرون فمزقوا لحومهم كل ممزق وفروا أديمهم وقالوا عطلتم الشرائع والثواب والعقاب وأبطلتم حقيقة الأمر والنهي فإن مبنى ذلك على أن العباد فاعلون حقيقة وأن أفعالهم منسوبة إليهم على الحقيقة وأن قدرهم وإرادتهم ودواعيهم مؤثرة في أفعالهم وأفعالهم واقعة بحسب دواعيهم وإرادتهم على ذلك قامت الشرائع والنبوات والثواب والعقاب والحدود والزواجر فطرة الله التي فطر الناس عليها والحيوان وسويتم بين ما فرق الله بينه فإن الله سبحانه ما سوى بين حركة المختار وحركة من تحرك قسرا بغير إرادة منه أبدا ولا سوى بين حركات الأشجار وحركات بني آدم ولا جعل الله سبحانه أفعال عباده وطاعتهم ومعاصيهم أفعالا له بل نسبها إليهم حقيقة وأخبر أنه هو الذي جعلهم فاعلين كما قال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون وقال وقال وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار وقال سادات العارفين به ربنا واجعلنا مسلمين لك وقال إبراهيم خليله رب اجعلني مقيم الصلاة فهو الذي جعل العبد كذلك والعبد هو الذي صلى وصام وأسلم وهو الفاعل حقيقة يجعل الله له فاعلا وهو السائر بتيسير الله له كما قال تعالى هو الذي يسيركم في البر والبحر فهذا فعله والسير فعلهم والإقامة فعله والقيام فعلهم والإنطاق فعله والنطق فعلهم فكيف تجعل نسبة الأفعال إلى محالها القائمة بها وأسبابها المظهرة لها تلبيسا

ومعلوم أن طي بساط الأسباب والعلل تعطيل للأمر والنهي والشرائع والحكم وأما الوقوف مع الأسباب واعتقاد تأثيرها فلا نعلم من أتباع الرسل من قال إنها مستقلة بأنفسها حتى يحتاج إلى نفي هذا المذهب وإنما قالت طائفة من الناس وهم القدرية إن أفعال الحيوان خاصة غير مخلوقة لله ولا واقعة بمشيئة وهؤلاء هم الذين أطبق الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على دمهم وتبديعهم وتضليلهم وبين أئمة السنة أنهم أشباه المجوس وأنهم مخالفون العقول والفطر ونصوص الوحي فالتلبيس في الحقيقة حصل لهؤلاء ولمنكري الأسباب في القوى والطبائع والحكم ولبس على الفريقين الحق بالباطل
والحق الذي بعث به الله رسله وأنزل به كتبه وفطر عليه عباده وأودعه في عقولهم بين مذهب هؤلاء وهؤلاء فالهدى بين الضلالتين والاستقامة بين الانحرافين
والمقصود أن القرآن بل وسائر كتب الله تضمنت تعليق الكوائن بالأسباب والأماكن والأحايين وتعليق المعارف بالوسائط والقضايا بالحجج والأحكام بالعلل والانتقام بالجنايات والمثوبات بالطاعات فإن كان هذا تلبيسا عاد الوحي والشرع والكتب الإلهية تلبيسا
نعم التلبيس على من ظن أن ذلك التعليق على وجه الاستقلال بقطع النظر عن مسبب الأسباب وناصبه الحكم والعلل فإن كان مراده أنه لبس الأمر على هؤلاء فلم يهتدوا إلى الصواب فأبعد الله من ينتصر لهم ويذب عنهم فإنهم أضل من الأنعام وإن كان المراد من أثبت الأسباب والحكم والعلل وعلق بها ما علقه الله بها من الحكم والشرع وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به ووضعها حيث وضعها فقد لبس عليه فنحن ندين الله بذلك وإن سمي تلبيسا كما ندين بإثبات القدر وإن سمي جبرا وندين بإثبات الصفات وحقائق الأسماء وإن سمي تجسيما وندين بإثبات علو الله على عرشه فوق سماواته وإن سمي تحيزا

أوجهه وندين بإثبات وجهه الأعلى ويديه المبسوطتين وإن سمي تركيبا وندين بحب أصحاب رسول الله وإن سمي نصبا وندين بأنه مكلم متكلم حقيقة كلاما يسمعه من خاطبه وأنه يرى بالابصار عيانا حقيقة يوم لقائه وإن سمي ذلك تشبيها
ويالله العجب أليست الكوائن كلها متعلقة بالأسباب أوليس الرب تعالى كل وقت يسوق المقادير إلى المواقيت التي وقتها لها ويظهرها بأسبابها التي سببها لها ويخصها بمحالها من الأعيان والأمكنة والأزمنة التي عينها لها أوليس قد قدر الله المقادير وسبب الأسباب التي تظهر بها ووقت المواقيت التي تنتهي إليها ونصب العلل التي توجد لأجلها وجعل للأسباب أسبابا أخر تعارضها وتدافعها فهذه تقتضي آثارها وهذه تمنعها اقتضاءها وتطلب ضد ما تطلبه تلك
أوليس قد رتب الخلق والأمر على ذلك وجعله محل الامتحان والابتلاء والعبودية أوليس عمارة الدارين أعني الجنة والنار بالأسباب والعلل والحكم ولا حاجة بنا أن نقول وهو الذي خلق الأسباب ونصب العلل فإن ذكر هذا من باب بيان الواضحات التي لا يجهلها إلا أجهل خلق الله تعالى وأقلهم نصيبا من الإيمان والمعرفة
أوليس القرآن من أوله إلى آخره قد علقت أخباره وقصصه عن الأنبياء وأممهم وأوامره ونواهيه وزواجره وثوابه وعقابه بالأسباب والحكم والعلل وعلقت فيه المعارف بالوسائط والقضايا بالحجج والعقوبات والمثوبات بالجنايات والطاعات
أوليس ذلك مقتضى الرسالة وموجب الملك الحق والحكمة البالغة
نعم مرجع ذلك كله إلى المشيئة الإلهية المقرونة بالحكمة والرحمة والعدل والمصلحة والإحسان ووضع الأشياء في مواضعها وتنزيلها في منازلها وهو

سبحانه الذي جعل لها تلك المواضع والمنازل والصفات والمقادير فلا تلبيس هناك بوجه ما وإنما التلبيس في إخراج الأسباب عن مواضعها وموضوعها وإلغائها أو في إنزالها غير منزلتها والغيبة بها عن مسببها وواضعها وبالله التوفيق

فصل قال والتلبيس الثاني تلبيس أهل الغيرة على الأوقات بإخفائها
وعلى الكرامات بكتمانها
إطلاق التلبيس على هذه الدرجة أولى من إطلاقه على الدرجة الأولى فإن التلبيس في هذه الدرجة راجع إلى فعل العبد وفي الأولى إلى فعل الرب ولهذا لما كان تسمية الدرجة الأولى تلبيسا شنيعا جدا وطأله بذكر قوله تعالى وللبسنا عليهم ما يلبسون أي لا ستوحش من إطلاق ذلك على الله فإنه قد أطلقه على نفسه وقد عرفت ما فيه
والمقصود أن العبد يقوي إخلاصه لله وصدقه ومعاملته حتى لا يحب أن يطلع أحد من الخلق على حاله مع الله ومقامه معه فهو يخفي أحواله غيرة عليها من أن تشوبها شائبة الأغيار ويخفي أنفاسه خوفا عليها من المداخلة وكان بعضهم إذا غلبه البكاء وعجز عن دفعه قال لا إله إلا الله ما أمر الزكام فالصادق إذا غلب عليه الوجد والحال وهاج من قلبه لواعج الشوق أخلد إلى السكون ما أمكنه فإن غلب أظهر ألما ووجعا يستر به حاله مع الله كما أظهر إبراهيم الخليل لقومه أنه سقيم حين أراد أن يفارقهم ويرجع بذلك الوارد وتلك الحال إلى الآلهة الباطلة فيجعلها جذاذا
فالصادقون يعلمون في كتمان المعاني واجتناب الدعاوي فظواهرهم ظواهر الناس وقلوبهم مع الحق تعالى لا تلتفت عنه يمنة ولا يسرة فهم في واد والناس في واد

فقوله تلبيس أهل الغيرة على الأوقات بإخفائها يعني أنهم يغارون على الأوقات التي عمرت لهم بالله وصفت لهم أن يظهروها للناس وإن اطلع غيرهم عليها من غير قصدهم لكشفها وإظهارها لم يقدح ذلك في طريقهم فلا يفزعون إلى الجحد والإنكار وشكاية الحال بل يسعهم الإمساك عن الإظهار والجحد
قوله وعلى الكرامات بكتمانها يعني أنهم يغارون على كراماتهم أن يعلم بها الناس فهم يخفونها أبدا غيرة عليها إلا إذا كان في إظهارها مصلحة راجحة من حجة أو حاجة فلا يظهرونها إلا لحجة على مبطل أو حاجة تقتضي إظهارها
قوله والتلبيس بالمكاسب والأسباب وتعليق الظواهر بالشواهد والمكاسب تلبيس على العيون الكليلة والعقول العليلة يعني أن التلبيس المذكور إنما يكون على العيون الكليلة أي أهل الإحساس الضعيف والعقول العليلة هي المنحرفة التي لا تدرك الحق لمرض بها
قوله مع تصحيح التحقيق عقدا وسلوكا ومعاينة يعني أن هذه الطائفة يلبسون على أهل العيون الكليلة أحوالهم وكراماتهم بسترهم لها عنهم مع كونهم قائمين بالتحقيق اعتقادا وسلوكا ومعاينة فهم معتقدون للحق سالكون الطريق الموصلة إلى المقصود أهل مراقبة وشهود
قوله وهذه الطائفة رحمة من الله على أهل التفرقة والاسباب في ملابستهم
وإنما كانوا رحمة من الله عليهم من وجهين أحدهما أنهم ذاكرون الله بين الغافلين وفي وسطهم يرحمهم الله بهم فإنهم القوم لا يشقى بهم جليسهم الثاني أنهم لا يتركونهم في غفلاتهم بل يقومون فيهم بالنصيحة لهم والأمر لهم بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة لهم إلى الله فيرحمون بهم وينالون بهم سعادة الدنيا والآخرة فهم يتصرفون مع الخلق بحكم العلم والشرع وأحوالهم ومقاماتهم بينهم وبين الله خاصة

قوله التلبيس الثالث تلبيس أهل التمكين على العالم ترحما عليهم بملابسة الأسباب وتوسعا على العالم لا على أهل الإيمان وهذه درجة الأنبياء ثم هي للأئمة الربانيين الصادرين عن وادي الجمع المشيرين عن عينه
هذا أيضا من النمط الأول مما ينكر لفظه وإطلاقه غاية الإنكار ويجب على أهل الإيمان محو هذا اللفظ القبيح وإطلاقه في حق الأنبياء وكيف تتسع مسامع المؤمن ليسمع أن الأنبياء لبسوا على الناس بأي اعتبار كان سبحانك هذا بهتان عظيم بل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كشفوا عن الناس التلبيس الذي لبسوه على أنفسهم ولبسه عليهم طواغيتهم فجاءوا بالبيان والبرهان وشياطينهم
وكان الناس في لبس عظيم ... فجاءوا بالبيان فأظهروه
وكان الناس في جهل عظيم ... فجاءوا باليقين فأذهبوه
وكان الناس في كفر عظيم ... فجاءوا بالرشاد فأبطلوه
والمصنف من أثبت الناس قدما في مقام الإيمان بالرسل وتعظيمهم وتعظيم ما جاءوا به ولكن لبس عليه في ذلك ما لبس على غيره والله يغفر لنا وله ويجمع بيننا وبينه في دار كرامته وقد صرح بأن أهل التمكين هم الأنبياء والأئمة بعدهم وجعل هذه الدرجة من التلبيس لهم ثم فسرها بأنها تلبيس ترحم وتوسيع على العالم ومقصوده أنهم يأمرونهم بتعاطي الأسباب رحمة لهم وتوسيعا عليهم مع علمهم بأنها لا أثر لها في خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع بل الله وحده هو الخالق الرازق الضار النافع المعطي المانع لكن لما علموا عجز الناس عن إدراك ذلك والتحقق به لبسوا عليهم وستروهم بالأسباب رحمة بهم وتوسيعا عليهم

فهذه الدرجة تتضمن الرجوع إلى الأسباب رحمة وتوسيعا مع الانقطاع عن الالتفات إليها والوقوف معها تجريدا وتوحيدا
قوله لا لأنفسهم يعني أنه أمرهم بالأسباب إحسانا إليهم وتوسيعا عليهم لا لحظ الآمر وجر النفع إلى نفسه بل لقصد الإحسان إلى الخلق وحصول النفع لهم وهذا قريب مع أن فيه ما فيه لمن تأمله فإن من أمر غيره بمصلحة وقصد نفعه فبنفسه يبدأ ولها ينفع أولا ومصلحتها لا بد أن تكون قد حصلت قبل مصلحة المأمور والإحسان إلى نفسه قصد بإحسانه إلى غيره فإنه عبد فقير محتاج والله وحده هو الغني بذاته الذي يحسن إلى خلقه لا لأجل معاوضة منهم وأما المخلوق فإنه يريد العوض لكن الأعواض تتفاوت ومن يطلب منه العوض يختلف
والمقصود أن قوله لا لأنفسهم ليس على إطلاقه وفي أثر إلهي ابن آدم كل يريدك لنفسه وأنا أريدك لك
قوله ثم هي للأئمة الربانيين الصادرين عن وادي الجمع يعني الذي فنوا في الجمع ثم حصلوا في البقاء بعد الفناء فذلك صدورهم عن وادي الجمع
قوله المشيرين عن عينه يعني الذين إذا أشاروا أشاروا عن عين لا عن علم فإن الإشارة تختلف باختلاف مصدرها فإشارة عن علم وإشارة عن كشف وإشارة عن شهود وإشارة عن عين

فصل قد عرفت أن هذا الباب مبناه على محو الأسباب وعدم الالتفات
إليها والوقوف معها ولهذا سمى المصنف نصبها تلبيسا
ونحن نقول إن الدين هو إثبات الأسباب والوقوف معها والنظر إليها والالتفات إليها وإنه لا دين إلا بذلك كما لا حقيقة إلا به فالحقيقة والشريعة

مبناهما على إثباتها لا على محوها ولا ننكر الوقوف معها فإن الوقوف معها فرض على كل مسلم لا يتم إسلامه وإيمانه إلا بذلك والله تعالى أمرنا بالوقوف معها بمعنى أنا نثبت الحكم إذا وجدت وننفيه إذا عدمت ونستدل بها على حكمه الكوني فوقوفنا معها بهذا الاعتبار هو مقتضى الحقيقة والشريعة وهل يمكن حيوانا أن يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع الأسباب فينتجع مساقط غيثها ومواقع قطرها ويرعى في خصبها دون جدبها ويسالمها ولا يحار بها فكيف وتنفسه في الهواء بها وتحركه بها وسمعه وبصره بها وغذاؤه بها ودواؤه بها وهداه بها وسعادته وفلاحه بها وضلاله وشقاؤه بالاعراض عنها وإلغائها فأسعد الناس في الدارين أقومهم بالأسباب الموصلة إلى مصالحهما وأشقاهم في الدارين أشدهم تعطيلا لأسبابهما فالأسباب محل الأمر والنهي والثواب والعقاب والنجاح والخسران
وبالأسباب عرف الله وبها عبد الله وبها أطيع الله وبها تقرب إليه المتقربون وبها نال أولياؤه رضاه وجواره في جنته وبها نصر حزبه ودينه وأقاموا دعوته وبها أرسل رسله وشرع شرائعه وبها انقسم الناس إلى سعيد وشقي ومهتد وغوي فالوقوف معها والالتفات إليها والنظر إليها هو الواجب شرعا كما هو الواقع قدرا ولا تكن ممن غلظ حجابه وكثف طبعه فيقول لا نقف معها وقوف من يعتقد أنها مستقلة بالإحداث والتأثير وأنها أرباب من دون الله فإن وجدت أحدا يزعم ذلك ويظن أنها أرباب وآلهة مع الله مستقلة بالإيجاد أو إنها عون لله يحتاج في فعله إليها أو إنها شركاء له فشأنك به فمزق أديمه وتقرب إلى الله بعداوته ما استطعت وإلا فما هذا النفي لما أثبته الله والإلغاء لما اعتبره والإهدار لما حققه والحط والوضع لما نصبه والمحو لما كتبه والعزل لما ولاه فإن زعمت أنك تعزلها عن رتبة الإلهية فسبحان الله من ولاها هذه الرتبة حتى تجعل سعيك في عزلها عنها

والله ما أجهل كثيرا من أهل الكلام والتصوف حيث لم يكن عندهم تحقيق التوحيد إلا بإلغائها ومحوها وإهدارها بالكلية وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوى ولا طبائع ولا غرائز لها تأثير موجبة ما ولا في النار حرارة ولا إحراق ولا في الدواء قوة مذهبة للداء ولا في الخبز قوة مشبعة ولا في الماء قوة مروية ولا في العين قوة باصرة ولا في الأنف قوة شامة ولا في السم قوة قاتلة ولا في الحديد قوة قاطعة وإن الله لم يفعل شيئا بشيء ولا فعل شيئا لأجل شيء
فهذا غاية توحيدهم الذي يحومون حوله ويبالغون في تقريره
فلعمر الله لقد أضحكوا عليهم العقلاء وأشمتوا بهم الأعداء ونهجوا لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم وجنوا على الإسلام والقرآن أعظم جناية وقالوا نحن أنصار الله ورسوله الموكلون بكسر أعداء الإسلام وأعداء الرسل ولعمر الله لقد كسروا الدين وسلطوا عليه المبطلين وقد قيل إياك ومصاحبة الجاهل فإنه يريد أن ينفعك فيضرك
فقف مع الأسباب حيث أمرت بالوقوف معها وفارقها حيث أمرت بمفارقتها كما فارقها الخليل وهو في تلك السفرة من المنجنيق حيث عرض له جبريل أقوى الأسباب فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا
ودر معها حيث دارت ناظرا إلى من أزمتها بيديه والتفت إليها التفات العبد المأمور إلى تنفيذ ما أمر به والتحديق نحوه وارعها حق رعايتها ولا تغب عنها ولا تفن عنها بل انظر إليها وهي في رتبها التي أنزلها الله إياها واعلم أن غيبتك بمسببها عنها نقص في عبوديتك بل الكمال أن تشهد المعبود وتشهد قيامك بعبوديته وتشهد أن قيامك به لا بك ومنه لا منك وبحوله وقوته

لا بحولك وقوتك ومتى خرجت عن ذلك وقعت في انحرافين لا بد لك من أحدهما إما أن تغيب بها عن المقصود لذاته لضعف نظرك وغفلتك وقصور علمك ومعرفتك وإما أن تغيب بالمقصود عنها بحيث لا تلتفت إليها
والكمال أن يسلمك الله من الانحرافين فتبقى عبدا ملاحظا للعبودية ناظرا إلى المعبود والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله

فصل قال شيخ الإسلام باب الوجود أطلق الله سبحانه في القرآن اسم
الوجود على نفسه صريحا في مواضع فقال تعالى يجد الله غفورا رحيما لوجدوا الله توابا رحيما ووجد الله عنده الوجود الظفر بحقيقة الشيء وهو اسم لثلاثة معان أولها وجود علم لدني يقطع علوم الشواهد في صحة مكاشفة الحق إياك والثاني وجود الحق وجود عين منقطعا عن مساغ الإشارة والثالث وجود مقام اضمحلال رسم الوجود فيه بالاستغراق في الأولية
هذا الباب هو العلم الذي شمر إليه القوم والغاية التي قصدوها ولا ريب أنهم قصدوا معنى صحيحا وعبروا عنه بالوجود واستدلوا عليه بهذه الآيات ونظيرها ولكن ليس مقصودهم ما تضمنه الوجدان في هذه الآيات فإنه وجدان المطلوب تعلق باسم أو صفة قال الله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فهذا وجود مقيد بظفرهم بمغفرة الله ورحمته لهم وكذلك قوله تعالى ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومعناه أنه يجد ما ظنه من مغفرة الله له حاصلة وكذلك ووجد الله عنده فوفاه حسابه فهذا وجدان

الكافر لربه عند حسابه له على أعماله وليس هذا هو الوجود الذي يشير القوم إليه بل منه الأثر المعروف ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء ومنه الحديث أنا عند ظن عبدي بي \ ح \ ومنه الأثر الإسرائيلي أن موسى قال يا رب أين أجدك قال عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ومنه الحديث الصحيح إن الله تعالى يقول يوم القيامة عبدي استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال استطعمك عبدي فلان فلم تطمعه أما لو أطقمته لوجدت ذلك عندي عبدي استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي عبدي مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال مرض عبدي فلان فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده
فتأمل قوله في الإطعام والإسقاء لوجدت ذلك عندي وقوله في العيادة لوجدتني عنده ولم يقل لوجدت ذلك عندي إيذانا بقربه من المريض وأنه عنده لذله وخضوعه وانكسار قلبه وافتقاره إلى ربه فأوجب ذلك وجود الله عنده هذا وهو فوق سمواته مستو على عرشه بائن من خلقه وهو عند عبده فوجود العبد ربه ظفره بالوصول إليه
والناس ثلاثة سالك وواصل وواجد
فإن قلت اضرب لي مثلا أفهم به معنى الوصول في هذا الباب والوجود
قلت إذا بلغك أن بمكان كذا وكذا كنزا عظيما من ظفر به أو بشيء منه استغنى غنى الدهر وترحل عنه العدم والفقر فتحركت نفسه للسير إليه فأخذ في التأهب للمسير فلما جد به السير انتهى إلى الكنز ووصل إليه ولكن

لم يظفر بتحويله إلى داره وحصوله عنده بعد فهو واصل غير واجد والذي في الطريق سالك والقاعد عن الطلب منقطع وآخذ الكنز بحيث حصل عنده وصار في داره واجد فهذا المعنى حوله حام القوم وعليه دارت إشاراتهم فعندهم التواجد بداية والواجد واسطة والوجود نهاية
ومعنى ذلك أنه في الابتداء يتكلف التواجد فيقوى عليه حتى يصير واجدا ثم يستغرق في وجده حتى يصل إلى موجوده
ويستشكل قول أبي الحسن النوري أنا منذ عشرين سنة بين الوجد والفقد إذا وجدت ربي فقدت قلبي وإذا وجدت قلبي فقدت ربي ومعنى هذا أن الوجود الصحيح يغيب الواجد عنه ويجرده منه فيفنى بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده فإذا وجد الحقيقة غاب عن قلبه وعن صفاته وإذا غابت عنه الحقيقة بقي مع صفاته وفي هذا المعنى قيل
وجودي أن أغيب عن الوجود ... بما يبدو علي من الشهود
وما في الوجد موجود ولكن ... فخرت بوجد موجود الوجود
وقد مثل التواجد والوجد والوجود بمشاهدة البحر وركوبه والغرق فيه فقيل التواجد يوجب استيعاب العبد والوجد يوجب استغراق العبد والوجود يوجب استهلاك العبد وهذه عبارات واستعارات للمراتب الثلاثة وهي البداية والتوسط والنهاية والسلوك والوصول عندهم قصود ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود فيقصد أولا ثم يرد ثم يشهد ثم يجد ثم تخمد نفسه وتذهب بالكلية
والوجد ما يرد على الناظر من الله تعالى يكسبه فرحا أو حزنا وهي فرحة يجدها المغلوب عليه بصفات شريفة ينظر إلى الله منها والتواجد استجلاب الوجد بالتذكر والتفكير لا تساع فرجة الوجد بالخروج إلى فضاء الوجدان فلا وجد عندهم مع الوجدان كما لا خبر مع العيان والوجد عرضة للزوال والوجود ثابت ثبوت الجبال وقد قيل

قد كان يطربني وجدي فأقعدني ... عن رؤية الوجد من بالوجد موجود
والوجد يطرب من في الوجد راحته ... والوجد عند حضور الحق مقصود
فالتواجد استدعاء الوجد بنوع اختيار وتكلف وليس لصاحبه كمال الوجد إذ لو كان له ذلك لكان وجدا وباب التفاعل ينبني على ذلك فإن مبناه على إظهار الصفة وليست كذلك كما قال إذا تخازرت وما بي من خزر
وقد اختلف الناس في التواجد هل يسلم لصاحبه على قولين فقالت طائفة لا يسلم لصاحبه لما فيه من التكلف وإظهار ما ليس عنده وقوم قالوا يسلم للصادق الذي يرصد لوجدان المعاني الصحيحة كما قال النبي ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا
والتحقيق أن صاحب التواجد إن تكلفه لحظ وشهوة ونفس لم يسلم له وإن تكلفه لاستجلاب حال أو مقام مع الله سلم له وهذا يعرف من حال المتواجد وشواهد صدقه وإخلاصه

فصل وقد تكلم في الوجود الفلاسفة والمتكلمون والاتحادية بما هو
أبعد شيء عن الصواب هل وجود الشيء عين ماهيته أو غير ماهيته أو وجود القديم نفس ماهيته أو وجود الحادث زائد على ماهيته
وكل هذه الأقوال خطأ وأصحابها كخابط عشواء
والتحقيق أن الوجود والماهية إن أخذا ذهنيين فالوجود الذهني عين الماهية الذهنية وكذلك إن أخذا خارجيين اتحدا أيضا فليس في الخارج وجود زائد على الماهية الخارجية بحيث يكون كالثوب المشتمل على البدن هذا

خيال محض وكذلك حصول الماهية في الذهن هو عين وجودها فليس في الذهن ماهية ووجود متغايرين بل إن أخذ أحدهما ذهنيا والآخر خارجيا فأحدهما غير الآخر وليس المقصود بحث هذه المسألة فإنها بعيدة عما نحن فيه وهي من وظائف أرباب الجدل والكلام والفلسفة لا من وظائف أرباب القلوب والمعاملات فهؤلاء هممهم في أن يجدوا مطلوبهم ويظفروا به وأولئك شاكون في وجوده هل هو عين ماهيته أو زائد على ماهيته وهل هو وجود مجرد مطلق لا يضاف إليه وصف ولا اسم أم وجود خاص تضاف إليه الصفات والأسماء فهؤلاء في واد وهؤلاء في واد
وأعظم الخلق كفرا وضلالا من زعم أن ربه نفس وجود هذه الموجودات وأن عين وجوده فاض عليها فاكتست عين وجوده فاتخذ حجابا من أعيانها واكتست جلبابا من وجوده ولبس عليهم ما لبسوه على ضعفاء العقول والبصائر من عدم التفريق بين وجود الحق سبحانه وإيجاده وأن إيجاده هو الذي فاض عليها وهو الذي اكتسته وأما وجوده فمختص به لا يشاركه فيه غيره كما هو مختص بماهيته وصفاته فهو بائن عن خلقه والخلق بائنون عنه فوجود ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن حاصل بايجاده له فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ووجوده المختص به وبان بذاته وصفاته ووجوده عن خلقه

