كتاب : العدة شرح العمدة
المؤلف : عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد، أبو محمد بهاء الدين المقدسي

باب في تعارض الدعاوى
إذا تنازعا قميصا أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه وإن تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل فهي له وإن تنازعا أرضا فيها شجر أو بناء أو زرع لأحدهما فهي له وإن تنازع صانعان في قماش دكان فآلة كل صناعة لصاحبها وإن تنازع الزوجان في قماش البيت فللزوج ما يصلح للرجال وللمرأة ما يصلح للنساء
ـــــــ
باب في تعارض الدعاوىمسألة: "إذا تنازعا قصيما أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فهو للابسه" لأن تصرفه في الثوب أقوى ويده آكد وهو المستوفي لمنفعته.
مسألة: "وإن تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل" والآخر آخذ بزمامها "فهي" للراكب ولصاحب الحمل كذلك.
مسألة: "وإن تنازعا أرضا فيها شجر أو بناء أو زرع لأحدهما فهي له"؛ لأنه صاحب اليد لكونه المستوفي لمنفعتها فكانت له كما لو تنازعا عينا في يده فإنها تكون لمن هي في يده.
مسألة: "وإن تنازع صانعان في قماش دكان فآلة كل صناعة لصاحبها" فإذا كان نجار وعطار في دكان واحد فاختلفا فيما فيها حكم بآلة العطارين للعطار وبآلة النجارين للنجار؛ لأن تصرفه في آلة صنعته أظهر والظاهر معه أيضا فإن الظاهر أن العطار لا يستعمل آلة النجار والنجار لا يستعمل آلة العطار, وإن لم يكونا في دكان واحد لكن اختلفا في عين تصلح لأحدهما لم يرجح أحدهما بصلاحية المختلف فيه له بل إن كان في أيديهما فهو بينهما وإن كان في يد أحدهما فهو له مع يمينه, وإن كان في يد غيرهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وأخذها.
مسألة: "وإن تنازع الزوجان في قماش البيت فللرجل ما يصلح للرجل وللمرأة ما يصلح للنساء, وما يصلح لهما" فهو "بينهما" فمتى اختلفا في شيء ولأحدهما بينة فهو له بغير خلاف, وإن لم تكن له بينة فالمنصوص عنه أنه ما يصلح للرجال من العمائم وقمصانهم وجبابهم والأقبية والطيالسة وأشباه ذلك القول فيه قول الرجل مع يمينه, وما يصلح للنساء من الحلي والمقانع وقمصهن ومغازلهن فالقول فيه قول المرأة مع يمينها, وما يصلح لهما كالمفارش والأواني فهو بينهما؛ لأن أيديهما جميعا على متاع البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي فإن القول قولهما, وقد يرجح أحدهما على صاحبه يدا وتصرفا فيجب أن يقدم كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها.

وما يصلح لهما بينهما, وإن تنازعا حائطا معقودا ببنائهما أو محلولا منهما فهو بينهما وإن كان معقودا ببناء أحدهما وحده فهو له وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما أو تنازع صاحب الأرض والنهر في الحائط الذي بينهما أو تنازعا قميصا أحدهما آخذ بكمه وباقيه مع الآخر فهو بينهما, وإن تنازع مسلم وكافر في ميت يزعم كل واحد منهما أنه مات على دينه فإن عرف أصل دينه حمل عليه, وإن لم يعرف أصل دينه فالميراث للمسلم, وإن كانت لهما بينتان فكذلك وإن
ـــــــ
مسألة: "وإن تنازعا حائطا معقودا ببنائهما أو محلولا منهما فهو بينهما وإن كان معقودا ببناء أحدهما وحده فهو له" فمتى كان الحائط بين ملكيهما وتساويا في كونه معقودا ببنائها معا يعني متصلا به اتصالا لا يمكن إحداثه بعد بناء الحائط مثل اتصال البناء بالطين كهذه الحظائر التي لا يمكن إحداث اتصال بعضها ببعض أو يكون لكل واحد منهما عليه عقد أو قبة أو تساويا في كونه محلولا من بنائهما أي غير متصل ببنائهما الاتصال الذي ذكرناه فإنهما يتحالفان فيحلف كل واحد منهما على النصف الذي في يده لأن الحائط في أيديهما فيجعل بينهما نصفين لتساويهما في ذلك, وهذا إذا لم يكن لأحدهما بينة فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها لأنها كالإقرار وإن كان لهما بينتان تعارضتا وصارا كمن لا بينة لهما فإن لم يكن بينة ونكلا عن اليمين كان الحائط في أيديهما على ما كان, وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضى على الناكل فكان الكل للآخر.
مسألة: وإن كان الحائط متصلا ببناء أحدهما كان له مع يمينه؛ لأن هذا مما لا يمكن إحداثه فوجب أن يرجح به كالأزج يعني العقد؛ ولأن الظاهر أن هذا البناء بني كله بناء واحدا فإذا كان بعضه لرجل فالظاهر أن بقيته له.
مسألة: "وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما" فهو بينهما لأن يديهما عليه سواء, وإن "تنازع صاحب الأرض والنهر في الحائط الذي بينهما فهو بينهما"؛ لأنه حاجز بين ملكيهما فأشبه الحائط بين البيتين, وإن "تنازعا قميصا أحدهما آخذ بكمه وباقيه مع الآخر فهو بينهما"؛ لأن يد الممسك بكمه ثابتة على نصفه ألا ترى أنه لو كان آخذا بكمه وباقيه على الأرض فادعاه مدع كان القول قول من هو آخذ بكمه ولا يلتفت إلى من أخذ بالكثير ومثله إذا اختلفا في عمامة أحدهما آخذ بطرفها والآخر آخذ ببقيتها؛ لأنها في أيديهما ويتحالفان في هذه المسائل.
مسألة: "وإن تنازع مسلم وكافر" ميراث ميت "يزعم كل واحد منهما" أنه كان "على دينه فإن عرف أصل دينه حمل عليه"؛ لأن الأصل بقاؤه عليه فالقول قول من ينفيه مع يمينه "وإن لم يعرف أصل دينه فالميراث للمسلم" لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ولأن الظاهر

كانت لأحدهما بينة حكم له بها وإن ادعى كل واحد من الشريكين في العبد أن شريكه أعتق نصيبه وهما موسران عتق كله ولا ولاء لهما عليه, وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا عتق نصيب الموسر وحده, وإن كانا معسرين لم يعتق منه شيء وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق حينئذ ولم يسر إلى باقيه, ولا ولاء عليه وإن ادعى كل واحد من الموسرين أنه أعتقه تحالفا وكان ولاؤه بينهما وإن
ـــــــ
الإسلام في دار الإسلام؛ ولأنه يغلب إسلامه في الصلاة عليه ودفنه فكذلك في ميراثه, "وإن كانت لهما بينتان فكذلك" يعني أن الحكم كالتي قبلها؛ لأن البينتين سقطتا وصارا كمن لا بينة لهما, "وإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها" لأن البينة كالإقرار ولو أقر له الآخر حكم له فكذلك إذا قامت له بينة وحده.
مسألة: "وإذا ادعى كل من الشريكين في العبد أن شريكه أعتق نصيبه منه وهما موسران عتق كله" كتاب الشهادات
تحمل الشهادة وأداؤها فرض كفاية إذا لم يوجد من يقوم بها سوى اثنين لأن كل واحد منهما يعترف بحرية نصيبه مدعيا نصف القيمة على شريكه لكونه أعتق نصيب نفسه وهو موسر فيسري إلى نصيب الآخر "ولا ولاء عليه" لواحد منهما؛ لأنه لا يدعيه واحد منهما لآن كل واحد منهما يقول: أنت المعتق له وولاؤه لك لا حق لي فيه.
مسألة: "وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا عتق نصيب الموسر وحده" لأنه اعترف بحرية نصيبه بعتق شريكه الموسر؛ لأن الموسر إذا عتق نصيبه سرى إلى نصيب المعسر ولا يعتق نصيب الموسر لأن اعترافه بعتق شريكه نصيبه لا يكون اعترافا بعتق نصيبه, ولأن إعتاق المعسر لا يسري ولا يثبت للمعسر الولاء لأنه غير معتق.
مسألة: "وإن كانا معسرين لم يعتق منه شيء" لأن اعتراف كل واحد منهما بعتق الآخر لا يوجب اعترافا بعتق نصيبه لأن عتق المعسر لا يسري.
مسألة: "وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق حينئذ ولم يسر إلى باقيه" الذي كان له قديما لأن عتقه عليه باعترافه بأن كان حرا "ولا" يثبت له "عليه ولاء" لأنه لا يدعي إعتاقه بل يعترف أن المعتق غيره وإنما هو مخلص له ممن هو في يده ظلما فهو كمخلص الأسير من أيدي الكفار".
مسألة: "وإن ادعى كل واحد من الموسرين أنه أعتقه تحالفا وكان ولاؤه بينهما" وقد ذكرنا فيما سبق أنه لا ولاء لواحد من الشريكين الموسرين؛ لأن كل واحد منهما يقول لشريكه: أنت المعتق والولاء لك لا حق لي فيه فإن عاد كل واحد منهما فادعى أنه المعتق وأن الولاء له ثبت لهما الولاء؛ لأنه لا مستحق له سواهما وإنما لم يثبت لواحد منهما لإنكاره فإذا اعترف به زال الإنكار فثبت له فعند ذلك يتحالفان ويكون الولاء بينهما كما لو

