كتاب : شرح العمدة في الفقه
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وما سواه أحمر عملت بذلك بلا شبهة لما روت عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت يا رسول الله إني استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال إنما ذلك دم عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنه الدم وصلي رواه الجماعة إلا ابن ماجة
وعن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضأي وصلي فإنما هو عرق رواه أبو داود والنسائي ولأنه خارج يوجب الغسل فيرجع إلى صفته عند الإشكال كالمني المشتبه بالمذي وكان أولى من العادة لأنه علامة في تميز الدم حاضرة والعادة علامة منقضية والأول أصح لما ورت عائشة رضي الله عنها أن أم حبيب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الدم قال لها امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي فكانت تغتسل عند كل صلاة رواه مسلم
وعن القاسم عن زينب بنت جحش أنها قالت للنبي صلى الله عليه و سلم إنها مستحاضة فقال تجلس أيام أقرائها ثم تغتسل وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل وتصلي وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل وتصليهما جمعيا وتغتسل للفجر رواه النسائي وعن أم سلمة أنها

استفتت رسول صلى الله عليه و سلم في امرأة تهراق الدم فقال لتنظر قدر الأيام والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر فتدع الصلاة ثم تغتسل ولتستغر ثم تصلي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وعن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم لامرأة فسد حيضها واهريقت دما لا تدري ما تصلي قالت فأمرني أن آمرها فلتنتظر قدر الليالي والأيام ثم لتدع الصلاة فيهن وتقدرهن ثم تغتسل وتحسن طهرها ثم لتستثفر ثم تصلي رواه أبو داود ولأن العادة طبيعة ثابتة فوجب الرد إليها عند التغير لتمييز دم الجبلة من دم الفساد ولأن الاستحاضة مرض وفساد والفاسد هو ما خرج من عادة الصحة والسلامة ولهذا يستدل على سقم الأعضاء بخروجها عن عادتها وقدمنا العادة على التمييز لأن النبي صلى الله عليه و سلم أفتى به في قضايا متعددة ولو كان العمل بالتمييز مقدما لبدإ به ولأنه لم يستفصل واحدة منهم عن حال دمها وترك الاستفصال يوجب عدم الجواب لجميع صور السؤال ولأنه يبعد أن لا يكون فيهن مميزة ولأن الدم الموجود في العدة هو حيض في غير المستحاضة بكل حال فكذلك في المسحتاضة بخلاف الدم الأسود ولأن الدم الزائد على العادة حادث مع الاستحاضة فكان استحاضة كما زاد على أكثر الدم وهذا لأن الحكم إذا حدث وهناك سبب صالح له أضيف إليه ولأن الدم الأسود إن كان أقل من العادة فالصفرة والكدرة في زمن العادة حيض وإن كان أكثر فلا دليل على أنه حيض لاحتمال أن يكون استحاضة ولأن المشهور عندنا أن الدم إذا تغير أول مرة عن حاله لا يلتفت إليه حتى يتكرر فيصير عادة في المبتدأة والمعتادة مع أنه صالح لايكون حيضا فلئن يعمل بالعادة المتقدمة

مع الاستحاضة أولى وأما حديث فاطمة فقد روت عائشةBها أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت إني استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال لا إن ذلك دم عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي رواه البخاري فقد ردها تارة إلى التمييز وتارة إلى العادة والله أعلم أنه أمرها بالعادة أولا فلم يقطعها فأمرها بالتمييز كذلك قال الإمام أحمد أنها نسيت أيامها وقد تقدم ذكر العادة التي يرجع إليها وإنها لا تثبت إلا بثلاث في ظاهر المذهب وتثبت العاد بالتمييز فإذا رأت دما أسود خمسة أيام في ثلاثة أشهر وما فيه دم أحمد متصل وهي مبتدأة أو ناسية ثم صار دما مبهما فإنها تجلس زمن الدم الأسود ولكن لاهل تقدم هذه العادة على التمييز بعدما أثبتنا التمييز بأول مرة على وجهين مثل أن ترى في الشهر الرابع خمسة أحمد ثم أسود وثلاثة أحمر ثم أسود فقيل حيضها من أول الأسود قدر عادتها لأن الأسود يمنع الأحمر قبله أن يكون حيضا لأن التمييز أصل هذه العادة فيكون أقوى منها وقيل حيضها من الأحمر لأنه صادف زمان العادة ومن أصلنا أن العادة مقدمة على التمييز

فصل
والعادة على قسمين متفقة ومختلفة فالمتفقة أن يكون أربعة أيام مثلا من أول يوم كل شهر فيعمل بها وأمال المختلفة فعلى قمسين مضبوطة وغير مضبوطة فالمضبوطة إن كانت علي ترتيب مثل أن تحيض في الشهر الأول ثلاثة وفي الثاني أربعة وفي الثالث خمسة ثم تحيض ثلاثة ثم أربعة ثم خمسة فإذا استحيضت قعدت هكذا علي الترتيب فتجلس في شهر

الاستحاضة بقدمر يومين ثم تبني على ذلك فإن ليم تعلم شهر الاستحاضه جلست اليقين وهو ثلاثة واغتسلت عقيبها غسلا واحدا في أحد الوجهين وفي الثاني تجلس أكثره لأن هذه متحبرة فتجلس أغلب عادات النساء أو أكثر الحيض في رواية لكن هنا لا يجوز أن يراد على أكثر عادتها لأنه ليس حيضا بيقين ولا يلزمها إلا غسل واحد كالمتميزة
وكذلك إن كان شيئا مضبوطا معتادا على غير ترتيب مثل أن تحيض في أول شهر خمسة وفي الثاني ثلاثة وفي الثالث أربعة وتسمى العادة الدائرة وأما التي ليست مضبوطة مثل أن تحيض تارة ثلاثة وتارة خمسة وتارة أربعة أو أقل أو أكثر ولا يتسق على نظام فإنها تجلس الأقل المتفق عليه لأنه عادة بيقين والزائد مشكوك فيه ولو نقصت عادتها كمن عادتها عشرة فرأت سبعة وطهرت فإنها طاهر فإذا استحيضت في الشهر الآخر جلست السبعة لأنها هي العادة القريبة ولأن الثلاثة طهر متيقن في الشهر الذي يعقبه شهر الاستحاضة فلم يكن حيضا كما زاد على العادة
فصل
فإن تغيرت العادة بتقدم أو تأخر أوزيادة لم تجاوز أكثر الحيض مثل أن يكون حيضها عشرة أيام في أول الشهر فترى الحيض قبلها أو بعدها أو أكثر منها لم تلتفت إلى ذلك في المشهور من المذهب حتى يتكرر ثلاثا أو مرتين بل يكون مشكوكا فيه تصوم وتصلي وتقضي الصوم إن تكرر على معنى واحد فإن يئست قبل ذلك وانقطع حيضها تقتضيه كطهر المستحاضة المشكوك فيه وقيل تقتضيه كصوم النفاس المشكوم فيه ولا يقربها زوجها وتغتسل عند انقطاع الدم في آخر العادة إن كان في أثر العادة كما قلنا في المبتدأ لأن هذا الدم بمنزلة ما زاد على أقل الحيض وأولى

وقد روى عنه ما يدل على أنه حيض ما لم يجاوز أكثر الحيض لما ذكره البخارى في صحيحه إن نساءكن يبعثن إلي عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة فتقول لا تعجلن حتى ترين العصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة فاعتبرت حصول النقاء الخالص ولم تأمرهن بالعادة وعن فاطمة بنت المنذر قالت كنا في حجر جدتي أسماء بنات بنتها فكانت إحدنا تطهر من الحيضة ثم لعل الحيضة تنكسها بالصفرة فتأمرنا أن نعتزل الصلاة ما رأيناها حتى لا نرى إلا البياض خالصا رواه سعيد ولأن الأصل في الدم الخارج أن يكون دم حيض لأن دم الاستحاضة دم مرض وفساد
ووجه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهرة إنما هو عرق أو قال عروق رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وقالت أم عطية كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا رواه أبو داود وهذا يدل على أن الزائد على الطهر المعتاد ليس بحيض ولأنه دم زائد على العادة فلم يثبت حتى يميز بالتكرار كالزائد على العادة في حق الاستحاضة وهذا لآن الصلاة ثابتة في ذمتها بيقين وخروجه على العادة يورث الشك فيه فوجب الاحتياط فيه فأما إن نقص عن العادة فإن الطهر يثبت بذلك لأن الطاهر لا تكون حائضا قط وعلى ذلك يحمل حديث عائشة وأسماء لأن الطهر قبل كمال العادة طهر

صحيح إذا رات النقاء الخالص فإن الصفرة والكدرة في العادة حيض ويدل على ذلك ما روى حرب عن عائشة قالت إذا رأت بعد الغسل صفرة أو كدرة توضأت وصلت

فصل
أما التمييز فمن شرطه أن لا يزيد الدم الأسود على أكثر الحيض ولا ينقص عن أقله وأن لا ينقص الأحمر عن أقل الطهر ولا بد فيه من اختلاف لون الدم فتكون أقراءه هو الحيض والباقي استحاضة فإذا رأت خمسة اسود وخمسة أحمر وخمسة أصفر فالأسود هو الحيض والأحمر والاصفر استحاضة ولا يشترط في الرجوع إلى التمييز تكرره في اقوى الوجهين وهذا ظاهر كلام أحمد بل نصه وهو قول القاضي في بعض المواضع وابن عقيل وغيرهما وفي الآخر لا بد من تكرره كالعادة وهو قول القاضي في بعض المواضع والآمدي وغيرهما لا سيما إذا قدمنا العادة عليه فلو رأت المبتدأة في أول كل شهر خمسة أسود والباقي أحمر فالحيض أيام الدم الأسود على الوجه الأول لكن أول مرة تجلس يوما وليلة لأن استحاضتها لم تكن معلومة ثم في الشهر الثاني تجلس الدم الأسود كله وتقضي ما فعلته في مدة الدم الأسود أول مرة من صيام وطواف واعتكاف وعلى الوجه الثاني تجلس يوما وليلة ثلاث مرات على المشهور من الروايتين فإن تكرر بمعنى واحد صار عادة فتجلس الخمسة في الشهر الرابع أو الثالث على اختلاف الوجهين سواء كان دمها أوسود أو احمر لأنه زمن عادة فتقدم على التمييز ولو رأت المبتدأة خمسة أيام أحمر ثم اسود ولم يجز الأسود أكثر الحيض فحيضها زمن الدم الاسود ولا يضره تقدم الأحمر عليه كما لا يضر زمن العادة تقدم دم آخر عليها وعلى قولنا أن التمييز لا يفتقر إلى تكرار وإن قلنا يفتقر إلى تكرار فإنها تجلس يوما وليلة أو ثلاثة وإن جاوز أكثر الحيض

فقيل تحيض من أول الدم الاحمر لأنه ليس لها تمييز صحيح فكانت كمن اتفق لون دمها وقيل تحيض من أول الدم الأسود لأنه أشبه تكون دم الحيض ولو كان الأحمر المتقدم أكثر من الطهر الكامل بقدر حيضة مثل أن تكون ستة عشر يوما وباقي الشهر أسود فعلى وجهين أحدهما تحيض من اول الأسود كالتي قبلها والثاني تحيض من أول الأحمر يوما وليلة وتحيض الاسود لأنه يمكن أن يكونا حيضتين
قال القاضي ولا تحيض على هذا أكثر من يوم وليلة رواية واحدة لأنها لو حيضت غالب الحيض ونحوه لنقص ما بين الحيضتين عن أقل الطهر وهو يفتقر بحيضها من أوله إلى تكرره على وجهين ولو كان الأحمر مع الأسود أكثر من شهر فقيل ليس لها تمييز صحيح لأن الغالب أن في كل شهر حيضة وطهرا فإذا خالف التمييز الغالب ضعف والصحيح أنه تمييز صحيح كما لو كان زمنه أكثر من غالب الحيض
فصل
والأحمر كالأسود في غير المستحاضة لأنه دم مثله وقيل يعتبر السواد في حق المبتدأة فلا تكون بالغة بالأحمر لقول النبي صلى الله عليه و سلم دم الحيض أسود يعرف ولأن المبتدأة لا عادة لها فيكون السواد دليل الحيضة والأول هو المشهور لأن الأحمر إذا جاء في العادة بدل الأسود كان حيضا فإذا لم يخالف صفة متقدمة فهو أولى بذلك بخلاف الصفرة والكدرة فإنه لا تجيء الحيضة منها وحدها قط فأما الصفرة والكدرة فهي في زمن العادة حيض يتقدمها حمرة وسواد أو لم يتقدمها وفيما خرج عن العادة ليست بحيض تكررت منها أو لم تتكرر بل يكفي فيها الوضوء

وعنه ما يدل على أنها إن تكررت كانت حيضا واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل لأنها بالتكرر تصير كما لو كانت في العادة بخلاف ما تراه بعد الطهر فإنها لا تلتفت إليه لو كان دما ولأن الصفرة والكدرة من ألوان الدم فأشبه السواد والحمرة وقد روى عن أسماء بنت أبي بكر ما يشبه ذلك ووجه الأول قوله في التي ترى ما يريبها بعد الطهر إنما هو عرق أو عروق وقالت أم عطية كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئا رواه البخاري وفي لفظ لأبي داود بعد الطهر وهذا يبين أنه قبل الطهر حيض
كما رواه احمد عن عائشة إن نساءكن يرسلن بالدرجة فيها الشيء من الصفرة إليها فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء قال أحمد القصة شيء يتبع الحيضة أبيض لا يكون فيه صفرة ولا كدرة وقال أيضا تدخل القطنة فتخرج عليها نقطة بيضاء تكون على أثر الدم هي علامة الطهر وقال في رواية أخرى القصة البيضاء إذا استدخلت القطنة فخرجت بيضاء ليس عليها شيء وكذلك قال الأزهري
والقصة بضم القاف القطنة التي تحشوها المرأة فإذا خرجت بيضاء لا تغير عليها فهي القصة ورواه البخاري عن عائشة قالت في الصفرة

والكدرة إذا كانت واصلة بالحيض فهي بقية من الحيض لا تصلي حتى ترى الطهر الأبيض وإذا رأت الطهر الأبيض ثم رأت الصفرة والكدرة بعد ذلك فإنما تلك الترية تتوضأ وتصلي
قال اسحاق بن راهوية إذا رأت الطهر الأبيض ثم رأت صفرة أو كدرة مستلزما بحيضها في أيام أقرائها فذلك حيض كله
قال ولا اختلاف بين أهل العلم في ذلك وروى حرب عن عائشة قالت إذا رأت بعد الطهر صفرة أو كدرة توضأت وصلت وإن رأت دما أحمر اغتسلت وصلت وهذا يبين أن حكمه مخالف لحكم الدم الأحمر تكرر أو لم يتكرر ولأنه عدم اللون والعادة فضعف كونه حيضا وهو وحده لا يكاد يتكرر وإن فرض ذلك فهو نادر ولو رأت المبتدأة صفرة أو كدرة لم تلتفت اليه لما تقدم وقد روى ذلك عن عائشة وقال القاضي وغيره تجلسه بناء على أن اليوم والليلة للمبتدأة كالعادة للمعتادة وبنى على هذا بعض أصحابنا أنها لو رأت الصفرة والكدرة خارج العادة كان حكمها حكم الدم العبيط في أنها تحسبها حيضا على رواية لما روي عن أسماء
والأول هو المنصوص عنه اذ الصفرة والكدرة ليست بنفسها حيضا لا سيما إذا وردت على طهر متيقن

مسالة وإذا كانت مبتدأة أو ناسية لعادتها فحيضها من كل شهر ستة أيام أو
سبعة لأنه غالب عادات النساء

ظاهر المذهب أن من لا عادة لها لا تمييز تحيض غالب حيض النساء ستا أو سبعا سواء كانت مبتدأة أو ناسية لعادتها وعنه أنها تحيض أقل الحيض لأن ما زاد على ذلك يحتمل الحيض والاستحاضة والصلاة ثابتة في ذمتها بيقين فلا تتركها بالشك لا سيما ومن أصلنا أنا نحتاط بذلك قبل الاستحاضة بقي حال الاستحاضة أولى
وعنه في المبتدأة أنها تحيض أكثر الحيض لأن الأصل في الخارج أن يكون دم حيض فتعمل بذلك ما لم تتيقن كونه استحاضة ولا تتيقن ذلك إلا بمجاوزة الأكثر وعنه أنها تحيض مثل حيض نسائها من أمها وأختها وعمتها وخالتها لأن اشتراك الأقارب في الأمور العادية والقوى الطبيعية أقرب ثم خرج القاضي في الناسية مثل هاتين الروايتين لأنها مستحاضة لا عادة لها ولا تمييز وامتنع غيره من التخريج تفريقا بينهما بأن حيضها أكثر الحيض أو ما زاد على غالب عادات النساء يفضي إلى المشقة عليها إذا انكشف الأمر وذكرت العادة لأنها تقضي حينئذ ما تركته من الصلوات بخلاف المبتدأة فإنه لا يرجى انكشاف حيضها والأول أصح لما روت حمنة بنت جحش أنها قالت يا رسول الله إني استحضت حيضة كبيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصيام فقال أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم قالت هو أكثر من ذلك قال فاتخذي ثوبا قالت هو أكثر من ذلك قال فتلجمي قالت إنما أثج ثجا فقال سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر فإن قويت عليهما فأنت أعلم فقال لها إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزيك وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعا ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الفجر وتصلين فكذلك فافعلي وصلي وصومي إن قدرت على ذلك وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا أعجب الأمرين إلي رواه احمد

وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وكذلك صححه الإمام أحمد
وفي لفظ لأحمد وابن ماجة تلجمي وتحيضي في كل شهر في علم الله ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي غسلا وصلي وصومي ثلاثا وعشرين أو أربعا وعشرين وهذه المرأة لم تكن متميزة ولا معتادة إذ لو كانت كذلك لردها إليه ولم تكن مبتدأة لأنها كانت تعجوزا كبيرة قد حاضت قبل ذلك هكذا قال الإمام أحمد واسحاق ثم لم يسألها هل حاضت قبل ذلك أو لم تحض ولو اختلف الحال لسألها ولأن الست أو السبع أغلب الحيض فيلحق المشتبه بالغالب إذ الأصل الحاق الفرد بالأعم الأغلب دون النادر
فصل
والتخيير بين الست والسبع تخير تحر واجتهاد فأيهما غلب على قلبها أنه أقرب إلى الصواب فعلته وجوبا في أحد الوجهين لظاهر قوله حتى إذا رأت أن قد طهرت واستنقأت ولئلا تكون مخيرة في اليوم السابع بين كون الصلاة واجبة أو غير واجبة وفي الثاني تخير إرادة ومشيئة فأيهما شاءت فعلت على ظاهر لفظ أو

فصل
الناسية ثلاثة أقسام أحدها المتحيرة وهي الناسية للعدد والوقت فتحيض ستة أيام أو سبعة كما تقدم في المشهور ثم إن علمت شهرها وهو الزمان الذي لها فيه طهر وحيض مثل أن تقول كنت أحيض في كل شهر حيضه لا أعلم قدرها ولا وقتها جعلنا ذلك شهر حيض لها في كل شهر هلالي ثم إن ذكرت زمن افتتاح الدم مثل أن ينقطع عنها الدم مدة ثم يعود ويستمر بها فإنها تجلس من حين عودة في أظهر الوجهين كأنه عادة في خامس الشهر فتجلس من كل شهر في خامسه المدة المضروبة والوجه الثاني تجلسه بالتحري كغيرها وإن لم تذكر افتتاح الدم وطال عهدها به جلست من أول كل شهر في أحد الوجهين وفي الآخر تجلسه بالتحري قاله أبو بكر وابن أبي موسى وهو أصح لأن التحري هنا طريق ولا يعارضه غيره بخلاف الصورة الأولى فإن أول الدم أحق أن يكون حيضا من آخره فإن لم يغلب على ظنها شيء جلست من أول الشهر وجها واحدا لأن قول النبي صلى الله عليه و سلم للمستحاضة تحيضي في علم الله ستا أو سبعا في كل شهر ثم اغتسلي وصلي وصومي ثلاث وعشرين أو أربعا وعشرين دليل على أن الحيض قبل الطهر وأنه محسوب من أول الشهر
الثانية أن تكون ناسية لعادتها ذاكرة لوقتها مثل أن تقول كنت أحيض في العشر الأول من الشهر ولا أعلم عدده فتجلس ستا أو سبعا في المشهور من أول العشر في أحد الوجهين وبالتحري في أقواهما وإن قالت أعلم إني كنت في أول الشهر حائضا ولا أعلم آخر الحيض حيضناها ذلك اليوم وما بعد وإن قالت كان آخر الشهر آخر حيضتي حيضناها ذلك اليوم وما قبله وإن قالت كنت في أول الشهر حائضا لا ادري هل كان أول حيضي أو آخره حيضناها ذلك اليوم وما بعده في أحد الوجهين وفي الآخر تتحرى فيما قبله وما بعده كما تقدم

الثالثة أن تكون ذاكرة لعددها دون وقتها فإن لم تحدد لها وقتا أصلا كأن تقول حيضي خمسة أيام لا أدري متى هي فإنها تحيض الخمس من أول الشهر في أحد الوجهين وفي الآخر تتحرى لوقتها وشهرها إن عرفته عمل به وإن لم تعرفه فهو الشهر الغالب للنساء وهو ثلاثون يوما وإن علمت لها وقتا مثل أن تقول حيضتي في العشر الأول أو في النصف الأول وهي خمسة أيام ولا أعلم عينها فهذه كل زمان تيقنت فيه الطهر فهي طاهر وكل زمان تيقنت فيه الحيض فهي حائض وكل زمان اشتبه عليها فإنها تجلس منه قدر عادتها إما بالتحري أو من أوله وطريق معرفة ذلك أنها إذا تيقنت الحيض في أيام فإن كانت أيام الحيض بقدر تلك الأيام أو اقل جاز أن يكون في أول تلك الأيام وجاز أن يكون في آحرها فليس هنا حيض متيقن ولا طهر متيقن فتجلس قدر الحيض أما من أول تلك الأيام أو بالتحري وإن كان الحيض أكثر من نصف تلك الأيام فالزائد على النصف ومثله من وسط تلك الأيام حيض بيقين لا بد في أي وقت فرضت ابتداء الحيض فلا بد أن يدخل الوسط فيه مثال ذلك أن تقول كنت أحيض سبعة أيام من العشر الأول فإن الأربعة الوسطى حيض بيقين وهي الرابع والخامس والسادس والسابع لأنها داخلة في زمن الحيض على كل تقدير والثلاث الباقية من حيضها تجلسها إما من أول الشهر أو بالتحري على اختلاف الوجهين وهي حيض مشكوك فيه وتبقى الثلاثة الأخر وهي طهر مشكوك فيه وإن قالت حيضي عشرة من النصف الأول من الشهر فإن الزائد على النصف إذا أضافته كان خمسة أيام فهذه الخمس الوسطى حيض بيقين والخمس الأول والأواخر مشكوك فيها فتجلس إحدى الخمستين بالتحري أو الأقل منهما

فصل
والطهر في أثناء الحيضة طهر صحيح إذا رأت النقاء الخالص بحيث لا يتغير لون القطنة إذا احتشت بها وإن كانت أقل من يوم في المشهور عنه وعنه أن ما دون اليوم لا يلتفت إليه كالفترات واللحظات وما لم تر فيه القصة البيضاء وعنه أنه ليس الطهر في أثناء الحيضة بطهر صحيح بل حكمه حكم الدم لأن دم الحيض يستمسك مرة وينقطع أخرى وليس بدائم الجريان فلو كان وقت الانقطاع طهر لم تسقط عنها الصلاة بحال ولأنه لو كان طهرا صحيحا كان ما قبله وما بعده حيض صحيح تام فتنقضي العدة بثلاث من هذا الجنس
والأول المذهب لقول ابن عباس في المستحاضة إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي فإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي رواه أبو داود ولأنه ليس جعل النقاء الخالص حيضا تبعا لما يتخلله من الدم في العادة فأما اللحضات التي يستمسك فيها دم الحيض فلا يحصل فيها النقاء الخالص ولا ترى معه القصة البيضاء فعلى هذا إذا رأت يوما دما ويوما طهرا ولم يجاوز مجموعها أكثر الحيض اغتسلت أيام النقاء وصلت وصامت وضمت النقاء إلى الدم فكان مجموعها حيضا بشرط أن لا ينقص عن أقل الحيض وأما إن جاوز أكثر الحيض فهي مستحاضة سواء حصل النقاء بعد أكثر الحيض أو اتصل الدم بأكثر الحيض وقال القاضي وإن لم تكن معتادة فإن النقاء في السادس عشر يفصل بين دم الحيض والاستحاضة لأن هذا الدم لم يتصل بدم فاسد ولا حالف عادة متقدمة فوجب أن يكون حيضا ووجه الأول أن

هذا الدم وإن لم يتصل بدم فاسد فلم يتصل بدم صحيح فعارض الأمران وكان كما لو اتصل بهما ولو اتصل بهما كان الجميع استحاضة فكذلك إذا انفصل عنهما وهذه تسمى الملفقة

مسألة
والحامل لا تحيض إلا أن ترى الدم قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس
أما الدم الذي تراه الحامل فإنه عندنا دم فساد لأن الله تعالى جعل دم الحيض غذاء للجنين فإذا خرج شيء فقد خرج على غير الوجه المعتاد قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الله قد رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم زرقا للولد وعن علي رضي الله عنه أنه قال إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم مما تغيض الأرحام رواهما أبو حفص ابن شاهين وروى الأثرم والدارقطني عن عائشة رضي الله عنهما في الحامل ترى الدم فقالت الحامل لا تحيض وتغتسل وتصلي فأمرتها بالغسل لأنها مستحاضة والمستحاضة يستحب لها الغسل ولأن الشرع جعل الحيض علامة على براءة الرحم من الحمل في العدة والاستبراء فلو جاز اجتماعهما لما كان علامة على عدمه ولإن طلاق الحائض محرم والطلاق بعد تبين الحمل جائز فلو كان الدم الذي تراه الحامل حيضا لما جاز الطلاق فيه لما يلزمه من تخصيص العمومات والخروج عن القياس فأما الذي تراه قبل الوضع بيومين أو ثلاثة فهو نفاس لأنه دم خارج بسبب الولادة فكان نفاسا كالخارج بعدها وهذا

لأن الحامل لا تكاد ترى الدم فإذا رأته قريب الوضع فالظاهر أنه بسبب الولد لا سيما إن كان قد ضربها المخاض وهذه اليومان والثلاثة وإن جعلناها نفاسا فليست من المدة بل أول المدة من حين الوضع لأن في الحديث كانت تقعد بعد نفاسها وفي الآخر كم تجلس النفساء إذا ولدت فأما إذا خرج بعض الولد فالدم قبل انفصاله محسوب من المدة وفيه وجه أنه لا يحسب حتى ينفصل جميعه

باب النفاس
وهو الدم الخارج بسبب الولادة وحكمه حكم الحيض
دم النفاس هو دم الحيض المحتقن في الرحم الفاضل من رزق الولد فلما خرج الولد تنفست الرحم فخرج بخروجه وحكمه حكم الحيض فيما يوجبه من الغسل ويحرمه من الوطء والعبادات ويسقطه من الصلاة لأنه هو دم الحيض فأما الولادة العرية عن الدم ففيها وجهان أحدهما يجب فيها الغسل لأنها مظنة خروج الدم غالبا فأقيمت مقامه كالوطء مع الإنزال والنوم مع الحدث وانتقال المني مع ظهوره والثاني لا يجب لأن وجوب الغسل هنا ليس بمنصوص ولا في معناه والحكمة هنا ظاهرة منضبطة فيجب تعليق الحكم بها دون المظنة ولأنه كان منيا فانعقد واستحال فلم يجب فيه غسل كالعلقة والمضغة
مسألة
وأكثره أربعون يوما
يعني أنها إذا رأت الدم أكثر من أربعين يوما لم تكن نفساء وحكي عنه أن أكثره ستون لأنه قد روي عن عطاء والأوزاعي أن ذلك وجد
والأول هو المذهب لما روت مسة الأزدية عن أم سلمة قالت كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعين يوما

وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف وفي لفظ تقعد بعد نفاسها رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي
قال الخطابي أثنى محمد بن اسماعيل على هذا الحديث
وعن أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه و سلم كم تجلس المرأة إذا ولدت قال تجلس أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك رواه الدارقطني وهذا يفسر الحديث الأول ويبين أن ذلك أمر من النبي صلى الله عليه و سلم إلا إن كان ذلك عادة النساء فإنه يستحيل في العادة اتفاق عادة أهل بلدة في النفاس ويكون ذلك بيان أقصى ما تجلسه وبيان ما تجتنب فيه زوجها من الوطء وقد حكى الإمام أحمد ذلك عن عمر وابن عباس وأنس وعائذ بن عمرو وعثمان بن أبي العاص وأم سلمة ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف

وقال إسحاق هو السنة المجتمع عليها وقال الطحاوي لم يقل بالستين أحد من الصحابة وإنما هو قول من بعدهم ولأن الأربعين هي المدة التي ينتقل فيها الانسان من خلق إلى خلق فإنه يبقى نطفة أربعين ثم علقة مثل ذلك ثم مضغة مثل ذلك فإذا كان طور خلقه يكمل في الأربعين فأن يخرج الدم في الأربعين أولى وكذلك كثيرا ما يخرج في أقل منها فعلى هذا متى جاوز الدم أكثر النفاس فما في مدة النفاس نفاس ولا يكون استحاضة في مدة النفاس وما زاد على الأربعين إن أمكن أن يكون حيضا بأن يصادف عادة الحيض أو أن يتصل بعادة الحيض ويتكرر أو يكون بينه وبين عادة الحيض طهر كامل أو يتكرر فهو حيض وإلا فهو استحاضة وهذا بخلاف الحيض فإنه إذا جاوز الأكثر ثبت حكم المستحاضة فيه كله لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر النفساء أن تقعد أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك وهذا يدل على أنها إذا لم تر الطهر تقعد الأربعين دون ما بعده من غير إلتفات إلى عادة أو تمييز ولأن العبرة بكونه نفاسا ووجوده في مدة الأربعين فقط سواء تكرر أو لم يتكرر وسواء تغير لونه أو لم يتغير لأن دم النفاس هو ما فضل عن غذاء الولد وذلك يختلف باختلاف الولد في خلقه ومكثه ولأن الحيض يتكرر كثيرا وتقصر مدته بخلاف النفاس فإن اعتبار العادة فيه يؤدي إلى حرج عظيم ومشقة
وإذا ولدت توأمين فأول مدة النفاس وآخرها من الأول وعنه أن أوله من الأول وآخره من الثاني اختارها بعض أصحابنا فتجلس ما تراه من الدم بعد وضع الأول ما لم تجاوز أكثر النفاس فإذا وضعت الثاني استأنفت له

مدة أخرى ودخلت بقية مدة الأولى في مدته إن كانت باقية لأنه ولد فاعتبرت له المدة كالأول وكالمنفرد ولأن الرحم تتنفس به كما تنفست بالأول فكثر الدم بسبب ذلك فيجب اعتبار المدة له وعنه رواية ثالثة اختارها أبو بكر أن اول المدة وآخرها من الثاني لأنها قبل وضعه حامل ولا يضرب لها مدة النفاس كما قبل الأول ولهذا لا تنقضي العدة إلا بوضعها فعلى هذه الرواية ما قبل وضع الثاني كما قبل وضع الحمل المنفرد إن كان قبل يومين أو ثلاثة فهو نفاس وليس من المدة وإن كان أكثر من ذلك لم يلتفت إليه وهذا بعيد على أصلنا ووجه الأولى وإليها صغى أكثر أصحابنا أن الدم الخارج عقب وضع الأول دم تعقب ولادة فكان نفاسا كدم الولد الفذ وهذا لأن الرحم تنفست به وانفتح ما استد منها فكان بسببه فيكون نفاسا وإذا كان أوله منه فكذلك آخره لأن الحمل الواحد لا يوجب مدتين كالولد الواحد إذا خرج منقطعا ولأن خروج الولد الأول كظهور بعض الولد فأول المدة محتسبة من حين ظهور البعض فكذلك آخرها كما قلنا في ظهور بعض الولد فإن آخر المدة يتبع أولها إما من حين ظهور البعض أو من حين انفصال الجميع
مسألة
ولا حد لأقله متى رأت الطهر اغتسلت وهي طاهرة
وهذا لما تقدم من حديث أم سلمة لما سألت النبي صلى الله عليه و سلم كم تجلس المرأة إذا ولدت قال تجلس اربعين إلا أن ترى الطهر قبل ذلك

ولم يفصل بين مدة طويلة أو قصيرة وقال الترمذي أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك ولأ الدم الخارج عقب الولادة خرج بسببها فكان نفاسا سواء كان قليلا أو كثيرا إذ ليس في تقديره هنا نص ولا اتفاق ولا قياس صحيح ولأن من النساء من لا ترى الدم أصلا ومنهن من ترى قليلا أو كثيرا والمرجع في ذلك إلى ما وجد وقد روي أن امرأة ولدت على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ولم تر دما فسميت ذات الجفاف وذكر الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي قال كانت عندنا امرأة تسمى الطاهر تلد أول النهار وتطهر آخره فإذا انقطع بدون الأربعين اغتسلت وصلت وصامت بلا خلاف لما تقدم لكن في حد الطهر روايتان كما في طهر الملفقة
إحداهما لا بد أن يكون يوما وما دون ذلك لا يلتفت إليه
والثانية لا فرق بين القليل والكثير إذا رأت النقاء الخالص ويكره وطؤها إلى تمام الأربعين في المشهور عنه كراهة تنزيه وعنه ما يدل على أنها كراهة تحريم وعنه أنه مباح لأنه وطء بعد الطهر والتطهير فأشبه الوطء إذا انقطع لأكثره ووطء الحائض إذا انقطع دمها لعادة ووجه الأول ما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن علي بن أبي طالب وعائذ بن عمرو وعبد الله بن

عباس وعثمان بن أبي العاص رضي الله عنهم أنهم قالوا لا توطأ النفساء إلا بعد الأربعين ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة رضي الله عنهم
وقد روي ابن شاهين عن معاذ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا رأت الطهر فيما دون الأربعين صامت وصلت ولا يأتيها زوجها إلا بعد الأربعين
وحديث أم سلمة المتقدم ظاهر العموم في جميع النفساوات لكن تصوم وتصلى بعد الطهر إجماعا ثم إن قيل هو حرام فلظاهر الآثار وإن قيل هو مكروه وهو المشهور فأن النقاء الخالص المبيح لفعل العبادات وفرضها قد وجد وإنما كره خوفا أن يصادفه الدم حين الوطء أو خوفا أن ترى الدم بعد الوطء فإن من الناس من يجعل الجميع نفاسا فيكون قد وطء نفساء فإن أكثر النفاس هو الغالب
ومثل هذا ما لو انقطع دم الحائض المعتادة لدون العادة فإنها تكون طاهرا تغتسل وتصلي وتصوم وفي كراهية الوطء روايتان كهاتين الروايتين والمنع في النفاس أشد لأن العادة في الجملة قد تتغير وتنقص بخلاف الأربعين للنفساء فإنه حد شرعي وفي المبتدأة إذا انقطع دمها لدون

