كتاب : العدة شرح العمدة
المؤلف : عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد، أبو محمد بهاء الدين المقدسي

صار ابنا لها وللرجل الذي ثاب اللبن بوطئه فيحرم عليه كل من يحرم على ابنها من النسب وإن أرضعت طفلة صارت بنتا لهما تحرم على كل من تحرم عليه ابنتهما من النسب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب", والمحرم من الرضاع ما دخل الحلق من اللبن سواء دخل بارتضاع من الثدي أو وجور أو سعوط محضا كان أو مشوبا إذا لم يستهلك ولا يحرم إلا بشروط ثلاثة:
أحدها: أن يكون لبن امرأة بكرا كانت أو ثيبا في حياتها أو بعد موتها فأما لبن
ـــــــ
مسألة: "وإن أرضعت طفلة صارت بنتا لهما تحرم على كل من تحرم عليه ابنتهما من النسب" لذلك.
مسألة: "والرضاع المحرم ما دخل الحلق من اللبن سواء دخل بارتضاع من الثدي أو وجور أو سعوط محضا كان أو مشوبا إذا لم يستهلك" والوجور أن يصب اللبن في حلقه فيحرم لأنه ينشر العظم وينبت اللحم فأشبه الارتضاع, وأما السعوط فهو أن يصب في أنفه فيحرم لأنه سبيل لفطر الصائم فكان سبيلا للتحريم بالرضاع كالفم, وعنه لا يثبت التحريم بهما لأنهما ليسا برضاع وأما المشوب فهو كالمحض في نشر الحرمة إذا كانت صفات اللبن باقية, فإن صب في ماء كثير لم يتغير به لم يثبت التحريم لأن هذا لا يسمى لبنا مشوبا ولا ينشر عظما ولا ينبت لحما. وقال أبو بكر: قياس قول الإمام أحمد أن المشوب لا ينشر الحرمة لأنه وجور, وقال أبو حامد: إن غلب اللبن حرم وإن غلب خلطه لم يحرم؛ لأن الحكم للأغلب ويزول اسم المغلوب والأول أصح؛ لأن ما تعلق به الحكم غالبا تعلق به مغلوبا كالنجاسة والخمر.
مسألة: "ولا يحرم إلا بشروط ثلاثة: أحدها أن يكون لبن امرأة بكرا كانت أو ثيبا في حياتها أو بعد موتها", فلو ثاب للرجل لبن فأرضع به طفلا لم يتعلق به تحريم لأنه لم يخلق لغذاء المولود فلم يتعلق به تحريم كلبن البهيمة؛ ولأنه لا تثبت به الأمومة بخلاف لبن المرأة فإنه خلق لغذاء الولد وتثبت به الأمومة سواء كانت بكرا أو ثيبا لأنه رضاع من امرأة فنشر الحرمة كما لو كان لها ولد؛ ولأن لبن النساء خلق لتغذية الأطفال فيدخل في عموم قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}, وعنه لا ينشر الحرمة لأنه نادر أشبه لبن الرجل لأنه لم تجر العادة به لتغذية الأطفال أشبه لبن الرجال, وإن ارتضع من امرأة ميتة نشر الحرمة كما لو ارتضع من حية.
مسألة: "فأما لبن البهيمة فلا" يثبت الحرمة فلو ارتضع طفلان من بهيمة لم يصيرا أخوين, وقال بعضهم: يصيران أخوين وليس بصحيح لأن هذا اللبن لا يتعلق به تحريم الأمومة فلا يتعلق به تحريم الأخوة؛ لأنه فرع على الأمومة ولأن البهيمة دون الآدمية في الحرمة ولبنها دون لبنها في غذاء الآدمي فلم تتعلق الحرمة به.
مسألة: فإن ثاب لبن لخنثى مشكل لم يثبت به التحريم لأنه لم يثبت كونه امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك.

البهيمة أو الرجل أو الخنثى المشكل فلا يحرم شيئا.
الثاني: أن يكون في الحولين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام".
ـــــــ
الشرط "الثاني: أن يكون في الحولين" لقوله سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 1, فجعل تمام الرضاعة حولين فيدل على أنه لا حكم لما بعدهما وعن عائشة, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنظرن إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة". متفق عليه2. وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام". أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح3.
الشرط "الثالث: أن يرتضع خمس رضعات" فصاعدا هذا الصحيح من المذهب وروي عن جماعة من الصحابة, وعنه أن قليل الرضاع وكثيره يحرم لقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 4, وقوله عليه السلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" 5. وأنه فعل يتعلق به تحريم مؤبد فلم يعتبر فيه العدد كتحريم أمهات النساء وعنه لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات لقوله عليه السلام: "لا تحرم المصة ولا المصتان" 6. روته عائشة, وروى عن أم الفضل بنت الحارث قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان" 7. ووجه الرواية الأولى ما روى عن عائشة عن سهلة بنت سهيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "ارضعي سالما خمس رضعات فيحرم بلبنها" 8. وروي عن "عائشة" أنها قالت: "أنزل في القرآن عشر رضعات" معلومات "فنسخ من ذلك خمس وصار إلى خمس رضعات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك" , رواه مسلم9. والآية تقول بها والسنة فسرت الرضاعة المحرمة وصريح ما رويناه يخص مفهوم ما رووه فيجمع بين الأخبار بحملها على الصريح الصحيح الذي رويناه.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 233.
2 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5102. ومسلم في الرضاع: 32.
3 - رواه الترمذي في الرضاع: في الرضاع: حديث رقم 1152. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
4 - سورة النساء: الآية 23.
5 - سبق تخريجه
6 - رواه مسلم في الرضاع: حديث رقم 17, 20, 23.
7 - المصدر عاليه: حديث رقم 18, 22.
8 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2061. ومالك في الرضاع: حديث رقم 12. وأحمد في المسند 6/201. و255, 269, 271.
9 - رواه مسلم في الرضاع: حديث رقم 25.

الثالث: أن يرتضع خمس رضعات لقول عائشة: أنزل في القرآن عشر رضعات يحرمن فنسخ من ذلك خمس فصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك, ولبن الفحل محرم فإذا كان لرجل امرأتان فأرضعت إحداهما بلبنه طفلا والأخرى طفلة صارا أخوين لأن اللقاح واحد وإن أرضعت إحداهما بلبنه طفلة ثلاث رضعات ثم أرضعتها الأخرى رضعتين صارت بنتا له دونهما, فلو كانت الطفلة زوجة له انفسخ نكاحها ولزمه نصف مهرها ويرجع به عليهما أخماسا ولم ينفسخ نكاحهما, ولو أرضعت إحدى امرأتيه الطفلة خمس رضعات: ثلاثا من لبنه واثنتين من لبن غيره صارت أما لها وحرمتا عليه وحرمت الطفلة على الرجل الآخر على التأبيد, وإن لم تكن الطفلة امرأة له لم ينفسخ نكاح المرضعة ولو تزوجت امرأة طفلا فأرضعته خمس رضعات حرمت عليه وانفسخ نكاحها وحرمت على صاحب اللبن تحريما مؤبدا لأنها صارت من حلائل أبنائه.
ـــــــ
مسألة: "ولبن الفحل محرم" فإذا وطئ امرأة بنكاح فحملت وبان لها اللبن فأرضعت به طفلا أو طفلة صار المرتضع ابنا لها ولزوجها؛ لأن اللبن هو من الحمل الذي هو منه, "وإذا كان له امرأتان فأرضعت إحداهما بلبنه طفلا والأخرى طفلة صارا أخوين؛ لأن اللقاح واحد, وإن أرضعت إحداهما بلبنه طفلة ثلاث رضعات ثم أرضعتها الأخرى رضعتين صارت بنتا له دونهما"؛ لأنها ارتضعت من لبنه خمس رضعات فكمل رضاعها من لبنه فصار أبا لها كما لو أرضعتها واحدة منهن في أحد الوجهين, وفي الآخر لا يصير أبا لها لأنه رضاع لم تثبت به الأمومة فلم تثبت به الأبوة كلبن البهيمة.
مسألة: "ولو كانت الطفلة زوجة له انفسخ نكاحها"؛ لأنها صارت ابنة له لكونها ارتضعت من لبنه خمس رضعات, "وعليه نصف مهرها يرجع به عليها" على قدر رضاعها يقسم بينهما "أخماسا" الأولى ثلاثة أخماس وعلى الثانية خمسان, "ولم ينفسخ نكاحهما" لأن الأمومة لم تثبت لهما وعلى الوجه الآخر لا ينفسخ نكاح الصغيرة لما سبق في التي قبلها.
مسألة: "ولو أرضعت إحدى امرأتيه الطفلة خمس رضعات ثلاثا من لبنه واثنتين من لبن غيره وصارت أما لها" لأنها أرضعتها خمس رضعات "وحرمتا عليه على التأبيد" الكبيرة لكونها أم زوجته والصغيرة لأنها بنت زوجته فهي ربيبته, وحرمت الطفلة على الرجل الآخر لأنها ابنة زوجته, "وإن لم تكن الطفلة امرأة له لم ينفسخ نكاح المرضعة" لأنها إنما انفسخ نكاحها في المسألة قبلها لأنها صارت أم زوجته وهذا المعنى مفقود فيما إذا لم تكن الطفلة امرأة له.
مسألة: "ولو تزوجت المرأة طفلا فأرضعته خمس رضعات حرمت عليه" لأنه صار ابنا

فصل: ولو تزوج رجل كبيرة ولم يدخل بها وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمت الكبيرة وثبت نكاح الصغيرة, وإن كانتا صغيرتين فأرضعتهما الكبرى حرمت الكبرى وانفسخ نكاح الصغيرتين, وله نكاح من شاء من الصغيرتين وإن كن ثلاثا فأرضعتهن متفرقات حرمت الكبرى وانفسخ نكاح المرضعتين أولا وثبت نكاح
ـــــــ
لها بالرضاع "وانفسخ نكاحها" لذلك, "وحرمت على صاحب اللبن تحريما مؤبدا لأنها صارت من حلائل أبنائه".
فصل: "ولو تزوج رجل كبيرة ولم يدخل بها وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمت الكبيرة" على التأبيد لأنها صارت من أمهات النساء "وثبت نكاح الصغيرة" لأنها ربيبة لم يدخل بأمها فلا تحرم لقوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}, وعنه يفسخ نكاحها وهو مذهب الشافعي لأنهما صارتا أما وبنتا واجتمعتا في نكاحه والجمع بينهما محرم فانفسخ نكاحها كالأختين وكما لو عقد عليهما بعد الرضاع عقدا واحدا, ولنا أنه أمكن إزالة الجمع بانفساخ نكاح الكبيرة وهي أولى به لأن نكاحهما محرم على التأبيد فلم يبطل نكاحهما معا كما لو ابتدأ العقد على أخته وأجنبية؛ ولأن الجمع طرأ على نكاح الأم والبنت فاختصت الأم بفسخ نكاحها كما لو أسلم وتحته امرأة وبنتها وفارق الأختين؛ لأنه ليست إحداهما بالفسخ أولى من الأخرى وفارق ما إذا ابتدأ العقد عليهما لأن الدوام أقوى من الابتداء.
مسألة: "وإن كانتا صغيرتين فأرضعتهما الكبرى حرمت الكبرى" لأنها صارت من أمهات النساء, "وانفسخ نكاح الصغيرتين" لأنهما صارتا أختين وقد اجتمعت في نكاحه فانفسخ نكاحهما كما لو جمع بين أختين في نكاح أجنبيتين, "وله نكاح من شاء من الصغيرتين" كما لو كانتا أجنبيتين إلا على الرواية الأخرى؛ فإنه ينفسخ نكاح الأولى ويثبت نكاح الثانية هذا إن ارتضعن منفردات لأن الكبيرة لما أرضعت الأولى انفسخ نكاحها بالإجماع, ثم أرضعت الأخرى فلم تجتمع معها في النكاح فلم ينفسخ نكاحها فإن ارتضعتا معا انفسخ نكاح الجميع لأنهم اجتمعوا في النكاح.
مسألة: ولو كان الأصاغر "ثلاثا فأرضعتهن متفرقات حرمت الكبرى" لما سبق "وانفسخ نكاح المرضعتين أولا"؛ لأنهما صارتا أختين "وثبت نكاح إحداهن" رضاعا لأن رضاعها بعد انفساخ نكاح الكبيرة والصغيرتين اللتين قبلها فلم تصادف أخواتها جميعا في النكاح, وعلى الرواية الأخرى ينفسخ نكاح الجميع لأن الكبيرة لما أرضعت الأولى انفسخ نكاحهما بالاجتماع معا ثم لما أرضعت الاثنتين بعد ذلك صارتا أختين في نكاحه فانفسخ نكاحهما أيضا.

الثالثة: وإن أرضعت إحداهن منفردة واثنتين بعدها معا انفسخ نكاح الثلاث وله نكاح من شاء منهن منفردة, وإن كان دخل بالكبرى حرم الكل عليه على الأبد ولا مهر للكبرى إن كان لم يدخل بها, وإن كان قد دخل بها فلها مهرها وعليه نصف مهر الأصاغر يرجع به على الكبرى ولو دبت الصغرى على الكبرى وهي نائمة فارتضعت منها خمس رضعات حرمتها على الزوج ولها نصف مهرها يرجع به على الصغرى إن كان قبل الدخول وإن كان بعدها فلها مهرها كله لا يرجع به على أحد ولا مهر للصغرى, ولو نكح امرأة ثم قال: هي أختي من الرضاع انفسخ نكاحها ولها
ـــــــ
مسألة: "وإن أرضعت إحداهن منفردة واثنتين" بعد ذلك "معا انفسخ نكاح" الجميع لأنها إذا أرضعت إحداهن منفردة لم ينفسخ نكاحها لأنها منفردة ثم إذا أرضعت اثنتين بعد ذلك مجتمعتين بأن تلقم كل واحدة ثديا فيمتصان معا انفسخ نكاح الجميع؛ لأنهن صرن أخوات في النكاح وعلى الرواية الثانية ينفسخ نكاح الأم والثانية بالاجتماع ثم ينفسخ نكاح الاثنتين بالاجتماع أيضا.
مسألة: "وله نكاح من شاء منهن منفردة" لأن تحريمهن تحريم جمع لكونهن أخوات لا تحريم تأبيد لأنهن ربائب لم يدخل بأمهن.
مسألة: "وإن كان دخل بالكبرى حرم الكل عليه على الأبد" لأنهن يصرن من الربائب المدخول بأمهن.
مسألة: "ولا مهر للكبرى إن كان لم يدخل بها" لأنها أفسدت نكاح نفسها وكل من أفسد نكاح امرأة قبل الدخول فإن الزوج يرجع عليه بنصف مهرها الذي يلزمه لها؛ لأنه قرره عليه بعد أن كان تعرض للسقوط وفرق بينه وبين زوجته فلزمه ذلك كشهود الطلاق إذا رجعوا فإذا تقرر هذا فكانت هي المفسدة لزمها ذلك فسقط لأنه لو وجب لوجب لها على نفسها فأشبهت الغاصب إذا جنى عليه المغصوب.
مسألة: "وإن كان قد دخل بها فلها مهرها" ولم يرجع به على أحد لأنه استقر بالدخول فلم يسقط كما لو ارتدت "وعليه نصف مهر الأصاغر يرجع به على الكبرى"؛ لأنها أفسدت نكاحهن برضاعها إياهن فلزمها لما سبق.
مسألة: "ولو دبت الصغرى إلى الكبرى وهي نائمة فارتضعت منها خمس رضعات حرمتها على الزوج ولها نصف مهرها" عليه "يرجع به على الصغرى" لأنها أفسدت نكاحها "إن كان قبل الدخول وإن كان بعد" الدخول "فلها مهرها كله لا يرجع به على أحد" لأنه استقر بالدخول, "ولا مهر للصغرى" لأنها هي التي أفسدت نكاح نفسها.
مسألة: "ولو نكح امرأة ثم قال" قبل الدخول "هي أختي من الرضاع انفسخ نكاحها"

المهر إن كان دخل بها ونصف المهر إن كان لم يدخل بها ولم تصدقه وإن صدقته قبل الدخول فلا شيء لها, وإن كانت هي التي قالت هو أخي من الرضاع فأكذبها ولا بينة لها فهي امرأته في الحكم.
ـــــــ
لأنه أقر بما يوجب تحريمها عليه أشبه ما لو أقر بالطلاق "ولها المهر إن كان دخل بها" لأنه استقر بالدخول "و نصفـ" ـه "إن كان لم يدخل بها ولم تصدقه"؛ لأن قوله غير مقبول عليها في إسقاط حقوقها فلزمه إقراره فيما هو حق له وهو تحريمها عليه ولم يقبل فيما عليه من المهر, "وإن صدقته قبل الدخول فلا مهر لها" لأنها صدقته على أن النكاح فاسد لا يستحق فيه مهر.
مسألة: "وإن كانت هي التي قالت هو أخي فأكذبها ولا بينة لها فهي امرأته في الحكم" ولا يقبل قولها في فسخ النكاح؛ لأنه حق عليها فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها لأنها تقر بأنها لا تستحقه وإن كان بعد الدخول وأقرت أنها كانت عالمة بأنها أخته وبتحريمها عليه فلا مهر لها؛ لأنها تقر بأنها زانية مطاوعة وإن أنكرت ذلك فلها المهر لأنه وطئ بشبهة وهي زوجته في ظاهر الحكم لأن قولها عليه غير مقبول. فأما فيما بينها وبين الله فإن علمت صحة ما أقرت به لم يحل لها مساكنته ولا تمكينه من وطئها وعليها أن تفر منه وتفتدي نفسها؛ لأن وطئه لها زنا في اعتقادها فعليها التخلص منه مهما أمكنها كما إذا علمت إن زوجها طلقها ثلاثا وجحدها ذلك.

باب نكاح الكفار
لا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال ولا لمسلم نكاح كافرة إلا الحرة الكتابية ومتى أسلم زوج الكتابية أو أسلم الزوجان الكافران معا فهما على نكاحهما
ـــــــ
باب نكاح الكفارمسألة: "لا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال" لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 1, "ولا لمسلم نكاح كافرة" لقوله سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 2, "إلا الحرة الكتابية" لقوله سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 3.
مسألة: "ومتى أسلم زوج الكتابية أو أسلم الزوجان الكافران معا فهما على نكاحهما".
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 221.
2 - سورة البقرة: الآية 221.
3 - سورة المائدة: الآية 5.

وإن أسلم أحدهما غير زوج الكتابية أو ارتد أحد الزوجين المسلمين قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال وإن كان ذلك بعد الدخول فأسلم الكافر منهما في عدتهما
ـــــــ
لأن للمسلم أن يبتدئ العقد على كتابية فاستدامته أولى ولا خلاف في هذا بين القائلين بجواز نكاح الكتابيات, وأما إذا أسلما معا فهما على نكاحهما إجماعا ذكره ابن عبد البر؛ ولأنه لم يوجد منهما اختلاف دين, وروى أبو داود أن رجلا جاء مسلما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءت امرأته مسلمة بعده فقال: يا رسول الله إنها كانت أسلمت معي, فردها عليه1, ويعتبر تلفظهما بالإسلام دفعة واحدة لئلا يسبق إسلام أحدهما إسلام صاحبه فيفسد نكاحه, ويحتمل أن يقف على المجلس كالقبض فإن حكمه حكم حالة العقد لأنه يبعد اتفاقهما على النطق بكلمة الإسلام دفعة واحدة.
مسألة: "وإن أسلم أحدهما غير زوج كتابية" مثل أن يسلم أحد الزوجين غير الكتابيين كالوثنيين أو المجوسيين أوكتابي متزوج لوثنية أو مجوسية قبل الدخول به تعجلت الفرقة بينهما من حين إسلامه, ويكون فسخا ليس بطلاق لأنها فرقة لاختلاف دين فكانت فسخا كما لو أسلم الزوج؛ ولأنه اختلاف دين يمنع الإقرار على النكاح فإذا وجد قبل الدخول تعجلت الفرقة كالردة أو كما لو أسلم الزوج؛ ولأنه إن كان هو المسلم فليس له إمساك الزوجة لقوله سبحانه: {وََلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}, وإن كانت هي المسلمة فلا يجوز بقاؤها في نكاح مشرك لقوله سبحانه: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ}.
مسألة: "و" إن "ارتد أحد الزوجين المسلمين قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال"؛ لقوله سبحانه: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} 2, ولقوله سبحانه: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 3, ولأنه اختلاف دين يمنع الإصابة فأوجب فسخ النكاح كما لو أسلمت تحت كافر, "وإن" كانت الردة "بعد الدخول" فهل تعجل الفرقة أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين: إحداهما تتعجل الفرقة لأن ما أوجب فسخ النكاح استوى فيه ما قبل الدخول وبعده كالرضاع, والثانية: تقف على انقضاء العدة. "فـ" إن "أسلم" المرتد قبل انقضائها "فهما على" النكاح وإن لم يسلم حتى انقضت "تبينا" انفساخ "النكاح منذ اختلف" الدينان؛ لأنه لفظ تقع به الفرقة فإذا وجد بعد الدخول جاز أن يقف على انقضاء العدة كالطلاق الرجعي.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2238.
2 - سورة الممتحنة: الآية 10.
3 - سورة الممتحنة : الآية 10.

فهما على نكاحهما وإلا تبينا أن النكاح انفسخ منذ اختلف دينهما وما سمى لها وهما كافران فقبضته في كفرهما فلا شيء لها غيره, وإن كان حراما وإن لم تقبضه وهو حرام فلها مهر مثلها أو نصفه حيث وجب ذلك.
فصل: وإن أسلم الحر وتحته إماء فأسلمن معه, وكان في حال اجتماعهم على الإسلام ممن لا يحل له نكاح الإماء انفسخ نكاحهن وإن كان ممن يحل له نكاحهن أمسك منهن من تعفه وفارق سائرهن.
ـــــــ
مسألة: "وما سمى لها وهما كافران فقبضته في كفرهما فلا شيء لها غيره وإن كان حراما وإن لم تقبضه وهو حرام فلها مهر مثلها أو نصفه حيث وجب ذلك", وذلك أن الكفار إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا بعد العقد والقبض لم نتعرض لما فعلوه وما قبضت من المهر فقد نفذ وليس لها غيره حلالا كان أو حراما؛ لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 1, فأمر بترك ما بقي دون ما قبض, ولأن التعرض للمقبوض بإبطاله يشق لتطاول الزمان وكثرة تصرفاتهم في الحرام ففيه تنفيرهم عن الإسلام؛ ولأنهما تقابضا بحكم الشرك فبرئت ذمة من هو عليه كما لو تبايعا بيوعا فاسدة وتقابضا, وإن لم يتقابضوا وكان المسمى حلالا وجب ما سمياه؛ لأنه مسمى صحيح فهو كتسمية المسلم وإن كان حراما كالخمر والخنزير بطل ولم يحكم بت؛ لأن ما سمياه لا يجوز إيجابه في الحكم ولا يجوز أن يكون صداقا لمسلمة ولا في نكاح مسلم, ويجب مهر المثل إن كان بعد الدخول ونصفه إن وقعت الفرقة قبل الدخول وهو معنى قوله: حيث وجب ذلك.
"فصل: فإن أسلم الحر وتحته إماء فأسلمن معه وكان في حال اجتماعهم على الإسلام ممن لا يحل له نكاح الإماء انفسخ نكاحهن"؛ لأنه في هذه الحالة لا يملك ابتداء نكاحهن, "وإن كان" في حال اجتماعهم على الإسلام "ممن يحل له نكاح الإماء" فله الاختيار منهن واحدة لأنه يملك ابتداء نكاحها فملك اختيارها كالحرة.

باب الشروط في النكاح
إذا اشترطت المرأة دارها أو بلدها أو أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى فلها
ـــــــ
باب الشروط في النكاحمسألة: "وإذا اشترطت المرأة دارها أو بلدها أو لا يتزوج عليها أو لا يتسرى" فلها شرطها وإن لم يف به فلها فسخ النكاح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن توفوا

شرطها" وإن لم يف به فلها فسخ النكاح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج". ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وهو أن يتزوجها إلى أجل وإن شرط أن يطلقها في وقت بعينه لم يصح كذلك, ونهى عن الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ولا صداق بينهما ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له, وهو أن يتزوج المطلقة ثلاثا ليحلها لمطلقها
ـــــــ
بها ما استحللتم به الفروج". متفق عليه1. وهو قول جماعة من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فكان إجماعا وقال عليه السلام: "المسلمون على شروطهم" 2.
مسألة: "وإن لم يف" لها بشرطها "فلها" الـ "فسخ" لأنه شرط لازم في عقد فيثبت حق الفسخ بفواته كشرط الرهن في البيع.
مسألة: "ونكاح المتعة باطل وهو أن يتزوجها إلى مدة" لما روى الربيع بن سبرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة في حجة الوداع. وفي لفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء, رواه أبو داود3؛ ولأنه لم تتعلق به أحكام النكاح من الطلاق وغيره فكان باطلا كسائر الأنكحة الباطلة.
مسألة: "وإن شرط أن يطلقها في وقت بعينه لم يصح" النكاح لأنه شرط يمنع بقاء النكاح فأشبه التأقيت ويتخرج أن يصح ويبطل الشرط؛ لأن النكاح وقع مطلقا وشرط على نفسه شرطا لا يؤثر فيه فأشبه ما لو شرط أن لا يطأها.
مسألة: ونكاح الشغار لا يصح "وهو أن" يزوجه وليته "على أن يزوجه الآخر" وليته "ولا صداق بينهما" لما روى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار4. والشغار: أن يزوجه ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق. متفق عليه. ولأنه جعل كل واحد من العقدين سلفا في الآخر فلم يصح كما لو قال: بعني ثوبك على أن أبيعك ثوبي.
مسألة: "ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له", قال الترمذي: حديث صحيح5. "وهو أن يتزوجـ" ـها على أنه إذا أحلها طلقها فيكون النكاح حراما باطلا للخير فإن تواطئا على ذلك قبل العقد فنواه في العقد ولم يشرطه فالنكاح باطل أيضا, نص عليه وقال: متى أراد بذلك الإحلال فهو ملعون لعموم الحديث.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5151. ومسلم في النكاح: حديث رقم 63.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2072, 2073.
4 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5112. ومسلم في النكاح: حديث رقم 57, 59, 61.
5 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2076. والترمذي في النكاح: حديث رقم 1119, 1120. وقال في الثاني: حسن صحيح. وابن ماجه في النكاح: حديث رقم 1935.

باب العيوب التي يفسخ بها النكاح
متى وجد أحد الزوجين الآخر مملوكا أو مجنونا أو أبرص أو مجذوما أو وجد الرجل المرأة رتقاء أو وجدته مجبوبا فله فسخ النكاح إن لم يكن علم ذلك قبل العقد, ولا يجوز الفسخ إلا بحكم حاكم, وإن ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إليها فاعترض أنه لم يصبها أجل سنة منذ ترافعه, فإن لم يصبها خيرت في المقام معه
ـــــــ
باب العيوب التي يفسخ بها النكاح"متى وجد أحد الزوجين الآخر مملوكا فله" الـ "فسخ" أما إذا وجد الرجل المرأة مملوكة وقد تزوجها على أنها حرة فله الفسخ, وقد مضى ذكره في آخر باب ولاية النكاح, وإن وجدته الحرة مملوكا فلها الفسخ أيضا لحديث بريرة وقد مضى أيضا.
مسألة: "وإن وجد" أحدهما صاحبه مجنونا أو مجذوما أو أبرص فله الفسخ لأن هذه العيوب تمنع الاستمتاع المقصود بالنكاح, فإن ذلك يثير نفرة ويخشى من تعديه إلى الولد والنفس فيمنع الاستمتاع,
"وإن وجدها الرجل رتقاء أو وجدته مجبوبا ثبت لمن وجده الفسخ" لأن الرتق والجب يتعذر معهما الوطء بالكلية, فإن الرتق عبارة عن انسداد الفرج والجب عبارة عن المقطوع الذكر, فيتعذر الوطء فيثبت الفسخ كالعيوب الأولى.
مسألة: "وإنما ثبت له الفسخ إذا لم يكن عالم بالعيب قبل العقد" لأنه يكون معذورا, فأما إن علم بالعيب قبل العقد أو وقت العقد أو قال: قد رضيته معيبا بعد العقد أو وجد منه دلالة على الرضا من وطء أو تمكين مع العلم بالعيب فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة فلم يكن له خيار كمشتري المعيب.
مسألة: "ولا يجوز الفسخ إلا بحكم حاكم" لأنه أمر مجتهد فيه فهو كفسخ العنة وكالفسخ للإعسار بالنفقة ويخالف خيار المعتقة فإنه متفق عليه.
مسألة: "وإن ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إليها فاعترف أنه لم يصبها أجل سنة منذ ترافعه", روي ذلك عن جماعة من الصحابة لما روى الدارقطني أن عمر أجل العنين سنة, وروي ذلك عن ابن مسعود والمغيرة بن شعبة ولا مخالف لهم ورواه أبو حفص عن علي رضي الله عنه.
مسألة: "فإن لم يصبها خيرت في المقام معه أو فراقه" وهو قول من سمينا من الصحابة الذين أجلوه سنة, وإنما أجل سنة لأن العجز عن الوطء قد يكون خلقة وقد يكون

أو فراقه فإن اختارت فراقه فرق الحاكم بينهما إلا أن تكون قد علمت عنته قبل نكاحها أو قالت: رضيت به عنينا في وقت, وإن علمت بعد العقد وسكتت عن المطالبة لم يسقط حقها, وإن قال: قد علمت عنتي ورضيت بي بعد علمها فأنكرته فالقول قولها, وإن أصابها مرة لم يكن عنينا وإن ادعى ذلك فأنكرته فإن كانت عذراء أوريت النساء الثقات ورجع إلى قولهن فإن كانت ثيبا فالقول قوله مع يمينه.
ـــــــ
لمرض عرض به فضربت له سنة لتمر به الفصول الأربعة, فإن كان ذلك من يبس زال في فصل الرطوبة وإن كان من رطوبة زال في فصل الحرارة, وإن كان من انحراف مزاج زال في فصل الاعتدال, فإذا مضت الفصول الأربعة ولم يطأ علم أن ذلك خلقة, والعنين هو الذي في ذكره ضعف فلا يقدر على الإيلاج.
مسألة: "فإن اختارت فراقه" لم يجز إلا بحكم حاكم لأنه فسخ في موضع اجتهاد فافتقر إلى الحاكم. كالفسخ للإعسار هذا إذا لم تكن علمت بالعيب قبل النكاح, فإن كانت علمت به أو قالت قد رضيت به عنينا في وقت فإن خيارها يبطل؛ لأنها دخلت على بصيرة ورضيت به فأشبه شراء المعيب.
مسألة: "وإن علمت بعد العقد وسكتت عن المطالبة لم يسقط حقها" لا نعلم في ذلك خلافا؛ لأن سكوتها بعد العقد ليس بدليل على الرضا به لأنه زمان لا يملك فيه الفسخ والامتناع من استمتاعه فلم يكن سكوتها مسقطا لحقها كسكوتها بعد ضرب المدة وقبل انقضائها.
مسألة: "وإن قال قد علمت عنتي أو رضيت بي بعد علمها فأنكرت فالقول قولها"؛ لأن الأصل عدم العلم والرضا.
مسألة: "وإن أصابها مرة لم يكن عنينا" أكثرهم يقولون متى وطئ امرأته مرة ثم ادعت عجزه لم تسمع دعواها؛ لأنه قد تحققت قدرته على الوطء في هذا النكاح وزوال عنته فلم تضرب له مدة كما لو لم يترك وطئها.
مسألة: "وإن ادعى ذلك فأنكرته فإن كانت عذراء أوريت النساء الثقات ورجع إلى قولهن" فإن شهدن أنها عذراء أجل سنة؛ لأن الوطء يزيل عذرتها فوجودها يدل على عدم الوطء, وإن شهدن أن عذرتها زالت فالقول قوله لأنها تزول بالوطء.
مسألة: "وإن كانت ثيبا فالقول قوله مع يمينه" لأن هذا مما يتعذر إقامة البينة عليه وحجته أقوى, فإن في دعواه سلامة العقد وصحته ولأن الأصل في الرجال السلامة وعدم العيوب, ويحلف على صحه ما قال لأن قوله محتمل للكذب فرجحنا قوله بيمينه كما في سائر الدعاوى. وقال الخرقي: يخلى معها ويقال له أخرج ماءك على شيء فإن أخرجه فالقول قوله؛ لأن العنين يضعف عن الإنزال فإذا أنزل تبينا صدقه فيحكم بت, كما لو شهد النساء بعذرتها فإنا نقبل قولها لظهور صدقها فإن ادعت أنه ليس بمني جعل على النار فإن

فصل: وإن عتقت المرأة وزوجها عبد خيرت في المقام معه أو فراقه, ولها فراقه من غير حكم حاكم فإن أعتق قبل اختيارها أو وطئها بطل خيارها, وإن أعتق بعضها أو عتقت كلها وزوجها حر فلا خيار لها
ـــــــ
ذاب فهو مني لأنه إنما يشبه بياض البيض وبياض البيض إذا جعل على النار يجتمع وييبس وهذا يذوب فيعرف بذلك,
"فصل: وإن عتقت الأمة وزوجها عبد خيرت في المقام معه أو فراقه" أجمع أهل العلم على أن لها الخيار في فسخ النكاح,ذكره ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما, والأصل فيه حديث بريرة قالت عائشة رضي الله عنها: كاتبت بريرة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها وكان عبدا فاختارت نفسها, رواه مالك وأبو داود والنسائي1؛ ولأن عليها عارا وضررا في كونها حرة تحت عبد فكان لها الخيار كما لو تزوج حرة على أنه حر فبان عبدا.
مسألة: "ولها فراقه من غير حكم حاكم" لأنه مجمع عليه لا يحتاج إلى اجتهاد.
مسألة: "فإن عتق قبل اختيارها أو وطئها بطل خيارها" علمت أن لها الخيار أو لم تعلم؛ لما روى الإمام أحمد بإسناده عن الحسن بن عمر بن أمية قال: سمعت رجالا يتحدثون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أعتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها إن شاءت فارقته وإن وطئها فلا خيار لها". ورواه الأثرم2, وروى أبو داود أن بريرة عتقت وهي عند مغيث عبد لآل أبي أحمد, فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: "إن قربك فلا خيار لك". وقد روي ذلك عن عبد الله وحفصة, وقال ابن عبد البر: لا أعلم لهما مخالفا من الصحابة. إذا ثبت هذا فإنه متى عتق بطل خيارها لأن الخيار لدفع الضرر بالرق وقد زال بعتقه فسقط خيارها كالمبيع إذا زال عيبه, فإن وطئها بطل خيارها علمت بالخيار أو لم تعلم نص عليه الإمام أحمد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة: "إن قربك فلا خيار لك". ولم يفرق.
مسألة: "وإن أعتق بعضها" فلا خيار لها لأن الخيار إنما يثبت لمن عتقت كلها ولا يلزم من ذلك ثبوته لمن عتق بعضها لأنه قد ثبت للكل ما لا يثبث للبعض.
مسألة: "وإن عتقت كلها وزوجها حر فلا خيار لها" لأن الخيار إنما يثبت لدفع العار بكونها حرة تحت عبد وهذا متفق فيما نحن فيه.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2235. والنسائي في الزكاة: 99- باب إذا تحولت الصدقة.
2 - رواه أحمد في المسند 4/65, 5/378.