قال رجل لعبده: إن برئت من مرضي هذا فأنت حر وإن قتلت فأنت حر فادعى العبد برءه أو قتله وأنكرت الورثة فالقول قولهم وإن أقام كل واحد منهم بينة بقوله عتق العبد لأن بينته تشهد بزيادة,ولو مات رجل وخلف ابنين وعبدين متساويي القيمة لا مال له سواهما فأقر الابنان أنه أعتق أحدهما في مرض موته عتق منه ثلثاه إن لم يجيزا عتقه كله, وإن قال أحدهما: أبي أعتق هذا وقال الآخر: بل هذا عتق ثلث كل واحد منهما وكان لكل ابن سدس الذي اعترف بعتقه ونصف الآخر. وإن قال الثاني: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما أقرع بينهما وقامت القرعة مقام تعيينه.
ـــــــ
تنازعا في شيء في أيديهما ولا بينة لأحدهما فإنه يكون بينهما.
مسألة: "وإن قال" السيد "لعبده إن برئت من مرضي هذا فأنت حر وإن قتلت فأنت حر فادعى العبد برءه أو قتله وأنكرت الورثة فالقول قولهم" لأن الأصل معهم.
مسألة: "وإن أقام كل واحد منهم بينة بقوله عتق العبد لأن بينته تشهد بزيادة"؛ لأنها مثبتة وبينتهم نافية والإثبات مقدم على النفي في أحد الوجهين وفي الآخر تتعارض البينتان ويبقى العبد رقيقا لأن كل واحدة منهما تثبت ما شهدت به وتنفي ما شهدت به الأخرى فهما سواء.
مسألة: "ولو مات رجل وخلف ابنين وعبدين متساويي القيمة لا مال له سواهما فأقر الابنان أنه أعتق أحدهما في مرضه عتق ثلثاه إن لم يجيزا عتقه كله"؛ ولأن ثلثيه ثلث جميع المال فإنه لو كانت قيمتهما ستمائة كل واحد منهما ثلاثمائة كان ثلثها مائتين وهي ثلثا العبد فإن أجازا عتق جميعه؛ لأن الحق لهما إن شاءا أخذاه وإن شاءا تركاه.
مسألة: "وإن قال أحدهما: أبي أعتق هذا, وقال الآخر: بل هذا عتق ثلث كل واحد منهما فكان لكل ابن سدس الذي اعترف بعتقه ونصف الآخر"؛ لأن كل واحد من الابنين إذا عين واحدا صار مدعيا أنه أعتق منه ثلثاه, وأنه لم يبق منه على الرق إلا ثلثه ميراثا بينهما لكل واحد منهما سدسه وإن الآخر كله رقيق لكل واحد منهما نصفه فيعمل بقول كل واحد منهما في توريثه منهما فيصير له سدس العبد الذي اعترف بعتقه ونصف الآخر ويصير ثلث كل واحد من العبدين حرا؛ لأن كل واحد من الابنين نصف العبدين فقبل قوله في نصيبه فعتق ثلث نصيبة من العبدين وجمعناه في العبد الذي اعترف بعتقه وذلك ثلثه.
مسألة: "وإن قال الثاني: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما أقرع بينهما وقامت القرعة مقام تعيينه" يعني إذا عين أحدهما عبدا وقال الآخر لا أدري من منهما فإنا نقرع بينهما فإن وقعت القرعة على الذي عينه أخوه صارا كأنهما عيناه ويعتق ثلثاه إلا أن يجيزا عتقه كله وإن وقعت على الآخر صار كأنه عينه وعين أخوه الآخر يعتق من كل واحد ثلثه ويبقى له السدس في الذي عينه ونصف الآخر على ما سبق؛ لأن القرعة قامت مقام التعيين عند الإشكال والالتباس.

باب حكم كتاب القاضي
يجوز الحكم على الغائب إذا كانت للمدعي بينة ومتى حكم على غائب ثم
ـــــــ
باب حكم كتاب القاضيمسألة: "يجوز الحكم على الغائب إذا كان للمدعي بينة" فمتى ادعى حقا على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه أجابه إلى ذلك وسمع بينته وحكم بها وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب, وهو قول أبي حنيفة إلا أنه قال: إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه وعن أحمد مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك لا تدري بما تقضي". قال الترمذي: هذا حديث حسن1؛ ولأنه قضى لأحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد؛ ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه قبل حضوره ولنا أن هندا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" 2. فقضى لها عليه ولم يكن حاضرا؛ ولأن أبا حنيفة وافقنا في سماع البينة فيقول هذه بينة عادلة مسموعة فجاز الحكم بها كما لو كان حاضرا. وأما حديثهم فنقول به وأنه إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما معا وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فإنه لا تسمع البينة على حاضر والغائب بخلافه.
مسألة: "ومتى حكم على غائب ثم كتب بحكمه إلى قاضي بلد الغائب لزمه قبوله وأخذ المحكوم عليه به" والأصل في كتاب القاضي إلى القاضي الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله سبحانه: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}, وأما السة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وملوك الأطراف وكان في كتابه إلى هرقل: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم أما بعد فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرا عظيما وإن توليت فإن عليك إثم
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الأحكام: حديث رقم 1331.
2 - سبق تخريجه.

كتب بحكمه إلى قاضي بلد الغائب لزم قبوله وأخذ المحكوم عليه به, ولا يثبت إلا بشاهدين عدلين يقولان قرأه علينا أو قرئ عليه بحضرتنا فقال: أشهدا على أن هذا كتابي إلى فلان أو إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم فإن مات
ـــــــ
الأريسيين و: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}, وروى الضحاك بن سفيان قال: كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها" 1, وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي ولأن الحاجة إلى قبوله داعية فإن من له حق في بلد غير بلده لا يمكنه إثباته والمطالبة به إلا بكتاب القاضي فوجب قبوله وأخذ المحكوم عليه به لأن ذلك هو المقصود منه.
مسألة: "ولا يثبت إلا بشاهدين عدلين يقولان قرأه علينا أو قرئ عليه بحضرتنا فقال: اشهدا على أن هذا كتابي إلى فلان أو إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم" فيعتبر في ثبوته ثلاثة شروط: أحدها أن يشهد به شاهدان عدلان وقيل يكفي معرفة خطه وختمه لأن ذلك تحصل به غلبة الظن فأشبه الشهادة ويتخرج لنا مثله بناء على ما إذا وجدت وصية الرجل مكتوبة عند رأسه بخطه عمل بها ولنا إن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر كإثبات العقود؛ ولأن الخط يشبه الخط والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول على الخط الشرط. الثاني: أن يكتب القاضي من موضع ولايته فإن كتب القاضي من غير عمله كتابا لم يسغ قبوله؛ لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو كالعامي. الشرط الثالث: أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته فإن وصل في غير موضع ولايته لم يكن له قبوله حتى يصل إلى موضع ولايته لما سبق.
مسألة: "فإن مات المكتوب إليه أو عزل فوصل إلى غيره عمل به" وروي أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس ابن معاوية قاضي البصرة كتابا فوصل وقد عزل وولي الحسن فلما وصل الكتاب عمل بت؛ لأن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأول أو ثبوت الشهادة عنده [دون الكتاب و لو ضاع الكتاب فشهد عنده] ذلك ثبت, فإذا شهدا بذلك عند الحاكم المتجدد وجب أن يقبل.
مسألة: "وإن مات الكاتب أو عزل بعد حكمه جاز قبول كتابه" سواء مات أو عزل قبل خروج الكتاب من يده أو بعده لأن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الفرائض: حديث رقم 2927.

المكتوب إليه أو عزل فوصل إلى غيره عمل به وإن مات الكاتب أوعزل بعد حكمه جاز قبول كتابه
ويقبل كتاب القاضي في كل حق إلا الحدود والقصاص.
ـــــــ
الحاكم وهما حيان فيجب أن يقبل كتابه كما لو لم يمت ولأن كتابه إنه كان بما حكم فحكمه لا يبطل بموته وعزله, وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهدي الأصل.
مسألة: "ويقبل كتاب القاضي في كل حق إلا في الحدود والقصاص"؛ وقال الشافعي رضي الله عنه: يقبل في كل حق لآدمي من الجراح وغيرها وفي الحدود التي لله تعالى على قوليه لأن كل حق يثبت بالشهادة فإنه يثبت بكتاب القاضي إلى القاضي لأنه بمنزلة الشهادة على الشهادة فيثبت بها كسائر الحقوق أو كالشهادة على الأموال, ولنا أن حدود الله سبحانه مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار بها والشهادة على الشهادة لا تخلو من الشبهة, ولذلك اشترطنا لقبولها تعذر شهادة الأصل ولم نقبلها إلا للحاجة ولا حاجة ها هنا ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على موضع الإجماع لما بينا من الفرق فيبطل إثباتها.

باب القسمة
وهي نوعان: قسمة إجبار وهي ما يمكن قسمته من غير ضرر ولا رد عوض
ـــــــ
باب القسمة"وهي نوعان": أحدهما "قسمة إجبار وهي قسمة ما يمكن قسمه من غير ضرر ولا رد عوض إذا طلب أحد الشريكين قسمه فأبى الآخر أجبره الحاكم عليه إذا ثبت عنده ملكهما ببينة" وتعتبر لها ثلاثة شروط: أحدهما أن لا يكون فيها ضرر فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع منها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار". رواه ابن ماجه ورواه مالك في موطئه عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى: "أن لا ضرر ولا ضرار" 1. الشرط الثاني: أن يمكن تعديل السهام من غير شيء يجعل معها فإن لم يكن ذلك لم يجبر الممتنع على القسمة لأنها تصير بيعا والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين؛ لقوله سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}. الشرط الثالث: أن يثبت عند الحاكم ملكهما ببينة لأن في الإجبار على القسمة حكما على الممتنع منهما فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه بخلاف حالة الرضا فإنه لا يحكم على أحدهما وإنما يقسم بقولهما ورضاهما.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

إذا طلب أحد الشريكين قسمه فأبى الآخر أجبره الحاكم عليه إذا ثبت عنده ملكهما ببينة فإن أقر به لم يجبر الممتنع عليه وإن طلباها في هذه الحال قسمت بينهما وأثبت في القضية أن قسمه كان عن إقرار لا عن بينة.
والثاني: قسمة التراضي وهي قسمة ما فيه ضرر بأن لا ينتفع أحدهما بنصيبه فيما هو له أو لا يمكن تعديله إلا برد عوض من أحدهما فلا إجبار فيها والقسمة
ـــــــ
مسألة: "فإن أقر به" يعني الملك "لم يجبر الممتنع" منهما "عليه" لأنه لم يوجد شرط الإجبار "وإن طلباها في هذه الحال قسمت بينهما وأثبت في القضية أن قسمه بينهما كان عن إقرار" هما "لا عن بينة", وقال أبو حنيفة: إن كان عقارا نسبوه إلى الميراث لم يقسمه وإن لم ينسبوه إلى الميراث أو كان غير عقار قسمه؛ لأن الميراث باق على حكم ملك الميت فلا يقسمه احتياطا للبت فيه؛ لأنه إذا لم يثبت عنده الموت والقرابة فلا احتياط ويخالف العقار غيره يثوي ويهلك ويحفظ بقسمته, والظاهر عند الشافعي رضي الله عنه أنه لا يقسم عقارا كان أو غيره. قال: لأني لو قسمتها بقولكم ثم رفعت إلى حاكم يقسمها أن يجعلها حكما لكم ولعلها لغيركم. ولنا أن اليد تدل على الملك ولا منازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر وما ذكره الشافعي رضي الله عنه يندفع إذا أثبت في القضية أن قسمته بينهم كان عن إقرارهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم وكل ذي حجة على حجته وما ذكره أبو حنيفة لا يصح فإنه لا حق للميت فيه إلا أن يظهر عليه دين وما ظهر الأصل عدمه كما قلنا إن الظاهر ملكهم فيما لم يدعوه ميراثا؛ لأنه لم يثبت لغيرهم. "الثاني: قسمة التراضي وهي قسمة ما فيه ضرر بأن لا ينتفع أحدهما بنصيبه فيما هو له أو لا يمكن لعديله إلا برد عوض من أحدهما" فلا إجبار فيها. مثال: ما فيه ضرر أن تكون دار بين اثنين لأحدهما عشرها وللآخر الباقي إذا اقتسماها لا يصلح لصاحب العشر ما ينتفع به فيتضرر لذلك فإذا طلب صاحب الكثير القسمة لا يجبر الآخر؛ لقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار". رواه ابن ماجه, وأما ما لا يمكن تعديله إلا برد عوض فإنه يكون بيعا فإن تراضيا عليه جاز وان امتنع أحدهما لم يجبر لأن البيع لا يجبر عليه أحد لقوله سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}.
مسألة: "والقسمة إفراز حق لا يستحق بها شفعة ولا يثبت فيها خيار"؛ لأنها ليست بيعا, وقال الشافعي في أحد قوليه: هي بيع وحكي ذلك عن ابن بطة لأنه يعدل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر وهذا حقيقة البيع, ولنا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك ولا تجب فيها الشفعة ويدخلها الإجبار وتلزم بإخراج القرعة وبتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر والبيع لا يجوز فيه شيء من ذلك؛ ولأنه تنفرد عن البيع باسمها وأحكامها فلم تكن بيعا كسائر العقود, وفائدة الخلاف أنها إذا لم تكن بيعا جازت قسمة الثمار خرصا والتفرق قبل القبض في قسمة المكيل والموزون وقسمة ما يكال وزنا وما يوزن