فصل قوله الوجود اسم للظفر بحقيقة الشيء هذا الوجود الذي هو مصدر
وجد الشيء يجده وجودا ووجد ضالته وجدانا وفي الصحاح أوجده الله مطلوبه أي أظفره به وأوجده أي أغناه أي جعله ذا جدة قال الله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ويقال وجد فلان وجدا ووجدا بضم الواو وفتحها وكسرها إذا صار ذا جدة وثروة ووجد الشيء فهو موجود وأوجده الله ويقال وجد الله الشيء كذا وكذا على غير معنى

أوجده كما قال تعالى وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين فالله سبحانه أوجده على علمه بأن يكون على صفة ثم وجده بعد إيجاده على تلك الصفة التي علم أن سيكون عليها
وأما الواجد في أسمائه سبحانه فهو بمعنى ذو الوجد والغنى وهو ضد الفاقد وهو كالموسع ذي السعة قال تعالى والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون أي ذوو سعة وقدرة وملك كما قال تعالى ومنعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ودخل في أسمائه سبحانه الواجد دون الموجد فإن الموجد صفة فعل وهو معطي الوجود كالمحيي معطي الحياة وهذا الفعل لم يجيء إطلاقه في أفعال الله في الكتاب ولا في السنة فلا يعرف إطلاق أوجد الله كذا وكذا وإنما الذي جاء خلقه وبرأه وصوره وأعطاه خلقه ونحو ذلك فلما لم يكن يستعمل فعله لم يجيء اسم الفاعل منه في أسمائه الحسنى فإن الفعل أوسع من الاسم ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالا لم يتسم منها بأسماء الفاعل كأراد وشاء وأحدث ولم يسم بالمريد والشائي والمحدث كما لم يسم نفسه بالصانع والفاعل والمتقن وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء
وقد أخطأ أقبح خطأ من اشتق له من كل فعل اسما وبلغ باسمائه زيادة على الألف فسماه الماكر والمخادع والفاتن والكائد ونحو ذلك وكذلك باب الإخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به فإنه يخبر عنه بأنه شيء وموجود ومذكور ومعلوم ومراد ولا يسمى بذلك
فأما الواجد فلم تجيء تسميته به إلا في حديث تعداد الاسماء الحسنى والصحيح أنه ليس من كلام النبي ومعناه صحيح فإنه ذو الوجد والغنى فهو أولى بأن يسمى به من الموجود ومن الموجد أما الموجود فإنه منقسم إلى كامل وناقص وخير وشر وما كان مسماه

منقسما لم يدخل اسمه في الأسماء الحسنى كالشيء والمعلوم ولذلك لم يسم بالمريد ولا بالمتكلم وإن كان له الإرادة والكلام لانقسام مسمى المريد والمتكلم وأما الموجد فقد سمى نفسه بأكمل أنواعه وهو الخالق البارئ المصور فالموجد كالمحدث والفاعل والصانع
وهذا من دقيق فقه الأسماء الحسنى فتأمله وبالله التوفيق

فصل الظفر بحقيقة الشيء إن كان في باب العلم والمعرفة فهو معرفة
تجري فوق حدود العلم وإن كان للمعاين كان معاينة وهي فوق المعرفة وإن كان للطالب فهو جمعيه له بكله على مطلوبه وإن كان لصاحب الجمع كان جمعية وجودية تغنيه عما سوى الله تعالى
قوله هو اسم لثلاث معان أولها وجود علم لدني يقطع علوم الشواهد العلم اللدني عندهم هو المعرفة وسمي لدنيا لأنه تعريف من تعريفات الحق وارد على قلب العبد يقطع الوساوس ويزيل الشكوك ويحل محل العيان فيصير لصاحبه كالوجدانيات التي لا يمكن دفعها عن النفس ولذلك قال يقطع علوم الشواهد فعلوم الشواهد عنده هي علوم الاستدلال وهي تنقطع بوجدان هذا العلم أي يرتقي صاحبه عنها إلى ما هو أكمل منها لا أنها يبطل حكمها ويزول رسمها ولكن صاحب الوجود قد ارتقى عن العلم الحاصل بالشواهد إلى العلم المدرك بالذوق والحس الباطن

قوله في صحة مكاشفة الحق إياك متعلق بقوله بقطع علوم الشواهد أي يقطعها في كون الحق كشف لك كشفا صحيحا قطع عنك الحاجة إلى الشواهد والأدلة
قوله والثاني وجود الحق وجود عين أي وجود معانية لا وجود خبر ومراده معاينة القلب له بحقيقة اليقين
قوله منقطعا عن مساغ الإشارة لما كانت الدرجة الأولى وجود علم وهذه وجود عيان قام العيان فيها مقام الإشارة فأغنى عنها فإن العلم قد يكون ضروريا وقد يكون نظريا والضروري أبعد عن الالتفات وعن تطرق الآفات وعدم الغفلات فصاحبه يشاهد معلومه بنور البصيرة كما يشاهد المبصرات بنور البصر ولما كانت مرتبة المعرفة فوق مرتبة العلم عندهم ومرتبة الشهود فوق مرتبة المعرفة ومرتبة الوجود فوق مرتبة الشهود كانت العبارة في مرتبة العلم والمعرفة والإشارة في مرتبة الشهود فإذا وصل إلى مرتبة الوجود انقطعت الإشارات واضمحلت العبارات فإن صاحب الوجود في حضرة الوجود فماله وما للإشارة إذ الإشارة في هذا الباب إنما تكون إلى غائب بوجه ما
قوله والثالث وجود مقام اضمحلال رسم الوجود فيه بالاستغراق في الأولية
هذا كلام فيه قلق وتعقيد وهو باللغز أشبه منه بالبيان
وحقيقة هذه الدرجة أنها تشغل صاحبها بموجوده عن إدراك كونه واجدا فلم تبق فيه بقية يتفطن بها لكونه مدركا لموجوده لاستيلائه على قلبه فقد قهره ومحقه عن شعوره بكونه واجدا لموجوده فهو حاضر مع الحق غائب عن كل ما سواه

فالدرجة الأولى وجود علم والثانية وجود عيان والثالثة وجود مقام اضمحل فيه ما سوى الموجود وهذا معنى اضمحلال رسم الوجود فيه ولهذا قال بالاستغراق في الأولية فإنه إذا استغرق في شهود الأولية اضمحل في هذا الشهود كل حادث والله أعلم

فصل قال باب التجريد قال الله تعالى فاخلع نعليك التجريد
انخلاع عن شهود الشواهد وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى تجريد عين الكشف عن كسب اليقين والدرجة الثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم والدرجة الثالثة تجريد الخلاص من شهود التجريد
وجه الإشارة بالآية وليس هو تفسيرها ولا المراد بها أن الله سبحانه أمر موسى أن يخلع نعليه عند دخوله ذلك الوادي المقدس إما لتنال إخمص قدميه بركة الوادي وإما لأنهما كانتا مما لا يصلح أن يباشر ذلك المكان بهما قيل إنهما كانتا من جلد حمار غير مذكى وعلى كل حال فهو أمر بالتجرد من النعلين في ذلك المكان وتلك الحال
وموضع الإشارة أنه أمر موسى بالتجرد من نعليه عند دخول الوادي فعلم أن التجرد شرط في الدخول فيما لا يصلح الدخول فيه إلا بالتجرد
وعلى هذا فيقال لمن أراد الوصول إلى الله سبحانه وتعالى والدخول عليه اخلع من قلبك ما سواه وادخل عليه وأول قدم يدخل بها في الإسلام أن يخلع الأنداد والأوثان التي تعبد من دون الله ويتجرد منها فكأنه قيل له اطرح عنك ما لا يكون صالحا للوطء به على هذا البساط أو لأن ذلك الوادي لما

كان من أشرف الأودية وأطهرها ولذلك اختاره الله سبحانه على غيره من الأودية لتكليم نبيه وكليمه فأمره سبحانه أن يعظم ذلك الوادي بالوطء فيه حافيا كما يوطأ بساط الملك وصار ذلك سنة في بني إسرائيل في مواضع صلواتهم وكنائسهم وشريعتنا جاءت بخلاف ذلك فصلى النبي في النعلين وأمر أصحابه أن يصلوا في نعالهم وقال إن اليهود والنصارى لا يصلون في نعالهم فخالفوهم \ ح \

فالسنة في ديننا الصلاة في النعال نص عليه الإمام أحمد وقيل له أيصلي الرجل في نعليه فقال أي والله

فصل قوله التجريد الانخلاع عن شهود الشواهد والشواهد عنده هي ما
سوى الحق سبحانه والانخلاع عن الشهود هو غيبة الشاهد بمشهوده عن شهوده وذلك يكون في مقام المعاينة فإنه لا ينخلع عن شهود الشواهد إلا إذا كان معاينا للمشهود
قوله الدرجة الأولى تجريد عين الكشف عن كسب اليقين أي تجريد حقيقة الكشف عن كسب اليقين أي يعزل ما اكتسبه من اليقين العلمي بالكشف الحقيقي فتجرد الكشف أي يخلصه ويعريه عن الالتفات إلى اليقين فيعزل ما اكتسبه من اليقين العلمي بالكشف الحقيقي
فصل قال الدرجة الثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم عين الجمع
هي حقيقة الجمع وتجريده هو أن لا يشهد للعلم فيها آثارا فإن العلم من آثار الرسوم وحقيقة الجمع تمحو الرسوم فصاحب هذه الدرجة أبدا في تجرد وتجريد والدرك هو الإدراك في هذا الموضع ويحتمل أن يراد به أن درجة العلم أسفل من درجة عين الجمع فيجرد الجمع عن الدرجة التي هي أسفل منه وقد اعترفوا بأن هذا حال المولهين في الاستغراق في الجمع
ولعمر الله إن ذلك ليس بكمال وهو أصل من أصول الانحلال فإنه إذا تجرد من العلم وما يوجبه فقد خرج من النور الذي يكشف له الحقائق ويميز له بين الحق والباطل والصحيح والفاسد فالكشف وشهود الحقيقة إذا تجرد عن العلم فقد ينسلخ صاحبه عن أصل الإيمان وهو لا يشعر

وأحسن من هذا أن يقال هو تجريد الجمع عن الوقوف مع مجرد العلم فلا يرضى بالعلم عن مقام جمعية حاله وقلبه وهمه على الله بل يرتقي من درجة العلم إلى درجة الجمع مصاحبا للعلم غير مفارق لأحكامه ولا جاعل له غاية يقف عندها
قوله الدرجة الثالثة تجريد الخلاص من شهود التجريد
يعني أن لا يشهد تجريده لمن يجرده من صفاته وأفعاله وصاحب هذه الدرجة دائما قد فنى عما سوى الحق تعالى فكيف يتسع مع ذلك لشهود وصفه وفعله بل أفناه تجريده عن شهود تجريده

فصل قال صاحب المنازل باب التفريد قال الله تعالى أن الله هو
الحق المبين التفريد اسم لتخليص الإشارة إلى الحق ثم بالحق ثم عن الحق
الشيخ جعل التفريد عين التجريد وجعله بعده والفرق بينهما أن التجريد انقطاع عن الأغيار والتفريد إفراد الحق بالإيثار فالتفريد متعلق بالمعبود والتجريد متعلق بالعبودية وجعله ثلاث درجات تخليص الإشارة إلى الحق ثم به ثم عنه فههنا أمران أحدهما تخليص الإشارة والثاني متعلق الإشارة
فأما تخليصها فهو تجريدها مما يمازجها ويخالطها وأما متعلقها فثلاثة أمور الإشارة إلى الحق وبه وعنه فالإشارة إليه غاية والإشارة به وجود والإشارة عنه إخبار وتبليغ فمن خلصت إشارته إلى الحق كان من المخلصين ومن كانت إشارته به فهو من الصادقين ومن كانت إشارته عنه فهو من المبلغين ومن اجتمعت له الثلاثة فهو من الأئمة العارفين فالكمال أن تشير إليه به عنه فتخليص الإشارة إليه هو حقيقة الإخلاص وتخليص الإشارة به هو حقيقة الصدق وتخليص الإشارة عنه هو حقيقة المتابعة وذلك هو محض الصديقية فمتى اجتمعت هذه الثلاثة في العبد فقد خلعت عليه خلعة الصديقية فما كل من

أشار إلى الله أشار به ولا كل من أشار به أشار عنه والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هم الذين كملوا المراتب الثلاثة فخلصت إشاراتهم إلى الله وبه وعنه من كل شائبة ثم الأمثل فالأمثل على مناجهم وما أكثر ما تشبه الإشارة إلى الله وبه بالإشارة إلى النفس والإشارة بها فيشير إلى نفسه بنفسه ظانا أن إشارته بالله وإلى الله ولا يميز بين هذا وهذا إلا خواص العارفين الفقهاء في معرفة الطريق والمقصود وههنا انقطع من انقطع واتصل من اتصل ولا إله إلا الله كم من تنوع في الإشارة وبالغ ودقق وحقق ولم تعد إشارته نفسه وهو لا يعلم أشار بنفسه وهو يظن أنه أشار بربه وإن فلتات لسانه ورائحة كلامه لتنادي عليه أنا وبي وعني
فإذا خلصت الإشارة بالله وعن الله من جميع الشوائب كانت متصلة بالله خالصة له مقبولة لديه راضيا بها وعلى هذا كان حرص السابقين الأولين لا على كثرة العمل ولا على تدقيق الإشارة كما قال بعض الصحابة لو أعلم أن الله قبل مني عملا واحدا لم يكن غائب أحب إلى من الموت وليس هذا على معنى أن أعماله كانت لغير الله أو على غير سنة رسوله فشأن القوم كان أجل من ذلك ولكن على تخليص الأعمال من شوائب النفوس ومشاركات الحظوظ فكانوا يخافون لكمال علمهم بالله وحقوقه عليهم أن أعمالهم لم تخلص من شوائب حظوظهم ومشاركات أنفسهم بحيث تكون متمحصة لله وبالله ومأخوذة عن الله فمن وصل له عمل واحد على هذا الوجه وصل إلى الله والله تعالى شكور إذا رضي من العبد عملا من أعماله نجاه وأسعده به وثمره له وبارك له فيه وأوصله به إليه وأدخله به عليه ولم يقطعه به عنه فما أكثر المنقطعين بالإشارة عن المشار إليه وبالعبادة عن المعبود وبالمعرفة عن المعروف فتكون الإشارات والمعارف قبلة قلبه وغاية قصده فيتغذى بها ويجد من الأنس بها والذوق والوجد ما يسكن قلبه إليه ويطمئن

به ويظن أنه الغاية المطلوبة فيصبر قلبه محبوسا عن ربه وهو لا يشعر وتصير نفسه راتعة في رياض العلوم والمعارف واجدة لها وهو يظن أنه قد وصل واتصل وعلى منزل الوجود حصل فهو دقيق الإشارة لطيف العبارة فقيه في مسائل السلوك وبينه وبين الله حجاب لم ينكشف عنه وإنما يرتفع هذا الحجاب بحال التجريد والتفريد لا بمجرد علم ذلك فبتفريد المعبود المطلوب المقصود عن غيره وبتجريد القصد والطلب والإرادة والمحبة والخوف والرجاء والانابة والتوكل عليه واللجإ إليه عن الحظوظ وإرادات النفس فينكشف عن القلب حجابه ويزول عنه ظلامه ويطلع فيه فجر التوحيد وتبزغ فيه شمس اليقين وتستنير له الطريق الغراء والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها

فصل قال فأما تفريد الإشارة إلى الحق فعلى ثلاث درجات تفريد القصد
عطشا ثم تفريد المحبة تلفا ثم تفريد الشهود اتصالا
ذكر في هذه الدرجة ثلاثة أمور تفريد القصد والمحبة والشهود فالقصد بداية والشهود نهاية والمحبة واسطة فيفرد قصده وحبه وشهوده وذلك يتضمن إفراد مطلوبه ومحبوبه ومشهوده فيكون فردا لفرد فلا ينقسم طلبه ولا حبه ولا شهوده ولا ينقسم مطلوبه ومحبوبه ومشهوده فتفريد الطلب والمحبة والشهود صدق وتفريد المطلوب والمحبوب والمشهود إخلاص
فالصدق والاخلاص هو أن تبذل كلك لمحبوبك وحده ثم تحتقر ما بذلت في جنب ما يستحقه ثم لا تنظر إلى بذلك
وقيد تفريد القصد بالعطش وتفريد المحبة بالتلف وتفريد الشهود بالاتصال والعطش كما قال هو غلبة ولوع بمأمول والتلف هو المحبة المهلكة والاتصال سقوط الاغيار عن درجة الاعتبار فهذا حكم التفريد في الدرجة الأولى

قال وأما تفريد الإشارة بالحق فعلى ثلاث درجات تفريد الإشارة بالافتخار بوحا وتفريد الإشارة بالسلوك مطالعة وتفريد الإشارة بالقبض غيرة
ذكر أيضا في هذه الدرجة ثلاثة أمور الافتخار والسلوك والقبض فالافتخار نوعان مذموم ومحمود فالمذموم إظهار مرتبته على أبناء جنسه ترفعا عليهم وهذا غير مراد والمحمود إظهار الأحوال السنية والمقامات الشريفة بوحا بها أي تصريحا وإعلانا لا على وجه الفخر بل على وجه تعظيم النعمة والفرح بها وذكرها ونشرها والتحدث بها والترغيب فيها وغير ذلك من المقاصد في إظهارها كما قال النبي أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله وقال أبو ذر رضي الله عنه لقد أتي علي كذا وكذا وإني لثالث الإسلام وقال علي رضي الله عنه إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق وقال عمر رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث وقال علي رضي الله عنه وأشار إلى صدره إن ههنا علما جما لو أصبت له حملة وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخذت من في رسول الله سبعين سورة وإن زيدا ليلعب مع الغلمان وقال أيضا ما من كتاب الله آية إلا وأنا أعلم أين نزلت وماذا أريد بها ولو أعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لرحلت إليه وقال بعض الصحابة لأن تختلف في الأسنة أحب إلي من أن أحدث نفسي في الصلاة بغير ما أنا فيه وهذا أكثر من أن يذكر
والصادق تختلف عليه الأحوال فتارة يبوح بما أولاه ربه ومن به عليه لا يطيق كتمان ذلك وتارة يخفيه ويكتمه لا يطيق إظهاره فتارة يقبض وتارة يبسط وينشط وتارة يجد لسانا قائلا فلا يسكت وتارة لا يقدر أن ينطق

بكلمة وتارة تجده ضاحكا مسرورا وتارة باكيا حزينا وتارة يجد جمعية لا سبيل للتفرقة عليها وتارة تفرقة لا جمعية معها وتارة يقول واطرباه وأخرى يقول واحرباه بخلاف من هو على لون واحد لا يوجد على غيره فهذا لون والصادق لون
قوله وتفريد الإشارة بالسلوك مطالعة أي تجريد الإشارة إلى المطلوب بالسلوك اطلاعا على حقائقه قوله وتفريد الإشارة بالقبض غيرة أي تخليص الإشارة إلى المطلوب بالقبض غيرة عليه
والمقصود أنه تارة يفرد إشارته بما أولاه الحق لا يكتمه ولا يخفيه وتارة يفرد إشارته بحقائق السلوك اطلاعا عليها وإطلاعا لغيره وتارة يشير بالقبض غيره وتسترا فيشير بالافتخار تارة وبالاطلاع تارة وبالقبض تارة
فافتخاره بالمنعم ونعمه لا بنفسه وصفته وإطلاعه لغيره تعليم وإرشاد وتبصير وقبضه غيره وستر وحقيقة الأمر ما ذكرناه أن الصادق بحسب دواعي صدقه وحاله مع الله وحكم وقته وما أقيم فيه

فصل قوله وأما تفريد الإشارة عن الحق فانبساط ببسط ظاهر يتضمن قبضا
خالصا للهداية إلى الحق والدعوة إليه يريد أن صاحب هذه الإشارة منبسط بسطا ظاهرا مع أن باطنه مجموع على الله وهو القبض الخالص الذي أشار إليه فهو في باطنه مقبوض لما هو فيه من جمعيته على الله وفي ظاهره مبسوط مع الخلق بسطا ظاهرا لقوته قصدا لهدايتهم إلى الحق سبحانه ودعواتهم إليه
وحاصل الأمر أنه مبسوط بظاهره لدعوة الخلق إلى الله ومقبوض بباطنه عما سوى الله فظاهره منبسط مع الخلق وباطنه منقبض عنهم لقوة تعلقه بالله واشتغاله به عنهم فهو كائن بائن داخل خارج متصل منفصل قال الله تعالى وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين ولا تدع مع الله إلها

آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه فأمره بتجريد الدعوة إليه تجريد عبوديته وحده وهذان هما أصلا الدين وعليهما مداره وبالله التوفيق

فصل قال باب الجمع قال الله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن
الله رمى
قلت اعتقد جماعة أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه وإضافته إلى الرب تعالى وجعلوا ذلك أصلا في الجبر وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده وهذا غلط منهم في فهم القرآن فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال فيقال ما صليت إذ صليت وما صمت إذ صمت وما ضحيت إذ ضحيت ولا فعلت كل فعل إذ فعلته ولكن الله فعل ذلك فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها أو رميه وحده تناقضوا فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية
وبعد فهذه الآية نزلت في شأن رميه المشركين يوم بدر بقبصة من الحصباء فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ فكان منه مبدأ الرمي وهو الحذف ومن الله سبحانه وتعالى نهايته وهو الإيصال فأضاف إليه رمى الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته ونظير هذا قوله في الآية نفسها فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ثم قال وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فأخبره أنه هو وحده هو الذي تفرد بقتلهم ولم يكن ذلك بكم أنتم كما تفرد بإيصال الحصى إلى أعينهم ولم يكن ذلك من رسوله ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة كدفع المشركين

وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه به وهو خير الناصرين
قال الجمع ما أسقط التفرقة وقطع الإشارة وشخص عن الماء والطين بعد صحة التمكين والبراءة من التلوين والخلاص من شهود الثتوية والتنافي من إحساس الاعتلال والتنافي من شهود شهودها وهو على ثلاث درجات جمع علم ثم جمع وجود ثم جمع عين
قوله الجمع ما أسقط التفرقة هذا حد غير محصل للفرق بين ما يحمد وما يذم من الجمع والتفرقة فإن الجمع ينقسم إلى صحيح وباطل والتفرقة تنقسم إلى محمود ومذموم وكل منهما لا يحمد مطلقا ولا يذم مطلقا فيراد بالجمع جمع الوجود وهو جمع الملاحدة القائلين بوحدة الوجود ويريدون بالتفرقة الفرق بين القديم والمحدث وبين الخالق والمخلوق وأصحابه يقولون الجمع ما أسقط هذه التفرقة ويقولون عن أنفسهم إنهم أصحاب جمع الوجود ولهذا صرح بما ذكرنا محققو الملاحدة فقالوا التفرقة اعتبار الفرق بين وجود ووجود فإذا زال الفرق في نظر المحقق حصل له حقيقة الجمع
ويراد بالجمع الجمع بين الإرادة والطلب على المراد المطلوب وحده وبالتفرقة تفرقة الهمة والإرادة وهذا هو الجمع الصحيح والتفرقة المذمومة فحد الجمع الصحيح ما أزال هذه التفرقة وأما جمع يزيل التفرقة بين الرب والعبد والخالق والمخلوق والقديم والمحدث فأبطل الباطل وتلك التفرقة هي الحق وأهل هذه التفرقة هم أهل الإسلام والإيمان والإحسان كما أن أهل ذلك الجمع هم أهل الإلحاد والكفر والوثنية
ويراد بالجمع جمع الشهود وبالتفرقة ما ينافي ذلك فإذا زال الفرق في نظر المشاهد وهو مثبت للفرق كان ذلك جمعا في شهوده خاصة مع تحققه بالفرق
فإذا عرف هذا فالجمع الصحيح ما أسقط التفرقة الطبيعية النفسية وهي

التفرقة المذمومة وأما التفرقة الأمرية الشرعية بين المأمور والمحظور والمحبوب والمكروه فلا يحمد جمع أسقطها بل يذم كل الذم وبمثل هذه المجملات دخل على أصحاب السلوك والإرادة ما دخل
قوله وقطع الإشارة هو من جنس قوله ما أسقط التفرقة قال أهل الإلحاد لما كانت الإشارة نسبة بين شيئين مشير ومشار إليه كانت مستلزمة للثنوية فإذا جاءت الوحده جمعية وذهبت الثنوية انقطعت الإشارة
وقال أهل التوحيد إنما تنقطع الإشارة عند كمال الجمعية على الله فلا يبقى في صاحب هذه الجمعية موضع للإشارة لأن جمعيته على المطلوب المراد غيبته عن الإشارة إليه وأيضا فإن جمعيته أفنته عن نفسه وإشارته ففي مقام الفناء تنقطع الإشارة لأنها من أحكام البشرية
قوله وشخص عن الماء والطين هذا يحتمل معنيين
أحدهما أن يريد بالماء والطين بني آدم ونفسه من جملتهم أي شخص عن النظر إلى الناس والالتفات إليهم وتعلق القلب بهم بالكلية وخصهم بالذكر لأن أكثر العلائق وأصعبها وأشدها قطعا لصاحبها هي علائقهم فإذا شخص قلبه عنهم بالكلية فعن غيرهم ممن هو أبعد إليه منهم أولى وأحرى
وفي ذكر الماء والطين تقرير لهذا الشخوص عنهم وتنبيه على تعينه ووجوبه فإن المخلوق من الماء والطين بشر ضعيف لا يملك لنفسه ولا لمن تعلق به جلب منفعة ولا دفع مضرة فإن الماء والطين منفعل لا فاعل وعاجز مهين لا قوي متين كما قال تعالى فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب وأخبر أنه خلقنا من ماء مهين فحقيق بابن الماء والطين أن يشخص عنه القلب لا إليه وأن يعول على خالقه وحده لا عليه وأن يجعل رغبته كلها فيه وفيما لديه
والمعنى الثاني الذي يحتمله كلامه أن يشخص عن أحكام الطبيعة

