كتاب : شرح العمدة في الفقه
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

الصلاة موقوفة محبوسة مردودة لم تكن مجزية بل قوله لا تجوز ابلغ من قوله لا تجزىء لأن هذا يعم الفرض و النفل و ذاك يختص النفل و ايضا فان الصلاة في المكان النجس فاسدة مع أنه لم ينطق كتاب و لا سنة بانها فاسدة و لا انها غير مجزئة و إنما فهم المسلمون ذلك من نهي الشارع عن الصلاة فيها و تخصيص الاباحة بالارض الطيبة فهذه المواضع التي سلبت اسم المسجد و ترادفت اقاويل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالنهي عن الصلاة فيها اولى ان لا تجزئ الصلاة فيها
فاذا قيل ان الصلاة على مكان فيه قطرة بول أو خمر أو في بعض مساقط ثوب المصلي لا تصح اعتمادا على قوله جعلت لي كل ارض طيبة مسجدا و طهورا و استنباطا من تخصيصه و تعليله مع أنه فهم حسن وفقه صحيح فما هو ابين منه و اصرح من النهي الصريح و الاستثناء القاطع مع كونه اصح و اشهر و هو عن السلف اظهر و اكثر و اولى ان يعتمد عليه فان هذا كالاجماع من الصحابة قال انس كنت اصلي و بين يدي قبر و انا لا اشعر فناداني عمر القبر القبر فظننت أنه يعني القمر فرفعت راسي الى السماء فقال رجل إنما يعني القبر فتنحيت عنه رواه سعيد و ابن ماجه و غيرهما و ذكره البخاري في صحيحه
و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا تصل في حمام أو عند

قبر و قال جابر بن سمرة رضي الله عنه لا تصل في اعطان الابل و كذلك روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر ذلك ابن حامد و عن ابن عمر و ابن عباس كراهة الصلاة في المقبرة و هذا اولى ان يكون صحيحا مما ذكره الخطابي عن ابن عمر أنه رخص في الصلاة في المقابر فلعل ذلك ان صح اراد به صلاة الجنازة و عن علي رضي الله عنه مرفوعا و موقوفا قال من شرار الناس من يتخذ القبور مساجد رواه عبد الرزاق و عن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل انصلي في مناخ الابل قال لا و لكن صل في مرابض الغنم رواه مالك و غيره و عن عبد الله بن عمرو قال تكره الصلاة إلى حش و في حمام و في مقبرة و قال ابراهيم كانوا لا يصلون التطوع فاذا كانوا في جنازة فان حضرت صلاة مكتوبة تنحوا عن القبور فصلوا رواهما سعيد و قد قدمنا عن عمر و غيره من الصحابة انهم نهوا عن قراءة القران في الحمام فكيف

بالصلاة التي لا بد فيها من القراءة و التي يشترط لها ما لا يشترط لمجرد القراءة
و هذه مقلالات انتشرت و لم يعرف لها مخالف الا ما روى عن يزيد ابن أبي مالك قال كان واثلة بن الاسقع يصلي بنا صلاة الفريضة في المقبرة غير أنه لا يستتر بقبر رواه سعيد و هذا محمول على أنه تنحى عنها بعض التنحي و لذلك قال لا يستتر بقبر أو لم يبلغه نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الصلاة فيها فلما سمع النبي صلى الله عليه و سلم ينهى عن الصلاة اليها تنحى عنها لانه هو راوي هذا الحديث و لم يبلغه النهي عن الصلاة فيها عمل بما بلغه دون ما يبلغه
و اما الاحاديث المشهورة في جعل الارض مسجدا فهي عامة و هذه الاحاديث خاصة و هي تفسر تلك الاحاديث و تبين ان هذه الامكنة لم تقصد بذلك القول العام و يوضح ذلك اربعة اشياء
احدها ان الخاص يقضي على العام و المقيد يفسر المطلق إذا كان الحكم و السبب واحدا و الامر هنا كذلك
الثاني ان قوله جعلت لي الارض مسجدا و طهورا بيان لكون جنس الارض مسجدا له و ان السجود عليها لا يختص بان تكون على صفة مخصوصة كما كان في شرع من قبلنا لكن ذلك لا يمنع ان تعرض للارض

صفة تمنع السجود عليها فالارض التي هي عطن أو مقبرة أو حمام هي مسجد لكن اتخاذها لما وجد له مانع عرض لها إخراجها عن حكمها و لو خرجت عن ان تكون حماما أو مقبرة لكانت على حالها و ذلك ان اللفظ العام لا يقصد به بيان تفاصيل الموانع كقوله تعالى و احل لكم ما وراء ذلكم ان تبتغوا بأموالكم و قد علم أن العقد لا بد فيه من عدم الإحرام وعدم العدة و لا بد له من شروط و اركان
الثالث ان هذا اللفظ العام قد خص منه الموضع النجس اعتمادا على تقييده بالطهارة في قوله عليه السلام كل ارض طيبة و تخصيصه بالاستثناء المحقق و النهي الصريح اولى و احرى
الرابع ان تلك الاحاديث إنما قصد بها بيان اختصاص نبينا صلى الله عليه و سلم و امته بالتوسعة عليهم في مواضع الصلاة دون من قبلنا من الانبياء و اممهم حيث حظرت عليهم الصلاة الا في المساجد المبنية للصلاة فذكر صلى الله عليه و سلم اصل الخصيصة و المزية و لم يقصد تفصيل الحكم و اعتضد ذلك بان هذه الأماكن قليلة بالنسبة إلى سائر الارض فلما اتفق قلتها و أنه لم يتمحض المقصود لبيان اعيان اماكن الصلاة ترك استثناءها
فاما احاديث النهي فقصد بها بيان حكم الصلاة في اعيان هذه الاماكن و هذا بين لمن تامله و ما ذكروه من تعليل النهي فسنتكلم عليه ان شاء الله

إذا ثبت ذلك فمن صلى فيها غير عالم بالنهي فهل تجب عليه الاعادة على روايتين شبيهتين بالروايتين بالتوضىء من لحم الابل لغير العالم و كثير من متأخري اصحابنا ينصرون البطلان مطلقا للعمومات لفظا و معنى و الذي ذكره الخلال ان لا اعادة و هذه اشبه لا سيما على قول من يختار منهم ان من نسي النجاسة أو جهلها لا اعادة فيكون الجهل بالحكم فيها كالجهل بوجود النجاسة إذا كان ممن يعذر و لأن النهي لا يثبت حكمه في حق المنهي حتى يعلم فمن لم يعلم فهو كالناسي و اولى و لانه لو صلى صلاة فاسدة لنوع تاويل مثل ان يمس ذكره أو يلبس جلود السباع و يصلي ثم يتبين له رجحان القول الاخر لم تجب عليه الاعادة مع سمعة للحجة فالذي لم يسمع الحجة يجب ان يعذر لذلك اذ لا فرق بين ان يتجدد له فهم لمعنى لم يكن قبل ذلك أو سماع لعلم لم يكن قبل ذلك إذا كان معذورا بذلك بخلاف من جهل بطلان الصلاة في الموضع النجس فان هذا مشهور
و لو صلى في موضع لم يعلم أنه مقبرة ثم تبين له أنه مقبرة فهنا ينبغي ان يكون كما لو صلى في موضع نجس لا يعلم بنجاسته ثم علم بعد ذلك و قد تقدم قول عمر لأنس القبر القبر و لم يأمره بالاعادة لانه لم يكن يعلم ان بين يديه قبرا

الفصل الرابع
ان اكثر اصحابنا لا يصححون الصلاة في شيء من هذه المواضع و يجعلونها كلها من مواضع النهي و منهم من لم يعد مواضع النهي الا اربعة فقط و هي المقبرة و الحش و الحمام و اعطان الابل سوى الموضع النجس و المغصوب و هذا هو الذي ذكره الشيخ رحمه الله و هو مقتضى كلام الخرقي و غيره لوجهين
احدهما ان النهي إنما صح في المقبرة و الحمام و اعطان الابل و الحش اسوا حالا منها فالحق بها و سائر الامكنة مدارها على حديث ابن عمر واسناده ليس بالقوي و لا يعارض عموم الأحاديث الصحيحة لا سيما و قد استثنى في حديث أبي سعيد المقبرة و الحمام خاصة دون غيرهما و قال الارض كلها مسجد
الثاني ان النهي إنما كان لانها مظنة النجاسة و هذه العلة يمكن الاحتراز عنها غالبا في تلك المواضع فلا تبطل الصلاة مع تيقن اجتناب النجاسة غالبا و الاول اظهر لوجهين
احدهما الحديث المذكور و قد تقدم الجواب عن تضعيفه لا سيما و الحديث الذي يسميه قدماء المحدثين ضعيفا مثل هذا خير من القياس

و المجمل اعني ما ذكر فيه الحكم جملة و ان كان بصيغة العموم و هو احق ان يتبع منه على ما هو مستوفي في مواضعه من اصول الفقه فكيف إذا لم يعارضه الا عموم ضعيف لكونه مخصوصا بصور كثيرة أو قياس ضعيف ثم ان بعض تلك المواضع قد جاء فيها نصوص اخرى مثل جواد الطريق و مثل ظهر بيت الله الحرام فان فيه اثارا عن الصحابة
و المزبلة و المجزرة اولى بالمنع من الطريق و الحمام فصار ذلك الحديث معتضدا بالاثار التي توافقه و بفحوى الخطاب الذي يطابقه و قوله صلى الله عليه و سلم في حديث أبي سعيد الارض كلها مسجد الا المقبرة و الحمام يشبه و الله اعلم ان يكون إنما استثنى ما على هيئة مخصوصة لا يصلح ان تكون الا على الوجه المنهي عنه فان المقبرة و الحمام لهما هيئة مخصوصة يتميزان بها عن سائر البقاع و اعطان الابل و المزبلة و نحو ذلك فانها لا تتميز بنفس هيئة الارض و إنما تتميز بما يكون فيها
الوجه الثاني القياس في المسألة و ذلك فيه ثلاثة مسالك
احدها و هو مسلك كثير من اصحابنا منهم أبو بكر و القاضي و غيرهما ان الحكم ثبت تعبدا يتعلق بنفس الأسماء و مفهومها من غير زيادة و لا نقص و إذا قال بعض الفقهاء هذا الحكم تعبد فله تفسيران

احدهما ان يكون الحكم شرع ابتلاء و امتحانا للعباد ليتميز المطيع عن العاصي و يثاب المطبع على محض الطاعة و الانقياد و الاسلام كما يعاقب العاصي على محض المعصية و المخالفة و ان لم يكن في نفس العمل لولا الامر معنى يقتضي العمل و مثل هذا امر الله خليله بذبح ابنه و تحريمه على على اصحاب طالوت ان يطعموا من النهر الا غرفة واحدة و كثير من الاحكام من هذا النمط و هذا التعبد حق واقع في الشريعة عند اهل السنة خلافا للمعتزلة و نحوهم الا ان الصلاة في هذه الاماكن ليست و الله اعلم من هذا القبيل لانه قد اشير منها إلى التعليل و لأن مواضع الصلاة مبنية على التوسعة و الاطلاق في شريعتنا و لا تناسب الحجر و التضييق و لانه لا بد ان تشتمل هذه الاماكن على معان اقتضت المنع عن الصلاة فيها امتازت بتلك المعاني عن غيرها و الا كان النهي عنها دون غيرها تخصيصا بغير مخصص و لأن من امعن النظر علم اشتمالها على معان انفرت بها عن غيرها
التفسير الثاني ان يعني بالتعبد ان المكلف لم يطلع على حكمه الحكم جملة و لا تفصيلا مع ان العمل يكون مشتملا على وصف لاجله علق به الحكم سواء كان الوصف حاصلا قبل نزول الشريعة و ارسال نبينا صلى الله عليه و سلم أو إنما حصل بعد الرسالة و الحكم المعلق به قد يطلق على نفس خطاب الله الذي هو الامر و النهي و الاباحة و على موجب الخطاب الذي هو الوجوب و الحرمة و الحل و الاول اضافة إلى الفعل و الثاني صفة ثابتة