كتاب الصداق
مدخل...
كتاب الصداقوكل ما جاز أن يكون ثمنا جاز أن يكون صداقا قليلا كان أو كثيرا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: للذي قال له زوجني هذه المرأة إن لم يكن لك بها حاجة قال: "التمس ولو خاتما من حديد". فإذا زوج الرجل ابنته بأي صداق جاز ولا ينقصها غير
ـــــــ
كتاب الصداق
"كل ما جاز أن يكون ثمنا جاز أن يكون صداقا قل أو كثر" بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سهيل بن سعد: "التمس ولو خاتما من حديد" 1. وقال سبحانه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً}, يعني: مائة رطل ذهب, وهذا يدل على جوازه بالقليل والكثير؛ وقوله كل ما جاز أن يكون ثمنا جاز أن يكون صداقا؛ لأنه عقد معاوضة أشبه البيع فلا يجوز بالمجهول والمحرم والحشرات التي لا يجوز أن تكون رهنا لذلك.
مسألة: "فإذا زوج الرجل ابنته بأي صداق كان جاز" سواء كانت بكرا أو ثيبا وسواء كان بصداق مثلها أو دونه وإن كرهت كبيرة كانت أو صغيرة؛ لأن عمر رضي الله عنه خطب الناس فقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء فما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من نسائه ولا بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية, وظاهره صحة تسميته من زوج بمثل ذلك وإن نقص عن مهر المثل لأن عمر إنما ذكر ذلك ليحذا ويتأسى به ولا يزاد عليه, وزوج سعيد بن المسيب ابنته بدرهمين وهو سيد قريش؛ ولأنه غير متهم في حقها فلا يمنع من تحصيل المقصود والحظ لابنته بتفويت غير المقصود فإن المقصود من النكاح الوصلة والاستمتاع, ووضع المرأة في منصب وخلق حسن وليس المقصود منه المهر, والظاهر من حال الأب مع تمام شفقته أنه لا ينقص من صداقها إلا لتحصيل المعاني المقصودة بالنكاح؛ فإنه غير متهم. "وليس لغيره نقصها عن مهر مثلها إلا بإذنها"؛ لأنه متهم فإذا نقصه بإذنها لم يكن لغيره الإعتراض لأن الحق لها وقد أسقطته فأشبه ما لو أذنت في بيع سلعة لها بأقل من
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5078, 5121, 5126.

الأب من مهر مثلها إلا برضاها, فإذا أصدقها عبدا بعينه فوجدته معيبا خيرت بين أرشه ورده أو أخذ قيمته, وإن وجدته مغصوبا أو حرا فلها قيمته وإن كانت عالمة بحريته أو غصبه حين العقد فلها مهر مثلها, وإن تزوجها على أن يشتري لها عبدا بعينه فلم يبعه سيده أو طلب به أكثر من قيمته فلها قيمته.
فصل
فإن تزوجها بغير صداق صح
ـــــــ
ثمن مثلها وإن فعله بغير إذنها لم يجز, والنكاح صحيح ويكون لها مهر مثلها؛ لأنه قيمة بضعها وليس لهذا. الولي تنقيصه فرجع إلى مهر المثل كالمفوضة ويحتمل أن لا يلزم الزوج إلا المسمى والباقي على الولي لأنه المفرط فأشبه ما لو باع الوكيل بدون ثمن المثل.
مسألة: "فإذا أصدقها عبدا بعينه فوجدت" به عيبا "خيرت بين أرشه ورده أو أخذ قيمته" لأنه عوض في عقد معاوضة فيرد بالعيب كالمبيع فإذا ردته بالعيب فلها قيمته لأن العقد لا ينفسخ برده فيبقى سبب استحقاقه فكان لها القيمة كما لو غصبها إياه وتلف عنده وإن كان من ذوات الأمثال فلها مثله لأنه أقرب إليه وإن اختارت إمساكه والمطالبه بالأرش فلها ذلك كقولنا في المبيع المعيب.
مسألة: "وإن وجدته مغصوبا أو حرا فلها قيمته" لأنها رضيت بقيمته إذ ظنته مملوكا وقد تعذر تسليمه فكان لها قيمته كما لو وجدته معيبا فردته.
مسألة: "وإن كانت عالمة بحريته أو غصبه" جاز "العقد" و "لها مهر مثلها".
مسألة: "وإن تزوجها على أن يشتري لها عبدا بعينه فلم يبعه سيده أو طلب به أكثر من قيمته فلها قيمته" نص عليه, لأنه أصدقها تحصيل عبد معين فصح كما لو تزوجها على رد عبدها الآبق من مكان معلوم فإذا ثبت هذا فإنه إذا تعذر عليه تحصيل العبد فلها قيمته لأنه تعذر الوصول إلى قبض المسمى فوجب قيمته كما لو تلف.
"فصل: وإن تزوجها بغير صداق صح" النكاح لقوله سبحانه: {لاَجُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ}, وحديث بروع بنت واشق التي قضى فيها ابن مسعود بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث" تزوجها رجل ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات, أخرجه أبو داود فدل على صحة النكاح بغير تسمية صداق؛ ولأن القصد من النكاح الوصلة والاستمتاع دون الصداق فصح من غير ذكره كالنفقة وتسمى هذه مفوضة البضع وهو التفويض الصحيح.

فإن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا المتعة: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}, وأعلاها خادم وأدناها كسوة تجوز لها الصلاة فيها وإن مات أحدهما قبل الدخول والفرض فلها مهر نسائها لا وكس ولا شطط, وللباقي منهما الميراث وعليها العدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق لما مات زوجها ولم يدخل بها ولم يفرض لها أن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة, ولو طالبته قبل الدخول أن يفرض لها فلها ذلك فإن فرض لها مهر نسائها أو أكثر فليس لها غيره وكذلك إن فرض لها أقل منه فرضيت.
فصل
وكل فرقة جاءت من المرأة قبل الدخول كإسلامها أو ارتدادها أو رضاعها أو
ـــــــ
مسألة: "فإن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا المتعة" لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ}, والأمر يقتضي الوجود وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} 1؛ لأنه طلاق في نكاح يقتضي عوضا فلا معدي عن العوض كما لو سمى مهرا إذا ثبت هذا فالمتعة معتبرة بحال الزوج في يسره وعسره لقوله سبحانه: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} , إذا ثبت هذا "فأعلاها خادم" إذا كان موسرا وإن كان معسرا أمتعها كسوتها درعا وخمارا وثوبا تصلي فيه وهو قول ابن عباس وعنه يرجع في تقديرها إلى الحاكم لأنه يحتاج إلى اجتهاد فأشبه سائر المجتهدات.
مسألة: "فإن مات أحدهما قبل الدخول والفرض فلها مهر نسائها لا وكس ولا شطط وللباقي منهما الميراث وعليها العدة لحديث بروع بنت واشق" وقد سبق.
مسألة: "ولو طالبته قبل الدخول أن يفرض لها فلها ذلك" لأن النكاح لا يخلو من المهر فوجبت لها المطالبة ببيان قدره لا نعلم في ذلك خلافا, وإن اتفقا على فرضه جاز ما فرضاه قليلا كان أو كثيرا لأن الحق لا يخرج عنهما, "فإن فرض لها مهر نسائها أو أكثر فليس لها غيره" لأنه بدل البضع فيقدر به كالسلعة إذا تلفت إنما يجب قيمتها ومهر نسائها كالقيمة في السلعة, فإذا بذل أكثر من مهر نسائها فلزمها قبوله بطريق الأولى لأنه زادها خيرا وإن فرض لها أقل من مهر المثل فرضيته فكذلك لأن الحق لها وقد رضيت بدونه.
"فصل: وكل فرقة جاءت من قبل المرأة قبل الدخول كإسلامها أو ارتدادها أو رضاعها" أو ارتضاعها "أو فسخ لعيبها أو فسخها لعيبه أو إعساره" أو لأنها تحت عبد "يسقط به مهرها" ولا يجب لها متعة لأنها أتلفت المعوض قبل تسليمه فسقط البدل كالبائع يتلف المبيع قبل تسليمه.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 241.

فسخ لعيبها أو فسخ لعيبه أو إعساره أو أعتقها يسقط به مهرها, وإن جاءت من الزوج كطلاقه وخلعه يتنصف مهرها بينهما إلا أن يعفو لها عن نصفه أو تعفو هي عن حقها وهي رشيدة فيكمل الصداق للآخر, وإن جاءت من أجنبي فعلى الزوج نصف المهر يرجع به على من فرق بينهما, ومتى تنصف المهر وكان معينا باقيا لم تتغير قيمته صار بينهما نصفين وإن زاد زيادة منفصلة كغنم ولدت فالزيادة لها والغنم بينهما, وإن زادت زيادة متصلة مثل أن سمنت الغنم خيرت بين دفع نصفها زائدا وبين دفع نصف قيمتها يوم العقد, وإن نقصت فلها الخيار بين أخذ نصفه ناقصا وبين أخذ نصف قيمته يوم العقد وإن تلفت فلها نصف قيمتها يوم العقد ومتى دخل بها استقر المهر ولم
ـــــــ
مسألة: "وإن جاءت من الزوج كطلاقه وخلعه" وإسلامه وردته "يتنصف" به "مهرها بينهما إلا أن يعفو لها عن نصفه أو تعفو هي عن حقها وهي رشيدة فيكمل الصداق للآخر"؛ لقوله سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} 1, نص على الطلاق وسائر ما استقل به الزوج في معناه؛ لأنه لم يوجد من المرأة إتلاف المعوض فإن عفت عن نصفها أو عفا هو عن نصفه جاز لأن الحق لا يخرج عنهما.
مسألة: "وإن جاءت" الفرقة "من أجنبي" كالرضاع أو وطء ينفسخ النكاح "فعلى الزوج نصف المهر" للآية "ويرجع به على من فرق بينهما" لأنه المتلف فأشبه.
مسألة: "ومتى تنصف المهر وكان معينا باقيا لم تتغير قيمته صار بينهما نصفين" للآية "وإن زاد زيادة منفصلة كغنم ولدت فالزيادة لها"؛ لأنه نماء ملكها "والغنم بينهما" نصفين للآية, "وإن زادت زيادة متصلة مثل إن سمنت الغنم خيرت بين دفع نصفها زائدا وبين دفع نصف قيمتها يوم العقد" فإن دفعت نصفها زائدا لزمه قبوله لأنه أخذ حقه وزيادة وإن أخذ نصف قيمته يوم العقد فهو حقه من غير زيادة.
مسألة: "وإن نقصت فلها الخيار بين أخذ نصفها ناقصا وبين أخذ نصف قيمتها يوم العقد" فإن رضي بنصفها ناقصا فقد رضي بدون حقه, وإن أخذ نصف قيمتها يوم العقد فهو حقه لأنه نصف ما فرض "وإن تلف فله نصف قيمتها يوم العقد" للآية وقد تعذر الرجوع في العين فرجع في القيمة.
مسألة: "ومتى دخل بها استقر المهر ولم يسقط بشيء" لقوله سبحانه: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 237.

يسقط بشيء وإن خلا بها بعد العقد وقال : لم أطأها وصدقته استقر المهر ووجبت العدة وإن اختلف الزوجان في الصداق أو قدره فالقول قول من يدعي مهر المثل مع يمينه
ـــــــ
مُبِيناً}, أمر بترك الكل لها وقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}, فجعل هذا للمطلقة قبل الدخول وذاك للمطلقة بعد الدخول بدليل قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} 1 أراد به الجماع والخلوة بها.
مسألة: "وإن خلا بها بعد العقد وقال: لم أطأها وصدقته استقر المهر ووجبت العدة"؛ لما روى الإمام أحمد والأثرم بإسنادهما عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون أن من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب المهر ووجبت العدة وإن لم يطأ, روي ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر وعن الشافعي: لا يستقر المهر إلا بالوطء, وحكي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعن أحمد مثل ذلك إذا صدقته المرأة أنه لم يطأها لم يكمل لها الصداق وعليها العدة, رواه عنه يعقوب بن بحران ودليله قوله سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}, وهذه قد طلقها قبل أن يمسها, وقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}, والإفضاء الجماع, وقال: {إِِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 2, وللأولى إجماع الصحابة وما روي عن ابن عباس لا يصح. قال أحمد: يرويه ليث وليس بالقوي وقد رواه حنظلة خلاف ما رواه ليث وحنظلة أوثق من ليث. قال ابن المنذر: وحديث ابن مسعود منقطع, وروى الدارقطني عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل". ولأن التسليم المستحق من جهتها قد وجد فيستقر به البدل كما لو أجرت دارها وتسلمها فأما قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}, فيحتمل أنه كنى بالسبب عن المسبب الذي هو الخلوة بدليل ما ذكرناه. وأما قوله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}, فقال الفراء: هو الخلوة دخل بها أو لم يدخل فإن الإفضاء مأخوذ من الفضاء وهو الشيء الخالي فكأنه قال: وقد خلا بعضكم إلى بعض.
مسألة: "وإن اختلف الزوجان في الصداق أو قدره فالقول قول من يدعي مهر المثل منهما مع يمينه" فإذا ادعت المرأة مهر مثلها أو أقل فالقول قولها, وإن ادعى الزوج مهر مثلها أو أكثر فالقول قوله؛ لأن الظاهر قول من يدعي مهر المثل فكان القول قوله قياسا على المنكر في سائر الدعاوى ويلزمه اليمين لأنه منكر.
مسألة: وإن أنكر الزوج الصداق فالقول قولها قبل الدخول وبعده؛ فإذا ادعت مهر مثلها فكذلك إلا أن يأتي ببينة تشهد أنه وفاها أو أنها أبرأته من ذلك.
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 21.
2 - سورة الأحزاب: الآية 49.

باب معاشرة النساء
وعلى كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف وأداء حقه الواجب إليه من غير مطل ولا إظهار لكراهية لبذله وحقه عليها تسليم نفسها إليه وطاعته في
ـــــــ
باب عشرة النساء
مسألة: "وعلى كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف"؛ لقوله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}, ويجب عليه "أداء حقه الواجب له إليه من غير مطل ولا إظهار الكراهة لبذله"؛ لأنه من المعاشرة بالمعروف.
مسألة: "وحقه عليها تسليم نفسها إليه وطاعته في الاستمتاع متى أراد" ه "ما لم يكن عذرا" ؛ لأن المقصود من النكاح الاستمتاع ولا يحصل إلا بالتسليم فإن كان لها عذر من حيض أو نفاس صبر عليها حتى ينقضي العذر "فإذا فعلت ذلك" يعني سلمت نفسها "فلها عليه قدر كفايتها من النفقة والكسوة والمسكن بما جرت به عادة أمثالها" والأصل في وجوب النفقة قوله سبحانه: {لِِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} 1, وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال: "اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجيه بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". رواه مسلم ورواه الترمذي, وفيه: "وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن". وقال: حديث صحيح2. و قال عليه السلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" حين قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. متفق عليه3. وأجمعوا على وجوب نفقة الزوجات إلا الناشزة ذكره ابن المنذر, وقال الله سبحانه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 4, والمعروف قدر الكفاية وقدر الكفاية غير مقدر فيرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم عند التنازع, ويعتبر بحال الزوجين فيعتبر يسار الزوج وإعساره لقوله سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}, وقدر: ضيق. قال سبحانه: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 5. أي: يوسع الرزق على من يشاء ويضيقه على من يشاء, ثم قال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} 6 ويعتبر حال المرأة لقوله عليه السلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك
ـــــــ
1 - سورة الطلاق: الآية 7.
2 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 147.
3 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2211. ومسلم في الأقضية: حديث رقم 7.
4 - سورة البقرة : الآية 233.
5 - سورة الرعد: الآية 26.
6 - سورة الطلاق: الآية 7.

الاستمتاع متى أراد ما لم يكن لها عذر وإذا فعلت ذلك فلها عليه قدر كفايتها من النفقة والكسوة والمسكن بما جرت به عادة أمثالها, فإن منعها ذلك أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه قدر كفايتها وكفاية ولدها بالمعروف؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند حين قالت له إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". فإن لم تقدر على الأخذ لعسرته
ـــــــ
بالمعروف" 1 فيفرض الحاكم للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها من أرفع خبز البلد الذي يأكله أمثالها كالحواري والقدر ومن أرفع الأدم من اللحم والأرز والدهن على اختلاف أنواعه في بلدانه السمن في موضع والزيت في آخر والشحم في غيره والشيرج في موضع.
مسألة: "وتجب كسوتها بإجماعهم لما سبق من النصوص" ؛ ولأنها لا بد لها منها على الدوام فلزمته كالنفقة فيجب كفايتها منها وليس فيها تقدير من الشرع فهي كالنفقة فيرجع فيها إلى اجتهاد الحاكم عند التنازع فيفرض لها قدر كفايتها على قدر حالها للموسرة تحت الموسر من أرفع ثياب البلد من الكتان والخز والابريسم, وأقله قميص وسراويل ووقاية ومقنعة ومداس وجبة للشتاء ويزيد في عدد الثياب ما جرت العادة بلبسه مما لا غناء عنه دون ما تتجمل به وتتزين بلبسه, والأصل قوله سبحانه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. والكسوة بالمعروف: هي التي جرت عادتها وعادة أمثالها بلبسه.
"فصل :ويفرض للمتوسطة تحت المتوسط أو إذا كان أحدهما موسرا والآخر معسرا" ما بين نفقة الغني ونفقة الفقير على حسب عادة أمثالها على ما يراه الحاكم.
"فصل: وأما المسكن فحكمه حكم النفقة والكسوة على ما سبق". فأما الفقيرة تحت الفقير فيفرض لها قدر كفايتها من أدنى خبز البلد ومن أدنى أدمه مثل الباقلاء والعدس والحمص والكشك والخل والبقل والكامخ وما تحتاج إليه من الدهن كالزيت ونحوه, وما تحتاج إليه من الكسوة من أغلظ القطن والكتان, وما تحتاج إليه للنوم والجلوس مما جرت عادة أمثالها به كالكساء الخشن والحصير الخشن ونحوه على حسب ما يراه الحاكم.
مسألة: "فإن منعها ذلك أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه قدر كفايتها وكفاية ولدها بالمعروف" لحديث هند وقد سبق.
مسألة: "فإن لم تقدر على أخذ لعسرته أو منعها واختارت فراقه فرق الحاكم بينهما"؛ لقوله سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 2, وقد تعذر الإمساك بالمعروف فتعين التسريح بالإحسان.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سورة البقرة: الآية 229.

أو منعها فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما سواء كان الزوج صغيرا أو كبيرا, وإن كانت صغيرة لا يمكن الاستمتاع بها أو لم تسلم إليه أو لم تطعه فيما يجب له عليها أو سافرت بغير إذنه أو بإذنه في حاجتها فلا نفقة لها عليه.
فصل
ولها عليه المبيت عندها ليلة من كل أربع إن كانت حرة ومن كل ثمان إن كانت أمة إذا لم يكن له عذر إصابتها مرة في كل أربعة أشهر إذا لم يكن له عذر فإن آلى منها أكثر من أربعة أشهر فتربصت أربعة أشهر ثم رافعته إلى الحاكم فأنكر الإيلاء أو مضى الأربعة أو ادعى أنه أصابها وكانت ثيبا فالقول قوله مع يمينه.
ـــــــ
مسألة: و "سواء كان الزوج صغيرا أو كبيرا" لذلك.
مسألة: "إن كانت صغيرة لا يمكن الاستمتاع بها أو لم تسلم" نفسها "إليه أو لم تطعه فيما يجب له عليها أو سافرت بغير إذنه أو بإذنه في حاجتها فلا نفقة لها عليه"؛ لأن النفقة تجب للتمكين من الاستمتاع ولم يوجد فأشبه البائع إذا امتنع من تسليم المبيع, ويحتمل أن لها النفقة إذا سافرت بإذنه في حاجتها لأنها سافرت بإذنه فأشبه ما لو سافرت بأمره في حاجته.
"فصل: ولها عليه المبيت عندها ليلة من كل أربع إن كانت حرة"؛ لأن عمر رضي الله عنه قال لكعب بن سور: اقض بين هذا وبين امرأته. قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن فأقضي له بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة, فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب إلي من رأيك الآخر اذهب فأنت قاض على البصرة.
مسألة: وإن كانت أمة فلها ليلة من "ثمان" لأنها على النصف من الحرة والحرة لها ليلة من أربع فيكون للأمة ليلة من ثمان.
مسألة: ولها عليه "إصابتها في كل أربعة أشهر مرة"؛ لأن الوطء يجب على غير المولى في كل أربعة أشهر ويفسخ النكاح لتركه, وما لا يجب على غير الحالف لا يجب على الحالف على تركه كسائر المباحات إذ ما لا يجب لا يفسخ النكاح لتعذره كزيادة النفقة, فإن كان له عذر من سفر أو مرض صبرت من أجله حتى ينقضي العذر.
مسألة: "فإن آلى منها أكثر من أربعة أشهر فتربصت أربعة أشهر ثم رافعته إلى الحاكم فأنكر الإيلاء أو مضى الأربعة" أشهر "فالقول قوله"؛ لأن الأصل معه, "وكذا إن ادعى الإصابة وهي ثيب" لأنه مما يتعذر إقامة البينة عليه ولا يعرف إلا من جهته؛ ولأن الأصل بقاء النكاح وهو يدعي ما ينفيه والمرأة تدعي ما يلزمه به رفعه فكان القول قوله كما لو

وإن أقر بذلك أمر بالفيئة عند طلبها وهي الجماع, فإن فاء فإن الله غفور رحيم, فإن لم يفي أمر بالطلاق فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه, ثم إن راجعها أو تركها حتى بانت فتزوجها وقد بقي أكثر من مدة الإيلاء وقف لها كما وصفت, ومن عجز عن الفيئة عند طلبها فليقل: متى قدرت جامعتها ويؤخر حتى يقدر عليها
ـــــــ
أدعى الوطء في العنة وعليه اليمين لأن ما تدعيه المرأة يحتمل فوجب نفيه باليمين, وعنه لا يلزمه يمين لأنه لا يقضي فيه بالنكول اختاره أبو بكر.
مسألة: "وإن أقر بذلك" يعني أقر بالإيلاء وأنه لم يصبها "أمر بالفيئة" وهي الجماع فإن فاء فإن الله غفور رحيم "وإن لم يفيء أمر بالطلاق" إن طلبت ذلك لقوله سبحانه: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1, فإن طلق واحدة فهي رجعية لأنها طلقة بغير عوض فأشبه غير المولى, وعنه أنها طلقة بائنة لأنها فرقة لدفع الضرر فأشبهت فرقة العنة.
مسألة: "وإن لم يطلق وإلا طلق الحاكم عليه" لأن ما دخله النيابة وتعين مستحقه وتعين من هو عليه قام الحاكم مقامه فيه كقضاء الدين, وهذا إذا طلبته المرأة لأن الحق لها فأشبهت صاحب الدين, وعنه إن لم يطلق حبس وضيق عليه حتى يطلق ولا يقوم الحاكم مقامه في الطلاق, والأول أصح لما سبق. فإذا طلق عليه الحاكم طلقه وقلنا هي رجعية فراجع "أو تركها حتى بانت ثم تزوجها وقد بقي أكثر من مدة الإيلاء وقف لها كما وصفت" يعني: إن فاء فإن الله غفور رحيم وإن عزم الطلاق فطلق كان الحكم كما سبق.
مسألة: "ومن عجز عن الفيئة عند طلبها" بجب أو شلل ففيئته بلسانه, وهي أن يقول لو قدرت لجامعتها لأن ذلك يزيل ما حصل بإيلائه, وإن كان عذره من مرض أو إحرام أو حبس ففيئته أن يقول: "متى قدرت جامعتها ويؤخر حتى" يزول عذره؛ لأن القصد بالفيئة ترك ما قصد إليه من الإضرار وقد ترك قصد الإضرار بما أتى به من الاعتذار والقول قوله مع العذر يقوم مقام فعل القادر, بدليل إشهاد الشفيع على الطلب بالشفعة عند العجز عن طلبها [فإنه] يقوم مقام طلبها في الحضور لإثباتها.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 227.

باب القسم و النشوز
...
باب القسم والنشوز
وعلى الرجل العدل بين نسائه في القسم
ـــــــ
باب القسم والنشوز
"وعلى الرجل العدل بين نسائه في القسم" لا نعلم فيه خلافا بينهم في وجوب التسوية

وعماده الليل فيقسم للأمة ليلة وللحرة ليلتين, وإن كانت كتابية وليس عليه المساواة في الوطء بينهن, وليس له البداءة في القسم بإحداهن ولا السفر بها إلا بقرعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها معه.
ـــــــ
بين زوجاته في القسم وقد قال سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 1, وليس مع الميل معروف. وقد قال تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} 2. وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بيننا ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك". رواه أبو داود3.
مسألة: "وعماد" القسم "الليل" ولا خلاف في ذلك لأن الليل للسكن يأوي الإنسان إلى أهله والنهار للمعاش والخروج في الأشغال. قال الله سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} 4, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ليلة وليلة, وفي النهار لمعاشه وقضاء حقوق الناس.
مسألة: "ويقسم لزوجته الأمة ليلة وللحرة ليلتين"؛ لما روى الدارقطني عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا تزوج الحرة على الأمة قسم للأمة ليلة وللحرة ليلتين. احتج به الإمام أحمد رحمه الله فإن كانت إحداهما كتابية فإنه يساوي بينهما في القسم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القسم بين المسلمة والذمية سواء؛ لأنه من حقوق الزوجية فأشبه النفقة والسكنى.
مسألة: "وليس عليه المساواة بينهن في الوطء" لا نعلم فيه خلافا؛ لأن الجماع طريقه الشهوة والميل ولا سبيل إلى التسوية في ذلك, فإن القلب يميل. وقد قال الله سبحانه: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} 5, قال عبيدة السلماني: في الحب والجماع, وإن أمكنه التسوية بينهن في الجماع كان أحسن وأبلغ في العدل, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" 6.
مسألة: "وليس له البداية في القسم بإحداهن ولا السفر بها إلا بقرعة" لأن البداية بها تفضيل والتسوية واجبة؛ ولأنهن متساويات في الحق فلا يمكن الجمع فوجب المصير إلى القرعة؛ "لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه" فمن خرجت قرعتها خرج
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 19.
2 - سورة النساء الآية 29.
3 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2134.
4 - سورة النبأ: الآية 10.
5 - سورة النساء: الآية 129.
6 - سبق تخريجه.

وللمرأة أن تهب حقها من القسم لبعض ضراتها بإذن زوجها أو له, فيجعله لمن شاء منهن لأن سودة وهبت يومها لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة, وإذا أعرس على بكر أقام عندها سبعا ثم دار, وإن أعرس على ثيب أقام عندها ثلاثا. لقول أنس: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أن يقيم عندها سبعا وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثا", وإن أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعا فعل وقضاهن البواقي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثا ثم قال: "ليس بك هوان على أهلك إن شئت أقمت عندك ثلاثا خالصة لك, وإن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي".
فصل
ويستحب التستر عند الجماع, وأن يقول ما رواه ابن عباس: "لو أن أحدكم إذا
ـــــــ
بها معه" متفق عليه1. فالقرعة في السفر منصوص عليها وابتداء القسم مقيس عليه.
مسألة: "وللمرأة أن تهب حقها من القسم لبعض ضرائرها بإذن زوجها أو له فيجعله لمن شاء منهن" لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه فإذا رضيا جاز؛ لأن الحق لا يخرج عنهما, وقد روت عائشة رضي الله عنها: أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة. متفق عليه2.
مسألة: "وإذا عرس عند بكر أقام عندها سبعا ثم دار, وإذا عرس عند ثيب أقام عندها ثلاثا", وذلك لما روى أبو قلابة عن "أنس" رضي الله عنه قال: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب" أقام "عندها سبعا" وقسم "وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا" ثم قسم, قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه3, "وإذا أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعا فعل ثم قضاهن للبواقي"؛ لما روي عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثا", و "قال: "إنه ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي". رواه مسلم4, وفي لفظ: "إن شئت ثلثت ثم درت". وفي لفظ: "إن شئت أقمت عندك ثلاثا خالصة لك".
"فصل: ويستحب التستر عند الجماع" لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5211. ومسلم في النكاح: حديث رقم 38.
2 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5212. ومسلم في النكاح: حديث رقم 47.
3 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5213, 5214. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 44, 45.
4 - رواه مسلم في الرضاع: حديث رقم 41, 42, 43.

أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا".
فصل
وإن خافت المرأة من زوجها نشوزا أو إعراضا فلا بأس أن تسترضيه بإسقاط بعض حقوقها كما فعلت سودة حين خافت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن خاف الرجل نشوز امرأته وعظها فإن أظهرت نشوزا هجرها في المضجع فإن لم يردعها
ـــــــ
إلى أهله فليستتر ولا ينكشف انكشاف العير". أو كما, قال: ويستحب "أن يقول" عند الجماع "ما" روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فولد بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا". متفق عليه.
"فصل: وإذا خافت المرأة من زوجها نشوزا أو إعراضا" لمرض أو كبر "فلا بأس أن تسترضيه بإسقاط بعض حقوقها كما فعلت سودة حين خافت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم" فروت عائشة رضي الله عنها أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة. متفق عليه1. ولقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} 2.
مسألة: "وإن خاف الرجل نشوز امرأته" بأن تظهر منها أمارات النشوز بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع أو تجيبه متبرمة متكرهة فإنه "وعظها" ويخوفها الله سبحانه ويذكر لها ما أوجب الله له عليها من الحق والطاعة وما يلحقها بذلك من الإثم وما يسقط عنها من النفقة والكسوة, وما يباح له من ضربها فهجرها لقوله سبحانه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} 3, فإن أصرت وأظهرت النشوز والامتناع من فراشه فله أن يهجرها في المضجع ما شاء"؛ لقوله سبحانه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} 4. "فإن أصرت فله أن يضربها ضربا غير مبرح"؛ لقوله سبحانه: {وَاضْرِبُوهُنَّ}, "فإن خيف الشقاق بينهما" يعني علم "بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها مأمونين يجمعان إن رأيا أو يفرقان فما فعلا من ذلك لزمهما", وذلك أن الزوجين إذا خرجا إلى الشقاق والعداوة بعث الحاكم حكمين حرين مسلمين عدلين والأولى أن يكونا من أهلهما برضاهما وتوكيلهما فيكشفان عن حالهما ويفعلان ما يريانه من جمع بينهما أو تفريق بطلاق أو خلع فما فعلا من ذلك لزمهما والأصل فيه قوله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سورة النساء: الآية 128.
3 - سورة النساء: الآية 34.
4 - سورة النساء: الآية 34.

ذلك فله أن يضربها ضربا غير مبرح وإن خيف الشقاق بينهما بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها مؤمنين يجمعان إن رأيا أو يفرقان فما فعلا من ذلك لزمهما
ـــــــ
وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} 1.
فصل: واختلفت الرواية عن أحمد في الحكمين فعنه أنهما وكيلان لا يملكان التفريق إلا بإذنهما لأن البضع حقه والمال حق المرأة وهما رشيدان فلا يتصرف غيرهما لهما إلا بوكالة منهما أو ولاية عليهما فكانا وكيلين, وعنه هما حاكمان ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق بعوض وغيره لا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولا رضاهما, روي ذلك عن علي وابن عباس لأن الله سبحانه سماهما حكمين ولا يعتبر رضا الزوجين ثم قال: {إِِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}, فخاطب الحكمين بذلك ولا يمنع أن تثبت الولاية على الرشيد عند امتناعه من أداء الحق كما يقضي الدين من ماله إذا امتنع ويطلق الحاكم على المولى إذا امتنع.
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 35.

باب الخلع
وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وخافت أن لا تقيم حدود الله في طاعته فلها أن تفتدي نفسها منه بما تراضيا عليه ويستحب أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها
ـــــــ
باب الخلعمسألة: "وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وخافت أن لا تقيم حدود الله في طاعته فلها أن تفتدي نفسها منه بما تراضيا عليه"؛ لقوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 1, و روى البخاري قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما أنقم علي ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر في الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟" قالت: نعم فردت عليه وأمره ففارقها2.
مسألة: "ويستحب أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها" فإن فعل كره وصح روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس لقوله سبحانه: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. وقالت الربيع بنت معوذ: اختلعت من زوجي بما دون عفاص رأسي فأجاز ذلك علي عثمان بن عفان ومثل هذا يشتهر فيكون إجماعا إذا ثبت هذا فإنه إذا فعل جاز مع الكراهة؛ لأنه روي في حديث جميلة فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد وروي عن عطاء عن ابن
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 229.
2 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5273, 5274, 5275, 5276.

