كتاب : العدة شرح العمدة
المؤلف : عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد، أبو محمد بهاء الدين المقدسي

أو تكون كلها صغارا فيخرج صغيرة وإن كان فيها صحاح ومراض وذكور وإناث وصغار وكبار أخرج صحيحة كبيرة قيمتها على قيمة المالين, فإن كان فيها بخاتي وعراب وبقر وجواميس ومعز وضأن وكرام ولئام وسمان ومهازيل, أخذ من أحدهما بقدر قيمة المالين وإن اختلط جماعة في نصاب من السائمة حولا كاملا وكان
ـــــــ
أبي بن كعب أن رجلا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي فزعم أن مالي فيه بنت مخاض فعرضت عليه ناقة فتية سمينة, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الذي وجبت عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك" . فقال: ها هي ذه يا رسول الله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له بالبركة1.
مسألة: "أو تكون ماشيته كلها صغارا فيخرج صغيرة" ويتصور ذلك إذا كان عنده نصاب كبار فأبدلها بصغار في أثناء الحول أو تولدت الكبار ثم ماتت وحال الحول على الصغار فيجوز إخراج الصغيرة, لقول أبي بكر رضي الله عنه: لو منعوني عناقا2 كانوا يؤدونها إلى رسول صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها3, ولا تؤدى العناق إلا عن الصغار.
مسألة: "وإن كان فيها صحاح ومراض وذكور وإناث أخرج صحيحة كبيرة على قدر المالين" ؛ لأن الزكاة وجبت مواساة فيجب أن تكون من رأس المال.
مسألة: "وإن كان فيها بخاتي وعراب وبقر وجواميس ومعز وضأن وكرام ولئام وسمان ومهازيل أخذت الفريضة من أحدهما على قدر قيمة المالين" فإن كانت قيمة الفرض من أحدهما عشرة ومن الآخر عشرين أخذ من أيهما شاء ما قيمته خمسة عشر, إلا أن يرضى رب المال بإخراج الأجود.
مسألة: "وإن اختلط جماعة في نصاب من السائمة حولا كاملا وكان مرعاها وفحلها ومبيتها ومشربها واحدا فحكم زكاتها حكم زكاة الواحد" سواء كانت خلطة أعيان بأن تكون مشاعا بينهما أو خلطة أوصاف بأن يكون مال كل واحد منهما متميزا, فخلطاه واشتركا في المراح والمسرح والمحلب والمشرب والراعي والفحل, فإن اختل شرط منها أو ثبت لهما حكم الانفراد في بعض الحول زكيا زكاة المنفردين فيه, والأصل في الخلطة ما روى أنس في حديث الصدقات: ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: الزكاة: حديث رقم 1583.
2 - قوله: عناقا: هي الأنثى من أولاد المعز والغنم, من حين الولادة إلى تمام حول, والجمع: أَعْنُق. المعجم الوجيز ص 437.
3 - رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1400.

مرعاها وفحلها ومبيتها ومحلبها ومشربها واحدا فحكم زكاتها حكم زكاة الواحد.
وإذا أخرج الفرض من مال أحدهم رجع على خلطائه بحصصهم منه, ولا تؤثر الخلطة إلا في السائمة
ـــــــ
وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية1؛ ولأن المالين صارا كالمال الواحد في الكلف فكذلك في الصدقة.
مسألة: "ويعتبر للخلطة شروط أربعة: الأول أن يكون الخليطان من أهل الزكاة, فإن كان أحدهما مكاتبا أو ذميا فلا أثر لخلطته؛ لأنه لا زكاة في ماله فلم يكمل النصاب به الثاني أن يختلطا في نصاب فإن كان دونه مثل ثلاثين شاة لم تؤثر الخلطة, سواء كان لهما مال سواه أو لم يكن؛ لأن المجتمع دون النصاب. الثالث: أن تكون الخلطة في السائمة فلا تؤثر في غيرها؛ لأن النص اختص بها. الرابع: أن يختلطا في ستة أشياء لا يتميز أحدهما عن صاحبه فيها وهي: المسرح والمشرب والمحلب والمراح والراعي والفحل. لما روى الدارقطني بإسناده عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" 2. والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي, نص على هذه الثلاثة فنبه على سائرها؛ ولأنه إذا تميز كل مال بشيء مما ذكرنا لم يصيرا كمال الواحد في المؤونة. الخامس: أن يختلطا في جميع الحول فإن ثبت لهما حكم الانفراد في بعضه زكيا زكاة المنفردين فيه؛ لأن الخلطة معنى يتعلق به إيجاب الزكاة فاعتبرت في جميع الحول كالنصاب.
مسألة: "وإذا أخرج الفرض من مال أحدهم رجع على خلطائه بحصصهم منه" لقوله عليه السلام: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" . رواه أنس في حديث الصدقات3.
مسألة: "ولا تؤثر الخلطة في غير السائمة" , وعنه تؤثر في شركة الأعيان لعموم الخبر؛ ولأنه مال تجب فيه الزكاة فأثرت فيه الخلطة كالسائمة, ودليل الأولى قوله صلى الله عليه وسلم: "الخليطان ما اجتمعا على الحوض والراعي والفحل" . رواه الدارقطني, وهذا مفسر للخلطة شرعا, فيجب تقديمه؛ ولأن الخلطة في السائمة أثرت في الضرر كتأثيرها في النفع وفي غيرها لا تؤثر في النفع لعدم الوقص فيها. وقوله عليه السلام: "لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة" 4. دليل على اختصاص ذلك بالسائمة التي تقل الصدقة بجمعها لأجل الأوقاص بخلاف غيرها
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3 - سبق تخريجه.
4 - سبق تخريجه.

باب زكاة الخارج من الأرض
وهو نوعان:
أحدهما النبات: فتجب الزكاة منه في كل حب وثمر يكال ويدخر إذا خرج من أرضه وبلغ خمسة أوسق؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" . والوسق ستون صاعا والصاع رطل بالدمشقي وأوقية وخمسة أسباع أوقية, فجميع النصاب ما قارب ثلاثمائة واثنين وأربعين رطلا
ـــــــ
باب زكاة الخارج من الأرض"وهو نوعان: أحدهما النبات فتجب الزكاة فيه في كل حب وثمر يكال ويدخر" لقوله سبحانه: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا2 العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر" . أخرجه البخاري3.
مسألة: ولا تجب إلا بخمسة شروط: أحدها أن يكون حبا أو ثمرا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في ثمر ولا حب حتى يبلغ خمسة أوسق" 4. وهذا يدل على وجوبها في الحب والثمر وانتفائها من غيرهما. الثاني: أن يكون مكيلا لتقديره بالأوسق وهي مكاييل, فيدل ذلك على اعتبارها. الثالث: أن يكون مما يدخر لأن جميع ما اتفق على زكاته مدخر, ولأن غير المدخر لم تكمل ماليته لعدم التمكن من الانتفاع به في المال. الرابع: أن يبلغ نصابا قدره بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار خمسة أوسق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" 5. والوسق ستون صاعا حكاه ابن المنذر إجماعا. والصاع خمسة أرطال وثلث والمجموع ثلاثمائة صاع وهي ألف وستمائة رطل بالعراقي, والرطل مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وهو بالرطل الدمشقي المقدر بستمائة درهم ثلاثمائة رطل واثنان وأربعون رطلا وستة أسباع رطل والأوساق مكيلة ونقلت إلى الوزن
ـــــــ
1 - آية 267 سورة البقرة.
2 - قوله عثريا بفتح المهملة والمثلثة, وكسر الراء, وتشديد التحتانية. قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي: زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى: وهو المستقنع في بركة ونحوها يصب إليه من ماء المطر في سواق تشق له. قال: واشتقاقه من العاثور, وهي الساقية التي يجري فيها الماء لأن الماشي يعثر فيها. قال: ومنه الذي يشرب من الأنهار بغير مؤنة, أو يشرب بعروقه,كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبا من وجهها, فيصل إليه عروق الشجر, فيستغني عن السقي. فتح الباري 3/ 408.
3 - رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1483.
4 - المصدر عاليه: حديث رقم 1459.
5 - سبق تخريجه.

وستة أسباع رطل ويجب العشر فيما سقي من السماء والسيوح ونصف العشر فيما سقي بكلفة كالدوالي والنواضح.
وإذا بدا الصلاح في الثمار واشتد الحب وجبت الزكاة ولا يخرج الحب إلا مصفى ولا الثمر إلا يابسا ولا زكاة فيما يكتسبه من مباح الحب والثمر ولا في اللقاط, ولا يأخذه أجرة لحصاده ولا يضم صنف من الحب والثمر إلى غيره في تكميل النصاب
ـــــــ
لتحفظ وتنقل قال الإمام أحمد: وزنته -يعني الصاع- فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة, وهذا يدل على أن قدره ذلك من الحبوب الثقيلة. الشرط الخامس: أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} 1 فلا تجب فيما يكتسبه اللقاط ولا ما يأخذه بحصاده ولا ما يجتنيه من المباح كالبطم والزعبل ونحوه.
مسألة: "ويجب العشر فيما سقي من السماء والسيوح ونصف العشر فيما سقي بكلفة" للخبر في أول الباب.
مسألة: "وإذا بدا الصلاح في الثمار واشتد الحب وجبت الزكاة" ؛ لأنه حينئذ يقصد للأكل والاقتيات فأشبه اليابس وقبله لا يقصد لذلك فهو كالرطبة.
مسألة: "ولا يخرج الحب إلا مصفى ولا الثمر إلا يابسا" لما روى عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص2 العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا.
رواه أبو داود3. ولأنه أوان الكمال وحال الادخار فلو أخرج الزكاة قبل الجفاف لم يجزه ولزمه الإخراج بعد التجفيف؛ لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه كما لو أخرج الصغيرة من الماشية عن الكبار.
مسألة: "ولا زكاة فيما يكسبه من مباح الحب والثمر ولا في اللقاط ولا فيما يأخذه أجرة لحصاده" ؛ لأن هذه الأشياء إنما تملك بحيازتها وأخذها, والزكاة إنما تجب في الحبوب والثمار إذا بدا صلاحها وفي تلك الحال لم تكن ملكا له فلا يتعلق به الوجوب ويصير كما لو وهب نصابا بعد بدو صلاحه أو اشتراه أو ملكه بجهة من الجهات لم تجب زكاته اتفاقا.
مسألة: "ولا يضم صنف من الحب والثمر إلى غيره في تكميل النصاب" ؛ لأنهما جنسان مختلفان فلم يضم أحدهما إلى الآخر كالماشية.
ـــــــ
1 - آية 24 سورة المعارج.
2 - قوله: يخرص , خَرَص النخلة والكَرْمَة يَخْرُصُها خَرْصاً: إذا خَزَرَ ما عليها من الرطب تمراً, ومن العنب زبيباً, فهو من الخرص: الظن؛ لأن الحَزْرَ إنما هو تقدير بظن. 2/22-23.
3 - رواه أبو داود في الزكاة: حديث رقم 1603.

فإن كان صنفا واحدا مختلف الأنواع كالتمور ففيها الزكاة, ويخرج من كل نوع زكاته وإن أخرج جيدا عن الرديء جاز وله أجره.
النوع الثاني: المعدن: فمن استخرج من معدن نصابا من الذهب أو الفضة أو ما قيمته نصابا من الجواهر أو الكحل والصفر والحديد أو غيره فعليه الزكاة.
ولا يخرج إلا بعد السبك والتصفية ولا شيء في اللؤلؤ والمرجان والعنبر والمسك ولا شيء في صيد البر والبحر وفي الركاز الخمس
ـــــــ
مسألة: "فإن كان صنفا واحدا مختلف الأنواع كالتمور ففيه الزكاة" يعني أنها يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب كما تضم أنواع الحنطة وأنواع الذهب وأنواع الفضة لا نعلم في ذلك خلافا.
مسألة: "ويخرج من كل صنف على حدته" لأن الفقراء بمنزلة الشركاء فيه ولا يخرج الرديء عن الجيد لقوله سبحانه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . "وإن أخرج الجيد عن الرديء جاز وله أجره" ولا يلزمه ذلك؛ لأن الزكاة على سبيل المواساة ولا مشقة فيما ذكرناه؛ لأنه لا يحتاج إلى تشقيص
"النوع الثاني: المعدن فمن استخرج من معدن نصابا من الذهب أو الفضة أو ما قيمته نصابا من الجواهر أو الكحل والصفر والحديد أو غيره فعليه الزكاة" في الحال ربع العشر من قيمته لقول الله سبحانه: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . وروى الجوزجاني بإسناده عن بلال بن الحارث المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من معادن القبلية الصدقة وقدرها ربع العشر, ولأنها زكاة في الأثمان فأشبهت زكاة سائر الأثمان, أو تتعلق بالقيمة أشبهت زكاة التجارة ولا يعتبر لها حول؛ لأنه يراد لتكامل النماء وبالوجود يصل إلى النماء فلم يعتبر له حول كالعشر.
مسألة: "ولا يخرج إلا بعد السبك والتصفية" كالحب والثمرة.
مسألة: "ولا شيء في اللؤلؤ والمرجان والعنبر والسمك" لأن ابن عباس قال: لا شيء في العنبر إنما هو شيء ألقاه البحر, ولأنه كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه فلم تسبق فيه سنة وعلى قياسه اللؤلؤ والمرجان, وعنه في العنبر الزكاة لأنه معدن أشبه معدن البر والسمك صيد أشبه صيد البر. وعنه فيه الزكاة قياسا على العنبر.
مسألة: "ولا شيء في صيد البر والبحر" ؛ لأنه صيد والصيد لا زكاة فيه لأنه من المباحات فأشبه اللقاط.
مسألة: "وفي الركاز الخمس" لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في

أي نوع كان من المال قل أو كثر ومصرفه مصرف الفيء وباقيه لواجده.
ـــــــ
الركاز 1 الخمس", متفق عليه2. ولأنه مال مظهور عليه بالإسلام فوجب فيه الخمس كالغنيمة.
مسألة: "وتجب في قليله وكثيره من أي نوع كان" من غير حول لذلك, وتجب على كل واجد له من أهل الزكاة وغيرهم لذلك.
مسألة: "ومصرفه مصرف الفيء" لذلك. ولأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه رد بعض خمس الركاز على واجده ولا يجوز ذلك في الزكاة, وعنه أنه زكاة فمصرفه مصرفها اختاره الخرقي؛ لأن عليا رضي الله عنه أمر واجد الركاز أن يتصدق به على المساكين, ولأنه حق تعلق بمستفاد من الأرض فأشبه صدقة المعدن.
مسألة: "وباقيه لواجده" إن وجده في موات أو أرض لا يعلم مالكها؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: في الركاز الخمس دلالة على أن باقيه لواجده, وإنما اشترط ذلك لأنه إذا وجده في أرض غير موات أو أرض يعلم مالكها آدميا معصوما أو كانت منتقلة إليه فيه روايتان: إحداهما أنه يملكه أيضا؛ لأنه لا يملكه بملك الأرض لأنه ليس من أجزائها إنما هو مودع فيها فجرى مجرى الصيد, والكلأ يملكه من ظفر به كالمباحات كلها.
مسألة: وإذا ادعاه مالك الأرض فهو له مع يمينه لثبوت يده على محله والرواية الأخرى هو لمالك الأرض أو لمن انتقلت عنه إن اعترف بت, فإن لم يعترف به فهو لأول مالك؛ لأنه في ملكه فكان له كحيطانه.
ـــــــ
1 - قوله الركاز بكسر الراء, وتخفيف الكاف, وآخره زاي: المال المدفون, مأخوذ من الركز: بفتح الراء. يقال: ركزه يركزه ركزا: إذا دفنه, فهو مركوز. الفتح 3/426.
2 - رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1499. ومسلم في: الحدود: حديث رقم 45, 46.

باب زكاة الأثمان
وهي نوعان: ذهب وفضة ولا زكاة في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم فيجب فيها خمسة دراهم, ولا في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا فيجب فيها نصف مثقال.
ـــــــ
باب زكاة الأثمانمسألة: "وهي نوعان ذهب وفضة ولا زكاة في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم فيجب فيها خمسة دراهم ولا في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا فيجب فيها نصف مثقال" لما روى

فإن كان فيهما غش فلا زكاة فيهما حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصابا, فإن شك في ذلك خير بين الإخراج وبين سبكهما ليعلم قدر ذلك, ولا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال والعارية ويباح للنساء كل ما جرت العادة بلبسه من الذهب والفضة, ويباح للرجال من الفضة الخاتم وحلية السيف والمنطقة ونحوها, فأما المعد للكراء أو الادخار والمحرم ففيه الزكاة
ـــــــ
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب ولا أقل من مائتي درهم صدقة". رواه أبو عبيد. والواجب ربع العشر لقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر" . رواه البخاري1. وروى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عليك في ذهبك شيء حتى يبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغ عشرين مثقالا ففيها نصف مثقال" . والرقة الدراهم المضروبة وهي دراهم الإسلام التي وزن كل عشرة منها سبعة مثاقيل بغير خلاف.
مسألة: "فإن كان فيها غش فلا زكاة فيها حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصابا" للخبر: "فإن شك في ذلك خير بين الإخراج وبين سبكهما ليعلم قدر ذلك" أو يستظهره يخرج ليسقط الفرض بيقين.
مسألة: "ولا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال والعارية" في ظاهر المذهب. لما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في الحلي زكاة" . ولأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح تجب فيه زكاة كثياب البدن, وحكى ابن أبي موسى عنه أن فيه الزكاة لعموم الأخبار.
مسألة: "ويباح للنساء كل ما جرت عادتهن بلبسه من الذهب والفضة ويباح للرجال من الفضة الخاتم وحلية السيف والمنطقة ونحوه فأما المعد للكراء أو للادخار ففيه الزكاة" إذا بلغ نصابا؛ لأنه معد للنماء فهو كالمضروب.
مسألة: "وأما المحرم" الذي يتخذه الرجل لنفسه من الطوق وخاتم الذهب "ففيه الزكاة"؛ لأنه فعل محرم فلم يخرج به عن أصله
ـــــــ
1 - رواه أحمد 1/12.

باب حكم الدين
من كان له دين على مليء أو مال يمكن خلاصه كالمجحود الذي له به بينة
ـــــــ
باب حكم الدين" ومن كان له دين على مليء أو مال يمكن خلاصه كالمجحود الذي له بينة والمغصوب الذي يتمكن من أخذه فعليه زكاته إذا قبضه لما مضى" لأنه

والمغصوب الذي يتمكن من أخذه فعليه زكاته إذا قبضه لما مضى وإن كان متعذرا كالدين على مفلس أو على جاحد, ولا بينة به والمغصوب والضال الذي لا يرجى وجوده فلا زكاة فيه, وحكم الصداق حكم الدين ومن كان عليه دين يستغرق النصاب الذي معه أو ينقصه فلا زكاة فيه
ـــــــ
مال مملوك ملكا تاما بلغ نصابا فوجبت فيه الزكاة كالذي في يده.
مسألة: "وإن كان متعذرا كالدين على مفلس أو على جاحد لا بينة به والمغصوب والضال الذي لا يرجى وجوده فلا زكاة فيه" ؛ لأن ملكه فيه غير تام لأنه غير مقدور عليه.
مسألة: "وحكم الصداق حكم الدين" كذلك "ومن كان عليه دين يستغرق النصاب الذي معه فلا زكاة فيه كذلك.

باب زكاة العروض
ولا زكاة فيها حتى ينوي بها التجارة وهي نصاب حولا, ثم يقومها فإذا بلغت أقل نصاب من الذهب والفضة أخرج الزكاة من قيمتها وإن كان عنده ذهب أو فضة ضمها إلى قيمة العروض في تكميل النصاب وإذا نوى بعروض
ـــــــ
باب زكاة العروض"ولا زكاة فيها حتى ينوي بها التجارة, وهي نصاب حولا, ثم يقومها فإذا بلغت أقل نصاب من الذهب والفضة أخرج الزكاة من قيمتها" لما روى سمرة بن جندب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع. رواه أبو داود وقال: إسناده مقارب1, ولأنه مال تام فتعلقت به الزكاة كالسائمة, وإنما اعتبر أقل نصاب من الذهب أو الفضة لأن التقويم لحظ الفقراء فيعتبر ما لهم الحظ فيه.
مسألة: وتؤخذ الزكاة من قيمتها لا من أعيانها؛ لأن نصابها معتبر بالقيمة لا بالعين وما اعتبر النصاب فيه وجبت الزكاة فيه كسائر الأموال, وقدر زكاته ربع العشر؛ لأنها تتعلق بالقيمة أشبهت زكاة الأثمان
مسألة: "وإن كان عنده ذهب أو فضة ضمها إلى قيمة العروض في تكميل النصاب" لأنه معد للنماء, والزكاة تجب في القيمة وهي إما ذهب وإما فضة فوجبت الزكاة في الجميع كما لو كان الكل للتجارة.
مسألة: "وإذا نوى بعروض التجارة القنية فلا زكاة فيها" لأن القنية الأصل "ثم إن نوى
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: الزكاة: حديث رقم 1562.

التجارة القنية فلا زكاة فيها ثم إن نوى بها بعد ذلك التجارة استأنف له حولا.
ـــــــ
بها بعد ذلك التجارة" ففيه روايتان: إحداهما يصير للتجارة بمجرد النية اختارها أبو بكر للخبر, ولأنه يصير للقنية بمجرد النية, فكذلك للتجارة. والثانية: لا يصير للتجارة حتى يتبعه بنية التجارة؛ لأن ما لا تتعلق به الزكاة من أصله لا يصير لها بمجرد النية كالمعلوفة إذا نوى بها الإسامة وفارق نية القنية؛ لأنها الأصل فيكفي فيها مجرد النية كالإقامة مع السفر.

باب زكاة الفطر
وهي واجبة على كل مسلم إذا ملك فضلا عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه وقدر الفطرة صاع من البر أو الشعير أو دقيقهما أو سويقهما, أو من التمر أو الزبيب فإن لم يجده أخرج من قوته أي شيء كان صاعا ومن لزمته فطرة نفسه
ـــــــ
باب زكاة الفطر"وهي واجبة على كل مسلم" تلزمه مؤنة نفسه "إذا فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته" صاع لما روى ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك من المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير, وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد". متفق عليه1.
مسألة: "وقدر الفطرة صاع من البر أو الشعير أو دقيقهما أو سويقهما أو من التمر أو الزبيب" لما روى أبو سعيد قال: كنا نعطيها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: إن مدا من هذا يعدل مدين قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه. متفق عليه2.
مسألة: "فإن لم يجده أخرج من قوته أي شيء كان صاعا" سواء كان حبا أو لحم حيتان أو أنعام, وهو اختيار ابن حامد؛ لأن مبناها على المواساة, وعند أبي بكر يخرج ما يقوم مقام المنصوص من كل مقتات من الحب والثمر كالذرة والدخن والأرز وأشباهه لأنه بدل عنه.
مسألة: "وإن لزمته فطرة نفسه لزمته فطرة من تلزمه مؤنته ليلة العيد إذا ملك ما يؤدي عنه" ؛ لأن الفطرة تابعة للنفقة فهذا إذا فضل عن نفقته ونفقة عياله يوم العيد وليلته ما يخرج
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الزكاة: حديث رقم 1511. ومسلم في: الزكاة: حديث رقم 12, 13, 14.
2 - رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1508. ومسلم في: الزكاة: حديث رقم 18.

لزمته فطرة من تلزمه مؤنته ليلة العيد إذا ملك ما يؤدي عنه, فإن كانت مؤنته تلزم جماعة كالعبد المشترك أو المعسر القريب لجماعة ففطرته عليهم على حسب مؤنته, وإن كان بعضه حرا ففطرته عليه وعلى سيده ويستحب إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة, ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد ويجوز تقديمها عليه بيوم أو يومين.
ويجوز أن يعطي واحدا ما يلزم الجماعة والجماعة ما يلزم الواحد.
ـــــــ
عن نفسه وعمن لزمته نفقته لزمه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "أدوا عمن تمونون" . وقدمت النفقة على الفطرة؛ لأنها أهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك" . رواه مسلم1. وفي لفظ: "ابدأ بمن تعول" . رواه الترمذي2.
مسألة: "ويشترط في وجوبها دخول وقت الوجوب وهو غروب الشمس من ليلة الفطر لقول ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان3, وذلك يكون لغروب الشمس فمن أسلم أو تزوج أو ولد أو ملك عبدا أو أيسر بعد الغروب أو ماتوا قبل الغروب لم تلزمه فطرتهم, وإن غربت وهم عنده ثم ماتوا, فعليه فطرتهم؛ لأنها تجب في الذمة فلم تسقط بالموت ككفارة الظهار.
مسألة: "فإن كانت مؤنته تلزم جماعة كالعبد المشترك فيه فعليهم صاع" ؛ لأن عليهم نفقته فعلى كل واحد من فطرته بقدر ما يلزمه من نفقته؛ لأنها تابعة لها فتقدر بقدرها, وعنه على كل واحد فطرة كاملة ؛لأنها طهرة فوجب تكميلها ككفارة القتل.
مسألة: "وكذلك الحكم فيمن بعضه حر" على ما ذكرنا.
مسألة: "ويستحب إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة" للخبر في أول الباب, ولأن المقصود إغناؤهم عن الطلب في يوم العيد لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" . رواه أبو سعيد وفي إخراجها قبل الصلاة إغناؤهم في اليوم كله.
مسألة: "ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد" فإن فعل أثم لتأخيره الحق الواجب عن وقته وعليه القضاء؛ لأنه حق مال وجب فلا يسقط بفوات وقته كالدين.
مسألة: "ويجوز تقديمها عليه بيومين" وثلاثة؛ لأن ابن عمر كان يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين؛ ولأن الظاهر أنها تبقى أو بعضها فيحصل الغنى بها فيه وإن عجلها لأكثر لم يجز؛ لأن الظاهر أنه ينفقها ولا يحصل بها الغنى المقصود يوم العيد.
مسألة: "ويجوز أن يعطي الواحد ما يلزم الجماعة" كما يجوز دفع زكاة مالهم إليه "ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد" كما يجوز تفرقة زكاة ماله إليهم,
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: الزكاة: حديث رقم 41.
2 - رواه الترمذي في: الزهد: حديث رقم 2343. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
3 - سبق تخريجه.

باب إخراج الزكاة
لا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها إذا أمكن إخراجها فإن فعل فتلف المال لم تسقط عنه الزكاة, وإن تلف قبله سقطت ويجوز تعجيلها إذا كمل النصاب ولا يجوز قبل ذلك فإن عجلها إلى غير مستحقها لم يجزئه, وإن صار عند الوجوب من أهلها وإن دفعها إلى مستحقها فمات أو استغنى أو ارتد أجزأت عنه وإن تلف.
ـــــــ
ويجوز أن يعطى الجماعة ما يلزم الواحد. ما يجوز تفرقته عليهم.
باب إخراج الزكاةمسألة: "لا يجوز تأخير الزكاة عن وقت وجوبها مع إمكانه" ؛ لأنها عبادة مؤقتة بوقت فلا يجوز تأخيرها عنه كالصلاة, ولأن الأمر بها مطلق والأمر المطلق يدل على الفور وقد اقترن به ما يدل عليه فإنه لو جاز له التأخير لأخر بمقتضى طبعه ثقة منه بأنه لا يأثم حتى يموت فتسقط عنه عند من يسقطها أو يتلف ماله فيعجز عن الأداء فيتضرر الفقراء بذلك, ولأنها وجبت لدفع حاجة الفقراء وحاجتهم ناجزة فيكون الوجوب ناجزا.
مسألة: "فإن فعل فتلف المال لم تسقط عنه الزكاة" ؛ لأنها وجبت في ذمته فلا تسقط بتلف المال كدين الآدمي.
مسألة: "وإن تلف قبله" يعني قبل الوجوب "سقطت" ؛ لأن المال تلف قبل أن تجب عليه فلم يكن في ذمته شيء أشبه ما لو لم يملك نصابا.
مسألة: "ويجوز تعجيلها إذا كمل النصاب ولا يجوز قبل ذلك" ؛ لأن النصاب سببها فلم يجز تقديمها عليه كالتكفير قبل الحلف ويجوز بعد كمال النصاب لما روي عن علي رضي الله عنه: "أن العباس سأل رسول صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في تعجيل الصدقة قبل أن تحل فرخص له" . رواه أبو داود1. ولأنه حق مال أجل للرفق فجاز تعجيله قبل أجله كالدين ودية الخطأ.
مسألة: "فإن عجلها إلى غير مستحقها لم يجزئه وإن صار عند الوجوب من أهلها" ؛ لأنه لم يؤتها لمستحقها.
مسألة: "وإن دفعها إلى مستحقها فمات أو استغنى أو ارتد أجزأت عنه" ؛ لأنه أداها إلى مستحقها فبرئ منها كما لو تلفت عند آخذها أو استغنى بها, "وإن عجلها ثم هلك المال قبل الحول لم يرجع على المساكين". لأنه دفعها إلى مستحقها فلم يملك الرجوع بها كما لو لم يعلمه.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: الزكاة: حديث رقم 1624.

المال لم يرجع على الآخذ ولا تنقل الصدقة إلى بلد تقصر إليه الصلاة إلا أن لا يجد من يأخذها في بلدها.
ـــــــ
مسألة: "ولا تنقل الصدقة إلى بلد تقصر إليه الصلاة" لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" 1؛ ولأن نقلها عنهم يفضي إلى ضياع فقرائهم.
مسألة: "إلا أن لا يجد من يأخذها" لما روي أن معاذا بعث إلى عمر صدقة من اليمن فأنكر عمر ذلك وقال:لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية, ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس وترد في فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحد يأخذه مني. رواه أبو عبيد في الأموال.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1395.

باب من يجوز دفع الزكاة إليه
وهم ثمانية:
الأول: الفقراء وهم الذين لا يجدون ما يقع موقعا من كفايتهم بكسب ولا غيره.
الثاني: المساكين وهم الذين يجدون ذلك ولا يجدون تمام الكفاية.
ـــــــ
باب من يجوز دفع الزكاة إليه:
مسألة: "وهم ثمانية" أصناف التي سمى الله تعالى في قوله: {إِِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 2. ولا يجوز صرفها إلى غيرهم لأن الله سبحانه خصهم بها بقوله: {إِنَّمَا} وهي للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه.
فأما "الفقراء والمساكين" فهم صنفان وكلاهما يأخذ لحاجته لمؤنة نفسه, والفقراء أشد حاجة لأن الله سبحانه بدأ بهم, والعرب إنما تبدأ بالأهم فالأهم, ولأن الله سبحانه قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} 3. فأخبر أن لهم سفينة يعملون بها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر وقال: "اللهم أحيني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين" . رواه الترمذي4. فدل على أن الفقر أشد, فالفقير من ليس له ما يقع موقعا من كفايته من كسب ولا غيره. والمسكين الذي له ذلك فيعطى كل واحد منهم ما تتم به كفايت"
ـــــــ
2 - آية 60 سورة التوبة.
3 - آية 79 سورة الكهف.
4 - رواه البخاري في: الزهد: حديث رقم 2352. وقال: هذا حديث غريب.