للفعل لكنها صفة اثبتها الشارع له و قد يطلق الحكم على التعليق الذي بين الخطاب و بين الفعل و قد يعنى بالحكم ايضا صفة ثابتة للفعل قبل الشرع اظهرها الشرع كما يقوله بعض اصحابنا منهم التميمي و أبو الخطاب و اكثرهم لا يثبت حكما قبل الشرع و إنما كان ثابتا عندهم بعض علل الأحكام فمن قال ان الحكم في هذه المواضع تعبد بهذا التفسير فقد ذكر أنه لم يظهر له حكمة الحكم على وجه منضبط فادار الحكم على الاسم فهذا مسلك شديد في نفسه و ان لم يكشف فقه المسالة
و المسلك الثاني مسلك طائفة من اصحابنا و غيرهم عللوا الصلاة بالمقبرة بان التراب يختلط بصديد الموتى و رطوباتهم فيتنجس و من قال هذا من اصحابنا قال لما كانت المقبرة في الجملة مظنة النجاسة علق الحكم و ان تخلفت الحكمة إلى احاد الصور لأن المذهب لا يختلف عندنا أنه لا فرق بين المقبرة الحديثة و العتيقة و ان كان بعض الفقهاء يجوز الصلاة في المقبرة الجديدة لزوال هذه المفسدة و كذلك عللوا

الصلاة في الحمام بأنه مصب الاقذار و الأوساخ من البول و الدم و ما تولد منه و القيء و غير ذلك و هذا في الحش و المزبلة و المجزرة ظاهر و كذلك الطريق هو مظنة ارواث الدواب و ابوالها
و ما اعطان الابل فعللها بعض الناس بنجاسة ابوالها
و اجاب أبو بكر و غيره عن ذلك بأنه لو كان كذلك لم يكن فرق بين اعطان الابل و بين مرابض الغنم لأن فيها ابوالها ايضا و حكم بول الابل و الغنم واحد
و علل ذلك بعضهم بان فيها شموسا و نفورا فربما نفرت فافزعت المصلي وقت صلاته و خبطته و هذا المعنى معدوم في الغنم لضعف حركتها و سكونها
و اجاب اسحاق بن شاقلا و غيره عن ذلك بأنه لو كان كذلك لما صلى النبي صلى الله عليه و سلم إلى البعير و لما صلى عليه و ايضا لو كان كذلك لما صلى بين الابل في السفر و هو خلاف سنة المسلمين و خلاف ما كان يفعله

رسول الله صلى الله عليه و سلم و اصحابه و ايضا فلو كانت هذه العلة لكان النهي عن الصلاة عندها سواء كان في اعطانها أو غير اعطانها و لم يكن النهي عن الصلاة في مباركها و اعطانها سواء كانت حاضرة او غائبة
و قال بعضهم ان مواضعها مناخ الركبان و كانوا يبولون و يتغوطون في امكنتهم ثم يرتحلون فنهي ان يصلي في امكنتها لموضع ابوال الناس
و قال بعضهم معنى الحديث أنه كره الصلاة في السهول من الارض لأن الابل إنما تأوي اليها و تعطن فيها و الغنم إنما تبوء و تراح إلى الارض الصلبة قال و المعنى في ذلك ان الارض الخوار التي يكثر ترابها ربما كانت فيها النجاسة فلا يبين موضعها و لا يامن المصلي ان تكون صلاته فيها على نجاسة فاما العزاز الصلب من الارض فانه ضاح بارز لا يخفى موضع النجاسة إذا كانت فيه و هذا تكلف بارد
فان الاول يقتضي ان النهي عن مواضعها في الاسفار و ليس بشيء فان الصلاة في تلك المواضع جائزة بالسنة الماضية و لأن المعطن اما بوقوفها عند صدرها عن الشرب أو المكان الذي تاوي اليه
الثاني يقتضي كراهة الصلاة في كل موضع سهل و هو باطل ثم هو خلاف تعليل الشارع صلى الله عليه و سلم ان ما ذكره الفرق بين معاطن الابل و مرابض الغنم ليس بمضطرد بل ربما كان الامر بخلاف ذلك
المسلك الثالث تفسير النهي عن الصلاة في هذه المواضع و توجيهه بما دل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم

فأما القبور فان الصلاة عندها تعظيم لها شبيه بعبادتها و تقرب بالصلاة عندها إلى الله سبحانه اما من يقصد هذا فظاهر مثل من يجيء إلى قبر نبي أو رجل صالح فيصلي عنده متقربا بصلاته عنده إلى الله سبحانه و هذا نوع من الشرك و عبادة الاوثان بل هو أحد الاسباب التي عبدت بها الاوثان
قيل انهم كانوا يصلون عند قبور صالحيهم ثم طال العهد حتى صوروا صورهم و صلوا عندها و عكفوا عليها و قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى و لما كان النصارى قد اتخذوا احبارهم و رهبانهم اربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما امروا الا ليعبدوا الها واحدا لا اله الا هو سبحانه عما يشركون كان العكوف عند القبور و التماثيل فيهم اكثر و لهذا قال صلى الله عليه و سلم عن الكنيسة التي أخبر عنها ان اولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا و صوروا فيه تلك الصور اولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة و قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد و اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد و قال عليه السلام ان من كان قبلكم اتخذوا قبور انبيائهم و صالحهم مساجد الا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني انهاكم عن ذلك فانما نهى عن ذلك لأن الصلاة

عندها و واتخاذها مساجد ضرب من عبادة الاوثان و سبب اليه لأن عبادة الاوثان ما كانوا يقولون ان تلك الحجارة و الخشب خلقتهم و إنما كانوا يقولون انها تماثيل اشخاص معظمين من الملائكة و النجوم أو البشر و انهم بعبادتهم يتوسلون إلى الله فاذا توسل العبد بالقبر إلى الله فهو عابد وثن حتى يعبد الله مخلصا له الدين من غير ان يجعل بينه و بينه شفعاء و شركاء كما امر الله تعالى بذلك في كتابه و يعلم أنه ليس من دون الله ولي و لا شفيع كما اخبر تعالى
و لهذا جمع النبي صلى الله عليه و سلم بين محق التماثيل و تسوية القبور المشرفة اذ كان بكليهما يتوسل بعبادة البشر إلى الله قال أبو الهياج الاسدي قال لي علي رضي الله تعالى عنه الا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ان لا تدع تمثالا الا طمسته و لا قبرا مشرفا الا سويته رواه الجماعة الا البخاري و ابن ماجه و اخبر النبي صلى الله عليه و سلم ان هذه الامة ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلوا معهم قالوا يا رسول الله اليهود و النصارى قال فمن و اخبر أنه لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات و العزى و حتى تضطرب اليات دوس حول ذي الخلصة صنم كان لهم في الجاهلية و لهذا قال اصحابنا و غيرهم من العلماء لا يجوز

ان يبنى مسجد على قبر و لا فيما بين القبور و الواجب في المساجد المبنية على ترب الانبياء والعلماء و الشيوخ و الملوك و غيرهم ان لا تتخذ مساجد بل يقطع ذلك عنها اما بهدمها أو سدها أو نحو ذلك مما يمنع ان تتخذ مسجدا و لا تصح الصلاة في شيء منها و لا يجوز الوقف عليها و لا اسراج ضوء فيها سواء كان بدهن أو شمع و لا يصح النذر لها بل هو نذر معصية فتجب فيه كفارة يمين لانه صلى الله عليه و سلم لعن من يتخذ القبور مساجد و لعن من يتخذ عليها السرج و نهى عن اتخاذها مساجد و سيأتي ان شاء الله تعالى تفصيل القول في ذلك
و ام من يصلي عند القبر اتفاقا من غير ان يقصده فلا يجوز ايضا كما لا يجوز السجود بين يدي صنم و النار وغير ذلك مما يعبد من دون الله لما فيه من التشبه بعباد الاوثان و فتح باب الصلاة عندها و اتهام من يراه أنه قصد الصلاة عندها و لأن ذلك مظنة تلك المفسدة فعلق الحكم بها لأن الحكمة قد لا تنضبط و لأن في ذلك حسما لهذه المادة و تحقيق الاخلاص و التوحيد و زجرا للنفوس ان يتعرض لها بعبادة و تقبيحا لحال من يفعل ذلك و لهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة عند طلوع الشمس لأن الكفار

يسجدون للشمس حينئذ و نهى ان يصلي الرجل و بين يديه قنديل أو نحوه و كان إذا صلى إلى سترة انحرف عنها و لم يصمد لها صمدا كل ذلك حسما لمادة الشرك صورة و معنى كما نهى سعدا ان يدعو باصبعين و قال أحد أحد و ان يقول الرجل ما شاء الله و شاء فلان و ان يحلف الرجل بغير الله و قال من حلف بغير الله فقد

اشرك
و لعل بعض الناس يخيل اليه ان ذلك كان في أول الامر لقرب العهد بعبادة الاوثان و ان هذه المفسدة قد امنت اليوم و ليس الامر كما تخيله فان الشرك و تعلق القلوب بغير الله عبادة و استعانة غالب على قلوب الناس في كل وقت الا من عصم الله و الشيطان سريع إلى دعاء الناس إلى ذلك و قد قال الحكيم الخبير و ما يؤمن اكثرهم بالله الا و هم مشركون و قال امام الحنفاء و اجنبني و بني ان نعبد الاصنام رب انهن اضللن كثير الناس فمن تبعني فانه مني و قد قال الناس لرسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة حنين عقيب فتح مكة اجعل لنا لنا ذات انواط فقال الله اكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا الها كما لهم الهة انها السنن لتتبعن سنن من قبلكم و سيعود الدين غريبا كما بدأ و يصير الصغير كبيرا فكيف تؤمن المفسدة بل هي واقعة كثيرة فهذه هي العلة المقصودة لصاحب الشرع في النهي عن الصلاة في المقبرة و اتخاذ القبور مساجد لمن تأمل الاحاديث و نظر فيها و قد نص الشارع على هذه العلة كما تقدم

فاما ان كان التراب نجسا فهذه العلة اخرى قد تجامع الاولى لكن تكون المفسدة الناشئة من اتخاذها اوثانا اعظم من مفسدة نجاسة التراب فان تلك تقدح في نفس التوحيد و الاخلاص الذي هو اصل الدين و جماعه و راسه و الذي بعثت به جميع المرسلين كما قال سبحانه و تعالى و اسأل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن الهة يعبدون و قال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي اوحينا اليك إلى قوله ان اقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه و لهذا كانت فاتحة دعوة المرسلين من نوح و هود و صالح و شعيب و غيرهم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره و قد تفارق الاولى إذا كان بينه و بين التراب حائل من البساط و نحوه أو كانت المقبرة جديدة لا سيما المسجد المبني على قبر نبي أو رجل صالح فان تربته لم يدفن فيها غيره فلا نجاسة هناك البتة مع ما فيه من نهي الشارع
و اما اعطان الابل فقد صرح النبي صلى الله عليه و سلم في توجيه ذلك بانها من الشياطين و بانها خلقت من الشياطين و في رواية انها جن خلقت من جن و في حديث اخر على ذروة كل بعير شيطان

