كتاب : العدة شرح العمدة
المؤلف : عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد، أبو محمد بهاء الدين المقدسي

العفو عنه قتل شركاؤه وإن كان بعضهم غير مكلف أو خاطئا لم يجب القود على واحد منهم وإن أكره رجلا على القتل فقتل أو جرح أحدهما جرحا والآخر
ـــــــ
مسألة: وأما إذا تعذر قتل أحد الشريكين للعفو عنه فإن القصاص يجب على شريكه لأن سقوطه عنه للعفو عنه وهو معنى لا يتعدى إلى شريكه فلم يسقط عنه القصاص.
مسألة: "وإن كان بعضهم غير مكلف أو خاطئا لم يجب القود" أما إذا كان الشريك في القتل غير مكلف كالصبي والمجنون والآخر مكلفا لم يجب القود على المكلف في صحيح المذهب, وعنه يجب عليه لأن القصاص يجب عليه جزاء لفعله لا عن فعل غيره فيجب أن يكون الاعتبار بفعله فمتى تمحض عمدا أو عدوانا وجب القود إذا كان المقتول مكافئا له, وإنما يسقط عن الصبي والمجنون لمعنى فيهما وهو عدم التكليف فلم يقتض سقوطه عن شريكهما كشريك الأب, ولنا أنه شارك من لا إثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ, أو شارك من رفع عنه القلم فأشبه شريك الخاطئ, ودليل ذلك قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة". الحديث1. ودل على أن الأصل قوله عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" 2. ولأن الصبي والمجنون لا قصد لهما صحيح, ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلهما حكم الخطأ.
مسألة: وإن كان شريك العامد مخطئا فلا قود على واحد منهما أما المخطئ فلا قصاص عليه لقوله سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} 3, وقال عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" 4. وأجمعوا على أنه لا قود عليه, وأما شريكه فكذلك عند أكثرهم وعنه عليه القود لأنه شارك في القتل العمد العدوان فأشبه شريك العامد ولأنه مؤاخذ بفعله وهو عمد عدوان لا عذر له فيه, ولنا أنه قتل غير متمحض عمدا فلم يوجب القود كشبه العمد وكما لو قتله واحد بجرحين عمدا وخطأ.
مسألة: "وإن أكره رجل رجلا على القتل فقتل أو جرح أحدهما جرحا والآخر مائة أو قطع أحدهما يده من الكوع والآخر من المرفق فهما قاتلان وعليهما القصاص وإن وجبت الدية استويا فيها". أما إذا أكره رجل رجلا على القتل فقتل فالقصاص على المكره والمكره جميعا أما المكره فلأنه تسبب إلى القتل العمد العدوان فوجب عليه القصاص كشهود القصاص إذا رجعوا, وأما المكره فإنه قتل من يكافئه ظلما عدوانا فوجب عليه القصاص كما لو لم يكره, والدليل على أنه قتل أنه أخذ السيف وحز الرقبة ولأن القتل عبارة عن جرح يتبعه الزهوق وقد وجد منه ذلك؛ ولأنه أثم بذلك فإن عليه إثم القتل
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3 - سورة الأحزاب: الآية 5.
4 - سبق تخريجه.

مائة, أو قطع أحدهما من الكوع والآخر من المرفق فهما قاتلان وعليهما القصاص وإن وجبت الدية استويا فيها وإن ذبحه أحدهما ثم قطع الآخر يده أو قده نصفين فالقاتل الأول وإن قطعه أحدهما ثم ذبحه الثاني قطع القاطع وذبح الذابح
ـــــــ
والدليل على أنه عمد أنه قصد الفعل بآلة محصلة له ولأن الإكراه لم يسلبه اختياره ولا ضعف قصده بل هيج دواعيه وكثرها ولا يقال إنه ينزل بمنزلة الآلة فإن الآلة لا تأثم وهذا يأثم والآلة ليس لها قصد وهذا له قصد صحيح فإنه وقى نفسه واستبقاها بقتل أخيه المسلم فينبغي أن يجب عليه القصاص ويصير كما لو قال له: اقتله وإلا قتلتك غدا فقتله فإنه يجب عليه القصاص.
مسألة: وأما إذا جرح أحدهما جرحا والآخر مائة فإنه يجب عليهما القصاص إذا مات المجروح وإن صار الأمر إلى الدية فهما فيها سواء؛ لأنه يجوز أن يموت من الجرح دون الجراحات فسقط اعتبار عددها ولأن الجراح إذا صارت نفسا أوجبت دية واحدة كما لو قطع يده فمات ولو كانت إحدى الجراحتين أعمق من الأخرى مثل أن تكون إحداهما موضحة والأخرى مأمومة فمات منها فالقود عليهما لأن ذلك لا يمنع من تساويهما كما لا يمنع زيادة عدد الجراحات.
مسألة: "وإن قطع أحدهما من الكوع والآخر من المرفق فمات وجب القود عليهما", وقال أبو حنيفة: لا قصاص على الأول ويجب على الثاني لأنه قطع سراية الأول فمات بعد زوال جنايته فأشبه ما لو اندمل جرحه ثم مات, ولنا أن قطع الثاني لا يمنع جناية بعدها فلا يمنع جناية قبلها كما لو قطع يده الأخرى وما ذكره فغير مسلم فإن الألم الحاصل بقطع الأول لم يزل وإنما زاد ويخالف الاندمال فإنه لا يبقى معه الألم الذي حصل في الأعضاء الشريفة فاختلفا.
مسألة: "وإن ذبحه أحدهما ثم قطع الآخر يده أو قده نصفين فالقاتل الأول وإن قطعه أحدهما ثم ذبحه الثاني قطع القاطع وذبح الذابح" وذلك أنه إذا جنى عليه اثنان جنايتين نظرنا فإن كانت الجناية الأولى أخرجته من حكم الحياة مثل أن أخرج ما في بطنه فأبانه أو قطع حلقومه ومريئه ثم ضرب عنقه. الثاني: أو قطع يده أو قده نصفين فالأول هو القاتل لأنه لا يبقى مع جنايته حياة والقود عليه خاصة, وعلى الثاني التعزير كما لو جنى على ميت وإن عفا الولي إلى الدية فهي على الأول وحده وإن كان جرح الأول يجوز بقاء الحياة معه مثل شق البطن من غير إبانة أو قطع عضو كاليد والإصبع ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأنه لم يخرج بجرح الأول من حكم الحياة فيكون الثاني هو المفوت لها فعليه القصاص في النفس ثم ينظر في جرح الأول فإن كان موجبا للقصاص كقطع الطرف

وإن أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل فالقصاص على المباشر ويؤدب الآمر وإن أمر من لا يعلم تحريمه به أو لا يميز فالقصاص على الآمر وإن أمسك إنسانا للقتل فقتل قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت.
ـــــــ
فالولي مخير بين قطع طرفه أو العفو على دية الطرف أو العفو مطلقا, وإن كان لا يوجب القصاص كالجائفة وغيرها فعليه الأرش وإنما جعلنا له القصاص أو الأرش لأن فعل الثاني قطع سراية الأول فصار كالمندمل ولو كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به عن حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة مثل جرح يخرق المعاء فضرب عنقه. الثاني: فالقاتل هو الثاني لأن حكم الحياة ثابت فيه ألا ترى أن عمر رضي الله عنه لما دخل عليه الطبيب فسقاه لبنا فخرج نصله فعلم الطبيب أنه ميت فقال له: اعهد إلى الناس فعهد إليهم وأوصى وجعل أمر الخلافة إلى أهل الشورى فقبلت الصحابة عهده وأجمعوا على قبول وصاياه فلما كان حكم الحياة باقيا كان مفوتها هو القاتل كما لو قتل عليلا به علة قاتلة.
مسألة: "فإن أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل فالقصاص على المباشر ويؤدب الآمر وإن أمر من لا يعلم تحريمه به أو لا يميز فالقصاص على الآمر" لأنه إذا كان غير عالم تحريم القتل فهو معتقد لإباحته وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده صيدا فرماه فبان إنسانا؛ ولأن حكمه القصاص الزجر ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة وإذا لم يجب عليه وجب على الآمر لأنه آلة لا يمكن إيجاب القصاص عليه فوجب على المتسبب به كما لو أنهشه حية أو ألقاه في زبية أسد فقتله, ويؤدب المأمور. قال الإمام أحمد: يضرب ويؤدب. قال علي: ويستودع السجن ويفارق هذا ما إذا علم حظر القتل فإن القصاص على المأمور لإمكان إيجابه عليه وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدفع مع الحافز ويكون على الآمر الأدب لتعديه بالتسبب إلى القتل وإن أمر بالقتل من لا يميز كصبي أو مجنون فالقصاص على الآمر لأن المأمور ليس له قصد صحيح لكونه غير مميز فهو كالآلة.
مسألة: "فإن أمسك إنسانا للقتل فقتل قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت" أما القاتل فإنه يقتل بغير خلاف, وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه وإن أمسكه له ليقتله عالما بذلك مثل أن ضبطه له حتى ذبحه فاختلفت الرواية عن الإمام أحمد: فروي عنه أنه يحبس حتى يموت, وروي ذلك عن علي رضي الله عنه, وعنه يقتل أيضا لأنه لو لم يمسكه لم يقدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه, وقيل يعاقب ويأثم ولا يقتل لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أغنى الناس على الله تعالى من قتل غير قاتله". والممسك غير قاتل ولأن الإمساك سبب غير ملجئ فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كالدافع والحافز, ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك"؛ ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت ليكون مثلا لما أتى به كما لو حبس رجلا عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى يموت.

باب القود في الجروح
يجب القود في كل عضو بمثله فتؤخذ العين بالعين والأنف بالأنف وكل واحد من الجفن والشفة واللسان والسن واليد والرجل والذكر والانثيين بمثله وكذلك كل ما أمكن القصاص فيه ويعتبر كون المجني عليه مكافئا للجاني وكون
ـــــــ
باب القود في الجروح"يجب القود في كل عضو بمثله فتؤخذ العين بالعين" أجمع أهل العلم على ذلك لقوله سبحانه: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}؛ ولأنها تنتهي إلى مفصل فيجري القصاص فيها كاليد.
مسألة: "وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ" أجمعوا على ذلك لقوله سبحانه: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} والمعنى الذي سبق في العين.
مسألة: ويجب القود في "كل واحد من الجفن" بمثله لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}, ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل ولا فرق بين جفن الأعمى والبصير في ذلك لأنهما تساويا في السلامة من النقص وعدم البصر نقص في غيره فلم يمنع القصاص فيه كما أن عدم السمع لم يمنع القصاص في الأذن وتؤخذ "الشفة" بالشفة وهي ما جاوز جلد الذقن والخدين علوا أو سفلا للآية والمعنى الذي سبق.
مسألة: ويؤخذ "اللسان" باللسان للآية والمعنى ولا نعلم فيه خلافا ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرى لأنه أفضل ويؤخذ الأخرس بالناطق لأنه بعض حقه.
مسألة: ويؤخذ "السن" بالسن أجمع أهل العلم على ذلك لقوله سبحانه: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}؛ ولأن القصاص في السن ممكن لأنها محدودة في نفسها فوجب فيها القصاص كالعين وتؤخذ الصحيحة بالصحيحة والمكسورة تؤخذ بالصحيحة؛ لأنه يأخذ بعض حقه ويأخذ معها من الدية بقدر ما انكسر منها على قول ابن حامد وعلى قياس قول أبي بكر لا ينبغي أن يجب مع القصاص شيء.
مسألة: وتؤخذ "اليد" باليد "والرجل" بالرجل لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن لهما حدا ينتهيان إليه وهو المفصل فيجري فيهما القصاص كبقية الأعضاء.
مسألة: ويؤخذ "الذكر" بالذكر لا نعلم بين أهل العلم خلافا في ذلك لقوله سبحانه:

الجناية عمدا والأمن من التعدي بأن يقطع من مفصل أو حد ينتهي إليه كالموضحة التي تنتهي إلى العظم فأما كسر العظام والقطع من الساعد والساق فلا قود فيه ولا في الجائفة ولا في شئ من شجاج الرأس إلا الموضحة إلا أن يرضى مما فوق الموضحة بموضحة ولا قود في الأنف إلا من المارن وهو ما لان منه
ـــــــ
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}؛ ولأنه له حد ينتهي إليه ويمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب القصاص فيه كاليد ولا فرق بين ذكر الصغير والكبير والشاب والشيخ والذكر الكبير والصغير؛ لأن كل ما وجب القصاص فيه من الأطراف لم يفرق فيه بين هذه المعاني كاليد والرجل.
مسألة: وتقطع الأنثيان بالأنثيين للآية والمعنى.
مسألة: "وكذلك كل ما أمكن القصاص فيه" للنص والمعنى.
مسألة: "ويعتبر كون المجني عليه مكافئا للجاني" وذلك أن القصاص فيما دون النفس معتبر له ثلاثة شروط: أحدها كون المجني عليه مكافئا للجاني فإن لم يكن مكافئا كالعبد إذا قطع الحر طرفه أو الذمي إذا قطعه المسلم لا يقطع طرفه بطرفه؛ لأنه إذا لم تؤخذ نفسه بنفسه لعدم المكافأة فوجب أن لا يؤخذ طرفه بطرفه لعدم المكافأة. الثاني: أن تكون "الجناية عمدا" فإن كانت خطأ لم يجب القصاص بغير خلاف, وإن كانت عمدا خطأ مثل أن يضربه بحجر صغير لا يوضح مثله فأوضحه لم يجب القصاص لأنه شبه عمد ولا يجب القصاص إلا بالعمد المحض, وقال أبو بكر: يجب القصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية. الثالث: "والأمن من التعدي" بحيث يمكن الاستيفاء بغير حيف فإن كان قطع طرف, "بأن" يكون "من مفصل" وإن كان جرحا فبأن ينتهي إلى عظم "كالموضحة" وما عدا هذا كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج أو فوقها أو قطع الطرف من غير مفصل كقطع اليد من الساعد أو العضد أو الرجل من الساق أو الفخذ فلا قصاص فيه غير أكثرهم لأنه لا يمكن المماثلة فيها ولا تؤمن الزيادة عليها ولا يمكن أن يستوفى أكثر من الحق فسقط القصاص كما لو قتل من لا يكافئه أو قطع صحيح اليد بشلاء أو ناقصة الأصابع. "فأما كسر العظام والقطع من الساعد والساق فلا قود فيه" لما ذكرنا.
مسألة: "ولا" قود "في الجائفة" ولا المأمومة لذلك.
مسألة: "ولا" قود "في شيء من شجاج الرأس" لذلك إلا الموضحة" لأنها تنتهي إلى العظم "إلا أن يرضى بما فوق الموضحة" بموضحة لأنه يأخذ دون حقه كمن يأخذ الشلاء بالصحيحة وقد أمن الضرر.
مسألة: "ولا قود في الأنف إلا من المارن وهو ما لان منه" دون قصبة الأنف؛ لأن ذلك

ويشترط التساوي في الاسم والموضع فلا تؤخذ واحدة من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى إلا بمثلها
ولا تؤخذ إصبع ولا أنملة ولا سن إلا بمثلها ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة ولا صحيحة بشلاء وتؤخذ الناقصة بالكاملة والشلاء بالصحيحة إذا أمن التلف
ـــــــ
حد ينتهي إليه فهو كاليد يجب القصاص فيها إلى الكوع وإن قطع القصبة كان له القصاص في المارن وحكومة في القصبة على قول ابن حامد, وعلى قياس قول أبي بكر ليس له قصاص لأنه لا يجيز الاقتصاص من غير محل الجناية ولا يجمع في عضو واحد بين دية وقصاص.
مسألة: "ويشترط التساوي في الاسم والموضع فلا يؤخذ واحد من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى إلا بمثلها", وقيل تؤخذ إحداهما بالأخرى لأنهما تستويان في الخلقة والمنفعة ولنا أن كل واحدة منهما تختص باسم فلا تؤخذ إحداهما بالأخرى لأنهما تستويان في الخلقة والمنفعة, ولنا أن كل واحدة منهما تختص باسم فلا تؤخذ إحداهما بالأخرى كاليد مع الرجل: فعلى هذا كل ما ينقسم إلى يمين ويسار كاليدين والرجلين والأذنين والمنخرين لا يؤخذ أحدهما بالآخر؛ لما ذكرناه, وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالجفنين والشفتين والأسنان لا يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لما ذكرنا.
مسألة: "ولا تؤخذ إصبع بإصبع" إلا أن يتفقا في الاسم والموضع "ولا" تؤخذ "أنملة" بأنملة إلا أن يتفقا في ذلك, ولا تؤخذ عليا بسفلى ولا وسطى وكذلك الوسطى والسفلى لا يؤخذان بغيرهما, "ولا" يؤخذ السن بالسن إلا أن يتفق موضعهما واسمهما ولا يؤخذ سن ولا إصبع أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية ولا زائدة بزائدة في غير محلها لما ذكرناه.
مسألة: "ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة" لأنها فوق حقه والقصاص يعتمد المماثلة.
مسألة: "ولا تؤخذ صحيحة بشلاء" لأنه يأخذ كاملا بناقص وذلك فوق حقه.
مسألة: "وتؤخذ الناقصة بالكاملة" فإذا كانت يد القاطع ناقصة إصبعا أو أكثر فالمجني عليه مخير بين أخذ دية يده وبين قطع الناقصة لأنها دون حقه ويأخذ أرش الأصابع المقطوعة على قول ابن حامد وقياس قول أبي بكر ليس له مع القطع أرش لئلا يجمع بين قصاص ودية في عضو.
مسألة: "و" تؤخذ "الشلاء بالصحيحة إذا أمن التلف" فإن كان القاطع أشل والمقطوعة سالمة فاختار المجني عليه دية يده فله ذلك لا نعلم فيه خلافا؛ لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص فكانت له الدية كما لو لم يكن للقاطع يد وإن اختار القصاص فله ذلك لأنه رضي بدون حقه اللهم إلا أن يخاف من القصاص التلف لقول أهل الخبرة إنه إذا

فصل
إذا قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله يقدر بالأجزاء كالنصف والثلث ونحوهما وإن أخذت ديته أخذ بالقسط منها وإن كسرت بعض سنه برد من سن الجاني إذا أمن انقلاعها ولا يقتص من السن حتى ييأس من
ـــــــ
قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن فأفسده فإنه يسقط القصاص ولأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف وإن أمن هذا كله فله القصاص, وليس له أرش معه لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما نقصت عنها في الصفة فلم يكن له أرش كما لا يأخذ ولي المسلم مع القصاص من الذمي أرشا لنقص الكفر. وقال أبو الخطاب: عندي أنه يأخذ أرش الشلاء مع القصاص على قياس قوله في عين الأعور إذا قلعت والأول أصح؛ لأن إلحاق الفرع بالأصول المتفق عليها أولى من إلحاقه بفرع مختلف فيه خارج عن الأصول.
"فصل: وإذا قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله بقدر الأجزاء" لأنه أمكن القصاص في جميعه فأمكن في بعضه كما في السن يقدر ذلك في الأجزاء أو يؤخذ منه بالحساب فإذا قطع ربع لسانه أخذ من لسان الجاني ربعه وإن قطع نصفه أخذ نصفه أو ثلثه أخذ ثلثه وكذلك سائرها ولا يؤخذ شيء من ذلك بالمساحة لما يأتي.
مسألة: "وإن أخذت ديته أخذ بالقسط منها" يعني إن قطع الجاني نصف اللسان أخذ منه نصف ديته وإن كان أكثر أو أقل فبالحساب وكذلك سائرها.
مسألة: "وإن كسر بعض سنه برد من سن الجاني مثله إذا أمن انقلاعها" وذلك لأن القصاص جاز في بعض السن لأن الربيع كسر سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص وما جرى القصاص في جملته جرى في بعضه إذا أمكن كالأذن فيقدر ذلك بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف والثلث بالثلث, وكل جزء بمثله ولا يؤخذ ذلك بالمساحة كي لا يفضي إلى أخذ جميع سن الجاني ببعض سن المجني عليه ويكون القصاص بالبرد ليؤمن أخذ الزيادة فإنا لو أخذناها بالكسر لم يؤمن أن يتصدع أو ينقلع أو ينكسر من غير موضع القصاص ولا يؤخذ بعضها قصاصا حتى يقول أهل الخبرة إنه يؤمن انقلاعها أو السداد فيها لأن توهم الزيادة يمنع القصاص في الأعضاء كما لو قطعت يده من غير مفصل.
مسألة: "ولا يقتص من السن حتى ييأس من عودها" بأن يكون قد أثغر أي سقطت رواضعه ثم نبتت فإذا سقطت قيل ثغر فإذا نبتت قيل أثغر فإن قلع سن من لم يثغر لم يقلع سن الجاني في الحال؛ لأنها تعود بحكم العادة وما يعود لا يجب ضمانه كالشعر وينظر فإن عاد بدل السن في محلها على صفتها فلا شيء على الجاني وإن عادت مائلة عن

عودها, ولا من الجرح حتى يبرأ وسراية القود مهدرة وسراية الجناية مضمونة بالقصاص والدية
ـــــــ
محلها أو متغيرة عن صفتها كان عليه حكومة لأنها لو لم تعد ضمن السن فإذا عادت ناقصة ضمن ما نقص وإن عادت قصيرة ضمنه بالحساب: ففي نصفها نصف ديتها وفي ربعها ربع ديتها وكذلك على هذا, وإن مضى زمان عودها ولم تعد سئل أهل العلم بالطب فإن قالوا قد يئس من عودها فالمجني عليه بالخيار بين القصاص أو دية السن. فإما إن قلع سن من قد أثغر فقال القاضي: سئل أهل العلم والخبرة فإن قالوا لا تعود أبدا فله القصاص في الحال وإن قالوا يرجى عودها إلى وقت ذكروه لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت فإن لم تعد وجب القصاص وإن عادت لم يجب قصاص ولا دية لأنها سن عادت فسقط أرشها كسن من لم يثغر فإن كان الأرش رده وإن كان استوى القصاص فقد بان أنه كان غير مستحق له لأن القصاص لم يجب عليه لأنه لم يقصد التعدي وعليه الدية لأنه أخذ ما لا حق له فيه.
مسألة: "ولا" يقتص "من الجرح حتى يبرأ" لما روى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح, والنهي يقتضي التحريم لأن الجرح لا يدرى أقتل هو أم ليس بقتل فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه وما الواجب فيه.
مسألة: "وسراية القود مهدرة" ومعناه أنه إذا قطع طرفا يجب القود فيه فاستوفى منه المجني عليه ثم مات الجاني بسراية الجرح لم يلزم المستوفي شيء روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم ولما روي أن عمر وعليا رضي الله عنهما قالا: من مات من حد أو قصاص لا دية له الحق قتله, وروى سعيد نحوه ولأنه قطع مستحق مقدر فلا يضمن سرايته كقطع السارق.
مسألة: "وسراية الجناية مضمونة" بغير خلاف لأنها أثر الجناية والجناية مضمونة فكذلك أثرها ثم إن سرت إلى النفس وجب القصاص فيه ولا خلاف في ذلك وإن قطع إصبعا فشلت يدها أو إصبع إلى جانبها وجب القصاص في المقطوعة ووجب الأرش فيما شل إذا ثبت هذا فيجب الأرش في ماله ولا يجب على العاقلة لأنه سراية جناية عمد وإنما لم يجب القصاص لعدم التماثل في القطع والشل وإذا شل جميع كفه فعفى عن القصاص استحق نصف الدية في اليد وإن استوفى من الإصبع كان له أربعون من الإبل في الأصابع الأربع ويتبعها أربعة أخماس الكف فأما خمسة الكف الذي يختص الإصبع التي اقتص منها ففيه وجهان: أحدهما يتبعها في الأرش لاستوائهما في الحكم فأما إذا اقتص فحكمها مختلف وتجب فيه الحكومة.

إلا أن يستوفي قصاصها قبل برئها فيسقط ضمانها
ـــــــ
مسألة: "إلا أن يستوفي قصاصها قبل برئها فيسقط ضمانها" لما روى جابر أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فقال: يا رسول الله أقدني قال: "حتى تبرأ". فعجل فاستقاد له رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعيبت رجل المستقيد وبرأت رجل المستقاد منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لك شيء إنك عجلت". رواه سعيد مرسلا ورواه الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, وفيه ثم جاء الثالثة فقال: يا رسول الله عرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله ومعطل عرجك". ثم نهى أن يقتص من عرج حتى يبرأ صاحبه وهو دليل على سقوط حقه.
مسألة: عجيبة: إذا قلع سن إنسان فقلع الإنسان سن الجاني ثم عادت سن المجني عليه فقلعها الجاني ثانيا فلا شئ على واحد منهما لأن سن المجني عليه لما عادت وجب عليه دية سن الجاني فإذا قلعها الجاني وجب عليه ديتها فيصير لكل واحد منهما دية سن على الآخر فيقاصان.

كتاب الديات
مدخل...
كتاب الدياتدية الحر المسلم ألف مثقال من الذهب أو اثنا عشر ألف درهم أو مائة من الإبل فإن كانت دية عمد فهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وهن
ـــــــ
كتاب الديات
والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والإجمإع أما الكتاب فقوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 1. وأما السنة فما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم كتابا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه: "إن في النفس الدية مائة من الإبل". رواه النسائي ومالك في الموطأ2.
مسألة: "دية الحر المسلم ألف مثقال أو اثنا عشر ألف درهم أو مائة من الإبل" لما روى ابن عباس: أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا, رواه أبو داود وابن ماجه3, وفي كتاب عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: "وإن في النفس المؤمنة مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار" , رواه النسائي4.
مسألة: "فإن كانت دية عمد فهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وهي الحوامل"؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل". رواه
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 92.
2 - رواه النسائي في القسامة: 45- باب ذكر حديث عمرو بن حزم: حديث رقم 1. ومالك في العقول: حديث رقم 1.
3 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4546. وابن ماجه في الديات: حديث رقم 2632.
4 - رواه النسائي في القسامة: 45- باب ذكر حديث عمرو بن حزم: حديث رقم 1.

الحوامل، وتكون حالة في مال القاتل وإن كان شبه عمد فكذلك في أسنانها: وهي
ـــــــ
الترمذي وقال: حديث غريب1, وعنه أنها أرباع رواها الجماعة عنه واختارها الخرقي لما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا: خمسا وعشرين جذعة وخمسا وعشرين حقة وخمسا وعشرين بنت لبون وخمسا وعشرين بنت مخاض؛ ولأنه قول ابن مسعود والخلفة الحوامل لأن في حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها" 2. والخلفة: هي الحوامل وقوله: "في بطونها أولادها" تأكيد.
مسألة: "وتكون حالة في مال القاتل" أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة. قال ابن المنذر: وهذه قضية الأصل أن بدل المتلف يجب على المتلف وأرش الجناية يختص بالجاني وإنما خولف هذا الأصل في الخطأ وشبه العمد تخفيفا عن الجاني والعامد لا يليق بحاله التخفيف فيبقى على الأصل, ولهذا قال عليه السلام: "لا يجني جان إلا على نفسه" 3. وإذا ثبت هذا فإنها تجب حالة لأن ما وجب بالعمد المحض كان حالا كالقصاص وأرش [الجناية في] أطراف العبد.
مسألة: "وإن كان شبه عمد فكذلك في أسنانها" لما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها" . رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما4, وعنه أنها تجب أرباعا ودليلها حديث السائب بن يزيد وقد سبق.
مسألة: "وهي على العاقلة" في ظاهر المذهب واختار أبو بكر بن عبد العزيز أنها على القاتل في ماله؛ لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله العاقلة كالعمد المحض ولأنها دية مغلظة أشبهت دية العمد, ولنا ما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها, متفق عليه5. ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصا فوجبت ديته على العاقلة كالخطأ ويخالف العمد المحض لأنه مغلظ من كل وجه لقصده الفعل وأراد به القتل وعمد الخطأ مغلظ من وجه وهو قصده الفعل ومخفف من وجه وهو كونه لم يرد القتل
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه الترمذي في الفتن: حديث رقم 2159. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
4 - سبق تخريجه.
5 - سبق تخريجه.

على العاقلة في ثلاث سنين, في رأس كل سنة ثلثها: وإن كانت دية خطأ فهي على العاقلة كذلك إلا أنها عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون بنت لبون
ـــــــ
فاقتضى تغليظا من وجه وهو الأسنان وتخفيفا من وجه وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها.
مسألة: وهي تجب "في ثلاث سنين" على العاقلة لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا, وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس لم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا, وحكي عن قوم من الخوارج أنهم قالوا: إن الدية حالة لأنها بدل متلف وليس بشيء لأن الدية تخالف سائر المتلفات لأنها تجب على غير المتلف ولا تختلف باختلاف صفات المتلف.
مسألة: وتجب "في رأس كل حول ثلثها" وابتداء المدة من حين وجوب الدية لأن هذا مال يحصل بانقضاء أجل فكان ابتداؤه من وجوبه كسائر الديون فإن كان الواجب دية نفس فابتداء مدتها من حين الموت سواء كان قتلا موجبا أو عن سراية جرح [وإن كان الواجب ديةيد أو جرح فابتداء المدة من حين الاندمال لأن الأرش لا يستقر إلا بالاندمال].
مسألة: "وإن كان" القتل خطأ "فهي على العاقلة كذلك" يعني في ثلاث سنين لما سبق "إلا أنها عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة" لا يختلف المذهب في أن دية الخطأ أخماسا كما ذكر, وقيل هي أخماس إلا أن مكان بني مخاض بني لبون. قال الخطابي: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض1. وفيها اختلاف كثير, ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بني مخاض". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه2؛ ولأن ابن لبون يجب على طريق البدل عن ابنة مخاض في الزكاة إذا لم يجدها فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب؛ ولأنهما موجبهما واحد فيصير كأنه أوجب أربعين ابنة مخاض ولأن ما قلناه الأقل فالزيادة عليه لا تثبت إلا بتوقيف يجب الدليل على من ادعاه فأما دية قتيل خيبر فلا حجة فيه لأنهم لم يدعو على أهل خيبر قتل صاحبهم إلا عمدا فتكون ديته دية العمد وهي من أسنان الصدقة إن قلنا تجب أرباعا. أما وجوبها على العاقلة فقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في ذلك, وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6898. ومسلم في القسامة: حديث رقم 2, 6.
2 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4545. والنسائي في القسامة: 33- باب ذكر أسنان دية الخطأ: حديث رقم 1, وابن ماجه في الديات: حديث رقم 2631.

وعشرون حقة وعشرون جذعة, ودية الحرة المسلمة نصف دية الرجل وتساوي جراحها جراحه إلى ثلث الدية فإذا زادت صارت على النصف ودية الكتابي نصف دية المسلم, ونساؤهم على النصف من ذلك ودية المجوسي ثمانمائة درهم
ـــــــ
قضى بدية الخطأ على العاقلة وأجمع عليه أهل العلم وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم دية عمد الخطأ على العاقلة بما قد روينا من الحديث فيما سبق وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطأ والمعنى في ذلك أن جنايات الخطأ تكثر ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني يجحف بماله فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفا عنهما إذ كان معذورا في فعله, ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين فإن عمر وعليا رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة, واتبعهم على ذلك أهل العلم؛ ولأنه مال يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالا كالزكاة.
مسألة: "ودية الحرة المسلمة نصف دية الرجل". قال ابن المنذر وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة على نصف دية الرجل, وحكي عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها دية الرجل لقوله عليه السلام: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" 1, وهو قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن في كتاب عمرو بن حزم: "ودية المرأة على النصف من دية الرجل" 2. وهو أخص مما ذكروه وهما في كتاب واحد فيكون ما ذكرناه مفسرا لما ذكروه ومخصصا.
مسألة: "وتسوى جراحها جراحه إلى ثلث الدية فإذا زادت صارت على النصف" روي هذا عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها". أخرجه النسائي3. وقال ربيعة: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر, قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون, قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون, قلت: ففي أربع أصابع؟ قال: عشرون قلت: لما عظمت مصيبتها قل عقلها. قال: هكذا السنة يا ابن أخي, وهذا يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, رواه سعيد بن منصور.
مسألة: "ودية الكتابي نصف دية المسلم" وروي عنه أنها ثلث الدية لكنه رجع عنها وروى عنه ابنه صالح قال: كنت أذهب إلى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف فأنا
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه النسائي في القسامة: 35-باب عقل المرأة: حديث رقم 1.