الرابع: المؤلفة قلوبهم وهم السادة المطاعون في عشائرهم الذين يرجى بعطيتهم دفع شرهم أو قوة إيمانهم أو دفعهم عن المسلمين أو إعانتهم على أخذ الزكاة ممن يمتنع من دفعها.
الخامس: الرقاب وهم المكاتبون وإعتاق الرقيق.
السادس: الغارمون وهم المدينون لإصلاح نفوسهم في مباح أو لإصلاح بين طائفتين من المسلمين
ـــــــ
الثالث: العاملون عليها وهم الجباة والحافظون لها ومن يحتاج إليه فيها" وينبغي للإمام إذا تولى القسمة أن يبدأ بالعامل فيعطيه عمالته؛ لأنه يأخذ عوضا فكان حقه آكد ممن يأخذ مواساة.
الرابع: المؤلفة قلوبهم وهم السادة المطاعون في عشائرهم ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة الإيمان منه, أو إسلام نظيره أو جباية الزكاة ممن لا يعطيها والدفع عن المسلمين", وهم ضربان: كفار ومسلمون فالكافر يعطى رجاء إسلامه أو خوف شره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان بن أمية يوم حنين قبل إسلامه ترغيبا له في الإسلام. قال صفوان: أعطاني رسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي. رواه مسلم1. وأما المسلمون: فقوم لهم شرف ويرجى بعطيتهم إسلام نظرائهم فيعطون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى: عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر مع إسلامهم وحسن نيتهم.
"الخامس: الرقاب وهم المكاتبون" , يعطون ما يؤدونه في كتابتهم ولا يقبل قوله إنه مكاتب إلا ببينة؛ لأن الأصل عدمها.
مسألة: ويجوز أن يفك منها أسيرا مسلما كفك رقبة العبد من الرق, وهل يجوز أن يشتري منها رقبة يعتقها؟ على روايتين: إحداهما يجوز؛ لأنها من الرقاب فعلى هذا يجوز أن يعين في ثمنها وأن يشتريها كلها من زكاته ويعتقها, والأخرى لا يجوز الإعتاق منها؛ لأن الآية تقتضي دفع الزكاة إلى الرقاب كقوله سبحانه: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} . يريد الدفع إلى المجاهدين والعبد لا يدفع إليه.
مسألة: "السادس: الغارمون وهم المدينون" . وهم ضربان: ضرب غرم "لمصلحة نفسه" فيعطى من الصدقة ما يقضي غرمه ولا يعطى مع الغنى لأنه يأخذ لحاجة نفسه
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: الفضائل: حديث رقم 59.

السابع: في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم.
الثامن: ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به وإن كان ذا يسار في بلده.
فهؤلاء هم أهل الزكاة لا يجوز دفعها إلى غيرهم ويجوز دفعها إلى واحد منهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر, وقال لقبيصة: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها, ويدفع إلى الفقير المسكين ما تتم به كفايته.
ـــــــ
فلم يدفع إليه مع الغنى كالفقير. الثاني: غرم لإصلاح ذات البين كمن يتحمل دية أو مالا لتسكين فتنة. "وإصلاح بين طائفتين" فيدفع إليه من الصدقة ما يؤدي حمالته وإن كان غنيا؛ لحديث قبيصة بن مخارق قال: تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها, فقال: "أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" . الحديث أخرجه مسلم1؛ ولأنه يأخذ لنفع المسلمين فجاز مع الغنى كالساعي.
"السابع: في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم" يعطون قدر ما يحتاجون إليه لغزوهم من نفقة طريقهم وإقامتهم, وثمن السلاح والخيل إن كانوا فرسانا ويعطون مع الغنى؛ لأنهم يأخذون لمصلحة المسلمين ولا يعطى الراتب في الديوان لأنه يأخذ قدر كفايته من الفيء.
"الثامن: ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به" دون المنشئ للسفر من بلده "وله اليسار في بلده" فيعطى من الصدقة ما يبلغه إليه لإيابه, "فهؤلاء أهل الزكاة لا يجوز دفعها إلى غيرهم" لما سبق.
مسألة: "ويجوز دفعها إلى واحد منهم" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد فى فقرائهم" . أمر بردها في صنف واحد, وقال لقبيصة لما سأله في حمالته: "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" . وهو صنف واحد, وأمر بني بياضة بإعطاء صدقاتهم سلمة بن صخر وهو واحد, فتبين بهذا أن المراد من الآية بيان موضع الصرف دون التعميم, وكذلك لا يجب تعميم كل صنف؛ ولأن التعميم بصدقة الواحد إذا أخذها الساعي غير واجب بخلاف الخمس.
ـ مسألة: "ويدفع إلى الفقير والمسكين ما تتم به كفايته" ؛ لأن المقصود دفع حاجته ويعطى "العامل قدر عمالته" لأنه مستحقه "ويدفع إلى المؤلفة قلوبهم ما يحصل به" التأليف ويعطى "المكاتب والغارم ما يقضي" دينهما, ويعطى "الغازي ما يحتاج إليه لغزوه" , وإن كثر لما سبق "ويعطى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده ولا يزاد أحد منهم على ذلك" لحصول المقصود.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: الزكاة: حديث رقم 109.

وإلى العامل قدر عمالته وإلى المؤلف ما يحصل به تأليفه وإلى المكاتب والغارم ما يقضي به دينه وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه وإلى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده, ولا يزاد واحد منهم على ذلك, وخمسة منهم لا يأخذون إلا مع الحاجة وهم: الفقير والمسكين والمكاتب والغارم لنفسه وابن السبيل, وأربعة يجوز الدفع إليهم مع الغنى وهم: العامل, والمؤلف, والغازي, والغارم لإصلاح ذات البين
ـــــــ
مسألة: "وخمسة منهم لا يأخذون إلا مع الحاجة: الفقير والمسكين والمكاتب والغارم لنفسه وابن السبيل" , فإن فضل مع الغارم شيء بعد قضاء دينه أو مع المكاتب بعد أداء كتابته أو مع الغازي بعد غزوه أو مع ابن السبيل بعد قفوله استرجع منهم, وإن استغنوا عن الجميع ردوه؛ لأنهم أخذوه للحاجة وقد زالت الحاجة. والباقون يأخذون أخذا مستقرا فلا يردون شيئا وهم أربعة: الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة؛ لأن الفقراء والمساكين إنما يأخذون ما تتم به كفايتهم والعامل يأخذ أجرة والمؤلفة يأخذون مع الغنى وعدمه وكلام الخرقي يقتضي أن أخذ المكاتب أخذ مستقر ووجهه أن حاجته لا تندفع إلا بما يغنيه فأشبه الفقير, فلو لزمه رد ما أخذ بعد أداء الكتابة لبقي فقيرا محتاجا.
مسألة: "وأربعة يجوز الدفع إليهم مع الغنى: العامل والمؤلف والغازي والغارم لإصلاح ذات البين" ؛ لأنهم يأخذون لحاجتنا إليهم والحاجة توجد مع الغنى

باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه
لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب ولا تحل لآل محمد صلى الله عليه وسلم وهم بنو
ـــــــ
باب من لا يجوز دفع الزكاة إليهمسألة: "لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" . رواه النسائي1. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" . وهو حديث حسن2.
مسألة: "وفي ضابط الغني روايتان: إحداهما أنه الكفاية على الدوام بصناعة أو بكسب أو أجرة أو نحوه, لقوله في حديث قبيصة: "ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش فوجه الحجة أنه قد أباحه المسألة إلى حصول الكفاية بقوله: حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ولأن الغنى
ـــــــ
1 - رواه النسائي في: الزكاة: 91- باب مسألة القوي المكتسب؛ حديث رقم1.
2 - رواه الترمذي في: الزكاة: حديث رقم 652. وقال: حديث حسن.

هاشم ومواليهم ولا يجوز دفعها إلى الوالدين وإن علوا ولا إلى الولد وإن سفل ولا من تلزمه مؤنته ولا إلى كافر. فأما صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء وإلى
ـــــــ
ضد الحاجة والحاجة تذهب بالكفاية وتوجد مع عدمها والرواية الثانية أنه الكفاية أو ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب؛ لأن في حديث ابن مسعود قيل: يا رسول الله ما الغنى؟ قال: "خمسون درهما أو قيمتها من الذهب" . قال الترمذي: هذا حديث حسن1, فعلى هذه إن كان له عيال فله أن يأخذ لكل واحد خمسين درهما نص عليه, إلا أن الحديث ضعيف؛ لأنه يرويه حكم بن جبير. وقال البخاري: هو ضعيف.
مسألة: "ولا تحل لآل محمد صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم ومواليهم" إلا لغزو أو حمالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الصدقات أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد وآل محمد" . وحكم مواليهم وهم معتقوهم حكمهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رافع: "فإن موالي القوم منهم" . حديث صحيح2.
مسألة: "ولا يجوز دفعها إلى الوالدين وإن علوا ولا إلى الولد وإن سفل ولا من تلزمه مؤنته" , كالزوجة والعبد والقريب؛ لأن نفقتهم عليه واجبة وفي دفعها إليهم إغناء لهم عن نفسه فكأنه صرفها إلى نفسه.
مسألة: "ولا يجوز دفعها إلى كافر" لغير تأليف لقوله صلى الله عليه وسلم: "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" 3؛ ولأنها مواساة تجب على المسلم فلم تجب للكافر كالنفقة.
مسألة: "فأما صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم" لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة, فقلت له: أتشرب من الصدقة؟ فقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة, وعنه لا تحل لهم صدقة التطوع أيضا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا تحل لنا الصدقة" . والأول أظهر. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المعروف كله صدقة" متفق عليه. وقال سبحانه: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 4. وقال تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 5. وقال تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 6. ولا خلاف في صحة العفو عن الهاشمي ونظائره.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في: الزكاة في حديث رقن 650.
2 - رواه أبو دود في: الزكاة: حديث رقم 1650. والترمذي في: الزكاة: حديث رقم 657. ويقال: هذا حديث حسن صحيح.
3 - سبق تخريجه.
4 - آية 280 سورة البقرة.
5 - آية 92 سورة النساء.
6 - آية 45 سورة المائدة.

غيرهم, ولا يجوز دفع الزكاة إلا بنية إلا أن يأخذها الإمام قهرا وإذا دفع الزكاة إلى غير مستحقها لم يجزه إلا لغني إذا ظنه فقيرا
ـــــــ
مسألة: "ولا يجوز دفع الزكاة إلا بنيه" لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" 1. "إلا أن يأخذها الإمام منه قهرا" فتجزي بنية الإمام في الظاهر على معنى أنا لا نطالبه بها ثانيا ولا تجزي في الباطن للخبر.
مسألة: "وإذا دفع الزكاة إلى غير مستحقها" وهو لا يعلم ثم علم "لم تجزه" ؛ لأنه بان أنه غير مستحق أشبه ما لو دفع الدين إلى غير صاحبه.
مسألة: "إلا لغني إذا ظنه فقيرا" وعنه لا تجزيه كذلك, ودليل الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالظاهر؛ لقوله للرجلين: "إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني". وهذا يدل على أنه يجزئ؛ ولأن الغني يخفى فاعتبار حقيقته يشق, ولهذا قال سبحانه: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} 2.
مسألة: ومن دفعها إلى من يظنه مسلما فبان كافرا, أو حرا فبان عبدا, أو هاشميا لم يجزه, رواية واحدة؛ لأن حال هؤلاء لا تخفى, فلم يعذر الدافع لهم بخلاف الأولى.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - آية 237 سورة البقرة.

كتاب الصيام
مدخل...
كتاب الصياميجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم, ويؤمر به الصبي إذا أطاقه ويجب بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان ورؤية هلال رمضان.
ـــــــ
كتاب الصيام
"يجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم" , فشروطه أربعة: الإسلام فلا يجب على كافر أصلي ولا مرتد؛ لأنه عبادة فلا تجب على الكافر كالصلاة. والثاني: فلا يجب على مجنون. والثالث: البلوغ فلا يجب على صبي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن الصبي حتى يبلغ الحلم" 1. وقال أصحابنا: يجب على من أطاقه؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أطاق الغلام الصيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان" . ولأنه يعاقب على تركه وهذا صفة الواجب والأول المذهب للخبر.
مسألة: "ويؤمر به الصبي إذا أطاقه" ويضرب عليه ليعتاده ولا يجب عليه للخبر.
مسألة: "ويجب بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان" ثلاثين يوما إجماعا. "ورؤية هلال رمضان" لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" . متفق عليه2. "ووجود غيم أو قتر" في مطلعه "ليلة الثلاثين" من شعبان "يحول دونه" ؛ لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له" . متفق عليه3. يعني ضيقوا له من قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} . أي ضيق عليه رزقه, وتضيق العدة أن يحسب شعبان تسعة وعشرين يوما, وكان ابن عمر إذا حال دون مطلعه غيم أو قتر أصبح صائما رواه أبو داود4.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه..
2 - رواه البخاري في: الصيام حديث رقم 1909. ومسلم في: الصيام حديث رقم 4.
3 - رواه البخاري في: الصيام رقم 1906. ومسلم في الصيام: حديث رقم 3.
4 - رواه أبو داود في: الصيام: حديث رقم 2320.

ووجود غيم أو قتر ليلة الثلاثين يحول دونه وإذا رأى الهلال وحده صام فإن كان عدلا صام الناس بقوله ولا يفطر إلا بشهادة عدلين, ولا يفطر إذا رآه وحده وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما أفطروا وإن كان بغيم أو قول واحد لم يفطروا إلا
ـــــــ
وهو راوي الحديث وعمله به تفسير له وعنه لا يصوم لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين يوما" . حديث صحيح1؛ ولأنه في أول الشهر شك فأشبه حال الصحو, وعنه الناس تبع للإمام فإن صام صاموا وإن أفطر أفطروا؛ لقوله عليه السلام: "صومكم يوم تصومون وأضحاكم يوم تضحون" . رواه أبو داود2.
مسألة: "وإن رأى الهلال وحده صام" لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" . "فإن كان عدلا صام الناس بقوله" ؛ لما روي أن ابن عمر رضي الله عنه قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام". رواه أبو داود3؛ ولأنه مما طريقه المشاهدة فدخل به في الفريضة فقبل من واحد كوقت الصلاة, والعبد كالحر لأنه من أهل الرؤية أشبه الحر.
مسألة: "ولا يفطر إلا بشهادة عدلين" لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين فإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا" . رواه النسائي4؛ ولأنها شهادة يدخل بها في العبادة فلم يقبل فيها الواحد كسائر الشهود.
مسألة: "ولا يفطر إذا رآه وحده" لما روي أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياما فأتيا عمر فذكرا له فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر. قال: فما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال. وقال الآخر: أنا صائم. قال: فما حملك على هذا؟ قال:لم أكن لأفطر والناس صيام, فقال للذي أفطر لولا مكان هذا لأوجعت رأسك؛ ولأنه محكوم به من رمضان فأشبه الذي قبله.
مسألة: "وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما أفطروا" لحديث عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب.
مسألة: "وإن كان بغيم لم يفطروا" إذا لم يروا الهلال؛ لأنهم إذا صاموا في أوله احتياطا للعبادة فيجب الصوم في آخره احتياطا لها, "وإن صاموا بشهادة الواحد لم يفطروا" كما لو شهد بهلال شوال.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الصيام: حديث رقم 1909.
2 - رواه أبو داود في الصيام: حديث رقم 2324.
3 - رواه أبو داود في الصيام: حديث رقم 2342.
4 -رواه النسائي في: الصيام.

أن يروه أن يكملوا العدة وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام, فإن وافق الشهر أو ما بعده أجزأه وإن وافق قبله لم يجزه.
ـــــــ
مسألة: "إلا أن يروه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "وأفطروا لرؤيته" 1, أو يكملوا العدة فيفطروا لقوله: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما" 2.
مسألة: "وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام, فإن وافق الشهر أو ما بعده أجزأه" ؛ لأنه فعل العبادة بعد وجوبها عليه باجتهاده, فإذا وافق الإصابة أجزأته كالقبلة إذا اشتبهت عليه أو الوقت.
مسألة: "وإن وافق ما قبله لم يجزه" ؛ لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها بالتحري فلم يجزه كالصلاة والحج إذا أخطأ فيه الواحد.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.

باب أحكام المفطرين في رمضان
ويباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام:
ـــــــ
باب أحكام المفطرين في رمضانمسألة: "ويباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام: أحدها المريض الذي يتضرر به, والمسافر الذي له القصر فالفطر لهما أفضل وعليهما القضاء" ؛ لأن الله سبحانه قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} 3, وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 4, ولقوله عليه السلام: "ليس من البر الصوم في السفر" . متفق عليه5. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح فأفطر فبلغه أن ناسا صاموا فقال: "أولئك العصاة" . رواه مسلم. "وإن صاما أجزأهما" لذلك. "الثاني: الحائض والنفساء تفطران وتقضيان" إجماعا. "وإن صامتا لم يجزئهما" إجماعا. وقالت عائشة رضى الله عنها: كنا نؤمر بقضاء الصوم, ولا نؤمر بقضاء الصلاة6. تعني في الحيض والنفاس مثله. "الثالث: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا" كالمريض "وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا" . لقوله سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 7 "الرابع: العاجز
ـــــــ
3 - آية 6 سورة البقرة.
4 - آية 184 سورة البقرة.
5 - رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 1946. ومسلم في الصوم: حديث رقم 92.
6 -سبق تخريجه.
7 - آية 184 سورة البقرة.

أحدها: المريض الذي يتضرر به والمسافر الذي له القصر فالفطر لهما أفضل وعليهما القضاء, وإن صاما أجزأهما.
الثاني: الحائض والنفساء تفطران وتقضيان وإن صامتا لم يجزئهما.
الثالث: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا, وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا.
الرابع: "العاجز عن الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكينا." وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويعتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين, فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا, فإن لم يجد سقطت عنه فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة
ـــــــ
عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يطعم عنه لكل يوم مسكينا" لقول الله سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا, والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. رواه أبو داود1.
مسألة: "وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويعتق رقبة, فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين, فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فإن لم يجد سقطت عنه" . لما روى الزهري عن حميد ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: هلكت قال: ما لك؟. قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها" ؟. قال: لا. قال: "هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ . قال: لا. قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا" ؟. قال: لا. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينما نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر, والعرق المكتل, فقال: "أين السائل" ؟. قال: أنا. قال: "خذ هذا فتصدق بت" . فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟. فوالله ما بين لا بتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر مني ومن أهل بيتي, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه, ثم قال: "أطعمه أهلك" . متفق عليه2.
مسألة: "فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية" في يوم واحد "فكفارة واحدة" , ولا خلاف فيه بين أهل العلم, وإن كان في يومين فعلى وجهين: أحدهما تلزمه كفارة واحدة
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الصيام: حديث رقم 2318.
2 - رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 1937. ومسلم في الصوم: حديث رقم 81.

واحدة فإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية, وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع فعليه كفارة ومن أخر القضاء لعذر حتى أدركه رمضان آخر فليس عليه غير القضاء, وإن فرط أطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا, وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه, وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكينا, إلا أن يكون الصوم منذورا فإنه يصام عنه, وكذلك كل نذر طاعة
ـــــــ
لأنه جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فتداخلا كالحدود, وكما لو جامع في يوم مرتين ولم يكفر. والثاني: تلزمه كفارة ثانية اختارها القاضي؛ لأنه أفسد صوم يومين فوجبت كفارتان كما لو كانا في رمضانين.
مسألة: "وإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية" نص عليه؛ لأنه تكرر السبب بعد استيفاء حكم الأول فوجب أن يثبت للثاني حكمه كسائر الكفارات.
مسألة: "وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع فعليه كفارة" للخبر.
مسألة: "ومن أخر القضاء لعذر حتى أدركه رمضان آخر فليس عليه غير القضاء" , لقوله سبحانه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . "وإن فرط أطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا" ؛ لما روى ابن ماجه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين" 1. قال الترمذي: الصحيح عن ابن عمر موقوف2. وعن عائشة أنها قالت: يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام عنه. وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صوم رمضان قال: أما رمضان فيطعم عنه وأما النذر فيصام عنه. رواه الأثرم في السنن.
مسألة: "وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه" ؛ لأنه حق الله تعالى وجب بالشرع ومات من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج.
مسألة: "وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكين" لحديث ابن عمر وعائشة وابن عباس.
مسألة: "إلا أن يكون الصوم منذورا فيصام عنه وكذلك كل نذر طاعة" ؛ لما روى البخاري عن ابن عباس قال: قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأقضيه عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم. قال: فصومي عن أمك" 3.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: الصوم: حديث رقم 1757.
2 - سنن الترمذي3/97.
3 -رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 1953.

باب ما يفسد الصوم
من أكل أو شرب أو استعط أو أوصل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس أو أمذى أو حجم أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه
ـــــــ
باب ما يفسد الصوم"من أكل أو شرب أو استعط أو أوصل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس أو أمذى أو حجم أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد" , أما الأكل والشرب فيحرم على الصائم, لقوله سبحانه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 1 بعد قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 2. فإذا أكل أو شرب مختارا ذاكرا لصومه أبطله؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم لغير عذر سواء كان غذاء أو غير غذاء كالحصاة والنواة لأنه أكل.
مسألة: "إن استعط فسد صومه لقوله للقيط بن صبرة: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما"3. وهذا يدل على أنه يفسد الصوم إذا بالغ فيه بحيث يصل إلى خياشيمه.
مسألة: "وإن أوصل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان" مثل إن احتقن أو داوى جائفة أو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه أو أوصل إلى دماغه شيئا مثل إن قطر في أذنيه أو داوى مأمومة فوصل إلى دماغه فسد صومه؛ لأنه إذا فسد بالسعوط دل على أنه يفسد بكل, وأصل من أي موضع كان, ولأن الدماغ أحد الجوفين فأفسد الصوم بما يصل إليه كالأخرى.
مسألة: وإن استقاء عمدا فعليه القضاء. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدا لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض" . حديث حسن4.
مسألة: وإن استمنى بيده فأنزل أفطر؛ لأنه أنزل عن مباشرة أشبه القبلة.
مسألة: ولو قبل أو لمس أو أمذى فسد صومه لذلك, أما إذا أمنى فإنه يفطر بغير خلاف علمناه, وإن أمذى أفطر عند إمامنا؛ لأنه خارج تخلله الشهوة فإذا انضم إلى المباشرة أفطر كالمني
ـــــــ
1 - آية 187 سورة البقرة.
2 - آية 187 سورة البقرة.
3- سبق تخريجه.
4 - رواه أبو داود في: حديث رقم 2380. والترمذي في الصوم: حديث رقم 720. وقال: حسن غريب.

فسد وإن فعله ناسيا أو مكرها لم يفسد صومه وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار أو تمضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء أو فكر فأنزل أو قطر في إحليله
ـــــــ
مسألة: وإن لم ينزل لم يفسد صومه؛ لما روى ابن عمر قال: قلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم. قال: "أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم" . قلت: لا بأس. قال: "فمه". رواه أبو داود1, شبه القبلة بالمضمضة لكونها من مقدمات الشهوة والمضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم تفطر كذلك القبلة.
مسألة: وإن حجم أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد صومه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" . رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفسا. قال أحمد: حديث ثوبان وشداد صحيحان2.
مسألة: وإن فعل شيئا من هذا "ناسيا لم يفسد صومه" لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" . متفق عليه3. وفي لفظ فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله فنص على الأكل والشرب, وقسنا عليه سائر ما ذكرنا.
مسألة: "وإن فعله مكرها لم يفطر" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء" 4. فنقيس عليه ما عداه.
مسألة: "وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار" لم يفسد صومه؛ لأنه لا يمكن التحرز منه أشبه الريق.
مسألة: "وإن تمضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء" لم يبطل صومه؛ لأنه وصل بغير اختياره أشبه الذباب الداخل حلقه.
مسألة: "وإن فكر فأنزل لم يفسد صومه" ؛ لأنه يخرج من غير اختياره.
مسألة: "وإن قطر في إحليله شيئا لم يفسد صومه" ؛ لأن ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف ولا منفذ بينهما.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الصيام: حديث رقم 2385.
2 - رواه البخاري في الصوم: تعليقا 32- باب الحجامة القيء للصائم. ورواه الترمذي في الصوم: حديث رقم 774
3 - رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 982. ومسلم في الصوم: حديث رقم 121.
4 - سبق تخريجه.

أو احتلم أو ذرعه القيء لم يفسد صومه, ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا فعليه القضاء, ومن أكل شاكا في طلوع الفجر لم يفسد صومه, وإن أكل شاكا في غروب الشمس فعليه القضاء.
ـــــــ
مسألة: "وإن احتلم لم يفسد صومه" ؛ لأنه يخرج من غير اختياره.
مسألة: "وإن ذرعه القيء لم يفسد صومه" لحديث أبي هريرة: من ذرعه القيء فليس عليه قضاء, حديث حسن1.
مسألة: "ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا فعليه القضاء" لما روي عن حنظلة, قال: كنا بالمدينة في رمضان فأفطر بعض الناس ثم طلعت الشمس فقال عمر: من أفطر فليقض يوما مكانه, ولأنه أكل ذاكرا مختارا فأفطر كما لو أكل يظنه من شعبان فبان من رمضان.
مسألة: "ومن أكل شاكا في طلوع الفجر لم يفسد صومه"؛ لأن الأصل بقاء الليل "وإن كان شاكا في غروب الشمس فعليه القضاء"؛ لأن الأصل بقاء النهار.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

باب صيام التطوع
أفضل الصيام صيام داود عليه السلام: كان يصوم يوما ويفطر يوما, وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم, وما من أيام العمل الصالح
ـــــــ
باب صيام التطوعمسألة: "أفضل الصيام صيام داود عليه السلام: كان يصوم يوما ويفطر يوما" , لأن في حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود وهو أفضل الصيام" . فقلت إني أطيق أفضل من ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أفضل من ذلك" . متفق عليه2.
مسألة: "وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم" لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم" . رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن3, وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة" , قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد
ـــــــ
2 - رواه البخاري في الصيام حديث رقم 1979, 1978. ومسلم في الصيام حديث رقم 186, 187.
3 - رواه أبو داود في الصوم: حديث رقم 2429. والترمذي في الصوم: حديث رقم 740. وقال: حديث حسن.

فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة.
ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله, وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة وصيام يوم عرفة كفارة سنتين, ولا يستحب لمن بعرفة أن يصومه
ـــــــ
في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك شيء" . عن حديث حسن صحيح رواه ابن عباس1, وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر" . وهذا حديث غريب أخرجه الترمذي2, وروى أبو داود بإسناده عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء3.
مسألة: "ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله" ؛ لما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر كله" . رواه مسلم والأثرم وأبو داود والترمذي, وقال: حديث حسن4.
مسألة: "وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة وصيام يوم عرفة كفارة سنتين" , لما روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" 5. وقال في صيام عاشوراء: "إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" . أخرجه مسلم6.
مسألة: "ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصومه" ليتقوى على الدعاء؛ لما روي عن أم الفضل بنت الحارث: أن أناسا تماروا بين يديها يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: صائم, وقال بعضهم: ليس بصائم, فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. وقال ابن عمر: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه -يعني يوم
ـــــــ
1 - رواه ابن عباس في: الصوم حديث رقم 2438. والترمذي في: الصوم حديث رقم 757, وقال: حسن صحيح غريب.
2 - رواه الترمذي في الصوم: حديث رقم 758. وقال: غريب. ورواه أيضا ابن ماجه في الصوم: حديث رقم 1728.
3 - رواه أبو داود في: الصوم.
4 - رواه مسلم في الصيام: حديث رقم 204. وأبو داود في الصوم: حديث رقم 2433. والترمذي في الصوم: حديث رقم 759. وقال: حسن صحيح.
5 - رواه الترمذي في الصوم: حديث رقم 749. وقال: حديث حسن.
6 - رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 1988. ومسلم في الحج: حديث رقم 110.

ويستحب صيام أيام البيض والإثنين والخميس والصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر, ولا قضاء عليه وكذلك سائر التطوع إلا الحج والعمرة فإنه
ـــــــ
عرفة -ومع أبي بكر رضي الله عنه فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه, أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن1, وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة2؛ ولأن الصوم يضعفه ويمنعه الدعاء في هذا اليوم العظيم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف الذي يقصد من كل فج عميق رجاء فضل الله فيه وإجابة دعائه فكان تركه أفضل.
مسألة: "ويستحب صيام أيام البيض" لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام3. وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر" . متفق عليه. ويستحب أن يجعل هذه الثلاثة أيام البيض لما روى أبو ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثالث عشره ورابع عشره وخامس عشره" . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن4.
مسألة: "ويستحب صيام الاثنين والخميس" ؛ لما روى أبو داود بإسناده عن أسامة بن زيد: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم الاثنين والخميس فسئل عن ذلك فقال: إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس -وفي لفظ- فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم5.
مسألة: "والصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ولا قضاء عليه" ؛ لأنه مخير فيه قبل الشروع فكان مخيرا بعده قياسا لما بعد الشروع على ما قبله ولا يلزمه قضاؤه إذا أفطر لأنه غير واجب, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيقول: هل عندكم من شيء؟ فإن قالوا: نعم أفطر وإن قالوا لا قال: فإني صائم, رواه مسلم ولا قضاء عليه لما سبق.
مسألة: "وكذلك سائر التطوع إلا الحج والعمرة فإنه يجب إتمامهما وقضاء ما أفسد منهما" ؛ لأنهما لا يوصل إليهما إلا بكلفة شديدة وإنفاق مال كثير في الغالب فإباحة الخروج منهما يفضي إلى تضييع المال بغير فائدة بخلاف غيرهما وإلزامه قضاء ما أفسد منهما وسيلة إلى المحافظة عليهما فلا يضيع ما أنفق عليهما
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الصوم: حديث رقم 751.
2 - رواه أبو داود في الصوم: حديث رقم 2440.
3 - رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 1981. ومسلم في صلاة المسافرين: حديث رقم 85.
4 - رواه الترمذي في الصوم: حديث رقم 761. وقال: حديث حسن.
5 - رواه أبو داود في الصوم: حديث رقم 2436.

يجب إتمامهما وقضاء ما أفسد منهما ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى, ونهى عن صوم أيام التشريق إلا أنه رخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي وليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان
ـــــــ
مسألة: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يومين: يوم الفطر والأضحى" ؛ لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها: يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم, متفق عليه1.
مسألة: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق" وروى نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل" . رواه مسلم2
مسألة: " إلا أنه رخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي " لما روى عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي. رواه البخاري3.
مسألة: "وليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر في كل وتر" . متفق عليه.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الصوم حديث رقم 1990. ومسلم في الصيام: حديث رقم 138.
2 - رواه مسلم في الصيام: حديث رقم 144.
3 - رواه البخاري في فضل ليلة القدر: حديث رقم 2017, 2020. ومسلم في الصيام: حديث رقم 209, 210.