و الشيطان اسم لكل عات متمرد من جميع الحيوانات و الشياطين من ذرية ابليس تقارب شياطين الانس و الدواب فمعاطنها ماوى الشياطين اعني انها في انفسها جن و شياطين لمشاركتها لها في العتو و التمرد و النفر و غير ذلك من الاخلاق و ان ذرية ابليس مقترنة بها و إذا كان كذلك فالمواضع التي هي مالف الشياطين و مثواهم نهى الشارع عن الصلاة فيها لما في الصلاة فيها من المفسدة التي تعكس على المصلي مقصوده من العبادة بل هي من ابلغ الاسباب المانعة من صحة العبادة و صلاحها كما فضل الاماكن التي هي مألف الملائكة و الصالحين مثل المساجد الثلاثة لما يرجى هناك من مزيد الرحمة و البركة و كمال العبادة و لما يخاف هنالك من نقص الرحمة و البركة و نقص العبادة الا ترى إلى قوله رب اعوذ بك من همزات الشياطين و اعوذ بك رب ان يحضرون الا ترى ان المسجد صين عن كل ما ينفر الملائكة من التماثيل و الجنب وارتفاع الاصوات و نحو ذلك فعلم ان مواضع العبادة يقصد ان تكون مما تنزل فيه الرحمة و السكينة و الملائكة و ان ما كان محلا لضد ذلك لم يجعل موضع صلاة و هذه العلة التي اوما اليها الشارع هنا أوما اليها في مواضع اخر فانهم لما ناموا عن صلاة الفحر بعد القفول من غزوة خيبر و استيقظوا قال صلى الله عليه و سلم لياخذ كل رجل منكم براس راحلته فان

هذا منزل حضرنا فيه الشيطان مع امره بصلاة الفائتة حين ينتبه لها و قوله صلى الله عليه و سلم لا كفارة لها الا ذلك
فعلم ان الصلاة ببقعة يحضرها الشيطان امر محذور في الشرع و اعتبر هذا المعنى في قطع الصلاة بمرور المار فقال لما سئل عن الفرق بين الكلب الاسود و الابيض و الاحمر الكلب الاسود شيطان و قال إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي الصلاة فامكنني الله منه فذعته الحديث و في رواية مر علي الشيطان فتناولته فاخذته فخنقته و نحن نقول بجميع هذه السنن و نعلل بما علل به رسول الله صلى الله عليه و سلم فانه يعلم ما لا نعلم و امره يتبع علمه بأبي هو و امي و حينئذ فيجب طرد هذه العلة فان الحش مع أنه مظنة النجاسة فان الشياطين تحضره كما قال صلى الله عليه و سلم أن هذه الحشوش محتضرة و امر عند دخولها بالتسمية و الاستعاذة من الشيطان الرجيم

و كذلك الحمام فانه مع أنه مظنة النجاسة فانه بيت الشيطان كما جاء في الاثر الذي ذكرناه في الطهارة ان الشيطان قال أي رب اجعل لي بيتا قال بيتك الحمام و هو محل للخبث و الملائكة لا تدخل بيتا فيه خبث
و اما المجزرة و المزبلة فهي كالحمام سواء وأسوأ لأنها مظنة النجاسة و هي و الله اعلم محتضرة من الشياطين فانهم ابدا يأوون مواضع النجاسات فما خبث من الجمادات و الاجساد مقرون ابدا بما خبث من الحيوانات و الارواح و ليس اعتبار طهارة البقعة من الاجسام الخبيثة بدون اعتبار طهارتها من الارواح الخبيثة بل العناية بتطهيرها من هؤلاء الخبيثين و الخبيثات من الاماكن اولى و لما كان هذا مغيبا عن عيون الناس علق الشارع الحكم بمظنة ذلك و علاقته و هو مكان النجاسات
وأما قارعة الطريق فقد صرح صلى الله عليه و سلم بانها ماوى الحيات و السباع

و هذا و الله اعلم ينزع إلى ذلك لأن الحيات و السباع من اخبث شياطين الدواب و ماواها اسوا حالا من ماوى الابل
و قد اشار أبو بكر الاثرم إلى نحو من هذه الطريقة فقال لما ذكر حديث زيد بن جبيرة و اعتمده و بين الجمع بينه و بين الاحاديث المطلقة فقال قول النبي صلى الله عليه و سلم جعلت لي الارض طهورا و مسجدا إنما اراد به الخلاف على اهل الكتاب لانهم لا يصلون الا في كنائسهم و بيعهم فقال فضلت على الناس بذلك و بغيره ثم استثنى بعد الخلاف عليهم مواضع لمعان غير معاني اهل الكتاب قال الحمام و المقبرة فان الحمام ليس من بيوت الطهارة لانه بمنزلة المراحيض الذي يغتسل فيه من الجنابة و الحيض و المقبرة ايضا إنما كرهت للتشبه بأهل الكتاب لانهم يتخذون قبور انبيائهم و صالحيهم مساجد و سائر المواضع التي استثناها إنما كره نجاستها و معاطن الابل قال انها خلقت من الشياطين فقد بين في كل معناه هذا كلام الاثرم و قد تبين بما ذكرناه ان العلة في اكثر هذه المواضع كونها مأوى الشياطين و مألفهم و ان الف الشيطان اياها بسبب النجاسة و غيرها
فان قيل فعندكم تجوز الصلاة في الموضع الذي نسي الصلاة فيه و هو موضع شيطان و تجوز في السوق بنص السنة و بها يركز الشيطان

رأيته و قد كان صلى الله عليه و سلم يصلي على البعير و اليه ثم ما كان مأوى الشيطان فينبغي ان تكون الصلاة فيه افضل كما فضل ذكر الله في السوق لانه محل الغفلة و كما ان الاذان يطرد الشيطان
قلنا الاماكن قسمان
احدهما ما يالفونه و يلزمونه و لا يمكن طردهم عنه مطلقا لثبوت المقتضي بحضورهم مثل الحش و الحمام و اعطان الابل فهذا الذي لا تصح الصلاة فيه
و الثاني ما يعرضون فيه و لا يقيمون مثل السوق و مواضع النوم عن الصلاة فهذه تكره الصلاة فيها نص عليه و متى امكن طردهم بالصلاة و الذكر لم تكره الصلاة ولهذا لم تكره الصلاة على البعير و لا اليه بخلاف البقعة التي اتخذها موطنا و دارا

الفصل الخامس في تحديد هذه الاماكن
اما المقبرة فلا فرق فيها بين المقبرة الجديدة و العتيقة و ما انقلبت تربتها أو لم تنقلب و لا فرق بين ان يكون بينه و بين الارض حائل أو لا يكون لما تقدم من الاحاديث و عمومها لفظا و معنى و لانا قد بينا أنه لا يجوز ان يراد بتلك الاحاديث المقبرة العتيقة المنبوشة فقط لانه نهى عن الصلاة في المقبرة و نهى عن اتخاذ القبور مساجد و نهى عن اتخاذ قبر النبي أو الرجل الصالح مسجدا و معلوم ان قبور الانبياء لا تنبش و لأن عامة مقابر المسلمين في وقته كانت جديدة و لا يجوز ان يطلق المقبرة

و يريد بها مقابر المشركين العتق مع ان المفهوم عندهم مقابرهم ولا يجوز ان يريد بها ما يتجدد من القبور دون المقابر الموجودة في زمانه و بلده فان ما يعرفه المتكلم من افراد العام هو اولى بالدخول في كلامه ثم أنه لو اراد القبور المنبوشة وحدها لوجب ان يقرن بذلك قرينة تدل عليه و الا فلا دليل يدل على ان المراد هو هذا و من المحال ان يحمل الكلام على خلاف الظاهر المفهوم منه غير ان ينصب دليل على ذلك ثم أنه نهانا عما كان يفعله اهل الكتابين من اتخاذ القبور مساجد و اكثر ما اتخذوه من المساجد مقبرة جديدة بل لا يكون الا كذلك ثم هم يفرشون في تلك الارض مفارش تحول بينهم و بين تربتها فعلم أنه صلى الله عليه و سلم نهانا عن ذلك
و بالجملة فمن جعل النهي عن الصلاة في المقبرة لاجل نجاسة الموتى فقط فهو بعيد عن مقصود النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم
ثم لا يخلوا اما ان يكون القبر قد بني عليه مسجد فلا يصلى في هذا المسجد سواء صلى خلف القبر أو امامه بغير خلاف في المذهب لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال ان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور انبيائهم و صالحيهم مساجد الا فلا تتخذوا القبور مساجد فاني انهاكم عن ذلك و قال لعن الله اليهود و النصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد و قال اولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا الحديث و قال لعن الله

زوارات القبور و المتخذين عليها المساجد و السرج فعم بالنهي ان يتخذ شيء من القبور مسجدا و خص قبور الانبياء و الصالحين لأن عكوف الناس على قبورهم اعظم و اتخاذها مساجد أكثر و نص على النهي عن ان يتخذ قبر واحد مسجدا كما هو فعل اهل الكتاب لذلك ان لم يكن عليه مسجد لكن قصده انسان ليصلي عنده فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من اجلها و قد اتخذ القبور مساجد يقصدها للصلاة فيها و الصلاة عندها كما يقصد المسجد الذي هو مسجد للصلاة فيه فان كل مكان اعد للصلاة فيه أو قصد لذلك فهو مسجد بل كل ما جازت الصلاة فيه فهو مسجد كما قال جعلت لي الارض مسجدا و طهورا و قال عليه السلام الارض كلها مسجد الا المقبرة و الحمام و سواء كان في بيت أو مكان محوط و قد بني عليه بناء لاجله أو لم يكن
و أما ان كان في موضع قبر و قبران فقال أبو محمد لا يمنع من الصلاة هناك لانه لا يتناولها اسم المقبرة و إنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا و ليس في كلام احمد و عامة اصحابه هذا الفرق لا بعموم كلامهم و تعليلهم و استدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر من القبور و هذا هو

الصواب فان قوله صلى الله عليه و سلم لا تتخذوا القبور مساجد أي لا تتخذوها موضع سجود فمن صلى عند شيء من القبور فقد اتخذ ذلك القبر مسجدا اذ المسجد في هذا الباب المراد به موضع السجود مطلقا لا سيما و مقابلة الجمع بالجمع يقتضي توزيع الأفراد على الأفراد فيكون المقصود لا يتخذ قبر من القبور مسجدا من المساجد و لانه لو اتخذ قبر نبي أو قبر رجل صالح مسجدا لكان حراما بالاتفاق كما نهى عنه صلى الله عليه و سلم فعلم ان العدد لا اثر له و كذلك قصده للصلاة فيه و ان كان اغلظ لكن هذا الباب سوى في النهي فيه بين القاصد و غير القاصد سدا للباب الفساد و لانه قد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال لا تصل في حمام و لا عند قبر
قال اصحابنا و كل ما دخل في اسم المقبرة من حول القبور لا يصلى فيه فعلى هذا ينبغي ان يكون المنع متناولا لحريم القبر المفرد و فنائه المضاف اليه
قال اصحابنا و لا تجوز الصلاة في مسجد بني على المقبرة سواء كان له حيطان تحجز بينه و بين القبور أو كان مكشوفا
فاما ان لم يكن في ارض المقبرة و كانت المقبرة خلفه أو عن يمينه أو عن شماله جازت الصلاة فيه يعنون إذا لم يكن قد بني لاجل صاحب القبر فاما ان بني لاجل صاحب القبر بأن يتخذ موضعا للصلاة لمجاورته