ونساؤهم على النصف, ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغت ومن بعضه حر
ـــــــ
اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم لحديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان الذي يرويه الزهري عن سالم عن أبيه وهذا صريح في الرجوع إلى أن ديته نصف دية المسلم وذلك لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دية المعاهد نصف دية المسلم". وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين, رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ولفظه قال: "دية المعاهد نصف دية الحر" 1. قال الخطابي: ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا ولا بأس بإسناده وقد قال به الإمام أحمد وقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى.
مسألة: "ونساؤهم على النصف من ذلك" يعني على النصف من دياتهم لا نعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل؛ ولأنه لما كان دية نساء المسلمين على النصف من ديات رجالهم كذلك نساء أهل الذمة على النصف من دياتهم.
مسألة: "ودية المجوسي ثماني مائة درهم" وهو قول أكثر أهل العلم وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم, وقال عمر بن عبد العزيز: ديته كدية الكتابي نصف دية مسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"؛ ولأنهم يقرون بالجزية فأشبهوا أهل الكتاب, وقال أصحاب الرأي: ديته كدية المسلم لأنه محقون الدم فأشبه المسلم ولنا قول عمر وعثمان وابن مسعود: دية المجوسي ثماني مائة درهم ولا مخالف لهم وأما قولهم سنوا بهم سنة أهل الكتاب فالمراد به في أخذ جزيتهم وحقن دمائهم بدليل أن ذبائحهم لا تباح ولا تنكح نساؤهم ولا يجوز اعتباره بالمسلم ولا الكتابي لنقص أحكامه عنهما وذلك مما يوجب نقصان ديته كما نقصت دية المرأة عن دية الرجل.
مسألة: "ونساؤهم على النصف" من دياتهم بالإجماع وجراح كل أحد معتبرة من ديته وجراح كل امرأة منهم تساوي جراح رجالهم إلى الثلث.
مسألة: "ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغت" فإذا قتلهما قاتل وجبت قيمتهما لأنهما أموال لسيدهما والمال يضمن بقيمته مهما بلغت ويصير كما لو أتلف عليه حيوان أو متاع فإنه تجب قيمة ذلك وكذلك في العبد والأمة.
مسألة: "ومن بعضه حر ففيه بالحساب من دية حر وقيمة عبد" فإذا كان نصفه حرا
ـــــــ
1 - رواه أحمد في المسند 2/180, 183 و 215 و 244. وأبو داود في الديات: حديث رقم 4583. والنسائي في القسامة: 36- باب كم دية الكافر: حديث رقم 1, 2. وابن ماجه في الديات: حديث رقم 2644.

ففيه بالحساب من دية حر وقيمة عبد ودية الجنين إذا سقط ميتا غرة عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه ولو شربت الحامل دواء فأسقطت به جنينها
ـــــــ
ونصفه قنا كان فيه نصف دية حر ونصف قيمة عبد لأنه لو كان جميعه حرا لوجب دية حر فيجب في نصفه نصف ديته ولو كان كله عبدا لوجب فيه كمال قيمته فيجب في نصفه نصف قيمته.
مسألة: "ودية الجنين" الحر "إذا سقط" من الضربة "ميتا غرة عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه" فيجب في جنين الحرة المسلمة غرة وهو قول أكثرهم روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة. قال: لتأتين بمن يشهد معك فشهد له محمد بن مسلمة1, وعن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها2, واشترط كون الجنين حرا لأن الخبر ورد فيه وإن كان مملوكا ففيه عشر قيمة أمه كما قلنا في جنين الحرة يجب فيه عشر دية أمه وإنما تجب الغرة إذا سقط من الضربة ويعلم ذلك بأن يسقط عقيبها أو يبقى بها سالما إلى أن يسقط لأنه إذا سقط من الضربة كان قاتلا له فوجبت ديته كما لو ضربه بعد الولادة فقتله, ويجب أن تكون الغرة قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل وإذا لم يجد الغرة انتقل إلى خمس من الإبل على ظاهر كلام الخرقي وعلى قول غيره من أصحابنا ينتقل إلى خمسين دينارا أو ستمائة درهم. إذا ثبت هذا فإن الغرة موروثة عن الجنين كأنه سقط حيا لأنها دية له وبدل عنه فيرثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة وكدية الكبير.
مسألة: "ولو شربت الحامل دواء فأسقطت به جنينها فعليها غرة لا ترث منها شيئا" أجمعوا على ذلك ولأنها إذا أسقطت بالدواء جنينا فهي القاتلة للجنين الجانية عليه فلزمها ضمانه بالغرة كما لو جنى عليه غيرها ولا ترث من الغرة شيئا؛ لأن القاتل لا يرث وتكون الغرة لبقية الورثة من كانوا وعليها عتق رقبة وكذلك كل من ضرب عليه عتق رقبة في ماله لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وقد ثبت للجنين الإيمان تبعا لأبويه ولأنها نفس مضمونة بالدية فوجب فيها الكفارة كالكبير.
مسألة: "وإن كان الجنين كتابيا ففيه عشر دية أمه" لأن الجنين المسلم فيه عشر دية
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة: حديث رقم 7317.
2 - سبق تخريجه.

فعليها غرة لا ترث منها شيئا وإن كان الجنين كتابيا ففيه عشر دية أمه وإن كان عبدا ففيه عشر قيمة أمه وإن سقط الجنين حيا ثم مات من الضربة ففيه دية كاملة إذا كان سقوطه لوقت يعيش في مثله.
ـــــــ
أمه فكذلك الجنين الكتابي فيه عشر دية أمه.
مسألة: "وإن كان عبدا ففيه عشر قيمة أمه" وقال أبو حنيفة: يعتبر الجنين بنفسه إن كان ذكرا ففيه نصف عشر قيمته وإن كان أنثى ففيه عشر قيمتها لأنه متلفة فكان بدله معتبرا بنفسه كسائر المتلفات ولنا أنه جنين مات بالجناية في بطن أمه فلم يختلف بالذكورة ولا بالأنوثة كجنين الحرة ويفارق سائر المتلفات فإنه لا يضمن بجميع قيمته ولأنه يتعذر تقويمه وتمييز الذكر من الأنثى.
مسألة: "وإن سقط الجنين حيا ثم مات من الضربة ففيه دية كاملة". قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في الجنين يسقط حيا من الضرب الدية كاملة؛ ولأنه مات من جناية بعد ولادته فكانت فيه دية كاملة كما لو قتله بعد وضعه وإنما تجب ديته إذا سقط حيا وتعلم حياته بالاستهلال أو التنفس أو شرب اللبن أو العطاس وإنما يجب ضمانه إذا سقط من الضربة ومات ويعلم بها ذلك بأن يموت في الحال أو يبقى متألما إلى أن يموت فيعلم أنه مات من الجناية كما إذا ضرب رجلا فمات عقيب ضربه أو بقي متألما حتى مات إذا ثبت هذا فإن الدية كاملة إنما تجب فيه "إذا كان سقوطه لوقت يعيش في مثله" وهو أن يكون لستة أشهر فصاعدا فإن كان لدون ذلك ففيه غرة كما لو سقط ميتا, وقال الشافعي رضي الله عنه: فيه دية كاملة لأننا علمنا حياته وقد تلف من جنايته ولنا أنه لم يعلم فيه حياة يتصور بقاؤه بها فلم تجب فيه دية كما لو ألقته ميتا وكالمذبوح وقولهم إننا علمنا بحياته إذا سقط ميتا وله ستة أشهر فقد علمنا حياته .

باب العاقلة و ما تحمله
...
باب العاقلة وما تحمله
وهي عصبة القاتل كلهم قريبهم وبعيدهم من النسب والموالي إلا الصبي
ـــــــ
باب العاقلة وما تحمله
"و" العاقلة "عصبة القاتل كلهم قريبهم وبعيدهم من النسب والموالي" لا خلاف بين أهل العلم أن العاقلة هم العصبات وأن غيرهم من الإخوة للأم وسائر ذوي الأرحام والزوج ليس من العاقلة واختلفت الرواية في الأبناء والآباء هل هم من العاقلة؟ ففيه روايتان عن أحمد رحمه الله: إحداهما أن كل العصبات من العاقلة يدخل فيه آباء الرجل وأبناؤه وإخوته وعمومته وأبناؤهم وهو اختيار أبي بكر والشريف أبي جعفر لما روى أبو داود بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل

والمجنون والفقير ومن يخالف دينه دين القاتل, ويرجع في تقدير ما يحمله كل واحد
ـــــــ
المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت فعقلها بين ورثتها1؛ ولأنهم عصبة أشبهوا الإخوة يحققه أن العقل موضوع على التناصر وهم من أهله والرواية الثانية ليس هم من العاقلة؛ لما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم, متفق عليه2. وفي رواية: ثم ماتت القاتلة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثها لبنتها والعقل على العصبة, رواه أبو داود والترمذي, وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلتها وعصبتها وبرأ زوجها وولدها. قال: فقال: عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ميراثها لزوجها وولدها". رواه أبو داود3. إذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد لأنه في معناه؛ ولأن مال والده وولده كماله ولهذا لم تقبل شهادتهما له فلا تجب فيه دية كما لا تجب في ماله وظاهر كلام الخرقي أن الإخوة كالوالد في أن فيه روايتين وغيره من أصحابنا يخصون الروايتين بالولد والوالد ويجعلون الإخوة من العصبة بكل حال وهو الصحيح.
مسألة: "وسائر العصبة من العاقلة -بعدوا أو قربوا- من النسب والموالي" لأنهم عصبة فيدخلون في تحمل العقل كالقريب ولا يعتبر أن يكونوا وارثين في الحال بل متى كانوا بحال يرثون لولا الحجب عقلوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية بين عصبة المرأة من كانوا والمولى من عصبته يعقل عنه إلا أنه لا يعقل إلا ما يفضل عن المناسبين فيقسم أولا على الإخوة ثم بنيهم ثم الأعمام ثم بنيهم فإن فضل بعد جميع المناسبين فضلة من الدية قسم على المولى وعصبته فإن لم يكن له عصبات أو كانوا وفضل عنهم شيء من الدية قسم على مولى المولى ثم على عصبة مولى المولى ثم على هذا التريب بحسب ما ذكرنا في الميراث فإن فضل عن جميعهم شيء كان في بيت المال.
مسألة: "إلا الصبي والمجنون والفقير ومن يخالف دينه دين القاتل" وذلك لأن تحمل العقل على سبيل المواساة فلا يلزم الفقير كالزكاة؛ ولأن حمل الدية وجب على سبيل النصرة والصبي والمجنون ليسا من أهلها فلا يلزمهم العقل, وكذلك المرأة, وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان مع العاقلة, وأجمعوا على أن الفقير لا يلزمه شيء لما سبق ومن يخالف دينه فليس من أهل نصرته وموالاته فلا يعقل عنه كالصبي.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4564.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4575.

منهم إلى اجتهاد الإمام فيفرض عليه قدرا يسهل ولا يشق وما فضل فعلى القاتل وكذلك الدية في حق من لا عاقلة له ولا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا
ـــــــ
مسألة: "ويرجع في تقدير ما يحمله كل واحد منهم إلى اجتهاد الإمام فيفرض عليه قدرا يسهل" عليه "ولا يشق" لأنه لم يرد فيه تقدير من الشرع فيرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم لأنه يحتاج إلى نظر واجتهاد فأشبه النفقات وتقدير المتعة للمتزوجة بغير صداق إذا طلقها قبل الدخول.
مسألة: "وما فضل" عن العاقلة "فـ" هو "على القاتل وكذلك الدية في حق من لا عاقلة له" حكم من لم يكن له عاقلة تحمل الجميع كحكم من لا عاقلة له, وقد ذكر الخرقي فيمن لا عاقلة له روايتين: إحداهما يؤدي عنه من بيت المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاري المقتول في خيبر من إبل الصدقة؛ ولأن بيت المال للمسلمين وهم يرثون كما ترثه عصباته, والرواية الأخرى لا يجب ذلك لأن بيت المال فيه حق النساء والصبيان والمعتوهين والفقراء ولا عقل عليهم؛ ولأن العقل بالتعصيب لا بالميراث ولم يثبت أن مال بيت المال لعصبات هذا. فأما تحمل النبي صلى الله عليه وسلم دية الأنصاري فلا يلزم لأنه قتيل أهل الذمة وبيت المال لا يعقل عنهم, فإن قلنا بالرواية الأولى فلم يكن له عاقلة أصلا أخذ من بيت المال وإن كان له من عاقلته من يحمل بعض الدية فرض عليهم على قدر الواجب عليهم والباقي من بيت المال, فإذا لم يمكن الأخذ من بيت المال فقال الشافعي: ليس على القاتل شيء في أحد قوليه وفي الآخر تكون الدية على القاتل لأن الدية تجب عليه ابتداء ثم تحملها العاقلة عنه فإذا لم يكن متحمل بقيت عليه؛ ولعموم قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}؛ ولأنه يتعذر حمل الدية عن القاتل فلزمته كما لو ثبت القتل باعترافه. قال شيخنا: ويتخرج في المذهب مثل ذلك ولأن أصحابنا قالوا في المرتد إذا قتل رجلا خطأ فالدية في ماله مؤجلة؛ لأنه لا عاقلة له فينبغي أن يثبت هذا الحكم في كل من لا عاقلة له لوجود العلة فيه. وقالوا في نصراني رمى بسهم ثم أسلم ثم قتل السهم رجلا: الدية في ماله لأنه تعذر حمل العاقلة فكذا هذا.
مسألة: "ولا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون الثلث"؛ لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا". وروى عن ابن عباس موقوفا عليه وفي هذه المسألة خمس مسائل: الأولى أنها لا تحمل العمد وقد أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل العمد الموجب للقصاص في نفس ولا طرف وعن مالك أن الجنايات التي لا قصاص فيها تحملها العاقلة كالجائفة والمأمومة لأنها جناية لا قصاص فيها فأشبهت الخطأ, ولنا حديث ابن عباس ولأنها جناية عمد فلا تحملها العاقلة كقتل الأب ابنه والموضحة وأما سقوط القصاص

صلحا ولا اعترافا ولا ما دون الثلث
ـــــــ
في الجائفة والمأمومة بخلاف الخطأ فإن انتفاء القصاص فيه لكونه معذورا فيه فيقتضي أن تواسيه العاقلة فيه. والمسألة الثانية: أنها لا تحمل العبد فإذا قتله قاتل وجبت قيمته في مال القاتل ولا شيء على عاقلته خطأ كان أو عمدا, وقال أبو حنيفة: تحمله العاقلة لأنه آدمي يجب لقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر, ولنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ ولأن الواجب في العبد القيمة وهي تختلف باختلاف صفاته فلا تحملها العاقلة كسائر القيمة وكضمان أطرافه وبهذا فارق الحر. والمسألة الثالثة: أنها لا تحمل الصلح قال القاضي: معناه إن صالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية فلا تحمله العاقلة لكونه حصل على جناية العمد ويحتمل أنه إذا ادعى عليه قتل عمد فينكر ثم يصالح الأولياء على الإنكار على مال فلا تحمله العاقلة؛ لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فجرى مجرى اعترافه وقد سبق فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والمسألة الرابعة: أن العاقلة لا تحمل الاعتراف وهو أن يعترف إنسان بقتل خطأ أو شبه عمد فلا تحمله العاقلة ولا نعلم فيه مخالفا. وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ولأنا لو أوجبنا الدية عليهم لأوجبنا عليهم حقا بإقرار غيرهم ولا يقبل إقرار شخص على غيره؛ ولأنه متهم في أن يواطئ على ذلك ليأخذ الدية من عاقلته إذا تقرر هذا فإنه إذا اعترف وجبت الدية عليه حالة ولا يصح إقراره ولا يلزمه شيء لكونه إقرارا على غيره, ولنا قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} ؛ ولأنه مقر بجناية على غير لا يصح إقراره كجناية العمد ولأنه محل مضمون بالدية لو ثبت بالبينة فيضمن إذا اعترف كسائر المحال وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق لتحمل العاقلة له فإذا لم تتحملها العاقلة بقي وجوبها عليه كسائر الديون.
المسألة الخامسة: أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث, والصحيح عن الشافعي رضي الله عنه أن العاقلة تحمل القليل والكثير؛ لأن من وجب عليه الكثير لزمه القليل كالجاني. وقال أبو حنيفة: تحمل العاقلة السن والموضحة وما فوقها وهو نصف عشر الدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الغرة التي في الجنين على العاقلة وقيمتها نصف عشر الدية ولا تحمل ما دونه؛ لأنه ليس فيه أرش مقدر يجري مجرى ضمان الأموال, ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية أن لا تحمل منها العاقلة شيئا حتى تبلغ الدية عقل المأمومة؛ ولأن الأصل وجوب الضمان على الجاني على مقتضى قاعدة سائر الجنايات لكن خولف الأصل في ما زاد على الثلث لكونه كثيرا يجحف بالجاني ففيما عداه يبقى على قضية القياس لقلته وعدم إجحافه به, والدليل على كثرة الثلث وقلة ما دونه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الثلث كثير". وبهذا يفارق الثلث ما دونه, وأما الغرة فلا نسلمها إلا أن يقتل الجنين مع الأم فتحملها العاقلة؛ لأن موجب الجناية يزيد على الثلث وإن سلمنا فإنما تحملها العاقلة لأنها دية آدمي على سبيل الكلام.

ويتعاقل أهل الذمة, ولا عاقلة لمرتد ولا لمن أسلم بعد جنايته أو انجر ولاؤه بعدها.
فصل
وجناية العبد في رقبته إلا أن يفديه السيد بأقل الأمرين من أرشها أو قيمته
ـــــــ
مسألة: "ويتعاقل أهل الذمة" فإذا كان القاتل ذميا فعقله على عصبته من أهل دينه المعاهدين, وعنه لا يتعاقلون ولنا أنهم عصبة يرثونه فيعقلون عنه كعصبة المسلم من المسلمين ولا يعقل عنه مناسبوه من المسلمين؛ لأنهم لا يرثونه ولا عصبته الذين بدار الحرب لأن الموالاة والنصرة منهم منقطعة وهل يعقل اليهودي عن النصراني أو النصراني عن اليهودي؟ على وجهين بناء على الروايتين في توارثهما فإن لم يكن للذمي عصبة لم يعقل عنه بيت المال؛ لأن المسلمين لا يرثونه وإنما ينقل ماله إلى بيت المال إذا لم يكن له وارث فيأخذه بخلاف مال المسلمين.
مسألة: "ولا عاقلة لمرتد" لأن عصبته من المسلمين لا يرثونه فلا يعقلون عنه, ولا يقر على الكفر فيعقل عنه الكفار ولو رماه وهو مسلم ثم ارتد ثم أصابه السهم لم يعقل عنه المسلمون؛ لأنه قتل وهو مرتد ولا عصبته الكفار لأنه رمى وهو مسلم ولأنهم لا يرثونه فتكون الدية في ماله.
مسألة: "ولا" عاقلة "لمن أسلم بعد جنايته" فلو قتل وهو كافر ثم أسلم لم تعقل عنه عصبته الكفار لأنه مسلم والكفار لا يرثونه فلا يعقلون عنه ولا يعقل عنه المسلمون لأنه جنى وهو كافر ولو رمى يهودي طائرا بسهم ثم أسلم ووقع السهم في مسلم فقتله لم تعقل عنه عصبته المسلمون؛ لأن إرسال السهم كان قبل إسلامه ولا عصبته الذميون لأنه قتله وهو مسلم فيكون في مال الجاني.
مسألة: ولا عاقلة لمن "انجر ولاؤه بعدها" يعني بعد جنايته, وصورة ذلك إذا تزوج عبد معتقة قوم فأولدها فولاء الوالد لمولاه فإن جنى الولد فعقله على مولى أمه فإن أعتق أبوه انتقل الولاء إلى موالي الأب وانقطع عن موالي الأم؛ لأن الولاء انجر عنهم فلا يعقلونهم لأنهم لا يرثونه ولا يعقل عنه موالي الأب لأنه جنى وهو مولى غيرهم ولو جرح ابن المعتقة رجلا ثم انجر ولاؤه إلى موالي أبيه ثم سرت الجناية فالحكم كذلك؛ لأن موالي الأم لا يعقلون لانقطاع الولاء عنهم وموالي الأب لا يعقلون لأن سبب السراية كان قبل حصول الولاء لهم
فصل
مسألة: "وجناية العبد في رقبته إلا أن يفديه السيد بأقل الأمرين من أرشها أو قيمته" هذا في الجناية التي تودي بالمال إما لكونها موجبة للقصاص فعفى عنه إلى المال وإما

ودية الجناية عليه ما نقص من قيمته في مال الجاني
ـــــــ
لكونها لا توجب إلا المال كسائر جناياته فإن أرش جميع ذلك يتعلق برقبته لأنه لا يخلو إما أن يتعلق برقبته أو بذمته أو بذمة سيده أو لا يجب شيء ولا يمكن إلغاؤها لأنها جناية آدمي فيجب اعتبارها كجناية الحر ولا يمكن تعلقها بذمته لإفضاء ذلك إلى فوات حق المجني عليه أو تأخيره, ولا بذمة السيد لأنه لم يجن والجاني هو العبد وله يد وقصد فثبت أنها تتعلق برقبته؛ ولأن الضمان موجب جنايته فيتعلق برقبته كالقصاص ثم لا يخلو أرش الجناية من أن يكون بقدر قيمة العبد فما دون أو أكثر فإن كان بقدرها فما دون فالسيد مخير بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه لأنه إن دفع أرش الجناية فهو الذي وجب للمجني عليه فلم يملك المطالبة بأكثر منه وإن سلم العبد فقد أدى المحل الذي تعلق الحق بت؛ ولأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة وقد أداها فإن طالب بتسليمه إليه وأبى ذلك سيده لم يجبر عليه لما ذكرنا, وإن دفع السيد عبده فأبى قبوله وقال بعه وادفع إلي ثمنه فهل يلزم السيد ذلك؟ على روايتين: إحداهما: لا يلزمه بيعه لأن الحق لم يثبت في ذمته ولم يتعلق بغير الجاني فلم يلزمه أكثر من تسليمه كما لو أصدق المرأة عبدا بعينه. والثانية: يلزم السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته ولا يلزم الجاني أخذ العبد لأن الدين تعلق به على وجه لم يملكه ولا يجب مثله فأشبه الرهن, وأما إن كانت الجناية أكثر من قيمته ففيه روايتان: إحداهما أن سيده مخير بين أن يفديه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته وبين أن يسلمه لما ذكرنا في القسم الذي قبله. والثانية: أنه مخير بين تسليمه وبين فدائه بأرش جنايته بالغة ما بلغت؛ لأنه إذا عرض للبيع ربما رغب فيه راغب بأكثر من قيمته فإذا أمسكه فقد فوت تلك الزيادة على المجني عليه, ووجه الأولى أن الشارع قد جعل للسيد فداءه فكان الواجب عليه قيمته كسائر المتلفات.
مسألة: "ودية الجناية عليه" -يعني على العبد- "ما نقص من قيمته" ؛ لأن ضمانه ضمان الأموال فيجب فيه ما نقص كالبهائم؛ ولأن ما ضمن بالقيمة بالغا ما بلغ ضمن بعضه بما نقص كسائر الأموال, وعنه إن كانت الجناية عليه في شيء مثله مؤقت في الحر كاليد والعين فهو في العبد مقدر من قيمته لأن ديته قيمته ففي يده نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وما أوجب الدية من الحر كاليدين والرجلين, والأنف والذكر والأنثيين أوجب قيمة العبد, وهذا يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولم يعرف له مخالف من الصحابة؛ ولأنه آدمي يضمن في القصاص والكفارة فكان في أطرافه مقدرا كالحر ولأن أطرافه منها مقدر من الحر فكان فيها مقدرا من العبد كالشجاج الأربع؛ ولأن ما وجب في شجاجه مقدرا وجب في أطرافه مقدرا كالحر إذا ثبت هذا فإنها تجب. "في مال الجاني" لأن العاقلة لا تحمل العبد كما سبق.

وجناية البهائم هدر إلا أن تكون في يد إنسان كالراكب والقائد والسائق فعليه ضمان ما جنت بيدها أو فمها دون ما جنت برجلها أو ذنبها، وإن تعدى بربطها في ملك غيره أو طريق ضمن جنايتها كلها وما أتلفت من الزرع نهارا لم يضمنه إلا أن
ـــــــ
مسألة: "وجناية البهائم هدر" لقوله عليه السلام: " العجماء جبار" 1, والعجماء البهيمة وقوله جبار أي هدر كقوله: "البئر جبار والمعدن جبار" 2. أي هدر يعني إذا استأجر من يحفر له في بئر أو معدن فوقع عليه فقتله فهو هدر.
مسألة: "إلا أن تكون" البهيمة "في يد إنسان كالراكب والقائد والسائق فعليه ضمان ما جنت يدها أو فمها دون ما جنت رجلها أو ذنبها"؛ لأن اليد والفم يمكنه التحفظ منهما وليس كذلك الرجل فإنه لا يمكنه التحفظ منها كما لو لم تكن يده عليها, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرجل جبار" 3. في حديث أبي هريرة وروى سعيد بإسناده عن هذيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وذنبها كرجلها", وعنه رواية أخرى يضمن جناية الرجل. قال القاضي: وهي أصح لأنه يشاهدها فهي كاليد أو الفم.
مسألة: "وإن تعدى بربطها في ملك غيره أو طريق ضمن جنايتها كلها" لأنه متعد بذلك وإن كان الطريق واسعا ففيه روايتان: إحداهما يضمن أيضا لأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة وكذلك لو ترك في الطريق طينا أو ما أشبهه فزلق فيه إنسان ضمن. والثانية: لا يضمن لأن له أن يقفها في طريق لا يضيق بها على الناس فلم يكن متعديا فلم يضمن كما لو جلس فعثر به إنسان.
مسألة: "وما" أفسدت البهيمة "من الزرع نهارا لم يضمنه إلا أن تكون في يده وما أتلفت ليلا فعليه ضمانه" ؛ لما روى مالك عن الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم. قال ابن عبد البر: إن كان هذا مرسلا فهو مشهور حدث به الأئمة الثقات واستعمله فقهاء الحجاز بالقبول؛ ولأن العادة من أهل المواشي إرسالها في النهار للرعي وحفظها ليلا وعادة أهل الحوائط حفظها نهارا دون الليل فإذا رعت ليلا كان التفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ, وإن أتلفت نهارا كان التفريط من أهل الزرع فكان عليهم, وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى على كل إنسان بالحفظ في وقت عادته, وأما غير الزرع فلا يضمن لأن البهيمة لا تتلف
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6912, ومسلم في المساقاة: حديث رقم 3.
2 - انظر تخريج الحديث عاليه.
3 - نفس التخريج.

تكون في يده وما أتلفت ليلا فعليه ضمانه.
ـــــــ
ذلك عادة فلا يحتاج إلى حفظها عنه بخلاف الزرع وهذا إذا لم تكن يد أحد عليها فإن كان صاحبها معها أو غيره فعلى من يده عليها ضمان ما أتلفته من نفس أو مال على ما سبق في المسألة قبلها.

باب ديات الجراح
كل ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه دية كلسانه وأنفه وذكره وسمعه وبصره وشمه وعقله وكلامه وبطشه ومشيه, وكذلك في كل واحد من صعره -وهو أن يجعل وجهه في جانبه- وتسويد وجهه وخديه واستطلاق بوله أو غائطه وقرع رأسه ولحيته دية, وما فيه منه شيئان ففيهما الدية وفي أحدهما نصفها كالعين والحاجبين والشفتين والأذنين واللحيين واليدين والثديين والاليتين والأنثيين والأسكتين والرجلين وفي الأجفان الأربعة الدية وفي أهدابها الدية وفي كل واحد ربعها, فإن
ـــــــ
باب ديات الجراح"كل ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه دية كلسانه وأنفه وذكره وسمعه وبصره وشمه وعقله وكلامه وبطشه ومشيه وكذلك في كل واحد من صغره وهو أن يجعل وجهه في جانبه وتسويد وجهه وخديه واستطلاق بوله أو غائطه وقرع رأسه ولحيته دية", وذلك أن كل عضو لم يخلق الله سبحانه في الإنسان منه إلا واحدا كاللسان والأنف وجميع ما ذكرنا ففيه دية كاملة؛ لأن في إتلافه إذهاب منفعة الجنس وإذهاب منفعة الجنس كإتلاف النفس.
مسألة: "وما فيه منه شيئان ففيهما الدية وفي أحدهما نصفها كالعينين والحاجبين والشفتين والأذنين واللحيين واليدين والثديين والإليتين والأنثيين والأسكتين والرجلين"؛ لأن منفعة الجنس تذهب بذهابهما فكان فيهما الدية وفي إتلاف أحدهما إذهاب نصف منفعة الجنس فكان فيه نصف الدية لا نعلم في هذا خلافا, وقد روى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه وكان في كتابه: "وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية", رواه النسائي وغيره1. ورواه ابن عبد البر وقال: كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء وما فيه متفق عليه إلا قليلا.
مسألة: "وفي الأجفان الأربعة الدية" لأن بإذهابها تفوت منفعة الجنس جميعا, "وفي
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

قلعها بأهدابها وجبت دية واحدة وفي أصابع اليدين الدية وفي أصابع الرجلين الدية وفي كل إصبع عشرها وفي كل أنملة ثلث عقلها إلا الإبهام في كل أنملة نصف عقلها وفي كل سن خمس من الإبل إذا لم تعد
ـــــــ
كل واحد" منها "ربع" الدية لأن كل ذي عدد تجب الدية في جميعه تجب في كل واحد بحصته من الدية كالعينين والأصابع ولأن فيها جمالا ظاهرا ومنفعة كاملة فإنها تكن العين وتحفظها وتقيها الحر والبرد وتكون كالغلق عليها يطبقه إذا شاء ويفتحه إذا شاء ولولاها لقبح منظره فوجب أن يكون فيها الدية كاليدين.
مسألة: وتجب الدية في أهداب العينين بمفردها وهو الشعر الذي على الأجفان لأن فيها جمالا ومنفعة فوجب فيها الدية كالأجفان.
مسألة: "فإن" قطع الأجفان "بأهدابها" لم يجب أكثر من "دية واحدة" لأن الشعر يزول تبعا لزوال الأجفان فلم يجب فيها شيء كالأصابع إذا قطع الكف وهي عليه.
مسألة: "وفي أصابع اليدين الدية وفي أصابع الرجلين الدية وفي كل إصبع عشرها" ولا نعلم فيه مخالفا إلا عن عمر ثم رجع عنه إلى ما في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لآل حزم فأخذ به وترك قوله الأول وبهذه الجملة قال عمر وعلي وزيد وابن عباس وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل إصبع". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح, ورواه أبو داود عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم1. وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "وفي كل إصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل" 2؛ ولأنه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فكانت سواء في الدية كالأسنان والأجفان.
مسألة: "وفي كل أنملة ثلث عقلها" فديتها مقسومة على عدد أناملها لكل إصبع ثلاث أنامل "إلا الإبهام" فإنها أنملتان ففي كل أنملة من غير الإبهام ثلث عقلها ثلاثة أبعر وثلث ثلث دية الإصبع وفي كل أنملة من الإبهام خمس من الإبل نصف ديتها والحكم في أصابع اليدين والرجلين سواء لعموم الخبر فيهما وحصول الاتفاق عليهما.
مسألة: "وفي كل سن خمس من الإبل إذا لم تعد" لا نعلم خلافا بينهم في أن دية الأسنان من الإبل خمس في كل سن روي ذلك عن عمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم, وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي السن خمس من الإبل". رواه النسائي وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الأسنان خمس
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الديات: حديث رقم 1391. وأبو داود في الديات: حديث رقم 4556.
2 - سبق تخريجه.

وفي مارن الأنف وحلمة الثدي والكف والقدم
ـــــــ
خمس", رواه أبو داود1, والأضراس والأنياب كالأسنان روي ذلك عن ابن عباس ومعاوية رواه مسلم ولأن قوله في الخبر "في كل سن خمس من الإبل" ولم يفصل فدخل في عمومها الأضراس والأنياب لأنها أسنان, وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأصابع سواء والأسنان سواء الشفة والضرس سواء هذه وهذه سواء" 2, وهذا نص وإذا ثبت هذا فإن ديتها تجب إذا لم تعد فإن عادت لم تجب ديتها كما لو نتف شعره فعاد مثله.
مسألة: "وفي مارن الأنف" الدية بغير خلاف بينهم حكاه ابن عبد البر وابن المنذر عن من يحفظ عنه من أهل العلم وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في الأنف إذا أوعب مارنه جدعا الدية" 3؛ ولأنه عضو فيه جمال ومنفعة ليس في البدن منها إلا شيء واحد فكانت فيه دية كاللسان, وإنما الدية في مارنه وهو ما لان منه هكذا قال الخليل وغيره؛ ولأن الذي يقطع منه ذلك فانصرف الخبر إليه.
مسألة: "و" في "حلمتي الثدي" الدية نص عليه لأن المنفعة بها تتعلق بالحلمتين بهما يشرب اللبن فهما كالأصابع مع الكف وحكم ثدي الرجل كحكم ثدي المرأة؛ لأن ما وجب فيه من المرأة وجب فيه من الرجل كسائر الأعضاء؛ ولأنه أذهب الجمال على الكمال فوجبت الدية كأذني الأصم وأنف الأخشم.
مسألة: "و" في "الكف" الدية "و" كذلك "القدم" يعني الكف بأصابعه والقدم بأصابعه إذا قطعه وجبت ديته كاملة؛ لأنه قطع يده أو رجله فوجبت ديتها لذهاب نفعها وخص ذلك بالقدم والكف لأن فيه زيادة بيان وتعريف أن قطع ذلك يوجب الدية كما لو قطع اليد من المرفق فإنه يجب دية اليد لا غير, ولو قطع الرجل مع الركبة وجبت ديتها لأن ذلك يسمى يدا وتسمى رجلا فهو داخل في مسمى اليد والرجل فلم يكن فيه أكثر من دية. هذا ظاهر المذهب, وقال القاضي: في الزائد حكومة يعني إذا قطع من المرفق أو من الركبة وجبت عليه دية اليد والرجل وفي الزائد عن الكوع والكعب حكومة لأن اليد اسم لها إلى الكوع بدليل الآية وهي قوله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4, ولا تقطع إلا من الكوع ولنا أن اليد اسم للجميع إلى المنكب بدليل قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}, ولما نزلت آية التيمم مسح الصحابة إلى المناكب وقال ثعلب: اليد إلى
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4563.
2 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4559.
3 - سبق تخريجه.
4 - سورة المائدة: الآية 38.