السفلية الناشئة من الماء الطين وعن متعلقاتها إلى أحكام الأرواح العلوية ولما كان الله سبحانه وتعالى بحكمته وعجيب صنعه قد جعل الإنسان مركبا من جوهرين جوهر طبيعي كثيف وهو الجسم وجوهر روحاني لطيف وهو الروح ومن شأن كل شكل أن يميل إلى شكله ومن طبع كل مثل أن ينجذب إلى مثله صار الإنسان ينجذب إلى العالم الطبيعي بما فيه من الكثافة وإلى العالم الروحاني بما فيه من اللطافة فصار في الإنسان قوتان متضادتان إحداهما تجذبه سفلا والثانية تجذبه علوا فمن شخص عن طبيعة الماء والطين إلى محل الأرواح العلوية التي ليست من هذا العالم السفلي كان من أهل هذا الجمع المحمود الذي جمعه من متفرقات النفس والطبع
قوله بعد صحة التمكين والبراءة من التلوية والخلاص من شهود الثنوية معناه أن العبد لا يمكنه أن يشخص عن الماء والطين إلا بعد صحة تمكنه في المعرفة وبراءته من التلوين فشرط الشيخ حصول التمكين له وانتفاء التلوين عنه وخلاصه من شهود الثنوية
فالتلوين تلونه لإجابة دواعي الطبع والنفس وشهود الثنوية عبارة مجملة محتملة وقد حملها الملحد على أن يشهد عبدا وربا وقديما وحديثا وخالقا ومخلوقا والتوحيد المحض أن يتخلص من ذلك بشهوده وحدة الوجود ومتى شهد تعدد الوجود كان ثنويا عند الملاحدة
وأما الموحدون فالثنوية التي يجب التخلص منها أن يتخذ إلهين اثنين فيشهد مع الله إلها آخر وأما كونه يشهد مع الله موجودا غيره هو موجده وخالقه وفاطره فليس بثنوية بل هو توحيد خالص ولا يتم له التوحيد إلا بهذا الشهود

ليصح له نفي الإلهية عنه وإلا فكيف ينفي الآلهة عما لا يشهده ويشهد نفيها عنه
والمقصود أن صاحب الجمع إذا شهد ربا وعبدا وخالقا ومخلوقات وآمرا وفاعلا منفذا ومحركا ومتحركا ووليا وعدوا كان ذلك موجب عقد التوحيد
وصحة التمكين هي حفظ الأصل الذي هو بقاء شهود الرسوم في مرتبتها
وكأنه نبه بذلك على الاحتراز من القوم الذي تخطفهم لوائح شهود الجمع وتمكنهم ضعيف فينكرون صور الخلق حتى يقول أحدهم أنا نور من نور ربي لما يغلب على أحدهم من شهود الجمع وعدم تمكنه في البقاء وهذا قد يعرض للصادق أحيانا فيعلم أنه غالط فيرجع إلى الأصل ويحكم العلم على الحال فإذا صحا علم أنه غالط مخطئ وفي مثل هذا الحال قال أبو يزيد سبحاني وما في الجبة إلا الله ونحو ذلك فأخذ قوم هذه الشحطات فجعلوها غاية يجرون إليها ويعملون عليها فالشيخ شرط أنه لا يثبت شهود الجمع إلا لمن تمكن في شهود طور البقاء
قوله والتنافي من الإحساس بالاعتلال
الاعتلال عندهم هو التفرقة في الأسباب والوقوف مع الربط الواقع بين المسببات وأسبابها وذلك عقد لا يحله إلا شهود الجمع ولا يخفى ما في هذه العبارة من العجم والتعقيد وكذلك قوله والتنافي من شهود شهودها ومراده أن ينتفي عنه شهود هذه الأشياء التي ذكرها كلها وأن يفنى عن هذا الشهود فإنه إن لم يفن عنها كلها وعن شهود فنائه وإلا فهو معها لأنه يحس بها ولا يقع الإحساس إلا بما هو موجود عند صاحب الإحساس فإذا غاب عن شهودها ثم عن شهود الشهود فقد استقر قدمه في حضرة الجمع
وقد تقدم غير مرة أن هذا ليس بكمال ولا مقصود في نفسه ولا يعطي كمالا ولا فيه معرفة ولا عبودية ولا دعت إليه الرسل ألبتة ولا اشار إليه القرآن ولا وصفه أهل الطريق المتقدمون وغايته أن يشبه صاحبه بالغائب عن

عقله وحسه وإدراكه وغايته أن يكون عارضا من عوارض الطريق ليس بلازم فضلا عن أن يكون غاية
ولما جعله من جعله غاية مطلوبة يشمر إليها السالكون دخل بسبب ذلك من الفساد على من شمر إليه ما يعلمه الراسخون في العلم من أئمة هذا الشأن والله المستعان والعبودية المطلوبة من العبد بمعزل عن ذلك وبالله التوفيق
قوله وهو على ثلاث درجات جمع علم ثم جمع وجود ثم جمع عين فأما جمع العلم فهو تلاشي علوم الشواهد في العلم اللدني صرفا وأما جمع الوجود فهو تلاشي نهاية الاتصال في عين الوجود محقا وأما جمع العين فهو تلاشي كل ما تقله الإشارة في ذات الحق حقا
علوم الشواهد هي ما حصلت من الاستدلال بالأثر على المؤثر وبالمصنوع على الصانع فالمصنوعات شواهد وأدلة وآثار وعلوم الشواهد هي المستندة إلى الشواهد الحاصلة عنها والعلم اللدني هو العلم الذي يقذفه الله في القلب إلهاما بلا سبب من العبد ولا استدلال ولهذا سمي لدنيا قال الله تعالى وعلمناه من لدنا علما والله تعالى هو الذي علم العباد مالا يعلمون كما قال تعالى علم الإنسان مالم يعلم ولكن هذا العلم أخص من غيره ولذلك أضافه إليه سبحانه كبيته وناقته وبلده وعبده ونحو ذلك فتضمحل العلوم المستندة إلى الأدلة والشواهد في العلم اللدني الحاصل بلا سبب ولا استدلال هذا مضمون كلامه
ونحن نقول إن العلم الحاصل بالشواهد والأدلة هو العلم الحقيقي وأما ما يدعي حصوله بغير شاهد ولا دليل فلا وثوق به وليس بعلم نعم قد يقوى العلم الحاصل بالشواهد ويتزايد بحيث يصير المعلوم كالمشهود والغائب كالمعاين وعلم اليقين كعين اليقين فيكون الأمر شعورا أولا ثم تجويزا ثم ظنا ثم علما ثم معرفة ثم علم يقين ثم حق يقين ثم عين يقين ثم تضمحل كل مرتبة في التي فوقها بحيث يصير الحكم لها دونها فهذا حق

وأما دعوى وقوع نوع من العلم بغير سبب من الاستدلال فليس بصحيح فإن الله سبحانه ربط التعريفات بأسبابها كما ربط الكائنات بأسبابها ولا يحصل لبشر علم إلا بدليل يدله عليه وقد أيد الله سبحانه رسله بأنواع الأدلة والبراهين التي دلتهم على أن ما جاءهم هو من عند الله ودلت أممهم على ذلك وكان معهم أعظم الأدلة والبراهين على ان ما جاءهم هو من عند الله وكانت براهينهم أدلة وشواهد لهم وللأمم فالأدلة والشواهد التي كانت لهم ومعهم أعظم الشواهد والأدلة والله تعالى شهد بتصديقهم بما أقام عليه من الشواهد فكل علم لا يستند إلى دليل فدعوى لا دليل عليها وحكم لا برهان عند قائله وما كان كذلك لم يكن علما فضلا عن أن يكون لدنيا
فالعلم اللدني ما قام الدليل الصحيح عليه أنه جاء من عند الله على لسان رسله وما عداه فلدني من لدن نفس الإنسان منه بدأ وإليه يعود وقد انبثق سد العلم اللدني ورخص سعره حتى ادعت كل طائفة أن علمهم لدني وصار من تكلم في حقائق الإيمان والسلوك وباب الأسماء والصفات بما يسنح له ويلقيه شيطانه في قلبه يزعم أن علمه لدني فملاحدة الاتحادية وزنادقة المنتسبين إلى السلوك يقولون إن علمهم لدني وقد صنف في العلم اللدني متهوكو المتكلمين وزنادقة المتصوفين وجهلة المتفلسفين وكل يزعم أن علمه لدني وصدقوا وكذبوا فإن اللدني منسوب إلى لدن بمعنى عند فكأنهم قالوا العلم العندي ولكن الشأن فيمن هذا العلم من عنده ومن لدنه وقد ذم الله تعالى بأبلغ الذم من ينسب إليه ما ليس من عنده كما قال تعالى ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون وقال تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله وقال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء فكل من قال هذا العلم من عند الله وهو كاذب في هذه النسبة

فله نصيب وافر من هذا الذم وهذا في القرآن كثير يذم الله سبحانه من أضاف إليه مالا علم له به ومن قال عليه مالا يعلم ولهذا رتب سبحانه المحرمات أربع مراتب وجعل أشدها القول عليه بلا علم فجعله آخر مراتب المحرمات التي لا تباح بحال بل هي محرمة في كل ملة وعلى لسان كل رسول فالقائل إن هذا علم لدني لما لا يعلم أنه من عند الله ولا قام عليه برهان من الله أنه من عنده كاذب مفتر على الله وهو من أظلم الظالمين وأكذب الكاذبين
قوله وأما جمع الوجود فهو تلاشي نهاية الاتصال في عين الوجود محقا
تلاشي نهاية الاتصال هو فناء العبد في الشهود ونهاية الاتصال هو ما ذكره في الدرجة الثالثة من باب الاتصال أنه لا يدرك منه نعت ولا مقدار إلا اسم معار ولمح إليه مشار فحقيقة الجمع في هذه الدرجة تلاشى ذلك في عين الوجود أي في حقيقته ويريد بالوجود ما أشار إليه في الدرجة الثانية من باب الوجود وهو قوله وجود الحق وجود عين منقطعا عن مساغ الإشارة فتضمحل نهاية الاتصال في هذا الوجود محقا أي ذوبانا وفناء
قوله وأما جمع العين فهو تلاشي كل ما تقله الإشارة في ذات الحق حقا
تقله الإشارة أي تحمله وتقوم به والإشارة تارة تكون باليد والرأس فتكون إيماء وتارة تكون بالعين فتكون رمزا وتارة تكون باللفظ فيسمى تعريضا وتارة تكون بالذهن والعقل فتضمحل كل هذه الأنواع وتبطل عند شهود العين في حضرة الجمع وظهور جلال الذات المقدسة والذات هي الحاملة للصفات والأفعال
فعرفت من هذا أنه في الدرجة الأولى يغيب عن جميع العلوم المتعلقة بالأدلة والشواهد بالعلم اللدني وفي الدرجة الثانية يغيب عن اتصاله وشهود اتصاله بالوجود فإن الوجود فوق الاتصال كما تقدم وهذا كما يغيب الواجد الذي قد ظفر بموجوده عن شهود وصوله إليه واتصاله به فتفنيه عين وجوده عن شهود

نفسه وصفاتها وفي الدرجة الثالثة يضمحل كل ما تحمله الإشارة إلى ذات أو إلى صفة أو حال أو مقام في ذات الحق سبحانه فلا يبقى هناك ما يشار إليه سواه
قوله والجمع غاية مقامات السالكين وهو طرف بحر التوحيد
وجه ذلك أن السالك ما دام في سلوكه فهو في تفرقة الاستدلال وطلب الشواهد فإذا وصل إلى مقام المعرفة وصار همه هما واحدا لله وفي الله وبالله ينزل في منزلة الجمع ويشمر لركوب بحر التوحيد الذي يتلاشى فيه كل ما سوى الواحد القهار فالجمع عنده نهاية سفر السالكين إلى الله
وهذا موضع غير مسلم له على إطلاقه وإنما غاية مقام السالكين التوبة التي هي بدايات منازلهم
ولعل سمعك ينفر من هذا غاية النفور وتقول هذا كلام من لم يعرف شيئا من طريق القوم ولا نزل في منازل الطريق ولعمر الله أن كثيرا من الناس ليوافقك على هذا ويقول أين كنا وأين صرنا نحن قد قطعنا منزلة التوبة وبيننا وبينها مائة مقام فترجع من مائة مقام إليها ونجعلها غاية مقام السالكين
فاسمع الآن وعيه ولا تعجل بالإنكار ولا تبادر بالرد وافتح ذهنك لمعرفة نفسك وحقوق ربك وما ينبغي له منك وماله من الحق عليك ثم أنسب أعمالك وأحوالك وتلك المنازل التي نزلتها والمقامات التي قمت فيها لله وبالله إلى عظيم جلاله وما يستحقه وما هو له أهل فإن رأيتها وافية بذلك مكافئة له فلا حاجة حينئذ إلى التوبة والرجوع إليها رجوع عن المقامات العلية وانحطاط من علو إلى سفل ورجوع من غاية إلى بداية وما ذلك ببعيد من كثير من المنتسبين إلى هذا الشأن المغرورين بأحوالهم ومعارفهم وإشاراتهم وإن رأيت أن أضعاف أضعاف ما قمت به من صدق وإخلاص وإنابة وتوكل وزهد

وعبادة لا يفي بأيسر حق له عليك ولا يكافئ نعمة من نعمه عندك وأن ما يستحقه لجلاله وعظمته أعظم وأجل وأكبر ما يقوم به الخلق
فاعلم الآن أن التوبة نهاية كل عارف وغاية كل سالك وكما أنها بداية فهي نهاية والحاجة إليها في النهاية أشد من الحاجة إليها في البداية بل هي في النهاية في محل الضرورة
فاسمع الآن ما خاطب الله به رسوله في آخر الأمر عند النهاية وكيف كان رسول الله في آخر حياته أشد ما كان استغفارا وأكثره قال الله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب الله عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وهذا أنزله الله سبحانه بعد غزوة تبوك وهي آخر الغزوات التي غزاها بنفسه فجعل الله سبحانه التوبة عليهم شكرانا لما تقدم من تلك الأعمال وذلك الجهاد وقال تعالى في آخر ما أنزل على رسوله إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا وفي الصحيح أنه ما صلى صلاة بعد ما نزلت عليه هذه السورة إلا قال فيها سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي وذلك في نهاية أمره صلوات الله وسلامه عليه ولهذا فهم منها علماء الصحابة كعمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنه أجل رسول الله أعلمه الله إياه فأمره سبحانه بالاستغفار في نهاية أحواله وآخر أمره على ما كان عليه مقاما وحالا وآخر ما سمع من كلامه عند قدومه على ربه اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق الأعلى وكان يختم كل عمل صالح بالاستغفار كالصوم والصلاة والحج والجهاد فإنه كان إذا فرغ منه وأشرف على المدينة قال آيبون تائبون لربنا حامدون وشرع أن يختم المجلس بالاستغفار وإن

كان مجلس خير وطاعة وشرع أن يختم العبد عمل يومه بالاستغفار فيقول عند النوم أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وأن ينام على سيد الاستغفار
والعارف بالله وأسمائه وصفاته وحقوقه يعلم أن العبد أحوج ما يكون إلى التوبة في نهايته وأنه أحوج إلى التوبة من الفناء والاتصال وجمع الشواهد وجمع الوجود وجمع العين وكيف يكون ذلك أعلى مقامات السالكين وغاية مطلب المقربين ولم يأت له ذكر في القرآن ولا في السنة ولا يعرفه إلا النادر من الناس ولا يتصوره أكثرهم إلا بصعوبة ومشقة ولو سمعه أكثر الخلق لما فهموه ولا عرفوا المراد منه إلا بترجمة فأين في كتاب الله أو سنة رسوله أو كلام الصحابة الذين نسبة معارف من بعدهم إلى معارفهم كنسبة فضلهم ودينهم وجهادهم إليهم ما يدل على ذلك أو يشير إليه فصار المتأخرون أرباب هذه الاصطلاحات الحادثة بالألفاظ المجملة والمعاني المتشابهة أعرف بمقامات السالكين ومنازل السائرين وغاياتها من أعلم الخلق بالله بعد رسله هذا من أعظم الباطل
وهؤلاء في باب الإرادة والطلب والسلوك نظير أرباب الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم في باب العلم والخبر عن الله وأسمائه وصفاته فالطائفتان بل وكثير من المصنفين في الفقه من المتكلفين أشد التكلف وقد قال الله تعالى لرسوله قل لا أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم
فلا تجد هذا التكلف الشديد والتعقيد في الألفاظ والمعاني عند الصحابة أصلا

وإنما يوجد عند من عدل عن طريقهم وإذا تأمله العارف وجده كلحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل فيطول عليك الطريق ويوسع لك العبارة ويأتي بكل لفظ غريب ومعنى أغرب من اللفظ فإذا وصلت لم تجد معك حاصلا طائلا ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحنا فالمتكلمون في جعاجع الجواهر والأعراض والاكوان والألوان والجوهر الفرد والأحوال والحركة والسكون والوجود والماهية والانحياز والجهات والنسب والإضافات والغيرين والخلافين والضدين والنقيضين والتماثل والاختلاف والعرض هل يبقى زمانين وما هو الزمان والمكان ويموت أحدهم ولم يعرف الزمان والمكان ويعترف بأنه لم يعرف الوجود هل هو ماهية الشيء أو زائد عليها ويعترف أنه شاك في وجود الرب هل هو وجود محض أو وجود مقارن للماهية ويقول الحق عندي الوقف في هذه المسألة
ويقول أفضلهم عند نفسه عند الموت أخرج من الدنيا وما عرفت إلا مسألة واحدة وهي أن الممكن يفتقر إلى واجب ثم قال الافتقار أمر عدمي فأموت ولم أعرف شيئا وهذا أكثر من أن يذكر كما قال بعض السلف أكثر الناس شكا عند الموت أرباب الكلام
وآخرون أعظم تكلفا من هؤلاء وأبعد شيء عن العلم النافع وهم أرباب الهيولي والصورة والاصطقصات والأركان والعلل والأربعة والجواهر العقلية والمفارقات والمجردات والمقولات العشر والكليات الخمس والمختلطات والموجهات والقضايا المسوارات والقضايا المهملات فهو أعظم الطوائف تكلفا وأقلهم تحصيلا للعلم النافع والعمل الصالح
وكذلك المتكلفون من أصحاب الإرادة والسلوك وأرباب الحال والمقام والوقت والمكان والبادي والباذه والوارد والخاطر والواقع والقادح واللامع

والغيبة والحضور والمحق والحق والسكر واللوائح والطوالع والعطش والدهش والتلبيس والتمكين والتلوين والاسم والرسم والجمع وجمع الجمع وجمع الشواهد وجمع الوجود والأثر والكون والبون والاتصال والانفصال والمسامرة والمشاهدة والمعاينة والتجلي والتخلي وأنا بلا أنا وأنت بلا أنت ونحن بلا نحن وهو بلا هو وكل ذلك أدنى إشارة إلى تكلف هؤلاء الطوائف وتنطعهم وكذلك كثير من المنتسبين إلى الفقه لهم مثل هذا التكلف وأعظم منه
فكل هؤلاء محجوبون بما لديهم موقوفون على ما عندهم خاضوا بزعمهم بحار العلم وما ابتلت أقدامهم وكدوا أفكارهم وأذهانهم وخواطرهم وما استنارت بالعلم الموروث عن الرسل قلوبهم وأفهامهم فرحين بما عندهم من العلوم راضين بما قيدوا به من الرسوم فهم في واد ورسول الله وأصحابه رضي الله عنهم في واد والله يعلم أنا لم نتجاوز فيهم القول بل قصرنا فيما ينبغي لنا أن نقوله فذكرنا غضبا من فيض وقليلا من كثير
وهؤلاء كلهم داخلون تحت الرأي الذي اتفق السلف على ذمه وذم أهله
فهم أهل الرأي حقا الذين قال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وقال أيضا أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها وتفلتت عليهم أن يرووها فاشتغلوا عنها بالرأي وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم وقال عمر رضي الله عنه يا أيها الناس إن الرأي كان من رسول الله مصيبا لأن الله عز و جل كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف وقال ابن عباس رضي الله عنهما من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله لم يرد ما هو على ما هو منه إذا لقي الله عز و جل وقال عمر رضي الله عنه يا أيها الناس اتهموا رأيكم

على الدين فقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله برأيي أجتهد والله ما آلو ذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب فقالوا تكتب باسمك اللهم فرضي رسول الله وأبيت فقال يا عمر تراني قد رضيت وتأبى وقال في الحديث الذي رويناه من طريق مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني سليمان بن عتيق عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون فإن لم تكن هذه الألفاظ والمعاني التي نجدها في كثير من كلام هؤلاء تنطعا فليس للتنطع حقيقة والله سبحانه وتعالى أعلم

فصل فإن لم يسمح قلبك بكون التوبة غاية مقامات السالكين ولم تصغ
إلى شيء مما ذكرنا وأبيت إلا أن يكون تلاشي نهاية الاتصال في عين الوجود محقا وتلاشى علوم الشواهد في العلم اللدني صرفا وجمع الوجود وجمع العين هو نهاية مقامات السالكين إلى الله بحيث يدخل في ذلك كل سالك فاعلم أن هذا الجمع المذكور بمجرد لا يعطي عبودية ولا إيمانا فضلا عن أن يكون غاية كل نبي وولي وعارف فإن هذا الجمع يحصل للصديق والزنديق وللملاحدة والإتحادية منه حظ كبير وحوله يدندنون وهو عندهم نهاية التحقيق فأين تحقيق العبودية والقيام بأعبائها واحتمال فرائضها وسننها وأدائها والجهاد لأعداء الله والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحمل الأذى في الله في هذا الجمع وأين معرفة الأسماء والصفات فيه مفصلا وأين معرفة ما يحبه الرب تعالى ويكرهه فيه مفصلا وأين معرفة خير الخيرين وشر الشرين فيه وأين العلم بمراتب العبودية ومنازلها فيه
فالحق أن نهاية السالكين تكميل مرتبة العبودية صرفا وهذا مما لا سبيل

إليه لبني الطبيعة وإنما خص بذلك الخليلان عليهما الصلاة والسلام من بين سائر الخلق أما إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه فإن الله عز و جل شهد له بأنه وفي وأما سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه فإنه كمل مرتبة العبودية فاستحق التقديم على سائر الخلائق فكان صاحب الوسيلة والشفاعة التي يتأخر عنها جميع الرسل ويقول هو أنا لها ولهذا ذكره الله سبحانه وتعالى بالعبودية في أعلى مقاماته وأشرف أحواله كقوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وقوله وأنه لما قام عبد الله يدعوه وقوله وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا وقوله تبارك الله الذي نزل الفرقان على عبده ولهذا يقول المسيح حين يرغب إليه في الشفاعة اذهبوا إلى محمد عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فاستحق تلك الرتبة العليا بتكميل عبوديته لله وبكمال مغفرة الله له
فرجع الأمر إلى أن غاية المقامات ونهايتها هو التوبة والعبودية المحضة لا جمع العين ولا جمع الوجود ولا تلاشي الاتصال
فإن قلت فهذا الجمع إنما يحصل لمن قام بحقيقة التوبة والعبودية
قيل ليس كذلك بل الجمع الذي يحصل لمن قام بذلك هو جمع الرسل وخلفائهم وهو جمع الهمة على الله سبحانه محبة وإنابة وتوكلا وخوفا ورجاء ومراقبة وجمع الهمة على تنفيذ أوامر الله في الخلق ودعوة وجهادا فهما جمعان جمع القلب على المعبود وحده وجمع الهم له على محض عبوديته
فإن قلت فأين شاهد هذين الجمعين قلت في القرآن كله فخذه من فاتحة الكتاب في قوله إياك نعبد وإياك نستعين وتأمل ما في قوله إياك التخصيص لذاته المقدسة بالعبادة والاستعانة وما في قوله نعبد الذي هو للحال والاستقبال وللعبادة الظاهرة والباطنة من استيفاء أنواع العبادة حالا واستقبالا قولا وعملا ظاهرا وباطنا والاستعانة على ذلك به لا بغيره ولهذا

كانت الطريق كلها في هاتين الكلمتين وهي معنى قولهم الطريق في إياك أريد بما تريد فجمع المراد في واحد والإرادة في مراده الذي يحبه ويرضاه فالى هذا دعت الرسل من أولهم إلى آخرهم وإليه شخص العاملون وتوجه المتوجهون وكل الأحوال والمقامات من أولها إلى آخرها مندرجة في ضمن ذلك ومن ثمراته وموجباته
فالعبودية تجمع كمال الحب في كمال الذل وكمال الانقياد لمراضي المحبوب وأوامره فهي الغاية التي ليس فوقها غاية وإذا لم يكن إلى القيام بحقيقتها كما يجب سبيل فالتوبة هي المعول والآخية وقد عرفت بهذا وبغيره أن الحاجة إليها في النهاية أشد من الحاجة إليها في البداية ولولا تنسم روحها لحال اليأس بين ابن الماء والطين وبين الوصول إلى رب العالمين هذا لو قام بما ينبغي عليه أن يقوم به لسيده من حقوقه فكيف والغفلة والتقصير والتفريط والتهاون وإيثار حظوظه في كثير من الأوقات على حقوق ربه لا يكاد يتخلص منها ولا سيما السالك على درب الفناء والجمع لأن ربه يطالبه بالعبودية ونفسه تطالبه بالجمع والفناء ولو حقق النظر مع نفسه وحاسبها حسابا صحيحا لتبين له أن حظه يريد ولذته يطلب نعم كل أحد يطلب ذلك لكن الشأن في الفرق بين من صار حظه نفس مرضاة الله ومحابه أحبت ذلك نفسه أو كرهته وبين من حظه ما يريد من ربه فالأول حظه مراد ربه الديني الشرعي منه وهذا حظه مراده من ربه وبالله التوفيق
فإن قيل هذا الباب مسلم لأهل الذوق وأنتم تتكلمون بلسان العلم لا بلسان الذوق والذائق واجد والواجد لا يمكنه إنكار موجوده فلا يرجع إلى صاحب العلم بل يدعوه إلى ذوق ما ذاقه ويقول
اقول للائم المهدي ملامته ... ذق الهوى وإن اسطعت الملام لم

قيل لم ينصف من أحال على الذوق فإنها حوالة على محكوم عليه لا على حاكم وعلى مشهود له لا على شاهد وعلى موزون لا على ميزان
ويا سبحان الله هل يدل مجرد ذوق الشيء على حكمه وأنه حق أو باطل وهل جعل الله ورسوله الأذواق والمواجيد حججا وأدلة يميز بها بين ما يحبه ويرضاه وبين ما يكرهه ويسخطه ولو كان ذلك كذلك لاحتج كل مبطل على باطله بالذوق والوجد كما تجده في كثير من أهل الباطل والإلحاد فهؤلاء الاتحادية وهم أكفر الخلق يحتجون بالذوق والوجد على كفرهم وإلحادهم حتى ليقول قائلهم
يا صاحبي أنت تنهاني وتأمرني ... والوجد أصدق نهاء وأمار
فإن أطعك وأعص الوجد رحت عم ... عن اليقين إلى أوهام أخبار
وعين ما أنت تدعوني إليه إذا ... حققته بدل المنهي يا جار
ويقول هذا القائل ثبت عندنا بالكشف والذوق ما يناقض صريح العقل وكل معتقد لأمر جازم به مستحسن له يذوق طعمه فالملحد يذوق طعم الاتحاد والانحلال من الدين والرافضي يذوق طعم الرفض ومعاداة خيار الخلق والقدري يذوق طعم إنكار القدر ويعجب ممن يثبته والجبري عكسه والمشرك يذوق طعم الشرك حتى إنه ليستبشر إذا ذكره إلهه ومعبوده من دون الله ويشمئز قلبه إذا ذكر الله وحده
وهذا الاحتجاج قد سلكه أرباب السماع المحدث الشيطاني الذي هو محض شهوة النفس وهواها واحتجوا على إباحة هذا السماع بما فيه من الذوق والوجد واللذة وأنت تجد النصراني له في تثليثه ذوق ووجد وحنين بحيث لو عرض عليه أشد العذاب لاختاره دون أن يفارق تثليثه لما له فيه من الذوق
وحينئذ فيقال هب أن الأمر كما تقول وأن المتكلم المنكر لم يتكلم بلسان الذوق فهل يصح أن يكون ذوق الذائق لذلك حجة صحيحة نافعة له بينه