الأكثر روايتان أيضا كذلك لكن رواية عدم الكراهة هنا مرجحة لأن عود الدم في زمان العادة كثير بخلاف بلوغ الحيض أكثر المدة فإنه قليل وبخلاف النفاس فإن أغلبه أكثره والعادة غير معتبرة كما تقدم لعدم انتظامها

مسألة
فإن عاد في مدة الأربعين فهو نفاس أيضا
هذا إحدى الروايتين عنه لأنه دم في مدة النفاس فكان نفاسا كالأول وكما لو اتصل وعلى هذا سواء حصل بين الأول والثاني طهر كامل أو لم يحصل وسواء كان الثاني قليلا أو كثيرا لأنه مضموم إلى الأول قال ابن أبي موسى فعلى هذه الرواية يجب عليها إعادة ما صامته وطافته من الفرض في الطهر بين المدتين هذا مبنى على أن الطهر في اثناء النفاس ليس بطهر صحيح والمشهور في المذهب خلافه وعليه تبنى أحكام الملفقة والرواية الأخرى وهي المشهورة عنه اختارها أكثر أصحابنا أن هذا الدم دم شك لأنه قد تعارض فيه أمارة النفاس والاستحاضة والحيض لأن كونه موجودا في مدة النفاس يوجب كونه نفاسا وكونه بعد طهر صحيح يبقى ذلك كما لو رأته بعد أيام مع الولادة التي لا دم معها فأنه لا يكون نفاسا بل إما حيض إن قام دليله وإلا استحاضة فكذلك احتيط فيه للعبادات الواجبة وقضاء الصوم والطواف والامساك عن الوطء فأما إن بلغ الثاني أقل الحيض وصارت مدة الحيض فهذا لا يكون استحاضة بل هو إما حيض أو نفاس وحكمهما واحد في ترك العبادات وقضاء الصوم وسواء كان بينه وبين الدم الأول طهر كامل أو لم يكن لأن الطهر الكامل إنما يشترط بين حيضتين فأما بين دم الحيض والنفاس فلا كما لو رأت دما بعد الأربعين بيوم أو يومين وقال القاضي في بعض كتبه إن كان الدم الثاني أقل من يوم وليلة فهو دم فساد

لأنه ليس بنفاس لانقطاع حكمه وليس بحيض لأنه أقل من مدته وإن بلغ يوما وليلة فهو مشكوك فيه لأنه صالح للحيض ولم يتكرر وبكل حال فالطهر المتقدم طهر صحيح لا تقضي ما صامت فيه كالطهر في أثناء الحيضة على ظاهر المذهب وإن كان أقل من يوم ففيه روايتان كما تقدم وإن انقطع دم الحائض في أثناء العادة ثم عاد وقلنا أن الحيض لا يثبت إلا بالتكرار على ظاهر المذهب ففيه روايتان إحداهما أنه حيض في العادة والثانية ليس بحيض حتى يتكرر لأنه بانقطاعه خرج عن العادة وعوده فيها يشبه انتقاله عن زمن العادة وحيض المبتدأة أكثر من يوم فإن صار عادة قضت ما صامت فيه وإن لم يتكرر كان دم فساد ولا حرج عليها في الصلاة التي صلت فيه بخلاف العادة في مدة النفاس فأنه لا يرجى انكشاف أمره لعدم العادة هناك كما تقدم

فصل
والولد الذي تثبت فيه أحكام النفاس هو ما بين فيه شيء من خلق الانسان مثل يد أو أصبع وذلك إذا نكس في الخلق الرابع فإن القت مضغة لا تخطيط فيها أو علقة فليس بنفاس وعنه أنه نفاس بالمضغة دون العلقة وخرجوا وجها أنه نفاس فيهما إذا علم أنه مبدأ خلق آدمي على رواية انقضاء العدة وثبوت الاستيلاد به فأما النطفة فلا أثر لها قولا واحدا وحيث قلنا ليس هو نفاس يكون كما لو رأته غير الحامل إن صادف زمن العادة فهو حيض وإن لم يصادفها كان مشكوكا فيه حتى يتكرر إلا أن تكون مبتدأة وبكل حال فإذا رأته على الطلق امسكت عن العبادات لأن الظاهر أنها تضع ما يثبت فيه حكم النفاس ثم إن تبين بعد الوضع أنه ليس بنفاس ولا هو حيض قضت ما تركت من الواجبات وإن لم يتبين شيء بأن يكون قد دفن قبل الكشف ثبت على الظاهر أنه نفاس كما نقول في سائر أنواع التحري
في بيان مناسك الحج والعمرة القسم الثاني كتاب الحج

جماع معنى الحج في أصل اللغة قصد الشيء واتيانه ومنه سمي الطريق محجة لأنه موضع الذهاب والمجيء ويسمى ما يقصد الخصم حجة لأنه يأتمه وينتحيه ومنه في الاشتقاق الأكبر الحاجة وهو ما يقصد ويطلب للمنفعة به سواء قصده القاصد لمصلحته أو لمصلحة غيره ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه
وقول في حاجة الله وحاجة رسوله
ومعلوم أنه إنما يقصد ويؤتى ما يعظم ويعتقد الانتفاع به وإذا كان

كذلك فلا بد أن يكثر اختلاف الناس إليه فكذلك يقول بعض أهل اللغة الحج القصد ويقول بعضهم هو القصد إلى من يعظم ويقول بعضهم كثرة القصد إلى من يعظمه ورجل محجوج ومكا محجوج أي مقصود مأتي ومنه قوله
... وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا

قال ابن السكيت يقول يكثرون الاختلاف إليه
وقوله ... قالت تغيرتم تم بعدي فقلت لها ... لا والذي بيته يا سلم محجوج ...
ثم غلب في الاستعمال الشرعي والعرقي على حج بيت الله سبحانه وتعالى وإتيانه فلا يفهم عند الاطلاق إلا هذا النوع الخاص من القصد لأنه هو المشروع الموجود كثيرا وذلك كقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وقال تعالى وأذن في الناس بالحج وقال سبحانه فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وقد بين المحجوج في قوله تعالى ولله على الناس حج البيت وقوله تعالى فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما فإن اللام في قوله البيت لتعريف الذي تقدم ذكره في أحد الموضعين وعلمه المخاطبون في الموضع الاخر

وفيه لغتان قد قرىء بهما الحج والحج والحجة بفتح الحاء وكسرها
ثم حج البيت له صفة معلومة في الشرع من الوقوف بعرفة والطواف بالبيت وما يتبع ذلك فإن ذلك كله من تمام قصد البيت فإذا أطلق الإسم في الشرع انصرف إلى الأفعال المشروعة إما في الحج الأكبر أو الأصغر

مسألة يجب الحج والعمرة مرة في العمر على المسلم العاقل البالغ الحر
في هذا الكلام فصول
أحدها أن الحج واجب في الجملة وهو أحد مباني الإسلام الخمس وهو من العلم المستفيض الذي توارثته الأمة وتناقلته خلفا عن سلف والأصل فيه قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وحرف على للإيجاب لاسيما إذا ذكر المستحق فقيل لفلان على فلان وقد أتبعه بقوله ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ليبين أن من لم يعتقد وجوبه فهو كافر وأنه إنما وضع البيت وأوجب حجة ليشهدوا منافع لهم لا لحاجة إلى الحجاج كما يحتاج المخلوق إلى من يقصده ويعظمه لأن الله غني عن العالمين

وكذلك قوله وأتموا الحج والعمرة لله على أحد التأويلين وقوله وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا فأذن فيهم إن لربكم بيتا فحجوه
وأما السنة فما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بني الاسلام على خمس شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت متفق عليه وفي حديث جبريل في رواية عمر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه و سلم ما الإسلام قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا

رواه مسلم وليس الحج في حديث أبي هريرة المتفق عليه وسيأتي إن شاء الله تعالى قوله إن الله فرض عليكم الحج فحجوا رواه مسلم وغيره وأحاديث كثيرة في هذا المعنى
وعن شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال بينما نحن جلوس مع النبي

النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد اذ دخل على جمل ثم أناخه في المسجد ثم علقه ثم قال أيكم محمد والنبي صلى الله عليه واله وسلم متكىء بين ظهرانيهم فقلنا ها الرجل الأبيض المتكيء فقال له الرجل ابن عبد المطلب فقال له النبي صلى الله عليه و سلم قد أجبتك فقال الرجل اني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك فقال سل عما بدالك فقال أسألك بربك ورب من قبلك الله أرسلك إلى الناس كلهم قال اللهم نعم قال أنشدك بالله الله أمر أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال اللهم نعم قال أنشدك الله الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة قال اللهم نعم قال أنشدك بالله الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم اللهم نعم فقال الرجل آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي وأنا ضمام بن ثعلبه أخو

بني سعد بن بكر رواه الجماعة إلا مسلما والترمذي عن إسماعيل وعلي بن عبد الحميد وقال رواه سليمان عن ثابت عن أنس

عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله وروى مسلم وأحمد والترمذي والنسائي من حديث ثابت عن أنس قال نهينا في القران أن نسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال صدق قال فمن خلق السماء قال الله قال فمن خلق الأرض قال الله قال فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل قال الله قال فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال الله أرسلك قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال صدق قال ثم ولى وقال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال النبي صلى الله عليه و سلم إن صدق ليدخلن الجنة

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال بعثت بنو سعد بن بكر ضمام ابن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقدم عليه فأناخ بعيرة على باب المسجد ثم عقله ورسول الله صلى الله عليه و سلم جالس في أصحابه في المسجد وكان ضمام بن ثعلبة رجلا جلدا أشعر ذاغديرتين قال فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في أصحابه فقال أيكم ابن عبد المطلب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنا عبد المطلب قال أمحمد قال نعم قال يا ابن عبد المطلب إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك فقال لا أجد في نفسي سل عما بدالك قال أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأوثان التي كان آباؤنا يعبدون معه قال اللهم نعم قال فأنشدك الله الهك واله من كان قبلك واله من هو كائن بعدك الله أمرك أن نصلي هذه الصلوات الخمس قال اللهم نعم قال ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها يناشده عند كل فريضة كما يناشده في التي قبلها حتى إذا فرغ

قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وسأودي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص قال ثم انصرف إلى بعيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة قال فأتة بعيرة فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال ما بئست اللات والعزى قالوا مه يا ضمام اتق البرص اتق الجذام اتق الجنون قال ويلكم إنهما والله ما يضران وما ينفعان وإن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقدكم به مما كنتم فيه وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه فوالله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته من رجل ولا إمرأة إلا مسلما قال ابن عباس فما سمعنا لوافد قط كان أفضل من ضمام بن ثعلبه ورواه أحمد وأبو داود من طريق ابن اسحاق وهذا لفظ المغازي

واختلف في سنة قدومه فقيل كان ذلك في سنة خمس قاله محمد ابن حبيب وغيره وروى عن شريك عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث ابن عباس وفيه بعث بنوا سعد ضماما في رجب سنة خمس وقيل في سنة سبع وقيل في سنة تسع ذكره ابن هشام عن

أبي عبيدة وذكره أبو اسحاق إبراهيم بن حبيب البصري المعروف بالحاكم في تاريخه لوامع الأمور وحوادث الدهور وزعم ابن عبد البر أن هذا هو الأعرابي الثائر الرأس الذي من أهل نجد الذي يروي حديثه أبو طلحة

ويروى نحوا منه أبو هريرة وهذا فيه نظر لأن ذاك أولا أعرابي وهذا من بني سعد بن بكر ثم ذاك رجل ثائر الرأس وهذا رجل له عقيصتان ثم ذاك رجل يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول وهذا رجل عاقل جلد ثم ذاك ليس في حديثه إلا التوحيد والصلاة والزكاة والصوم فإن كان هذا هو ذاك فليس ذكر الحج إلا في بعض رواياته والذي في الصحيحين ليس فيه شيء من هذا ولا يسعهم أن يتركوه وهو يقول لا أزيد ولا أنقص فإن كانت سعد هذه سعد بن بكر بن هوازن أظأر رسول الله صلى الله عليه و سلم فهؤلاء كانوا مشركين يوم حنين وكانت حنين في أواخر سنة ثمان من الهجرة وقدم وفد هوازن على رسول الله صلى الله عليه و سلم منصرفة وهو

بالجعرانة عن حصار الطائف فأسلموا ومن النبي صلى الله عليه و سلم على سببهم والقصة مشهورة فتكون بنو بكر بن سعد بن بكر قد أوفدت ضماما في سنة تسع وفيها أسلمت ثقيف أيضا وهذه السنة هي سنة الوفود
وقد أجمع المسلمون في الجملة علي أن الحج فرض لازم

الفصل الثاني
أن العمرة أيضا واجبة نص عليه أحمد في مواضع فقال في رواية الأثرم وبكر بن محمد وإسحق بن إبراهيم وأبي طالب

وحرب والفضل العمرة واجبة والعمرة فريضة وذكر بعض أصحابنا عنه رواية أخرى أنها سنة لأن الله سبحانه وتعالى قال ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ولم يذكر العمرة ولو كانت واجبة

لذكرها كما ذكرنا لما أمر بإتمامها وبالسعي فيها في قوله وأتموا الحج والعمرة لله وقوله سبحانه فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما وكذلك أمر خليله عليه السلام بدعاء الناس إلى الحج بقوله تعالى وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا إلى قوله ويذكروا اسم الله في أيام معلومات والاختصاص بأيام معلومات هو للحج فقط دون العمرة فعلم أنه لم يأمرهم بالعمرة وإن كانت حسنة مستحبة لأنه صلى الله عليه و سلم لما ذكر معاني الإسلام قال وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وقال في حديث جبريل الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ولم يذكر العمرة وسأله ضمام بن ثعلبه عن فرائض الإسلام إلى أن قال وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال صدق ثم ولى ثم قال والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن فقال النبي صلى اله عليه وسلم إن صدق ليدخلن الجنة ولو كانت العمرة واجبة لانكر قوله لا أزيد عليهن ولم يضمن له الجنة مع ترك أحد فرائض الإسلام ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لما حج حجة الوداع كان معه من المسلمين مالا يحصيهم إلا الله تعالى وكل قد جاء يؤدى

فرض الله تعالى عليه فلما قضى أيام منى بات بالمحصب بعد النفر وخرج من الغد قافلا إلىالمدينة ولم يعتمر بعد ذلك ولم يأمر من معه بالعمرة ولا بأن يسافروا لها سفرة أخرى وقد كان فيهم المفرد والقارن وهم لا يرون أنه قد بقي عليهم فريضة أخرى بل قد سمعوا منه أن الحج لا يجب إلا في عام واحد وقد فعلوه فلو كانت العمرة واجبة كالحج لبين لهم ذلك أو لأقام ريثما أن يعتمر من لم يكن إعتمر
وعن الحجاج بن ارطأة ع محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال أتى النبي صلى الله عليه و سلم أعرابي فقال أخبرني عن العمرة أواجبة هي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا وإن تعتمر خير لك رواه

أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الدارقطني من غير طريق الحجاج
وعن أبي هريرة موقوفا ومرفوعا أنه قال العمرة تطوع قال

الدارقطني والصحيح أنه موقوف على أبي هريرة
وعن طلحة بن عبيد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الحج جهاد والعمرة تطوع رواه ابن ماجه وفي طريقه الحسن بن يحيى الخشني عن عمر بن قيس أخبرني طلحة بن يحيى عن عمه

أسحق بن طلحة عن طلحة بن عبيد الله
وعن أبي صالح الحنفي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الحج جهاد والعمره تطوع رواه الشافعي وسعيد
وربما احتج بعضهم بقوله دخلت العمرة في الحج وليس بشيء

ولأن العمرة بعض الحج فلم تجب على الإنفراد كالطوف وهذا لأن الحج لم يجب على وجه التكرار وإنما وجب مرة واحدة فلو وجبت العمرة لكان قد وجب على الانسان حجتان صغرى وكبرى فلم يجز كما لم يجب عليه حج وطواف وكل ما يفعله المعتمر فقد دخل في الحج فليس في العمرة شيء يقتضي إفراده بالإيجاب لكن جعل الله المناسك على ثلاث درجات أتمها هو الحج المشتمل على الإحرام والوقوف والطواف والسعي والرمى والإحلال وبعده العمرة المشتملة على الإحرام والطواف والسعي والإحلال وبعده الطواف المجرد ولأنها نسك غير مؤقت الإبتداء والإنتهاء فلم تجب كالطواف
ولأنها عبادة غير مؤقته من جنسها فرض مؤقت فلم تجب كصلاة النافلة وهذا لأن العبادات المحضة إذا وجبت وقتت كما وقتت الصلاة والصيام والحج فإذا شرعت في جميع الأوقات علم أنها شرعت رحمة وتوسعه للتقرب إلى الله تعالى بأنواع شتى من العبادة وسبل متعددة لئلا يمتنع الناس من التقرب إلى الله تعالى في غالب الأوقات
ووجه الأول ما احتج به بعضهم من قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله

وعن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال حج عن أبيك واعتمر رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح
وفي رواية لأحمد إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير فأمره بفعلهما عن أبيه ولولا وجوبهما على الأب لما أمره بفعلهما عنه لكن يمكن أن يقال إنما سأله عن جواز الحج والعمرة عن أبيه لأن الابن لا يجب ذلك عليه وفاقا
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد قال نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدراقطني باسناد شرط الصحيح لكن في لفظ أحمد والنسائي الا نخرج فنجاهد معك وكلمة على تقتضي الإيجاب لا سيما

وقد سألته عما يجب على النساء من الجهاد فجعله جهادهن كما روي عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الحج جهاد كل ضعيف رواه أحمد وابن ماجه
واحتج أحمد بحديث أبي رزين وبحديث ذكره عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال جاء رجل

إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال أوصني فقال تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج وتعتمر
قال وعن ابن عباس وابن عمر أنها واجبة وهذا أمر والأمر للإيجاب لا سيما وهو إنما أمره بمباني الاسلام ودعائمه قال جابر بن عبد الله ليس أحد من خلق الله تعالى إلا وعليه عمرة واجبة ذكره ابن أبي موسى
وفي حديث عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم فقال يعني جبريل عليه السلام لما جاء في صورة الأعرابي يا محمد ما الاسلام فقال الاسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان رواه الجوزقي في كتابه المخرج على الصحيحين والدارقطني وقال هذا

إسناد صحيح أخرجه مسلم بهذا الإسناد
وهذه الزيادة وإن لم تكن في أكثر الروايات فإنها ليست مخالفة لها لكن هي مفسرة لما أجمل في بقية الروايات فإن الحج يدخل فيه الحج الأكبر والأصغر كما أن الصلاة يدخل فيها الوضوء والغسل وإنما ذكر ذلك بالاسم الخاص تبيينا خشية أن يظن أنه ليس داخلا في الأول وقد روى الدارقطني باسناد ضعيف عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت وروى القاضي بإسناده عن قتيبة عن ابن لهيعة عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم

الحج والعمرة فريضتان واجبتان
وروى سعيد بن ابي عروبة في المناسك عن قتادة أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال إنما هي حجة وعمرة فمن قضاهما فقد قضى الفريضة ومن أصاب بعد ذلك فهو تطوع وعن قتادة أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال يا أيها الناس كتب عليكم الحج يا أيها الناس كتب عليكم العمرة يا أيها الناس كتب عليكم أن يأخذ أحدكم من ماله فيبتغي به من فضل الله فإن فيه الغنى والتصديق وأيم الله لأن أموت وأنا ابتغي بما لي في الأرض من فضل الله عز و جل أحب إلى من أموت على فراشي وأيضا فإن العمرة هي الحج الأصغر بدليل قوله سبحانه وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر فإن الصفة إذا لم تكن مبينة لحال الموصوف فإنها تكون مقيدة له ومميزة له عما يشاركه في الإسم فلما قال يوم الحج الأكبر علم أن هناك حجا أصغر لا يختص بذلك اليوم لأن الحج الأكبر له

وقت واحد لا يصح في غيره والحج الأصغر لا يختص بوقت وقد روى الدارقطني عن ابن عباس قال الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة
وأيضا ففي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبي صلى الله عليه و سلم لما بعثه إلى اليمن وأن العمرة الحج الأصغر رواه الدارقطني من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده

وهذا الكتاب ذكر هذا فيه مشهور مستفيض عند أهل العلم وهو عند كثير منهم أبلغ من خبر الواحد العدل المتصل وهو صحيح بإجماعهم
وإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم قد بين أنها الحج الأصغر كما دل عليه كتاب الله عز و جل علم أنها واجبة لأن قوله ولله على الناس حج البيت وسائر الأحاديث التي فيها ذكر فرض الحج إما أن يعم الحجين الأكبر والأصغر كما أن قول النبي صلى الله عليه و سلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور يعم نوعي

الطهور الأكبر والأصغر وإما أن تكون مطلقة ولا يجوز أن يكون المفروض مطلق الحج لأن ذلك يحصل بوجود الأكبر أو الأصغر فيلزم أن تكفيه العمرة فقط وذلك غير صحيح فيجب أن يكون عاما ولا يجوز أن يعني الحج الأكبر فقط لأنه يكون تخصيصا للعام وتقييدا للمطلق وذلك لا يجوز إلا بدليل ولو أريد ذلك لقيد كما قيد في قوله يوم الحج الأكبر بل الناس إلى التقييد هنا أحوج لأن هذا ذكر للمفروض الواجب والإسم يشملها وذاك أمر بالنداء يوم الحج الأكبر والنداء لا يمكن إلا في المجتمع والإجتماع العام إنما يقع في الحج الأكبر لاسيما وقوله يوم والحج الأصغر لا يختص به وبهذا يجاب عن كل موضع أطلق فيه ذكر الحج
وأما المواضع التي عطف فيها فللبيان والتفسير وقطع الشبهة لئلا يتوهم متوهم أن حكم العمرة مخالف لحكم الحج وأنها خارجة عنه في هذا الموضع لأنها كثيرا ما تذكر بالاسم الخاص وكثيرا ما يكون لفظ الحج لا يتناولها
وأما الأحاديث فضعيفة
وأما كونها لا تختص بوقت وكونها بعض الحج فلا يمنع الوجوب وأيضا فإنها عبادة تلزم بالشروع ويجب المضي في فاسدها فوجبت بالشرع كالحج وعكس ذلك الطواف

فصل
وقد أطلق أحمد القول بأن العمرة واجبة وأن العمرة فريضة في رواية جماعة منهم أبو طالب والفضل وحرب وكذلك أطلقه كثير من أصحابه منهم ابن أبي موسى وقال في رواية الأثرم وقد سئل عن أهل مكة فقال أهل مكة ليس عليهم عمرة إنما قال الله تعالى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فقيل له إنما ذاك في الهدي في المتعة فقال كان ابن عباس يرى المتعة واجبة ويقول يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت قيل له كأن إقامتهم بمكة يجزيهم من العمرة فقال نعم وكذلك قال في رواية ابن الحكم ليس على أهل مكة عمرة

لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت فمن أراد منهم أن يعتمر خرج إلى التنعيم أو تجاوز الحرم وقال في رواية الميموني ليس على أهل مكة عمرة وإنما العمرة لغيرهم قال الله تعالى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام إلا أن ابن عباس قال يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر وإذا أراد المكي وغيره العمرة أهل من الحل وأدناه التنعيم ولأصحابنا في هذا ثلاثة طرق أحدها أن المسألة رواية واحدة بوجوبها على المكي وغيره وأن قوله ليس عليهم متعة يعني في زمن الحج لأن أهل الأمصار غالبا إنما يعتمرون أيام الموسم وأهل مكة يعتمرون في غير ذلك الوقت قاله القاضي

قديما قال لأنه قال لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت وهذه طريقة ضعيفة الثانية أن في وجوبها على أهل مكة روايتين لأنه أوجبها مطلقا في رواية واستثنى أهل مكة في أخرى وهذه طريقة القاضي أخيرا وابن عقيل وجدي وغيرهم والثالثة أن المسألة رواية واحدة أنها لا تجب على أهل مكة وأن مطلق كلامه محمول على مقيده ومجملة على مفسره وهذه طريقة أبي

بكر وأبي محمد صاحب الكتاب وهؤلاء يختارون وجوبها على أهل مكة
ووجه عدم وجوبها ما روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يا أهل مكة ليس عليكم عمرة وعن عمرو بن كيسان قال سمعت ابن عباس يقول لا يضركم يا أهل مكة ألا تعتمروا فإن أبيتهم فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد
وعن عطاء إنه كان يقول يا أهل مكة إنما عمرتكم الطواف بالبيت فإن كنتم لا بد فاعلين فجعلوا بينكم وبين الحرم بطن واد رواهن سعيد وهذا مع قوله إن العمرة واجبة ولا يعرف له مخالف من الصحابة ولأن الله سبحانه قال ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فجعل التمتع بالعمرة إلى الحج الموجب لهدي أو صيام لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فإذا كان حاضر المسجد الحرام يفارق

غيره في حكم المتعة وواجباتها فارقة في وجوب العمرة وأيضا فإن العمرة هي زيارة البيت وقصده وأهل مكة مجاوروه وعامروه بالمقام عنده فأغناهم ذلك عن زيارته من مكان بعيد فإن الزيارة للشيء إنما تكون للأجنبي منه البعيد عنه وأما المقيم عنده فهو زائر دائما فإن مقصود العمرة إنما هو الطواف وأهل مكة يطوفون في كل وقت
وهؤلاء الذين لا تجب عليهم العمرة هم الذين ليس عليهم هدي متعة على ظاهر كلامه في رواية الأثرم والميموني في إستدلاله بقوله تعالى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وظاهر قوله في رواية ابن الحكم والأثرم ايضا إنها إنما تسقط عن أهل مكة وهم أهل الحرم لأنهم هم المقيمون بمكة والطوافون بالبيت فأما المجاور بالبيت فقال عطاء هو بمنزلة أهل مكة

الفصل الثالث
أنهما إنما يجبان مرة في العمر يإيجاب الشرع فأما إيجاب المرء على نفسه فيجب في الذمة بالنذر ويجب القضاء لما لم يتمه كما يذكر إن شاء الله تعالى ويجب إتمامها بعد الشروع
وقد أجمعت الأمة على أن الواجب بأصل الشرع مرة واحدة والأصل في ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يأيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه و سلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم رواه أحمد ومسلم والنسائي
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها الناس كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال أفي كل عام يا رسول الله فقال لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فهو تطوع رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجة ولفظهما أن الأقرع ابن حابس سأل النبي

صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة قال بل مرة واحدة فمن زاد فهو تطوع
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما نزلت ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال المؤمنون يا رسول الله أفي كل عام مرتين فسكت ثم قالوا يا رسول الله أفي كل عام مرتين فقال لا ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله عز و جل يأيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال غريب من

هذا الوجه سمعت محمدا يقول أبو البختري لم يدرك عليا وقد احتج به أحمد

وعن قتادة قال ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال في خطبته يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فقال رجل من أهل البادية يا نبي الله أكل عام فسكت عنه نبي الله صلى الله عليه و سلم ثم قال يا نبي الله أكل عام فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم والذي نفس محمد بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لكفرتم ولما استطعتم فإذا أمرتكم بأمر فاتبعوه وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه فإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم وكثرة سؤالهم ألا وإنما هي حجة وعمرة فمن قضاهما فقد قضى الفريضة فما أصاب بعد ذلك فهو تطوع رواه سعيد بن أبي عروبة في مناسكه عنه ا ه

الفصل الرابع
أنه لا يجب الوجوب المقتضي للفعل وصحته إلا على مسلم لأن الله سبحانه قال إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فنهاهم أن يقربوه ومنعهم منه فاستحال أن يؤمروا بحجه ولأنه لا يصح الحج منهم ومحال أن يجب مالا يصح لما روى أبو هريرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان متفق عليه وكان هذا النداء بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بعث أبا بكر يقيم للناس الحج ويقطع العهود التي بينه وبين المشركين وينهاهم عن الحج وبعث عليا رضي الله عنه يقرأ سورة براءة وينبذ إلى المشركين
وعن زيد بن أثيع ويقال يثيع قال سألت عليا بأي شيء بعثت قال بأربع لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ولا يطوف بالبيت عريان ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه و سلم

عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح
وقد منع الله سبحانه المشركين من اليهود والنصارى وغيرهم من سكني جزيرة العرب مبالغة في نفيهم عن مجاورة البيت
ومن عرف بالكفر ثم حج حكم بإسلامه في أصح الوجهين
فأما وجوبه عليهم بمعنى أنهم يؤمرون به بشرطه وأن الله يعاقبهم على تركه فهو ظاهر المذهب عندنا لأن الله تعالى قال ولله على الناس حج البيت فهم ولم يخص

وروى أحمد عن عكرمة قال لما نزلت ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين قالت اليهود فنحن المسلمون فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فحجوا فأبو فأنزل الله ومن كفر فإن الله غني عن العلمين من أهل الملل وفي رواية لما نزلت ومن يبتغ غير إلا الإسلام دينا فلن يقبل منه قالت الملل فنحن المسلمون فأنزل الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين فحج المسلمون وقعد الكفار
ولا يجب على الكافر سواء كان أصليا أو مرتدا في أقوى الروايتين فلو

ملك في حال كفره زادا وراحلة ثم أسلم وهو معدم فلا شيء عليه لقوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وأما إذا وجب على المسلم فلم يفعله حتى ارتد ثم أسلم فهو باق في ذمته سواء كان قادرا أو عاجزا في المشهور من المذهب
وإن حج ثم إرتد ثم أسلم فهل عليه أن يحج على روايتين إحداهما عليه أن يحج نص عليه في رواية ابن منصور وهذا اختيار

القاضي والثانية لا حج عليه ولا يصح الحج من كافر فلو أحرم وهو كافر لم ينعقد إحرامه ولو ارتد بعد الإحرام بطل إحرامه

الفصل الخامس أنه لا حج على مجنون كسائر العبادات
قال أبو عبد الله لا حج على مجنون إلا أن يفيق لقول النبي صلى الله عليه و سلم من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما رفع القلم عن المجنون حتى يفيق وهو حديث حسن مشهور
ولأن المجنون ليس من أهل الخطاب والتكليف لعدم العقل والتمييز فلو كان مؤسرا في حال جنونه فلم يفق إلا وقد أعسر لم يكن في ذمته شيء وأما الذي يفيق أحيانا

وهل يصح أن يحج بالمجنون كما يحج بالصبي غير المميز فيعقد له الإحرام وليه على وجهين أحدهما يصح قال أبو بكر فإن حج الصبي أو العبد أو الأعرابي والمعتوه إن ماتوا قبل البلوغ وإن ماتوا فعليهم كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم والثاني لا يصح وهو المشهور

رضي الله عنه قال رسول الله
والثاني لا يصح وهو المشور

الفصل السادس
أنه لا حج على الصبي قبل البلوغ لقول النبي صلى الله عليه و سلم رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم وفي لفظ حتى يشب
ولأن الحج عبادة تحتاج إلى قطع مسافة فلم تجب على الصبي كالجهاد وقد جعل النبي صلى الله عليه و سلم الحج جهاد كل ضعيف وجهاد النساء
فإذا كان له مال فلم يدرك إلا وقد نفد فلا حج عليه
وإذا أدرك بالسن وهو إستكمال خمس عشرة سنة أو بإنبات شعر العانة الخشن ولم يحتلم فهل يجب عليه الحج

الفصل السابع
أنه لا يجب إلا على حر كامل الحرية فأما العبد القن والمعتق بعضه والمكاتب والمدبر وأم الولد فلا يجب عليهم الحج لأنها عبادة يتعلق وجوبها بملك المال والعبد لا مال له فلم يجب عليه شيء كالزكاة ولأنها عبادة تفتقر الى قطع المسافة البعيدة فلم تجب على العبد كالجهاد
وهذا لأن الحج عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة وتحتاج إلى مال والعبد مشغول بحقوق سيده ففي الإيجاب عليه إبطال لحق سيده
وهذه الطريقة مستقيمة إذا لم يأذن له السيد وفيها نظر
ولأن العبد ناقص بالرق وقد أجتمع عليه حق لله تعالى وحق لسيده فلو وجب عليه ما يجب على الحر لشق عليه أو عجز عنه والحج كمال الدين وآخر الفرائض ولهذا قال تعالى لما وقف النبي صلى الله عليه و سلم بعرفة اليوم أكملت لكم دينكم فلا يجب إلا على كامل مطلق والعبد ناقص الأحكام أسير لغيره

فصل
فقد انقسمت شروط الوجوب هذه إلى ما يشترط الصحة لحج وإلى مالا يشترط لصحته وكلها شرط للأجزاء عن حجة الإسلام
وأما الإستطاعة فهي شرط في الوجوب وليست شرطا في الأجزاء فصارت الشروط ثلاثة أقسام كما قلنا في شروط وجوب الجمعة منها ما هو شرط في وجوبها بنفسه وبغيره ومنها ما هو شرط في وجوبه بنفسه ثم منها ما هو شرط في صحة الجمعة مطلقا ومنها ما هو شرط في صحتها أصلا لا تبعا ومنها ما ليس شرطا في صحتها لا أصلا ولا تبعا

مسألة إذا استطاع إليه سبيلا وهو أن يجد زادا وراحلة بآلتها مما يصلح
لمثله فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء ديونه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام
في هذا الكلام فصول أحدها
أن الحج إنما يجب على من استطاع إليه سبيلا بنص القران والسنة المستفيضة وإجماع المسلمين ومعنى قوله من استطاع إليه سبيلا واستطاعة السبيل عند أبي عبد الله وأصحابه ملك الزاد والراحلة فمناط الوجوب وجود المال فمن وجد المال وجب عليه الحج بنفسه أو بنائبه ومن لم يجد المال لم يجب عليه الحج وإن كان قادرا ببدنه قال في رواية صالح إذا وجد الرجل الزاد والراحلة وجب الحج
وسئل ايضا في رواية أبي داود على من يجب الحج فقال إذا

وجد زادا وراحلة وقال في رواية حنبل وليس على الرجل الحج إلا أن يجد الزاد والراحلة
فإن حج راجلا تجزيه من حجة الإسلام ويكون قد تطوع بنفسه وذلك لما روى إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة قال يا رسول الله فما الحاج قال الشعث التفل وقام آخر فقال يا رسول الله ما الحج قال العج والثج قال وكيع يعني بالعج العجيج بالتلبية والثج نحر البدن

رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وإبراهيم بن يزيد قد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قبل حفظه
وعن ابن جريج قال وأخبرنيه أن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الزاد والراحلة يعني قوله من استطاع إليه