وحشفة الذكر وما ظهر من السن وتسويدها دية العضو كله وفي بعض ذلك بالحساب من ديته وفي الأشل من اليد, والرجل والذكر وذكر الخصي والعنين
ـــــــ
المنكب فإذا قطعها من فوق الكوع فما قطع إلا اليد فلا يكون فيها إلا دية اليد ولا يمنع أن يجب في الكل مثل ما يجب في البعض كما لو قطع الذكر من أصله لم يجب إلا دية ولو قطع الحشفة وجبت الدية ولو قطع الأصابع وجبت الدية ولو قطعها مع الكوع لم يجب إلا دية.
مسألة: "و" في "حشفة الذكر" الدية ولا نعلم مخالفا فيه لأن منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل منافع اليد بالأصابع فكملت الدية بقطعها كالأصابع.
مسألة: ويجب في "ما ظهر من السن ديتها" لأن السن اسم لما ظهر من اللثة فإذا كسره من ذلك الحد وجبت الدية وما في اللثة يسمى سنخا فإن قلعه بسنخه لم يزد الأرش كما أن أصل الأصابع في الكف فإذا قطعها وجبت الدية وإذا قطع معها الكف لم يزد الأرش.
مسألة: "وإن جنى على السن فسودها وجبت عليه ديتها" روي ذلك عن زيد ابن ثابت وحكي عن الإمام أحمد فيها روايتان أن في تسويدها كمال ديتها؛ لأنه أذهب الجمال على الكمال فكملت ديتها كما لو قطع أذن الأصم وأنف الأخشم ولأنه قول زيد ولم يعرف له مخالف من الصحابة.
مسألة: "وفي بعض ذلك بالحساب من ديته" فإذا قطع شيئا من مارن الأنف أو الثدي أو الحشفة أو الذكر أو كسر بعض السن إن النصف وجب نصف ديته وإن كان أقل من ذلك أو أكثر وجب بحسابه.
مسألة: "وفي الأشل من اليد والرجل والذكر وذكر الخصي والعنين ولسان الأخرس والعين الغائمة والسن السوداء والذكر دون حشفته والثدي دون حلمته والأنف دون أرنبته والزائد من الأصابع وغيرها حكومة". اليد الشلاء اليابسة التي قد ذهبت منها منفعة البطش واختلفت الرواية عن أحمد فيها وفي السن السوداء والعين الغائمة وهي التي ذهب بصرها وصورتها باقية: فعنه فيهن حكومة لأنه لا يمكن إيجاب دية كاملة لكونها قد ذهبت منفعتها ولا مقدر فيها فتجب فيها الحكومة كاليد الزائدة وعنه يجب في كل واحدة ثلث ديتها؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين الغائمة السادة لمكانها بثلث الدية وفي اليد الشلاء إذا قطعت ثلث ديتها وفي السن السوداء إذا قلعت ثلث ديتها. رواه النسائي وأخرجه أبو داود مختصرا في العين وحدها, وروي ذلك عن عمر ولأنها كاملة الصورة فكان فيها مقدر كالصحيحة.

ولسان الأخرس والعين الغائمة والسن السوداء والذكر دون حشفته والثدي دون حلمته والأنف دون أرنبته والزائد من الأصابع وغيرها حكومة وفي الأشل من الأنف وأنف الأخشم وأذن الأصم ديتها كاملة.
ـــــــ
مسألة: وكذلك الرجل الشلاء والذكر الأشل وذكر الخصي وذكر العنين وكذلك كل عضو ذهب نفعه وبقيت صورته فذلك على روايتين: إحداهما تجب حكومة كما سبق والثانية ثلث الدية بالقياس على ما مضى.
مسألة: "وفي لسان الأخرس روايتان أيضا كالروايتين في اليد الشلاء". قال القاضي: في معنى ذلك الإصبع الزائدة ونحوها. قال شيخنا -رحمه الله-: والصحيح أن الواجب في الزائد حكومة لأن الأصلي الباقية صورته بقي جماله بعد ذهاب نفعه والزائد لا جمال فيه بل هو يشين في الخلقة فلا يصح قياسه على ما بقي جماله.
مسألة: "وأما الذكر دون حشفته ففيه وجهان:" أحدهما حكومة, والثاني: ثلث ديته كما لو قطع الكف بعد ذهاب الأصابع والحكم في الثدي دون حلمته كالذكر دون حشفته وعلى قياسه الأنف دون أرنبته لأنه يشبه الذكر دون حشفته فيكون حكمه حكمه.
مسألة: "وفي الأشل من الأذن والأنف وأنف الأخشم وأذن الأصم ديتها كاملة" لأن نفعها وجمالها باق بعد شللها فإن منفعة الأذن جمع الصوت ومنع دخول الماء والهوام في صماخه فإذا قطعها وجبت ديتها ولأنه قطع أذنا فيها الجمال والنفع فأشبه ما لو قطعها قبل الشلل, والأنف الأشل كذلك لأنه قطع أنفا فيه الجمال والنفع فوجبت ديته كغير الأشل وأنف الأخشم -يعني الذي لا يشم- تجب ديته كما لو قطع أذن الأصم فإنه يجب ديتها كاملة لما ذكرناه.

باب الشجاج و غيرها
...
باب الشجاج وغيرها
الشجاج هي جروح الرأس والوجه وهي تسع: أولها الحارصة وهي التي تشق الجلد شقا لا يظهر منه دم ثم البازلة التي ينزل منها دم يسير ثم الباضعة التي تبضع اللحم بعد الجلد ثم المتلاحمة التي أخذت في اللحم ثم السمحاق التي بينها وبين
ـــــــ
باب الشجاج وغيرها
"والشجاج هي جراح الرأس والوجه" فإنه يسمى شجاجا خاصة دون جراح سائر البدن والشجاج المساة "تسعة": منها خمس لا توقيت فيها وباقيها مقدر فأما التي لا توقيت فيها فقال الأصمعي: "أولها الحارصة وهي التي تشق" اللحم قليلا, ومنه حرص القصار للثوب "ثم البازلة" وهي "التي يبزل منها" الـ "دم" أي يسيل وتسمى الدامية أيضا "ثم

العظم قشرة رقيقة فهذه الخمس لا توقيت فيها ولا قصاص بحال ثم الموضحة وهي التي وصلت إلى العظم وفيها خمس من الإبل, والقصاص إذا كانت عمدا ثم
ـــــــ
الباضعة" وهي "التي" تشق "اللحم بعد الجلد ثم المتلاحمة" وهي "التي أخذت في اللحم" ولم تبلغ السمحاق "ثم السمحاق وهي التي" تصل إلى "قشرة رقيقة" أو جلدة بين اللحم والعظم تسمى الجراح الموصلة إلى تلك الجلدة سمحاقا باسمها ويسميها أهل المدينة الملطاء وهي التي تأخذ اللحم كله حتى تخلص منه. "فهذه خمس لا توقيت فيها ولا قصاص" أي لم نجد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها حكما ولا توقيتا وأكثر الفقهاء لا يرون فيها توقيتا وهو الصحيح عن أحمد رحمه الله, وعنه رواية أخرى في الدامية بعير وفي الباضعة بعيران وفي الملاحمة ثلاثة أبعرة وفي السمحاق أربعة أبعرة وهذا يروي عن زيد بن ثابت صار أحمد إلى ذلك اتباعا لزيد؛ لأن مثل هذا لا يكاد يصدر إلا عن توقيت ووجه الأول أنها جراحات لم يرد فيها توقيت في الشرع فكان الواجب فيها حكومة كجراحات البدن أو كالحارصة وروى مكحول قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضحة بخمس من الإبل ولم يقض فيما دونها.
مسألة: "ثم الموضحة" وهي من الشجاج "وهي التي وصلت إلى العظم" سميت موضحة لأنها أبدت وضح العظم أي بياضه أجمع أهل العلم على أن أرشها مقدر قاله ابن المنذر, وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي الموضحة خمس من الإبل". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في المواضح خمس خمس" . رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن1, والموضحة في الوجه والرأس سواء وعنه رواية أخرى: يجب في موضحة الوجه عشر من الإبل وهو قول سعيد بن المسيب لأن تشيينها أكثر والأول ظاهر المذهب وهو الصحيح الذي يوافق عموم الخبر ويشهد له النظر فإن التقدير لا يصار إليه بالرأي والاختيار أما كثرة الشين فلا عبرة به بدليل التسوية بين الصغير والكبير.
مسألة: "و" فيها "القصاص إذا كانت عمدا" لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ؛ ولأن لها حدا تنتهي إليه فأشبهت اليد وقوله في الشجاج وهي جروح الرأس والوجه يعني أنها تختص بالرأس والوجه فلو أوضحه في غيرهما لم يكن فيه مقدر هذا قول أكثرهم وقال بعضهم: إن أوضحه في غير الرأس والوجه كانت موضحة مقدرة ولنا أن اسم الموضحة إنما يطلق على الجراحة المخصوصة بالرأس والوجه وقول الخليفتين الراشدين
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4566. والنسائي في القسامة: 44- باب المواضح حديث رقم 1. والترمذي في الديات: حديث رقم 1390.

الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشر من الإبل ثم المنقلة وهي التي توضح وتهشم وتنقل عظامها وفيها خمسة عشر من الإبل, ثم المأمومة وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ وفيها ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى الجوف فإن خرجت من جانب آخر فهي جائفتان وفي الضلع بعير وفي الترقوتين
ـــــــ
الموضحة في الرأس والوجه سواء يدل على أن باقي البدن بخلافه ولأن الشين فيهما أكثر منه في سائر البدن فلا يلحق به ثم إن إيجاب ذلك في سائر البدن يفضي إلى أن يجب في موضحة العضو أكثر من ديته مثل أن يوضح عن عظم أنملة فيجب فيها خمس من الإبل وديتها ثلاث وثلث.
مسألة: "ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه" سميت هاشمة لهشمها العظم "وفيها عشر من الإبل" روي ذلك عن زيد بن ثابت ومثل ذلك الظاهر أنه توقيف ولأنه لم يعرف له مخالف في عصره فكان إجماعا؛ ولأنها شجة فوق الموضحة تختص باسم فكان فيها مقدر كالمأمومة وهي في الوجه والرأس سواء على ما ذكرناه في الموضحة.
مسألة: "ثم المنقلة وهي التي توضح وتهشم وتنقل عظامها وفيها خمس عشر من الإبل" بإجماع أهل العلم حكاه ابن المنذر في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم قال: "وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل".
مسألة: "ثم المأمومة وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ" وهي الآمة أيضا وهي الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ وهي جلدة فيها الدماغ سميت أم الدماغ لأنها تحوطه وتجمعه فإذا وصلت الجراحة إليها سميت آمة ومأمومة يقال أم الرجل آمة ومأمومة "و" أرشها "ثلث الدية" لقوله عليه السلام [في كتاب عمرو: "و في المأمومة ثلث الدية" و عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم] مثل ذلك ونحوه عن علي.
مسألة: "وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى الجوف" لقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو ابن حزم: "وفي الجائفة ثلث الدية", وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.
مسألة: "فإن" جرحه في جوفه "فخرجت من" الـ "جانب" الـ "آخر فهي جائفتان"؛ لما روى سعيد بن المسيب: أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه فقضى أبو بكر رضي الله عنه بثلثي الدية ولا مخالف له أخرجه سعيد. قال أصحابنا: وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه قضى في الجائفة إذا نفذت في الجوف بأرش جائفتين ولأنه أنفذه في موضعين فأشبه ما إذا كان من الظاهر إلى الباطن.
مسألة: "وفي الضلع بعير وفي الترقوتين بعيران" هكذا ذكره الخرقي وقال القاضي: إن المراد بقوله الترقوة الترقوتان معا وإنما اكتفى بلفظ الواحد لإدخال الألف.

بعيران وفي الزندين أربعة أبعرة, وما عدا هذا مما لا يقدر فيه ولا هو في معناه ففيه حكومة وهي أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص من قيمته فله بقسطه من الدية إلا أن تكون الجناية على عضو فيه مقدر فلا
ـــــــ
واللام المقتضية للاستغراق والترقوة العظم الممدود من النحر إلى الكتف ولكل واحد ترقوتان ففي كل ترقوة بعير وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولما كانت الترقوة عظمين في كل واحد بعير كان في الضلع بعير أيضا.
مسألة: "وفي الزندين أربعة أبعرة" لأن فيهما أربعة عظام ففي كل عظم بعير يروى ذلك عن عمر رضي الله عنه وقيل في ذلك حكومة وما روى سعيد حدثنا هشيم حدثنا يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن عمرو ابن العاص كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كسر فكتب إليه عمر: إن فيه بعيرين وإذا كسر الزندان ففيهما أربعة من الإبل.
مسألة: "وما عدا هذا مما لا يقدر فيه ولا هو في معناه ففيه حكومة" وذلك أن لنا مقدرا وما هو في معناه وغيره فالمقدر ما نص النبي صلى الله عليه وسلم على أرشه وبين قدره كقوله: "في الأنف الدية وفي اللسان الدية" وقد سبق ذكره وما هو في معناه كالإليتين والثديين والحاجبين فذلك ملحق بالمقدر وقد سبق أيضا, وأما غير المقدر والذي ليس في معناه فكالشجاج التي دون الموضحة وجراحات البدن سوى الجائفة وقطع الأعضاء وكسر العظام المذكورة فيجب فيها حكومة لأنها ليست في معنى المقدر.
مسألة: "و" الحكومة "أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص من قيمته فله نقصه من ديته". قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن معنى قولهم "حكومة" أن يقال إذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوم كم قيمة هذا المجروح لو كان عبدا لم يجرح هذا الجرح فإن قيل مائة دينار قيل وكم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه قيل خمسة وتسعون فالذي يجب له على الجاني نصف عشر الدية, وإن قالوا تسعون فعشر الدية وإن زاد أو نقص فعلى هذا المثال وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة فيها كما أن المبيع لما كان مضمونا على البائع بالثمن كان أرش المعيب الموجود فيه مقدرا من الثمن فيقال: كم قيمته لا عيب فيه؟. قالوا: عشرة فيقال: وكم قيمته والعيب فيه؟ فإذا قيل تسعة علم أنه نقص عشر قيمته فيجب أن يرد من الثمن عشرة أي قدر كان وتقديره عبدا ليمكن تقويمه ويجعل العبد أصلا للحر فيما لا توقيت فيه والحر أصلا للعبد فيما فيه توقيت.
مسألة: "إلا أن تكون الجناية على عضو فيه مقدر فلا يجاوز به أرش المقدر مثل أن يشجه دون الموضحة فلا يجب أكثر من أرشها أو يجرح أنملة فلا يجب أكثر من ديتها" وذلك

يجاوز به أرش المقدر مثل أن يشجه دون الموضحة فلا يجب أكثر من أرشها أو يجرح أنملة فلا يجب أكثر من ديتها.
ـــــــ
مثل أن يشجه سمحاقا في وجهه فينقص عشر قيمته فتقتضي الحكومة أن يجب فيه عشر من الإبل ودية الموضحة خمس فها هنا يعلم غلط المقوم لأن الجراحة لو كانت موضحة لم تزد على خمس من الإبل مع زيادتها على السمحاق قليلا فلأنه لا يجب في بعضها زيادة على خمس أولى وكذلك لو جرح أنملة فبلغ أرشها بالحكومة خمسا من الإبل فإنه يرد إلى دية الأنملة المجروحة وينقص عنها شيئا ذكره القاضي وفي التي قبلها وقال: من المحال أن يجب في الجناية على العضو أكثر من ديته فما زاد علمنا غلط المقوم وإن كانت الجناية في محل لا مقدر فيه وجب فيه ما أخرجته الحكومة بالغا ما بلغ.

باب كفارة القتل
ومن قتل مؤمنا أو ذميا بغير حق أو شارك فيه أو في إسقاط جنين فعليه كفارة وهي تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله سواء كان مكلفا أو غير مكلف حرا أو عبدا
ـــــــ
باب كفارة القتل"ومن قتل مؤمنا" غير متعمد "أو ذميا بغير حق أو شارك فيه أو في إسقاط جنين فعليه كفارة وهي تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله سبحانه سواء كان مكلفا أو غير مكلف حرا أو عبدا" والأصل في كفارة القتل قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وأجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة للآية وتجب في قتل الصغير والكبير لعموم الآية وتجب بقتل العبد كما تجب بقتل الحر لعموم الآية وتجب بقتل الذمي والمستأمن وهو قول أكثرهم لقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, والذمي والمستأمن لهما ميثاق ولأنه مقتول ظلما فأشبه المسلم.
مسألة: وإن قتل صبي أو مجنون وجبت الكفارة في مالهما لعموم قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وهما قد قتلا مؤمنا وكذلك الكافر إذا قتل تجب عليه الكفارة لأنه حق مال يتعلق بالقتل فتعلقت به كالدية.
مسألة: والمشهور في المذهب أنه لا كفارة في قتل العمد وعنه تجب فيه وهو قول الشافعي لما روى واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب بالقتل فقال: "أعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوا منه من النار"؛ ولأنها إذا

ولو تصادم نفسين فماتا فعلى كل واحد منهما كفارة ودية صاحبه على عاقلته،
ـــــــ
وجبت في الخطأ ففي العمد أولى لأنه أعظم إثما وأكبر جرما ولنا مفهوم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, ثم ذكر قتل العمد فلم يوجب فيه كفارة فمفهومه أنه لا كفارة فيه وروي أن سويد ابن الصامت قتل رجلا فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم القود ولم يوجب كفارة؛ ولأنه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة كالزنى من المحصن وخبر واثلة يحتمل أنه أمرهم بالإعتاق عنه تبرعا وكذلك أمر به غير القاتل وما ذكره من المعنى لا يصح لأنه يحتمل أنها وجبت في الخطأ لقلة إثمه لتمحو أثر التفريط فلا يلزم إيجابها في موضع كبر إثمه وتعاظم جرمه بحيث لا يمكنها رفعه.
مسألة: ومن شارك في قتل يوجب الكفارة لزمته الكفارة ويلزم كل واحد من شركائه كفارة وهو قول أكثرهم وحكى أبو الخطاب عن الإمام أحمد رواية أن عليهم كفارة واحدة؛ لعموم قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, و "من" تتناول الواحد والجماعة ولأنه لم يوجب إلا دية وكفارة والدية لا تتعدد بالفاعلين كذلك الكفارة ولأنها كفارة تتعلق بالقتل فإذا اشترك في سببها الجماعة وجبت كفارة واحدة ككفارة الصيد ولنا أنها كفارة لا تتبعض بدليل أنها لا تنقسم على الأطراف وما لا يتبعض إذا اشترك في سببه الجماعة وجب تكميله كالقصاص ويخالف كفارة الصيد؛ لأنها تجب بدلا ولهذا تجب في أبعاضه وكذلك الدية.
مسألة: وإن شارك في ضرب بطن امرأة فألقت جنينا سواء كان ميتا أو حيا ثم مات فعليه الكفارة وعلى كل واحد من شركائه كفارة كما إذا قتل جماعة رجلا ودليلها ما سبق في المسألة قبلها, وقال أبو حنيفة: لا كفارة على من ضرب بطن امرأة فألقت جنينا سواء كان حيا أو ميتا جماعة أو واحدا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب فيه الغرة ولم يوجب الكفارة, ولنا قول الله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وقد ثبت للجنين الإيمان تبعا لأبويه ولأنها نفس مضمونة بالدية فوجبت فيها الكفارة كالكبير وما ذكره من الحديث فلا يدل على نفي الكفارة كما قال: "في نفس المؤمن مائة من الإبل" ولم يذكر الكفارة فيحتمل أن يكون ترك ذكرها اعتمادا على عموم الآية.
مسألة: "ولو تصادم نفسان فماتا فعلى كل واحد منهما كفارة ودية صاحبه على عاقلته" وإنما لزم كل واحد منهما كفارة لأنه قتل صاحبه بصدمته له فوجبت عليه كفارة كما لو لكمه فقتله ويجب على الآخر كفارة لذلك, وأما الدية في المتصادمين فتجب دية كل واحد منهما على عاقلة صاحبه لأنه قاتل خطأ أو شبه عمد وفيه الدية على العاقلة على ما سبق فإن كان المتصادمان امرأتين حاملتين فأسقطت كل واحدة منهما جنينا فعلى كل واحدة منهما نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها لأنهما اشتركتا في قتله.

وإن كانا فارسين فمات فرساهما فعلى كل واحد منهما ضمان فرس الآخر وإن كان أحدهما واقفا والآخر سائرا فعلى السائر ضمان دابة الواقف وعلى عاقلته ديته إلا أن يكون الواقف متعديا بوقوفه كالقاعد في طريق ضيق أو ملك السائر فعليه الكفارة وضمان السائر ودابته ولا شيء على السائر ولا عاقلته وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق
ـــــــ
وعلى كل واحدة منهما عتق ثلاث رقاب: واحدة لقتلها صاحبتها والثانية لمشاركتها في قتل جنينها والثالثة لمشاركتها في قتل جنين صاحبتها.
مسألة: "وإن كانا فارسين فمات فرساهما فعلى كل واحد منهما ضمان فرس الآخر" لأن التلف حصل بفعليهما فيستويان في الضمان سواء استوى فعلاهما أو اختلف كما لو جرح أحد الشريكين جرحا والآخر مائة جرح, وقال الشافعي: يجب على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر لأنهما استويا في الاصطدام فكل منهما مات في الفعلين فوجب على كل واحد نصف قيمة دابة الآخر كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرح صاحبه ولنا أن كل واحد منهما ماتت دابته من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة فإذا ثبت هذا فإن كانتا سواء تقاصا وان كانت قيمة إحداهما أكثر من الأخرى فله فضل قيمة دابته.
مسألة: "وإن كان أحدهما واقفا والآخر سائرا فعلى السائر ضمان دابة الواقف" نص عليه الإمام أحمد لأنه قتلها بصدمته وإن ماتت دابة السائر فهي هدر لأنه هو الذي قتلها بصدمته "وعلى عاقلته ديته".
مسألة: "إلا أن يكون الواقف متعديا بوقوفه كالقاعد في طريق ضيق أو ملك السائر فعليه الكفارة"؛ لأنه خطأ "و" يلزمه "ضمان السائر" إن مات من الصدمة "و" ضمان "دابته" لأنه متعد في وقوفه في موضع ليس له الوقوف فيه فأشبه ما لو وضع في الطريق حجرا أو جلس في طريق فعثر به إنسان.
مسألة: "ولا شيء على السائر ولا" على "عاقلته" لأن الواقف اختص بالتعدي فكان مهدرا أو فاختص بالضمان كالصائل.
مسألة: "وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فقتل الحجر معصوما فعلى كل واحد منهم كفارة" لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وليس في ذلك خلاف علمناه لأن كل واحد منهم مشارك في إتلاف آدمي معصوم "وتجب ديتهم على عواقلهم أثلاثا" وإن كانوا لم يقصدوا الرمي كان خطأ تجب ديته على عواقلهم مخففة وإن عمدوا واحدا بعينه فهو شبه عمد لأنه لا يمكن قصد رجل بعينه بالمنجنيق وإنما يتفق وقوعه بمن يقع فتجب الدية مغلظة على العاقلة وعند أبي بكر أن دية شبه العمد على الجاني في ماله.

فقتل الحجر معصوما فعلى كل واحد منهم كفارة وعلى عاقلته ثلث الدية وإن قتل أحدهم فكذلك إلا أنه يسقط ثلث ديته في مقابلة فعله, وإن كانوا أكثر من ثلاثة سقطت حصة القتيل وباقي الدية في أموال الباقين.
ـــــــ
مسألة: والكفارة لا تتبعض فكملت في حق كل واحد فإن كان القتيل منهم لم تسقط الكفارة عنه؛ لأنه شارك في قتل نفسه والكفارة تجب بحق الله تعالى فوجبت عليه بالمشاركة في قتل نفسه كما تجب بالمشاركة في قتل غيره. وأما الدية ففيها ثلاثة أوجه: أحدها أن على عاقلة كل واحد منهم ثلث الدية ويجب ثلثها على عاقلة المقتول لورثته وهذا ينبني على إحدى الروايتين في أن جناية المرء على نفسه خطأ تحملها عاقلته. والوجه الثاني: أن ما قابل فعل المقتول هدر لا تضمنه العاقلة ولا غيرها ويجب الثلثان الباقيان على عاقلة شريكيه وهذا ينبني على الرواية الأخرى في أن جناية الإنسان على نفسه هدر والثالث أن يلغي فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين.
مسألة: "وإن كانوا أكثر من ثلاثة" فالدية حالة في أموالهم هذا صحيح في المذهب سواء كان المقتول منهم أو من غيرهم إلا أنه إذا كان منهم يكون فعل المقتول في نفسه هدرا لأنه لا تجب عليه لنفسه ويكون باقي الدية في أموال شركائه حالا لأن التأجيل في الديات إنما يكون فيما تحمله العاقلة تخفيفا عنهم كيف لا يشق عليهم؛ لأنهم يتحملونه مواساة وهذا لا تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث والقدر اللازم لكل واحد منهم دون الثلث وذكر أبو بكر رواية أخرى أن العاقلة تحملها لأن الجناية فعل واحد وجبت دية تزيد على الثلث والصحيح الأول؛ لأن كل واحد منهم يختص بموجب فعله دون فعل شركائه وتحمل العاقلة إنما شرع للتخفيف عن الجاني فيما يشق ويثقل وما دون الثلث يسير على ما أسلفناه والذي يلزم كل واحد دون الثلث, وقوله أنه فعل واحد قلنا: بل هي أفعال فإن فعل كل واحد منهم غير فعل الآخر وإنما موجب الجميع واحد فأشبه ما لو جرحه كل واحد جرحا فماتت النفس بجميعها.

باب القسامة
روى سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج أن محيصة وعبد الله بن سهل انطلقا
ـــــــ
باب القسامةقال القاضي: القسامة هي الأيمان إذا كثرت يقال قسامة على وجه المبالغة والأصل فيها ما "روى" يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن "سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج أن محيصة" بن مسعود "وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود به" فجاء أخوه عبد الرحمن وابنا عمه حويصة ومحيصة للنبي صلى الله عليه وسلم

قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته", فقالوا: أمر لم نشهده فكيف نحلف؟ قال: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم", قالوا: قوم كفار فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من قبله. فمتى وجد قتيل فادعى أولياؤه على رجل قتله وكانت بينهم عداوة ولوث -كما كان بين الأنصار وأهل خيبر- أقسم الأولياء على واحد منهم خمسين يمينا واستحقوا دمه فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليه خمسين وبرئ فإن نكلوا فعليهم الدية
ـــــــ
فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه -وهو أصغرهم- "فقال" النبي "صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته", فقالوا: أمر لم نشهده فكيف نحلف؟ . قال: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم". قالوا:" يا رسول الله "قوم كفار" ضلال. قال: "فوداه" رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قبله", قال سهل: فدخلت مربدا لهم فركضتني ناقة من تلك الإبل. متفق عليه.
مسألة: "فمتى وجد قتيل فادعى أولياؤه على رجل قتله وكانت بينهم عداوة ولوث -كما كان الأنصار وأهل خيبر- أقسم الأولياء على واحد منهم خمسين يمينا واستحقوا دمه" إذا كانت الدعوى عمدا "فإن لم يحلفوا" له "حلف المدعى عليه خمسين" يمينا "وبرئ" ودليل هذه المسألة جميعها حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج ولا بد من اللوث -وهو العداوة- ولأن اليهود كانوا أعداء الأنصار فإنهم قالوا ليس لنا عدو بخيبر غير اليهود فقضى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وينبغي أن تكون الدعوى عمدا لأنه قال: "تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم فيدفع برمته". والرمة الحبل الذي يربط به من عليه القود يقاد به, وفي لفظ: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وإنما أراد دم القاتل ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد فيثبت بها القود كالبينة هذا إذا حلف المدعون فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم". أي يتبرأون منكم وفي لفظ: "فيحلفون خمسين يمينا ويبرؤون من دمه" وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أنهم يحلفون ويغرمون الدية كقول أصحاب الرأي ووجهه قول عمر وحديث سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم, والأولى أولى لأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود الدية وأنه أداها من عنده ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ منها كسائر الحقوق.
مسألة: "فإن نكل المدعى عليهم عن اليمين فعليهم الدية", وعنه رواية أخرى أنهم يحبسون حتى يحلفوا والأولى أنهم لا يحبسون لأنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الأيمان ولا يجب القصاص؛ لأن النكول حجة ضعيفة فلا يتغلظ بها الدم كالشاهد واليمين. قال القاضي: ويديه الإمام من بيت المال لأنه مال وجب لامتناع

فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال ولا يقسمون على أكثر من واحد وإن لم يكن بينهم عداوة ولا لوث حلف المدعى عليه يمينا واحدة وبرئ
ـــــــ
الأيمان في القسامة فكانت الدية في بيت المال كما لو امتنع المدعون منها نص عليه أحمد وقال أبو الخطاب: فيه رواية أخرى أن الدية تجب عليهم لأنه حكم ثبت بالنكول فيثبت في حقهم ها هنا بالنكول كسائر الدعاوى.
مسألة: "فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه وداه الإمام من بيت المال" بدليل حديث سهل حين أبى أهله أن يحلفوا ولم يقبلوا أيمان اليهود فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده كراهة أن يطل دمه.
مسألة: "ولا يقسمون على أكثر من واحد" لا يختلف المذهب في ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته", فخص بها الواحد ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه بقاء على الأصل فيما عداه ولا تخفى مخالفة الأصل فإنها تثبت باللوث واللوث شبهة تغلب على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات ولا يثبت بها.
مسألة: "وإن لم يكن بينهم عداوة حلف المدعى عليه يمينا واحدة وبرئ" فمتى لم يكن لوث لم يحلف المدعون ابتداء بغير خلاف علمناه بين أهل العلم, وهل يحلف المدعى عليه؟ على روايتبن: إحداهما يحلف لعموم قوله عليه السلام: "واليمين على المدعى عليه" ولأنها دعوى في حق آدمي فيستحلف فيها كالدعوى في المال والرواية الأخرى لا يحلف ويخلى سبيله سواء كانت الدعوى خطأ أو عمدا لأن النكول بدل وبدل هذه الأشياء لا يصح فلا تكون اليمين حقا وإذا قلنا بمشروعية اليمين فهي يمين واحدة؛ لأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل فلم تغلظ كما في سائر الدعاوى وفي قول الشافعي يحلفون خمسين يمينا فإن ادعى على جماعة فهل يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا أو تقسم بينهم؟ على قولين:

كتاب الحدود
مدخل...
كتاب الحدودولا يجب الحد إلا على مكلف عالم بالتحريم ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه إلا السيد فإن له إقامته بالجلد خاصة على رقيقه القن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت
ـــــــ
كتاب الحدود
مسألة: "ولا يجب الحد إلا على مكلف عالم بالتحريم" فأما الصبي والمجنون فلا حد عليهما إذا زنيا؛ لما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن1, وفي حديث ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أقر له: "أبك جنون"؟ قال: لا, وروي عنه أنه سأل عنه "أمجنون هو؟" قالوا: ليس به بأس2, إذا ثبت هذا فينبغي أن يكون عالما بالتحريم, وقال عمر وعلي: لا حد إلا على من علمه فإن ادعى الزاني الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهله كحديث عهد بالإسلام أو الناشئ ببادية قبل قوله, وإلا فلا يقبل لأن تحريم الزنى لا يخفى على ناشئ ببلاد الإسلام.
مسألة: "ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه" لأنه حق لله سبحانه والإمام نائب عن الله عز وجل فاختص باستيفائه كالجزية والخراج.
مسألة: "إلا السيد فإن له إقامته بالجلد خاصة على رقيقه القن" في قول أكثرهم وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم فيقيمون الحدود إذا زنوا, وروى سعيد أن فاطمة حدت جارية لها, وقال أصحاب الرأي: ليس له ذلك لأن الحدود إلى السلطان؛ ولأن من لا يملك إقامة الحد على الحر لا يملكه على العبد كالصبي, ولنا قول النبي "صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها", وقوله: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم", رواه الدارقطني؛ ولأنه يملك تأديبه وتزويجه إذا كانت أمته فملك إقامة الحد عليه كالسلطان وفارق الصبي إذا ثبت هذا
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في الأحكام: حديث رقم 7167. ومسلم في الحدود: حديث رقم 16, 22.