فإذا خلعها أو طلقها بعوض بانت منه ولم يلحقها طلاقه بعد ذلك ولو واجهها به ويجوز الخلع بكل ما يجوز أن يكون صداقا, وبالمجهول فلو قالت اخلعني بما في يدي من الدراهم أو ما في بيتي من المتاع ففعل صح وله ما فيهما فإن لم يكن فيهما شيء فله ثلاثة دراهم وأقل ما يسمى متاعا, وإن خالعها على عبد معين فخرج معيبا فله أرشه أو رده وأخذ قيمته وإن خرج مغصوبا أو حرا
ـــــــ
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها فيجمع بين الآية والخبر فنقول: الآية دلت على الجواز والنهي عن الزيادة في الخبر للكراهة.
مسألة: "فإذا خلعها أو طلقها بعوض بانت منه فلم يلحقها طلاقه بعد ذلك وإن واجهها به" فإذا قال الرجل لزوجته: خالعتك أو فاديتك أو فسخت نكاحك أو طلقها على عوض بذلته له ورضي به فقد بانت منه وملكت نفسها بذلك, ولو أراد ارتجاعها لم يكن له ذلك إلا بنكاح جديد, ولو طلقها لم يقع بها طلاقه ولو واجهها به وهو قول ابن عباس وابن الزبير ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان إجماعا, ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد فلم يلحقها طلاقه كالمطلقة قبل الدخول والمنقضية عدتها؛ ولأنه لا يملك بضعه فلم يملك طلاقها كالأجنبية, ولا فرق بين أن يواجهها ويقول أنت طالق أو لا يواجهها فيقول فلانة طالق سواء كانت في العدة أو قد خرجت منها.
مسألة: "ويجوز الخلع بكل ما يجوز أن يكون صداقا" لأنه عقد معاوضة؛ ولأن المرأة مخالع بصداقها فما جاز صداقا جاز عوضا في الخلع إلا أن الخلع يصح "بالمجهول", وقال أبو بكر: لا يصح لأنه عقد معاوضة أشبه البيع, ودليل الأول أن الخلع يصح تعليقه على الشرط فجاز أن يستحق به المجهول كالوصية, "فلو قالت: اخلعني على ما في يدي من الدراهم أو ما في بيتي من المتاع" فخالعها على ذلك "صح وله ما فيهما وإن لم يكن فيهما شيء فله ثلاثة دراهم " نص عليه الإمام أحمد؛ لأنه أقل ما يقع عليه اسم الدراهم حقيقة فاستحقه كما لو وصى له بدراهم وكذا إن لم يكن في بيتها متاع فله أقل ما يقع عليه اسم المتاع كالمسألة قبلها.
مسألة: "وإن خالعها على عبد فخرج معيبا فله أرشه أو رده وأخذ قيمته"؛ لأنه عوض في معاوضة فيستحق ذلك كالبيع والصداق.
مسألة: "وإن خرج معصوبا أو حرا فله قيمته" لأنه خالعها على عوض يظنه" مالا فبان غير مال فالخلع صحيح؛ لأنه معاوضة بالبضع فلا يفسد بفساد العوض كالنكاح فإذا ثبتت صحته فإنه يرجع عليها بقيمته لو كان عبدا؛ لأنها عين يجب تسليمها مع سلامتها مع بقاء سبب الاستحقاق فوجب بذلها مقدرا بقيمتها كالمغصوب والمعار.

فله قيمته ويصح الخلع من كل من يصح طلاقه ولا يصح بذل العوض إلا ممن يصح تصرفه في المال
ـــــــ
مسألة: "ويصح الخلع من كل من يصح طلاقه" مسلما كان أو ذميا لأنه إذا ملك الطلاق بغير عوض فبعوض أولى.
مسألة: "ولا يصح بذل العوض إلا ممن يصح تصرفه في المال" فلو خالعت المحجور عليها لسفه أو صغر أو جنون لم يصح الخلع؛ لأنه تصرف في المال وليس لهن أهلية التصرف فيه ويقع طلاقه رجعيا لأنه لم يسلم له العوض وسواء أذن لهن الولي أو لم يأذن لأنه ليس له الإذن في التبرعات وهذا تبرع.

كتاب الطلاق
مدخل...
كتاب الطلاقولا يصح الطلاق إلا من زوج مكلف مختار ولا يصح طلاق المكره ولا زائل العقل إلا السكران
ـــــــ
كتاب الطلاق
مسألة: "لا يصح الطلاق إلا من زوج مكلف مختار" فإما غير الزوج فلا يصح منه لقوله عليه السلام: "الطلاق لمن أخذ بالساق", وروى الخلال بإسناده عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق قبل نكاح" 1. فأما الصبي العاقل ففيه روايتان: إحداهما لا يقع طلاقه لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم" 2؛ ولأنه غير مكلف أشبه الطفل. والثانية: إن كان ابن عشر وعقل الطلاق صح منه لأنه عاقل أشبه البالغ. "وأما الطفل والمجنون والنائم والزائل العقل لمرض أو شرب دواء أو أكره على شرب الخمر فلا يقع طلاقه"؛ لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" 3. وغير الثلاثة مقيس عليهم.
مسألة: "إلا السكران" فإنه يقع طلاقه إذا كان سكره بغير عذر والشارب لما يزيل عقله من غير حاجة ففيه روايتان: إحداهما يقع طلاقه؛ لما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد إلى عمر فأتيته في المسجد ومعه عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن, فقلت: إن خالدا يقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة. فقال عمر: هؤلاء عندك فسلهم, فقال علي: تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال, فجعلوه كالصاحي ولأنه إيقاع الطلاق من مكلف صادق ملكه فوجب أن يقع كالصاحي ويدل على تكليفه أنه يقتل بالقتل ويقطع بالسرقة. والثانية: لا
ـــــــ
1 - رواه البخاري تعليقا في الطلاق: 9- باب لا طلاق قبل نكاح. والترمذي بنحوه في الطلاق: حديث رقم 1181. وقال: حسن صحيح.
2 - سبق تخريجه.
3 - سبق تخريجه.

ويملك الحر ثلاث تطليقات والعبد اثنتين سواء كان تحته حرة أو أمة فمتى استوفى عدد طلاقه لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويطأها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة
ـــــــ
يقع طلاقه وهو قول عثمان, وقال ابن المنذر: هذا ثابت عن عثمان ولا نعلم أحدا من الصحابة خالفه. قال الإمام أحمد: حديث عثمان أرفع شيء فيه وهو أصح, يعني: من حديث علي وحديث الأعمش عن منصور لا يرفعه إلى علي ولأنه زائل العقل أشبه المجنون والنائم ولأنه مفقود الإرادة أشبه المكره.
مسألة: "ويملك الحر ثلاث تطليقات والعبد اثنتين سواء كان تحته حرة أو أمة" روي ذلك عن عمر وابنه وجماعة من الصحابة؛ ولأن الله سبحانه خاطب الرجال بالطلاق فكان حكمه معتبرا بهم لأن الطلاق خالص حق الزوج وهو مما يختلف بالرق والحرية فكان اختلافه به لعدد المنكوحات؛ ولأن الحر يملك أن يتزوج أربعا فملك طلقات ثلاثا كما لو كان تحته حرة, وعنه أن الطلاق معتبر بالنساء فطلاق الأمة اثنتان حرا كان الزوج أو عبدا, وطلاق الحرة ثلاثة حرا كان زوجها أو عبدا, روي ذلك عن علي وابن مسعود ولما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان". ورواه أبو داود وابن ماجه1؛ ولأن المرأة محل الطلاق فيعتبر بها كالعدة والأولى أولى, وحديث عائشة قال أبو داود رواية مظاهر بن أسلم وهو منكر الحديث وقد أخرجه الدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلاق العبد اثنتان" فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وقرء الأمة حيضتان ويتزوج الحرة على الأمة ولا يتزوج الأمة على الحرة". وهو نص.
مسألة: "فمن استوفى عدد طلاقه لم تحل زوجته حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويطأها". أما الحرة فلقوله سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} 2,[وأما العبد فلحديث عائشة و يجب أن يكون النكاح صحيحا لأن الله سبحانه قال: { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ] أطلق النكاح وإنما يحمل المطلق من كلام الله سبحانه على الصحيح لا على الفاسد ويجب أن يطأها أيضا لما روت عائشة أن رفاعة طلق امرأته فبت طلاقها فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنها كانت عند رفاعة فطلقها ثلاث تطليقات فتزوجت بعده بعبد الرحمن ابن الزبير وإنما معه مثل الهدبة فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة, لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". متفق عليه3.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2189. وابن ماجه في الطلاق: حديث رقم 2079, 2080.
2 - سورة البقرة الآية 230.
3 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5265, 5317. ومسلم في النكاح: حديث رقم 111, 115.

رفاعة: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
ولا يحل جمع الثلاث ولا طلاق المدخول بها في حيضتها أو في طهر أصابها فيه؛ لما روى ابن عمر أنه طلق امرأة له وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها". والسنة في الطلاق أن يطلقها في طهر لم يصبها فيه واحدة ثم يدعها حتى
ـــــــ
مسألة: "ولا يحل جمع الثلاث" وهو إحدى الروايتين وهو طلاق بدعة, وهو محرم روي ذلك عن عمر وعلي وجماعة من الصحابة فروي عن عمر أنه كان إذا أتى برجل طلق ثلاثا أوجعه ضربا, وعن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله وأطاع الشيطان فلم يجعل الله له مخرجا؛ ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج من غير حاجة فحرم كالظهار, والرواية الأخرى أنه مكروه غير محرم لأن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله, متفق عليه1. ولم ينقل إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه, وفي حديث امرأة رفاعة أنها قالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي. متفق عليه2. وفي حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات3, والأولى أولى. وأما حديث المتلاعنين فغير لازم لأن الفرقة لم تقع بالطلاق وإنما وقعت بمجرد لعانها فلا حجة فيه وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون مقرا عليه على أن حديث فاطمة بنت قيس أنه أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها وحديث امرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات متفق عليه ولم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث.
مسألة: "ولا" يحل "طلاق المدخول بها في حيضها أو في طهر أصابها" فيه لأنه طلاق بدعة محرم, "لما روي أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "مره فليراجعها ثم يمسها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها" 4.
مسألة: "والسنة في الطلاق أن يطلقها في طهر لم يصبها فيه واحدة ثم يدعها حتى
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5308. ومسلم في اللعان: حديث رقم 9, 12.
2 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5260. ومسلم في الطلاق: حديث رقم 1, 2.
3- رواه النسائي في الطلاق: 7- باب الرخصة في ذلك: حديث رقم 2.
4 - رواه البخاري في الأحكام: حديث رقم 7160. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 70.

تنقضي عدتها فمتى قال لها أنت طالق للسنة وهي في طهر لم يصبها فيه طلقت وإن كانت في طهر أصابها فيه أو حيض لم تطلق حتى تطهر من حيضة, وإن قال لها: أنت طالق للبدعة وهي حائض أو في طهر أصابها فيه طلقت وإن لم تكن كذلك لم تطلق حتى يصيبها أو تحيض. فأما غير المدخول بها والحامل التي تبين حملها والآيسة والتي لم تحض فلا سنة لطلاقها ولا بدعة فمتى قال لها أنت طالق للسنة أو للبدعة طلقت في الحال
ـــــــ
تنقضي عدتها" أجمعوا على أن هذا مصيب للسنة مطلق للعدة التي أمر الله سبحانه بها. قاله ابن المنذر وابن عبد البر "فمتى قال أنت طالق للسنة وهي في طهر لم يصبها فيه طلقت" في الحال؛ لأنه وصف الطلقة بصفتها فوقعت في الحال. "وإن قال ذلك لها" وهي في طهر أصابها فيه لم يقع حتى تحيض ثم تطهر"؛ لأن الطهر الذي جامعها فيه والحيض بعده زمن بدعة, فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة طلقت حينئذ لأن الصفة وجدت.
مسألة: "وإن قال ذلك لحائض لم يقع في الحال لأن طلاقها طلاق بدعة لكن إذا طهرت طلقت لأن الصفة وجدت حينئذ".
مسألة: "وإن قال لها أنت طالق للبدعة وهي حائض أو في طهر أصابها فيه طلقت" وإن كانت في طهر لم يصبها فيه طلقت إذا أصابها أو حاضت, وهذه المسألة عكس التي قبلها لأنه وصف الطلقة بأنها للبدعة فإن قال ذلك لحائض أو طاهر طهرا قد أصابها فيه وقع الطلاق لأنه وصف الطلقة بصفتها وإن كانت في طهر لم يصبها فيه لم يقع في الحال فإذا حاضت طلقت بأول جزء من الحيض وإن أصابها طلقت بالتقاء الختانين لأن ذلك وطء.
مسألة: "فأما غير المدخول بها والحامل التي تبين حملها والآيسة والصغيرة التي لم تحض فلا سنة" لها "ولا بدعة فمتى قال لها: أنت طالق للسنة أو للبدعة طلقت في الحال". قال ابن عبد البر: أجمع العلماء أن طلاق السنة إنما هو للمدخول بها أما غير المدخول بها فليس لطلاقها سنة ولا بدعة إلا في عدد الطلاق لأن العدة تطول عليها بالطلاق في الحيض وترتاب بالطلاق في الطهر الذي جامعها فيه وينتفي عنها الأمران بالطلاق في طهر لم يجامعها فيه, بخلاف غير المدخول بها فإنه لا عدة عليها بنفي تطويلها أو الارتياب فيها, وكذلك ذوات الأشهر وهي الصغيرة التي لم تحض والآيسة لا سنة لطلاقها ولا بدعة؛ لأنها لا تحمل, فترتاب ولا تطول العدة بطلاقها, وكذلك الحامل التي استبان حملها فهؤلاء الأربعة ليس لطلاقهن سنة ولا بدعة, فإذا قال لإحداهن: أنت طالق للسنة أو للبدعة طلقت في الحال ولغت الصفة لأن طلاقهن لا يتصف بذلك فصار كأنه قال: أنت طالق ولم يزد وأما العدد فيكره له أن يطلق واحدة منهن ثلاثا لأنه لا يبقى له سبيل إلى الرجعة فطلاق السنة في حقهم واحدة ليكون له سبيل إلى الرجعة من غير أن تنكح زوجا غيره.

باب صريح الطلاق و كنايته
...
باب صريح الطلاق وكنايته
صريحه لفظ الطلاق ما تصرف منه كقوله: أنت طالق أو مطلقة وطلقتك فمتى أتى به بصريح الطلاق طلقت وإن لم ينوه وما عداه مما يحتمل الطلاق فكناية لا يقع به الطلاق إلا أن ينويه فلو قيل له ألك امرأة؟ قال: لا ينوي الكذب لم تطلق فإن قال: طلقتها طلقت وإن نوى الكذب وإن قال لامرأته أنت خلية أو برية أو بائن
ـــــــ
باب صريح الطلاق وكنايته
"صريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه كقوله أنت طالقة أو مطلقة أو طلقتك فمتى أتى" به "طلقت وإن لم ينوه" لأنه موضوع له على الخصوص ثبت له عرف الشرع والاستعمال.
مسألة: "وما عداه مما يحتمل الطلاق فكناية لا يقع به الطلاق إلا أن ينويه فلو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا ينوي الكذب لم تطلق" لأن قوله ما لي امرأة كناية تفتقر إلى نية الطلاق, وإذا نوى الكذب فما نوى الطلاق فلم يقع. "فإن قال: طلقتها طلقت وإن نوى الكذب"؛ لأنه أتى بالصريح الذي لا يحتمل غير الطلاق.
مسألة: "وإن قال لامرأته أنت خلية أو برية أو بائن أو بتة أو بتلة ينوي طلاقها طلقت ثلاثا إلا أن ينوي دونها" في هذه الألفاظ في المذهب روايتان: الأولى هي ثلاث وإن نوى واحدة؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عمر وزيد ولم ينقل خلافهم فكان إجماعا؛ ولأنه لفظ يقتضي البينونة بالطلاق فوقع ثلاثا كما لو طلق ثلاثا واقتضاؤه البينونة ظاهر في قوله أنت بائن, وكذلك البتة لأن البت القطع كأنه قطع النكاح كله وبتلة مثله والخلية والبرية يقتضيان الخلو من النكاح والبراءة منه ولا سبيل إلى البينونة بدون الثلاث ولا يمكن إيقاع واحدة بائن لأنه لا يقدر على ذلك بالصريح من غير عوض فكذلك الكناية, والثانية يقع ما نواه اختاره أبو الخطاب؛ لما روى أبو داود أن ركانة طلق امرأته سهمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أردت إلا واحدة"؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة, فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم1, إلا أن أحمد ضعفه, وروى عنه حنبل رواية ثالثة تقع واحدة بائنة لأنه لفظ أقتضى البينونة دون العدد فوقعت واحدة بائنة كالخلع وذكر أصحابنا من جملة هذه الألفاظ: أنت للحرج
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2196.

أو بتة أو بتلة ينوي بها طلاقها طلقت ثلاثا إلا أن ينوي دونها وما عدا هذا يقع به واحدة إلا أن ينوي ثلاثا وإن خير امرأته فاختارت نفسها طلقت واحدة, وإن لم تختر أو اختارت زوجها لم يقع شيء. قالت عائشة: قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا؟ وليس لها أن تختار إلا في المجلس إلا أن يجعله لها فيما بعده
ـــــــ
والحقي بأهلك وحبلك على غاربك وأنت حرة ولم يذكرها شيخنا ها هنا أما قوله أنت الحرج وأنت حرة فقال شيخنا: لم يذكرهما لأنه مختلف فيهما ولم يذكرهما الخرقي في الظاهر ولم يعرف فيهما دليلا ظاهرا فتركناهما لذلك, و أما الحقي بأهلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة تزوجها: "الحقي بأهلك". ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليطلق ثلاثا, فإن طلاق الثلاث محرم أو مكروه ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل المحرم ولا المكروه, وقد ذكر الأثرم هذا للإمام أحمد فسكت ولم يجب, والظاهر أنه رجع عن قوله إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه قوله: "الحقي بأهلك" لا يقتضي لفظ الثلاث ولا معناه فإنها قد تلحق بأهلها بطلقة واحدة, وأما قوله حبلك على غاربك فلا نعلم فيه دليلا على الثلاث ولا في لفظها ما يقتضيه فهو كقوله: "الحقي بأهلك".
مسألة: "وما عدا هذا يقع به واحدة" يعني الكنايات الخفية نحو اخرجي واذهبي وذوقي وتجرعي وخليتك وأنت مخلاة وأنت واحدة ولست لي بامرأة واعتدي واستبرئي واعتزلي واختاري ووهبتك لأهلك وسائر ما يدل على الفرقة فهذا يقع به واحدة لأنها اليقين "إلا أن ينوي ثلاثا" لأنه محتمل.
مسألة: "وإن خير امرأته فاختارت نفسها طلقت واحدة" لأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم, فروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وجابر وعبد الله بن عمر وعائشة أنهم قالوا في الخيار: إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها. رواه البخاري عنهم بأسانيده؛ ولأن قوله اختاري تفويض مطلق فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم وذلك طلقة واحدة, ولا يجوز أن يكون بائنا لأنها بغير عوض لم يكمل بها العدد بعد الدخول فأشبه ما لو طلقها واحدة.
مسألة: "وإن لم تختر أو اختارت زوجها لم يقع شيء قالت عائشة رضي الله عنها: قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا؟".
مسألة: "وليس لها أن تختار إلا في المجلس" وذلك أن أكثر أهل العلم على أن التخيير على الفور روي ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود وجابر ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعا.
مسألة: "إلا أن يجعله لها فيما بعد" المجلس فيجوز لأن الحق له ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال

وإن قال: أمرك بيدك أو طلقي نفسك فهو في يده ما لم يفسخ أو يطأ.
ـــــــ
لعائشة لما خيرها: "إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك" 1. فجعل لها الخيار على التراخي. فأما من أطلق الخيار فهو مقصور على المجلس. قال الإمام أحمد رحمه الله: الخيار على مخاطبة الكلام أن تجاوبه ويجاوبها إنما هو جواب كلام إن أجابته من ساعته وإلا فلا شيء.
مسألة: "وإن قال" لها "أمرك بيدك أو طلقي نفسك فهو في يدها ما لم يفسخ أو يطأ" متى قال لزوجته أمرك في يدك فلها أن تطلق نفسها ثلاثا وإن نوى واحدة. قاله عثمان وابن عمر وابن عباس وعلي رضي الله عنهم. قال القاضي: وقد نقل عن الإمام أحمد ما يدل على أنه إذا نوى واحدة فهي واحدة؛ لأنه نوع تخيير فرجع إلى نيته فيه كقوله اختاري, ودليل الأولى أنه لفظ يقتضي العموم في جميع أمرها لأنه اسم جنس مضاف فيتناول الثلاث كما لو قال طلقي نفسك ما شئت ويقبل قوله أردت واحدة لأنه خلاف ما يقتضيه اللفظ وهو في يدها ما لم يفسخ أو يطأ؛ لما روي عن علي في رجل جعل أمر امرأته بيدها قال: هو لها حتى ينكل؛ ولأنه توكيل في الطلاق فكان على التراخي كما لو قال لأجنبي: أمر امرأتي بيدك وفارق قوله اختاري فإنه تخيير فإن رجع الزوج فيما جعل إليها أو قال: فسخت ما جعلت إليك بطل لأنه توكيل فأشبه التوكيل في البيع وإن وطئها قبل اختيارها نفسها كان رجوعا؛ لأنه نوع توكيل والتصرف فيما وكل فيه يبطل الوكالة كذا ها هنا تصرفه بالوطء يبطل وكالته.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في المظلم: حديث رقم 2468. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 89.

باب تعليق الطلاق بالشروط
يصح تعليق الطلاق والعتاقة بشرط بعد النكاح والملك ولا يصح قبله فلو قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق أو ملكتها فهي حرة فتزوجها أو ملكها لم تطلق
ـــــــ
باب تعليق الطلاق بالشروطمسألة: "يصح تعليق الطلاق والعتاق بشروط بعد النكاح والملك ولا يصح قبله فلو قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق وإن ملكتها فهي حرة فتزوجها أو ملكها لم تطلق ولم تعتق"؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها" 1. رواه الدارقطني, وفي لفظ: "لا طلاق فيما لا يملك". رواه الترمذي وقال: حديث حسن, وعنه ما يدل على أن الطلاق يقع لأنه يصح تعليقه على الإحضار فصح تعليقه على الملك كالوصية, والمذهب الأول لأن من لا يقع طلاقه بالمباشرة لا يصح تعليقه كالمجنون.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

ولم تعتق, وأدوات الشروط ست: إن, وإذا, وأي, ومتى, ومن, وكلما, وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا كلما, وكلها إذا كانت مثبتة ثبت حكمها عند وجود شرطها, فإذا قال: إن قمت فأنت طالق فقامت طلقت وانحل شرطه, وإن قال: كلما قمت فأنت طالق طلقت كلما قامت وإن كانت نافية كقوله إن لم أطلقك فأنت طالق كانت على التراخي إذا لم ينو وقتا بعينه فلا يقع الطلاق إلا في آخر أوقات الإمكان, وسائر الأدوات على الفور, فإذا قال: متى لم أطلقك فأنت طالق ولم يطلقها طلقت في الحال, وإن قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق فمضى زمن يمكن طلاقها فيه ثلاثا ولم
ـــــــ
مسألة: "وأدوات الشرط ست: إن, وإذا, وأي, ومتى, ومن, وكلما, وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا كلما" فإذا قال: إن قمت فأنت طالق فقامت طلقت وإن تكرر القيام لم يتكرر الطلاق, وكذا سائرها لأن اللفظ لا يقتضي التكرار لغة, وإن قال: كلما قمت فأنت طالق فقامت طلقت وإن تكرر القيام تكرر الطلاق لأن اللفظ يقتضي التكرار لغة.
مسألة: "وكلها إذا كانت مثبتة ثبت حكمها عند وجود شرطها فإذا قال: إن قمت فأنت طالق فقامت طلقت وانحل شرطه" لأنها تقتضي ذلك "وإن قال: كلما قمت فأنت طالق طلقت كلما قامت" لأنها تقتضي التكرار.
مسألة: "وإن كانت نافية -كقوله: إن لم أطلقك فأنت طالق" -كانت "على التراخي إذا لم ينو وقتا بعينه فلا يقع الطلاق إلا في آخر أوقات الإمكان", وذلك في آخر جزء من حياة أحدهما لا نعلم في هذا خلافا؛ لأن حرف "إن" مجرد يقتضي التراخي إلا أن ينوي وقتا بعينه فيتقيد بذلك الوقت, كقوله إن لم أطلقك -ينوي اليوم- فأنت طالق فإنه يتقيد باليوم, فإذا خرج اليوم ولم يطلقها طلقت.
مسألة: "وسائر الأدوات على الفور" يعني إذا كانت نافية وإن تجردت عن النفي فهي على التراخي مثل قوله: إن خرجت وإذا خرجت ومتى خرجت وأي حين خرجت ومن خرجت منكن وكلما خرجت فأنت طالق, فمتى وجد الخروج طلقت وإن كانت نافية فكلها على الفور؛ لأنها تقتضي ذلك إلا إن على ما سبق. "فإذا قال: متى لم أطلقك فأنت طالق ولم يطلقها طلقت في الحال" لذلك, "وإن قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق فمضى زمان يمكن طلاقها فيه ثلاثا ولم يطلقها طلقت ثلاثا" لأن كلما تقتضي التكرار. قال الله سبحانه: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ}, فيقتضي تكرار الطلاق بتكرار الصفة والصفة عدم تطليقه لها, فإذا مضى زمن يمكن أن يطلقها فيه بعد يمينه فلم يطلقها فقد وجدت الصفة فتقع طلقة وتتبعها الثانية والثالثة "إن كانت مدخولا بها" وإلا بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأن البائن لا يلحقها طلاق.

يطلقها طلقت ثلاثا إن كانت مدخولا بها, وإن قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق فولدت توأمين طلقت بالأول وبانت بالثاني؛ لانقضاء عدتها به ولم تطلق به, وإن قال: إن حضت فأنت طالق طلقت بأول الحيض فإن تبين أنه ليس بحيض لم تطلق.
فإن قالت: قد حضت فكذبها طلقت, وإن قال: قد حضت وكذبته طلقت بإقراره, فإن قال: إن حضت فأنت وضرتك طالقتان, فإن قالت: قد حضت قكذبها طلقت دون ضرتها.
ـــــــ
مسألة: "وإن قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق فولدت توأمين طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به"؛ لأن العدة انقضت بوضع الثاني فصادفها الطلاق بائنا فلم يقع كما لو قال: إذا مت فأنت طالق.
مسألة: "وإن قال: إن حضت فأنت طالق طلقت بأول الحيض"؛ لأن الصفة وجدت ولذلك حكمنا به حيضا في المنع من الصلاة والصيام والوطء "فإن تبين أنه ليس بحيض لم تطلق" لأنا تبينا أن الصفة لم توجد.
مسألة: "فإن قالت: قد حضت فكذبها طلقت" لأنه يقبل قولها في حق نفسها لقوله سبحانه: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} 1, فلولا أن قولهن مقبول ما حرم الله عليهن كتمانه ويصير كقوله سبحانه: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}, يدل على قبولها ولأنه لا يعرف إلا من جهتها.
مسألة: "وإن قال: إن قد حضت فكذبته طلقت بإقراره".
مسألة: "وإن قال: حضت فأنت وضرتك طالقتان فقالت: قد حضت فكذبها طلقت دون ضرتها"؛ لأن قولها مقبول على نفسها ولم تطلق الضرة إلا أن تقوم بينة على حيضها.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 228.

باب ما يختلف به عدد الطلاق و غيره
...
باب ما يختلف به عدد الطلاق وغيره
المرأة إذا لم يدخل بها تبينها الطلقة وتحرمها الثلاث من الحر والاثنتان من العبد إذا وقعت مجموعة كقوله: أنت طالق ثلاثا أو أنت طالق وطالق وطالق وإن
ـــــــ
باب ما يختلف به عدد الطلاق وغيره
مسألة: "المرأة إذا لم يدخل بها تبينها الطلقة وتحرمها الثلاث من الحر والاثنتان من العبد إذا وقعت مجموعة كقوله أنت طالق ثلاثا أو" قوله "أنت طالق وطالق وطالق", وذلك أن غير المدخول بها تبين بطلقة لقوله سبحانه: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}, وأما كونها تحرم بالثلاث من الحر فلقوله سبحانه: {الطَّلاَقُ

أوقعه مرتبا كقوله أنت طالق فطالق أو ثم طالق أو طالق بل طالق أو أنت طالق أنت طالق وإن طلقتك فأنت طالق ثم طلقها أو كلما طلقتك فأنت طالق أو كلما ثم أطلقك فأنت طالق وأشباه هذا لم يقع بها إلا واحدة, وإن كانت مدخولا بها وقع بها جميع ما أوقعه ومن شك في الطلاق أو عدده أو الرضاع أو عدده بنى على اليقين وإن قال لنسائه: إحداكن طالق ولم ينو واحدة بعينها خرجت بالقرعة وإن طلق جزءا
ـــــــ
مَرَّتَانِ} 1, ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ}, وتحرم الاثنتان من العبد روي ذلك عن علي وابن مسعود لما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلاق العبد اثنتان فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وقرء الأمة حيضتان. ويتزوج الحرة على الأمة ولا يتزوج الأمة على الحرة"2. وهذا النص رواه الدارقطني.
مسألة: "وإن أوقعه مرتبا كقوله أنت طالق فطالق" أو "طالق ثم طالق أو طالق بل طالق أو أنت طالق أنت طالق أو إن طلقتك فأنت طالق ثم طلقها أو كلما طلقتك فأنت طالق أو كلما لم أطلقك فأنت طالق وأشباه هذا لم يقع إلا واحدة" لأنها تبين بالأولى فلا تقع الثانية لأنها حروف تقتضي الترتيب فتقع الأولى بها فتبينها ثم تأتي الثانية فتصادفها قد بانت عن نكاحه فتلغو.
مسألة: "ولو كانت مدخولا بها وقع بها جميع ما أوقعه" لأنها لا تبينها الأولى فتأتي الثانية فتصادف محل النكاح فتقع.
مسألة: "ومن شك في الطلاق أو عدده أو الرضاع أو عدده بنى على اليقين" لأن النكاح من متيقن فلا يزول عنه بالشك.
مسألة: "وإن قال لنسائه: إحداكن طالق ولم ينو واحدة بعينها أخرجت بالقرعة" لأن الحقوق إذا تساوت على وجه لايمكن التمييز إلا بالقرعة صح استعمالها كالشريكين إذا اقتسما فإنه يسوى بينهما ويقرع بينهما, وكذلك العبيد إذا أعتقهم في مرضه ولم يخرج من ثلثه إلا واحد منهم فإنه يقرع بينهم فكذلك ها هنا.
مسألة: "وإن طلق جزءا من امرأته مشاعا أو معينا كإصبعها أو يدها طلقت كلها" لأنها جملة لا تتبعض في الحل والحرمة وجد فيها ما يقتضي التحريم والإباحة فغلب فيها حكم التحريم كما لو اشترك مسلم ومجوسي في صيد ولأنه أضاف الطلاق إلى جزء ثابت استباحه بعقد النكاح فأشبه الجزء الشائع فإن من خالف في ذلك قد سلمه
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 229.
2 - سبق تخريجه.

من امرأته مشاعا أو معينا كإصبعها أو يدها طلقت كلها إلا الظفر والسن والشعر والريق والدمع ونحوه لا تطلق به وإن قال: أنت طالق نصف تطليقة أو أقل من هذا طلقت واحدة.
ـــــــ
مسألة: "إلا الظفر والسن والشعر والريق والدمع ونحوه لا تطلق به" لأنه جزء ينفصل عنها في حال السلامة فلم تطلق بطلاقه كالحمل والريق؛ ولأن الشعر لا روح فيه ولا ينقض الوضوء مسه فأشبه العرق والريق واللبن وقبل تطلق إذا طلق الظفر والشعر والسن لأنه جزء يستباح بنكاحها أشبه الإصبع ولنا ما سبق وأما الإصبع فإنها لا تنفصل في حال السلامة بخلاف السن فإن ماله إلى الانفصال والدمع والعرق والحمل والريق متفق عليها لا نعلم فيها خلافا.
مسألة: "وإن قال: أنت طالق نصف تطليقة أو أقل من هذا طلقت واحدة" لأن الطلقة لا تتبعض فتقع كلها لأن ذكر ما لا يتبعض في الطلاق مثل ذكر جميعه كما لو قال نصفك طالق. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أنها تطلق بذلك إلا داود.

باب الرجعة
إذا طلق امرأته بعد الدخول بغير عوض أقل من ثلاث أو العبد أقل من اثنتين فله رجعتها ما دامت في العدة لقول الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} والرجعة أن يقول لرجلين من المسلمين: اشهدا أنني قد راجعت زوجتي أو رددتها أو أمسكتها من غير ولي ولا صداق يزيده ولا رضائها وإن وطئها كان رجعة.
ـــــــ
باب الرجعةمسألة: "وإذا طلق" الرجل "امرأته بعد الدخول بغير عوض أقل من ثلاث أو العبد أقل من اثنتين فله رجعتها ما دامت في العدة" لقوله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} 1, يعني فى العدة ذكر ذلك بعد قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2, والمراد بهذه الآية المدخول بها بدليل أن غير المدخول بها ليس عليها عدة بقوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.
مسألة: "والرجعة أن يقول لرجلين من المسلمين: اشهدا أني قد راجعت زوجتي أو رددتها أو أمسكتها من غير ولي ولا صداق يزيده ولا رضاها" للآية.
مسألة: "وإن وطئها كانت رجعة" سواء نوى الرجعة أو لم ينو لأن سبب زوال
ـــــــ
1 - سورة البقرة: 228.
2 - سورة البقرة: الآية 228.

والرجعية زوجة يلحقها الطلاق والظهار ولها التزين لزوجها والتشرف له وله وطؤها والخلوة والسفر بها, وإذا ارتجعها عادت على ما بقي من طلاقها ولو تركها حتى بانت ثم نكحت زوجا غيره ثم بانت منه وتزوجها الأول رجعت إليه على ما بقي
ـــــــ
الملك انعقد مع الخيار فالوطء من المالك يمنع زوال الملك كوطء البائع في مدة الخيار.
مسألة: "والرجعية زوجة" بدليل أن الله سبحانه سمى الرجعة إمساكا بقوله سبحانه: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}, وسمى المطلقين بعولة فقال عز من قائل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}. فـ "يلحقها" طلاقه وظهاره ولعانه وخلعه ويرثها وترثه لأنها زوجته فثبت فيها ذلك كما قبل الطلاق.
مسألة: "ولها التزين لزوجها والتشرف له وله وطؤها والخلوة والسفر بها" لذلك؛ ولأن الله سبحانه قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} 1, وهذه زوجة فيباح له منها ما يباح من الزوجات.
مسألة: "وإذا ارتجعها عادت على ما بقي من طلاقها" ولا تخلو المطلقة من ثلاثة أحوال: الأول أن يطلقها ثلاثا فتنكح زوجا غيره ويصيبها ثم يتزوجها الأول فهذه تعود إليه على طلاق ثلاث بإجماع منهم. قاله ابن المنذر, والثاني: أن يطلقها دون الثلاث ثم تعود إليه برجعة أو نكاح جديد قبل زوج ثان فهذه تعود إليه على ما بقي من طلاقها بغير خلاف نعلمه. الثالث: طلقها دون الثلاث فقضت عدتها ثم نكحت غيره ثم تزوجها الأول فإنها تعود إليه على ما بقي من الثلاث وهو قول الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وعلي وأبى ومعاذ وعمران بن حصين وأبي هريرة وزيد وعبد الله بن عمر, وعنه تعود إليه على طلقات ثلاث وهو قول ابن عمر وابن عباس لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل فيثبت حلا يتسع لثلاث طلقات كما بعد الثلاث؛ ولأن وطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث فأولى أن يهدم ما دونها, ودليل الأولى أن وطء الثاني لا يحتاج إليه لإحلال الزوج الأول فلا يعتبر حكم الطلاق كوطء السيد؛ ولأنه تزويج قبل استيفاء الثلاث فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني, وقولهم إن وطء الثاني يثبت الحل فلا يصح لوجهين: أحدهما منع كونه مثبتا للحل أصلا وإنما هو في الطلاق الثلاث غاية للتحريم بدليل قوله: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}, وحتى للغاية وإنما سمى النبي صلى الله عليه وسلم الزوج الذي قصد الحلية محللا تجوزا بدليل أنه لعنه ومن أثبت حلا لا يستحق لعنا الثاني أن الحل إنما يثبت في محل فيه تحريم وهي المطلقة ثلاثا, وها هنا هي حلال له فلا يثبت فيها حل آخر وقولهم إنه يهدم الطلاق قلنا بل هو غاية لتحريمه وما دون الثلاث لا تحريم فيه فلا يكون غاية له.
ـــــــ
1 - سورة المؤمنون: الآية 5.