سبيلا رواه ابن ماجة
وعن أنس قال سئل النبي صلى الله عليه و سلم ما السبيل إليه قال الزاد والراحلة رواه ابن مردويه والدارقطني من طرق متعددة لا بأس ببعضها

وروى هذا المعنى من حديث ابن مسعود وعائشة وجابر وغيرهم
وعن الحسن قال لما نزلت ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال قيل يا رسول الله ما السبيل قال الزاد والراحلة رواه أحمد وأبو داود في مراسيلة وغيرهما وهو صحيح عن الحسن وقد أفتى به وهذا يدل على ثوبته عنده واحتج به أحمد
وعن ابن عباس قال من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء رواه أحمد وايضا قوله من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا

فهذه الأحاديث مسندة من طرق حسان ومرسلة وموقوفة تدل على أن مناط الوجوب وجود الزاد والراحلة مع علم النبي صلى الله عليه و سلم بأن كثيرا من الناس يقدرون على المشي
وأيضا فإن قول الله سبحانه في الحج من استطاع إليه سبيلا إما أ يعني به القدرة المعتبرة في جميع العبادات وهو مطلق المكنة أو قدرا زائدا على ذلك فإن كإن المعتبر هو الأول لم يحتج إلى هذا التقييد كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة فعلم أن المعتبر قدر زائد على ذلك وليس هو إلا المال

وأيضا فإن الحج عبادة تفتقر إلى مسافة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة كالجهاد
ودليل الأصل قوله تعالى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إلى قوله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم الآية
وايضا فإن المشي في المسافة البعيدة مظنة المشقة العظيمة

الفصل الثاني
إنه لا يجب عليه فيما ذكره أصحابنا حتى يملك الزاد والراحلة أو ثمنهما فأما إن كان قادرا على تحصيله بصنعة أو قبول هبة أو وصية أو مسألة أو أخذ من صدقة أو بيت المال لم يجب عليه ذلك سواء قدر على ذلك في مصره أو في طريق مكة لما تقدم من قوله يوجب الحج الزاد والراحلة يعني وجودهما وقوله من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله فعلق الوعيد بملك الزاد والراحلة
ولأن الزاد والراحلة شرط الوجوب وما كان شرطا للوجوب لم يحب على الكلف تحصيله لأن الوجوب منتف عند عدمه
ولأن كل عبادة اعتبر فيها المال فإن المعتبر ملكه لا القدرة على ملكه أصله العتق والهدي في الكفارات وثمن الماء والسترة في الصلاة

فصل
وينبني على ذلك أنه إذا بذل له ابنه أو غيره مالا يحج به أو بذل له ابنه أو غيره طاعته في الحج عنه وكان المبذول له معضوبا أو غير معضوب لم يلزمه عند أكثر أصحابنا مثل ابن حامد والقاضي وأصحابه وهو مقتضى كلام أحمد فإنه علق الوجوب بوجود الزاد والراحلة
وقال القاضي أبو يعلى الصغير ابن القاضي أبي حازم بن القاضي أبي

يعلى قياس المذهب أن الاستطاعة تثبت ببذل الابن الطاعة أو المال ولا تثبت ببذل غيره المال وهل تثبت ببذل غيره الطاعة خرجها على وجهين لأن من أصلنا أن الاستطاعة على ضربين تارة بنفسه وتارة بنائبه والمال الذي يأخذه النائب ليس أجرة عندنا في أشهر الروايتين وإنما هو نفقة فيكون قد بذل عمله للمستنيب وقد قال أحمد في رواية حنبل لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون الرجل مبرعا بحج عن أبيه عن أمه عن أخيه قال النبي صلى الله عليه و سلم للذي سأله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة افأحج عنه قال نعم
والذي يأخذ دراهم الحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف إنما الحج عمن له زاد وراحلة ولا يسرف ولا يقتر ولا يمشي إذا كان ورثته صغارا

وقال في رواية أبي طالب إذا كان شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة يحج عنه وليه فقد بين أن النائب متبرع بعمله عن الميت مع أن الحج واجب على الميت
وأيضا من أصلنا أن مال الابن مباح لأبن مباح للأب يأخذ منه ما شاء مع عدم الحاجة فإذا بذل له الابن فقد يؤكد الأخذ
وقول أحمد إذا وجد الزاد والراحلة يجوز أن يراد بالموجود المملوك والمباح لقوله تعالى فلم تجدوا ماء ولعل كلامه فيمن يجب عليه الحج بنفسه
قال القاضي أبو يعلى وأصله هذا أن الاستطاعة تحصل بالمال المباح كما تحصل بالمال المملوك قال ولو بذل له الرقبة في الكفارة لم يجز له الصيام فعلى هذا لو وجد كنزا عاديا ونحوه وجب عليه أن يأخذ منه ما

يحج به ولو عرض عليه السلطان حقه من بيت المال
ولو لم يبذل له الابن فهل يجب عليه أن يأخذ من ماله ما يحج فإن الجواز لاشك فيه عندنا وذلك لما روى عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيرة فقال النبي صلى الله عليه و سلم فحجي عنه رواه الجماعة إلا أبا داود والترمذي وهو
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وقف النبي صلى الله عليه و سلم بعرفة وذكر الحديث إلى أن قال ثم أتته إمرأة شابه من خثعم فقالت إن أبي شيخ كبير قد أفند وقد أدركته فريضة الله في الحج فهل يجزى أن أحج عنه قال نعم فأدى عن أبيك قال ولوى عنق الفضل فقال له العباس يا رسول الله مالك لويت عنق ابن عمك قال رأيت شابا وشابة فخفت الشيطان عليهما وفي لفظ فهل يجزى عنه أن أودى عنه قال نعم فأدى عن أبيك وفي لفظ إن أبي كبير وقد أفند وأدركته فريضة الله في الحج ولا يستطيع أداءها فيجزى عنه أن أوديها قال نعم رواه في حديث طويل أحمد

والترمذي وقال حديث حسن صحيح لا نعرفه من حديث على إلا من هذا الوجه وقد روى بعض الحديث الطويل أبو داود وابن ماجه وقد تقدم ايضا حديث أبي رزين العقيلي لما قال للنبي صلى الله علي وسلم إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال حج عن أبيك واعتمر رواه الخمسة وصححه الترمذي وقد احتج به أحمد وغيره على وجوب العمرة
وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه قال أنت أكبر ولده قال نعم قال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزى عنه قال نعم قال فحج عنه رواه أحمد والنسائي
فقد أقر النبي صلى الله عليه و سلم هؤلاء السؤال على أن المعضوب عليه فريضة الله في الحج وأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بفعلها عنه وشبهها بالدين ولم يستفصل هل له مال يحج به أو ليس له مال وترك الإستفصال دليل على عموم الجواب لاسيما والأصل عدم المال بل أوجب الحج بمجرد بذل الولد أن يحج فدل

ذلك على أن بذل الابن موجب وإنما أقرها النبي صلى الله عليه و سلم على الأخبار بفرض الحج على المعضوب لما رأى الولد قد بذل الحج
وايضا فإن الإستطاعة تحصل بالمباح كما تحصل بالمملوك ويحصل به الوجوب كما يحصل بالمملوك بدليل أن الوضوء يجب بالماء المبذول والمباح والصلاة تجب في السترة المعارة فيجب أن يحصل الحج أيضا بالاستطاعة المبذولة من مال أو عمل نعم ما عليه فيه منه لا يبذل بذلا مطلقا لكن الغالب أنه لا بد أن يطلب منه باذله نوع عوض ولو بالثناء أو الدعاء ويحصل عليه به منة فلا يجب عليه قبوله كما لو بذلت السترة ملكا أو بذل له أجنبي مالا يحج به أو يكفر به
وبذل الابن ليس فيه منة ولا عوض بل هو من كسبه وعمله كما قال النبي صلى الله عليه و سلم إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه

وقال أنت ومالك لأبيك وكذلك دعاء الابن بعد موته من جملة عمله كما قال النبي صلى الله عليه و سلم إذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له فكيف لا يجب عليه أن يحج مع بذل الابن له ذلك ولا مؤنة عليه فيه أصلا وطرد هذا أنه يجب على الأب أن يقبل من مال ابنه ما يؤدي به دينه بل ينبغي أن يكون هذا مسلما بلا خلاف لأن النبي صلى الله عليه و سلم شبهه بالدين فعلى هذا يشترط في الباذل
ووجه الأول أن الله سبحانه قال ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وقد فسر النبي صلى الله عليه و سلم السبيل بأنه الزاد والراحلة وفي لفظ سئل ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة وفي لفظ من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله تعالى ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا فعلم بذلك أن الحج لا يوجبه إلا ملك الزاد والراحلة

فإن قيل قوله ما يوجب الحج يعني حج المرء بنفسه ولم يتعرض لحج غيره عنه ولم يفرق في الزاد والراحلة بين أن تكون مملوكة أو مباحة وإنما قال الزاد والراحلة أي وجود ذلك يعم ما وجد مباحا ومملوكا بدليل قوله في آية الوضوء فلم تجدوا ماء
وأيضا فإن الإستطاعة صفة المستطيع فلا بد أن يكون قادرا على الحج وهو لا يصير قادرا ببذل غيره لجواز أن يرجع الباذل وذلك أن شرط وجوب العبادة لا بد أن يستمر إلى حين انقضائها فإن أوجب على الباذل التزام ما بذل صار الوعد فرضا وإن لم يجب فكيف يجب فرع لم يجب أصله
وأيضا فإن في إيجاب قبول بذل الغير عليه ضررا عليه لأن ذلك قد يفضي إلى المنة عليه وطلب العوض منه وإن كا الباذل ولدا فإنه قد يقول الولد أنا لا يجب علي أن أحج عنك ولا أن أعطيك ما تحج به ومن فعل مع غيره من الإحسان مالا يجب عليه فإنه في مظنة أن يمن به عليه وايضا
وأما حديث الخثعمية وأبي رزين ونحوهما فهو صريح بأن الوجوب كان قد ثبت واستقر قبل استفتاء النبي صلى الله عليه و سلم واستفتاؤه متقدم على بذل الولد الطاعة في الحج لأنهم لم يكونوا يعلمون أن الحج يجزىء عن العاجز حتى استفتوا النبي صلى الله عليه و سلم فكيف يبذلون الحج عن الغير وهم لا يعلمون جواز ذلك فإذا كانوا إنما بذلوا الحج عن الوالد بعد الفتوى والوجوب متقدم على الفتوى علم أن هذا البذل لم يكن هو الموجب للحج ولا شرط في وجوبه لأن

الشرط لا يتأخر عن حكمه وصار هذا كما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن إمرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله فالله أحق بالوفاء رواه البخاري وكذلك حديث بريدة في التي قالت للنبي صلى الله عليه و سلم إن أمي كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي عنها قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجي عنها رواه مسلم إلى غير ذلك وشبهه النبي صلى الله عليه و سلم

بالدين ولم يكن البذل هو المقرر للوجوب
وأيضا فإن القوم إنما سألوه عن أجزاء الحج عن المعضوب وعنه وقع الجواب ولم يتعرض للوجوب بنفي ولا إثبات وباتفاق لا يجب على الباذل أن يحج
ونحن إنما استدللنا بحديث أبي رزين على وجوب العمرة لأنه استفتى النبي صلى الله عليه و سلم عن أداء ما وجب على أبيه لتبرأ ذمة الأب فأمره أن يحج عنه ويعتمر فعلم أن كلاهما كان واجبا على الأب وإلا لم يحتج أن يأمره به كما لم يأمره بتكرار الحج والطواف فعند هذا يكون قول السائل عليه فريضة الله في الحج إذا أدركته فريضة الله ونحو ذلك كان لملكه الزاد والراحلة وقد بلغ هؤلاء أن من ملك الزاد والراحلة فعليه فريضة الله في الحج ولم يعلموا حكم العاجز عن الركوب أيسقط عنه أم يتجشم المشاق وإن أضر به وهلك في الطريق أم يستخلف من يحج عنه ولهذا جزمت السائلة فقالت إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وقال الآخر أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرجل والحج مكتوب عليه ولن يقول هذا إلا من قد علم أنه مكتوب عليه وواجب فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بالحج عن الآباء ولم يستفصلهم هل ملكوا مالا أم لا لوجهين أحدهما أنهم إنما سألوه عن جواز النيابة وأسقاطها فرض حجة الإسلام وهذا لا يختلف الحال فيه بين الواجد والمعدم فلم يكن للإستفصال وجه وكل معضوب إذا حج عنه غيره بإذنه أسقط عنه الفرض حتى لو ملك بعد هذا مالا لم يجب عليه حجة أخرى وشبهه النبي صلى الله عليه و سلم بالدين في جواز الأداء عن الغير فإن من عليه دين وهو قادر على

وفائه من ماله أو عاجز عنه إذا أداه غيره عنه بإذنه جاز كذلك الحج والثاني أن يكون قد علم أن الحج وجب على الاباء بملك المال إما بعلمه صلى الله عليه و سلم بأن أماكن أولئك السوال قريبة وأن غالب العرب لا يعدم أحدهم بعيرا يركبه وزادا يبلغه أو لأنه رأي جزم السائلين بالوجوب مخصصين لهؤلاء من دون غيرهم من المسلمين فعلم أنهم إنما جزموا لوجود المال الذي تقدم بيانه أنه هو السبيل أو لغير ذلك من الأسباب
ويجوز أن يكون السوال عنوا بقوله أدركته فريضة الله في الحج وعليه فريضة الله في الحج والحج مكتوب عليه الوجوب العام وهو أن الحج أحد أركان الإسلام وقد أوجبه الله سبحانه على كل مسلم حر عاقل بالغ وهو مخاطب به سواء كان قادرا أو عاجزا ولهذا لو فعله أو فعل عنه أجزأه ذلك من حجة الإسلام وإنما سقط عن غير المستطيع السير للعذر لا لكونه ليس من أهل الوجوب بخلاف الصبي والعبد والمجنون فإنهم ليسوا من أهل الوجوب ولهذا يفرق في الجمعه والحج وغيرهما بين أهل الأعذار في كونهم من أهل وجوب هذه العبادة وإنما سقط عنهم السعي إليها للمشقة والعذر ولهذا إذا حضروا وجبت عليهم وانعقدت بهم وبين العبد

والمسافر والمرأة ونحوهم في كونهم ليسوا من أهل الوجوب ولهذا إذا حضروا لم تجب عليهم ولا تنعقد بهم
وسبب الفرق بين القسمين أن الوجوب يعتمد كمال الفاعل الذي به يستعد لحمل الأمانة ويعتمد إمكان الفعل الذي به يمكن أداؤها فإذا لم يكن الإنسان من أهل الكمال لنقص عقله أو سنه أو حريته ونحو ذلك لم يخاطب بذلك الوجوب أصلا وليس عليه أن ينظر هل يفعل أو لا يفعل ولو فعل لم يحصل به المقصود وإذا كان كاملا تأهل للخطاب وكان عليه أن يعزم على الأداء إذا قدر وأن ينظر في نفسه هل هو قادر أو عاجز ولو تجشم وفعل لحصل المقصود فالمعضوب من هذا القسم
فقول السائل أدركته فريضة الله في الحج يجوز أن يعني به أنه حر عاقل بالغ من أهل الوجوب لكن هو عاجز عن الأداء فإن إستناب فهل يقوم فعل النائب مقام فعله بحيث يكون بمنزلة من فعل أم لا يصح ذلك فيبقى غير فاعل وهذه طريقة مشهورة في الكلام

فصل
ومن لم يجد الزاد أو الراحلة إذا إكتسب حتى حصل زادا وراحلة فقد أحسن بذلك وكذلك إن كان يعمل صنعته في الطريق أو يكرى نفسه بطعامه وعقبته ويستحب له الحج على هذا الوجه ويجزيء عنه وإن استقرض وكان له وفاء
وإن كان يسأل في المصر أو في الطريق فقال أصحابنا يكوه له الحج بالسؤال
والنصوص عن أحمد أن السؤال لغير ضرورة حرام
وإن لم يسأل لكن بذل له مال يحج به أو بذل له أن يركب ويطعم
وإن حج بغير مال ومن نيته أن لا يسأل ويتوكل على الله ويقبل ما يعطاه فإن وثق باليقين والصبر عن المسألة والاستشراف إلى الناس ولم يضيق على الناس

وأما إن كان يزعم أنه يتوكل
وإن حج ماشيا وله زاد مملوك أو مباح أو مكتسب أو كما ذكرناه أولا فقد أحسن وهو أفضل من ترك الحج

فصل
وإنما تعتبر الراحلة في حق من بينه وبين مكة مسافة القصر عند أصحابنا فأما القريب والمكي ونحوهما ممن يقدر على المشي فيلزمه ذلك كما يلزمه المشي إلى الجمعه والعيد فإن كان زمنا لا يقدر على المشي لم يلزمه أن يحج حبوا
وإما الزاد فيعتبر في حق القريب والبعيد قاله ابن عقيل لأنه لا بد منه وقال القاضي لا يعتبر أن يجد الزاد وإنما يعتبر أن يحصل له ما يأكله ولو بكسبه فإن كان متى تشاغل بالحج انقطع كسبه وتعذر الزاد عليه لم يلزمه الحج
وإن قدر على السؤال

الفصل الثالث
أنه يعتبر أن يجد الزاد والراحلة بالآلة التي تصلح لمثله من الغرائر وأوعية الماء وأن يكون الزاد مما يقتاته مثله في هذا الطريق طعاما وأدما وأن تكون آلات الراحلة مما تصلح لمثله فإن كان ممن لا يمكنه الركوب إلا في محمل ونحوه بحيث يخاف السقوط أعتبر وجود المحمل وإن كان يكفيه الرحل والقتب بحيث لا يخشى السقوط أجزاء وجود ذلك سواء كانت عادته السفر في المحامل أو على الأقتاب والزوامل والرحال وإن كان ممن يستحي من الركوب على الزوامل لكونه كان من الأشراف والأغنياء

والأفضل أن يحج على الرجل والزاملة دون المحمل إذا أمكن لما روى عامر بن عبد الله بن أنس قال حج أنس على رحل ولم يكن شحيحا وحدث أن النبي صلى الله عليه و سلم حج على رحل وكانت زاملته رواه البخاري والزاملة هي البعير الذي يحمل متاع الرجل وطعامه وازدمله احتمله والزميل الرديف والمزاملة المعادلة على بعير
وعن الربيع بن صبيح عن يزيد الرقاشي عن أنس قال حج النبي صلى الله عليه و سلم على رحل رث وقطيفه تسوى أربعة دراهم أو لا تسوى ثم قال

اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعه رواه ابن ماجه وفيهما كلام
وهل يكره الحج في المحمل على روايتين إحداهما لا يكره قال في رواية صالح والمحامل قد ركبها العلماء ورخص فيها
والثانية يكره قال في رواية عبد الله عطاء كان يكره المحامل للرجل

ولا يرى بها للنساء بأسا وقال عطاء القباب على المحامل بدعة وظاهرة أنه أفتى بذلك
وإذا كان يحتاج إلى من يخدمه في ركوبه وطعامه وغير ذلك اعتبرت القدرة عليه بكراء أو شراء ويعتبر أن يجدهما في ملكه أو هما بكراء أو شراء إذا كان ذلك عوض مثلهما في غالب الأوقات في ذلك المكان وهو واجد له
وإن وجد ذلك بزيادة يسيرة على عوض المثل لزمه الشراء والكراء وإن كانت كثيرة تجحف بماله لم يلزمه بذلها وإن كانت لا تجحف بماله ففيه وجهان
وإن كان السعر غاليا في ذلك العام غلاء خارجا عن الأمر الغالب فقيل يعتبر ثمن مثله في ذلك الوقت
وسواء كان الثمن عينا أو دينا يمكنه اقتضاؤه بأن يكون على مؤسر باذل أو غائب يمكن إحضاره لم يلزمه ذلك

ثم إن كان يجد الزاد في بعض المنازل أو في كل منزل لم يلزمه حمله من مصره بل عليه حملة من موضع وجوده إلى موضع وجوده وإن لم يجد فعليه حملة سواء كان من عادته أن يكون موجودا فيما بينه وبين مكة أولا
وأما الماء له ولدوابه وعلف الرواحل فمن عادته أن يكون موجودا في بعض المنال فعليه حملة من موضع وجوده على ما جرت به العادة الغالبة
فإن لم يكن في الطريق ماء ولا علف فقال القاضي وأبو الخطاب وأكثر أصحابنا ليس عليه حمله من بلده ولا من أقرب الأمصار إلى مكة لأن هذا يشق ولم تجر العادة به ولا يتمكن من حمل الماء لبهائمه في جميع الطرق
وقال ابن عقيل حكم علف البهائم حكم زاده في وجوب حمله إذا لم يكن موجودا في الطريق

الفصل الرابع
أن يجد ذلك بعد ما يحتاج إليه من قضاء دينه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام
فإذا كان عليه دين لله أو لآدمي وقد ملك الزاد والراحلة بعد وجوبه أو حين وجوبه لم يجب عليه الحج لأن وجوب قضاء دينه متقدم على وجوب الحج ولأن قضاء الدين من حوائجه الأصلية
فإن كان قد ملك الزاد والراحلة ثم لزمه الدين بعد ذلك
وإن كان الدين مؤجلا أو متروكا
فإذا أراد أن يحج وعليه دين
فإذا كان الدين على أبيه أو غيره قدم الحج قال أحمد في رواية أبي طالب إذا كان معه مائتا درهم ولم يحج قط فإنه يقضي دينه ولا يحج فإن كان على أبيه فليحج الفريضة وإن كان قد حج الفريضة يقضي دين

أبيه وإن كان الأب لم يحج دفع إلى أبيه حتى يحج قال أحمد في رواية أبي طالب ويجب على الرجل الحج إذ كان معه نفقة تبلغه إلى مكة ويرجع ويخلف نفقته لأهله ما يكفيهم حتى يرجع
وكذلك ذكر ابن أبي موسى السبيل في الطريق السالكه والزاد والراحلة المبلغان إلى مكة وإلى العود إلى منزله مع نفقة عياله لمدة سفره ولم يعتبر وجود ما ينفقه بعد الرجوع
وهذا محمول على من له قوة على الكسب لأن أحمد وابن أبي موسى صرحا بأنه لا يلزمه بيع المنازل التي يؤجرها لكفايته وكفاية عياله وإنما يبيع ما يفضل عن كفايته وكفاية عياله ولا بد أن يترك لعائلته الذين تجب عليه نفقتهم ما يكفيهم مدة ذهابه ورجوعه لأن وجوب النفقة آكد ولهذا يتعلق بالكسب بخلاف الحج ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال كفى بالمرء إثما أن

يضيع من يقوت رواه أبو داود
وإن كان فيهم من لا يلزمه بعينه نفقه لكن يخاف عليه الضياع كيتيم وأرملة ونحو ذلك
ولا بد أن يرجع إلى كفاية له ولعياله على الدوام إما ربح تجارة أو صناعة أو أجور عقار ودواب أو ريع وقف عليه بعينه لأن
فإن أمكنه أن يخذ من وقف الفقراء أو الفقهاء أو بيت لما ونحوه من مال المصالح
والمراد بالكفاية ما يحتاج إليه مثله من طعام وكسوة ونحو ذلك ومن مسكن فإنه لا بد له من السكنى فليس عليه أن يبيع مسكنه ثم يسكن بأجر أو في وقف
ولكن إن كان واسعا يمكنه الاعتياض عنه بما دونه من غير مشقة لزمه أن يحج بالتفاوت
وإن كان له كتب علم محتاج إليه لم يلزمه بيعها وإن لم يكن علمها فرضا عليه لأن حاجة العالم إلى علمه

فإن كانت مما لا يحتاج إليها أو كان له بكتاب نسختان يستغني عن إحداهما باع مالا يحتاج إليه
وإن اراد أن يشتري كتب علم أو ينفق في طلب العلم فقد قال عبد الله سألت أبي عن رجل ملك خمسمائة درهم وهو رجل جاهل أيحج بها أم يطلب العلم فقال يحج لأن الحج فريضة وليس الحديث عليه فريضة وينبغي أن يطلب العلم والفرق بينهما هذا لم يتعلم فالابتداء بفرض العين قبل فرض الكفاية أو النافلة متعين والأول قد تعلم العلم وهو مقيد بالكتاب ففي بيع كتبه إخلال بما قد علمه من علمه
وإذا كان له خادم يحتاج إلى خدمتها لم يلزمه بيعها قال في رواية الميموني إذا كان للرجل المسكن والخادم والشيء الذي لا يمكنه بيعه لأنه كفاية لأهله فلا يباع فإذا خرج عن كفايته ومؤنة عياله يباع
وإذا كان به حاجة إلى النكاح فقال أحمد في رواية أحمد بن سعيد إذا كان مع الرجل مال فإن تزوج به لم يبق معه فضل وإن حج خشي على نفسه فإنه إذا لم يكن له صبر عن التزويج تزوج وترك الحج وكذلك نقل أبو داود وغيره وعلى هذا عامة أصحابنا أنه إن خشي العنت قدم النكاح

لأنه واجب عليه ولا غنى به عنه فهو كالنفقة
وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه يبدأ بالحج وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد في رجل عنده أربعمائة درهم ويخاف على نفسه العنت ولم يحج وأبواه يأمرانه بالتزويج قال يحج ولا يطيعهما في ذلك هكذا ذكرها أبو بكر في زاد المسافر ثم فصل كما تقدم عن أحمد ووجه ذلك أنه متعين عليه بوجود السبيل إليه
والعنت المخوف مشكوك فيه وهو نادر والغالب على الطباع خلاف ذلك فلا يفرط فيما تيقن وجوبه بما يشك فيه وأما إن لم يخش العنت قدم الحج
وإن قلنا إن النكاح واجب فإن كانت له سرية لم يجب عليه بيعها واستبدال ما هو دونها ولا يجب عليه أن يطلق إمرأته ليستفضل نفقتها

فصل
ولا يجب عليه المسير حتى يقدر على المسير بأن يكون يتسع الوقت للسير والأداء فلو وجد ذلك قبل النحر بأيام وبينه وبين مكة شهر ونحو ذلك لم يجب عليه المسير للحج في تلك السنة وليس عليه أن يسير إلا السير المعتاد وما يقاربه وليس عليه أن يحمل على نفسه ويسير سيرا يجاوز العادة أو يعجز معه عن تحصيل آلة السفر لما في ذلك من المشقة التي لا يجب معها مثل هذه العبادات من الجمعة والجماعة ونحو ذلك
وأن يكون الطريق خاليا من العوائق المانعة فإن كان فيه من يصده عن الحج من قطاع الطريق كالأعراب والأكراد الذين يقطعون الطريق على القوافل أو كفار أو بغاة لم يجب عليه السعي إلى الحج فإن أمكن قتالهم
وإن أمكن بذل خفارة لهم فقال القاضي وأصحابه لا يجب بذلها وإن

كانت يسيره لوجهين
أحدهما أنها رشوة فلا يلزم بذلها في العبادة كالكثيرة
الثاني أنهم لا يؤمنون مع أخذها فإن من استحل أكل المال بالباطل من وفد الله لم يؤمن على استحلال قتلهم أو نهبهم أو سرقتهم
والثاني يجب بذل الخفارة اليسيرة قاله ابن حامد لأنها نفقة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمتنع الوجوب مع إمكان بذلها كالأثمان والأكرية وقد بذل صهيب للكفار جميع ماله الذي بمكة حتى خلوه

يهاجر فأنزل الله تعالى فيه ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله
وفي معنى ذلك لو إحتاج أن يرشو الولاة لتخليته أو لحراسة طريقة
ولو احتاج أن يبذل مالا لمن يخرج معه ليحرسه فهذا ليس برشوة وإنما هو جعاله أو إجارة لأنه لا يجب عليهم الخروج معه وحفظة وقياس المذهب أن هذا واجب كما يجب على المرأة نفقة محرمها لأنه الحافظ لها وكما يجب عليه أجرة من يحفظ رحله من السراق
وسواء كانت الطريق قريبة أو بعيدة يبقى فيها سنين
وسواء كانت الطريق برا أو بحرا إذا كان الغالب عليه السلامة وإن كان الغالب على البحر الهلاك لم يجب السعي إلى الحج وإن كان يسلم قوم

ويتلف قم فقال القاضي يلزمه وقال أبو محمد إن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه سلوكه

فصل
ولا يجب عليه أن يحج بنفسه حتى يقدر على الركوب فمتى قدر على الركوب على حالة من الأحوال لزمه الحج بنفسه فإن عجز عنه لمرض أو كبر لم يلزمه
والمعتبر في ذلك أن يخشى من ركوبه سقوطه أو مرض أو زيادة مرض أو تباطىء برء ونحو ذلك فأما إن كان توهما وجبنا أو مرة يعتريه أحيانا ويقدر أن يستطب
ثم إن كان ميؤسا من برئة فإنه يحج عن نفسه قال أحمد في رواية أبي طالب يحج الرجل عن الرجل وهو حي وعن المرأة وإذا كان شيخا كبيرا لا يستمسك على الراحلة يحج عنه وليه وإذا كانت إمرأة ثقيله لا يقدر مثلها يركب والمريض الذي قد أويس منه أن يبرأ فيحج عنهم وليهم وهذا الذي أمر فيه النبي صلى الله عليه و سلم الخثعمية قالت يا رسول الله إن أبي شيخ كبير وقد أدركته فريضة الله في الإسلام وهو لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك
فإذا كان الرجل والمرأة لا يقدران على الحج وقد وجب عليهما الحج حج عنهما وليهما

وإحجاجه عن نفسه واجب عند أصحابنا على ما ذكره أبو عبد الله سواء بلغ وهو معضوب أو عضب بعد ذلك قبل وجود المال أو بعد وجود المال وظاهر كلام أبي بكر وابن أبي موسى أنه لا يجب لأن ابن أبي موسى ذكر أن شروط الوجوب الحرية والبلوغ والإسلام والعقل والصحة والزاد والراحلة والمحرم للمرأة وخلو الطريق وذكر أبو بكر أن الحج يجب على الرجل بثلاثة أوصاف بالزاد والراحلة والصحة وعلى المرأة بأربعة أوصاف الزاد والراحلة والصحة والمحرم
لما تقدم من أن الخثعمية وغيرها أخبرت أن أباها قد فرض عليه الحج وأقرها النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك وأمرها أن تحج عنه وشبه ذلك بالدين المقضي ولولا أن الحج قد وجب على هذا المعضوب لما صحح ذلك
فإن قيل المراد أنه من أهل وجوب الحج
وايضا فإن النبي صلى الله عليه و سلم سئل ما يوجب الحج فقال الزاد والراحلة ولم يفرق بين القادر بنفسه والعاجز
وايضا فإن فرائص الله إذا قدر أن يفعلها بأصل أو بدل وجب عليه ذلك كما يجب بدل الصوم وهو الإطعام وبدل الكفارات وبدل الوضوء والغسل

وايضا فإنه من أهل وجوب الحج وهذه الحجة تجزيء عنه ويسقط بها عنه فرض الإسلام بنص النبي صلى الله عليه و سلم وقد أمكنته الإستنابة من غير ضرر في دينه ولا دنياه لأن النائب إن كان أجيرا فلا ضرر منه عليه فيه لأن عمله يقع مستحقا للمستأجر كاستيجار على البناء والخياطة والكتابة وإن كان نائبا محضا فإن النفقة إنما تجب في مال المستنيب فلا منة عليه في ذلك يبقى عمل النائب فقط وذلك لامنة فيه لأن له عوضا صحيحا في شهود المشاعر وعمل المناسك وحضور الموسم وله بذلك عمل صالح غير إبراء ذمة المنيب من حج الفرض وإنما بلغ ذلك بمال المستنيب فيصيران متعاونين على إقامة الحج هذا بماله وهذا ببدنه فليس لأحدهما منة على الاخر بخلاف مالو حج عنه بمال نفسه
لا سيما إن كان الحاج وليه فإنه مأمور من جهة الشرع بأن يحج عنه

صلة لرحمه وقضاء لحقه كما هو مأمور بالعقل عنه وولايته في النكاح وغيره ولا منة عليه بذلك وإذا حج عن نفسه أجزأ عنه وإن عوفي
قال في رواية اسحق بن منصور وأبي طالب إذا لم يقدر على الحج فحجوا عنه ثم صح بعد ذلك وقدر فقد قضى عنه الحج ولا قضاء عليه وعلى هذا عامة أصحابنا
فإن وجد الزاد والراحلة ولم يجد من يحج عنه فهو كما لو عاقة عائق أو ضاق الوقت هل يثبت الوجوب في ذمته على روايتين

فصل
وإن كان العاجز عن الحج يرجو القدرة عليه كالمريض والمحبوس ومن قطع عليه الطريق أو منعه سلطان ونحو ذلك لم تجز له الاستنابة في فرض الحج عن أصحابنا كما ذكره أحمد لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أذن في النيابة للشيخ الكبير الذي لا يستمسك على الراحلة فألحق به من في معناه والذي يرجى أن يقدر على الحج ليس في معناه لوجوه
أحدها أن ذاك عاجز في الحال والمآل وهذا إنما هو عاجز في الحال فقط والبدل إنما يجب عند تعذر الأصل بكل حال
الثاني إنه لو عجز عن صوم رمضان بكل حال انتقل إلى البدل وهو الفدية وإن عجز في الحال فقط لم يجز له الانتقال إلى البدل ولزمه الصوم إذا قدر فالحج مثله
الثالث أنه لو جاز ذلك لجاز أن يحج عن الفقير فتسقط حجة الإسلام

من ذمته لأنه عاجز في الحال وهو من أهل الخطاب بالوجوب
الرابع أن وجوب الحج لا يختص ببعض الأزمنة دون بعض فإذا لم يغلب على الظن دوام العائق جاز أن يخاطب فيما بعد وجاز أن لا يخاطب فلا يجوز الأقدام على فعل

فصل
إمكان المسير والأداء بسعة الوقت وخلو الطريق والصحة هل هو شرط للوجوب أو للزوم الأداء فقط على روايتين
فأما العائق الخاص مثل الحبس والمرض الذي يرجى برؤه ومنع السلطان فينبغي أن يكون مثل ضيق الوقت وعاقة الطريق ولهذا قلنا إذا عرض مثل ذلك في رمضان لم يجب عليه بعد الموت فدية فإذا قلنا هو شرط للوجوب فمات قبل التمكن أو أنفق ماله أوهلك لم يكن في ذمته شيء وإن قلنا إنما هو شرط في لزوم السعي فإن الحج يثبت في ذمته فإذا أنفق المال فيما بعد بقي الحج في ذمته
وإذا مات قبل التمكن أخرج عنه من تركته لكن لا إثم عليه بالموت وعليه الاثم بانفاق المال مع امكان ابقائه للحج وإذا استقر الحج في ذمته فعليه فعله بكل طريق يمكنه من اكتساب مال أو مشى
فإن قلنا هما شرط في الوجوب وهو قول أبي بكر وابن أبي موسى فلأن