القبر و كونه في فنائه فهذا هو بعينه الذي نهى عنه رسول صلى الله عليه و سلم
و اما ان كانت المقبرة امامه فسياتي ان شاء اللله تعالى هذا قول القاضي و غيره
و قال ابن عقيل ان بني بعد ان تقلبت ارضها بالدفن لم تجز الصلاة فيه و ان بني مسجد في ساحة ظاهرة و جعلت الساحة مقبرة فالمسجد على اصل جواز الصلاة لان اكثر ما فيه أنه في جوار مقبرة فلم يمنع من الصلاة فيه كسائر ما جاورها من الدور و المساجد
و الصحيح أنه لا فرق في بناء المسجد في المقبرة بين ان تكون جديدة أو عتيقة كما تقدم
و قال جماعة كثيرة من اصحابنا ان بني مسجد في المقبرة لم تصح الصلاة فيه بحال لأن ارضه جزء من المقبرة و ان كان المسجد متقدما فاتخذ ما حوله مقبرة جازت الصلاة فيه الا ان تكون المقبرة في قبلته و فسروا اطلاق القاضي و غيره بهذا
فان زال القبر اما بنبش الميت و تحويل عظامه مثل ان تكون مقبرة كفار أو ببلاه و فنائه إذا لم يبق هناك صورة قبر فلا بأس بالصلاة هناك لأن مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت فيه قبور المشركين فامر بها فنبشت لما اراد بناءه

و ان لم يعلم بلاه أو كان ممن يعلم أنه لم يبل لكن قد ذهب تمثال القبر و اندرس اثره بحيث لم يبق علم الميت و لا يظهر ان هناك احدا مدفونا فهنا ينبغي ان تجوز فيه الصلاة إذا لم يقصد الصلاة عند المدفون هناك لان هذا ليس صلاة عند قبر و لا يقال لمثل هذا مقبرة
و لهذا يقال ان اسماعيل و امه هاجر مدفونان في حجر البيت و يقال ان جماعة من الانبياء مدفونون بمسجد الخيف و اخرين مدفونون بين زمزم و المقام مع ان الصلاة هناك جائزة حسنة بالسنة المتواترة و الاجماع لانه لا يتوهم ان تلك الامكنة مقابر و لا ان الصلاة عندها صلاة عند قبر و لأن الصلاة عند القبور كرهت خشية ان تتخذ اوثانا تعبد فاذا كان هناك تمثال أو علم يشعر بالمدفون كان كصورته المصورة إذا صلى عنده فيصير وثنا اما إذا فقد هذا كله فلا عين و لا اثر و ليس فيه ما يفضي إلى اتخاذ القبور وثنا حتى لو فرض خشية ذلك نهي عنه

فصل
و ما الحمام فقال اصحابنا لا فرق فيه بين المغتسل الذي يتعرى

الناس فيه و يغتسلون فيه من الوسطاني و الجواني و بين المسلخ و هو الموضع الذي توضع فيه الثياب بل كل ما دخل في مسمى الحمام لا يصلى فيه و يدخل في ذلك كل ما اغلق عليه بابه و كذلك اتون الحمام لا تجوز الصلاة فيه لانه مزبلة هذا تعليل القاضي و غيره فعلى هذا إذا علم أنه لا يوقد فيه إلا وقود طاهر فهو كالمزبلة التي علم أنه لا يوضع فيها الا شيء طاهر و جعل ابن عقيل و غيره الاتون داخلا في مسمى الحمام فيكون النهي فيه لعلتين
و قيل تجوز الصلاة فيما ليس مظنة للنجاسة من الحمام كالمسلخ و نحوه تعليلا للحكم بكون البقعة مظنة النجاسة فاذا تيقن طهارتها زال سبب المنع
و الاول المذهب للنصوص المتقدمة فان اسم الحمام يشمل الجواني و البراني فلا يجوز التفريق بينهما في كلام الشارع و لأن العلة لو كانت مجرد النجاسة المتبقية لم يكن فرق بين الحمام و غيره و لو كانت مظنة النجاسة أو توهمها لوجب ان تحرم الصلاة في كل بقعة شككنا في نجاستها إذا امكن نجاستها
و قد تقدم ان العلة التي اوما الشارع اليها كونها محتضرة من الشياطين و هذا القدر يعمها كلها ثم لو كانت العلة مجرد انها مظنة النجاسة فالصور النادرة قد لا يلتفت الشارع إلى استثنائها الحاقا للنادر بالغالب كما هو في اكثر المواضع التي تعلق الاحكام بالمظان

وأما الحش فهو المكان المعد لقضاء الحاجة فلا تصح الصلاة في شيء من مواضع البيت المنسوب إلى ذلك سواء في ذلك موضع التغوط أو موضع الاستنجاء أو غيرهما فاما المطاهر التي قد بني فيها بيوت للحاجة و الاغتسال ايضا و برانيها للوضوء فقط و للوضوء و البول فينبغي ان تكون نسبة برانيها كنسبة براني الحمام اليها و لا يصلى فيها بل هي اولى بالمنع من الحمام لانها اولى بالنجاسة و الشياطين من الحمام و وجود ذلك في الخارج منها اظهر من وجوده في الخارج من الحمام
فاما ما ليس مبنيا للحاجة و إنما هو موضع يقصد لذلك كما في البر و القرى و منه ما قد اعتيد لذلك و منه ما قد فعل ذلك فيه مرة أو مرتين فينبغي ان يكون من الحشوش ايضا فان الحش في الاصل هو البستان و إنما كنوا عن موضع التغوط به لانهم كانوا ينتابونها للحاجة و لأن العرب لم يكونوا يتخذون الكنف قريبا من بيوتهم و إنما كانوا ينتابون الصحراء فعلم ان تلك الامكنة داخلة في كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم فاذا طهر المكان و قطعت عنه هذه العادة لم يكن حشا
فصل
و اما أعطان الابل فالمنصوص عن احمد انها الاماكن التي تقيم بها الابل و تأوي اليها

و من اصحابنا من قال هي المواضع التي تصدر اليها بعد ان ترد الماء و ذلك ان الابل بعد ان ترد الماء فانها تناخ بمكان لتسقى بعد ذلك عللا بعد نهل فاذا استوفت ردت إلى المراعي
و عبارة بعضهم أنه المواضع التي بقرب النهر فتناخ فيه الابل حتى ترد الماء فجعلها مناخها قبل الورود
و العبارة الاولى اجود لأن هذا تفسير اهل اللغة قالوا اعطان الابل مباركها عند الماء لتشرب عللا بعد نهل يقال عطنت الابل تعطن و تعطن إذا رويت ثم تركت فهي ابلا عاطنة و عواطن و قد ضربت بعطن أي بركت و منه قول النبي صلى الله عليه و سلم في ذكر رؤياه ثم اخذها ابن الخطاب فاستحالت غربا لم ار عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن كأنهم امتلؤا من تلك البئر ثم صدروا رواء كهيئة الابل إذا رويت و منه استقا رواء و قولهم فلان واسع العطن و البلد و اعطن الرجل بعيره إذا لم يشرب فرده إلى العطن ينتظر به قال لبيد
عافتا الماء فلم نعطنهما إنما يعطن من يرجو العلل
و توسعوا في ذلك حتى قالوا لمرابض الغنم حول الماء معاطن
و الصواب ان الاماكن التي تقيم بها مراد من الحديث كما نص احمد لأن في بعض الفاظ الحديث ان السائل قال انصلي في مبارك

الابل قال و المبارك التي يكثر بروكها فيها و المواضع التي تقيم بها اولى بهذ الاسم من مصادرها و لانه قابل بين معاطن الابل و مراح الغنم و مرابضها فعلم ان المعاطن للابل بمثابة المراح و المرابض للغنم و مراح ما تقيم فيه و تاوي اليه فكذلك معاطن الابل و لانه إذا نهي عن الصلاة في المواضع التي تقيم بها ساعة أو ساعتين فالمواضع التي تبيت بها و تأوي اليها اولى بهذا الحكم
فاما ان يكون الحكم اريد في مبيتها بطريق الفحوى و التنبيه أو يكونوا قد توسعوا في العطن حتى جعلوه اسما لكل ماوى لها كما توسعوا فيه حتى جعلوا للغنم اعطانا و للناس اعطانا فاذا قلنا أنه لا تجوز الصلاة فيما تقيم فيه و تاوي اليه كما نص عليه جازت في مصادرها عند الشرب فيما ذكره من رجح هذا القول من اصحابنا
و الصحيح ان المعاطن تعم هذا كله على ظاهر كلام احمد فانه قال هي الاماكن التي تقيم بها و تاوي اليها و على هذا فسواء اوت بالليل أو النهار و هذا لأن لفظ المعاطن و المبارك يعم هذا كله كما تقدم فلا وجه لإخراج شيء منه من الحديث و هذا لأن اللفظ إذا توسع اهل العرف فيه حتى صار معناه عندهم اعم من معناه في اللغة لم يخرج ذلك المعنى اللغوي عن اللفظ بل يصير بعضه و لانه مكان تعتاده الابل و تاوي اليه فاشبه مبيتها و هذا لأن العطن الذي يكون عند البئر أو الحوض أو النهر قد اعد لمقام الابل و بروكها فيها فكان من مبركها كما لو اعد لمقامها فيه نهارا

دون الليل
قال اصحابنا و لا فرق بين ان تكون الابل في المعاطن أو أن لا تكون و لا فرق بين ان تكون قائمة حال الصلاة أو غير قائمة لأن النهي تناول الموضع
و قال ابن حامد و القاضي و سائر اصحابنا فاما مكان نزولها في سيرها أو مكان مقامها لتتنقل عنها أو مكان علفها أو ورودها لتسقى الماء فالصلاة فيه جائزة لانه لا يسمى عطنا
و قد قال الاثرم سمعت ابا عبد الله يسئل عن موضع فيه ابعار الابل نصلي فيه فرخص ثم قال إذا لم يكن من معاطن الابل التي نهي عن الصلاة فيها التي تاوي اليها الابل و ذلك لأن هذه الاماكن ليست معدة لمقام الابل و إنما مقامها فيه عارض فلا يتناولها النهي لفظا و لا معنى و لأن النبي صلى الله عليه و سلم و اصحابه إنما كانوا يرتحلون في اسفارهم في الحج و العمرة و الغزو و غير ذلك على الابل و مع هذا فكانوا يصلون في مناخ ابلهم و كانوا يصلون عليها و اليها و هذا ظاهر مشهور في سيرهم و لأن تلك الامكنة ليست اخص بالابل من الناس الذين نزلوا بها و الكراهة إنما نشأت لسبب في المكان الذي انفردت به أو غلبت عليه و الله اعلم

فصل
و اما المجزرة فقال اصحابنا هي الموضع الذي يذبح فيه الحيوان معروفا بذلك للقصابين و السوابين و نحوهم و لا فرق بين ان يكون الموضع نظيفا من الدماء و الارواث أو غير نظيف لأن النهي تناول الموضع و العلة كونه مظنة النجاسة و محلا للشياطين و هذا عام و هذا هو المشهور و على الوجه الذي يعلل الحكم فيه بحقيقة النجاسة تجوز الصلاة في الموضع الذي تيقنت طهارته
و اما المزبلة فقالوا هو الموضع الذي تجمع فيه الزبالة مثل المواضع التي في الطرقات و نحوها و لا فرق بين ان يكون عليها نجاسة من الزبالة او تكون طاهرة
و لفظ بعضهم لا فرق بين ان يرمى فيها زبالة طاهرة أو نجسة و هذا لأن المكان معد لالقاء الزبالات النجسة و الطاهرة فخلوه بعض الاوقات عن النجاسة لا يمنعه ان يكون معدا لها كالحمام الذي غسلت ارضه و إذا كان معدا لها تناوله النهي لفظا و معنى و من علل بوجود النجاسة فانه يجوزه إذا تيقنت طهارة المزبلة