إفراز حق لا يستحق بها شفعة ولا يثبت فيها خيار وتجوز في المكيل وزنا وفي الموزون كيلا وفي الثمار خرصا وتجوز قسمة الوقف إذا لم يكن فيها رد عوض فإن كان بعضه طلقا وبعضه وقفا وفيها عوض من صاحب الطلق لم يجز وإن كان من رب الوقف جاز, وإذا عدلت الأجزاء أقرع عليها فمن خرج سهمه على شيء
ـــــــ
كيلا ولا يحنث فيها إذا حلف لا يبيع وإذا كان العقار وقفا أو نصفه وقفا ونصفه طلقا جازت القسمة, وإن قلنا هي بيع لم يجز ذلك فيها وهذا إذا خلت من الرد فإذا كان فيها رد فهي بيع لأن صاحب الرد يبذل المال عوضا عما حصل له من شريكه, وهذا هو البيع فإن فعلا في وقف لم يجز؛ لأن الوقف لا يجوز بيعه فإن كان بعضه وقفا وبعضه طلقا والرد من أهل الطلق لم يجز لأنهم يشترون بعض الوقف وإن كان الرد من أهل الوقف جاز لأنهم يشترون بعض الطلق وهو جائز.
مسألة: "وتجوز في المكيل وزنا في الموزون كيلا وفي الثمار خرصا" هذا إذا قلنا إنها ليست بيعا وهو المنصور في المذهب وأنها إفراز حق فإن ذلك كله جائز, وأما إن قلنا إنها بيع لم يجز فيها شيء من ذلك على ما مر.
مسألة: "وتجوز قسمة الوقف إذا لم يكن فيها رد عوض فإن كان بعضه طلقا وبعضه وقفا وفيها" رد "عوض من صاحب الطلق لم يجز"؛ لأنه يشتري الوقف "وإن كان من رب الوقف جاز"؛ لأنه يشتري الطلق من صاحبه على ما مر.
مسألة: "وإذا عدلت الأجزاء أقرع عليها فمن خرج سهمه على شيء صار له ولزم بذلك", وذلك أنا قد ذكرنا أن القسمة على ضربين: قسمة إجبار وقسمة تراض, فأما قسمة الإجبار فهي التي يمكن تعديل السهام فيها من غير رد شيء فإذا عدلت السهام أقرع بينهم وكيف ما أقرع جاز في ظاهر كلامه. قال: إن شاء رقاعا وإن شاء خواتيم تطرح في حجر من لم يحضر ويكون لكل واحد خاتم ثم يقال أخرج خاتما على هذا السهم فمن خرج خاتمه فهو له, وعلى هذا لو أقرع بحصى أو غيره جاز ويلزم ذلك بالقرعة سواء كان القاسم قاسم الحاكم أو عدلا نصباه؛ لأن قرعة قاسم الحاكم كحكم الحاكم بدليل أنه يجتهد في تعديل السهام كاجتهاد الحاكم في طلب الحق فتنفذ قرعته, والذي رضوا به وحكموه فهو كرجل حكم بينهم في القضاء ولو حكموا رجلا بينهم لزم حكمه كذا ها هنا فإما إن قسما بأنفسهما أو أقرعا أو نصبا قاسما فاسقا لم يلزم إلا بتراضيهما بعد القرعة, ولأنه لا حاكم بينهما ولا من يقوم مقامه وأما قسمة التراضي فهي التي فيها رد ولا يمكن تعديل السهام فيها إلا أن يجعل مع بعضها عوض فهل تلزم بالقرعة؟ فيه وجهان: أحدهما يلزم كقسمة الإجبار؛ لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمه, والثاني: لا يلزم لأنها بيع والبيع لا يلزم إلا بالتراضي وإنما القرعة ها هنا ليعرف البائع من المشتري فأما إن تراضيا

صار له ولزم بذلك ويجب أن يكون قاسم الحاكم عدلا وكذلك كاتبه
ـــــــ
على أن يأخذ كل واحد منهما واحدا من السهمين بغير قرعة فإنه يجوز؛ لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما وكذلك لو خير أحدهما صاحبه فاختار ويلزم ها هنا التراضي وتفرقهما كما يلزم البيع.
مسألة: "ويجب أن يكون قاسم الحاكم بينهم عدلا وكذلك كاتبه" ويكون عارفا بالحساب أيضا والقسمة ليوصل إلى كل ذي حق حقه ولا يفتقر أن يكون من أهل الاجتهاد ولا أن يكون حرا, واشترط الشافعي رضي الله عنه أن يكون حرا وتلزم قسمته بالقرعة وإن نصبا قاسما بينهما على صفة قاسم الحاكم فهو كقاسم الحاكم في لزوم القسمة بالقرعة, وإن كان فاسقا أو كافرا لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما بها ويكون وجوده فيما يرجع إلى لزوم القسمة كعدمه.

كتاب الشهادات
مدخل...
كتاب الشهاداتتحمل الشهادة وأداؤها فرض كفاية إذا لم يوجد من يقوم بها سوى اثنين
ـــــــ
كتاب الشهادات
والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 1, وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2. وأما السنة فروى وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي فليس له فيها حق, فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: "ألك بينة"؟ قال: لا. قال: "فلك يمينه", قال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه وليس يتورع من شيء قال: "ليس لك منه إلا ذلك". قال: فانطلق الرجل ليحلف له, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن حلف على مال ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح3, وروى محمد بن عبيد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه". قال الترمذي: هذا حديث في إسناده مقال4. والعزرمي يضعف في الحديث من قبل حفظه, ضعفه ابن المبارك وغيره, إلا أن أهل العلم أجمعوا على هذا. قال الترمذي: العمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم؛ لأن الحاجة داعية إلى الشهادة بحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع إليها. قال شريح: القضاء جمرة فنحه عنك بعودين يعني بشاهدين, وإنما الخصم داء والشهود شفاء فأفرغ الشفاء على الداء.
مسألة: "وتحمل الشهادة وأداؤها فرض" على الـ "كفاية" "إذ لم يوجد من يقوم بها
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 282.
2 - سورة الطلاق: الآية 2.
3 - رواه الترمذي في الأحكام: حديث رقم 1340. وأبو داود في الأيمان: حديث رقم 3245.
4 - رواه الترمذي في الأحكام: حديث رقم 1341.

لزمهما القيام بها على القريب والبعيد إذا أمكنهما ذلك من غير ضرر؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ}.
والمشهود عليه أربعة أقسام: أحدهها: الزنا وما يوجب حده فلا يثبت إلا بأربعة رجال أحرار عدول. الثاني: المال وما يقصد به المال فيثبت بشاهدين أو رجل
ـــــــ
سوى اثنين لزمهما القيام بها على القريب والبعيد إذا أمكنهما ذلك من غير ضرر؛ لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ والأقربين} 1, وقال سبحانه: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} 2, وقال تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} 3, وخص القلب لأنه موضع العلم بها, ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات فإذا ثبت هذا فإنه إذا دعي إلى تحمل شهادة في نكاح أو دين أو غيره لزمه الإجابة, وإن كانت عنده شهادة فدعي إلى أدائها لزمه ذلك فإن قام بالفرض في التحمل والأداء اثنان سقط عن الجميع وإن امتنع الكل أثموا, وقوله: إذا أمكنهما ذلك من غير ضرر يعني أنه لو دعي إلى شهادة في مكان بعيد يشق عليه المشي إليه لم يلزمه ذلك, وكذلك إذا دعاه في وقت برد أو مطر أو طين كثير أو ثلج يتضرر بالخروج فيه لقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" 4.
مسألة: "والمشهود عليه أربعة أقسام: أحدها الزنا وما يوجب حده فلا يثبت إلا بأربعة رجال أحرار عدول" أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا إلا أربعة وقال سبحانه: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 5, وأكثرهم قال لا تقبل فيه إلا شهادة الأحرار, وقال أبو ثور: تقبل فيه شهادة العبيد, ولا يصح لأنه مختلف في شهادتهم في سائر الحقوق فيكون ذلك شبهة تمنع قبول شهادتهم فيما يندرئ بالشبهات ولا نعلم خلافا في أنه لا تقبل فيه إلا شهادة العدول ظاهرا وباطنا, وأنه لا يقبل فيه إلا شهادة المسلمين سواء كان المشهود عليه مسلما أو ذميا.
مسألة: "الثاني: المال وما يقصد به المال فيثبت بشاهدين أو" بـ "رجل وامرأتين وبرجل مع يمين الطالب", وذلك كالبيع والقرض والرهن والوصية له وجناية الخطأ لقوله سبحانه: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} إلى قوله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 6, نص على المداينة وقسنا عليه سائر
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 135.
2 - سورة البقرة: الآية 282.
3 - سورة البقرة: الآية 283.
4 - سبق تخريجه.
5 - سورة النور: الآية 13.
6 - سورة البقرة: الآية 282.