من طلاقها, وإذا اختلفا في انقضاء عدتها فالقول قولها مع يمينها إذا ادعت من ذلك ممكنا, وإن ادعى الزوج بعد انقضاء عدتها أنه قد راجعها في عدتها فأنكرته فالقول قولها, وإن كانت له بينة حكم له بها فإن كانت قد تزوجت ردت إليه سواء كان دخل بها الثاني أو لم يدخل بها.
ـــــــ
مسألة: "وإذا اختلفا في انقضاء عدتها فالقول قولها مع يمينها إذا ادعت من ذلك ممكنا" لقول الله سبحانه: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}, فلولا أن قولهن مقبول ما حرم عليهن كتمانه كالشهود لما حرم عليهم كتمان الشهادة دل على قبولها منهم, وقوله: إذا ادعت من ذلك ممكنا يعني أنها تدعي انقضاء عدتها بالقروء في زمان يمكن انقضاؤها فيه كالشهرين ونحوهما, وإن ادعت انقضاءها في مدة لا يمكن انقضاؤها فيها لم تسمع دعواها مثل أن تدعي انقضاءها بالقروء في أقل من ثمانية وعشرين يوما إذا قلنا الأقراء الأطهار أو في أقل من تسعة وعشرين يوما إذا قلنا هي الحيض, لأننا نعلم كذبها وإن ادعت انقضاءها بالقروء في شهر لم تقبل دعواها إلا ببينة؛ لأنه يروى عن علي ولأنه يندر جدا فيرجع ببينة فإذا زاد على الشهرين لم يندر كندرته في الشهر فقبل من غير بينة.
مسألة: "وإن ادعى الزوج بعد انقضاء عدتها أنه قد كان راجعها في عدتها فأنكرته فالقول قولها" بإجماعهم؛ لأنه ادعاها في زمن لا يملكها والأصل عدم الرجعة وحصول البينونة.
مسألة: "وإن كانت له بينة حكم له بها"؛ لقوله: "البينة على المدعي". "فإن كانت قد تزوجت ردت إليه سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل بها" لأنها زوجته فترد إليه كما لو لم يتزوج.

باب العدة
ولا عدة على من فارقها زوجها في الحياة قبل المسيس والخلوة لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}, والمعتدات ينقسمن أربعة أقسام :
إحداهن: أولات الأحمال فعدتهن أن يضعن حملهن
ـــــــ
باب العدةمسألة: "ولا عدة على من فارقها زوجها في الحياة قبل المسيس" لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.
مسألة: "والمعتدات ينقسمن أربعة أقسام: إحداهن أولات الأحمال فعدتهن أن

ولو كانت حاملا بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما والحمل الذي تنقضي به العدة وتصير به الأمة أم ولد ما يتبين فيه خلق الإنسان.
الثاني: اللاتي توفي أزواجهن {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} والإماء على النصف من ذلك وما قبل المسيس وما بعده سواء.
الثالث: المطلقات من ذوات القروء {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقرء الأمة حيضتان
ـــــــ
يضعن حملهن" حرائر كن أو إماء من فرقة الحياة أو الممات لقوله سبحانه: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 1.
مسألة: "ولو كانت حاملا باثنين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما" للآية.
مسألة: "والحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه" شيء "من خلق الإنسان"؛ لأنه ولد. "الثاني: اللاتي توفي أزواجهن {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} " إن كانت حرة وشهرين وخمسة أيام إن كانت أمة وسواء مات قبل الدخول أو بعده إذا لم تكن حاملا لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} 2, وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا". متفق عليه3.
مسألة: "والأمة على النصف من ذلك" لأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن عدة الأمة المطلقة نصف عدة الحرة فيجب أن يكون المتوفى عنها زوجها عدتها نصف عدة الحرة. "الثالث: المطلقات من ذوات القروء {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقرء الأمة حيضتان"؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلاق الأمة طلقتان وقرءها حيضتان" 4.
فصل: وفي الأقراء روايتان: إحداهما هي الحيض لهذا الخبر وقول الصحابة رضي الله عنهم و قوله عليه السلام: "تدع الصلاة أيام أقرائها". رواه أبو داود5, وقال لفاطمة: "فإذا أتى قرءك فلا تصلي وإذا مر قرءك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء". رواه النسائي6؛ ولأنه
ـــــــ
1 - سورة الطلاق: الآية 4.
2 - سورة البقرة: الآية 234.
3 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5334. ومسلم في الطلاق: حديث رقم 58, 59.
4 - سبق تخريجه.
5 - رواه أبو داود في الطهارة: حديث رقم 281.
6 - رواه النسائي في الطهارة: 136- باب ذكر الأقراء: حديث رقم 3.

الرابع: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} والأمة شهران,
ويشرع التربص مع العدة في ثلاثة مواضع :
أحدها: إذا ارتفع حيض المرأة لا تدري ما رفعه فإنها تتربص تسعة أشهر ثم تعتد عدة الآيسات وإن عرفت ما رفع
ـــــــ
معنى يستبرئ به الرحم فكان بالحيض كاستبراء الأمة, والثانية: القروء للأطهار لقوله سبحانه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}, إلا في عدتهن وإنما تطلق في الطهر فإذا قلنا هي الحيض لم يحتسب بالحيضة التي طلقها فيها حتى تأتي بثلاث كاملة بعدها لقوله سبحانه: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}, فتتناول الكاملة فإذا انقطع دمها من الثالثة حلت في إحدى الروايتين لأن ذلك أخر القروء وفي الأخرى لا تحل حتى تغتسل من الحيضة الثالثة؛ لأنه يروى عن الأكابر من الصحابة رضي الله عنهم: أبي بكر وعثمان وعبادة وأبي موسى وأبي الدرداء رضي الله عنهم, وإن قلنا الإقراء الأطهار أحتسبت بالطهر الذي طلقها فيه قرءا ولو بقي منه لحظة لقوله سبحانه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}, أي في عدتهن, وإنما يكون في عدتهن إذا احتسبن بت؛ ولأن الطلاق إنما جعل في الطهر دون الحيض كي لا يضر بها فتطول عدتها ولو لم تحتسب ببقية الطهر قرءا لم تقض عدتها بالطلاق فيه, وآخر العدة آخر الطهر. الثالث: إذا رأت الدم بعده انقضت عدتها. "الرابع: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} "؛ لقوله سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} 1, هذا إذا كانت حرة, "و" إن كانت "أمة" فعدتها "شهران"؛ لأن كل شهر مكان قرء وعدتها بالإقراء قرآن, وعنه عدتها ثلاثة أشهر لعموم الآية ولأن اعتبار الشهور لمعرفة براءة الرحم ولا تحصل بأقل من ثلاثة, وعنه عدتها شهر ونصف لأن عدتها نصف عدة الحرة, وإنما كملنا الأقراء لتعذر تنصيفها وتنصيف الأشهر ممكن.
مسألة: "ويشرع التربص مع العدة في ثلاثة مواضيع: أحدها إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فإنها تتربص تسعة أشهر ثم تعتد عدة الآيسات" تسعة أشهر للحمل؛ لأنها غالب مدته ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر عدة الآيسات. قال الشافعي رحمه الله: هذه فتيا عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكرها منكر علمناه فصار إجماعا.
مسألة: "وإن عرفت ما رفع الحيض" من مرض أو رضاع أو نفاس "فإنها تنتظر زوال العارض وعود الدم وإن طال فإن عاد الدم اعتدت به" ,وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن يحيى بن حبان أنه كان عند جده امرأتان هاشمية وأنصارية فطلق الأنصارية وهي ترضع
ـــــــ
1 - سورة الطلاق: الآية 4.

الحيض لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به. الثاني: المفقود الذي فقد في مهلكة أو من بين أهله فلم يعلم خبره تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة, وإن فقد في غير هذا كالمسافر للتجارة ونحوها لم تنكح حتى تتيقن موته. الثالث: إذا ارتابت
ـــــــ
فمرت بها سنة ثم هلك ولم تحض, فقالت الأنصارية: لم أحض فاختصموا إلى عثمان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان, فقال: هذا عمل ابن عمك هو أشار علينا بهذا يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه. "الثاني: امرأة المفقود الذي", انقطع خبره وهو قسمان: أحدهما أن تكون غيبة ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله ليلا أو نهارا أو في مفازة مهلكة أو بين الصفين, فإن زوجته "تتربص أربع سنين" أكثر مدة الحمل "ثم تعتد للوفاة" أربعة أشهر وعشرا وتحل للأزواج, وهو قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير. قال الإمام أحمد: من ترك هذا القول أي شيء يقول؟ هو عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. القسم الثاني: "من انقطع خبره لغيبة ظاهرها السلامة" كالتاجر والسائح, فإن امرأته تبقى أبدا إلى أن "تتيقن موته"؛ لأنها زوجته بيقين فلا تزول بالشك, روي ذلك عن علي رضي الله عنه, وعنه إذا مضى له تسعون سنة قسم ماله وهذا يقتضي أن زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج. قال أصحابنا: إنما اعتبروا التسعين سنة من يوم ولادته لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر, فإذا اقترن به انقطاع خبره وجب الحكم بموته كما لو كان فقده لغيبة ظاهرها الهلاك, والمذهب الأول؛ لأن هذه غيبة ظاهرها السلامة فلم يحكم بموته كما قبل الأربع سنين أوكما قبل التسعين. "الثالث: إذا ارتابت المرأة قبل قضاء عدتها لظهور أمارات الحمل" من الحركة وانتفاخ البطن وانقطاع الحيض "لم تنكح حتى تزول الريبة" , وذلك أن المرتابة لا تخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن تحدث لها الريبة قبل انقضاء عدتها فإنها تبقى في حكم الإعتداد حتى تزول الريبة فإن بان حمل انقضت عدتها بوضعه, وإن زال وبان أنه ليس بحمل تبينا أن عدتها انقضت بمضي الأقراء والشهور, فإن تزوجت قبل زوال الريبة لم يصح النكاح لأنها تزوجت وهي في حكم المعتدة في الظاهر. الثاني: أن تظهر الريبة بعد قضاء العدة والتزويج فالنكات صحيح لأنه وجد بعد انقضاء العدة والحمل مع الريبة مشكوك فيه فلا يزول به ما حكم بصحته لكن لا يحل لزوجها وطئها لأنا شككنا في صحة النكاح, ثم ننظر فإن وضعت الولد لأقل من ستة أشهر منذ تزويجها الثاني ووطئها فنكاحه باطل؛ لأنه نكحها وهي حامل, وإن أتت به لأكثر من ذلك فالولد لاحق به والنكاح صحيح. الحال الثالث: ظهرت الريبة بعد قضاء العدة وقبل النكاح ففيه وجهان: أحدهما لا يحل لها أن تتزوج فالنكاح باطل؛ لأنها تزوجت مع الشك في انقضاء العدة فلم يصح كما لو وجدت الريبة في العدة. والثاني: يحل لها النكاح ويصح لأننا حكمنا بانقضاء العدة وحل النكاح وسقوط النفقة.

المرأة بعد انقضاء عدتها لظهور أمارات الحمل لم تنكح حتى تزول الريبة فإن نكحت لم يصح النكاح وإن ارتابت بعد نكاحها لم يبطل نكاحها إلا إن علمت أنها نكحت وهي حامل, ومتى نكحت المعتدة فنكاحها باطل ويفرق بينهما وإن فرق
ـــــــ
والسكنى فلا يجوز زوال ما حكم به في الشك الطارىء ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغير اجتهاده ورجوع الشهود.
مسألة: "ومتى نكحت المعدة فنكاحها باطل ويفرق بينهما" لا يجوز نكاح معتدة إجماعا إلى عدة كانت لقوله سبحانه: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} 1, وإن تزوجت فالنكاح باطل لأنها ممنوعة من النكاح لحق الزوج الأول فكان نكاحها باطلا كما لو تزوجت وهي في نكاحه ويجب أن يفرق بينهما لذلك.
مسألة: "وإن فرق بينهما قبل الدخول أتمت عدة الأول" ولا تنقطع بالعقد الثاني لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشا ولا تستحق بالعقد شيئا, وإن فرق بينهما "بعد الدخول بنت على عدة الأول" وتستأنف "العدة للثاني" وتقدم عدة الأول؛ لأن حقه أسبق ولأن عدته وجبت عن وطء صحيح ولا تتداخل العدتان لأنهما من رجلين. قال أبو حنيفة: تتداخل لأن القصد معرفة براءة الرحم وهذا يحصل به براءة الرحم منهما جميعا, ولنا ما روى الشافعي في مسنده: حدثنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن طلحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ونكحت في عدتها فضربها عمر وضرب زوجها وفرق بينهما, ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما, ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطاب, وإن كان قد دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ولا ينكحها أبدا, وروى بإسناده عن علي أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها وتكمل ما أفسدت من عدة الأول وتعتد من الآخر وهذان قولان سديدان من الخلفاء ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة؛ ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين.
مسألة: "وله نكاحها" يعني الثاني "بعد قضاء العدتين" وعنه أنها تحرم عليه على التأبيد لقول عمر: لا ينكحها أبدا ولأنه استعجل الحق قبل وقته فحرمه في وقته كالوارث إذا قتل موروثه؛ ولأنه يفسد النسب فوقع التحريم المؤبد كاللعان ولنا على إباحتها له أنه لا يخلو إما أن يكون تحريمها بالعقد أو بالوطء في النكاح الفاسد أو بهما, وجميع ذلك لا يقتضي التحريم بدليل ما لو زنى بها, وما روي عن عمر في تحريمها فقد خالفه علي, وروي عن عمر أنه رجع عن قوله في التحريم إلى قول علي فإن عليا قال: فإذا انقضت
ـــــــ
1 - سورة القرة: الآية 235.

بينهما قبل الدخول أتمت عدة الأول وإن كان بعد الدخول بنت على عدة الأول من حين دخل بها الثاني واستأنفت العدة للثاني وله نكاحها بعد انقضاء العدتين, وإن أتت بولد من أحدهما انقضت به عدته واعتدت للآخر وإن أمكن أن يكون منهما أري القافة فألحق بمن ألحقوه منهما وانقضت به عدتها منه واعتدت للآخر.
ـــــــ
عدتها فهو خاطب من الخطاب, فقال عمر: ردوا الجهالات إلى السنة ورجع إلى قول علي وقياسه يبطل بما لو زنى بها فإنه استحل وطئها ولا تحرم عليه على التأبيد.
مسألة: "وإن أتت بولد من أحدهما انقضت عدتها به" منه "واعتدت للآخر" فإن كان يمكن أن يكون من الأول دون الثاني -وهو أن تأتي به لدون ستة أشهر من وطء الثاني وأربع سنين فما دونها من فراق الأول -فإنه يلحق الأول وتنقضي به عدتها منه, ثم تعتد بثلاثة أقراء عن الثاني وإن أتت به لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول فهو يلحق الثاني دون الأول فتنقضي به عدتها عن الثاني ثم تتم عدة الأول, وتقدم ها هنا عدة الثاني على عدة الأول لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من إنسان وتعتد به من غيره.
مسألة: "وإن أمكن أن يكون منهما" وهو أن تأتي لستة أشهر فصاعدا من وطء الثاني ولأربع سنين فما دونها من بينونتها من الأول, "أرى القافة" فإن ألحقته بالأول لحق به كما لو أمكن أن يكون منه دون الثاني "وانقضت به عدتها منه واعتدت للآخر" وإن ألحقته بالثاني لحق به وانقضت به عدتها منه وأعتدت للآخر.
فصل: وإن أشكل أمره على القافة أو لم يكن قافة لزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة أقراء لأنه إن كان من الأول فقد أتت بما عليها من عدة الثاني وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول ليسقط الفرض بيقين.

باب الإحداد
وهو واجب على من توفي عنها زوجها وهو اجتناب الزينة والطيب والكحل بالإثمد ولبس الثياب المصبوغة للتحسين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحد
ـــــــ
باب الإحداد"وهو واجب على المتوفى عنها زوجها" لما روت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا" 1.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا اغتسلت نبذة من قسط أو أظفار وعليها المبيت في منزلها الذي وجبت عليها العدة وهي ساكنة فيه إذا أمكنها ذلك فإن خرجت لسفر أو حج فتوفي زوجها وهي قريبة رجعت لتعتد في بيتها وإن
ـــــــ
"ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا". الاعتداد في طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة من قسط أو أظفار, متفق عليه. وفي حديث أم سلمة: "لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق1 ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل". رواه النسائي2 وهو اجتناب الطيب والكحل بالإثمد ولبس الثياب المصبوغة لحديث أم عطية وأم سلمة.
مسألة: "وعليها المبيت في منزلها الذي وجبت عليها العدة وهي ساكنة فيه" روي ذلك عن عمر وابنه وأم سلمة لما روت فريعة بنت مالك بن سنان أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قالت: فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة -أو في المسجد- دعانى فقال: "كيف قلت؟", فرددت عليه القصة فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى بت, رواه مالك في موطئه وأبو داود والأثرم وهو حديث صحيح3, فعلى هذا يجب عليها أن تعتد فيه سواء كان ملكا لزوجها أو معه بأجرة أو عارية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفريعة: "أمكثي في بيتك", ولم تكن في بيت يملكه زوجها وفي بعض الألفاظ: "اعتدي في البيت الذي أتاك فيه" يعني زوجك فإن أتاها الخبر في غير مسكنها رجعت إلى مسكنها للخبر وهذا "إذا أمكنها ذلك فإن" لم يمكنها بأن يحولها مالكه أو تخشى من هدم أو غرق أو عدو فإنها تنتقل لأنه عذر ولأن القعود للعدة لدفع الضرر عن الزوج في حفظ نسب ولده والضرر لا يزال بالضرر.
مسألة: "فإن خرجت لسفر أو حج فتوفي زوجها وهي قريبة رجعت لتعتد في بيتها" لأنها في حكم الإقامة "وإن تباعدت" خيرت بين البلدين لأن البلدين تساويا فكانت الخيرة إليها فيما المصلحة لها فيه لأنها أخبر بمصلحتها وإن خشيت فوات الحج مضت في
ـــــــ
1 - قوله: الممشف: المصبوغ بطين أحمر.
2 - رواه المسائي في الطلاق: 64- باب ما يجتنب الحادة من الثياب المصبغة: حديث رقم 2.
3 - سبق تخريجه.

تباعدت مضت في سفرها والمطلقة ثلاثا مثلها إلا في الاعتداد في بيتها
ـــــــ
سفرها لأنهما عبادتان استويا في الوجوب وضيق الوقت فوجب أن يقدم الأسبق منهما كما لو كانت العدة أسبق.
مسألة: "والمطلقة ثلاثا مثلها إلا في الاعتداد في بيتها" فلا يجب عليها العدة في منزله وتعتد حيث شاءت نص عليه لما روت فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته, فقال: والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "ليس لك عليه نفقة ولا سكنى" وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك. ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم". متفق عليه1.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5325, 5326. ومسلم في الطلاق: حديث رقم 53.

باب نفقة المعتدات
وهن ثلاثة أقسام :
أحدها: الرجعية وهي من يمكن زوجها إمساكها فلها النفقة والسكنى ولو أسلم زوج الكافرة أو ارتدت امرأة المسلم فلا نفقة لهما, وإن أسلمت امرأة الكافر أو ارتد زوج المسلمة بعد الدخول فلهما نفقة العدة. الثاني: البائن في الحياة بطلاق أو فسخ فلا سكنى لها بحال ولها النفقة إن كانت حاملا وإلا
ـــــــ
باب نفقة المعتدات"وهي ثلاثة أقسام: أحدها الرجعية" وهي "من يمكن زوجها إمساكها فلها النفقة والسكنى" والكسوة كالزوجة سواء لأنها زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه فكانت لها النفقة كغير المطلقة. "الثاني: البائن في الحياة بطلاق أو فسخ" [فإن لم تكن حاملا] "فلا سكنى لها بحال ولا نفقة" وهو قول علي وابن عباس وجابر ودليله حديث فاطمة بنت قيس ولأنها محرمة عليه أشبهت الأجنبية.
مسألة: "ولها النفقة" والسكنى "إن كانت حاملا" بإجماع أهل العلم لقوله سبحانه: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 1, إلى قوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}, وفي بعض ألفاظ حديث فاطمة: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا" ولأن الحمل ولده فيلزمه الإنفاق عليه ولا يمكنه الإنفاق عليه إلا بالإنفاق عليها فوجبت كما وجبت أجرة الرضاع, "الثالث: المتوفى عنها زوجها فلا نفقة لها ولا سكنى" إن كانت حائلا وإن كانت حاملا ففيه روايتان: إحداهما لها النفقة والسكنى لأنها حامل.
ـــــــ
1 - سورة الطلاق: الآية6.

فلا. الثالث: التي توفي عنها زوجها فلا نفقة لها ولا سكنى
ـــــــ
أشبهت المفارقة في الحياة والثانية لا نفقة لها ولا سكنى, قال القاضي: وهي أصح لأن المال قد صار للورثة ونفقة الحامل إنما هي للحمل أو من أجله ونفقة الحمل من نصيبه من الميراث كما بعد الولادة.

باب استبراء الإماء
وهو واجب في ثلاثة مواضع: أحدها: من ملك أمة لم يصبها حتى يستبرئها.
الثاني: أم الولد والأمة التي يطؤها سيدها لا يجوز له تزويجها حتى يستبرئها. الثالث: إذا أعتقهما سيدهما أو عتقا بموته لم ينكحا حتى يستبرئا أنفسهما والاستبراء في جميع ذلك بوضع الحمل إن كانت حاملا أو حيضة إن كانت تحيض
ـــــــ
باب استبراء الإماء"وهو واجب في ثلاثة مواضع: أحدها: من ملك أمة لم يصبها حتى يستبرئها" وكذا لا يحل له الاستمتاع بها بمباشرة وقبلة حتى يستبرئها؛ لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سبايا أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة. رواه الإمام أحمد في المسند1. وروى الأثرم عن رويفع ابن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره, ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة". ولأنه إذا وطئها قبل استبرائها أدى إلى اختلاط المياه وفساد الأنساب.
"الثاني: أم الولد والأمة التي يطأها سيدها لا يجوز له تزويجها حتى يستبرئها" لأن الزوج لا يلزمه استبراؤها فإذا لم يستبرئها السيد أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب. "الثالث: إذا أعتقهما سيدهما أو عتقا بموته" يعني أم الولد والأمة كأن يصيبهما "لم ينكحا حتى يستبرئا أنفسهما" لأنهما صارتا فراشا له.
مسألة: "والاستبراء" يحصل "في جميع ذلك بوضع الحمل إن كانت حاملا أو بحيضة إن كانت" ممن "تحيض" لما روى أبو سعيد.
مسألة: "وإن كانت" من الآيسات "أو ممن لم يحضن" كالصغيرة ففيها ثلاث روايات: إحداهن تستبرأ بشهرين كعدة الأمة الثانية: "تستبرأ بشهر" لأن الشهر أقيم مقام الحيضة في عدة الحرة والأمة. والثالثة: بثلاثة أشهر. قال أحمد بن القاسم: قلت لأبي
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند 4/127.

أو شهر إن كانت آيسة أو من اللائي لم يحضن أو عشرة أشهر إن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه
ـــــــ
عبد الله: كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان الحيضة وإنما جعل الله في القرآن الكريم مكان كل حيضة شهرا؟ فقال: من أجل الحمل فإنه لا يتبين في أقل من ذلك فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك وجمع أهل العلم والقوابل فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه ذلك, ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود: إن النطفة أربعين يوما ثم علقة أربعين يوما ثم مضغة بعد ذلك فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة وهي لحم فيتبين حينئذ وهذا معروف عند النساء.
مسألة: "وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه" استبرأت بعشرة أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة, وعنه سنة تسعة أشهر للحمل لأنها غالب مدته في حق الحرائر والإماء وثلاثة أشهر مكان الثلاثة التي تستبرأ بها الآيسات, وعنه في أم الولد إذا مات سيدها اعتدت أربعة أشهر وعشرا لما روي عن عمرو بن العاص أنه قال: لا تفسدوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر؛ ولأنه استبراء الحرة من الوفاة أشبهت الحرة والأول أصح وخبر عمرو لا يصح قاله أحمد رحمه الله.

كتاب الظهار
وهو أن يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي أو من تحرم عليه على التأبيد أو يقول أنت علي كأبي يريد تحريمها به فلا تحل له حتى يكفر بتحرير رقبة {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}, {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
ـــــــ
كتاب الظهار"وهو أن يقول لامرأته أنت علي كظهر أمي" فهذا ظهار إجماعا. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن تصريح الظهار أن يقول: أنت علي كظهر أمي و في حديث خويلة أنه قال لها: أنت علي كظهر أمي فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة.
مسألة: وإن قال أنت علي كظهر "من تحرم عليه على التأبيد" كجدته وعمته وخالته فهذا أيضا ظهار في قول أكثرهم لأنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الأم, وإن قال "أنت علي كأبي يريد تحريمها" كان مظاهرا؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فأما إن قال: أنت علي كأمي وقال: أردت في الكرامة دين لأن لفظه يحتمل وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين: إحداهما يقبل لذلك, والثانية: لا يقبل؛ لأنه لما قال أنت علي كأمي اقتضى أن يكون عليه فيها تحريم فأشبه ما لو قال أنت علي كظهر أمي فأما إن قال أنت علي كأمي وأطلق ذلك فقال أبو بكر: هو ظهار قال: ونص عليه الإمام أحمد وحكى ابن أبي موسى: فيه روايتان أظهرهما لا يكون ظهارا حتى ينويه؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الكراهة أكثر مما يستعمل في التحريم فلم ينصرف إليه إلا بالنية ككنايات الطلاق بخلاف التشبيه بالعضو فإنه لا يستعمل في الكراهة ووجهه قول أبي بكر وهي الرواية الأخرى أنه شبه امرأته بأمه فأشبه إذا شبهها بعضو من أعضائها. قال شيخنا: والذي يصح عندي أنه إن وجدت قرينة تدل على قصد التحريم مثل أن يكون في حال الغصب أو نحو ذلك فهو ظهار وإلا فليس بظهار لأنه يحتمل غير الظهار احتمالا كثيرا فلم يكن ظهارا بإطلاقه كما لو وقال أنت كحفصة إذا ثبت هذا فإن المظاهر لا تحل له زوجته التي ظاهر منها حتى يكفر [إجماعا إذا كان التكفير بالعتق أو بالصيام] لأن الله سبحانه قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}, وقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}, وأكثرهم على أن التكفير

مِسْكِيناً}, وحكمها وصفتها ككفارة الجماع في شهر رمضان فإن وطء قبل التكفير عصى ولزمته الكفارة المذكورة ومن ظاهر من امرأته مرارا ولم يكفر فكفارة واحدة
ـــــــ
بالإطعام مثل ذلك لما روى عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال: "ما حملك على ذلك رحمك الله"؟, قال: "رأيت خلخالها في ضوء القمر". قال: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن1؛ ولأنها إحدى كفارات الظهار فيحرم الوطء قبلها كالعتق والصيام وترك النص عليها لا يمنع قياسها على المنصوص الذي هي في معناه. والكفارة عتق "رقبه" مؤمنة {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}, {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} من قبل أن يتماسا {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}, بدليل قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 2.
مسألة: "وحكمهما وصفتها ككفارة الجماع في شهر رمضان" وقد مضى ذكرها في باب الصيام.
مسألة: "فإن وطئ قبل التكفير عصى ولزمته الكفارة المذكورة" بدليل حديث ابن عباس قبلها ولأنه خالف أمر الله سبحانه وتجزيه كفارة واحدة لذلك.
مسألة: "ومن ظاهر من امرأته مرارا ولم يكفر فكفارة واحدة" لأنه قول لم يؤثر في تحريم المرأة فلم تجب به كفارة كاليمين بالله سبحانه, ولا يخفى أنه لم يؤثر تحريما لأنها حرمت بالقول الأول ولم يزد تحريمها ولأنه لفظ يتعلق به كفارة فإذا كرره كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله عز وجل, وعنه إن كرره في مجالس فكفارات روي ذلك عن علي ولأنه قول يوجب تحريم الزوجة فإذا نوى به الاستئناف تعلق به لكل مرة حكم كالطلاق والأول أصح, وأما الطلاق فإنه ما زاد منه على الطلاق الثلاث لا يثبت له حكم بالإجماع وبهذا ينتقض ما ذكروه. وأما الثالثة فإنها تثبت تحريما زائدا وهو التحريم قبل زوج وإصابة ولا يثبت لها حكم كذلك الظهار.
مسألة: "و" لو "ظاهر من نسائه بكلمة واحدة فكفارة واحدة" وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة فكان إجماعا؛ ولأن إظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله سبحانه.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2221. والترمذي في الطلاق: رقم 1199.
2 - سورة المجادلة: الآية 3.

وإن ظاهر منهن بكلمات فعليه كفارة لكل واحدة وإن ظاهر من أمته أو حرمها أو حرم شيئا مباحا, أو ظاهرت المرأة من زوجها أو حرمته لم يحرم وكفارته كفارة يمين والعبد كالحر في الكفارة سواء إلا أنه لا يكفر إلا بالصيام
ـــــــ
مسألة: "وإن ظاهر منهن بكلمات" فقال لكل واحدة منهن أنت علي كظهر أمي فإن "لكل" يمين "كفارة", وقال أبو بكر: فيه رواية أخرى أنه يجزيه كفارة واحدة واختار ذلك وقال: هو اتباع لعمر رضي الله عنه لأن كفارة الظهار حق الله تعالى فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد, ولنا أنها أيمان متفرقة فكان لكل واحد كفارة كما لو كفر ثم ظاهر؛ ولأن الظهار معنى يوجب الكفارة فتتعد الكفارة بتعدده في المحال المختلفة كالقتل ويفارق الحد فإنه عقوبة تدرأ بالشبهات.
مسألة: "وإن ظاهر من أمته أو حرمها أو حرم شيئا" منها "مباحا" لم تحرم وعليه "كفارة يمين" لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 1, حين حرم مارية ثم أنزل الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} 2, أي قد بين لكم تحلة أيمانكم أي كفارة أيمانكم وذلك البيان في المائدة وهو كفارة اليمين وهو قوله سبحانه: {لََا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 3. الآية.
مسألة: "وإن قالت المرأة لزوجها أنت علي كظهر أمي لم تكن مظاهرة". قال القاضي: لا تكون مظاهرة رواية واحدة وعليها التمكين لذلك, واختلف عنه هل عليها كفارة ظهار؟ فنقل جماعة عليها كفارة الظهار لما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت: إن تزوجت بمصعب بن الزبير فهو علي كظهر أمي فسألت أهل المدينة فرأوا أن عليها الكفارة, وروي أنها استفتت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم يومئذ كثير- فأفتوها أن تعتق رقبة وتتزوجه رواه سعيد؛ ولأنها زوج أشبهت الرجل ولأنها يمين مكفرة أشبهت اليمين بالله تعالى, وعنه الميل إلى أنها كفارة يمين بمنزلة من حرم على نفسه شيئا؛ لأنه تحريم الحلال أشبه تحريم المال, وعنه لا شيء عليها؛ لأن الله سبحانه قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}, فعلقه على الزوج فيختص بت.
مسألة: "والحر والعبد في الكفارة سواء" لأن العبد مكلف أشبه الحر, "إلا أنه لا يكفر إلا بالصيام" لأنه لا يملك شيئا يكفر به.
ـــــــ
1- سورة التحريم: الآية 1.
2 - سورة التحريم: الآية 2.
3 - سورة البقرة: الآية 225.

كتاب اللعان
مدخل...
كتاب اللعانإذا قذف الرجل امرأته البالغة العاقلة الحرة العفيفة المسلمة بالزنى لزمه الحد إن
ـــــــ
كتاب اللعان
وهو مشتق من اللعن لأن كل واحد منهما يلعن نفسه في الخامسة, واللعنة: الطرد والإبعاد, والأصل فيه قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} 1, وروى سهل بن سعد أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها". قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم, متفق عليه2. وحديث ابن عباس في لعان هلال بن أمية, رواه أبو داود3.
مسألة: "إذا قذف الرجل امرأته البالغة العاقلة الحرة المسلمة العفيفة بالزنا لزمه الحد إن لم يلاعن" هذه الشروط هي شروط لوجوب الحد بالقذف فإنه لا يجب إلا باجتماعها فلو قذفها وهي صغيرة أو مجنونة أو كافرة أو فاسقة لم يجب عليه الحد؛ لأن الحد لا يجب إلا بقذف المحصن وشروط الإحصان خمسة: العقل, والحرية, والإسلام, والعفة, وأن يكون كبيرا يجامع مثله, وهذا إجماع وبه يقول جملة العلماء قديما وحديثا إلا داود فإنه أوجب الحد على قاذف العبد, وابن المسيب وابن أبي ليلى قالا: إذا قذف ذمية لها ولد مسلم يحد, والأول أصح لأن من لا يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد لا يحد وله ولد كالمجنونة, وفي اشتراط البلوغ عن الإمام أحمد روايتان: إحداهما يشترط لأنه أحد شرطي التكليف فأشبه العقل؛ ولأن زنا الصبي لا يوجب حدا فلا يجب لا الحد بالقذف
ـــــــ
1 - سورة النور: الآية 6.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2254.