فصل
وأما قارعة الطريق فقال اصحابنا هي الجادة التي قد صارت محجة و سواء في ذلك طريق الحاضر و المسافر فطريق الحاضر مثل الشوارع المستطرقة بين الدروب و الاسواق و طريق المسافر هي الجادة التي قد صارت محجة سميت جادة من قولهم ارض جدد و هي الصلبة و في المثل من سلك الجدد امن العثار و اجد الطريق صار جددا فالجادة هي الطريق التي اشتدت و صليت بوطئ الناس و الدواب و تسمى قارعة لكثرة قرع الارجل لها فاما ان تكون سميت بذلك لانها تقرع الارجل إذا قرعتها الارجل أو يكون المعنى ذات قرع أو فاعلة بمعنى مفعولة
و المحجة هي الجادة سميت بذلك لأن الحج هو القصد و الطريق هي موضع قصد الناس إلى حوائجهم
قال اصحابنا و قارعة الطريق هي التي تسلكها السابلة و المارة و ليس المراد بذلك كل ما سلك لأن المواضع لا تخلوا من المشي عليها في الجملة قالوا و لا بأس بالصلاة فيما خرج عن قارعة الطريق يمنة و يسرة لأن النهي إنما ورد عن الصلاة في محجة الطريق و في جواد الطريق و المحجة الوسط و الجواد ما صلب بالمشي
و منهم من رخص الرخصة بجوانب طرقات المسافرين لأن احمد

إنما نص على ذلك قال بعضهم و لا بأس بالصلاة في الطرقات التي يقل سالكوها كطريق الابيات اليسيرة و بكل حال فيجوز ان يصلى في الطرقات التي يكثر لها الجمع كالجمع و الاعياد و الجنائز لأن الحاجة تدعوا إلى ذلك

الفصل السادس
في علو هذه الامكنة و سطوحها قال كثير من اصحابنا منهم القاضي و اكثر اصحابه كالامدي و ابن عقيل و غيرهم لا فرق في الحمام و الحش و اعطان الابل بين سفلها و علوها لأن الاسم يتناول الجميع و الحكم معلق بالاسم
قال الامدي و ابن عقيل علو المجزرة كسفلها و لم يذكره القاضي في المواضع المنهي عنها و لم يعدها و لا في المنهي عنه علو المزبلة
و من اصحابنا طائفة طردوا الحكم في علو جميع المواضع المنهي عنها على طريقة هؤلاء لانهم منعوا من الصلاة في علو الاتون مع تعليله بانه مزبلة قالوا و يدخل في كل موضع منها ما يدخل فيه مطلق البيع و الهبة من حقوق من سفله و علوه اعتبارا بما يقع عليها الاسم عند الاطلاق و لأن الحكم تعبد فيناط بما يدخل في الاسم
و الفرق بين علو المزبلة و غيرها على ما ذكره الاولون ان علو المزبلة لا يسمى مزبلة لأن المزبلة المكان المعد لوضع الزبالة في الطريق و نحوه و معلوم ان علو تلك البقعة لا يسمى مزبلة بخلاف الاعطان و الحشوش

و المجازر فانها ابنية تبنى لشيء يقصد ستره و يجعل سقفه تابعا لقراره فيتناوله الاسم
و اما أبو الخطاب فلم يمنع من هذه السطوح الا من سطح الحش و الحمام خاصة و هذا اجود مما قبله لأن الحش و الحمام اسم لبناء على هيئة مخصوصة لا تتخذ الا لما بني له حتى لو اريد لاتخاذه لغير ذلك لغير عن صورته فكان الاسم متناولا لجميعه و هو قد عد لشيء واحد بخلاف العطن فانه اسم لما تقيم فيه الابل و تاوي اليه لا يختص ببناء دون بناء حتى لو اتخذ عطنها مراحا للغنم جازت الصلاة فيه مع ان صورته باقية و علو العطن ليس متخذا للابل و لا مبنيا لذلك بناء يخصه فلا يلحق به
و كذلك المجزرة و المزبلة انها تصير مجزرة و مزبلة بالفعل فيها لا بنفس بنائها فليس العلو تابعا للسفل في القعل ولا في البناء المختص بذلك
و من اصحابنا من قال بجواز الصلاة على علو جميع هذه المواضع و هو ظاهر كلام كثير من اصحابنا لأن ما فوق سقف الحش و الحمام قد لا يدخل في النهي لفظا و لا معنى لأن الاسم قد لا يتناوله فانه لو حلف لا يدخل حشا و لا حماما لم يحنث بصعود على سطح حش أو حمام بخلاف من حلف لا يدخل دارا لأن الحش و الحمام و نحوهما اسماء لاماكن معدة لامور معلومة و ظهورها ليست من ذلك في شيء و كونها مظنة النجاسة أو مظنة الشياطين لا يتعدى إلى ظهورها و الهواء تبع للقرار

في الملك و نحوه اما انه يتبعه في كل شيء فليس كذلك فان كل أحد يعلم ان هواء المزبلة ليس مزبلة و هواء الحش الذي فوق سطحه ليس حشا
فاما ان كان العلو قد اتخذ لشيء اخر بحيث لا يتبع السفل في الاسم فانه تصح الصلاة فيه قال احمد في رواية أبي داود إذا بنى رجل مسجدا فاراد غيره هدمه و بناءه فابى عليه الاول فانه يصير إلى قول الجيران و رضاهم اذا احبوا هدمه و بناه و إذا ارادوا ان يرفعوا المسجد و يعمل في اسفله سقاية فمنعهم من ذلك مشايخ ضعفى و قالوا لا نقدر نصعد فانه يرفع و يجعل سقاية لا اعلم بذلك بأسا و ينظر إلى قول اكثرهم فقد نص على بناء المسجد على ظهر السقاية قال في رواية حنبل لا ينتفع بسطح المسجد فان جعل السطح مسجدا انتفع بأسفله و ان جعل اسفله مسجدا لا ينتفع بسطحه و كذلك قال القاضي و غيره فان كانت المساجد مغلقة على حوانيت أو سقاييات فالصلاة فيها جائزة لأن ما تحتها ليس بطريق و قال أبو محمد المقدسي صاحب الكتاب رحمه الله ان كان المسجد سابقا و جعل تحت طريق أو عطن أو غيرهما من مواضع النهي أو كان في غير مقبرة فحدثت المقبرة حوله لم يمنع بغير خلاف لأنه لم يتبع ما حدث بعده و هذا يقتضي أنه جعل من صور الخلاف ما إذا احدث المسجد على عطن و نحوه من امكنة النهي

و الذي صرح به الاصحاب هو ما ذكرناه و هو منصوص احمد و الفقه فيه ظاهر فان العلو إذا اتخذ لشيء اخر غير ما اتخذ السفل له لم يكن احدهما بان يجعل تابعا للاخر باولى من العكس و إنما يجعل تابعا له عند الاطلاق الا ترى أنه لو قال بعتك هذا الحش و فوقه مسكن أو مسجد لم يدخل في مطلق البيع بخلاف ما لو كان ظهره خاليا و لأن الهواء إنما يتبع القرار في العقود عند الاطلاق فاذا قيد العقد بان قيل بعتك التحتاني فقط لم يدخل و اتخاذ العلو لامر اخر غير ما اتخذ له السفل بمنزلة إخراجه عن كونه تابعا له في القول و تقييد له بصيغة توجب الانفراد و لو حلف لا يدخل حشا أو عطن أو مزبلة أو حماما فدخل مسجدا مبنيا على ظهور هذه الاشياء لم يجز ان يقال أنه يحنث في يمينه

فصل
و اما علو المقبرة فان كان قد بني على المقابر بناء منهي عنه كالمسجد أو بناء في المقبرة المسبلة كانت الصلاة عليه صلاة في موضع محرم اما البناء في المقبرة المسبلة فان الصلاة عليه صلاة على مكان مغصوب و الصلاة في علو المسجد صلاة في مسجد في القبور و ايضا فان الصلاة على ظهر البناء المذكور اتخاذ للقبور مساجد و دخول في لعن النبي ص - اهل الكتاب عليه فانهم لما اتخذوا الابنية على قبور انبيائهم و صالحيهم لعنوا على ذلك سواء صلوا في قرار المبنى أو علوه

و ان كان الميت قد دفن في دار و اعلاها باق على الاعداد للسكنى فعلى ما ذكره اصحابنا تجوز الصلاة فيه لأن ذلك ليس من المقبرة اصلا و لا تبعا الا ان نقول بالحاق العلو بالسفل مطلقا على الوجه الذي تقدم في علو العطن و الحش إذا كان مسجدا و ان لم يبق معدا للسكنى و نحوها فهو كما لو دفن في ارض مملوكة ثم بني عليه بناء لم يعد للسكنى
فعلى ما دل عليه كلام احمد و اكثر اصحابه لا يصلى فيه لأن هذا البناء منهي عنه و هو تابع للقرار في الاسم فيقال هذه التربة و هذه المقبرة للعلو و السفل و لأن الصلاة في علو هذا المكان بالنسبة للميت كالصلاة في اسفله و لأن حكمة النهي عن الصلاة عند القبر هو ما فيه من التشبه بعبادة الاوثان و التعظيم المفضي إلى اتخاذ القبور اوثانا و هذه الحكمة موجودة بالصلاة في قرار الابنية و علوها سواء قصد المصلي ذلك أو تشبه بمن يقصد ذلك و خيف ان يكون ذلك ذريعة إلى ذلك و من اجاز هذا البناء من اصحابنا و لم يجعل العلو تابعا للقرار فانه يلزمه ان يجوز الصلاة فيه
فصل
و اما علو الطريق مثل السوابط و الاجنحة سواء كانت مساجد أو مساكن فالمشهور عنه أنه لا يصلي على المساجد المحدثة على الطرقات و الانهار التي تجري فيها السفن و قال في رواية عبد الله و جعفر بن محمد

اكره الصلاة على نهر على ساباط و قد ذكر احمد ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه و علل ذلك في غير موضع بانه لا تجوز احداثه و أنه في حكم الغصب و كذلك علله القاضي و كثير من اصحابه و غيرهم و لهذا خصوا هذا بالساباط المحدث قالوا فان كان الطريق محدثا بعد ما بني المسجد مثل ان بنى على ملكه مسجدا فاحدث تحته بعد ذلك طريق يمر الناس فيه فلا كراهة فيه لأن احمد إنما كره الصلاة على اتخاذه هذا لفظ القاضي
و قال و قد تتوجه الكراهة ايضا و هذا الوجه هو مقتضى ما ذكره الامدي و ابن عقيل فانهما عمما المنع و عللا ذلك بان الهوى تابع القرار بدليل ان سطح المسجد يتبعه في احكامه و كذلك سطح الدار فعلى هذا كل طريق لا يصلى فيه لا يصلى في سقفه و أما حكاية هذا عن القاضي فلا يصح
و الاول هو المذهب المنصوص لأن الساباط و الجناح المبني على الطريق ليس داخلا في اسم الطريق و إنما الذي يتبع الطريق الهواء الذي بني بخلاف سائر السقوف فانها قد تتبع ما تحتها في الاسم كما تقدم و إذا لم يكن البناء تابعا فالهواء ايضا ليس بطريق و إنما هو من حقوق الطريق و لا يلزم ان يكون حكم حقه حكم نفسه في كل شيء و لأن النبي ص - علل النهي عن الصلاة في الجواد بانها ماوى الحيات و السباع