باب الاعتكاف
وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه وهو سنة إلا أن يكون نذرا فليزم
ـــــــ
باب الاعتكافمسألة: "وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه" ؛ لأن الاعتكاف في اللغة لزوم الشيء وحبس النفس عليه برا كان أو غيره, قال سبحانه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} , وهو في الشرع الإقامة في المسجد على صفة نذكرها "وهو سنة" لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه واعتكف معه أزواجه وهذا معنى السنة, وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده. متفق عليه4.
"إلا أن يكون نذرا فيلزم الوفاء به" . قال ابن المنذر: اجمع أهل العلم على أن
ـــــــ
4 - رواه البخاري في: الاعتكاف: حديث رقم 2026. ومسلم في الاعتكاف حديث رقم 5.

الوفاء به, ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره, إلا المساجد الثلاثة فإذا نذر ذلك في المسجد الحرام لزمه وإن نذر الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز له
ـــــــ
الاعتكاف لا يجب على الناس فرضا إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا فيجب عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه " 1.
مسألة: "ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها" ؛ لأن صلاة الجماعة غير واجبة عليها فلم يوجد المانع في حقها.
مسألة: "ولا يصح في الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة" , لقوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} 2؛ ولأنه مسجد بني للصلاة فيه فأشبه المتفق عليه, وإنما اشترط في مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأن الجماعة واجبة على الرجل فاعتكافه في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى خروجه إلى الجماعة فيتكرر ذلك معه مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف الذي هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله عز وجل فيه.
مسألة: "واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل" لئلا يحتاج إلى الخروج إليها, ولأن ثواب الجماعة في الجامع أكثر.
مسألة: "ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره" ؛ لأن المساجد كلها في الفضيلة سواء. قال عليه السلام: "جعلت لي الأرض مسجدا وترابا طهورا" 3. "إلا المساجد الثلاثة" المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" . متفق عليه4. "فإذا نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لزمه" ولم يجز أن يعتكف في سواه لأنه أفضلها, "وإن نذر الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز أن يعتكف في المسجد الحرام"؛ لأنه أفضل منه ولم يجز له أن يعتكف في المسجد الأقصى لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه. "وإن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في أي المسجدين أحب"؛ لأنهما أفضل منه بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة في
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الأيمان: حديث رقم 6696.
2 - آية 187 سورة البقرة.
3 - سبق تخريجه.
4 - رواه البخاري في الصوم حديث رقم 1995. ومسلم في الحج: حديث رقم 415.

أن يعتكف في المسجد الحرام وإن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى فعله في أيهما أحب, ويستحب للمعتكف الاشتغال بفعل القرب واجتناب ما لا يعنيه من قول وفعل, ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك ولا يخرج من المسجد إلا لما لا بد له منه إلا أن يشترط ولا يباشر امرأة
ـــــــ
مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" , أخرجه مسلم1.
مسألة: "ويستحب للمعتكف الاشتغال بالقرب واجتنابه ما لا يعنيه من قول وفعل" , ولا يكثر الكلام فإن كثرته لا تخلو من اللغو والسقط, وقد جاء في الحديث: "من كثر كلامه كثر سقطه" . ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففي الاعتكاف أولى.
مسألة: "ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك" ؛ لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحظوره, وإنما استحب ذلك ليكون مشتغلا بما اعتكف لأجله من طاعة الله سبحانه واجتناب معاصيه فيحقق ما اعتكف لأجله.
مسألة: "ولا يخرج من المسجد إلا لما لا بد له منه" 2. قالت عائشة رضي الله عنها: السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لا بد منه, رواه أبو داود.
وقالت أيضا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. متفق عليه3. ولا خلاف أن له الخروج لما لا بد له منه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول, ولو كان ذلك يبطل لم يصح لأحد اعتكاف, وفي معناه الحاجة إلى الأكل والشرب إذا لم يكن له من يأتيه به يخرج إليه.
مسألة: "إلا أن يشترط" عيادة المريض وصلاة الجنازة وزيارة أهله أو رجل صالح أو قصد بعض أهل العلم أو يتعشى في أهله أو يبيت في منزله؛ لأنه يجب بعقده فكان الشرط فيه إليه كالوقف.
مسألة: "ولا يباشر امرأة" فإن وطئ فسد اعتكافه لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ؛ ولأنها عبادة يحرم فيها الوطء فأفسدها كالوطء في الصوم ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا
ـــــــ
1 - رواه مسلم في الحج حديث رقم 508.
2 - رواه أبو داود في: الصوم: حديث رقم 2473.
3 - رواه البخاري في: الاعتكاف: حديث رقم 2029, ومسلم في الحيض: حديث رقم 6, 7.

وإن سأل عن المريض في طريقه أو عن غيره ولم يعرج إليه جاز.
ـــــــ
مسألة: "والوطء محرم في الاعتكاف بالإجماع لقول الله سبحانه: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
مسألة: "وإن سأل عن المريض في طريقه أو عن غيره ولم يعرج إليه جاز" لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه.رواه أبو داود.

كتاب الحج والعمرة
مدخل...
كتاب الحج والعمرةيجب الحج والعمرة مرة في العمر على المسلم العاقل البالغ الحر إذا استطاع إليه سبيلا
ـــــــ
كتاب الحج
مسألة: "يجب الحج والعمرة مرة في العمر على المسلم العاقل البالغ الحر إذا استطاع إليه سبيلا" فيجب بخمسة شروط: الإسلام والحرية والبلوغ والعقل والاستطاعة لا نعلم في هذا كله خلافا, فأما الكافر فإنه غير مخاطب بفروع الدين, وأما العبد فلا يجب عليه؛ لأنها عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة فتضيع حقوق السيد المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد, وأما الصبي والمجنون فغير مكلفين بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشب وعن المعتوه حتى يعقل" . رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي قال: حديث حسن1. وغير المستطيع لا يجب عليه لقوله سبحانه وتعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} 2. وقال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 3, فخص المستطيع بالوجوب فيدل على نفيه عن غيره.
مسألة: "فصل" : وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام: قسم منها ما هو شرط للوجوب والصحة وهو الإسلام والعقل فلا يصح الحج من كافر ولا مجنون, ومنها ما هو شرط للوجوب والإجزاء وهو البلوغ والحرية وليس ذلك بشرط للصحة ولو حج الصبي والعبد صح حجهما ولم يجزهما عن حجة الإسلام, ومنها ما هو شرط للوجوب فقط وهو الاستطاعة فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد ولا راحلة كان حجة صحيحا مجزيا.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - آية 28 سورة البقرة.
3 - آية 97 سورة آل عمران.

والاستطاعة أن يجد زادا وراحلة بآلتهما مما يصلح لمثله فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء دينه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام, ويعتبر للمرأة وجود محرمها وهو زوجها
ـــــــ
مسألة: "والاستطاعة أن يجد زادا وراحلة بآلتهما مما يصلح لمثله فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء دينه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام" لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة". رواه الترمذي وقال: حديث حسن1, وروى الإمام أحمد لما نزلت: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} . قال رجل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"2. ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد, وتختص الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر فأما القريب الذي يمكنه المشي إليها وبينه وبينها مسافة دون القصر فيلزمه السعي إليها كالسعي إلى الجمعة
مسألة: والزاد الذي يشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة في ذهابه ورجوعه ويعتبر قدرته على الآلات التي يحتاج إليها من أوعية الماء والدقيق وما أشبههما مما لا يستغني عنه فهو كعلف البهائم.
مسألة: وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما بشراء أو كراء ويجد ما يحتاج إليه من آلتها التي تصلح لمثله, وإن كان ممن لا يخدم نفسه اعتبر القدرة على خادم يخدمه لأن هذا كله من سبيله.
مسألة: ويعتبر أن يكون ذلك فاضلا عن ما يحتاج إليه لنفقة أهله والذين تلزمه نفقتهم في مضيه ورجوعه؛ لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد. وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" . رواه أبو داود3.
مسألة: ويعتبر أن يكون ذلك فاضلا عما يحتاج إليه هو وأهله من مسكن وخادم, وأن يكون له إذا رجع ما يقوم بكفايته من تجارة أو صناعة أو أجرة عقار على الدوام؛ لأن ذلك من حقوق الآدميين وهو مقدم على حق الله سبحانه.
مسألة: "ويعتبر للمرأة وجود محرمها وهو زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم" . متفق عليه4.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الحج: حديث رقم 813.
2 - رواه أحمد في المسند.
3 - رواه أبو داود في الزكاة: حديث رقم 1692.
4 -رواه البخاري في تقصير الصلاة: حديث رقم 1086, 1087, 1088. ومسلم في الحج: حديث رقم 414.

ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح, ومن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة ولا يصح الحج من كافر ولا مجنون, ويصح من الصبي والعبد ولا يجزئ عنهما ويصح من غير المستطيع والمرأة بغير محرم.
ومن حج عن
ـــــــ
مسألة: ومن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة" ؛ لقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أمر والأمر يدل على الوجوب, وإذا ثبت هذا فمتى لم يحج حتى توفي وجب أن يخرج من ماله ما يحج به عنه ويعتمر؛ لما روى ابن عباس أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج قال: "حجي عن أبيك" 1. ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كالدين, والعمرة كالحج في القضاء فإنها واجبة, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين فقال: "حج عن أبيك واعتمر" . ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله؛ لأنه دين مستقر عليه فيكون من رأس ماله كدين الآدمي.
مسألة: ويستناب من يحج عنه من حيث وجبت عليه الحجة: إما من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه لا الموضع الذي مات فيه؛ ولأن الحج واجب على الميت من بلده فوجب أن ينوب عنه منه؛ لأن القضاء يكون على وفق الأداء كقضاء الصلاة والصيام.
مسألة: فإن خرج حاجا فمات في بعض الطريق أخرج من حيث مات؛ لأنه أسقط بعض ما وجب عليه بفعله فلم يجب ثانيا.
مسألة: "لا يصح الحج من كافر ولا مجنون" ؛ لأنهما ليسا من أهل الوجوب "ويصح من الصبي"؛ لما روى مسلم عن ابن عباس قال: رفعت امرأة صبيا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر" 2. "ويصح من العبد" أيضا لأنه من أهل العبادات "ولا يجزئ عنهما" كما لو صلى الصبي ثم بلغ في أثناء الوقت. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعد خلافه خلافا على أن الصبي إذا حج في حال صغره والعبد إذا حج في حال رقه ثم بلغ الصبي وأعتق العبد أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليه سبيلا. كذلك قال ابن عباس والحسن.
مسألة: "ويصح من غير المستطيع" كما تصح الجمعة من المريض إذا حضرها "ويصح من المرأة بغير محرم" لأنها من أهل الوجوب.
مسألة: "ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه أو عن نذره أو عن نفله وفعله قبل حجة الإسلام وقع حجه عن فرض نفسه دون غيره" لما روى ابن عباس أن رسول
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 409, 410, 411.

غيره ولم يكن حج عن نفسه أو عن نذره أو عن نفله وفعله قبل حجة الإسلام وقع حجه عن فرض نفسه دون غيره
ـــــــ
الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة فقال: "هل حججت قط" ؟ قال: لا. قال: "فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمه" . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وهذا لفظه1. ولأنه حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه فلم يقع عن الغير كما لو كان صبيا.
مسألة: فإن أحرم تطوعا أو عن حجة منذورة وعليه حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام؛ لأنه أحرم بالحج وعليه فرضه فوجب أن يقع عن فرضه كالمطلق
ـــــــ
1 - رواه أحمد في ا لمسند. وأبو داود في الحج: حديث رقم 1811. وابن ماجه في الحج: حديث رقم 2903.

باب المواقيت
وميقات أهل المدينة ذو الحليفة وأهل الشام والمغرب ومصر الجحفة واليمن يلملم ولنجد قرن وللمشرق ذات عرق, فهذه المواقيت لأهله ولكل من يمر عليها ومن منزله دون الميقات فميقاته من منزله حتى أهل مكة يهلون منها
ـــــــ
باب المواقيتمسألة: "وميقات أهل المدينة ذو الحليفة والشام ومصر والمغرب الجحفة, واليمن يلملم ولنجد قرن وللمشرق ذات عرق" لما روى ابن عباس قال: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم فهن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة, فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها". متفق عليه2. وأما ميقات أهل المشرق فمن ذات عرق: لما روت عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر الجحفة ولأهل العراق ذات عرق ولأهل اليمن يلملم". رواه أبو داود مختصرا. قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق"3. وأجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات.
مسألة: "وأهل مكة يهلون منها" لحديث ابن عباس: "ويهلون بالعمرة من أدنى الحل" لا نعلم في هذا خلافا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمر عائشة من التنعيم وكانت بمكة يومئذ4. وإنما لزم ذلك ليجمع في النسك بين الحل والحرم.
ـــــــ
2 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1524. ومسلم في الحج: حديث رقم 11.
3 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1739.
4 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1762.

حجهم ويهلون للعمرة من أدنى الحل ومن لم يكن طريقه على ميقات فميقاته حذو أقربها إليه ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم إلا لقتال مباح وحاجة تتكرر كالحطاب ونحوه, ثم إذا أراد النسك أحرم من موضعه وإن جاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات ولا دم عليه؛ لأنه أحرم من ميقاته فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع.
ـــــــ
بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الخروج من الحرم إلى عرفة للوقوف فيجتمع له الحل والحرم فلذلك جاز أن يحرم به من الحرم.
مسألة: "ومن لم يكن طريقه على ميقات فميقاته حذو أقربها إليه" وذلك أن من سلك طريقا بين ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب؛ لما روينا أن أهل العراق قالوا لعمر: إن قرنا جاوز عن طريقنا قال: فانظروا حذوها من طريقكم فوقت لهم ذات عرق, ولأن هذا مما يدخله الاجتهاد والتقدير فإذا اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة.
مسألة: "ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات وقد قال: "خذوا عني مناسككم"1. فكان واجبا بالأمر ولا يجوز ترك الواجب.
مسألة: "إلا لقتال مباح" لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر "أو لحاجة تتكرر كالحطاب" لأنا لو ألزمناه الإحرام لأفضى إلى أنه لا يزال محرما فيشق ذلك عليه.
مسألة: "ثم إذا أراد النسك أحرم من موضعه" ؛ لأن هذا لم يكن الإحرام من الميقات عليه واجبا فكان ميقاته من حيث نوى العبادة بدليل أن المكي يحرم من مكة لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس: "وكذلك أهل مكة يهلون منها". متفق عليه2.
مسألة: "وإن جاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات ولا دم عليه؛ لأنه أحرم من الميقات فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع" ؛ لما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ترك نسكا فعليه دم" 3. روي موقوفا عليه ومرفوعا؛ ولأنه أحرم دون الميقات فوجب عليه الدم وجوبا مستقرا كما لو رجع بعد أن طاف, ولأن
ـــــــ
1 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 310. وأبو داود في الحج: حديث رقم 1970.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه مالك في الحج حديث رقم 240.

والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات فإن فعل فهو محرم وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة
ـــــــ
الدم وجب بهتك حرمة الميقات حيث أحرم من دونه وهذا لا يرتفع برجوعه وإذا أحرم منه فلم يهتكه
مسألة: "والأفضل ألا يحرم قبل الميقات فإذا فعل فهو محرم" ولا خلاف أن من أحرم قبل الميقات أنه يصير محرما تثبت في حقه أحكام المحرمين؛ لكن الأفضل الإحرام من الميقات لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات وتبعهم أهل العلم على ذلك ولا يفعل النبي صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل, وروى الأثرم أن عمران بن حصين أحرم من البصرة فبلغ ذلك عمر فغضب وقال: لا يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من البصرة, وأنكر عثمان على رجل أحرم من خراسان أو كرمان, ولأنه تغرير بالإحرام وتعرض لفعل المحظورات وفيه مشقة على النفس فكره كالمواصلة في الصيام.
مسألة: "وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة" قاله ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وابن الزبير ولا خلاف بينهم أن أول أشهر الحج شوال.

باب الإحرام
من أراد الإحرام استحب له أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ويتجرد عن المخيط
ـــــــ
باب الإحراممسألة: "من أراد الإحرام استحب له أن يغتسل" لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام وأمر عائشة أن تغتسل عند الإهلال وهي حائض وقد روى خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب1.
مسألة: "ويستحب له أن يتنظف" بإزالة الشعث وقطع الرائحة وحلق شعر العانة ونتف الإبط وتقليم الأظافر ونحو ذلك؛ لأنه أمر يسن له الاغتسال أشبه الجمعة "ويسن له الطيب"؛ لأنه مكان يجتمع الناس فيه أشبه الجمعة.
مسألة: "ويتجرد عن المخيط في إزار ورداء أبيضين نظيفين" فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" . قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا لم يجد إزارا لبس السراويل وإذا لم يجد نعلين فليلبس الخفين" 2.
ـــــــ
1 رواه الترمذي في الحج. حديث رقم 830.
2 - رواه البخاري في اللباس: حديث رقم 893. ومسلم في الحج: حديث رقم 4.

ويلبس إزارا ورداء أبيضين نظيفين ثم يصلي ركعتين ويحرم عقيبهما وهو أن ينوي الإحرام ويستحب أن ينطق بما أحرم به ويشترط ويقول اللهم إني أريد النسك الفلاني فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني, وهو مخير بين التمتع والإفراد
ـــــــ
مسألة: "ثم يصلي ركعتين" ويستحب له أن يحرم عقيب الصلاة فإن حضرت مكتوبة صلاها وأحرم عقيبها, وإلا صلى ركعتين تطوعا وأحرم عقيبها. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به ناقته؟ قال: كل قد جاء في دبر الصلاة وإذا علا البيداء أو إذا استوت به ناقته فوسع فيه كله, وقال سعيد بن جبير ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته ثم خرج فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا أهل حين علا البيداء رواه أبو داود1. فأخذ به أحمد لأن فيه بيانا وفضل علم فتعين الأخذ به.
مسألة: "ويحرم عقيبهما وهو أن ينوي الإحرام" بقلبه ولا ينعقد الإحرام بغير نية لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" 2. ويكون عقيب الصلاة لقول ابن مسعود: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته.
مسألة: "ويستحب أن ينطق بما أحرم به ويشترط فيقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" ويفيد الاشتراط أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة فله التحلل ولا دم عليه ولا صوم لما روى ابن عباس أن ضباعة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال: قولي: "لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني فإن لك على ربك ما استثنيت" . رواه مسلم3. وروت عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير وهي شاكية فقال: "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني" . متفق عليه4.
مسألة: "وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران" أي ذلك أحرم به جاز بغير خلاف بين العلماء. قالت عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج. متفق عليه5. وقالت عائشة: أهللت
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1770, 1774.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 104, 105, 106, 107, 108.
4 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 5089. ومسلم في الحج: حديث رقم 104, 105, 106, 107, 108.
5 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1562. ومسلم في الحج: حديث رقم 118.

والقران وأفضلها التمتع ثم الإفراد ثم القران والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه, والإفراد أن يحرم بالحج وحده والقران أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج, ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة فإذا استوى على راحلته لبى فقال: لبيك اللهم
ـــــــ
بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" . متفق عليه1.
مسألة: "وأفضلها التمتع ثم الإفراد ثم القران" عند إمامنا أحمد رحمة الله عليه, واختار المتعة جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم؛ لما روى جابر وابن عباس وأبو موسى وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا بالبيت أن يحلوا ويجعلوها عمرة, ونقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل الأولى, ولم يختلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلا من ساق هديا وثبت على إحرامه. وقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة". فهذا معلوم صحته يقينا والنبي صلى الله عليه وسلم نقلهم من الحج إلى المتعة وتأسف كيف لم يمكنه ذلك, ولو كان الإفراد والقران أفضل لكان الأمر بالعكس, ولأن المتعة منصوص عليها في كتاب الله تعالى بقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} . من بين سائر الأنساك, ولأن التمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج كاملين غير متداخلين على وجه اليسر والسهولة مع زيادة نسك هو الدم فكان ذلك أولى.
مسألة: "والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه والإفراد أن يحرم بالحج وحده والقران أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج" كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
مسألة: "ويستحب أن ينطق بما أحرم به ليزول الالتباس وتتأكد النية كما قلنا, وتشترط لما سبق من حديث عائشة وابن عباس" .
مسألة: "ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة" ؛ لأنه لم يرد بذلك أمر ولا هو في معنى ما جاء به الأثر؛ لأن إحرامه بها لا يزيد عملا على ما لزمه بالإحرام بالحج ولا يعتبر ترتيبه بخلاف إدخال الحج على العمرة
مسألة: "فإذا استوى على راحلته لبى فيقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1556. ومسلم في الحج: حديث رقم 111.

لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
ـــــــ
لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" والتلبية في الإحرام مسنونة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها في حديث رواه البخاري وحديث جابر رواه مسلم1 وأمر برفع الصوت بها, وأقل أحوال ذلك الاستحباب وروى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا" . رواه ابن ماجه2. ويستحب أن يبدأ بالتلبية إذا استوى على راحلته لما روى أنس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل. أخرجه البخاري.3 وقال ابن عباس: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل4. يعني لبى ومعنى الإهلال رفع الصوت من قولهم: استهل الصبي إذا صاح والأصل فيه أنهم كانوا إذ رأوا الهلال صاحوا فيقال استهل الهلال, ثم قيل لكل صائح مستهل وإنما يرفع صوته بالتلبية؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية" . رواه النسائي وأبو داود. وقال: حديث حسن صحيح5. وقال أنس: سمعتهم يصرخون بها صراخا. وروي عن الصديق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ فقال: "العج والثج" 6. وهذا حديث غريب, ومعنى العج رفع الصوت, والثج إسالة الدماء بالذبح والنحر. وقال ابن عباس: رفع الصوت زينة الحج. وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية. وعن سالم قال: كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا يأتي الروحاء حتى يضمحل صوته.
مسألة: ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته فتنقطع تلبيته. وجاء في الصحيحين عن ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" . رواه البخاري عن عائشة ومسلم عن جابر7. والتلبية مأخوذة من قولهم لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك ولا شارد عليك هذا وما أشبهه وكرره
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1549. ومسلم في الحج: حديث رقم 19.
2 - رواه ابن ماجه في الحج: المناسك: حديث رقم 2921.
3 - سبق تخريجه.
4 - سبق تخريجه.
5 - رواه أبو دود في المناسك: حديث رقم 1814. والنسائي في المناسك: 55- باب رفع الصوت بالإهلال.
6 - رواه ابن ماجه في المناسك: حديث رقم 2924.
7 - سبق تخريجه.

ويسحب الإكثار منها ورفع الصوت بها لغير النساء وهي آكد فيما إذا علا نشزا أو هبط واديا أو سمع ملبيا, أو فعل محظورا ناسيا أو لقي ركبا وفي أدبار الصلاة المكتوبة وبالأسحار وإقبال الليل والنهار.
ـــــــ
لأنه أراد إقامة بعد إقامة كما قالوا حنانيك أى رحمة بعد رحمة أو رحمة مع رحمة, ويقول: لبيك إن الحمد بكسر الألف نص عليه أحمد قال ثعلب: من قال بكسر الألف فقد عم ومن قال بفتحها فقد خص, يعني أن من فضل كسر الألف جعل الحمد على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك؛ لأن الحمد لك أي لبيك لهذا السبب.
مسألة: "ويستحب الإكثار منها" على كل حال؛ لما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يضحي لله ويلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كيوم ولدته أمه". "و" يستحب "رفع الصوت بها" لما سبق ولا يستحب ذلك "للنساء"؛ لأنهن عورة فالإخفاء في حقهن استر لهن.
مسألة: "وهي آكد إذا علا نشزا أو هبط واديا: أو سمع ملبيا أو فعل محظورا ناسيا أو لقي راكبا وفي أدبار الصلاة وبالأسحار" لما روى جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا وفي أدبار المكتوبة ومن آخر الليل. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة وإذا هبط واديا وإذا علا نشزا وإذا لقي راكبا وإذا استوت به راحلته.
ـــــــ
1- رواه أبن ماجه في: الحج: حديث رقم: "2925".

باب محظورات الإحرام
وهي تسعة: الأول والثاني: حلق الشعر وقلم الظفر ففي ثلاثة منها دم وفي كل
ـــــــ
باب محظورات الإحراممسألة: "وهي تسعة: حلق الرأس وقلم الظفر: ففي ثلاثة منها دم وفي كل واحد مما دونها مد طعام وهو ربع الصاع" أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع عن أخذ شعره إلا من عذر, والأصل فيه قول الله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 1 وروى البخاري ومسلم عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: "لعلك تؤذيك هوام رأسك"؟ قال: نعم يا رسول الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة". 2 وهذا يدل على أن الحلق قبل ذلك محرم وشعر الرأس والجسد في ذلك سواء.
ـــــــ
1- آية 196 سورة البقرة.
2- رواه البخاري في: المحصر: حديث رقم "1814". و مسلم في: الحج: حديث رقم: "84".

واحد مما دونه مد طعام وهو ربع الصاع وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينه أو انكسر ظفره فقصه فلا شيء عليه.
الثالث: لبس المخيط إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا فدية عليه
ـــــــ
وأجمعوا على أن المحرم ممنوع من تقليم أظفاره إلا من عذر؛ ولأن قطع الأظفار إزالة جزء يترفه به فحرم كإزالة الشعر إلا أن ينكسر فله إزالته من غير فدية. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا انكسر؛ لأنه يؤذيه ويؤلمه أشبه الشعر يطلع في عينه والصائل يصول عليه. والقدر الذي يجب به الدم أن يحلق ثلاث شعرات فصاعدا. قال القاضي: هذا المذهب لأنه شعر آدمي يقع عليه اسم الجمع المطلق فجاز أن يتعلق به الدم كالربع, وعنه أن القدر الذي يجب به الدم أربع شعرات وهو اختيار الخرقي؛ لأنها كثير فوجب بها الدم كالربع فصاعدا.
فصل: والفدية الواجبة بحلق الشعر هي المذكورة في حديث كعب بن عجرة وقد سبق وهي على التخيير لأنه ذكرها بلفظ أو وهي على التخيير.
فصل: وفي كل واحدة فما دونها مد من طعام يكون ضمانا لها يعني ما دون الثلاث؛ لأن ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد, وعنه في كل شعرة قبضة من طعام روي ذلك عن عطاء, وعنه في الشعرة درهم وفي الشعرتين درهمين والأول أولى لما سبق والأظفار كالشعر ومقيسة عليها.
مسألة: "وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينيه أو انكسر ظفر فقصه فلا شيء عليه" لما سبق. "الثالث لبس المخيط إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا فدية عليه" قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القميص والسراويل والخفاف والبرانس. والأصل في هذا ما روى ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما من أسفل من الكعبين, ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس". متفق عليه1. وروى ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل المحرم". متفق عليه2. وهو ظاهر في إسقاط الفدية لأنه لم يذكرها
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1542. ومسلم في الحج: رقم 1, 2
2 - رواه مسلم في: المصدر عاليه: حديث رقم 3, 4.

الرابع: تغطية الرأس والأذنان منه. الخامس: الطيب في بدنه وثيابه. السادس: قتل الصيد وهو ما كان وحشيا مباحا وأما الأهلي فلا يحرم وأما صيد البحر فإنه مباح. السابع: عقد النكاح حرام ولا فدية فيه. الثامن: المباشرة لشهوة فيما دون
ـــــــ
"الرابع: تغطية الرأس والأذنان منه" لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من تخمير رأسه والأصل فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس العمائم والبرانس, وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته: "لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" 1. أخرجه البخاري. علل منع تغطية رأسه ببقائه على إحرامه فعلم أن المحرم ممنوع من ذلك وكان ابن عمر يقول: إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها, وإنه عليه السلام نهى أن يشد المحرم رأسه بالسير. وفائدة قوله: "والأذنان من الرأس". أي يحرم تغطيتهما. وقد قال عليه السلام: "الأذنان من الرأس" 2.
"الخامس: الطيب في بدنه وثيابه" أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته راحلته: "لا تحنطوه". متفق عليه3, وفي لفظ لمسلم: "لا تمسوه بطيب". فلما منع الميت الطيب لإحرامه كان الحي أولى بذلك, وعليه الفدية لذلك ومعنى الطيب كل ما يعد للشم كالمسك والكافور والعنبر والغالية والزعفران وما أشبه ذلك مما تطيب رائحته.
"السادس: قتل الصيد وهو ما كان وحشيا مباحا" لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم وقد قال سبحانه: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} 4. وقال تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} 5. "وأما الأهلي فلا يحرم"؛ لأنه ليس بصيد, وإنما حرم الصيد والحرام ليس بصيد أيضا لأنه محرم, "وأما صيد البحر فإنه مباح". قال سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}.
"السابع: عقد النكاح حرام" لقوله عليه السلام: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب". متفق عليه. من رواية عثمان رضي الله عنه, نهى والنهي يقتضي التحريم, وإن زوج أو تزوج فلا فدية عليه؛ لأنه عقد فسد لأجل الإحرام فلم تجب به الفدية كشراء الصيد.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه ابن ماجه في: الطهارة: حديث رقم 445. وقال في الزوائد: إسناده صعيف.
3 - سبق تخريجه.
4 - آية 95 المائدة.
5 -آية 96 سورة المائدة.