وامرأتين وبرجل مع يمين الطالب. الثالث: ما عدا هذين مما يطلع عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود والقصاص كالنكاح والطلاق والرجعة والعتق والولاية والعزل والنسب والولاء والوكالة في غير المال والوصية إليه وما أشبه ذلك - فلا يقبل إلا رجلان. الرابع: ما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والحيض والعذرة والعيوب تحت الثياب فيثبت بشهادة امرأة عدل لأن عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى
ـــــــ
ما ذكرناه قال ابن أبي موسى: ولا تثبت الوصية إلا بشاهدين؛ لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} 1, ويقبل في ذلك شاهد ويمين المدعي, وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي وروى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد, رواه سعيد ابن منصور في سننه والأئمة من أهل المسانيد والسنن وقال الترمذي: حديث حسن غريب, وقال النسائي: إسناد حديث ابن عباس: اليمين مع الشاهد, إسناد جيد ولأن اليمين شرعت في حق من ظهر صدقه وقوى جانبه فكذلك شرعت في حق صاحب اليد لقوة جنبته عليها وبها وفي حق المنكر؛ لأن الأصل براءة ذمته والمدعي ها هنا قد ظهر صدقه فوجب أن تشرع اليمين في حقه.
مسألة: "الثالث: ما عدا هذين مما يطلع عليه الرجال في غالب الأحوال غير الحدود والقصاص كالنكاح والطلاق والرجعة والعتق والولاية والعزل والنسب والولاء والوكالة في غير المال والوصية إليه وما أشبه ذلك, فلا يقبل فيه إلا رجلان" في إحدى الروايتين لقوله تعالى في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ}, فقيس عليه سائر ما ذكرنا ولأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال أشبه العقوبات, والرواية الأخرى يقبل فيه رجل وامرأتان أو يمين لأنه ليس بعقوبة ولا يسقط بالشبهة أشبه المال, وقال القاضي: النكاح وحقوقه من الطلاق والخلع والرجعة لا يثبت إلا بشاهدين رواية واحدة والوكالة والوصية والكتابة تخرج على روايتين لأن النكاح مما يحتاط له لأجل حفظ النسب.
مسألة: "الرابع: ما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والحيض والعذرة والعيوب تحت الثياب" والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة, "فتثبت بشهادة امرأة عدل لأن عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف وقد زعمت ذلك". متفق عليه2. وقسنا عليه سائرها, ولأنه معنى يقبل فيه قول النساء المنفردات فأشبه الرواية وعنه لا يقبل فيه إلا
ـــــــ
1 - سورة المائدة: الآية 106.
2 - رواه البخاري في الشهادات: حديث رقم 2659.

بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما فذكزت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف وقد زعمت ذلك".
وتقبل شهادة العبد في كل شيء إلا الحدود والقصاص وتقبل شهادة الأمة فيما تقبل فيه شهادة النساء للخبر وشهادة الفاعل على فعله كالمرضعة على الرضاع والقاسم على القسمة وشهادة الأخ لأخيه, والصديق لصديقه وشهادة الأصم على المرئيات وشهادة الأعمى إذا تيقن الصوت
ـــــــ
شهادة امرأتين لأن الرجال أكمل منهن ولا يقبل منهم إلا اثنان فالنساء أولى.
مسألة: وتقبل شهادة الأمة فيما تقبل فيه شهادة النساء للخبر.
مسألة: "وتقبل شهادة العبيد في كل شيء إلا في الحدود والقصاص" على إحدى الروايتين؛ لقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}, والعبد عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره الدينية فيدخل في العموم وحديث عقبة قال فيه: فجاءت أمة سوداء فقالت: أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف وقد زعمت ذلك". فقبل شهادتها, ولأنه عدل غير متهم أشبه الحر وأما الحد فلا تقبل شهادته فيه لأنه يدرأ بالشبهات, وفي شهادة العبد شبهة لوقوع الخلاف فيها وفي القصاص احتمالان: أحدهما لا قبول لذلك. والثاني: تقبل لأنه حق آدمي لا يصح الرجوع عن الإقرار فيه أشبه الأموال, وذكر الشريف وأبو الخطاب في جميع العقوبات روايتين وحكم المدبر والمكاتب وأم الولد حكم القن لأنهم أرقاء.
مسألة: "وتقبل شهادة" الإنسان على فعل نفسه "كالمرضع على الرضاع" لحديث عقبة "و" كذلك "القاسم على القسمة" والحاكم على حكمه بعد العزل لأنه يشهد لغيره فصح على فعل نفسه كما لو شهد على فعل غيره.
مسألة: "وشهادة الأخ لأخيه" جائزة قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة, وقال الله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}, ولم يفصل ولأنه عدل غير متهم فيجب قبول شهادته كالأجنبي.
مسألة: وتقبل شهادة "الصديق لصديقه" للآية في قول عامتهم إلا مالكا فإنه قال: لا تقبل لأنه يجر إلى نفسه نفعا فهو متهم كما ترد شهادة العدو على عدوه للتهمة, ولنا عموم أدلة الشهادة وما قاله يبطل بشهادة الغريم للمدين قبل الحجر وإن كان ربما قضاه دينه منه فجر إلى نفسه نفعا أعظم مما يرجوه الصديق من صديقه, وأما العداوة فسببها محظور وفي الشهادة عليه شفاء غيظه منه فخالف الصداقة.
مسألة: "و" تجوز "شهادة الأصم على المرئيات".
مسألة: "وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت" روي ذلك عن ابن عباس وعلي

وشهادة المستخفي, ومن سمع إنسانا يقر بحق وإن لم يقل للشاهد أشهد وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه جاز أن يشهد به كالشهادة على النسب والولادة
ـــــــ
لقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}, ولأنه قول علي وابن عباس ولم يعرف لهما مخالف فكان إجماعا, ولأن روايته مقبولة فقبلت شهادته كالبصير ولأن السمع أحد الحواس التي يحصل بها اليقين وقد يكون المشهود عليه ممن ألفه الأعمى وعرف صوته يقينا وهذا لا سبيل إلى إنكاره وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور وفارق الأفعال فإن طريق الشهادة عليها الرؤية ولا يمكنه رؤيتها فإذا ثبت هذا فإنما يجوز له أن يشهد إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه يقينا, فإن جواز أن يكون صوت غيره لم يجز أن يشهد به كما لو اشتبه على البصير المشهود عليه فلم يعرفه ولا خلاف في قبول روايته وجواز استمتاعه من زوجته إذا عرف صوتها.
مسألة: "و" تجوز "شهادة المستخفي" وهو الذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليستمع إقراره ولا يعلم به كالرجل يجحد الحق علانية ويقر به سرا فيختفي له شاهدان لا يعلم بهما فإن أقر به سرا سمعاه وشهدا عليه فشهادتهما مقبولة على الرواية الصحيحة, وهو قول الشافعي وقد روي عن أحمد لا تقبل شهادته وهو اختيار أبي بكر وابن أبي موسى لأن الله سبحانه قال: {وَلا تَجَسَّسُوا}, وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حدث بحديث ثم التفت فهي أمانة", يعني لا يجوز لسامعه أن يذكره عنه لالتفاته وحذره, ولنا أنهما سمعا إقراره فقبلت شهادتهما كما لو أشهدهما.
مسألة: "و" يجوز "شهادة من سمع إنسانا يقر بحق وإن لم يقل للشاهد اشهد علي", وعنه لا يشهد حتى يقول له المقر اشهد علي كالشهادة على الشهادة؛ لأنه لا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد بها حتى يقول له شاهد الأصل اشهد علي أني أشهد على فلان بكذا, وعنه رواية ثالثة إذا سمعه يقر بقرض لا يشهد وإن سمعه يقر بدين شهد لأن المقر بالدين معترف أنه عليه الآن والمقر بالقرض لا يعترف بذلك؛ لأنه يجوز أنه اقترض منه ثم وفاه, وعنه رواية رابعة أنه إذا سمع الشهادة فدعي إلى إقامتها فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد. قال: ولكن يجب عليه إذا شهد أن يشهد إذا دعي لقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}. قال: إذا شهدوا, والصحيح الأول لأن الشاهد يشهد بما علمه وقد حصل له العلم بسماعه فجاز أن يشهد به كما يجوز أن يشهد على الأفعال من القتل والجرح والسرقة والأفعال برؤيتها فإن السارق لا يقول: اشهدوا على أنني سرقت, وكذا كل فاعل فاحشة أو معصية, وفارق الشهادة على الشهادة فإنها ضعيفة فاعتبر تقويتها بالاسترعاء.
مسألة: "وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه جاز أن يشهد به كالشهادة على النسب والولادة" أجمعوا على صحة الشهادة في النسب والولادة. قال ابن المنذر: أما

ولا يجوز ذلك في حد ولا قصاص وتقبل شهادة القاذف وغيره بعد توبته.
ـــــــ
النسب فلا نعلم أحدا من أهل العلم منع منه ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشهادة به إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك قطعا, ولا يمكن المشاهدة لسببه وإنما نعلم ذلك من طريق الظاهر فجازت الشهادة به بالظن, وأما ما عدا النسب والولادة مما تجوز الشهادة به بالاستفاضة فذكر أصحابنا تسعة أشياء: النكاح والملك المطلق والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاء والولاية والعزل؛ لأن هذه الأمور تتعذر في الغالب معرفة أسبابها ويحصل العلم فيها بالاستفاضة فجاز أن يشهد بها كالنسب, وظاهر كلام أحمد أنه لا يشهد بذلك حتى يسمعه من عدد كثير يحصل له به العلم؛ لأن الشهادة لا تجوز إلا على ما علمه, وقال القاضي: يجوز من عدلين يسكن قلبه إلى خبرهما لأن الحق يثبت بقول اثنين.
مسألة: "ولا يجوز ذلك في حد ولا قصاص"؛ لأن شهادة الاستفاضة ضعيفة لكونها مبنية على غلبة الظن فالأصل أن لا تجوز وإنما جازت في هذه الأشياء حفظا لها أن لا تضيع كشهادة النسب مثلا بخلاف الحدود والقصاص فإن مبناها على الدرء والإسقاط فاحتيج فيه إلى العلم به ليشهد به. قال عمر رضي الله عنه: اشهد علي مثل الشمس أو دع.
مسألة: "وتقبل شهادة القاذف وغيره بعد توبته"؛ لأن الله عز وجل قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلى قوله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} 1, نص على قبول شهادة القاذف إذا تاب وكذلك الفاسق إذا تاب قبلت شهادته بالقياس على القاذف إذا تاب والتوبة الندم والاستغفار من الذنب والعزم أن لا يعود لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} 2 الآية, وإن كانت مظلمة لآدمي فالتوبة من ذلك التخلص منه برده إلى مالكه والتحليل منه؛ لأن الحق لآدمي فلا يبرأ منه إلا بأدائه أو إبرائه وتوبة القاذف إكذابه لنفسه؛ لما روي عن عمر أنه قال: توبة القاذف إكذابه نفسه, ولأنه بالقذف أثبت العار فبإكذابه نفسه يزيله فإن لم يكن كاذبا. قال: قذفي لفلانة كان باطلا وقد ندمت عليه ولا أعود إلى مثله وأنا تائب إلى الله تعالى منه.
ـــــــ
1 - سورة النور: الآية 4.
2 - سورة آل عمران: الآية 135.