و هذا مفقود في العلو و لأن الصلاة على يمنة الطريق و يسرته تجوز لكونها ليست من الجواد و المحجة فالعلو ابعد عن الجادة و المحجة من ميمنتها و ميسرتها
و لو كان غصب الميمنة و الميسرة لا يجوز و لو صلى فيها و هو غاصب لها لم تصح صلاته و لأن العلو إنما يتبع القرار في حكمه إذا لم يميز عن السفل بل يجعل سقفا له فقط فأما إذا اعد لشيء غير ما اعد له السفل لم يكن طريقا البتة كالمسكن و المسجد المبني على ظهر السقاية و نحوها فانه ليس بسقاية و لأن الصلاة في السفينة و على الراحلة تجوز في الجملة مع مسيرها في الطريق فالصلاة على سقف الطريق اولى ان لا يكون صلاة في الطريق و اولى بالجواز
قال بعض اصحابنا و لانه لو كان المنع في علو الطريق كونه تبعا له لجازت الصلاة في الساباط على النهر لانه موضع للصلاة في الجملة بدليل ما لو جمد ماؤه أو كان في سفينة و هذا ضعيف لانه إذا جمد لم يبق طريقا للسفن فإن مر الناس فيه و اتخذوه طريقا لم تجز الصلاة فيه
و اما الصلاة في السفينة فهي كالصلاة على الراحلة تجوز مع مسيرها في الطريق فثبت ان علة المنع أنه بناء في هواء الطريق و هذا غير جائز لما سنذكره ان شاء الله تعالى في موضعه فيكون كما لو بنى جناحا أو ساباطا في ملك غيره فانه يكون غاصبا بذلك و تكون الصلاة فيه صلاة في مكان مغصوب فعلى هذا ان كان الساباط جائزا مثل الساباط المبني على درب غير نافذ باذن اهله فانه جائز بلا تردد و كذلك ان كان الساباط لا يضر

بالمارة و قد اذن فيه الامام فانه جائز فيما ذكره اصحابنا و ان كان بدون اذن الامام لم يجز في المشهور
و حكي رواية اخرى بالجواز
فاما ما يضر بالمارة فانه ممنوع رواية واحدة
و اما المسجد المبني في الطريق فان كان يضيق الطريق لم يجز لانه غصب للطريق
و ان كان الطريق واسعا بحيث لا يضر المارة بناؤه فيه فعنه يجوز
و عنه لا يجوز
و عنه إنما يجوز باذن الامام خاصة فاذا جاز احداثه في جانب الطريق فاحداثه في هوائه إذا لم يكن فيه ضرر اولى بالجواز و لهذا لا يجوز لاحد ان يبني في جانب الطريق الواسع لنفسه بناء و ان جاز ان يبني فيه مسجد للناس و قد يجوز ان يبني لنفسه ساباطا اذا اذن فيه الامام و قد روى محمد بن ماهان السمسار عن احمد أنه تجوز الصلاة في الساباط المحدث على الطريق دون الساباط المحدث على النهر فعلله بعض اصحابنا بان الطريق محل للصلاة في الجملة إذا اتصلت الصفوف في الجمع و الاعياد بخلاف النهر الكبير و يحتمل ان تكون علته ان في اتخاذ الساباط على الطريق منفعة لابناء السبيل أنه يسترهم من الحر و المطر و الثلج بخلاف الساباط على النهر فانه لا منفعة فيه لاحد

فصل
و اما الصلاة إلى هذه المواضع فقد نص احمد في مواضع على كراهة الصلاة إلى المقبرة و الحش و الحمام قال في رواية الاثرم إذا كان المسجد بين القبور لا تصلى فيه الفريضة و ان كان بينها و بين المسجد حاجز فرخص ان يصلى فيه على الجنائز و لا يصلى فيه على غير الجنائز و ذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تصلوا إلى القبور و قال اسناده جيد و قال في رواية الميموني و قد سئل عن الصلاة إلى المقابر والحش فكرهه وقال في رواية أبي طالب وقد سئل عن الصلاة في المقبرة و الحمام والحش و كرهه و قال لا يعجبني ان يكون في القبلة قبر و لا حش و لا حمام و ان كان يجزيه و لكن لا ينبغي قال أبو بكر في الشافي يتوجه من الإعادة قولان
احدهما لا يعيد بل يكره و هذا هو المنصوص منصوص في رواية أبي طالب و هو اختيار القاضي
و الثاني يعيد لموضع النهي قال أبو بكر و به اقول قال ابن عقيل نص احمد على حش في قبلة مسجد لا تصح الصلاة فيه و كذلك قال ابن حامد لا تصح الصلاة في المقبرة و الحش و لم يذكر الحمام

و قال كثير من اصحابنا منهم المدي لا تجوز الصلاة إلى القبر و صرح جماعة منهم بان التحريم و الابطال مختص بالقبر و إنما كرهت الصلاة إلى هذه الاشياء لما تقدم عن أبي مرثد الغنوي ان النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تصلوا إلى القبور
و كذلك حديث عمر و غيره في النهي عن الصلاة إلى القبر و عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يكره الصلاة في مسجد قبالته نتن أو قذر رواه البخاري في تاريخه و عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال تكره الصلاة إلى حش رواه سعيد و عن ابراهيم النخعي كانوا يكرهون ثلاثة ابيات ان يكون قبلة الحمام و الحش والقبر رواه حرب
و ذهبت طائفة من اصحابنا إلى جواز الصلاة إلى هذه المواضع مطلقا من غير كراهة و هو قول ضعيف جدا لا يليق بالمذهب
و منهم من لم يكره ذلك الا في القبر خاصة لأن النهي عن النبي صلى الله عليه و سلم إنما صح في الصلاة إلى القبور كما تقدم و لانها هي التي يخاف ان تتخذ اوثانا فالصلاة اليها شبيهة بالصلاة بين يدي صنم و ذلك اعظم من الصلاة بينها و لهذا كانوا يكرهون من الصلاة إلى القبر ما لا يكرهونه من الصلاة إلى المقبرة و هذه حجة من رأى التحريم و الابطال مختصا

بالصلاة إلى القبر و ان كره الصلاة إلى تلك الاشياء و هو قول قوي جدا و قد قاله كثير من اصحابنا
و وجه الكراهة في الجميع ما تقدم عن الصحابة و التابعين من غير خلاف علمناه بينهم و لأن القبور قد اتخذت اوثانا و عبدت بالصلاة اليها يشبه الصلاة إلى الاوثان و ذلك حرام و ان لم يقصده المرء و لهذا لو سجد إلى صنم بين يديه لم يجز ذلك و الحش و الحمام موضع الشياطين ومستقرهم وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالدنو إلى السترة خشية ان يقطع الشيطان على المصلي صلاته و قال تفلت علي البارحة شيطان فاراد ان يقطع علي صلاتي و قال الكلب الاسود يقطع الصلاة و وجه ذلك بانه شيطان و تبين بذلك ان مرور الشيطان بين يدي المصلي يقدح في صلاته فالصلاة إلى مستقره و مكانه مروره مظنة بين يدي المصلي و لأن الصلاة إلى الشيء استقبال له و توجه اليه و جعل له قبلة فان ما يستقبله المصلي قبلة له كما أن البيت قبلة له يبين هذا ان النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن النخامة في القبلة و الاستقبال داخل في حدود الصلاة و لهذا امرنا ان نستقبل في صلاتنا اشرف البقاع و احبها إلى الله و هو بيته العتيق فينبغي للمصلي ان يتجنب استقبال الامكنة الخبيثة و المواضع الردية الا ترى انا نهينا ان نستقبل القبلة بغائط أو بول فكيف إذا كان البول و الغائط و الشياطين و مواضع ذلك في القبلة وقت الصلاة

قال القاضي و لأن القبر و الحش مدفن النجاسة و قد بينا كراهة الصلاة إلى النجاسة
قال و يكره الصلاة إلى قوم من اهل الذمة نص عليه في رواية عبد الله في ملاحين مجوس يكونون بين يدي القوم في السفينة بنجوفهم و يصلون و قال في رواية أبي طالب هو نجس و كرهه قال و إنما كره ذلك لأن من الناس من يقول انهم انجاس وقد كره للانسان ان يصلي مستقبلا لنجاسة لأن قبلته جهة رحمته و لهذا منع القاضي ان يستقبل القبلة بغائط أو بول فأولى ان يكره للمصلي ذلك
و قال غير القاضي لا نكره الصلاة إلى شيء من النجاسات
و لا فرق عند عامة اصحابنا بين ان يكون الحش في ظاهر جدار المسجد أو في باطنه و اختار ابن عقيل أنه إذا كان بين المصلي و بين الحش و نحوه حائل مثل جدار المسجد لم يكره كما لو كان بينه و بين المار حائل
و الاول هو الماثور عن السلف و هو المنصوص حتى قال في رواية أبي طالب في رجل حفر كنيفا إلى قبلة المسجد يهدم و قال في رواية المروذي في كنيف خلف قبلة المسجد لا يصلى اليه و قيل له ان الدار لايتام و الحائط لهم ترى ان يضرب على الحائط ساج أو شيء قال ان كان وصيا غير الكنيف أو حوله و ان كانوا صغارا لم يرخص لهم ان يضربوا عليه الساج و قال يعجبني ان يكون بينهما اذرع فقيل له يضيق

المسجد فقال و ان ضاق قال القاضي فقد نص على إزالة الحش من ظهر القبلة و بين أنه إذا جعل بينه و بين المسجد حائل بالساج لا يزيل الكراهة حتى يفصل بين الحش و بين قبلة المسجد قال ابن حامد و غيره و متى كان بين الحش و بين حاط المسجد حائط اخر جازت الصلاة اليه
فاما المقبرة إذا كانت قدام حائط المسجد فقال الامدي و غيره لا تجوز الصلاة إلى المسجد الذي قبلته إلى المقبرة حتى يكون بين حائطه و بين المقبرة حائل اخر و ذكر بعضهم ان هذا منصوص احمد لقوله المتقدم في رواية الاثرم
و قال القاضي إذا لم يكن يعني المصلي في ارض المقبرة بل كانت المقبرة امامه فقال شيخنا ان كان بينه و بينها حاجز جازت الصلاة لانه ليس يصلي فيها و لا اليها و ان لم يكن بينه و بينها حاجز لم تجز الصلاة كما لو كان في ارضها فان كان بينه و بين هذه الاشياء عدة اذرع لم تكره الصلاة على ما نص عليه في رواية المروذي
فصل
و اما الصلاة في سائر المواضع المنهي عنها فقال القاضي تكره الصلاة اليها كما تكره إلى هذه المواضع فتكره الصلاة إلى الطريق و اعطان الابل و المجزرة لأن النص على واحد منها تنبيه على غيرها و لانها مظان النجاسات و قال كثير من اصحابنا لا تكره الصلاة إلى بقية

المواضع و هذا هو المنصوص عن احمد في بعضها قال في رواية ابن هانىء و قد سئل عن الصلاة إلى شط النهر و الطريق امامه ارجو ان لا يكون به بأس و لكن طريق مكة يعجبني ان يتنحى عنه و نحو ذلك نقل المروذي و ذلك لأن الاثر لم يرد بذلك و لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان تنصب له العنزة فيصلي اليها و الناس يمرون بين يديه و قال إذا صلى احدكم فليجعل بين يديه مثل اخر الرحل ثم لا يضره ما مر امامه و لم يفرق بين الطريق و غيرها مع العلم بان المرور اكثر ما يكون في الطرقات و هذه المسائل و ما يشبهها تناسب باب القبلة و السترة و إنما هذا استطراد

فصل
و اما الصلاة في الكعبة فالنفل فيها اخف من الفرض فاذا صلى النافلة في جوف الكعبة صحت صلاته هذا هو المعروف و المشهور عن احمد و اصحابه
و حكي عنه رواية أنه لا يصح النفل فيها