الله تعالى قال ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا بل هو أعجز من أن يقدر على المشي واكتساب المال وأعجز من المعضوب لأنه لا يقدر أن يحج لا بنفسه ولا بنائبه بوجه من الوجوه فكيف يبقى الحج في ذمته ونحن وإن قلنا إن العبادة تجب في الذمة قبل التمكن فإنما ذاك فيما أطلق وجوبه كالصلاة والصيام والزكاة
فأما الحج فقد خص وجوبه بمن استطاع إليه سبيلا فامتنع إيجابه على غير المستطيع بوجه من الوجوه يبين ذلك أن السبيل في الأصل هو الطريق والسبب وكل ما يوصل إلي الشيء فهو طريق إليه وسبب فيه فالتقدير من استطاع التسبب والتوصل إليه أو من استطاع فعل سبيل أو سلوك سبيل و يختص الوجوب بمن كان السبيل مستطاعا له أو مقدورا
وأيضا فإن فريضة الحج قد قيل إنها نزلت ست ولم يحج النبي

صلى الله عليه و سلم ولا أحد من أصحابه لأن المشركين كانوا يصدونهم عن البيت ويقيمون الموسم في غير وقته فلم يتمكنوا من فعله قبل الفتح وطرد المشركين مع قدرة أكثرهم على الزاد والراحلة فلو كان الوجوب ثابتا في الذمه لوجب أن يحج عمن مات في تلك السنين منهم ولبين النبي صلى الله عليه و سلم وجوب ذلك في تركاتهم أو سأله أحد منهم كما سألوه عمن أدركته فريضة الحج وهو معضوب
وإن كانت فريضة الحج قد تأخرت إلى سنة تسع أو عشر فإنما سبب تأخيرها صد المشركين عن البيت واستيلاؤهم عليه وعدم تمكن المسلمين من إقامته فامتنع أصل إيجاب الحج في حق الكافة فهو بالمنع في حق الخاصة أولى
وايضا فإنه لو صد عن البيت بعد الإحرام لم يلزمه إتمام الحج ولا يجب

القضاء في ذمته في ظاهر المذهب مع أن إتمامه بعد الشروع أوكد من إبتداء الشروع فيه عد وجوبه فإذا لم يجب القضاء في ذمة المصدود عنه بعد الإحرام فأن لا يجب الأداء في ذمة المصدود قبل الإحرام أولى
وإن قلنا ليسا بشرط في الوجوب وهو قول
فلأن النبي صلى الله عليه و سلم سئل ما يوجب الحج فقال الزاد والراحلة وفسر الإستطاعة بذلك كما ذكر في غير هذا الموضع فلا تجوز الزيادة على ذلك بل يعلم أن وجود ذلك موجب للحج وذلك لأن الوجوب في الذمة إنما يعتمد القدرة على الفعل في الحال أو في المال بنفسه أو بنائبه كوجوب الدين في الذمة وهذا يجب في ذمته الحج ليفعله فيما بعد بنفسه إن أمكن وإلا بنائبه كالمعضوب حتى لو فرض من لا يمكن الحج عنه في المستقبل مثل من يقدر عليه بعد آخر سنة يحج الناس فيها لم يجب في ذمته وهذا لأنه لا فرق بين هذا وبين المعضوب إلا أن المعضوب يمكنه الإحجاج عنه في الحال بخلاف المصدود
والتمكن من فعل العبادة إذا ليس بشرط لوجوبها في الذمة بدليل أن صوم رمضان يجب على الحائض والمريض لا سيما على أصلنا المشهور في الصلاة

والزكاة والصوم فإن كل من أمكنه قضاء العبادة وجبت في ذمته إذا انعقد سبب وجوبها
والزاد والراحلة بمنزلة شهود الشهر في رمضان وبمنزلة حؤول الحول في الزكاة فمن ملك ذلك وأمكن فعل الحج أداء أو قضاء وجب عليه

مسألة
ويعتبر للمرأة وجود محرمها وهو زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح
في هذا الكلام فصلان
أحدهما أن المرأة لا يجب عليها أن تسافر للحج ولا يجوز لها ذلك إلا مع زوج أو ذي محرم لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تسافر المرأة ثلاثا إلا معها ذو محرم متفق عليه وفي لفظ لمسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومن أو ليلتين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها متفق عليه وفي رواية للجماعة إلا البخاري والنسائي لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو إبنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يحل لامرأة تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة إلا مع ذي محرم عليها متفق عليه وفي رواية لمسلم وغيره مسيرة يوم إلا مع ذي محرم وفي رواية له ولغيره لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة وإلا ومعها رجل ذو حرمة منها وفي رواية لأبي داود بريدا

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة وإني اكتتبت في غزوة كذا كذا قال فانطلق فحج مع امرأتك متفق عليه ولفظ البخاري لا تسافر إمرأة إلا مع محرم ولا يدخل علها رجل إلا ومعها محرم فقال رجل إني أريد جيش كذا وكذا وإمرأتي تريد الحج قال أخرج معها
فهذه نصوص من النبي صلى الله عليه و سلم في تحريم سفر المرأة بغير محرم ولم يخصص سفرا من سفر مع أن سفر الحج من أشهرها وأكثرها فلا يجوز أن يغفله ويهمله ويستثنيه بالنية من غير لفظ بل قد فهم الصحابة منه دخول سفر الحج في ذلك لما سأله ذلك الرجل عن سفر الحج وأقرهم على ذلك

وأمره أن يسافر مع امرأته ويترك الجهاد الذي قد تعين عليه بالاستنفار فيه ولولا وجوب ذلك لم يجز أن يخرج سفر الحج من هذا الكلام وهو أغلب أسفار النساء فإن المرأة لا تسافر في الجهاد ولا في التجارة غالبا وإنما تسافر في الحج ولهذا جعله النبي صلى الله عليه و سلم جهادهن
وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز لها السفر إلا على وجه يؤمن فيه البلاء ثم بعض الفقهاء ذكر كل منهم ما اعتقده حافظا لها وصاينا

كنسوة ثقات ورجال مأمونين ومنعه أن تسافر بدون ذلك
فاشتراط ما اشترطه الله ورسوله أحق وأوثق وحكمته ظاهرة فإن النساء لحم على وضم إلا ماذن عنه والمرأة معرضة في السفر للصعود والنزول والبروز محتاجة إلى من يعالجها ويمس بدنها تحتاج هي ومن معها من النساء إلى قيم يقوم عليهن وغير المحرم لا يؤمن ولو كان أتقى الناس فإن القلوب سريعة التقلب والشيطان بالمرصاد وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما قال أحمد في رواية الأثرم لا تحج المرأة إلا مع ذي محرم لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن تحج المرأة إلا مع ذي محرم
وليس يشبه أمر الحج الحقوق التي تجب عليها لأن الحقوق لازمة واجبة

مثل الحدود وما أشبهها وأمر النساء صعب جدا لأن النساء بمنزلة الشيء الذي يذب عنه وكيف تستطيع المرأة أن تحج بغير محرم فكيف بالضيعة وما يخاف عليها من الحوادث
ولا يجوز لها أن تسافر بغير محرم إلا في الهجرة لأن الذي تهرب منه شر من الذي تخافه على نفسها وقد خرجت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وغيرها من المهاجرات بغير محرم وفي حضور مجلس الحاكم لأنه

ضرورة يخاف منه أن يضيع حق المدعى وفي التغريب لأنه حد قد وجب عليها
فإن كان بينها وبين مكة دون مسافة القصر والعجوز التي لا تشتهي

وهل المحرم شرط للوجوب أو للزوم والأداء على روايتين
إحداهما هو شرط للوجوب وهو قول أبي بكر وابن أبي موسى قال في رواية ابن منصور المحرم للمرأة من السبيل

الفصل الثاني في المحرم
وقد قال الشيخ هو وزوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح
وتسمية الزوج محرما تمسك بقوله لا تسافر المرأة إلا مع محرم وفي أكثر الروايات ذو محرم ومعلوم أنها تسافر مع الزوج فيتناوله اسم محرم وربما لم يسم محرما على ما جاء في أكثر الروايات إلا ومعها زوجها أو ذو محرم منها
وسبب هذا أن المحرم إما صفة أو مصدر وهو مشتق إما من التحريم أو من الحرمة فأما الزوج فإنها مباحة له فإن كانت محرمة عليه لكونها معتدة من وطيء شبهة أو محرمة وهو محل أو هما محرمان قد وجب التفريق بينهما لكونهما في قضاء حج فاسد وفي معناه سيد الأمة فإن كانت حراما عليه
وأما من تحرم عليه بالنسب من ولدها وابائها وأخوتها وبني أخوتها وأعمامها وأخوالها فكلهم محارم لها سواء كان سبب النسب نكاحا صحيحا أو فاسدا أو وطء شبهة فان أحكام الأنساب الثابته على هذه الوجوه سواء في الأحكام
فأما بنته من الزنا وأخته ونحو ذلك فلا نسب بينهما وإن حرمت عليه

فليس بمحرم لها في المنصوص بخلاف أمه وكذلك إبنته التي لاعن عليها ليس هو محرما لها ولا ابنه ولا أبوه
وأما السبب فقسمان صهر ورضاع أما الصهر فأربع زوج أمها وابنتها وأبو زوجها وابنه
وأما الرضاع فإنه يحرم منه ما يحرم من النسب وهؤلاء كلهم محارم
وأما من يحرم نكاحها تحريما عارضا كالمطلقة ثلاثا وأخت إمرأته وسريته ونحو ذلك فليس هو محرما لهن لأنه لو كان محرما لهن لكان من تزوج أربعا قد صار محرما لجميع بنات ادم
وذلك لأنها إذا حرمت على التأبيد يئست النفس منها ولم يبق لها طمع في

أن تنظر إليها نظر شهوة في الحال ولا في المآل بخلاف من تحرم في الحال فقط فإن اعتقاد حلها بطريق من الطرق تطمع النفس بالنظر إليها ويصير الشيطان ثالثهما في ذلك ولو كان مجرد التحريم كافيا في ذلك لكان محرما لسائر المحصنات بل لسائر النساء
وقال ابن أبي موسى ولو حجت المرأة بغير محرم أجزأتها الحجة عن حجة الفرض مع معصيتها وعظيم الأثم عليها

مسألة فمن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة وجملة ذلك أن من وجب عليه أن يحج بنفسه أو نائبه في حياته ففرط في ذلك حتى مات وله تركة وجب أن تخرج من ماله حجة وعمرة إذا قلنا بوجوبها وهو المشهور في المذهب
وكذلك من وجب عليه ولم يفرط وهو من كان به مرض يرجى برؤه أو كان محبوسا أو ممنوعا أو كان بطريقة عاقة أو ضاق الوقت عن حجة وعمرته أو لم يكن للمرأة محرم إذا قلنا بوجوب الحج في ذمتهم ويكون هذا الحج دينا عليه يخرج من رأس ماله مقدما على الوصايا والمواريث هذا مذهب أحمد نص عليه في موضع وأصحابه كما قلنا مثل ذلك في الزكاة والصيام لأن الحج دين من الديون بدليل ماروى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال جاء رجل من خثعم إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن أبي أدركه الاسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه قال أنت أكبر ولده قال نعم قال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزيء عنه قال نعم قال فاحجج عنه رواه أحمد والنسائي

وعن سليمان بن يسار عن الفضل بن عباس أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءه رجل فقال يا رسول الله إن أمي عجوز كبيرة وإن حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فاحجج عن أمك رواه النسائي وقال لم يسمع سليمان بن يسار من الفضل ورواه أحمد عن سليمان عن عبيد الله عن الفضل بن عباس أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته أفأحج عنه قال أرأيت لو كان عليه دين فقضيته عنه أكان يجزيه قال نعم قال فأحجج عن أبيك وهذا أشبه بالصواب لأن الذي

في حديث الفضل إنما سألت عن أمها وبدليل ما سيأتي من الأحاديث وإذا كان بمنزلة الدين دخل في عموم قوله من بعد وصية يوصى بها أو دين فإن الله سبحانه عم بقوله أو دين فإنها نكرة في سياق معنى النفي لأن قوله من بعد وصية يوصى بها أو دين في معنى قوله إنما الميراث بعد وصية أو دين ولم يخصص دين الآدمي من دين الله سبحانه ولهذا لو كان قد نذر الصدقة بمال ومات قبل أن يتصدق أخرج عنه من صلب المال
وايضا عن بريدة بن الحصيب قال بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أتته إمرأة فقالت اني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك الميرث ! قالت يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي عنها قالت إنها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجي عنها رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن إمرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته إقضوا الله فالله أحق بالوفاء رواه البخاري
وعن ابن عباس قال أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن يسأل

رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزيء أمها أن تحج عنها قال نعم لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزيء عنها فلتحج عن أمها وعنه أيضا أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه و سلم عن أبيها مات ولم يحج قال حجي عن أبيك وعنه قال قال رجل يا نبي الله إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه قال أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فدين الله أحق رواهن النسائي
فوجه الدلالة من هذه الأحاديث من وجوه
أحدها أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بفعل حجة الإسلام والحجة المنذورة عن الميت وبين أنها تجزيء عنه وهذا يدل على بقائها في ذمته وأنها لم تسقط بالموت وأنها تؤدي عنه بعد الموت
وكل ما يبقى من الحقوق بعد الموت ويؤدي بعد الموت فإنه يجب فعله

بعد الموت إذا كان له ما يفعل منه وذلك لأن من يقول لا يجب فعله بعد الموت يزعم أن حجة الإسلام قد سقطت بالموت وأن الذي يفعل عنه حج تطوع له أجره وثوابه لأن الواجب زعم لا يفعل إلا بإذنه حتى لو أوصى بذلك فإن الذي يوصى به ليس هو حجة الإسلام عنده والنبي صلى الله عليه و سلم بين أن نفس الواجب هو الذي يقضي عنه
والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم بين أن الحج دين في ذمته وكل من عليه دين فإنه يجب أنه يقضي عنه من تركته بنص القرآن
الثالث قوله اقضوا الله فالله أحق بالوفاء وقوله في حديث اخر عن الصوم فحق الله أحق إما أن يكون معناه أن قضاء دين الله أوجب من قضاء دين الآدمي كما فسره بذلك القاضي وغيره من أصحابنا لأن وجوبه أوكد

وأثبت ويرجح هذا المعنى أن وجوب الحج والزكاة آكد من وجوب قضاء دين الآدمي لأنهما من مباني الإسلام مع ظاهر قوله فالله أحق بالوفاء فعلى هذا إذا وجب قضاء دين الآدمي من تركته فأن يجب قضاء دين الله أولى وأحرى
وإما أن يكون معناه إذا كان قضاء دين الآدمي يجزيء عنه بعد الموت فدين الله أحق أن يجزىء لأن الله تعالى كريم جواد ومن يكون أحرى بقبول القضاء فحقه أولى أن يقضي لأنه أجدر أن يحصل بقضائه براءة الذمة ويرجح هذا المعنى أن القوم إنما سألوه عن جواز القضاء عن الميت لا عن وجوبه عليهم فعلى هذا إذا وجب فعل الدين عنه لبقائه وكونه يجزيء عنه بعد الموت وجب قضاء الحج ونحوه عنه لبقائه وكونه يجزيء بعد الموت لأن معناهما واحد
الرابع أن هذه الأحاديث تقتضي جواز فعل الحج المفروض عن الميت سواء وصى بذلك أولم يوص وسواء كان له تركة أو لم يكن لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسألهم عن تركة خلفوها وتقتضي أن ذلك يجزيء عنه ويؤدي عنه ما وجب عليه وهذه الأحكام بعينها أحكام ديون الآدميين
الخامس أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الولي أن يحج عنه والأمر يقتضي الوجوب لا سيما وقد شبهه بالدين الذي يجب قضاؤه من تركته ولما كان الدين يجب قضاؤه إن كانت له تركة ويستحب قضاؤه إذا لم يكن له تركة فكذلك الحج

وايضا فقد تقدم إجماع الصحابة أنه إذا مات وعليه صيام من رمضان أطعم عنه كما يطعم عن نفسه إذا كان شيخا كبيرا فإذا وجب الإطعام في تركته فكذلك يجب الحج من تركته ولا فرق وايضا فإن الحج حق مستقر في حياته تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كديون الآدمي ولأنه حق واجب تصح الوصية به فلم يسقط بالموت كديون الآدميين
فإن قيل إذا مات قبل الحج فقد لحقه الوعيد بدليل قوله يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله إلى قوله وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين وقوله حتى إذا جاء أحدهم

الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ولأنه إذا مات قبل أن يحج مات عاصيا على كبيرة من الكبائر بل تخوف عليه أن يموت على غير الإسلام كما يذكر إن شاء الله في مسألة الفور فلو كان الحج يجب أن يفعل عنه بعد موته ويجزؤه كما يجزؤه لو فعله في حياته لكان يجوز للرجل أن يؤخره الحج إلى ما بعد الموت كما له أن يؤخر إلى آخر حياته عند من يجوز تأخيره والذي يبين ذلك أن الحج وغيره من العبادة ابتلاء للعبد وامتحان له وأمر له بأن يعبد الله وهذا القدر لا يحصل إلا بأن يقصد العبادة ويفعلها بنفسه أو يأمر من يفعلها وبالموت قد تعذر ذلك ولهذا لو حج عنه في حياته غيره بغير إذنه لم يجز عنه وهذا بخلاف دين العبد فإنه لا يفتقر إلى النية ويصح بدون إذنه لو أداه عنه غيره بغير إذنه جاز ولو اقتضاه الغريم من ماله بدون إذنه برئت ذمته
وإذا كان كذلك فيجب أن تحمل الأحاديث على قوم لم يحجوا ولم يجب عليهم الحج لكونهم لم يملكوا زادا وراحلة أو على أنه وإن وجب عليهم لكن لهم ثواب وأجر ما يفعل عنهم لا أن الواجب نفسه يسقط وإذا لم يسقط الواجب لم يجب على الورثة شيء
قلنا لا ريب أنه يموت عاصيا معرضا للوعيد لكن هذا لا يوجب سقوطه عنه وعدم صحته ووجوبه بعد موته كمن أخر الصلاة عامد حتى خرج وقتها

أو أفطر في رمضان عمدا فإن ذلك من الكبائر وإن وجب عليه القضاء وأجزأ عنه وكذلك من مطل الغرماء بديونهم مع اليسار حتى مات فإنه يأثم بهذا المطل والتأخير ويؤدي عنه بعد موته ويجزؤه بل عندنا لو أخره لغير عذر ثم فعله في آخر عمره أجزأ عنه وأثم بالتأخير إلا أن يتوب ويستغفر وهذا لأن الله سبحانه وتعالى أوجب عليه أن يحج وأن يكون الحج بنفسه كما أوجب عليه أن يصلي ويصوم وأن يفعل الصلاة والصوم في وقتهما فمتى تعذر عليه فعله بنفسه وهو أحد الواجبين لم يسقط الواجب الآخر وهو مطلق الحج الذي يمكن أن يفعل عنه وإذا تعذر فعل العبادة في وقتها لم يسقط نفس الفعل بل يفعل بعد الوقت فهذا الذي أخر الحج حتى مات إن لم يفعل عنه لحقه وعيد ترك الحج بالكلية وإن فعل عنه أجزأ عنه نفس الحج وبقي إثم تأخيره وتفريطه فيه وترك فعله كما يبقى على من يقضي الدين إثم المطل وأشد وسؤاله الرجعة وكونه يخاف عليه الموت على غير الإسلام حق لأن ذلك لأجل تركه الحج بنفسه وتفريطه فيه كما أن من ترك صلاة العصر متعمدا حبط عمله وإن قضاها وكما يلحق الوعيد الذين هم عن صلاتهم ساهون وإن صلوها بعد الوقت وهنا قد قضوها بأنفسهم فكيف بمن يقضي عنه غيره بغير إذنه
ولأن هذا النكال وهذا الخطر والعذاب الشديد يكون حين الموت قبل أن

يحج عنه فإذا حج عنه خفف عنه ذلك بدليل
ولأنه ليس كل من مات يحج عنه إما لأنه قد لا يخلف مالا أو لأنه قد يتهاون الورثة في الإخراج عنه فمن كان في علم الله أنه يحج عنه يكون أمره أخف
وأما كون الفرائض لا يصح فعلها إلا بنية المكلف وأمره لأن امتثال الأمر بدون ذلك محال فذلك فيما وجب أن يفعله بنفسه ولهذا لو حج عنه غيره حجة الإسلام في حياته بدون أمره لم يصح فإذا مات صار المخاطب بالوجوب غيره وهم الورثة ثم إن الله تعالى بكرمه وجوده أقام فعلهم عنه مقام فعله بنفسه وإن كان لم يفرط في التأخير لكونه معذورا وإن كان فرط قام مقامه في نفس الفعل وبقي إثم الترك عليه هو إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهذا لأن ما وجب أن يفعله بنفسه يستحيل أن ينويه غيره فأما إذا كان الوجوب على غيره مثل أداء الزكاة من مال اليتيم فإن المخاطب بها هو الولي
يبقى الحج عن المعضوب هل يجزيء عنه بدون إذنه قال أصحابنا

لا يجزيء عنه بدون إذنه ويتوجه
وايضا فإن ذلك ما دام إذنه ممكنا فعند تعذر إذنه يجوز أن يجعل الله فعل غيره قائما مقام فعله في الواجبات وامتثال الأوامر كما قد يقوم فعل غيره مقام فعله في المندوبات وحصول الثواب كما تقدم في مسألة إهداء الثواب للموتى وتقدم تقرير هذه القاعدة وأن من زعم أن العمل لا ينفع غير عامله في جميع المواضع فقد خرج عن دين الإسلام

فصل
يجب الحج عن الميت والعاجز من حيث وجب عليه قال القاضي يلزمهم أن يحجوا عنه من دويرة أهله وهو الموضع الذي ملك فيه الزاد والراحلة سواء كان هو وطنه أو لم يكن وسواء مات فيه أو في غيره ثم إن مات في بلد الوجوب حج عنه من ذلك البلد وإن مات في بلد أبعد عن مكة منه أو هو في جهة غير جهة بلد الوجوب حج عنه من بلد الوجوب ولم يجب أن يحج عنه من بلد الموت وإن مات ببلد أقرب إلى مكة من بلد الوجوب وجب أن يحج عنه من بلد الوجوب أيضا إلا أن يكون قد مات قاصدا الحج
قال في رواية الأثرم يحج عنه من حيث وجب عليه من حيث أيسر قيل له فرجل من أهل بغداد خرج إلى خراسان فأيسر ثم تحج عنه من حيث أيسر فذكر له أن رجلا قال يحج عنه من الميقات فأنكره
قيل له فرجل من أهل خراسان أو من أهل بغداد خرج إلى البصرة ومات بها قال يحج عنه من حيث وجب عليه
وقال في رواية أبي داود رجل من أهل الري وجب عليه الحج ببغداد ومات بنيسابور نحج عنه من بغداد

وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الحج الذي عليه دينا وأمر الوارث أن يفعله عنه كما يفعل الدين وقد كان عليه أن يحج من دويره أهله فكذلك من يحج عنه
ولأن الحجة التي ينشئها من دويرة أهل أفضل وأتم من التي ينشئها من دون ذلك بدليل قوله سبحانه وأتموا الحج والعمرة لله قال علي رضي الله عنه إتمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك يعني أن تنشيء لها سفرا من دويرة أهلك فإذا مات فقد استقرت في ذمته على صفة تامة فلا يجزيء أن يفعلها بدون تلك الصفة ولأنها مسافة وجب قطعها في حال الحياة فوجب قطعها بعد الموت كالمسافة من الميقات وهذا لأنه لو كان مجرد الحج كافيا لأجزأ الحج عنه من مكة لأنها حجة تامة
ولأن قطع المسافة في الحج أمر مقصود لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل ذلك جهاد فقال الحج جهاد كل ضعيف وقال للنساء عليكن جهاد لاقتال فيه الحج والعمرة ولهذا كان ركن الوجوب الزاد والراحلة هو المال فيجب الحج بوجوده وينتفي الوجوب بعدمه
ومعلوم أن المال لا يحتاج إليه في أفعال الحج فإن أكثر المواقيت بينها وبين مكة دون مسافة القصر وذلك القدر لا يعتبر له راحلة ولا ملك زاد ايضا ولهذا

ذكر النبي صلى الله عليه و سلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب لذلك ولم يذكر مثل هذا في المصلي ونحوه لأنه ليس المال من خصائصه
فلو جاز أن يحج عنه من دون الميقات لسقط ما يعتبر له المال من قطع المسافة
وأيضا فإن النائب يجب أن يحج من حيث وجب على المنوب عنه كالمعضوب فإنه لا بد أن يحج عنه من دويرة أهله والميت مثله لأنهما في المعنى سواء
فإن قيل فهذا الميت والمعضوب لو قطع هذه المسافة لغير الحج ثم أراد إن شاء الحج لم يجب عليه أن يرجع إلى دويرة أهله
قلنا وكذلك لو جاوز الميقات غير مريد لمكة ثم عرض له قصدها جاز

أن يحرم من موضعه وإن لم يجز له ابتداء أن يجاوز إلا محرما
ولأن من حج بنفسه يسقط عنه الفرض بنفس أداء المناسك على أي صفة كان بخلاف من حج من غيره

فصل
ومتى ملك الزاد والراحلة وجب عليه أن يحج على الفور فإن أخره بعد ذلك عصى بذلك هذا هو المشهور في المذهب الذي عليه جمهور أصحابنا مثل أبي بكر وابن حامد وغيرهم وقد نص أحمد في رواية عبد الله وابن إبراهيم فيمن استطاع الحج وكان مؤسرا ولم يحبسه علة ولا سبب لم تجز شهادته
وقال إنه لا تقبل شهادة من كان مؤسرا قد وجب عليه الحج ولم يحج إلا أن يكون به زمانة أو أمر يحبسه
ولم يفرق بين أن يكون عازما على فعله أو غير عازم ولم يأمر الحاكم بالإستفصال
وقال ابن أبي موسى اختلف أصحابنا في الحج هل هو على الفور أو

على التراخي على وجهين أصحهما أنه على الفور على من وجد السبيل إليه وهو بين في كلام أحمد رضي الله عنه
ولأن أحمد أوجب أن نخرج عن الميت من حيث يجب عليه وإن مات أبعد منه أو أقرب ولو كان الوجوب في غير وطنه
وذكر القاضي أبو الحسين في المسألة روايتين إحداهما أنه على التراخي ذكرها ابن حامد وكذلك ذكر ابن أخيه لآنه قال وإذا وجد الزاد والراحلة وجب الحج عليه
وقال ولا تقبل شهادة من كان مؤسرا قد وجب الحج عليه ولم يحج إلا أن يكون به زمانة أو أمر يحبسه وهو قياس على سائر العبادات المؤقتة
وذكر القاضي أبو يعلى الصغير في المسألة روايتين إحداهما أن وجوبه على التراخي واختار ذلك لأن فريضة الحج نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم في

سنة خمس أو ست لأن ذكر الحج في حديث ضمام بن ثعلبة وقد وفد على النبي صلى الله عليه و سلم سنة خمس ولأن الله تعالى قال وأتموا الحج و العمرة لله فأمر بإتمامهما وذلك يقتضي وجوب فعلهما تامين ووجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما كما أن قوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل يقتضي ذلك لأن حقيقة الإتمام فعل الشيء تاما وذلك أعم من أن يبدأ ثم يتم أو أن يعمل بعد الإبتداء ولو لم يكن الأمر بإتمامهما إلا للداخل فيهما فإنما يجب الإتمام لما كان واجبا بأصل الشرع
أما أن يكون إتمام العبادة واجبا أو جنسها ليس واجبا بالشرع بل العبادات اللواتي يجب جنسهن في الشرع لا يجب إتمامهن فهذا بعيد
وهذه الآية نزلت عام الحديبية سنة ست من الهجرة بإجماع أهل التفسير
وايضا فإن الله فرض الحج على لسان إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر وشرع من قبلنا شرع لنا لا سيما شرع إبراهيم

فإنا مأمورون باتباع ملته بقوله تعالى ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وبقوله ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه إلى قوله من الصلحين وقوله وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وقد فسر جماعة من السلف الحنيف بالحاج وقوله قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وبقوله إني جاعلك للناس إماما وبقوله تعالى إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا وبقوله تعالى هو اجتبكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم في اخر سورة الحج والمناسك وقوله تعالى إن أولى الناس

بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي خصوصا حرمة الكعبة وحجها فإن محمدا صلى الله عليه و سلم لم يبعث بتغيير ذلك وإنما بعث بتقريره وتثبيته وإحياء مشاعر إبراهيم عليه السلام وقد اقتص الله علينا أمر الكعبة وذكر بنائها وحجها واستقبالها وملة إبراهيم في أثناء سورة البقرة وذكر ايضا ملة ابراهيم والبيت وأمره وثلث ذلك في أثناء سورة آل عمران وذكر الحج وأمره وسننه وملة إبراهيم والمناسك والحض عليها وتثبيت أمرها في سورة الحج وسورة الحج بعضها مكي بلا شك وأكثرها أو باقيها مدني متقدم فعلم بذلك أن إيجاب الحج وفرضه من الأمور المحكمة من ملة ابراهيم فيكون وجوبه من أول الإسلام وإذا كان وجوبه متقدما وهو صلى الله عليه و سلم فتح مكة في رمضان سنة ثمان وأقام الحج للناس تلك السنة عتاب بن أسيد أمير رسول الله صلى الله عليه و سلم

ثم بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه في سنة تسع فأقام للناس الموسم ومعه علي بن أبي طالب بسورة براءة ورجال من المسلمين فلو كان الحج واجبا على الفور لبادر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى فعله
وايضا فإن الله تعالى أوجبه إيجابا مطلقا وأمر به ولم يخص به زمانا دون زمان فيجب أن يجوز فعله في جميع العمر
ومن قال من أصحابنا قال إن الأمر المطلق لا يقتضي فعل المأمور به على الفور لا سميا والحج هو عبادة العمر فيجب أن يكون جميع العمر وقتا له كما أن الصلاة لما كانت عبادة وقت مخصوص وقضاء رمضان لما كان عبادة سنة مخصوصة كان جميع ذلك الزمن وقتا له
وايضا فإنه لو وجب على الفور لكان فعله بعد ذلك الوقت قضاء كما لو فعل الصلاة بعد خروج الوقت وليس كذلك
وايضا فإنه إذا أجره وفعله فقد برئت ذمته والأصل براءة الذمة من إثم التأخير فمن ادعاه فعليه الدليل

فعلى هذا هل يجب العزم على الفعل لجواز تأخيره وإنما يجوز تأخيره إلى أن تظهر أمارات العجز ودلائل الموت بحيث يغلب على ظنه أنه إن لم يحج ذلك العام فاته فإن أخره بعد ذلك أثم ومات عاصيا وإن مات قبل ذلك فهل يكون آثما ذكر أبو يعلى فيه وجهين واختار أنه لا يكون اثما كما لو مات من عليه الصلاة وقضاء رمضان في أثناء وقتهما
والأول هو المذهب المعروف لمسلكين عام وخاص
أما العام فهو أن الأمر المطلق يقتضي فعل المأمور به على الفور بل عند

أكثر أصحابنا ليس في الشريعة إلا واجب مؤقت أو واجب على الفور
أما واجب يجوز تأخيره مطلقا فلا يجوز لأنه إن جاز التأخير إلى غير غاية موصوفة بحيث لو مات مات غير عاص بطل معنى الوجوب وإن جاز إلى أن يغلب على ظنه الفوت إن لم يفعل لم يجز لوجهين
أحدهما أن هذا القدر غير معلوم ولا مظنون فإن الموت إنما يعلم بأسبابه وإذا نزلت أسباب الموت من المرض الشديد ونحوه تعذر فعل المأمور به وقبل حصول أسبابه فإنه لا يغلب على ظن أحد أنه يموت في هذا العام ولو بلغ تسعين سنة
الثاني إنه إن مات قبل هذا الظن غير عاص لزم أن لا يجب الفعل على أكثر الخلق لأن أكثرهم يموتون قبل هذا الظن وإن عصى بذلك فبأي ذنب يعاقب وإنما فعل ما جاز له وما الفرق بينه وبين من مات في أثناء وقت الصلاة وكيف يجوز أن يقال إنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت
وأما المسلك الخاص فمن وجوه

أحدهما ما روى ابن عباس رضي الله عنه عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له رواه أحمد فأمر بالتعجيل والأمر يقتضي الإيجاب لا سيما واستحباب التعجيل معلوم الضرورة من نفس الأمر بالحج فلم يبق لهذا الأمر الثاني فائدة إلا الإيجاب وتوكيد مضمون الأمر الأول
وعن مهران أبي صفوان قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أراد الحج فليتعجل رواه أبو داود

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة رواه أحمد وابن ماجه وفيه أبو إسرائيل الملائي
فأمر بالتعجيل كما أمر به في الحديث الأول وأمره بالتعجيل من أراده لا يمنع الوجوب فإن إرادة الواجب واجبة كما قال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم ويجب عليه أن يريده ويعزم عليه حين وجوبه عليه وإنما ذكره والله أعلم وبالإرادة ليبين أنه في الحين الذي يعزم عليه ينبغي أن يفعله لا يؤخره ولا يتأخر فعله عن حين إرادته فإن هذه الإرادة هي التي يخرج بها من حيز

الساهي والغافل لا إرادة التخيير بين الفعل والترك لقوله من أراد الجمعه فليغتسل
وايضا فإن فعل القضاء من الحج يجب على الفور فإنه لو أفسد الحج أو فاته لزمه الحج من قابل بدليل قوله عليه السلام من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل وهذا لاخلاف فيه فإذا كان القضاء يجب على الفور فأن تجب حجة الإسلام الأداء بطريق الأولى والأحرى
وايضا فإن تأخيره إلى العام الثاني تفويت له لأن الحج ليس كغيره من العبادات يفعل في كل وقت وإنما يختص بيوم من السنة فإذا أخره عن ذلك اليوم جاز أن يدرك العام الثاني وجاز أن لا يدركه وأن يموت أو يفتقر أو يمرض أن يعجز أو يحبس أو يقطع عليه الطريق إلى غير ذلك من العوائق والموانع فلا يجوز التأخير إليه وإلى هذا أشار بقوله صلى الله عليه و سلم فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة وقوله في حديث اخر ينتظر

أحدكم إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا
وايضا فإن من مات قبل الحج فقد لحقه الوعيد وهو ما روى هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو ثنا أبو اسحق الهمداني عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا

رواه الترمذي ورواه ابن بطة وزاد فيه ومن كفر فإن الله غني عن العالمين وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال وهلال مجهول والحارث مضعف عضده ما روى شريك عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من

لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا رواه ابن المقريء أبو عروبة ورواه أحمد ثنا

وكيع عن سفيان عن ليث عن ابن سابط قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ورواه سعيد هكذا مرسلا عن أبي الأحوص عن ليث
وعن عمر رضي الله عنه قال من كان ذا ميسرة ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا
وعن الضحاك بن عزوم قال قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه

من مات وهو مؤسر لم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا
وعن عدي بن عدي قال قال عمر بن الخطاب رحمة الله عليه من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ولولا ما أرى من سرعة الناس في الحج لجبرتهم عليه ولكن إذا وضعتم الرحال فشدوا السروج وإذا وضعتم السروج فشدوا الرحال
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال من وجد إلى الحج سبيلا سنة

ثم سنة ثم سنة ثم مات ولم يحج لم يصل عليه لا ندري مات يهوديا أو نصرانيا
وعن إبراهيم قال كان للأسود بن يزيد جار مؤسر لم يحج فقال له لو مت لم أصل عليك رواهن سعيد
والمرسل إذا إعتضد بقول الصحابي صار حجة بالإتفاق
وهذا التغليظ يعم من مات قبل أن يغلب على ظنه الفوات وهم أكثر الناس ومن غلب على ظنه ففي تأخيره تعرض لمثل هذا الوعيد وهذا لا يجوز وإنما

لحقه هذا لأن سائر أهل الملل من اليهود والنصارى لا يحجون وإن كانوا قد يصلون وإنما يحج المسلمون خاصة
وايضا فإنه إجماع السلف رواه أحمد وسعيد عن هشيم ثنا منصور عن الحسن قال قال عمر بن الخطاب لقد هممت أن أبعث رجلا إلى هذه الأمصار فينظروا كل رجل ذا جدة لم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين وهذا قاله عمر ولم يخالفه مخالف من الصحابة وإنما عزم على ذلك وإن كان تارك الحج إذا كان مسلما لا يضرب عليه الجزية لأنه كان في أول الإسلام الغالب على أهل الأمصار الكفر إلا من أسلم فمن لم يحج أبقاه على الكفر الأصلي فضرب عليه الجزية ولولا

أن وجوبه على الفور لم يجعل تركه شعارا للكفر
وقد روي عن الحسن بن محمد قال أبصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوما بعرفه من أهل البحرين عليهم القمص والعمائم فأمر أن تعاد عليهم الجزية رواه سعيد
وعن أبي هارون العبدي قال قال عمر حجوا العام فإن تستطيعوا فقابل مرتين أو ثلاثا فمن لم يستطع فقابل فمن لم يفعل فاذنوني أضرب عليهم الجزية رواه سفيان بن عيينة عنه وهذا صريح بأنه على الفور وقد خاطب به عمر الناس ولم يخالفه مخالف
وايضا فإن الحج تمام الإسلام لأن الاسلام بني على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ولهذا لما حج النبي صلى الله عليه و سلم أنزل الله قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا
وكانت شرائع الإسلام تنزل شيئا فشيئا فصار الحج كمال الدين وتمام

النعمة فإذا لم يحج الرجل لم يكن إسلامه ودينه كاملا بل يكون ناقصا ولا يجوز للمسلم أن يترك دينه ناقصا كما لا يجوز أن يخل بالصلاة والصوم والزكاة بعد وجوبها
وأما ما ذكروه من أن الحج فرض متقدما وأخره النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه فعنه أجوبة
أحدها أنه لا يجوز لمسلم أن يعتقد أن الله أوجب الحج وكتبه ومكث النبي صلى الله عليه و سلم وعامة أصحابة مؤخرين له من غير عائق أصلا خمس سنين ولا سنة واحدة فإن القوم رضوان الله عليهم كانوا مسارعين في الخيرات وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار يبادرون إلى فعل الصلاة في أول الوقت طلب الفضل والثواب لعلمهم بما في المسابقة من الأجر فكيف يؤخرون الحج بعد وجوبه من غير عذر أصلا
وتأخيره إن لم يكن محرما فإنه مكروه أو هو خلاف الأحسن والأفضل وتأخر عن مقامات السبق ودرجات المقربين فكيف تطبق الأمة مع نبيها على ترك الأحسن والأفضل لغير عذر أصلا
وأيضا فقد مات منهم في تلك السنوات خلق كثير لم يحجوا أفترى أولئك لقوا الله عاصين بترك أحد مباني الإسلام ولم ينبههم النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك ولا قال لهم احذروا تفويته مع أنه من لم يحج خير بين أن يموت يهوديا أو نصرانيا وقد علم بغير ريب أن قبل الفتح لم يحج مسلم وبعد الفتح إنما

حج عتاب ابن أسيد على عادة الكفار وهديهم وانما حج بعض أهل مكة ثم في السنة الثانية أمر النبي صلى الله عليه و سلم بنفي المشركين عن البيت وبأن لا يطوف بالبيت عار وإنما حج من المسلمين نفر قليل
ثم إن حج البيت من فروض الكفايات وقد قال ابن عباس لو أن الناس تركوا الحج عاما واحدا لا يحج أحد ما نظروه بعده رواه سعيد فكيف يتركون المسلمون الحج بعد وجوبه سنة في سنة فإن حج الكفار غير مسقط لهذا الإيجاب
وأما قولهم إنه فرض سنة خمس أو ست فقد اختلف الناس في ذلك اختلافا مشهورا فقيل سنة خمس وقيل سنة ست وقيل سنة سبع وقيل سنة تسع وقيل سنة عشر فالله أعلم متى فرض غير أنه يجب أن يعلم إما أنه فرض متأخر أو فرض متقدم وكان هناك مانع عام يمنع من فعله وإلا لما أطبق المسلمون على تركه وتأخيره
الجواب الثاني أن الأشبه والله أعلم أنه إنما فرض متأخر يدل على ذلك وجوه

أحدها أن آية وجوب الحج التي أجمع المسلمون على دلالتها على وجوبه قوله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وقد قيل إن هذه الاية إنما نزلت متأخرة سنة تسع أو عشر ويدل على ذلك أنها في سياق مخاطبة أهل الكتاب وتقرير ملة ابراهيم وتنزيهه من اليهودية والنصرانية وصدر سورة آل عمران إنما نزلت لما جاء وفد نجران إلى النبي صلى الله عليه و سلم وناظروه في أمر عيسى بن مريم عليه السلام ووفد نجران إنما قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم باخره

وأما قوله وأتموا الحج والعمرة لله فإنه نزل عام الحديبية سنة ست من الهجرة لما صد المشركون رسول الله صلى الله عليه و سلم عن إتمام عمرته التي قد كان أهل بها وفيها بايع المسلمين بيعة الرضوان وفيها قاضي المشركين على الصلح على أن يعتمر من قابل فإنما يتضمن الأمر بالإتمام وليس ذلك مقتض للأمر بالابتداء فإن كل شارع في الحج والعمرة مأمور بإتمامها وليس مأمورا بإبتدائهما ولا يلزم من وجوب إتمام العبادة وجوب ابتدائها كما لا يلزم من تأكيد استحباب الإتمام تأكيد استحباب الشروع
وأما كون الحج والعمرة من دين ابراهيم عليه السلام فهذا لا شك فيه ولم يزل ذلك قربة وطاعة من أول الإسلام وجميع آيات القرآن تدل على حسن ذلك واستحبابه وأما وجوبه فلا يعلم أنه كان واجبا في شريعة إبراهيم البتة ولم يكن لإبراهيم عليه السلام شريعة يجب فيها على الناس

ويوضح ذلك أنه لم يقل أحد أن الحج كان واجبا من أول الإسلام
الوجه الثاني أن أكثر الأحاديث الصحيحة في دعائم الإسلام ليس فيها ذكر الحج مثل حديث وفد عبد القيس لما أمرهم بأمر فصل يعملون به ويدعون إليه من وراءهم ويدخلون به الجنة أمرهم بالإيمان بالله وحده وفسره لهم أنه الصلاة والزكاة وصوم رمضان وأن يعطوا من المغنم الخمس ومعلوم أنه لو كان الحج واجبا لم يضمن لهم الجنة إلا به
وكذلك الأعرابي الذي جاء من أهل نجر ثائر الرأس الذي قال لا أزيد على هذا ولا أنقص منه إنما ذكر له النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة والزكاة والصوم
وكذلك الذي أوصاه النبي صلى الله عليه و سلم بعمل يدخله الجنة أمره بالتوحيد والصلاة والزكاة وصوم رمضان

وقد تقدمت هذه الأحاديث في أول الصيام مع أنه قد ذكر ابن عبد البر أن قدوم وفد عبد القيس كان سنة تسع وأظنه وهما ولعله سنة سبع لأنهم قالوا أن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وهذا إنما يكون قبل فتح مكة وأما ذكر الحج في حديث ضمام بن ثعلبه في بعض طرقه وقد تقدم اختلاف الناس في وفود ضمام وبينا أن الصواب أنه إنما وفد سنة تسع فيكون الحج إنما فرض سنة تسع وهذا يطابق نزول الاية في تلك السنة وهذا شبيه بالحق فإن سنة ثمان وما قبلها كانت مكة في أيدي الكفار وقد غيروا شرائع الحج وبدلوا دين إبراهيم عليه السلام ولا يمكن مسلما أن يفعل الحج إلا على الوجه الذي يفعلونه فكيف يفرض الله على عباده المسلمين مالا يمكنهم فعله وإنما كانت الشرائع تنزل شيئا فشيئا كلما قدروا وتيسر عليهم أمروا به
الوجه الثالث أن الناس قد اختلفوا في وجوبه والأصل عدم وجوبه في الزمان الذي اختلفوا فيه حتى يجتمعوا عليه لاسيما والذين ذكروا وجوبه إنما تأولوا عليه اية من القران أكثر الناس يخالفونهم في تأويلها وليس هناك نقل صحيح عن من يوثق به أنه واجب سنة خمس أو سنة ست

الجواب الثالث أنه وإن كان فرض متقدما لكن كانت هناك عوائق تمنع من فعله بل من صحته بالكلية سواء كان واجبا أو غير واجب أظهرها منعا أن الحج قبل حجة الوداع كان يقع في غير حينه لأن أهل الجاهلية كانوا ينسئون النسيء الذي ذكره الله في القران حيث يقول إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكفرين فكان حجهم قبل حجة الوداع في تلك السنين يقع في غير ذي الحجة
روى أحمد بإسناده عن مجاهد في قوله إنما النسيء زيادة في الكفر قال حجوا في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت
حجة أبي بكر الاخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه و سلم بسنة ثم حج النبي صلى الله عليه و سلم من قابل في ذي الحجة فلذلك حين يقول النبي صلى الله عليه و سلم إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض

وروى عبد الرازق عن معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر قال فرض الله الحج في ذي الحجة وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادي وجمادي ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذا القعدة وذا الحجة ثم يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه فيسمون أحسبه

قال المحرم صفر ثم يسمون رجب جمادى الاخرة ثم يسمون شعبان رمضان ورمضان شوال ثم يسمون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم عادوا لمثل هذه القصة قال فكانوا يحجون في كل شهر عامين حتى وافق حجة أبي بكر الأخر من العامين في ذي القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه و سلم حجته التي حج فوافق ذلك ذا الحجة فلذلك يقول النبي صلى الله عليه و سلم في خطبته إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض
وكذلك في رواية أخرى عن مجاهد قال هذا في شأن النسيء لأنه كان ينقص من السنة شهرا
وروى سفيان بن عمرو عن طاوس قال الشهر الذي نزع الله من الشيطان المحرم

وروى أبو يعلى الموصلي عن إبراهيم في قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر قال النسيء المحرم وروى أحمد عن أبي وائل في قوله عز و جل إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما الاية قال كان رجل ينسأ النسيء من كنانة وكان يجعل المحرم صفر يستحل فيه الغنائم فنزلت إنما النسيء زيادة في الكفر
وهذا مما أجمع عليه أهل العلم بالأخبار والتفسير والحديث وفي ذلك

نزل قوله إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا والتي بعدها
وعن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه و سلم خطب في حجته فقال ألا إن الزمان قد استدار كهيته يوم خلق الله السموات والأرض السنة إثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذكر الحديث متفق عليه
وإذا كان الحج قبل حجة الوداع في تلك السنين باطلا واقعا في غير ميقاته امتنع أن يؤدي فرض الله سبحانه قبل تلك السنة وعلم أن حجة عتاب بن أسيد وحجة أبي بكر إنما كانتا إقامة للموسم الذي يجتمع فيه وفود العرب والناس لينبذ العهود وينفي المشركون ويمنعون من الطواف عراة تأسيسا وتوطئة للحجة التي أكمل الله بها الدين وأتم بها النعمة وأدى بها فرض الله وأقيمت فيها مناسك إبراهيم عليه السلام

ولا يجوز أن يقال فقد كان يمكن المسلم أن يحج في غير وقت حج المشركين أما قبل الفتح فلو فعل ذلك أحد لأريق دمه ولمنه من ذلك وصد وكذلك بعد الفتح لأن القوم حديثوا عهد لجاهلية وفي استعطافهم تأليف قلوبهم وتبليغ الرسالة في الموسم ما فيه
والذي يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قد اعتمر عمرة الحديبية ثم عمرة القضية من العام المقبل ثم عمرة الجعرانة من العام الذي يليه ومعه خلق كثير من المسلمين فقد كان يمكنه أن يحج بدل العمرة فإنه أكمل وأفضل أن يجعل بدل هذه العمرة حجة أو يأمر أحدا من أصحابه بذلك ولو أنها حجة مستحبة كما أن العمرة مستحبة فلما لم يفعل علم تعذر الحج الذي أذن الله لاختصاصه بوقت دون العمرة
وقد ذكروا ايضا من جملة أعذاره إختلاط المسلمين بالمشركين وطوافهم بالبيت عراة واستلامهم الأوثان في حجهم وإهلالهم بالشرك حيث يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكة وما ملك وإفاضتهم من عرفات قبل غروب الشمس ومن جمع بعد طلوعها ووقوف الحمس عشية عرفة بمزدلفة إلى غير ذلك من المنكرات التي لا يمكن الحج معها ولم يمكن تغييرها بعد الفتح إلا في سنة أبي بكر حج من العام المقبل لما زالت
ومن الأعذار ايضا اشتغاله بأمر الجهاد وغلبة الكفار على أكثر الأرض

والحاجة والخوف على نفسه وعلى المدينة من الكفار والمنافقين وأن الله أعلمه أنه لا بد أن يحج قبل الموت وفي بعض هذه الأمور نظر وإن صحت فهي عذر في خصوصه ليست عذرا لجميع المسلمين
وأما قولهم وجوب الحج مطلقا قلنا الأمر المطلق عندنا يوجب فعل المأمور به على الفور ولو لم يكن الأمر المطلق يقتضي ذلك فقد بينا من جهة السنة وغيرها ما يقتضي وجوب المبادرة إلى فعل الحج فيكون الأمر به مقيدا
وايضا فإن تأخير الحج تفويت لأنه لا يتمكن من فعله إلا في وقت واحد فيصير كالعبادة المؤقتة من بعض الوجوه وإنما لم يكن فعله بعد ذلك قضاء لأن القضاء هو فعل العبادة بعد خروج وقتها المحدود شرعا حدا يعم المكلفين والحج ليس كذلك وكونه قضاء أو أداء يغير وجوب التقديم ولا جواز التأخير بدليل أن النائم والناسي والحائض والمسافر يأتون بالعبادة بعد خروج الوقت العام المحدود فيكون قضاء مع جواز التأخير أو وجوبه والمزكى يجب عليه أداء الزكاة عقيب الحول ولو أخرها لم يكن قضاء وكذلك القاضي شهر رمضان لو أخر إلى عام ثان أو أخر قضاء الحج إلى عام ثان لم يقل له قضاء القضاء وكذلك من غلب على ظنه تضايق الصلاة أو الحج في وقته فأخره وأخلف ظنه أثم بذلك ولا يكون ما يفعله قضاء وكذلك لو صرح بوجوب الفعل على الفور أو أقام عليه دليل وأخره إلى الوقت الثاني لم يكن قضاء فالحج من هذا الباب

فصل
الميت يحج عنه وليه وكذلك المعضوب كما في الحديث فإن حج غير الولي
فإن حج عن الميت أجنبي بدون إذن الوارث ففيه وجهان أحدهما يصح إختاره ابن عقيل والثاني لا يصح قاله أبو الخطاب في خلافه
فأما الحي فلا يجوز أن يحج عنه الفرض إلا بإذنه وكذلك لا يحج عنه النفل بدون إذنه لكن إن حج وأهدى له ثوابه

فأما الميت فيفعل عنه الفرض بدون إذنه وأما النفل إذا فعله عنه وارث أو أجنبي فهل يقع الحج عن المحجوج عنه بحيث يكون الإحرام عنه أو يكون الحج عن الحاج ويكون الثواب للميت ففيه وجهان أحدهما لا ينعقد عن الميت حج غير واجب إلا بإذنه قال القاضي وابن عقيل في موضع
والثاني يقع عن المحجوج عنه قاله القاضي في موضع اخر وابن عقيل فعلى هذا إذا خالف النائب ما أمر به وكان عن حي لم يقع عنه بل يقع عن نفسه وإن كان عن ميت

فصل
وإذا مات وعليه دين لآدمي ودين لله تعالى مثل الزكاة والحج تحاصا في إحدى الروايتين وقال في رواية ابن القاسم إذا مات وعليه دين وزكاة تحاص الغرماء من الزكاة نصفين وهذا اختيار أكثر أصحابنا
والثانية يقدم دين الآدمي قال عبد الله في المناسك سألت أبي عن رجل مات وترك الفي درهم وعليه دين ألف درهم ولم يحج وعليه زكاة فرط فيها قال يبدأ بالدين فيقضي والحج والزكاة فيهما اختلاف من الناس من يقول إن لم يوص فهو ميراث وإن أوصى فهو من ثلثه ونحن نقول يحج عنه ويزكي من جميع المال وما بقي فهو ميراث
والحج والزكاة سواء فيما ذكره ونقله عنه أبو جعفر الجرجرائي فقال

سألته عن الرجل يحج عنه قال إذا لم يكن حج فمن جميع المال وكذلك جميع ما يلزمه من الزكاة وغيره والزكاة أشد قال القاضي لم يرد أن تقدم على الحج أو تقضي دونه وإنما أراد أنها أوكد لتعلق حق الله تعالى بها وحق الفقير والحج يتعلق به حق الله فقط

فصل
ولا يخلو إما أن يحج عن غيره متبرعا أو يحج بمال فإن كان متبرعا يحج بمال نفسه جاز أن يحج عن كل أحد وفي مثل ذلك جاء حديث الخثعمية والخثعمي وأبي رزين وحديث الجهنية والمرأة الأخرى وغيرهم لكن الأفضل أن يبدأ بالحج عن أقاربه ويبدأ منهم بأبويه ويبدأ بالأم إلا أن يكون الحج قد وجب على الأب فيبدأ به قال في رواية أحمد بن الحسن ويوسف بن موسى إذا أراد الرجل الحج عن أبويه يبدأ بالأم إلا أن يكون الأب قد وجب عليه
وأما إن حج عن غيره بمال ذلك الرجل فقال في رواية حنبل لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون متبرعا بحج عن أبيه أو ابنه أو أخيه
وسئل في رواية الجرجرائي عن الرجل يعطى للحج عن ميت قال لا لا يأخذ

وقال عبد الله سألت أبي رجل حج ويأخذ كل سنة حجة قال لا يعجبني هذا
وقال سألت أبي عن رجل يحب الحج ترى له أن يحج عن الناس فقال لا يعجبني أن يحج عن الناس إلا أن يبتدي فقيل له حج فلا بأس به
فد رخص فيه لمن ابتدء إذا كان مقصوده الحج
وإن حج عن ميت وارث فقال في رواية أبي الحارث وقد سئل يحج الرجل عن أبيه وعن أمه فقال إن حج من مال نفسه متبرعا وإن كان من مال الميت فلا يحج وارث عن وارث كأنه يرى أنها وصية لوارث

فصل
وتجوز الإستنابة في حج التطوع في الحياة وبعد الموت من المعضوب والقادر في إحدى الروايتين نص عليها في رواية الأثرم وقد سئل عن الصحيح هل له أن يعطي من يحج عنه بعد الفريضة يتطوع بذلك فقال إنما جاء الحديث في الذي لا يستطيع ولكن إذا أحج الصحيح عنه فارجوا أن لا يضره
وقال في رواية ابن منصور يتصدق عن الميت ويحج عنه ويسقى عنه ويعتق عنه ويصام النذر إلا الصلاة
والأخرى لا تجوز الاستنابة إلا في الفرض قال في رواية الجرجاني وقال سألته عن من قد حج الفريضة يعطي دراهم يحج عنه فقال ليس يكون له ليس عليه شيء رأى أنه ليس له أن يحج عنه بعد الفريضة

وقال القاضي وظاهر هذا أنه لا تصح النيابة في فعل الحج لأنه قال ليس له أن يحج بعد الفريضة وجعل العلة أنه ليس عليه سواء كان قادر أو عاجزا وسواء فيه الإستنابة في الحياة وبعد الموت
وجعل أبو الخطاب وكثير من أصحابنا هذا فيمن يقدر أن يحج بنفسه فأما العاجز فتجوز إستنابته بلا تردد ولو كان عجزه مرجو الزوال كالمريض والمحبوس فهو كالمعضوب في النفل لأن النفل مشروع في كل عام وهو عاجز عنه في هذا العام فهو كالمعضوب الذي عجز عن الفرض في جميع العمر وهذا فيمن أحرم عن ذلك ولبى عنه
فأما إن حج عن نفسه ثم أهدى ثوابها للميت فهذا يجوز عندنا قولا واحدا لما تقدم

فصل
وإذا استناب رجلا في الحج أو ناب عنه في فرضه فإن الحج يقع عن المحجوج عنه كأنه هو الذي فعله بنفسه سواء كان من جهة المنوب مال أو لم يكن لأن النبي صلى الله عليه و سلم شبه الحج بالدين وجعل فعله عن العاجز والميت كقضاء الدين عنه وقال لأبي رزين حج عن أبيك واعتمر وقال للخثعمية حجي عنه وكذلك قال لغير واحد حج عنه
والشيء إذا فعل عن الغير كان الفاعل بمنزلة الوكيل والنائب ويكون العمل مستحقا للمعمول عنه ولهذا لو وجب على الإنسان عمل في عقد أجارة فعمله عنه عامل كان العمل للأجير لا للعامل ولأنه ينوي الإحرام عنه ويلبي عنه ولو لم يكن للمحجوج عنه إلا ثواب النفقة كان بمنزلة من أعطى غيره مالا يحج عن نفسه أو يجاهد الكفار فلم يجز أن يلبي عنه

فصل
ويجوز حج الرجل عن المرأة وكذلك يجوز حج المرأة عن الرجل قال في رواية ابن منصور يحج الرجل عن الرجل والمرأة عن المرأة والمرأة عن الرجل وعليه أصحابنا لحديث الخثعمية
وقال في رواية أبي داود وقد سئل يحج عن أمه قال نعم يقضي عنها دينا عليها قيل له فينفق من ماله وينوي عنها قال جائز قيل له فالمرأة تحج عن الرجل قال نعم إذا كانت محتاجه

فصل
ولا يجوز الإستيجار على الحج وغيره من الأعمال التي لا يجوز أن تفعل إلا على وجه التقرب مثل الأذان والإمامة وتعليم القران والحديث والفقه في إحدى الروايتين
فأما أن يأخذ نفقة يحج بها فيجوز هذه طريقة القاضي وأصحابه ومن بعدهم
وقال ابن أبي موسى في الإجارة على الحج روايتان كره أحمد رضي الله عنه في إحداهما أن يأخذ دراهم فيحج بها عن غيره قال إلا أن يكون متبرعا بالحج عن أبيه أو عن أخيه أو عن أمه وأجاز ذلك في موضع اخر
وعلى هذا يكره الأخذ نفقة وأجرة مع الجواز وتجب على الكفاية وإنما تكون الروايتان في الكراهة فقط
وأجاز أبو اسحق بن شاقلا الاستئجار على الحج وما يختص نفعه مما

ليس بواجب على الكفاية دون ما يعم فقال لا يجوز أن يؤخذ على الخير أجر ويجوز أن يؤخذ على الحج عن الغير أجر لأن أفعال الخير على ضربين ما كان فرضا على العامة وغيرهم مثل الأذان والصلاة وما أشبه ذلك لا يجوز أن يؤخذ عليه أجر وما انفرد به من حج عنه فهو جائز مثل فعل البناء لبناء مسجد يجوز أن يأخذ عليه الأجرة لأنه ليس بواجب على الذي يبني بناء المسجد
فأما المنصوص عن أحمد فقال في رواية أبي طالب والذي يحج عن الناس بالأجر ليس عندنا فيه شيء وما سمعنا أن أحدا استأجر من حج عن ميت
وقال في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان أكره أن يستأجر الرجل عن والديه يحج عنهما فقال أحمد نحن نكره هذا إلا أن يعينه فقد

نص على كراهة الأجرة ولم يكره النفقة وقد نص في مواضع كثيرة على من يأخذ مالا يحج به عن ميت وهل يكون له الفاضل أو لا يكون
وأما الرواية التي أخذ القاضي منها جواز الاستيجار فقال في رواية عبد الله وقد سأله عمن يكرى نفسه للحج ويحج قال لا بأس وقال في رواية الكوسج يكرى نفسه ويحج إلا أن هذا إنما أراد به أن يكرى نفسه للخدمة والعمل ولهذا قال يكرى نفسه ويحج وفي مثل هذا جاءت السنة
وقال في رواية حنبل لا يعجبني أن يأخذ دراهم فيحج بها إلا أن يكون الرجل متبرعا بحج عن أبيه عن أمه عن أخته قال النبي صلى الله عليه و سلم للذي

سأله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم والذي يأخذ دراهم الحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف إنما الحج عمن كان له زاد وراحلة وينفق ولا يسرف ولا يقتر إذا كان ورثته صغارا
وقال في رواية الجرجرائي وقال في المعضوب يحج عنه وليه
ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أذن أن يحج عن المعضوب والميت من يتبرع بالحج عنهم أوجب قضاء دينهم وبراءة ذمتهم وايضا فإن أخذه الدراهم يحج بها
وإنما كرهت الإجارة لما ذكره أحمد من أن ذلك بدعة لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ولا على عهد السلف وقد كان فيهم من يحتاج إلى الحج عنه ولم يستأجر أحد أحدا يحج عن الميت ولو كان ذلك جائزا حسنا لما أغفلوه ولأن الله تعالى يقول في كتابه من كان يريد حرث الأخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الأخرة من نصيب والأجير إنما يريد بهذه العبادة حرث الدنيا وقال تعالى

من كان يريد الحيوة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعملهم فيها وهم فيها لا يبخسون وقال من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ولأن ذلك أكل للدنيا بالدين لأنه يبيع عمله الصالح الذي قد قيل فيه من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويشتري به ثمنا قليلا وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لمن إستؤجر بدراهم يغزو بها ليس لك من دنياك وآخرتك إلا هذا وهذا لأن الإجارة معاوضة على المنفعة يملك بها المستأجر المنفعة كما يملك المشتري الأعيان المبيعة

فالأجير للحج يبيع إحرامه وطوافه وسعيه ووقوفه ورميه لمن إستأجره بالأجر الذي أخذه
ولأن أخذ العوض يبطل القربة المقصودة كمن أعتق عبده على مال يأخذه منه لا يجزؤه عن الكفارة
ولأن الحج عمل من شرطة أن يكون قربة لفاعلة فلا يجوز الاستيجار عليه كغيره من القرب وهذا لأن دخلوه في عقد الإجارة يخرجه عن أن يكون قربة لأنه قد وقع مستحقا للمستأجر وإنما كان من شرطه أن يقع قربة لأن الله تعالى أوجب على العبد أن يعمل مناسكه كلها لله ويعبده بذلك فلو أنه عملها بعوض من الناس لم تجزه أجماعا كمن صام أو صلى بالكرا فإذا عجز عن ذلك بنفسه جعل الله تعالى عمل غيره قائما مقام عمله بنفسه وسادا مسده رحمة ولطفا فلا بد أن يكون مثله ليحصل به مقصوده لأن النبي صلى الله عليه و سلم شبهه بالدين في الذمة وإنما تبرأ ذمة المدين إذا قضى عنه الدين من جنس ما عليه فإذا كان هذا العامل عنه إنما يعمل للدنيا ولأجل العوض الذي أخذه لم يكن حجه عبادة لله وحده فلا يكون من جنس ما كان على الأول وإنما تقع النيابة المحضة ممن غرضه نفع أخيه المسلم لرحم بينهما أو صداقة أو غير ذلك وله قصد في أن يحج بيت الله فيكون حجه لله فيقام مقام حج المستنب
والجعالة بمنزلة الإجارة إلا أنها ليست لازمة ولا يستحق الجعل حتى يعمل

وأما الحج بالنفقة فإنما كرهه أحمد مرة لأنه قد يكون قصده الإنفاق على نفسه مدة الحج فلا يكون حجة لله كما أن الأجير قصده ملك الأجرة وإن كانت شيئا مقدرا مثل وصية ونحوها فقد يكون قصده استفضال شيء لنفسه فيبقى عاملا لأجل الدنيا
ووجه جواز ذلك أن الحج واجب على المستطيع بماله فلا بد أن يخرج هذا المال في الحج

فصل
وإن قلنا يجوز الاستئجار على الحج فاستؤجر رجل فإنه يعتبر له شروط الإجارة من معرفة الأجرة وعقد الاجارة وتملك الأجرة بالعقد فيتصرف بما شاء ويجب العمل في ذمته فلو أحصر أو ضل الطريق أو ضاعت النفقة كان من ضمانه وإن مات إنفسخت الإجارة واستحق من الأجرة بقدر ما قطع من الطريق ويتمم الحج من حيث بلغ ذكره القاضي وما لزمه من الدماء فهو عليه لأن الحج مستحق عليه
وإن أخذها جعالة بأن يقال له إن حججت فلك هذا الجعل فهذا عقد جائز لا يملك به العوض إلا بعد الفراغ من العمل ولا يجب في ذمته شيء وإن عاقه عائق عن تمام الحج لم يكن له شيء ولا عليه شيء
قال أحمد في رواية محمد بن موسى إذا أخذ حجة عشرين دينارا فلما بلغ الكوفة مرض فرجع فإنه يرد عليهم جميع ما أخذ ولا يحتسب منه ما أنفق فإن تلف منه أو ضل الطريق فهذا يضمن ذلك وهذا إنما يكون إذا كانت جعالة لأنه لم يوجب عليه إتمام الحج ولا إحتسب له بما أنفق وجعل التالف من ضمانه وهذه أحكام الاجعال وإن أخذها نفقة سواء قلنا تصح الإجارة أولا تصح فإنه يكون بمنزلة الوكيل
والنائب المحض كالنائب في القضاء والأعمال العامة ويكون ما يأخذه

بمنزلة الرزق الذي يرزقه الأئمة والقضاة والمؤذنون فلو تلف أو ضل الطريق أو مات أو مرض لم يكن عليه ضمان ما أنفق ولو تلف بغير تفريط منه لم يضمن ولم يكن عليه إتمام بقية العمل ويحسب للمستنيب بما عمله وعلى هذا أكثر نصوصه
قال في رواية ابن منصور في رجل أعطى دراهم يحج بها عن إنسان فمات في بعض الطريق فليس عليه شيء مما أنفق ويحجوا بالباقي من حيث بلغ هذا الميت
وقال في رواية أحمد بن الحسين إذا دفع إلى رجل مالا يحج به عن رجل فضاع منه في بعض الطريق فلا غرم عليه قيل له فيجزى عن

الموصى حجته قال ما أدري أخبرك أرجو إن شاء الله وكذلك نقل الميموني
وإذا لم يقدر له النفقة فإنه ينفق بالمعروف ويرد ما فضل قال أحمد الذي يأخذ دراهم يحج لا يمشي ولا يقتر ولا يسرف إذا كان ورثته صغارا
وقال في رجل أخذ حجة عن ميت ففضل معه فضلة يردها ولا يناهد أحدا إلا بقدر ما لا يكون مسرفا ولا يدعو إلى طعامه ولا يتفضل ثم قال إما إذا أعطي ألف درهم أو كذا وكذا فقيل له حج بهذا فله أن يتوسع فيها وإن فضل شيء فهو له
وإذا قال الميت حجوا عني حجة بألف فدفعوها إلى رجل فله أن يتوسع فيها وما فضل فهو له
وهذه النفقة أمانة بيده له أن ينفق منها بالمعروف وإنما تقدر بأمر الميت أو المستنيب الحي أو بتقدير الورثة إذا كانوا كبارا فإن كان فيهم يتيم فليس لهم أن يقولوا ما فضل فهو لك وليس له أن يتوسع بإذنهم وغير إذنهم إذا كان في الورثة صغارا إلا أن يتبرع الكبار بشيء من حصتهم
ولا يملك الفاضل إلا بعد الحج فليس له أن يتصرف فيه قبل ذلك

قال في رواية أبي طالب إذا قال حجوا عني بألف فما فضل من الألف رده على الحج ولو قال حجوا عني حجة بألف فما فضل فهو للذي يحج وإذا قال حجوا عني حجة فما فضل مما دفع إليه رد إلى الورثة وإذا دفع إلى الرجل حجة فقال ما فضل لك فأخذها الرجل فاشترى بها متاعا يتجر به قال لا يجوز له قد خالف إنما قال له امض فما فضل فهو لك لم يقل أتجر قبل
وهل لهذا الذي قدر له النفقة أن يقتر على نفسه أو أن يمشي

فصل
فأما الأجير الذي يكرى نفسه لخدمة الجمال أو الركاب ونحو ذلك ويحج عن نفسه فهو جائز بل لو أنفق عليه غيره متبرعا وحج عن نفسه أجزأه قال في رواية عبد الله والكوسج فيمن يكرى نفسه ويحج لا بأس وقال حرب سألت أحمد قلت رجل استأجر رجلا ليخرج معه فيخدمه فحج عن نفسه قال أرجو أن يجزءه قلت إذا كان أجيرا قال نعم وسألته قلت الرجل يحج مع الرجل فيكفيه نفقته وما يحتاج إليه أترجو أن يجزيء عنه قال نعم يجزيء عنه وهو بمنزلة من يكرى دوابه في هذا الوجه أو يتجر فيه
فإنه حج واعتاض عن منفعة أخرى غير الحج بل إن كان إنما يكرى نفسه ليحج بذلك العوض فهو المحسنين عن أبي أمامة التميمي قال كنت رجلا أكرى في هذا الوجه وكان ناس يقولون ليس لك حج فلقيت ابن عمر فقلت يا أبا عبد الرحمن إني رجل أكرى في هذا الوجه وإن ناسا يقولون إنه ليس لك حج فقال ابن عمر أليس تحرم وتلبي وتطوف بالبيت وتفيض من عرفات وترمي الجمار قال قلت بلى قال فإن لك حجا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عن مثل ما سألتني عنه فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يجبه حتى نزلت هذه الاية ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقرأ عليه هذه الاية وقال لك حج رواه أحمد وأبو داود

وعن أبي السليل قال قلت لابن عباس إني رجل أكرى وإن ناسا يزعمون يقولون إنما أنت خادم إنما أنت أجير قال بلة لك حج حسن جميل إذا اتقيت الله وأديت الأمانة وأحسنت الصحابة رواه حرب