أمة أحدكم فليجلدها, وليس له قطعه في السرقة ولا قتله في الردة ولا جلد مكاتبه ولا أمته المزوجة وحد الرقيق في الجلد نصف حد الحر
ـــــــ
فإنه إنما يجوز له إقامته بالجلد خاصة مثل حد الزنى وحد القذف والشرب فإن كان قطعا في السرقة لم يقمه السيد لأنه يحتاج إلى مزيد احتياط ففوض إلى الإمام, وإنما ملك السيد الجلد لأنه تأديب وهو يملك تأديبه وفي تفويضه إليه ستر عليه لئلا يقيمه الإمام فيظهر وتنقص قيمته, ولا يملك إقامته إلا إذا ثبت ببينة أو إقرار فإن ثبت بإقرار فللسيد سماعه وإقامة الحد به وإن ثبت بشهادة اعتبر ثبوتها عند الحاكم لأنها تحتاج إلى البحث عن العدالة ولا يقوم بذلك إلا الحاكم, وقال القاضي يعقوب: إن كان السيد يحسن سماع البينة ويعرف شروط العدالة جاز أن يسمعها ويقيم الحد كما يقيمه بالإقرار, فأما إقامته عليه بعلمه فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما لا يقيمه بعلمه كالإمام والثانية يقيمه لأنه قد ثبت عنده فجاز له إقامته كما لو أقر ويختص ذلك بالمملوك القن فإن كان بعضه حرا لم يملك إقامة الحد عليه؛ لأن الحر إنما يقيم الحد عليه الإمام وهذا بعضه حر فلا يقيم السيد عليه الحد كما لو كان كله حرا.
مسألة: "وليس له قطعه في السرقة" لأن ذلك حق الله تعالى وهو مفوض إلى نائب الله سبحانه وهو الإمام.
مسألة: "و" ليس له "قتله في الردة" لذلك "ولا جلد مكاتبه" لأنه قد انعقد في حقه سبب الحرية.
مسألة: "ولا أمته المزوجة" لما روي عن ابن عمر أنه قال: إذا كانت الأمة ذات زوج فزنت دفعت إلى السلطان فإن لم يكن لها زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصن ولا يعرف له مخالف وقد احتج به أحمد رحمه الله.
مسألة: "وحد الرقيق في الجلد نصف حد الحر" فمتى زنى العبد أو الأمة جلد خمسين جلدة سواء كانا بكرين أو ثيبين لقوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 1, ثم قال سبحانه: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 2؛ ولأن عدتها على النصف من عدة الحرة فيكون جلدها على النصف ولا فرق بين العبد والأمة بدليل سراية العتق فالتنصيص على أحدهما تنصيص على الآخر.
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 25.
2 - سورة النساء: الآية 25.

ومن أقر بحد ثم رجع عنه سقط.
فصل
ويضرب في الجلد بسوط لا جديد ولا خلق ولا يمد ولا يربط ولا يجرد
ـــــــ
مسألة: "ومن أقر بحد ثم رجع عنه سقط" وذلك أن من شرط إقامة الحد الإقرار والبقاء على الإقرار إلى تمام الحد فإن رجع عن إقراره أو هرب كف عنه, ولم يتبع لما روي أن ماعزا هرب فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه". قال ابن عبد البر: ثبت من حديث أبي هريرة وجابر ونعيم بن هزال ونصر بن دهر وغيرهم أن ماعزا لما هرب فقال لهم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فهلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه", ففي هذا أوضح الدلائل على أنه يقبل رجوعه ولأن رجوعه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات.
"فصل: ويضرب في الجلد بسوط لا جديد ولا خلق" لما روي أن رجلا اعترف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال: "فوق هذا", فأتي بسوط جديد لم تكسر غرته فقال: "بين هذين", رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا1, وروي عن أبي هريرة مسندا وقد روى علي رضي الله عنه أنه قال: ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين, فيكون وسطا لا جديدا فيجرح ولا خلقا فلا يؤلم, وهكذا العذاب يكون وسطا لا شديدا فيقتل ولا ضعيفا فلا يردع ولا يرفع باعه كل الرفع ولا يحطه فلا يؤلم. قال أحمد: لا يبدي إبطه في شيء من الحدود يعني لا يبالغ في رفع يده فإن المقصود أدبه لا قتله.
مسألة: "ولا يمد ولا يربط ولا يجرد". قال ابن مسعود: ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينقل عن أحد مد ولا قيد ولا تجريد ولا تنزع ثيابه بل يكون عليه الثوب والثوبان وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب.
مسألة: "ويتقي وجهه ورأسه وفرجه" لأنها مقاتل وليس القصد قتله وقال علي رضي الله عنه: لكل موضع من الحد حظ إلا الوجه والفرج وقال للجلاد: اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه وينبغي أن يفرق الضرب على جميع الجسد ويكثر منه في مواضع اللحم كالإليتين والفخذين والمرأة كالرجل في ذلك.
ـــــــ
1 - رواه مالك في الحدود: حديث رقم 12.

ويتقي وجهه ورأسه وفرجه, ويضرب الرجل قائما والمرأة جالسة وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها, ومن كان مريضا يرجى برؤه أخر حتى يبرأ لما روي عن علي رضي الله عنه: أن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنت", فإن لم يرج برؤه وخشي عليه من السوط جلد بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه مرة واحدة
ـــــــ
مسألة: "ويضرب الرجل قائما" لأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو من الجسد حظه من الضرب, وقال مالك: يضرب جالسا لأن الله سبحانه لم يأمر بالقيام ولأنه مجلود في حد أشبه المرأة, قلنا: ولم يأمر بالجلوس أيضا ولم يذكر الكيفية فعلمناها من دليل آخر وأما المرأة فتضرب جالسة ليكون أستر لها.
مسألة: "و" تضرب "المرأة جالسة وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها" لئلا تنكشف لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: تضرب المرأة جالسة والرجل قائما لأن المرأة عورة وجلوسها أستر لها ويفارق اللعان فإنه لا يؤدي إلى كشف العورة وتشد عليها ثيابها لئلا ينكشف شيء من عورتها عند الضرب, وفي حديث عمران ابن حصين قال: فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت. قال الأوزاعي: يعني فشدت عليها.
مسألة: "ومن كان مريضا يرجى برؤه أخر حتى يبرأ لما روى" أبو داود بإسناده عن علي رضي الله عنه قال: فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا علي انطلق فأقم عليها الحد", فانطلقت فإذا بها دم يسيل, فأتيته فقال: "يا علي أفرغت؟", فقلت: أتيتها و دمها يسيل, فقال: "دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد", رواه مسلم بنحو من هذا المعنى.
مسألة: "فإن لم يرج برؤه وخشي عليه من السوط جلد بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه مرة واحدة"؛ لما روى أبو أمامة بن سهل عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه اشتكى رجل منهم حتى ضنى فعاد جلدا على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فوقع عليها فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك, وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم, فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. قال ابن المنذر: هذا الحديث في إسناده مقال ولأنه لما كانت الصلاة تختلف باختلاف حال المصلي فالحد بذلك أولى.

فصل
وإن اجتمعت حدود لله تعالى فيها قتل, قتل وسقط سائرهم, ولو زنى أو سرق مرارا ولم يحد فحد واحد وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها استوفيت كلها, ويبدأ بالأخف فالأخف منها وتدرأ الحدود بالشبهات فلو زنى بجارية له فيها شرك -وإن قل- أو لولده أو وطئ في نكاح مختلف فيه أو مكرها أو سرق من مال
ـــــــ
"فصل: وإذا اجتمعت حدود لله" عز وجل "فيها قتل, قتل وسقط سائرها" وهو قول عبد الله بن مسعود, وقال الشافعي: تستوفى جميعها لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كالقصاص في الأطراف ولنا قول ابن مسعود رضي الله عنه ولا مخالف له من الصحابة ولأن أسباب الحدود إذا كان فيها موجب للقتل سقط ما دونه كالمحارب إذا أخذ المال وقتل فإنه يقتل ولا يقطع ولأن هذه الحدود تراد للزجر ومن يقتل فلا فائدة في زجره ويخالف حق الأدمي فإنه آكد.
مسألة: "و" من "زنى" مرارا "أو سرق مرارا ولم يحد فحد واحد" لأن الحد كفارة لمن يحد فإذا فعل موجبه مرارا أجزأ حد واحد كالأيمان بالله سبحانه فإنه تجزئه كفارة واحدة, وكما لو وطئ في رمضان في يوم مرتين فإنه يجزئه كفارة واحدة كذا ها هنا. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم.
مسألة: "وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها استوفيت كلها" لوجود أسبابها.
مسألة: "ويبدأ بالأخف فالأخف منها" فلو شرب وزنى وسرق بدئ بحد الشرب ثم بحد الزنى لأن حد الشرب أخف من حد الزنى فإنه إما أربعون وإما ثمانون وحد الزنى مائة ثم يقطع في السرقة.
مسألة: "وتدرأ الحدود بالشبهات" لقوله عليه السلام: "إدرأوا الحدود بالشبهات". قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهات. "فلو زنى بجارية له فيها شرك وإن قل أو لولده" لم يحد لأن ملكه فيها وإن قل شبهة في درء الحد عنه وكذلك إذا كانت لابنه لقوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" 1. ولأنه فرج له فيه ملك فلم يحد بوطئه كوطء المكاتبة والمرهونة.
مسألة: "وإن وطئ في نكاح مختلف فيه" كالنكاح بلا ولي ونكاح المتعة والشغار والتحليل وبلا شهود ونكاح الأخت في عدة أختها البائن ونكاح المجوسية "لم يحد" في
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.

له فيه حق أو لولده وإن سفل من مال غريمه الذي يعجز عن تخليصه منه بقدر حقه لم يحد.
فصل
ومن أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم أو لجأ إليه من عليه قصاص لم يستوف منه حتى يخرج لكن لا يبايع ولا يشارى
ـــــــ
قول أكثر أهل العلم لأن الاختلاف شبهة والحد يدرأ بالشبهات. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الحدود تدرأ بالشبهة.
مسألة: وإن وطئ "مكرها" لم يحد لقوله عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". ولأن الحدود تدرأ بالشبهات والإكراه شبهة فيمنع الحد كما لو كانت المكرهة امرأة.
مسألة: ومن "سرق من مال له فيه حق أو لولده وإن سفل لم يحد" لأن ذلك شبهة في درء الحد عنه لأنه أخذ مالا له أخذه ولما كانت الجارية المشتركة لا يجب الحد بوطئها فكذلك المال المشترك لا يجب الحد بالأخذ منه ومال ولده كماله لقوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك". وكذلك إذا أخذ "من مال غريمه الذي يعجز عن تخليصه منه بقدر حقه فإنه لا يحد" لأن العلماء اختلفوا في حل ذلك واختلاف العلماء في حل الشيء شبهة في درء الحد كما لو وطئ في نكاح فاسد مختلف فيه.
"فصل: ومن أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم أو لجأ إليه من عليه قصاص لم يستوف منه حتى يخرج" من الحرم فيستوفى منه, روى ذلك عن ابن عباس وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الجناية إذا كانت فيما دون النفس لم تستوف في الحرم؛ ولأن حرمة النفس أعظم. قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم حد جنايته حتى يخرج منه, وإن هتك حرمة الحرم بالجناية هتكت حرمته بإقامة الحد عليه, ودليل الأولى قول الله سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}, قيل المراد بهذا الخبر الأمر وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وإنما حلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها فلا يسفك فيها دم". وروى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد فيها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب". متفق عليه ووجه الحجة أنه حرم سفك الدم بها

وإن فعل ذلك في الحرم استوفي منه فيه وإن أتى حدا في الغزو لم يستوف حتى يخرج من دار الحرب
ـــــــ
على الإطلاق, وتخصيص مكة بهذا يدل على أنه أراد العموم فإنه لو أراد سفك الدم الحرام لم تختص به مكة فلا يكون التخصيص مفيدا, ومن وجه آخر وهو أنه قال عليه السلام: "إنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها", ومعلوم أنه إنما أحل له سفك دماء كانت حلالا في غير الحرم فحرمها الحرم ثم أحلت له ساعة ثم عادت الحرمة ثم أكد هذا بمنعه قياس غيره عليه والاقتداء به بقوله: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأذن لكم". وهذا ظاهر إذا ثبت هذا فإنه "لا يبايع ولا يشارى" ولا يطعم ولا يؤوى ويقال له: اتق الله واخرج إلى الحل ليستوفى منك الحق الذي قبلك فإذا خرج استوفى حق الله عز وجل منه, وإنما كان كذلك لأنه إذا أطعم وأوى تمكن من الإقامة أبدا فيضيع الحق الذي عليه وإذا منع ذلك كان وسيلة إلى خروجه فيقام فيه حق الله عز وجل.
مسألة: "وإن فعل ذلك في الحرم استوفى منه فيه" لا نعلم في ذلك خلافا, وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عباس قال: من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء وقال الله سبحانه: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} , فأباح قتلهم عند قتالهم في الحرم؛ ولأن أهل الحرم يحتاجون إلى الزجر عند ارتكاب المعاصي حفظا لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم كما يحتاج إليه غيرهم فلو لم يشرع الحد في حق من ارتكبه في الحرم لتعطلت حدود الله في حقهم وفاتت هذه المصالح التي لا بد منها ولا يجوز الإخلال بها؛ ولأن الجاني في الحرم هاتك لحرمته فلا ينتهض الحرم لتحريم دمه وصيانته بمنزلة الجاني في دار الملك لا يعصم لحرمة الملك بخلاف الملتجئ إليها بجناية صدرت منه في غيرها.
مسألة: "وإن أتى حدا في الغزو لم يستوف منه حتى يخرج من دار الحرب"؛ لما روي عن بسر بن أرطاة أنه أتي برجل في الغزاة قد سرق بختية فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقطع في الغزاة" لقطعتك وفي لفظ: "لا تقطع الأيدي في الغزاة". رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي1؛ ولأنه إجماع الصحابة وروى سعيد في سننه أن عمر كتب إلى الناس: لا تجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجلا من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تحمله حمية الشيطان فيلحق بالكفار, وعن أبي الدرداء مثل ذلك, وعن علقمة قال: كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان وعلينا
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحدود: حديث رقم 4408. والنسائي في قطع السارق: 16- باب القطع في السفر: حديث رقم1. والترمذي في الحدود: حديث رقم 1450. وقال: حديث غريب.

.......................................................................
ـــــــ
الوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا أن نجلده فقال حذيفة: أتجلدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم, وأتي سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن:
كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا على وثاقيا
فقال لابنة حفصة امرأة سعد: أطلقيني ولله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد وإن قتلت استرحتم مني, قال فخلته حين التقى الناس وكانت بسعد جراحة فصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء, ثم أخذ رمحا فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم الله, وجعل الناس يقولون هذا ملك لما يرونه يصنع وجعل سعد يقول: الصبر صبر البلقاء, والطعن طعن أبي محجن, وأبو محجن في القيد فلما هزم الله العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد فأخبرت ابنة حفصة سعدا بما كان من أمره فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى الله به المسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله, فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها فأما إذا بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا وهذا اتفاق لم يظهر خلافه. فأما إذا خرج من دار الحرب فإنه يقام عليه الحد لعموم الآيات والأخبار وإنما أخر لعارض كما يؤخر لمرض أو نحوه, فإذا زال العارض أقيم, ولهذا قال عمر: حتى يقطع الدرب قافلا.

باب حد الزنا
من أتى الفاحشة في قبل أو دبر من امرأة لا يملكها أو من غلام أو من فعل
ـــــــ
باب حد الزناالزاني "من أتى الفاحشة في قبل أو دبر من امرأة لا يملكها أو من غلام أو من فعل ذلك به" لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطئ امرأة في قبلها لا شبهة له في وطئها أنه زان. فأما إن وطئها في دبرها فهو أيضا زان لأنه وطئ امرأة في فرجها ولا ملك له فيها ولا شبهة, فكان زانيا كما لو وطئ في القبل ولأن الله سبحانه قال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} 1, الآية ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد جعل لهن سبيلا: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" 2, والوطء الحرام في الدبر فاحشة لقوله سبحانه في قوم لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} 3, يعني الوطء في أدبار الرجال.
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 15.
2 - رواه ابن ماجه في الحدود: حديث رقم 2550.
3 - سورة الأعراف: الآية 80.

ذلك به فحده الرجم إن كان محصنا أو جلد مائة وتغريب عام إن لم يكن محصنا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة
ـــــــ
مسألة: من تلوط بغلام فحكمه حكم الزاني في إحدى الروايتين وفي الأخرى يقتل بالرجم بكرا كان أو ثيبا وهو قول علي وابن عباس وجابر بن زيد ووجه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به". رواه أبو داود1 وفي لفظ: "فاقتلوا الأعلى والأسفل", واحتج الإمام أحمد بعلي أنه كان يرى رجمه ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك ودليل الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان"؛ ولأنه إيلاج في فرج آدمي أشبه الإيلاج في فرج المرأة وإذا ثبت أنه زان فيدخل في عموم قوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 2, وعموم الأخبار فيه.
مسألة: "ومن فعل ذلك به" يعني أن يكون زانيا إذا وطئ في الدبر رجلا كان أو امرأة لقوله عليه السلام: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان", وأما إذا وطئ الرجل المرأة في دبرها فهو زان أيضا لأنه وطئها في فرجها فأشبه وطأها في قبلها.
مسألة: "فحده الرجم إن كان محصنا أو جلد مائة وتغريب عام إن لم يكن محصنا" فالزاني المحصن يجب عليه الرجم بالأحجار حتى يموت لم يخالف في الرجم إلا الخوارج, قالوا: الجلد للبكر والثيب لعموم آية الحد. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت, وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين وماعزا حتى ماتوا, وعنه يجلد ثم يرجم فعله علي وروي عن ابن عباس وأبي ذر وأبي وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز ونص على الأولى الأثرم في سننه واختاره؛ لأن جابرا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يجلده. وقال: "أغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها". ولم يأمره بجلدها ورجم الغامدية ولم يجلدها, ورجم عمر وعثمان ولم يجلدا وهذا كان آخرا فيجب تقديمه في العمل به ولأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة: إنه أول حد نزل وإن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجلده؛[ورجم عمر و لم يجلده] ولأنه حد يوجب القتل فلم يجب معه جلد كالردة, ونحو هذا نقل إسماعيل بن سعيد ووجه الرواية الأخرى قوله سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}, وهذا عام ثم جاءت السنة بالرجم فوجب الجمع بينهما, فروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني قد
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحدود: حديث رقم 4462.
2 - سورة النور: الآية 2.

وتغريب عام والثيب بالثيب الرجم", والمحصن هو الحر البالغ العاقل الذي وطئ زوجة مثله في هذه الصفات في قبلها في نكاح صحيح, ولا يثبت الزنا إلا بأحد أمرين: إقرار به أربع مرات مصرحا بذكر حقيقته أو شهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون
ـــــــ
جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر مائة جلدة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم". رواه مسلم وأبو داود1. وهذا صريح ثابت بيقين لا يترك إلا بيقين مثله, والأحاديث الباقية ليست صريحة فإنه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح فعلى هذا يبدأ بالجلد أولا ثم يرجم.
مسألة: "والمحصن هو الحر البالغ العاقل الذي قد وطئ زوجة مثله في هذه الصفات في قبلها في نكاح صحيح", وذلك أن الرجم لا يجب إلا على المحصن بإجماع أهل العلم وللإحصان شروط سبعة: الأول: الحرية في قول أكثرهم فأما العبد والأمة فلا يجب عليهما الرجم؛ لأن الله سبحانه قال: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}, والرجم لا يتنصف وحكم العبد حكم الأمة في ذلك. الشرط الثاني والثالث: البلوغ والعقل؛ لقوله عليه السلام: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" 2. فاعتبر الثيوبة خاصة ولو كانت تحصل قبل ذلك لكان يؤدي إيجاب الرجم على الصبي والمجنون, وهذا أولى من القياس وقال بعض أصحاب الشافعي: الإحصان الوطء في النكاح الصحيح وسائر الشروط معتبرة للرجم لا للإحصان, ومعناه أنه لو وطئ من هو صبي أو مجنون في نكاح صحيح ثم عقل المجنون وبلغ الصبي وزنيا رجما؛ لأنه وطء محل للزوج الأول فأشبه الوطء في حال الكمال ولنا ما سبق. الشرط الرابع: أن يوجد الكمال فيهما جميعا حال الوطء فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة؛ لأنه إذا كان أحدهما ناقصا لم يكمل الوطء ولا يحصل به الإحصان, كما لو كانا غير كاملين. الخامس: أن يكون الوطء في القبل فلو وطئ في الدبر أو فيما دون الفرج لم يحصل الإحصان؛ لأنه ليس بمحل الوطء. السادس: أن يكون في نكاح ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنا ووطء الشبهة لا يصير به أحدهما محصنا, ولا نعلم بينهم خلافا في أن التسري لا يحصل به الإحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح, ولا تثبت فيه أحكامه. السابع: أن يكون النكاح صحيحا فإن كان فاسدا لم يحصل به الإحصان لأن وطء في غير ملك فأشبه وطء الشبهة.
مسألة: "ولا يثبت الزنا إلا بأحد أمرين: إقراره به أربع مرات مصرحا بذكر حقيقته أو شهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنا ويجيئون في مجلس واحد ويتفقون على الشهادة
ـــــــ
1 - رواه مسلم في الحدود: حديث رقم 25, وأبو داود في الحدود: حديث رقم 4462.
2 - رواه مسلم في الحدود: حديث رقم 12, 14.

الزنا, ويجيئون في مجلس واحد
ـــــــ
بزنا واحد" وذلك أن الزنا إنما يثبت بأحد شيئين: إقرار أو بينة فإن ثبت بإقرار اعتبر إقرار أربع مرات, وقال الشافعي وغيره: يحد بإقراره مرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها", وفي حديث الجهنية أنه رجمها وإنما اعترفت مرة ولأنه حق فأشبه سائر الحقوق ولنا ما روى أبو هريرة قال: أتى رجل من الأسلميين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أبك جنون"؟ قال: لا. قال: "فهل أحصنت"؟ قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجموه". متفق عليه. ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله سبحانه, وروى نعيم بن هزال حديثه وفيه حتى قالها أربع مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك قد قلتها أربع مرات فبمن"؟ قال: بفلانة. رواه أبو داود وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة وقد روى أبو بردة الأسلمي أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه وسلم: إن أقررت أربعا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم ينكره فكان بمنزلة قوله؛ لأنه لا يقر على الخطأ ولأن أبا بكر قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه وسلم, ولولا ذلك لما تجاسر على قوله بين يديه. فأما أحاديثهم فإن الاعتراف لفظ المصدر يقع على القليل والكثير وحديثنا يفسره ويبين أن الاعتراف الذي ثبت به كان أربعا.
مسألة: ويعتبر أن يصرح بحقيقة الزنا لتزول الشبهة لأن الزنا يعبر به عما لا يوجب الحد, وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت". قال: لا. قال: "أفنكتها" -لا يكنى- قال: نعم. فعند ذلك أمر برجمه, رواه البخاري وفي رواية عن أبي هريرة قال: "أنكتها" ؟ قال: نعم. قال: "حتى غاب ذلك منك في ذلك منها"؟. قال: نعم. قال: "كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر"؟ قال: نعم. قال: "هل تدري ما الزنا"؟ قال: نعم. أتيت منها حراما كما يأتي الرجل من امرأته حلالا وذكر الحديث رواه أبو داود1.
مسألة: قد سبق أن الزنا إنما يثبت بأحد شيئين: إقرار أو بينة وقد مضى الإقرار وأما البينة, فـ "شهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنا" فيعتبر لشهود الزنا شروط: الأول: أن يكونوا أربعة وهذا إجماع لقوله سبحانه: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}, وقال: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}, الشرط الثاني: أن يكونوا رجالا كلهم فلا تقبل فيه
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحدود: حديث رقم 4428.

ويتفقون على الشهادة بزنا واحد
ـــــــ
شهادة النساء لأن في شهادتهن شبهة والحدود تدرأ بالشبهات. الثالث: الحرية فلا تقبل فيه شهادة عبيد لا نعلم في ذلك خلافا إلا عن أبي ثور فإن شهادتهم عنده مقبولة, ولنا أنه مختلف في قبول شهادتهم في جميع الحقوق فيكون ذلك شبهة في درء ما يدرأ بالشبهات. الرابع: أن يكونوا عدولا ولا خلاف في اشتراطها فإن العدالة مشترطة في سائر الشهادات وها هنا مع مزيد الاحتياط أولى ويكونوا مسلمين ولا نعلم في هذا خلافا, فلو شهد أربعة من أهل الذمة على ذمي أنه زنا بمسلمة فعليهم الحد ولا حد على المشهود عليه. الخامس: أن يصفوا الزنا فيقولوا: رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشا في البئر؛ لما روى في قصة ماعز لما أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا قال: "حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر"؟. قال: نعم. وإذا اعتبر التصريح في الإقرار كان اعتباره في الشهادة أولى ولأنهم إذا لم يصفوا الزنا احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه.
مسألة: "ويجيئون في مجلس واحد" وهو شرط سادس في الشهود أن يأتوا الحاكم في مجلس واحد وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم فعليهم الحد, وقيل لا يشترط لقوله سبحانه: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} 1 ولم يذكر المجلس؛ ولأن كل شهادة مقبولة إذا اتفقت تقبل وإن افترقت في مجالس كسائر الشهادات, ولنا أن عمر رضي الله عنه شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بالزنا ولم يشهد زياد فحد الثلاثة, ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر؛ ولأنه لو شهد الثلاثة فحدهم ثم جاء الرابع فشهد لم تقبل شهادته ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم به ويفارق هذا سائر الشهادات. وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط ولهذا لم تذكر العدالة وصفة الزنا.
مسألة: ويشترط أن يتفقوا "على الشهادة بزنا واحد" فلو شهد اثنان أنه زنا بها في هذا البيت واثنان أنه زنا بها في بيت آخر أو شهد كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد به صاحباهما واختلفوا في اليوم فالجميع قذفة وعليهم الحد؛ لأنهم لم تكمل شهادة أربعة على فعل واحد فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما, وحكي عن الإمام أحمد رواية ثانية أنه يجب الحد على المشهود عليه لأن الشهادة قد كملت عليه, وهو اختيار أبي بكر قال أبو الخطاب: ظاهر هذه الرواية أنه لا يعتبر كمال الشهادة
ـــــــ
1 - سورة النور: الآية 13.

...................................................................................
ـــــــ
على فعل واحد. قال القاضي: قال أبو بكر: لو شهد اثنان أنه زنا بها بيضاء وشهد اثنان أنه زنا بها سوداء فهم قذفة, وهذا ينقض عليه قوله: ولو شهد اثنان أنه زنا بها في زاوية من هذا البيت وشهد اثنان أنه زنا بها في زاوية أخرى منه فإن كانت الزاويتان متباعدتين بحيث لا يمكن أن يوجد الفعل الواحد فيهما فالقول فيهما كالقول فيما إذا اختلفا في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم وحد المشهود عليه, وقال الشافعي: لا حد عليه لأن شهادتهم لم تكمل فأشبه ما لو اختلفا في البيتين, ولنا أنه أمكن صدق الشهود عليه بأن يكون ابتداء الفعل في إحدى الزاويتن وتمامه في الأخرى فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا على موضع واحد, فإن قيل قد يمكن أن تكون الشهادة ها هنا على فعلين فلم أوجبتم الحد والحدود تدرأ بالشبهات؟ قلنا: يبطل هذا فيما إذا اتفقوا على موضع واحد فإنه يمكن أن تكون الشهادة على فعلين بأن يكون قد فعل ذلك في ذلك الموضع مرتين ومع هذا لا يمتنع وجوب الحد فكذا ها هنا.

باب حد القذف
ومن رمى محصنا بالزنا أو شهد عليه به فلم تكمل الشهادة عليه جلد ثمانين جلدة إذا طالب المقذوف
ـــــــ
باب حد القذفمسألة: "ومن رمى محصنا بالزنا أو شهد به عليه فلم تكمل الشهادة عليه جلد ثمانين جلدة إذا طالب المقذوف" أجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن, وذلك لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 1, والمحصن من وجدت فيه خمس شرائط: أن يكون حرا مسلما عاقلا بالغا عفيفا, وهذا إجماع وبه يقول جملة العلماء قديما وحديثا سوى ما روي عن داود أنه أوجب الحد على قاذف العبد, وعن ابن المسيب وابن أبي ليلى قالا: إذا قذف ذمية لها ولد مسلم يحد والأول أولى؛ لأن من لم يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد لا يحد له ولد كالمجنونة, وروي عن الإمام أحمد في اشتراط البلوغ روايتان: إحداهما يشترط لأنه أحد شرطي التكليف فأشبه العقل؛ ولأن زنا الصبي لا يوجب الحد فلا يجب الحد بالقذف كزنا المجنون, والثانية: لا يشترط لأنه حر بالغ عاقل عفيف يعتبر بهذا القول الممكن صدقه أشبه الكبير فعلى هذا لا بد أن يكون كبيرا يجامع مثله وأدناه أن يكون الغلام ابن عشر سنين والجاريه تسع.
مسألة: "وإذا لم تكمل الشهادة عليه بالزنا فعلى القاذف والشهود الحد" لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}؛ ولأنه إجماع.
ـــــــ
1 - سورة النور: الآية 4.

والمحصن هو الحر البالغ المسلم العاقل العفيف ويحد من قذف الملاعنة أو ولدها, ومن قذف جماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم فإن عفا بعضهم لم يسقط حق غيره.
ـــــــ
الصحابة فإن عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حين لم يكمل. الرابع: بمحضر من الصحابة فلم ينكروه ولأنه رام بالزنا لم يأت بأربعة شهود فيجب عليه الحد كما لو لم يأت بأحد.
مسألة: وإنما يجب الحد على القاذف إذا طالب المقذوف لأنه حق له فلا يستوفى قبل طلبه كسائر حقوقه.
مسألة: "والمحصن هو الحر المسلم البالغ العفيف" عن الزنا وقد سبق.
مسألة: "ويحد من قذف الملاعنة أو ولدها" نص أحمد رحمه الله على من قذف الملاعنة وهو قول ابن عمر وابن عباس والجمهور لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: قضى في الملاعنة أن لا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد. رواه أبو داود؛ ولأن حصانتها لم تسقط باللعان ولا يثبت الزنا به ولذلك لا يلزمها به حد, وكذا من قذف ابنها فقال: هو من الذي رميت بت. فأما إن قال: ليس هو ابن فلان وأراد أنه منفي عنه شرعا فلا حد عليه لأنه صادق.
مسألة: "ومن قذف جماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم", وقال ابن المنذر: لكل واحد حد, وعن أحمد مثله لأنه قذف كل واحد منهم فلزمه له حد كامل كما لو قذفهم بكلمات, ولنا قول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}, ولم يفرق بين قذفهم واحدة أو جماعة ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوه بامرأة فلم يحدهم عمر إلا حدا واحدا؛ ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدا؛ ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف وتزول المعرة فوجب أن يكتفى به بخلاف ما إذا قذف كل واحد بكلمة فإن ظهور كذبه في قذف واحد لا يزيل المعرة عن الآخر ولا يتحقق كذبه فيه.
مسألة: وإذا طالبوا أو واحد منهم وقد سبقت في قذف الواحد وإن طلب واحد منهم فله إقامة الحد على قاذفه؛ لأنه مقذوف لم يشهد عليه أربعة فوجب الحد على قاذفه كما لو أقر بالقذف وطلب حقه.
مسألة: "فإن عفا بعضهم لم يسقط حق غيره" كما لو قتله جماعة عمدا وعفي عن بعضهم لا يسقط حق الباقين فكذلك ها هنا.

باب حد المسكر
ومن شرب مسكرا قل أو كثر مختارا عالما أن كثيره يسكر جلد الحد أربعين جلدة لأن عليا رضي الله عنه جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين وقال: جلد النبي
ـــــــ
باب حد المسكر"ومن شرب مسكرا قل أو كثر مختارا عالما أن كثيره يسكر جلد الحد أربعين جلدة". في هذه المسألة فصول: الأول أن كل مسكر حرام وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه روي ذلك عن جماعة من الصحابة لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام", وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". رواهما أبو داود والأثرم وغيرهما, وقال عمر: نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل؛ ولأنه مسكر فأشبه عصير العنب. وقال الإمام أحمد: ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح. قال ابن المنذر: جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة وأما حديث ابن عباس: حرمت الخمرة لعينها والمسكر من كل شراب, فهو عمدتهم وهو موقوف عليه مع أنه يحتمل أنه أراد المسكر من كل شراب فإنه يروي هو وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر حرام".
الفصل الثاني: أن الحد يجب على من شرب القليل من المسكر والكثير ولا نعلم بينهم خلافا في ذلك وفي عصير العنب غير المطبوخ, واختلفوا في سائرها: فذهب إمامنا إلى التسوية بين عصير العنب وكل مسكر وقال قوم لا يجلد إلا أن يسكر ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه". رواه أبو داود1 وغيره وقد ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليلها وكثيرها؛ ولأنه شراب فيه شدة مطربة فوجب الحد بقليله كالخمر.
الفصل الثالث: أن يشربها مختارا لشربها فإن شربها مكرها فلا حد عليه لقوله عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
الفصل الرابع: أن الحد إنما يلزم من شربها عالما أن كثيرها يسكر فأما غيره فلا حد عليه؛ لأنه غير عالم ولا قاصد لارتكاب المعصية فأشبه من وطئ امرأة يظنها زوجته, وثبت أن عمر قال: لا حد إلا على من علمه وبه قال عامة أهل العلم.
الفصل الخامس: أن حد شارب الخمر أربعون وهو اختيار أبي بكر, وعنه أن حده ثمانون لإجماع الصحابة فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن: أجعله كأخف الحدود فضرب عمر ثمانين وروي أن عليا قال في المشورة: إنه إذا سكر هذى
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحدود: حديث رقم 4482.

أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي وسواء كان عصير العنب أو غيره ومن أتى من المحرمات ما لا حد فيه لم يزد على عشر جلدات لما روى أبو بردة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحد أكثر من عشر
ـــــــ
وإذا هذا افترى فحده حد المفتري روى ذلك الجوزاني والدارقطني وغيرهما, "ودليل الرواية الأولى أن عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي", رواه مسلم وعن أنس قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين, ثم أتي به أبو بكر فصنع به مثل ذلك ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحد فقال ابن عوف: أقل الحدود ثمانون فضرب به عمر. متفق عليه1. وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أولى من فعل غيره ولا ينعقد الإجماع على شيء قد خالفه فيه أبو بكر وعلي فتحمل زيادة عمر على أنها تعزير ويجوز فعلها إذا رآه الإمام.
مسألة: "وسواء كان" من "عصير العنب أو غيره" روي ذلك عن تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كل مسكر حرام وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه. قال عمر رضي الله عنه: نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير, والخمر ما خامر العقل ولأنه مسكر فأشبه عصير العنب.
مسألة: "ومن أتى من المحرمات ما لا حد فيه لم يزد على عشر جلدات" وذلك أن الجنايات التي لا حد فيها كوطء الشريك جاريته المشتركة أو أمته المزوجة أو امرأته في دبرها أو حيضها أو وطء أجنبية دون الفرج أو سرق دون النصاب أو من غير حرز أو شتم إنسانا بما ليس بقذف ونحوه, فإن ذلك يوجب التعزير, واختلف عن أحمد في مقداره: فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات نص عليه في مواضع؛ "لما روى أبو بردة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله". متفق عليه2. وروى عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنس تلك الجناية وتحمله كلام الخرقي لأنه قال: لا يبلغ بالتعزير الحد فعلى هذا ما كان شبه الوطء كوطء الجارية المشتركة وجارية ابنه أو أشباه هذا يجلد مائة إلا سوطا لينقص عن حد الزنا, وما كان شبه غير الوطء [لم يبلغ به] أدنى الحدود ووجه هذا حديث النعمان بن بشير الأنصاري في الذي وطئ جارية امرأته بإذنها أنه يجلد مائة وهذا تعزير لأنه في حق المحصن وحده الرجم وعن سعيد بن المسيب [عن عمر] في أمة بين رجلين وطئها
ـــــــ
1- رواه البخاري في: الحدود: حديث رقم "6779", و مسلم في: الحدود: حديث رقم"36".
2- رواه البخاري في: الحدود: حديث رقم "6848", و مسلم في: الحدود: حديث رقم"40".

جلدات إلا في حد من حدود الله" إلا أن يطأ جارية امرأته بإذنها فإنه يجلد مائة.
ـــــــ
أحدهما: يجلد الحد إلا سوطا واحدا رواه الأثرم واحتج به أحمد. قال القاضي: هذا عندي من نص أحمد لا يقتضي اختلافا في التعزير بل المذهب أنه لا يزاد على عشر جلدات اتباعا للأثر إلا في وطء جارية امرأته لحديث النعمان, وفي الجارية المشتركة لحديث عمر وما عدا هذا يبقى على العموم لحديث أبي بردة الصحيح قال شيخنا: وهذا قول حسن.
مسألة: "إلا أن يطأ جارية امرأته بإذنها فإنه يجلد مائة" لحديث النعمان وقد سبق.

باب حد السرقة
ومن سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما يساوي أحدهما من سائر المال فأخرجه من الحرز قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت فإن
ـــــــ
باب حد السرقة"ومن سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما يساوي أحدهما من سائر المال وأخرجه من الحرز قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت" ولا يجب القطع إلا بشروط أربعة: أحدها السرقة ومعناها أخذ المال على وجه الخفية والاستتار ومنه استراق السمع فإن اختطف أو اختلس لم يكن سارقا ولا قطع عليه, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس على الخائن ولا على المختلس قطع" 1, وفي حديث عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المنتهب قطع". رواهما أبو داود وقال:لم يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير2. الشرط الثاني: أن يكون المسروق نصابا وقيل يقطع في القليل والكثير لظاهر الآية ولما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده". متفق عليه3. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع إلا في ربع دينار فصاعدا" متفق عليه4. ويحتمل أن الحبل يساوي ذلك وكذلك بيضة السلاح وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم, متفق عليه5. قال ابن عبد البر: هذا أصح حديث يروى في هذا الباب لا يختلف أهل العلم
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في في الحدود: حديث رقم 4392, 4393. والترمذي في الحدود: حديث رقم 1448. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
2 - رواه أبو داود في الحدود: حديث رقم 4391.
3 - رواه البخاري في الحدود: حديث رقم 6799. ومسلم في الحدود: حديث رقم 7.
4 - رواه البخاري في الحدود: حديث رقم 6789, 6790, 6791. ومسلم في الحدود: حديث رقم 1, 2, 3.
5 - رواه البخاري في الحدود: حديث رقم 6797, 6798. ومسلم في الحدود: حديث رقم 6.

عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت
ـــــــ
في ذلك وفي هذا الحديث دليل على أن العروض تقوم بالدراهم؛ لأن ثمن المجن قوم بها ولأن ما كان الذهب فيه أصلا كان الورق فيه أصلا كنصب الزكاة والديات وقيم المتلفات. الشرط الثالث: كون المسروق مالا فإن سرق ما ليس بمال كالحر فلا قطع فيه صغيرا كان أو كبيرا وقيل يقطع بسرقة الصغير لعموم الآية؛ ولأنه غير مميز أشبه العمد وذكره أبو الخطاب رواية عن الإمام أحمد, ولنا أنه ليس بمال فلا يقطع بسرقته كالكبير النائم. الشرط الرابع: أن يخرجه من الحرز, كل أهل العلم على اشتراطه ولا نعلم عن أحد خلافهم إلا الحسن والنخعي وروي عن عائشة فيمن جمع المتاع في البيت: عليه القطع, وعن الحسن مثل قول سائر أهل العلم. قال ابن المنذر: وليس فيه خبر ثابت فهو كالإجماع منهم, وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز لأن الآية لا تفصيل فيها ولنا إجماع أهل العلم السابق على قوله وما روي عن عمرو بن شعيب أن رجلا من مزينة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمار؟ فقال: "من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب ونكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه1 وغيرهم, وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب وإذا ثبت هذا في الحرز وما عد حرزا في العرف فإنه لما لم يثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنه رد ذلك إلى العرف لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته, إذا ثبت هذا فإن حرز الذهب والفضة والجواهر في الصناديق تحت الأغلاق والأقفال الوثيقة, وحرز الثياب وما خف من المتاع كالصفر والنحاس والرصاص في الدكاكين والبيوت المقفلة في العمران فإن كان لابسا ثوب أو متوسدا له نائما عليه أو مستيقظا في أي موضع فهو محرز بدليل حديث رداء صفوان إذ سرق رداؤه وهو متوسده في المسجد فقطع النبي صلى الله عليه وسلم سارقه2. فإن تدحرج عن الثوب زال الحرز, وحرز البقل وقدور الباقلاء بالشرائح من الخشب والقصب إذا كان في السوق حارس, وحرز الخشب والحطب بالحظائر وتعبية بعضه على بعضه ويقيد فوقه بحيث يعسر أخذ شيء منه على ما جرت به العادة وما في الفنادق مغلق عليه فهو محرز وإن لم يقيد.
مسألة: "فإذا وجدت هذه الشروط وجب قطع يده اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع وحسمت" ولا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى, روي ذلك عن أبي بكر وعمر ولا مخالف لهما في الصحابة ولأن البطش بها أقوى فكان البداية.
ـــــــ
1 - رواه أحمد في المسند 2/207. وأبو داود في الحدود: حديث رقم 4390. وابن ماجه في الحدود: حديث رقم 2586.
2 - رواه أبو داود في الحدود: حديث رقم 4394.

فإن عاد حبس ولا يقطع غير يد ورجل, ولا تثبت السرقة إلا بشهادة عدلين أو اعتراف مرتين
ـــــــ
بها أردع ويستحب أن تحسم اليد والرجل بعد القطع ومعناه أنه يغلى لها الزيت فإذا قطعت غمست فيه لتنسد أفواه العروق لئلا ينزف الدم, وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق سرق شملة فقال: "اقطعوه واحسموه", وهو حديث في إسناده مقال قاله ابن المنذر.
مسألة: "فإن عاد ثانيا قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت", وبذلك قالت الجماعة إلا عطاء وحكي عنه أنه تقطع يده اليسرى لقوله سبحانه: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}, وحكي ذلك عن ربيعة وداود ومذهب جماعة فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين على ما قلناه, وقد روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله", ولأنه في المحاربة تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى كذا ها هنا, وإنما قطعت رجله اليسرى لأنه أرفق به ولأنه يمكن المشي على خشبة ولو قطعت رجله اليمنى ويده اليمنى لم يمكن ذلك.
مسألة: "فإن عاد حبس ولا يقطع غير يد ورجل" وهو اختيار أبي بكر وروي عن علي والحسن والشعبي وعن أحمد أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة, وفي الرابعة رجله اليمنى, وفي الخامسة يعزر ويحبس وهو قول الشافعي؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله". ولأن اليسار تقطع قودا فتقطع في السرقة كاليمنى؛ ولأن في قطع اليدين تعطل منفعة الجنس فلم يشرع في حد كالقتل, ألا ترى أنا عدلنا في الثانية إلى قطع الرجل لهذا المعنى ولأن قطع اليدين بمنزلة الإهلاك فإنه لا يمكنه أن يتوضأ ولا أن يستنجي ولا أن يحترز من النجاسة ولا يزيلها عنه ولا يأكل ولا يبطش, ولذلك أوجب الله سبحانه في يديه دية جميعه, وقال علي رضي الله عنه: إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها ولا رجلا يمشي عليها.
مسألة: "ولا تثبت السرقة إلا بشهادة عدلين أو اعتراف مرتين" وذلك أن القطع إنما يثبت بأحد أمرين: بينة أواعتراف فأما البينة فيشترط فيها أن يكون رجلين مسلمين حرين عدلين [سواء كان السارق مسلما أو ذميا و قد ذكرنا ذلك في الشهادة في الزنا و يشترط أن] يصفا السرقة والحرز والجنس والنصاب وقدره ليزول الاختلاف فيه, فيقولان: نشهد أن هذا سرق كذا قيمته كذا من حرز ويصفانه فيقولان: من حرز فلان ابن فلان بحيث يتميز عن غيره فإذا اجتمعت الشروط وجب. الحد الثاني: الاعتراف مرتين لما روى أبو داود بإسناده عن أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف فقال له: "وما إخالك سرقت,

ولا يقطع حتى يطالب المسروق منه بماله وإن وهبها للسارق أو باعه إياها قبل ذلك سقط القطع, وإن كان بعده لم يسقط, وإن نقصت عن النصاب بعد الإخراج لم يسقط القطع, وإن كان قبله لم يجب, وإذا قطع فعليه رد المسروق إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا.
ـــــــ
قال: بلى, فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع1, ولو وجب القطع بأول مرة ما أخره, ويشترط أن يذكر في اعترافه شروط السرقة من النصاب والحرز وإخراجه منه.
مسألة: "ولا يقطع حتى يطالب المسروق منه بماله" لأن المال يباح بالبذل والإباحة فيحتمل أن يكون ماله أباحه إياه أو وقفه على المسلمين أو على طائفة السارق منهم أو أذن له في دخول حرزه فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة.
مسألة: "وإن وهبها للسارق أو باعه إياها قبل ذلك سقط القطع وإن كان بعده لم يسقط", وذلك أنه إذا باعه العين أو وهبها له قبل رفعه إلى الحاكم سقط القطع عنه؛ لأن المطالبة شرط لما سبق ولم يبق مطالب وإن كان البيع أو الهبة بعد أن رفعه إلى الحاكم لم يسقط القطع؛ لما روى الزهري عن صفوان عن أبيه أنه نام في المسجد فتوسد رداءه فأخذ من تحت رأسه فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع, فقال صفوان: يا رسول الله لم أرد هذا ردائي عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا قبل أن تأتي به", رواه ابن ماجه والجوزجاني وفي لفظ قال: فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهما؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها قال: "فهلا كان قبل أن تأتيني به", رواه الأثرم وأبو داود فهذا يدل على أنه لو وجد قبل رفعه إليه لدرأ القطع وبعده لا يسقط.
مسألة: "وإن نقصت عن النصاب بعد الإخراج لم يسقط القطع وإن كان قبله لم يجب" لقول الله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}؛ ولأنه نقصان حدث في العين فلم يمنع القطع كما لو نقص باستعماله, وسواء نقصت قيمتها قبل الحكم أو بعده؛ لأن سبب الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ. فأما إن نقص قبل الإخراج لم يجب القطع لعدم الشرط قبل تمام السبب وسواء نقصت بفعله أو بغير فعله, وإن وجدت ناقصة ولم يدر هل كانت ناقصة حين السرقة أو حدث النقص بعدها لم يجب القطع للشك في شرط الوجوب ولأن الأصل عدمه.
مسألة: "وإذا قطع فعليه رد المسروق إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا" لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين على مالكها إن كانت باقية, فأما إن كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قطع أو لم يقطع موسرا كان أو معسرا لأنها عين يجب ضمانها بالرد إن كانت باقية ويجب غرمها إن كانت تالفة كما لو لم يقطع ولأن القطع والغرم حقان يجبان لمستحقين فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك, والحديث في ذلك يرويه سعد ابن إبراهيم, وقال ابن المنذر: مجهول, ويحتمل أنه أراد بقوله إذا أقيم الحد على السارق فلا غرم عليه يعني ليس عليه غرامة أجرة القاطع.
ـــــــ
1- رواه أبو داودفي: الحدود: حديث رقم: "4380".

باب حد المحاربين
وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء جهرة ليأخذوا أموالهم فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وصلب حتى يشتهر ودفع إلى أهله, ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب, ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام
ـــــــ
باب حد المحاربين"وهم الذين يعرضون للناس في الصحراء جهرة ليأخذوا أموالهم فمن قتل منهم وأخذ المال قتل" وإن عفا صاحب المال "وصلب حتى يشتهر ودفع إلى أهله, ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب, وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا", وخلي سبيله. روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما, وقيل يخير الإمام فيهم بين القتل والقطع والنفي لقوله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} 1, و "أو" للتخيير وقيل: إن قتل قتل وإن أخذ المال قطع وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخير بين قتله وصلبه وبين قطعه وقتله وبين أن يجمع له ذلك كله؛ لأنه وجد منه ما يوجب القتل والقطع فأشبه ما لو زنا وسرق, وعنه إذا قتل وأخذ المال قطع ثم قتل ثم صلب. قال مالك: إذا قطع الطريق فإن رآه الإمام جلدا إذا رأي قتله, وإن كان جلدا لا رأي له قطعه, ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق" 2, وأما "أو" فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما مثل قولنا, فإما أن يكون توقيفا أو لغة وأيهما كان فهو حجة يدل على أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ, وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداية بالأخف ككفارة اليمين وما أريد به الترتيب بدئ فيه بالأغلظ فالأغلظ ككفارة القتل, يدل عليه أن العقوبات تختلف باختلاف الإجرام ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف والسارق, وقد سوي بينهم مع اختلاف جناياتهم وبهذا نرد على مالك فإنه إنما
ـــــــ
1 - سورة المائدة: الآية 33.
2 - سبق تخريجه.

واحد وحسمتا ولا يقطع إلا من أخذ ما يقطع السارق به, ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا نفي من الأرض, ومن تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله تعالى, وأخذ بحقوق الآدميين إلا أن يعفى له عنها.
فصل
ومن عرض له من يريد نفسه أو ماله أو حريمه أو حمل عليه سلاحا أو دخل
ـــــــ
اعتبر الجلد والرأي وهو على خلاف الأصول التي ذكرناها, وقول أبي حنيفة لا يصح لأن القطع لو وجب بحق الله سبحانه لم يخير الإمام فيه كقطع السارق, وكما لو انفرد بأخذ المال؛ ولأن الحدود لله سبحانه إذا كان فيها قتل سقط ما دونه كما لو سرق وزنى وهو محصن, وذكر العاقولي في معلقه أن أبا داود روى عن ابن عباس قال: وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة الأسلمي فجاء ناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه, فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم: أن من قتل وأخذ المال قتل ثم صلب, ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف, وهو نص.
مسألة: "ولا يقطع إلا من أخذ ما يقطع به السارق" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع إلا في ربع دينار" ولم يفصل.
مسألة: "ومن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا نفي من الأرض" لقوله سبحانه: {أََوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} قال ابن عباس: النفي في هذه الحالة يعني في حق من لم يقتل ولم يأخذ مالا ولكنه أخاف السبيل ونفيه تشريده عن الأمصار والبلدان فلا يترك يأوي إلى بلد لظاهر الآية فإن النفي الطرد والإبعاد وأما الحبس فهو إمساك وهما متنافيان.
مسألة: "ومن تاب قبل القدرة عليه سقطت عنه حدود الله وأخذ بحقوق الآدميين إلا أن يعفى له عنها" لا نعلم في هذا خلافا, ودليله قول الله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}, يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدية؛ لما لا قصاص فيه ولأنه إذا قبل القدرة عليه فالظاهر أنها توبة إخلاص, وأما التوبة بعد القدرة عليه فالظاهر أنها تقيه من إقامة الحد عليه فلا تفيده, وأما حقوق الآدميين التي ذكرناها فيؤخذ بها ولا تسقط بالتوبة كما لو أخذ شيئا أو أتلف شيئا وهو غير محارب ثم تاب فإنه يلزم به إلا أن يعفو صاحبه.
مسألة: "ومن عرض له من يريد نفسه أو ماله أو حريمه أو حمل عليه سلاحا أو دخل

منزله بغير إذنه فله دفعه بأسهل ما يكون أنه يندفع به فإن لم يندفع إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه وإن قتل الدافع فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه, ومن صالت عليه بهيمة فله دفعها بمثل ذلك ولا ضمان في ذلك, ومن اطلع في دار إنسان أو بيته من خصاص الباب أو نحوه فحذفه بعصاة ففقأ عينه فلا ضمان عليه
ـــــــ
منزله بغير إذنه فله دفعه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به فإن لم يندفع إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه, وإن قتل الدافع فهو شهيد" وذلك أن من عرض لإنسان يريد نفسه أو ماله أو حريمه فإنه يجوز له دفعه عن نفسه وماله وحريمه بأسهل ما يندفع بت, كما يجوز ذلك في أهل البغي فإن كان يندفع بالقول لم يجز ضربه لأن المقصود دفعه وليس المقصود ضربه, وإن كان يندفع بالضرب لم يجز قتله لأن المقصود دفعه لا قتله فإن لم يمكن دفعه إلا بالقتل أو خاف أن يبادره بالقتل إن لم يقتله فله ضربه بما يقتله به أو يقطع طرفه فإن قتله أو أتلف منه عضوا كان هدرا؛ لأنه قتله لدفع شره فلم يضمن كالباغي؛ ولأنه اضطره إلى قتله فصار كأنه القاتل لنفسه, وإن قتل الدافع فهو شهيد لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد". رواه الخلال بإسناده؛ ولأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيدا كالعادل بقتله الباغي سواء كان القاصد ذكرا أو أنثى كبيرا أو صغيرا, وهكذا الحكم فيمن حمل عليه السلاح أو دخل منزله بغير إذنه بالسلاح فأمره بالخروج فلم يفعل فله أن يخرجه بأسهل ما يمكن على ما سبق فيمن عرض له من يريد نفسه أو ماله.
مسألة: "ومن صالت عليه بهيمة فله دفعها بمثل ذلك ولا ضمان" عليه وذلك أنه من صالت عليه بهيمة فلم يقدر على دفعها إلا بقتلها جاز له قتلها إجماعا وليس عليه ضمانها إذا كانت لغيره, وقال أبو حنيفة: عليه ضمانها لأنه أتلف مال غيره لإحياء نفسه فكان عليه ضمانه كالمضطر إلى طعام غيره, ولنا أنه قتلها بالدفع الجائز فلم يضمنها كالعبد؛ ولأنه حيوان جاز إتلافه لجنايته فلم يضمنه كالآدمي ويفارق المضطر فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه ولهذا لو قتل المحرم الصيد للمجاعة ضمنه ولو قتله لصياله لم يضمنه.
مسألة: "ومن اطلع في دار إنسان أو بيته من خصاص الباب أو نحوه فحذفه بحصاة ففقأ عينه فلا ضمان عليه", وقال أبو حنيفة: يضمنه لأنه لو دخل منزله ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه, فمجرد النظر أولى, ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح", وعن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في حجر من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحك رأسه بمدراة في يده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو علمت أنك تنظر في لطمست

وإن عض إنسان يده فانتزعها منه فسقطت ثناياه فلا ضمان.
ـــــــ
أو لطعنت- بها في عينك" متفق عليهما1, وهذا أولى مما ذكروه.
مسألة: "فإن عض إنسان يده فانتزعها فسقطت ثناياه فلا ضمان"؛ فيها لما روي عن عمران بن حصين أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثناياه فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل لا دية لك". متفق عليه2.
ـــــــ
1 - الأول: رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6888. ومسلم في الأدب: حديث رقم 44. والثاني: رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6901. ومسلم في الأدب: حديث رقم 41.
2 - رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6892. ومسلم في القسامة: حديث رقم 21, 22.

باب قتال أهل البغي
وهم الخارجون على الإمام يريدون إزالته عن منصبه فعلى المسلمين معونة إمامهم في دفعهم بأسهل ما يندفعون به
ـــــــ
باب قتال أهل البغي"وهم الخارجون على الإمام يريدون إزالته عن منصبه" وهم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جميع الجيش فهؤلاء هم البغاة "فعلى المسلمين معونة إمامهم في دفعهم" عنه, واجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم على قتال البغاة وقاتل أبو بكر مانعي الزكاة وعلي قاتل أهل البصرة يوم الجمل وأهل الشام يوم صفين وأهل النهروان, وروى لفظه ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعطى إماما صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر", رواه مسلم1. وفي حديث أبي سعيد: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما", وفي حديث عرفجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون هنات 2 وهنات -فرفع صوته- ألا من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان" 3, فمن اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته؛ لما ذكرنا من الحديث وإجماع الصحابه, وكذلك من ثبتت إمامته بعهد الذي قبله فإن أبا بكر عهد إلى عمر فأقرت به الصحابة وأجمعوا على قبوله فصار إجماعا, ولو خرج رجل بسيفه على الناس حتى أقروا له بالطاعة وبايعوه صار إماما يحرم قتاله والخروج عليه؛ لما في ذلك من شق عصا المسلمين وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم ويدخل الخارج عليه في عموم قوله: "من خرج على أمتي وهم
ـــــــ
1 - رواه مسلم في الإمارة: حديث رقم 46.
2 - قوله: هنات: جمع هنة, وتطلق على كل شيء, والمراد بها هنا الفتن والأمور الحادثة.
3 - رواه مسلم في الإمارة: حديث رقم 59.

فإن آل إلى قتالهم أو تلف مالهم فلا شيء على الدافع وإن قتل الدافع كان شهيدا, ولا يتبع لهم مدبر ولا يجهز على جريح، ولا يغنم لهم مال ولا تسبى لهم ذرية
ـــــــ
جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان" 1, وينبغي أن لا يقاتل البغاة حتى يراسلوا فيبعث إليهم من يكشف لهم الصواب فإن لجوا قاتلهم؛ لأن الله سبحانه بدأ بالإصلاح فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} 2, وقد روي أن عليا رضي الله عنه راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل وأمر أصحابه أن لا يبدأوهم بالقتال ثم قال: إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم سمعهم يقولون: الله أكبر يا ثارات عثمان, فقال: اللهم أكب قتلة عثمان على وجوههم, وروى عبد الله بن شداد أن عليا بعث إلى الحرورية عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله عز وجل ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف, فإن أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال فإن أبوا وأمكن دفعهم بدون قتال بما هو أسهل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم لا قتلهم.
مسألة: "فإن آل" ما دفعوا به إلى "قتلهم أو تلف مالهم فلا شيء على الدافع" من إثم ولا ضمان لأنه فعل ما أمر به وقتل من أحل الله قتله, وكذلك ما أتلفه أهل العدل على أهل البغي حال الحرب من مال لا يضمن لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالأموال أولى.
مسألة: "وإن قتل الدافع كان شهيدا" لأنه قتيل في حرب أمر بها وأثيب عليها فكان شهيدا كقتيل الكفار.
مسألة: "ولا يتبع لهم مدبر ولا يجهز على جريح" لما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل: لا يذفف [على جريح و لا يهتك ستر و لا بفتح باب, و من أغلق بابا- أو بابه- فهو آمن, و لا] يتبع مدبر", وعنه أنه ودى قوما من بيت المال قتلوا مدبرين, وعن أبي أمامة قال: شهدت صفين فكانوا لا يجهزون على جريح ولا يطلبون موليا ولا يسلبون قتيلا وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا ابن أم عبد ما حكم من بغى على أمتي"؟ فقلت: الله ورسوله أعلم, فقال: "لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم", ولأن المقصود كفهم ودفعهم -وقد حصل- فلم يجز قتلهم كالصائل.
مسألة: "ولا يغنم لهم مال ولا تسبى لهم ذرية" ولا نعلم بين أهل العلم في تحريم ذلك خلافا, ولما سبق من حديث أبي أمامة وحديث ابن مسعود؛ ولأن قتالهم إنما هو لدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم فلا يستباح منهم إلا ما حصل ضرورة الدفع كالصائل.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سورة الحجرات: الآية 9.

ومن قتل منهم غسل وكفن وصلى عليه ولا ضمان على أحد الفريقين فيما أتلف حال الحرب من نفس أو مال, وما أخذ البغاة حال امتناعهم من زكاة أو جزية أو خراج لم يعد عليهم ولا على الدافع إليهم ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره.
ـــــــ
وبقي حكم المال والذرية على أصل العصمة.
مسألة: "ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه" لقوله عليه السلام: "صلوا على من قال لا إله إلا الله"؛ ولأنهم مسلمون لم يثبت لهم حكم الشهادة فيصلى عليهم ويغسلون كما لو لم يكن لهم فئة فإن المخالف يسلم في هذه الصورة.
مسألة: "ولا ضمان على أحد الفريقين فيما أتلف حال الحرب من نفس أو مال", أما البغاة فلأنهم قتلوا وأتلفوا بتأويل فلا يلزمهم الضمان, وأما أهل العدل فلا يلزمهم ذلك أيضا؛ لأنهم فعلوا ما يجوز لهم فعله فلم يلزمهم شيء للباغين لأنهم متعدون بقتالهم.
مسألة: "وما أخذه" أهل البغي- "حال امتناعهم- من زكاة أو جزية أو خراج لم يعد عليهم" يروى ذلك عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع؛ ولأن عليا رضي الله عنه لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه ولأن في ذلك مشقة شديدة فإنهم قد يغلبون على البلاد السنين الكثيرة فإذا ظهر الإمام على البلد فذكر أرباب الأموال أن البغاة أخذوا زكاة أموالهم قبل قولهم ولو يستحلفوا نص عليه, لما في إعادته من المشقة وإنما لم يستحلفوا لأن حق الله لا يستحلف عليه.
مسألة: "ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره" يعني إذا نصبوا قاضيا يصلح للقضاء لاجتماع شروط القضاء فيه فحكمه حكم قاضي أهل العدل ينفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام قاضي أهل العدل ويرد منه ما يرد, وعند أبي حنيفة لا يجوز قضاؤه لأنهم مفسقون ببغيهم والفسق ينافي القضاء, وعند أصحابنا لا يفسقون بخروجهم لأن ذلك مما يسوغ الاجتهاد فيه فلا يفسق مجتهدهم كسائر الفروع, فإذا ثبت هذا فإنه إذا حكم بما لا يخالف نصا ولا إجماعا نفذ حكمه, وإن خالف ذلك نقض حكمه وإن حكم بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوه قبل قيام الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته الإجماع.

باب حكم المرتد
ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وجب قتله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
باب حكم المرتد"ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وجب قتله لقول" النبي "صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه

"من بدل دينه فاقتلوه", ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل بالسيف, ومن جحد الله أو جعل له شريكا أو صاحبة أو ولدا أو كذب الله تعالى أو سبه أو كذب رسوله أو سبه أو جحد نبيا أو جحد كتاب الله أو شيئا منه أو جحد أحد أركان
ـــــــ
فاقتلوه". وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين, روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد رضي الله عنهم ولم ينكر فكان إجماعا.
مسألة: "ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل بالسيف"؛ لما روى مالك في موطئه عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد القاري عن أبيه أنه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له عمر: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم رجل كفر بعد إسلامه, فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. قال عمر: فهلا حبستموه ثلاثا فأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله, اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني, ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم, إذا ثبت وجوب الاستتابة فإن مدتها ثلاثة أيام لحديث عمر؛ [و حكم المرأة في قتلها بالردة حكم الرجل] ولأن الارتداد قد يكون لشبهة ولا يزول في الحال فوجب أن ينظر في مدة يرتئي فيها, وأولى ذلك ثلاثة أيام لأنها مدة قريبة وينبغي أن يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس لحديث عمر وتكرر دعايته لعله ينعطف قلبه ويراجع دينه, وإذا ثبت هذا فلا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتال بالارتداد, روي ذلك عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما لقوله عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" 1, وروى الدارقطني بإسناده أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت؛ ولأنها شخص بدل دين الحق بالباطل فتقتل كالرجل, وإذا ثبت هذا فإن الردة لا تصح إلا من عاقل فأما من لا عقل له كالطفل الذي لا عقل له والمجنون فلا تصح ردتهما ولا حكم لكلامهما. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المجنون إذا ارتد في حال جنونه أنه مسلم على ما كان قبل ذلك, ولو قتله قاتل عمدا كان عليه القود إذا طلب أولياؤه, وقد قال عليه السلام: "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" 2, وأما القتل فإنه يكون بالسيف بالقياس على القتل في القصاص لأنه أروح للمقتول.
مسألة: "ومن جحد الله" سبحانه بعد إقراره به فقد ارتد لأنه لم يعبد إلها "وجعل له شريكا" فهو مشرك وليس بموحد "وكذلك من جعل له "ندا" ومن جعل لله "ولدا" فقد كذب على الله تعالى ومن "سبه" فقد استخف به "ومن "كذب رسوله أو سبه" فقد رد على
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الجهاد: حديث رقم 3017.
2 - سبق تخريجه.

الإسلام أو أحل محرما ظهر الإجماع على تحريمه فقد ارتد إلا أن يكون ممن تخفى عليه الواجبات والمحرمات فيعرف ذلك فإن لم يقبل كفر ويصح إسلام الصبي العاقل
ـــــــ
الله تعالى ولم يوجب طاعته, ومن "جحد نبيا" فقد كفر لقوله سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً}, وكذا من "جحد كتاب الله أو شيئا منه" فقد كفر لأنه كذب الله تعالى ورد عليه قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} 1, "ومن جحد أحد أركان الإسلام أو أحل محرما ظهر الإجماع على تحريمه فقد" كذب الله ورسوله لأن أدلة ذلك قد ظهرت في الكتاب والسنة فلا تخفى على المسلمين ولا يجحدها إلا مكذب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
مسألة: "إلا أن يكون ممن تخفى عليه الواجبات والمحرمات فيعرف ذلك فإن لم يقبل ذلك كفر" والذي يخفى عليه ذلك من يكون حديث عهد بالإسلام أو يكون قد نشأ ببلاد بعيدة عن المسلمين فهذا يعرف فإن رجع عن ذلك وإلا قتل وأما من كان ناشئا بين المسلمين مسلما فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل وذلك لأن إقرار هذه الأشياء ظاهر في الكتاب والسنة فالمخل بها مكذب لله ولرسوله فيكفر بذلك كما قلنا في جاحد أركان الإسلام
مسألة: "ويصح إسلام الصبي العاقل" وهو إذا بلغ عشر سنين وعقل الإسلام صح إسلامه لأن عليا رضي الله عنه أسلم صبيا فصح إسلامه وعد ذلك من مناقبه وسبقه ويقال أول من أسلم من الصبيان علي ومن الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن العبيد بلال رضي الله عنهم وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة", وقال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها", وقال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ينصرانه ويمجسانه حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا", وهذا يدخل في عموم الصبي ولأن الإسلام عبادة محضة فصحت من الصبي كالصلاة والحج, وإن كان دون عشر سنين نظرت فإن كان لا يعقل الإسلام لم يصح منه؛ لأنه لا يصدر عن عقل فيكون كلامه مثل كلام المجنون, وإن كان يعقل الإسلام فينبغي أن يصح إسلامه. وكلام الخرقي يقتضي التفريق بين ابن عشر وبين من له دون العشر وعموم ما ذكرنا من الآثار يقتضي عدم التفريق, وقد حكى ابن المنذر عن أحمد إذا كان ابن سبع فإسلامه إسلام قال الجوزجاني: حجة أحمد
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 285.