لم يلاعن, وإن كانت ذمية أو أمة فعليه التعزير إن لم يلاعن ولا يعرض له حتى تطالبه, واللعان أن يقول بحضرة الحاكم أو نائبه: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما
ـــــــ
به كزنا المجنون والأخرى لا يشترط لأنه حر عاقل عفيف يتغير بهذا القول الممكن صدقه أشبه الكبير فعلى هذه الرواية لا بد أن يكون الكبير يجامع مثله وأدناه عشر سنين للغلام وللجارية تسع.
وللعان شروط لا يصح إلا بها: الأول: أن يكون كل من زوجين عاقلين بالغين سواء كانا مسلمين أو كتابيبن أو رقيقين أو فاسقين, أو كان أحدهما كذلك في إحدى الروايتين, وفي الأخرى لا يصح إلا من زوجين مسلمين حرين عدلين؛ لأن اللعان شهادة بقوله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} وقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}, وإن كانت المرأة ممن لا يحد بقذفها لم يجب اللعان لأنه يراد لإسقاط الحد ولا حد ها هنا فينتفي اللعان, ودليل الأولى عموم قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية؛ ولأن اللعان يمين فلا يفتقر إلى ما شرطوه كسائر الأيمان, ودليل أنه يمين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" 1. وأنه يفتقر إلى اسم الله تعالى ويستوي فيه الذكر والأنثى وأما تسميته شهادة فلقوله في يمينه أشهد بالله فسمي شهادة وإن كان يمينا كما قال الله سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ والله يعلم إنك لرسوله} 2, ولأن الزوج يحتاج إلى نفي الولد فشرع له طريقا إلى نفيه كما لو كانت زوجته ممن لا يحد بقذفها. الشرط الثاني: أن يقذفهما بالزنا لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } الآية, يعني: بالزنا وهذا رام لزوجته.
مسألة: "وإن كانت" زوجته "ذمية أو أمة فعليه التعزيز إن لم يلاعن" لأن الإسلام والحرية من شرائط القذف الموجب للحد ولم يوجدا, وإنما يجب عليه التعزيز وله إسقاطه باللعان كما له إسقاط الحد باللعان, وشرع اللعان ها هنا لإسقاط التعزيز ولنفي الولد إن كان ثم ولد.
مسألة: "ولا يعرض له حتى تطالبه" زوجته يعني: لا يعرض للزوج بإقامة الحد عليه ولا طلب اللعان منه حتى تطالبه زوجته بذلك؛ لأن ذلك حق لها فلا يقام من غير طلبها كسائر حقوقها.
مسألة: وصفة "اللعان أن" يبدأ الزوج فـ "يقول: أشهد بالله إني لمن فيما
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2256.
2 - سورة المنافقون: الآية 1.

رميت به امرأتي هذه من الزنى ويشير إليها فإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها, ثم يوقف عند الخامسة فيقال له: اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة, فإن أبى إلا أن يتم فليقل: وإن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنى, ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى, ثم توقف عند الخامسة تخوف كما يخوف الرجل فإن أبت إلا أن تتم فلتقل: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به زوجي هذا من الزنى, ثم يقول الحاكم: قد فرقت بينكما فتحرم عليه تحريما مؤبدا, وإن كان بينهما ولد فنفاه انتفى عنه -سواء كان حملا أو مولودا.
ـــــــ
رميت به امرأتي هذه من الزنا ويشير إليها وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها" حتى يكمل ذلك أربع مرات, "ثم يوقف عند الخامسة فيقال له: اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإن أبى إلا أن يتم فليقل: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنا, ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا, ثم توقف عند الخامسة وتخوف كما خوف الرجل فإن أبت إلا أن تتم فلتقل: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به زوجي هذا من الزنا, ثم يقول الحاكم: قد فرقت بينكما فتحرم عليه تحريما مؤبدا" ودليل هذا قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}, الآيات؛ ولما روى ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلوا إليها" فجاءت, فقال لهلال: "اشهد" فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين, فلما كانت الخامسة قال له: "اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب". فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها, فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين, ثم شهدت مثله وقيل لها مثله ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما1.
مسألة: "وإن كان بينهما ولد فنفاه انتفى عنه" لما روى ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته فانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالأم. "وسواء كان حملا أو مولودا" وقال أبو بكر: ينتفي عنه الولد بزوال الفراش وإن لم يذكره في لعانه, وكذلك حملها ينتفي وإن لم يذكره, واشترط الخرقي في نفي الولد أن ينفيه في اللعان فإن لم يذكره أفاد اللعان لأنه لم ينتف باللعان الأول وهو اختيار القاضي؛ لأن من سقط حقه باللعان كان ذكره فيه شرطا كالزوجة, واشترط الخرقي أيضا في الحمل أن لا ينتفي حتى ينفيه بعد وضعها له ويلاعن.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

ما لم يكن أقر به أو وجد منه ما يدل على الإقرار لما روى ابن عمر: أن رجلا لاعن امرأته وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالأم.
فصل
ومن ولدت امرأته أو أمته التي أقر بوطئها ولدا يمكن كونه منه لحقه نسبه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر", ولا ينتفي ولد المرأة إلا باللعان ولا ولد الأمة إلا بدعوى عدم استبرائها وإن لم يمكن كونه منه مثل أن تلد
ـــــــ
وينفي الولد في اللعان لأن الحمل غير مستيقن لجواز أن يكون ريحا فيصير نفيه مشروطا بوجوده, ولا يصح تعليق اللعان بشرط ودليل الأول أن هلال بن أمية لاعن زوجته وهي حامل فلم ينقل عنه تعرض للحمل بنفي ولا غيره فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبد البر: الآثار الدالة على هذا كثيرة ولأن الحمل مظنون بأمارات ظاهرة تدل عليه ولهذا ثبت للحامل أحكام تخالف فيما للحامل من النفقة والفطر في الصيام وغير ذلك, ويصح استلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه وهذا أقرب إلى الصواب لموافقته الأحاديث, فإن هلالا لاعن امرأته وهي حامل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظروها فإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال وإن جاءت به كذا وكذا فهو الذي رميت به". ولم يعد لعانها عند وضعه إذ يبعد أن يكون أعاد لعانها فلم ينقل.
مسألة: فإن "أقر" بالولد "أو وجد منه ما يدل على الإقرار" به لم يكن له نفيه بعد ذلك"؛ لأنه أقر لولده بحق فلم يكن له جحده كما لو بانت منه, وإن أقر بتوأمه كان إقرارا بالآخر إذ لا يمكن أن يعلم الذي له منها فإذا نفى الآخر كان رجوعا عن إقراره فلا يقبل, وإن هنئ به فسكت كان إقرارا بت, وكذا إن هنئ به فأمن على الدعاء أو قال رزقك الله مثله لزمه الولد؛ لأن ذلك جواب الراضي في العادة.
"فصل: ومن ولدت امرأته أو أمته التي أقر بوطئها ولدا يمكن كونه منه" بأن تأتي به لأكثر من ستة أشهر من حين وطئها, "لحقه نسبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". متفق عليه1.
مسألة: "ولا ينتفي ولد المرأة إلا باللعان" لما سبق "ولا ولد الأمة إلا بدعوى عدم استبرائها" فلو أراد نفيه باللعان لم يجز لأن اللعان لا يكون إلا بين زوجين, ولا ينتفي عنه ولدها إلا أن يدعي استبراءها بعد وطئه, فإن ادعى ذلك فالقول قوله وينتفي ولدها عنه لأن الولد لا يلحق إلا بعد الاستبراء كما لا يلحق ولد الزوجة بالزوج بعد قضاء عدتها ويقوم.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2218. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 36, 37.

أمته لأقل من ستة أشهر منذ وطئها أو امرأته لأقل من ذلك منذ أمكن اجتماعهما ولو كان الزوج ممن لا يولد لمثله -كمن له دون عشر سنين أو الخصي المجبوب- لم يلحقه.
فصل
وإذا وطئ رجلان امرأة في طهر واحد بشبهة أو وطئ رجلان شريكان أمتهما في طهر واحد فأتت بولد أو ادعى نسب مجهول النسب رجلان أري القافة معهما أو مع أقاربهما فألحق بمن ألحقوه منهما وإن ألحقوه بهما لحق بهما
ـــــــ
ذلك مقام اللعان في نفي الولد وهل يحلف؟ على وجهين: أحدهما لا يحلف لأنه أمر لا يقضى فيه بالنكول. والثاني: يحلف لاحتمال أن يكون كاذبا في دعواه فيستحلف كما في غيره من الدعاوى.
مسألة: "وإن لم يمكن كونه منه مثل أن تلد أمته لأقل من ستة أشهر منذ وطئها أو امرأته لأقل من ذلك منذ أمكن اجتماعهما" أو لأكثر من أربع سنين منذ أبانها لم يلحق بالزوج؛ لأننا علمنا أنها علقت به قبل النكاح ولا يحتاج إلى نفيه باللعان؛ لأن اللعان يمين واليمين جعلت لتحقيق أحد الجائزين أو نفي أحد المحتملين وما لا يجوز لا يحتاج إلى نفيه, "و" كذلك إذا "كان الزوج ممن لا يولد لمثله كمن له دون عشر سنين" إذا أتت زوجته بولد لم يلحقه نسبه؛ لأنه لم يوجد ولد لمثله ولا يمكنه الوطء وإن ولدت زوجة المجبوب المقطوع الذكر والخصيتين "لم يلحق" به ولا يحتاج إلى نفيه باللعان لأنه يستحيل أن ينزل مع قطعهما فلا يكون الولد منه فلا يحتاج إلى نفيه لما سبق.
"فصل: وإذا وطئ رجلان امرأة في طهر واحد بشبهة أو وطئ" الـ "شريكان أمتهما في طهر واحد فأتت بولد أو ادعى نسب مجهول النسب رجلان أري القافة معهما أو مع أقاربهما"- بعد موتهما- "فألحق بمن ألحقوه" به "منهما فإن ألحقوه بهما لحق بهما" لأن قول القافة معتبر في نظر الشرع, بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: "ألم تري أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد وأسامة وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض". متفق عليه1, فلولا جواز الاعتماد على القافة لما سر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا اعتمد عليه, ولأن عمر رضي الله عنه قضى به بحضرة الصحابة فلم ينكره أحد منهم فكان إجماعا؛ ولأنه حكم بظن غالب ورأي راجح ممن هو من أهل الخبرة فجاز كقول المقومين.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في المتاقب: حديث رقم 3555. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 38, 39, 40.

وإن أشكل أمره أو تعارض أمر القافة أو لم يوجد قافة ترك حتى يبلغ فيلحق بمن انتسب إليه منهما ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون عدلا مجربا في الإصابة.
ـــــــ
مسألة: "وإن أشكل أمره" على "القافة أو لم توجد قافة ترك حتى يبلغ فيلحق بمن انتسب إليه منهما"؛ لأن ذلك يروى عن عمر ولأن الإنسان يميل طبعه إلى قريبه دون غيره. قال القاضي: وقد أومأ أحمد إلى هذا في رجلين وقعا على امرأة في طهرها خير الابن أيهما اختار, وقال أبو بكر: يضيع نسبه ولا يقبل قوله في الانتساب لأن الطبع يميل إلى غير القرابة لإحسانه إليه وحسن أخلاقه وكثرة يساره.
مسألة: "ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون عدلا" حرا ذكرا "مجربا في الإصابة"؛ لأن قوله حكم والحكم تعتبر له هذه الشروط.

باب الحضانة
أحق الناس بالطفل أمه ثم أمهاتها وإن علون ثم الأب ثم أمهاته ثم الجد ثم أمهاته ثم الأخت من الأبوين ثم الأخت من الأب ثم الأخت من الأم ثم
ـــــــ
باب الحضانةو "أحق الناس" بحضانة "الطفل أمه" إذا افترق الزوجان وبينهما ولد فأمه أحق بحضانته إذا كملت الشرائط فيها لا نعلم فيه خلافا؛ لقوله عليه السلام: "أنت أحق به ما لم تنكحي" رواه أبو داود1؛ ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه ولا يشاركها في ذلك إلا أبوه وليس له مثل شفقتها وإنما يتولى الحضانة النساء دون الرجال, وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حكم على عمر بن الخطاب وقضى بعاصم لأمه أم عاصم وقال: حجرها وريحها ومسها خير له منك حتى يشب فيختار, رواه سعيد وقال: ريحها وشمها ولفظها خير له منك.
مسأله: "ثم أمهاتها وإن علون" الأقرب فالأقرب لأنهن نساء ولادتهن متحققة فهن في معنى الأم, وعنه رواية أخرى أن أم الأب تقدم على أم الأم لأنها تدلي بعصبة فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم لأنهن يدلين به فيكون الأب بعد الأم ثم أمهاته, والأولى هي المشهورة وأن المقدم الأم ثم أمهاتها وإن علون "ثم الأب ثم أمهاته ثم الجد ثم أمهاته" ثم جد الأب ثم أمهاته وإن لم يكن وارثات لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة بخلاف أم أبي الأم فإنها لا حق لها لأنها تدلي بمن ليس له حق منهما.
مسألة: "ثم الأخت من الأبوين" لأنها أقرب "ثم الأخت من الأب" لأنها تليها في
ـــــــ
1 - رواه أبوداود في الطلاق: حديث رقم 2276.

الخالة ثم العمة ثم الأقرب فالأقرب من النساء, ثم عصباته الأقرب فالأقرب, ولا حضانة لرقيق ولا فاسق ولا امرأة مزوجة لأجنبي من الطفل
ـــــــ
الميراث "ثم" التي "من الأم" فلو اجتمعت مع أخيها قدمت على الأخ في الحضانة لأنها امرأة من أهل الحضانة فقدمت على من في درجتها من الرجال كتقدم الأم على الأب لأنها تلي الحضانة بنفسها والرجل لا يليها بنفسه.
مسألة: فإذا انقرض الأخوات فبعدهن الخالات لأنهن أخوات الأم فتقدم الخالة من الأبوين ثم الخالة من الأب ثم من الأم كالأخوات ويقدمن على الأخوال؛ لأنهن نساء من أهل الحضانة كما تقدم الأخت على أخيها, "ثم" بعد الخالات "العمات" لأنهن أخوات الأب فتقدم التي من الأبوين على التي من الأب ثم التي من الأم كما قلنا في الخالات ويقدمن على الأعمام لأنهن نساء من أهل الحضانة كما قلنا في تقديم الخالات على الأخوال وعلى الرواية التي تقول بتقديم أم الأب على أم الأم ينبغي أن تقدم العمات على الخالات لأنهن يدلين بالأب وهو عصبة فهن أولى من الخالات.
مسألة: "ثم الأقرب فالأقرب من النساء", إذا انقرض العمات انتقلت الحضانة إلى خالات الأم لأنهن أخوات أمها وعلى الرواية الأخرى تنتقل إلى خالات الأب لأنهن أخوات أم الأب فيقدمن لأنهن نساء من أهل الحضانة ولأنهن يدلين بعصبة وهو الأب, فإذا انقرض النساء فالحضانة للعصبات من الرجال وأولاهم الأب ثم الجد أبو الأب وإن علا ثم الأخ للأبوين ثم الأخ للأب ثم بنوهم وإن سفلوا, ثم العم للأبوين ثم العم للأب على حسب تقديمهم في الميراث.
مسألة: "ولا حضانة لرقيق" لعجزه عنها بخدمة سيده "ولا" لـ "فاسق" لأنه لا يوفي الحضانة حقها ولا حظ للولد في حضانته لأنه ينشأ على طريقته.
مسألة: "ولا" حضانة "لامرأة مزوجة لأجنبي من الطفل"؛ لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي". رواه أبو داود1؛ ولأنها تشتغل بالاستمتاع عن الحضانة فإذا زوجت المرأة بمن هو من أهل الحضانة كالجدة المزوجة بالجد لم تسقط حضانتها لأن كل واحد منهما له الحضانة منفردا فمع اجتماعهما أولى ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بنت حمزة عند خالتها لما كانت مزوجة بجعفر ابن عمتها إذ كانت من أهل الحضانة لكونه عصبة.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

فإن زالت الموانع منهم عاد حقهم من الحضانة وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه فكان عند من اختار منهما, وإذا بلغت الجاربة سبعا فأبوها أحق بها وعلى الأب أن يسترضع لولده إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجر مثلها فتكون أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة
ـــــــ
مسألة: "فإذا زالت الموانع منهم" مثل إن طلقت المزوجة أو عتق الرقيق أو أسلم الكافر أو عدل الفاسق "عاد حقهم من الحضانة" لأنه زال المانع فثبت الحكم بالسبب الخالي من المانع.
مسألة: "وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه فكان عند من اختار منهما"؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه, رواه سعيد, وروى أبو داود عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به" 1. ولأنه إجماع الصحابة وروي عن عمر أنه خير غلاما بين أبيه وأمه رواه سعيد, وعن عمارة الحرير قال: خيرني علي بين أمي وأبي وكنت ابن سبع سنين أو ثمان, وروي نحو ذلك عن أبي هريرة وهذه قصص في مظنة الشهرة ولم تنكر فكانت إجماعا.
مسألة: "وإذا بلغت الجارية سبعا فأبوها أحق بها" لأن الغرض بالحضانة الحظ للجارية في الكون عند أبيها لأنها تحتاج إلى الحفظ والأب أولى بذلك فإن الأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها؛ ولأن الجارية إذا بلغت السبع فقد قاربت الصلاح للتزويج و قد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت سبع2 وإنما تخطب الجارية من أبيها لأنه المالك لتزويجها وهو أعلم بالكفاءة وأقدر على البحث فيقدم على غيره كما يقدم في العقد.
مسألة: "وعلى الأب أن يسترضع لولده" لأن نفقته عليه واجبة فكذلك رضاعه "إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجر مثلها فتكون أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة" لأنها أقرب إليه وأشفق عليه ولا نعلم في ذلك خلافا, وقد قال سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 3 فقدمهن على غيرهن, وقال سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 4.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2277.
2- سبق تخريجه.
3 - سورة البقرة: الآية 233
4 - سورة الطلاق: الآية 6.

فإن لم يكن له أب ولا مال فعلى ورثته أجر رضاعه على قدر ميراثهم منه.
ـــــــ
مسألة: "فإن لم يكن" للصبي "أب ولا مال فعلى ورثته أجرة رضاعه على قدر ميراثهم" منه, لأن الله سبحانه قال: {وََعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} -إلى قوله- {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} 1, فأوجب على الوارث أجرة الرضاع وتكون واجبة عليهم على قدر ميراثهم منه لأن الله سبحانه رتب النفقة على الإرث بقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}, فيجب أن تترتب في المقدار عليه فإذا كان للصبي أم وجد فعلى الأم الثلث والباقي على الجد وإن كان له جد وأخ فعلى الجد السدس والباقي على الأخ كالنفقه سواء ولو كان له أب كان الجميع عليه لقوله سبحانه : {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فجعل أجرة الرضاع عليه دونها وقال لهند : "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" 2.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 233.
2 - سبق تخريجه.

باب نفقة الأقارب و المماليك
...
باب نفقة الأقارب والمماليك
وعلى الإنسان نفقة والديه وإن علوا وأولاده وإن سفلوا ومن يرثه بفرض أو تعصيب إذا كانوا فقراء وله مال ينفق عليهم,
ـــــــ
باب نفقة الأقارب والمماليك
"وعلى الإنسان نفقة والديه وإن علوا" لقوله سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1, ومن الإحسان الإنفاق عليهما, وقال عليه السلام: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه". رواه أبو داود2.
مسألة: "و" تجب "نفقة" الأولاد بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند: "خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف" 3. وتجب نفقة الأجداد وأولاد الأولاد لأنهم آباء وأولاد وقال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} 4, وقال: {يَا بَنِي آدَمَ} 5.
مسألة: "و" تجب نفقة "من يرثه بفرض أو تعصيب" سواء ورثه الآخر أو لا كعمته وعتيقه سوى الزوج لقول الله سبحانه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} -إلى قوله- {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}, فأوجب على الوارث أجرة رضاع الصبي فيجب أن تلزمه نفقته, وروى أبو داود أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبر؟ قال: "أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذلك حقا واجبا ورحما موصولا" 6, وقضى عمر على بني عم منفوس بنفقته ولأنها قرابة تقتضي التوريث فتوجب الإنفاق كقرابة الولد.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 83.
2 - رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3528.
3 - سبق تخريجه.
4 - سورة الحج: الآية 78.
5 - سورة الأعراف: الآية 26.
6 - رواه أبو داود في الأدب: حديث رقم 5140.

وإن كان للفقير وارثان فأثر فنفقته عليهم على قدر ميراثهم منه إلا الابن فإن نفقته على أبيه خاصة, وعلى ملاك المملوكين الإنفاق عليهم وما يحتاجون إليه من مؤنة وكسوة فإن لم يفعلوا أجبروا على بيعهم إذا طلبوا ذلك.
ـــــــ
مسألة: ويشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط: أحدهما "فقر من تجب نفقته" فإن كان غنيا بمال أو كسب لم تجب لأنها وجبت على سبيل المواساة فلا تستحق مع الغني كالزكاة. والثاني: أن يكون للمنفق "مال ينفق عليهم" فاضلا عن نفقة نفسه وزوجته لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". قال الترمذي: حديث صحيح1؛ ولأنها مواساة فيجب أن تكون في الفاضل عن الحاجة الأصلية. الثالث: أن يكون المنفق عليه وارثا فأما من لا يرث كذوي الأرحام فقال القاضي: لا تجب نفقتهم رواية واحدة إذا كانوا من غير عمودي النسب, وأما إن كانوا من عمودي النسب فلهم النفقة لوجود الإيلاد والمحرمية. وقال أبو الخطاب: يخرج في وجوبها عليهم, روايتان: إحداهما: تجب لأنهم أقارب أشبهوا الوارث, والثانية: لا نفقة لهم لأنهم لا يرثون أشبهوا الأجانب.
مسألة: "فإن كان للفقير وارثان فأكثر فنفقته عليهم على قدر ميراثهم منه إلا من له أب فإن نفقته على أبيه خاصة" كما قلنا في أجرة الرضاع وقد سبق.
مسألة: "وعلى ملاك المملوكين الإنفاق عليهم وما يحتاجون إليه من مؤنة وكسوة" بالمعروف؛ لما روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان له أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه". متفق عليه2, وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق". رواه الشافعي وأجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده.
مسألة: "فإن لم يفعلوا أجبروا على بيعهم إذا طلبوا ذلك" لأن بقاء ملكه عليه مع الإخلال بالواجب عليه من نفقة وكسوة بالمعروف إضرار به وإزالة الضرر واجبة, ولذلك أبحنا للمرأة فسخ النكاح عند عجز زوجها عن الإنفاق عليها.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في الإيمان: حديث رقم 30. ومسلم في الأيمان: حديث رقم 40.

باب الوليمة
وهي دعوة العرس وهي مستحبة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف
ـــــــ
باب الوليمة"وهي" اسم لـ "دعوة العرس" حكاه ثعلب وغيره من أهل اللغة والعذيرة دعوة

حين أخبره أنه تزوج: "بارك الله لك أولم ولو بشاة". والإجابة إليها واجبة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله ومن لم يحب أن يطعم دعا وانصرف". والنثار والنقاطه مباح مع الكراهة
ـــــــ
الختان والخرسة دعوة الولادة والوكيرة دعوة البناء والنقيعة لقدوم الغائب والعقيقة للمولود, والحذاق الطعام عند حذق الصبي, والمأدبة اسم لكل دعوة, "و" دعوة العرس "مستحبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: "أولم ولو بشاة" 1؛ ولأنها طعام سرور أشبه سائر الأطعمة ولا خلاف بين أهل العلم أنها سنة مشروعة والأصل فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها عبد الرحمن, وقال أنس: ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب جعل يبعثني فأدعو له الناس وأطعمهم خبزا ولحما حتى شبعوا, وأولم على صفية بنت حيي حيسا في نطع صغير. متفق عليهن2.
مسألة: "والإجابة إليها واجبة" إذا عينه الداعي المسلم في اليوم الأول. قال ابن عبد البر: لا خلاف في وجوب إتيان الوليمة لمن دعي إليها إذا لم يكن فيها لهو, وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم في وليمة فليأتها" 3. وقال أبو هريرة: شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء, ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله, رواهما البخاري4.
مسألة: "ومن لم يحب أن يطعم دعا وانصرف" لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائما فليدع وإن كان مفطرا فليطعم". رواه أبو داود5.
مسألة: "والنثار والتقاطه مباح" لما روى عبد الله بن قرط أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات وقال: "من شاء اقتطع". رواه الإمام أحمد وأبو داود, وهذا جار مجرى النثار ولأنه نوع إباحة فأشبه إباحة الطعام للضيفان. "وهو مكروه" لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النهبى والمثلة, رواه البخاري والإمام أحمد في المسند6؛ ولأن فيه
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5072. ومسلم في النكاح: حديث رقم 79, 80.
2 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5171. والبيوع: حديث رقم 2235. ومسلم في النكاح: حديث رقم 90, 95.
3 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5173.
4 - المصدر عاليه: حديث رقم 5177.
5 - رواه أبو داود في الأطعمة: حديث رقم 3736, 3737.
6 - رواه البخاري في المظالم: حديث رقم 2472. وأحمد في المسند 4/246 و 307 و 428.

وإن قسم على الحاضرين كان أولى.
ـــــــ
تزاحما وقتالا وربما أخذه من يكره صاحبه لقوته وشدة نفسه, وحرمه من يحب صاحب النثار صيانة لنفسه ومروءته عن مزاحمة السفلة, فكره لما فيه من الدناءة فأما خبر البدنات فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه لا نهبة في ذلك لكثرة اللحم وقلة الآخذين, أو فعله لاشتغاله بالمناسك وهو مباح في الجملة غير محرم, ومن أخذ منه شيئا ملكه لأنه نوع إباحة أشبه ما يأكله الضيفان وإنما الكلام في الكراهية.
مسألة: "وإن قسم على الحاضرين كان أولى" ولا خلاف في أن ذلك حسن غير مكروه, وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين أصحابه تمرا فأعطى كل إنسان سبع تمرات فأعطاني سبع تمرات إحداهن حشفة فلم يكن فيهن تمرة أعجب إلي منها شدت في مضاغي1. قال المروذي: وسألت أبا عبد الله عن الجوز نثير فكرهه. وقال: يعطون من يقسم عليهم, وفرق أبو عبد الله على الصبيان الجوز لكل واحد خمسا خمسا لما حذق ابنه حسن, والله أعلم.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الأطعمة: حديث رقم 5411.

كتاب الأطعمة
مدخل...
كتاب الأطعمةوهي نوعان: حيوان وغيره فأما غير الحيوان فكله مباح إلا ما كان نجسا أو مضرا كالسموم, والأشربة كلها مباحة إلا ما أسكر فإنه يحرم قليله وكثيره من أي شيء كان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام"
ـــــــ
كتاب الأطعمة
"وهي نوعان حيوان وغيره فأما غير الحيوان فكله مباح" لأن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} 1, "إلا ما كان نجسا" فإنه حرام الأكل بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية: "اكفئوها فإنها رجس". وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} 2, والرجس اسم لما استقذر, والنجس مستقذر, وقد أمر في أثناء الآية باجتنابه بقوله {فَاجْتَنِبُوهُ}, فدل على تحريمه والمضر حرام أيضا لضرره "كالسموم" ونحوها.
مسألة: "والأشربة كلها مباحة" لأن الأصل الإباحة "إلا ما أسكر فإنه يحرم قليله وكثيره من أي شيء كان" لقوله عليه السلام: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام". رواه ابن عمر وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". رواهما أبو داود والأثرم وغيرهما3, وقال عمر: نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ولأنه مسكر فأشبه عصير العنب.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية: 29.
2 - سورة المائدة: الآية 90.
3 - الأول رواه أبو داود في : الأشربة: حديث رقم 3679. والبخاري في الأدب: حديث رقم 6124. ومسلم في الأشربة: حديث رقم 73, 75. والثاني: رواه أبو داود في الأشربة: حديث رقم 3681.

وإن تخللت الخمرة طهرت وحلت وإن خللت لم تطهر
فصل
والحيوان قسمان: بحري وبري فأما البحري فكله حلال إلا الحية والضفدع والتمساح, وأما البري فيحرم منه كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير كالنسور والرخم وغراب البين الأبقع والحمر الأهلية والبغال وما يأكل الجيف من
ـــــــ
مسألة: "وإن تخللت الخمر طهرت وحلت" وهذا إجماع "وإن خللت لم تطهر"؛ لما روى أبو طلحة قال: لما نزل تحريم الخمر كان عندي خمر لأيتام فقلت: يا رسول الله أخللها؟ قال: "لا أرقها" 1. فأمر بإرقاتها ولو كان يحل تخليلها لما أمر بإراقتها لأنه يكون إتلاف مال وتضيع على الأيتام وذلك لا يجوز.
"فصل: والحيوان قسمان : بحري وبري فأما البحري فكله حلال", لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" 2. وهذا عام "إلا الحية والضفدع" لأنهما من الخبائث وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع "إلا التمساح" لأنه يأكل الناس وله ناب يجرح.
مسألة: "وأما البري فيحرم منه كل ذي ناب من السباع" وهي التي تضرب بأنيابها الشيء وتفرس وهو مذهب أكثر أهل العلم؛ لما روى أبو ثعلبة الخشني قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع, متفق عليه, وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" 3. قال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت صحيح مجمع على صحته وهذا نص صريح.
مسألة: "ويحرم كل ذي مخلب من الطير" وهي التي تعلف بمخالبها الشيء وتصيد بها لما روى ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير, وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرام عليكم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير". رواهما أبو داود4.
مسألة: "و" تحرم "الحمر الأهلية" لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأشربة: حديث رقم 3675.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5527. ومسلم في الصيد: حديث رقم 12, 15.
4 - الأول: رواه أبو داود في الأطعمة: حديث رقم 3803. والثاني: المصدر عاليه: حديث رقم 3806.

الطير, وما يستخبث من الحشرات كالفار ونحوها إلا اليربوع والضب لأنه أكل على
ـــــــ
لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. متفق عليه1.
مسألة: "والبغال" محرمة لأنها متولدة منها والمتولد من شيء له حكمه في التحريم. قال قتادة: ما البغل إلا شيء من الحمار, وعن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمر ولم ينهنا عن الخيل.
مسألة: "وما يأكل الجيف من الطير" كالنسور والرخم وغراب البين الأبقع قال عروة: ومن يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق؟ ولعله يعني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور" 2. فهي محرمة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها فواسق وأمر بقتلها وما يحل أكله لم يحل قتله بل يذبح.
مسألة: "و" يحرم كل "ما يستخبث من الحشرات" كالديدان والجعلان وبنات وردان والخنافس والفأر والأوزاغ والحرباء والعظاء والجراذين والعقارب والحيات لقوله سبحانه: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 3, وهذه من الخبائث وقال عليه السلام: "خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب والفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور". وفي حديث مكان الفأرة الحية, ولو كانت من الصيد المباح لما أبيح قتلها للمحرم لأن الله سبحانه قال: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} 4, وقال سبحانه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} 5, وكذلك القنفذ لما روى أبو داود أن أبا هريرة قال: ذكر القنفذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو خبيثة من الخبائث".
مسألة: "إلا اليربوع" يعني أنه مباح لأن عمر رضي الله عنه حكم فيه بجفرة ولأن الأصل الإباحة ما لم يرد تحريم وعنه أنه حرام لأنه يشبه الفأر.
مسألة: "والضب" حلال لما روى ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ فقيل: "هو ضب يا رسول الله فرفع يده -فقلت أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" قال
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5520. ومسلم في الصيد: حديث رقم 36.
2 - رواه البخاري في جزاء الصيد: حديث رقم 926. ومسلم في الحج: حديث رقم 69.
3 - سورة الأعراف: الآية 157.
4 - سورة المائدة: الآية 95.
5 - سورة المائدة: الآية 96.

مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر وقيل له: أحرام هو؟ قال: "لا". وما عدا هذا مباح ويباح أكل الخيل والضبع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في لحوم الخيل وسمى الضبع صيدا.
ـــــــ
خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر, متفق عليه1 وقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم الضب ولكنة قذره ولو كان عندي لأكلته2.
مسألة: "ويباح أكل الخيل" لحديث جابر وقد تقدم.
مسألة: "و" يباح "الضبع" لما روى جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الضبع قلت: صيد هي؟ قال: "نعم". واحتج به الإمام أحمد وفي لفظ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع. فقال: "هو صيد ويجعل فيه كبشا إذا صاده المحرم". رواه أبو داود3.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الذبائح والصيد: حديث رقم 5537. ومسلم في الصيد والذبائح: حديث رقم 43.
2 رواه أحمد في المسند 1/29.
3 - سبق تخريجه.

باب الذكاة
يباح كل ما في البحر بغير ذكاة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: "الحل ميتته" إلا ما يعيش في البر فلا يحل حتى يذكى إلا السرطان ونحوه ولا يباح من البري
ـــــــ
باب الذكاة"يباح كل ما في البحر بغير ذكاة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" 1.
مسألة: "إلا ما يعيش في البر" من دواب البحر "فلا" يباح "حتى يذكى" كالطيور والسلحفاة وكلب الماء. قال أحمد: كلب الماء نذبحه ولا أرى بأسا بالسلحفاة إذا ذبحت, وقال: السرطان لا بأس بت, فقيل له: يذبح؟ قال: لا, وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء في البحر مذبوح" 2. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ذبح كل شيء في البحر لابن آدم". وروي نحو ذلك عن أبي بكر وقد صح أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر ميتة فأكلوا منها شهرا وادهنوا حتى سمنوا ولا يذكى السرطان لأنه ليس له نفس سائلة.
مسألة: "ولا يباح من البري شيء بغير ذكاة" لقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - أورده البخاري في الذبائح: 12- باب قول الله تعالى: {أُحِِلَ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}. معلقا وموقوفا على شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.