فصل
ما لزم النائب من الدماء بفعل محظور مثل الوطء وقتل الصيد ونحو ذلك فهو في ماله نص عليه لأنه لم يؤذن له في ذلك وإنما هو من جنايته فهو كما لو أتلف نفسا أو مالا وكذلك ما وجب لترك واجب
وأما دم التمتع والقران إذا أذن له فيهما على المستنيب وإلا فعليه ودم الإحصار على المستنيب لأنه للتخلص من السفر فهو كنفقة الرجوع هذا هو الذي ذكره
وقال ابن أبي موسى اختلف أصحابنا في دم الإحصار هل هو من مال الأجير أو من مال المستأجر على وجهين
وإن أفسد الحج أو فوته بتفريطه كان عليه رد ما أخذ لأنه لم يجز عن المستنيب بتفريطه والقضاء عليه في ماله

فصل
وما أنفق زيادة على القدر المعتاد أو على مالا بد منه فهو في ماله فإذا سلك طريقا يمكنه سلوك أقرب منها فنفقة تفاوت ما بيت الطريقين في ماله وكذلك إن تعجل إلى مكة عجلة يمكنه تركها وإن أقام بعد الحج وبعد إمكان الرجوع أكثر من مدة القصر أنفق من مال نفسه
وأما إذا لم يمكنه الرجوع فإنه ينفق من مال المستنيب وله نفقة الرجوع وإن أقام بمكة سنين ما لم يستوطنها فإن استوطنها لم يكن له نفقة الرجوع
وإن مرض في الطريق فله نفقة رجوعه لأنه لا بد منه وقد حصل بغير تفريطه وإن قال خفت أن أمرض فرجعت فقال عليه الضمان لأنه متوهم
ولو أذن له في لنفقة في جميع ذلك جاز إذا كان المال للمستنيب وإن شرط أحدهما أن الدماء الواجبة عليه على غيره لم يجز

إذا أمر بالحج فتمتع أو قرن جاز ذلك ووقع عن الآمر والدم على النائب قال أحمد في رواية أبي طالب إذا حج الرجل عن الرجل فتمتع لنفسه فما سمعت أحدا يقول يتمتع عن نفسه
وإذا قالوا له حج ودخل بعمرة فإن العمرة للذي يحج عنه والدم عليه في ماله وكذلك إن دخل قارنا فإن أحرم من مكة جاز له لأن العمرة لمن حج عنه ولو دخل بعمرة لنفسه وأراد أن يحج عن غيره خرج إلى الميقات فأحرم عنه وقال في رواية حنبل إذا قرن أو تمتع فالدم في ماله والحج والعمرة عن صاحب المال وذلك لأن المتمتع والقارن أتيا بحجة وعمرة وذلك أفضل من حجة منفردة ليس بعدها عمرة بلا تردد
وإن دخل بعمرة عن نفسه ثم أراد أن يحج عن غيره فعليه أن يخرج إلى ميقاته فيحرم منه على ما نص لأن المستنيب قد وجب عليه الإحرام من الميقات فلا بد أن يقضي عنه ذلك ولا يجوز له أن يحرم عنه من دون الميقات
وقد نقل عنه علي بن سعيد وسأله عن الرجل يحج عن غيره هل يعتمر قبل الحج فقال بنبغي له أن ينتهي إلى ما أمر فإن لم يكن أمر أن يعتمر

إعتمر عن نفسه فإذا حل من عمرته حج عن الميت
وظاهر هذا أنه يحج من مكة وفيه نظر وليس له أن يحرم عنه من مكة فإن خالف وفعل ففيه وجهان
أحدهما عليه دم لترك ميقاته وعليه من النفقة بقدر ما تركه بين الميقات ومكة لأنه أخل بما يجبره دم فلم تسقط نفقته كما لو تجاوز الميقات غير محرم
والثاني لا يقع فعله عن الأمر ويرد جميع النفقة لأنه مخالف له
وإن أمره بأن يحج ويعتمر بعد الحج فتمتع أو قرن

وإن أمره بالتمتع فقرن وقع عن الآمر وهل يرد نصف النفقة على وجهين وإن أفرد الحج وقع الحج عن المستنيب ورد نصف النفقة لتفويت العمرة من الميقات فإن اعتمر بعد الحج
وإن أمره بالقران فأفراد الحج أو تمتع وقع النسكان عن الآمر ويرد من النفقة بقدر ما ترك من إحرام النسك الذي تركه من الميقات
وإن أمره بالحج والعمرة ففعل أحدهما فقط رد من النفقة بقدر ما ترك ووقع ما فعله عن المستنيب

مسألة ولا يصح الحج من كافر ولا مجنون
أما الكافر فإن الله سبحانه وتعالى قال إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا
وأمر النبي صلى الله عليه و سلم أن ينادي في الموسم لا يحجن بعد العام مشرك
ولأن الحج عبادة والكافر لا تصح منه العبادات ولأنه مخصوص بالحرم والكافر ممنوع من دخول الحرم
وإذا ارتد بعد الإحرام بطل إحرامه لأن الردة تبطل جميع العبادات من الطهارة والصلاة والصوم والإعتكاف
وأما المجنون فقسمان
أحدهما الجنون المطبق مثل المعتوه ونحوه فهذا لا يصح حجه عند أكثر أصحابنا وقال أبو بكر فان حج بالصبي أو العبد أو الأعرابي أو المعتوه أو المجنون لم تجزهم عن حجة الإسلام وأجزأت الصبي والعبد والأعرابي والمعتوه إن ماتوا قبل البلوغ وإن بلغوا فعليهم الحج كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من لم يفعل وقوف عرفة وهو صحيح لم يجزه إلا

الصبي فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال وله حج ولأمه ولك أجر
فهذا الكلام يقتضي صحة حجة المعتوه لأن أكثر ما فيه أنه مسلوب العقل وذلك لا يمنع صحة حجة كالصبي
ووجه المشهور أن المجنون لا يصح منه شيء من العبادات وإنما هو بمنزلة البهيمة والفرق بينه وبين الصبي الصغير أن هذا له عمل وحركة بنفسه من غير عقل ولا تمييز فأشبه البهيمة وعكسه الصبي فإن غيره هو الذي يعمل به فجاز أن يحرم به ولأن الإحرام إنما يعقده وليه ووليه لا يقدر أن يجنبه محظورات الإحرام بخلاف الصبي ولأن الصبي لما عدم كمال العقل عدم ما يحتاج إلى العقل فعدمه في حقه ليس نقصا والمجنون سلب العقل مع وجود ما يحتاج إلى العقل

الثاني أ يجن بعد احرامه فهذا إن كان صرعا وخنقا لم يبطل احرامه لأن هذا بمنزلة الغشي والإغماء لأنه يبطل الحركة لكن هو في هذه الحال بمنزلة المغمى عليه فلا يصح منه أركان الحج الأربعة من الإحرام والطواف والسعي والوقوف فأما المبيت بالمزدلفة ورمي الجمار فيصح في هذه الحال قاله القاضي وابن عقيل وإن كان جنونا محضا لا يبطل الحركة فهل يبطل إحرامه على وجهين ذكرهما ابن عقيل أحدهما لا يبطل فلو قتل بعد ذلك صيدا ضمنه

مسألة ويصح من العبد والصبي ولا يجزئهما
في هذا الكلام فصلان
أحدهما أن العبد يصح حجة ولا يجزؤه عن حجة الاسلام
فإن أعتق فعليه حجة أخرى وإن مات أجزأت عنه تلك الحجة وكانت حجة الإسلام في حقه وإن لم تكن واجبة
وكذلك الصبي لما روى محمد بن كعب القرضي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إني أريد أن أجدد في صدور المؤمنين أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أدرك فعليه الحج وأيما رجل مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن أعتق فعليه الحج رواه سعيد وأبو داود في مراسيله واحتج به أحمد
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أسمعوني ما تقولون وافهموا ما أقول لكم أيما مملوك حج به أهله فمات قبل أن يعتق فقد قضى حجه وإن أعتق قبل أن يموت فليحج وأيما غلام حج به أهله فمات قبل أن يدرك فقد قضى حجه وإن بلغ فليحج رواه الشافعي

والمرسل إذا عمل به الصحابة حجة وفاقا وهذا مجمع عليه ولأنه يصح منه الحج لأنه من أهل العبادات ولا يجزؤه لأن فعله قبل أن يصير من أهل وجوبه
فإن عتق العبد أو بلغ الصبي وهما محرمان بالحج بعد الوقوف وخروج وقته لم يجزهما ذلك الحج عن حجة الإسلام لأن الوقوف لا يمكن إعادته وما فعل منه وقع قبل وجوبه فلا يجزيء عن واجب الإسلام
وإن عتق وبلغ قبل الوقوف أو في أثناء الوقوف أو بعد إفاضتهما من عرفة
فرجعا إليها وأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر ليلة النحر أجزأتهما تلك الحجة عن حجة الإسلام هذا هو المنصوص عنه في غير موضع وعليه

أصحابه وعنه
لما احتج به أحمد ورواه بإسناده عن ابن عباس قال إذا عتق العبد بعرفة أجزأت عنه تلك الحجة وإذا عتق بجمع لم تجزيء عنه وعن الحسن وعطاء قالا إذا عتق العبد بعدما يفيض عن عرفات أو بجمع وحاضت الجارية واحتلم الغلام فرجعوا إلى عرفة قبل طلوع الفجر فقد أجزأت عنهم حجة الإسلام ولا يعرف لهم في السلف مخالف قال أحمد ما أعلم أحدا قال لا تجزؤه إلا هؤلاء
ولأنه أتى بأركان الحج وواجباته من الإحرام والوقوف والطواف وغيره بعد الوجوب فوجب أن يجزءه

وإنما أحرم قبل الوجوب والإحرام فرض مستصحب في جميع النسك فتقدمه على وقت وجوبه لا يضر كما لو تطهر الصبي للصلاة ثم بلغ فصلى بتلك الطهارة فرضا بل أولى
وهذا لأن ما فعله قبل البلوغ أسوأ أحواله أن يكون وجوده كعدمه وهو لم يحرم حتى بلغ وهو بعرفات فأحرم حينئذ أجزأه بالإجماع فكذلك إذا بلغ وهو محرم يجب أن يجزءه ما يأتي به من الإحرام بعد ذلك ويكون ما مضى كأن لم يفعل
ومن أصحابنا من قال يكون إحراما مراعا فإذا أدرك الوقوف بالغا تبينا أنه وقع فرضا وإلا فلا كما يجوز إبهامه وتعليقه ويكون مراعا إن أدرك عرفة كان بحج وإلا كان بعمرة ويظهر أثر هذين الوجهين فيما يصيبه في إحرامه قبل الوقوف هل يكون بمنزلة جناية عبد وصبي أو بمنزلة جناية حر بالغ
فإن كانا قد سعيا قبل الوقوف وقلنا السعي ركن ففيه وجهان
أحدهما يجزؤه قاله القاضي وأبو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد لأنه لم

يفرق بين أن يكونا قد سعيا قبل الوقوف أو لم يسعيا وهذا يتوجه على قول من يقول إنما مضى من الإحرام يصير فرضا
والثاني لا يجزؤهما قال القاضي في المجرد هو قياس المذهب وتبعه ابن عقيل وهذا إذا قلنا السعي ركن لأن السعي ركن غير مستدام وقد وقع قبل وجوب الحج فلم يجزيء عن الواجب كما لو كان البلوغ والإسلام بعد الوقوف فعلى هذا إن أعادة

فصل
وإذا أحرم العبد بإذن سيده لم يملك تحليله لأنها عبادة تلزم بالشروع وقد دخل فيها بإذنه فأشبه ما لو دخل في نذر عليه ولأنه عقد لازم عقده بإذن سيده فلم يكن للسيد فسخه كما لو تزوج بإذنه حتى لو باعة أو وهبة لم يملك المشتري والمتهب تحليله لأنه انتقل إليه مستحق المنفعة في الحج فأشبه ما لو انتقل إليه مؤجرا أو مزوجا لكن يكون الإحرام عيبا بمنزلة الإجارة لأنه ينقص المنفعة فتنقص القيمة فإن علم به لم يكن له الرد وإن لم يعلم فله الرد أو الإرش
وإن كان قد أحرم بدون إذن البائع وقلنا له تحليله لم يكن عيبا وإلا فهو عيب ولو رجع السيد عن الإذن وعلم العبد فهو كما لو لم يأذن له وإن لم يعلم حتى أحرم ففيه وجهان بناء على الوكيل إذا لم يعلم بالعزل
وإن أحرم بدون إذن سيده إنعقد إحرامه في ظاهر المذهب وخرج ابن عقيل وجها أنه لا ينعقد لأنه يغصب سيده منافعة التي يملكها فلم يصح

كالحج بالمال المغصوب وأولى والأول هو المنصوص لكن هل يحل له أنه يحرم
وهل يملك السيد تحليله على روايتين إحداهما يملكه اختاره ابن حامد وغيره لأن في بقائه عليه تفويتا لمنافعه بغير إذنه فلم يلزمه ذلك فعلى هذا يكون بمنزلة المحصر بعدو وصفة التحلل
والثانية ليس له تحليله اختاره أبو بكر
وتحليل العبد والزوجة يحصل بقول السيد والزوج قد حللت زوجتي أو عبدي أو فسخت إحرامه فعند ذلك يصير كالمحصر بعدو فيما ذكره أصحابنا فأما بالفعل فقيل قياس المذهب لا يحل به

فصل
وإذا نذر العبد الحج معينا أو مطلقا فإنه ينعقد نذرة لأن النذر بمنزلة اليمين ينعقد ممن ينعقد يمينه ثم إن كان مطلقا فهل يلزمه قضاؤه في حال الرق على وجهين ذكرهما القاضي وقال أشبههما بكلامه الوجوب
وإن كان معينا
وهل لسيده تحليله منه ومنعه من المضي فيه إن قلنا لا يمنعه من التطوع فهنا أولى وإن قلنا يمنعه من التطوع فكذلك هنا قاله القاضي وابن عقيل فعلى هذا يقضيه بعد العتق ويبدأ قبله بحجة الإسلام كما سيأتي في قضاء الفاسد
ولو حلف بالطلاق ليحجن هذا العام أو ليحرمن ونحو ذلك فإنه يحرم نص عليه وينبغي لسيده أن لا يمنعه وهل يملك منعه على روايتين
إحداهما يكره منعه قال في رواية عبد الله في مملوك قال إذا دخل أول يوم من أيام رمضان فامرأته طالق ثلاثا إن لم يحرم أول يوم من رمضان

يحرم أول يوم ولا تطلق إمرأته قيل له فيمنعه سيده أن يخرج إلى مكة قال لا ينبغي أن يمنعه أن يخرج
قال القاضي وظاهر هذا على طريق الأخبار وهو اختيار شيخنا
والثانية ليس له منعه نص في هذه المسألة يعينها في رواية اسحق بن إبراهيم قيل له فإن منعه سيده أن يخرج إلى مكة قال ليس له أن يمنعه أن يمضي إلى مكة إذا علم منه رشده

فصل
وإذا فسد احرامه فعليه المضي فيه سواء كان بإذن السيد أو بدون إذنه ولا يملك السيد تحليله إلا كما يملك تحليله من الصحيح وعليه القضاء سواء كان الإحرام مأذونا فيه أو غير مأذون فيه ويصح القضاء في حال الرق في المشهور عند أصحابنا ومنهم من ذكر فيه وجهين كالوجهين في الصبي ومنهم من لم يحك هنا خلافا مع حكايته للخلاف ثم ويجب عليه
وإذا أحرم بالقضاء فليس للسيد منعه إن كان الإحرام الأول بإذنه لأن اذنه فيه إذن في موجبه ومقتضاه وإن كان بغير إذنه فهو كالحج المنذور هل لسيده منعه على وجهين

أحدهما ليس له منعه وهو قول أبي بكر قال ابن عقيل وهو ظاهر كلام أحمد
والثاني له منعه وهو قول ابن حامد والقاضي في المجرد
والأشبه أنه لا فرق في الحج الفاسد بين أن يكون قد أحرم بإذنه أو بغير إذنه لأنه لم يأذن في الإفساد
فإن عتق قبل القضاء فعليه أن يبدأ بحجة الإسلام قبل القضاء فإن أحرم بالقضاء انصرف إلى حجة الإسلام في المشهور من المذهب ثم إن كان قد عتق بعد التحلل من الحجة الفاسدة أو بعد وقوفها لم يجزه القضاء عن حجة الإسلام لأن أداءه لا يجزؤه
وإن عتق فيها في أثناء الوقوف أو قبله فقال القاضي وجماعة من أصحابنا يجزؤه عن حجة الإسلام لأنه لو كان صحيحا لأجزأه والفاسد إذا قضاه قام قضاؤه مقام الصحيح
وقال ابن عقيل عندي لا يصح لأنه لا يلزم من إجزاء صحيحه إجزاء قضائه كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم في رمضان وقلنا يجزؤه عنهما فإنه لو أفطره لزمه يومان

فصل
وما لزمه من الكفارات التي ليست من موجب الإحرام ومقتضاه مثل ما يجب بترك واجب أو فعل محظور ونحو ذلك فقال أحمد إذا أحرم العبد ثم قتل صيدا فجزاؤه على مولاه إن أذن له قال القاضي وغيره إن أذن له في القتل
فعلى هذا كل محظور فعله بإذن سيده فجزاؤه على سيده وإن كان بغير إذنه فهو على العبد وهو بمنزلة الحر المعسر يكفر بالصوم وليس للسيد منعه منه كما ليس له أن يمنعه من صوم الكفارة هذا قول أكثر أصحابنا خرجها القاضي على الوجهين في منعه من الحج المنذور في كل دم ليس من موجب الإحرام ولا مقتضاه ولم يذكر في الإحصار خلافا وليس له أن يكفر بالمال إلا أن يأذن له سيده في التكفير به فيجوز قاله أبو بكر وابن أبي

موسى قال ابن أبي موسى كما كان له أن يتسرى بإذن سيده
وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما إذا ملكه سيده مالا وملكه لزمه التكفير بالمال وإن قلنا لا يملكه أو لم يملكه السيد لزمه الصوم وذكر القاضي في موضع اخر وغيره أنه إذا ملكه الهدي ليخرجه أنبنى على روايتي التمليك
وما كان من موجب الإحرام مثل دم التمتع والقران إذا أذن له في ذلك فقال القاضي وابن عقيل وغيرهما إن قلنا لا يملكه ففرض الصيام وإن قلنا يملك فعلى السيد أن يتحمل الهدي عنه

وذكر ابن أبي موسى أن فرضه الصيام بكل حال وإذا مات العبد قبل الصيام كان لسيده أن يطعم على الروايتين جميعا قاله القاضي وابن عقيل

فصل
وإذا حج الأعرابي ثم هاجر لم يجب عليه إعادة الحج عند أكثر أصحابنا المتأخرين وقال أبو بكر لا تجزؤه تلك الحجة عن حجة الاسلام وعليه حجة أخرى وكلام أحمد محتمل قال في رواية هذا حديث ابن عباس في الصبي يحج ثم يدرك والعبد يحج ثم يعتق عليهما الحج قلت يقولون إن فيه الأعرابي يحج ثم يهاجر قال نعم
والأعرابي في حديث ابن عباس عليه الحج فيجوز أنه قاله اخذا به ويجوز أنه لم يأخذ به لأنه قد روى حديث محمد بن كعب القرضي المرسل واعتمده وليس فيه ذكر الأعرابي
واحتج أبو بكر بما رواه بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا حج المملوك أجزأ عنه حجة المملوك فإذا عتق فعليه حجة الإسلام وكذلك الأعرابي والصبي مثل هذه القصة ومن كفر فإن الله غني عن العالمين

الفصل الثاني
أن حج الصبي صحيح سواء كان مميزا أو طفلا بحيث ينعقد إحرامه ويلزمه ما يلزم البالغ من فعل واجبات الحج وترك محظوراته لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم لقي ركبا بالروحاء فقال من القوم قالوا المسلمون فقالوا من أنت قال رسول الله فرفعت إليه إمرأة صبيا فقالت ألهذا حج قال نعم ولك أجر رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي
وعن السائب بن يزيد قال حج بي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع سنين رواه أحمد والبخاري

وعن جابر قال رفعت إمرأة صبيا لها إلى النبي صلى الله عليه و سلم في حجته فقالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجره رواه ابن ماجة والترمذي وقال غريب وعنه قال حججنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم معنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم رواه أحمد وابن ماجة ورواه الترمذي ولفظه أحرمنا عن الصبيان وأحرمت النساء عن نفسها وفي لفظ له كنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان وقال غريب وقد

تقدم في الحديث المرسل وقول ابن عباس أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه وإن أدرك فعليه حجة أخرى فإن حج قبل بلوغ الإحتلام بعد بلوغ السن
فإن كان الصبي مميزا أحرم بنفسه بإذن الولي وفعل أفعال الحج واجتنب

محظوراته فإن أحرم عنه الولي أو فعل عنه شيئا مثل الرمي وغيره لم يصح لأن هذا دخول في العبادة فلم يصح من المميز دون قصده كالصوم والصلاة
فإن أحرم بدون إذن الولي ففيه وجهان
أحدهما لا يصح قاله أبو الخطاب وجماعة معه قال متأخروا أصحابنا وهو أصح لأنه عقد يجب عليه به حق فلم يملك فعله بدون إذن الولي كالنكاح فعلى هذا قال القاضي في موضع إحرامه بدون إذن الولي كإحرام العبد فعلى هذا هل يملك الولي تحليله على وجهين
والثاني يصح لأنها عبادة فجاز أن يفعلها بدون إذن الولي كالصوم والصلاة
وإن كان غير مميز عقد الاحرام له وليه سواء كان حراما أو حلالا كما يعقد له النكاح وغيره من العقود ويلبي عنه فيقول لبيك عن فلان وإن لم يسمه جاز ويطوف به ويسعى ويحضره المواقف ويرمي عنه ويجنبه كلما يجتنبه الحرام وإذا لم يمكنه الرمي استحب أن يوضع الحصى في يده ثم يؤخذ فيرمى عنه وإن وضعه في يده ورمى بها وجعلها كالآلة جاز قال أصحابنا ولا

يرمي عنه حتى يرمي عن نفسه فإن كان رمى عن الصبي وقع عن نفسه وهذا بناء على أن عن حج من غيره قبل أن يحج عن نفسه وقع عن نفسه فإن قلنا يقع عن الغير أو يقع باطلا فكذلك
ونفقة السفر التي تزيد على نفقة الحضر تجب في مال الولي في إحدى الروايتين ومنهم من يحكيها على وجهين اختارها القاضي في المجرد وأبو الخطاب وغيرهما إلا أن لا يجد من يضعه عنده لأنها نفقة وهو مستغن عنها فلم تجب في ماله كالزيادة على نفقة مثله في الحضر
وفي الأخرى هي في مال الصبي وهذا اختيار القاضي في خلافه وقال هو قياس قول أحمد لأنه قال يضحي الوصي عن اليتيم من ماله لأن هذا مما له فيه منفعة لأنه يعرف أفعال الحج ويألفها فهو كالنفقة على تعليم الخط وكفارات الحج التي تلزمه بترك واجب أو فعل محظور كالنفقة فما كان من الكفارات لا يجب إلا على العامد كاللباس والطيب في المشهور لم يجب على الصبي لأن عمده خطأ قاله أصحابنا وتخرج إذا أوجبنا الدية في ماله دون عاقلته

وما يجب على العامد والمخطيء مثل قتل الصيد وحلق الشعر وتقليم الظفر في المشهور فقال هي كالنفقة هل تجب في مال الصبي أو وليه على روايتين والمنصوص عنه
والولي هنا هو الذي يملك التصرف في ماله من الأب والحاكم والوصي قاله القاضي فأما من لا ولاية له على المال كالأم ونحوها فقال ظاهر كلام أحمد أنه لا يصح إحرامه لأن الإحرام متعلق به الزام مال
والمنصوص عن أحمد أنه يحرم عنه أبواه أو وليه فعلى هذا تحرم عنه الأم ايضا وهذا اختيار ابن عقيل وغيره من أصحابنا لقول النبي صلى الله عليه و سلم للمرأة التي سألته نعم ولك أجر ولا يكون لها أجر حتى تكون هي التي تحج به وهذا بناء على أن النفقة تلزم الولي والمحرم به فلا ضرر في ماله

ولأن الأم قد نقل عنه أنها تقبض للابن وخرج بعض أصحابنا سائر الأقارب على الأم وأما الأجانب فلا يصح إحرامهم عنه وجها واحدا وقياس المذهب في هذا أنا إن قلنا إن النفقة في ماله فإنما يحرم به من يتصرف في ماله وهم هؤلاء الثلاثة أو غيرهم عند الضرورة فإن أحمد قد نص على أنه يجوز أن يقبض الزكاة أكبر الأخوة لإخوته ويقبضها لليتيم من يعوله
وإن قلنا ليست في ماله فمن كان في حضانته الصبي فإنه يعقد له الإحرام لأن الولاية هنا تبقى على البدن لا على المال حتى لو كان في حضانة أمه حتى يحرم به اللقيط والكافل لليتيم ونحو هؤلاء فأراد أبوه أن

يحرم به وسواء في ذلك المميز والطفل
وإذا وطيء في الحج أو وطيء فسد حجه لأن أكثر ما فيه أن عمده خطأ ووطء الناسي يفسد الحج وعليه المضي في فاسده وفي وجوب القضاء وجهان أحدهما لا يجب عليه لأن بدنه ليس من أهل الوجوب لكن تجب الفدية في ماله عند القاضي وعند أبي الخطاب على وليه والثاني يجب القضاء قال القاضي وهو أشبه بقول أحمد لأنه أوجب القضاء على العبد إذا أفسد الحج لأن الوجوب هنا بسبب من جهته وجهة وليه فلم يمتنع كوجوب الإتمام بخلاف إيجاب الشرع إبتداء فعلى هذا هل يلزمه القضاء في حال صغره أو بعد بلوغه على وجهين قال القاضي أصحهما في حال صغره لأن القضا على الفور
والثاني بعد البلوغ لأن الصغير ليس من أهل الوجوب المبتدأ في الحال فعلى هذا إن قضاه في الصغر فهل يصح فيه وجهان فإن أخر القضاء إلى ما بعد البلوغ بدأ بحجة الإسلام

وإن أحرم بالقضاء أولا انصرف إلى حجة الاسلام على المشهور في المذهب ثم إن كانت الحجة المقضية تجزؤه عن حجة الإسلام لو تمت صحيحة بأن يكون قد أدرك فيها قبل الوقوف كان قضاؤها مجزئا عن حجة الإسلام وأن لم تكن مجزئة عن حجة الإسلام لم يجزيء قضاؤها عن حجة الإسلام فيما ذكره أصحابنا كالقاضي وأصحابه ومن بعده والقياس أن تكون كالمنذورة

فصل
ولا يجوز للمرأة أن تسافر بدون إذن الزوج في حج التطوع وليس للزوج أن يمنعها من حج الفرض ويستحب لها أن تستأذنه إن كان حاضرا وتراسله إن كان غائبا تطييبا لنفسه كما يستحب استئذان المرأة في نكاح بنتها وإستئذان البكر في نفسها عند من يقول بجواز إجبارها لأن ذلك أدعى إلى الألفة وصلاح ذات البين وأبعد عن الشقاق وكل ما فيه صلاح ذات البين فإنه مستحب فإن منعها فإنها تخرج بغير اختياره لأنها عبادة قد وجبت عليها ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق حتى لو قلنا يجوز لها تأخير الحج فإن لها أن تسارع إلى إبراء ذمتها كما لها أن تصلي المكتوبة في أول الوقت وتقضي شهر رمضان في أول الحول وأولى لأن هذه عبادة مؤقته وتأخير العبادات المؤقته أجوز من تأخير العبادات المطلقة
ثم إن قلنا الحج واجب على الفور فعليها أن تحج ولا تطيع الزوج في

القعود وإن قلنا هو على التراخي فالأفضل لها أن تسارع إليه وذلك أولى بها من طاعة الزوج في القعود لأن في تأخير الحج تعريضا لتفويته

مسألة ويصح من غير المستطيع والمرأة بغير محرم وتجزؤها
وجملة ذلك أن من لم يجب عليه لعدم استطاعته مثل المريض والفقر والمعضوب والمقطوع طريقة والمرأة التي لا محرم لها ونحو ذلك إذا تكلفوا شهود المشاعر أجزأهم الحج
ثم منهم من هو محسن في ذلك كالذي يحج ماشيا ومنهم من هو مسيء في ذلك كالذي يحج بالمسألة والمرأة تحج بغير محرم
وإنما أجزأهم لأن الأهلية تامة والمعصية إن وقعت فهي في الطريق لا في نفس المقصود

مسألة ومن حج عن غيره ولم يحج عن نفسه أو عن نذرة ونفله قبل حجة الإسلام
وقع عن فرض نفسه دون غيره
في هذا الكلام فصلان
أحدهما أن من عليه حجة واجبة سواء كانت حجة الإسلام أو نذرا أو قضاء فليس له أن يحج عن غيره حتى يحج عن نفسه في ظاهر المذهب المشهور عنه وعن أصحابه قال في رواية صالح لا يحج أحد عن أحد حتى يحج عن نفسه وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال حج عن نفسك ثم عن شبرمة وحديث ابن عباس إذ قالت المرأة يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك هو جملة لم يبين حجت أو لم تحج

وقال في رواية إسماعيل بن سعيد الصرورة يحج عن غيره لا يجزؤه إن فعل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمن لبى عن غيره وهو صرورة اجعلها عن نفسك
وعنه رواية أخرى يجوز قال في رواية محمد بن ماهان في رجل عليه دين وليس له مال يحج الحج عن غيره حتى يقضي دينه قال نعم وقد جعل جماعة من أصحابنا هذه رواية بجواز الحج عن غيره مطلقا قبل نفسه وهو محتمل لكن الرواية إنما هي منصوصة في غير المستطيع

ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن للخثعمية أن تحج عن أبيها ولم يستفصل هل حجت عن نفسها أو لم تحج وكذلك الجهنية أذن لها أن تحج عن أمها نذرها وللمرأة الأخرى ولأبي رزين وغيرهم ولم يستفصل واحدا منهم ولا أمره أن يبدأ بالحج عن نفسه
والخثعمية وإن كان الظاهر أنه قد علم أنها حجت عن نفسها لأنها سألته غداة النحر حين أفاض من مزدلفة إلى منى وهي مفيضة معه وهذه حال من قد حج ذلك العام لكن غيرها ليس في سؤاله ما يدل على أنه حج ولأنه شبهه بقضاء الدين والرجل يجوز أن يقضي دين غيره قبل دينه
وايضا فإنه عمل تدخله النيابة فجاز أن ينوب عن غيره قبل أن يؤديه عن نفسه كقضاء الديون وأداء الزكاة والكفارات
وإن كان الكلام مفروضا فيمت لم يستطع الحج فهو أوجه وأظهر فإن الرجل إنما يؤمر بإيبداء بالحج عن نفسه إذا كان واجبا عليه وغير المستطيع لم يجب عليه فيجوز أن يحج عن غيره
ولا يقال إذا حضر تعين عليه لأنه إنما يتعين أن لو لم يكن أحرم عن غيره فإذا حضر وقد انعقد إحرامه لغيره فهو بمنزلة من لم يحضر في حق نفسه
ووجه المشهور ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي

صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال من شبرمة قال أخ لي أو قريب لي قال حججت عن نفسك قال لا قال حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة رواه أبو داود وابن ماجة وقال فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة رواه الدارقطني من وجوه عن عطاء عن ابن عباس وعن عائشة أيضا
فإن قيل هذا الحديث موقوف على ابن عباس ذكرالأثرم عن أحمد أن رفعه خطأ وقال رواه عدة موقوفا على ابن عباس وهو مشهور من حديث قتادة عن عروة عن سعيد بن جبير وقد قال يحيى عزرة لا شيء

قلنا قد تقدم أن أحمد حكم بأنه مسند وأنه من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم فيكون قد اطلع على ثقة من رفعه وقرر رفعه جماعة
على أنه إن كان موقوفا فليس لابن عباس مخالف
فوجه الحجة أن النبي صلى الله عليه و سلم أمره أن يحج عن نفسه ثم يحج عن شبرمة وستأتي بقية الألفاظ الدالة على أن تلك لم تجز عن شبرمة ولم يفصل بين أن يكون الحاج مستطيعا واجدا للزاد والراحلة أو لا يكون وترك الإستفصال والتعريف في حكاية الأحوال يدل على العموم
وايضا فإن الحج واجب في أول سنة من سني الإمكان فإذا أمكنه فعله عن نفسه لم يجز أن يفعله عن غيره لأن الأول فرض والثاني نفل كمن عليه دين هو مطالب به ومعه دراهم بقدره لم يكن له أن يصرفها إلا إلى دينه وكذلك كل ما إحتاج إلى صرفه في واجب عنه فلم يكن له أن يفعله عن غيره

وايضا فإنه إذا حضر المشاعر تعين الحج عليه فلم يكن له أن يفعله عن غيره كما لو حضر صف القتال فأراد أن يقاتل عن غيره فعلى هذا إذا خالف وأحرم عن غيره ففيه روايتان ذكرهما كثير من أصحابنا إحداهما ينعقد احرامه عن نفسه وعليه أن يعتقد أن ذلك الإحرام عن نفسه فإن لم يعتقد ذلك حتى قضى الحج وقع عنه وأجزأ عن حجة الإسلام في حقه ولم يقع عن الملبى عنه وهذا قول الخرقي وأكثر أصحابنا
والأخرى يقع الإحرام باطلا فلا يجزيء عنه ولا عن غيره وهذا قول أبي بكر وقدمه ابن أبي موسى وقال أبو حفص العكبري ينعقد الإحرام عن

المحجوج عنه ثم يقلبه الحاج عن نفسه
ووجه هذين قوله صلى الله عليه و سلم حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة وقوله إجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة وفي رواية للدارقطني حسنة لب عن نفسك ثم لب عن شبرمة وفي رواية له إن كنت حججت عن نفسك فلب عنه وإلا فاحجج عن نفسك فإن هذا دليل على أنه يحتاج أن يلبي ويحج عن نفسه ثم قال أبو بكر إحرامه عن غيره وقع باطلا وعن نفسه لم ينوه وإنما لكل إمرىء ما نوى والإحرام لا يقع إلا عن أحدهما فيقع باطلا
وقال أبو حفص أمره بأن يجعلها عن نفسه دليل على انعقاد الإحرام وذلك أن الإحرام في نفسه صحيح وإنما اشتمل على صفة محرمة فيجب عليه أن يزيلها كما لو أحرم في ثياب وعمامة فإن لم يجعله عن نفسه البتة فقياس قوله أنه لا يجزيء عنه ولا عن غيره
ووجه الأول أن قوله فاجعل هذه عنك أي إجعل هذه التلبية عنك كما