و حكي عنه أنه يصح و لا يستحب لما سيأتي في الفرض
و وجه المذهب ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت كنت احب ان ادخل البيت و اصلي في فيه فاخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيدي فادخلني الحجر فقال صلي في الحجر إذا اردت دخول البيت فانما هو قطعة من البيت رواه الخمسة الا ابن ماجه و صححه الترمذي و عن عثمان بن طلحة رضي الله عنه قال قال لي النبي صلى الله عليه و سلم اني كنت رايت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت ان امرك ان تخمرها فخمرهما فانه لا ينبغي ان يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي رواه احمد و أبو داود و عن سالم عن ابيه قال دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم البيت هو و اسامة بن زيد و بلال و عثمان بن طلحة فاغلقوا عليهم فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسالته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال نعم بين العمودين اليمانيين متفق عليه
و في رواية للبخاري عن ابن عمر أنه كان إذا دخل الكعبة جعل الباب قبل ظهره و مشى حتى إذا كان بينه و بين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من

ثلاثة اذرع صلى يتوخى المكان الذي اخبره بلال ان النبي صلى الله عليه و سلم صلى فيه و في رواية لأحمد و البخاري أنه قال لبلال هل صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الكعبة قال نعم بين الساريتين اللتين عن يسارك اذا دخلت ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين و في رواية متفق عليها قال جعل عمودا عن يمينه و عمودا عن يساره و ثلاثة اعمدة وراءه و كان البيت يومئذ على ستة اعمدة ثم صلى و في رواية متفق عليها و نسيت ان اساله كم صلى و هي اصح فلعل ابن عمر فيما بعد علم أنه صلى ركعتين و عن عبد الرحمن بن صفوان قال قلت لعمر بن الخطاب كيف صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخل الكعبة قال صلى ركعتين رواه أبو داود و عن ابن عمر و أبي جعفر عن اسامة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه و سلم صلى في الكعبة رواه احمد
و عن عثمان بن طلحة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم صلى في البيت ركعتين و جاهك حيث تدخل بين الساريتين رواه احمد فقد امر صلى الله عليه و سلم

عائشة بالصلاة في البيت و صلى هو في البيت و امر بصون البيت عما يلهي المصلي فيه فعلم ان الصلاة فيه جائزة و أنه موضع للصلاة و قوله في الحديث الماضي و ظهر بيت الله الحرام دليل على أنه باطنه ليس من مواضع النهي
فان قيل فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما دخل النبي صلى الله عليه و سلم البيت دعا في نواحيه كلها و لم يصل حتى خرج منه متفق عليه و في رواية عن ابن عباس عن اسامة نحو ذلك رواه احمد و مسلم
قيل اما دخول النبي صلى الله عليه و سلم الكعبة و الصلاة فيها فقد ثبت على وجه لا يمكن دفعه و كان ذلك عام الفتح قال ابن عمر اقبل النبي صلى الله عليه و سلم عام الفتح و هو مردف اسامة على القصواء ومعه بلال و عثمان ذكر الحديث اخرجاه و أما حديث ابن عباس فربما ظن أنه كان في حجة الوداع و ان النبي صلى الله عليه و سلم حينئذ لم يصل فيها الا أنه قد روي فيه عن ابن عباس ما يدل على أنه اراد دخوله عام الفتح ايضا

فان لم يكن حديث ابن عمر و حديث ابن عباس في وقتين متغايرين و الا فحديث ابن عمر هو الصواب لانه مثبت عن بلال شيئا شاهده و عاينه و المثبت اولى من النافي و لأن ابن عباس لم يدخل معهم بل كان اذ ذاك صغيرا له نحو عشر سنين و إنما روى الحديث عن اسامة و قد روى غيره عن اسامة خلافه فان لم يكونا واقعتين فلعل اسامة كان مشغولا بدعاء و ابتهال حين دخول البيت في بعض نواحيه فلم ير النبي صلى الله عليه و سلم يصلي لا سيما و الباب موجف عليهم ثم لعله بعد ذلك اخبره اسامة أو عثمان ان النبي صلى الله عليه و سلم صلى فيه
فصل
و لا بد ان يكون بين يديه شيء من الكعبة في حال قيامه و ركوعه و سجوده فلو سجد على منتهى السطح أو على عتبة الباب لم تصح صلاته لانه لم يستقبل شيئا من القبلة بل هو مصل إلى غير الكعبة فان كان الذي بين يديه ليس بشاخص مثل أن يصلي إلي الباب وهو مفتوح وليست له عتبة شاخصة أو يصلي على السطح و لا سترة امامه لم تصح صلاته في المنصوص من الوجهين
قال في رواية الاثرم إذا صلى فوق الكعبة فلا تجوز صلاته و قال

في رواية ابن الحارث لا يصلي فوق بيت الله الحرام و قال في رواية الاثرم اما فوق الكعبة فلم يختلفوا أنه لا يجوز و احتج بالحديث لا قبلة له و هذا اختيار الامدي و ابن عقيل و حكي ذلك عن القاضي و عامة اصحابنا
و في الثاني تصح و هو اختيار جماعة من المتاخرين و هو الذي ذكره القاضي في المجرد فانه قال تجوز الصلاة النافلة فيها إذا توجه إلى غير الباب و ان توجهه إلى الباب و هو مغلق أو مردودا اجزاه و ان كان مفتوحا و كان بين يديه من عرصة البيت جاز و ان لم يكن لم يجز قال و ان انهدم البيت و بقية العرصة و لم يبق هناك منها شيء شاخص عن وجه الارض و صلى بناحية العرصة متوجها اليها اجزاه و ان وقف على العرصة لم تجزئه الفريضة و ان كانت نافلة و لم يكن بين يديه شيء منها كأن وقف اخرها متوجها إلى غيرها لم تجزه و ان وقف على العرصة و بين يديه منها ما يتوجه اليه و سجد اجزاه
قال و لا تجوز الفريضة على ظهر الكعبة و تجوز صلاة النافلة إذا كان بين يديه شيء منها فان لم يكن بين يديه شيء منها كأن وقف على السطح بحيث لا يكون بين يديه شيء من ارض السطح لم يجزه الا ان يكون بين يديه شيء منصوب بناء أو خشبة مسمرة فان كان فوقه لبن أو اجر معبا بعضه على بعض أو خشبة معروضة غير مسمرة لم تجزه لانه ليس من البيت بدليل أنه لا يتبعه في البيع و كذلك لو كان حبل ممدود فهذا يبين ان

القاضي إنما اشترط البناء الشاخص في موضع لم يكن بين يديه شيء من العرصة و ان المشروط عنده أحد امرين شيء من أرض السطح أو البناء كما أنه في الصلاة إلى الباب اعتبر أحد أمرين إما اما كون الباب سترة له أو كون شيء من العرصة بين يديه و هذا ايضاح و تبيين لانه يلزم من كون الباب و السترة بين يديه ان يكون بين يديه شيء من العرصة
و وجه ذلك ان الواجب استقبال هوائها دون بنائها بدليل المصلي على أبي قبيس و غيره من الجبال العالية فانه إنما يستقبل الهواء لا البناء بدليل ما لو انتقضت الكعبة و العياذ بالله فانه يكفيه استقبال العرصة و الهواء فعلى هذا إذا صلى في الحجر و هو مستدبر البناء أو مستقبل الممر و قلنا ان استقبال الحجر جائز فيجب ان يجزئه و فيه قبح
و الاول اصح لما تقدم من الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال سبعة مواطن لا تجوز الصلاة فيها و عد منها فوق ظهر بيت الله و في لفظ ظاهر بيت الله
و عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن الصلاة على ظهر الكعبة ذكره القاضي فلو لم تجب الصلاة إلى شيء شاخص مرتفع لم يكن بين ظاهر بيت الله و باطنه فرق بل هذا نص في منع الصلاة فوق ظهر بيت الله و لا يجوز ان يحمل على ما إذا سجد على منتهى الكعبة لأن الحديث عام في جميع المواضع التي فوق الظهر عموما مقصودا و هذه الصورة نادرة لا يجوز ان تقصد وحدها من مثل هذا العموم مع غير قرينة يبين بها مراد

المتكلم فان هذا لو وقع كان تلبيسا ثم ان هذه الصورة امرها ظاهر لا يخفى على أحد فلا تكاد تقصد بالبيان ثم ان مثل هذه الصورة تقع في الصلاة في جوف الكعبة إذا استقبل الباب مفتوحا ثم أنه جميع المواضع التي ذكر أنه لا تجوز الصلاة فيها من المقبرة والحش والحمام لا يصلي في شيء منها كذلك ظهر الكعبة يجب ان لا يصلى في شيء منه و هذا ظاهر لمن تامله و ايضا فان هذا اجماع عن السلف كما حكاه احمد رضي الله عنه وكما سيأتي تقريره و ايضا فقول النبي صلى الله عليه و سلم هذه القبلة و في حديث اخر استحلال الكعبة البيت الحرام قبلتكم احياء و امواتا دليل على ان القبلة هو الشيء المبني هناك الذي يشار اليه و يمكن استحلاله و تسمى كعبة و بيتا
و ايضا فان الله سبحانه قال و طهر بيتي للطائفين و القائمين و الركع السجود و قال جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس فبين ان الطواف و الركوع و السجود إنما هو متعلق بالبيت و البيت أو الكعبة لا يكون اسما الا للبناء فاما العرصة والهواء فليس هو بيتا ولا كعبة وأيضا فلو كان استقبال هواء العرصة والطواف به كافيا لم يجب بناء البيت و لم يحتج اليه فلما امر الله ابراهيم خليله ببناء بيته و بدعاء الناس إلى حجه حينئذ

و كان من اشراط الساعة خراب هذه البنية علم ان دين الله منوط ببنية تكون هناك و ان لا يكون وجودها و عدمها سواء وان هذه البنية إذا زالت زوالا لا تعود بعده فقد اقترب الوعد الحق بما يكون من رفع كتاب الله المنزل من الصدور و المصاحف و قبض ارواح المؤمنين الذين هم اهل دين الله و ذلك دليل واضح أنه لا دين يقوم لله الا بوجود البنية المعظمة المكرمة المشرفة و ايضا فان النبي صلى الله عليه و سلم سن لكل مصلي ان ينصب بين يديه شيئا يصلي اليه و كره الصلاة إلى الهواء المحض فكيف تكون قبلة الله التي يجب استقبالها هواء محضا
و اما ما ذكروه من الصلاة إلى أبي قبيس و نحوه فانما ذاك لأن بين يدي المصلي قبلة شاخصة مرتفعة و ان لم تكن مسامتة له فإن المسامتة غير مشروطة كما لم تكن مشروطة في الائتمام بالامام مع ان الماموم خلفه فكذلك المصلي على أبي قبيس خلف الكعبة و وراءها و ان كان اعلا منها و اما إذا زال بناء الكعبة فتقول بموجبه و أنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئا يصلي اليه لأن احمد جعل المصلي على ظهر الكعبة لا قبلة له فعلم أنه جعل القبلة الشيء الشاخص و كذلك قال الامدي ان صلى بازاء الباب و كان الباب مفتوحا لم تصح الصلاة و ان كان مردودا صحت الصلاة و ان كان الباب مفتوحا و بين يديه شيء منصوب كالسترة صحت الصلاة لانه يصلي إلى جزء من البيت فان زال بنيان البيت و العياذ بالله و صلى و بين يديه شيء صحت الصلاة و ان لم يكن بين يديه شيء لم تصح