باب من ترد شهادته
لا تقبل شهادة صبي ولا زائل العقل ولا أخرس ولا كافر ولا فاسق ولا
ـــــــ
باب من ترد شهادته"لا تقبل شهادة صبي" لقوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}, والصبيان ليسوا من رجالنا, ولأنه غير مكلف أشبه المجنون وعنه تقبل شهادة ابن عشر إذا كان عاقلا

مجهول الحال ولا حاز إلى نفسه نفعا ولا دافع عنها شرا
ـــــــ
في حال أهل العدالة لأنه يؤمر بالصلاة ويضرب عليها أشبه البالغ, وعنه شهادة الصبيان في الجراح خاصة قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها؛ لأنه قول ابن الزبير, والمذهب الأول لما سبق. الثاني: "و لا زائل العقل" فلا تقبل شهادة المجنون والمعتوه ولا السكران ولا المبرسم؛ لأن قولهم على أنفسهم لا يقبل فعلى غيرهم أولى. الثالث: الكلام فلا تقبل شهادة الـ "أخرس" بالإشارة لأنها محتملة فلم تقبل كإشارة الناطق, وإنما تقبل في أحكامه المختصة به للضرورة, وهي ها هنا معدومة ويحتمل أن تقبل فيما طريقه الرؤية إذا فهمت إشارته؛ لأن إشارته بمنزلة نطقه كما في سائر أحكامه. الرابع: الإسلام فـ "لا" تقبل شهادة "كافر" بحال لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}, وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}, والكافر ليس بعدل ولا مرضي ولا هو منا إلا شهادة أهل الكتاب فى الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم لقوله سبحانه: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}. وهذا نص قد قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قال أبو عبيد: قضى به ابن مسعود في زمن عثمان رضي الله عنه. الخامس: أن يكون من أهل العدالة. "فلا تقبل شهادة الفاسق" لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}, ويعتبر في العدالة شيئان: أحدهما الصلاح في الدين وهو أداء الفرائض واجتناب المحارم بحيث لا يرتكب كبيرة ولا يدمن على صغيرة؛ ولأن الفاسق لا يؤمن منه شهادة الزور؛ لأن الله نص على الفاسق فقسنا عليه مرتكب الكبائر, وهي كل ما فيه حد أو وعيد واعتبرنا في مرتكب الصغائر الأغلب, فإذا كان الأغلب منه فعل الطاعات لم ترد شهادته, وإن كان الأغلب فعل الصغائر بحيث يصر عليها ردت شهادته؛ لأن الحكم للأغلب. بدليل قوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} 1.
مسألة: "ولا" تقبل شهادة "مجهول الحال"؛ لأن العدالة شرط لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}, وقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}, وهذا غير مرضي وهو غير معلوم العدالة فلا تقبل شهادته كالفاسق.
مسألة: "ولا" تقبل شهادة من يجر "إلى نفسه نفعا" بشهادته كشهادة السيد لمكاتبه والوارث لموروثه فإن المكاتب عبد لقوله عليه الصلاة والسلام: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" 2, فكأنه يشهد لنفسه لأن مال عبده له.
مسألة: "ولا تقبل شهادة من يدفع عن نفسه ضررا" كشهادة العاقلة بجرح شهود الخطأ
ـــــــ
1 سورة المؤمنون: الآية 102.
2 - رواه البخاري معلقا في المكاتب: 4- باب بيع المكاتب. ورواه أبو داود في المكاتب: حديث رقم 3926.

ولا شهادة والد وإن علا لولده ولا ولد لوالده ولا سيد لعبده ولا مكاتبه ولا شهادتهما له ولا أحد الزوجين لصاحبه
ـــــــ
لأنهم يدفعون عن أنفسهم الدية فلا تقبل للتهمة في ذلك.
مسألة: "ولا" تقبل "شهادة والد وإن علا لولده ولا" ولد "لوالده" وإن سفل فالولادة مانعة من الشهادة من العمودين سواء في ذلك الآباء والأمهات وآباؤهما وأمهاتهما, وعنه تقبل شهادة الابن لأبيه ولا تقبل شهادة الأب له؛ لأن مال الابن لأبيه أو في حكم ماله له أن يتملكه فشهادته له شهادة لنفسه أو يجر بها لنفسه نفعا قال عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك"1, ولا يوجد هذا في شهادة الابن لأبيه, وعنه رواية ثالثة تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه فيما لا تهمة فيه كالنكاح والطلاق والقصاص والمال إذا كان مستغنيا عنه؛ لأن كل واحد منهما لا ينتفع بذلك فلا تهمة في حقه, وعن عمر تقبل شهادة بعضهم لبعض لأن الله تعالى قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}, ودليل الأولى ما روى الزهري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر ولا ظنين في قرابة ولا ولاء" 2, والظنين: المتهم والأب متهم لولده لأن بينهما بضعة فكأنه يشهد لنفسه, وقال عليه السلام: "فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها". ولأنه متهم في الشهادة لولده كتهمة العدو في الشهادة على عدوه والابن كذلك لأنه وارث أبيه وأما الآية فنخصها بخبرنا فإنه أخص منها.
مسألة: "ولا" تقبل شهادة "سيد عبد لعبده" لأنه يشهد لنفسه؛ لأن ماله له, "ولا" تجوز شهادته لـ "مكاتبه" لذلك.
مسألة: "ولا" تجوز "شهادتهما له" يعني لا تجوز شهادة العبد ولا المكاتب لسيدهما؛ لأنهما متهمان في ذلك لأن العبد ينبسط في مال سيده ويتصرف فيه وتجب نفقته منه ولا يقطع بسرقته فلا تقبل شهادته له كالابن مع أبيه.
مسألة: "ولا" تجوز شهادة "أحد الزوجين لصاحبه" في إحدى الروايتين وتقبل في الأخرى؛ لأنه عقد على منفعة فلا يتضمن رد الشهادة كالإجارة, ودليل الأولى أن كل واحد منهما يرث صاحبه من غير حجب وينبسط في ماله عادة فهو متهم في حقه فلم تقبل شهادته له كالأب مع ابنه؛ ولأن يسار الرجل يزيد في نفقة امرأته ويسار المرأة يزيد به قيمة بضعها المملوك لزوجها فكان كل واحد منهما يجر إلى نفسه نفعا ولهذا يضاف مال كل واحد.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه الترمذي في الشهادات: حديث رقم 2298. وقال غريب.

ولا شهادة الوصي فيما هو وصي فيه ولا الوكيل فيما هو وكيل فيه ولا الشريك فيما هو شريك فيه ولا العدو على عدوه ولا معروف بكثرة الغلط والغفلة, ولا من لا مروءة له كالمسخرة وكاشف عورته للناظرين في حمام أو غيره, ومن شهد بشهادة يتهم في بعضها ردت كلها
ـــــــ
منهما إلى صاحبه قال الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} الآية1, وقال تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} 2, فأضافها إليهن تارة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة, وقال ابن مسعود للذي قال إن غلامي سرق مرآة امرأتي: عبدكم سرق مالكم ويفارق عقد الإجارة من هذا الوجوه.
مسألة: "ولا" تقبل "شهادة الوصي فيما هو وصي فيه" لأنه متهم في ذلك, "ولا الوكيل فيما هو وكيل فيه" لذلك, "ولا الشريك فيما هو شريك فيه" لأنه يشهد لنفسه.
مسألة: "ولا العدو على عدوه" لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه", رواه أبو داود3. والغمر: الحقد ولأن العداوة تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة, وتخالف الصداقة فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا غيره, وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا.
مسألة: "ولا من يعرف بكثرة الغلط والغفلة" لأنه لا يوثق بقوله لاحتمال أن يكون من غلطاته فربما شهد على غير من استشهد عليه أو بغير ما شهد به أو لغير من أشهده واعتبرنا كثرة الغلط لأن أحدا لا يسلم من الغلط في الجملة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو فلو منع الغلط القليل الشهادة لانسد باب الشهادات فاعتبرنا الغلط الكثير كما اعتبرنا كثرة المعاصي في الإخلال بالعدالة, إذا ثبت هذا فينبغي للشاهد أن يكون حافظا متيقظا ضابطا لما يشهد به لتحصل الثقة بقوله ويغلب على الظن صدقه.
مسألة: "ولا" تجوز شهادة "من لا مروءة له كالمسخرة وكاشف عورته للناظرين في" الـ "حمام أو غيره", والمصافع والمغني والرقاص؛ لأن ذلك سخف ودناءة فإذا استحسن هذا ورضيه لنفسه فلا مروءة له, ولا تحصل الثقة بقوله, وروى ابن مسعود قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" 4. أي: من لا يستحي صنع ما يشاء فإن صنع شيئا من ذلك متخفيا به لم يمنع قبول شهادته؛ لأن مروءته لا تسقط به.
مسألة: "ومن شهد بشهادة يتهم في بعضها ردت كلها" كشهادة الشريك لشريكه
ـــــــ
1 - سورة الأحزاب: الآية 33.
2 - سورة الأحزاب: الآية 53.
3 - رواه أبو داود في الأقضية: حديث رقم 3601.
4 - رواه البخاري في الأنبياء: حديث رقم 3483.

ولا يسمع في الجرح والتعديل ونحوها إلا شهادة اثنين, وإذا تعارض الجرح والتعديل قدم الجرح, وإن شهد شاهد بألف وآخر بألفين قضى له بألف
ـــــــ
والوارث لموروثه لأنه يشهد لنفسه وشهادته لنفسه لا تصح كذا ها هنا.
مسألة: "ولا يسمع في الجرح والتعديل والترجمة ونحوها إلا شهادة اثنين", وعنه تقبل من واحد وهو مذهب أبي حنيفة؛ لأنه خبر لا يعبر فيه لفظ الشهادة فقبل من واحد كالرواية, ولنا أن الجرح والتعديل إثبات صفة من يبني الحاكم حكمه على صفته فاعتبر فيه العدد كالحضانة وفارق الرواية لبنائها على المساهلة ولا نسلم أنه لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ويعتبر في الجرح والتعديل اللفظ فيقول في التعديل: أشهد أنه عدل ويكفي هذا, وإن لم يقل علي ولا لي لقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}, فإذا شهد أنه عدل ثبتت عدالته عليه وله ودخل في عموم الآية وأما الترجمة فحكمها كذلك, فإذا تحاكم إلى القاضي أعجميان لا يعرف لسانهما فلا بد من مترجم عنهما ولا يقبل إلا من اثنين عدلين, وعنه تقبل من واحد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز, وقال ابن المنذر في حديث زيد بن ثابت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود. قال: فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا إليه؛ ولأنه لا يفتقر إلى لفظ الشهادة أشبه أخبار الديانات, ولنا أنه نقل ما خفي على الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتخاصمين فوجب فيه العدد كالشهادة ويفارق أخبار الديانات؛ لأنها لا تتعلق بالمتخاصمين ولا نسلم أنه لا يعتبر لفظ الشهادة ولأن ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كغيبته فإذا ترجم له كان كنقل الإقرار إليه من غير مجلسه ولا يقبل ذلك إلا من شاهدين كذا ها هنا, فعلى هذا تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الإقرار بذلك الحق فإن كان مما يتعلق بالحدود والقصاص اعتبر فيها الحرية, وإن كان مالا كفى ترجمة رجل وامرأتين وإن كان مما لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين لم يقبل إلا ترجمة رجلين, وإن كان حد زنا ففي الشهادة على الإقرار به روايتان إحداهما لا يكفي إلا شهادة أربعة, والثانية يكفي شهادة اثنين فالترجمة عن الإقرار به تخرج على وجهين ويعتبر في ذلك كله لفظ الشهادة؛ لأنه شهادة وإن قلنا يكتفي بواحد فلا بد من عدالته وتقبل من العبد لأنه من أهل الشهادة.
مسألة: "وإذا تعارض الجرح والتعديل قدم الجرح" قال مالك: ننظر أيهما أعدل, اللذان جرحاه أو اللذان عدلاه, ولنا أن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه؛ لأن التعديل يتضمن نفي الريبة والمحارم والجارح مثبت لوجود ذلك والإثبات مقدم على النفي, ولأن الجارح يقول: رأيته يفعل كذا وكذا ومستند المعدل أنه لم يره يفعل