وبين الله ولو فرضنا أن هذا المنكر قال نعم أنا محجوب عن الوصول إلى ما أنكرته غير ذائق له وأنت ذائق واصل فما علامة ما ذقته ووصلت إليه وما الدليل عليه وأنا لا أنكر ذوقك له ووجدك به ولكن الشأن في المذوق لافي الذوق وإن ذاق المحب العاشق طعم محبته وعشقه لمحبوبه ما كان غاية ذلك إلا أن يدل على وجود محبته وعشقه لا على كون ذلك نافعا له أو ضارا أو موخبا لكماله أو نقصه وبالله التوفيق

فصل قال صاحب المنازل باب التوحيد قال الله تعالى شهد الله أنه
لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم التوحيد تنزيه الله عز و جل عن الحدث وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون بما أشاروا به في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب بالعلل
قلت التوحيد أول دعوة الرسل وأول منازل الطريق وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى قال تعالى لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال هود لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال صالح لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال شعيب لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل ولهذا قال النبي لرسوله معاذ ابن جبل رضي الله عنه وقد بعثه إلى اليمن إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وحده فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة وذكر الحديث وقال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولهذا كان الصحيح أن أول

واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم
فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال النبي من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة فهو أول واجب وآخر واجب فالتوحيد أول الأمر وآخره
قوله التوحيد تنزيه الله عن الحدث هذا الحد لا يدل على التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه وينجو به العبد من النار ويدخل به الجنة ويخرج من الشرك فإنه مشترك بين جميع الفرق وكل من أقر بوجود الخالق سبحانه أقر به فعباد الأصنام والمجوس والنصارى واليهود والمشركون على اختلاف نحلهم كلهم ينزهون الله عن الحدث ويثبتون قدمه حتى أعظم الطوائف على الإطلاق شركا وكفرا وإلحادا وهم طائفة الاتحادية فإنهم يقولون هو الوجود المطلق وهو قديم لم يزل وهو منزه عن الحدث ولم تزل المحدثات تكتسي وجوده تلبسه وتخلعه
والفلاسفة الذين هم أبعد الخلق عن الشرائع وما جاءت به الأنبياء يثبتون واجب الوجود قديما منزها عن الحدث
والمشركون عباد الأصنام الذين يعبدون معه آلهة أخرى يثبتون قديما منزها عن الحدث
فالتنزيه عن الحدث حق لكن لا يعطي إسلاما ولا إيمانا ولا يدخل في شرائع الأنبياء ولا يخرج من نحل أهل الكفر ومللهم ألبتة وهذا القدر لا يخفى على شيخ الإسلام ومحله من العلم والمعرفة محله
ومع هذا فقد سئل سيد الطائفة الجنيد عن التوحيد فقال هو إفراد القديم عن المحدث والجنيد أشار إلى أنه لا تصح دعوى التوحيد ولا مقامه ولا حاله ولا يكون العبد موحدا إلا إذا أفرد القديم عن المحدث فإن كثيرا

ممن ادعى التوحيد لم يفرده سبحانه من المحدثات فإن من نفى مباينته لخلقه فوق سمواته على عرشه وجعله في كل مكان بذاته لم يفرده عن المحدث بل جعله حالا في المحدثات مخالفا لها موجودا فيها بذاته وصوفية هؤلاء وعبادهم هم الحلولية الذين يقولون إن الله عز و جل يحل بذاته في المخلوقات وهم طائفتان طائفة تعم الموجودات بحلوله فيها وطائفة تخص به بعضها دون بعض
قال الأشعري في كتاب المقالات هذه حكاية قول قوم من النساك وفي الأمة قوم ينتحلون النسك يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا ندري لعله ربنا
قلت وهذه الفرقة طائفتان إحداهما تزعم أنه سبحانه يحل في الصورة الجميلة المستحسنة والثانية تزعم أنه سبحانه يحل في الكمل من الناس وهم الذين تجردت نفوسهم عن الشهوات واتصفوا بالفضائل وتنزهوا عن الرذائل والنصارى تزعم أنه حل في بدن المسيح وتدرع به والاتحادية تزعم أنه وجود مطلق أكتسته الماهيات فهو عين وجودها
فكل هؤلاء لم يفردوا القديم عن المحدث

فصل وهذا الإفراد الذي أشار إليه الجنيد نوعان أحدهما إفراد في
الاعتقاد والخبر وذلك نوعان أيضا أحدهما إثبات مباينة الرب تعالى للمخلوقات وعلوه فوق عرشه من فوق سبع سموات كما نطقت به الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها وأخبرت به جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم والثاني إفراده سبحانه بصفات كماله وإثباتها له على وجه التفصيل كما أثبتها لنفسه وأثبتها له رسله منزهة عن التعطيل والتحريف والتمثيل والتكييف والتشبيه بل تثبت له سبحانه

حقائق الأسماء والصفات وتنفي عنه فيها مماثلة المخلوقات إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تحريف ولا تعطيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وفي هذا النوع يكون إفراده سبحانه بعموم قضائه وقدره لجميع المخلوقات أعيانها وصفاتها وأفعالها وأنها كلها واقعة بمشيئته وقدرته وعلمه وحكمته فيباين صاحب هذا الإفراد سائر فرق أهل الباطل من الاتحادية والحلولية والجهمية الفرعونية الذين يقولون ليس فوق السموات رب يعبد ولا على العرش إله يصلى له ويسجد والقدرية الذين يقولون إن الله لا يقدر على أفعال العباد من الملائكة والإنس والجن ولا على أفعال سائر الحيوانات بل يقع في ملكه مالا يريد ويريد مالا يكون فيريد شيئا لا يكون ويكون شيء بغير إرادته ومشيئته والله سبحانه أعلم

فصل والنوع الثاني من الإفراد إفراد القديم عن المحدث بالعبادة من
التأله والحب والخوف والرجاء والتعظيم والإنابة والتوكل والاستعانة وابتغاء الوسيلة إليه فهذا الإفراد وذلك الإفراد بهما بعثت الرسل وأنزلت الكتب وشرعت الشرائع ولأجل ذلك خلقت السموات والأرض والجنة والنار وقام سوق الثواب والعقاب فتفريد القديم سبحانه عن المحدث في ذاته وصفاته وأفعاله وفي إرادته وحده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والاستعانة والحلف به والنذر له والتوبة إليه والسجود له والتعظيم والإجلال وتوابع ذلك ولذلك كانت عبارة الجنيد عن التوحيد عبارة سادة مسددة
فشيخ الإسلام إن أراد ما أراد أبو القاسم فلا إشكال وإن أراد أن ينزه الله سبحانه عن قيام الأفعال الاختيارية به التي يسميها نفاة أفعاله حلول الحوادث ويجعلون تنزيه الرب تعالى عنها من كمال التوحيد بل هو أصل التوحيد عندهم فكأنه قال التوحيد تنزيه الرب تعالى عن حلول الحوادث

وحقيقة ذلك أن التوحيد عندهم تعطيله عن أفعاله ونفيها بالكلية وأنه لا يفعل شيئا ألبتة فإن إثبات فاعل من غير فعل يقوم به ألبتة محال في العقول والفطر ولغات الأمم ولا يثبت كونه سبحانه ربا للعالم مع نفي ذلك أبدا فإن قيام الأفعال به هو معنى الربوبية وحقيقتها ونافى هذه المسألة ناف لأصل الربوبية جاحد لها رأسا
وإن أراد تنزيه الرب تعالى عن سمات المحدثين وخصائص المخلوقين فهو حق ولكنه تقصير في التعبير عن التوحيد فإن إثبات صفات الكمال أصل التوحيد ومن تمام هذا الإثبات تنزيهه سبحانه عن سمات المحدثين وخصائص المخلوقين وقد استدرك عليه الاتحادي في هذا الحد فقال شهود التوحيد يرفع الحدوث أصلا ورأسا فلا يكون هناك وجودان قديم ومحدث فالتوحيد هو أن لا يرى مع الوجود المطلق سواه والله سبحانه أعلم

فصل وقد تقسمت الطوائف التوحيد وسمى كل طائفة باطلهم توحيدا
فأتباع أرسطوا وابن سينا والنصير الطوسي عندهم التوحيد إثبات وجود مجرد عن الماهية والصفة بل هو وجود مطلق لا يعرض لشيء من الماهيات ولا يقوم به وصف ولا يتخصص بنعت بل صفاته كلها سلوب وإضافات فتوحيد هؤلاء هو غاية الإلحاد والجحد والكفر وفروع هذا التوحيد إنكار ذات الرب والقول بقدم الأفلاك وأن الله لا يبعث من في القبور وأن النبوة مكتسبة وأنها حرفة من الحرف كالولاية والسياسة وأن الله لا يعلم عدد الأفلاك ولا الكواكب ولا يعلم شيئا من الموجودات المعينة ألبتة وأنه لا يقدر على قلب شيء من أعيان العالم ولا شق الأفلاك ولا خرقها وأنه لا حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي ولا جنة ولا نار فهذا توحيد هؤلاء
وأما الاتحاديه فالتوحيد عندهم أن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه

وأنه سبحانه هو عين وجود كل موجود وحقيقته وماهيته وأنه آية كل شيء وله فيه آية تدل على أنه عينه وهذا عند محققيهم من خطإ التعبير بل هو نفس الآية ونفس الدليل ونفس المستدل ونفس المستدل عليه فالتعدد بوجود اعتبارات وهمية لا بالحقيقة والوجود فهو عندهم عين الناكح وعين المنكوح وعين الذابح وعين المذبوح وعين الآكل وعين المأكول وهذا عندهم هو السر الذي رمزت إليه هوامس الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية كما قاله محققهم وعارفهم ابن سبعين
ومن فروع هذا التوحيد أن فرعون وقومه مؤمنون كاملوا الإيمان عارفون بالله على الحقيقة ومن فروعه أن عباد الأصنام على الحق والصواب وأنهم إنما عبدوا عين الله سبحانه لا غيره ومن فروعه أن الحق أن لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية ولا فرق بين الماء والخمر والزنا والنكاح الكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة وإنما المحجوبون عن هذا السر قالوا هذا حرام وهذا حلال نعم هو حرام عليكم لأنكم في حجاب عن حقيقة هذا التوحيد ومن فروعه أن الأنبياء ضيقوا الطريق على الناس وبعدوا عليهم المقصود والأمر وراء ما جاءوا به ودعوا إليه
وأما الجهمية فالتوحيد عندهم إنكار علو الله على خلقه بذاته واستوائه على عرشه وإنكار سمعه وبصره وقوته وحياته وكلامه وصفاته وأفعاله ومحبته ومحبة العباد له فالتوحيد عندهم هو المبالغة في إنكار التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه
وأما القدرية فالتوحيد عندهم هو إنكار قدر الله وعموم مشيئته للكائنات وقدرته عليها ومتأخروهم ضموا إلى ذلك توحيد الجهمية فصار حقيقة التوحيد عندهم إنكار القدر وإنكار حقائق الأسماء الحسنى والصفات العلى وربما سموا إنكار القدر والكفر بقضاء الرب وقدره عدلا وقالوا نحن أهل العدل والتوحيد

وأما الجبرية فالتوحيد عندهم هو تفرد الرب تعالى بالخلق والفعل وأن العباد غير فاعلين على الحقيقة ولا محدثين لأفعالهم ولا قادرين عليها وأن الرب تعالى لم يفعل لحكمة ولا غاية تطلب بالفعل وليس في المخلوقات قوى وطبائع وغرائز وأسباب بل ما ثم إلا مشيئة محضة ترجح مثلا على مثل بغير مرجح ولا حكمة ولا سبب ألبتة
وأما صاحب المنازل ومن سلك سبيله فالتوحيد عندهم نوعان أحدهما غير موجود ولا ممكن وهو توحيد العبد ربه فعندهم
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
والثاني توحيد صحيح وهو توحيد الرب لنفسه وكل من ينعته سواه فهو ملحد فهذا توحيد الطوائف ومن الناس إلا أولئك والله سبحانه أعلم

فصل وأما التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه فوراء ذلك
كله وهو نوعان توحيد في المعرفة والإثبات وتوحيد في المطلب والقصد
فالأول هو حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وعلوه فوق سمواته على عرشه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح كما في أول سورة الحديد وسورة طه وآخر سورة الحشر وأول سورة تنزيل السجدة وأول سورة آل عمران وسوة الإخلاص بكمالها وغير ذلك
النوع الثاني مثل ما تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون وقوله قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الآية وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها وأول سورة يونس ووسطها وآخرها وأول سورة الأعراف وآخرها وجملة سورة الأنعام وغالب سور القرآن بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد

بل نقول قولا كليا إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره فهي حقوق التوحيد ومكملاته وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم ف الحمد لله توحيد رب العالمين توحيد الرحمن الرحيم توحيد مالك يوم الدين توحيد إياك نعبد توحيد وإياك نستعين توحيد اهدنا الصراط المستقيم توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين فارقوا التوحيد ولذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد وشهد له به ملائكته وأنبياؤه ورسله قال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام
فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد والرد على جميع هذه الطوائف والشهادة يبطلان أقوالهم ومذاهبهم وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية والحقائق الإيمانية
فتضمنت هذه الآية أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به وعبارات السلف في شهد تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار قال مجاهد حكم وقضى وقال الزجاج بين وقالت طائفة أعلم وأخبر وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها

فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وقوله وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه فلها أربع مراتب فأول مراتبها علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته وثانيها تكلمه بذلك ونطقه به وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم به مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها وثالثها أن يعلم غيره بما شهد به ويخبره به ويبينه له ورابعها أن يلزمه بمضمونها ويأمره به
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربعة علم الله سبحانه بذلك وتكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه به وأمرهم وإلزامهم به
أما مرتبة العلم فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به قال الله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال النبي على مثلها فاشهد وأشار إلى الشمس
وأما مرتبة التكلم والخبر فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به وإن لم يتلفظ بالشهادة قال تعالى قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم وقال تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم سنكتب شهادتهم ويسألون فجعل ذلك منهم شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم قال النبي عدلت شهادة الزور الإشراك بالله وشهادة الزور هي قول الزور كما قال تعالى واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به وعند نزول هذه الآية قال رسول الله عدلت شهادة الزور الإشراك بالله \ ح \ فسمى قول الزور شهادة وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم فشهادة المرء على نفسه هي إقراره على نفسه وفي الحديث الصحيح في قصة ماعز الأسلمي فلما شهد على نفسه أربع مرات

رجمه رسول الله وقال تعالى قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين
وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة كما هو مذهب مالك وأهل المدينة وظاهر كلام أحمد ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك وقد قال ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة والعشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة بل قال أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة الحديث
وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فقد دخل في الإسلام وشهد شهادة الحق ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة وأنه قد دخل في قوله حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وفي لفظ آخر حتى يقولوا لا إله إلا الله فدل على أن مجرد قولهم لا إله إلا الله شهادة منهم وهذا أكثر من أن تذكر شواهده من الكتاب والسنة فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه والله أعلم

فصل وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان إعلام بالقول وإعلام
بالفعل وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر تارة يعلمه بقوله وتارة بفعله ولهذا كان من جعل دارا مسجدا وفتح بابها لكل من دخل إليها وأذن بالصلاة فيها معلما أنها وقف وأن لم يتلفظ به وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار معلما له ولغيره أنه يحبه وإن لم يتلفظ بقوله وكذلك بالعكس وكذلك شهادة الرب

جل جلاله وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة وبفعله تارة أخرى فالقول هو ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه ومما قد علم بالاضطرار أن جميع الرسل أخبروا عن الله أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو وأخبر بذلك وأمر عباده أن يشهدوا به وشهادته سبحانه أن لا إله إلا هو معلومة من جهة كل من بلغ عنه كلامه
وأما بيانه وإعلامه بفعله فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة كما يستعمل فيه لفظ الدلالة والإرشاد والبيان فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره كما يبينه الشاهد والمخبر بل قد يكون البيان بالفعل أظهر وأبلغ وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا وكلاما لقيامه مقامه وأدائه مؤداه كما قيل
وقالت له العينان سمعا وطاعة ... وحدرتا بالدر لما يثقب
وقال الآخر
شكا إلي جملي طول السرى ... صبرا جميلي فكلانا مبتلى
وقال الآخر
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني
ويسمى هذا شهادة أيضا كما في قوله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلون من أعمال الكفر وأقواله فهي شهادة بكفرهم وهم شاهدون على أنفسهم بما شهدت به
والمقصود أن الله سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه فإن دلالتها إنما هي بخلقه وجعله ويشهد بآياته القولية الكلامية المطابقة لما شهدت به آياته الخلقية فتتطابق شهادة القول وشهادة الفعل كما قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أي أن القرآن حق فأخبر

أنه يدل بآياته الأفقية والنفسية على صدق آياته القولية الكلامية وهذه الشهادة الفعلية قد ذكرها غير واحد من أئمة العربية والتفسير قال ابن كيسان شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه أنه لا إله إلا هو

فصل وأما المرتبة الرابعة وهي الأمر بذلك والإلزام به وإن كان مجرد
الشهادة لا يستلزمه لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده به كما قال تعالى وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وقال تعالى وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد وقال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وقال تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر وقال الله سبحانه وتعالى ولا تدع مع الله إلها آخر والقرآن كله شاهد بذلك
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله وأن إلهية ما سواه أبطل الباطل وإثباتها أظلم الظلم فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الإلهية لغيره وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات كما إذا رأيت رجلا يستفتى أو يستشهد أو يستطب من ليس أهلا لذلك ويدع من هو أهل له فتقول هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب المفتي فلان والشاهد فلان والطبيب فلان فإن هذا أمر منك ونهي
وأيضا فإن الأدلة قد دلت على أنه سبحانه وحده المستحق للعبادة فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم فإذا شهد سبحانه أنه لا إله إلا هو تضمنت شهادته الأمر والإلزام بتوحيده

وأيضا فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجمل الخبرية فيقال للجملة الخبرية قضية وحكم وقد حكم فيها بكيت وكيت قال تعالى ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين مالكم كيف تحكمون فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكما وقال في موضع آخر أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون لكن هذا حكم لا الزام الإلزام معه والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو متضمن للإلزام والله سبحانه أعلم

فصل وقوله تعالى قائما بالقسط القسط هو العدل فشهد الله سبحانه أنه
قائم بالعدل في توحيده وبالوحدانية في عدله والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب وموافقة الحكمة
فهذا توحيد الرسل وعدلهم إثبات الصفات والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وإثبات القدر والحكم والغايات المطلوبة المحمودة بفعله وأمره لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية الذي هو إنكار الصفات وحقائق الأسماء الحسنى وعدلهم الذي هو التكذيب بالقدر أو نفي الحكم والغايات والعواقب الحميدة التي يفعل الله لأجلها ويأمر وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته يتضمن أمورا
أحدها أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق وإنكارها وجحودها أعظم الظلم على الإطلاق فلا أعدل من التوحيد ولا أظلم من الشرك فهو سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة قولا وفعلا حيث شهد بها وأخبر وأعلم عباده وبين لهم تحقيقها وصحتها وألزمهم بمقتضاها وحكم

به وجعل الثواب والعقاب عليها وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها فالدين كله من حقوقها والثواب كله عليها والعقاب كله على تركها
وهذا هو العدل الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة فأوامره كلها تكميل لها وأمر بأداء حقوقها ونواهيه كلها صيانة لها عما يهضمها ويضادها وثوابه كله عليها وعقابه كله على تركها وترك حقوقها وخلقه السموات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها وهي الحق الذي خلقت به وضدها هو الباطل والعبث الذي نزه نفسه عنه وأخبر أنه لم يخلق به السموات والأرض قال تعالى ردا على المشركين المنكرين لهذه الشهادة وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وقال تعالى حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون وقال وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق وقال أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون وقال وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ماخلقناهما إلا بالحق وهذا كثير في القرآن والحق الذي خلقت به السموات والأرض ولأجله هو التوحيد وحقوقه من الأمر والنهي والثواب والعقاب فالشرع والقدر والخلق والأمر والثواب والعقاب قائم بالعدل والتوحيد صادر عنهما وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى قال تعالى حكاية عن نبيه هود إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله فهو يقول الحق ويفعل العدل وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل

لكلماته وهو السميع العليم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
فالصراط المستقيم الذي عليه ربنا تبارك وتعالى هو مقتضى التوحيد والعدل قال تعالى وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فهذا مثل ضربه الله لنفسه وللصنم فهو سبحانه الذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم والصنم مثل العبد الذي هو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير
والمقصود أن قوله تعالى قائما بالقسط هو كقوله إن ربي على صراط مستقيم وقوله قائما بالقسط نصب على الحال وفيه وجهان أحدهما أنه حال من الفاعل في شهد الله والعامل فيها الفعل والمعنى على هذا شهد الله حال قيامه بالقسط أنه لا إله إلا هو والثاني أنه حال من قوله هو والعامل فيها معنى النفي أي لا إله إلا هو حال كونه قائمة بالقسط وبين التقديرين فرق ظاهر فإن التقدير الأول يتضمن أن المعنى شهد الله متكلما بالعدل مخبرا به آمرا به فاعلا له مجازيا به أنه لا إله إلا هو فإن العدل يكون في القول والفعل والمقسط هو العادل في قوله وفعله فشهد الله قائما بالعدل قولا وفعلا أنه لا إله إلا هو وفي ذلك تحقيق لكون هذه الشهادة شهادة عدل وقسط وهي أعدل شهادة كما أن المشهود به أعدل شيء

وأصحه وأحقه وذكر ابن السائب وغيره في سبب نزول الآية ما يشهد بذلك وهو أن حبرين من أحبار الشأم قدما على النبي فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بمدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي قالا له أنت محمد قال نعم وأحمد قال نعم قالا نسألك عن شهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك قال سلاني قالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت شهد الله أنه لا إله إلا هو الآية وإذا كان القيام بالقسط يكون في القول والفعل كان المعنى أنه كان سبحانه يشهد وهو قائم بالعدل عالم به لا بالظلم فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا فإنها تضمنت أنه هو الذي يستحق العبادة وحده دون غيره وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء وأن الذين أشركوا به غيره هم الضالون الأشقياء فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة وجزاء المشركين بالنار كان هذا من تمام موجب الشهادة وتحقيقها وكان قوله قائما بالقسط تنبيها على جزاء الشاهد بها والجاحد لها والله أعلم

فصل وأما التقدير الثاني وهو أن يكون قوله قائما حالا مما بعد إلا
فالمعنى أنه لا إله إلا هو قائما بالعدل فهو وحده المستحق الإلهية مع كونه قائما بالقسط قال شيخنا وهذا التقدير أرجح فإنه يتضمن أن الملائكة وأولي العلم يشهدون له بأنه لا إله إلا هو وأنه قائم بالقسط
قلت مراده أنه إذا كان قوله قائما بالقسط حالا من المشهود به فهو كالصفة له فإن الحال صفة في المعنى لصاحبها فإذا وقعت الشهادة على ذي الحال وصاحبها كان كلاهما مشهودا به فيكون الملائكة وأولوا العلم قد شهدوا بأنه قائم بالقسط كما شهدوا بأنه لا إله إلا هو والتقدير الأول لا يتضمن ذلك فإنه إذا كان التقدير شهد الله قائما بالقسط أنه لا إله إلا هو والملائكة

وأولو العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو كان القيام بالقسط حالا من اسم الله وحده
وأيضا فكونه قائما بالقسط فيما شهد به أبلغ من كونه حالا من مجرد الشهادة
فإن قيل فإذا كان حالا من هو فهلا اقترن به ولم فصل بين صاحب الحال وبينها بالمعطوف فجاء متوسطا بين صاحب الحال وبينها
قلت فائدته ظاهرة فإنه لو قال شهد الله أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط والملائكة وأولو العلم لأوهم عطف الملائكة وأولي العلم على الضمير في قوله قائما بالقسط ولا يحسن العطف لأجل الفصل وليس المعنى على ذلك قطعا وإنما المعنى على خلافه وهو أن قيامه بالقسط مختص به كما أنه مختص بالإلهية فهو وحده الإله المعبود المستحق العبادة وهو وحده المجازي المثيب المعاقب بالعدل
قوله لا إله إلا هو ذكر محمد بن جعفر أنه قال الأولى وصف وتوحيد والثانية رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلا هو ومعنى هذا أن الأولى تضمنت أن الله سبحانه شهد بها وأخبر بها والتالي للقرآن إنما يخبر عن شهادته هو وليس في ذلك شهادة من التالي نفسه فأعاد سبحانه ذكرها مجردة ليقولها التالي فيكون شاهدا هو أيضا
وأيضا فالأولى خبر عن الشهادة بالتوحيد والثانية خبر عن نفس التوحيد وختم بقوله العزيز الحكيم فتضمنت الآية توحيده وعدله وعزته وحكمته فالتوحيد يتضمن ثبوت صفات كماله ونعوت جلاله وعدم المماثل له فيها وعبادته وحده لا شريك له والعدل يتضمن وضعه الأشياء موضعها وتنزيلها منازلها وأنه لم يخص شيئا منها إلا بمخصص اقتضى ذلك وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة ولا يمنع من يستحق العطاء وإن كان هو الذي جعله مستحقا والعزة تتضمن كمال قدرته وقوته وقهره والحكمة