الفرج فإن أنزل بها فعليه بدنة, وإلا ففيها شاة وحجه صحيح. التاسع: الوطء في الفرج فإن كان قبل التحلل الأول فسد الحج ووجب المضي في فاسده والحج من قابل, ويجب على المجامع بدنة وإن كان بعد التحلل الأول ففيه شاة ويحرم من
ـــــــ
"الثامن: المباشرة لشهوة فيما دون الفرج فإن أنزل بها فعليه بدنة, وإن لم ينزل فعليه شاة وحجه صحيح" لا نعلم أحدا قال بفساد حجه؛ ولأنها مباشرة فيما دون الفرج عريت عن الإنزال فلم يفسد بها الحج, كاللمس والمباشرة لا توجب الاغتسال فأشبهت اللمس وعليه الفدية؛ لأنه هتك الإحرام بذلك الفعل كما لو تطيب أو لبس والفدية شاة؛ لأنها ملامسة لم يقترن بها الإنزال فأشبه لمس ما دون الفرج, فأما إن أنزل فعليه بدنة لأنه جماع اقترن به الإنزال فأوجب بدنة كما لو كان في الفرج وهل يفسد حجه بذلك على روايتين, إحداهما لا يفسد نص عليه أحمد؛ لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلا يفسد به الحج كما لو لم ينزل. الثانية: يفسد نص عليه لأنها عبادة يفسدها الوطء فأفسدها الإنزال عن مباشرة كالصائم اختارها أبو بكر والخرقي. ومن نصر الأولى قال: الأصل عدم الإفساد والجماع إنما هو الوطء في الفرج ولا يصح إلحاق غيره به فإنه أعظم, ولذلك لا يختلف الحال فيه بين الإنزال أو عدمه ويجب بنوعه الحد ويتعلق به اثنا عشر حكما فكيف يلحق به ما دونه, مع أن شرط القياس التساوي ولا يصح قياسه على الصيام فإن الصيام يخالف الحج في المفسدات. كذلك يفسد بالإنزال بتكرر النظر والمذي إذا لمس ويفسده الأكل والشرب وغيرهما, والحج لا يفسده إلا الوطء فكيف يصلح إلحاقه به ولا حجة فيه من نص ولا إجماع فلا يثبت فيه حكم الإفساد.
"والتاسع: الوطء في الفرج فإن كان قبل التحلل الأول فسد الحج ووجب المضي في فاسده والحج من قابل" أما فساد الحج في الجماع في الفرج فليس فيه خلاف. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع, والأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر أن رجلا سأله فقال: إني وقعت على امرأتي ونحن محرمان. فقال: أفسدت حجك انطلق أنت وامرأتك مع الناس فاقض ما يقضون وحل إذا حلوا, فإذا كان العام المقبل فحج أنت وامرأتك وأهديا هديا فإن لم تجدا هديا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتما, وكذلك قال ابن عباس وعبد الله بن عمرو ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم. وروى حديثهم الأثرم في سننه وزاد في حديث ابن عباس: ويفترقان من حيث يحرمان ولا يجتمعان حتى يقضيا حجهما. قال ابن المنذر: قول ابن عباس أعلى شيء روي فيمن وطئ في حجه, وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه.
مسألة: "ويجب على المجامع بدنة" روي ذلك عن ابن عباس؛ لأنه جماع صادف إحراما تاما فوجبت به البدنة كبعد الوقوف هذا إذا وطئ قبل التحلل الأول؛ لأنه يكون قد وطئ في إحرام تام, "وإن كان بعد التحلل الأول ففيه شاة ويحرم من التنعيم ليطوف

التنعيم ليطوف محرما, وإن وطئ في العمرة أفسدها, ولا يفسد النسك بغيره والمرأة كالرجل إلا أن إحرامها في وجهها ولها لبس المخيط.
ـــــــ
محرما" ولا يفسد حجه وهو قول ابن عباس وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه", رواه أبو داود. ولأن الحج عبادة لها تحللان فوجود المفسد بعد تحللها الأول لا يفسدها كما بعد التسليمة الأولى في الصلاة والواجب شاة لأنه وطء لم يفسد الحج فلم يوجب الفدية كما لو وطئ دون الفرج إذا لم ينزل؛ ولأن حكم الإحرام خف بالتحلل الأول فينبغي أن يكون موجبه دون موجب الإحرام التام, ويحرم من التنعيم لأن إحرامه فسد بالوطء كما يفسد به قبل التحلل الأول فيجب أن يحرم ليأتي بالطواف في إحرام صحيح؛ لأن الطواف ركن فيجب أن يأتي به في إحرام صحيح كالوقوف, وإنما لزمه أن يحرم من التنعيم ليجمع فيه بين الحل والحرم ثم يطوف للزيارة ويسعى ويتحلل.
مسألة: "وإن وطئ في العمرة أفسدها ولا يفسد النسك بغيره". قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع والعمرة كالحج.
مسألة: "والمرأة كالرجل إلا أن إحرامها في وجهها ولها لبس المخيط" وذلك لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم المحرم باجتناب شيء يدخل فيه الرجال والنساء, فما ثبت في حق الرجل فمثله في حق المرأة لكن استثنى منه لبس المخيط والتظليل مبالغة في ستر المرأة؛ لأنها عورة كلها إلا وجهها فتجردها يفضي إلى انكشافها, فأبيح لها هذا ولهذا أبحنا للمحرم عقد الإزار لئلا يسقط فتنكشف العورة, ولم يبح عقد الرداء وهذا مما لا نعلم فيه خلافا. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة ممنوعة مما منع عنه الرجال إلا بعض اللباس, وأجمع أهل العلم على أن للمحرمة لبس القميص والدرع والسراويلات والخمر والخفاف. وفي حديث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى النساء في إحرامهن عن لبس القفازين والنقاب. وتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف وهذا صريح والمعني باللبس هاهنا المخيط من القميص والدروع والسراويلات وما يستر الرأس والخفاف ونحو ذلك, وقوله: إحرامها في وجهها يعني أن المرأة يحرم عليها في الإحرام تغطية وجهها, كما يحرم على الرجل تغطية رأسه, ولا نعلم في هذا اختلافا إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها. قال ابن المنذر ويحتمل أن يكون معنى هذا كما قالت عائشة وهو ما روى أبو داود والأثرم عن عائشة قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه. وهذا لفظ أبي داود1 ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلا يحرم علية ستره على الإطلاق كالعورة من الرجل.

باب الفدية
وهي على ضربين:
أحدهما: على التخيير وهي فدية الأذى واللبس والطيب فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام أو طعام ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين أو ذبح شاة وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم
ـــــــ
باب الفديةمسألة: "وهي على ضربين: أحدهما على التخيير وهي فدية الأذى واللبس والطيب فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام أو إطعامه ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين أو ذبح شاة" أما فدية الأذى فهي على التخيير لما سبق في محظورات الإحرام من الآية وحديث كعب بن عجرة المتفق عليه, وأما فدية اللبس والطيب فهي مقيسة على فدية الأذى لكونه ترفه بذلك في إحرامه فلزمته الفدية كالمترفه بحلق شعره ولا فرق بين قليل الطيب وكثيره وقليل اللبس وكثيره؛ لأنه معنى حصل به الاستمتاع بالمحظور فاعتبر مجرد الفعل كالوطء.
وكذلك الحكم في كل دم وجب لترك واجب يعني أن ذلك على التخيير لا على الترتيب.
مسألة: "وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم" أجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد, وقال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 1. فمن قتل الصيد ابتداء من غير سبب يبيح قتله ففيه الجزاء فأما إن اضطر إلى أكله فيباح له أكله بلا خلاف نعلمه ويلزمه ضمانه؛ لأنه قتله لحاجة نفسه ودفع الأذى عنه من غير معنى حدث في الصيد يقتضي قتله فلزمه جزاؤه كحلق الرأس لدفع الأذى عنه, وإن صال عليه فلم يقدر على دفعه إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه؛ لأنه ألجأه إلى قتله فلم يجب ضمانه كالآدمي الصائل ولو خلص صيدا من سبع أو شبكة فتلف بذلك فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبي فمات بذلك.
مسألة: ولا فرق بين العامد والمخطئ في وجوب الجزاء لما روى جابر قال: جعل
ـــــــ
1 - آية 95 سورة المائدة.

إلا الطائر فإن فيه قيمته إلا الحمامة ففيها شاة والنعامة فيها بدنة ويتخير بين
ـــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشا, وقال في بيض النعام يصيده المحرم: ثمنه ولم يفرق. رواهما ابن ماجه1. ولأنه ضمان إتلاف أشبه مال الآدمي وعنه لا كفارة في الخطأ لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} فدليل خطابه أنه لا جزاء على الخاطئ.
مسألة: والصيد ما جمع ثلاثة أشياء: أن يكون مباح الأكل لا مالك له ممتنعا قاله بعض أهل اللغة فيخرج منه ما لا يحل أكله كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات وما عليه ملك فما ليس بوحشي يباح للمحرم ذبحه وأكله كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا, والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء ولو توحش الإنسي لم يجب فيه جزاء ولهذا وجب في الحمام اعتبارا بأصله.
مسألة: والواجب في صيد البر دون صيد البحر لقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}. إذا ثبت هذا فجزاء الصيد مثله من بهيمة الأنعام وهي الإبل والغنم؛ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. وليس المراد حقيقة المماثلة فإنها لا تتحقق بين النعم والصيد لكن أريد المماثلة من حيث الصورة والمشابهة من وجه وكونه أقرب بهيمة الأنعام به شبها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على وجوب المثل فقال عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية: في النعامة بدنة وحكم أبو عبيدة وابن عباس في حمار الوحش بدنة, وحكم عمر وعلي في الظبي بشاة وحكموا في الحمام بشاة.
مسألة: "إلا الطائر فإن فيه قيمته" في موضعه وهذا هو الأصل في الضمان بدليل سائر المضمونات من الأموال, وتعتبر القيمة في موضع الإتلاف كما لو أتلف مال آدمي قوم في موضع الإتلاف كذا هاهنا.
مسألة: "إلا الحمامة ففيها شاة والنعامة فيها بدنة" لما سبق من قضاء الصحابة رضي الله عنهم.
مسألة: "ويتخير بين إخراج المثل وتقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما", وعن أحمد أنها على الترتيب فيجب المثل أولا فإن لم يجد أطعم فإن لم يجد صام روي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنه؛ لأن هدي المتعة على الترتيب وهذا
ـــــــ
1 - رواهما ابن ماجه في الحج: حديث رقم 3085, 3086. والثاني ضعيف.

إخراج المثل وتقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما
الضرب الثاني: على الترتيب وهو:المتمتع يلزمه شاة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع, وفدية الجماع بدنة فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع.
وكذلك الحكم في دم الفوات
ـــــــ
آكد منه فإنه يفعل محظورا وعنه لا طعام في الكفارة وإنما ذكر في الآية ليعدل به الصيام؛ لأن من قدر على الإطعام قدر على الذبح قال: كذا قال ابن عباس ودليل الرواية الأولى قوله سبحانه: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} 1, و أو في الأمر للتخيير روي عن ابن عباس قال: كل شيء أوفهو مخير وأما ما كان فإن لم يجد فهو للأول الأول؛ ولأن هذه الفدية تجب بفعل محظور فكان مخيرا بين ثلاثتها كفدية الأذى.
مسألة: فإذا اختار المثل ذبحه وتصدق به على مساكين الحرم لأن الله سبحانه قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}, وإن اختار الإطعام فإنه يقوم المثل بدراهم والدراهم بالطعام ويتصدق به على المساكين كل مسكين مد من البر كما يدفع إليهم كفارة اليمين, وإن اختار الصيام صام عن كل مد يوما لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام فكان اليوم في مقابلة المد ككفارة الظهار, وعنه يصوم عن كل نصف صاع يوما روي عن ابن عباس واحتج به أحمد رضي الله عنه.
مسألة: "الضرب الثاني:على الترتيب وهو: التمتع يلزمه شاة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع"؛ لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 2 .
سألة: "وفدية الجماع بدنة فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع" لما سبق من إجماع الصحابة وكذلك الحكم في البدنة الواجبة بالمباشرة بالقياس على البدنة الواجبة بالوطء.
مسألة: "وكذلك الحكم في دم الفوات", لأن عمر رضي الله عنه قال لهبار بن الأسود لما فاته الحج: إذا كان عام قابل فاحجج فإن وجدت سعة فأهد فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إن شاء الله. رواه الأثرم وعنه لا هدي عليه لأنه لو لزمه هدي لزم المحصر هديان بالفوات والإحصار والأول أصح؛ لأنه قول عمر وجماعة من الصحابة, وعنه لا قضاء عليه إن كانت نفلا فيخرج الهدي في عامه فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
ـــــــ
1 - آية 95 سورة المائدة.
2 - آية 196 سورة البقرة

والمحصر يلزمه دم فإن لم يجد فصيام عشرة أيام ومن كرر محظورا من جنس غير قتل الصيد فكفارة واحدة, فإن كفر عن الأول قبل فعل الثاني سقط حكم ما كفر عنه وإن فعل محظورا من أجناس فلكل واحدة كفارة والحلق والتقليم والوطء وقتل
ـــــــ
مسألة: "والمحصر يلزمه دم فإن لم يجد فصيام عشرة أيام" لقوله سبحانه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}, وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم حصروا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا فإن لم يجد صام عشرة أيام؛ لأنه دم واجب للإحرام فكان له بدل ينتقل إليه كدم المتمتع والطيب واللباس.
مسألة: "ومن كرر محظورا من جنس غير قتل الصيد فكفارة واحدة" وذلك مثل من حلق ثم حلق أو لبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب فالحكم فيه كما لو فعل ذلك دفعة واحدة, وتجزئه كفارة واحدة؛ لأنها تتداخل فهي كالحدود والأيمان. "فإن كفر عن الأول قبل فعل الثاني سقط حكم ما كفر عنه" فصار كأنه لم يفعله وثبت لما بعده حكم المنفرد وهكذا لو كرر شيئا من محظورات الإحرام اللاتي لا يزيد الواجب فيها بزيادتها ولا يتقدر بقدرها, فأما ما يتقدر الواجب بقدره وهو إتلاف للصيد فإن في كل واحد منها له جزاؤه سواء فعل مجتمعا أو متفرقا ولا يتداخل بحال ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني لما سبق وعن أحمد رحمه الله إن كرره لأسباب -مثل إن لبس للبرد ثم لبس للحر ثم لبس للمرض- فكفارات وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة.
مسألة: "وإن فعل محظورا من أجناس فلكل واحد كفارة" وذلك مثل إن حلق وقلم ولبس وتطيب ووطئ فعليه لكل واحد كفارة, وعنه إن مس طيبا ولبس وحلق فكفارة وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد ففي كل واحد دم, ودليل الأولى أنه فعل محظورات من أجناس فلم تتداخل أجزاؤها كالحدود المختلفة والأيمان المختلفة.
مسألة: "والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه" يعني في وجوب الضمان؛ لأنه ضمان إتلاف فاستوى عمده وخطؤه كمال الآدمي وأما الوطء؛ فلأنه وطء في عبادة فاستوى عمده وسهوه كالوطء في رمضان. "وسائر المحظورات لا شيء في سهوه". قال أحمد رحمه الله: قال سفيان: ثلاثة في الحج العمد والنسيان سواء: إذا أتى أهله وإذا أصاب صيدا وإذا حلق رأسه. قال أحمد: إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شيء لا يقدر على رده, والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده, والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده فهذه الثلاثة العمد والخطأ والنسيان فيها سواء, وكل شيء من النسيان بعد الثلاثة فهو يقدر على رده مثل إذا غطى المحرم رأسه ثم ذكر ألقاه عن رأسه, وليس عليه شيء أو لبس خفا نزعه وليس عليه شيء, وعنه أن الفدية تلزم الجميع لأنه هتك حرمة الإحرام فاستوى عمده وسهوه كحلق الشعر وتقليم الأظافر, ودليل الأولى عموم قوله عليه السلام:

الصيد يستوي عمده وسهوه وسائر المحظورات لا شيء في سهوه, وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إلا فدية الأذى فإنه يفرقها في الموضع الذي حلق به وهدي المحصر ينحره في موضعه.
وأما الصيام فيجزئه بكل مكان
ـــــــ
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 1.
مسألة: "وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم"؛ لقوله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. الطعام كالهدي في اختصاصه بمساكين الحرم؛ لقول ابن عباس: الهدي والطعام بمكة والصوم حيث شاء؛ ولأنه طعام يتعلق بالإحرام فأشبه لحم الهدي.
مسألة: ومساكين الحرم من كان فيه سواء كان من أهله أو واردا إليه كالحاج وغيره, وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم.
مسألة: "إلا فدية الأذى فإنه يفرقها في الموضع الذي حلق فيه" نص عليه, واحتج بحديث علي حين ذبح عن الحسين بالسقيا؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بالفدية في الحديبية ولم يأمره ببعثه إلى الحرم.
مسألة: "وهدي المحصر ينحره في موضعه"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا هداياهم بالحديبية, وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان, وهي من الحل باتفاق أهل السير والنقل, وقد دل على ذلك قوله سبحانه: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} 2, ولأنه موضع تحلله فكان موضع ذبحه كالحرم, وأما قوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 3. فمحمول على غير المحصر, وقال ابن المنذر: إن ذلك ينصرف على وجهين: أحدهما أن بلوغه محله هو الذبح والنحر وإن كان في الحل وذلك في حق المحصر اقتداء بما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية. والثاني: أن محله الذبح في الحرم وذلك في حق الآمنين لقوله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 4.
مسألة: "وأما الصيام فيجزئه بكل مكان" لا نعلم في هذا خلافا إلا في الصيام عن هدي المتعة فإن قوما اشترطوا أن يرجع إلى أهله, وقال ابن عباس: الدم والطعام بمكة والصوم حيث شاء؛ لأن الصيام لا يتعدى نفعه إلى أحد فلا معنى لتخصيصه بمكان بخلاف الهدي والإطعام فإنه يتعدى نفعه إلى من يعطاه.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الطلاق: حديث رقم 2043. وفي الزوائد: إسناد ضعيف.
2 - آية 25 سورة الفتح.
3 - آية 196 سورة البقرة.
4 - آية 23 سورة الحج.

باب دخول مكة
يستحب أن يدخل مكة من أعلاها ويدخل المسجد من باب بني شيبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل منه, فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر الله وحمده ودعا ثم يبتدئ
ـــــــ
باب دخول مكةمسألة: "يستحب أن يدخل من أعلاها" لما روى ابن عمر أن رسول صلى الله عليه وسلم دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى1, وروت عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها. متفق عليه2.
مسألة: "ويدخل المسجد من باب بني شيبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل منه" وفي حديث جابر الذي رواه مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عند ارتفاع الضحى فأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد.
مسألة: "فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر الله وحمده ودعا" وروي رفع اليدين عند رؤية البيت عن ابن عمر وابن عباس, وروى أبو بكر بن المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: افتتاح الصلاة واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة وعلى الموقفين والجمرتين" 3. ولأن الدعاء يستحب عند رؤية البيت فقد أمر برفع اليدين عند الدعاء ويستحب أن يدعو فيقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام, اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا وزد من عظمته وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا, الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكريم وجهه وعز جلاله, الحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا والحمد لله على كل حال, اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت. ذكر هذا الدعاء أبو بكر الأثرم وبعضه مروي عن سعيد بن المسيب وهو يليق بالمكان فذكرناه.
مسألة: "ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمرا أو بطواف القدوم إن كان مفردا أو قارنا فيضطبع بردائه فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على الأيسر" وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة وهو مستحب في طواف القدوم؛ لما روى أبو دود وابن ماجه عن
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1576.
2 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1577. ومسلم في الحج: حديث رقم 224.
3 - سبق تخريجه.

بطواف العمرة إن كان معتمرا أو بطواف القدوم إن كان مفردا أو قارنا فيضطبع برادئه فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ويبدأ بالحجر الأسود فيستلمه ويقبله ويقول: بسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يأخذ عن يمينه ويجعل البيت عن
ـــــــ
يعلى بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم وقذفوها على عواتقهم اليسرى1.
مسألة: "ويبدأ بالحجر الأسود فيستلمه" وهو أن يمسحه بيده "ويقبله" قال أسلم: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك, متفق عليه2. وروى ابن ماجه عن ابن عمر قال: استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا, فإذا هو بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "يا عمر ها هنا تسكب العبرات" 3. "ويقول" عند استلامه: "بسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم".
مسألة: "ثم يأخذ عن يمينه ويجعل البيت عن يساره فيطوف سبعا يرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر ويمشي في الأربعة الأخر", ومعنى الرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطى من غير وثب وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم لا نعلم في ذلك خلافا بين أهل العلم وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثا ومشى أربعا. رواه جابر وابن عباس وابن عمر في أحاديث متفق عليها4, وحديث جابر من أفراد مسلم5, وسبب الرمل فيما روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة فقال المشركون: إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزال وكانوا يحسدونه قال: فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثا ويمشوا أربعا, رواه مسلم6 فإن قيل: أليس الحكم إذا تعلق بعلة زال
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1884.
2 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1597. ومسلم في الحج حديث رقم 248, 250, 251.
3 - رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 2945. قال في الزوائد: في إسناده محمد بن عون الخراساني ضعفه ابن معين وأبو حاتم, وغيرهما.
4 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1604. ومسلم في الحج: حديث رقم 230. 231. 233.
5 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 235, 236.
6 - المصدر عاليه: حديث رقم 237.

يساره فيطوف سبعا يرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر ويمشي في الأربعة الأخر وكلما حاذى الركن اليماني والحجر استلمهما وكبر وهلل ويقول
ـــــــ
بزوالها؟ فالجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رمل واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح ثبت أنها سنة ثانية, وقال ابن عباس: رمل النبي صلى الله عليه وسلم في عمره كلها وفي حجه وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعدهم, رواه أحمد في المسند1, وروى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر متفق عليه2. وفي مسلم عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر حتى انتهى إليه. متفيق عليه3.
مسألة: ولا يسن الرمل والاضطباع في غير الأشواط الثلاثة من طواف القدوم أو طواف العمرة إن كان معتمرا, لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما رملوا واضطبعوا في طواف القدوم.
مسألة: "وكلما حاذى الركن اليماني والحجر استلمهما وكبر وهلل" لأن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في طوافه. قال نافع: وكان ابن عمر يفعله, وروى البخاري عن ابن عباس قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الركن أشار إليه وكبر. "ويقول بين الركنين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" ؛ لما روى الإمام أحمد في المناسك عن عبد الله بن السائب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين ركن بني جمح والركن الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" 4, وروى ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وكل به - يعني الركن اليماني- سبعون ألف ملك فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين" 5. "ويدعو في سائره بما أحب" لما روي عن ابن عباس أنه كان إذا جاء إلى الركن اليماني قال: اللهم قنعني بما رزقتني واخلف لي على كل غائبة بخير ويستحب أن يقول: اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: رب قني شح نفسي وعن عروة. قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: لا إله إلا أنت وأنت تحيينا بعد ما أمتنا ويستحب الإكثار من ذلك قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الطواف
ـــــــ
1 - رواه أحمد في المسند.
2 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 233.
3 - المصدر عاليه: حديث رقم 235.
4 - رواه أحمد في المسند 3/101، 107, 208, و 209, 247 و277 و288, و 411.
5 - رواه ابن ماجه في المناسك: حديث رقم 2957.

بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" . ويدعو في سائره بما أحب, ثم يصلي ركعتين خلف المقام ويعود إلى الركن فيستلمه. ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيرقى عليه ويكبر الله ويهلله ويدعوه ثم ينزل فيمشي إلى
ـــــــ
بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى. قال الترمذي: حديث حسن صحيح1 ورواه الأثرم وابن المنذر.
مسألة: "ثم يصلي ركعتين خلف المقام" روى جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} 2. فجعل المقام بينه وبين البيت, قال محمد بن علي: ولا أعلمه إلا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. ومهما قرأ فيهما بعد الفاتحة جاز وحيث ركعهما جاز فإن ابن عمر ركعهما بذي طوى. رواه أحمد والبخاري ولا بأس أن يصليهما إلى غير سترة فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما والطواف بين يديه ليس بينهما شيء وكذلك سائر الصلوات فى مكة لا يعتبر لها سترة.
مسألة: "ويعود إلى الركن فيستلمه" يعني إذا فرغ من ركعتي الطواف وأراد أن يخرج إلى الصفا فقال أحمد: يعود فيستلم الحجر, وكان ابن عمر يفعل ذلك ولا نعلم فيه خلافا, والأصل فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم له ذكره جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم.
مسألة: "ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيرقى عليه ويكبر الله عز وجل ويهلله ويدعوه", قال جابر: ثم خرج من الباب إلى الصفا, فلما دنا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} "أبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير, لا إله إلا الله وحده أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده", ثم دعا بين ذلك وقال: مثل هذا ثلاث مرات, وكان ابن عمر يقوم على الصفا فيكبر سبع مرات ثلاثا ثلاثا ثم يقول: لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون, اللهم اعصمني بدينك وطاعتك وطاعة رسولك, اللهم جنبني حدودك, اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين, اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين, اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى واغفر لي في الآخرة والأولى
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1888.
2 - آية 12 سورة البقرة.

العلم ثم يسعى إلى العلم الأخر ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل كفعله على الصفا ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه حتى يكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية, يفتتح بالصفا ويختم بالمروة, ثم يقصر من شعره إن كان معتمرا وقد حل إلا المتمتع إن كان معه هدي والقارن
ـــــــ
واجعلني من أئمة المتقين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لي خطيئتي يوم الدين, اللهم إنك قلت وقولك الحق {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وإنك لا تخلف الميعاد, اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى توفاني عليه, اللهم لا تقدمني للعذاب ولا تؤخرني لسوء الفتن, ويدعو دعاء كثيرا حتى أنه ليملنا وإنا لشباب وكان إذا أتى المسعى سعى وكبر.
مسألة: "ثم ينزل فيمشي إلى العلم ثم يسعى إلى العلم الآخر, ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل كفعله على الصفا ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه حتى يكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة" هذا وصف السعي. قال جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة, ففعل على المروة كما فعل على الصفا, فلما كان آخر طوافه على المروة قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة"1. وهذا يقتضي أنه آخر طوافه.
مسألة: يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وقال: "أبدأ بما بدأ الله به". فيقتضي الترتيب لأنه أمر فيقتضي الوجوب فلو بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط فإذا صار إلى الصفا اعتد بما يأتي به بعد ذلك. قال ابن عباس: قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} 2 فيبدأ بالصفا وقال: اتبعوا القرآن فما بدأ به القرآن فابدأوا بت.
مسألة: "ثم يقصر من شعره إن كان معتمرا وقد حل إلا المتمتع إن كان معه هدي والقارن والمفرد فإنه لا يحل". والمتمتع هو الذي يحرم من الميقات بعمرة مفردة فإذا فرغ من أفعالها فقد حل, وأفعالها الطواف والسعي والتقصير أو الحلق على إحدى الروايتين إذا لم يكن معه هدي؛ لما روى ابن عمر قال: تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قال للناس: "من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت والصفا والمروة
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - آية 158 وسورة البقرة.

والمفرد فإنه لا يحل, والمرأة كالرجل, إلا أنها لا ترمل في طواف ولا سعي
ـــــــ
وليقصر وليحلل" . متفق عليه1. والأحاديث فيه كثيرة ولا نعلم فيه خلافا.
مسألة: وأما من كان معه هدي فإنه يقيم على إحرامه ويدخل إحرام الحج على العمرة, ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا, وفي حديث عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" 2.
مسألة: وأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل سواء كان معه هدي أو لم يكن معه هدي, فإن كان معه هدي نحره عند المروة وحيث نحره من مكة جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر سوى العمرة التي بحجته, فكان يحل وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل فجاج مكة طريق ومنحر". رواه أبو داود وابن ماجه3.
فصل: وأما القارن والمفرد فيستحب له إذا طاف وسعى أن يفسخ نية الحج وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعا, وإنما يجوز ذلك بشرطين: أحدهما أن لا يكون معه هدي فإن كان معه هدي بقي محرما حتى يفرغ من أفعال الحج, لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أمر أصحابه في حجة الوداع الذين أفردوا الحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق معه هديا, رواه جابر وابن عباس وعائشة متفق عليهن4. واحتج أحمد رحمه الله بقوله عليه السلام: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" , والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحاح تقرب من التواتر والقطع وقال مسلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله كل شيء منك حسن إلا خلة واحدة فقال: وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج. فقال أحمد: قد كنت أرى أن لك قولا, عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا جيادا كلها في فسخ الحج أتركها لقولك؟ ولأنه قلب الحج إلى العمرة فجاز دليله من لحقه الفوات.
الشرط الثاني: أن لا يكون قد وقف بعرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالفسخ قبل الوقوف, ولأنه أتى بركن الحج المختص به فلم يجز له الفسخ كما لو أتى بطواف الزيارة.
مسألة: "والمرأة كالرجل إلا أنها لا ترمل في طواف ولا سعي". قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا بين الصفا والمروة وليس عليهن اضطباع لأن الأصل في الرمل والاضطباع أمر الجلد ولا يقصد ذلك في النساء؛ ولأن النساء يقصد فيهن الستر وفي الرمل والاضطباع تعرض للانكشاف.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: الحج: حديث رقم 1691. ومسلم في الحج: حديث رقم 174.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في الصوم: حديث رقم 2324. وابن ماجه في الحج: حديث رقم 3048.
4 - سبق تخريجه.

باب صفة الحج
وإذا كان يوم التروية فمن كان حلالا أحرم من مكة وخرج إلى عرفات فإذا
ـــــــ
باب صفة الحجمسألة: "وإذا كان يوم التروية فمن كان حلالا أحرم من مكة وخرج إلى عرفات" فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بينهما, وروى جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم الحديث إلى أن قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي, فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر, ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها, حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس, ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا, ثم ركب حتى أتى الموقف واستقبل القبلة حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص, حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة, ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف, رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر, وأشركه في هديه, ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت وأكلا من لحمها وشربا من مرقها, ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر, فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم. فقال: "انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم". فناولوه دلوا فشرب منه.
"فصل" ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة سمي بذلك لأنهم كانوا يتروون من الماء فيما يعدونه ليوم عرفة, فالمستحب لمن كان بمكة حلالا -من المتمتعين الذين حلوا من عمرتهم ومن كان مقيما بها من أهلها وغيرهم- أن يحرموا يوم التروية حين يتوجهون إلى منى لما تقدم من حديث جابر.
مسألة: "وخرج إلى عرفات فإذا زالت الشمس صلى بها الظهر والعصر يجمع

زالت الشمس يوم عرفه صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين ثم يروح إلى الموقف - وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة, ويستحب أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم أو قريبا من الصخرات ويجعل حبل المشاة بين يديه ويستقبل القبلة ويكون راكبا, ويكثر من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شئ قدير ويجتهد في الدعاء
ـــــــ
بينهما" لما سبق من حديث جابر ثم يصير إلى الموقف وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة وذلك لأن الوقوف بعرفة ركن لا يتم الحج إلا به إجماعا, وقد قال عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه". أخرجه أبو داود وابن ماجه1. وقال محمد بن يحيى ما أرى للثوري حديثا أشرف منه. وقال عليه الصلاة والسلام: "كل عرفة موقف ارتفعوا عن بطن عرنة" رواه ابن ماجه2؛ ولأنه لم يقف بعرفة فلم يجزه كما لو وقف بمزدلفة.
مسألة: "ويستحب أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم عند الجبل قريبا من الصخرات" لما في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة. "ويجعل جبل المشاة بين يديه ويستقبل القبلة" لذلك.
مسألة: "ويكون راكبا" وهو أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكبا لما ذكر في حديث جابر فإن ذلك أعون له على الدعاء وقد قيل إن الراجل أفضل ويحتمل أنهما سواء.
مسألة: "ويكثر من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير" لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
مسألة: "ويجتهد في الدعاء والرغبة إلى الله عز وجل إلى غروب الشمس"؛ لأنه يوم ترجى فيه الإجابة ولذلك أحببنا له الفطر ليتقوى على الدعاء مع أن صومه بعرفة يعدل سنتين, وروى ابن ماجه قال: قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة فإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بكم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء" 3 ويستحب أن يدعو بالمأثور من الأدعية مثل ما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج. وابن ماجه في الحج: حديث رقم 3015.
2 - رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 3012.
3- رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 3014.