شيء بغير ذكاة إلا الجراد وشبهه.
والذكاة تنقسم ثلاثة أقسام: نحر وذبح وعقر ويستحب نحر الإبل وذبح ما سواها فإن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر فجائز, ويشترط للذكاة كلها ثلاثة شروط :
ـــــــ
-إلى قوله- {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} 1, فيدل ذلك على اشتراط الذكاة في الحل؛ ولأن غير المذكى يسمى ميتة والميتة حرام ولما أباح النبي ميتة البحر دل على تحريم غيرها وأن الذكاة شرط فيها.
مسألة: "إلا الجراد وشبهه" فإنه يباح أكله بإجماع أهل العلم, وقد قال عبد الله بن أبي أوفى: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد2, وقد قال عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان" 3. فالميتتان السمك والجراد, ولا فرق بين أن يموت بسبب أو غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحلت لنا ميتتان" ولم يفصل ولأنه لو افتقر إلى سبب لافتقر إلى ذبح وذابح وآلة كبهيمة الأنعام.
مسألة: "والذكاة تنقسم ثلاثة أقسام: نحر وذبح وعقر ويستحب نحر الإبل وذبح ما سواها" فالنحر هو أن يضربها بحربة أو نحوها في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بدنة وضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده4, متفق عليه. وأما الذبح فهو عبارة عن قطع الودجين والحلقوم والمريء وذلك معلوم في الغنم والبقر والطيور, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذكاة في الحلق واللبة" 5. وروي ذلك عن عمر رواه سعيد والأثرم, وسيأتي ذلك وأما العقر فهو في الصيد وما لا يقدر على تذكيته فيرميه بنشابة أو يطعنه برمح في أي موضع اتفق فيحل.
مسألة: "فإن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح فجائز"؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي: "أمر الدم بما شئت" 6. وقالت أسماء: نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه7, وعن عائشة قالت: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة واحدة8؛ ولأن ما كان ذكاة في
ـــــــ
1 - سورة المائدة الآية 3.
2 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5495. ومسلم في الصيد: حديث رقم 52.
3 - سبق تخريجه.
4 - سبق تخريجه.
5 - أورده البخاري في الذبائح: 24- باب النحر والذبح: معلقا وموقوفا على ابن عباس.
6 - رواه أبو داود في الأضاحي: حديث رقم 2824. وابن ماجه في الذبائح: حديث رقم 3177.
7 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5510.
8 - رواه أبو داود في المناسك: حديث رقم 1750.

أحدها : أهلية المذكي وهو أن يكون عاقلا قادرا على الذبح مسلما أو كتابيا فأما الطفل والمجنون والسكران والكافر الذي ليس بكتابي فلا تحل ذبيحته.
الثاني: أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح وإرسال الآلة في الصيد إن كان ناطقا وإن كان أخرس أشار إلى السماء فإن ترك التسمية على الذبيحة عامدا لم تحل وإن تركها ساهيا حلت وإن تركها على الصيد لم يحل عمدا كان أو سهوا
ـــــــ
حيوان كان ذكاة بحيوان آخر سائر الحيوانات.
مسألة: "ويشترط للذكاة كلها ثلاثة شروط: أحدها أهلية المذكي", ولها ثلاثة شروط: الأول "أن يكون عاقلا" يعرف الذبح ليقصده فإن كان لا يعقل كالطفل والمجنون والسكران لم يحل ما ذبحه لأنه لا يصح منه القصد فأشبه ما لو ضرب إنسانا بسيف فقطع عنق شاة, وكذلك لو وقعت الحديدة بنفسها على عنق شاة فذبحتها لم تحل. والثاني: أن يكون "قادرا على الذبح" ليتحقق منه فلو كان صبيا أو امرأة صح. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي. والثالث: الدين فيشترط أن يكون "مسلما أو كتابيا"؛ لأن الله سبحانه أحل لنا ما ذكيناه بقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}, وأحل طعام أهل الكتاب بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}, معناه ذبائحهم كذا فسره العلماء؛ ولأن المذكاة من جملة الأطعمة وأما غير الكتابي كالوثني فلا تحل ذبيحته ولا طعامه. الشرط "الثاني": للذكاة أن "يذكر اسم الله تعالى عند الذبح, و" عند "إرسال الآلة في الصيد إن كان ناطقا وإن أخرس أشار إلى السماء" فتشترط التسمية في حق كل ذابح مع العمد سواء كان مسالما أو كتابيا لقوله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1, فإن لم يعلم أسمى الكتابي أم لا؟ فذبيحته حلال لأن الله سبحانه أباح لنا أكل ما ذبحه الكتابي وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح.
مسألة: "وإن ترك" التسمية على الذبيحة "ساهيا حلت" لقوله عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 2, وقد روي عن ابن عباس أنه قال: من نسي التسمية فلا بأس, وروى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذبيحة المسلم حلال وإن له يسم إذا لم يتعمد", ولقوله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ}, محمول على من ترك عمدا بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}, والناسي ليس بفاسق.
مسألة: "وإن تركها على الصيد لم يحل عمدا كان أو سهوا" هذا تحقيق المذهب
ـــــــ
1 - سورة الأنعام: الآية 121.
2 - سبق تخريجه.

الثالث: أن يذكي بمحدد سواء كان من حديد أو حجر أو قصب أو غيره إلا السن والظفر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر", ويعتبر في الصيد أن يصيد بمحدد أو يرسل جارحا فيجرح الصيد فإن قتل الصيد بحجر أو بندق أو شبكة أو قتل الجارح الصيد بصدمته أو خنقه أو روعته لم يحل
ـــــــ
ونقل حنبل عن أحمد: إن نسي التسمية على الذبيحة والكلب أكل. قال: الخلال سها حنبل في نقله فإن في أول مسألته إذا نسي وقتل لم يأكل, ودليل الأولى قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ}. وقال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك وسميت فكل". قلت: وأرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: "لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره". متفق عليه2. وفي لفظ: "إذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل". وفي حديث ثعلبة ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل3. وقوله: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" 4. يقتضي نفي الإثم لأنه جعل الشرط المعدوم كالموجود بدليل ما لو نسي شروط الصلاة والفرق بين الصيد والذبيحة أن الذبح وقع في محله فجاز أن يسامح فيه بخلاف الصيد, والأحاديث بخلاف هذا لا نعلم لها أصلا. الشرط الثالث: أن يذكي بمحدد سواء كان من حديد أو حجر أو قصب أو غيره إلا السن والظفر, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكله ما لم يكن سنا أو ظفرا". متفق عليه5.
مسألة: "ويعتبر في الصيد أن يصيد بمحدد أو يرسل جارحا فيجرح الصيد" لأن الاصطياد قام مقام الذكاة والجارح آلة كالسكين وعقره الحيوان بمنزلة إفراء الأوداج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن أخذ الكلب ذكاته" 6. والصائد بمنزلة المذكي وكذلك السهم ينبغي أن يكون محددا فإن كان غير محدد كالمصطاح لم يحل, أو قتل بالمعراض فإنه يحل ما أصاب بحده ولا يحل ما أصاب بعرضه؛ لأن هذا كله من الموقوذة. وكذا لو "قتل الصيد بحجر أو بندق أو شبكة" فمات فيها "أو قل الجارح الصيد بصدمته أو بخنقه أو روعته لم يحل" لأنه موقوذ.
ـــــــ
1 - سورة المائدة: الآية 4.
2 - رواه البخاري في الوضوء: حديث رقم 175. ومسلم في الصيد: حديث رقم 1, 3.
3 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5478.
4 - سبق تخريجه.
5 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5498. ومسلم في الأضاحي: حديث رقم 20.
6 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5475. ومسلم في الصيد: حديث رقم 4.

وإن صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده دون ما قتل بعرضه وإن نصب المناجيل للصيد وسمى فعقرت الصيد أو قتلته حل.
فصل
ويشترط في الذبح والنحر خاصة شرطان: أحدهما: أن يكون في الحلق واللبة فيقطع الحلقوم والمريء وما لا تبقى الحياة مع قطعه, الثاني: أن يكون في المذبوح حياة يذهبها الذبح فإن لم يكن فيه إلا كحياة المذبوح وما أبينت حشوته لم يحل بالذبح ولا النحر وإن لم يكن كذلك حل لما روى كعب قال: كانت لنا غنم ترعى بسلع فأبصرت جارية لنا شاة موتى فكسرت حجرا فذبحتها به فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمر بأكلها
ـــــــ
مسألة: "وإن صاد بالمعراض كل ما قتل بحده" ولم يأكل "ما قتل بعرضه" لذلك.
مسألة: "وإن نصب المناجل للصيد وسمى فعقرت الصيد أو قتلته حل" لأنه قتل الصيد بحديدة على الوجه المعتاد فأشبه ما لو رماه بها؛ ولأنه قصد قتل الصيد بما قد جرت العادة بالصيد به أشبه ما ذكرناه؛ ولأن التسبب جرى مجرى المباشرة في الضمان فكذلك في الصيد, وقال عليه السلام: "كل ما ردت عليك يدك".
"فصل: ويشترط في الذبح والنحر خاصة شرطان: أحدهما أن يكون في الحلق واللبة فيقطع الحلقوم والمريء وما لا تبقى الحياة مع قطعه", فيعتبر في الذكاة قطع الحلقوم والمريء ويكفي ذلك فيهما, وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين؛ لما روى أبو هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج ثم يترك حتى يموت, رواه أبو داود, ودليل الأولى أنه قطع ما لا تبقى الحياة مع فقده في محل الذبح فأجزأ كما لو قطع الودجين. فأما الحديث فمحمول على من لم يقطع المريء, فإذا ثبت هذا فالكمال أن يقطع الأربعة: الحلقوم وهو مجرى النفس, والمريء وهو مجرى الطعام والشراب, والودجين وهما عرقان محيطان بالحلقوم؛ لأنه أعجل لخروج روح الحيوان فيخف عليه فيكون أولى. الشرط "الثاني: أن يكون في المذبوح حياة يذهبها الذبح فإن لم يكن فيه إلا كحياة المذبوح وما أبينت حشوته لم يحل بالذبح ولا النحر" لأن هذا قد صار في حكم الميت, ولهذا لو أبان رجل حشوة إنسان فضرب الآخر عنقه كان القاتل الأول, ولو ذبح الشاة بعد ذبح المجوسي لم تحل, "وإن لم يكن كذلك حل" بالذبح يعني بذلك أن يدركها وفيها حياة بحيث إذا ذبحها يكون الذبح هو الذي قتلها لقوله سبحانه: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}, وفي حديث جارية كعب أنها أصيبت شاة من غنمها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوها". وسواء

وأما العقر فهو القتل بجرح في غير الحلق واللبة ويشرع في كل حيوان معجوز عنه من الصيد, والأنعام لما روى أبو رافع أن بعيرا ند فأعياهم فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا". ولو تردى بعير في بئر فتعذر نحره فجرح في أي موضع من جسده فمات به حل أكله,
ـــــــ
كانت قد انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش لعموم الآية والخبر وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل ولم يستفصل. وقال الإمام أحمد في بهيمة عقرت بهيمة حتى تبين فيها آثار الموت إلا أن فيها الروح, فقال: إذا مصعت بذنبها أو طرفت بعينها وسال الدم فأرجو إن شاء الله أن لا يكون بأكلها بأس, وسئل الإمام أحمد عن شاة مريضة خافوا عليها الموت فذبحوها فلم يعلم منها أكثر من أنها طرفت بعينها أو حركت يدها أو رجلها أو ذنبها بضعف فنهر الدم قال: فلا بأس, وقال بعض أصحابنا: إذا انتهت إلى حد لا تعيش معه لم تبح بالذكاة, ونص عليه الإمام إذا شق الذئب بطنها فخرج قصبها فذبحها لا تؤكل, وقال: إن كان يعلم أنها تموت من عقر السبع فلا تؤكل وإن ذكاها وقد يخاف على الشاة الموت من العلة والشيء يصيبها فبادرها فذبحها فيأكلها وليس هذا مثل هذه ولا ندري لعلها تعيش والتي خرجت أمعاؤها قد علم أنها لا تعيش, وقال شيخنا: والأول أصح لأن عمر رضي الله عنه انتهى به الجرح إلى حد علم أنه لا يعيش فصحت وصاياه ووجبت عليه العبادة؛ ولأن ما ذكرنا فيما قبل يرد هذا. قال: وما رويناه عن الإمام أحمد فالصحيح أنها إذا كانت تعيش زمانا يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح, والله أعلم.
مسألة: "وأما العقر فهو الجرح في غير الحلق واللبة وشرع في كل حيوان معجوز عنه من الصيد والأنعام"؛ لما "روى رافع بن خديج رضي الله عنه" قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم: فند بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا". متفق عليه1. وحرن ثور في بعض دور الأنصار فضربه رجل بالسيف وذكر اسم الله عليه فسأل عنه عليا فقال: ذكاة وجبت فأمرهم بأكله, وتردى بعير في بئر فذكي من قبل شاكلته فبيع بعشرين درهما فأخذ ابن عمر عشره بدرهمين رواه سعيد؛ ولأنه حيوان غير مقدور على تذكيته فأشبه الوحشي.
مسألة: "ولو تردى بعير في بئر فتعذر نحره فجرح في أي موضع من جسده فمات حل أكله" لذلك.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5498. ومسلم في الأضاحي: رقم 20.

كتاب الصيد
مدخل...
كتاب الصيدكل ما أمكن ذبحه من الصيد لم يبح إلا بذبحه وما تعذر ذبحه فمات بعقره حل بشروط ستة ذكرنا منها ثلاثة في الذكاة, والرابع: أن يكون الجارح الصائد معلما وهو ما يسترسل إذا أرسل ويجيب إذا دعي.
ويعتبر في الكلب والفهد خاصة أنه إذا أمسك لم يأكل ولا يعتبر ذلك في الطائر. الثاني: أن يرسل الصائد الآلة فإن استرسل الكلب بنفسه لم يبح صيده. الثالث: أن يقصد الصيد فإن أرسل سهمه ليصيب به غرضا أو كلبه ولا يرى صيدا,
ـــــــ
كتاب الصيد
مسألة: "كل ما أمكن ذبحه من الصيد لم يبح إلا بذبحه" وقد سبق ذكر المعجوز عن تذكيته. فأما المقدور عليه فلا يباح إلا بالذبح بلا خلاف بين أهل العلم, وقوله عليه السلام في حديث عدي: "فإن أدركته حيا فاذبحه".
مسألة: "وما تعذر ذبحه فمات بعقره حل بشروط ستة ذكرنا منها ثلاثة في الذكاة" وقد مضى تعليلها, "والرابع: أن يكون الجارح الصائد معلما" ولا خلاف في اعتبار هذا الشرط والأصل فيه قوله سبحانه: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}, وروى أبو ثعلبة الخشني قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنا بأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم فأخبرني ما يصلح لي؟ قال: "أما ما ذكرت أنكم بأرض صيد فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل, وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل, وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل". متفق عليه.
مسألة: "ويعتبر في" تعليمه ثلاثة شروط: إذا أرسله استرسل وإذا زجره انزجر "وإذا أمسك لم يأكل" إذا كان كلبا أو فهدا, ويتكرر هذا منه مرة بعد أخرى حتى يصير معلما في حكم العرف, ولا يعتبر ترك الأكل في الطائر لأن تعليمه بأن يأكل عند أهل العرف بذلك فإن أكل غير الطائر من الصيد لم يبح في إحدى الروايتين. والثانيه: يباح, وروي

فأصاب صيدا لم يبح, ومتى شارك في الصيد ما لا يباح قتله مثل أن يشارك كلبه أو سهمه كلب أو سهم لا يعلم مرسله أو لا يعلم أنه سمي عليه أو رماه بسهم مسموم يعين على قتله أو غرق في الماء أو وجد به أثرا غير أثر السهم أو الكلب يحتمل أنه مات
ـــــــ
ذلك عن جماعة من الصحابة لعموم قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}, وعن أبي ثعلبة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل". ذكره الإمام أحمد وأخرجه أبو داود, ودليل الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك". قلت: وإن قتل؟ قال: "وإن قتل إلا أن يأكل الكلب فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه". متفق عليه. وأما الآية فإنها تتناول ما أمسكن علينا, وهذا إنما أمسك على نفسه, وحديث أبي ثعلبة قال الإمام أحمد: يختلفون فيه عن هشيم, وعلى أن حديث عدي أصح لأنه متفق عليه وعدي بن حاتم أضبط ولفظه أبين؛ لأنه ذكر الحكم والعلة. قال أحمد: حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم, الشعبي يقول: كان جاري وربيطي فحدثني والعمل عليه. "الثاني": وهو الخامس "أن يرسل الصائد المصيد فإن استرسل بنفسه" فقتل "لم يبح صيده" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك وسميت فكل"؛ ولأن إرسال الجارحة جعل بمنزلة الذبح ولهذا اعتبرت التسمية معه. "الثالث": وهو السادس "أن يقصد الصيد فإن أرسل سهمه ليصيب به غرضا ولا يرى صيدا فأصاب صيدا لم يبح"؛ لأنه لم يقصد برميه عينا فأشبه من نصب سكينا فانذبحت بها شاة.
مسألة: "ومتى شارك في الصيد ما لا يباح قتله مثل أن يشارك كلبه أو سهمه كلب أو سهم لا يعلم مرسله أو لا يعلم أنه سمي عليه" لم يبح؛ لما روي أن عديا قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر. قال: "لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر", وفي لفظ: "فإن وجدت مع كلبك كلبا آخر فخشيت أن يكون أخذ معه وقد قتله فلا تأكله فإنما ذكرت اسم الله على كلبك", وفي لفظ: "فإنك لا تدري أيهما قتل". أخرجه البخاري؛ ولأنه شك في وجود الاصطياد المباح فوجب إبقاء حكم التحريم وكذلك الحكم في سهمه إذا وجد معه سهما آخر وقد قتل لا يباح لأنه إنما ذكر اسم الله على سهمه ولم يذكره على سهم غيره, والحديث حجة فيهما جميعا وفي بعض ألفاظ حديث عدي: "فإن لم تجد فيه إلا أثر سهمك فكله إن شئت", مفهومه أنه إن وجد فيه أثر غيره لا يأكله.
مسألة: "وإن رماه بسهم مسموم يعين على قتله" ويحتمل أنه مات به لم يحل لأن قتله بالسهم حرام وقتله بالسهم مباح فقد اشتبه المحظور بالمباح فيحرم كما لو مات بسهم مجوسي ومسلم "وإن رماه فغرق في ماء" يحتمل أنه مات بذلك. "حرم" لأن في

لم يحل لما روى عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فأمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب له ذكاة فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه . وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره وإذا أرسلت سهمك فاذكر اسم الله عليه وإن غاب عنك يوما أو يومين ولم تجد فيه إلا أثر سهمك فكله إن شئت وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو قتله سهمك" .
ـــــــ
بعض ألفاظ حديث عدي: "وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" .

باب المضطر
ومن اضطر في مخمصة فلم يجد إلا محرما فله أن يأكل منه ما يسد رمقه
ـــــــ
باب المضطر"ومن اضطر في مخمصة فلم يجد إلا محرما فله أن يأكل منه ما يسد" به "رمقه" أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطر وكذلك سائر المحرمات التي لا تزيل العقل, والأصل فيه قوله سبحانه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}, ويباح له أكل ما يسد به الرمق ويأمن معه الموت بالإجماع, ويحرم عليه ما زاد على الشبع بالإجماع, وفي الشبع روايتان: أحدهما لا يباح, والثانية: يحل له الشبع اختارها أبو بكر؛ لما روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده ناقة فقال: أسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله, فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل عندك غني يغنيك"؟ قال: لا, قال: "فكلوها ولم يفرق". رواه أبو داود1؛ ولأن ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح, ودليل الأولى أن الآية الكريمة دلت على تحريم الميتة ثم استثنى منها ما ضطر إليه فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل كحالة الابتداء ولأنه بعد سد الرمق غير خائف للتلف فلم يجز له الأكل كغير المضطر يحققه أنه بعد سد الرمق كهو قبل أن يضطر وثم لم يبح له الأكل هكذا هنا, إذا ثبت هذا فإن الضرورة المبيحة هي التي يخاف منها التلف إن ترك الأكل. قال الإمام أحمد: إذا كان يخشى على نفسه أن يتلف سواء كان من جوع أو يخاف إن ترك
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأطعمة: حديث رقم 3816.

وإن وجد متفقا على تحريمه ومختلفا فيه أكل من المختلف فيه فإن لم يجد إلا طعاما لغيره به مثل ضرورته لم يبح له أخذه وإن كان مستغنيا عنه أخذه منه بثمنه, فإن منعه منه أخذه قهرا وضمنه له متى قدر فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه, وإن قتل المانع فلا ضمان فيه, ولا يباح التداوي بمحرم ولا شرب الخمر لمن عطش ويباح دفع الغصة بها إذا لم يجد مائعا غيرها,
ـــــــ
الأكل عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة أو يعجز عن الركوب فيهلك.
مسألة: "وإن وجد متفقا على تحريمه ومختلفا فيه, أكل من المختلف فيه" لأنه أخف تحريما كالخنزير متفق على تحريمه والثعلب مختلف فيه والقنفذ وما شاكل ذلك.
مسألة: "فإن لم يجد إلا طعاما لغيره به مثل ضرورته لم يبح له أخذه" لأن صاحب الطعام ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة.
مسألة: "وإن كان مستغنيا عنه أخذه منه بثمنه" لأنه أمكن الوصول إليه برضا صاحبه. قال القاضي: فإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمن مثله فاشتراه بذلك لم يلزمه إلا بثمن مثله لأنه صار مستحقا له بقيمته, فإن كان العوض معه دفعه إليه وإلا بقي في ذمته ولا يباح للمضطر من مال غيره إلا ما يباح له من الميتة. قال أبو هريرة: قلنا يا رسول الله ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال: "يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل".
مسألة: "فإن منعه منه أخذه قهرا وضمنه له متى قدر" [على مثله أو قيمته] وذلك لأن صاحب الطعام إذا كان مستغنيا عنه لزمه بذله للمضطر لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله له كما يلزمه بذل منافعه في تخليصه من الغرق والحرق, فإن لم يبذله له فللمضطر أخذه منه قهرا لأنه مستحق له دون مالكه فجاز له أخذه كعين ماله فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه. "فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى الآخر ضمانه" بالقصاص أو الدية "وإن آل آخذه إلى قتل مالكه فهو هدر" كما قلنا في الصائل إذا قتله المصول عليه دفعا عن نفسه ولم يمكنه دفعه إلا بالقتل.
مسألة: "ولا يباح التداوي بمحرم" لقوله عليه السلام: "لا شفاء لأمتي فيما حرم عليها". رواه الإمام أحمد في كتاب الأشربة ولفظه: "إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء" 1.
مسألة: "ولا" يجوز "شرب الخمر من عطش" لأنه لا يروي.
مسألة: "ويباح دفع الغصة بها إذا لم يجد مائعا غيرها" لأنه حالة ضرورة إذ لو لم يفعل ذلك لخاف الموت لأنها تقتل صاحبها.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

باب النذر
من نذر طاعة لزمه فعلها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" فإن كان لا يطيقها -كشيخ نذر صياما لا يطيقه- فعليه كفارة يمين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين" ومن نذر المشي إلى بيت الله الحرام
ـــــــ
باب النذروالأصل في النذر الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله سبحانه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وأما السنة فما روت عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". أخرجه البخاري1, وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة وهو غير مستحب لأن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل". متفق عليه2.
مسألة: "ومن نذر أن يطيع الله فليطعه" لحديث عائشة رضي الله عنها "فإن كان لا يطيق - كشيخ كبير نذر صياما لا يطيقه- فعليه كفارة يمين" لما روى عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال: "لتمش ولتركب". متفق عليه3, ولأبي داود: "ولتكفر يمينها" 4. وللترمذي "ولتصم ثلاثة أيام" 5. قال ابن عباس: من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا يطيقه فليف لله بما نذر فإذا كفر فهل يلزمه مع الكفارة إطعام؟ على روايتين: إحداهما لا يلزمه لأن الكفارة إنما وجبت لترك الفعل فلو أوجبنا فدية عن الصيام لجمعنا بين كفارتين ولأنه لو نذر ما لا يطيقه غير الصوم لما يلزمه أكثر من كفارة كذا ها هنا, والثانية: يلزمه أن يطعم عن كل يوم مسكينا كما قلنا في رمضان إذا عجز عن صيامه والأول أصح وأقيس لأن موجب النذر اليمين واليمين إنما لها كفارة واحدة.
مسألة: "ومن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزه المشي إلا في حج أو عمرة" لأن المشي المعهود في الشرع إلى البيت هو المشي في حج أو عمرة فإذا أطلق الناذر
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في القدر: حديث رقم 6608, 6609. ومسلم في النذر: حديث رقم 3, 7.
3 - رواه البخاري في الصيد: باب 27. ومسلم في النذر: حديث رقم 11.
4 - رواه أبو داود في الأيمان والنذور: حديث رقم 3295.
5 - رواه الترمذي في النذور: حديث رقم 1544. وقال: هذا حديث حسن.

لم يجزه المشي إلا في حج أو عمرة فإن عجز عن المشي ركب وإن نذر صوما متتابعا فعجز عن التتابع صام متفرقا وكفر وإن ترك التتابع لعذر في أثنائه خير بين استئنافه وبين البناء والتكفير وإن تركه لغير عذر وجب استئنافه وإن نذر معينا فأفطر في بعضه أتمه وقضى وكفر بكل حال
ـــــــ
حمل على المعهود الشرعي ويلزمه المشي لأن المشي إلى العبادة أفضل؛ ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يركب في عيد ولا جنازة قط, فإذا ثبت هذا فإنه إن أتى البيت ماشيا فقد وفى بنذره, "فإن عجز عن المشي ركب" وكفر كفارة يمين لحديث عقبة بن عامر وقد سبق, وروى عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفارة النذر كفارة يمين" 1. وعنه رواية أخرى يلزمه دم لأن ابن عباس رضي الله عنهما روى أن أخت عقبة نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديا وفيه ضعف, والصحيح الأول لما سبق ولأن المشي مما لا يوجبه الإحرام فلم يجب الدم بتركه كما لو نذر صلاة ركعتين فلم يصلهما فإن قيل خبر عقبة ليس فيه ذكر عجز أخته [عن المشي], قلنا: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم عجزها لمعرفته بحالها أو من حيث أن الظاهر من حال المرأة أنها لا تطيق المشي في الحج كله أو ذكر له ذلك فلم ينقل, ودليل هذا التأويل أن المشي قربة والقربة تلزم بالنذر فلا يجوز أن يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بتركه من غير عذر.
مسألة: "وإن نذر شهرا متتابعا فعجز عن التتابع صام متفرقا وكفر" لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أخت عقبة بن عامر بالكفارة لعجزها عن المشي لأن النذر كاليمين ولو حلف ليصومن متتابعا فأخل به لزمته الكفارة.
مسألة: "وإن ترك التتابع لعذر في أثنائه" من مرض أو حيض "خير بين استئنافه" ولا شيء عليه لأنه أتى بما نذره على وجهه "وبين أن يبني على صيامه ويكفر" لأن الكفارة تلزم لتركه المنذور وإنما جوزنا له البناء ها هنا لأن الفطر لعذر لا يقطع التتابع حكما بدليل أنه لو أفطر في صيام الشهرين المتتابعين من غير عذر كان له البناء وإن كان العذر يبيح الفطر كالسفر فهل يقطع التتابع؟ فيه وجهان: أحدهما يقطعه لأنه يفطر باختياره, والثاني: لا يقطعه لأنه عذر في الفطر في رمضان فأشبه المرض.
مسألة: "وإن تركه لغير عذر وجب استئنافه" ولا كفارة عليه لأنه ترك التتابع المنذر ولغير عذر مع إمكان الإتيان به فلزمه كما لو نذر صوما معينا فصام قبله.
مسألة: "وإن نذر صياما معينا فأفطر في بعضه أتمه وقضى وكفر بكل حال" سواء
ـــــــ
1 - رواه مسلم في النذر: حديث رقم 13.

وإن نذر رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب إلا أن ينوي رقبة بعينها ولا نذر في معصية
ـــــــ
أفطر لعذر أو لغير عذر ولا يلزمه استئناف نص عليه الإمام أحمد, ولكنه يقضي ما تركه لأنه واجب بالنذر فلزمه قضاؤه كالواجب بالشرع ويكفر لأنه فات عليه ما نذره فلزمته الكفارة لأنه كاليمين والمذهب أنه إن تركه لغير عذر لزمه الاستئناف والكفارة لأنه صوم يجب متتابعا بالنذر فأبطله الفطر لغير عذر كما لو شرط التتابع وذكر أبو الخطاب رواية أنه لا كفارة عليه إذا تركه لعذر لأن المنذور محمول على المشروع, ولو أفطر في رمضان لعذر لم يلزمه شيء ولنا أنه فات عليه ما نذره فلزمته الكفارة بدليل قوله عليه السلام لأخت عقبة: "لتركب وتكفر يمينها", وفارق رمضان فإنه لو أفطر لغير عذر لم يكن عليه كفارة إلا في الجماع.
مسألة: "ومن نذر رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب إلا أن ينوي رقبة بعينها" يعني لا يجزيه إلا رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل وهي التي تجزئ في الكفارة لأن النذر المطلق يحمل على المعهود في الشرع والواجب بأصل الشرع كذلك, [و في وجه لأصحاب الشافعي يجزيه أي رقبة كانت لأنه نوى بلفظه ما يحتمله] "فأما إن نوى رقبة بعينها تعينت" بنذره كما لو نذر صوم يوم بعينه.
مسألة: "ولا نذر في معصية" ولا يحل الوفاء به إجماعا لقوله عليه السلام: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه", ويجب عليه كفارة يمين. روي ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم, وعنه ما يدل على أنه لا كفارة عليه لقوله عليه السلام: "لا نذر في معصية الله ولا في ما لا يملك العبد". رواه مسلم1, وقال: "ليس على الرجل نذر فيما لا يملك". متفق عليه2. وقال: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى". رواه أبو داود3, ولم يأمر بكفارة ولأن النذر التزام الطاعة وهذا التزام معصية ولأنه نذر غير منعقد فلم يوجب شيئا كاليمين غير المنعقدة ووجه الأولى ما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين". رواه الإمام أحمد وأبو داود وقال الترمذي: هو حديث غريب.4 وفي حديث عمران: "وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه وتكفيره ما يكفر اليمين". وأما ما سبق من الأحاديث فمعناها لا يوفي بالنذر في معصية الله وإن لم يبين الكفارة فيها فقد بينها ها هنا.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في النذر: حديث رقم 8.
2 - رواه البخاري في الأدب: حديث رقم 6047. ومسلم في النذر: حديث رقم 8.
3 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2192.
4 - سبق تخريجه.

ولا مباح ولا فيما لا يملك ابن آدم, ولا فيما قصد به اليمين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم", وقال: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله سبحانه", وإن جمع في النذر بين الطاعة وغيرها فعليه الوفاء بالطاعة وحدها لما روى ابن عباس قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قائما فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم, فقال: "مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه". وإن قال لله علي نذر ولم يسمه فعليه كفارة يمين,
ـــــــ
مسألة: "ولا" نذر "فيما لا يملك ابن آدم" لما سبق.
مسألة: "ولا نذر في مباح" كمن نذر أن يلبس ثوبه أو يركب دابته فالناذر مخير بين فعله فيبر وبين تركه ويكفر كاليمين على ذلك ويتخرج في المذهب أن لا ينعقد هذا النذر ولا كفارة عليه بتركه وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى", ولم يذكر كفارة.
مسألة: "ولا نذر فيما قصد به اليمين" وهو نذر اللجاج وسيأتي في باب الأيمان إن شاء الله تعالى.
مسألة: "وإن جمع في النذر بين الطاعة وغيرها فعليه الوفاء بالطاعة وحدها؛ لما روى ابن عباس" رضي الله عنهما "قال": بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم "فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس و لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم, فقال" النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم الصوم". رواه البخاري1.
مسألة: "وإن قال لله علي نذر ولم يسمه فعليه كفارة يمين" ويسمى النذر المبهم فيه كفارة يمين في قول أكثرهم, وقد روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم ولا نعلم فيها مخالفا إلا الشافعي رضي الله عنه قال: لا ينعقد نذره ولا كفارة عليه, ولنا ما روى عصبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة اليمين". رواه الترمذي, وقال: حديث حسن صحيح2, وهذا نص وهو قول جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه الترمذي في النذور والأيمان: حديث رقم 1528.

كتاب الأيمان
مدخل...
كتاب الأيمانومن حلف أن لا يفعل شيئا ففعله أو ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه فعليه كفارة يمين إلا أن يقول إن شاء الله متصلا بيمينه أو يفعله مكرها أو ناسيا فلا كفارة عليه,
ـــــــ
كتاب الأيمان
مسألة: "ومن حلف أن لا يفعل شيئا ففعله أو ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه فعليه كفارة يمين" والأصل في ذلك قول الله سبحانه: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1, وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها". متفق عليه2, وقال عليه السلام: "إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه". متفق عليه3. وقال لعبد الرحمن: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" 4. فإذا حلف أن لا يفعل شيئا ففعله فقد حنث ولزمته الكفارة, وكذلك إن حلف ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه كقوله: لأصومن غدا فلم يصم حنث ولزمه الكفارة لا خلاف في هذا بين فقهاء الأمصار. قال ابن عبد البر: اليمين التي فيها الكفارة بإجماع المسلمين هي اليمين على المستقبل من الأفعال.
مسألة: "إلا أن" يستثني فـ "يقول" لا فعلت "إن شاء الله" أو لأفعلن إن شاء الله "متصلا بيمينه" فلا يحنث إن فعله أو لم يفعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فقد اسثتنى". رواه أبو داود من حديث ابن عمر5.
ـــــــ
1 - سورة المائدة: الآية 89.
2 - رواه البخاري في الأيمان: حديث رقم 6621. ومسلم في الأيمان: حديث رقم 9.
3 - رواه البخاري في الأيمان: حديث رقم 6622. ومسلم في الأيمان: حديث رقم 17.
4 - رواه مسلم في الأيمان: حديث رقم 19.
5 - رواه أبو داود في الأيمان والنذور: حديث رقم 3261.