تتضمن كمال علمه وخبرته وأنه أمر ونهى وخلق وقدر لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد
فاسمه العزيز يتضمن الملك واسمه الحكيم يتضمن الحمد وأول الآية يتضمن التوحيد وذلك حقيقة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وذلك أفضل ما قاله رسول الله والنبيون من قبله والحكيم الذي إذا أمر بأمر كان حسنا في نفسه وإذا نهى عن شيء كان قبيحا في نفسه وإذا أخبر بخبر كان صدقا وإذا فعل فعلا كان صوابا وإذا أراد شيئا كان أولى بالإرادة من غيره وهذا الوصف على الكمال لا يكون إلا لله وحده
فتضمنت هذه الآية وهذه الشهادة الدلالة على وحدانيته المنافية للشرك وعدله المنافي للظلم وعزته المنافية للعجز وحكمته المنافية للجهل والعيب ففيها الشهادة له بالتوحيد والعدل والقدرة والعلم والحكمة ولهذا كانت أعظم شهادة
ولا يقوم بهذه الشهادة على وجهها من جميع الطوائف إلا أهل السنة وسائر طوائف أهل البدع لا يقومون بها فالفلاسفة أشد الناس إنكارا وجحودا لمضمونها من أولها إلى آخرها وطوائف الاتحادية هم أبعد خلق الله عنها من كل وجه وطائفة الجهمية تنكر حقيقتها من وجوه
منها أن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة له واشتياقا إليه وإنابة وعندهم أن الله لا يحب ولا يحب
ومنها أن الشهادة كلامه وخبره عما شهد به وهو عندهم لا يقول ولا يتكلم ولا يشهد ولا يخبر
ومنها أنها تتضمن مباينته لخلقه بذاته وصفاته وعند فرعونيهم أنه لا يباين الخلق ولا يحايثهم وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد

وعند حلوليتهم أنه حال في كل مكان بذاته حتى في الأمكنة التي يستحي من ذكوها فهؤلاء مثبتة الجهمية وأولئك نفاتهم
ومنها أن قيامه بالقسط في أفعاله وأقواله وعندهم أنه لم يقم ولا يقوم به فعل ولا قول ألبتة وأن قوله مخلوق من بعض المخلوقات وفعله هو المفعول المنفصل وأما أن يكون له فعل يكون به فاعلا حقيقة فلا
ومنها أن القسط عندهم لا حقيقة له بل كل ممكن فهو قسط وليس في مقدوره ما يكون ظلما وقسطا بل الظلم عندهم هو المحال الممتنع لذاته والقسط هو الممكن فنزه الله سبحانه نفسه على قولهم عن المحال الممتنع لذاته الذي لا يدخل تحت القدرة
ومنها أن العزة هي القوة والقدرة وعندهم لا يقوم به صفة ولا له صفة وقدرة تسمى قدرة وقوة
ومنها أن الحكمة هي الغاية التي يفعل لأجلها وتكون هي المطلوبة بالفعل ويكون وجودها أولى من عدمها وهذا عندهم ممتنع في حقه سبحانه فلا يفعل لحكمة ولا غاية بل لا غاية لفعله ولا أمره وما ثم إلا محض المشيئة المجردة عن الحكمة والتعليل
ومنها أن الإله هو الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى وهو الذي يفعل بقدرته ومشيئته وحكمته وهو الموصوف بالصفات والأفعال المسمى بالأسماء التي قامت بها حقائقها ومعانيها وهذا لا يثبته على الحقيقة إلا أتباع الرسل وهم أهل العدل والتوحيد

فصل فالجهمية والمعتزلة تزعم أن ذاته لا تحب ووجهه لا يرى ولا يلتذ
بالنظر إليه ولا تشتاق القلوب إليه فهم في الحقيقة منكرون الإلهية
والقدرية تنكر دخول أفعال الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوان تحت قدرته ومشيئته وخلقه فهم منكرون في الحقيقة لكمال عزته وملكه
والجبرية تنكر حكمته وأن يكون له في أفعاله وأوامره غاية يفعل ويأمر لأجلها فهم منكرون في الحقيقة لحكمته وحمده
وأتباع ابن سينا والنصير الطوسي وفروخهما ينكرون أن يكون ماهية غير الوجود المطلق وأن يكون له وصف ثبوتي زائد على ماهية الوجود فهم في الحقيقة منكرون لذاته وصفاته وأفعاله لا يتحاشون من ذلك
والاتحادية أدهى وأمر فإنهم رفعوا القواعد من الأصل وقالوا ما ثم وجود خالق ووجود مخلوق بل الخلق المشبه هو عين الحق المنزه كل ذلك من عين واحدة بل هو العين الواحدة
فهذه الشهادة العظيمة كل هؤلاء هم بها غير قائمين وهي متضمنة لإبطال ما هم عليه ورده كما تضمنت إبطال ما عليه المشركون ورده وهي مبطلة لقول طائفتي الشرك والتعطيل ولا يقوم بهذه الشهادة إلا أهل الإثبات الذين يثبتون لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات ويعبدونه وحده لا يشركون به شيئا
فصل وإذا كانت شهادته سبحانه تتضمن بيانه للعباد ودلالتهم وتعريفهم
بما شهد به وإلا فلو شهد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها لم ينتفعوا ولم يقم عليهم بها الحجة كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها

لم ينتفع بها أحد ولم تقم بها حجة وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة السمع والبصر والعقل
أما السمع فبسمع آياته المتلوة القولية المتضمنة لإثبات صفات كماله ونعوت جلاله وعلوه على عرشه فوق سبع سمواته وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده تكلما وتكليما حقيقة لا مجازا
وفي هذا إبطال لقول من قال إنه لم يرد من عباده ما دلت عليه آياته السمعية من إثبات معانيها وحقائقها التي وضعت لها ألفاظها فإن هذا ضد البيان والإعلام ويعود على مقصود الشهادة بالإبطال والكتمان وقد ذم الله من كتم شهادة عنده من الله وأخبر أنه من أظلم الظالمين فإذا كانت عند العبد شهادة من الله تحقق ما جاء به رسوله من أعلام نبوته وتوحيد الرسل وأن إبراهيم وأهل بيته كانوا على الإسلام كلهم وكتم هذه الشهادة كان من أظلم الظالمين كما فعله أعداء رسول الله من اليهود الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبنائهم فكيف يظن بالله سبحانه أنه كتم شهادة الحق التي يشهد بها الجهمية والمعتزلة والمعطلة ولا يشهد بها لنفسه ثم يشهد لنفسه بما يضادها ويناقضها ولا يجامعها بوجه ما سبحانك هذا بهتان عظيم فإن الله سبحانه شهد لنفسه بأنه استوى على العرش وبأنه القاهر فوق عباده وبأن ملائكته يخافونه من فوقهم وأن الملائكة تعرج إليه بالأمر وتنزل من عنده به وأن العمل الصالح يصعد إليه وأنه يأتي ويجيء ويتكلم ويرضى ويغضب ويحب ويكره ويتأذى ويفرح ويضحك وأنه يسمع ويبصر وأنه يراه المؤمنون بأبصارهم يوم لقائه إلى غير ذلك مما شهد به لنفسه وشهد له به رسله وشهدتوشهدت له الجهمية بضد ذلك وقالوا شهادتنا أصح وأعدل من شهادة النصوص فإن النصوص تضمنت كتمان الحق وإظهار خلافه
فشهادة الرب تعالى تكذب هؤلاء أشد التكذيب وتتضمن أن الذي

شهد به قد بينه وأوضحه وأظهره حتى جعله في أعلى مراتب الظهور والبيان وأنه لو كان الحق فيما يقوله المعطلة والجهمية لم يكن العباد قد انتفعوا بما شهد به سبحانه فإن الحق في نفس الأمر عندهم لم يشهد به لنفسه والذي شهد به لنفسه وأظهره وأوضحه فليس يجوز بحق ولا يجوز أن يستفاد منه الحق واليقين
وأما آياته العيانية الخلقية والنظر فيها والاستدلال بها فإنها تدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية وآيات الرب هي دلائله وبراهينه التي بها يعرفه العباد وبها يعرفون أسماءه وصفاته وتوحيده وأمره ونهيه فالرسل تخبر عنه بكلامه الذي تكلم به وهو آياته القولية ويستدلون على ذلك بمفعولاته التي تشهد على صحة ذلك وهي آياته العيانية والعقل يجمع بين هذه وهذه فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة وهو سبحانه لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامته للحجة لم يبعث نبيا من الأنبياء إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به قال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وقال تعالى قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير وقال تعالى وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وقال تعالى وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير
حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود عليه السلام حتى قال له قومه يا هود ما جئتنا ببينة ومع هذا فبينته من أظهر البينات وقد أشار إليها بقوله إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون

من دونه فيكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فهذا من أعظم الآيات أن رجلا واحدا يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب غير جزع ولا فزع ولا خوار بل واثق مما قاله جازم به قد أشهد الله أولا على براءته من دينهم ومما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه معلم لقومه أنه وليه وناصره وأنه غير مسلطهم عليه
ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتها
ثم أكد عليهم ذلك بالاستهانة بهم واحتقارهم وازدرائهم وأنهم لو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه ثم يعاجلونه ولا يمهلونه وفي ضمن ذلك أنهم أضعف وأعجز وأقل من ذلك وأنكم لو رمتموه لانقلبتم بغيظكم مكبوتين مخذولين
ثم قرر دعوته أحسن تقرير وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده وأنه على صراط مستقيم فلا يخذل من توكل عليه وآمن به ولا يشمت به أعدائه ولا يكون معهم عليه فإن صراطه المستقيم الذي هو عليه في قوله وفعله يمنع ذلك ويأباه
وتحت هذا الخطاب أن من صراطه المستقيم أن ينتقم ممن خرج عنه وعمل بخلافه وينزل به بأسه فإن الصراط المستقيم هو العدل الذي عليه الرب تعالى ومنه انتقامه من أهل الشرك والإجرام ونصره أولياءه ورسله على أعدائهم وأنه يذهب بهم ويستخلف قوما غيرهم ولا يضره ذلك شيئا وأنه القائم سبحانه على كل شيء حفظا ورعاية وتدبيرا وإحصاء
فأي آية وبرهان دليل أحسن من آيات الأنبياء وبراهينهم وأدلتهم وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان وأظهرها لهم غاية الإظهار

بقوله وفعله وفي الصحيح عنه أنه قال ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة
ومن أسمائه تعالى المؤمن وهو في أحد التفسيرين المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم فهو الذي صدق رسله وأنبياءه فيما بلغوا عنه وشهد لهم بأنهم صادقون بالدلائل التي دل بها على صدقهم قضاء وخلقا فإنه سبحانه أخبر وخبره الصدق وقوله الحق أنه لا بد أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق فقال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أي القرآن فإنه هو المتقدم في قوله قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به ثم قال أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حق ووعده أن يرى العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجل وهو شهادته سبحانه على كل شيء فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له عليم بتفاصيله وهذا استدلال بأسمائه وصفاته والأول استدلال بقوله وكلماته والاستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته
فإن قلت قد فهمت الاستدلال بكلماته والاستدلال بمخلوقاته فبين لي كيفية الاستدلال بأسمائه وصفاته فإن ذلك أمر لا عهد لنا به في تخاطبنا وكتبنا
قلت أجل هو لعمر الله كما ذكرت وشأنه أجل وأعلى فإن الرب تعالى هو المدلول عليه وآياته هي الدليل والبرهان
فاعلم أن الله سبحانه في الحقيقة هو الدال على نفسه بآياته فهو الدليل لعباده في الحقيقة بما نصبه لهم من الدلالات والآيات وقد أودع في الفطر التي لم تتنجس

بالتعطيل والجحود أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته وأنه الموصوف بكل كمال المنزه عن كل عيب ونقص فالكمال كله والجمال والجلال والبهاء والعزة والعظمة والكبرياء كله من لوازم ذاته يستحيل أن يكون على غير ذلك فالحياة كلها له والعلم كله له والقدرة كلها له والسمع والبصر والإرادة والمشيئة والرحمة والغنى والجود والإحسان والبر كله خاص له قائم به وما خفي على الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه بل لا نسبة لما عرفوه من ذلك إلى ما لم يعرفوه
ومن كماله المقدس اطلاعه على كل شيء وشهادته عليه بحيث لا يغيب عنه وجه من وجوه تفاصيله ولا ذرة من ذراته باطنا وظاهرا ومن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به وأن يعيدوا معه غيره وأن يجعلوا معه إلها آخر وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه ثم ينصره على ذلك ويؤيده ويعلي كلمته ويرفع شأنه ويجيب دعوته ويهلك عدوه ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة ما تعجز عن مثله قوى البشر وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر ساع في الأرض بالفساد
ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء وقدرته على كل شيء وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء ومن ظن ذلك به وجوزه عليه فهو من أبعد الخلق من معرفته وإن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة
والقرآن مملوء من هذه الطريق وهي طريق الخاصة بل خاصة الخاصة هم الذين يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله
وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك فيبديه ويعبده لمن له فهم وقلب واع عن الله قال الله تعالى ولو تقول علينا بعض الأقاويل

لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين أفلا تراه كيف يخبر سبحانه أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه وقال تعالى أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ههنا انتهى جواب الشرط ثم أخبر خبرا جازما غير متعلق أنه يمحو الله الباطل ويحق الحق وقال تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره ولا عرفه كما ينبغي ولا عظمه كما يستحق فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة وهذا في القرآن كثير جدا يستدل بكماله المقدس وأوصافه وجلاله على صدق رسله وعلى وعده ووعيده ويدعو عباده إلى ذلك كما يستدل بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك كما في قوله هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون وأضعاف أضعاف ذلك في القرآن
ويستدل سبحانه بأسمائه وصفاته على بطلان ما نسب إليه من الأحكام والشرائع الباطلة وأن كماله المقدس يمنع من شرعها كقوله وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون وقوله عقيب ما نهى عنه وحرمه من الشرك والظلم والفواحش والقول عليه بلا علم كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها فأعلمك أن ما كان سيئة في نفسه فهو يكرهه وكماله يأبى أن يجعله شرعا له ودينا فهو سبحانه يدل عباده بأسمائه وصفاته على ما يفعله ويأمر به وما يحبه ويبغضه ويثيب عليه ويعاقب عليه ولكن هذه الطريق لا يصل إليها

إلا خاصة الخاصة فلذلك كانت طريقة الجمهور الدلالات بالآيات المشاهدة فإنها أوسع وأسهل تناولا والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض ويرفع درجات من يشاء وهو العليم الحكيم
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه مالم يجتمع في غيره فإنه هو الدعوة والحجة وهو الدليل والمدلول عليه وهو الشاهد والمشهود له وهو الحكم والدليل وهو الدعوة والبينة قال الله تعالى أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه أي من ربه وهو القرآن وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله على رسوله يكفي عن كل آية ففيه الحجة والدلالة على أنه من الله وأن الله سبحانه أرسل به رسوله وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة وينجبه من العذاب ثم قال قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السموات والأرض فإذا كان الله سبحانه عالما بجميع الأشياء كانت شهادته أصدق شهادة وأعدلها فإنها شهادة بعلم تام محيط بالمشهود به فيكون الشاهد به أعدل الشهداء وأصدقهم وهو سبحانه يذكر علمه عند شهادته وقدرته وملكه عند مجازاته وحكمته عند خلقه وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسوله وحلمه عند ذكر ذنوب عباده ومعاصيهم وسمعه عند ذكر دعائهم ومسألته وعزته وعلمه عند قضائه وقدره
فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابه وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب

فصل ومن هذا قوله تعالى ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله
شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب فاستشهد على رسالته

بشهادة الله له ولا بد أن تعلم هذه الشهادة وتقوم بها الحجة على المكذبين له وكذلك قوله قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وكذلك قوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا وكذلك قوله يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين وقوله تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين وقوله والله يعلم أنك لرسوله وقوله محمد رسول الله فهذا كله شهادة منه لرسوله قد أظهرها وبينها وبين صحتها غاية البيان بحيث قطع العذر بينه وبين عباده وأقام الحجة عليهم فكونه سبحانه شاهدا لرسوله معلوم بسائر أنواع الأدلة عقليها ونقليها وفطريها وضروريها ونظريها
ومن نظر في ذلك وتأمله علم أن الله سبحانه شهد لرسوله أصدق الشهادة وأعدلها وأظهرها وصدقه بسائر أنواع التصديق بقوله الذي أقام البراهين على صدقه فيه وبفعله وإقراره وبما فطر عليه عباده من الإقرار بكماله وتنزيهه عن القبائح وعما لا يليق به وفي كل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة ويزيل به العذر ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة والظفر والتأييد ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال والعقوبات المعجلة الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا فيظهره ظهورين ظهورا بالحجة والبيان والدلالة وظهورا بالنصر والظفر والغلبة والتأييد حتى يظهره على مخالفيه ويكون منصورا
وقوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون فما فيه من الخبر عن علم الله الذي لا يعلمه غيره من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله كما قال في الآية الأخرى أم يقولون افتراه قل فاتوا

بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا انما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون وليس المراد مجرد الإخبار بأنه أنزله وهو معلوم له كما يعلم سائر الأشياء فإن كل شيء معلوم له من حق وباطل وإنما المعنى أنزله مشتملا على علمه فنزوله مشتملا على علمه هو آية كونه من عنده وأنه حق وصدق ونظير هذا قوله قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض ذكر ذلك سبحانه تكذيبا وردا على من قال افتراه

فصل ومن شهادته أيضا ما أودعه في قلوب عباده من التصديق الجازم
واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه ووحيه فإن العادة تحيل حصول ذلك بما هو من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين والإخبار عنه بخلاف ما هو عليه من أسمائه وصفاته بل ذلك يوقع أعظم الريب والشك وتدفعه الفطر والعقول السليمة كما تدفع الفطر التي فطر عليها الحيوان الأغذية الخبيثة الضارة التي لا تغذى كالأبوال والأنتان فإن الله سبحانه فطر القلوب على قبول الحق والانقياد له والطمأنينة به والسكون إليه ومحبته وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه والريبة به وعدم السكون إليه ولو بقيت الفطر على حالها لما آثرت على الحق سواه ولما سكنت إلا إليه ولا اطمأنت إلا به ولا أحبت غيره ولهذا ندب الله عز و جل عباده إلى تدبر القرآن فإن كل من تدبره أوجب له تدبره علما ضروريا ويقينا جازما أنه حق وصدق بل أحق كل حق وأصدق كل صدق وأن الذي جاء به أصدق خلق الله وأبرهم وأكملهم علما وعملا ومعرفة كما قال تعالى أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وقال تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها فلو رفعت الأقفال عن القلوب

لباشرتها حقائق القرآن واستنارت فيها مصابيح الإيمان وعلمت علما ضروريا يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية من الفرح والألم والحب والخوف أنه من عند الله تكلم به حقا وبلغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد وبه احتج هرقل على أبي سفيان حيث قال له فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فقال لا فقال له وكذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلوب لا يسخطه أحد وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وقوله ويرى الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به وقوله ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق وقوله أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى وقوله ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب يعني أن الآية التي يقترحونها لا توجب هداية بل الله هو الذي يهدي ويضل ثم نبههم على أعظم آية وأجلها وهي طمأنينة قلوب المؤمنين بذكره الذي أنزله فقال الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله أي بكتابه وكلامه ألا بذكر الله تطمئن القلوب فطمأنينة القلوب الصحيحة والفطر السليمة به وسكونها إليه من أعظم الآيات إذ يستحيل في العادة أن تطمئن القلوب وتسكن إلى الكذب والافتراء والباطل فإن قيل فلم لم يذكر الله سبحانه شهادة رسله مع الملائكة فيقول شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة والرسل وهم أعظم شهادة من أولي العلم
قيل في ذلك عدة فوائد
إحداها أن أولي العلم أعم من الرسل والأنبياء فيدخلون هم وأتباعهم
وثانيها أن في ذكر أولي العلم في هذه الشهادة وتعليقها بهم ما يدل على أنها من موجبات العلم ومقتضايته وأن من كان من أولي العلم فإنه يشهد

بهذه الشهادة كما يقال إذا طلع الهلال واتضح فإن كل من كان من أهل النظر يراه وإذا فاحت رائحة ظاهرة فكل من كان من أهل الشم يشم هذه الرائحة قال تعالى وبرزت الجحيم لمن يرى أي كل من له رؤية يراها حينئذ عيانا ففي هذا بيان أن من لم يشهد له الله سبحانه بهذه الشهادة فهو من أعظم الجهال وإن علم من أمور الدنيا مالم يعلمه غيره فهو من أولي الجهل لا من أولي العلم وقد بينا أنه لم يقم بهذه الشهادة ويؤديها على وجهها إلا أتباع الرسل أهل الإثبات فهم أولو العلم وسائر من عداهم أولو الجهل وإن وسعوا القول وأكثروا الجدال
ومنها الشهادة من الله سبحانه لأهل هذه الشهادة أنهم أولو العلم فشهادته لهم أعدل وأصدق من شهادة الجهمية والمعطلة والفرعونية لهم بأنهم جهال وأنهم حشوية وأنهم مشبهة وأنهم مجسمة ونوابت ونواصب فكفاهم أصدق الصادقين لهم بأنهم من أولي العلم إذ شهدوا له بحقيقة ما شهد به لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل واثبتوا له حقيقة هذه الشهادة ومضمونها وخصومهم نفوا عنه حقائقها وأثبتوا له ألفاظها ومجازاتها

فصل وفي ضمن هذه الشهادة الإلهية الثناء على أهل العلم الشاهدين
بها وتعديلها فإنه سبحانه قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته واستشهد بهم جل وعلا على أجل مشهود به وجعلهم حجة على من أنكر هذه الشهادة كما يحتج بالبينة على من أنكر الحق فالحجة قامت بالرسل على الخلق وهؤلاء نواب الرسل وخلفاؤهم في إقامة حجج الله على العباد
فصل وقد فسرت شهادة أولي العلم بالإقرار وفسرت بالتبيين والإظهار
والصحيح أنها تتضمن الأمرين فشهادتهم إقرار وإظهار وإعلام وهم

شهداء الله على الناس يوم القيامة قال الله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وقال تعالى هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأخبر أنه جعلهم عدولا خيارا ونوه بذكرهم قبل أن يوجدهم لما سبق في علمه من اتخاذه لهم شهداء يشهدون على الأمم يوم القيامة فمن لم يقم بهذه الشهادة علما وعملا ومعرفة وإقرارا ودعوة وتعليما وإرشادا فليس من شهداء الله والله المستعان
قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام اختلف المفسرون هل هو كلام مستأنف أو داخل في مضمون هذه الشهادة فهو بعض المشهود به
وهذا الاختلاف مبني على القراءتين في كسر إن فتحها فالأكثرون على كسرها على الاستئناف وفتحها الكسائي وحده والوجه هو الكسر لأن الكلام الذي قبله قد تم فالجملة الثانية مقررة مؤكدة لمضمون ما قبلها وهذا أبلغ في التقرير وأذهب في المدح والثناء ولهذا كان كسر إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم أحسن من الفتح وكان الكسر في قول الملبي لبيك إن الحمد والنعمة لك أحسن من الفتح
وقد ذكر في توجيه قراءة الكسائي ثلاثة أوجه
أحدها أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين فهي واقعة على أن الدين عند الله الإسلام وهو المشهود به ويكون فتح أنه من قوله أنه لا إله إلا هو على إسقاط حرف الجر أي بأنه لا إله إلا هو وهذا توجيه الفراء وهو ضعيف جدا فإن المعنى على خلافه وأن المشهود به هو نفس قوله أنه لا إله إلا هو فالمشهود به أن وما في حيزها والعناية إلى هذا صرفت وبه حصلت

ولكن لهذا القول مع ضعفه وجه وهو أن يكون المعنى شهد الله بتوحيده أن الدين عند الله الإسلام والإسلام هو توحيده سبحانه فتضمنت الشهادة توحيده وتحقيق دينه أنه الإسلام لا غيره
الوجه الثاني أن تكون الشهادة واقعة على الجملتين معا كلاهما مشهود به على تقدير حذف الواو وإرادتها والتقدير وأن الدين عنده الإسلام فتكون جملة استغنى فيها عن حرف العطف بما تضمنت من ذكر المعطوف عليه كما وقع الاستغناء عنها في قوله ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم فيحسن ذكر الواو وحذفها كما حذفت هنا وذكرت في قوله ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم
الوجه الثالث وهو مذهب البصريين أن يجعل أن الثانية بدلا من الولى والتقدير شهد الله أن الدين عند الله الإسلام وقوله أنه لا إله إلا هو توطئة للثانية وتمهيد ويكون هذا من البدل الذي الثاني فيه نفس الأول فإن الدين الذي هو نفس الإسلام عند الله هو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها ولك أن تجعله على هذا الوجه من باب بدل الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد
فإن قيل فكان ينبغي على هذه القراءة أن يقول إن الدين عند الله الإسلام لأن المعنى شهد الله أن الدين عنده الإسلام فلم عدل إلى لفظ الظاهر
قيل هذا يرجح قراءة الجمهور وأنها أفصح وأحسن ولكن يجوز إقامة الظاهر مقام المضمر وقد ورد في القرآن وكلام العرب كثيرا فإن الله تعالى قال واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب وقال واتقوا الله إن الله غفور رحيم وقال تعالى والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين قال ابن عباس افتخر المشركون بآبائهم فقال كل فريق لا دين إلا دين آبائنا وما كانوا عليه فأكذبهم الله تعالى

فقال إن الدين عند الله الإسلام يعني الذي جاء به محمد وهو دين الأنبياء من أولهم إلى آخرهم ليس لله دين سواه ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
وقد دل قوله إن الدين عند الله الإسلام على أنه دين جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه قال أول الرسل نوح فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين وقال إبراهيم وإسماعيل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وقال يعقوب لبنيه عند الموت ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك إلى قوله ونحن له مسلمون وقال موسى لقومه إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وقال تعالى فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون وقالت ملكة سبأ رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين
فالإسلام دين أهل السموات ودين أهل التوحيد من أهل الأرض لا يقبل الله من أحد دينا سواه فأديان أهل الأرض ستة واحد للرحمن وخمسة للشيطان فدين الرحمن هو الإسلام والتي للشيطان اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة ودين المشركين
فهذا بعض ما تضمنته هذه الآية العظيمة من أسرار التوحيد والمعارف ولا تستطل الكلام فيها فإنه أهم من الكلام على كلام صاحب المنازل فلنرجع إلى شرح كلامه وبيان ما فيه
قال وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون إلى ما أشاروا إليه

من هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل
يريد أن التوحيد هو الغاية المطلوبة من جميع المقامات والأعمال والأحوال فغايتها كلها التوحيد وإنما كلام العلماء والمحققين من أهل السلوك كله لقصد تصحيحه وهذا بين من أول المقامات إلى آخرها فإنها تشير إلى تصحيحه وتجريده
وقوله وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل يريد أن تجريد التوحيد لا علة معه إذ لو كان معه علة تصحبه لم يجرد فتجرده ينفي عنه العلل بالكلية بخلاف ما سواه من المقامات والأحوال فإن العلل تصحبها وعندهم أن علل المقامات لا تزول بتجريد التوحيد مثاله أن علة مقام التوكل أن يشهد متوكلا ومتوكلا عليه ومتوكلا فيه ويشهد نفس توكله وهذا كله علة في مقام التوكل فإنه لا يصح له مقامه إلا بأن لا يشهد مع الوكيل الحق الذي يتوكل عليه غيره ولا يرى توكله عليه سببا لحصول المطلوب ولا وسيلة إليه
وفيه علة أخرى أدق من هذه عند أرباب الفناء وهي أن المتوكل قد وكل أمره إلى مولاه والتجأ إلى كفايته وتدبيره له والقيام بمصالحه قالوا وهذا في طريق الخاصة عمي عن التوحيد ورجوع إلى الأسباب لأن الموحد قد رفض الأسباب ووقف مع المسبب وحده والمتوكل وإن رفض الأسباب فإنه واقف مع توكله فصار توكله بدلا من تلك الأسباب التي رفضها فهو متعلق بما رفضه
وتجريد التوكل عندهم وحقيقته هو تخليص القلب من علة التوكل وهو أن يعلم أن الله سبحانه فرغ من الأسباب وقدرها وهو سبحانه يسوق المقادير إلى المواقيت فالمتوكل حقيقة عندهم هو من أراح نفسه من كد النظر ومطالعة السبب سكونا إلى ما سبق له من القسم مع استواء الحالين عنده وهو أن يعلم

أن الطلب لا ينفع والتوكل لا يجمع ومتى طالع بتوكله عرضا كان توكله مدخولا وقصده معلولا فإذا خلص من رق هذه الأسباب ومطالعة العوارض ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الرب سبحانه كفاه تعالى كل مهم كما أوحى الله تعالى إلى موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد
وهذا الكلام وأمثاله بعضه صواب وبعضه خطأ وبعضه محتمل
فقوله إن التوكل في طريق الخاصة عمى عن التوحيد ورجوع إلى الأسباب خطأ محض بل التوكل حقيقة التوحيد ولا يتم التوحيد إلا به وقد تقدم في باب التوكل بيان ذلك وأنه من مقامات الرسل وهم خاصة الخاصة وإنما المتحذلقون المتنطعون جعلوه من مقامات العامة ولا أخص ممن أرسل الله واصطفى ولا أعلى من مقاماتهم
وقوله إنه رجوع إلى الأسباب يقال بل هو قيام بحق الأمر فإن الله سبحانه اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها وجعل التوكل والدعاء من أقرب الأسباب التي تحصل المقصود فالتوكل امتثال لأمر الله وموافقة لحكمته وعبودية القلب له فكيف يكون مصحوب العلل وكيف يكون من مقامات العامة
وقوله لأن الموحد قد رفض الأسباب كلها يقال له هذا الرفض لا يخرج عن الكفر تارة والفسق تارة والتقصير تارة فإن الله أمر بالقيام بالأسباب فمن رفض ما أمره الله أن يقوم به فقد ضاد الله في أمره وكيف يحل لمسلم أن يرفض الأسباب كلها
فإن قلت ليس المراد رفض القيام بها وإنما المراد رفض الوقوف معها
قلت وهذا أيضا غير مستقيم فإن الوقوف مع الأسباب قسمان
وقوف مأمور به مطلوب وهو أن يقف معها حيث أوقفه الله ورسوله فلا يتعدى حدودها ولا يقصر عنها فيقف معها مراعاة لحدودها وأوقاتها وشرائطها وهذا الوقوف لا تتم العبودية إلا به

ووقوف معها بحيث يعتقد أنها هي الفاعلة المؤثرة بنفسها وأنها تنفع وتضر بذاتها فهذا لا يعتقده موحد ولا يحتاج أن يحترز منه من يتكلم في المعرفة والسلوك نعم لا ينقطع بها عن رؤية المسبب ويعتقدها هي الغاية المطلوبة منه بل هي وسيلة توصل إلى الغاية ولا تصل إلى الغاية المطلوبة بدونها فهذا حق لكن لا يجامع رفضها والاعراض عنها بل يقوم بها معتقدا أنها وسيلة موصلة إلى الغاية فهي كالطريق الحسي الذي يقطعه المسافر إلى مقصده فإن قيل له ارفض الطريق ولا تلتفت إليها انقطع عن المسير بالكلية وإن جعلها غايته ولم يقصد بالسير فيها وصوله إلى مقصد معين كان معرضا عن الغاية مشتغلا بالطريق وإن قيل له التفت إلى طريقك ومنازل سيرك وراعها وسر فيها ناظرا إلى المقصود عاملا على الوصول إليه فهذا هو الحق
وقوله المتوكل وإن رفض الأسباب واقف مع توكله
فيقال إن وقف مع توكله امتثالا لأمر الله وأداء لحق عبوديته معتقدا أن الله هو الذي من عليه بالتوكل وأقامه فيه وجعله سببا موصلا له إلى مطلوبه فنعم الوقوف وقف وما أحسنه من وقوف وإن وقف معه اعتقادا أن بنفس توكله وعمله يصل مع قطع النظر عن فضل ربه وإعانته ومنه عليه بالتوكل فهو وقوف منقطع عن الله
وقوله إن التوكل بدل من الأسباب التي رفضها فالمتوكل متنقل من سبب إلى سبب يقال له إن كانت الأسباب التي رفضها غير مأمور بها فالتوكل المجرد خير منها وإن كانت مأمورا بها فرفضه لها إلى التوكل معصية وخروج عن الأمر
نعم للتوكل ثلاث علل إحداها أن يترك ما أمر به من الأسباب استغناء بالتوكل عنها فهذا توكل عجز وتفريط وإضاعة لا توكل عبودية وتوحيد كمن يترك الأعمال التي هي سبب النجاة ويتوكل في حصولها ويترك القيام بأسباب

الرزق من العمل والحراثة والتجارة ونحوها ويتوكل في حصوله ويترك طلب العلم ويتوكل في حصوله فهذا توكله عجز وتفريط كما قال بعض السلف لا تكن ممن يجعل توكله عجزا وعجزه توكلا
العلة الثانية أن يتوكل في حظوظه وشهواته دون حقوق ربه كمن يتوكل في حصول مال أو زوجة أو رياسة وأما التوكل في نصرة دين الله وإعلاء كلمته وإظهار سنة رسوله وجهاد أعدائه فليس فيه علة بل هو مزيل للعلل
العلة الثالثة أن يرى توكله منه ويغيب بذلك عن مطالعة المنة وشهود الفضل وإقامة الله له في مقام التوكل وليس مجرد رؤية التوكل علة كما يظنه كثير من الناس بل رؤية التوكل وأنه من عين الجود ومحض المنة ومجرد التوفيق عبودية وهي أكمل من كونه يغيب عنه ولا يراه فالأكمل أن لا يغيب بفضل ربه عنه ولا به عن شهود فضله كما تقدم بيانه
فهذه العلل الثلاث هي التي تعرض في مقام التوكل وغيره من المقامات وهي التي يعمل العارفون بالله وأمره على قطعها وهكذا الكلام في سائر علل المقامات وإنما ذكرنا هذا مثالا لما يذكر من عللها وقد أفرد لها صاحب المنازل مصنفا لطيفا وجعل غالبها معلولا والصواب أن عللها هذه الثلاثة المذكورة أن يترك بها ما هو أعلى منها وأن يعلقها بحظه والانقطاع بها عن المقصود وأن لا يراها من عين المنة ومحض الجود وبالله التوفيق
قوله والتوحيد على ثلاثة أوجه الوجه الأول توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والوجه الثاني توحيد الخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق والوجه الثالث توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة
فيقال لا ريب أن أهل التوحيد يتفاوتون في توحيدهم علما ومعرفة وحالا تفاوتا لا يحصيه إلا الله فأكمل الناس توحيدا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والمرسلون منهم أكمل في ذلك وأولو العزم من الرسل أكمل

توحيدا وهم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وأكملهم توحيدا الخليلان محمد وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهما فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما ومعرفة وحالا ودعوة للخلق وجهادا فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل ودعوا إليه وجاهدوا الأمم عليه ولهذا أمر الله سبحانه نبيه أن يقتدي بهم فيه كما قال سبحانه بعد ذكر إبراهيم ومناظرته أباه وقومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته ثم قال أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها كافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله أن يقتدى بهم
ولما قاموا بحقيقته علما وعملا ودعوة وجهادا جعلهم الله أئمة للخلائق يهدون بأمره ويدعون إليه وجعل الخلائق تبعا لهم يأتمون بأمرهم وينتهون إلى ما وقفوا بهم عنده وخص بالسعادة والفلاح والهدى أتباعهم وبالشقاء والضلال مخالفيهم وقال لإمامهم وشيخهم إبراهيم خليله إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين أي لا ينال عهدي بالإمامة مشرك ولهذا أوصى نبيه محمدا أن يتبع ملة إبراهيم وكان يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين فملة إبراهيم التوحيد ودين محمد ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله وفطرة الإسلام هي ما فطر الله عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له والاستسلام له عبودية وذلا وانقيادا وإنابة
فهذا هو توحيد خاصة الخاصة الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء

قال تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين
فقسم سبحانه الخلائق قسمين سفيها لا أسفه منه ورشيدا فالسفيه من رغب عن ملته إلى الشرك والرشيد من تبرأ من الشرك قولا وعملا وحالا فكان قوله توحيدا وعمله توحيدا وحاله توحيدا ودعوته إلى التوحيد وبهذا أمر الله سبحانه جميع المرسلين من أولهم إلى آخرهم قال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعلمون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي أي هذا الكتاب الذي أنزل علي وهذه كتب الأنبياء كلهم هل وجدتم في شيء منها اتخاذ آلهة مع الله أم كلها ناطقة بالتوحيد آمرة به وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت والطاغوت اسم لكل ما عبدوه من دون الله فكل مشرك إلهه طاغوته
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على ما ذكره صاحب المنازل في التوحيد فقال بعد أن حكى كلامه إلى آخره أما التوحيد الأول الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل من أولهم إلى آخرهم ونزلت به الكتب كلها وبه أمر الله الأولين والآخرين وذكر الآيات الواردة بذلك

ثم قال وقد أخبر الله عن كل رسول من الرسل انه قال لقومه اعبدوا الله مالكم من إله غيره وهذه أول دعوة الرسل وآخرها قال النبي أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وقال من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة والقرآن مملوء من هذا التوحيد والدعوة إليه وتعليق النجاة والسعادة في الآخرة به وحقيقته إخلاص الدين كله لله والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء وهو أن تثبت إلهية الحق تعالى في قلبه وتنفي إلهية ما سواه فتجمع بين النفي والإثبات فالنفي هو الفناء والإثبات هو البقاء وحقيقته أن تفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وكذلك بموالاته وسؤاله والاستغناء به والتوكل عليه ورجائه ودعائه والتفويض إليه والتحاكم إليه واللجإ إليه والرغبة فيما عنده قال تعالى قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وقال تعالى أفغير الله أبتغي حكما وقال تعالى قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء وقال تعالى قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين وقال تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له الآية وقال تعالى فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وقال تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا وقال تعالى ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه وقال تعالى قل أرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل كاشفات ضره أو أرادني

برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون وقال وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله وقال تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين الخالص وقال عن أصحاب الكهف قالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا وقال عن صاحب يس ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون وقال تعالى أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وقال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون وقال تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز وقال تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا
وهذا في القرآن كثير بل هو أكثر من أن يذكر وهو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وذروة سنامه وقطب رحاه وأمرنا تعالى أن نتأسى بإمام هذا التوحيد في نفيه وإثباته كما قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وقال تعالى واتل عليهم نبأ إبرهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين

قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباءكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين وإذا تدبرت القرآن من أوله إلى آخره رأيته يدور على هذا التوحيد وتقريره وحقوقه
قال شيخنا والخليلان هم أكمل خاصة الخاصة توحيدا ولا يجوز أن يكون في الأمة من هو أكمل توحيدا من نبي من الأنبياء فضلا عن الرسل فضلا عن أولي العزم فضلا عن الخليلين وكمال هذا التوحيد أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء يحب من أحب وما أحب ويبغض من أبغض وما أبغض ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي ويأمر بما يأمر به وينهى عما نهي عنه

فصل قوله وهذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد قد تبين أن هذا
توحيد خاصة الخاصة الذي لا شيء فوقه ولا أخص منه وأن الخليلين أكمل الناس فيه توحيدا فليهن العامة نصيبهم منه
قوله يصح بالشواهد أي بالأدلة والآيات والبراهين وهذا مما يدل على كماله وشرفه أن قامت عليه الأدلة ونادت عليه الشواهد وأوضحته الآيات والبراهين وما عداه فدعاوي مجردة لا يقوم عليها دليل ولا تصح بشاهد فكل توحيد لا يصح بشاهد فليس بتوحيد فلا يجوز أن يكون توحيدا أكمل من التوحيد الذي يصح بالشواهد والآيات وتوحيد القرآن من أوله إلى آخره كذلك
قوله هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم

فنعم لعمر الله ولظهوره وجلائه أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وأمر الله به الأولين والآخرين من عباده وأما الرمز والإشارة والتعقيد الذي لا يكاد أن يفهمه أحد من الناس إلا بجهد وكلفة فليس مما جاءت به الرسل ولا دعوا إليه فظهور هذا التوحيد وانجلاؤه ووضوحه وشهادة الفطر والعقول به من أعظم الأدلة أنه أعلى مراتب التوحيد وذروة سنامه ولذلك قوي على نفي الشرك الأعظم فإن الشيء كلما عظم لا يدفعه إلا العظيم فلو كان شيء أعظم من هذا التوحيد لدفع الله به الشرك الأعظم ولعظمته وشرفه نصبت عليه القبلة وأسست عليه الملة ووجبت به الذمة وانفصلت به دار الكفر من دار الإسلام وانقسم به الناس إلى سعيد وشقي ومهتد وغوي ونادت عليه الكتب والرسل
قوله وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال يعني هو مستتر في قلوب أهله وإن كان أكثرهم لا يحسن الاستدلال عليه تقريرا وإيضاحا وجوابا عن المعارض ودفعا لشبه المعاند ولا ريب أن أكثر الناس لا يحسنون ذلك وهذا قدر زائد على وجود التوحيد في قلوبهم فما كل من وجد شيئا وعلمه وتيقنه أحسن أن يستدل عليه ويقرره ويدفع الشبه القادحة فيه فهذا لون ووجوده لون ولكن لا بد مع ذلك من نوع استدلال قام عنده وإن لم يكن على شروط الأدلة التي ينظمها أهل الكلام وغيرهم وترتيبها فهذه ليست شرطا في التوحيد لا في معرفته والعلم به ولا في القيام به عملا وحالا فاستدلال كل أحد بحسبه ولا يحصى أنواع الاستدلال ووجوهه ومراتبه إلا الله فلكل قوم هاد ولكل علم صحيح ويقين دليل يوجبه وشاهد يصح به وقد لا يمكن صاحبه التعبير عنه عجزا وعيا وإن عبر عنه فقد لا يمكنه التعبير عنه باصطلاح أهل العلم وألفاظهم وكثيرا ما يكون الدليل الذي عرف به الحق أصح من كثير من أدلة المتكلمين ومقدماتها وأبعد عن الشبه وأقرب تحصيلا للمقصود وإيصالا إلى المدلول عليه
بل من استقرأ أحوال الناس رأى أن كثيرا من أهل الإسلام أو أكثرهم

أعظم توحيدا وأكثر معرفة وأرسخ إيمانا من أكثر المتكلمين وارباب النظر والجدال ويجد عندهم من أنواع الأدلة والآيات التي يصح بها إيمانهم ما هو أظهر وأوضح وأصح مما عند المتكلمين وهذه الآيات التي ندب الله عباده إلى النظر فيها والاستدلال بها على توحيده وثبوت صفاته وأفعاله وصدق رسله هي آيات مشهودة بالحس معلومة بالعقل مستقرة في الفطر لا يحتاج الناظر فيها إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم ألبتة وكل من له حس سليم وعقل يميز به يعرفها ويقر بها وينتقل من العلم بها إلى العلم بالمدلول وفي القرآن ما يزيد على عشرات ألوف من هذه الآيات البينات ومن لم يحفظ القرآن فإنه إذا سمعها وفهمها وعقلها انتقل ذهنه منها إلى المدلول أسرع انتقال وأقر به
وبالجملة فما كل من علم شيئا أمكنه أن يستدل عليه ولا كل من أمكنه الاستدلال عليه يحسن ترتيب الدليل وتقريره والجواب عن المعارض والشواهد التي ذكرها هي الأدلة كالاستدلال بالمصنوع على الصانع والمخلوق على الخالق وهذه طريقة القرآن الذي لا توحيد أكمل من توحيده
قوله بعد أن يسلموا من الشبهة والحيرة والريبة الشبهة الشكوك التي توقع في اشتباه الحق بالباطل فيتولد عنها الحيرة والريبة وهذا حق فإن هذا التوحيد لا ينفع إن لم يسلم قلب صاحبه من ذلك وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به فيسلم من الشبه المعارضة لخبره والإرادات المعارضة لأمره بل ينقاد للخبر تصديقا واستيقانا وللطلب إذعانا وامتثالا
قوله بصدق شهادة صححها قبول القلب أي سلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة تواطأ عليها القلب واللسان فصحت شهادتهم بقبول قلوبهم لها واعتقادهم صحتها والجزم بها بخلاف شهادة المنافق التي لم يقبلها قلبه ولم يواطئ عليها لسانه

قوله وهو توحيد العامة الذي يصح بالشواهد قد عرفت أن هذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب واتفقت عليه الشرائع ثم بين مراده بالشواهد أنها الرسالة والصنائع فقال والشواهد الأدلة على التوحيد والرسالة أرشدت إليها وعرفت بها ومقصوده أن الشواهد نوعان آيات متلوة وهي الرسالة وآيات مرئية وهي الصنائع
قوله ويجب بالسمع ويوجد بتبصير الحق وينمو على مشاهد الشواهد
هذه ثلاث مسائل إحداها ما يجب به والثانية ما يوجد به والثالثة ما ينمو به
فأما المسألة الأولى فاختلف فيها الناس فقالت طائفة يجب بالعقل ويعاقب على تركه والسمع مقرر لما وجب بالعقل مؤكد له فجعلوا وجوبه والعقاب على تركه ثابتين بالعقل والسمع مبين ومقرر للوجوب والعقاب وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم من أتباع الأئمة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين
وقالت طائفة لا يثبت بالعقل لا هذا ولا هذا بل لا يجب بالعقل فيها شيء وإنما الوجوب بالشرع ولذلك لا يستحق العقاب على تركه وهذا قول الأشعرية ومن وافقهم على نفي التحسين والتقبيح والقولان لأصحاب أحمد والشافعي وأبي حنيفة
والحق أن وجوبه ثابت بالعقل والسمع والقرآن على هذا يدل فإنه يذكر الأدلة والبراهين العقلية على التوحيد ويبين حسنه وقبح الشرك عقلا وفطرة ويأمر بالتوحيد وينهى عن الشرك ولهذا ضرب الله سبحانه الأمثال وهي الأدلة العقلية وخاطب العباد بذلك خطاب من استقر في عقولهم وفطرهم حسن التوحيد ووجوبه وقبح الشرك وذمه والقرآن مملوء بالبراهين العقلية الدالة على ذلك كقوله ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وقوله

ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم وقوله يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعواله إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز إلى أضعاف ذلك من براهين التوحيد العقلية التي أرشد إليها القرآن ونبه عليها
ولكن ههنا أمر آخر وهو أن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع كما دل عليه قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقوله كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقوله وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقوله ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون فهذا يدل على أنهم ظالمون قبل إرسال الرسل وأنه لا يهلكهم بهذا الظلم قبل إقامة الحجة عليهم فالآية رد على الطائفتين معا من يقول إنه لا يثبت الظلم والقبح إلا بالسمع ومن يقول إنهم معذبون على ظلمهم بدون السمع فالقرآن يبطل قول هؤلاء وقول هؤلاء كما قال تعالى ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فأخبر أن ما قدمت أيديهم قبل إرسال الرسل سبب لإصابتهم بالمصيبة ولكن لم يفعل سبحانه ذلك قبل إرسال الرسول الذي يقيم به حجته عليهم كما قال تعالى رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس

على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة وقوله أن تقول نفس يا حسري على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الخاسرين إلى قوله بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين وهذا في القرآن كثير يخبر أن الحجة إنما قامت عليهم بكتابه ورسوله كما نبههم بما في عقولهم وفطرهم من حسن التوحيد والشكر وقبح الشرك والكفر
وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة في كتاب مفتاح دار السعادة وذكرنا هناك نحوا من ستين وجها تبطل قول من نفى القبح العقلي وزعم أنه ليس في الأفعال ما يقتضي حسنها ولا قبحها وأنه يجوز أن يأمر الله بعين ما نهى عنه وينهى عن عين ما أمر به وأن ذلك جائز عليه وإنما الفرق بين المأمور والمنهي بمجرد الأمر والنهي لا بحسن هذا وقبح هذا وأنه لو نهى عن التوحيد والإيمان والشكر لكان قبيحا ولو أمر بالشرك والكفر والظلم والفواحش لكان حسنا وبينا أن هذا القول مخالف للعقول والفطر والقرآن والسنة
والمقصود الكلام على قول الشيخ ويجب بالسمع وأن الصواب وجوبه بالسمع والعقل وإن اختلفت جهة الإيجاب فالعقل يوجبه بمعنى اقتضائه لفعله وذمه على تركه وتقبيحه لضده والسمع يوجبه بهذا المعنى ويزيد إثبات العقاب على تركه والإخبار عن مقت الرب تعالى لتاركه وبغضه له وهذا قد يعلم بالعقل فإنه إذا تقرر قبح الشيء وفحشه بالعقل وعلم ثبوت كمال الرب جل جلاله بالعقل أيضا اقتضى ثبوت هذين الأمرين علم العقل بمقت الرب تعالى لمرتكبه وأما تفاصيل العقاب وما يوجبه مقت الرب منه فإنما يعلم بالسمع

واعلم أنه إن لم يكن حسن التوحيد وقبح الشرك معلوما بالعقل مستقرا في الفطر فلا وثوق بشيء من قضايا العقل فإن هذه القضية من أجل القضايا البديهيات وأوضح ما ركب الله في العقول والفطر ولهذا يقول سبحانه عقيب تقرير ذلك افلا تعقلون أفلا تذكرون وينفي العقل عن أهل الشرك ويخبر عنهم بأنهم يعترفون في النار أنهم لم يكونوا يسمعون ولا يعقلون وأنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل وأخبر عنهم أنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون وأخبر عنهم إن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئا وهذا إنما يكون في حق من خرج عن موجب العقل الصريح والفطرة الصحيحة ولو لم يكن في صريح العقل ما يدل على ذلك لم يكن في قوله تعالى انظروا واعتبروا وسيروا في الأرض فانظروا فائدة فإنهم يقولون عقولنا لا تدل على ذلك وإنما هو مجرد إخبارك فما هذا النظر والتفكر والاعتبار والسير في الأرض وما هذه الأمثال المضروبة والأقيسة العقلية والشواهد العيانية أفليس في ذلك أظهر دليل على حسن التوحيد والشكر
وقبح الشرك والكفر مستقر في العقول والفطر معلوم لمن كان له قلب حي وعقل سليم وفطرة صحيحة قال تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون وقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون وقال تعالى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وقال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون وقال تعالى قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون وقال تعالى ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون

ومن بعض الأدلة العقلية ما أبقاه الله تعالى من آثار عقوبات أهل الشرك وآثار ديارهم وما حل بهم وما أبقاه من نصر أهل التوحيد وإعزازهم وجعل العاقبة لهم قال تعالى وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وقال في ثمود فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون وقال في قوم لوط إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون وقال تعالى إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين وإن كان أصحاب الأيلة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين وقال تعالى في قوم لوط وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعلقون وهو سبحانه يذكر في سورة الشعراء ما أوقع بالمشركين من أنواع العقوبات ويذكر إنجاءه لأهل التوحيد ثم يقول إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم فيذكر شرك هؤلاء الذين استحقوا به الهلاك وتوحيد هؤلاء الذين استحقوا به النجاة ثم يخبر أن في ذلك آية وبرهانا للمؤمنين ثم يذكر مصدر ذلك كله وأنه عن أسمائه وصفاته فصدور هذا الإهلاك عن عزته وذلك الإنجاء عن رحمته ثم يقرر في آخر السورة نبوة رسوله بالأدلة العقلية أحسن تقرير ويجيب عن شبه المكذبين له أحسن جواب وكذلك تقريره للمعاد الدله العقلية والحسية فضرب الأمثال والأقيسة فدلالة القرآن سمعية عقلية

فصل المسألة الثانية
قوله ويوجد بتبصير الحق وجوب الشيء شرعا لا يستلزم وجوده حسا فلذلك ذكر ما يوجد به بعد ذكر ما يجب به وهو تبصير الحق تعالي ومراده التبصير التام الذي لا تختلف عنه الهداية وإلا فقد يبصر العبد الحق ولا توجد منه

الهداية كما قال تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فهو سبحانه بصرهم فآثروا الضلال على الهدى وقال تعالى وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقال تعالى وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وقال تعالى عن قوم فرعون وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فهذا التبصير لم يوجب وجود الهداية لأنه سبحانه لم يرد وجودها وإنما أراد وجود مجرد البصيرة فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
وأما التبصير التام فإنه يستلزم وجود الهداية وهو الذي أمرنا أن نسأله إياه في كل صلاة وقال فيه أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا

لنهتدي لولا أن هدانا الله وقال تعالى والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فعم بدعوته البيان والدلالة وخص بهدايته التوفيق والإلهام فلو قال الشيخ ويوجد بتوفيق الله بعد تبصيره لكان أحسن ولعله هو مراده والله أعلم

فصل المسألة الثالثة
قوله وينمو على مشاهدة الشواهد وهذا أيضا يحتاج إلى أمر آخر وهو الإجابة لداعي الحق فلا يكفي مجرد مشاهدة الشواهد في نموه وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون يمر عليها العبد ولا ينمو بها ولا يزيد بل ينقص إيمانه وتوحيده فإذا أجاب الداعي وتبصر في الشواهد بما توحيده وقوى إيمانه وقال تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم وقال تعالى ويزيد الله الذين اهتدوا هدى وقال تعالى فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا
وقد تضمن كلام الشيخ ما دلت عليه النصوص واتفق عليه الصحابة والتابعون إن الإيمان والتوحيد ينموان ويتزايدان وهذا من أعظم أصول أهل السنة الذي فارقوا به الجهمية والمرجئة
فصل قال وأما التوحيد الثاني الذي يثبت بالحقائق فهو توحيد الخاصة
وهو إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها وتعليقه إياها بأحايينها وإخفائه إياها في رسومها وتحقق معرفة العلل ويسلك سبيل إسقاط الحدث هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع

قوله يثبت بالحقائق وقال في التوحيد الأول يصح بالشواهد فإن الثبوت أبلغ من الصحة والحقائق أبلغ من الشواهد ويريد بالحقائق المكاشفة والمشاهدة والمعاينة والاتصال والانفصال والحياة والقبض والبسط وما ذكره من قسم الحقائق من كتابه
وبالأدلة والشواهد يصح التوحيد العام وبالحقائق يثبت التوحيد الخاص
قوله وهو إسقاط الأسباب الظاهرة يحتمل أن يريد بها الأسباب المشاهدة التي تظهر لنا وإسقاطها هو أن لا يرى لها تأثيرا ألبتة ولا تغييرا وإن باشرها بحكم الارتباط العادي فمباشرتها لا تنافي إسقاطها
ويحتمل أن يريد بالأسباب الظاهرة الحركات والأعمال وإسقاطها عزلها عن اقتضائها السعادة والنجاة لا إهمالها وتعطيلها فإن ذلك كفر وانسلاخ من الإسلام بالكلية ولكن يقوم بها وقد عزلها عن ولاية النجاح والنجاة كما قال اعملوا واعلموا أن أحدا منكم لن ينجيه عمله
واحترز بالأسباب الظاهرة من الأسباب الباطنة كالإيمان والتصديق ومحبة الله ورسوله فإن النجاة والسعادة معلقة بها بل التوحيد نفسه من الأسباب بل هو أعظم الأسباب الباطنة فلا يجوز إسقاطه
وعلى التقديرين فهو غير مخلص فإذا أريد بالإسقاط التعطيل والاهمال فمن أبطل الباطل وإن أريد العزل عن ولاية الاقتضاء وإسناد الحكم إلى مشيئة الرب وحده فلا فرق بين الأسباب الظاهرة والباطنة وإن أريد الأسباب التي لم يؤمر بها العبد فليس إسقاطها من توحيد الله في شيء ولا القيام بها مبطلا له ولا منقصا
وبالجملة فليس إسقاط الأسباب من التوحيد بل القيام بها واعتبارها وإنزالها في منازلها التي أنزلها الله فيها هو محض التوحيد والعبودية والقول بإسقاط الأسباب هو توحيد القدرية الجبرية أتباع جهم بن صفوان في الجبر

فإنه كان غاليا فيه وعندهم أن الله لم يخلق شيئا بسبب ولا جعل في الأسباب قوى وطبائع تؤثر فليس في النار قوة الإحراق ولا في السم قوة الإهلاك ولا في الماء والخبز قوة الري والتغذي به ولا في العين قوة الإبصار ولا في الأذن والأنف قوة السمع والشم بل الله سبحانه يحدث هذه الآثار عند ملاقاة هذه الأجسام لا بها فليس الشبع بالأكل ولا الري بالشرب ولا العلم بالاستدلال ولا الانكسار بالكسر ولا الإزهاق بالذبح ولا الطاعات والتوحيد سببا لدخول الجنة والنجاة من النار ولا الشرك والكفر والمعاصي سببا لدخول النار بل يدخل هؤلاء الجنة بمحض مشيئته من غير سبب ولا حكمة أصلا ويدخل هؤلاء النار بمحض مشيئته من غير سبب ولا حكمة
ولهذا قال صاحب المنازل وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة بل عندهم صدور الكائنات والأوامر والنواهي عن محض المشيئة الواحدة التي رجحت مثلا على مثل بغير مرجح فعنها يصدر كل حادث ويصدر مع الحادث حادث آخر مقترنا به اقترانا عاديا لا أن أحدهما سبب الآخر ولا مرتبط به فأحدهما مجرد علامة وأمارة على وجود الآخر فإذا وجد أحد المقترنين وجد الآخر معه بطريق الاقتران العادي فقط لا بطريق التسبب والاقتضاء وهذا عندهم هو نهاية التوحيد وغاية المعرفة
وطرد هذا المذهب مفسد للدنيا والدين بل ولسائر أديان الرسل ولهذا لما طرده قوم أسقطوا الأسباب الدنيوية وعطلوها وجعلوا وجودها كعدمها ولم يمكنهم ذلك فإنهم لا بد أن يأكلوا ويشربوا ويباشروا من الأسباب ما يدفع عنهم الحر والبرد والألم
فإن قيل لهم هلا أسقطتم ذلك قالوا لأجل الاقتران العادي
فإن قيل لهم هلا قمتم بما أسقطتموه من الأسباب لأجل الاقتران العادي أيضا فهذا المذهب قد فطر الله سبحانه الحيوان ناطقه وأعجمه على خلافه

وقوم طردوه فتركوا له الأسباب الأخروية وقالوا سبق العلم والحكم بالسعادة والشقاوة لا يتغير البتة فسواء علينا الفعل والترك فإن سبق العلم والحكم بالشقاوة فنحن أشقياء عملنا أو لم نعمل وإن سبق بالسعادة فنحن سعداء عملنا أو لم نعمل
ومنهم من يترك الدعاء جملة بناء على هذا الأصل ويقول المدعو به إن سبق العلم والحكم بحصوله حصل دعونا أولم ندع وإن سبق بعدم حصوله لم يحصل وإن دعونا
قال شيخنا وهذا الأصل الفاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين بل ومخالف لصريح العقل والحس والمشاهدة وقد سئل النبي عن إسقاط الأسباب نظرا إلى القدر فرد ذلك وألزم القيام بالأسباب كما في الصحيح عنه أنه قال ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له وفي الصحيح عنه أيضا أنه قيل له يا رسول الله أرأيت ما يكدح الناس فيه اليوم ويعملون أمر قضي عليهم ومضى أم فيما يستقبلون مما آتاهم فيه الحجة فقال بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على كتابنا قال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له وفي السنن عنه أنه قيل له أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله وكذلك قول عمر لأبي عبيدة رضي الله عنهما وقد قال أبو عبيدة لعمر أتفر من قدر الله يعني من الطاعون قال أفر من قدر الله إلى قدر الله

وقد قال الله تعالى في السحاب فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من الثمرات وقال تعالى فأحيا به الأرض بعد موتها وقال تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام وقال تعالى بما كنتم تعملون وبما كنتم تكسبون ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد والقرآن مملوء من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية والثواب والعقاب على الأسباب بطرق متنوعة فيأتي بباء السببية تارة وباللام تارة وبأن تارة وبكي تارة ويذكر الوصف المقتضي تارة ويذكر صريح التعليل تارة كقوله ذلك بأنهم فعلوا كذا وقالوا كذا ويذكر الجزاء تارة كقوله وذلك جزاء الظالمين وقوله وذلك جزاء المحسنين وقوله وهل نجازي إلا الكفور ويذكر المقتضى للحكم والمانع منه كقوله

وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وعند منكري الأسباب والحكم لم يمنعه إلا محض مشيئته ليس إلا وقال إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم وقال كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم وقال كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية وقال ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وقال ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا وقال إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وقال وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا وقال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره يبطل هذا المذهب ويرده كما تبطله العقول والفطر والحس
وقد قال بعض أهل العلم الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تغيير في وجه العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع والتوكل معنى يلتئم من معنى التوحيد والعقل والشرع
وهذا الكلام يحتاج إلى شرح وتقييد فالالتفات إلى الأسباب ضربان أحدهما شرك والآخر عبودية وتوحيد فالشرك أن يعتمد عليها ويطمئن إليها ويعتقد أنها بذاتها محصلة للمقصود فهو معرض عن المسبب لها ويجعل نظره والتفاته مقصورا عليها وأما إن التفت إليها التفات امتثال وقيام بها وأداء لحق العبودية فيها وإنزالها منازلها فهذا الالتفات عبودية وتوحيد إذ لم يشغله عن الالتفات إلى المسبب وأما محوها أن تكون أسبابا فقدح في العقل والحسن والفطرة فإن أعرض عنها بالكلية كان ذلك قدحا في الشرع وإبطالا له وحقيقة التوكل القيام بالأسباب والاعتماد بالقلب على المسبب واعتقاد أنها بيده فإن شاء منعها اقتضاءها وإن شاء جعلها مقتضية لضد أحكامها وإن شاء أقام لها موانع وصوارف تعارض اقتضاءها وتدفعه

فالموحد المتوكل لا يلتفت إلى الأسباب بمعنى أنه لا يطمئن إليها ولا يرجوها ولا يخافها فلا يركن إليها ولا يلتفت إليها بمعنى أنه لا يسقطها ولا يهملها ويلغيها بل يكون قائما بها ملتفتا إليها ناظرا إلى مسببها سبحانه ومجريها فلا يصح التوكل شرعا وعقلا إلا عليه سبحانه وحده فإنه ليس في الوجود سبب تام موجب إلا مشيئته وحده فهو الذي سبب الأسباب وجعل فيها القوى والاقتضاء لآثارها ولم يجعل منها سببا يقتضي وحده أثره بل لا بد معه من سبب آخر يشاركه وجعل لها أسبابا تضادها وتمانعها بخلاف مشيئته سبحانه فإنها لا تحتاج إلى أمر آخر ولا في الأسباب الحادثة ما يبطلها ويضادها وإن كان الله سبحانه قد يبطل حكم مشيئته بمشيئته فيشاء الأمر ثم يشاء ما يضاده ويمنع حصوله والجميع بمشيئته واختياره فلا يصح التوكل إلا عليه ولا الالتجاء إلا إليه ولا الخوف إلا منه ولا الرجاء إلا له ولا الطمع إلا في رحمته كما قال أعرف الخلق به أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك وقال لا منجي ولا ملجأ منك إلا إليك
فإذا جمعت بين هذا التوحيد وبين إثبات الأسباب استقام قلبك على السير إلى الله ووضح لك الطريق الأعظم الذي مضى عليه جميع رسل الله وأنبيائه وأتباعهم وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم وبالله التوفيق
وما سبق به علم الله وحكمه حق وهو لا ينافي إثبات الأسباب ولا يقتضي إسقاطها فإنه سبحانه قد علم وحكم أن كذا وكذا يحدث بسبب كذا وكذا فسبق العلم والحكم بحصوله عن سببه فإسقاط الأسباب خلاف موجب علمه وحكمه فمن نظر إلى الحدوث بغير الأسباب لم يكن نظره وشهوده مطابقا للحق بل كان شهوده غيبة ونظره عمى فإذا كان علم الله قد سبق بحدوث الأشياء بأسبابها فكيف يشهد العبد الأمور بخلاف ما هي عليه في علمه وحكمه وخلقه وأمره
والعلل التي تتقى في الأسباب نوعان أحدهما الاعتماد عليها والتوكل

عليها والثقة بها ورجاؤها وخوفها فهذا شرك يرق ويغلظ وبين ذلك
الثاني ترك ما أمر الله به من الأسباب وهذا أيضا قد يكون كفرا وظلما وبين ذلك بل على العبد أن يفعل ما امره الله به من الأمر ويتوكل على الله توكل من يعتقد أن الأمر كله بمشيئة الله سبق به علمه وحكمه وأن السبب لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع ولا يقضي ولا يحكم ولا يحصل للعبد مالم تسبق له به المشيئة الإلهية ولا يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم فيأتي بالأسباب إتيان من لا يرى النجاة والفلاح والوصول إلا بها ويتوكل على الله توكل من يرى أنها لا تنجيه ولا تحصل له فلاحا ولا توصله إلى المقصود فيجرد عزمه للقيام بها حرصا اجتهادا ويفرغ قلبه من الاعتماد عليها والركون إليها تجريدا للتوكل واعتمادا على الله وحده وقد جمع النبي بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح حيث يقول احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فأمره بالحرص على الأسباب والاستعانة بالمسبب ونهاه عن العجز وهو نوعان تقصير في الأسباب وعدم الحرص عليها وتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها فالدين كله ظاهره وباطنه شرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية والله أعلم

فصل قوله والصعود عن منازعات العقول هذا حق ولا يتم التوحيد
والإيمان إلا به فما أفسد أديان الرسل إلا أرباب منازعات العقول الذين ينازعون بمعقولهم في التصديق بما جاءت به وإثبات ما أثبتوه ونفي ما نفوه فنازعت عقولهم ذلك وتركوا لتلك المنازعات ما جاءت به الرسل ثم عارضوهم بتلك المعقولات وقدموها على ما جاءوا به وقالوا إذا تعارضت عقولنا وما جاءت به الرسل قدمنا ما حكمت به عقولنا على ما جاءوا به وقد هلك بهؤلاء طوائف لا يحصيهم إلا الله وانحلوا بسببهم من أديان جميع الرسل

قوله ومن التعلق بالشواهد كلام فيه إجمال فالشواهد هي الأدلة والآيات فترك التعلق بها انسلاخ عن العلم والإيمان بالكلية والتعلق بها وحدها دون من نصبها شواهد وأدلة انقطاع عن الله وشرك في التوحيد والتعلق بها استدلالا ونظرا في آيات الرب ليصل بها إلى الله هو التوحيد والإيمان
وأحسن ما يحمل عليه كلامه أنه يصعد عن الوقوف معها فإنها وسائل إلى المقصود فلا ينقطع بالوسيلة عن المقصود وهذا حق لكن قوله وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا يكدر هذا المعنى ويشوشه وليس بصحيح بل الواجب أن يشهد الأمر كما أشهده الله إياه فإن الله سبحانه نصب الأدلة على التوحيد وأقام البراهين وأظهر الآيات وأمرنا أن نشهد الأدلة والآيات وننظر فيها ونستدل بها ولا يجتمع هذا الإثبات وذلك النفي ألبتة والمخلوقات كلها آيات للتوحيد وكذلك الآيات المتلوة أدلة على التوحيد فكيف لا يشهدها دليلا عليه هذا من أبطل الباطل بل التوحيد كل التوحيد أن يشهد كل شيء دليلا عليه مرشدا إليه ومعلوم أن الرسل أدلة للتوحيد فكيف لا يشهدهم كذلك وكيف يجتمع الإيمان بهم وعدم شهودهم أدلة للتوحيد
فانظر ماذا أدى إليه إنكار الأسباب والسلوك على درب الفناء في توحيد الأفعال فهذا هو مقتضاه وطرده وإلا تناقض أصحابه وقد قال الله تعالى لرسوله وإنك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم وقال تعالى ولكل قوم هاد والهادي هو الدليل الذي يدل بهم في الطريق إلى الله والدار الآخرة ولا يناقض هذا قوله إنك لا تهدي من أحببت وقوله فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فإن الله سبحانه تكلم بهذا وهذا فرسله الهداة هداية الدلالة والبيان وهو الهادي هداية التوفيق والإلهام فالرسل هم الأدلة حقا والله سبحانه هو الموفق الملهم الخالق للهدى في القلوب

قوله ولا في التوكل سببا يريد أنك تجرد التوكل عن الأسباب فإن أراد تجريده عن القيام بها فباطل كما تقدم وإن أراد تجريده عن الركون إليها والوقوف معها والوثوق بها فهو حق وإن أراد تجريده عن شهودها فشهودها على ما هي عليه أكمل ولا يقدح في التوحيد بوجه ما
وكذلك قوله ولا في النجاة وسيلة إنما يصح على وجه واحد وهو أن يشهد حصول النجاة بمجرد الوسائل من الأعمال والأسباب وأما إلغاء كونها وسائل فباطل يخالف الشرع والعقل وأما عدم شهودها وسائل مع اعتقاد كونها وسائل فليس بكمال وشهودها وسائل كما جعلها الله سبحانه أكمل مشهدا وأصح طريقة وبالله التوفيق
وقد بينا فيما تقدم أن الكمال أن تشهد العبودية وقيامك بها وتشهد أنها من عين المنة والفضل وتشهد المعبود فلا تغيب بشهوده ولا تغيب بشهود أمره عن شهوده ولا تغيب بشهوده وشهود أمره عن شهود فضله ومنته وتوفيقه وشهود فقرك وفاقتك وأنك به لا بك وقد خرج النبي يوما على حلقة من أصحابه وهم يتذاكرون فقال ما أجلسكم قالوا جلسنا نذكر ما من الله به علينا وهدانا بك إلى الإسلام فقال آلله ما أجلسكم إلا ذلك قالوا آلله ما أجلسنا إلا ذلك فقال أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكن الله يباهي بكم الملائكة \ ح \ ولم يقل لهم لا تشهدوا في التوحيد دليلا ولا في النجاة وسيلة بل كان من أسباب مباهاة الله بهم الملائكة شهودهم سبب التوحيد ووسيلة النجاة وأنها من من الله عليهم كما قال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم تيلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فكيف يكون كمالهم في أن لا يشهدوا الدليل الذي يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم ويسقطونه من الشهود والسببية

قوله فيكون شاهدا سبق الحق بعلمه وحكمه ووضعه الأشياء مواضعها وتعليقه إياها بأحايينها وإخفائه إياها في رسومها
ليس الشهود ههنا متعلقا بمجرد أزلية الرب تعالى وتقدمه على كل شيء فقط بل متعلق بسبق العلم والتقدير فيرى الأشياء بعين سوابقها وقد تقررت هناك في علم الرب وتقديره فينظر إليها هناك إذا نظر الناس إليها هنا فيتجاوز نظره نظرهم فيغلب شهود السوابق على ملاحظة اللواحق فيشهد تفرد الرب وحده حيث لا موجود سواه وقد علم الكائنات وقدر مقاديرها ووقت مواقيتها وقررها على مقتضى علمه وحكمته وقد سبق العلم المعلوم والقدر المقدور والإرادة المراد فيرى الأشياء كلها ثابتة في علم الله سبحانه وحكمته قبل وجود العوالم فأي وسيلة يشهد هناك وأي سبب وأي دليل هذا الذي يدندنن الشيخ حوله وقد عرفت أن العلم والحكم سبق بوجود المسببات عن أسبابها وارتباطها بوسائلها وأدلتها كما سبق العلم والحكم بوجود الولد عن أبويه والمطر عن السحاب والنبات عن الماء والإزهاق عن القتل وأسباب الموت فهذه هي المشاهدة الصحيحة لا إسقاط الأسباب والوسائل والأدلة
قوله ووضع الأشياء مواضعها وتعليقها بأحايينها وإخفائها في رسومها هذه ثلاثة أشياء المكان والزمان والمادة التي لا بد لكل مخلوق منها فإن المخلوق لا بد له من زمان يوجد فيه ومكان يستقر فيه ومادة يوجد بها فاشار إلى الثلاثة فالمواضع الأمكنة والأحايين الأزمنة والرسوم المواد الحاملة لها والرسوم هي الصورة الخلقية
وكأن شيخ الإسلام أراد بها هنا الأسباب وأن الله سبحانه غطى حقائق الأشياء عن أبصار الخلق بما يشاهدونه من تعلق المسببات بأسبابها فنسبوها إليها فصاحب هذه الدرجة يشهد كيف أظهر الرب سبحانه الأشياء في موادها وصورها

وأظهرها بأسبابها وأخفى علمه وحكمه فيما أظهره من ذلك فالظهور للأسباب المشاهدة والحقيقة المخفية للعلم والحكم السابقين
قوله وتحقق معرفة العلل يريد أن هذا التوحيد يحقق لصاحبه معرفة علل الأحوال والمقامات والأعمال وهي عبارة عن عوائق السالك من نظره إلى السوى والتفاته إليه فهذه الدرجة من التوحيد عنده تحقق هذه العلل
ويحتمل أن يريد بالعلل الأسباب التي ربطت بها الأحكام فصاحب هذه الدرجة يعرف حقيقتها ومرتبتها كما هي عليه لأنه قد صعد منها إلى مسببها وواضعها
قوله ويسلك سبيل إسقاط الحدث
يريد أنه في هذا الشهود وهذه الملاحظة المذكورة سالك سبيل الذين شهدوا عين الأزل فنفى عنهم شهود الحدث وذلك بالفناء في حضرة الجمع فإنها هي التي يفنى فيها من لم يكن ويبقى فيها من لم يزل
فإن أراد بإسقاط الحدث أنه يعتقد نفي حدوث شيء فهذا مكابرة للحس والشهود وإن أراد إسقاط الحدث من قلبه فلا يشهد حادثا ومحدثا وهذا مراده فهذا خلاف ما أمر الله ورسوله به وخلاف الحق فإن العبد مأمور أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويشهد أن الجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيين حق ويشهد حدوث المحدثات بإحداث الرب تعالى لها بمشيئته وقدرته وبما خلقه من الأسباب ولما خلقه من الحكم ولم يأمر العبد بل لم يرد منه أن لا يشهد حادثا ولا حدوث شيء وهذا لا كمال فيه ولا معرفة فضلا عن أن يكون غاية العارف وأن يكون توحيد الخاصة والقرآن من أوله إلى آخره صريح في خلافه فإنه أمر بشهود الحادثات والكائنات والنظر فيها والاعتبار بها والاستدلال بها على وحدانية الله سبحانه وعلى أسمائه وصفاته فأعرف الناس به وبأسمائه وصفاته أعظمهم شهودا لها ونظرا فيها

واعتبارا بها فكيف يكون لب التوحيد وقلبه وسره إسقاطها من الشهود
فإن قلت إنما يريد إسقاطها من التفات القلب إليها والوقوف معها
قلت هذا قد تقدم في أول الدرجة في قوله وهو إسقاط الأسباب الظاهرة وقد عرفت ما فيه
وبالجملة فالاسقاط إما لعين الوجود أو لعين الشهود أو لعين القصود فالأول محال والثاني نقص والثالث حق لكنه ليس مراد الشيخ فتأمله
وقوله وفنى من لم يكن وبقي من لم يزل إن أراد به فناء الوجود الخارجي فهذا مكابرة وإن أراد به أنه فنى من الشهود فهذا نقص في الإيمان والتوحيد كما تقرر وإن أراد به أن يفنى في القصد والإرادة والمحبة فهذا هو الحق وهو الفناء عن إرادة السوى وقصده ومحبته
قوله هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع يعني توحيد المتوسطين الذين ارتفعوا عن العامة ولم يصلوا إلى منزلة خاصة الخاصة
قوله يصح بعلم الفناء ولم يقل بحقيقة الفناء لأن درجة العلم في هذا السلوك قبل درجة الحال والمعرفة وهذه درجة متوسط لم يبلغ الغاية وحال الفناء لصاحب الدرجة الثالثة
وكذلك قوله ويصفو في علم الجمع فإن علم الجمع قبل حال الجمع كما تقدم في بابه
قوله ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع يريد أن هذا المقام يجذب أهله إلى توحيد الفريق الثاني الذين هم فوقهم وهم أصحاب الجمع وقد تقدم ذكر الجمع ولم يحصل به الشفاء
ونحن الآن ذاكرون حقيقته وأقسامه والصحيح منه والمعلول والله المستعان

الجمع في اللغة الضم والاجتماع الانضمام والتفريق ضده وأما في اصطلاح القوم فهو شخوص البصيرة إلى من صدرت عنه المتفرقات كلها وهو ثلاثة أنواع جمع وجود وهو جمع الزنادقة من أهل الاتحاد وجمع شهود وجمع قصود فإذا تحررت هذه الأقسام تحرر الجمع الصحيح من الفاسد
وكذلك ينقسم الفرق إلى صحيح وفاسد أعني إلى مطلوب في السلوك وقاطع عن السلوك فالفرق ثلاثة أنواع فرق طبيعي حيواني وفرق إسلامي وفرق إيماني هذه ستة أقسام للجمع وللفرق
فتذكر أنواع الفرق أولا إذ بها تعرف أنواع الجمع
فأما الفرق الطبيعي الحيواني فهو التفريق بمجرد الطبع والميل فيفرق بين ما يفعله ومالا يفعله بطبعه وهواه وهذا فرق الحيوانات وأشباهها من بني آدم فالمعيار ميل طبعه ونفرة طبعه والمشركون والكفار وأهل الظلم والعدوان واقفون مع هذا الفرق
وأما الفرق الإسلامي فهو الفرق بين ما شرعه الله وأمر به وأحبه ورضيه وبين ما نهى عنه وكرهه ومقت فاعله وهذا الفرق من لم يكن من أهله لم يشم رائحة الإسلام البتة وقد حكى الله سبحانه عن أهل الفرق الطبيعي أنهم أنكروا هذا الفرق فشهدوا الجمع بين المأمور والمحظور إذ قالوا إنما البيع مثل الربا لا فرق بينهما وقالوا الميتة مثل المذكاة لا فرق بينهما وقالوا الحلال والحرام شيء واحد فهذا جمعهم وذاك فرقهم فهذا فرق يتعلق بالأعمال

فصل وأما الفرق الإيماني الذي يتعلق بمسائل القضاء والقدر فهو
التمييز الإيماني بين فعل الحق سبحانه وأفعال العباد فيؤمن بأن الله وحده خالق كل شيء وليس في الكون إلا ما هو واقع بمشيئته وقدرته وخلقه ومع ذلك يؤمن بأن العبد فاعل لأفعاله حقيقة وهي صادرة عن قدرته ومشيئته قائمة به وهو

فاعل لها على الحقيقة فيشهد تفرد الرب سبحانه بالخلق والتقدير ووقوع أفعال العباد منهم بقدرتهم ومشيئتهم والله الخالق لذلك كله
وهنا انقسم أصحاب هذا الفرق ثلاثة أقسام قسم غابوا بأفعالهم وحركاتهم عن فعل الرب تعالى وقضائه مع إيمانهم به وقسم غابوا بفعل الرب وتفرده بالحكم والمشيئة عن أفعالهم وحركاتهم وقسم أعطوا المراتب حقها فآمنوا بفعل الرب وقدرته ومشيئته وتفرده بالحكم والقضاء وشهدوا وقوع الأفعال من فاعليها واستحقاقهم عليها المدح والذم والثواب والعقاب
فالفريق الأول يغلب عليهم الفرق الطبيعي ولم يصعدوا إلى مشاهدة الحكم
والفريق الثاني يغلب عليهم حال الجمع وهو شهود قدر الرب تعالى ومشيئته وتدبيره لخلقه فتجتمع قلوبهم على شهود أفعاله بعد أن كانت متفرقة في رؤية أفعال الخلق وتغيب بفعله عن أفعالهم وربما غلب عليها شهود ذلك حتى أسقطت عنهم المدح والذم بالكلية فكلاهما منحرف في شهوده
والفريق الثالث يشهد الحكم والتدبير العام لكل موجود ويشهد أفعال العباد ووقوعها بإرادتهم ودواعيهم فيكون صاحب جمع وفرق فيجمع الأشياء في الحكم الكوني القدري ويفرق بينها بالحكم الكوني أيضا كما فرق الله بينها بالحكم الديني الشرعي فإن الله سبحانه فرق بينها خلقا وأمرا وقدرا وشرعا وكونا ودينا
فالشهود الصحيح المطابق أن يشهدها كذلك فيكون صاحب جمع في فرق وفرق في جمع جمع بينها في الخلق والتكوين وشمول المشيئة لها وفرق بينها بالأمر والنهي والحب والبغض فشهدها وهي منقسمة إلى مأمور ومحظور ومحبوب ومكروه كما فرق خالقها بينها ويشهد الفرق بينها أيضا قدرا فإنه كما فرق بينها أمره فرق بينها قدره فقدر المحبوب محبوبا والمسخوط مسخوطا والخير على ما هو عليه والشر على ما هو عليه فافترقت في قدره كما