وإن ارتد لم يقتل حتى يستتاب ثلاثا بعد بلوغه, ومن ثبتت ردته فأسلم قبل منه ويكفي في إسلامه أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا أن يكون كفره بجحد نبي أو كتاب أو فريضة أو نحوه, أو يعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى العرب خاصة فلا يقبل منه حتى يقر بما جحده وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب فسبيا لم يجز استرقاقهما ولا استرقاق من ولد لهما قبل ردتهما ويجوز استرقاق سائر أولادهما,
ـــــــ
في السبع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مروهم بالصلاة لسبع", وعن عروة أن عليا والزبير أسلما وهما ابنا ثماني سنين وبايع النبي صلى الله عليه وسلم ابن الزبير لسبع أو ثماني سنين.
مسألة: "وإن ارتد الصبي لم يقتل حتى يستتاب ثلاثا بعد بلوغه" وذلك لأن ردة الصبي صحيحة كما إن إسلامه صحيح, وإنما لم يقتل قبل البلوغ لأن الغلام لا تجب عليه عقوبة بدليل أنه لا يتعلق به حكم الزنا والسرقة والقصاص, فإذا بلغ فثبوته على درته بمنزلة ابتدائها فعند ذلك يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل كالذي ارتد وهو بالغ.
مسألة: "ومن ثبتت ردته" ثم "أسلم قبل منه" كما يقبل من الكافر الأصلي "إلا أن يكون كفره بجحد نبي أو كتاب أو فريضة أو نحوه أو يعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة فلا يقبل منه حتى يقر بما جحده" فإن كان كفره بقوله إن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما بعث إلى العرب خاصة احتاج -مع الشهادتين- إلى أن يقر أنه مبعوث إلى الخلق أجمعين ويتبرأ مع الشهادتين من كل دين يخالف دين الإسلام؛ لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أنه أراد ما اعتقده, وإن ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده وكذلك إذا استباح محرما.
مسألة: "وإذا ارتد الزوجان بدار ولحقا بدار الحرب فسبيا لم يجز استرقاقهما ولا استرقاق من ولد لهما قبل ردتهما ويجوز استرقاق سائر أولادهما", وذلك لأن الرق لا يجري على المرتد بحال لقوله عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه"؛ ولأنه لا يجوز إقراره على كفره فلم يجز استرقاقه كالرجل فإنهم سلموه ولم يثبت أن الذين سباهم أبو بكر رضي الله عنه كانوا أسلموا ولا يثبت لهم حكم الردة. فأما أولاد المرتدين فإن كانوا ولدوا قبل الردة فإنهم محكوم بإسلامهم تبعا لآبائهم ولا يتبعونهم في الردة لأن الإسلام يعلو وقد تبعوهم فيه فلا يتبعونهم في الكفر ولا يجوز استرقاقهم صغارا لأنهم مسلمون ولا كبارا لأنهم إذا كبروا فرضوا الإسلام فهم مسلمون, وإن رضوا الكفر فهم مرتدون حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة وتحريم الاسترقاق فأما من حدث من أولادهم بعد الردة فهو محكوم بكفره؛ لأنه ولد بين أبوين كافرين ويجوز استرقاقهم في ظاهر كلام الخرقي ونص عليه أحمد لأنهم لم يثبت لهم حكم الإسلام فجاز استرقاقهم كولد الحربيين.

كتاب الجهاد
مدخل...
كتاب الجهادوهوفرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين ويتعين على من حضر الصف أو حصر العدو بلده ولا يجب إلا على ذكر حر بالغ عاقل مستطيع
ـــــــ
كتاب الجهاد
"وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين" ومعنى فرض الكفاية الذي إذا لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع وإنما يسقط بفعل البعض وهو في الابتداء كفرض الأعيان, ثم يختلفان في أن فرض الأعيان لا يسقط عن واحد بفعل غيره وفرض الكفاية بخلافه والجهاد فرض كفاية في قول عامتهم لقول الله سبحانه: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1, وهذا يدل على أن القاعدين غير مأثومين مع جهاد غيرهم.
مسألة: "ويتعين على من حضر الصف أو حصر العدو بلده" لقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}, وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} 2.
مسألة: "ولا يجب إلا على ذكر حر بالغ عاقل مستطيع" وذلك أنه يشترط لوجوب الجهاد شروط: أحدها أن يكون ذكرا فأما النساء فلا يجب عليهن لما روت عائشة قالت: قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال: "جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة"؛ ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها ولذلك لا يسهم لها. والثاني: الحرية فلا يجب على العبد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد؛ ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 95.
2 - سورة التوبة: الآية 123.

والجهاد أفضل التطوع لقول أبي هريرة رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله". قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله ثم حج مبرور", وعن أبي سعيد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ قال: "رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه", وغزو البحر أفضل من غزو البر
ـــــــ
الثالث: البلوغ فلا يجب على صبي لأن الصبي ضعيف البنية وقد روى ابن عمر قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة. متفق عليه. الرابع: العقل فلا يجب على مجنون لأنه لا يتأتى منه الجهاد فهو كالطفل في ذلك. الخامس: المستطيع وهو أن يكون صحيحا في بدنه قادرا على النفقة فأما الأعمى والأعرج والمريض فلا يجب عليهم جهاد؛ لأن العمى عذر لا يخفى وأما العرج فإن كان كثيرا منع وإن كان يسيرا لم يمنع والمرض كذلك, وذلك لقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} 1, يعني في ترك الجهاد. وأما النفقة فتشترط في الاستطاعة لقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 2, ولأن الجهاد لا يمكن إلا بآلة فتعتبر القدرة عليها, وقال الله سبحانه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} 3, وهذا فيما إذا كانت المسافة تحتاج إلى ركوب فلا بد من الراحلة.
مسألة: "والجهاد أفضل التطوع لقول أبي هريرة رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله". قال: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله ثم حج مبرور", وعن أبي سعيد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: "رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه".
مسألة: "وغزو البحر أفضل من غزو البر" لما روي عن أنس رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك فقالت أم حرام: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوك على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة". متفق عليه4, وروى أبو داود عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
ـــــــ
1 - سورة النور: الآية 61.
2 - سورة التوبة: الآية 91.
3 - سورة التوبة: الآية 92.
4 -رواه البخاري في الجهاد: حديث رقم 2788, 2789. ومسلم في الإمارة: حديث رقم 160, 162.

ويغزو مع كل بر وفاجر ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو, وتمام الرباط أربعون يوما وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه", وقال: "رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه ومن مات مرابطا
ـــــــ
"المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغرق له أجر شهيدين" 1, وروى ابن ماجه عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "شهيد البحر مثل شهيدي البر, والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر, وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله, وإن الله تعالى وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم, ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين" 2. ولأن الغازي في البحر أعظم خطرا ومشقة فإنه بين خطر العدو وخطر الغرق ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضل من غيره.
مسألة: "ويغزو مع كل بر وفاجر" يعني مع كل إمام لما روى أبو داود بإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا" 3؛ ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطع الجهاد وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وإظهار كلمة الكفر وفيه أعظم الفساد.
مسألة: "ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو" لقول الله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} ؛ ولأن الأقرب أكثر ضررا وفي مقاتلته دفع ضرره عن المقاتل وعمن وراءه, والاشتغال بالبعيد عنه يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه.
مسألة: "وتمام الرباط أربعون يوما", والرباط الإقامة بالثغر مقويا المسلمين على الكفار, والثغر: كل مكان يخيف أهله العدو ويخافونه, وروى أبو داود بإسناده عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" 4, وعن فضالة ابن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتان القبر". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح5, وعن سلمان قال:
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه ابن ماجه في الجهاد: حديث رقم 2778.
3 - رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2533.
4 - رواه أبو داود و البخاري في الجهاد: ب 73. ومسلم في الإمارة: حديث رقم 163.
5 رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2500. والترمذي في فضائل الجهاد: حديث رقم 1621. وقال: حديث حسن صحيح.

أجري له أجره إلى يوم القيامة ووقي الفتا, ولا يجاهد من أحد أبويه حي مسلم إلا بإذنه إلا أن يتعين عليه, ولا يدخل من النساء دار الحرب إلا امرأة طاعنة في السن.
ـــــــ
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فإن مات أجرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان", أخرجه مسلم1. وإذا ثبت هذا فإن تمام الرباط أربعون يوما كذلك. قال ابن عمر وأبو هريرة وروى أبو الشيخ بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمام الرباط أربعون يوما", وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي هريرة قال: رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين مسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن رابط أربعين يوما فقد استكمل الرباط, وروى نافع عن ابن عمر أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الرباط فقال له: كم رابطت؟ قال: ثلاثين يوما, قال: عزمت عليك إلا رجعت حتى تتمها أربعين يوما, ولو رابط أكثر من ذلك أو أقل فله ثواب ما عمل.
مسألة: "ولا يجاهد من أحد أبويه حي مسلم إلا بإذنه" لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أجاهد؟ فقال: "ألك أبوان"؟ قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد", وروى الترمذي عن ابن عباس مثله وقال: حديث حسن صحيح, وفي رواية جئت لأبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: "ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما", وعن أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك باليمن أحد؟", قال: نعم أبواي. قال: "أذنا لك"؟ قال: لا. قال: "ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما", رواه أبو داود؛ ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين مقدم على فرض الكفاية فإن كان أبواه غير مسلمين فلا إذن لهما؛ لأن كثيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون وآباؤهم مشركون لا يستأذنونهم, منهم أبو بكر وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان يوم بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبوه رئيس المشركين قتل ببدر, وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد فأنزل الله سبحانه: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. الآية.
مسألة: "إلا أن يتعين عليه" الجهاد فلا إذن لهما لأنه صار فرض عين وتركه معصية ولا طاعة لأحد في معصية الله, وكذلك كل ما وجب في الحج والصلاة في الجماعة والسفر للعلم الواجب؛ ولأنه عبادة تعينت عليه فلا يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة.
مسألة: "ولا يدخل من النساء أرض الحرب إلا امرأة طاعنة في السن لسقي الماء
ـــــــ
1 - رواه مسلم في الإمارة: حديث رقم 163.

لسقي الماء ومعالجة الجرحى, ولا يستعان بمشرك إلا عند الحاجة إليه, ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأمير إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه, أو تعرض فرصة يخافون
ـــــــ
ومعالجة الجرحى" ويكره دخول النساء الشواب أرض العدو لأنهن لسن من أهل القتال لاستيلاء الخور والجبن عليهن ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحل منهن ما حرم الله, فأما المرأة الطاعنة في السن إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء وعلاج الجرحى فلا بأس به فقد قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى1. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وقالت الربيع: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسقي الماء ومعالجة الجرحى, ويجوز للأمير أن يستصحب معه المرأة الواحدة عنده للحاجة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج معه بالمرأة الواحدة من نسائه ولا يرخص لسائر الرعية لئلا يفضي إلى ما ذكرنا من الضرر.
مسألة: "ولا يستعان بمشرك إلا عند الحاجة" إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا لا نستعين بمشرك"؛ ولأنه لا يؤمن أن يدخل على المسلمين ضررا فأشبه المرجف والمخذل, وقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن حبيب قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم. قال: "وأسلمتما"؟ قلنا: لا. قال: "إنا لا نستعين بالمشرك على المشركين". قال: فأسلمنا وشهدنا معه, وروت عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر فأدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جرأة ونجدة فسر المسلمون به, فقال: يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك. قال: "أتؤمن بالله ورسوله"؟ قال: لا. قال: "فأرجع فلن أستعين بمشرك على مشرك", رواه الجوزجاني وفيه قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتؤمن بالله ورسوله"؟ قال: نعم. قال: "فانطلق".
مسألة: "إلا عند الحاجة إليه" وعن أحمد ما يدل على ذلك فقد خرج صفوان بن أمية مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين وهو مشرك وأسهم له, وروى الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه وأسهم لهم, رواه سعيد في سننه, هذا إذا غزا مع الإمام بإذنه وهي إحدى الروايتين, وعنه لا يسهم له ولكن يرضخ له لأنه ليس من أهل الجهاد أشبه العبد.
مسألة: "ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأمير" لأنه أعرف بمصالح الحرب والطرقات
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في السير: حديث رقم 1557. وقال: حسن صحيح.

فوتها وإذا دخلوا دار الحرب لم يجز لأحد أن يخرج من العسكر لعلف أو احتطاب أو غيره إلا بإذن الأمير.
ومن أخذ من دار الحرب ما له قيمة لم يجز له أن يختص به إلا الطعام والعلف
ـــــــ
ومكامن العدو وكثرتهم وقلتهم فينبغي أنه يرجع إلى رأيه "إلا أن يفاجئهم عدو غالب يخافون كلبه أو تعرض فرصة يخافون فوتها" فمتى جاء العدو بلدا وجب على أهله النفير إليهم ولم يجز لأحد التخلف عنهم إلا من يحتاج إلى إقامته لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج لقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} 1, وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استنفرتم فانفروا" 2. وقد ذم الله سبحانه الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الأحزاب فقال: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً}, ولا يخرجون إلا بإذن الأمير إذا أمكن ذلك, وكذلك إن عرض لهم فرصة يخافون فوتها جاز لهم انتهازها ويستأذنونه إذا أمكن.
مسألة: "وإذا دخلوا أرض الحرب لم يجز لأحد أن يخرج من العسكر لعلف أو احتطاب أو غيبره إلا بإذن الأمير" لقول الله سبحانه: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} 3؛ ولأنه أعرف بحال الناس والمواضع ومكامن العدو وحاله وقربه وبعده فإذا استؤذن فالظاهر أنه لا يأذن لهم في الخروج إلا إذا علم خلو المكان من المخافة, وإن خرجوا من غير إذنه لم يأمنوا أن يكون في الموضع الذي يذهبون إليه عدو فيظفر بهم وربما ارتحل الأمير بالناس وبقي الخارج فيضيع.
مسألة: "ومن أخذ من دار الحرب ما له قيمة لم يجز أن يختص به" والمسلمون شركاؤه فيه؛ لأنه مال ذو قيمة مأخوذ من أرض الحرب بظهر المسلمين فكان غنيمة كغير المباح "إلا الطعام والعلف فله إن يأخذ منه ما يحتاج إليه"؛ لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: أصبنا طعاما يوم حنين فكان الرجل يجيء فيأخذ مقدار ما يكفيه ثم ينصرف, رواه أبو داود4. وروى سعيد أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر: إنا فتحنا أرضا كثيرة الطعام والعلف وكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك فكتب إليه: دع الناس يعلفون ويأكلون ومن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين؛ ولأن الحاجة تدعو إلى هذا وفي المنع منه ضرر بالجيش وبوابهم ويعسر عليهم نقل العلوفة والطعام من دار
ـــــــ
1 - سورة التوبة: الآية 41.
2 - رواه البخاري في الجهاد: حديث رقم 2783.
3 - سورة النور: الآية 62.
4 - رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2704.

فله أن يأخذ منه ما يحتاج إليه فإن باعه رد ثمنه في المغنم وإن فضل معه منه بعد رجوعه إلى بلده لزمه رده إلا أن يكون يسيرا فله أكله وهديته.
ويجوز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق وقتالهم قبل دعائهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غازون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم، ولا يقتل منهم صبي ولا مجنون ولا امرأة ولا راهب ولا شيخ فان ولا
ـــــــ
الإسلام ولا يمكن قسمة ما يأخذه الواحد منهم ولو قسم لم يحصل الواحد منهم على شيء ينتفع به فأبيح لهم ذلك فمن أخذ ما يقتات به أو يعلف دوابه فهو أحق بت.
مسألة: "فإن باعه رد ثمنه في المغنم" كغير الطعام.
مسألة: "فإن فضل منه" ما لا حاجة به إليه "رده" على المسلمين لأنه إنما أبيح له منه ما يحتاج إليه لا غير وأما الشيء اليسير فيجوز "أكله وهديته"؛ لأن ما كان مباحا في دار الحرب فإذا أخرجه كان أحق به كالذي لا قيمة له في دار الحرب, وعنه يجب رده لأنه أبيح فيدار الحرب للحاجة وقد زالت الحاجة فتزول الإباحة ولهذا لا يجوز له ابتداء الأخذ في دار الإسلام.
مسألة: "ويجوز تبيين الكفار" وهو كبسهم ليلا "ورميهم بالمنجنيق وقتالهم قبل دعائهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم", وقال ابن المنذر: جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نصب المنجنيق على أهل الطائف, وعن عمرو بن العاص أنه نصب المنجنيق على أهل الاسكندرية.
مسألة: "ولا يقتل منهم صبي ولا مجنون ولا امرأة ولا راهب ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا من لا رأي لهم إلا أن يقاتلوا", وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان, متفق عليه1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "انطلقوا بسم الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا امرأة". رواه أبو داود2, وروى سعيد أن أبا بكر أوصى يزيد حين وجهه إلى الشام فقال: لا تقتلوا صبيا ولا امرأة ولا هرما, وأن عمر أوصى سلمة بن قيس فقال: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا هرما ولا يقتل المجنون بالقياس على الطفل؛ ولأنه لا نكاية له أشبه الصبي, وفي حديث أبي بكر أنه قال: وستمرون على قوم في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها فدعهم حتى يميتهم الله على ضلالتهم؛ ولأنه لا نكاية لهم فلم يجز قتلهم كالنساء والزمن والأعمى يقاس على الشيخ بما بيناه من عدم النكاية في الحرب إلا أن
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الجهاد: حديث رقم 3015. ومسلم في الجهاد: حديث رقم 25.
2 - رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2672.

زمن ولا أعمى ولا من لا رأي لهم إلا أن يقاتلوا ويخير الإمام في أسارى الرجال بين القتل والاسترقاق والفداء والمن ولا يختار إلا الأصلح للمسلمين, وإن استرقهم أو فاداهم بمال فهو غنيمة ولا يفرق في السبي بين ذوي رحم محرم إلا أن
ـــــــ
يكون لهم رأي في الحرب فيقتلون لأن ذلك نكاية كالقتال.
مسألة: "ويخير الإمام في أسارى الرجال بين القتل والاسترقاق والفداء والمن ولا يختار إلا الأصلح للمسلمين" أما جواز تخير القتل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجال قريظة وهم ما بين الستمائة والسبعمائة, وقتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارت صبرا؛ ولأن العدو قد يكون منهم من له قوة ونكاية في المسلمين فيكون قتله أصلح للمسلمين. وأما جواز المن والفداء فلقوله سبحانه: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد من على ثمامة بن أثال وعلى أبي غيرة الشاعر وأبي العاص بن الربيع, وقال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له", ودليل الفداء أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى أسارى بدر وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا ففادى كل رجل بأربع مائة وفادى يوم بدر رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين, وهذه قصص اشتهرت وعلمت وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم كل واحدة منها مرة أو مرارا وهو دليل الجواز؛ ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون هي الأصلح وفي بعض الأسارى فإن منهم من تكون له قوة ونكاية فقتله أصلح, ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح ومنهم حسن الرأي في الإسلام فإطلاقه ربما كان سببا لإسلامه, فالمن عليه أصلح, ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح, والإمام أعلم بالمصلحة فينبغي أن يفوض إليه ذلك, ويجوز استرقاق أهل الكتاب والمجوس, وأما غيرهم فلا, وعن أحمد يجوز استرقاقهم لأنه كافر فجاز استرقاقه كالكتابي, إذا ثبت هذا فإن التخيير المشروع تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة, فإذا رأى أن مصلحة المسلمين في قتله بأن يكون ذا شوكة وبأس يخاف الضرر بتركه لم يجز إلا قتله, وما رأى فيه مصلحة من سائر الخصال تحتم ولم يجز له غيره ومتى تردد في هذه الأمور فالقتل أولى. قال مجاهد في أميرين أحدهما يقتل الأسارى: الذي يقتل أفضل. قال إسحاق: الإثخان أحب إلي إلا أن يكون معروفا يطمع فيه الكثير.
مسألة: "وإن استرقهم أو فاداهم بمال فهو غنيمة" لا نعلم في هذا خلافا, فإن النبي صلى الله عليه وسلم قسم فداء أسرى بدر بين الغانمين؛ ولأنه مال غنمه المسلمون فأشبه الخيل والسلاح, وإذا استرقهم كانوا غنيمة للمسلمين لأنهم الذين أسروهم وقهروهم ومن كان بدله غنيمة كان أصله غنيمة قياسا للأصل على البدل.
مسألة: "ولا يفرق في السبي بين ذوي رحم" محرم "إلا أن يكونوا بالغين" أجمعوا على أن التفريق بين الأم وولدها الطفل غير جائز, وروى أبو أيوب قال: سمعت رسول الله

يكونوا بالغين, ومن اشترى منهم على أنه ذو رحم فبان بخلافه رد الفضل الذي فيه بالتفريق ومن أعطى شيئا يستعين به في غزوه فإذا رجع فله ما فضل إلا أن يكون
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب1؛ ولأن في ذلك إضرارا بها وتحسرا عليه, وظاهر كلام الخرقي أنه يحرم التفريق وإن كان الولد كبيرا وبالغا وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله, والرواية الثانية: نقلها عنه يجوز التفريق بينهما بعد البلوغ لما روى عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يفرق بين الأم وولدها", فقيل: إلى متى؟ قال: "حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية". وعن سلمة بن الأكوع أنه أتى أبا بكر رضي الله عنه بامرأة وبنتها فنفله أبو بكر ابنتها ثم استوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم فوهبها إياه, ولما أهدي النبي صلى الله عليه وسلم مارية وأختها سيرين أمسك مارية لنفسه ووهب سيرين لحسان بن ثابت؛ ولأن الأحرار يتفرقون بعد البلوغ فإن المرأة تزوج ابنتها ويفرق بينهما فالعبيد أولى, وأما الأب فلا يجوز التفريق بينه وبين ولده لأنه أحد الأبوين أشبه الأم والجد في ذلك كالأب والجدة كالأم؛ لأن الجد أب والجدة أم يقومان مقام الأبوين في استحقاق الحضانة والميراث والنفقة فقاما مقامهما في تحريم التفريق يستوي في ذلك الجد والجدة من قبل الأب والأم؛ لأن الجميع ولادة ومحرمية فاستووا في ذلك كاستوائهم في منع شهادة بعضهم لبعض ولا يفرق بين الأخوين ولا الأختين؛ لما روي عن علي رضي الله عنه قال: وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل غلامك"؟ فأخبرته فقال: "رده, رده". رواه الترمذي, وقال: حديث حسن غريب2. وروى عبد الرحمن ابن فروخ عن أبيه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع؛ ولأنه ذو رحم محرم من النسب فلم يجز التفريق بينهما كالوالد والولد.
مسألة: "ومن اشترى منهم على أنه ذو رحم فبان بخلافه رد الفضل الذي فيه بالتفريق"؛ لأنه إذا اشتراهم على أنهم ذوو رحم ثم بان أنهم ليس بينهم رحم فإن قيمتهم تزيد بذلك فإنه إذا اشترى امرأتين على أن إحداهما بنت الأخرى لم يتمكن من وطئهما جميعا ومتى وطئ إحداهما حرمت الأخرى على التأبيد, ولا يتمكن من بيعها فإذا بانت أجنبية حل وطئها وبيعها وهبتها فتزيد قيمتها بذلك فيجب عليه رد الفضل كما لو أخذ دراهم بحقه فبانت أكثر عددا مما حسبت عليه.
مسألة: "ومن أعطى شيئا يستعين به في غزاته فإذا رجع فله ما فضل إلا أن يكون لم يعط لغزاة بعينها فيرد الفضل في الغزو" ولأنه أعطى على سبيل المعاونة والنفقة لا على
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1283.
2 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1284.

لم يعط لغزاة بعينها فيرد الفضل في الغزو إن حمل على فرس في سبيل الله فهي له إذا رجع إلا أن يجعل حبيسا وما أخذ من أموال المسلمين رد إليهم إذا علم صاحبه قبل القسمة وإن قسم قبل علمه فله أخذه بثمنه الذي حسب به على آخذه
ـــــــ
سبيل الإجارة فكان له الفاضل كما لو أوصى أن يحج عنه حجة بألف فإن الفضل له لأن أعطاه شيئا ينفقه في الغزو أو في سبيل الله ففضل منه فضل أنفقه في غزاة أخرى لأنه أعطاه الجميع في سبيل الله مطلقا فلزمه امتثال ما أمره به كما لو أوصى بألف يحج بها ففضل منها فضلة ردت في الحج.
مسألة: "وإن حمل على فرس في سبيل الله فهي له إذا رجع إلا أن يجعل حبيسا" قوله حمل على فرس يعني أعطيها ليغزو عليها فإذا غزا عليها ملكها كما يملك النفقة [المدفوعة إليه إلا أن تكون لصاحبه أو حبيسا فيبقى حبيسا] بحاله. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حملت على فرس عتيق في سبيل الله فباعه صاحبه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه وظننت أنه يبيعه برخص فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه" . متفق عليه1. وهذا يدل على أنه ملكه ولولا ذلك ما باعه, ويدل على أنه ملكه بعد الغزو لأنه أقامه للبيع بالمدينة ولم يكن ليأخذه من عمر ثم يقيمه للبيع في الحال فدل على أنه أقامه للبيع بعد أن غزا عليه, وذكر أحمد مثل ذلك وسئل: متى يطيب له الفرس؟ قال: إذا غزا عليه فقيل له: فإن العدو جاوزنا فخرج على هذه الفرس في الطلب إلى خمسة فراسخ ثم رجع؟ قال: لا حتى يكون غزوا وهذا قول أكثرهم.
مسألة: "وما أخذ" من أهل الحرب "من أموال المسلمين رد إليهم إذا علم صاحبه قبل القسمة وإن قسم بعد علمه فله أخذه بثمنه الذي حسب به على أخذه" أما إذا علم صاحبه قبل القسمة رد إلى صاحبه بغير شيء في قول عامتهم؛ لما روى ابن عمر أن غلاما له أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم, وعنه قال: ذهب له فرس فأخذها العدو فظهر عليهم المسلمون فرد إليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم, رواهما أبو داود2. وروى الأثرم عن رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب فيما أحرز المشركون من المسلمين ثم ظهر المسلمون عليهم بعد. قال: من وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم, وروى هذه الأحاديث كلها سعيد بن منصور. وأما ما أدركه المسلمون بعد أن قسم ففيه روايتان: إحداهما أن صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على من هو في
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - الأول: رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2698. والثاني: حديث رقم 2699.

وإن أخذه أحد الرعية بثمن فلصاحبه أخذه بثمنه وإن أخذه بغير شيء رده ومن اشترى أسيرا من العدو فعلى الأسير أداء ما اشتراه به
ـــــــ
يده وكذلك إن بيع ثم قسم ثمنه فهو أحق به بالثمن؛ لما روى ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا كان المشركون أصابوه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أصبته قبل القسمة فهو لك وإن أصبته بعدما قسم أخذته بالقيمة" 1؛ ولأنه إنما امتنع أخذه له بغير شيء كي لا يفضي إلى حرمان آخذه من الغنيمة أو يضيع الثمن على المشتري وحق الغانم يتحيز بالثمن ويرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع. والرواية الثانية عن أحمد إذا قسم فلا حق له فيه, وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما. وقال أحمد: أما قول من قال هو أحق به بالقيمة فهو قول ضيف عن مجاهد, ودليل هذه الرواية قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة وهي أقوال انتشرت كتب بها عمر إلى أبي عبيدة بالشام وإلى السائب بن الأقرع حين فتح ماه وجلولاء وانتشر ذلك ولم ينكر فصار إجماعا ولم يقل أحد بخلافه.
مسألة: "وإن أخذه" منهم "أحد الرعية بثمن فلصاحبه أخذه بثمنه" ووجه ذلك قول عمر؛ ولأنه حصل في يده بثمن فلم يجز أخذه منه بغير شيء كما لو اشتراه من المغنم.
مسألة: "وإن أخذه بغير شيء رده" لما روي أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أياما ثم خرجت في بعض الليالي قالت: فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضتها على ناقة ذلول فامتطيتها, ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها فقلت: يا رسول الله إني نذرت أن أنحرها فقال: "بئس ما جزيتها لا نذر في معصية", وفي رواية: "لا نذر فيما لا يملك ابن آدم" 2.
مسألة: "ومن اشترى أسيرا من العدو فعلى الأسير أداء ما اشتراه به" لما روى سعيد بن منصور حدثنا عثمان ابن مطر حدثنا ابن جرير عن الشعبي قال: أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا من سبايا العرب فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب عمر: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره, وإن أصابه في أيدي التجار بعدما قسم فلا سبيل له إليه, وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رؤوس أموالهم فإن الحر لا يباع ولا يشترى, فحكم للتجار برؤوس أموالهم؛ ولأن الأسير يجب عليه فداء نفسه ليتخلص من حكم الكفار ويخرج من تحت أيديهم فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاوه كما لو قضى الحاكم عنه ما امتنع من أدائه.
ـــــــ
1 سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.

باب الأنفال
وهي الزيادة على السهم المستحق وهي ثلاثة أضرب:
أحدها: سلب المقتول غير مخموس لقاتله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فله سلبه", وهو ما عليه من لباس وحلي وسلاح وفرسه بآلتها
ـــــــ
باب الأنفال"وهي الزيادة على السهم المستحق وهي على ثلاثة أضرب: أحدها سلب المقتول غير مخموس لقاتله" وذلك أن القاتل يستحق سلب المقتول في الجملة لا نعلم فيه خلافا والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل كافرا فله سلبه". رواه أنس وسمرة بن جندب1, وروى أبو قتادة قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام حنين فلما التقينا رأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه ضربة فأدركه الموت, ثم إن الناس رجعوا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه". قال: فقمت إليه فقلت: من يشهد لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لك يا أبا قتادة"؟ فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله فأرضه منه, فقال أبو بكر الصديق: لا ها الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله فيقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق فأسلمه إليه فأعطانيه". متفق عليه2. وروى أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "من قتل كافرا فله سلبه", فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم, رواه أبو داود3.
مسألة: "و" السلب "ما عليه من لباس وحلي وسلاح وفرسه بآلتها" وذلك لأن المفهوم من السلب اللباس وكذلك السلاح؛ ولأنه يستعين به في حربه وقتاله فهو أولى بالأخذ من اللباس, وكذلك الدابة لأنه يستعين بها فهي كالسلاح وأبلغ منه, ولذلك استحق بها زيادة السهمان فأما الدراهم فليست من السلب لأنها ليست من الملبوس ولا مما يستعان بها في الحرب, وكذلك رحله وأثاثه وما ليست يده عليه, وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أن الدابة أيضا ليست من السلب وهو اختيار الخلال وصاحبه أبي بكر. قال الخلال: إنما السلب ما كان على بدنه والدابة ليست كذلك, وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معدي كرب فأخذ سواريه ومنطقته, ودليل الأولى ما روى عوف ابن مالك قال: خرجت مع
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في الخمس: حديث رقم 3142. ومسلم في الجهاد: حديث رقم 42.
3 - رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2718.

وإنما يستحقه من قتله حال قيام الحرب غير مثخن ولا ممنوع من القتال.
الثاني: أن ينفل الأمير من أغنى عن المسلمين غناء من غير شرط كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع يوم ذي قرد سهم فارس وراجل ونفله أبو بكر رضي الله
ـــــــ
زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن فلقينا جموع الروم فيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل الرومي يغري بالمسلمين, وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه وخر فعلاه فقتله, وحاز فرسه وسلاحه, فلما فتح الله للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه السلب. قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: "بلى". رواه الأثرم. فإذا ثبت هذا فالدابة وما عليها من سرجها ولجامها وجميع آلتها من السلب إذا كان راكبا عليها وإذا ثبت هذا وأنه القاتل فهو غير مخموس؛ لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب, رواه أبو داود1, وعموم الأخبار التي ذكرناها وحديث عمر: "لا يخمس السلب" حجة في ذلك.
مسألة: "وإنما يستحق" ذلك "من قتله حال قيام الحرب غير مثخن ولا ممنوع من القتال", وقال أصحابنا: يشترط لذلك أربعة شروط: الأول أن يقتله حال قيام الحرب فإن قتله بعد انقضائها فلا سلب له فإن العلماء أجمعوا على أن من قتل أسيرا أو امرأة أو شيخا فإنه لا يستحق سلبه. الشرط الثاني: أن لا يكون مثخنا فإن كان مثخنا بالجراح لم يستحقه بدليل حديث ابن مسعود أنه وقف على أبي جهل وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح؛ لأنه أثبته. الشرط الثالث: أن يكون مقبلا على القتال فإن كان منهزما لم يستحق سلبه؛ لأنه كفى شره بالهزيمة إلا أن يكون متحيزا إلى فئة. الشرط الرابع: أن يغرر بنفسه في قتله. مثل أن يبارزه أي يحمل عليه, فأما إن رماه بسهم من صف المسلمين فلا سلب له, وقالت طائفة من أصحاب الحديث: السلب للقاتل على كل حال لعموم الأخبار.
الضرب "الثاني: أن ينفل الأمير من أغنى عن المسلمين غناء من غير شرط كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع يوم ذي قرد سهم فارس وراجل ونفله أبو بكر رضي الله عنه ليلة جاءه بتسعة أهل أبيات امرأة منهم". قال سلمة: أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعتهم فذكر تمام الحديث, وفي آخره: فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل, رواه أبو داود2, وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر فبيتنا عدونا فقتلت ليلتئذ تسعة أبيات وأخذت منهم امرأة فنفلنيها أبو بكر وذكر الحديث.
ـــــــ
1 - المصدر عاليه: حديث رقم 2721.
2 - رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2752.