والرغبة إلى الله عز وجل إلى غروب الشمس ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة على
ـــــــ
عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا ويسر لي أمري". وكان ابن عمر يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله, أكبر الله أكبر ولله الحمد, لا إله إلا الله, الله أكبر, الله أكبر ولله الحمد, لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد, اللهم اهدني بالهدى وقني بالتقوى واغفر لي في الآخرة والأولى, ثم يرد يده فيسكت قدر ما كان إنسان قارئا بفاتحة الكتاب ثم يعود فيرفع يديه ويقول مثل ذلك, ولم يزل يفعل ذلك حتى أفاض وسئل سفيان بن عينية عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, فقيل له: هذا ثناء وليس بدعاء, فقال: أما سمعت قول الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
وقوله: "إلى غروب الشمس" معناه أنه يجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غربت الشمس, كذا في حديث جابر.
مسألة: "ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة على طريق المأزمين وعليه السكينة والوقار" وذلك أنه لا ينبغي للناس أن يدفعوا حتى يدفع الإمام وهو الوالي الذي إليه أمر الحاج من قبل الإمام فالمستحب أن يقف حتى يدفع الإمام, ثم يسير نحو المزدلفة على طريق المأزمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلكه وإن سلك الطريق الآخر جاز, ويكون عليه سكينة ووقار لقوله عليه السلام حين دفع وقد شنق القصواء بالزمام حتى إن رأسها ليصيب موركة رحله ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس السكينة السكينة". ذكره في حديث جابر, وروى ابن عباس أنه دفع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع صلى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: "أيها الناس عليكم السكينة فإن البر ليس بإيضاع الإبل". رواه البخاري1. وقال عروة: سئل أسامة وأنا جالس كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع؟ قال: كان يسير العنق2 فإذا وجد فجوة نص. قال هشام بن عروة: والنص فوق العنق متفق عليه3.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم "1671".
2 - قوله: العَنَق بفتح المهملة والنون: هو السير بين الإبطاء والإسراع. قال في المشارق: هو سير سهل في سرعة. وقال القزاز: العنق, سير سريع. وقيل: المشي الذي يتحرك به عنق الدابة. وفي الفائق: العنق: الخطو الفسيح. فتح الباري. "3/605".
3 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1666. ومسلم في الحج حديث رقم "283".

طريق المأزمين وعليه السكينة والوقار, ويكون ملبيا ذاكرا لله عز وجل. فإذا وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما ثم يبيت بها. ثم يصلي الفجر بغلس ويأتي المشعر الحرام فيقف عنده ويدعو ويستحب أن يكون
ـــــــ
مسألة: "ويكون ملبيا ذاكرا لله عز وجل" فإن ذكره مستحب في جميع الأوقات وهو في هذا الوقت آكد لقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} 1, ولأنه زمن الاستشعار بطاعة الله تعالى والتلبس بعبادته والسعي إلى شعائره فيستحب الإكثار فيه من ذكره ويستحب التلبية؛ لما روى الفضل بن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة. متفق عليه2. وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: شهدت ابن مسعود يوم عرفة يلبي فقال له رجل كلمة فسمعته زاد في التلبية شيئا لم أسمعه قبل ذلك: لبيك عدد التراب.
مسألة: "فإذا وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما" السنة لمن دفع من عرفة أن لا يصلي المغرب حتى يصل إلى مزدلفة فيجمع بين المغرب والعشاء قبل حط الرحال. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء, والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما, رواه جابر وابن عمر وأسامة وغيرهم في أحاديث صحاح ويكون ذلك قبل حط الرحال؛ لما روى مسلم عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام عشاء الآخرة فصلوا ثم حلوا.
مسألة: "ثم يبيت بها" والمبيت بمزدلفة واجب من تركه فعليه دم, وقال بعضهم من فاته جمع فاته الحج لقوله سبحانه: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } , ولنا قوله عليه السلام: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه" 3. يعني من جاء من عرفة وما احتجوا به من الآية فإن المنطوق فيها ليس بركن إجماعا فإنه لو بات بجمع ولم يذكر الله تعالى صح حجه بغير خلاف فيحمل ذلك على مجرد الإيجاب أو الفضيلة والاستحباب.
مسألة: "ثم يصلي الفجر بغلس" السنة أن يبيت بمزدلفة حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح والسنة أن يعجلها في أول وقتها ليتسع وقت الوقوف عند المشعر الحرام وفي حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح حين تبين له الصبح وفي حديث ابن مسعود
ـــــــ
1 - آية 198 سورة البقرة.
2 - رواه البخاري في: الحج: حديث رقم 1685. ومسلم في الحج: رقم 267.
3 - سبق تخريجه.

من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ويقف حتى يسفر جدا ثم يدفع قبل طلوع الشمس فإذا بلغ محسرا أسرع قدر رميه بحجر حتى يأتي منى فيبتدئ بجمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف يكبر مع كل حصاة
ـــــــ
أنه صلى الفجر حين طلع الفجر وقائل يقول قد طلع وقائل يقول لم يطلع ثم قال في آخر الحديث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله رواه البخاري بنحو هذا1.
مسألة: "ويأتي المشعر الحرام فيقف عنده ويدعو" وفي حديث جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المشعر الحرام فرقي عليه وحمد الله وهلله وكبره ووحده "ويستحب أن يكون من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا فيه لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ويقف حتى يسفر جدا" لما في حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفا حتى أسفر جدا.
مسألة: "ثم يدفع قبل طلوع الشمس" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله قال عمر: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس فيقولون: أشرق ثبير كيما نغير, وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفهم وأفاض قبل أن تطلع الشمس, رواه البخاري2.
مسألة: "فإذا بلغ محسرا أسرع قدر رمية بحجر حتى يأتي منى" يستحب الإسراع في وادي محسر وهو ما بين جمع فإن كان ماشيا أسرع وإن كان راكبا حرك دابته. قال جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى بطن محسر حرك دابته قليلا, وروي عن عمر رضي الله عنه أنه لما أتى محسرا أسرع وقال:
إليك تعدو قلقا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها
معترضا في بطنها جنينها
مسألة: "فيبدأ بجمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف يكبر مع كل حصاة ويرفع يده في الرمي ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي ويستبطن الوادي ويستقبل
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1683.
2 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1684.

ويرفع يديه في الرمي ويقطع التلبية بابتداء الرمي ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة
ـــــــ
القبلة ولا يقف عندها" وجمرة العقبة آخر الجمرات مما يلي منى وأولها مما يلي مكة عند العقبة فلذلك سميت جمرة العقبة, فيرميها بسبع حصيات مثل حصى الخذف فإن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: "ألقط لي حصى". فلقطت له سبع حصيات هن كحصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: "أمثال هؤلاء فارموا". رواه ابن ماجه1. وفي حديث جابر: "كل حصاة منها مثل حصى الخذف" 2. وروى سليمان بن عمر بن الأخوص: "بمثل حصى الخذف". رواه أبو داود وابن ماجه 3وفي حديث جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها4. وروى حنبل في المناسك بإسناده عن زيد بن أسلم قال: رأيت سالم بن عبد الله استبطن الوادي ورمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة: الله أكبر الله أكبر ثم قال: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وعملا مشكورا فسألته عما صنع فقال: حدتني أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة من هذا المكان ويقول كلما رمى حصاة مثل ما قلت.
مسألة: "ويرفع يديه في الرمي" لأن ابن عمر وابن عباس كانا يرفعان أيديهما في الدعاء إذا رميا الجمرة.
مسألة: "ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي" لأن الفضل بن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. متفق عليه. وكان رديفه يومئذ وهو أعلم بحاله من غيره ويقطعها عند أول حصاة يرميها؛ لأنه قد روي في بعض ألفاظ حديث ابن عباس: فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة قطع عند أول حصاة رواه حنبل في المناسك.
مسألة: "ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة" لما روى الترمذي قال: لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة وجعل يرمى الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رمى بسبع حصيات ثم قال: والله الذي لا إله غيره من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة وهو حديث صحيح5.
مسألة: "ولا يسن الوقوف عندها" لأن ابن عمر وابن عباس رويا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 3029.
2 - رواه مسلم في الحج حديث رقم 313.
3 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1966. وابن ماجه في الحج: حديث رقم 3031.
4 - سبق تخريجه.
5 - رواه الترمذي في الحج: حديث رقم 901. والنسائي في الحج: 226- باب المكان الذي ترمى منه جمرة العقبة. وابن ماجه في الحج: حديث رقم 3030.

ولا يقف عندها ثم ينحر هديه ثم يحلق رأسه أو يقصره ثم قد حل له كل شيء إلا النساء, ثم يفيض إلى مكة فيطوف للزيارة وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج.
ـــــــ
إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يعقب رواه ابن ماجه1.
مسألة: "ثم ينحر هديه" وذلك أنه إذا فرغ من رمي الجمرة يوم النحر لم يقف وانصرف إلى منزله فأول شيء يبدأ به نحر الهدي إن كان معه هدي واجبا كان أو تطوعا وينحر الإبل ويذبح ما سواها ويستحب أن يتولى ذلك بيده وإن استناب غيره جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بعض هديه واستناب في الباقي رواه جابر, وفي رواية أنس نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن قياما رواه البخاري2.
مسألة: "ثم يحلق رأسه أو يقصر" والحلق أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة3. والكل جائز.
مسألة: "ثم قد حل له كل شيء إلا النساء" لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل شيء إلا النساء". رواه الأثرم وأبو داود وقال: هو ضعيف4؛ لأن رواية الحجاج عن الزهري ولم يلقه, وليس في رواية أبي داود "وحلق رأسه" وروى ابن ماجه عن الحسن العرني عن ابن عباس قال: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء, فقال له رجل: يا ابن عباس والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينضح رأسه بالمسك أفطيب ذا أم لا؟ رواه أبو بكر في الشافي ورفعه وعن عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت. متفق عليه5.
مسألة: "ثم يفيض إلى مكة فيطوف للزيارة وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج" ويسمى طواف الإفاضة؛ لأنه يأتي به عند إضافته من منى إلى مكة وهو ركن الحج لا يتم إلا به لا نعلم فيه خلافا؛ لأن الله سبحانه قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 6. قال ابن عبد البر: هو من فرائض الحج لا خلاف في ذلك بين العلماء عند جميعهم قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
ـــــــ
1-رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 3032, 318.
2 -رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1712
3 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1728. ومسلم في الحج: حديث رقم 318.
4 -رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1978.
5 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1754. ومسلم في الحج حديث رقم 38.
6 - آية 29 سورة الحج.

ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أم ممن لم يسع مع طواف القدوم, ثم قد حل من كل شيء ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه ثم يقول: اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك وحكمتك.
ـــــــ
مسألة: "ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أو ممن لم يسع مع طواف القدوم ثم قد حل من كل شيء" وذلك أن المتمتع هو الذي ينوي عمرة مفردة ويفرغ من أفعالها ثم يحل فإذا أحرم بالحج ومضى إلى عرفات ثم رجع إلى منى ورمى يوم النحر ونحر ثم أفاض وطاف للزيارة: فإنه يسعى بين الصفا والمروة للحج, وذلك السعي كان للعمرة وهذا للحج وعند الخرقي يسن في حق الحاج طواف القدوم فإن كان قد سعى مع طواف القدوم ثم طاف للزيارة لم يحتج إلى سعي آخر بل يكفيه سعيه مع طواف القدوم, ثم قد حل له كل شيء قال ابن عمر:لم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض بالبيت, ثم قد حل من كل شيء حرم منه. متفق عليه. ولا نعلم خلافا في حصول الحل بطواف الزيارة وأما السعي فإن قلنا هو ركن لم يحل حتى يسعى وإن قلنا هو سنة احتمل أن يحل عقيب الطواف قبل السعي؛ لأنه لم يبق عليه واجب من الحج ويحتمل أن لا يحل حتى يأتي به لأنه من أفعال الحج فأشبه السعي في حق المعتمر لا يتحلل حتى يأتي به.
مسألة: "ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه ثم يقول: اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك وحكمتك" وروى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ماء زمزم لما شرب له" 1. وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال: من أين جئت؟ قال: من زمزم, قال: فشربت منها كما ينبغي؟ قال: فكيف؟ قال: إذا شربت منها فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا من زمزم وتضلع منها, فإذا فرغت فاحمد الله, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من زمزم". رواه ابن ماجه2. ويقول عند الشرب: بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا إلى آخر الدعاء.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: حديث رقم 3062 قال الحاكم: صحيح الإسناد.
2 - المصدر عاليه: حديث رقم 3961. وقال في الزوائد: هذا إسناد صحيح, رجاله موثوقون.

باب ما يفعله بعد الحل
ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من
ـــــــ
باب ما يفعله بعد الحلمسألة: "ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها" وذلك أن السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى. قالت عائشة رضي الله عنها: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي التشريق. رواه أبو داود1. وروى أحمد عن عبد الرزاق عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى2 والمبيت في منى ليالي واجب وهي إحدى الروايتين عن أحمد لما روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته. متفق عليه3. وتخصيص العباس بالرخصة من أجل السقاية دليل على أنه لا رخصة لغيره, وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته4, وروى الأثرم عن ابن عمر أن عمر قال: لا يبيتن أحد من الحجاج إلا بمنى, وكان يبعث رجالا لا يدعون أحدا يبيت وراء العقبة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله نسكا وقد قال: "خذوا عني مناسككم". والرواية الثانية: أن المبيت غير واجب ولا شيء على تاركه. قال ابن عباس: إذا رميت فبت حيث شئت, فعلى هذا لا شيء على تاركه. وعلى الرواية الأولى قال: يطعم شيئا من تمر أو نحوه فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه, وعنه يلزمه في الليلة درهم وفي الليلتين درهمان وفي الثلاث دم روي عن عطاء وروي في ليلة نصف درهم وروي في ليلة مد وفي ليلتين مدان وفي الثلاث دم قياسا على الشعر, ودليل الأولى أنه لا توقيت فيه؛ لأن التوقيت توقيف ولم يرد فيه نص فلا يصار فيه إلى التوقيت والله أعلم.
مسألة: "فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها كل جمرة بسبع حصيات فيبتدئ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة"؛ لأن جملة ما يرمي به الحاج سبعون حصاة: سبع منها يوم النحر بعد طلوع الشمس وسائرها في أيام التشريق بعد زوال الشمس كل يوم إحدى وعشرين حصاة لثلاث جمرات يبتدئ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج: حديث 1998. ومسلم في الحج: حديث رقم 335.
2 - روا أحمد في المسند 2/3.
3 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1743. ومسلم في الحج: حديث رقم 346.
4 - رواه ابن ماجه في المناسك: حديث رقم 3066.

أيامها كل جمرة بسبع حصيات يبتدئ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة ثم يتقدم فيقف فيدعو الله ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها, ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل الغروب فإن غربت الشمس وهو
ـــــــ
ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما وصفنا في جمرة العقبة "ثم يتقدم" عنها إلى موضع لا يصيبه الحصا "فيقف" طويلا "يدعو الله" عز وجل رافعا يديه "ثم يتقدم إلى الوسطى" فيجعلها عن يمينه ويستقبل القبلة "ويرميها" بسبع حصيات ويفعل من الوقوف والدعاء كما فعل في الأولى "ثم يرمي جمرة العقبة" بسبع حصيات ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة "ولا يقف عندها" قالت عائشة رضي الله عنها: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث فيها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية ويطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها. رواه أبو داود وروى البخاري عن ابن عمر: أنه كان يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات فيكبر على أثر كل حصاة, ثم يتقدم ويسهل ويقوم قياما طويلا ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ بذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبلا القبلة قياما طويلا ثم يرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه بعرفة ويزيد: وأصلح -أو أتم- لنا مناسكنا. وقال ابن المنذر: كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند الرمي: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وكان ابن عمر وابن عباس يرفعان أيديهما في الدعاء إذا رميا الجمرة ويطيلان الوقوف وروى الأثرم قال: كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة البقرة ويكون الرمي بعد الزوال لما سبق. وقال جابر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس. أخرجه مسلم. وقد قال: "خذوا عني مناسككم".
مسألة: "ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك" يعني في وقته وصفته وهيئته لا نعلم في ذلك خلافا غير ما روي عن إسحاق.
مسألة: "فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل المغرب وإن غربت الشمس وهو بمنى لزمه المبيت بها والرمي من غد" أجمع أهل العلم أن لمن أراد الخروج من منى شاخصا عن الحرم غير مقيم بمكة أو ينفر بعد الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق إذا رمى فيه فأما إن أحب أن يقيم بمكة فقد قال أحمد: لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة. وكان مالك يقول: من كان له عذر من أهل مكة فله أن يتعجل في يومين وإن

بمنى لزمه المبيت بمنى والرمي من غد فإن كان متمتعا أو قارنا فقد انقضى حجه وعمرته وإن كان مفردا خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه ثم يأتي مكة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر فإن لم يكن له شعر استحب أن يمر الموسى على رأسه وقد تم حجه وعمرته, وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد
لكن عليه وعلى المتمتع دم؛
ـــــــ
أراد التخفيف عن نفسه من أمر الحج فلا ويحتج من يذهب إلى هذا بقول عمر: من شاء من الناس كلهم أن ينفر في النفر الأول إلا آل خزيمة فلا ينفروا إلا في النفر الآخر. قال ابن المنذر: جعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر: إلا آل خزيمة أي أنهم أهل حرم. وظاهر المذهب جواز النفر في النفر الأول لكل أحد وهو مقتضى كلام الخرقي وعامة العلماء لعموم قوله سبحانه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} 1. قال عطاء: هي للناس عامة, وروى أبو داود وابن ماجه عن يحيى بن معمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى". قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه سفيان, وقال وكيع: هذا الحديث أم المناسك؛ ولأن أهل مكة وغيرهم سواء في سائر المناسك فكذلك في هذا, وإذا أحب التعجيل في النفر الأول خرج قبل غروب الشمس, فإذا غربت قبل خروجه لم يجز له الخروج لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}, واليوم اسم للنهار. وقال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس.
مسألة: "فإن كان متمتعا أو قارنا فقد انقضى حجه وعمرته وإن كان مفردا خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه ثم أتى مكة فطاف وسعى وحلق أو قصر فإن لم يكن له شعر استحب أن يمر الموسى على رأسه وقد تم حجه وعمرته"؛ لأنه قد فعل أفعال الحج والعمرة.
مسألة: "وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد ولكن عليه وعلى المتمتع دم" المشهور عن أحمد رضي الله عنه أن القارن بين الحج والعمرة لا يلزمه من العمل أكثر مما يلزم المفرد بل فعلهما سواء ويجزيه طواف واحد أو سعي واحدا لحجه وعمرته نص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه, وعنه أن عليه طوافين وسعيين. روي ذلك عن علي ولم يصح عنه واحتج من قال ذلك بقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 2. وتمامهما أن يأتي بأفعالهما على الكمال ولم يفرق بين القارن وغيره قالوا وروي عن
ـــــــ
1 - الآية 203 سورة القرة.
2 - آية 196 سورة البقرة.

لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}
ـــــــ
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان" ولأنهما نسكان فلزم لهما طوافان كما لو كانا منفردين ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوافا واحدا. متفق عليه1. وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما قرنت بين الحج والعمرة: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك". وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد حتى يحل منهما جميعا". وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة وطاف لهما طوافا واحدا. رواهما الترمذي وقال في كل واحد منهما: حديث حسن2, وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه لعمرتهم وحجهم حين قدموا إلا طوافا واحدا. رواه الأثرم وابن ماجه3. وروى الأثرم عن سلمة قال: حلف طاووس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للحج والعمرة إلا طوافا واحدا, ولأنه نسك يكفيه حلق واحد ورمي واحد فكفاه طواف واحد وسعي واحد كالمفرد, ولأنهما عبادتان من جنس واحد فإذا اجتمعا دخلت أفعال الصغرى في الكبرى كالطهارتين, وأما الآية فإن الأفعال إذا وقعت لهما فقد تما وحديثهم لا نعلم صحته وكفى به ضعفا معارضته بما روينا من الأحاديث الصحيحة, وإن صح فيحتمل أنه أراد عليه طواف وسعي فسماهما طوافين فإن السعي بين الصفا والمروة يسمى طوافا, ويحتمل أنه أراد أن عليهم طوافين طواف الزيارة وطواف الوداع.
مسألة: "لكن عليه دم" أكثر أهل العلم على القول بوجوب الدم عليه ولا نعلم فيه اختلافا إلا ما حكي عن داود أنه قال: لا دم عليه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرن بين حجه وعمرته فليهرق دما" ؛ ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع فإن عدم الدم فعليه صيام صيام ثلاثة أيام في الحج يكون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع قياسا على دم المتعة فإنه مشبه به ومقيس عليه وقال ابن عبد البر: القران نوع من المتعة؛ لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين وهو داخل في قوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
مسألة: "وعلى المتمتع دم لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ووقت وجوبه قال القاضي: إذا وقف بعرفة ورواه المروذي عن أحمد
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1638. ومسلم في الحج حديث رقم 181.
2 - رواهما الترمذي في الحج: حديث رقم 947, 948.
3 - رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 2972. وهو حديث ضعيف بهذا الإسناد.

......................................................................
ـــــــ
وعنه يجب إذا أحرم بالحج لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}. وهذا قد فعل ذلك ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كان كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}, ووجه الأول أن التمتع بالعمرة إلى الحج إنما يحصل بعد وجود الحج معه ولا يحصل ذلك إلا بالوقوف لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة". ولأنه قبل ذلك يعرض للفوات فلا يحصل له التمتع فيعتبر وجود ما يأمن به فواته ووقت إخراجه يوم النحر لأن ما قبله لا يجوز ذبح الأضحية فلا يجوز فيه هدي التمتع كقبل التحلل من العمرة.
مسألة: "فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام يكون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع" لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن المتمتع إذا لم يجد الهدي ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع, وقد نص الله عليه سبحانه في كتابه بقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ}. فأما وقت الصيام فالاختيار في الثلاثة أن يصومها في ثامن الإحرام بالحج ويوم النحر لقول الله سبحانه: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} 1. وكان ابن عمر وعائشة وإمامنا يقولون: يصومهن ما بين إهلاله بالحج ويوم عرفة فإن لم يحرم إلا يوم التروية صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة, وقال طاوس: يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة وصوم عرفة بعرفة غير مستحب, وإنما أحببناه هاهنا لموضع الحاجة ولأنه واجب, وذكر القاضي في المجرد أنه يكون آخرها يوم التروية قال شيخنا: والمنصوص عن أحمد فيما وقفنا عليه من نصوصه أن يكون آخرها يوم عرفة, ولا خلاف في جواز ذلك وإنما الخلاف في استحبابه. وأما وقت الجواز لصيام الثلاثة فأوله إذا أحرم بالعمرة وعن ابن عمر إنما يجوز صيامهن إذا تحلل من العمرة
اختاره ابن المنذر لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}. ولأنه صيام واجب فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه كسائر الصيام الواجب, ولنا أنه أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم بعده وإن تخلف الوجوب كتقديم الزكاة بعد النصاب وقبل الحول والكفارة بعد اليمين قبل الحنث. فأما قوله سبحانه: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}. فقال بعض أهل العلم: معناه في أشهر الحج, وكلام أحمد يدل عليه بدليل من لم يحرم إلا يوم التروية, وأما تقديمه على وقت الوجوب فيجوز بعد السبب كتقديم التكفير قبل الحنث.
"فصل": وأما السبعة الأيام فلها وقت اختيار واستحباب وجواز أما وقت الاختيار فإذا رجع إلى أهله؛ لأنه عمل بالإجماع وأقرب إلى موافقة لفظ الاختيار. قال ابن عمر: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله".
ـــــــ
1 آية 196سورة البقرة.

وإذا أراد القفول لم يخرج حتى يودع البيت بطواف عند فراغه من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت فإن اشتغل بعده بتجارة أعاده ويستحب له إذا طاف
ـــــــ
متفق عليه1. وأما وقت الجواز فظاهر كلام أحمد أنه إذا رجع من مكة ويكون معنى الآية إذا رجعتم من الحج, لأنه ذكر ذلك بعد الحج فيكون متعلقا بت, ويمكن أن يقال إن الله سبحانه جوز له تأخير الصيام حتى يرجع إلى أهله رخصة فلا يمنع ذلك الإجزاء قبله, كما جوز تأخير صوم رمضان في السفر والمرض بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 2, ثم لو صام في المرض والسفر جاز كذا هاهنا وهو الجواب عن الحديث.
"فصل" الاختيار لعموم الثلاثة -كما ذكرنا- أن يكون بعد الإهلال بالحج والاستحباب أن يحرم بالحج يوم التروية فلا يتم له الجمع بين المستحبين فماذا يصنع؟ سئل أحمد رحمه الله عن ذلك فقال: إن شاء قدم إهلاله بالحج وقال في موضع آخر كلاما يشير إلى أنه إذا لم يكن بد من ترك أحد المستحبين فأيهما ترك جاز: فإن شاء ترك الإحرام يوم التروية وقدمه عليه وإن شاء صام قبل الإحرام.
مسألة: "وإذا أراد القفول لم يخرج حتى يودع البيت بطواف عند فراغه من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت" لما روى ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه3. ولمسلم قال: كان الناس ينصرفون كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينصرفن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" 4.
مسألة: "فإن اشتغل بعده بتجارة أعاده" وذلك أن الوداع إنما يكون عند خروجه ليكون آخر عهده بالبيت, فإن طاف الوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة أعاد طواف الوداع للحديث؛ ولأنه إذا أقام خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجز كما لو طاف قبل السفر.
مسألة: "ويستحب له إذا طاف أن يقف في الملتزم بين الركن والباب فيلتزم البيت" كما روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: طفت مع عبد الله فلما جئنا دبر الكعبة قلت ألا نتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار, ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطهما بسطا وقال: هكذا رأيت
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 25- كتاب الحج: 104- من ساق البدن معه: حديث رقم 1691. ومسلم في: 15- كتاب الحج: 24- باب وجوب الدم على المتمتع: حديث رقم 174.
2 آية 184 سورة البقرة.
3 - رواه البخاري في: 25- كتاب الحج: 144- باب طواف الوداع: 1755. ومسلم في: 15- كتاب الحج: 76- باب وجوب طواف الوداع: حديث رقم 380.
4 - رواه مسلم في المصدر عاليه: حديث رقم 379.

أن يقف في الملتزم بين الركن والباب فيلتزم البيت ويقول: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك, اللهم أصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير, ويدعو بما أحب ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, فمن خرج قبل الوداع رجع إليه إن كان قريبا وإن بعد بعث بدم.
إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء
ـــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وعن عبد الرحمن بن صفوان قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة هو وأصحابه قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم. رواه أبو داود ورواه حنبل في المناسك قال بعض أصحابنا "ويقول" في دعائه: "اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك, اللهم فأصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير, وما زاد على ذلك من الدعاء فحسن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم", والمرأة إذا كانت حائضا على باب المسجد ودعت بذلك.
مسألة: "فمن خرج قبل الوداع رجع إن كان قريبا وإن أبعد بعث بدم" وذلك لأن طواف الوداع واجب يجب بتركه دم وليس ركنا فإذا خرج قبل فعله لزمه الرجوع إن كان قريبا؛ لأنه أمكنه الإتيان بالواجب من غير مشقة فلزمه كما لو كان بمكة, وإن كان بعيدا لم يلزمه الرجوع لأن فيه مشقة فلم يلزمه كما لو رجع إلى بلده لكن عليه دم, ولا فرق بين تركه عمدا أو سهوا أو خطأ فإن واجبات الحج لا فرق بين خطئها وعمدها, ودليل وجوبه ما سبق من حديث ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. متفق عليه.
مسألة: "إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما" للخبر والنفساء في معنى الحائض "ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء" بما ذكرناه

باب أركان الحج و العمرة
...
باب أركان الحج والعمرة
أركان الحج: الوقوف بعرفة وطواف الزيارة وواجباته: الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الليل والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل والسعي
ـــــــ
باب أركان الحج والعمرة
مسألة: "أركان الحج: الوقوف بعرفة" فلا يتم الحج إلا به إجماعا, وروى عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فجاءه نفر من أهل نجد فقالوا يا رسول الله كيف الحج؟ قال: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه". أخرجه أبو داود وابن ماجه1. قال محمد بن يحيى: ما أرى للثوري حديثا أشرف منه "وطواف الزيارة" ركن لا يتم الحج إلا بت, بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر له أن صفية حاضت قال: "أحابستنا هي"؟ قيل: إنها قد أفاضت يوم النحر قال: "فلتنفر إذا" 2. فدل على أن هذا الطواف لا بد منه وأنه حابس لمن لم يأت به.
مسألة: فصل "وواجباته: الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الليل والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل والسعي والمبيت بمنى والرمي والحلق وطواف الوداع" فهي ثمانية. أما الإحرام فهو أن ينوي الدخول في العبادة. قال ابن عباس: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته. وفي حديث جابر: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى, وفي حديث: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهلوا بالحج إذا خرجوا إلى منى وأمرهم بالإحرام, والأمر يقتضي الوجوب ويستحب النطق بذلك كما في صلاة الفرض ويحرم من الميقات كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: "خذوا عني مناسككم". وأما الوقوف بعرفة إلى الليل فواجب ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم: وقف بعرفه حتى غابت الشمس كذا في حديث عروة بن مضرس: "من شهد صلاتنا ووقف معنا حتى ندفع ووقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه". قال الترمذي: حديث صحيح3. فإذا تركه فعليه دم؛ لقول ابن عباس: من ترك نسكا فعليه دم. وأما المبيت بمزدلفة فواجب لما في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح حين تبين له الصبح4, يعني بالمزدلفة وفي حديث ابن مسعود: صلى الفجر حين طلع الفجر5, وهذا دليل على أنه بات بها. وقد قال: "خذوا عني مناسككم" 6 فإن دفع قبل نصف الليل فعليه دم؛ لأنه لم يبت وإن دفع بعد نصف الليل فلا شيء عليه لأنه
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه الترمذي في الحج حديث رقم 891.
4 - سبق تخريجه.
5 - سبق تخريجه.
6 - سبق تخريجه.