قد جاء مفسرا أيها الملبي عن فلان لب عن نفسك ثم عن فلان فعلم أن الحجة عن نفسه إذ لو كان باطلا لما صح ذلك وقد روى الدارقطني هذه عنك وحج عن شبرمة وإن كان الضمير عائدا إلى الحجة فقوله إجعل هذه عن نفسك أي اعتقدها عن نفسك وقوله حج عن نفسك أي استدم الحج عن نفسك لأنه لو كان الاحرام قد وقع باطلا لأمر باستئنافه ولم يكن هناك حجة ولا تلبية صحيحة تجعل عن نفسه ولو انعقد عن الغير لم يجز نقله عنه لأن الحج الواقع لشخص لا يجوز نقله إلى غيره كما لو لبى عن أجنبي ثم أراد نقله إلى أبيه
وايضا فإن الإحرام ينعقد مع الصحة والفساد وينعقد مطلقا ومجهولا ومعلقا فجاز أن يقع عن غيره ويكون عن نفسه وهذا لأن إحرامه عن الغير باطل لأجل النهي عنه والنهي يقتضي الفساد وبطلان صفة الإحرام لا يوجب بطلان أصله لأنه لا يقع إلا لازما فيكون كأنه قد عقده مطلقا ولو عقده مطلقا أجزأه عن نفسه بلا تردد

الفصل الثاني
إذا كان عليه فرض ونفل لم يجز أن يحرم إلا بالفرض وإن كان عليه فرضان لم يجز أن يبدأ إلا بأوكدهما فإذا كان عليه حجة الإسلام ونذر بدأ بحجة الإسلام وإن كان عليه نذر وقضاء
وإن كان عليه حجة الإسلام وقضاء هذا هو المنصوص عنه في مواضع

وذكر بعض أصحابنا رواية أخرى أنه يجوز أن يبدأ بالنفل قبل الفرض وبالنذر قبل حجة الإسلام تخريجا من المسألة قبلها ومن جواز الإبتداء بالنفل على إحدى الروايتين في الصوم والصلاة ومن كونه قد نص على أن الفرض لا يجزيء إلا بتعيين النية
ووجه الأول ما اعتمده أحمد من إجماع الصحابة رضي الله عنهم وقد سئل عمن حج في نذره ولم يكن حج حجة الإسلام فقال كان ابن عباس يقول يجزؤه عن حجة الإسلام وقال ابن عمر هذه حجة الإسلام أوف بنذرك فقد اتفقا على أنه إذا نوى النذر لا بد أن يقع عن حجة الإسلام
وأيضا ما تقدم من أن الحج واجب على الفور أو أنه يتعين بشهود المشاعر فإن مأخذ هذه المسألة والتي قبلها واحد
وايضا فإن الحج مدته طويلة ولا يبلغ إلا بكلفة ومشقة ولا يفعل في العام إلا مرة ففي تقديم النفل على الفرض تغرير به وتفويت بخلاف الصوم إن

سلمناه فعلى هذا إذا خالف ونوى النفل أو النذر ففيه روايتان منصوصتان إحداهما أنه يقع عن حجة الإسلام كما ذكره الشيخ وهو اختيار أكثر أصحابنا
قال عبد الله قلت لأبي من نذر أن يحج وما حج حجة الإسلام قال لا يجزؤه يبدأ بفريضة الله ثم يقضي ما أوجب على نفسه واحتج بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن إمرأة سألته فقال هذه حجة الإسلام أوفي بنذرك
ومعنى قوله لا يجزؤه عنهما بل تكون الأولى لحجة الإسلام وإن نوى النذر لأنه احتج بحديث ابن عمر وقال مرة قلت لأبي من حج عن نذرة ولم يكن حج حجة الإسلام يجزيء عنه من حجة الإسلام قال كان ابن

عباس يقول يجزؤه من حجة الإسلام
وقال ابن عمر هذه حجة الإسلام أوف بنذرك فقد حكا اتفاقهما على أن ذلك يجزيء عن حجة الإسلام وأفتى بذلك وإنما اختلفا في الأجزاء عن النذر
والثانية لا يجزيء عن الفرض قال في رواية ابن القاسم في الرجل يحج ينوي التطوع فالحج والصوم سواء لا يجزيء إلا بنية وهذا اختيار أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال وإنما لكل إمريء ما نوى ولأنها إحدى العبادات فلا تجزيء عن الفرض بنية النفل كالصوم والصلاة وهذه الرواية مترددة بين صحة النفل وعلى ذلك حملها القاضي وبين فساد الإحرام وإذا قلنا فاسد فهل يمضي فيه فعلى هذا هل يصح بنية مطلقة
ووجه الأول ما احتد به أحمد من حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم فعلى هذا إذا أحرم بالنذر وقلنا يجزؤه عن حجة الإسلام فهل عليه

قضاء النذر على روايتين وإن نوى عن الفرض فقط أو نوى عنهما أصحهما عليه قضاؤه كما قال ابن عمر وهو منصوصه في رواية عبد الله
والثانية تكفيه عنهما اختاره أبو حفص
وإن أحرم بحجة الإسلام في سنة قد نذر أن يحج فيها فهل تسقط عنه المنذورة فيه روايتان نقل أبو طالب تسقط عنه ونقل ابن منصور

لا تسقط وهو أصح قال القاضي وأصلهما إذا نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم أول يوم من شهر رمضان

باب المواقيت
الميقات ما حدده ووقت للعبادة من زمان ومكان والتوقيت التحديد فلذلك نذكر في هذا الباب ما حدده الشارع للإحرام من المكان والزمان
مسألة وميقات أهل المدينة ذو الحليفة والشام ومصر والمغرب الجحفة واليمن يلملم ولنجد قرن وللمشرق ذات عرق
هذه المواقيت الخمسة منصوصة عن النبي صلى الله عليه و سلم عند جمهور أصحابنا وهو المنصوص عن أبي عبد الله قال في رواية المروذي فإن النبي صلى الله عليه و سلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر الجحفة ولأهل الطائف ونجد قرنا ولأهل اليمن يلملم ولأهل العراق ذات عرق
وقال في رواية عبد الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ومهل أهل العراق من ذات عرق ومهل أهل الشام من الجحفة ومهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم
وقال في رواية أبي داود وقت لأهل العراق من ذات عرق وذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم والله أعلم وقت المواقيت ثلاث طبقات فوقت أولا

ثلاث مواقيت فلما فتحت اليمن وقت لها ثم وقت للعراق فالأول ما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ويهل أهل الشام من الجحفة ويهل أهل نجد من قرن قال ابن عمر وذكر لي ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ومهل أهل الشام مهيعة وهي الحجفة رواه الجماعه الا الترمذي وفي رواية لأحمد قال ابن عمر وقاس الناس ذات عرق بقرن
والثاني ما روى ابن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلن وفي لفظ من غيرهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها وفي لفظ من كان دونهن فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة متفق عليه

والثالث ما روي عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله سئل عن المهل فقل سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر الجحفة ومهل أهل العراق ذات عرق ومهل أهل نجد من قرن ومهل أهل اليمن من يلملم رواه مسلم ورواه ابن ماجة بلا شك من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي وقد احتج به

أحمد مرفوعا ورواه أبو عبد الرحمن المقرى عن ابن لهيعة عن أبي الزبير مرفوعا بلا شك
وعن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو واللفظ له قال وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل اليمن وأهل تهامة يلملم ولأهل الطائف وهي نجد قرنا ولأهل العراق ذات عرق رواه أحمد وفي اسناده الحجاج بن ارطأة

وروى المعافى بن عمران عن أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة قالت وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل العراق ذات عرق رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم وهذا إسناد جيد وقد رواه عبد الله بن أحمد وغيره مستوفى في المواقيت الخمسة قالت وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر الجحفة ولأهل اليمن يلملم ولأهل نجد قرنا ولأهل العراق ذات عرق

وقال أبو عاصم ثنا محمد بن راشد عن مكحول أن النبي صلى الله عليه و سلم وقت لأهل العراق ذات عرق وعن عطاء قال وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل المشرق ذات عرق وعن عطاء قال وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل المشرق ذات عرق رواه سعيد فهذا قد روى مرسلا من جهة أهل المدينة ومكة والشام ومثل هذا يكون حجة
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل المشرق ذات عرق رواه أحمد عن وكيع عنه

وعن الحارث بن عمرو السهمي قال أتيت النبي صلى الله عليه و سلم وهو بمنى أو عرفات وقد أطاف به الناس قال فيجيء الأعراب فإذا رأوا وجهه قالوا هذا وجه مبارك قال ووقت ذات عرق لأهل العراق رواه أبو داود والدارقطني ولفظه وقت لأهل اليمن يلملم أن يهلوا منها وذات عرق لأهل العراق
وذهب أبو الفرج بن الجوزي وغيره من أصحابنا إلى أن ذات عرق إنما ثبتت بتوقيت عمر رضي الله عنه اجتهادا ثم انعقد الإجماع على ذلك لما روى ابن عمر قال لما فتح هذان المصران أتوا عمر بن الخطاب

فقالوا يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه و سلم حد لأهل نجد قرنا وإنه جور عن طريقنا وإنا إن أردنا أن نأتي قرنا شق علينا قال فانظروا حذوها من طريقكم قال فحد لهم ذات عرق رواه البخاري
فهذا يدل على أنها حدت بالإجتهاد الصحيح لأن من لم يكن على طريقه ميقات فإنه يحرم إذا حاذي أقرب المواقيت إلى طريقه وهم يحاذون قرنا إذا صاروا بذات عرق ولو كانت منصوصة لم يحتج إلى هذا وأحاديث المواقيت لا تعارض هذا فعلى هذا هل يستحب الإحرام من العقيق
والأول هو الصواب لما ذكرناه من الأحاديث المرفوعة الجياد الحسان التي يجب العمل بمثلها مع تعددها ومجيئها مسندة ومرسلة من وجوه شتى
وأما حديث عمر فإن توقيت ذات عرق كان متأخرا في حجة الوداع كما

ذكره الحارث بن عمرو وقد كان قبل هذا سبق توقيت النبي صلى الله عليه و سلم لغيرها فخفي هذا على عمر رضي الله عنه كما خفي عليه كثير من السنن وإن كان علمها عند عماله وسعاته ومن هو أصغر منه مثل دية الأصابع وتوريث المرأة من دية زوجها فاجتهد وكان محدثا موفقا للصواب فوافق رأيه سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس ذلك ببدع منه رضي الله عنه فقد وافق ربه في مواضع معروفة مثل المقام والحجاب والأسرى وأدب أزواج النبي صلى الله عليه و سلم

فعلى هذا لا يستحب الإحرام قبلها كما لا يستحب قبل غيرها من المواقيت المنصوصة قال عبد الله سمعت أبي يقول أرى أن يحرم من ذات عرق
فإن قيل فقد روى يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن ابن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل المشرق العقيق رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن

فإن لم يكن هذا مفيدا لوجوب الإحرام منها فلا بد أن يفيد الإستحباب
قيل هذا الحديث مداره على يزيد بن أبي زياد وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة وقالوا يزيد يزيد
ويدل على ضعفه أن حديث ابن عباس المشهور الصحيح قد ذكر فيه المواقيت الأربعة ولم يذكر هذا مع أن هذا مما يقصد المحدث ذكره مع إخوته لعموم الحاجة إليه أكثرمن غيره فإن حجاج المشرق أكثر من حجاج سائر المواقيت
وأن الناس أجمعوا على جواز الإحرام دونه فلو كان ميقاتا لوجب الإحرام منه كما يجب الإحرام من سائر ما وقته النبي صلى الله عليه و سلم إذ ليس لنا ميقات يستحب الإحرام منه ولا يجب على أن قوله وقت لا يقتضي إلا وجوب الإحرام منه
قال ابن عبد البر أجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات وأن الأحاديث التي هي أصح منه وأكثر تخالفه وتبين أن النبي صلى الله عليه و سلم وقت ذات عرق
ويشبه والله أعلم أنه إن كان لهذا الحديث أصل أن يكون منسوخا لأن توقيت ذات عرق كان في حجة الوداع حيث أكمل الله دينه وبعد أن أكمل

الله دينه لم يغيره
ولأن ابن عباس لم يذكره لما ذكر حديثه المشهور فيكون إن كان حدث به مرة قد تركه لما علم من نسخه ولهذا لم يروه عنه إلا ولده الذي قد يقصد بتحديثهم اخبارهم بما قد وقع لا لأن يبني الحكم عليه
وما روي عن أنس أنه كان يحرم منه فكما كان عمران بن حصين يحرم من البصرة وكان بعضهم يحرم من الربذة

فصل
وأما ذو الحليفة فهي أبعد المواقيت عن مكة كأنها الله أعلم تصغير حلفة وحليفة وهي واحدة الحلفاء وهي خشب ينبت في الماء بينها وبين مكة عشر مراحل وهي من المدينة علي ميل هكذا ذكره القاضي وأظن هذا غلط بل هي من المدينة على فرسخ وبها المسجد الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه و سلم والبئر الذي تسميها العامة بئر علي وحدها

من
ويليها في البعد الجحفة قيل سميت بذلك لأن السيل أجحف بأهلها إلى الجبل الذي هناك وهي من مكة على ثلاث مراحل وتسمى مهيعة وهي التي دعى النبي صلى الله عليه و سلم بنقل حمى المدينة إليها وهي قرية قديمة وهي اليوم خراب وبها أثر الحمام التي دخلها ابن عباس وهو محرم وقد صار الناس لأجل خرابها يحرمون قبلها من رابغ لأجل أن بها الماء للإغتسال

وأما قرن بسكون الراء فيقال له قرن الثعالب وقرن المنازل وهو وبينه وبين مكة مرحلتان فهو ميقات لأهل نجد والطائف وتهامة نجد وما بتلك النواحي
وأما يلملم ويقال له ألملم فهو جبل بتهامة وبينه وبين مكة مرحلتان وهي ميقات لأهل اليمن وتهامة اليمن وهو تهامة المعروف
وذات عرق وبينها وبين مكة مرحلتان قاصدتان

وهذه المواقيت هي الأمكنة التي سماها رسول الله بعينها في زمانه ولو كان قرية فخربت وبنى غيرها وسميت بذلك الاسم فالميقات هو القرية القديمة لأنه هو الموضع الذي عينه الشارع للإحرام ويشبه والله أعلم أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم جعلها على حد متقارب مرحلتان لكونه مسافة القصر إلا ميقات أهل المدينة فإن مسافة سفرهم قريبة إذا هي أكبر الأمصار الكبار إلى مكة فلما كان غيرهم يقطع مسافة بعيدة بين مصره ومكة عوض عن ذلك بأن قصرت عنه مسافة إهلاله وأهل المدينة لا يقطعون إلا مسافة قريبة فجعلت عامتها إهلالا وأهل الشام أقرب من غيرهم فكذلك كان ميقاتهم أبعد ومن مر على غير بلده فإنه بمروره في ذلك المصر يجد من الرفاهية والراحة ما يلحقه بأهل ذلك البلد

مسألة وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر عليها
وجملة ذلك أنه من مر بهذه المواقيت فعليه أن يحرم منها سواء كان من أهل ذلك الوجه الذي وقت الميقات له أو كان من غير أهل ذلك الوجه لكنه سلكة مع أهله وسواء كان بعد هذا يمر على ميقات الوجه الذي هو منه أو لا يمر وذلك مثل أهل الشام فإنهم قد صاروا في هذه الأزمان يعرجون عن طريقهم ليمروا بالمدينة فيمرون بذي الحليفة فعليهم أن يحرموا منها وكذلك لو عرج أهل العراق إلى المدينة أو خرج بعض أهل المدينة على غير ذي الحليفة وهي الطريق الأخرى
ومن مر على ميقاتين فعليه أن يحرم من أبعدهما من مكة قال أحمد في رواية ابن القاسم إذا مر رجل من أهل الشام بالمدينة وأراد الحج فإنه يهل من ذي الحليفة وابن عباس يروي عن النبي صلى الله عليه و سلم في المواقيت هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال فهن لهن أي لهذه الأمصار وأهلها ولمن أتى عليهن من غير أهلهن أي ولمن أتى على المواقيت من غير أهل المحل أي ممن أتى على ميقات من غير أهل مصره لأن الرجل لا يأتي عليهن جميعهن وليس أحد يخرج

عن هذه الأمصار فجعل الميقات لكل من مر به من أهل وجهه ومن غير أهل وجهه ولم يفرق بين أن يكون من أهل وجه ميقات اخر
وقوله لهن أي لمن جاء على طريقهن وسلكه وقد روى سعيد أن ابن يحيى قال ثنا هشام بن عروة عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقت لأهل المشرق ذات عرق ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم ولأهل المدينة ومن مر بهم ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر ومن ساحل الحجفة
وروى سعيد عن سفيان قال سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقت لمن ساحل من أهل الشام الجحفه
فقد بين عروة في روايته أن النبي صلى الله عليه و سلم وقت ذا الحليفة لأهل المدينة ومن مر بهم وأن الجحفة إنما وقتها للشامي إذا سلك تلك الطريق طريق الساحل
وايضا فإن المواقيت محيطة بالبيت كاحاطة جوانب الحرم فكل من مر من جوانب الحرم لزمه تعظيم حرمته وإن كان بعض جوانبه أبعد من بعض
وايضا فإن قرب هذه المواقيت وبعدها لما يحل لأهل بعيدها من الرفاهية وذلك بشركهم فيه كل من دخل مصرهم فإن المسافر إذا دخل مصرا وأقام فيها أياما انحط عنه عظمة مشقة سفره فوجد الطعام والعلف والظل والأمن وخفف

اجماله إلى غير ذلك من أسباب الرفق
وايضا فإن هذه المواقيت حدود النسك فليس لأحد أن يتعدى حدود الله

مسألة ومن كان منزله دون الميقات فميقاته من موضعه حتى أهل مكة يهلون منها لحجهم ويهلون للعمرة من الحل في هذا الكلام فصلان أحدهما في غير المكي إذا كان مسكنه دون الميقات إلى مكة فإنه يهل من أهله لقول رسول الله صلى الله علي وسلم في حديث ابن عباس فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها أي ومثل هذا الذي قلت يفعل هؤلاء حتى أهل مكة
قال أحمد فمن كان منزله بالجحفة أهل منها وكذلك كل من كان دون الجحفة إلى مكة أهل من موضعه حتى أهل مكة يهلون من مكة
فإن كان في قرية فله أن يحرم من الجانب الذي يلي مكة والجانب البعيد منها وإحرامه منه أفضل
قال القاضي وابن عقيل وغيرهما ويتوجه أن يكون إحرامه من منزله أفضل لأن إستحباب الرجوع له إلى آخر القرية لا دليل عليه
وإن كان في واد يقطعه عرضا فميقاته حذو مسكنه وإن كان في حلة من حلل البادية أحرم من حلته
وهذا فيمن كان مستوطنا في مكان دون الميقات كأهل عسفان وجدة

والطائف أو ثمت في بعض المياه فأنشأ قصد الحج من وطنه أو لم يكن مستوطنا بل أقام ببعض هذه الأمكنة لحاجة يقضيها فبدا له الحج منها أو لم يكن مقيما بل جاء مسافرا إليها لحاجة ثم بدا له الحج منها فأما إن كان بعض أهلها قد سافر إلى أبعد من الميقات ثم مر على الميقات مريدا للحج أو لمكة
وإن سافر إلى أبعد من مسكنه دون الميقات وبدا له سفرا الحج من هناك بحيث يمر على أهله مرور مسافر للحج

فأما إن عرض له هناك أنه إذا جاء أهله سافر للحج

الفصل الثاني
في أهل مكة وهم ثلاثة أقسام مستوطن بها سواء كان في الأصل مكيا أو لم يكن ومقيم بها سواء غير مستوطن كالمجاورين ونحوهم ومسافر
فأما أهل مكة فإنهم يحرمون بالحج من مكة كما في الحديث حتى أهل مكة يهلون منها والمستحب أن يحرموا
قال أحمد والخرقي في أهل مكة يهلون من مكة فإن أحرم المكي خارج مكة من الحرم الذي يلي عرفة كالأبطح ومنى ومزدلفة فهل يجزؤه على وجهين ذكرهما القاضي
فعلى المشهور إذا أحرم من الحل جاز في إحدى الروايتين ولا دم عليه

سواء عاد إلى الحرم أو لم يعد ومضى على إحرامه إلى عرفة
قال في رواية ابن منصور وقد ذكر له قول سفيان الحرم ميقات أهل مكة فمن خرج من الحرم فلم يهل أمرته أن يرجع وأرى عليه إذا كان ذلك حدهم بما أرى على غيرهم إذا جاوز الميقات فقال أحمد ليس لهم حد مؤقت إلا أنه أعجب إلي أن يحرموا من الحرم إذا توجهوا إلى منى
ونقل عنه الأثرم في رجل تمتع بعمرة فحل منها ثم أقام بمكة فلما كان يوم التروية خرج الى التنعيم فأحرم بالحج ثم توجه إلى منى وعرفات ولم يأت البيت ليس عليه شيء إلا أن هذا قد أحرم من الحل الأقصى من عرفات ومر بمنى في طريقه وهي من الحرم وليس في مثل هذا خلاف عنه ولفظه والذي يحرم من مكة يحرم من مكة إذا توجه إلى منى كما صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو أن متمتعا جهل فأهل بالحج من التنعيم ثم توجه إلى منى وعرفات ولم يأت البيت فلا شيء عليه وهذا اختيار القاضي والشريف أبي جعفر وأبي الخطاب وغيرهم لأن المقصود أن يجمعوا في الإحرام بين الحل والحرم وهذا يحصل بعد التعريف لأنه لو كان الواجب أن يحرموا من نفس مكة لكونها

ميقاتا لم يجز الخروج منها إلا بالإحرام وقد دلت السنة على جواز الخروج منها بغير إحرام وجواز الإحرام من البطحاء ولأن الإحرام في الأصل إنما وجب لدخول الحرم أما للخروج إلى الحل فلا فإذا خرج أهل مكة لم يجب عليهم إحرام لخروجهم إلى عرفات بخلاف ما إذا رجعوا ولأن قطع المسافة بالخروج إلى عرفات ليس من الحج المقصود لنفسه ولهذا لو ترك المبيت بمنى ليلة عرفة لم يجب عليه دم والرواية الثانية

فصل
وأما المكي إذا أراد أن يعتمر فإنه يخرج إلى الحل سواء في ذلك أهل البلد وغيرهم ممن هو في الحرم قال أحمد في رواية الميموني ليس على أهل مكة عمرة وإنما العمرة لغيرهم قال الله تعالى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام إلا أن ابن عباس قال يا أهل مكة من أراد منكم العمرة فليجعل بينه وبينها بطن محسر
وإذا أراد المكي وغيره العمرة أهل من الحل وأدناه من التنعيم وقال ايضا ليس على أهل مكة عمرة لأنهم يعتمرون في كل يوم يطوفون بالبيت فمن أراد منهم أن يعتمر خرج إلى التنعيم وتجاوز الحرم وذلك لما روت عائشة قالت لما خرجت معه تعني النبي صلى الله عليه و سلم في النفر الاخر حتى نزل المحصب ونزلنا معه فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر فقال اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم لتطف بالبيت فإني أنتظركما هاهنا فخرجنا فأههللت ثم طفت بالبيت وبالصفا والمروة فجئنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في منزله في جوف الليل فقال هل فرغت قلت نعم فأذن في أصحابه بالرحيل فخرج فمر بالبيت فطاف به قبل صلاة الصبح ثم خرج إلى

المدينة متفق عليه وفي رواية متفق عليها من حديث القاسم والأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد قال انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي منه ثم أئتينا بمكان كذا وكذا ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك وفي لفظ متفق عليه فلما كانت ليلة الحصبة قالت قلت يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة قال أو ما كنت طفت ليالي قدمنا مكة قالت قلت لا قال فاذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهلي بعمرة ثم موعدك مكان كذا وكذا متفق عليه
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أردف عائشة وأعمرها من التنعيم متفق عليه

وعن ابن سيرين قال وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل مكة التنعيم رواه أبو دود في مراسيله وعن ابن عباس
فقد تبين أن العمرة لمن هو بالحرم لا بد فيها من الخروج إلى الحل قال أصحابنا وغيرهم لأنه لا بد في النسك من الجمع بين الحل والحرم وأفعال العمرة هي في الحرم فلو أحرم بالعمرة من الحرم لما وقع شيء منها في الحل بخلاف الحج فإن أحد ركنيه وهو الوقوف بعرفة يقع في الحل لأن عرفات من الحل وذلك لأن العمرة هي الزيارة ومنه العمرة وهو أن يبني الرجل بامرأته في أهلها فإن نقلها إلى أهله فهو العرس قاله ابن الأعرابي
والزيارة لا تكون مع الإقامة بالمزور وإنما تكون إذا كان خارجا منه فجاء

إليه ليزوره ولهذا والله أعلم لم يكن على أهل مكة عمرة لأنهم مقيمون بالبيت على الدوام
وايضا فإن العمرة هي الحج الأصغر والحج أن يقصد المحجوج في بيته والحرم هو فناء بيت الله فمن لم يقصد الحرم من الحل لم يتحقق معنى الحج في حقه إذ هو لم ينزح من داره ولم يقصد المحجوج
والإحرام بالعمرة من أقصى الحل أفضل من أدناه وكلما تباعد فيها فهو أفضل حتى يصير إلى الميقات
قال أحمد في رواية الحسن بن محمد وقد سئل من أين يعتمر الرجل قال يخرج إلى المواقيت فهو أحب إلي كما فعل ابن عمر وابن الزبير وعائشة رضوان الله عليهم أحرموا من المواقيت فإن أحرم من التنعيم فهو عمرة وذاك أفضل والعمرة على قدر تعبها
والعمرة كلما تباعد فيها أعظم للأجر وهو على قدر تعبها وإن دخل في شعبان أو رمضان فإن شاء أن يعتمر إعتمر
وقال عبد الله سألت أبي عن عمرة المحرم تراه من مسجد عائشة أو من

الميقات أو المقام بمكة والطواف بقدر ما تعبت أو الخروج إلى الميقات للعمرة فقال يروى عن عائشة أنها قالت في عمرة التنعيم هي على قدر نصبها ونفقتها فكل ما كان أكثر من النفقة والتعب فالأجر على قدر ذلك
وهذا نص بأن الخروج بها إلى الميقات أفضل وأن ذلك أفضل من المقام بمكة
وقال في رواية أبي طالب قال الله عز و جل وأتموا الحج والعمرة لله وقالت عائشة إنما العمرة على قدر سفرك ونفقتك وقال عمر رضي الله عنه للرجل إذهب إلى علي رضي الله عنه فقال علي أحرم من دويرة أهلك
وقال طاوس الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري يؤجرون أو يعذبون قيل له فلم يعذبون قال لأنه يدع البيت والطواف ويخرج إلى أربعة أميال

ويجيء أربعة أميال قد طاف مائتي طواف وكلما طاف كان أعظم أجرا من أن يمشي في غير شيء وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك
وعن علقمة في العمرة بعد الحج هي بحسبها قالت عائشة له من الأجر على قدر نفقته ومسيرة رواه سعيد
فعلى هذا يستحب لمن هو بمكة من غير أهلها أن يخرج إلى أقصى الحل وإن خرج إلى ميقاته فهو أفضل وإن رجع إلى مصره فأنشأ لها سفرة أخرى فهو أفضل من الجميع وكذلك قال أبو بكر العمرة على قدر تعبها ونصبها وبعد موضعها ونفقتها وأن ينشيء لها قصدا من موضعه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلما تباعد في العمرة فهو أعظم أجرا
وظاهر هذا يقتضي أن المستحب أن يتباعد فيحرم من الميقات الشرعي وهو أفضل من إحرامه من أدنى الحل
قال القاضي وابن عقيل وغيرهما المستحب أن يحرم بالعمرة من الميقات الشرعي على ظاهر كلامه قال في رواية صالح والعمرة بمكة من الناس من يختارها على الطواف ومنهم من يختار المقام بمكة والطواف

واحتج من اختارها بأن النبي صلى الله عليه و سلم أعمر عائشة من التنعيم
وقال القاضي يستحب الإحرام من الجعرانة فإن فاته ذلك أحرم من التنعيم فإن فاته فمن الحديبية
وكذلك ذكر ابن عقيل إلا أنه لم يذكر التنعيم هنا وعمدة ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم اعتمر من الجعرانة واعتمر عمرة الحديبية وأمر عائشة أن تعتمر من التنعيم فخصت هذه بالفضل وكان أفضل هذه المواقيت
وقال أبو الخطاب الأفضل أن يحرم من التنعيم فأما الاعتمار من الحديبية فلا فضل فيه على غيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعتمر من الحديبية قط وإنما اعتمر من ذي الحليفة فلما صده المشركون حل بالحديبية من إحرامه وكذلك الجعرانة ليس في خروج المكي إليها بخصوصها سنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعتمر من مكة قط وإنما أعمر عائشة رضي الله عنها من

التنعيم في حجة الوداع وإنما اعتمر من الجعرانة لما قسم غنائم حنين لأنها كانت الموضع الذي أنشأ منه العمرة وهو دون المواقيت فينشيء العمرة في موضعه ولا يقاس بهذا أن يخرج المكي إلى ذاك الموضع فيحرم منه
وإنما السنة في الخروج إلى الحل من أي الجوانب كان لكن جهة بلد المعتمر
وإن أحرم الحرمي بالعمرة من الحرم فهو بمنزلة من أحرم دون الميقات فلا يجوز له ذلك وإذا فعله فعليه دم لتركه بعض نسكه
ولا يسقط الدم بخروجه إلى الحرم كما لا يسقط الدم بعودة إلى الميقات إذا أحرم دونه لكنه إن خرج إلى الحل قبل الطواف ورجع صحت عمرته وإن لم يخرج إلى الحل حتى طاف وسعى وقصر ففيه وجهان خرجهما القاضي وغيره
أحدهما أنه لا يعتد بطوافه وسعيه بل يقع باطلا لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج
ولأن الحل لو لم يجب إلا لأنه ميقات لكان من إن شاء العمرة دونه تجزئه

كمواقيت الحج ولما أمر النبي صلى الله عليه و سلم عائشة أن تخرج إلى الحل فتهل بالعمرة علم أنه لا بد أن تكون العمرة من الحل
فعلى هذا وجود الطواف وما بعده كعدمه لا يتحلل بذلك بل عليه أن يخرج إلى الحل ثم يطوف بعد ذلك فإن قصر رأسه كان بمنزلة من قصر قبل الطواف فعليه دم وإن وطيء لاعتقاده أنه تحلل كان كمن وطىء قبل الطواف فتفسد بذلك عمرته وعليه دم الإفساد وإتمامها بالخروج إلى الحل والطواف بعد ذلك وقضاها بعد ذلك
والثاني وهو المشهور وهو الذي ذكره أبو الخطاب وغيره أن العمرة صحيحة وعليه دم لما تركه من الإحرام من الميقات لأن من ترك من نسكه شيئا فعليه دم لأن أكثر ما فيه أنه ترك بعض الميقات وهذا لا يفسد الحج وإنما يوجب الدم
ابن أبي موسى ومن أراد العمرة من أهل مكة فليخرج إلى أقرب الحل فيحرم منه ومن كان بمكة من غير أهلها وأراد العمرة الواجبة فليخرج إلى الميقات ليحرم بها وإن لم يخرج إلى الميقات وأحرم بها دون الميقات أجزأته وعليه دم كما قلنا فيمن جاوز الميقات غير محرم ثم أحرم بالحج إن عليه وما

مسألة ومن لم يكن طريقه على ميقات فميقاته حذو أقربها إليه
ومعنى ذلك أنه إذا كان طريقه على غير ميقات في بر أو بحر فإنه يحرم إذا حاذى أقرب المواقيت إلى طريقه سواء كان هذا الميقات هو الأبعد عن مكة أو الأقرب مثل من يمر بين ذي الحليفة والجحفة فإنه إن كان يقرب إلى ذي الحليفة إذا حاذاها أكثر مما يقرب إلى الجحفة أحرم منها وإن كان قربه إلى الجحفة إذا حاذاها أكثر أحرم منها لأن أهل العراق قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن قرنا جور عن طريقنا وأنا إن أردنا أن نأتيها شق علينا فقال انظروا حذوها من طريقكم قال فحد لهم ذات عرق فلم يأمرهم عمر والمسلمون بالمرور بقرن بل جعلوا ما يحاذيها بمنزلتها وذلك لأن الإحرام مما يحاذى الميقات بمنزلة الإحرام من نفس الميقات فإنه إذا كان بعدهما عن البيت واحدا لم يكن في نفس الميقات مقصود ولأن في الميل والتعريج إلى نفس المؤقت مشقة عظيمة وإنما يحرم مما يقرب منه إذا حاذاه لأنه لما كان أقرب المواقيت إليه وإلى طريقه إذا مر كان اعتباره في حقه أولى من اعتبار البعيد كما لو مر به نفسه فلو مر بين ميقاتين وكان قربه إليهما سواء أحرم من حذو أبعدهما من مكة كما لو مر في طريقه على ميقاتين فإنه يحرم من أبعدهما لأن المقتضي للاحرام منه موجود من غير رجحان لغيره عليه ويعرف محاذاته للمؤقت وكونه هو الأقرب اليه بالاجتهاد والتحري فإن شك فالمستحب له الإحتياط فيحرم من حيث يتيقن أنه لم يجاوز حذو

7 - الميقات القريب إليه إلا محرما ولا يجب عليه ذلك حتى يغلب على ظنه أنه قد حاذى الميقات الأقرب

مسألة ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم إلا لقتال مباح أو حاجة تتكرر كالحطاب ونحوه ثم إن أراد النسك أحرم من موضعه وإن تجاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع
في هذا الكلام فصول الأول
أن من مر بهذه المواقيت غير مريد لمكة بل يريد موضعا من الحل فلا إحرام عليه
وإن أراد موضعا من الحرم غير مكة
وإن أراد مكة للحج أو العمرة لم يجز له تجاوز الميقات إلا محرما لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال مهل أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن وهذا أمر بصيغة الخبر وكذلك قوله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة إلى قوله هن لهن ولمن

أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة وإنما فائدة التوقيت وجوب الإحرام من هذه المواقيت لأن ما قبلها يجوز الإحرام منه فلو كان ما بعدها يجوز تأخير الإحرام إليه لم يكن لها فائدة
وإن أراد دخول مكة لغير الحج والعمرة مثل تجارة أو زيارة أو سكن أو طلب علم أو غير ذلك من الحاجات التي لا يشق معها الإحرام فإن السنة أن لا يدخلها إلا محرما بحجة أو بعمرة سواء كان واجبا أو تطوعا وهذا واجب عليه في أشهر الروايتين
قال في رواية ابن منصور لا يدخلها أحد إلا بإحرام وقال في رواية ابن إبراهيم وقد سئل عن رجل أراد أن يدخل مكة بتجارة أيجوز أ يدخلها بغير إحرام فقال لا يدخل مكة إلا بإحرام يطوف ويسعى ويحلق ثم يحل وقد نص على ذلك في مواضع