عنه ليلة جاءه بأهل تسعة أبيات امرأة منهم.
الثالث: ما يستحق بالشرط وهو نوعان: أحدها: أن يقول الأمير من دخل النقب أو صد السور فله كذا ومن جاء بعشر من البقر أو غيرها فله واحد منها فيستحق ما جعل له. الثاني: أن يبعث الأمير في البداءة سرية ويجعل لها الربع وفي الرجعة أخرى ويجعل لها الثلث فما جاءت به أخرج خمسه ثم أعطى السرية ما جعل لها وقسم الباقي في الجيش والسرية معا.
فصل
ويرضخ لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد والكفار فيعطيهم على
ـــــــ
"الثالث: ما يستحق بالشرط وهو نوعان: أحدهما أن يقول الأمير: من دخل النقب أو صعد السور فله كذا ومن جاء بعشر من البقر فله واحدة منها فيستحق ما جعل له" في قول أكثرهم ونص عليه أحمد في مواضع ولم يجز هذا مالك وأصحابه, وقالوا: لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة, ولنا ما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة, وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل الربع بعد الخمس [و الثلث بعد الخمس] إذا قفل, رواهما أبو داود1. وروى الترمذي بإسناده عن عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع وفي القفول الثلث, وقال: حديث حسن غريب2, وقال ابن المنذر: بلغنا عن عمر بن الخطاب أن جرير بن عبد الله لما قدم عليه في قومه وهو يريد الشام قال له عمر: هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشيء, ورواه الأثرم بإسناده وإذا ثبت هذا فظاهر كلام أحمد رحمه الله أنهم إنما استحقوا هذا النفل بالشرط السابق فإن لم يكن شرطه لهم فلا نفل له, أليس قد نفل النبي صلى الله عليه وسلم في البدأة الربع وفي الرجوع الثلث؟ قال: نعم ذلك إذا قفل وتقدم القول فيه؛ ولأن في ذلك مصلحة وتحريضا على القتال فجاز كاستحقاق الغنيمة وزيادة السهم للفارس واستحقاق السلب, وما ذكره يبطل هذه المسائل. "الثاني: أن يبعث الأمير في البداءة سرية ويجعل لها الربع وفي الرجوع أخرى ويجعل لها الثلث فما جاءت به أخرج خمسة ثم أعطى السرية ما جعل لها وقسم الباقي في الجيش والسريه معا" ودليل ذلك ما سبق من حديث حبيب بن مسلمة وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما.
"فصل: ويرضخ لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد والكفار فيعطيهم على قدر غنائهم" ومعناه أن يعطوا من الغنيمة دون السهم ولا تقدير لذلك بل يرجع إلى اجتهاد
ـــــــ
1 - رواهما أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2750, 2749.
2 - رواه الترمذي في السير: حديث رقم 1561.

قدر غنائهم ولا يبلغ بالراجل منهم سهم راجل ولا بالفارس سهم فارس وإن غزا العبد على فرس لسيده فسهم الفرس لسيده ويرضخ للعبد.
ـــــــ
الإمام فيعطي كلا على قدر غنائه ونفعه للمسلمين وهو قول أكثرهم؛ لما روى ابن عباس أنه قال: كان رسول الله يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما سهم فلا يضرب لهن, رواه مسلم1, وفي رواية سعيد بن منصور أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن المرأة والمملوك يحضران الفتح ألهما من المغنم شئ؟ قال: يحذيان وليس لهما شيء وفي لفظ ليس لهما سهم, وقد يرضخ لهما وعن عمير مولى أبي اللحم قال: شهدت خيبر مع ساداتي فكلموا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبر أني مملوك فأمر لي بشيء من خرثي المتاع. رواه أبو داود2, واحتج به أحمد ولأنهما ليسا من أهل القتال فلا يسهم لهما كالصبي وأما الصبيان فيرضخ لهم ولا يسهم لهم وقيل ليس لهم شيء وقال مالك: يسهم له إذا قاتل وأطاق القتال.
وقال الأوزاعي: أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر وأسهم المسلمين كل مولود ولد في أرض الحرب, ولنا ما روى سعيد بن المسيب قال: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة؛ ولأنهم ليسوا من أهل القتال فلم يسهم لهم كالعبيد والنساء ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم لصبي وما ذكروه فيحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما. فأما الكفار فاختلفت الرواية عن أحمد فيهم إذا غزوا معنا فروي عنه لا يسهم لهم؛ لأنهم من غير أهل الجهاد فأشبهوا العبيد ولكن يرضخ لهم كسائر من ليس له سهم, وعنه يسهم لهم إذا غزوا مع الإمام بإذنه كما يسهم للمسلم لما روى الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم, رواه سعيد في سننه وروي أن صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو على شركه فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة قلوبهم؛ ولأن الكفر نقص في الدين فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق وبهذا فارق الرقيق فإن نقصه في دنياه وأحكامه.
مسألة: "ولا يبلغ بالراجل منه سهم راجل ولا بالفارس سهم فارس" لما سبق من الأحاديث والآثار.
مسألة: "وإن غزا العبد على فرس لسيده" قسم لسيده "سهم الفرس ورضخ للعبد" أما الرضخ للعبد فلما سبق وأما الفرس التي تحته فيستحق مالكها سهمها فإن كان معه فرسان أو أكثر أسهم لفرسين ويرضخ للعبد نص عليه أحمد رحمه الله. وقال الشافعي: لا يسهم للفرس لأنه تحت من لا يسهم له أشبه ما إذا كان تحت مخذل ولنا أنه فرس حضر الوقعة وقوتل عليه فاستحق السهم كما لو كان السيد راكبه إذا ثبت هذا فإن سهم الفرس ورضخ العبد جميعا لسيده؛ لأنه مالكه ومالك الفرس وسواء حضر السيد القتال أو غاب عنه.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2730.

باب الغنائم و قسمتها
...
باب الغنائم وقسمتها
وهي نوعان: أحدهما: الأرض فيخير الإمام بين قسمتها ووقفها للمسلمين ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي في يده كل عام أجرا لها وما وقفه الأئمة من ذلك لم يجز تغييره ولا بيعه.
الثاني: سائر الأموال فهي لمن شهد الوقعة ممن يمكنه القتال ويستعد له من
ـــــــ
باب الغنائم وقسمتها
"وهي نوعان: أحدهما الأرض فيخير الإمام بين قسمتها" على الغانمين وبين "وقفها" على "المسلمين ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي في يده كل عام أجرا لها" وهي الأرض التي فتحت عنوة وهي ما أجلى عنها أهلها بالسيف فحكمها أن الإمام مخير بين قسمتها بين الغانمين وبين وقفها على جميع المسلمين؛ لأن كلا الأمرين قد ثبت فيه حجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم نصف خيبر ووقف نصفها لنوائبه ووقف مكة ولم يقسمها, ووقف عمر أرض الشام وأرض العراق ومصر ووافق على ذلك علماء الصحابة وأشاروا عليه بذلك, وعنه تصير وقفا بنفس الاستيلاء عليها لاتفاق الصحابة على ذلك, وعنه أن قسمتها متعينة ولا يجوز وقفها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وفعله أولى من فعل غيره وهو قول مالك لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}, يفهم منها أن أربعة أخماسها للغانمين والرواية الأولى أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين جميعا في خيبر؛ ولأن عمر قال: لولا آخر الناس لقسمت الأرض كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر. فقد وقفها مع علمه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم, دل على أن فعله لذلك لم يكن متعينا كيف والنبي صلى الله عليه وسلم قد وقف نصف خيبر, ولو كانت للغانمين لم يكن له وقفها, وإذا ثبت هذا فإنه إن وقفها فعليها الخراج يضرب عليها أجرة لها في كل عام على من هي في يده وإن قسمها بين الغانمين فلا خراج فيها وليس له أن يفعل شيئا من ذلك إلا إذا رآه مصلحة للمسلمين كما كان مخيرا في الأسارى لم يكن تخيير شهوة, وإنما هو تخيير لما فيه المصلحة للمسلمين.
مسألة: "وما وقفه الأئمة من ذلك لم يجز تغييره ولا بيعه" وكذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من وقف وقسمة فليس لأحد نقضه ولا تغييره, وإنما الروايات فيما يستأنف فتحه وما قسم بين الغانمين فلا خراج عليه [وما وقفه الأئمة و النبي صلى الله عليه و سلم فضرب عليه خراج لا يجوز تغييره] ولا بيعه لأن الوقف لا يجوز بيعه.
النوع "الثاني" من الغنائم: "سائر الأموال فهي لمن شهد الوقعة ممن يمكنه القتال

التجار وغيرهم سواء قاتل أو لم يقاتل على الصفة التي شهد الوقعة فيها من كونه فارسا أو راجلا أو عبدا أو مسلما أو كافرا ولا يعتبر ما قبل ذلك ولا ما بعده, ولا حق فيها لعاجز عن القتال بمرض أو غيره ولا لمن جاء بعد ما تنقضي الحرب من
ـــــــ
ويستعد له من التجار وغيرهم سواء قاتل أو لم يقاتل على الصفة التي شهد الوقعة فيها من كونه فارسا أو راجلا أو عبدا أو مسلما أو كافرا ولا يعتبر ما قبل ذلك ولا بعده". قال أحمد: إني أرى أن كل من شهد على أي حال كان يعطى إن كان فارسا ففارس وإن كان راجلا فراجل لأن أحمد رضي الله عنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة. وقال أبو حنيفة: الاعتبار بدخول دار الحرب فإن دخل فارسا فله سهم فارس وإن نفق فرسه قبل القتال وإن دخل راجلا فله سهم راجل وإن استفاد فرسا فقاتل عليه, ولنا أن الفرس حيوان يسهم له فيعتبر وجوده حالة القتال فيسهم له مع الوجود فيه ولا يسهم له مع العدم كالآدمي, والأصل في هذا أن حاله عند استحقاق السهم حال مقتضى الحرب بدليل قول عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة؛ ولأنها الحالة التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك بخلاف ما قبل ذلك فإن الأموال في أيدي أصحابها ولا يدري هل يظفر بهم أو لا؛ ولأنه لو مات بعض المسلمين قبل الاستيلاء لم يستحق شيئا ولو وجد مدد في تلك الحال أو أسير فهرب أو كافر فأسلم فقاتل استحق السهم فدل على أن الاعتبار بحالة الإحراز فوجب اعتباره دون غيره.
مسألة: "ولا حق فيها لعاجز عن القتال بمرض أو غيره" وذلك أنه إذا مرض في دار الحرب فلا يخلو إما أن يكون مرضا يسيرا لا يخرجه عن كونه من أهل القتال كالصداع والحمى لم يسقط سهمه وإن خرج عن كونه من أهل القتال كالزمن والأشل سقط سهمه؛ لأنه ليس من أهل القتال والجهاد أشبه العبد.
مسألة: "ولا لمن جاء بعد تقضي الحرب من مدد أو غيره" لقول عمر رضي الله عنه: الغنيمة لمن شهد الوقعة فإذا جاء بعدها فلم يشهدها فلا سهم له؛ ولأنه قد جاء وقد ملكت وصارت للغانمين الذين حضروها فلم يبق له فيها نصيب, وروى أبو هريرة أن أبان بن سعيد وأصحابه قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد أن فتحها فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجلس يا أبان". ولم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه أبو داود1. وروى سعيد عن طارق بن شهاب: إن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر: إن الغنيمة لمن شهد الوقعة, وروي نحو ذلك عن عثمان رضي الله عنه في غزوة أرمينية ولأنه مدد لحق بعد أن تقضى
ـــــــ
1 رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2723.

مدد أو غيره, ومن بعث الأمير لمصلحة الجيش أسهم له ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم ويبدأ بإخراج مؤنة الغنيمة لحفظها ونقلها وسائر حاجتها, ثم يدفع الأسلاب إلى أهلها والأجعال لأصحابها ثم يخمس باقيها فيقسمه خمسة أسهم: سهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم يصرف في السلاح والكراع والمصالح وسهم
ـــــــ
الحرب أشبه ما لو جاء بعد القسمة أو بعد إحرازها إلى دار الإسلام.
مسألة: "ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش أسهم له" وهذا مثل الرسول والدليل والطليعة والجاسوس يبعثون لمصلحة الجيش فهم شركاء الجيش فيما غنم وقد تخلف عثمان رضي الله عنه يوم بدر فأجرى له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه من الغنيمة, وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم الحديبية فقال: "إن عثمان انطلق في حاجة لله وحاجة لرسوله وإني أبايع له" فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره؛ ولأنه في مصلحتهم فاستحق سهما كالسرية, "ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم" في قول عامتهم, وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما غزا هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية فأشرك بينها وبين الجيش. قال ابن المنذر: وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وترد سراياهم على قعدهم", وفي تنفيل النبي صلى الله عليه وسلم في البداءة. الربع: وفي الرجعة الثلث دليل على اشتراكهم فيما سوى ذلك؛ ولأنهم جيش واحد وكل منهم رده لصاحبه فيشتركون كما لو غنم أحد جانبي الجيش.
مسألة: "ويبدأ بإخراج مؤنة الغنيمة لحفظها ونقلها وسائر حاجتها"؛ لأن أجرتهم منها والفاضل للغانمين كما يبدأ بأجرة العامل على الزكاة "ثم يدفع الأسلاب إلى أهلها"؛ لأن صاحبها معين "والأجعال لأصحابها" كذلك "ثم يخمس باقيها فيقسم" خمسها "خمسة أسهم" يعني أنه يجعل الغنيمة كلها خمسة أسهم يأخذ منها سهما يقسمه خمسة أسهم وذلك لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 1, فسهم الله ورسوله واحد؛ لأن الدنيا والآخرة لله سبحانه, وقد روي عن ابن عمر وابن عباس قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الخمس على خمسة: فـ "سهم لله ورسوله يصرف في السلاح الكراع" وهي الخيل والسلاح ومصالح المسلمين من سد الثغور ونحوه والخمس الثاني لذي "القربى وهم" أقارب النبي صلى الله عليه وسلم من بني "هاشم" وبني "المطلب" ابني عبد مناف دون غيرهم؛ لما روى جبير بن مطعم قال: "لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى من خيبر بين بني هاشم وبني المطلب أتيت أنا وعثمان بن عفان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به
ـــــــ
1 - سورة الأنفال: الآية 41.

لذوي القربى وهم: بنو هاشم وبنو المطلب غنيهم وفقيرهم للذكر مثل حظ الأنثيين, وسهم لليتامى الفقراء وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل, ثم يخرج باقي الأنفال والرضخ, ثم يقسم ما بقي للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم سهم له ولفرسه
ـــــــ
منهم فما بال إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم منك بمنزله واحدة, فقال: "إنهم لم يفارقوني -وفي رواية: لم يفارقونا - في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" وشبك بين أصابعه. رواه الإمام أحمد والبخاري, فرعى لهم النبي صلى الله عليه وسلم نصرتهم وموافقتهم بني هاشم في الجاهلية, ويشترك الذكر والأنثى فيه لدخولهم في اسم القرابة, وعن أحمد يسوى بين الذكر والأنثى فيه لدخولهم في اسم القرابة, وعن أحمد يسوى بين الذكر والأنثى لأنهم أعطوا بسهم القرابة والذكر والأنثى فيها سواء فأشبه ما لو أوصى بثلثه لقرابة فلان؛ ولأنه سهم من الخمس فيسوى فيه بين الذكر والأنثى كسائر سهامه, وعنه "للذكر مثل حظ الأنثيين" لأنه سهم استحق بقرابة الأب شرعا ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث ويدخل في ذلك الغني والفقير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى قرابته الأغنياء كالعباس وغيره ولم يخص الفقراء لأنهما يدخلان في اسم القرابة فلا يختص أحدهما دون الآخر. والخمس الثالث في "اليتامى" وهم الذين لا آباء لهم ولم يبلغوا الحلم. قال أصحابنا: ولا يستحقون إلا مع الفقر, وقال بعضهم هو للغني والفقير لأنه يستحق باسم اليتم وهو شامل لهما وقياسا له على سهم ذي القربى, ووجه الأول أنه لو كان له أب ذو مال لم يستحق شيئا فإذا كان المال له كان الأولى أن لا يستحق شيئا؛ لأن وجود المال له أنفع من وجود الأب ولأنهم صرف إليهم لحاجتهم لأن اسم اليتم يطلق عليهم في العرف للرحمة ومن كان إعطاؤه لذلك اعتبرت الحاجة فيه بخلاف ذوي القربى فإنهم استحقوا لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكرمة لهم, والغني والفقير في القرب سواء فاستووا في الاستحقاق. والخمس الرابع في "المساكين" ويدخل فيهم الفقراء فهم صنفان في الزكاة وواحد ها هنا وفي سائر الأحكام. والخمس الخامس في بني "السبيل" وهم المسافرون المنقطع بهم يعطى كل واحد منهم بقدر حاجته وما يوصله إلى بلده لأن الدفع إليه لأجل الحاجة فأعطى بقدرها.
مسألة: "ثم يخرج باقي الأنفال والرضخ" ثم يقسم ما بقي بين الغانمين. قال أحمد: النفل من أربعة أخماس الغنيمة وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}, وروى معن بن يزيد السلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نفل إلا بعد الخمس". رواه أبو داود من حديث حبيب بن مسلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم1. فإنما نفلهم بعد الخمس وفي الرضخ وجهان: أحدهما: أنه من أربعة أخماس الغنيمة لأنه استحق بحضور الوقعة أشبه سهام الغانمين, والثاني: أنه من أصل الغنيمة لأنه
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2748.

سهمان لما روى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما, وإن كان الفرس غير عربي فله سهم ولصاحبه سهم إن كان مع الرجل فرسان أسهم لهما ولا يسهم لأكثر من فرسين
ـــــــ
استحق لأجل المعاونة في تحصيل الغنيمة فأشبه أجرة النقالين.
مسألة: و "ما بقي" من أربعة أخماس الغنيمة يصير للغانمين للرجل سهم "وللفارس ثلاثة أسهم", وأجمعوا على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين؛لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}, فيفهم من ذلك أن الباقي للغانمين لأنه أضافها إليهم ثم أخذ منها سهما لغيرهم فبقي سائرها لهم كقوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}, وقال عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة, واتفقوا كلهم على أن للراجل سهما وللفارس ثلاثة أسهم "سهم له و لفرسه سهمان" إلا أبا حنيفة قال: للفارس سهمان وقد ثبت عن "ابن عمر أن" النبي "صلى الله عليه وسلم" أسهم للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه. متفق عليه1.
مسألة: "وإن كان الفرس غير عربي فله سهم ولصاحبه سهم" وغير العربي هو البرذون وهو الهجين أيضا وقد حكي عن أحمد أنه قال: الهجين البرذون واختلفت الرواية عن أحمد في سهمه فقال الخلال: تواترت الروايات عن أبي عبد الله في سهام البرذون أنه سهم واحد واختاره أبو بكر, وعنه أسهم للبرذون مثل سهم العربي سهمين واختاره الخلال لأن الله سبحانه قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} 2, وهذا من الخيل ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى فيه العربي وغيره كالآدمي, وحكى القاضي رواية أخرى عنه أنه لا يسهم له وحكى أبو بكر رواية رابعة أن البراذين إذا أدركت أسهم لها مثل الفرس لأنها عملت عمل العراب فأعطيت سهمها, ودليل الأولى ما روى سعيد عن أبي الأقمر قال: أغارت الخيل على الشام فأدركت العراب من يومها وأدركت الكوادن ضحى الغد وعلى الخيل رجل من همدان. يقال له المنذر بن أبي حمضة فقال: لا أجعل التي أدركت من يومها مثل التي لم تدرك, فقال عمر هبلت الوادعي أمه أمضوها على ما قال. وروى الجوزجاني عن أبي موسى أنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنا وجدنا في العراق خيلا عراضا دكا فما ترى يا أمير المؤمنين في سهامها؟ فكتب: تلك البراذين فما قارب العتاق منها فاجعل له سهما واحدا وألغ ما سوى ذلك, وروي بإسناده عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهما.
مسألة: "وإن كان مع الرجل فرسان أسهم لهما ولا يسهم لأكثر من فرسين" لما
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الجهاد: حديث رقم 2863. ومسلم في الجهاد: حديث رقم 57.
2 - سورة النحل: الآية 8.

ولا يسهم لدابة غير الخيل.
فصل
وما تركه الكفار فزعا وهربوا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو أخذ منهم
ـــــــ
روى الأوزاعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس, وعن أزهر بن عبد الله أن عمر كتب إلى أبي عبيدة أن أسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة ولصاحبها سهم فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الفرسين فهي جنائب, رواهما سعيد في سننه؛ ولأن به إلى الثاني حاجة فإن إدامة ركوب واحد يضعفه ويمنعه القتال عليه فيسهم له كالأول بخلاف الثالث.
مسألة: "ولا يسهم لدابة غير الخيل" كالجمل والبغل والحمار, وعنه إذا غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره أسهم له ولبعيره سهمان, وعنه يسهم للبعير سهم ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره ولقوله سبحانه: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} 1, والركاب الإبل؛ ولأنه حيوان يجوز المسابقة عليه فيسهم له كالفرس واختار أبو الخطاب أنه لا يسهم له وهو قول أكثرهم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لغير الخيل وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيرا ولم تخل غزاة من غزواته صلى الله عليه وسلم من الأبعرة بل كانت غالب دوابهم فلم ينقل أنه أسهم لها, ولو أسهم لها لنقل ذلك؛ ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر فلم يسهم له كالبغل. فأما ما عدا هذا من البغال والحمير والفيلة فلا يسهم له بغير خلاف, وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لها.
مسألة: "وما تركه الكفار فزعا وهربوا لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو أخذ منهم بغير قتال فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين" والفيء هو الراجع للمسلمين من مال الكفار يقال فاء الفيء إذا رجع نحو المشرق والإيجاف أصله التحريك والمراد ها هنا الحركة في السير. قال قتادة: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} ما قطعتم واديا ولا سرتم إليها إنما كانت حوائط بني النضير أطعمها الله رسوله صلى الله عليه وسلم فيصرف ذلك في مصالح المسلمين, وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} حتى بلغ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}, ثم قال: هذه لهؤلاء, ثم قرأ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} حتى بلغ {وَابْنَ السَّبِيلِ}, ثم قال: هذه لهؤلاء ثم قرأ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} حتى بلغ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ}, ثم قال: هذه استوعبت المسلمين عامة, ولئن عشت ليأتين الراعي وهو يسير
ـــــــ
1 - سورة الحشر: الآية 6.

بغير قتال فهو فيء يصرف في مصالح المسلمين, ومن وجد كافرا ضالا عن الطريق أو غيره في دار الإسلام فأخذه فهو له, وإن دخل قوم لا منعة لهم أرض الحرب متلصصين بغير إذن الإمام فما أخذوه فهو لهم بعد الخمس
ـــــــ
نصيبه فيها ولم يعرق فيها جبينه. واختلفت الرواية عن أحمد في الفيء هل يخمس أو لا؟ فروي عنه أنه يخمس اختارها الخرقي, وعنه لا يخمس وهو قول عامتهم؛ لأن الله سبحانه قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} 1, فجعله كله لهم ولم يذكر خمسا ولما قرأها عمر قال: هذه استوعبت المسلمين ووجه الأولى قوله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}, وظاهر هذا أن جميعه لهؤلاء الأصناف وهم أهل الخمس, وجاءت الأخبار عن عمر وغيره دالة على اشتراك جميع المسلمين فيه فوجب الجمع بينهما كيلا تتناقض الآية والأخبار وتتعارض, وفي إيجاب الخمس فيه جمع بينهما وتوفيق فإن خمسه لمن سمي في الآية وسائره مصروف إلى من في الحرب كالغنيمة ولأنه مال مشترك مظهور عليه فوجب أن يخمس كالغنيمة والركاز.
مسألة: "ومن وجد كافرا ضالا عن الطريق أو غيره في دار الإسلام فأخذه فهو له" في إحدى الروايتين لأنه وجده في دار الإسلام فأشبه المباحات والصيد واللقطة والأخرى يكون فيئا؛ لأنه لم يوجف عليه وهو من مال الكفار فأشبه ما لو أخذ من دراهم.
مسألة: "وإن دخل قوم لا منعة لهم أرض الحرب متلصصين بغير إذن الإمام فما أخذوه فهو لهم بعد الخمس" وفي هذه المسألة ثلاث روايات: إحداهن أن غنيمتهم كغنيمة غيرهم يخمسها الإمام ويقسم الباقي بينهم وهو قول أكثرهم لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} 2, وبالقياس على ما إذا دخلوا بإذن الإمام والثانية هو لهم من غير أن يخمس وهو قول أبي حنيفة لأنه اكتساب مباح من غير جهاد أشبه الاحتطاب فإن الجهاد إنما يكون بإذن الإمام أو من طائفة لهم منعة, فأما هذا فتلصص وسرقة ومجرد اكتساب. والثالثة: أنه فيء لا حق لهم فيه لأنهم عصاة بفعلهم فلم يكن لهم فيه حق والأولى أولى. قال الأوزاعي: لما نقل عمر بن عبد العزيز الجيش الذي كانوا مع مسلمة كسر مركب بعضهم فأخذ المشركون ناسا من القبط فكانوا خداما لهم فخرجوا يوما إلى عيد لهم وخلفوا القبط في مركبهم وشرب الآخرون فرفع القبط القلع وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر: نفلوهم القلع وكل شيء جاءوا به إلا الخمس, رواه سعيد والأثرم وكذا إن كانت الطائفة ذات منعة في إحدى الروايتين وفي الأخرى لا شيء لهم.
ـــــــ
1 - سورة الحشر: الآية 7.
2 - سورة الأنفال: الآية 41.

باب الأمان
ومن قال لحربي: قد أجرتك أو أمنتك أو لا بأس عليك ونحو هذا فقد أمنه ويصح الأمان من كل مسلم عاقل مختار حرا كان أو عبدا رجلا كان أو امرأة لقول
ـــــــ
باب الأمان"ومن قال لحربي: قد أجرتك أو أمنتك أو لا بأس عليك ونحو هذا فقد أمنه" وذلك أن من أعطى الأمان حرم قتله وماله والتعرض له فأما صفة الأمان فالذي ورد به الشرع لفظتان: أمنتك وأجرتك, لقوله سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 1, وقال عليه السلام لأم هانئ: "قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت" 2. وقال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن", وفي معنى ذلك لا تخف ولا بأس عليك, فقد روي أن عمر رضي الله عنه قال للهرمزان: لا بأس عليك تكلم فلما تكلم أمر عمر بقتله, فقال أنس: ليس لك إلى ذلك سبيل قد أمنته فدرأ عنه القتل, رواه سعيد وغيره, وقال عمر: إذا قلتم لا بأس أو لا تذهل أو مترس فقد أمنتموهم فإن الله يعلم الألسنة, وفي رواية: إذا قال الرجل للرجل لا تخف أو مترس فقد أمنه, وهذا كله لا نعلم فيه خلافا. فأما إن قال له قف أو ألق سلاحك, فقال أصحابنا: هو أمان؛ لأن الكافر يعتقده أمانا فكان أمانا كقوله أمنتك, ويحتمل أنه ليس بأمان لأن لفظه لا يشعر به وهو يستعمل للإرهاب والتخويف فأشبه ما لو قال لأقتلنك.
مسألة: "ويصح الأمان من كل مسلم" بالغ "عاقل مختار" ذكرا كان أو أنثى "حرا كان أو عبدا", وهو قول أكثرهم وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له؛ لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانه كالصبي؛ ولأنه مجلوب من دار الحرب فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم, ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا" 3. رواه البخاري. وقال عمر: العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم. رواه سعيد؛ ولأنه مسلم مكلف أشبه الحر وأما التهمة فتبطل بما لو أذن له في القتال فإنه يصح أمانه, وأما المرأة فيجوز أمانها في قولهم جميعا وأما الصبي المميز ففيه روايتان قال أبو بكر: يصح أمانه رواية واحدة لأنه
ـــــــ
1 - سورة التوبة: الآية 6.
2 - سبق تخريجه.
3 - سبق تخريجه.

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم", ويصح أمان آحاد الرعية للجماعة اليسيرة, وأمان الأمير للبلد الذي أقيم بإزائه, وأمان الإمام لجميع الكفار ومن دخل دارهم بأمانهم فقد أمنهم من نفسه وإن خلوا أسيرا منا بشرط أن يبعث إليهم مالا معلوما لزمه الوفاء لهم فإن شرطوا عليه أن يعود إليهم إن
ـــــــ
مسلم مميز فأشبه البالغ وحمل رواية المنع على من لم يعقل وفارق المجنون فإنه لا تمييز له.
مسألة: "ويصح أمان آحاد الرعية للجماعة اليسيرة" كالواحد والعشرة والقافلة والحصن الصغير؛ لما روى فضيل بن يزيد الرقاشي قال: جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيهم فحضرنا موضعا فرأينا أنا سنفتحها اليوم فجعلنا نقبل ونروح فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم, رواه سعيد, فإذا صح من العبد فالحر أولى ولا يصح [أمان الواحد] لأهل بلدة ورستاق وجمع كثير لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتئات على الإمام, "و" يصح "أمان الأمير للبلد الذي أقيم بإزائه"؛ لأنه نائب الإمام فيه "و" يصح "أمان الإمام لجميع الكفار" لأنه متولي ذلك يفعل ما يرى فيه المصلحة.
مسألة: "ومن دخل دارهم بأمانهم فقد أمنهم من نفسه" لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطا بأمنه إياهم من نفسه وترك خيانتهم وإن لم يكن ذلك مذكورا فهو معلوم في المعنى ولا يصلح في ديننا الغدر, وقد قال عليه السلام: "المؤمنون عند شروطهم" 1.
مسألة: "وإن خلوا أسيرا منا بشرط أن يبعث إليهم مالا معلوما لزمه الوفاء لهم"؛ به لأن الله سبحانه قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 2؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل الحديبية على رد من جاءه فوفى لهم وقال: "إنا لا يصلح في ديننا الغدر". ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى وفي منعه مفسدة في حقهم لأنهم لا يأمنون بعده أسيرا والحاجة داعية إلى ذلك فلزم الوفاء به كما يلزم الوفاء بعقد الهدنة.
مسألة: "فإن شرطوا عليه أن يعود إليهم إن عجز عنه لزمه" العود في إحدى الروايتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد أهل الحديبية على رد من جاء مسلما فرد أبا جندل وأبا بصير وقال: "إنا لا يصلح في ديننا الغدر", والرواية الأخرى: لا يرجع لأن الرجوع إليهم معصية فلم يلزم بالشرط كما لو كان امرأة وكما لو شرط شرب الخمر أو قتل مسلم
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سورة النحل: الآية 91.

عجز لزمه الوفاء لهم إلا أن تكون امرأة فلا ترجع إليهم.
فصل
وتجوز مهادنة الكفار إذا رأى الإمام المصلحة فيها, ولا يجوز عقدها إلا من
ـــــــ
مسألة: "إلا أن تكون امرأة فلا ترجع إليهم" لأن في رجوعها إليهم تسليطا لهم على وطئها حراما وقد منع الله ورسوله رد النساء إلى كفار قريش بعد صلحه على ردهن في قصة الحديبية وهي مشهورة, رواه أبو داود وغيره, وفيها: فجاء نسوة مؤمنات فنهاهم الله أن يردوهن بقوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} 1.
فصل
مسألة: "وتجوز مهادنة الكفار إذا رأى الإمام المصلحة فيها" ومعناها أن يعقد لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدة بعوض وغير عوض ويسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة, وذلك جائز لقول الله سبحانه: {بََرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2, وقال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} 3, وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ولا يجوز إلا النظر للمسلمين إما أن يكون بالمسلمين ضعف عن قتالهم وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة ولا تتقدر بمدة بل هي على ما يرى الإمام من المصلحة في قلتها وكثرتها. قال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنها لا تجوز أكثر من عشر سنين وهي اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي؛ لأن قوله سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 4, عام خص منه مدة العشر بصلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية على عشر ففي ما زاد عليها يبقى على مقتضى العموم, ووجه الأول أنه عقد يجوز في العشر فجاز فيما زاد كمدة الإجازة والعام مخصوص في العشر لمعنى هو موجود فيما زاد عليها وهو أن المصلحة قد تكون في الصلح أكثر منها في الحرب, فإن قلنا بجوازه في الزيادة لم يجز مطلقا من غير تقدير لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية, وإن قلنا يتقدر بالعشر فعقد على أكثر من ذلك فسد في الزيادة وكان في العشر على وجهين مبنيين على تفريق الصفقة.
مسألة: "ولا يجوز عقدها إلا من الإمام أو نائبه" لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة على ما قدمنا؛ ولأن عقد الهدنة يكون مع جملة من الكفار وليس لأحد من المسلمين إعطاء الأمان لأكثر من القافلة لأن في تجويز ذلك افتئاتا على الإمام أو نائبه في
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2765.
2 - سورة التوبة: الآية 1.
3 - سورة الأنفال: الآية 61.
4 - سورة التوبة: الآية 5.

الإمام أو نائبه وعليه حمايتهم من المسلمين دون أهل الحرب, وإن خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم وإن سباهم كفار آخرون لم يجز لنا شراؤهم, وتجب الهجرة على من لم يقدر على إظهار دينه في دار الحرب وتستحب لمن قدر على
ـــــــ
تلك الناحية وتعطيل الجهاد بالكلية فإن هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح فإن دخل بعض الكفار الذين هادنهم دار الإسلام كان آمنا؛ لأنه دخل معتقدا أنه دخل بأمان ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الإسلام لأن الأمان لم يصح.
مسألة: "وعليه حمايتهم من المسلمين دون أهل الحرب"؛ لأنه أمنهم ممن هو في قبضته وتحت يده ومن أتلف من المسلمين أو أهل الذمة عليهم شيئا أو قتل منهم أحدا فعليه ضمانه ولا يلزم الإمام حمايتهم من أهل الحرب ولا حماية بعضهم من بعض لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط.
مسألة: "وإن خاف نقض العهد منهم" جاز أن ينبذ "إليهم عهدهم" لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} , يعني أعلمهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم, ولا يكفي أن يقع في قلبه خوف منهم حتى يكون ذلك عن أمارة تدل على ما خافه.
مسألة: "وإن سباهم كفار آخرون لم يجز لنا شراؤهم"؛ لأنهم في عهد منه فلا يجوز أن يملك ما سبي منهم كأهل الذمة ويحتمل أن يجوز ذلك لأنه لا يجب عليه أن يدفعه عنهم فلا يلزمه رد ما استنقذه منهم كما لو أعان أهل الحرب على أهل الحرب.
مسألة: "وتجب الهجرة على من لم يقدر على إظهار دينه في دار الحرب وتستحب لمن قدر على ذلك". قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 1؛ ولأن حكم الهجرة باق إلى يوم القيامة لا تنقطع, وقال عليه السلام: "لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد", رواه سعيد وغيره, وعن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها", أخرجه أبو داود2. فأما قوله عليه السلام: "لا هجرة بعد الفتح" 3, رواه سعيد فمعناه لا هجرة من مكة بعد فتحها, ولا هجرة من بلد بعد فتحه؛ لأن الهجرة الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام وبعد الفتح صار البلد المفتوح دار إسلام فلا هجرة منه إذا, ألا ترى أن النبي
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 97.
2 - رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2479.
3سبق تخريجه.