والمبيت بمنى والرمي والحلق وطواف الوداع.
ـــــــ
يكون قد بات؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للعباس في ترك المبيت بمزدلفة لأجل سقايته1, وللرعاة من أجل رعايتهم وذلك دليل على وجوبه على غيرهم لكونه سقط عن هؤلاء رخصة, وعنه أن المبيت بها غير واجب ولا شيء على تاركه والمذهب الأول لما سبق.
"فصل": وأما السعي فعن أحمد رحمه الله أنه لا يتم الحج إلا به ولا ينوب عنه دم بوجه وهو قول عائشة وعروة, وعنه أنه مستحب ولا يجب بتركه دم. روي ذلك عن ابن عباس وأنس وعبد الله بن الزبير فإن الله تعالى قال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وفي مصحف أبي وابن مسعود: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما, وهذا إن لم يكن قرآنا فلا ينحط عن درجة الخبر؛ لأنهما يرويانه عن النبي صلى الله عليه وسلم. واختار القاضي أن يكون حكمه حكم الرمي يكون واجبا ينوب عنه الدم, ووجه الأول ما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون بين الصفا والمروة فكانت سنة, فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة. وأما الآية فنزلت لما تحرج المسلمون من السعي بين الصفا والمروة كذلك قالت عائشة, وروي عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره يدور في وسطه من شدة سعيه حتى أقول إني لأرى ركبتيه, وسمعته يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي". قال شيخنا: وقول القاضي أقرب إلى الحق -إن شاء الله تعالى- فإن ما روت عائشة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه دليل على وجوبه, ولا يلزم كونه ركنا كالرمي والحلاق وغيرهما, وقول عائشة يعارضه قول غيرها. فمن مذهبه أنه ليس بواجب وحديث بنت أبي تجراة قال ابن المنذر: يرويه عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا في حديثه, ثم هو يدل على أنه مكتوب وهو الواجب.
"فصل": والمبيت بمنى واجب, وعنه أنه غير واجب. قال ابن عباس رضي الله عنه: إذا رميت فبت حيث شئت, ووجه الأولى ما سبق من الترخيص للعباس في المبيت بمزدلفة.
"فصل": والرمي واجب قالت عائشة: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس, رواه أبو داود2. وقال جابر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس. أخرجه مسلم3. وقد قال: "خذوا عني مناسككم" 4.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه أبو داود في الحج.
3 - رواه مسلم في الحج.
4 - سبق تخريجه.

وأركان العمرة: الطواف وواجباتها: الإحرام والسعي والحلق فمن ترك ركنا لم يتم نسكه إلا بت, ومن ترك واجبا جبره بدم ومن ترك سنة فلا شيء عليه, ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج فيتحلل بطواف وسعي
ـــــــ
"فصل": والحلق واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. قال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر, ثم رجع إلى منزله فدعا بذبح, ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسم بينه وبين من يليه الشعرة والشعرتين, ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه, ثم قال: "هاهنا أبو طلحة؟" فدفعه إلى أبي طلحة. رواه أبو داود1. وقد قال: "خذوا عني مناسككم" 2, وأمر بالتقصير. وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يكن له هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل". وهو أمر والأمر يقتضي الوجوب.
"فصل": وطواف الوداع واجب بدليل ما سبق من حديث ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض3.
مسألة: "وأركان العمرة: الطواف" لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بت, فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل" 4. وأمره يقتضي الوجوب. متفق عليه, ولأنه طواف في عبادة كان ركنا فيها كالحج.
مسألة: "وواجباتها الإحرام والسعي والحلق" كما في الحج, وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقد قال: "خذوا عني مناسككم" 5. وقد أمر بالحلق في حديث ابن عمر بقوله: فليقصر وليحلل والتقصير مقام الحلق.
مسألة: "فمن ترك ركنا لم يتم نسكه إلا به" لما سبق "ومن ترك واجبا جبره بدم" لما سبق "ومن ترك سنة فلا شيء عليه" لأنه ترك سنة في عبادة فلم يلزمه لها جبران كالصلاة.
مسألة: "ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج فيتحلل بطواف وسعي وينحر هديا إن كان معه وعليه القضاء" في هذه المسألة أربعة فصول: الأول أن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر, فمن لم يدرك الوقوف حتى طلع الفجر فاته الحج لا نعلم في ذلك خلافا. قال جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع. قال أبو الزبير فقلت له: أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال: نعم. رواه الأثرم. الثاني: أن يتحلل بطواف وسعي وحلاق. هذا الصحيح من المذهب, روي ذلك عن عمر وابن عمر وزيد وابن عباس وابن الزبير ولم يعرف لهم مخالف, فكان إجماعا وروى الأثرم بإسناده أن هبار بن
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج.
2 - سبق تخريجه.
3 - سبق تخريجه.
4 - سبق تخريجه.
5 -سبق تخريجه.

وينحر هديا إن كان معه وعليه القضاء وإن أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك وإن فعل ذلك نفر منهم فقد فاتهم الحج ويستحب لمن حج زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله عنهما
ـــــــ
الأسود حج من الشام فقدم يوم النحر فقال له عمر: ما حبسك؟. قال: حسبت أن اليوم عرفة. قال: فانطلق إلى البيت فطاف به سبعا, وإن كانت معك هدية فانحرها, ثم إذا كان عام قابل فاحجج وإن وجدت سعة فأهد فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت, وروى البخاري عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فاته الحج فعليه دم وليجعلها عمرة وليحج من قابل". ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات فمع الفوات أولى. إذا ثبت هذا فإنه يجعلها عمرة لحديث عطاء وهو قول من ذكرناه من الصحابة. الثالث: أنه يلزمه القضاء من قابل سواء كان الفائت واجبا أو تطوعا, روي ذلك عن جماعة من الصحابة, وعن أحمد أنه لا قضاء عليه بل إن كانت فرضا فعلها بالوجوب السابق وإن كانت نفلا سقطت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحج أكثر من مرة؟ قال: "بل مرة واحدة". ولو أوجبنا القضاء كان أكثر من مرة, ولأنها عبادة تطوع بها فإذا فاتت لم يلزمه قضاؤها كسائر التطوعات, وعلى هذا يحمل قول الصحابة عن من كان حجه مفروضا, والرواية الأولى أولى لما ذكرنا من الحديث وإجماع الصحابة؛ لأن الحج يلزم بالشروع فيصير كالمنذور بخلاف سائر التطوعات, وأما الحديث فإنه أراد الواجب بأصل الشرع حجة واحدة, وهذا إنما تجب بإيجابه لها بالشروع فيها فتصير كالمندورة أو إذا قضى أجزأه القضاء عن الحجة الواجبة لا نعلم فيه خلافا. الرابع: أن الهدي يلزم من فاته الحج في أصح الروايتين وهو قول من سمينا من الصحابة في الفصل الثاني. والرواية الأخرى لا هدي عليه؛ لأنه لو كان الفوات سببا لوجوب الهدي للزم المحصر هديان للفوات والاحصار ولنا قول الصحابة وحديث عطاء, ولأنه تحلل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه الهدي كالمحصر, والمحصر لم يف حجه ويخرج الهدي في سنة القضاء نص عليه, والحجة فيه حديث عمر المذكور في الفصل الثاني.
مسألة: "وإن أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك"؛ لأنه لا يؤمر مثل ذلك في القضاء فيشق. "وإن فعل ذلك نفر منهم فقد فاتهم الحج" لتفريطهم, وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال لهبار: ما حبسك؟ قال: كنت أحسب أن اليوم عرفة فلم يعذره بذلك.
مسألة: "ويستحب لمن حج زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله عنهما". قال أحمد في رواية عبد الله عن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يسلم علي عند قبري إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" 1.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 2041. وأحمد في المسند 2/527.

باب الهدي و الأضحية
...
باب الهدي والأضحية
والهدي والأضحية سنة لا تجب إلا بالنذر والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها, والأفضل فيهما الإبل ثم البقر ثم الغنم ويستحب استحسانها واستسمانها, ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني مما سواه وثني المعز ما له سنة وثني
ـــــــ
باب الهدي والأضحية
مسألة: "والهدي والأضحية سنة", لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجته مائة بدنة وضحى بكبشين أملحين موجوءين ذبحهما بيده, وقال: "اللهم هذا منك ولك". واضعا قدمه على صفاحهما1.
مسألة: "ولا يجب" الهدي والأضحية "إلا بالنذر" فيقول: لله علي أن أذبح هذا الهدي أو هذه الأضحية وإن قال: هذا نذر لله وجب لأن لفظه يقتضي الإيجاب فأشبه لفظ الوقوف, ولا يجب بسوقه مع نيته كما لا تجب الصدقة بالمال بخروجه به.
مسألة: "والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بدنة ولا يفعل إلا الأفضل.
مسألة: "والأفضل فيهما الإبل ثم البقر ثم الغنم" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة". متفق عليه2.
مسألة: "ويستحب استحسانها واستسمانها" لقوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} 3. قال ابن عباس: هو الاستسمان والاستحسان.
مسألة: "ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن" وهو الذي به ستة أشهر "والثني من غيره ومن المعز ما له سنة وثني الإبل ما كمل له خمس سنين ومن البقر ما له سنتان", لما روى ابن ماجه عن أم بلال بنت هلال عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جوز الجذع من الضأن أضحية" 4. وعن عاصم بن كليب عن أبيه قال: كنا مع رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الأضاحي: حديث رقم 5558. ومسلم في الأضاحي رقم 17, 18.
2 - رواه البخاري في الجمعة: حديث رقم 881. ومسلم في الجمعة: حديث رقم 10.
3 - آية 32 سورة الحج.
4 - رواه ابن ماجه في الأضاحي: حديث رقم 3139. وأحمد في المسند 6/368.

الإبل ما كمل له خمس سنين ومن البقر ما له سنتان وتجزئ الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة ولا تجزئ العوراء البين عورها إلا العجفاء التي لا تنقى ولا العرجاء البين ظلعها ولا المريضة البين مرضها ولا العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها وتجزئ الجماء والبتراء والخصي
ـــــــ
فقال له مجاشع من بني سليم: فغرت الغنم فأمر مناديا فنادى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الجذع يوفي بما توفي منه الثنية" 1. وأحكام الهدي والأضاحي سواء قال أبو عبيد الهروي: قال إبراهيم الحربي: إنما يجزئ الجذع من الضأن في الأضاحي لأنه ينزو فيلقح فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يصير ثنيا.
مسألة: "وتجزئ الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة" وروى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن". رواه ابن ماجه2. وعن جابر قال: كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له: والبقر؟ فقال: وهل هي إلا من البدن3. وأحكام الهدي والأضاحي سواء.
مسألة: "ولا تجزئ العوراء البين عورها ولا العجفاء التي لا تنقى ولا العرجاء البين ظلعها ولا المريضة البين مرضها". قال البراء بن عازب: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكبيرة التي لا تنقى" 4.
مسألة: "ولا تجزئ العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها"؛ لما روي عن علي رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحي بأعضب الأذن والقرن. قال قتادة: فسألت سعيد بن المسيب فقال: نعم العضب النصف فأكثر من ذلك رواه النسائي5.
مسألة: "وتجزئ الجماء والبتراء والخصي وما شقت أذنها أو خرقت أو قطع أقل من نصفها" والأبتر المقطوع الذنب؛ لأن ذلك ليس بمقصود, والجماء التي لم يخلق لها قرن فتجزئ لأن القرن غير مقصود ويجزئ الخصي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأضاحي: حديث رقم 2799. والنسائي في الأضاحي: 12- باب المسنة والجذعة: حديث رقم 6. وابن ماجه في الأضاحي: حديث رقم 3140. وأحمد في المسند 5/368.
2 - رواه ابن في الأضاحي: حديث رقم 1341.
3 - ومسلم في الحج: حديث رقم 350, 351, 352.
4 - رواه الترمذي بنحوه في: الأضاحي: حديث رقم 1497. وقال: حسن صحيح.
5 - رواه النسائي في: الأضاحي: 11- باب العضباء: حديث رقم 1.

وما شقت أذنها أو خرقت أو قطع أقل من نصفها, والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى, وذبح البقر والغنم على صفاحها. ويقول عند ذلك: بسم الله والله أكبر, اللهم هذا منك ولك, ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم وإن ذبحها صاحبها فهو أفضل. ووقت الذبح يوم العيد بعد صلاة العيد إلى آخر يومين من أيام التشريق.
ـــــــ
أقرنين موجوءين والموجوء الذي رضت خصيتاه أو قطعتا, ولا فرق بينهما لأن المرضوض كالمقطوع ولأن ذلك العضو غير مستطاب, وذهابه يؤثر في سمنه وكثرة اللحم وطيبه لانعلم فيه خلافا.
مسألة: وتجزئ ما شقت أذنها بالكي أو خرقت أو قطع أقل من نصفها؛ لأنه يسير ولا يمكن التحرز منه لا نعلم فيه خلافا.
مسألة: "والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى"؛ لقوله سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} 1. وقال زياد بن جبير: رأيت ابن عمر أتى على رجل أناخ بدنته ينحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. متفق عليه2.
مسألة: "وذبح البقر والغنم" لأن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علينا بلحم بقر فقلت ما هذا؟ فقيل: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه. رواه البخاري. وقال أنس: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما. متفق عليه3. ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة وأعطى عليا فنحر ما غبر منها.
مسألة: "ويستحب أن يقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك"؛ لما روى أنس قال: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين ذبحهما بيده وسمى وكبر. متفق عليه4. وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند أضحيته: "اللهم هذا منك ولك عن محمد وأمته بسم الله والله أكبر". ثم ذبح.
مسألة: "ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم" لأنها قربة, "وإن ذبحها صاحبها فهو أفضل" لحديث أنس.
مسألة: "ووقت الذبح يوم العيد بعد صلاة العيد" أو قدرها "إلى آخر يومين من أيام الثشريق"؛ لما روى البراء ابن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا
ـــــــ
1 - آية 36 سورة الحج.
2 - رواه البخاري في: الحج حديث رقم 1713.
3 - سبق تخريجه.
4 - رواه البخاري في: الأضاحي حديث رقم 5565. ومسلم في: الأضاحي: حديث رقم 18.

وتتعين الأضحية بقوله هذه أضحية, والهدي بقوله هذا هدي وإشعاره وتقليده مع النية, ولا يعطى الجزار بأجرته شيئا منها والسنة أن يأكل ثلث أضحيته ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها, وإن أكل أكثر جاز وله أن ينتفع بجلدها ولا يبيعه ولا شيئا منها
ـــــــ
فقد أصاب النسك ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى". متفق عليه1. هذا في حق أهل المصر فأما غيرهم فبقدر الصلاة والخطبة؛ لأنه تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة فاعتبر قدرها وآخر وقتها آخر اليومين الأولين من أيام التشريق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث. متفق عليه2. فوجه الحجة أنه من الزيادة على ثلاث ولا ينبغي أن ينهى عن الادخار في زمن التضحية فلو جازت التضحية في اليوم الرابع كان ناهيا عن إمساك اللحم في يوم يحل إمساك اللحم وأكله فيه.
مسألة: "وتتعين الأضحية بقول هذه أضحية" أو هذا لله ونحوه من القول ولا يحصل ذلك بالشراء مع النية؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم تؤثر فيها النية المقارنة للشراء كالوقف والعتق. وكذلك الهدي ويتعين بـ "إشعاره أو تقليده مع النية", كما لو أذن على باب بيته وأذن بالصلاة فيه.
مسألة: "ولا يعطى الجزار بأجرته شيئا منها" لما روي عن علي رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر منها شيئا. وقال: "نحن نعطيه من عندنا" . متفق عليه"3.
مسألة: "والسنة أن يأكل" من "أضحيته" ثلثها "ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها" لما روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأضحية قال: "ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ويتصدق على السؤال بالثلث". قال الحافظ أبو موسى: هذا حديث حسن. وقال ابن عمر: الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين. "وإن أكل أكثر جاز"؛ لأنها سنة غير واجبة.
مسألة: "وله أن ينتفع بجلدها" ويصنع منه النعال والخفاف والفراء والأسقية ويدخر منها؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوها ما بدا لكم". رواه مسلم4؛ ولأن الجلد جزء من الأضحية فجاز الانتفاع به.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في العيدين: حديث رقم 985. ومسلم في الأضاحي: حديث رقم 1.
2 - رواه البخاري في الأضاحي: حديث رقم 5570. ومسلم في الأضاحي حديث رقم 24, 25, 26, 27.
3 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1716. ومسلم في الحج: حديث رقم 348.
4 - رواه مسلم في الأضاحي: حديث رقم 37.

فأما الهدي إن كان تطوعا استحب له الأكل منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جزور ببضعة فطبخت فأكل من لحمها وحسا من مرقها, ولا يأكل من واجب إلا من هدي المتعة والقران.
ـــــــ
كاللحم "ولا يبيع جلدها"؛ لأنه لا يجوز بيع شيء منها والجلد جزء منها
مسألة: "ولا" يجوز أن يبيع "شيئا منها" لأنه لا يجوز أن يعطي الجازر بأجرته شيئا منها للخبر, فكذلك لا يجوز أن يبيع شيئا منها.
مسألة: "فأما الهدي إن كان تطوعا استحب له الأكل منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جزور ببضعة فطبخت وأكل من لحمها وحسا من مرقها" في حديث جابر1.
مسألة: "ولا يأكل من واجب إلا من هدي التمتع والقران"؛ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن متمتعات إلا عائشة فإنها كانت قارنة لإدخالها الحج على العمرة، وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة. قالت: فدخل علينا لحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه, ولأنه دم نسك فجاز الأكل منه كالأضحية, ولا يجوز الأكل من واجب سواها؛ لأنه كفارة فلم يجز الأكل منه ككفارة اليمين. وعنه له الأكل من الجميع إلا المنذور وجزاء الصيد وروت أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي". رواه مسلم2.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: الأضاحي: حديث رقم 3158. قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات. وأحمد في المسند 1/260 و 305 و314.
2 - رواه مسلم في الأضاحي: حديث رقم 39, و 40 و 41 و 42.

باب العقيقة
وهي سنة عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة تذبح يوم سابعه ويحلق رأسه ويتصدق بوزنه ورقا, فإن فات يوم سابعه ففي أربعة عشر فإن فات ففي أحد وعشرين
ـــــــ
باب العقيقةمسألة: هي الذبيحة عن المولود "وهي سنة", لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل غلام رهينة بعقيقة تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه". رواه أبو داود1 عن
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأضاحي: حديث رقم 2838.

وينزعها أعضاء ولا يكسر لها عظما وحكمها حكم الأضحية فيما سوى ذلك
ـــــــ
الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة" لما روت أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة". رواه أبو داود1. وقالت عائشة: السنة شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة تطبخ جدولا ولا يكسر عظمها ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك في اليوم السابع, "ويحلق رأسه ويتصدق بوزنه ورقا"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين رضي الله عنهما بكبش كبش وأنه تصدق بوزن شعرهما ورقا. رواه سعيد "فإن فات ففي أربعة عشر فإن فات ففي أحد وعشرين"؛ لما روى بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في العقيقة: "تذبح لسبع ولأربع عشرة ولإحدى وعشرين". أخرجه الحسين بن يحيى بن عباس القطان.
مسألة: "وينزعها أعضاء ولا يكسر لها عظما" لحديث عائشة تفاؤلا بسلامة أعضائه, "وحكمها حكم الأضحية فيما سوى ذلك" قياسا عليها.
ـــــــ
1 - المصدر عاليه: حديث رقم 2834.

كتاب البيوع
مدخل...
كتاب البيوعقال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} والبيع معاوضة المال بالمال ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح إلا الكلب فإنه لا يجوز بيعه ولا غرم على متلفه لأن
ـــــــ
كتاب البيوع
مسألة: قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} والبيع معاوضة المال بالمال" لغرض التملك.
مسألة: "ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح" ويشثرط لصحة البيع أن يكون المبيع مملوكا لبائعه أو مأذونا له فيه فإن باع ملك غيره بغير إذنه لم يصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك". رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث صحيح1. يعني: ما لا تملك لأنه ذكره جوابا له حين سأله أن يببع الشيء ثم يمضي ويشتريه ويسلمه, ولاتفاقنا على صحة بيع ماله الغائب عنه؛ ولأنه عقد على ما لا يقدر على تسليمه أشبه بيع الطير في الهواء, وعنه يصح ويقف على إجارة المالك؛ لما روى عروة بن الجعد البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به شاة فاشترى به شاتين, ثم باع إحداهما بدينار في الطريق. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار والشاة وأخبرته. فقال: "بارك الله لك في صفقة يمينك". رواه الأثرم وابن ماجه؛ ولأنه عقد له مخير حال وقوعه فيجب أن يقف على إجازته كالوصية فيما زاد على الثلث لأجنبي, والصحيح الأول وحديث عروة محمول على أنه كانت وكالته مطلقة بدليل أنه سلم وتسلم وليس ذلك لغير المالك باتفاق, وأما الوصية فيتأخر فيها القبول عن الإيجاب ولا يعتبر أن يكون له تخير حال وقوع العقد ويجوز فيها من الغرر ما لا يجوز في البيع فافترقا. وقوله: "فيه نفع مباح" احتراز عما فيه نفع محرم كآلات اللهو فإنه لا يجوز بيعها لأنها محرمة.
مسألة: "إلا الكلب فإنه لا يجوز بيعه" وإن كان معلما لما روى أبو مسعود
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1232. وابن ماجه في التجارات: حديث رقم 2187.

النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب. ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك لبائعه إلا بإذن مالكه أو ولاية عليه ولا بيع ما لا نفع فيه كالحشرات, ولا ما نفعه محرم كالخمر والميتة, ولا بيع معدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته, أو مجهول كالحمل والغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته ولا معجوز عن تسليمه كالآبق والشارد والطير في الهواء والسمك في الماء, ولا بيع المغصوب إلا لغاصبه أو من يقدر على أخذه منه, ولا بيع غير معين كعبد من عبيده أو شاة من قطيعه إلا فيما تتساوى أجزاؤه كقفيز من صبرة
ـــــــ
الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وقال: "ثمن الكلب خبيث". متفق عليه1. "ولا غرم على متلفه" لذلك ولأنه لا قيمة له.
مسألة: "ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك لبائعه إلا بإذن مالكه أو ولاية عليه" لما سبق من حديث حكيم بن حزام.
مسألة: "ولا" يجوز "بيع ما لا نفع فيه كالحشرات" لأنه لا قيمة لها وهي محرمة أشبهت الميتة.
مسألة: "ولا" يجوز "بيع ما نفعه محرم كالخمر والميتة" لقوله عليه السلام: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه". وفي حديث جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". متفق عليه2.
مسألة: "ولا" يجوز "بيع معدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته" لأنه مجهول غير مقدور على تسليمه ولا يجوز بيع "المجهول كالحمل" لجهالته.
مسألة: "ولا" يجوز بيع "الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته" لجهالته "و" لا بيع "معجوز عن تسليمه كالآبق والطير في الهواء والسمك في الماء"؛ لأن القدرة على التسليم شرط في صحة البيع ولم يوجد.
مسألة: "ولا" يجوز "بيع المغصوب" لذلك "إلا لغاصبه أو لمن يقدر على أخذه منه" لأنه يقدر على تسليمه.
مسألة: "ولا" يجوز "بيع غير معين كعبد من عبيده أو شاة من قطيعه" لجهالته فإن
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2237. ومسلم في المساقاة: حديث رقم 40.
2 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2236. ومسلم في المساقاة: حديث رقم 71.

فصل
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة وعن المنابذة وعن بيع الحصاة وعن بيع الرجل على بيع أخيه وعن بيع حاضر لباد وهو أن يكون له سمسارا,
ـــــــ
تساوت أجزاؤه كقفيز من صبرة معينة صح" لأنه يصير معلوما.
فصل: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة" في المتفق عليه لا نعلم خلافا بين أهل العلم في فساد هذين البيعين, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن الملامسة والمنابذة". متفق عليه1. والملامسة أن يبيعه شيئا ولا يشاهده على أنه متى لمسه وقع البيع, والمنابذة أن يقول أي ثوب نبذته إلي فقد اشتريته, وفي البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه, ونهى عن الملامسة والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه2 وعلة المنع من ذلك كون المبيع مجهولا لا يعلم.
مسألة: "ونهى عن بيع الحصاة" فروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة3 واختلف في تفسيره فقيل: هو أن يقول ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا, وقيل: هو أن يقول بعتك من هذه الضيعة مقدار ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا, وقيل: هو أن يبيعه شيئا فإذا رمى بالحصاة فقد وجب البيع, والعلة في فساد ذلك ما فيه من الغرر والجهالة ولا نعلم في فساده خلافا.
مسألة: "و" نهى "عن بيع الرجل على بيع أخيه" لقوله عليه السلام: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" 4. ومعناه أن الرجلين إذا تبايعا فجاء آخر إلى المشتري فقال: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون الثمن الذي اشتريت به أو قال: أبيعك خيرا منها بثمنها أو عرض عليه سلعة أخرى حسب ما ذكره, فهذا غير جائز لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه, فيكون حراما فإن خالف وعقد البيع فالبيع باطل؛ لأنه نهى عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
مسألة: "و" نهى أن يبيع "حاضر لباد" والبادي هاهنا هو من يدخل البلدة من غير أهلها, سواء كان بدويا أو من قرية أو بلدة أخرى قال ابن عباس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2146. ومسلم في البيوع: حديث رقم 1, 3.
2 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2144.
3 - ومسلم في البيوع: حديث رقم 4.
4 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2139.

وعن النجش وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها, وعن بيعتين في بيعة, وهو
ـــــــ
تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد قال: فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارا, متفق عليه1. وروى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه: "لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" 2. والمعنى في ذلك أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص وتوسع عليهم السعر,فإذا تولى الحاضر بيعها وامتنع أن يبيعها إلا بسعر البلد ضاق على أهل البلد فيضر بهم, فنهى عنه صلى الله عليه وسلم, وعنه يصح وأن النهى اختص بأول الإسلام لما عليهم من الضيق في ذلك, والأول المذهب لعموم النهي, وما ثبت في حق الصحابة ثبت في حقنا ما لم يقم على اختصاصهم به دليل.
فصل: ويشترط لعدم الصحة خمسة شروط: أن يحضر البدوي لبيع سلعته بسعر يومها جاهلا سعرها ويقصده الحاضر وبالناس حاجة إليها,وإنما اشترط ذلك لأن النهي معلل بالضرر الحاصل من الضيق على أهل المصر وإغلاء أسعارهم,ولهذا قال عليه السلام: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" ولا يحصل الضرر إلا باجتماع الشروط الخمسة: أحدها: أن يحضر البادي لبيع سلعته فأما إن جاء بها ليأكلها أو يخزنها أو يهديها فليس في بيع الحاضر له تضييق, بل فيه توسعة. الثاني: أن يحضر ليبيعها بسعر يومها فأما إن أحضرها وفي نفسه أن لا يبيعها رخيصة فليس في بيعه له تضييق. الثالث: أن يقصده الحاضر فإن كان هو القاصد للحاضر جاز لأن التضييق حصل منه لا من الحاضر فأشبه ما لو امتنع هو من بيعها إلا بسعر غال. الرابع: أن يكون جاهلا بسعرها فإن كان عالما بسعرها لم تحصل التوسعة بتركه بيعها؛ لأن الظاهر أنه لا يبيعها إلا بسعرها. الخامس: أن يكون بالناس حاجة إلى سلعته كالأقوات ونحوها؛ لأن ذلك هو الذي يعم الضرر بغلو سعره.
مسألة: "و" نهى "عن النجش وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها" ليقتدي به من يريد شراءها يظن أنه لم يزد فيها هذا القدر إلا وهي تساويه فيغتر بذلك, فهذا خداع وهو حرام. وقد ررى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد". متفق عليهما3.
مسألة: "و" نهى "عن بيعتين في بيعة وهو أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2162, 2163. ومسلم في البيوع: حديث رقم 11, 12, 18, 19.
2 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 20.
3 -سبق تخريجه.

أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة, أو يقول بعتك هذا على أن تبيعني هذا أو تشتري مني هذا. وقال: "لا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق". وقال: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه"
ـــــــ
عشرين مكسرة" أو بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة, فهذا لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة. حديث صحيح1, وهو هذا ويحتمل أن يصح بناء على قوله في الإجارة: إن خطته روميا فلك نصف درهم وإن خطته فارسيا فلك درهم فإن فيها وجهين.
مسألة: "وقال" عليه السلام: "لا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق". رواه البخاري2. وروي أنهم كانوا يتلقون الأجلاب فيشترون منهم الأمتعة قبل أن يهبط بها الأسواق, فربما غبنوهم غبنا بينا فيضروا بهم وربما أضروا بأهل البلد؛ لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم وهؤلاء الذين يتلقونهم لا يبيعون سريعا ويتربصون به السعر فهو في معنى بيع الحاضر للبادي, فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك, وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لباد". وعن أبي هريرة. مثله متفق عليهما3. فإن خالف وتلقى الركبان واشترى منهم فالبيع صحيح؛ لأن في حديث أبي هربرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الجلب فمن تلقاه واشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار". هكذا رواه مسلم4. والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح؛ ولأن النهي لا لمعنى في البيع بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن استدراكها بإثبات الخيار فأشبه بيع المصراة.
مسألة: "وقال" عليه السلام: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" وروى ابن عمر قال: رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يؤوه إلى رحالهم, وقال عليه السلام: "من اشرى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه". متفق عليهما5, ولمسلم عن ابن عمر كنا نشتري من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه6. [قال ابن المنذر:] وأجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاما فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1231. وقال: حسن صحيح.
2 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2165.
3 - سبق تخريجه وأما حديث أبي هريرة فرواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2162. ومسلم في البيوع: حديث رقم 18.
4 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 17.
5 - الأول: رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2131. ومسلم في البيوع: حديث رقم 38. والثاني: رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2132. ومسلم في البيوع: حديث رقم 29.
6 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 37.

باب الربا
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثل بمثل سواء بسواء فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى". ولا يجوز بيع مطعوم - مكيل أو موزون- بجنسه إلا مثالا بمثل
ـــــــ
باب الرباوهو في اللغة الزيادة قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 1, وقال سبحانه وتعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} 2 أي أكثر عددا, ويقال: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه, وهو في الشرع الزيادة في أشياء مخصوصة وهو محرم بقوله سبحانه: {وَحَرَّمَ الرِّبا} 3. وقال عليه السلام: "اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وقال عليه الصلاة والسلام: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه". متفق عليهما4. وأجمعت الأمة على أن الربا محرم والأعيان المنصوصة على الربا فيها ستة وهي: "في حديث عبادة بن الصامت" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل والتمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل والشعير بالشعير مثلا بمثل والملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد". رواه مسلم5.
مسألة: "ولا يجوز بيع مطعوم -مكيل أو موزون- بجنسه إلا مثلا بمثل"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل". رواه مسلم من حديث معمر بن عبد الله6, والمماثلة المعتبرة في الشرع هي المماثلة في الكيل والوزن فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن ولا يحرم فيما لا يطعم كالأشنان والحديد ولا فيما لا يكال
ـــــــ
1 - آية 5 سورة الحج.
2 - آية 92 سورة النحل.
3 - آية 275سورة البقرة.
4 - الأول: رواه البخاري في الوصايا: حديث رقم 2766. ومسلم في الإيمان: حديث رقم 144. والثاني: رواه البخاري.
5 - رواه مسلم في المساقاة: حديث رقم 80.
6 - المصدر عاليه: حديث رقم 93.

ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بشيء من جنسه وزنا ولا موزون كيلا, وإن اختلف
ـــــــ
كالبطيخ والرمان وهي إحدى الروايات في علة الربا عن أحمد رحمه الله فعلى هذه تكون علة الربا في الذهب والفضة الثمنية؛ لأنها وصف شرف فيصلح التعليل بها كالطعام, والرواية الأخرى أن العلة في الذهب والفضة الوزن والجنس, وفي غيرهما الكيل والجنس. لما روي عن عمار أنه قال: العبد خير من العبدين والثوب خير من الثوبين فما كان يدا بيد فلا بأس إنما الربا في النسا إلا ما كيل أو وزن. وروى الإمام أحمد في المسند عن أبي حبان عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين, فإني أخاف عليكم الربا وهو الربا" . فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل, فقال: "لا بأس إن كان يدا بيد". ولأن قضية البيع المساواة والمؤثر في تحققها الكيل والوزن والجنس, فإن الكيل يسوي بينهما صورة والجنس يسوي بينهما معنى فكانا علة, ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة فإنه جائز إذا تساويا في الكيل, ولو كانت العلة في الطعم لجرى الربا في الماء لكونه مطعوما. قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}. والرواية الثالثة: أن العلة فيما عدا الأثمان كونه مأكول الجنس فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها, والعلة في الذهب والفضة: الثمنية وهو مذهب الشافعي فيختص الذهب والفضة, ودليله حديث معمر وقد سبق ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان, والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال, فيقتضي التعليل بهما ولأنه لو كانت العلة في الأثمان: الوزن؛ لما جاز إسلامهما في الموزونات؛ لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النسا. إذا ثبت هذا فعلى الرواية الأولى متى اجتمع الطعم والجنس والكيل والوزن حرم الربا رواية واحدة, وما وجد فيه أحد الوصفين: الطعم والكيل, أو الوزن واتحد جنسه ففيه روايتان واختلاف بين أهل العلم كالأشنان والحديد والرصاص والبطيخ والرمان, ولا فرق في المأكولات بين ما يؤكل قوتا أو تفكها كالفواكه, أو تداويا كالإهليلج فإن الكل واحد في باب الربا, والله أعلم.
مسألة: "ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بجنسه وزنا ولا موزون كيلا" قد سبق أن قضية البيع المساواة, والمساواة المرعية في الشرع هي المساواة في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا, فإذا تحققت المساواة في ذلك لم يضر اختلافها فيما سواه, وإن لم توجد المساواة في ذلك لم يصح البيع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنا بوزن والبر بالبر كيلا بكيلا". رواه الأثرم في حديث عبادة؛ ولأبي داود ولفظه: "البر بالبر مدا بمد والشعير بالشعير مدا بمد فمن زاد أو ازداد فقد أربى" 1. فأمر بالمساواة في الموزونات
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3349.

الجنسان جاز بيعه كيف شاء يدا بيد, ولم يجز النسا فيه, ولا التفرق قبل القبض
ـــــــ
المذكورة في الوزن وأمر بالمساواة في المكيلات في الكيل؛ ولأن حقيقة الفضل مبطلة للبيع والمساواة مشترطة فيجب العلم بوجود الشرط, فلا يجوز بيع المكيل بالمكيل وزنا لأن تماثلهما في الكيل شرط, فمتى باع رطلا خفيفا منه برطل ثقيل حصل في كفة الخفيف أكثر مما في كفة الثقيل فربما حصل في رطل حنطة ثقيلة ثلثا مد ويحصل في رطل الخفيفة مد فيفوت التساوي المشترط, ولا يجوز بيع الموزون بالموزون كيلا لإفضائه إلى التفاضل على مثل ما ذكرنا في الكيل.
مسألة: "وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يدا بيد" يعني يجوز بيعه كيلا ووزنا وجزافا, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأعيان الستة: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد". رواه أبو داود1.
مسألة: "ولم يجز النسا فيه" لذلك. وفي لفظ أبي داود: "لا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا" 2. فما اتحدت عليه ربا الفضل فيهما كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون عند من يعلل بهما والمطعوم عند من يعلل به, فهذا لا خلاف بين أهل العلم في تحريم النسا فيهما, وما اختلفت علتاهما كالمكيل بالموزون ففيه روايتان عن أحمد إحداهما لا يجوز النسا فيهما بالقياس على ما اتفقت علتهما, والرواية الثانية: يجوز لأنه لم يجتمع فيهما أحد وصفي علة الربا أشبها الثياب بالحيوان, ويخرج من القسمين إذا كان أحد العوضين ثمنا والآخر من غير ثمن فإنه يجوز النسا فيهما بغير خلاف؛ لأن الشرع رخص في السلم, والأصل في رأس المال السلم النقدان, فلو قلنا لا يجوز انسد باب السلم في الموزونات على ما عليه الأصل الغالب فأثرت رخصة الشرع في التجويز.
مسألة: "ولا يجوز النسا فيه ولا التفرق قبل القبض" لقوله صلى الله عليه وسلم: "يدا بيد" فيحتمل أنه أراد به القبض وعبر باليد عن القبض, ويحتمل أنه أراد به الحلول وترك النسيئة؛ لأننا لو اشترطنا القبض في جميع ما يحرم فيه النسا لم يبق فيه ربا نسيئة لكون العقد يفسد بترك التقابض, والإجماع منعقد على أن من أنواع الربا: ربا النسيئة. قال أبو الخطاب: ما اتفقت علتهما كالحنطة بالشعير والذهب بالفضة لم يجز التفرق فيهما قبل القبض وإن فعلا بطل العقد, وما اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون جاز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة. قال شيخنا: وهذا ينبغي أن يكون في غير المطعوم, فأما المطعوم فإن فيه رواية لأن الربا
ـــــــ
1 - المصدر عاليه: حديث رقم 3350.
2 - سبق تخريجه.

إلا في الثمن بالمثمن, وكل شيئين جمعهما اسم خاص فهما جنس واحد, إلا أن يكونا من أصلين مختلفين فإن فروع الأجناس أجناس وإن اتفقت أسماؤها كالأدقة والأدهان, ولا يجوز بيع رطب منها بيابس من جنسه, ولا خالصه بمشوبه ولا نيئه بمطبوخه
ـــــــ
يجري فيه فعلى هذه لا يجوز التفرق فيه قبل القبض أيضا وعلى الرواية الأخرى يجوز.
مسألة: "إلا في الثمن بالمثمن" يعني فإنه يجوز التفرق فيه قبل القبض والنسا لما سبق.
مسألة: "وكل شيئين جمعهما اسم خاص" من أصل الخلقة "فهما جنس واحد" يشمل أنواعا كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح, فإذا اتفق شيئان في الاسم الخاص من أصل الخلقة فهما في واحد, كأنواع التمر والبر وإن اختلفا في الاسم من أصل الخلقة فهما جنسان كالستة المذكورة في الخبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الزيادة فيها إذا بيع منها شيء بما يوافقه في الاسم, وأباحها إذا بيع بما يخالفه في الاسم, فدل على أن ما اتفقا في الاسم جنس وما اختلفا فيه جنسان.
مسألة: "إلا أن يكونا من أصلين مختلفين فإن فروع الأجناس أجناس" تعتبر بأصولها فما أصله جنس واحد فهو جنس واحد وإن اختلفت أسماؤه, وما أصله أجناس فهو أجناس "وإن اتفقت أسماؤه" فدقيق الحنطة والشعير جنسان, وكذا خل العنب وخل التمر جنسان, وكذلك اللبن. وعنه أنهما جنس واحد والأول أصح؛ لأنهما فرعا أصلين مختلفين فكانا جنسين "كالأدقة "
مسألة: "ولا يجوز بيع رطب منها بيابس من جنسه"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع التمر بالتمر, متفق عليه. وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم: سأل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا يبس"؟. فقالوا: نعم, فنهى عن ذلك. أخرجه أبو داود1. فنهى وعلل بأنه ينقص عن يابسه فدل على أن رطبه يحرم بيعه بيابسه.
مسألة: "ولا" يجوز بيع "خالصه بمشوبه" كحنطة فيها شعير أو زوان بخالصة أو غير خالصة أو لبن مشوب بخالص أو مشوب أو عسل في شمعه بمثله, إلا أن يكون الخلط يسيرا لا وقع له كيسير التراب والزوان ودقيق التراب الذي لا يظهر في الكيل؛ لأنه لا يخل بالتماثل ولا يمكن التحرز منه.
مسألة: "ولا" يجوز بيع "نيئه بمطبوخه" لأن النار تذهب برطوبته وتعقد أجزاءه فيمتنع تساويهما.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3359.

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وهو شراء التمر في رؤوس النخل, ورخص في بيع العرايا -فيما دون خمسة أوسق- أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا.
ـــــــ
مسألة: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: وهو اشتراء التمر بالتمر في رؤوس النخل" فروى جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة. متفق عليه1. والمحاقلة: بيع الحب في سنبله بجنسه. وروى البخاري عن أنس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة2: وهو بيع الزرع الأخضر والثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع, وقيل المحاقلة استكراء الأرض بالحنطة.
مسألة: "ورخص" رسول الله صلى الله عليه وسلم "في بيع العرايا -فيما دون خمسة أوسق- أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا", فروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا في خمسة أوسق. متفق عليه3. وإنما يجوز بشروط خمسة: أحدها أن يكون دون خمسة أوسق, وعنه يجوز في الخمسة, والمذهب الأول؛ لأن الأصل تحريم بيع الرطب بالتمر دون الخمسة بالخبر والخمسة مشكوك فيها فرد إلى الأصل. الثاني: أن يكون مشتريها محتاجا إلى أكلها رطبا؛ لما روى محمود بن لبيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار: شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر؛ فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعوا العرية بخرصها من التمر يأكلونه رطبا. متفق عليه. والرخصة الثابتة لحاجة لا تثبت مع عدمها. الثالث: أن لا يكون له نقد يشتري به للخبر. الرابع: أن يشتريها بخرصها للخبر ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا. متفق عليه4. ولا بد أن يكون التمر معلوما بالكيل للخبر, وفي معنى الخرص روايتان إحداهما: أن ينظر كم يجيء منها تمرا فيبيعها بمثله, لأنه يخرص في الزكاة كذلك. والثانية: يبيعها بمثل ما فيها من الرطب؛ لأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال بالكيل وإذا خولف الدليل في أحدهما وأمكن أن لا يخالف في الآخر وجب. الخامس: أن يتقابضا قبل تفرقهما لأنه بيع تمر بتمر فاعتبرت فيه أحكامه إلا ما استثناه الشرع, والقبض فيها على النخل بالتخلية وفي التمر باكتياله فإن كان حاضرا في مجلس البيع اكتاله وإن كان غائبا مشى إلى التمر فتسلمه, وإن قبضه أولا ثم مشى إلى النخلة فتسلمها جاز, واشترط الخرقي كون النخلة موهوبة لبائعها لأن العرية اسم لذلك واشترط القاضي وأبو بكر حاجة البائع إلى بيعها وحديث زيد ابن ثابت يرد ذلك مع أن اشتراطه يبطل الرخصة إذ لا تتفق الحاجتان مع سائر الشروط فتذهب الرخصة, فعلى قولنا يجوز لرجلين شراء عريتين من واحد, وعلى قولهما لا يجوز إلا أن ينقصا بمجموعهما عن خمسة أوسق.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2186. ومسلم في البيوع: حديث رقم 59.
2 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2207.
3 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2173. ومسلم في البيوع: حديث رقم 57.
4 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2188, ومسلم في البيوع: حديث رقم 59.

باب بيع الأصول و الثمار
...
باب بيع الأصول والثمار
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع". وكذلك بيع الشجر إذا كان ثمره باديا. فإن باع الأرض وفيها زرع لا
ـــــــ
باب بيع الأصول والثمار
مسألة: "و" "من باع نخلا مؤبرا فالثمر للبائع" متروكا في النخل إلى الجذاذ "إلا أن يشترطه المبتاع" . قال ابن عبد البر: الإبار عند أهل العلم التلقيح. وقيل: التأبير ظهور الثمرة من جف الطلع, والأول أشهر؛ لأن الحكم متعلق بنفس الظهور دون نفس التلقيح بغير اختلاف بين العلماء, فمتى ظهرت الثمرة فهي للبائع وإن لم تظهر فهي للمشتري؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترطها المبتاع". رواه البخاري ومسلم. ولفظه: "قد أبرت "1.
مسألة: "وكذلك بيع الشجر إذا كان ثمره باديا", والشجر على خمسة أضرب: "الأول": ما تكون ثمرته في أكمامها لم يفتح الكمام فتظهر: كالنخل, وقد سبق بيان حكمه وهو الأصل الذي وردت السنة ببيان حكمه وما عداه مقيس عليه, ومن هذا الضرب القطن وما يقصد نوره كالورد والياسمين والنرجس والبنفسج فإنه يظهر في أكمامه ثم يفتح كمامه فيظهر فهو كالطلع أن يفتح جنبذه فيظهر نوره فهو للبائع, وإن لم يظهر فهو للمشتري قياسا على النخل. "الضرب الثاني": ما له ثمرة بارزة كالجميز والتوت والتين فما كان منه ظاهرا فهو للبائع؛ لأنها ثمرة ظاهرة فهي كالطلع المؤبر وما ظهر بعد العقد فهو للمشتري؛ لأنه حدث في ملكه. "الثالث": ما له قشر لا يزول إلا عند الأكل كالرمان والموز فهو للبائع إن كان ظهر؛ لأن قشره في مصلحته فهو كأجزاء الثمرة. "الرابع":ما له قشران كاللوز والجوز فهذا للبائع بنفس الظهور لأن قشره لا يزال في الغالب إلا بعد جذاذه فهو كالرمان. وقال بعض أصحابنا: إن تشقق قشره الأعلى فهو للبائع وإلا فهو للمشتري؛ لأنه لا يدر في قشره الأعلى بخلاف الرمان. "الخامس" ما تظهر ثمرته في نوره ثم يتناثر نوره كالعنب والمشمش والتفاح فكان كتأبير النخل ويحتمل أنه للبائع بظهور نوره؛ لأن استتار الثمرة بالنور كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بالقشر الأبيض. "السادس" ما يقصد ورقه
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2204. وسلم في البيوع: حديث رقم 80.

يحصد إلا مرة فهو للبائع ما لم يشترطه المبتاع وإن كان يجز مرة بعد أخرى فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع
فصل
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها, ولو باع الثمرة بعد بدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز, فإن أصابتها جائحة رجع بها على البائع لقول
ـــــــ
كالتوت فيحتمل أنه للمشتري بكل حال قياسا على سائر الورق, ويحتمل أنه إن تفتح فهو للبائع وإلا فهو للمشتري لأنه هاهنا كالثمر.
مسألة: "فإن باع الأرض وفيها زرع لا يحصد إلا مرة" كالبر والشعير "فهو للبائع ما لم يشترطه المشتري"؛ لأنه ظاهر فكان للبائع أشبه الثمرة المؤبرة.
مسألة: "وإن كان يجز مرة بعد أخرى" كالرطبة والبقول "فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع" إلا أن يشترطه المبتاع لذلك.
مسألة: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها" فلو باعها قبل بدو صلاحها لم يجز إلا بشرط القطع؛ لما روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها". متفق عليه1. وفي لفظ: نهى عن بيع الثمار حتى تزهو وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. رواه مسلم2. ولأن في بيعه غررا من غير حاجة فلم يجز كما لو اشترط التبقية وإن باعها بشرط القطع جاز بالإجماع.
مسألة: "ولو باع الثمرة بعد بدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز". قال أبو حنيفة: لا يجوز بشرط التبقية لأنه شرط الانتفاع بملك البائع على وجه لا يقتضيه العقد فلم يجز, كما لو شرط تبقية الطعام في بيته, ولنا أن رسول الله نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها3, فمفهومه أنه أجاز بيعها بعد بدو صلاحها وثبت أنه إنما نهى عن بيع يتضمن التبقية؛ لأنه يجوز بشرط القطع وعنده مطلقا ثبت أن الذي نهى عنه هو الذي أجازه, ولأن النقل والتحويل يجب في المبيع بحكم العرف فإذا اشترطه جاز كما لو اشترط نقل الطعام من ملك البائع حسب الإمكان وفي هذا انفصال عما قاله.
مسألة: "فإن أصابتها جائحة رجع بها على البائع" لما روى جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2194. ومسلم في البيوع: حديث رقم 49.
2 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 50.
3 - سبق تخريجه.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا لم تأخذ مال أخيك بغير حق"؟ وصلاح ثمر النخل أن يحمر أو يصفر والعنب أن يتموه وسائر الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله.
ـــــــ
قال: "إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنه شيئا, لم تأخذ مال أخيك بغير حق". رواه مسلم والإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه, ولفظهما: "من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا, على ما يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم"1. وهذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه, وروى مسلم عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح2.
مسألة: "وصلاح ثمر النخل أن يحمر أو يصفر والعنب أن يتموه, وسائر الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله" لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب". متفق عليه. و نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو. قيل: وما تزهو؟. قال: "تحمار أو تصفار" . ونهى عن بيع الحب حتى يشتد ونهى عن بيع العنب حتى يسود. رواه الترمذي3.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 14. وأحمد في المسند 3/477, 5/60. وأبو داود في: البيوع: حديث رقم 3470. وابن ماجه في: التجارات: حديث رقم 2219.
2 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 17.
3 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1228.وقال: حسن غريب.

باب الخيار
البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد
ـــــــ
باب الخيارمسألة: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما" لما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البيعان بالخيار ما لم فرقا" متفق عليه4. و في لفظ: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فيتبايعا على ذلك فقد وجب البيع". متفق عليه5.
مسألة: "فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع" والتفرق يكون بالأبدان فإن ابن عمر كان يمشي خطوات حتى يلزمه البيع إذا أراد لزومه, ولا خلاف في لزومه بعد
ـــــــ
1 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 14. وأحمد في المسند 3/477, 5/60. وأبو داود في: البيوع: حديث رقم 3470. وابن ماجه في: التجارات: حديث رقم 2219.
2 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 17.
3 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1228.وقال: حسن غريب.
4 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2107. ومسلم في البيوع: حديث رقم 47.
5 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2112. ومسلم في البيوع: حديث رقم 44.

وجب البيع إلا أن يشترط الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة فيكونان على شرطهما, وإن طالت المدة إلا أن يقطعاه, وإن وجد أحدهما بما اشتراه عيبا لم يكن علمه فله رده أو أخذ أرش العيب
ـــــــ
التفرق والمرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم؛ لأن الشارع علق عليه حكما ولم يبينه فدل على أنه أبقاه على ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز, فالتفرق العرفي هو التفرق بالأبدان كذلك فسره ابن عمر وتفسيره أولى لأنه راوي الحديث.
مسألة: "إلا أن يشترط الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة فيكونان على شرطهما وإن طالت المدة إلا أن يقطعاه"؛ لأنه حق يعتمد الشرط فجاز ذلك فيه كالأجل ولا يجوز مجهولا؛ لأنها مدة ملحقة بالعقد فلم يصح مجهولا كالتأجيل وهل يفسد به العقد؟ على روايتين: إحداهما لا يفسد لحديث بريدة. والثانية يفسد لأنه عقد قارنه شرط فأفسد أشبه نكاح الشغار, وعنه يصح مجهولا لقوله عليه السلام: "المؤمنون على شروطهم". رواه الترمذي وقال: حديث صحيح1. فعلى هذا إذا كان الخيار مطلقا مثل أن يقول: لك الخيار متى شئت أو إلى الأبد أو يقطعاه, وإن قال إلى أن يقوم زيد أو ينزل المطر ثبت الخيار إلى زمن اشتراطه أو يقطعاه قبله.
مسألة: "وإن وجد أحدهما بما اشترى عيبا لم يكن علمه فله رده أو أخذ أرش العيب" والعيب كالمرض أو ذهاب جارحة أو سن وفي الرقيق من فعله كالزنا والسرقة والإباق, فمن اشترى معيبا لم يعلمه فله الخيار بين الرد وأخذ الثمن؛ لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له فثبت له الرجوع في الثمن كما في المصراة, وبين الإمساك وأخذ الأرش لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن, فإذا لم يسلم له كان له ما يقابله كما لو تلف في يده.
"فصل" ومعنى الأرش أن ينظر ما بين قيمته سليما ومعيبا فيؤخذ قدره من الثمن فإذا نقصه العيب عشر قيمته فأرشه عشر ثمنه؛ لأن ذلك هو المقابل للجزء الفائت مثاله: أن يكون قد اشترى منه سلعة بخمسة عشر فيظهر فيها عيب فتقوم صحيحة بعشرة ومعيبة بتسعة فقد نقصها العيب عشر قيمتها فيرجع المشتري على البائع بعشر الثمن دينار ونصف, وحكمة ذلك أن المبيع مضمون على المشتري بالثمن ففوات جزء من المبيع يسقط عنه ضمان ما قابله من الثمن أيضا؛ ولأننا لو ضمناه نقصان القيمة أفضى إلى أن يجمع المشتري الثمن والمثمن وهو أن تكون قيمة المبيع عشرة وقد اشتراه بخمسة ويكون العيب ينقصه
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الأحكام: حديث رقم 1352.

وما كسبه المبيع أو حدث فيه من نماء منفصل قبل علمه بالعيب فهو له لأن الخراج بالضمان وإن تلفت السلعة أو عتق العبد أو تعذر رده فله أرش العيب, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها
ـــــــ
نصف قيمته وذلك خمسة فيرجع بها فهذا ضمناه بما ذكرناه.
مسألة: "وما كسبه المبيع أو حدث فيه من نماء منفصل قبل علمه بالعيب فهو له"؛ لما روت عائشة أن رجلا ابتاع غلاما فاستعمله ما شاء الله ثم وجد به عيبا فرده, فقال: يا رسول الله إنه استعمل غلامي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان". رواه أبو داود. وعنه ليس له رده دون نمائه لأنه تبع له أشبه النماء المتصل كالسمن واللبن والتعلم والحمل والثمرة قبل الظهور, فإنه إذا أراد الرد رده بزيادته إجماعا لأنها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلم يجز رده دونها.
مسألة: "وإن تلفت السلعة أو أعتق العبد أو تعذر رده فله أرش العيب" أما إذا أعتق العبد ثم ظهر على عيب قديم فله الأرش بغير خلاف نعلمه, وإن تلف المبيع أو تعذر الرد وكذا إن باعه أو وهبه وهو غير عالم بعيبه نص عليه, لأن البائع لم يوفه ما أوجبه له العقد فكان له الرجوع عليه كما لو أعتقه وإن فعل ذلك مع علمه بالعيب فلا أرش له لرضاه به معيبا حيث تصرف فيه مع علمه بعيبه ذكره القاضي, وعنه في البيع والهبة له الأرش ولم يعتبر علمه وهو قياس المذهب؛ لأننا جوزنا له إمساكه بالأرش وتصرفه فيه كإمساكه وذكر أبو الخطاب رواية فيمن باعه ليس له شيء لأنه استدرك ظلامته ببيعه فلم يكن له أرش كما لو زال العيب فإن رد عليه المبيع كان له حينئذ الرد أو الأرش كما لو لم يبعه أصلا.
مسألة: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل و الغنم". الحديث"1. التصرية في اللغة: الجمع يقال صرى الماء في الحوض وصرى الطعام في فيه إذا جمعه, وصرى الماء في ظهره إذا ترك الجماع وأنشد أبو عبيدة:
رأت غلاما قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان شرته
ويقال: المصراة المحفلة وهو من الجمع أيضا ومنه سميت مجامع الناس محافل, والتصرية حرام إذا أراد بها التدليس لقوله عليه السلام: "من غشنا فليس منا". متفق عليه2. فمن اشترى مصراة وهو لا يعلم فهو بالخيار بين أن يقبلها وبين أن يردها "وصاعا من تمر" وهو قول جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2148. ومسلم في البيوع: حديث رقم 11.
2 - رواه مسلم في الإيمان: حديث رقم 164, والترمذي في البيوع: حديث رقم 1315.

إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر فإن علم بتصريتها قبل حلبها ردها ولا شيء معها", وكذلك كل مدلس لا يعلم تدليسه فله رده كجارية حمر وجهها أو سود شعرها أو جعده, أو رحى ضم الماء وأرسله عليها عند عرضها على المشتري وكذلك لو وصف المبيع بصفة يزيد بها ثمنه فلم يجدها فيه كصناعة في العبد أو كتابة أو أن الدابة هملاجة والفهد صيود, أو معلم أو أن الطائر مصوت ونحوه ولو أخبره بثمن المبيع فزاد عليه رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح إن كان
ـــــــ
تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر". متفق عليه1. ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه فوجب به الرد كما لو كانت شمطاء فسود شعرها فإذا ردها رد بدل اللبن صاعا من تمر, كما جاء في الحديث وفي لفظ: "ردها ورد معها صاعا من تمر لا سمراء". يعني: لا يرد قمحا.
مسألة: "فإن علم بتصريتها قبل حلبها ردها ولا شيء معها" لأن الصاع إنما وجب عوضا عن اللبن, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر". رواه البخاري2. وهذا لم يأخذ لها لبنا فلا يلزمه رد شيء. قال ابن عبد البر: هذا ما لا اختلاف فيه.
مسألة: "وكذلك كل مدلس لا يعلم بتدليسه له رده كجارية حمر وجهها أو سود شعرها أو جعده أو رحى ضم الماء وأرسله عليها عند عرضها على المشتري" لأنه تدليس بما يختلف به الثمن فأثبت الخيار في الرد كالتصرية.
مسألة: "وكذلك لو وصف المبيع بصفة يزيد بها في ثمنه فلم يجدها فيه كصناعة في العبد أو كتابة أو أن الدابة هملاجة أو الفهد صيود أو معلم أو أن الطير مصوت ونحو هذا" فله الرد لذلك.
مسألة: "ولو أخبره بثمن المبيع فزاد عليه رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح إن كان مرابحة" يثبت الخيار في بيع المرابحة للمشتري إذا أخبره البائع بزيادة في الثمن كاذبا كما لو أخبره بأنه كاتب أو صانع فاشتراه بثمن كثير وبان بخلافه فثبت للمشتري الخيار بين الرد والإمساك مع الحظ نص عليه؛ لأنه لا يأمن الخيانة في الثمن أيضا, وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له لأنه لم يذكره.
مسألة: ولا بد من معرفة المشتري رأس المال لأن العلم بالثمن شرط ولا يحصل
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2151.

مرابحة وإن بان أنه غلط على نفسه خير المشتري بين رده وإعطائه ما غلط به, وإن بان أنه مؤجل ولم يخبره بتأجيله فله الخيار بين رده وإمساكه
ـــــــ
إلا بمعرفة رأس المال والمرابحة أن يخبر برأس المال ثم يبيعه بربح معلوم, فيقول رأس مالي مائة بعتك بها وربح عشرة, فهو جائز غير مكروه لأن الثمن معلوم ثم إذا بان ببينة أو إقرار أن رأس المال تسعون فالبيع صحيح؛ لأنه زيادة في الثمن فلم يمنع صحة البيع كالمعيب وللمشتري أن يرجع على البائع بما زاد وهو عشرة وحظها من الربح وهو درهم فيبقى على المشتري تسعة وتسعون درهما.
مسألة: "وإن بان أنه غلط على نفسه" يعني البائع, "خير المشتري بين رده وإعطائه ما غلط به" فإذا قال في المرابحة: رأس مالي فيه مائة والربح عشرة, ثم عاد فقال: غلطت بل رأس مالي فيه مائة وعشرة لم يقبل قوله في الغلط إلا ببينة تشهد أن رأس ماله عليه ما قاله ذكره ابن المنذر عن الإمام أحمد رحمه الله, وذكر القاضي عن الإمام أحمد رواية يقبل قول البائع مع يمينه إذا كان معروفا بالصدق, وإن لم يكن معروفا بالصدق فقد جاز البيع. قال: لأنه لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه, والقول قول الأمين مع يمينه كالوكيل والمضارب, وعنه رواية ثالثة: أنه لا يقبل قول البائع وإن أقام بينة حتى يصدقه المشتري وهو قول الشافعي رحمه الله؛ لأنه أقر بالثمن وتعلق به حق الغير فلا يقبل رجوعه ولا بينة لإقراره بكذبه, ولنا أنها بينة عادلة شهدت بها يحتمل الصدق فتقبل كما تقبل سائر البينات, ولا يصح قولهم إنه أقر فإن الإقرار إنما يكون للغير وحالة إخباره لم يكن عليه حق لغيره فلم يكن إقرارا. قال الخرقي: وله أن يحلفه أن وقت ما باعها لم يعلم أن وقت شراءها أكثر, وهذا صحيح فإنه لو أخبر بذلك عالم بكذب نفسه لزمه البيع بما عقد عليه من الثمن؛ لأنه تعاطى مسببه عالما بالضرر فلزمه كما لو اشترى معيبا عالما بعيبه, وإذا كان البيع يلزمه فادعى عليه العلم لزمته اليمين فإن نكل قضى عليه وإن حلف خير المشتري بين قبوله بالثمن والزيادة التي غلط بها وحظها من الربح وبين فسخ العقد, وإنما أثبتنا له الخيار لأنه إنما دخل على أن الثمن مائة وعشرة فإذا بان أكثر فعليه ضرر في التزامه فلم يلزمه كالمعيب إذا رضيه المشتري, وإن اختار أخذها بمائة وعشرين لم يكن للبائع خيار؛ لأنه زاده خيرا فهو كالمعيب إذا رضيه المشتري فل خيار أيضا لأنه قد بذلها بالثمن الذي وقع عليه العقد وتراضيا عليه.
مسألة: "وإن بان أنه مؤجل ولم يخبره بتأجيله فله الخيار بين رده وإمساكه" يعني أن المشتري يكون مخيرا بين الرد وبين الإمساك بالثمن حالا؛ لأن البائع لم يرض بذمته وقد تكون ذمته دون ذمة البائع فلا يلزمه الرضاء بذلك. وحكى ابن المنذر عن الإمام أحمد أنه إن كان المبيع قائما فهو مخير بين الفسخ وأخذه بالثمن مؤجلا لأنه الثمن الذي اشترى به البائع.