وحلف مع شاهده على الألف الآخر إن أحب وإن قال أحدهما: ألف من قرض, وقال الآخر: من ثمن مبيع لم تكمل الشهادة, وإذا شهد أربعة بالزنا أو شهد اثنان على فعل سواه واختلفوا في المكان أو الزمان أو الصفة لم تكمل شهادتهم
ـــــــ
ذلك ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بأن يكون الجارح رآه يفعل ذلك والمعدل لم يره.
مسألة: "وإن شهد شاهد بألف وآخر بألفين قضى له بألف وحلف مع شهادته على الألف الآخر إن أحب", وذلك أنه متى شهد أحد الشاهدين بشيء وشهد الآخر ببعضه صحت الشهادة وثبت ما اتفقا عليه وحكم بت, وعن أبي حنيفة أنه إذا شهد شاهد أنه أقر بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين لم تصح الشهادة؛ لأن الإقرار بالألف غير الإقرار بالألفين ولم يشهد بكل إقرار إلا واحد, ولنا أن الشهادة كملت فيما اتفقا عليه فحكم به كما لو لم يزد أحدهما على صاحبه. فأما ما انفرد به أحدهما فإن للمدعي أن يحلف معه ويستحق وهو قول من يرى الحكم بشاهد ويمين.
مسألة: "وإن قال أحدهما: ألف من قرض, وقال الآخر: من ثمن مبيع لم تكمل الشهادة"؛ لأن كل واحد منهما شهد بغير ما شهد به الآخر, والمسأله الأولى فيما إذا أطلقا الشهادة أوعزواها إلى سبب واحد. فأما مع اختلاف الأسباب كما ذكرناه أو مع اختلاف الصفات مثل أن يشهد أحدهما بألف دينار وآخر بخمسمائة درهم, أو يشهد أحدهما بألف درهم بيض والآخر بخمسمائة سود لم تكمل البينة, لكن له أن يحلف معهما ويستحق ما شهدا به أو مع أحدهما ويستحق ما شهد به وحده. والله أعلم.
مسألة: "وإذا شهد أربعة بالزنا أو شهد اثنان على فعل سواه واختلفوا في المكان أو الزمان والصفة لم تكمل شهادتهم", وإذا شهد أربعة بالزنا واختلفوا في المكان والزمان مثل: ما إذا شهد اثنان أنه زنا بها في بيت وشهد اثنان أنه زنا بها في بيت آخر, أو شهد كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد به الآخران أو اختلفوا في الزمان مثل أن يشهد اثنان أنه زنا بها يوم الخميس ويشهد اثنان أنه زنا بها في يوم الجمعة أو اختلفوا في صفة الزنا فاثنان وصفاه على صفة واثنان لم يصفا شيئا إنما شهدا بظاهر الحال لم تكمل شهادتهم؛ لأنهم لم يشهدوا على فعل واحد فأشبه ما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما, وحكي عن أحمد أنه يجب الحد على المشهود عليه فيما إذا اختلفا في المكان والزمان؛ لأن الشهادة قد كملت عليه وهو اختيار أبي بكر. قال أبو الخطاب: ظاهر هذه الرواية أنه لا يعتبر كمال الشهادة على فعل واحد, وهذا بعيد. قال القاضي: قال أبو بكر: لو شهد اثنان أنه زنا بها بيضاء وشهد اثنان أنه زنا بها وهي سوداء فهم قذفة, وهذا ينقض قوله.

باب الشهادة على الشهادة و الرجوع عنها
...
باب الشهادة على الشهادة والرجوع عنها
تجوز الشهادة على الشهادة فيما يجوز فيه كتاب القاضي إذا تعذرت شهادة الأصل بموت أو غيبة أو مرض ونحوه بشرط أن يسترعيه شاهد الأصل فيقول أشهد
ـــــــ
باب الشهادة على الشهادة والرجوع عنها
مسألة: "وتجوز الشهادة على الشهادة فيما يجوز فيه كتاب القاضي إذا تعذرت شهادة الأصل بموت أو غيبة أو مرض" ويجوز كتاب القاضي في المال وما يقصد به المال كالبيع والإجارة والرهن والوصية له, وإنما كان كذلك لأن كتاب القاضي يتضمن الشهادة على القاضي فمهما جاز فيه جاز فيها والشهادة على الشهادة في الجملة جائزة بإجماع أهل العلم. قال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال؛ ولأن الحاجة داعية إليها فلو لم تقبل لبطلت الشهادة بالوقوف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم بموت الشهود وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل.
مسألة: وإنما تقبل "إذا تعذرت شهادة الأصل" لموت أو مرض أوغيبة إلى مسافة قصر, وعنه لا تقبل إلا أن يموت شاهدا الأصل؛ لأنهما إذا كانا حيين رجي حضورهما فهما كالحاضرين, ودليل جوازها مع التعذر بالغيبة أنه قد تعذرت شهادة الأصل فجاز الحكم بشهادة الفرع كما لو ماتا, ويخالف الحاضرين فإنه لا عذر لهما, إذا ثبت هذا فذكر القاضي أن الغيبة أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكنه أن يحضر للشهادة, ثم يرجع من يومه لأن على الشاهد في تكليفه لمثل ذلك ضررا, وقد قال الله سبحانه: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} 1, وإذا لم يكلف الحضور تعذر سماع شهادته فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع, وقال أبو الخطاب: تعتبر مسافة القصر لأن ما دون ذلك في حكم الحاضر في الرخص وفي كون الأقرب من عصبات المرأة إذا كان فيها لم يزوج الأبعد ولا الحاكم, وإذا كان في مسافة القصر زوج غيره فكذا ها هنا.
مسألة: ولا يجوز لشاهد الفرع "أن" يشهد حتى "يسترعيه شاهد الأصل فيقول: اشهد على شهادتي أني أشهد أن فلانا" بن فلان قد عرفته بعينه واسمه ونسبه "أقر عندي أو أشهدني" على نفسه طوعا "بكذا", نص عليه أحمد رحمه الله تعالى, وإنما اشترط الاسترعاء لأنه إذا سمع شاهدا يقول أشهد لفلان على فلان بكذا احتمل أنه أراد أن له ذلك عليه من وعد فلم يجز أن يشهد مع الاحتمال بخلاف ما إذا استرعاه فإنه لا يسترعيه إلا على واجب.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 282.

على شهادتي أني فلانا أقر عندي أو أشهدني بكذا ويعتبر معرفة العدالة في شهود الأصل والفرع, ومتى لم يحكم بشهادة الفرع حتى حضر شهود الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهم, وإن حدث من بعضهم ما يمنع قبول الشهادة لم يحكم بها.
فصل
ومتى غير العدل شهادته فزاد فيها أو نقص قبل الحكم قبلت, وإن حدث منه ما يمنع قبولها بعد أدائها ردت وإن حدث ذلك بعد الحكم بها لم يؤثر, وإن رجع
ـــــــ
مسألة: "وتعتبر معرفة العدالة في شهود الأصل والفرع"؛ لأنهم شهود, ومن شرط الشهادة العدالة؛ لقوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}, وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}.
مسألة: "ومتى لم يحكم بشهادة الفرع حتى حضر شهود الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهم"؛ لأنه قدر على الأصل [قبل العمل بالبدل] فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء قبل الشروع في الصلاة.
مسألة: "وإن حدث من بعضهم ما يمنع قبول الشهادة لم يحكم بها" يعني إن فسق شهود الأصل أو رجعوا عن الشهادة قبل الحكم لم يحكم بها؛ لأن الحكم ينبني على شهادتهما فأشبه ما لو فسق شهود الفرع أو رجعوا.
"فصل: ومتى غير العدل شهادته قبل الحكم بها فزاد فيها أو نقص قبلت", وذلك أن يشهد بمائة ثم يقول مائة وخمسون أو يقول بل لقي تسعون فإنه يقبل منه رجوعه ويحكم بما شهد به آخرا, وقيل تبطل شهادته وقيل يؤخذ بأول قبوله؛ لأنه أداها وهو غير متهم فلم يقبل رجوعه عنها كما لو اتصل بها الحاكم, ولنا أن شهادته الأخيرة شهادة من عدل غير متهم لم يرجع عنها فوجب أن يحكم بها كما لو لم يتقدمها ما يخالفها, وأما الأولى فلا يحكم بها لأنه رجع عنها فزالت برجوعه وهي شرط الحكم فيعتبر استمرارها إلى انقضائه.
مسألة: "وإن حدث منه ما يمنع قبولها بعد أدائها ردت وإن حدث ذلك بعد الحكم بها لم يؤثر" يعني: إذا فسق الشاهد قبل الحكم بشهادته لم يجز الحكم بها لأن من شرط الحكم بالشهادة العدالة وقد نص تعالى بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}, وليس هذا بعدل فترد شهادته وإن كان فسقه بعد حكم الحاكم بشهادته لم ينقض الحكم لأن الحكم تم بشرطه لأن شرطه شهادة عدل وقد وجدت.
مسألة: "وإن رجع الشهود بعد الحكم بشهادتهم لم ينقض الحكم" لأنه تم بشرطه فلم