افترقت في شرعه فجمعتها مشيئته وقدره وفرقت بينها مشيئته وقدرة فشاء سبحانه كلا منها أن يكون على ما هو عليه ذاتا وقدرا وصفة وأن يكون محبوبا أو مسخوطا وأشهدها أهل البصائر من خلقه كما هي عليه
فهؤلاء أصح الناس شهودا بخلاف من شهد المخلوق قديما والوجود المخلوق هو عين وجود الخالق والمأمور والمحظور سواء والمقدور كله محبوبا مرضيا له أو أن بعض الحادثات خارج عن مشيئته وخلقه وتكوينه أو أن أفعال عباده خارجة عن إرادتهم ومشيئتهم وقدرتهم وليسوا هم الفاعلين لها فإن هذا الشهود كله عمي وأصحابه قد جمعوا بين ما فرق الله بينه وفرقوا بين ما جمع الله بينه ولم يهتدوا إلى الشهود الصحيح الذي يميز به صاحبه بين وجود الخالق ووجود المخلوق وبين المأمور والمحظور وبين فعل الرب وفعل العبد وبين ما يحبه ويبغضه
وصاحب هذا الشهود لا يغيب بأفعال العباد عن فعل الرب وقضائه وقدره ولا يغيب بقضائه وقدره عن أمره ونهيه ومحبته لبعضها وكراهته لبعضها ولا يغيب بوجود الخالق عن وجود المخلوق ولا برؤية الخلق عن ملاحظة الخالق بل يضع الأمور مواضعها فيشهد القدر العام السابق الذي لا خروج لمخلوق عنه كما لا خروج له عن أن يكون مربوبا فقيرا بذاته ويذم العباد ويمدحهم بما حركهم به القدر من المعاصي والطاعات بخلاف صاحب الجمع بلا فرق فإنه ربما عذر أصحاب الشرك والمعاصي لاستيلاء شهود الجمع على قلبه ويقول العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر فشهوده من الخلق موافقتهم لما شاء الله منهم
فالشاهد المبصر المتمكن يشهد القيومية والقدر السابق الشامل المحيط ويشهد اكتساب العباد وما جرى به عليهم القدر من الطاعات والمعاصي ويشهد حكمة الرب تعالى وأمره ونهيه وحبه وكراهيته

فصل إذا عرفت هذه المقدمات فالجمع الصحيح الذي عليه أهل الاستقامة
هو جمع توحيد الربوبية وجمع توحيد الإلهية فيشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه يدبر أمر عباده وحده فلا خالق ولا رازق ولا معطي ولا مانع ولا مميت ولا محيي ولا مدبر لأمر المملكة ظاهرا وباطنا غيره فما شاء كان ومالم يشأ لم يكن لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ولا يجري حادث إلا بمشيئته ولا تسقط ورقة إلا بعلمه ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه وأحاطت بها قدرته ونفذت بها مشيئته واقتضتها حكمته فهذا جمع توحيد الربوبية
وأما جمع توحيد الإلهية فهو أن يجمع قلبه وهمه وعزمه على الله وإرادته وحركاته على أداء حقه تعالى والقيام بعبوديته سبحانه فتجتمع شئون إرادته على مراده الديني الشرعي
وهذان جمعان هما حقيقة إياك نعبد وإياك نستعين فإن العبد يشهد من قوله إياك الذات الجامعة لجميع صفات الكمال التي لها كل الأسماء الحسنى ثم يشهد من قوله نعبد جميع أنواع العبادة ظاهرا وباطنا قصدا وقولا وعملا وحالا واستقبالا ثم يشهد من قوله وإياك نستعين جميع أنواع الاستعانة والتوكل والتفويض فيشهد منه جمع الربوبية ويشهد من إياك نعبد جمع الإلهية ويشهد من إياك الذات الجامعة لكل الأسماء الحسنى والصفات العلى
ثم يشهد من اهدنا عشر مراتب إذا اجتمعت حصلت له الهداية
المرتبة الأولى هداية العلم والبيان فيجعله عالما بالحق مدركا له
الثانية أن يقدره عليه وإلا فهو غير قادر بنفسه
الثالثة أن يجعله مريدا له
الرابعة أن يجعله فاعلا له

الخامسة أن يثبته على ذلك ويستمر به عليه
السادسة أن يصرف عنه الموانع والعوارض المضادة له
السابعة أن يهديه في الطريق نفسها هداية خاصة أخص من الأولى فإن الأولى هداية إلى الطريق إجمالا وهذه هداية فيها وفي منازلها تفصيلا
الثامنة أن يشهده المقصود في الطريق وينبهه عليه فيكون مطالعا له في سيره ملتفتا إليه غير محتجب بالوسيلة عنه
التاسعة أن يشهده فقره وضرورته إلى هذه الهداية فوق كل ضرورة
العاشرة أن يشهده الطريقين المنحرفين عن طريقها وهما طريق أهل العضب الذين عدلوا عن اتباع الحق قصدا وعنادا وطريق أهل الضلال الذين عدلوا عنها جهلا وضلالا ثم يشهد جمع الصراط المستقيم في طريق واحد عليه جميع أنبياء الله ورسله وأتباعهم من الصديقين والشهداء والصالحين
فهذا هو الجمع الذي عليه رسل الله وأتباعهم فمن حصل له هذا الجمع فقد الصراط المستقيم والله أعلم

فصل قال الشيخ وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه
واستحقه لقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من أهل صفوته وأخرسهم هدى إلى عن نعته وأعجزهم عن بثه
فيقال إما أن يريد بهذا التوحيد توحيد العبد لربه وهو ما قام بالعبد من التوحيد لا يريد به توحيد الرب لنفسه وهو ما قام به من صفاته وكماله فإذا أراد به توحيد الرب لنفسه بنفسه وهو علمه وكلامه وخبره الذي يخبر به عن نفسه وصفاته كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو وقوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وقوله هو الله الذي لا إله إلا هو ونحو ذلك فذلك هو صفة الرب القائمة به كما يقوم به سائر صفاته من حياته

وعلمه وقدرته وإرادته وسمعه وبصره وذلك لا يفارق ذات الرب ولا ينتقل إلى غيره بل صفات المخلوق لا تفارقه ولا تنتقل إلى غيره فكيف صفات الخالق جل وعلا ولكنه سبحانه وتعالى يدل على ذلك بآياته القولية والفعلية فيعلم عباده ما قام به من التوحيد لنفسه بما دلهم عليه من قوله وفعله فإذا شهد عبده له بما شهد به لنفسه قيل هذه الشهادة هي شهادة الرب بمعنى أنها مطابقة لها موافقة لها لا بمعنى أنها عينها وأن الشهادتين واحدة بالعين فما قام بقلب العبد إلا صفته وكلامه وخبره وإرادته وهو غير ما قام بذات الرب من صفته وكلامه وخبره وإن طابقه ووافقه وعلى هذا فقوله اختصه الحق لنفسه أي لا يوحده به غيره واستحقه لقدره أي استحقه بقدر كنهه الذي لا يبلغه غيره
قوله وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته أي أظهر منه شيئا يسيرا أسره إلى طائفة قليلة من الخلق وهم أهل صفوته
ووله أخرسهم عن نعته يحتمل أن يريد به أنه لا يقبل نعت المخلوقين كما لا يقبل لسان الأخرس الكلام وعلى هذا فيكون نعته غير ممكن ويحتمل أن يريد به أنه حال بينهم وبين نعته لعجز السامع عن فهمه فيكون نعته ممكنا لكن الحق أسكتهم عنه غيرة عليه وصيانة له
قوله وأعجزهم عن بثه أي لم يقدرهم على الإخبار عنه
فيقال أفضل صفوة الرب تعالى الأنبياء وأفضلهم الرسل وأفضلهم أولو العزم وأفضلهم الخليلان عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء والمرسلين والذي ألاحه الله إلى أسرارهم من ذلك هو أكمل توحيد عرفه العباد ولا أكمل منه وليس وراءه إلا الشطح والدعاوي والوساوس وهم

صلوات الله وسلامه عليهم قد تكلموا بالتوحيد ونعتوه وبينوه وأوضحوه وقرروه بحيث صار في حيز التجلي والظهور والبيان فعلته القلوب وحصلته الأفئدة ونطقت به الألسنة وأوضحته الشواهد وقامت عليه البراهين ونادت عليه الدلائل ولا يمكن أحدا أن ينقل عن نبي من الأنبياء ولا وارث نبي داع إلى ما دعا إليه أنه يعلم توحيدا لا يمكنه النطق به وأن الله سبحانه أخرسه عن نطقه وأعجزه عن بثه بل كل ما علمه القلب أمكن اللسان التعبير عنه وإن اختلفت العبارة ظهورا وخفاءا وبين ذلك وقد لا يفهمه إلا بعض الناس فالناس لم تتفق أفهامهم لما جاءت به الرسل
وكيف يقال إن أعرف الخلق وأفصحهم وأنصحهم عاجز أن يبين ما عرفه الله من توحيده وأنه عاجز عن بثه فما هذا التوحيد الذي عجزت الأنبياء والرسل عن بثه ومنعوا من النطق به وعرفه غيرهم هذا كله إن أريد به كلهم التوحيد القائم بذات الحق تعالى لنفسه
فأما إن أريد به التوحيد الذي هو صفة العبد وفعله فلم يطابق قوله اختصه الرب لنفسه واستحقه لقدره ولا يطابق القوافي الثلاثة التي أجاب بها الشيخ عنه وأن توحيده نفسه هو التوحيد لا غيره
وأيضا فصفة العبد وفعله لا يعجز عن بثها ولا يخرس عن النطق بها وكل ما قام بالعبد فإنه يمكنه التعبير عنه وكشفه وبيانه
فإن قيل المراد بذلك أن الرب تعالى هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته لا أنهم هم الموحدون له ولهذا قال الشيخ والذي يشار إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبات القدم وعليه أنشد هذه القوافي الثلاثة وهي
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لأحد
قوله ما وحد الواحد من واحد يعني ما وحد الله عز و جل أحد سواه وكل من وحد الله فهو جاحد لحقيقه توحيده فإن توحيده يتضمن شهود ذات الواحد وانفراده وتلك إثنينية ظاهرة بخلاف توحيده لنفسه فإنه يكون هو الموحد والموحد والتوحيد صفته وكلامه القائم به فما ثم غير فلا إثنينية ولا تعدد
وأيضا فمن وحده من الخلق فلا بد أن يصفه بصفة وذلك يتضمن جحد حقه الذي هو عدم انحصاره تحت الأوصاف فمن وصفه فقد جحد إطلاقه عن قيود الصفات
وقوله توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
يعني توحيد الناطقين عنه عارية أبطلها الواحد يعني عارية مردودة كما تسترد العواري إشارة إلى أن توحيدهم عارية لا ملك لهم بل الحق أعارهم إياه كما يعير المعير متاعه لغيره ينتفع به ويكون ملكا للمعير لا للمستعير
وقوله أبطلها الواحد أي الواحد المطلق من كل الوجوه وحدته تبطل هذه العارة وتردها إلى مالكها الحق فإن الوحدة المطلقة من جميع الوجوه تنافي ملك الغير لشيء من الأشياء بل المالك لتلك العارية هو الواحد فقط فلذلك أبطلت الوحدة هذه العارية
وقوله توحيده إياه توحيده أي توحيده الحقيقي هو توحيده لنفسه بنفسه من غير أثر للسوى بوجه بل لا سوى هناك
وقوله ونعت من ينعته لأحد أي نعت الناعت له إلحاد وهو عدول عما يستحقه من كمال التوحيد فإنه أسند إلى نزاهة الحق مالا يليق به إسناده فإن عين الأولية تأبى نطق الحدث ومحض التوحيد يأبى أن يكون للسوي أثر ألبتة

فيقال وبالله التوفيق في هذا الكلام من الإجمال والحق والإلحاد مالا يخفى
فأما قوله إن الرب تعالى هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته لا أنهم هم الموحدون له إن أريد به ظاهره وأن الموحد لله هو الله لا غيره وأن الله سبحانه حل في صفوته حتى وحد نفسه فيكون هو الموحد لنفسه في قلوب أوليائه لاتحاده بهم وحلوله فيهم فهذا قول النصارى بعينه بل هو شر منه لأنهم خصوه بالمسيح وهؤلاء عموا به كل موحد بل عند الإتحادية الموحد والموحد واحد وما ثم تعدد في الحقيقة
وإن أريد به هو الذي وفقهم لتوحيده وألهمهم إياه وجعلهم يوحدونه فهو الموحد لنفسه بما عرفهم به من توحيده وبما ألقاه في قلوبهم وأجراه على ألسنتهم فهذا المعنى صحيهم ولكن لا يصح نفي أفعالهم عنهم فلا يقال إن الله هو الموحد لنفسه لا أن عبده يوحده هذا باطل شرعا وعقلا وحسا بل الحق أن الله سبحانه وحد نفسه بتوحيد قام به ووحده عبيده بتوحيد قام بهم بإذنه ومشيئته وتوفيقه فهو الموحد لنفسه بنفسه وهم الموحدون له بتوفيقه ومعونته وإذنه فالذي قام بهم ليس هو الذي قام بالرب تعالى ولا وصفه بل العلم به ومحبته

وتوحيده ويسمى ذلك الشاهد والمثل الأعلى فهي الشواهد والأمثلة العلية التي قال الله تعالى فيها وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم وقال تعالى للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وكثيرا ما يقول الرجل لغيره أنت في قلبي وفي فؤادي والمراد هذا لا ذاته ونفسه
وقوله والذي يشار إليه على ألسنة المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبات القدم فإن أريد إسقاطه من الوجود فمكابرة للعيان وإن أريد إسقاطه من الشهود فليس ذلك بمأمور به ولا هو كمال فضلا عن أن يكون هو توحيد خاصة الخاصة فما هذا الإسقاط للحدث الذي هو نهاية التوحيد وأعلى مقاماته وهل الكمال إلا أن يشهد الأشياء على ما هي عليه كما هي في شهادة الحق سبحانه
فإسقاط الحدث كلام لا حاصل له إذ لا كمال فيه بل إنما ينفع إسقاط الحدث عند درجة القصد والتأله فإسقاط الحدث كما تقدم ثلاث مراتب إسقاطه عن الوجود وهو مكابرة وإسقاطه عن الشهود وهو نقص وإسقاطه عن القصود وهو كمال ولهذا قال الملحد إسقاط الحدث وإثبات القدم الصحيح ونظر الوارد على هذه الحضرة لضعفه فإذا تمكن عرف أن الحدث لم يزل ساقطا فلا معنى لقوله إسقاط الحدث ولا معنى لقوله إثبات القدم فإن القديم لم يزل ثابتا فهذا الكلام لا يرضى به الموحد ولا الملحد ولا أشار إليه القرآن الذي تضمن أعلى مراتب التوحيد بل القرآن من أوله إلى آخره يدل على خلافه
قال الملحد وأيضا فالتوحيد يستغرق القول في الطمس فإن كان هناك نطق فليس هناك شهود كما قال في المواقف أنا أقرب إلى اللسان من نطقه إذا نطق فمن شهدني لم يذكر ومن ذكرني لم يشهد

قال فقوله من ذكرني لم يشهد هو نفس قول صاحب المنازل على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا بإسقاطها
وحقيقة ذلك أنه لا يصح التوحيد إلا بإسقاط التوحيد لأن ذلك الرمز والإشارة والخبر هو عن نفس التوحيد فهو توحيد نطقي خبري مطابق للتوحيد المعلوم المخبر عنه فإذا لم يصح التوحيد إلا بإسقاط ذلك كانت حقيقة الأمر أنه لا يصح التوحيد إلا بإسقاط التوحيد
ثم قال هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء هذا الطريق وإن زخرفوا له نعوتا وفصلوه فصولا يعني أن قولهم التوحيد هو إسقاط الحدث وإثبات القدم هو قطب مدارات الإشارات إلى التوحيد عند هذه الطائفة ومع هذا فلا يصح التوحيد إلا بإسقاط ما قالوه ولذلك قال فإن ذلك التوحيد تزيده العبارة خفاء والصفة نفورا والبسط صعوبة
فإنه إذا لم يصح إلا بإسقاط الإشارة والصفة والبسط كانت العبارة عنه لا تزيده إلا خفاء ولا الصفة إلا نفارا أي هروبا وذهابا والبسط والإيضاح لا يزيده إلا صعوبة لكثرة الإشارات والعبارات
قوله وإلى هذا التوحيد شخص أهل الرياضة وأرباب الأحوال أي تطلعت قلوبهم وإليه قصد أهل التعظيم وإياه عنى المتكلمون في عين الجمع وعليه تصطلم الإشارات ثم لم ينطق عنه لسان ولم تشر إليه عبارة
فيقال يالله العجب ما هذا السر الذي ما تكلم الله به ولا اشار إليه رسوله ولا نالته إشارة ولا قامت به عبارة ولا اشار إليه مكون ولا تعاطاه حين ولا أقله سبب فهذه العقول حاضرة وهذه المعارف وهذا كلام الله ورسوله بل سائر كتب الله وكلام السادات العارفين من الأمة فما هذا الحق المحال به وعلى من وقعت هذه الحوالة فإنكم أحلتم بما لا ينطق عنه لسان ولم

تشر إليه عبارة ولا تعاطاه حين ولا أقله سبب فعلى من أحلتم بهذا الحق المجهول الذي لا سبيل إلى العلم به ولا التعبير عنه ولا الإشارة إليه وأين قوله ما وحد الواحد من واحد من قوله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط فأخبر سبحانه أن الملائكة كلهم يوحدونه وأن أولي العلم يوحدونه وكذلك إخباره عن أنبيائه ورسله وأتباعهم أنهم وحدوه ولم يشركوا به شيئا كما أخبر عن نوح ومن آمن معه وعن جميع الرسل ومن تبعهم بل أخبر سبحانه عن السموات السبع والأرض وما فيهن أنها تسبح بحمده توحيدا ومعرفة
فهل يصح أن يقال ما وحده أحد من الرسل والأنبياء والمؤمنين ولا سبح بحمده سماء ولا أرض ولا شيء وأبطل الباطل أن يقال كل من وحد الله من الأولين والآخرين جاحد له ولتوحيده لا موحد له على الحقيقة وأن نعت جميع الرسل والأنبياء وأتباعهم له إلحاد وكل من نعته من الأولين والآخرين فهو لاحد فلا معنى صحيح ولا لفظ مليح بل المعنى أبطل من اللفظ واللفظ أقبح من المعنى
ثم يقال فهذا الذي ذكرته في هذه الدرجة هل هو توحيد ووصف للتوحيد أم ليس بتوحيد فإن لم يكن توحيدا فهو باطل وإن كان توحيدا فقد وحدت الواحد
وأيضا فإذا كان توحيده لنفسه هو التوحيد وما عداه فليس بتوحيد فمعلوم أن توحيده لنفسه هو الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه وأخبر به عن نفسه في القرآن من أوله إلى آخره وهذا عندك هو توحيد العامة فأين هذا التوحيد الذي وحد به نفسه ولم ينطق به لسان ولم تعبر عنه عبارة ولم يقله سبب
فإن قلت هو التوحيد القائم به فذلك هو وصفه وكلامه وعلمه بنفسه وليس ذلك من فعل العبد ولا صفته حتى يكون هو الدرجة الثالثة من توحيد

العبد لربه كما أن سائر صفاته لا تدخل في درجات السلوك فإن تلك الدرجات هي منازل العبودية
وأيضا فإن هذا الكلام الذي اشتملت عليه هذه الأبيات لا يستقيم على مذهب الملحدين ولا على مذهب الموحدين
أما الموحدون فهو يقولون إن الرسل والأنبياء والملائكة والمؤمنين يوحدون الله حق توحيده الذي يقدرون عليه وأما الملحدون فيقولون ما ثم غير في الحقيقة فالله عندهم هو الوجود المطلق الساري في الموجودات فهو الموحد والموحد وكل ما يقال فيه فهو عندهم حق وتوحيد كما قال عارف القوم ابن عربي
سر حيث شئت فإن الله ثم وقل ... ما شئت فيه فإن الواسع الله
وقال أيضا
عقد الخلائق في الإله عقائدا ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه
ومذهب القوم أن عباد الأوثان وعباد الصلبان وعباد النيران وعباد الكواكب كلهم موحدون فإنه ما عبد غير الله في كل معبود عندهم ومن خر للأحجار في البيد ومن عبد النار والصليب فهو موحد عابد لله والشرك عندهم إثبات وجود قديم وحادث وخالق ومخلوق ورب وعبد ولهذا قال بعض عارفيهم وقد قيل له القرآن كله يبطل قولكم فقال القرآن كله شرك والتوحيد هو ما نقوله
وإن كانت هذه القوافي الثلاثة أولا مذهب هؤلاء ونحلتهم ولهذا تلقاها بالقبول عارفوهم وبالغوا في استحسانها وقالوا هي ترجمة مذهب أهل التحقيق وكل من وحد الله فهو جاحد لاطلاقه فإنه يصفه فيحصره تحت الأوصاف وحصره تحتها جحد لإطلاقه عن قيود الصفات والنعوت ولهذا كان توحيد

الواصف الناعت له عارية استعارها حتى قام لها من ذلك وصف وموصوف وموحد وموحد والوحدة المطلقة تبطل هذه العارية وترد المستعار إلى الموجود المطلق الذي لا يتقيد بوصف ولا يتخصص بنعت
ثم كشف الغطاء عن ذلك فقال توحيده إياه توحيده أي هو الموحد لنفسه بنفسه لا أن غيره يوحده إذ ليس ثم غير
وزاد إيضاح ذلك بقوله ونعت من ينعته لاحد والإلحاد هو الميل عن الصواب والنعت تقييد وتخصيص لمن لا يتقيد ولا يتخصص فهو إلحاد
وأحسن ما يحمل عليه كلامه أن الفناء في شهود الأزلية والحكم يمحو شهود العبد لنفسه وصفاته فضلا عن شهود غيره فلا يشهد موجدا فاعلا على الحقيقة إلا الله وحده وفي هذا الشهود تفنى الرسوم كلها فلا يبقى هذا الشهود والفناء رسما ألبتة فيمحو هذا الشهود من القلب كل ما سوى الحق لا أنه يمحقه من الوجود وحينئذ فيشهد أن التوحيد الحقيقي غير المستعار هو توحيد الرب تعالى لنفسه وتوحيد غيره له عارية محضة أعاره إياها مالك الأمر كله والعواري مردودة إلى من ترد إليه الأمور كلها ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون فالواحد القهار سبحانه أبطل تلك العارية أن تكون ملكا للمعار كما يبين المعير للمستعير إذا استرد العين المعارة وقد ظن المستعير أن المعار ملكه أن الأمر ليس كذلك وأنه عارية محضة في يده والمعير وإن أبطل ظن المستعير من العارية لم يبطل أصل العارية ولهذا صرح بإثباتها في أول البيت وإنما ضاق به الوزن عن تمام المعنى وإيضاحه وهذا المعنى حق وهو أولى بهذا الإمام العظيم القدر مما يظنه به طائفة الاتحادية والحلولية وإن كانت كلماته المجملة شبهة لهم فسنته المفصلة مبطلة لظنهم
ولكلامه محمل آخر أيضا وهو أنه ما وحد الله حق توحيد الذي ينبغي له

ويستحقه لذاته سواه كما قال أعظم الناس توحيدا لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وفي مثل هذا يصح النفي العام كما يقال ما عرف الله إلا الله ولا أنثى عليه سواه والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه
وقد كان شيخ الإسلام قدس الله روحه راسخا في إثبات الصفات ونفي والتعطيل ومعاداة أهله وله في ذلك كتب مثل كتاب ذم الكلام وغير ذلك مما يخالف طريقة المعطلة والحلولية والاتحادية ثم صرح بهذا المعنى الذي ذكرناه بقوله توحيده إياه توحيده أي توحيده لنفسه هو التوحيد الكامل التام الذي لا سبيل للعبارة والإشارة إليه وفوق ما تعرفه العقول وتصفه الألسن وهذا حق لكن جفت عبارته بعد قوله ونعت من ينعته لاحد ومحملها كما عرفت أن نعت الخلق له دون ما هو عليه سبحانه وما هو عليه من الأوصاف والنعوت أجل وأعظم من أن يحيط به العلم المخلوق أو تنطق به الألسنة والإلحاد الميل وهو لم يرد أن نعت الناعتين له إلحاد وكفر فإنه هو قد نعته في هذا الكتاب وفي كتبه ولم يكن ملحدا بذلك فنعت المخلوق له مائل عن نعته لنفسه
على أنه لو أراد الإلحاد الذي هو باطل وضلال لكان له وجه صحيح وهو أن نعت المخلوقين له من عند أنفسهم إلحاد والتوحيد الحق هو ما نعت الله به نفسه على ألسنة رسله فهم لم ينعتوه من تلقاء أنفسهم وإنما نعتوه بما أذن لهم في نعته به وقد صرح سبحانه بهذا المعنى في قوله سبحان الله عما

يصفون إلا عباد الله المخلصين فنزه نفسه عما يصفه به العباد إلا المرسلين فإنهم لم يصفوه من عند أنفسهم وكذلك قوله تعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
فنختم الكتاب بهذه الآية حامدين لله مثنين عليه بما وبما أثنى به على نفسه
والحمد لله رب العالمين حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا
ونسأله أن يوزعنا شكر نعمته وأن يوفقنا لأداء حقه وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته وأن يجعل ما قصدنا له في هذا الكتاب وفي غيره خالصا لوجهه الكريم ونصيحة لعباده
فيا أيها القارئ له لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه لك ثمرته وعليه تبعته فما وجدت فيه من صواب وحق فاقبله ولا تلتفت إلى قائله بل انظر إلى ما قال لا إلى من قال وقد ذم الله تعالى من يرد الحق إذا جاء به من يبغضه ويقبله إذا قاله من يحبه فهذا خلق الأمة الغضبية قال بعض الصحابة اقبل الحق فمن قاله وإن كان بغيضا ورد الباطل على من قاله وإن كان حبيبا وما وجدت فيه من خطأ فإن قائله لم يأل جهد الإصابة ويأبى الله إلا أن يتفرد بالكمال كما قيل
والنقص في أصل الطبيعة كامن ... فبنو الطبيعة نقصهم لا يجحد
وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوما جهولا ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته
وعلى المتكلم في هذا الباب وغيره أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق

وغايته النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولإخوانه المسلمين وإن جعل الحق تبعا للهوى فسد القلب والعمل والحال والطريق قال الله تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن وقال النبي لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به فالعلم والعدل أصل كل خير والظلم والجهل أصل كل شر والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم فقال تعالى فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت أن لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين محمد وعلى آله أجمعين

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7