وإن اختلف البيعان في قدر الثمن تحالفا, ولكل واحد منهما الفسخ إلا أن يرضى بما قال صاحبه
ـــــــ
والتأجيل صفة له فأشبه المخير بزيادة في القدر فإن للمشتري أن يحط ما زاده ويأخذ بالباقي, وإن علم ذلك بعد تلف المبيع حبس المال بقدر الأجل.
مسألة: "وإن اختلف البيعان في قدر الثمن تحالفا ولكل واحد منهما الفسخ إلا أن يرضى بما قال صاحبه". فمتى اختلفا في قدر الثمن والسلعة قائمة تحالفا فيبدأ بيمين البائع فيحلف ما بعته بعشرة وإنما بعته بخمسة عشر, ثم يحلف المشتري ما اشتريته بخمسة عشر وإنما اشتريته بعشرة؛ لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع". رواه ابن ماجه1. وفي لفظ: "تحالفا". ولأن البائع يدعي عقدا بثمن ينكره المشتري, والمشتري يدعي عقدا ينكره البائع, والقول قول المنكر مع يمينه, ويبدأ بيمين البائع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل القول ما قال البائع. وفي لفظ: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار". رواه أحمد والشافعي2, معناه: إن شاء أخذ وإن شاء حلف؛ ولأن جنبة البائع أقوى لأنهما إذا تحالفا رجع المبيع إليه فكانت البداءة به أولا كصاحب اليد.
مسألة: فإذا تحالفا لم ينفسخ العقد بنفس التحالف؛ لأنه عقد وقع صحيحا فتنازعهما وتعارضهما في الحجة لا يوجب الفسخ, كما لو أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه, لكن يقال للمشتري أترضى بما قال البائع؟ فإن رضيه أجبر البائع على قبول ذلك؛ لأنه حصل له ما ادعاه, وإن لم يرضه قيل للبائع: أترضى بما قال المشتري؟ فإن رضيه أجبر المشتري على قبول ذلك, وإن لم يرضيا فسخ العقد. وظاهر كلام أحمد أن لكل واحد منهما الفسخ؛ لقوله عليه السلام: "أو يتارادان البيع". وظاهره استقلالهما كذلك. وفي قصة ابن مسعود: باع الأشعت بن قيس رقيقا من رقيق الإمارة, فاختلفا في الثمن فروى له عبد الله هذا الحديث. قال: فإني أرى أن أرد البيع فرده ولا فسخ لاستدراك الظلامة أشبه الرد في العيب.
"فصل": وإن كانت السلعة تالفة تحالفا ورجعا إلى قيمة مثلها كما لو كانت باقية, وعنه القول قول المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر, لقوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا". فمفهومه أنه لا يشرع التحالف عند عدمها, ولأنهما اتفقا على نقل السلعة إلى المشتري واختلفا في عدة زائدة يدعيها البائع والمشتري ينكرها والقول قول المنكر, وتركنا هذا القياس حال قيام السلعة للحديث ففيما عداه تبقى على مقتضى القياس.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: التجارات: حديث رقم 2186.
2- رواه أحمد في المسند 1/466, 6/320.

................................................................................................
ـــــــ
ووجه الأولى أن كل واحد منهما مدع ومنكر فتشرع اليمين لهما كحال قيام السلعة, وقوله في حديثهم تحالفا لم يثبت في شيء من الأخبار, وعلى أن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة مع أنه يمكن معرفة ثمنها لمعرفة قيمتها, فإن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة فمع تعذر ذلك يكون أولى, فإذا اختلفا جميعا فسخنا البيع كما نفسخه مع بقائها, ويرد البائع الثمن والمشتري قيمة السلعة, فإن اختلفا في قيمتها رجعا إلى قيمة مثلها موصوفا بصفاتها, فإن اختلفا في صفاتها فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه غارم والقول قول الغارم.

باب السلم
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين, فقال: "من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم". ويصح السلم في كل ما ينضبط بالصفة إذا ضبطه بها وذكر
ـــــــ
باب السلموهو نوع من البيع يصح بألفاظه وبلفظ السلم والسلف, ويعتبر فيه شروط البيع ويزيد عليه بشروط: منها أن يكون مما يمكن ضبط صفاته التي يختلف الثمن باختلافها ظاهرا كالمكيل أو الموزون أو المذروع أو المعدود؛ -لأنه بيع بصفة فيشترط للكل إمكان ضبطها-؛ لما روي [عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم" متفق عليه. فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر, وقسنا عليه ما يضبط بالصفة لأنه في معناه. فأما المعدود المختلف كالحيوان والفواكه والبقول والجلود والرءوس ونحوها, ففي الحيوان روايتان: إحداهما لا يصح السلم فيه؛ لما روى عن ابن عمر أنه قال: إن من الربا أبوابا لا تخفى وإن منها السلم في السن, رواه الجوزجاني. ولأن الحيوان يختلف اختلافا متباينا فلا يمكن ضبطه وإن استقصى صفاته التي يختلف فيها الثمن تعذر تسليمه, مثل أزج الحاجبين أكحل العينين أقنى الأنف أشم العرنين أهدب الأشفار, فأشبه السلم في الحوامل من الحيوان, وعنه صحة السلم فيه وهو ظاهر المذهب؛ لأن أبا رافع قال: استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا. رواه مسلم. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبتاع له البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى مجئ الصدقة, ولأنه ثبت في الذمة صداقا فثبت في السلم كالثياب. وأما حديث ابن عمر فهو محمول على أنهم كانوا يشترطون من ضراب فحل بني فلان, كذلك قال الشعبي: إنما كره ابن مسعود السلم في الحيوان لأنهم اشترطوا لقاح فحل معلوم. رواه سعيد. ولو أضافه إلى لقاح بني فلان لقبيلة كبيرة أو بلد كبير صح كما إذا أضاف إلى غلة بلد كبير أو قرية كبيرة, وقد روى حديث علي أنه باع جملا له

قدره بما يقدر به من كيل أو وزن أو ذرع أو عد وجعل له أجلا معلوما وأعطاه
ـــــــ
يدعى عصيفير بعشرين بعيرا إلى أجل وهو قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر.
"فصل": وأما الفواكه والمعدودات كالجوز والبيض والبطيخ والرمان والبقول ونحوها ففيها روايتان: إحداهما لا يصح لما ذكرناه في الحيوان وأنه لا يمكن ضبطه بالصفات المقصودة التي يختلف بها الثمن. والثانية: يصح لأن التفاوت يسير ويمكن ضبطه: بعضه بالصغر والكبر وبعضه بالوزن فصح السلم فيه كالمذروع.
"فصل": وفي الرءوس والأطراف والجلود مثل ذلك, أما الرءوس ففيها روايتان أيضا: إحداهما لا يجوز السلم فيها؛ لأن أكثرها عظام واللحم فيها قليل. والثانية: يصح لأنه لحم فيه عظم يجوز شراؤه فجاز السلم فيه كبقية اللحم, وكثرة العظام لا تمنع بيعه فلا تمنع السلم فيه, والجلود تختلف أيضا فالورك ثخين قوي والصدر ثخين رخو والبطن رقيق ضعيف والظهر قوي فيحتاج إلى وصف كل موضع فيه, ولا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه فلا يجوز السلم فيه ووجه الجواز أن التفاوت فيه معلوم فلم يمنع صحة السلم فيه فكذلك هاهنا.
الشرط الثاني: أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرا فيذكر جنسه ونوعه وقدره وبلده وحداثته وقدمه وجودته ورداءته؛ لأن السلم عوض يثبت في الذمة فلا بد من كونه معلوما بالوصف كالثمن؛ ولأن العلم شرط في البيع وطريقه إما الرؤية أو الوصف والرؤية ممتنعة في المسلم فيه فيتعين الوصف فيذكر الجنس والنوع والجودة والرداءة فهذه مجمع عليها, وما سوى ذلك فيه خلاف وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذكره؛ لأن العوض لا يختلف باختلافها ولا يضر جهالتها.
الشرط الثالث: أن يذكر قدره بالكيل في المكيل والوزن في الموزون والذرع في المذروع لحديث ابن عباس في أول الباب؛ ولأنه عوض غير مشاهد ثبت في الذمة فاشترط معرفة قدره كالثمن فلو أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلا لم يصح؛ لأنه مبيع اشترط معرفة قدره فلم يجز بغير ما هو مقدر به كالربويات, وعنه ما يدل على الجواز لأنه يخرجه عن الجهالة وهو الغرض.
"فصل": ولا بد أن يكون المكيال معلوما عند العامة فإن قدره بإناء أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح؛ لأنه قد يهلك فيجهل قدره وهذا غرر لاحتياج العقد إليه.
الشرط الرابع: أن يشترط أجلا معلوما له وقع في الثمن كالشهر ونحوه, فإن أسلم حالا لم يصح لحديث ابن عباس ولأن السلم إنما جاز رخصة للرفق ولا يحصل الرفق إلا

الثمن قبل تفرقهما, ويجوز السلم في شيء يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة, وإن أسلم ثمنا واحدا في شيئين لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس ومن أسلف في شيء لم ـ
ـــــــ
بالأجل فلا يصح بدونه كالكتابة.
"فصل": ولا بد أن يكون الأجل مقدرا بزمن معلوم للخبر, فإن أسلم إلى الحصاد لم يجز؛ لأن ابن عباس قال: لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم؛ ولأن ذلك يختلف فلم يجز أن يجعله أجلا كقدوم زيد, وعنه أنه قال: أرجو أن لا يكون به بأس؛ لأن عمر كان يبتاع إلى العطاء ولأنه لا يتفاوت تفاوتا كثيرا.
الشرط الخامس: أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله مأمون الانقطاع فيه لأن القدرة على التسليم شرط ولا تتحقق إلا بذلك فإن كان لا يوجد فيه لم يصح لذلك.
الشرط السادس: أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد قبل تفرقهما؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم" والإسلاف التقديم سمي سلفا لما فيه من تقديم رأس المال, فإذا تأخر لم يكن سلما فلم يصح؛ ولأنه يصير بيع دين بدين فإن تفرقا قبل قبضه بطل, وإن تفرقا قبل قبض بعضه بطل فيما لم يقبض وفي المقبوض وجهان بناء على تفريق الصفقة.
الشرط السابع: أن يسلم في الذمة فإن أسلم في عين لم يصح؛ لأنه ربما تلف قبل وجوب تسليمه فلم يصح, كما لو أسلم في مكيال معين غير معلوم القدر؛ ولأنه يمكن بيعه في الحال فلا حاجة إلى السلم فيه.
مسألة: "ويجوز السلم في شيء يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة"؛ لأن كل بيع جاز في أجل واحد جاز في أجلين وآجال كبيوع الأعيان.
مسألة: "وإن أسلم ثمنا واحدا في شيئين لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس" مثل أن يسلم دينارا في قفيز حنطة وقفيز شعير ولا يبين ثمن الحنطة من الدينار ولا ثمن الشعير؛ لأن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول فلم يصح كما لو عقد عليه عقدا مفردا بثمن مجهول؛ ولأن فيه غررا لا تأمن الفسخ بتعذر أحدهما فلا يعرف ما يرجع به وهذا غرر يؤثر مثله في السلم.
مسألة: "ومن أسلف في شيء لم يصرفه إلى غيره" كمن أسلف في حنطة لا يجوز أن يأخذ شعيرا, ومن أسلف في عسل لا يجوز أن يأخذ زيتا لقوله عليه السلام: "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره" رواه أبو داود1.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في البيوع حديث رقم 3468.

يصرفه إلى غيره, ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه ولا الحوالة بت, وتجوز الإقالة فيه أو في بعضه لأنها فسخ.
ـــــــ
مسألة: "ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن رواه الترمذي وقال: صحيح, ولفظه: "لا يحل" 1. ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه.
مسألة: "ولا" يجوز "الحوالة به" لأنها إنما تجوز بدين مستقر والسلم يعرض للفسخ.
مسألة: "وتجوز الإقالة فيه" لأنها فسخ. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة؛ ولأن الإقالة فسخ للعقد ورفع له من أصله فلم يكن بيعا.
مسألة: وتجوز الإقالة "في بعضه" في إحدى الروايتين لأنها مندوب إليها وكل معروف جاز في الجميع جاز في البعض كالإبراء والإنظار, وفي الأخرى لا يجوز لأن المثمن في الغالب نقل منه الثمن لأجل التأجيل, فإذا أقاله في البعض بقي البعض بالباقي من الثمن وبمنفعة الجزء الذي حصلت الإقالة فيه فلم يجز كما لو اشترط ذلك في ابتداء العقد وخرج عليه الإبراء والإنظار؛ لأنه لا يتعلق به شيء من ذلك.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1234.

باب القرض و غيره
...
باب القرض وغيره
عن أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره, فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا, فقال: "أعطوه فإن خير الناس أحسنهم قضاء".
ـــــــ
باب القرض
أجمع المسلمون على جوازه واستحبابه للمقرض, وهو من المرافق المندوب إليها, وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يقرض قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة". رواه ابن ماجه1. و "عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: استسلف من رجل بكرا فقدمت إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال: "أعطوه فإن خير الناس أحسنهم قضاء" رواه مسلم2.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الصدقات: حديث رقم 2430. قال في الزوائد: إسناده ضعيف, ورواه ابن حبان في صحيحه بإسناده إلى ابن مسعود.
2 - سبق تخريجه.

ومن اقترض شيئا فعليه رد مثله ويجوز أن يرد خيرا منه وأن يقترض تفاريق ويرد جملة إذا لم يكن شرط, وإن أجله لم يتأجل, ولا يجوز شرط شيء لينتفع به المقرض إلا أن يشترط رهنا أو كفيلا, ولا يقبل هدية المقترض إلا أن يكون بينهما عادة بها قبل القرض
ـــــــ
مسألة: "ومن اقترض شيئا فعليه رد مثله" في المكيل والموزون؛ لأنه يجب مثله في الإتلاف ففي القرض أولى, فإن أعوزه المثل فعليه قيمته حين أعوزه لأنها حينئذ ثبتت في الذمة وفي الجواهر ونحوها ترد القيمة؛ لأنها من ذوات القيمة وفي ما سوى ذلك وجهان: أحدهما ترد القيمة؛ لأن ما أوجب المثل في المثلى أوجب قيمته في غيره كالإتلاف. والثاني: يرد المثل لحديث أبي رافع؛ ولأن ما ثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض كالمثلى بخلاف الإتلاف فإنه عدوان فأوجب القيمة؛ لأنها أحضر والقرض ثبت للرفق فهو أسهل فعلى هذا يعتبر مثله في الصفات تقريبا.
مسألة: "ويجوز أن يرد خيرا منه" يعني خيرا مما أخذ لخبر أبي رافع.
مسألة: "و" يجوز "أن يقترض تفاريق ويرد جملة إذا لم يشترط"؛ لأنه إذا اقترض متفرقا صار عليه جملة فإذا رد جملة فقد أدى ما عليه من غير زيادة ولا نقصان, ويصير كما لو اقترض جملة ورده بالتفاريق؛ فإنه يجوز لذلك ولا يجوز ذلك بشرط لأن فيه نفعا للمقرض فيكون قرضا جر نفعا فلا يجوز كما لو شرط زيادة في القدر.
مسألة: "وإن أجله لم يتأجل"؛ لأنه يثبت في الذمة حالا والتأجيل في الحال عدة وتبرع فلا يلزمه كتأجيل العارية.
مسألة: "ولا يجوز شرط شيء ينتفع به المقرض" نحو أن يسكنه داره أو يقضيه خيرا منه أو أن يبيعه أو يشتري منه أو يؤجره أو يستأجر منه أو يهدي إليه أو يعمل له عملا ونحوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع وسلف". رواه الترمذي وقال حديث صحيح1, وعن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس أنهم نهوا عن قرض جر منفعة؛ ولأنه عقد إرفاق وشرط ذلك فيه يخرجه عن موضوعه.
مسألة: "إلا أن يشترط رهنا أو كفيلا"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: رهن درعه على شعير أخذه لأهله, متفق عليه.
مسألة: "ولا يقبل هدية المقترض إلا أن يكون بينهما عادة بها قبل القرض" لما روى ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون قد جرى بينه وبينه قبل ذلك" 2.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1234.
2 - رواه ابن ماجه في الصدقات: حديث رقم 2432. وفي سنده مجهول.

باب أحكام الدين
من لزمه دين مؤجل لم يطلب به قبل أجله ولم يحجر عليه من أجله ولم يحل تفليسه ولا بموته إذا وثقه الورثة برهن أو كفيل, وإن أراد سفرا يحل قبل مدته أو الغزو تطوعا فلغريمه منعه إلا أن يوثق بذلك وإن كان الدين حالا على معسر وجب إنظاره
ـــــــ
باب أحكام الدينمسألة: "من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله"؛ لأنه لا يلزمه أداؤه قبل أجله "ولم يحجر عليه من أجله"؛ لأنه لا يستحق المطالبة به قبل أجله فلم يملك منعه من ماله بسببه "ولم يحل تفليسه"؛ لأن الأجل حق له فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه.
مسألة: "ولا يحل بموته إذا وثقه الورثة" اختاره الخرقي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك حقا فلورثته". والتأجيل حق له فينتقل إلى ورثته, ولأنه لا يحل به ما عليه كالجنون وعنه أنه يحل لأن بقائه ضرر على الميت لبقاء ذمته مرتهنة به وعلى الوارث ضرر أيضا لمنعه التصرف في التركة وعلى الغريم بتأخير حقه, وربما تلفت التركة وعلى الروايتين يتعلق الحق بالتركة كتعلق الأرش بالجاني ويمنع الوارث التصرف فيها إلا برضا الغريم أو يوثق الحق بضمين مليء أو رهن يفي بالحق إن كان مؤجلا, فإنهم قد لا يكونون أملياء فيؤدي تصرفهم إلى فوات الحق, وإن تلفت التركة قبل التصرف فيها سقط الحق كما لو تلف الجاني.
مسألة: "فإن أراد سفرا يحل الدين قبل موته أو الغزو تطوعا فلغريمه منه إلا أن يوثقه" برهن أو كفيل مليء لأنه ليس له تأخير الحق عن محله, وفي السفر تأخيره عن محله وإن كان لا يحل قبله ففي منعه روايتان: إحداهما: له منعه لأن قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر فملك منعه منه كالأول والأخرى ليس له منعه لأنه لا يملك المطالبة به في الحال ولا يعلم أن السفر مانع منه عند الحلول فأشبه السفر القصير.
مسألة: "وإن كان الدين حالا على معسر وجب إنظاره" يعني: ولا يحبس لأن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد يحل عقوبته". أن غير الواجد لاتحل له عقوبته؛ ولأن حبسه لايفيد

فإن ادعى الإعسار حلف وخلى سبيله إلا أن يعرف له مال قبل ذلك فلا يقبل قوله إلا ببينة, فإن كان موسرا لزمه وفاؤه فإن أبى حبس حتى يوفيه فإن كان ماله لا يفي بدينه كله فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمه إجابتهم, فإذا حجر عليه لم يجز تصرفه في ماله ولم يقبل إقراره عليه ويتولى الحاكم قضاء دينه ويبدأ بمن له أرش جناية من
ـــــــ
صاحب الدين, وإنما هو محض إضرار في حق المديون وقد قال عليه السلام: "لا ضرر و لا ضرار". الحديث في المسند1؛ ولأنه إذا كان خارج الحبس ربما حصل واكتسب وسعى في قضاء الدين وفي الحبس لا يقدر على ذلك.
مسألة: "وإن ادعى الإعسار حلف وخلى سبيله"؛ لأن الأصل الإعسار "إلا أن يعرف له مال قبل ذلك فلا يقبل قوله إلا ببينة"؛ لأن الأصل بقاء المال ويحبس حتى يقيم البينة على نفاد ماله وإعساره وعليه اليمين مع البينة أنه معسر؛ لأنه صار بهذه البينة كمن لم يعرف له مال.
مسألة: "وإن كان موسرا لزمه وفاؤه", لقوله عليه السلام: "مطل الغني ظلم" 2. "فإن أبى حبس حتى يوفيه" لقوله عليه السلام: "لي الواجد يحل عقوبته وعرضه". من المسند, فإن أصر باع الحاكم ما له وقضى دينه؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: ألا إن أسيفع جهينه رضي من دينه أن يقال سائق الحاج فادان مغرما, فمن له مال فليحضر فإنا بايعو ماله وقاسموه بين غرمائه.
مسألة: "وإن كان ماله لا يفي بدينه كله فسأل غرماؤه الحجر عليه لزمه إجابتهم"؛ لما روى كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ما له. رواه الخلال؛ ولأن فيه دفعا للضرر عن الغرماء فلزم ذلك لقضائهم.
مسألة: "وإذا حجر عليه لم يجز تصرفه في ماله" لا بيع ولا هبة ولا وقف ولا غير ذلك؛ لأنه حجر ثبت بالحكم فمنع تصرفه كالحجر للسفهز
مسألة: "ولا يقبل إقراره على ماله" لذلك.
مسألة: "ويتولى الحاكم قضاء دينه" فيبيع ما يمكن بيعه ويقسم بين غرمائه؛ لأن ذلك هو المقصود بالحجر.
مسألة: "ويبدأ بمن له أرش جناية من رقيقه فيدفع إلى المجني عليه أقل الأمرين من ثمنه أو أرش جنايته" وما فضل رد إلى الغرماء, "ثم بمن له رهن فيدفع إليه أقل الأمرين من دينه أو ثمن رهنه"؛ لأن ذلك مقدم على حق الغرماء لأن حقه تعين في الرهن وإن بقي
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في الاستقراض: حديث رقم 2400. ومسلم في المساقاة: حديث رقم 33.

رقيقه فيدفع إلى المجني عليه أقل الأمرين من أرشها أو قيمة الجاني ثم بمن له رهن فيدفع إليه أقل الأمرين من دينه أو ثمن رهنه وله أسوة الغرماء في بقية دينه, ثم من وجد متاعه الذي باعه بعينه لم يتلف بعضه ولم يزد زيادة متصلة ولم يأخذ من ثمنه شيئا فله أخذه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره"
ـــــــ
منه بقية ردها إلى الغرماء "وله أسوة الغرماء في بقية دينه" يعني صاحب الرهن وإن لم يفي ثمن الرهن بدينه شارك الغرماء في بقية دينه.
مسألة: "ثم من وجد متاعه الذي باعه فهو أحق به"؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من وجد متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به". متفق عليه1. ولا يكون أحق به إلا بشروط: "أحدها" أن تكون بحالها سالمة لم يتلف بعضها, فإن تلف بعضها أو باعه المفلس أو وهبه أو وقفه فله أسوة الغرماء؛ لقوله عليه السلام: "من أدرك متاعه بعينه فهو أحق به" 2. والذي تلف بعضه لم يوجد بعينه. "الشرط الثاني": أن لا يزيد زيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم صنعة فإن وجد ذلك منع الرجوع؛ لأنه فسخ بسبب حادث فمنعته الزيادة المتصلة كالرجوع في الصداق للطلاق قبل الدخول, وعنه أن الزيادة لا تمنع الرجوع للخبر؛ ولأنه فسخ فلم تمنعه الزيادة كالرد بالعيب فأما الزيادة المتصلة فلا تمنع الرجوع؛ لأنه يملك الرجوع في العين دونها والزيادة للمفلس في ظاهر المذهب؛ لأنها نماء ملكه المنفصل فكانت له كما لو ردها بالعيب؛ ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" يدل على أن النماء للمشتري لكون الضمان عليه, وقال أبو بكر: هي للبائع نص عليه قياسا على المتصلة والفرق ظاهر؛ لأن المتصلة تتبع في الفسوخ دون المنفصلة. "الشرط الثالث": أن لا يكون البائع أخذ من ثمنها شيئا فإن قبض بعضه فلا رجوع له؛ لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما رجل باع سلعته فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قد قبض من ثمنها شيئا فهي له وإن كان قد قبض من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء". رواه أبو داود؛ ولأن في الرجوع في الباقي تبعيض الصفقة على المفلس فلم يجز كما لو لم يقبض شيئا. "الشرط الرابع": أن لا يتعلق بها حق غير حق المفلس فإن خرجت عن ملكه ببيع أو غيره لم يرجع؛ لأنه تعلق بها حق غيره أشبه ما لو أعتقها. "الشرط الخامس": أن يكون المفلس حيا فإن مات فله أسوة الغرماء؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء". رواه أبو داود. ولأن الملك انتقل عن المفلس فأشبه ما لو باعه
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الاستقراض: حديث رقم 2402. ومسلم في المساقاة: حديث رقم 24, 25.
2 - شبق تخريجه.

ويقسم الباقي بين الغرماء على قدر ديونهم وينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤنته من ماله إلى أن يفرغ من القسمة, فإن وجب له حق بشاهد فأبى أن يحلف لم يكن لغرمائه أن يحلفوا
ـــــــ
مسألة: "ويقسم الباقي بين الغرماء على قدر ديونهم"؛ لأن ذلك هو المقصود ببيع متاعه وهو المقصود من الحجر عليه.
مسألة: "وينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤنته من ماله إلى أن يفرغ من القسمة", وذلك أنه إذا حجر عليه فإن كان ذا كسب يفي بنفقته ونفقة من تلزمه نقته فنفقته في كسبه؛ لأنه لا حاجة إلى إخراج ماله وهو يكسب ما ينفقه؛ ولأنه مستغن بكسبه عن ماله فلم يجز أحذ ماله كما لم يجز أخذ زيادة عن النفقة, وإن كان كسبه دون نفقته كملناها من ماله وإن لم يكن ذا كسب أنفق عليه من ماله في مدة الحجر, وإن طالت لأن ملكه قبل القسمة باق وقد قال عليه السلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". ومعلوم أن فيمن يعوله من تجب عليه نفقته وتكون دينا عليه وهي الزوجة, فإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة فكذلك على حق الغرماء؛ ولأن الحي آكد حرمة من الميت؛ لأنه مضمون بالإتلاف وتقديم تجهيز الميت ومؤنته على دينه, متفق عليه فنفقته أولى, وتقدم أيضا نفقة من تلزمه نفقته من أقاربه مثل الوالدين والمولودين وغيرهم ممن تجب نفقتهم؛ لأنهم يجرون مجرى نفسه لأنهم يعتقون عليه إذا ملكهم كما يعتقون إذا ملكهم, كما يعتقون إذا ملك نفسه فيما إذا كان مكاتبا فعتق وهم في ملكه, وكانت نفقتهم كنفقته وتقدم نفقة زوجته؛ لأن نفقتها آكد من نفقة الأقارب لأنها تجب على طريق المعاوضة وفيها معنى الإحياء كما في الأقارب.
مسألة: "وإن وجب له حق بشاهد فأبى أن يحلف لم يكن لغرمائه أن يحلفوا", وذلك أن المفلس في الدعوى كغيره فإذا ادعى حقا له به شاهد عدل وحلف مع شاهده ثبت المال وتعلقت به حقوق الغرماء, وإن امتنع لم يجبر لأنه قد لا يعلم صدق الشاهد وقد يعلم كذبه ولا يملك الغرماء أن يحلفوا مع الشاهد؛ لأنهم يثبتون ملكا لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز كما لم يجز لزوجته أن تحلف لإثبات ملك لزوجها لتتعلق نفقتها به وفارق الورثة؛ لأنهم يثبتون ملكا لأنفسهم إذا حلفوا بعد موت مورثهم

باب الحوالة و الضمان
...
باب الحوالة والضمان
ومن أحيل بدينه على من عليه مثله فرضي فقد برئ المحيل, ومن أحيل على مليء لزمه أن يحتال, لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتبع أحدكم
ـــــــ
باب الحوالة والضمان
مسألة: "ومن أحيل بدينه على من عليه مثله فرضي فقد برئ المحيل" ولصحة

على مليء فليتبع" وإن ضمنه عنه ضامن لم يبرأ وصار الدين عليهما, ولصاحبه مطالبة من شاء منهما فإن استوفى من المضمون عنه أو أبرأه برئ ضامنه وإن أبرأ الضامن لم يبرأ
ـــــــ
الحوالة شروط: "أحدها" تماثل الحقين لأن الحوالة تحويل الحق ونقله فيعتبر نقله عن صفته ويعتبر التماثل في الجنس والصفة والحلول والتأجيل, فلو أحال من عليه أحد النقدين بالآخر لم يصح ولو أحال عن المصرية بمنصورية أو عن الصحاح بمكسرة لم يصح, ولئن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا أو أجل أحدهما مخالفا لأجل الآخر لم يصح لما سبق. "الشرط الثاني": أن يحيل برضاه لأنه حق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة بعينها ولا يعتبر رضاء المحال عليه لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله, وقد أقام المحال مقام نفسه في القبض فلزم المحال عليه الأداء إليه كما لو وكله في الاستيفاء منه. "الشرط الثالث": أن يحيل على دين مستقر لأن مقتضاها إلزام المحال عليه الدين مطلقا ولا يثبت ذلك فبما هو معرض للسقوط, فلو أحال على مال الكتابة أو دين السلم لم يصح؛ لأنها تعرض للسقوط بالفسخ لأجل انقطاع المسلم فيه؛ لقوله عليه السلام: "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره". ومال الكتابة معرض للسقوط بالعجز. "الشرط الرابع": أن يحيل بمال معلوم لأنها إن كانت بيعا فلا يصح في المجهول وإن كانت تحول الحق فيعتبر فيها التسليم والجهالة تمنع منه.
مسألة: "ومن أحيل على مليء لزمه أن يحتال", والمليء: الموسر. وذلك "لقوله عليه السلام: "إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع". ولأن للمحيل إيفاء الحق بنفسه وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقامه في الإيفاء فلم يكن للمحال الامتناع.
مسألة: "وإن ضمنه عنه ضامن لم يبرأ وصار الدين عليهما ولصاحبه مطالبة من شاء منهما"؛ لأن الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق فثبت في ذمتهما جميعا, ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت لقوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن1. يقال: زعيم وضمين وقبيل وحميل وصبير بمعنى.
مسألة: "فإن استوفى من المضمون عنه أو أبرأه برئ ضامنه"؛ لأن الضامن تبع للمضمون عنه فزال بزوال أصله كالرهن.
مسألة: "وإن أبرأ الضامن لم يبرأ الأصيل"؛ لأن التوثقة انحلت من غير استيفاء فلم يسقط الدين كالرهن إذا انفسخ من غير استيفاء.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3565. والترمذي في البيوع: حديث رقم 1265. وقال: حسن غريب.

الأصيل وإن استوفى من الضامن رجع عليه ومن كفل بإحضار من عليه دين فلم يحضره لزمه ما عليه فإن مات برئ كفيله
ـــــــ
مسألة: "وإن استوفى من الضامن رجع عليه" يعني رجع الضامن على المضمون عنه. أما إذا قضاه متبرعا لم يرجع بشيء كما لو بنى داره بغير إذنه وإن نوى الرجوع وكان الضمان والقضاء بغير إذن المضمون عنه فهل يرجع؟ على روايتين: إحداهما يرجع لأنه قضاء مبرئ من دين واجب لم يتبرع به وكان على من هو عليه كما لو قضاه الحاكم عند امتناعه. الثانية: لا يرجع لأنه تصرف له بغير إذنه فلم يرجع به كما لو بنى داره أو علف دابته بغير إذنه.
مسألة: وإن أذن له في القضاء فله الرجوع بأقل الأمرين مما قضى فيه أو قدر الدين لأنه قضى دينه بإذنه فهو كوكيله.
مسألة: وإن ضمن بإذنه رجع عليه لأنه يضمن الإذن في الأداء فأشبه ما لو أذن فيه صريحا, ويرجع بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين لأنه إن قضاه بأقل منه فإنما يرجع بما غرم وإن أدى أكثر منه فالزائد لا يجب أداؤه لتبرعه به.
مسألة: "ومن كفل بإحضار من عليه دين فلم يحضره لزمه ما عليه" لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم" 1. ولأنها أحد نوعي الكفالة فوجب بها الغرم كالكفارة بالمال.
مسألة: "فإن مات برئ كفيله" لأن الحضور سقط عن المكفول به فيبرأ كفيله كما برئ الضامن ببراءة المضمون عنه, ويحتمل أن لا يسقط ويطالب بما عليه؛ لأن الدين لم يسقط عن المكفول به فأشبه المضمون عنه إذا لم يبرأ من الدين.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6