الشهود بعد الحكم بشهادتهم لم ينقض الحكم ولم يمنع الاستيفاء إلا في الحدود والقصاص وعليهم غرامة ما فات بشهادتهم بمثله إن كان مثليا وقيمته إن لم يكن مثليا ويكون ذلك بينهم على عددهم فإن رجع أحدهم فعليه حصته, وإن كان المشهود به قتلا أو جرحا فقالوا: تعمدنا فعليهم القصاص, وإن قالوا: أخطأنا غرموا الدية وأرش الجرح.
ـــــــ
يجز نقضه باحتمال الخطأ كما لو بان للحاكم أنه أخطأ في اجتهاده باجتهاد ثان وبيان احتمال الخطأ أنه يحتمل أن الشهود كذبوا في الرجوع لا في الشهادة, وإذا ثبت هذا فللمشهود له استيفاء الحق المالي سواء كان قائما أو تالفا لأن الحق ثبت له على المشهود عليه فكان له استيفاؤه كما لو لم يرجعوا عن الشهادة "إلا في الحدود والقصاص" إذا رجع الشهود قبل الاستيفاء [لم يجز الاستسفاء لأنه يدرأ بالشبهات و هذا من أعظمها, و إن رجعوا بعد الآستيفاء] وقالوا أخطأنا فعليهم دية ما تلف [بشهادتهم] لأنهم تسببوا إلى الجناية خطأ ولا تحملها العاقلة لأنها وجبت باعترافهما وهي لا تحمل ما وجب بالاعتراف.
مسألة: "وعليهم غرامة ما فات بشهادتهم بمثله إن كان مثليا أو قيمته إن لم يكن مثليا" للمشهود عليه لأنهم حالوا بينه وبين ماله بعدوان فلزمهم الضمان كما لو غصباه.
مسألة: "ويكون" الضمان "بينهم على عددهم" لأن الإتلاف حصل من جهتهم فأشبه ما لو غصبوه فإذا كانوا ثلاثة غرم كل واحد منهم ثلث الواجب "فإن رجع" منهم واحد غرم الثلث.
مسألة: "وإن كان المشهود به قتلا أو جرحا فقالوا تعمدنا فعليهم القصاص" لأنهم تسببوا إلى القتل العمد العدوان فلزمهم القصاص كما لو باشروا "وإن قالوا: أخطأنا غرموا الدية وأرش الجرح" ؛ لأنهم تسببوا إلى القتل الخطأ فلزمهم ضمانه بأرشه كما لو باشروا.

باب اليمين في الدعاوى
اليمين المشروعة في الحقوق هي اليمين بالله تعالى سواء كان الحالف مسلما
ـــــــ
باب اليمين في الدعاوى"اليمين المشروعة في الحقوق هي اليمين بالله تعالى سواء كان الحالف مسلما أو كافرا" لقوله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} 1, وقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}, وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}, وقال النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 - سورة المائدة: الآية 106.

أو كافرا ويجوز القضاء في الأموال وأسبابها بشاهد ويمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين, والأيمان كلها على البت إلا اليمين على نفي فعل غيره فإنها على نفي
ـــــــ
لركانة بن عبد يزيد في الطلاق: "آلله ما أردت إلا واحدة"؟ قال: والله ما أردت إلا واحدة, وسواء كان المدعى عليه مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي المدعي على الكندي: "ليس لك إلا يمينه". فقال الحضرمي: إنه رجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه. قال: "ليس لك إلا ذلك منه" 1. إلا أن الكافر إن كان يهوديا قيل له: قل والله الذي أنزل التوراة على موسى وفلق البحر ونجاه من فرعون وملئه, وإن كان نصرانيا يقول: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وجعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص والمجوسي يقول: والله الذي خلقني ورزقني.
مسألة: "وتشرع اليمين في حقوق الآدمي لقول النبي صلى الله عليه وسلم": "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" 2. متفق عليه, ولحديث الحضرمي والكندي, وقال أبو بكر: تشرع في كل حق لآدمي إلا في النكاح والطلاق؛ لأن هذا مما لا يحل بدله فلم يستحلف فيه كحقوق الله سبحانه ولأن الأبضاع مما يحتاط لها فلا تستباح بالنكول؛ لأنه ليس بحجة قوية لأنه سكوت مجرد يحتمل أن يكون للخوف من اليمين ويحتمل أن يكون للجهل بحقيقة الحال ويحتمل أن يكون لعلمه بصدق المدعي ومع هذه الاحتمالات لا ينبغي أن يقضي به فيما يحتاط له. قال أبو الخطاب: تشرع اليمين في كل حق إلا تسعة أشياء: النكاح والرجعة والطلاق والرق والولاء والإستيلاد والنسب والقذف والقصاص؛ لأن البدل لا يدخلها فلم يستحلف فيها كحقوق الله تعالى.
مسألة: "ويجوز القضاء في الأموال وأسبابها بشاهد ويمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين", رواه سعيد في سننه من حديث أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد, وقال الترمذي: حديث حسن غريب, وقال النسائي: إسناد حديث ابن عباس في اليمين مع الشاهد إسناد جيد3. وقد سبق ذلك في أول باب الشهادات.
مسألة: "والأيمان كلها على البت" لأن النبي صلى الله عليه وسلم استحلف رجلا فقال: "قل والله والذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء". رواه أبو داود عن ابن عباس4؛ ولأن له طريقا إلى العلم فيلزمه القطع بنفيه.
مسألة: "إلا اليمين على نفي فعل غيره فإنها على نفي العلم" نص عليه وذكر حديث الشيباني عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3- سبق تخريجه.
4 - رواه أبو داود في الأيمان: حديث رقم 3275.

العلم وإذا كان للميت أو المفلس حق بشاهد فحلف المفلس أو ورثة الميت ثبت وإن لم يحلف فبذل الغرماء اليمين لم يستحلفوا وإذا كانت الدعوى لجماعة فعليه لكل واحد يمين, وإن قال: أنا أحلف يمينا واحدة لجميعهم لم يقبل منه إلا أن يرضوا, وإن ادعى واحد حقوقا على واحد فعليه في كل حق يمين
ـــــــ
على ما لا يعلمون", وفي حديث الحضرمي أحلفه, والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبها, رواه أبو داود1؛ ولأنه لا يمكن الإحاطة بنفي فعل غيره فلم يكلف ذلك وذكر ابن أبي موسى عنه أنه قال: على كل حال اليمين [على نفي العلم] فيما يدعي عليه في نفسه أو فيما يدعي عليه في ميته؛ وعنه في من باع سلعة فظهر المشتري على عيب فأنكره البائع: هل اليمين على علمه أو على البتات؟ على روايتين: إحداهما على البت لأنه يستحق الرد عليه بالعيب القديم سواء علمه أو لم يعلمه فإذا حلف على نفي علمه لم يلزم منه انتفاء استحقاق الرد بالعيب. والثانية: تجزيه اليمين على نفي العلم لأنه من فعل غيره أو أمر في غيره فأشبه ما لو ادعى عليه فعلا من موروثه, وروى الإمام أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبدا فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالما بعيبه فأنكره ابن عمر فتحاكما إلى عثمان فقال له عثمان: احلف أنك ما علمت به عيبا فأبى أن يحلف فرد عليه العبد.
مسألة: "وإذا كان للميت أو المفلس حق بشاهد فحلف المفلس أو ورثة الميت" معه "ثبت"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين, أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب2.
مسألة: "وإن لم يحلفوا فبذل الغرماء اليمين لم يستحلفوا", وللشافعي في القديم يحلفون معه لأن حقوقهم تعلقت بالمال فكان لهم أن يحلفوا كالورثة يحلفون على مال موروثهم,ولنا أنهم يثبتون ملكا لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز كما لم يجز للزوجة أن تحلف لإثبات ملك زوجها لتعلق نفقتها به وفارق الورثة فإنهم يثبتون ملكا لأنفسهم.
مسألة: "وإذا كانت الدعوى لجماعة فعليه لكل واحد يمين" لأن لكل واحد منهم حقا فيلزمه لكل واحد يمين كما لو انفردوا "وإن قال: أنا أحلف يمينا واحدة لجميعهم لم يقبل منه إلا أن يرضوا بها" لأن الحق لهم لا يخرج عنهم.
مسألة: "وإن ادعى واحد حقوقا على واحد فعليه في كل حق يمين" كما لو كانت الحقوق على جماعة فإن على كل واحد يمينا كذا ها هنا
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.

وتشرع اليمين في كل حق لآدمي ولا تشرع في حقوق الله من الحدود والعبادات.
ـــــــ
مسألة: "وتشرع اليمين في كل حق لآدمي" بدليل ما سبق في أول الباب, "ولا تشرع في حقوق الله" سبحانه "من الحدود والعبادات" فما كان لله خالصا لا تسمع فيه الدعوى كحد الزنا و الخمر؛ لأن الدعوى في الشيء لمستحق له والله سبحانه هو المستحق لذلك فلا تسمع فيه دعوى ابن آدم, وأما العبادات كدعوى ساعي الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم أو كمال النصاب فالقول قول رب المال من غير يمين؛ لأنه حق لله سبحانه أشبه الحد.

باب الإقرار
وإذا أقر المكلف الحر الرشيد الصحيح المختار بحق أخذ بت, من أقر بدراهم ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه,ثم قال: زيوفا أو صغارا أو مؤجلة لزمته جيادا وافية
ـــــــ
باب الإقرارمسألة: "الأصل في الإقرار قول الله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} 1, وقال سبحانه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} 2, والاعتراف الإقرار, وقال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}, وروي أن ماعزا أقر بالزنا فرجمه النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الغامدية وقال: "اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" 3, وأجمعوا على صحة الإقرار ولأن الإقرار إخبار على وجه تنتفي عنه التهمة والريبة فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذبا يضرها, ولهذا كان آكد من الشهادة فإن المدعى عليه إذا اعترف لم تسمع عليه الشهادة وإنما تسمع إذا أنكر.
مسألة: "وإذا أقر المكلف الرشيد الحر الصحيح المختار بحق أخذ به", فأما الصبي والمجنون فلا يصح إقرارهما لا نعلم فيه خلافا؛ ولأنه لا قول لهما إلا أن يكون الصبي مأذونا له في البيع والشراء فيصح إقراره في قدر ما أذن له فيه كالبيع؛ لأنه صار فيه كالبالغ لأنه عاقل مختار أشبه البالغ ولا يصح فيما زاد لأنه فيه كمن لم يؤذن له أصلا وكذلك العبد المأذون له في التجارة لما ذكرنا.
مسألة: ولا يصح إلا من "رشيد" فأما المحجور عليه لسفه إذا أقر بمال لم يلزمه في حال حجره؛ لأنه محجور عليه بحظ نفسه فلا يصح إقراره بالمال كالصبي ولأنا لو قبلنا إقراره بالمال لبطل معنى الحجر ولأنه أقر بما هو ممنوع من التصرف فيه أشبه إقرار الراهن
ـــــــ
1 - سورة آل عمران: الآية 81.
2 - سورة التوبة: الآية 102.
3 - سبق تخريجه.