ذلك, ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار إلا من بلد بعد فتحه.
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم قال ذلك لمن أراد الهجرة من مكة بعد فتحها فإن صفوان بن أمية قيل له بعد الفتح: إنه لا دين لمن لم يهاجر فأتى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك أبا وهب"؟ قال: قيل إنه لا دين لمن لم يهاجر, قال: "ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة أقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية". يعني من مكة, إذا ثبت هذا فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: أحدها من تجب عليه وهو من لا يمكنه إظهار دينه ولا عذر له من مرض ولا عجز عن الهجرة فهذا تجب عليه للآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ}, ولأن القيام بواجب الدين واجب ولا يتمكن منه إلا بالهجرة وما لا يتمكن من الواجب إلا به فهو واجب لكونه من ضرورة الواجب. الثاني: من تستحب له الهجرة وهو من يتمكن من إظهار دينه في دار الحرب والقيام بواجبه إما لقوة عشيرته أو غير ذلك فهذا لا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه وتستحب له؛ لأن في إقامته عندهم تكثيرا لعددهم واختلاطا بهم ورؤية المنكر بينهم. الثالث: من تسقط عنه الهجرة وهو من يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف فهذا لا تجب عليه ولا يوصف باستحباب لقوله سبحانه: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} 1.
مسألة: "ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار إلا من بلد بعد فتحه" لما سبق.
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 98.

باب الجزية
ولا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب وهم اليهود ومن دان بالتوراة والنصارى
ـــــــ
باب الجزية"ولا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب وهم اليهود ومن دان بالتوراة والنصارى ومن دان بالإنجيل والمجوس إذا التزموا أداء الجزية وأحكام الملة", والأصل في الجزية الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}, وأما السنة فروى المغيرة أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند: أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية, أخرجه البخاري1. وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة واشتقاقها من جزى يجزي إذا قضى تقول العرب: جزيت ديني إذا قضيته وقال الله
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الجزية: حديث رقم 3159.

ومن دان بالإنجيل والمجوس إذا التزموا أداء الجزية وأحكام الملة, ومتى طلبوا ذلك لزم إجابتهم وحرم قتالهم
ـــــــ
سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} 1, أي لا تقضي والذين تقبل منهم الجزية صنفان: أهل الكتاب ومن له شبهة كتاب فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوراة, وإنما خالفوا اليهود في فروع دينهم وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والإفرنج والروم والأرمن وغيرهم, ممن دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى فجميعهم من أهل الإنجيل وإن اختلفت فروعهم والصابئون. قال أحمد: هم جنس من النصارى, وقال: بلغني أنهم يسبتون فهم من اليهود, وروي عن عمر أنهم يسبتون وقال مجاهد: هم بين اليهود والنصارى وأما من لهم شبهة كتاب كالمجوس. قال الشافعي: كان لهم كتاب فرفع وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر منهم الجزية وروى البخاري بإسناده عن بجالة قال: ولم يكن عمر أخذ الجزية من مجوس حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر2, إذا ثبت هذا فإن أهل العلم من الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم أجمعوا على أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس مع ما فيه من الآثار الصحيحة وعمل بها الخلفاء الراشدون ثم جرت به السنة إلى يومنا هذا.
مسألة: وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين على ما عاهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة فإن نقضوا العهد بمخالفة شيء من ذلك صاروا حربا لزوال عهدهم ولم تؤخذ منهم جزية بعد ذلك ولا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين: أحدهما أن تجعل عليهم جزية في كل حول, والثاني: أن يلتزموا أحكام الإسلام لقوله سبحانه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 3, وإنما يحصل الصغار بذلك.
مسألة: "ومتى طلبوا ذلك لزم إجابتهم وحرم قتالهم" لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}, فجعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم فمتى بذلوها لم يجز قتالهم وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}, يعني: حتى يلتزموا إعطاءها فلا يعتبر حقيقة الإعطاء كقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} 4, معناه التزموا ذلك بالإجماع كذا ها هنا.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 48.
2 - رواه البخاري في الجزية: حديث رقم 3156, 3157.
3 - سورة التوبة: الآية 29.
4 - سورة التوبة: الآية 5.

وتؤخذ الجزية في رأس كل حول من الموسر ثمانية وأربعون درهما ومن المتوسط أربعة وعشرون درهما ومن دونه اثنا عشر درهما, ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا عبد ولا فقير عاجز عنها,
ـــــــ
مسألة: "وتؤخذ الجزية في رأس كل حول" لأنه مال يتكرر بتكرر الحول فلا تجب إلا بأوله كالزكاة والدية.
مسألة: وتؤخذ "من الموسر ثمانية وأربعون درهما ومن المتوسط أربعة وعشرون درهما ومن دونه اثنا عشر درهما"؛ لأن عمر رضي الله عنه أخذها منهم كذلك, وقد روي عن أحمد أن الجزية مقدرة بمقدار لا يزيد ولا ينقص, وعنه أنها غير مقدرة منهم كذلك بل ذلك مردود إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان. قال الخلال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة فإنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص. رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: "خذ من كل حالم دينارا ولم يفصل", رواه أبو داود1, وصالح أهل نجران على ألفي حلة: النصف في صفر والنصف في رجب, رواه أبو داود2. وعمر جعل أهل الجزية ثلاث طبقات: الغني ثمانية وأربعون درهما والمتوسط أربعة وعشرون درهما والفقير اثنا عشر درهما؛ ولأنها عوض فلم تقدر كالأجرة, وعنه أن أقلها مقدر بدينار وأعلاها غير مقدر وهو اختيار أبي بكر فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر زاد على ما فرض النبي صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن ولم ينقص منه ووجه الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها مقدرة وعمر فرضها مقدرة وكان ذلك بمشهد من الصحابة فكان إجماعا.
مسألة: "ولا جزية على صبي ولا امرأة ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا عبد ولا فقير عاجز عنها" لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن الجزية إنما تجب على الرجل العاقل ولا تجب على صبي ولا مجنون ولا امرأة. وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "خذ من كل حالم دينارا" 3, وكتب عمر إلى أمراء الأجناد أن أضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي, رواه سعيد؛ ولأن الجزية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء محقونون بدونها وكذلك الشيخ والزمن والأعمى لا جزية عليهم لذلك, ولا تجب على عبد لأن ما يجب على العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي إلى إيجاب الجزية على المسلم وهذا مجمع عليه وكذلك إن كان السيد ذميا. قال ابن المنذر:
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الخراج والإمارة: حديث رقم 3038.
2 المصدر عاليه: حديث رقم 3041.
3 - سبق تخريجه.

ومن أسلم بعد وجوبها سقطت عنه وإن مات أخذت من تركته ومن اتجر منهم
ـــــــ
أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أنه لا جزية على العبد, ووجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جزية على العبد". وعن ابن عمر مثله؛ ولأنه مال فلم تجب عليه الجزية كسائر الحيوانات ولأنه محقون الدم فلا تجب عليه الجزية كالصبيان, وعنه تجب عليه الجزية يؤديها سيده لما روي أن عمر رضي الله عنه قال: لا تشتروا من رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم؛ لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم على بعض ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ أنقذه الله منه, وروي نحوه عن علي قال أحمد: أراد عمر أن يوفر الجزية لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه إذا ما يؤخذ منه والذمي يؤدى عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم ولأنه ذكر مكلف قوي مكتسب فوجبت عليه الجزية كالحر.
مسألة: "ولا" تجب على "فقير عاجز عنها" لقوله سبحانه: {لاََ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}, وهذا عاجز عنها ولأن عمر جعل الجزية على طبقات أدناها على الفقير المعتمل فدل على أن غير المعتمل لا شيء عليه ولأنه مال يجب بحلول الحول فلا يلزم الفقير كالزكاة والعقل.
مسألة: "ومن أسلم بعد وجوبها سقطت عنه" لقوله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} 1, وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس على المسلم جزية", رواه الخلال قال أحمد: وقد روي عن عمر أنه قال: إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه, وعنه عليه السلام: "لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الجزية", وروي أن ذميا أسلم فطولب بالجزية وقيل إنما أسلمت تعوذا قال: إن في الإسلام معاذا فقال عمر: إن في الإسلام معاذا وكتب: لا تؤخذ منه الجزية, رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى ولأن الجزية صغار فلا تؤخذ منه كما لو أسلم قبل الحلول ولأنها عقوبة بسبب الكفر فيسقطها الإسلام كالقتل وبهذا فارق سائر الديون.
مسألة: " وإن مات أخذت من تركته" يعني يموت على كفره فلا تسقط عنه في ظاهر كلام أحمد رحمه الله وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنه قال: تسقط بالموت؛ لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود, ولنا أنها دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بعد الموت كديون الآدميين والحد يسقط بفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية.
مسألة: "ومن اتجر منهم إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف العشر" اشتهر هذا عن عمر رضي الله عنه وصحت الرواية عنه بت, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما العشور على اليهود
ـــــــ
1 - سورة الأنفال: الآية 38.

إلى غير بلده ثم عاد أخذ منه نصف العشر, وإن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر ومن نقض العهد بامتناعه من التزام الجزية وأحكام الملة أو قتال المسلمين
ـــــــ
والنصارى وليس على المسلمين عشور". رواه أبو داود1. وروى الإمام أحمد عن أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ فقال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر وهذا كان بالعراق, وروى أبو عبيد في الأموال أن عمر بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهما درهما, وقال الشافعي: لا يؤخذ من أهل الذمة إلا الجزية وما ذكرناه حجة عليه, والله أعلم.
مسألة: "وإن دخل إلينا تاجر حربي أخذ منه العشر". قال أبو حنيفة: لا يؤخذ منهم شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئا فيؤخذ منهم مثله, ولنا أن عمر رضي الله عنه أخذ منهم العشر واشتهر ذلك بين الصحابة وعمل به الخلفاء بعده فكان إجماعا, ولا يعشر في السنة إلا مرة لأنه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة كالزكاة وأهل الذمة كذلك.
مسألة: "ومن نقض العهد بامتناعه من التزام الجزية وأحكام الملة أو قتال المسلمين ونحوه أو الهرب إلى دار الحرب حل دمه وماله"؛ لأن في كتاب عبد الرحمن ابن غنم الذي فيه شرائط أهل الذمة على أنفسهم: وإن نحن غيرنا وخالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الآمان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق فزاد عليهم عمر: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده فظاهره أنه متى نقض شيئا من ذلك انتقض عهده وحل دمه وماله وهو ظاهر كلام الخرقي؛ ولأنه عقد بشرط فمتى لم يوجد الشرط زال حكم العقد كما لو امتنع من التزام الأحكام فإنه إذا امتنع منها وقد حكم بها حاكم أو من ترك الجزية انتقض عهده من غير خلاف في المذهب وفي معناهما قتالهم للمسلمين منفردين أو مع أهل الحرب؛ لأن إطلاق الأمان لا يقتضي ذلك فإذا فعلوه نقضوا الأمان؛ لأنهم إذا قاتلوا لزمنا قتالهم وذلك ضد الأمان وبقية الشروط في بعضها روايتان وفي بعضها لا ينتقض عهدهم بمخالفتها بحال؛ لأنه لا ضرر فيها على مسلم ولا ينافي عقد الذمة سواء شرط عليهم أو لم يشرط, وقد روي أن عمر رضي الله عنه رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا فقال: ما على هذا صالحناكم وأمر به فصلب في بيت المقدس؛ ولأن فيه ضررا على المسلمين فأشبه الامتناع من بذل الجزية, وقال أبو حنيفة: لا ينتقض
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الجزية: حديث رقم 3048.

ونحوه أو الهرب إلى دار الحرب حل دمه وماله, ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب
ـــــــ
العهد إلا بالامتناع من الإمام على وجه يتعذر به أخذ الجزية منهم وما ذكرناه من حديث عمر حجة عليه.
مسألة: "ومن هرب منهم إلى دار الحرب حل دمه وماله"؛ قال الخرقي: ومن هرب من ذمتنا إلى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا؛ لأنه إذا فعل ذلك صار حكمه حكم أهل الحرب وحل دمه وماله كأهل الحرب, ومتى قدر عليه أبيح قتله وأسره وأخذ ماله كأهل الحرب سواء.
مسألة: "ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه إلا أن يذهب بهم إلى دار الحرب", وإنما لم ينتقض عهدهم لأن النقض إنما وجد منه ولم يوجد منهم فيبقون على العهد, ولا يحل سبيهم ولا التعرض لهم في المعنى فإن كانت ذريته معه لم تستبرئ لأن النقض إنما وجد منه دونهم.

كتاب القضاء
مدخل...
كتاب القضاءوهو فرض كفاية يلزم الإمام نصب من يكتفي به في القضاء ويجب على من يصلح له إذا طلب منه ولم يوجد غيره الإجابة إليه وإن وجد غيره فالأفضل تركه
ـــــــ
كتاب القضاء
مسألة: "وهو فرض كفاية يلزم الإمام نصب من يكتفي به في القضاء" ودليل أنه فرض كفاية أن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجبا عليهم كالجهاد والإمامة. قال أحمد: لا بد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟ وإنما ينصبه الإمام لأن أمره إليه وهو نائب عنه.
مسألة: "ويجب على من يصلح له إذا طلب منه ولم يوجد غيره الإجابة إليه" والناس في القضاء على ثلاثة أضرب: منهم من يجب عليه وهو من يصلح له ولا يوجد سواه فيتعين عليه؛ لأنه فرض كفاية لا يقدر على القيام به غيره فتعين عليه كغسل الميت وتكفينه وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين فإنه سئل: هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره؟ قال: لا يأثم فيحتمل أن يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه لما فيه من الخطر ويحتمل أن يحمل على ما إذا لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره فإن أحمد قال: لا بد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس؟ والأمر على ما قال. والضرب الثاني: من يجوز له ولا يجب عليه وهو أن يكون من أهل العدالة والاجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن يلي القضاء ولا يجب عليه؛ لأنه لم يتعين له وظاهر كلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه فيكون الأفضل له تركه لما فيه من الخطر والغرر؛ ولما في تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد والذم ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي له وقد أراد عثمان تولية ابن عمر القضاء فأباه. والضرب الثالث: من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه ولم تجتمع فيه شروطه, وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار" فذكر إلى إن قال: "ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار" 1.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الأحكام: حديث رقم 2315.

ومن شرطه أن يكون رجلا حرا مسلما سميعا بصيرا متكلما عدلا عالما ولا يجوز له أن يقبل رشوة
ولا هدية ممن لم يكن يهديه إليه
ـــــــ
مسألة: "ومن شرطه أن يكون رجلا حرا مسلما سميعا بصيرا متكلما عدلا عالما" فهي ثمانية شروط: الأول: كونه رجلا فتجتمع الذكورية والبلوغ؛ لأن الصبي لا قول له والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي ليست أهلا لحضور الرجال ومحافل الخصوم.
الثاني: أن يكون حرا لأن ذلك من أوصاف الكمال ولأن العبد مختلف في قبول شهادته. الثالث: أن يكون مسلما لأن الكفر ينافي العدالة ولا خلاف في اعتبار الإسلام. الرابع: أن يكون سميعا يسمع الإقرار من المقر والإنكار من المنكر والشهادة من الشاهد. الخامس: أن يكون بصيرا ليعرف المدعي من المدعى عليه والمقر من المقر له والشاهد من المشهود عليه. السادس: أن يكون متكلما لينطق بالفصل بين الخصوم. السابع: أن يكون عدلا فلا يصح أن يكون فاسقا؛ لأنه لا يكون شاهدا فأولى ألا يكون قاضيا. الثامن: أن يكون عالما مجتهدا ليحكم بالعلم؛ لقوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 1, ولم يقل بالتقليد وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 2, وروى بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل جار في الحكم فهو في النار". رواه ابن ماجه3؛ ولأن الحكم آكد من الفتيا لأنه فتيا وإلزام ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحاكم أولى.
مسألة: "ولا يجوز له أن يقبل رشوة ولا هدية" وذلك أن الرشوة في الحكم حرام بلا خلاف. قال الله سبحانه: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} 4, قال الحسن وسعيد بن جبير في تفسيره: هو الرشوة, وقال مسروق: إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت وإذا قبل الرشوة بلغت به الكفر. وقد روى عبد الله بن عمر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي, قال الترمذي: حديث حسن صحيح5, ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم, ورواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد: "والرائش", والرائش: السفير بينهما؛ ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو ليوقف الحق عنه وذلك من أعظم الظلم. قال كعب: الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم.
مسألة: "ولا" يقبل "هدية ممن لم يكن يهدي إليه" يعني قبل ولايته؛ ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها ليتوصل إلى ميل الحاكم معه على خصمه. فأما إن كانت بينهما مهاداة متقدمة جاز قبولها منه بعد الولاية لأنها لم تكن من
ـــــــ
1 - سورة المائدة: الآية 49.
2 - سورة النساء: الآية 59.
3 - سبق تخريجه.
4 - سورة المائدة: الآية 42.
5 - رواه الترمذي: في كتاب الأحكام: ب 9.

ولا الحكم قبل معرفة الحق فإن أشكل عليه شاور فيه أهل العلم والأمانة ولا يحكم وهو غضبان, ولا في حال يمنع استيفاء الرأي
ـــــــ
أجل الولاية, وذكر القاضي أنه يستحب له التنزه عنها أيضا إلا أن يخشى أن يقدمها بين يدي حكومة أو تكون في حال الحكومة فإنه يحرم أخذها في هذه الحال لأنها كالرشوة.
مسألة: "ولا" يجوز له "الحكم قبل معرفة الحق" لأن الله سبحانه قال: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} 1, ومن لم يعرف الحق كيف يحكم به؟
مسألة: "فإن أشكل عليه شاور فيه أهل العلم والأمانة" لقوله سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 2. قال الحسن: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لغنيا عن مشاورتهم وإنما أراد أن يستن بذلك الحاكم بعده, وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وفي لقاء الكفار يوم بدر, وروي: ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشاور أبو بكر الناس في الجدة وشاور عمر في دية الجنين ولا مخالف في استحباب ذلك؛ ولأنه قد ينتبه بالمشاورة ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة, وقد ينتبه لإصابة الحق ومعرفة الحادثة من هو دون القاضي فكيف من يساويه, وقال أحمد: لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما, ولما ولي محارب ابن دثار قضاء الكوفة كان يجلس بين الحكم وحماد يشاورهما وما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون وينتظرون.
مسألة: "ولا يحكم وهو غضبان" لا نعلم بين أهل العلم خلافا في ذلك, وكتب أبو بكرة إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان". متفق عليه3.
مسألة: "ولا" يحكم "في حال يمنع استيفاء الرأي" فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى: إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس, وفي معنى الغضب كل ما يشغل فكره: من الجوع المفرط والعطش الشديد والوجع المزعج ومدافعة الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح فهذه كلها تمنع استيفاء الرأي الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب, فهي في معنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه.
ـــــــ
1 - سورة ص: الآية 26.
2 - سورة آل عمران: الآية 159.
3 - رواه البخاري في الأحكام: حديث رقم 7158. ومسلم في الأقضية: حديث رقم 16.

ولا يتخذ في مجلس الحكم بوابا ويجب العدل بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس والخطاب.
ـــــــ
مسألة: "ولا يتخذ في مجلس الحكم بوابا" لأنه ربما منع صاحب الحاجة من الدخول عليه.
مسألة: ويعدل "بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس والخطاب" وروى عمر بن شيبة في كتاب القضايا بإسناده عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الأخر". وفي رواية: "فليسو بينهم في النظر والمجلس والإشارة", وفي كتاب عمر إلى أبي موسى: واس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع الشريف في حيفك؛ ولأن الحاكم إذا ميز أحد الخصمين على الآخر حصر وانكسر وربما لم يقم حجته فأدى ذلك إلى ظلمه, إذا ثبت هذا فإنه يجلس الخصمين بين يديه؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم, رواه أبو داود1؛ ولأن ذلك أمكن للحاكم في الإقبال عليهما والنظر في خصومتهما.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأقضية: حديث رقم 3582.

باب صفة الحكم
إذا جلس إليه الخصمان فادعى أحدهما على الآخر لم تسمع الدعوى إلا محررة تحريرا يعلم به المدعى عليه فإن كان دينا ذكر قدره وجنسه, وإن كان عقارا ذكر موضعه وحده وإن كان عينا حاضرة عينها وإن كانت غائبة ذكر جنسها
ـــــــ
باب صفة الحكممسألة: "وإذا جلس إليه الخصمان فأدعى أحدهما على الآخر لم يسمع الدعوى إلا محررة تحريرا يعلم به المدعى عليه"؛ لأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه فإن اعترف به ألزمه ولا يمكنه أن يلزمه مجهولا, وإذا ثبت هذا "فإن كان" المدعى أثمانا فلا بد من "ذكر" الجنس والنوع فيقول عشرة دنانير مصرية, وإن كان عينا تنضبط بالصفة كالحبوب والثياب والحيوان فلا بد من ذكر الصفات التي تشترط في السلم, وإن كان المدعى تالفا مما له مثل ادعى المثل وضبط بصفته, وإن كان مما لا مثل له ادعى قيمته لأنها تجب بتلفه, "وإن كان" المدعى "عقارا ذكر موضعه وحده" وأنه في يده ظلما وأنا أطالبه برده علي "وإن كان المدعى عينا حاضرة عينها" بالإشارة إليها "وإن كانت غائبة ذكر" بيان "جنسها

وقيمتها ثم يقول لخصمه: ما تقول؟ فإن أقر حكم للمدعي وإن أنكر لم يخل من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون في يد أحدهما فيقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: نعم وأقامها حكم له بها وإن لم تكن له بينة قال: فلك يمينه فإن طلبها استحلفه وبرئ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه". وإن نكل عن اليمين وردها على المدعي استحلفه وحكم له
ـــــــ
وقيمتها" لما ذكرناه فإن لم يحسن المدعي تحرير الدعوى فهل للحاكم تلقينه تحريرها؟ يحتمل وجهين: أحدهما يجوز لأنه لا ضرر على خصمه في ذلك, والثاني: لا يجوز لأن فيه إعانة أحد الخصمين في حكومته.
مسألة: "ثم يقول لخصمه: ما تقول" فإنه يجوز للحاكم أن يسأل خصمه الجواب قبل أن يطلب منه المدعي ذلك؛ لأن شاهد الحال يدل عليه لأن إحضاره والدعوى إنما تراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد أغنى ذلك عن سؤاله فعند ذلك يقول الحاكم للمدعى عليه: ما تقول فيما يدعيه؟ "فإن أقر حكم للمدعي" إن سأله المقر له وإن لم يسأله لم يحكم به لأن الحكم عليه حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة. فأما إذا سأله فقال: احكم لي فإنه يحكم له حينئذ, والحكم أن يقول: قد ألزمتك ذلك أو قضيت عليك له أو يقول: أخرج له منه فيكون ذلك حكما عليه.
مسألة: "وإن أنكر لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون في يد أحدهما" يعني العين المدعاة فيقول الحاكم "للمدعي: ألك بينة"؟ لما روي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم حضرمي وكندي فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي فليس له فيها حق, فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: "ألك بينة؟", قال: لا. قال: "فلك يمينه". وهو حديث صحيح. "وإن قال: نعم" لي بينة "وأقامها حكم له بها" بدليل الحديث؛ ولأن البينة كالإقرار إذا لو أقر حكم عليه. "وإن لم يكن له بينة قال" له: "فلك يمينه" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي وليس للحاكم أن يستحلفه قبل مسألة المدعي لأن اليمين حق له فلم يجز استيفاؤها من غير مسألة مستحقها كنفس الحق. وإن طلب إحلافه "استحلفه وبريء لقول" النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه".
مسألة: "وإن نكل عن اليمين" قضى عليه بنكوله لما روي أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبدا فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالما بعيبه, فانكر ابن عمر فتحاكما إلى عثمان فقال له عثمان: احلف أنك ما علمت به عيبا فأبى أن يحلف فرد عليه العبد؛ ولأن النبي

وإن نكل أيضا صرفهما, وإن لكل واحد منهما بينة حكم بها للمدعي فإن أقر صاحب اليد لغيره صار المقر له الخصم فيها وقام مقام صاحب اليد فيما ذكرنا
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم قال: "اليمين على المدعى عليه" 1, فحصرها في جنبته فلم تشرع لغيره, وعند أبي الخطاب لا يحكم بالنكول ولكن ترد اليمين على المدعى, وقال: قد صوبه أحمد, وقال ما هو ببعيد يحلف ويأخذ فيقال للناكل لك رد اليمين على المدعي, فإن ردها "على المدعي استحلفه وحكم له" وهو قول أهل المدينة روي عن علي رضي الله عنه لما روى نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق, رواه الدارقطني.
مسألة: "وإن نكل أيضا صرفهما" لأن يمين كل واحد منهما بطلت بنكوله عنها فقد أبطلا حجتهما باختيارهما فإن عاد أحدهما فبذل اليمين لم يسمعها في ذلك المجلس؛ لأنه أسقط حقه منها فإن عاد في مجلس آخر فاستأنف الدعوى أعيد الحكم بينهما كالأول فإن بذل اليمين حكم بها لأنها يمين في دعوى أخرى.
مسألة: "وإن كان لكل واحد منهما بينة حكم بها للمدعي" ببينته وتسمى بينة الخارج وبينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل وقد اختلف عن أحمد فيما إذا تعارضا فعنه تقدم بينة المدعي ولا تسمع بينة المدعى عليه بحال, وعنه تقدم بينة المدعى عليه بكل حال لأن جنبة الداخل أقوى بدليل أن يمينه تقدم على يمين المدعي فإذا تعارضت البينتان وجب تقديمه كما لو لم يكن لهما بينة, وعنه إن شهدت بينة الداخل بسبب الملك فقالت: نتجت في ملكه أو كانت أقدم تاريخا قدمت بينته؛ لأنها إذا شهدت بالسبب فقد أفادت ما لا تفيده اليد, وقد روي عن جابر بن عبد الله: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده, ووجه الأولى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي", فجعل جنس البينات في جنبة المدعي فلا يبقى في جنبه المنكر بينة؛ ولأن بينة المدعي أكثر فائدة بدليل أنها تثبت شيئا لم يكن, وبينة المدعى عليه إنما تثبت ظاهرا دلت اليد عليه فلم تكن مفيدة فوجب تقديم ما كان أكثر فائدة على غيره؛ ولأنه تجوز الشهادة بالملك لرؤية اليد والتصرف فجائز أن تكون مستند بينة اليد فصارت بمنزلة اليد المفردة فتقدم عليها بينة المدعي كما تقدم على اليد كما أن شاهدي الفرع لما كان مبنيين على شاهدي كذا ها هنا.
مسألة: "وإن أقر صاحب اليد لغيره صار المقر له الخصم فيها وقام مقام صاحب اليد في كل ما ذكرنا".
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الرهن: حديث رقم 2514. ومسلم في الأقضية: حديث رقم 1, 2.

الثاني: أن تكون في يديهما فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها وإن لم يكن لواحد منهما بينة أو لهما بينتان قسمت بينهما وحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به وإن ادعاها أحدهما وادعى الآخر نصفها ولا بينة قسمت بينهما واليمين على مدعي النصف وإن كانت لهما بينتان حكم بها لمدعي الكل
ـــــــ
"الثاني: أن تكون" العين "في يديهما فإن كانت لأحدهما بينة حكم له بها"؛ لأنها كالإقرار لا نعلم في ذلك خلافا.
مسألة: "وإن لم يكن لواحد منهما بينة حلف كل واحد منهما" لصاحبه وجعله بينهما نصفين؛ لأن كل واحد منهما يده على نصفها, والقول قول صاحب اليد مع يمينه, وإن نكلا عن اليمين قضى عليهما بالنكول وجعلت بينهما نصفين لكل واحد منهما النصف الذي كان في يد صاحبه, وإن نكل أحدهما وحلف الآخر قضى له بجميعها.
مسألة: "وإن أقام كل واحد منهما بينة وتساويا تعارضت البينتان وقسمت العين بينهما نصفين"؛ لما روى أبو موسى الأشعري: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين, ذكره ابن المنذر ورواه أبو داود1, وقال أبو الخطاب: وفيه رواية أخرى يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف أنها له لا حق لغيره فيها وكانت العين له كما لو كانت في يد غيرهما. قال الخرقي: ويحلف "كل واحد منهما على النصف المحكوم له به"؛ ولأن البينتين لما تعارضتا -من غير ترجيح- وجب إسقاطهما كالخبرين إذا تعارضا؛ ولأنه لا يمكن الجمع بينهما لتنافيهما ولا تتعين إحداهما لأنه تحكم لا دليل عليه فلم يبق إلا إسقاطهما ولكل واحد منهما النصف الذي يده عليه مع يمينه كما لو لم تكن بينة, وعنه أن العين تقسم بينهما من غير يمين لظاهر الحديث الذي رويناه؛ ولأننا قد قررنا أن بينة الخارج مقدمة وكل واحد منهما داخل في نصف العين خارج في نصفها الآخر فتقدم بينة النصف للذي في يد صاحبه ولا يحتاج إلى يمين وتقدم بينة صاحبه في النصف الآخر.
مسألة: "فإن ادعاها أحدهما وادعى الآخر نصفها ولا بينة قسمت بينهما واليمين على مدعي النصف"؛ لأن يده على النصف فالقول قوله فيه مع يمينه ويد مدعي الكل على النصف الآخر ولا منازع له فيه فيبقى في يده بغير يمين.
مسألة: "وإن كانت لهما بينتان حكم بها لمدعي الكل" لأنهما تعارضا في النصف
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأقضية: حديث رقم 3615.

الثالث: أن تكون في يد غيرهما وإن أقر بها لأحدهما أو لغيرهما صار المقر له كصاحب اليد وإن أقر لهما صارت كالتي في يديهما وإن قال لا أعرف صاحبها منهما ولأحدهما بينة فهي له وإن لم يكن لهما بينة أو لكل واحد منهما بينة استهما على اليمين فمن خرج سهمه حلف وأخذها.
ـــــــ
فيكون النصف لمدعي الكل بلا تنازع والنصف الآخر ينبني على الخلاف في أي البينتين تقدم وظاهر المذهب تقدم بينة المدعي فتكون الدار كلها للمدعي جميعها.
"الثالث: أن تكون في يد غيرهما فإن أقر بها لأحدهما أو لغيرهما صار المقر له كصاحب اليد" وقد مضى الكلام فيه "وإن أقر لهما صارت كالتي في يديهما" وقد مضت.
مسألة: "وإن قال: لا أعرف صاحبها منهما ولأحدهما بينة فهي له" ببينته لما سبق "فإن لم تكن لهما بينة أو لكل واحد بينة استهما على اليمين فمن خرج سهمه حلف وأخذها"؛ لما روى أبو هريرة أن رجلين تداعيا عينا ولم يكن لواحد منهما بينة فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها, رواه أبو داود1. ولأنهما تساويا في الدعوى وعدم البينة واليد والقرعة تميز عند التساوي كما لو أعتق عبيدا في مرض موته ولا مال له غيرهم, وذكر أبو الخطاب فيما إذا كان لكل واحد منهما بينة روايتين: إحداهما تسقط البينتان كما ذكرنا وقد سبق دليلها وحكمها, والرواية الثانية تستعمل البينتان: وفي كيفية استعمالهما روايتان: إحداهما تقسم العين بينهما, والثانية: تقدم بينة أحدهما بالقرعة ووجه الأولى ما روى أبو موسى: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير فأقام كل واحد منهما البينة أنه له فقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما نصفينب2. وإذا قلنا يقرع بينهما فوجهه ما رواه الشافعي رفعه إلى ابن المسيب: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة فأسهم بينهما, والصحيح في المذهب أنه يقرع بينهما فمن خرجت القرعة له حلف وسلمت إليه وهو دليل على أن البينتين سقطتا لإيجابنا اليمين كمن وقعت له القرعة, ووجهه أن البينتين حجتان فإذا تعارضتا على وجه لا ترجح إحداهما على الأخرى سقط الاحتجاج بهما كالخبرين إذا تعارضا. وأما حديث ابن المسيب فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم استحلفه وإن لم يكن مذكورا في الحديث فليس بمنفي, وأما حديث أبي موسى فيحتمل أن الشيء كان في أيديهما فأسقط البينتين وقسمه بينهما على أنه روي في الحديث ولا بينة لهما.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأقضية: حديث رقم 3616.
2 - سبق تخريجه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6