ولا كفارة في الحلف على ماض سواء تعمد الكذب أو ظنه كما حلف فلم يكن ولا في اليمين الجارية على لسانه من غير قصد إليها كقوله في عرض حديثه لا والله
ـــــــ
مسألة: "وإن حلف أن لا يفعل شيئا ففعله مكرها أو ناسيا لم يحنث" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 1؛ ولأن فعل المكره لا ينسب إليه فلم تجب عليه كفارة كما لو لم يفعله.
مسألة: "ولا كفارة في الحلف على ماض سواء تعمد الكذب أو ظنه كما حلف فلم يكن" وذلك أن اليمين على الماضي ينقسم ثلاثة أقسام: ما هو فيه صادق فلا كفارة فيه إجماعا وما هو متعمد الكذب فيه فهي تسمى يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم ولا كفارة فيها في ظاهر المذهب, وقال الشافعي رضي الله عنه: فيها الكفارة, وعن الإمام أحمد مثله لأنه وجدت منه اليمين والمخالفة مع القصد فلزمته الكفارة كالمستقبلة, ولنا أنها يمين غير منعقدة فلا توجب كفارة كاللغو أو يمين على ماض فأشبه اللغو وبيان أنها غير منعقدة أنها لا توجب برا ولا يمكن فيها, ولأنها قارنها ما ينافيها وهو الحنث فلم تنعقد كالنكاح إذا قارنه الرضاع ولأن الكفارة لا ترفع إثمها فلا تشرع فيها بدليل أنها كبيرة فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس". رواه البخاري2 وروي فيه: "خمس من الكبائر لا كفارة لهن: الإشراك بالله والفرار من الزحف وبهت المؤمن وقتل المسلم بغير حق والحلف على يمين فاجرة يقتطع فيها مال امرئ مسلم" 3, ولا يصح القياس على المستقبلة لأنها يمين معمودة فتجب الكفارة في حلها وهذه لا عقد لها فلا حل لها. قال ابن المنذر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" يدل على أن الكفارة إنما تجب بالحلف على فعل يفعله فيما يستقبله. القسم الثالث: ما يظنه فيتبين بخلاف ما ظنه فلا كفارة فيها لأنها من لغو اليمين واللغو نوعان: أحدهما: هذه لا كفارة فيها لأنها يمين غير منعقدة لأن الحنث مقارن لها فأشبهت يمين الغموس ولأنه غير قاصد المخالفة فأشبه ما لو حنث ناسيا, وعن الإمام أحمد أنه ليس من لغو اليمين وفيه الكفارة والمذهب الأول لما سبق. النوع الثاني: من اللغو "أن يحلف بلسانه من غير أن يعقد عليها قلبه بل تمر "على لسانه من غير قصد إليها", وقال عطاء: قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يعني في اللغو في اليمين: "هو كلام الرجل في بيته: لا والله وبلى والله". أخرجه أبو داود وروي4.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في الأيمان: حديث رقم 6675.
3 - سبق تخريجه.
4 - رواه أبو داود في الأيمان: حديث رقم 3254.

وبلى والله لقول الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}. ولا تجب الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى أو اسم من أسمائه أو صفة من صفات ذاته كعلمه وكلامه وعزته وقدرته وعظمته وعهده وميثاقه وأمانته إلا في النذر الذي يقصد به اليمين فإن كفارته كفارة يمين,
ولو حلف بهذا كله والقرآن جميعه فحنث أو كرر اليمين على
ـــــــ
عن عائشة موقوفا قالت: أيمان اللغو ما كان في المراء والهزل والمزاحة, والحديث الذي لا يعقد عليه القلب ولأن اللغو في كلام العرب الكلام غير المعقود وهذا كذلك وإذا ثبت هذا فاللغو لا كفارة فيه لقول الله سبحانه: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}, فجعل الكفارة لليمين التي يؤاخذ بها ونفي المؤاخذة باللغو فيلزم انتفاء الكفارة.
مسألة: "ولا تجب الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى أو اسم من أسمائه أو صفة من صفات ذاته كعلمه وكلامه وعزته وقدرته وعظمته وعهده وميثاقه وأمانته" أجمع أهل العلم على أن من حلف بالله عز وجل فقال: والله أو تالله أو بالله فحنث أن عليه الكفارة. قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي يقولون: من حلف باسم من أسماء الله عز وجل فحنث فعليه الكفارة ولا نعلم في ذلك اختلافا, وكذلك إن أقسم بصفة من صفات ذات الله تعالى في قولهم جميعا, وقال أبو حنيفة في قوله وعلم الله لا يكون يمينا: لأنه يحتمل المعلوم قلنا يبطل بقوله وقدرة الله فإنه يحتمل المقدور وقد سلموه.
مسألة: "إلا في النذر الذي يقصد به اليمين فإن كفارته كفارة يمين" وذلك أنه متى أخرج النذر مخرج اليمين -بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا أو يحنث به على شيء مثل أن يقول: إن كلمت زيدا فعلي الحج أو صدقة مالي أو صوم شهر -فهذا يمين حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه فلا يلزمه شيء وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وكفارة يمين, ويسمى هذا نذر اللجاج والغضب ولا يتعلق عليه الوفاء به وإنما يلزم نذر التبرر على ما سبق في باب النذر.
مسألة: "وقيل لا شيء عليه بالحلف بالحج ولا بصدقة ماله" لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله سبحانه لحرمة الاسم وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه لأنه لم يخرجه مخرج القربة وإنما التزمه على طريق العقوبة فلا يلزمه, وقال أبو حنيفة: يلزمه كنذر التبرر, ولنا ما روي عن عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين". أخرجه الجوزجاني, وسعيد بن منصور. وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بالمشي أو الهدي أو جعل ماله في سبيل الله عز وجل

شيء واحد قبل التكفير, أو حلف على أشياء بيمين واحدة لم يلزمه أكثر من كفارة
ـــــــ
أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين"؛ ولأنه قول عمر وابن عباس وابن عمر وعائشة وحفصة وزينب بنت أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين ولا مخالف لهم في عصرهم نعلمه فكان إجماعا؛ ولأنه يمين فيدخل في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}, ودليل أنه يمين أنه يسمى بذلك ويسمى قائله حالفا وفارق نذر التبرر فإنه لم يخرجه مخرج اليمين وإنما قصد به التقرب وها هنا خرج مخرج اليمين فأشبهها من وجه وأشبه النذر من وجه فخيرناه بين الوفاء به والكفارة, وعن أحمد يتعين عليه الكفارة ولا يجزيه الوفاء بنذره لأنها يمين والأول أولى؛ لأنه جمع الصيغتين فيجب العمل بهما والخروج من عهدته بما يخرج به عن عهدة كل واحد منهما.
مسألة: "لو حلف بهذا كله" يعنى بأسماء الله وصفاته "والقرآن جميعه فحنث أو كرر اليمين على شيء واحد قبل التكفير أو حلف على أشياء بيمين واحدة" [فحنث] "لم يلزمه أكثر من كفارة". أما إذا حلف بالله وصفاته كلها أو كرر اليمين على شيء واحد مثل قوله عليه السلام: "والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا" ثم حنث فليس عليه إلا كفارة واحدة, وقال أصحاب الرأي: عليه كفارات إذا كررت اليمين إلا أن يقصد التأكيد لأن أسباب الكفارات تكررت فتتكرر الكفارات كالقتل وإتلاف صيد الحرم؛ ولأن اليمين الثانية مثل الأولى فتقتضي ما تقتضيه ولنا أنها أسباب كفارات من جنس فتداخلت كالحدود من جنس واحد وقد ثبت الأصل بقوله عليه السلام: "الحدود كفارات لأهلها", ولأن الثانية لا تفيد إلا ما أفادته الأولى فلم يجب أكثر من كفارة كما لو قصد التأكيد وقياسهم ينتقض بما إذا قصد التأكيد.
مسألة: وأما إذا حلف بالقرآن جميعه فحنث فعليه كفارة واحدة نص عليه, وعنه يلزمه لكل آية كفارة, روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه, وقال الإمام أحمد لا أعلم شيئا يدفعه وعن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية كفارة يمين فمن شاء بر ومن شاء فجر". رواه الأثرم ووجه الأولى قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}, وهذه يمين فتدخل في عموم الآية ولأنها يمين فلم توجب أكثر من كفارة كسائر الأيمان؛ ولأن إيجاب كفارات بعدد الآيات يفضي إلى منع الحالف من البر والتقوى والإصلاح بين الناس وقد نهى الله سبحانه عن ذلك بقوله: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} 1، ولأن الحالف بصفات الله كلها وتكرار اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة فالحلف
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 224.

وإن حلف أيمانا على شيء فعليه لكل يمين كفارتها, ومن تأول في يمينه فله تأويله إلا أن يكون ظالما فلا ينفعه تأويله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك".
ـــــــ
بصفة واحدة من صفاته أولى أن تجزيه كفارة ويحمل كلام أحمد على الندب لا على الإيجاب فإن المنصوص عنه لكل آية كفارة فإن لم يمكنه فكفارة واحدة ورده إلى واحدة عند العجز دليل على أن ما زاد عليها غير واجب والله أعلم, وحديث مجاهد مرسل وقول ابن مسعود يحمل على الاختيار والاحتياط لكلام الله سبحانه والمبالغة في تعظيمه لاغير.
مسألة: "وإن حلف على أشياء بيمين واحدة لم يلزمه أكثر من كفارة" لأنها يمين واحدة كقوله: والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست, وإن حنث في جنس انحلت في الجميع ولزمته الكفارة ولا نعلم في هذا خلافا.
مسألة: "وإن حلف أيمانا على" أشياء فقال: والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست فحنث في الجميع "فعليه لكل يمين كفارتها" نص عليه في رواية المروذي, وقال أبو بكر: تجزيه كفارة واحدة نقلها ابن منصور عن الإمام أحمد. قال القاضي: وهي الصحيحة. قال أبو بكر: ما نقله المروذي عن أحمد قول أول لأبي عبد الله ومذهبه أن كفارة واحدة تجزيه لأنها كفارات من جنس واحد فتداخلت كالحدود من جنس واحد إذا اختلفت محالها بأن يسرق من جماعة أو يزني بنساء, ولنا أنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تكفر إحداها بكفارة الأخرى كما لو كفر عن إحداها قبل الحنث في الأخرى كالأيمان المختلفة الكفارة وهذا فارق الايمان على شيء واحد فإنه متى حنث في إحداها كان حنثا في الأخرى فلما كان الحنث واحدا كانت الكفارة واحدة وها هنا الحنث متعدد فكانت الكفارة متعددة.
مسألة: "ومن تأول في يمينه فله تأويله إلا أن يكون ظالما فلا ينفعه تأويله" لقوله عليه السلام: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك" 1. ومعنى التأويل أن يقصد بكلامه محتملا يخالف ظاهره نحو أن يحلف أن هذا أخي ويعني به أنه أخوه في الإسلام أو المشابهة, وما رأيت فلانا يعني ما ضربت برئته, ولا ذكرته يعني ما قطعت ذكره, أو يقول جواري أحرار يعني سفنه, ونسائي طوالق يعني أقاربه دون زوجاته, فهذا وأشباهه إذا عناه بيمينه فهو تأويل لأنه خلاف الظاهر فلا يخلو الحالف من ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون
ـــــــ
1 - رواه أبو في الأيمان: حديث رقم 3255.

..............................................................................
ـــــــ
مظلوما مثل أن يستحلفه سلطان على شيء لو صدق عنده لظلمه أو ضره أو يخاف على مسلم من ظالم فيحلف عنه فهذا له تأويله لقوله عليه السلام: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب". يعني سعة. الثاني: أن يكون الحالف ظالما كالذي يستحلفه الحاكم فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ ولا ينفعه تأويله لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك". رواه أبو داود, ولو ساغ ذلك للظالم لكان وسيلة إلى جحد الحقوق لأن مقصود اليمين تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة, فإذا ساغ له التأويل انتفى ذلك وصار وسيلة إلى إبطال الحقوق. الثالث:لم يكن ظالما ولا مظلوما فظاهر كلام الإمام أحمد له تأويله؛ لأنه عني بكلامه ما يحتمله على وجه لم يتضمن إبطال حق أحد فجاز كما لو كان مظلوما, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا.

باب جامع الأيمان
ويرجع فيها إلى النية فيما يحتمله اللفظ
ـــــــ
باب جامع الأيمان"ويرجع فيها إلى النية فيما يحتمله اللفظ" سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا له, فالموافق للظاهر هو أن ينوي باللفظ موضوعه [الأصلي] مثل أن ينوي باللفظ العام العموم والمخالف يتنوع أنواعا: أحدها أن ينوي بالعام الخاص مثل أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة ويريد لحما بعينه أو فاكهة بعينها ومثل أن يحلف لا كلمت رجلا ويريد رجلا بعينه أو لا يتغدى يريد غداء بعينه اختصت يمينه بت, ومنه أن يحلف على ترك شيء مطلقا ويريد وقتا بعينه. والثاني: أن ينوي بالخاص العام مثل أن يحلف لا أشرب له الماء من العطش يريد قطع المنة فتتناول يمينه كل ما فيه منة فإنه شائع في الكلام التنيه بالأدنى على ما فوقه وبالأعلى على ما دونه فإذا نبه بشرب الماء في حال العطش على اجتناب كل نفع يصل إليه منه ويمتن به عليه كان صحيحا فإن لم يكن له نية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها لأنه دال على النية, وقال الشافعي رضي الله عنه: لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف اللفظ لأن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين لفظه ولو أحنثناه على ما نواه لأحنثناه على ما نوى لا على ما حلف؛ ولأن اليمين لا تنعقد بالنية وكذلك لا يحنث بمخالفته ما نواه ولنا أنه شائع في كلام العرب التعبير بالخاص عن العام بدليل قوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 1, {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} 2, {فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} 3, والقطمير لفافة
ـــــــ
1 - سورة فاطر: الآية 13.
2 - سورة النساء: الآية 49.
3 - سورة النساء: الآية 53.

فإذا حلف لا يكلم رجلا يريد واحدا بعينه أو لا يتغدى يريد غداء بعينه اختصت يمينه به, وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش يريد قطع منته حنث بكل ما فيه منة, وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها فباعه وانتفع بثمنه حنث, وإن حلف ليقضينه حقه غدا يريد أن لا يتجاوزه فقضاه اليوم لم يحنث
ـــــــ
النواة والفتيل ما في شقها, والنقير النقرة في ظهرها, ولم يرد ذلك بعينه بل نفي كل شيء, وقال الحطيئة:
ولا يظلمون الناس حبة خردل
يريد لا يظلمون الناس شيئا وإذا كان سائغا, فقد نوى بكلامه ما يحتمله فيحنث كما لو لفظه؛ ولأننا أجمعنا على صحة التأويل في اليمين لغير الظالم وهو إرادة ما الظاهر خلافه وهذا مثله, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما لكل امرئ ما نوى" 1, فيدخل فيه ما اختلفنا فيه ولأن الشارع قد ينص على الحكم في صورة خاصة لمعنى فيثبت الحكم في كل ما وجد فيه المعنى ولا يقف على لفظه كتنصيصه على تحريم الربا في الأعيان الستة فثبت التحريم فيما وجد فيه معناها كذلك في كلام الآدمي.
مسألة: "فإذا حلف لا يكلم رجلا يريد واحدا بعينه أو لا يتغدى يريد غداء بعينه اختصت يمينه به" كما ذكرنا "وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش يريد قطع منته حنث بكل ما فيه منة" لأن مبنى الأيمان على النية لا على اللفظ ونيته قطع المنة فيحنث بكل ما فيه منة.
مسألة: "وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها فباعه وانتفع بثمنه حنث" لذلك.
مسألة: "وإن حلف ليقضينه حقه غدا يريد أن لا يتجاوزه فقضاه اليوم لم يحنث" اعتبارا بنيته؛ لأن مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد فإذا قضاه قبله فقد قضاه قبل خروج الغد وزاده خيرا؛ ولأننا قد بينا أن مبنى الأيمان على النية وهذا نوى بيمينه أن لا يجاوز الغد فتعلقت يمينه بهذا المعنى كما لو صرح به فإن لم يكن له نية رجع إلى سبب اليمين [وما هيجها] فإن كانت تقتضي التعجيل فهو كما لو نواه وإن لم يكن له نية ولا سبب فظاهر كلام الخرقي أنه لا يبر إلا بقضائه في الغد خاصة وهكذا في سائر الأيمان, فلو حلف ليصومن شعبان فصام رجبا لم يبر ولو حلف ليأكلن هذا الطعام في غد فأكله اليوم لم يبر وإن أكل بعضه اليوم وبعضه غدا لم يبر؛ لأن اليمين في الإثبات لا يبر فيها إلا بجميع المحلوف عليه فترك أكل بعضه إلى الغد كترك جميعه إلا أن ينوي بيمينه أن لا يجاوز ذلك الوقت.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

وإن حلف لا يبيع ثوبه إلا بمائة فباعه بأكثر منها لم يحنث إذا أراد أن لا ينقصه عن مائة وإن حلف ليتزوجن على امرأته يريد غيظها لم يبر إلا بتزوج يغيظها به, وإن حلف ليضربنها يريد تأليمها لم يبر إلا بضرب يؤلمها, وإن حلف ليضربنها عشرة أسواط فجمعها فضربها ضربة واحدة لم يبر, فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها فيقوم مقام نيته لدلالته عليها, فإن عدم ذلك حملت يمينه على ظاهر لفظه فإن كان له عرف شرعي كالصلاة والزكاة حملت يمينه عليه وتناولت صحيحه, ولو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا لم يحنث إلا أن يضيفه إلى ما لا يصح بيعه كالحر والخمر فتتناول يمينه صورة البيع, وإن لم يكن له عرف شرعي وكان له
ـــــــ
مسألة: "وإن حلف لا يبيع ثوبه إلا بمائة فباعه بأكثر منها لم يحنث إذا كان أراد أن لا ينقصه عن مائة" لذلك.
مسألة: "وإن حلف ليتزوجن على امرأته يريد غيظها لم يبر إلا بتزوج يغيظها به" لما سبق.
مسألة: "وإن حلف ليضربنها يريد تأليمها لم يبر إلا بضرب يؤلمها" لأنه قصد ذلك وبنى الأيمان على القصد والنية.
مسألة: "وإن حلف ليضربنها عشرة أسواط فجمعها فضربها بها ضربة واحدة لم يبر"؛ لأنه لا يفهم من ضرب عشرة أسواط إلا عشر ضربات متفرقات فيجب أن تحمل اليمين عليه؛ ولأن السوط آلة أقيم مقام المصدر وانتصب انتصابه فمعنى كلامه: لأضربن عشر ضربات بسوط, وكذلك لما قال الله سبحانه وتعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}, لم يجزه ضربة واحدة بثمانين سوطا, وأما قوله سبحانه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} : فإن الله سبحانه خص بها أيوب عليه السلام ورخص له ولهذا امتن عليه, وكذلك المريض الذي يخاف عليه التلف أرخص له.
مسألة: "فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها فيقوم مقام نيته لدلالته عليها فإن عدم ذلك" يعني عدم السبب والنية جميعا "حملت على ظاهر" اللفظ "فإن كان له عرف شرعي" وموضوع لغوي حملت يمين الحالف على الشرعي دون اللغوي كالصلاة والصوم والزكاة والحج وهذا لا نعلم فيه خلافا.
مسألة: وتتناول اليمين الصحيح دون الفاسد "فلو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا لم يحنث" لأن اليمين تتعلق بالبيع الشرعي والفاسد ليس بشرعي "إلا أن يضيفه إلى ما لا يصح بيعه كالحر والخمر فتتناول يمينه صورة البيع".
مسألة: "وإن لم يكن له عرف شرعي وكان له عرف في العادة كالدابة والظعينة حملت

عرف في العادة كالرواية والظعينة حملت يمينه عليه فلو حلف لا يركب دابة فيمينه على الخيل والبغال والحمير وإن حلف لا يشم الريحان فيمينه على الفارسي, والشواء هو اللحم المشوي, وإن حلف لا يطأ امرأته حنث بجماعها, وإن حلف لا يطأ دارا حنث بدخولها كيفما كان, وإن حلف لا يأكل لحما ولا رأسا ولا بيضا فيمينه على كل لحم ورأس كل حيوان وبيضه, والأدم كل ما جرت العادة بأكل الخبز
ـــــــ
يمينه عليه" لأن الظاهر أنه أراد ذلك "فلو حلف لا يركب دابة فيمينه على الخيل والبغال والحمير" لأن الدابة اسم لذلك عرفا.
مسألة: "و" إن "حلف لا يشم الريحان فيمينه على الفارسي" لأنه اسمه في العرف.
مسأله: "وإن حلف لا يأكل شواء فأكل لحما مشويا حنث" وإن أكل بيضا مشويا لم يحنث لذلك.
مسألة: "وإن حلف لا يطأ امرأته حنث بجماعها" لأن الوطء العرفي في الزوجة هو الجماع, "وإن حلف لا يطأ دار أخيه حنث بدخولها" ماشيا وراكبا, و "كيف ما كان" لما ذكرناه.
مسألة: "وإن حلف لا يأكل لحما ولا رأسا ولا بيضا فيمينه على كل لحم ورأس كل حيوان وبيضه" لأن لفظه عام في ذلك إلا أن يكون له نية فيقتصر على ما نواه, وقال ابن أبي موسى في الإرشاد: لا يحنث بأكل لحم السمك إلا أن ينويه بيمينه لأنه لا ينصرف إليه إطلاق اسم اللحم فإنه لو أمر وكيله أن يشتري له لحما فاشترى سمكا لم يلزمه ويصح أن ينفي عنه الاسم فيقول ما أكلت لحما, وإنما أكلت سمكا فلم يتعلق به الحنث عند الإطلاق كما لو حلف لا يقعد تحت سقف لا يحنث بقعوده تحت السماء, وقد سماها الله تعالى سقفا محفوظا لأنه مجاز كذا ها هنا, ولنا قول الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} 1, وقال تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} 2؛ ولأنه من جسم حيوان فكان لحما كسائر اللحم, وما ذكروه يبطل بلحم العصافير وصغار الطير فإنه لحم مع ما ذكروه ودعوى المجاز تحتاج إلى دليل والأصل في الإطلاق الحقيقة, وأما السماء فإن الحالف لا يقعد تحت سقف لا يمكنه التحرز من القعود تحته فلم يكن مراده بيمينه بخلاف ما نحن فيه.
مسألة: "والأدم كل ما جرت العادة بأكل الخبز به من مائع وجامد: كاللحم والبيض والملح والجبن والزيتون". وقال أبو حنيفة: ما لا يصطبغ به ليس بأدم لأن كل واحد منهما
ـــــــ
1 - سورة النحل: الآية 14.
2 - سورة فاطر: الآية 12.

به من مانع وجامد كاللحم والبيض والملح والجبن والزيتون, وإن حلف لا يسكن دارا تناول ما يسمى سكنى فإن كان ساكنا بها فأقام بعد ما أمكنه الخروج منها حنث وإن قام لنقل قماشه أو كان ليلا فأقام حتى يصبح أو خاف على نفسه فأقام حتى أمن لم يحنث.
ـــــــ
يرفع إلى الفم مفردا ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سيد الإدام اللحم". ولأنه يؤتدم به عادة أشبه ما يصطبغ بت, ولا عبرة برفعه مفردا لأنهما يجتمعان في المضغ والبلع الذي هو حقيقة الأكل, فإن أكل ملحا فقد توقف الإمام أحمد عنه, وقال القاضي: إن أكله مع الخبز حنث.
مسألة: "وإن حلف لا يسكن دارا تناول ما يسمى سكنا فإن كان ساكنا بها فأقام بعدما أمكنه الخروج منها حنث" لأن استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم السكنى عليها ألا تراه يقول: سكنت هذه الدار شهرا كما يقول لبست هذا الثوب شهرا.
مسألة: "وإن أقام لنقل" رحله و "قماشه لم يحنث" لأن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال فيحتاج إلى أن ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلا وعن زفر أنه يحنث وإن انتقل في الحال لأنه لا بد أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة فيحنث بها وليس بصحيح فإن ما لا يمكن الاحتراز منه لا تقع اليمين عليه ولا يراد باليمين؛ ولأنه ترك والتارك لا يسمى ساكنا.
مسألة: وإن أقام لنقل قماشه وأهله لم يحنث, وقال الشافعي: يحنث ولنا أن الانتقال إنما يكون بالأهل والمال فلا يمكنه التحرز من هذه الإقامة فلا تقع اليمين عليها.
مسألة: وإن "كان ليلا فأقام حتى يصبح أو خاف على نفسه" أو ماله "فأقام" في طلب النقلة ينتظر زاول المانع منها "لم يحنث", وإن مكث أياما وليالي لأن إقامته لدفع الضرر وانتظار الإمكان لا للسكنى.

باب كفارة اليمين
وكفارتها: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
ـــــــ
باب كفارة اليمين"وكفارتها {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}, أجمع المسلمون على أن الحانث في يمينه بالخيار إن شاء أطعم وإن شاء كسا وإن شاء أعتق أي ذلك فعل أجزأه؛ لأن الله سبحانه عطف هذه الخصال بعضها على بعض بحرف, "أو" وهى للتخيير قال الله سبحانه: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ

تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}.
ـــــــ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}, والواجب في الإطعام إطعام عشرة مساكين لنص الله سبحانه على عددهم ويعتبر فيهم أربعة شروط: الأول: أن يكونوا مساكين وهم الصنف الذي يدفع إليهم في الزكاة, والفقير داخل فيهم لأنه مسكين وزيادة, وأن يكونوا أحرارا واختار الشريف أبو جعفر دفعها إلى المكاتب لأنه ممن يجوز دفع الزكاة إليه ولنا أن الله سبحانه عده صنفا في الزكاة غير صنف المساكين فيدل على أنه ليس بمسكين, والكفارة إنما هي للمساكين بدليل الآية ولأن المسكين يدفع إليه لتتم كفايته والمكاتب إنما يأخذ لفكاك رقبته ما كفايته فإنها حاصلة بكسبه فإن عجز رجع إلى سيده فاستغنى بإنفاقه, ويخالف الزكاة فإنها تدفع إلى الغني والكفارة بخلافها ويشترط أن يكونوا مسلمين فلا يجوز صرفها إلى كافر, وقال أصحاب الرأي: يجوز دفعها إلى أهل الذمة لدخولهم في اسم المساكين, وخرج أبو الخطاب وجها لذلك ولنا أنهم كفار فلم يجز إعطاوهم كمستأمني أهل الحرب, والآية مخصوصة بهذا فنقيس عليه. الشرط الرابع: أن يكونوا قد أكلوا الطعام فإن كان طفلا لم يأكل لم يجز الدفع إليه في ظاهر كلام الخرقي وهي إحدى الروايتين عن أحمد, وعنه لا يشترط ذلك. قال أبو الخطاب: هذا قول أكثر الفقهاء لأنه حر مسلم محتاج فأشبه من يطعم ولنا قوله عز وجل: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}, وهذا يقتضي أكلهم له فإذا لم تعتبر حقيقة الأكل وجب اعتبار مظنته ولا تتحقق مظنة الأكل ممن لم يطعم؛ ولأنه لو كان المقصود دفع حاجته جاز دفع القيمة ولم يتعين الإطعام, وهذا يقيد ما ذكروه فإذا اجتمعت هذه الأوصاف جاز الدفع إليه غير أن المحجور يقبض له وليه.
"فصل": ويطعم لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق أو رطلان من خبز أو مدان تمرا أو شعيرا, والمخرج في الكفارة ما يجزئ في الفطرة وهو البر والشعير والتمر والزبيب قياسا لها عليها وفي الخبز روايتان: إحداهما يجزئه لقوله سبحانه: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} 1, ومن أخرج الخبز فقد أطعم, والأخرى لا يجزئه لأنه خرج عن حال الكمال فأشبه الهريسة فإن قلنا يجزئه اعتبر أن يكون من مدبر فصاعدا, وقال الخرقي: لكل مسكين رطل خبز لأن الغالب أنها تكون إلا من مد أو أكثر ولا يجزئ من البر أقل من مد ولا من غيره أقل من مدين؛ لما روى الإمام أحمد بإسناده عن أبي يزيد المدني قال: جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمظاهر: "أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مدبر" 2, وهذا نص.
مسألة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}. الآية.
ـــــــ
1 - سورة المجادلة: الآية 4.
2 - رواه أحمد في المسند 4/37, 6/410.

وهو مخير بين تقديم الكفارة على الحنث أو تأخيرها عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير". وروي: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه", ويجزئه في الكسوة ما تجوز الصلاة فيه: للرجل ثوب وللمرأة درع وخمار, ويجزئه أن يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة
ـــــــ
مسألة: "وهو مخير بين تقديم الكفارة على الحنث وتأخيرها عنه" لقوله عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خيرا". وروي: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه". متفق عليه1.
مسألة: "ويجزيه في الكسوة ما تجوز الصلاة فيه: للرجل ثوب وللمرأة درع وخمار" وقال الشافعي: يجزيه أول ما يقع عليه الاسم من سراويل أو إزار أو رداء أو مقنعة أو عمامة, وفي القلنسوة وجهان لأن ذلك يقع عليه اسم الكسوة فأشبه ما يجزئ في الصلاة, ولنا أن الكسوة أحد أنواع الكفارة فلم يجزئ فيه ما يقع عليه الاسم كالإطعام والإعتاق؛ ولأن اللابس ما لا يستر عورته يسمى عريانا لا مكتسيا, وكذلك لابس السراويل أو مئزر وحده يسمى عريانا, فوجب أن لا يجزيه؛ ولأنه مصروف إلى المساكين فيقدر كالإطعام, إذا ثبت هذا فإذا كسا امرأة أعطاها درعا وخمارا؛ لأنه أقل ما يجزئها الصلاة فيه وإن كسا الرجل أجزأه قميص أو ثوب يستر عورته به ويجعل على عاتقه منه شيئا أو ثوبين يأتزر بأحدهما ويجعل الآخر على عاتقه ولا يجزيه مئزر وحده ولا سراويل وحده؛ لقوله عليه السلام: "لا يصلي أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء" 2.
مسألة: "ويجزئه أن يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة" وعند الشافعي لا يجزئه لقوله سبحانه: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ}, فوجه الحجة أنه جعل الكفارة أحد هذه الخصال الثلاث ولم يأت بواحدة منها. الثاني: أن اقتصاره على هذه الثلاث يدل على انحصار لتكفير فيها وما ذكرتموه قسم رابع ولأنه نوع من التكفير فلم يجز تبعيضه كالعتق, ولنا أنه أخرج من جنس المنصوص عليه بعدة العدد الواجب فأجزأ كما لو أخرجه من جنس؛ ولأن كل واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد فقام مقامه في بعضه كالتيمم لما جاز أن يقوم مقام الماء في جميع البدن في الجنابة جاز في بعضه في طهارة الحدث وفيما إذا كان بعض بدنه جريحا وبعضه صحيحا؛ ولأن معنى الطعام والكسوة متقارب إذ القصد منها سد الخلة ودفع الحاجة وتنوعهما من حيث كونهما في الإطعام إشباع الجوعة وفي الكسوة ستر العورة ولا يمنع
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.

ولو أعتق نصف رقبة أو أطعم خمسة أو كساهم أو أعتق نصف عبدين لم يجزه, ولا يكفر العبد إلا بالصيام ويكفر بالصوم من لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤنته ومؤنة
ـــــــ
الإجزاء في الكفارة الملفقة منهما كما لو كان أحد الفقيرين محتاجا إلى ستر العورة والآخر إلى الاستدفاء, وأما الآية فإنها تدل بمعناها على ما ذكرناه ولأنها دلت على أنه مخير في كل فقير من العشرة بين أن يطعمه أو يكسو, وهذا يقتضي ما ذكرناه ويصير كما يتخير في فداء الصيد الحرمي بين أن يفديه بالنظير أو يقوم النظير بدراهم فيشتري بها طعاما فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما فلو صام عن بعض الأمداد وأطعم بعضا جاز كذا ها هنا.
مسألة: "ولو أعتق نصف رقبة أو أطعم خمسة مساكين أو كساهم" لم يجزئه لأن مقصودهما مختلف متباين إذ كان القصد من العتق تكميل الأحكام أو تخليصه من الرق والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة وإبقاء النفس بدفع المسغبة في الإطعام ودفع ضرر الحر والبرد في الكسوة فلتقارب معناهما جرتا مجرى الجنس الواحد, فكملت الكفارة من أحدهما بالآخر ولذلك سوى بين عددهما ولتباعد مقصد العتق منهما ومباينته لهما لم يجر معهما مجرى الجنس الواحد, ولذلك خالف عدده عددهما فلم يكمل به أحدهما ولو يكمل هو بواحد منهما.
مسألة: وإن "أعتق نصف عبدين لم يجزه" وهو اختيار أبي بكر لأن المقصود من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل ذلك من إعتاق نصفين, والمذهب أنه يجزي. قال الشريف: هذا قول أكثرهم, ولأصحاب الشافعي قولان كذلك ومنهم من قال: إن كان نصف الرقبتين حرا أجزأ لأنه يحصل تكميل الأحكام وإن كان رقيقا لم يجز لأنه لم يحصل.
مسألة: "ولا يكفر العبد إلا بالصيام" لا خلاف بين أهل العلم في أن العبد يجزيه الصيام في الكفارة لأن ذلك فرض الحر المعسر وهو أحسن حالا من العبد فإنه يملك في الجملة فلو أذن له سيده في التكفير بالمال لم يلزمه لأنه ليس بمالك لما أذن له فيه وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزيه التكفير بغير الصيام, وقال أصحابنا فيما إذا أذن له سيده في التكفير بالمال روايتان: إحداهما يجوز تكفيره به لأنه بإذن سيده يصير قادرا على التكفير بالمال فجاز له ذلك كالحر, والرواية الأخرى لا يجزيه لأنه لا يملك المال فيكون تكفيره بغير ماله فلم يصح كما لو أعتق الحر عبد غيره عن كفارته وعلى الروايتين لا يلزمه التكفير بالمال, وإن أذن له سيده لأن فرضه الصيام فلم يلزمه غيره كما لو أذن موسر لحر معسر في التكفير من ماله.
مسألة: "ويكفر بالصوم من لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤنته ومؤنة عياله وقضاء

عياله وقضاء دينه ولا يلزمه أن يبيع في ذلك شيئا يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وكتب وآنية وبضاعة يختل ربحها المحتاج إليه, ومن أيسر بعد شروعه في الصوم لم يلزمه الانتقال عنه ومن لم يجد إلا مسكينا واحدا ردد عليه عشرة أيام
ـــــــ
دينه". قال الشافعي: من كان له الأخذ من الزكاة لحاجته فله الصيام لأنه فقير ولنا ظاهر قوله سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}, ومن لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤنته ومؤنة عياله فليس بواجد ولأنه حق لا يزيد بزيادة المال فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته كصدقة الفطر فإن ملك ما يكفر به وعليه دين مثله وهو مطالب به فلا كفارة عليه؛ لأنه حق آدمي, والكفارة حق الله سبحانه فإذا كان مطالبا به وجب تقديمه كتقديمه على زكاة الفطر, وإن لم يكن مطالبا به فكلام أحمد يقتضي روايتين: إحداهما لا يجب لذلك والأخرى يجب لأنه لا يعتبر فيها قدر من المال فلم تسقط بالدين كزكاة الفطر.
مسألة: "ولا يلزمه أن يبيع في ذلك شيئا من مسكن وخادم وأثاث وكتب وآنية وبضاعة يختل ربحها المحتاج إليه" لأن الكفارة إنما تجب فيما يفضل عن حاجته الأصلية وهذا من حوائجه الأصلية فلا يلزمه بيع شيء من ذلك لأنه يضر به كثيرا, وقد قال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" 1.
مسألة: "ومن أيسر بعد شروعه في الصوم لم يلزمه الانتقال عنه" لأنه بدل لا يبطل بالقدرة عن المبدل فلم يلزمه الرجوع إليه كما لو قدر على الهدي في صوم السبعة الأيام فإنه لا يخرج بغير خلاف, والدليل على أن البدل لا يبطل ها هنها أن البدل الصوم والصوم صحيح مع قدرته اتفاقا.
مسألة: "ومن لم يجد إلا مسكينا واحدا ردد عليه عشرة أيام" وعنه لا يجزيه إلا كمال العدد لقوله سبحانه: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}, ومن أطعم واحدا فما أطعم عشرة, ودليل الأولى وأنه يجزي أن ترديد الإطعام على الواحد في عشرة أيام في معنى إطعام عشرة لأنه قد دفع الحاجة في عشرة أيام فأشبه ما لو أطعم كل يوم واحدا والشيء بمعناه يقوم مقام وجوده بصورته في المعنى, ولا يجتزئ بها مع المقدرة على المبدلات كذا ها هنا.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

كتاب الجنايات
مدخل...
كتاب الجناياتالقتل بغير حق ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: العمد وهو أن يقتله بجرح
ـــــــ
كتاب الجنايات
مسألة: "القتل بغير حق ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها العمد" المحض وهو نوعان: أحدهما أن يضربه بمحدد وهو ما يقطع به ويدخل في البدن كالسيف والسكين والنشاب وما يجرح بحده وإن كان زجاجا أو خشبا أو قصبا فهذا كله إذا جرح به جرحا كبيرا فمات فهو قتل عمد لا خلاف فيه بين أهل العلم فيما علمناه. فأما الجرح الصغير كشرطة حجام أو غرزة بإبرة أو شوكة نظرت: فإن كان ذلك في مقتل كالعين والفؤاد والصدغ فمات فهو عمد لأن الإصابة بذلك في المقتل كالإصابة بالسكين في غير, مقتل وإن كان في غير مقتل نظرت: فإن كان قد بالغ في إدخالها في البدن فهو كالجرح الكبير وإن غرزه بها غرزا يسيرا أو جرحه بالكبير جرحا لطيفا كشرطة الحجام فما دونها في غير مقتل فقال أصحابنا: إن بقي فيها حتى مات ففيه القود لأن الظاهر أنه مات منه, وإن مات في الحال ففيه وجهان: أحدهما لا قصاص. قال ابن حامد: لأن الظاهر أنه لم يمت منه. والثاني: فيه القصاص لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة ظن القتل به بدليل ما لو قطع أنملته؛ ولأن في البدن مقاتل خفية وهذا له سراية ومور فأشبه الجرح الكبير. الثاني: أن يقتله بما ليس بمحدد بما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهذا عمد موجب للقصاص أيضا. وقال أبو حنيفة: لا قود في هذا إلا أن يكون قتله بالنار, وعنه في مثقل الحلائل روايتان واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل" 1. فسماه "عمد الخطأ" وأوجب فيه الدية دون القصاص؛ ولأن العمد لا يمكن اعتباره بنفسه فيجب ضبطه بمظنته ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالبا لأن ذلك يختلف وهو
ـــــــ
1 - رواه النسائي في القسامة: 31- باب كم دية شبه العمد: حديث رقم 1. و: 32- باب ذكر الاختلاف على خالد: حديث رقم 1. وابن ماجه في الديات: حديث رقم 2627. وأحمد في المسند 2/11 و 36 و46.