حالة وإن وصفها بذلك متصلا بإقراره لزمته كذلك وإن استثنى مما أقر به أقل من نصفه متصلا به صح استثناؤه وإن فصل بينها بسكوت يمكنه الكلام أو بكلام
ـــــــ
على الرهن فإن فك عنه الحجر لزمه ما أقر به لأنه مكلف أقر بما لا يلزمه في الحال فلزمه بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بدين والراهن يقر على الرهن بجناية ونحوها.
مسألة: "ويعتبر في صحة الإقرار الحرية" فإن أقر العبد غير المأذون له بمال لم يقبل في الحال؛ لأنه تصرف فيما هو حق لسيده ويتبع به بعد العتق عملا بإقراره على نفسه وعنه يتعلق برقبته كجنايته.
مسألة: "ويعتبر في صحة الإقرار الصحة" فلو أقر المريض مرض الموت المخوف بمال لغير وارث لم يصح في إحدى الروايتين بزيادة على الثلث؛ لأن ما زاد على الثلث تعلق به حق الورثة فلم يصح إقراره به, وفي الأخرى يصح لأنه غير متهم فيه, وإن أقر لوارث بدين لم يصح إقراره إلا ببينة إلا أن يجيز الورثة لأنه إيصال المال إلى الوارث فلم يصح كالوصية إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فما دون فيصح لأن سببه ثابت وهو النكاح.
مسألة: "ويعتبر أن يكون مختارا" للإقرار فأما المكره فلا يصح إقراره كما لا يصح طلاقه لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه", رواه سعيد.
مسألة: "ومن أقر بدراهم ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه ثم قال زيوفا أو صغارا أو مؤجلة لزمته جيادا وافية حالة"؛ لأن إطلاقها يقتضي ذلك بدليل ما لو باعه بألف درهم وأطلق فإنها تلزمه كذلك فإذا سكت استقرت في ذمته كذلك فلا يتمكن من تغييرها.
مسألة: "وإن وصفها بذلك متصلا بإقراره لزمته كذلك" لأنه أقر بها كذلك فلزمه حكم إقراره لا غير, ويحتمل أنه إذا أقر بها مؤجلة أن تلزمه حالة لأن الأجل يمنع من استيفاء الحق في الحال وإن فسر الزيوف بما لا فضة فيه لم يقبل لأنه أثبت في ذمته شيئا وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة وإن فسره بمغشوشة قبل لأنه يحتمل لفظه ذلك.
مسألة: "وإن استثنى مما أقر به أقل من نصفه متصلا صح استثناؤه" لأنه استثناء ما دون النصف وهو لغة العرب. قال الله سبحانه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} 1.
مسألة: "وإن فصل بينهما بسكوت يمكنه الكلام فيه أو بكلام أجنبي أو استثنى أكثر
ـــــــ
1 - سورة العنكبوت: الآية 14.

أجنبي أو استثنى أكثر من نصفه أو من غير جنسه لزمه كله, ومن قال: له علي دراهم ثم قال: وديعة لم يقبل قوله, ومن أقر بدراهم فأقل ما يلزمه ثلاثة إلا أن يصدقه المقر له في أقل منها ومن أقر بشيء مجمل قبل تفسيره بما يحتمله.
فصل
ولا يقبل إقرار غير المكلف بشيء إلا المأذون له من الصبيان في التصرف في قدر ما أذن له وإن أقر السفيه بحد أو قصاص أو طلاق أخذ بت, وإن أقر بمال لم يقبل إقراره وكذلك الحكم في إقرار العبد إلا أن يتعلق بذمته يتبع به بعد العتق إلا أن يكون مأذونا له في التجارة فيصح إقراره في قدر ما أذن له فيه
ـــــــ
من نصفه أو من غير جنسه لزمه كله" أما إذا فصل بينهما بسكوت أو كلام فإنه يلزمه الكل لأن الاستثناء بعد ذلك جحود بعد إقراره فلا يسمع, وأما إذا استثنى أكثر من النصف فلا يقبل لأنه ليس من لسان العرب. قال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير ولو قال مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلما بالعربية فلا يقبل, وإن استثنى من غير جنسه كقوله: له عندي مائة إلا ثوبا لم يقبل أيضا لأن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه من قولهم ثنيت عنان دابتي أي رددتها عن وجهها الذي كانت ذاهبة إليه, ولا يوجد هذا في غير الجنس ولأن الاستثناء من غير الجنس لا يكون إلا في الجحد بمعنى لكن والإقرار إثبات.
مسألة: "ومن قال: له علي دراهم ثم قال: وديعة لم يقبل قوله"؛ لأن ذلك على الإيجاب ويقتضي ذلك كونها في ذمته, ولهذا لو قال: ما على فلان علي كان ضامنا.
مسألة: "وإن قال: له عندي ثم قال: وديعة" قبل؛ لأنه فسر لفظه بما يقتضيه فقبل, كما لو قال: له عندي دراهم ثم فسرها بدين ولا نعلم في ذلك خلافا.
مسألة: "ومن أقر بدراهم فأقل ما يلزمه ثلاثة" لأنها أقل الجمع "إلا أن يصدقه المقر له في أقل منها" لأنه يقر على نفسه.
مسألة: "وإن أقر بشيء مجمل" كقوله: له علي شيء "قبل تفسيره بما يحتمله" فلو فسره بدرهم أو دونه صح لأنه يحتمله.
"فصل: ولا يقبل إقرار غير المكلف بشيء إلا المأذون له من الصبيان في التصرف في قدر ما أذن له", فيه وقد سبق ذلك في أول الباب.
مسألة: "وإن أقر السفيه بحد أو قصاص أو طلاق أخذ به" لأنه غير متهم في ذلك.

ويصح إقرار المريض بالدين لأجنبي ولا يصح إقراره في مرض الموت لوارث إلا بتصديق سائر الورثة, ولو أقر لوارث فصار غير وارث لم يصح وإن أقر له وهو غير وارث ثم صار وارثا صح إقراره, ويصح إقراره بوارث وإذا كان على الميت دين لم يلزم الورثة وفاؤه إلا إن خلف تركة فيتعلق دينه بها فإن أحب الورثة وفاء الدين وأخذ التركة فلهم ذلك, وإن أقر جميع الورثة بدين على مورثهم ثبت بإقرارهم وإن أقر به بعضهم ثبت بقدر حقه فلو خلف ابنين ومائتي درهم فأقر أحدهما بمائة دينار على أبيه لزمه خمسون درهما فإن كان عدلا وشهد بها فللغريم
ـــــــ
ولأنه غير محجور عليه في ذلك "وإن أقر بمال لم يقبل إقراره وكذلك العبد" وقد سبق ذلك أيضا "و" كذلك "إقرار المريض بالدين لأجنبي" ولو أقر لوارث ثم صار غير وارث لم يصح؛ لأنه متهم حال الإقرار وإن أقر لغير وارث فصار عند الموت وارثا صح؛ لأنه غير متهم نص عليه أحمد رحمه الله, وذكر أبو الخطاب في المسألتين رواية أخرى خلاف ما قلناه يعني يصح في الأولى, ويبطل في الثانية: لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث فاعتبر بحال الموت كالوصية.
مسألة: "ويصح إقراره بوارث"؛ لأنه عند الإقرار غير وارث, وعنه لا يصح لأنه عند الموت وارث.
مسألة: "وإذا كان على الميت دين لم يلزم الورثة وفاؤه" كما لا يلزمهم وفاؤه في حياته "فإن خلف تركة تعلق دينه بها" بمنزلة المرتهن يتعلق دينه بالرهن فيقدم حقه على حق الراهن, كذلك التركة يتعلق دين الميت بها فتقدم على الميراث, "فإن أحب الورثة وفاء الدين وأخذ التركة" كان "لهم ذلك" كالراهن مع المرتهن إذا قضى الدين خلص له الرهن وإن لم يقضه بيع واستوفى المرتهن حقه كذا ها هنا.
مسألة: "وإن أقر جميع الورثة بدين على موروثهم ثبت بإقرارهم" لأنهم أقروا على أنفسهم وإقرار العاقل على نفسه لازم بغير خلاف نعلمه, ويلزمهم وفاؤه من التركة لأنه تعلق بها, "وإن أقر به بعضهم ثبت بقدر حقه" كما لو أقر بوصية "فلو خلف ابنين ومائتي درهم فأقر أحدهما بمائة دينار على أبيه لزمه خمسون درهما"؛ لأنه مقر على أبيه بدين ولا يلزمه أكثر من نصف دين أبيه لأنه مقر على نفسه وأخيه فقبل إقراره على نفسه دون أخيه, إلا أن يكون "عدلا فيحلف الغريم مع شهادته ويأخذ" مائة, وتكون المائة الباقية بين الابنين وإنما لزم الآخر الخمسون لأنه يرث نصف التركة فيلزمه نصف الدين؛ لأنه بقدر ميراثه ولو لزمه جميع الدين لم تقبل شهادته على أخيه لكونه يدفع بها عن نفسه ضررا؛ ولأنه يرث نصف التركة فيلزمه نصف الدين كما لو ثبت ببينة.

أن يحلف مع شهادته ويأخذ باقيها من أخيه, وإن خلف ابنا ومائة فادعى رجل مائة على أبيه فصدقه ثم ادعى آخر مثل ذلك فصدقه الابن فإن كانا في مجلس واحد فالمائة بينهما وإن كانا في مجلسين فهو للأول ولا شيء للثاني, وإن كان الأول ادعاها فصدقه الابن ثم ادعاها آخر فصدقه الابن فهي للأول ولا شيء للثاني ويغرمها لأنه فوتها عليه بإقراره
ـــــــ
مسألة: "وإن خلف ابنا ومائة فادعى رجل مائة على أبيه فصدقه ثم ادعى آخر مثل ذلك فصدقه الابن فإن كانا في مجلس واحد فالمائة بينهما"؛ لأن حكم المجلس الواحد حكم الحال الواحد بدليل القبض فيما يعتبر فيه القبض, وإن كان الفسخ في البيع ولحوق الزيادة في العقد فكذلك في الإقرار, "وإن كانا في مجلسين فهي للأول"؛ لأنه استحق تسليمها كلها بالإقرار له فلا يقبل إقرار الورثة بما يسقط حقه؛ لأنه إقرار بحق على غيره لأنه يقر بتعلق حق الثاني بالتركة التي تعلق بها حق الأول واستحقاقه لمشاركته فيها ومزاحمته عليها وإقراره على غيره لا يقبل.
مسألة: "وإن كان الأول ادعاها" وديعة "فصدقه الابن ثم ادعاها آخر فصدقه الابن فهي للأول ولا شيء للثاني ويغرمها" له "لأنه فوتها عليه بإقراره" للأول فقد حال بينه وبين ماله الذي أقر له به فلزمه غرمه كما لو أقر له به ثم أتلفه, وإن أقر بها لهما معا فهي بينهما وإن أقر بها لأحدهما وحده فهي له ويحلف للآخر أنه لا يعلم أنها له وإن نكل قضى عليه بالغرم؛ لأن النكول كالإقرار في الحكم ولو أقر لزمه الغرم فكذلك إذا نكل عن اليمين والله تعالى أعلم بالصواب.
آخر الكتاب والحمد لله رب العالمين

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6