والرواية الأخرى أنه مستحب وترك الإحرام مكروه قال في رواية الأثرم والمروذي لا يعجبني أ يدخل مكة تاجر ولا غيره إلا بإحرام تعظيما للحرم وقد دخل ابن عمر بغير إحرام
لأن النبي صلى الله عليه و سلم أن الحج والعمرة إنما تجب مرة واحدة فلو أوجبنا على كل من دخلها أن يحج أو يعتمر لوجب أكثر من مرة ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال في المواقيت هن لهن ولكل من أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة وهذا لا يريد حجا ولا عمرة ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لما رجع هو أصحابه من حنين إلى مكة
ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعث عثمان عام الحديبية لخبرهم بقدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة

ولأن الصحابة الذين بعثهم لاستخراج خبيب
ولأن هذه قربة مشروعة لتعظيم البقعة فلم تجب كتحية المسجد الحرام بالطواف وتحية غيره بالصلاة
وهل يجوز أن يحضر عرفة والموسم مع الناس من لم ينو الحج ولم يحرم من أهل مكة أو غيرهم ظاهر حديث عمر وابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يجوز تعظيما للفعل كتعظيم المكان
ووجه الأول ما روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال

لا يدخل مكة تاجر ولا طالب حاجة إلا وهو محرم رواه سعيد والاثرم وفي رواية قال لا يدخلن أحد من الناس مكة من أهلها ولا من غيرهم غير حرام رواه حرب ولا يعرف له مخالف وسنتكلم على أثر ابن عمر
وايضا ما روي عن مجاهد وطاوس قالا ما دخلها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه إلا وهم محرمون
وفي رواية عن هشام بن حجير أظنه عن طاوس قال ما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة إلا محرما إلا عام الفتح
وعن عطاء قال ما نعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مكة قط إلا وهم

محرمون رواهن سعيد
وعن خصيف عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يجاوز أحد الميقات إلا وهو محرم إلا من كان أهله دون الميقات ذكره بعض الفقهاء
ولا فرق بين أن يكون دون المواقيت إلى مكة أو يكون وراء المواقيت قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندى لا يدخل أحد مكة بغير إحرام

وقد أرخص للحطابين والرعاة ونحو هؤلاء أن يدخلوا بغير إحرام فقيل له إنهم يقولون ابن عمر لم يكن بلغ الميقات فمن أجل ذلك دخل بغير إحرام فقال الميقات وغيره سواء وإنما رجع لاضطراب الناس والفتنة فدخل كما هو
وكان ابن عباس يشدد في ذلك فقيل له فالنبي صلى الله عليه و سلم دخلها عام الفتح بغير إحرام فقال ذلك من أجل الحرب ألا تراه يقول حلت لي ساعة من نهار وهذا يدخل مع فعل ابن عمر
وقال في رواية الأثرم في الرجل يقيم بمكة متمتعا أو غيره ثم يخرج منها لبعض الحاجة فيعجبني أن لا يدخلها إلا باحرام وأن لا يخرج منها أبدا حتى يودع البيت فقد أمر بالإحرام كل داخل إليها ممن خرج عنها أو لم يخرج سواء كان رجوعه إليها من الميقات أو من فوق وهذا لأن المقصود بذلك تعظيم الحرم لشرفه وكرامته وذلك يستوى فيه كل داخل إليه ممن قربت داره أو بعدت ولهذا يستويان في وجوب الإحرام إذا أراد الحج أو العمرة
وأما نفس مجاوزة الميقات فليس بموجب للإحرام بدليل ما لو لم يقصد مكة وإنما قصد بعض أماكن الحل

فأما إن قصدها من نفس الحرم فلا إحرام عليه لأن الحجيج يدخلونها من منى بعد أن حلوا الحل كله ولا إحرام عليهم واجب ولا مستحب ولأن الحرم كله شيء واحد فأشبه الانتقال في طرقات القرية ولأن ذلك فيه مشقة شديدة على القاطنين
فأما إن أراد بعض مواضع الحرم خارج مكة أو أراد أن يخترق الحرم ابن سبيل أو أراد أن يخترقها من غير مقام
فإن دخل مكة غير محرم لزمه قضاء هذا الإحرام نص عليه في رواية حرب قال قلت لأحمد فإن قدم من بلدة بعيدة تاجر فقدم مكة بغير إحرام قال يرجع إلى الميقات فيهل بعمرة إن كان في غير أيام الحج وإن كان في أيام الحج أهل بحجة
وهذا هو الذي ذكره القاضي في خلافه وابنه وأبو الخطاب وغيرهم
وذكر الشريف أبو جعفر أنه يثبت في ذمته الدم وهو إن لم يكن غلطا في النسخة فإنه وهم والله أعلم ولعل وجهه أنه ترك إحراما واجبا
وقال القاضي في المجرد وابن عقيل في بعض المواضع وغيرهما

من أصحابنا ليس عليه قضاء ولا دم ولا غير ذلك لأنها قربة مفعولة لحرمة المكان فوجب ألا تقضي كتحية المسجد ولأن الإحرام يراد للدخول فإذا حصل الدخول بدونه لم تشرع اعادته كالوضوء لصلاة النافلة ولأنها عبادة مشروعة بسبب فتسقط عند فوات السبب كصلاة الكسوف
فعلى هذا بأي شيء يسقط هل يسقط بدخول الحرم وهل يجب عليه أن يعود إلى الميقات فإن أحرم دونه
ووجه الأول أنه إحرام لزمه فإذا لم يفعله لزمه قضاؤه كالنذر المعين ولأن من وجب عليه عبادة فإنها لا تسقط بفوات وقتها بل عليه إعادتها كسائر الواجبات من الصوم والصلاة والهدي والأضحية وغيرذلك خصوصا الحج وهذا لأن الواجب الثابت في الذمة لا بد من فعله على أي حال كان إما في وقته وإما بعد وقته وعكسه ما لا يجب من النوافل على أنا نقول النوافل المؤقته تقضي وتحية المسجد على أنه قد يفرق بين من يستديم المكث

وبين من يخرج فعلى هذا
فإن قيل فهو إذا رجع إلى الميقات لزمه إحرام آخر قلنا إنما يلزمه الدخول بإحرام سواء كان وجب عليه قبل ذلك أو لم يجب
فإن أدى بهذا الإحرام حجة الاسلام أو حجة منذورة في سنته أجزاء عنه من عمرة القضاء فيما ذكره أصحابنا وهو منصوصه في رواية أبي طالب فيمن دخل مكة بغير إحرام وهو يريد الحج فإن كان عليه وقت رجع إلى الميقات فأهل منه ولا شيء عليه وهذا لأنه كان مأمورا أن يدخل بإحرام ولو أنه للحج المفروض فإذا عاد ففعل ذلك فقد فعل ما كان مأمورا به ودخوله حلالا لا يوجب عليه دم كما لو جاوز الميقات غير المحرم ثم رجع فأحرم منه
وإن أخر الحج إلى السنة الثانية لم تجزه حجة الإسلام عنه ولزمه حجة أو عمرة ذكره القاضي وغيره لأن حجة في العام المقبل لا يسد مسد الإحرام في

ذلك العام لأن الإحرام الذي لزمه بالدخول لا يؤدي به الحج في العام المقبل ويتخرج أن يجزءه لأن حجة الإسلام تسقط ما عليه من نذر وفاسد على إحدى الروايتين
وإن أحرم بالحج عما وجب بالدخول وقع عن حجة الإسلام وأما العمرة فمتى اعتمر فإن أحرم هذا بالعمرة أو بالحج بعد مجاوزة الميقات لزمه دم وإنما يستقر عليه القضاء بالدخول فلو رجع قبل أن يدخل لم يلزمه شيء

الفصل الثاني
أن من دخل مكة لقتال مباح فإنه لا إحرام عليه نص عليه كما تقدم وإنما يجيء على أصلنا إذا كان هناك بغاة أو كفار أو مرتدة قد بدوا بالقتال فيها فأما إذا لم يبدأوا بقتال لم يحل قتالهم وذلك لما روى مالك عن ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه قال مالك ولم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ

محرما رواه الجماعة ولفظه متفق عليه
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام رواه مسلم والنسائي ورواه بقية الجماعة إلا البخاري ولم يقولوا بغير إحرام ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم دخلوا عام الفتح كذلك بغير إحرام
فإن قيل فهذا خاص للنبي صلى الله عليه و سلم لأنه قال لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار
قيل الذي خص به صلى الله عليه و سلم جواز إبتداء القتال فيها ولما أبيح له ذلك ترك الإحرام فإذا أبيح نوع من القتال لغيره شركه في صفة الإباحة
وايضا فإن من أبيح له القتال قد أبيح له بها سفك الدم الذي هو أعظم

المحظورات فلأن تباح له سائر المحظورات أولى ولأنه يحتاج إلى الدخول بغير إحرام فأشبه الحطابة
وكذلك من دخلها خائفا لفتنة عرضت ونحو ذلك لما رواه مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر فرجع فدخل مكة بغير إحرام
وعن عبيد الله بن عمر عن نافع قال خرج ابن عمر من مكة يريد المدينة فلما بلغ قديدا بلغة عن جيش قدم المدينة فرجع فدخل مكة بغير إحرام رواه سعيد
وهذا الجيش

ولأن الخائف ولم يذكر القاضي و دخولها إلا لقتال مباح أو حاجة تكرر كما ذكره الشيخ ومقتضى كلامهم أن الخائف الذي لا يقاتل لا يدخلها إلا محرما وتأول القاضي فعل ابن عمر على أنه أحرم من دون الميقات ولم يحرم منه وإنما أحرم من دونه لأنه لم يقصده قصدا إبتداء وإنما تأول هذا لأنه بلغه أن ابن عمر دخل بغير إحرام ولو بلغه السياق الذي ذكرناه لم يتأول هذا التأويل
وأما من يتكرر دخوله إلى مكة كل يوم مثل الحطابين والرعاة ونحوهم فإن لهم أن يدخلوها بغير إحرام كما نص عليه لما روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يدخلن انسان مكة إلا محرما إلا الجمالين والحطابين وأصحاب منافعها رواه حرب

وهذا يقتضي لكونه ينتفعون به لا لتكراره لأن هؤلاء لو وجب عليهم الإحرام كلما دخلوا لشق عليهم مشقة عظيمة ولا بد لهم من مكة لتعلق مصالحهم بها وتعلق مصالح البلد بهم
قال أصحابنا وكذلك من كان من أهلها له صنعة بالحل يتردد إليها وكذلك الفيوج الذي يتكرر دخلوهم وحد التكرار قال حرب قلت لأحمد الرجل يدخل مكة بغير إحرام قال إذا كان من الحطابة وهؤلاء الذين يختلفون كل يوم فإنه لا بأس فقيده بيوم

فصل
وإنما يجب الإحرام على الداخل إذا كان من أهل وجوب الحج فأما العبد والصبي والمجنون فيجوز لهم الدخول بغير إحرام لأنه إذا لم تجب عليهم حجة الإسلام وعمرته فأن لا يجب ما هو من جنسه بطريق الأولى هكذا ذكره أصحابنا ابن أبي موسى والقاضي وغيرهم

الفصل الثالث
أن من جاز له مجاوزة الميقات بغير إحرام إما لأنه لم يقصد مكة أو قصدها وهو ممن يجوز له دخلوها بغير إحرام كالمحارب وذي الحاجة المتكررة وغيرهم إذا أراد النسك بعد ذلك فإنه يحرم من موضعه وليس عليه أن يعود إلى الميقات في أشهر الروايتين

فصل
فأما الصبي والمجنون والعبد إذا دخلوا مكة بغير إحرام ثم أرادوا الحج بأن يأذن للصبي مولاه وللعبد سيده أو صاروا من أهل الوجوب فإنهم يحرمون بالحج من حيث أنشأوه ولا دم عليهم قال أحمد في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان في مملوك جاز المواقيت بغير إحرام منعه مواليه أن يحرم حتى وقف بعرفة قال يحرم مكانه وليس عليه دم لأن سيده منعه قال أحمد جيد حديث أبي رجاء عن ابن عباس لأنه جاز لهم مجاوزة الميقات بغير إحرام وإنما وجب عليهم الإحرام حين صاروا من أهل الوجوب فصاروا كالمكي ولأنهما لا يملكان الإحرام إلا باذن الولي وهذا فيما إذا دخلوا غير مريدين للنسك أو أراده ومنعهم السيد والولي من الإحرام فإن أذن لهما الولي في الإحرام من الميقات فلم يحرما لزمهما دم ذكره القاضي
وأما الكافر إذا جاوز الميقات أو دخل مكة ثم أسلم وأراد الحج ففيه روايتان
أحدهما عليه أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه فإن تعذر ذلك أحرم من موضعه وعليه دم قال في رواية أبي طالب في نصراني أسلم

بمكة يخرج إلى الميقات فيحرم فإن خشي الفوات أحرم من مكة وعليه دم وهذا اختيار القاضي والشريف أبي جعفر وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم لأنه قد وجب عليه الإحرام وتمكن منه فإذا لم يفعله فعليه دم بتركه كالمسلم وذلك لأن الكافر يمكنه أن يسلم ويحرم وهو غير معذور في ترك الإسلام وإن كان لا يصح منه الإحرام في حال كفره فأشبه من ترك الصلاة وهو محدث حتى خرج الوقت
والرواية الثانية يحرم من موضعه ولا دم عليه قال في رواية ابن منصور في نصراني أسلم بمكة ثم أراد أن يحج هو بمنزلة من ولد بمكة وقال في رواية حنبل في الذمى يسلم بمكة يحرم من مكة أو من موضع أسلم وهذا اختيار أبي بكر وهذا لأنه لا يصح منه الإحرام فأشبه المجنون ولأنه إنما جاوز الميقات قبل الإسلام وقد غفر له ما ترك قبل الإسلام من الواجبات بقوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وبقوله صلى الله عليه و سلم الإسلام يجب ما قبله فصار بمنزلة العبد إذا عتق والصبي إذا بلغ سواء وبهذا يظهر الفرق بينه وبين من ترك الصلاة

محدثا فإنه هناك لا يسقط عنه ما تركه من الواجبات في حال حدثه وهنا يغفر له ما تركه في حال كفره حتى يخاطب بالوجوب من حين الإسلام
ولأن مكة قد استوطنها أقوام في الجاهلية من غير أهلها فإما أن يكونوا دخولها بغير إحرام أو بإحرام لا يصح ثم لما أسلموا لم يؤمروا أن يخرجوا إلى الميقات فيحرموا منه إلا أن يقال لا نسلم أنه استوطنها أفقي بعد فرض الحج

الفصل الرابع
أنه إن جاوز الميقات غير هؤلاء وأرادوا النسك لزمهم أن يرجعوا إلى الميقات فيحرموا منه فيدخل في هذا كل من كان مقصوده الحج أو العمرة ومن كان مقصوده دخول مكة لتجارة أو زيارة ونحو ذلك
وإن قلنا يسقط الإحرام بالدخول أو قلنا ليس بواجب عليه فإنه إذا أراد الحج أو العمرة فإن عليه أن يخرج إلى الميقات فيحرم منه سواء كان الحج واجبا أو تطوعا قال ابن أبي موسى فأما المسلم يدخل مكة لتجارة بغير إحرام ثم يريد الحج فإنه يخرج إلى الميقات فيحرم منه فإن خشي الفوت أحرم من مكانه وكان عليه دم قولا واحدا ذكر ذلك بعد أن حكى في الذمى إذا أسلم بمكة الروايتين وقد نص على ذلك في رواية أبي طالب وإذا دخل مكة بغير إحرام فإن كان عليه وقت وأراد الحج رجع إلى الميقات فأهل منه ولا دم عليه فإن خاف الفوت أحرم من مكة وعليه دم
ومن دخل مكة والحج واجب عليه ولم يرده وهذا لأن الإحرام من الميقات واجب قد أمكن فعله فلزمهم كسائر الواجبات
وإذا رجعوا فأحرموا فلا دم عليهم لأنهم قد أتوا بالواجب وتلك المجاوزة ليست نسكا فإذا لم يتركوا نسكا ولم يفعلوا نسكا في غير وقته ولم يفعلوا في الإحرام محظورا فلا وجه لإيجاب الدم

قال جابر بن زيد رأيت ابن عباس يردهم إلى المواقيت إذا جاوزوها بغير إحرام رواه سعيد
فإن ضاق الوقت بحيث يخافون من الرجوع فوت الحج أو لم يمكن الرجوع لتعذر الرفقة ومخافة الطريق ونحو ذلك فإنه لا يجب عليهم الرجوع فيحرمون من موضعهم وعليهم دم
وكذلك لو أحرموا من دونه مع إمكان العودة فعليهم دم لأن ابن عباس ولا يسقط الدم بعودهم إلى الميقات

مسألة والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات فإن فعل فهو محرم
مذهب أحمد أن الأفضل أن لا يحرم بالحج ولا بالعمرة حتى يبلغ الميقات قال في رواية الأثرم وقد سئل أيما أعجب إليك يحرم من الميقات أم قبل فقال من الميقات أعجب إلي
قيل له وسئل في رواية ابن منصور إنهم كانوا يحبون أن يحرم الرجل أول ما يحج من بيته أو من بيت المقدس أو من دون الميقات فقال وجه العمل المواقيت
وكذلك قال عبد الله قرأت على أبي كانوا يحبون أن يحرم الرجل أول ما يحج من بيته أو من بيت المقدس أو من دون الميقات فقال وجه العمل المواقيت
وقال في رواية محمد بن الحسن بن هارون إذا أحرم الرجل أحرم من ميقات أعجب إلي ولا يحرم من قبل الميقات فإن أحرم قبل الميقات انعقد إحرامه

قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم
قال بعض أصحابنا يكره الإحرام قبل الميقات وقال أكثرهم لا يكره وهو المنصوص عنه قال حرب قلت لأحمد الرجل يحرم قبل الميقات قال قد فعل ذلك قوم وكأنه سهل فيه
وقال في رواية صالح إن قوي على ذلك أرجو أن لا يكون فيه بأس
وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم حج حجة الوداع هو وعامة المسلمون

واعتمر عمرة الحديبية وعمرة القضاء هو وخلق كثير من أصحابه وفي كل ذلك يحرم هو والمسلمون من الميقات ولم يندب أحدا إلى الإحرام قبل ذلك ولا رغب فيه ولا فعله أحد على عهده فلو كان ذلك أفضل لكان أولى الخلق بالفضائل أفضل الخلائق وخير القرون ولو كان خير لسبقونا إليه وكانوا به أولى وبفضل لو كان فيه أحرى ولندب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ذلك كما ندب إلى جميع الفضائل إذ هو القائل وما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد أمرتكم به ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد نهيتكم عنه
فإن قيل فعل ذلك لأنه أيسر فتقتدي الأمة به وقد يختار غير الأفضل للتعليم

قيل قد أحرم عدة مرات مع أن العمرة لا تجب إلا مرة فقد كان الجواز والبيان يحصل بمرة واحدة فلما أحرم فيها كلها على وجه واحد علم أنه أحب إلى الله
ولأنه قد كرر العمر مع أنه ليس عليه إلا عمرة واحدة فزيادة موضع الإحرام لو كان فيه فضل أولى من ذلك وأيسر
ولأن ذلك إنما يكون في الفعل الذي يتكرر فيفعل المفضول مرات لبيان الجواز كالصلاة في آخر الوقت فأما مالا يفعله إلا مرة واحدة فما كان الله ليختار لرسوله أدنى الأمرين ويدخر لمن بعده أفضلهما وفاعل هذا وقائله يخاف عليه الفتنة
وقد سئل مالك عمن أحرم قبل الميقات فقال أخاف عليه الفتنة قيل له وأي فتنة في ذلك وإنما هي زيادة أميال فقال وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك خصصت بأمر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لو كان الفضل في غير ذلك لبينه للمؤمنين ولدلهم عليه إذ هو أنصح الخلق للخلق

وأرحم الخلق بالخلق كما دلهم على الأعمال الفاضلة وإن كان فيها مشقة كالجهاد وغيره
وكونه أيسر قد يكون مقتضيا لفضله كما أن صوم شطر الدهر أفضل من صيامه كله وقيام الليل أفضل من قيامه كله والتزوج وأكل ما أباحه الله أفضل من تحريم ما أخل الله والله عز و جل يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته
وايضا فإن قوله صلى الله عليه و سلم يهل أهل المدينة من ذي الحليفة وقول الصحابة وقت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل المدينة من ذي الحليفة أمر بالإهلال من هذه المواقيت وهذا التوقيت يقتضي نفي الزيادة والنقص فإن لم تكن الزيادة محرمة فلا أقل من أن يكون تركها أفضل
وايضا ما روي عن أبي سورة عن أبي أيوب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم

ليستمتع أحدكم بحلة ما استطاع فإنه لا يدري ما يعرض له في حرمته رواه أبو كريب وأبو يعلي الموصلي وقد روى الترمذي وابن ماجة بمثل إسناده لكن أبو سورة ضعفوه
وايضا فإن المكان أحد الوقتين فلم يكن الإحرام قبله مستحبا كالزمان ولأن الأصل أن الزيادة على المقدرات من المشروعات كإعداد الصلاة ورمي الجمرات ونحو ذلك لا يشرع كالنقص منه فإذا لم تكن الزيادة مكروهة فلا أقل من أن لا يكون فيها فضل

وأيضا فإن الترفه بالحل قبل الميقات رخصة كالأكل بالليل في زمان الصوم والله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتي معصيته
وايضا فإن في زيادة الإحرام على ما وجب تعريضا لأخطار من مواقعة المحظورات وملاله النفس فكان الأولى السلامة كما سئل ابن عباس عن رجل قليل الطاعة قليل المعصية ورجل كثير الطاعة كثير المعصية فقال لا أعدل بالسلامة شيئا وطرد هذا عند أصحابنا أنه لا يستحب الإحرام بالحج للمتمتع قبل يوم التروية وإنما اسحببنا للمعتمر أن يخرج إلى المواقيت فيحرم منها لأنه ميقات شرعي
فإن قيل فقد قال الله وأتموا الحج والعمرة لله قال علي وابن مسعود تمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه رواه أحمد وفي لفظ له من أحرم من بيت المقدس غفر له ما

تقدم من ذنبه وأبو داود ولفظه ومن أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أو وجبت له الجنة شك الراوي وابن ماجه ولفظه من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب
وقد أحرم جماعة من الصحابة من فوق المواقيت فعن ابن عمر أنه أحرم عام الحكمين من بيت المقدس وعنه أنه أحرم من بيت المقدس بعمرة ثم قال بعد ذلك لوددت أني لو جئت بيت المقدس فأحرمت منه
وعن أنس بن مالك أنه أحرم من العقيق رواهما سعيد

وقد قيل أهل ابن عباس من الشام وأهل عمران بن حصين من البصرة وأهل ابن مسعود من القادسية وقال إبراهيم كانوا يحبون أول ما يحج الرجل أو يعتمر أن يحرم من أرضه التي يخرج منها ولأن الإحرام عبادة وتركه عادة والعبادات أفضل من العادات
قيل أما أثر علي رضي الله عنه فقد رواه سعيد وحرب وغيرهما عن عبد الله بن سلمة عن علي أن رجلا سأله عن هذه الاية وأتموا الحج والعمرة لله قال إن اتمامها أن تحرم من دويرة أهلك قال حرب سمعت أحمد يقول قال سفيان بن عيينة في تفسير الحديث أن تحرم من دويرة أهلك قال هو أن ينشيء سفرها من أهله وقال أحمد في رواية ابن الحكم وقد سئل عن الحديث أن تحرم من دويرة أهلك قال بشيء لها سفرا من أهله كأنه يخرج للعمرة عامدا كما يخرج للحج عامدا وهذا مما يؤكد أمر العمرة

والذي يدل على هذا التفسير ما روى عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه قال أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسألته عن تمام العمرة فقال أئت عليا فسله فعدت فسألته فقال ائت عليا عليه السلام فسله فأتيت عليا فقلت إني قد ركبت الخيل والإبل والسفن فأخبرني عن تمام العمرة فقال تمامها أن تنشئها من بلادك فعدت إلى عمر فسألته فقال ألم أقل لك ائت عليا فسله فقلت قد سألته فقال تمامها أن تنشئها من بلادك قال هو كما قال رواه سعيد وذكره أحمد وقال قال علي أحرم من دويرة أهلك فقد توافق عمر وعلي رضي الله عنهما على أن تمامها أن ينشئها من بلدة فيسفار لها سفرا مفردا كسفر الحج كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم حين أنشأ لعمرة الحديبية والقضية سفرا من بلدة وهذا مذهبنا فإن العمرة التي ينشيء

لها سفرا من مصره أفضل من عمرة المتمتع وعمرة المحرم والعمرة من المواقيت وهذا هو الذي كان يقصده عمر بنهيهم عن المتعة أن ينشؤا للعمرة سفرا آخرا
فأما أن يراد به الدخول في الإحرام من المصر فكلا لأن عمر قد زجر عن ذلك وعلي لم يفعله قط هو ولا أحد من الخلفاء الراشدين بل لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف يكون التمام الذي أمر الله به لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أحد من خلفائه ولا جماهير أصحابه
وقوله أن تحرم من أهلك كما يقال تحج من أهلك وتعتمر من أهلك لمن سافر سفر الحج وإن كان لا يصير حاجا ولا معتمرا حتى يهل بهما كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله

ولهذا كره جماعة من السلف أن يطلق عليه ذلك قال عبد الله بن مسعود من أراد منكم هذا الوجه فلا يقولن إني حاج ولكن ليقل اني وافد فإنما الحاج المحرم وفي رواية عنه لا يقول أحدكم إني حاج وإنما الحاج المحرم ولكن يقول أريد الحج ولا يقولن أحدكم إني صرورة فإن المسلم ليس بصرورة
وعن عاصم الأحول قال سمعت أنسا يقول لا تقل إني حاج حتى تهل ولكن لتقل إني مسافر فذكرت ذلك لأبي العالية فقال صدق أنس أو ليس إن شاء رجع من الطريق رواهما سعيد
تقديره أن تقصد الإحرام والإهلال من أهلك من أهلك وتنشيء سفرهما من أهلك
وأما حديث بيت المقدس فقد قيل هو مخصوص به فيكون الإحرام

من بيت المقدس أفضل خصوصا لأنه يعمر ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى بالعبادة وهما أولى مساجد الأرض وبينهما كان مسرى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهما القبلتان ومنهما المبدأ والمعاد فإن الأرض دحيث من تحت الكعبة وتعاد من تحت الصخرة وعامة الأنبياء الكبار بعثوا من بينهما ويدل على ذلك إهلال ابن عمر منه ولم يفعل ذلك في حجة وعمرته من المدينة
وظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور إن الإحرام من الميقات أفضل من بيت المقدس وكذلك ذكر القاضي وغيره من أصحابنا ثم منهم من ضعف الحديث
وتأوله القاضي على أن ينشيء السفر من بيت المقدس ويكون الإحرام من

الميقات وفيه نظر
وأما من أحرم من الصحابة قبل المواقيت فأكثر منهم عددا وأعظم منهم قدرا لم يحرموا إلا من المواقيت وقد أنكروه بالقول فروى الحسن أن عمران ابن حصين أحرم من البصرة فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فغضب وقال يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أحرم من مصره
وعن الحسن أن عبد الله بن عامر أحرم من خرسان فلما قدم على عثمان رضي الله عنه لامه فيما صنع وكرهه له رواهما سعيد

قال البخاري وكره عثمان رضي الله عنه أن يحرم من خرسان أو كرمان
وفي رواية في حديث عمران فقدم على عمر فأغلظ له وقال يتحدث الناس أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أحرم من مصر من الأمصار
وعن مسلم أبي سلمان أن رجلا أحرم من الكوفة فرأى عمر سيء الهيئة فأخذ بيده وجعل يديره في الخلق ويقول انظروا إلى هذا ما صنع بنفسه وقد وسع الله عليه
وعن أبي ذر قال استمتعوا بثيابكم فإن ركابكم لا تغني عنكم من الله

شيئا رواهن النجاد

مسألة وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة
هذا نصه ومذهبه قال في رواية عبد الله أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة وقال في رواية
ويوم النحر من أشهر الحج وهو يوم الحج الأكبر نص عليه في رواية حرب وأبي طالب لما روى أبو الأحوص عن عبد الله قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة رواه سعيد وأبو سعيد

الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم
وعن ابن الزبير في قوله الحج أشهر معلومات قال شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة رواه سعيد الأشج والنجاد والدارقطني وغيرهم وعن علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله الحج أشهر معلومات وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة جعله الله للحج وسائر الشهور للعمرة فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج والعمرة يحرم بها في كل شهر رواه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عنه

وعن الضحاك عن ابن عباس قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة رواه الدارقطني
وعن نافع وعبد الله بن دينار عن ابن عمر قال أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة رواه سعيد وأبو سعيد الأشج والدارقطني وفي لفظ وعشر ذي الحجة وذكره البخاري في صحيحه وهذا قول

الشعبي والنخعي ومجاهد والضحاك وعطاء والحسن ومرادهم بعشر من ذي الحجة عشر ذي الحجة بكماله كما قد جاء في روايات أخرى
وعشر ذي الحجة اسم لمجموع الليالي وأيامها فإن يوم النحر من عشر ذي الحجة ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر وقال تعالى وليال عشر ويوم النحر داخل فيها وقال تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها

بعشر ويوم النحر هو آخر الأربعين ولفظ العشر وإن كان في الأصل اسما للمؤنث لأنه بغير هاء فإنما دخل فيه اليوم لسببين
أحدهما أنهم في التاريخ إنما يؤخرون بالليالي لأنها أول الشهر الهلالي وتدخل الأيام تبعا ولهذا لو نذر اعتكاف عشر ذي الحجة لزمه اعتكاف يوم النحر
الثاني أنه قد يجيء هذا في صفة المذكر بغير هاء لقول النبي صلى الله عليه و سلم من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال وقوله من هذه الأيام العشر
وايضا فإن يوم النحر يوم الحج الأكبر
وايضا فإن أشهر الحج هي الأشهر التي سن الله فيها الحج وشرعه والحج له إحرام وإحلال فأشهره هي الوقت الذي يسن فيه الإحرام به والإحلال منه

وأول وقت شرع الإحرام فيه بالحج شوال والوقت الذي يشرع فيه الإحلال يوم النحر وما بعد يوم النحر لا يشرع التأخير إليه وليلة النحر لا يسن التعجيل فيها كما لا يسن الإحرام بالحج قبل أشهره
وايضا فإن هذه المدة أولها عيد الفطر وآخرها عيد النحر والحج هو موسم المسلمين وعيدهم فكأنه جعل طرفي وقته عيدين
فإن قيل فقد روى عروة ابن الزبير قال قال عمر بن الخطاب الحج أشهر معلومت قال شوال وذو القعدة وذو الحجة فمن فرض فيهن الحج قال عمر بن الخطاب لا عمرة في أشهر الحج فكلم في ذلك فقال إني أحب أن يزار البيت إذا جعلت العمرة في أشهر الحج لم يفد الرجل إذا حج البيت أبدا
وعن التميمي عن ابن عباس قال شوال وذو القعدة وذو الحجة ذكره البخاري وعن مجاهد عن ابن عمر قال شوال وذو القعدة وذو الحجة رواهن سعيد

قبل ليس بين الروايتين إختلاف في المعنى كما يقال قد مضى ثلاثة أشهر وإن كان قبل ذلك في أثناء الشهر الثالث ويقال له خمسون سنة وإن كان لم يكملها فكثير ما يعبر السنين والشهور والأيام عن التام منها والناقص فمن قال وذو الحجة أنه من شهور الحج في الجملة ومن قال وعشر ذي الحجة فقد بين ما يدخل منه في شهور الحج على سبيل التحديد والتفصيل
فإن قيل فقد قال الحج أشهر معلومت
قلنا الشهران وبعض الثالث تسمى شهورا لا سيما إذا كانت بالأهلة
وذكر القاضي أن فائدة هذه المسألة اليمين وليس كذلك وهذا التحديد له فائدة في أول الأشهر وهو أنه لا يشرع الإحرام بالحج قبلها وأن الأفضل أن يعتمر قبلها وهي عمرة رمضان وأنه إن اعتمر فيها كان متمتعا وقبل ذلك هو وقت الصيام فإذا انسلخ دخل وقت الإحرام بالحج
ومن فوائده أنه لا يأتي بالأركان قبل أشهره فلو أحرم بالحج قبل أشهره وطاف للقدوم لم يجزه سعي الحج عقيب ذلك لأن أركان العبادة لا تفعل إلا في وقتها وفائدته في آخر الأشهر أن السنة أن يتحلل من يوم النحر فلا يتقدم قبل

ذلك ولا يتأخر عن ذلك فإنه أكمل وأفضل
وذكر ابن عقيل أن طواف الزيارة في غير أشهر الحج مكروه

فصل والإحرام بالحج قبل أشهره مكروه
قال في رواية ابن منصور إذا أهل بالحج في غيره أشهره فهو مكروه قال القاضي أود بهذا كراهة تنزيه وقال في موضع آخر ميقات المكان ضرب لئلا يتجاوز قبل الإحرام وميقات الزمان ضرب لئلا يتقدم عليه بالإحرام فإن خالف وتجاوز انعقد إحرامه مكروها وكذلك إذا خالف في ميقات الزمان يجب أن ينعقد مكروها
ومن أصحابنا من يقول يستحب أن لا يستحب أن لا يحرم بالحج قبل أشهره وذكر ابن عقيل هل يكره الإحرام بالحج قبل أشهره على روايتين
إحداهما لا يكره كالإحرام قبل ميقات المكان وإن كان الأفضل أن يحرم من الميقات فيهما
والثانية يكره لأنه ركن فكره فعله في غير أشهر الحج كطواف الزيارة

والصواب الأول ولم يذكر القاضي في الكراهة خلافا لأن الله تعالى قال الحج أشهر معلومت فمن فرض فيهن الحج ومعناه أشهر الحج أشهر معلومات أولهما شوال فلا بد أن يكون لهذا التوقيت والتحديد فائدة ولا يجوز أن يكون هذا التوقيت لأجل الوقوف والطواف لأن الوقوف لا يكون إلا في يوم واحد اخر هذه المدة والطواف إنما يكون بعده فلا يجوز أن يؤقت بأول شوال فعلم أن التوقيت للإحرام ولأن الحج اسم للإحرام والوقوف والطواف والسعي فيجب أن تكون هذه الأشهر مواقيت لجميع ذلك وإذا كان وقتا لها لم يكن تقديمه قبل الوقت مشروعا لأن التوقيت لا يكون لمجرد الفضيلة بدليل الصلاة في أول الوقت فإنها أفضل من الصلاة في اخره ولا يجعل ذلك هو وقتها
وايضا قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق خص الفرض بهن فعلم أنه في غيرهن لا يشرع فرضه
وايضا ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج والعمرة يحرم بها في كل شهر وعن ابن عباس قال من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ذكره

البخاري في صحيحه ورواه النجاد
والصحابي إذا أطلق السنة انصرف ذلك إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الرجل أيهل بالحج قبل أشهر الحج فقال لا رواه الشافعي والدارقطني ورواه النجاد ولفظه لا يحرم المحرم إلا في أشهر الحج

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9