أو فعل يغلب على الظن أنه يقتله كضربه بمثقل كبير أو تكريره بصغير أو إلقائه من شاهق أو خنقه أو تحريقه أو تغريقه أو سقيه سما أو الشهادة عليه زورا بما يوجب قتله أو الحكم عليه به أو نحو هذا قاصدا عالما بكون المقتول آدميا معصوما فهذا
ـــــــ
مستقصى بما لو جرحه جرحا صغيرا لا يقتل مثله غالبا كقطع شحمة أذنه وأنملة وغرزة بإبرة فوجب ضبطه بالجارح, ولنا قوله سبحانه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} 1, وروى أنس بن مالك رضي الله عنه: أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين. متفق عليه2. وروى أبو هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يود وإما أن يقاد". متفق عليه3؛ ولأنه يقتل غالبا فوجب به القصاص كالمحدد, وأما الحديث فمحمول على المثقل الصغير لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر فدل على أنه أراد الصغير, وقولهم لا يمكن ضبطه ممنوع وصغير المحدد قد تقدم الكلام فيه. إذا ثبت هذا فمن صور المسألة أن يضربه بمثقل كبير سواء كان من حديد كاللت والسندان والمطرقة أو حجر ثقيل أو خشبة كبيرة أو يلقي عليه حائطا أو صخرة عظيمة أو ما أشبهه فيموت بذلك ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبا ومنها أن يضربه بمثقل صغير أو يلكزه بيده فإن كان في مقتل أو في حال ضعف من المضروب بحيث تقتله تلك الضربة غالبا أو كرر الضرب حتى قتله أو عصر خصيتيه عصرا شديدا فمات منه ففيه القود لذلك, ومنها أن يلقيه من شاهق كرأس جبل أو حائط عال فهو عمد أيضا, ومنها أن يمنع خروج نفسه إما أن يجعل في عنقه خراطة ثم يعلقه في خشبة بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق أو يخنقه وهو على الأرض بيده أو بمنديل أو حبل أو يغمه بوسادة أو شيء يضعه على فمه وأنفه مدة فيموت, فإن فعله مدة يموت فيها غالبا فمات فهو عمد وفيه القصاص, ومنها أن يلقيه في نار أو ماء لا يمكنه التخلص من ذلك لكثرة الماء والنار أو لمنعه إياه من الخروج أو لضعفه عن الخروج فهو عمد يقتل غالبا, ومنها أن يسقيه سما أو يطعمه قاتلا فيموت به فهو عمد إذا كان مثله يقتل غالبا, ومنها أن يشهد رجلان على رجل بما يوجب قتله فيقتل بشهادتهما ثم رجعا واعترفا بتعمد القتل وجب عليهما القتل قصاصا؛ لأن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال علي: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وغرمهما دية يده؛ ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فأشبه المكره, ومنها إذا حكم الحاكم على رجل بالقتل ظلما عالما بذلك متعمدا قتله فقتل واعترف بذلك وجب القصاص عليه, والخلاف
ـــــــ
1 - سورة الإسراء: الآية 33.
2 - رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6879. ومسلم في القسامة: حديث رقم 15.
3 - رواه البخاري في: 183 الديات: حديث رقم 6880.

يخير الولي فيه بين القود والدية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فهو يخير النظيرين: إما أن يقتل وإما أن يفديه" وإن صالح القاتل عن القود بأكثر من دية جاز
ـــــــ
فيه كالشاهدين. وفي هذه الصور جميعها يتخير الولي بين القود والدية؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يود وإما يقاد". متفق عليه1. وروى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرين: إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية". رواه أبو داود وغيره2, وروي عن أحمد رحمه الله أن موجب العمد القصاص عينا لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل عمدا فهو قود" 3؛ ولأنه بدل متلف فكان معينا كسائر المتلفات والأول أولى لما سبق من الأحاديث لقوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}, أوجب الاتباع بمجرد العفو عن القصاص وأما الخبر فالمراد به وجوب القصاص ونحن نقول به ويخالف القتل سائر المتلفات لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه والقتل بخلافه, وللشافعي رضي الله عنه كهاتين الروايتين فإن قلنا موجبة للقصاص عنها فله العفو مطلقا وله العفو على مال فإن عفا بشرط المال وجبت الدية وإن عفا مطلقا لم يجب شيء وإن قلنا الواجب أحد الأمرين لا بعينه فعفا عن القصاص مطلقا أو إلى الدية وجبت الدية لأن الواجب غير متعين فإذا ترك أحدهما تعين الآخر وإن اختار الدية سقط القصاص وإن اختار القصاص تعين, وهل له بعد ذلك العفو على الدية؟ قال القاضي: له ذلك لأن القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى ويكون بدلا عن القصاص وليس الذي وجب بالقتل ويحتمل أنه ليس ذلك لأنه أسقطها باختياره فلم يعد إليها.
مسألة: "وإن صالح القاتل عن القود بأكثر من" الـ "دية جاز". قال شيخنا: لا أعلم فيه خلافا لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب4. وروي أن هدبة بن خشرم قتل قتيلا فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله؛ ولأنه عوض عن غير مال فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه كالصداق وعوض الخلع ولأنه صلح
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4505.
3 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4539.
4 - رواه الترمذي في الديات: حديث رقم 1387.

الثاني: شبه العمد وهو أن يتعمد الجناية عليه بما لا يقتله غالبا فلا قود فيه والدية على العاقلة.
الثالث: الخطأ وهو نوعان: أحدهما: أن يفعل ما لا يريد به المقتول فيفضي إلى قتله أو يتسبب إلى قتله بحفر بئر أو نحوه وقتل النائم والصبي والمجنون فحكمه حكم شبه العمد.
النوع الثاني: أن يقتل مسلما في دار الحرب يظنه حربيا أو يقصد رمي صف
ـــــــ
عن ما لا يجري فيه الربا فأشبه الصلح عن العروض.
"الثاني: شبه العمد وهو أن يتعمد الجناية عليه بما لا يقتله غالبا فلا قود فيه والدية على العاقلة" وسمي شبه العمد لأنه قصد الضرب وأخطأ في القتل ويسمى خطأ العمد وعمد الخطأ وقال أبو بكر: تجب به الدية في مال القاتل لأنه موجب فعل عمد فكان في مال الفاعل كسائر الجنايات, ولنا ما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها". متفق عليه1. وقال عليه الصلاة والسلام: "ألا إن في قتيل خطأ العمد وقتيل السوط والعصا مائة من الإبل" 2. فسماه خطأ العمد وأوجب فيه الدية لا القصاص وفي لفظ رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه" 3.
"الثالث: الخطأ, وهو نوعان: أحدهما: أن يفعل" فعلا "لا يريد به المقتول فيفضي إلى قتله" قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره ولا أعلمهم يختلفون فيه فهذا الضرب من الخطأ تجب به الدية على العاقلة والكفارة في مال القاتل بغير خلاف علمناه بينهم بدليل قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 4.
مسألة: "أو يتسبب إلى" القتل "بحفر بئر وقتل النائم والمجنون والصبي فحكمه حكم شبه العمد" يعني أنه لا يوجب القصاص وإنما يوجب الدية ودليله ما سبق.
"النوع الثاني: أن يقتل مسلما في دار الحرب يظنه حربيا أو يقصد رمي صف الكفار
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6904. ومسلم في القسامة: حديث رقم 34.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4565.
4 - سورة النساء: الآية 92.

الكفار فيصيب سهمه مسلما ففيه كفارة بلا دية لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ},
ـــــــ
فيصيب سهمه مسلما ففيه كفارة بلا دية لقوله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وعنه تجب فيه الدية والكفارة لقوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} , ولنا ما سبق من الآية ولم يذكر دية وتركه لذكرها في هذا النوع مع ذكرها في الذي قبله دليل ظاهر أنها لا تجب وذكره لهذا قسما مفردا دليل على أنه لم يدخل في عموم الآية.

باب شروط وجوب القصاص و استيفائه
...
باب شروط وجوب القصاص واستيفائه
ويشترط لوجوبه أربعة شروط: أحدها: كون القاتل مكلفا فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما, الثاني: كون المقتول معصوما فإن كان حربيا أو مرتدا
ـــــــ
باب شروط وجوب القصاص واستيفائه
"ويشترط لوجوب" القصاص "أربعة شروط: أحدها" أن يكون "القاتل مكلفا فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما" لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ" 1. وحكم قتلهما حكم قتل الخطأ لأن عمدهما خطأ لكونهما لا يصح منهما قصد صحيح بدليل أنه لا يصح إقرارهما ولهذا لما قصد الصيد ولم يقصد آدميا فوقع في الآدمي فقتله فلا قصاص عليه كذا ها هنا. "الثاني: كون المقتول معصوما فإن كان حربيا أو مرتدا أو قاتلا في المحاربة أو زانيا محصنا أو قتله دفعا عن نفسه أو ماله أو حرمته فلا ضمان فيه" لأن دماءهم مهدرة فلا يقتل قاتلهم كما لو كان المقتول حربيا وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق" 2. والصائل متعد أهدر دم نفسه فصار كالقاتل في المحاربة؛ ولأن قتل الصائل لدفع شره فلا يجب فيه ضمان كقتل الباغي, والصائل من طلب نفسه أو ماله أو حرمته أو زوجته أو بعض أقاربه من نسائه. "الثالث: كون المقتول مكافئا للقاتل فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم" إجماعا "ذكرا كان أو أنثى" وعنه لا يقتل الذكر بالأنثى وتعطى نصف الدية ذكرها أبو الخطاب لأن ديتها على النصف من دية الذكر والأولى أولى لقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 3.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري بنحوه في الديات: حديث رقم 6878. ومسلم في القسامة: حديث رقم 25, 26.
3 - سورة المائدة: الآية 45.

أو قاتلا في المحاربة أو زانيا محصنا أو قتله دفعا عن نفسه أو ماله أو حرمته فلا ضمان فيه, الثالث: كون المقتول مكافئا للجاني فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم ذكرا كان أو أنثى ولا يقتل حر بعبد ولا مسلم بكافر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر", ويقتل الذمي بالذمي ويقتل الذمي بالمسلم ويقتل العبد بالعبد ويقتل الحر بالحر
ـــــــ
مسألة: "ولا يقتل حر بعبد" روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وزيد وابن الزبير, وقال أصحاب الرأي: يقتل به لعموم النصوص وقوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" 1. ولأنه معصوم قتل ظلما فيجب القصاص على قاتله كالحرين والعبدين؛ ولما روي عن علي أنه قال: من السنة أن لا يقتل حر بعبد وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل حر بعبد". رواه الدارقطني ولأنهما شخصان لا يجري القصاص بينهما في الأطراف فلا يجري بينهما في النفس كالأب مع ابنه ولأنه منقوص بالرق فلا يقتل به الحر كالمكاتب الذي ملك ما يؤدي عنه والعمومات مخصوصة بما ذكرنا.
مسألة: "ولا" يقتل "مسلم بكافر" روي ذلك عن خمسة من الصحابة. وقال أصحاب الرأي: يقتل بالذمي واحتجوا بقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}, وروى ابن السلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلما بذمي وقال: "أنا أحق من وفى بذمته" ولأنه معصوم قتل ظلما فيجب على قاتله القصاص كالمسلم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مؤمن بكافر". رواه الإمام أحمد بإسناده وأبو داود وروى البخاري وأبو داود: "لا يقتل مسلم بكافر". وروى الإمام أحمد بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال: من السنة لا يقتل مؤمن بكافر, ولأنه منقوص بالكفر فلم يقتل به المسلم كالمستأمن والعمومات مخصوصة بحديثنا وحديثهم. قال أحمد: ليس لنا إسناد وقال: وهو مرسل. قال الدارقطني: ابن السلماني ضعيف إذا أسند فكيف إذا أرسل والمعنى في المسلم أنه مكان المسلم بخلاف الذمي.
مسألة: "ويقتل الذمي بالذمي" سواء اتفقت أديانهما أو اختلفت نص عليه لأنهما تكافآ في العصمة بالذمة ونقيضه الكفر فجرى القصاص بينهما كما لو تساوى دينهما.
مسألة: "ويقتل الذمي بالمسلم" لأنه إذا قتل بمثله فلأن يقتل بمن هو فوقه أولى.
مسألة: "ويقتل العبد بالحر" لذلك.
مسألة: "ويقتل العبد بالعبد" لأنه مكافئ له وعنه لا يقتل به إلا أن يكون مساويا له
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4530.

الرابع: أن لا يكون أبا للمقتول فلا يقتل والد بولده وإن سفل والأبوان في هذا سواء ولو كان ولي الدم ولدا أو له فيه حق وإن قل لم يجب القود.
فصل
ويشترط لجواز استيفائه شروط ثلاثة: أحدها: أن يكون لمكلف فإن كان
ـــــــ
في القيمة لأن العبيد أموال فأشبهوا البهائم والأول أولى لقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}, الآية. وهذا نفس فيقتل بت, وقال سبحانه: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}. "الرابع: أن لا يكون أبا للمقتول فلا يقتل الوالد بولده وإن سفل" لما روى عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل والد بولده" 1. وذكره ابن عبد البر وقال: هو حديث مشهور عند أهل العلم في الحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكون الإسناد فيه مع شهرته تكلفا؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنت ومالك لأبيك" 2. وقضية هذه الإضافة تمليكه إياه فإذا لم تثبت حقيقة الملك بقيت الإضافة شبهة في درء القصاص لأنه يدرأ بالشبهات. "والأم كالأب" لأنها والدة أشبهت الأب والجد وإن علا كالأب سواء كان من قبل الأب أو الأم لأنه والد فيدخل في عموم الخبر ولأنه حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد كالمحرمية والعتق عليه إذا ملكه.
مسألة: "ولو كان ولي الدم ولدا أو له فيه حق وإن قل لم يجب القود" فلو كان رجل له زوجة وله منها ابن فقتل أحد الزوجين الآخر لم يجب القصاص لأنه لو ثبت لثبت للابن والابن لا يجب له القصاص على والده لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه فلأنه لا يجب عليه بجناية على غيره أولى.
"فصل: ويشترط لجواز استيفائه شروط ثلاثة: أحدها أن يكون لمكلف فإن كان لغيره أو له فيه حق -وإن قل- م يجز استيفاؤه". أما إذا ثبت القصاص لمكلف فإن له استيفاءه كما له استيفاء جميع حقوقه وإن ثبت لغير مكلف كقصاص ثبت للصغير كصغير قتلت أمه وليست زوجة لأبيه فالقصاص للصغير ليس لأبيه استيفاؤه وذكر أبو الخطاب فيه رواية أنه يجوز لأنه أحد بدلي النفس فكان للأب استيفاؤه كالدية, ولنا أنه لا يملك إيقاع الطلاق بزوجته فلا يملك استيفاء القصاص كالوصي ولأن القصد التشفي ودرك الغيظ وذلك لا يحصل باستيفاء الولي, ويخالف الدية فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب لها فافترقا.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الديات: حديث رقم 2661, 2662.
2 - رواه ابن ماجه في التجارات: حديث رقم 2291, قال في الزوائد: إسناده صحيح, ورجاله ثقات على شرط البخاري.

لغيره أو له فيه حق -وإن قل- لم يجز استيفاؤه وإن استوفى غير المكلف حقه بنفسه أجزأ ذلك.
الثاني: اتفاق جميع المستحقين على استيفائه فإن لم يأذن فيه بعضهم أو كان فيهم غائب لم يجز استيفاؤه فإن استوفاه بعضهم فلا قصاص عليه وعليه بقية ديته
ـــــــ
مسألة: وإن ثبت لمكلف وغيره كصبي أو مجنون فإنه ليس للمكلف استيفاؤه حتى يبلغ الصبي أو يفيق المجنون, وعنه رواية أخرى للمكلف استيفاؤه لأن الحسن بن علي رضي الله عنه قتل ابن ملجم قصاصا وفي الورثة صغار فلم ينكر ذلك ولأن ولاية القصاص عبارة عن استحقاق استيفائه وليس للصغير هذه الولاية ولنا أنه قصاص غير متحتم ثبت لجماعة غير معينين فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالا كما لو كان بين حاضر وغائب أو أحد بدلي النفس فلم ينفرد به بعضهم كالدية. فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله لكفره لأنه قتل عليا مستبيحا دمه معتقدا كفره وقيل لسعيه في الأرض بالفساد وإظهاره السلاح فيكون قتله متحتما إلى الإمام, وكان الحسن رضي الله عنه الإمام ولذلك لم ينتظر الغائبين وبالاتفاق يجب انتظارهم في القصاص وإن فعله قصاصا فقد اتفقنا على تركه فكيف يحتج به.
مسألة: "وإن استوفى غير المكلف حقه نفسه بنفسه أجزأ ذلك" لأنه أتلف حق نفسه بنفسه فأشبه ما لو أكل طعام نفسه وكما لو أتلف الوديعة أو شيئا من بقية أمواله.
الشرط "الثاني: اتفاق جميع المستحقين على استيفائه"؛ لأنه حق لجميعهم فلم يكن لبعضهم الاستقلال به كما لو كان بين حاضر وغائب فإنه لا يجوز للحاضر الاستيفاء حتى يحضر الغائب فيوافقه على الاستيفاء منه.
مسألة: "فإن لم يأذن فيه بعضهم أو كان فيهم غائب لم يجز استيفاؤه" لذلك.
مسألة: "فإن استوفاه بعضهم" بغير إذن شريكه "فلا قصاص عليه" لأنه مشارك في استحقاق القتل فأسقط القصاص كما لو كان مشاركا في ملك الجارية ووطئها إذا ثبت هذا فإن للولي الذي لم يقتل قسطه من الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره فهو كما لو مات القاتل. وأما القتل فقد استوفى حقه وعليه قسط شريكه من الدية لأنه استوفى جميع النفس وليس له إلا بعضها وهل يرجع شريكه عليه بما استحقه أو يرجع إلى مال القاتل؟ فيه وجهان: أحدهما يرجع على شريكه لأنه أتلف حقهما جميعا فكان الرجوع عليه بعوض نصيبه كما لو كانت لهما وديعة فأتلفها. والثاني: يرجع في مال القاتل ثم يرجع ورثة القاتل على قاتله لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره فوجبت له الدية في مال القاتل كما لو قتله أجنبي وفارق الوديعة فإن أجنبيا لو أتلفها كان الرجوع عليه فكذلك شريكه وها هنا بخلافه.

له ولشركائه حقهم في تركة الجاني ويستحق القصاص كل من يرث المال على قدر مواريثهم.
الثالث: الأمن من التعدي في الاستيفاء فلو كان الجاني حاملا لم يجز استيفاء القصاص منها في نفس ولا جرح ولا استيفاء حد منها حتى تضع ولدها ويستغني عنها
ـــــــ
مسألة: "ويستحق القصاص كل من يرث المال على قدر مواريثهم" سواء كانوا من ذوي الأنساب أو ذوي الأسباب, وعن مالك أنه موروث العصبات خاصة وهو وجه لأصحاب الشافعي رضي الله عنه لأنه ثبت لدفع العار فاختص بالعصبات كولاية النكاح, ولهم وجه ثالث أنه لذوي الأنساب خاصة لأن الزوجة تزول بالموت ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا أن يأخذوا العقل أو يقتلوا" 1. وروى زيد بن وهب أن عمر أتى برجل قتل قتيلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل: قد عفوت عن حقي فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل, رواه أبو داود2؛ ولأن من ورث الدية ورث القصاص كالعصبات وما ذكروه لا يصح لأنه ثبت للصغار والمجانين بخلاف ولاية النكاح وزوال الزوجية لا يمنع الميراث كما لم يمنع من الدية.
"الثالث: الأمن من التعدي في الاستيفاء فلو كان الجاني حاملا لم يجز استيفاء القصاص منها في نفس ولا جرح حتى تضع ولدها ويستغني عنها" لقول الله سبحانه: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}, وقتل الحامل قتل لغير القاتل فيكون إسرافا, وروى ابن ماجه بإسناده عن جماعة منهم شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا وحتى تكفل ولدها, وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها" 3, وهذا نص وليس في المسألة اختلاف بين أهل العلم فيما نعلم وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبن لأن الولد لا يعيش إلا به في الغالب: ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى تفطمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للغامدية: "اذهبي حتى ترضعيه". وفي حديث عبد الرحمن بن غنم: "وحتى تكفل ولدها"؛ ولأنه لما أخر القتل لحفظه وهو حمل فلان يؤخر وهو ولد لحفظه أولى. فأما إن وحدت من يرضعه جاز قتلها لأنه يستغني عن الأم وإن وجد من ترضعه مترددة أو جماعة يتناوبنه أو بهيمة يشرب من
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه أبو داود في الديات: الباب 4.
3 - رواه ابن ماجه في الديات: حديث رقم 2694. قال في الزوائد: في إسناده ابن أنعم, ضعيف, وكذلك الراوي عنه عبد الله بن لهيعة.

فصل
ويسقط بعد وجوبه بأمور ثلاثة: أحدها: العفو عنه أو عن بعضه فإن عفا بعض الورثة عن حقه أو عن بعضه سقط كله وللباقين حقهم من الدية وإن كان العفو على
ـــــــ
لبنها جاز قتلها أيضا, ويستحب للولي أن يؤخر قتل الأم لأن على الولد ضررا في اختلاف اللبن عليه وشرب لبن البهيمة.
مسألة: "ويسقط بعد وجوبه بأمور ثلاثة: أحدها العفو عنه أو عن بعضه فلو عفا بعض الورثة عن حقه أو عن بعضه سقط كله وللباقين حقهم من الدية" أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل, ودليله قوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} 1, وقال بعد قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 2, وروى أنس قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو, رواه أبو داود3؛ ولأنه حق له تركه فجاز ذلك وكان أفضل من الاستيفاء كسائر الحقوق إذا ثبت هذا فإن القصاص ثبت لجميع الورثة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل أو يقتلوا" 4. وروى زيد بن وهب أن عمر أتي برجل قتل قتيلا فقالت امرأة المقتول -وهي أخت القاتل- قد عفوت عن حقي, فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل, رواه أبو داود5, وإذا ثبت أن هذا مشترك بين جميعهم سقط بإسقاط بعضهم أيهم كان لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه فإذا سقط وجب سقوطه جميعه لأنه مما لا يتبعض فهو كالطلاق والعتق, وروى قتادة أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلا فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم فقال عمر لابن مسعود: ما تقول؟ قال: إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه. وقال: كنيف مليء علما؛ ولأن القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض ومبناه على الإسقاط فإذا أسقط بعضهم سرى إلى الباقي كالعتق.
مسألة: فإذا عفا بعضهم فللباقين حقوقهم من الدية سواء أسقط مطلقا أو إلى الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه فثبت له البدل كما لو مات القاتل, وكما لو سقط حق أحد الشريكين في العبد بإعتاق شريكه.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 178.
2 - سورة المائدة: الآية 45.
3 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4497.
4 - سبق تخريجه.
5 - سبق تخريجه.

مال فله حقه من الدية وإلا فليس له الثواب. الثاني: أن يرث القاتل أو بعض ولده شيئا من دمه. الثالث: أن يموت القاتل فيسقط وتجب الدية في تركته ولو قتل واحد اثنين عمدا فاتفق أولياؤهما على قتله بهما قتل بهما
ـــــــ
مسألة: "وإن كان العفو على مال فله حقه من الدية وإلا فليس له إلا الثواب" يعني: إذا عفا بعض الورثة عن القصاص على مال فله حقه من الدية إن كان العفو على الدية وإن كان على أكثر منها جاز وله حقه من ذلك؛ لأنه حقه وله التصرف فيه حسب اختياره. "الثاني: أن يرث القاتل أو بعض ولده شيئا من دمه". كرجل له زوجة وابنان منها فقتل أحد الابنين أباه وقتل الآخر أمه فإنه يجب القصاص على قاتل الأم ويسقط عن قاتل الأب لأنه ورث ثمن دمه عن أمه ويلزم سبعة أثمان دية الأب لقاتل الأم ولو لم يقتل الآخر أمه ولكنها ماتت فإن القصاص يسقط عن قاتل الأب أيضا؛ لأنه يرث من دمه نصف ثمنه والنصف الآخر لأخيه ويجب عليه لأخيه سبعة أثمان الدية ونصف ثمنها, ولو قتل رجل زوجته وله منها ولد سقط عنه القصاص لثبوته لولده لأنه لو قتل ولده لم بجب عليه قصاص فإذا ثبت لولده عليه قصاص سقط بطريق الأولى. "الثالث: أن يموت القاتل فيسقط" القصاص "وتجب الدية في تركته" لفوات محل الحق فيسقط القصاص ضرورة فواته ويراجع إلى الدية كما رجعنا في المتلفات إلى القيمة.
مسألة: "ولو قتل واحد اثنين عمدا فاتفق أولياؤهما على قتله بهما" جاز, وقال أبو حنيفة ومالك: يقتل بالجماعة ليس لهم إلا ذلك وإن طلب بعضهم فليس له وإن بادر أحدهم فقتل سقط حق الباقين؛ لأن الجماعة يقتلون بالواحد فكذلك يقتل بهم كالواحد بالواحد. وقال الشافعي: لا يقتل إلا بواحد سواء اتفقوا على الطلب للقصاص أو لم يتفقوا لأنه إذا كان لكل واحد استيفاء القصاص فاشتراكهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق؛ ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل" 1. وظاهر الخبر أن أهل كل قتيل يستحقون ما يختارونه من القتل أو الدية فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم وإن اختار بعضهم الدية وجبت له بظاهر الخبر ولأنهما جنايتان ولو كانتا خطأ أو إحداهما لم يتداخلا فلم يتداخلا في العمد كالأطراف وقد سلموا أن الأطراف لا تتداخل؛ ولأنه حق تعلق بعينه حقان لا يتسع لهما معا فإذا رضيا به عن حقهما جاز ذلك كما لو قتل عبد عبدين لهما خطأ فرضيا بأخذه بدلا عنهما؛ ولأنهما رضيا بدون حقهما فجاز كما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء وولي الحر بالعبد وولي المسلم بقتل الكافر وما ذكره مالك وأبو حنيفة فليس بصحيح فإن الجماعة قتلوا بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى إسقاط القصاص تغليظا
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

وإن تشاحوا في استيفاء المستوفي قتل بالأول وللثاني الدية فإن سقط قصاص الأول فلأولياء الثاني استيفاؤه ويستوفى القصاص بالسيف في العنق ولا يمثل به إلا أن يفعل شيئا فيفعل به مثله
ـــــــ
للقصاص, وفي مسألتنا ينعكس هذا المعنى فإنه إذا قتل واحدا وعلم أن القصاص واجب عليه وأنه لا يزداد بزيادة القتل لهما فأدى إلى قتل من يريد قتله لزوال الزاجر عنه فافترقا.
مسألة: "فإن تشاحوا في المستوفي" أولا قدم الأول لأن حقه أسبق وصار الآخر إلى الدية لفوات المحل أشبه ما لو مات فإنه يصار إلى الدية فإن كان قتلهم دفعة واحدة أقرع بينهم فيقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم وكذلك لو قتلهم متفرقا وأشكل.
مسألة: "فإن سقط قصاص الأول" إما بأن عفا مطلقا أو اختار الدية "فلأولياء الثاني استيفاؤه" لأنه حقهم فكان لهم استيفاؤه كما لو لم يكن قتل غيره.
مسألة: "ويستوفى القصاص بالسيف في العنق ولا يمثل به إلا أن يفعل شيئا فيفعل به مثله". أما إذا قتله فإن القصاص يستوفى بالسيف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قود إلا بالسيف". رواه ابن ماجه1. فأما إن كان قد قطع يدي شخص ورجليه ثم ضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه ففيه روايتان: إحداهما لا يستوفى منه إلا بالسيف في العنق بدليل الخبر؛ ولأن القصاص أحد بدلي النفس فيدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الأمر إلى الدية لم تجب إلا دية النفس ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل وإتلاف الجملة وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعديته بإتلاف أطرافه كما لو قتله بسيف كال فإنه لا يقتله بمثله, والرواية الأخرى قال: إنه لأهل أن يفعل به كما فعل يعني أن يقطع أطرافه ثم يقتله لقوله سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 2, وقوله سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 3؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رضخ رأس يهودي لرضخه رأس جارية بين حجرين4, وقال الله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والعين بالعين} 5, وهذا قد قلع عينه فيجب أن تقلع عينه للآية, وقال عليه السلام: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه" ؛ لأن القصاص موضوع على المماثلة ولفظه مشعر به فيجب أن يستوفى منه مثل ما فعل كما لو ضرب العنق آخر غيره فأما حديث: "لا قود إلا بالسيف" 1. فقد قال الإمام أحمد: إسناده ليس بجيد.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الديات: حديث رقم 2667, 2668.
2 - سورة النحل: الآية 126.
3 - سورة البقرة: الآية 194.
4 - سبق تخريجه.
5 - سورة المائدة: الآية 45.

باب الاشتراك في القتل
وتقتل الجماعة بالواحد فإن تعذر قتل أحدهم لأبوته أو عدم مكافأته للقتيل أو
ـــــــ
باب الاشتراك في القتل"وتقتل الجماعة بالواحد" روي ذلك عن عمر وعلي والمغيرة وابن عباس وعن أحمد رواية أخرى لا يقتلون به وتجب عليهم الدية روي ذلك عن ابن عباس. قال ابن المنذر: لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد, ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فروى سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا. وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا, وعن علي رضي الله عنه أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلا وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قتل جماعة بواحد ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف؛ ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف؛ ولأنه لو سقط القصاص بالاشتراك لأفضى إلى التسارع إلى القتل وإسقاط حكمة الردع والزجر وإنما يجب القود إذا فعل كل واحد منهم فعلا لو انفرد به وجب عليه القود فإذا اشتركوا وجب عليهم جميعهم.
مسألة: " فإن تعذر قتل أحدهم لأبوته أو عدم مكافأة القتيل" له "أو العفو عنه قتل شركاؤه" أما إذا تعذر قتل أحدهم لأبوته كما إذا اشترك في القتل أب وأجنبي قتل الأجنبي وعنه لا يقتل شريك الأب لأنه مشارك من لا قصاص عليه فلم يجب عليه قصاص كشريك الخاطىء ولنا أنه مشارك في القتل العمد العدوان لمن لم يقتل به لو انفرد فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي وأما شريك الخاطىء ففيه روايتان: إحداهما يجب عليه كمسألتنا وفي الأخرى لا قصاص عليه لأن القتل لم يتمحض عمدا لوجود الخطأ في الفعل الذي حصل به خروج النفس بخلاف شريك الأب فإن قتلهما عمد محض وعدوان وإنما سقط القصاص عن الأب لمعنى فيه مختص به فأشبه ما لو سقط عن أحد الأجنبيين للعفو عنه.
مسألة: وأما إذا تعذر قتل أحدهما لعدم مكافاة القتيل له كما إذا اشترك مسلم وذمي في قتل ذمي أو حر وعبد في قتل عبد عمدا فإن القصاص يجب على العبد والذمي؛ لأن سقوطه عن المسلم لمعنى فيه وهو الإسلام وسقوطه عن الحر لعدم المكافأة وهذا المعنى لا يتعدى إلى شريكه ولا إلى فعله فلم يقتض سقوط القصاص عن شريكه.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6