الصلاة
و ان صلى على ظهر الكعبة الفرض لم تصح صلاته و ان صلى النفل و ليس بين يديه شيء لم تصح صلاته فان كان بين يديه شيء صحت صلاته و هذا من كلامه يدل على ان البناء لو ازيل لم تصح الصلاة الا ان يكون بين يديه شيء وإنما يعني به والله أعلم شيئا شاخصا كما قيده فيما إذا صلى إلى الباب و كذلك قوله في الصلاة على الظهر اذ لا يجوز ان يفرق بين الصلاة على الظهر و الصلاة على الباب و لانه علل ذلك بانه إذا صلى إلى سترة فقد صلى إلى جزء من البيت فعلم ان مجرد العرصة غير كاف و يدل على ذلك ما ذكره الازرقي في اخبار مكة عن ابن جريج قال سمعت غير واحد من اهل العلم ممن حضر بناء ابن الزبير حين هدم الكعبة و بناها و ذكر الحديث إلى ان قال فما ترجلت الشمس حتى الصقها كلها بالارض من جوانبها جميعا و كان هدمها يوم السبت النصف من جمادى الاخرة سنة اربع و ستين و لم يقرب ابن عباس رضي الله عنه مكة حين هدمت الكعبة حتى فرغ منها و ارسل إلى ابن الزبير لا تدع الناس بغير قبلة انصب لهم حول الكعبة الخشب و احعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها و يصلون اليها ففعل ذلك ابن الزبير رضي الله عنه و ذكر الحديث و قد رواه مسلم في صحيحه عن عطاء في قصة ابن الزبير لما هدم البيت و اعاده على قواعد ابراهيم قال فنقضوه حتى

بلغوا به الارض فجعل ابن الزبير اعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه
و هذا من ابن عباس و ابن الزبير رضي الله عنهم دليل على ان القبلة التي يطاف بها و يصلى اليها لا بد ان تكون شيئا منصوبا شاخصا و ان العرصة ليست قبلة و لم ينقل ان احدا من السلف خالف ذلك و لا انكره
نعم لو فرض أنه قد تعذر نصب شيء من الاشياء موضعها بان يقع ذلك اذا هدمها ذو السويقتين من الحبشة في اخر الزمان فهنا ينبغي ان يكتفي حينئذ باستقبال العرصة كما يكفي المصلي ان يخط خطا إذا لم يجد سترة فان قواعد ابراهيم كالخط و لانه فرض قد عجز عنه فيسقط بالتعذر كغيره من الفروض و لا يلزم من الاكتفاء بالعرصة عند استقبال البناء الإكتفاء بها عند القدرة على استقبال البناء لأن فرض استقبال القبلة يسقط بالعجز كالخائف و المحبوس بين حائطين و غيرهما و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم اذا امرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم و لا يمتنع الصلاة في شيء من الاوقات و لا الطواف بالبيت لعدم البناء اصلا إذا تعذر في تلك الساعة الطواف و الصلاة إلى بناء كما لا يمتنع الصلاة لتعذر شيء من شروطها و اركانها
و ذكر ابن عقيل و غيره من اصحابنا ان البناء إذا زالت صحت الصلاة إلى هواء البيت مع قولهم أنه لا يصلي على ظهر الكعبة و من قال هذا يفرق بانه إذا زال لم يبق هناك شيء شاخص مستقبل بخلاف ما إذا كان

هناك قبلة تستقبل و لا يلزم من سقوط استقبال الشيء الشاخص إذا كان معدوما سقوط استقباله إذا كان موجودا كما فرقنا نحن بين حال امكان نصب شيء و حال تعذر ذلك و كما يفرق في سائر الشرائط بين حال الوجود و العدم و القدرة و العجز
فاذا قلنا لا بد من الصلاة إلى شيء شاخص فانه يكفي شخوصه أنه شيء يسير كالعتبة التي للباب قاله ابن عقيل
و قال أبو الحسن الامدي لا يجوز ان يصلي إلى الباب إذا كان إذا كان مفتوحا لكن إن كان بين يديه شيء منصوب كالسترة صحت الصلاة فعلى هذا لا يكفي ارتفاع العتبة و نحوها بل لا بد ان يكون مثل مؤخرة الرحل لانها السترة التي قدر بها الشارع القبلة المستحبة فلان تقدر بها القبلة الواجبة اولى ثم ان كانت السترة فوق السطح و نحوه بناء أو خشبة مسمرة و نحو ذلك مما يتبع في مطلق البيع لو كان في موضع مملوك جازت الصلاة إليه لأنه جزء من البيت وإن كان هناك لبن أو اجر بقي بعضه فوق بعض أو خشبة معروضة غير مسمرة أو حبل و نحو ذلك لم يكن قبلة فيما ذكره اصحابنا لانه ليس من البيت
و يتوجه ان يكتفي في ذلك بما يكون سترة لانه شيء شاخص في هواء البيت فاشبه بناءه فان ذلك قبلة سواء اتصل بالعرصة أو لم يتصل بها و لأن البيت كان رضاما من الحجارة غير مبني مع كون الطواف به كان مشروعا و لأن حديث ابن عباس و ابن الزبير فيه دليل على الاكتفاء بكل

ما يكون قبلة و سترة فان الخشب و الستور المعلقة عليها لا تتبع في مطلق البيع

فصل
فاما استقبال الحجر فقال ابن عقيل في الواضح لا يستقبل هواه و لا يعتد بالصلاة اليه بخلاف هواء الكعبة في العلو إذا صعد على أبي قبيس و لو هدمت العمارة جاز استقبال هوائها بخلاف الحجر قال و خروج الحجر عن خصيصة القبلة في الصلاة كخصيصة القران المنسوخ تلاوة فحكمه ثابت و لا تجوز الصلاة به و ذلك لأن الحجر بخروجه عن الكعبة في البناء لم يبق قبلة لأن القبلة ما بني للاستقبال و الحجر ليس كذلك و ان كان من البيت و لانه في المشاهدة و العيان ليس من الكعبة البيت الحرام و إنما وردت احاديث بانه كان من البيت فعمل بتلك الاحاديث في وجوب الطواف به دون الاكتفاء بالصلاة اليه احتياطا للعبادتين
و قال القاضي في خلافه يجزئه التوجه اليه في الصلاة و تصح صلاته كما لو توجه إلى حائط الكعبة و هذا اقيس بالمذهب لأنه من

البيت بالسنة الثابتة المستفيضة و بعيان من شاهده من الخلق الكثير لما نقضه ابن الزبير
و الحجر كله ليس من البيت و إنما الداخل في حدود البيت ستة اذرع و شيء فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاته البتة و لا بد ان يستقبل شيئا شاخصا منه فان استقيل ما ليس بشاخص مثل ان يصلي إلى الممر أو إلى ناحية الشام فان الجدار الشامي من الحجر ليس مبنيا في الكعبة فعلى الوجهين المتقدمين
فصل
واما صلاة الفرض في الكعبة حيث تصح صلاة النافلة ففيها روايتان
احداهما انها كصلاة النافلة على ما تقدم من الاحاديث لأن الفرض و النفل مستويان في جميع الشرائط و الاركان الا ما استثني من ذلك مثل القيام و الصلاة على الراحلة في السفر حيث توجهت به و نحو ذلك فالتفريق بينهما في غير ذلك يحتاج إلى دليل و لأن الاستقبال الواجب في الفرض واجب في النفل على المقيم و لو لم يكن المصلي في البيت مستقبلا للقبلة لما صح فيها النفل ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعائشة صلي في الحجر إذا اردت دخول البيت و لم يفرق و قال للسادن أنه لا ينبغي ان يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي و لم يفرق

و الرواية الثانية و هي المشهور نصا و مذهبا ان الفرض لا يصح في الكعبة لأن الله سبحانه قال فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام أي نحوه و تلقاءه باجماع اهل العلم لأن الشطر له معنيان هذا احدهما و الاخر بمعنى النصف و ذلك المعنى ليس مرادا فتعين الاول و إذا كان الله قد فرض تولية الوجه نحو الكعبة و ذلك هو الصلاة اليها فالمصلي فيها ليس بمصل اليها لانه لا يقال لمن صلى في دار أو حانوت أنه مصل اليه
و كذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما إنما امر الناس ان يصلوا إلى الكعبة و لم يؤمروا ان يصلوا فيها و لأن التوجه اليها إنما يكون باستقبالها كلها أي استقبال جميع ما يحاذيه منها فاذا استقبل بعضها فليس بموول وجهه إلى الكعبة بل إلى بعض ما يسمى كعبة و لانه إذا استقبل البعض و استدبر البعض فليس وصفه باستقبالها باولى من وصفه باستدبارها بل استدبار بعضها ينافي الاستقبال المطلق و لهذا قال ابن عباس لا تجعل شيئا من البيت خلفك ذكره احمد يبين هذا ان الله سبحانه امر بالطواف به كما امر بالصلاة اليه و إخراجها مخرجا واحدا في قوله تعالى ان طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع السجود و قال

تعالى و ليطوفوا بالبيت العتيق كما قال تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام ثم الطواف فيه لا يجوز فكذلك الصلاة فيه و لما وجب على الطائف ان يطوف به كله وجب على المصلي ان يستقبله كله و استقبال جميعه يحصل بان تكون القبلة كلها امامه و ان خرج بعضها عن مسامتة بدنه و محاذاته فان المطابقة ليس من معنى الاستقبال في شيء اذ لو كانت من معناه ما صح ان يستقبل الجسم الكبير للصغير و لا الصغير للكبير نعم لو خرج هو على مسامتتها ببعضه لم يكن مستقبلا لها فعلى هذا لا يصلي الفرض في الحجر نص عليه فقال لا يصلي في الحجر الحجر من البيت فأما الصلاة فان نذر الصلاة في الكعبة جاز كما لو نذر الصلاة على الراحلة
واما ان نذر الصلاة مطلقا اعتبر فيها شروط الفريضة لأن النذر المطلق يحذى فيه حذو الفرائض فاذا نذره بصفة جائزة في الشرع قبل النذر يعتد بها كما لو نذر ان يهدي هديا لم يجزئه الا ما يجزئ في الهدايا الواجبة و لو نذر ان يهدي دراهم أو دجاجة و نحو ذلك صح نذره و قد روى اصحابنا ان عائشة رضي الله تعالى عنها قالت يا رسول الله اني نذرت ان اصلي في البيت فقال صلي في الحجر فانه من البيت
و هل المانع استدبار بعضه فقط أو استقبال جميعه شرط ايضا على

وجهين
احدهما ان المانع استدبار بعضه و قد أومأ اليه في رواية ابن القاسم و قد سئل عن الصلاة المكتوبة في الكعبة فقال في نفسي منه شيء و حكي عن ابن عباس أنه كان ينكره و لانه يجعل بعض البيت خلفه و التطوع اسهل و الصلاة فوقه أشد من الصلاة فيه و في بعض كتب اصحابنا هذه الرواية الصلاة فوقه اسهل من الصلاة فيه و اظنه غلطا في الكتاب فعلى هذا إذا وقف على عتبة الباب أو على منتهى السطح بحيث لا يكون خلفه شيء أو وقف خارجا منه و سجد على بعضه كالحجر و الشاذوران و نحو ذلك صحت صلاته
و الوجه الثاني لا بد أن يستقبل جميعه فلا تصح صلاته في هذه الصور و هذا اقيس كالطواف فان الطواف به لا فيه و كذلك الصلاة اليه لا فيه
وأما صلاته صلى الله عليه و سلم في البيت فانها كانت تطوعا و لذلك اغلق عليه الباب هو و اسامة و بلال و عثمان بن طلحة و انما كان يصلي المكتوبة بالمسلمين كلهم في الجماعة العامة و لأن ذلك الوقت لم يكن وقت مكتوبة لانه دخل مكة ضحى و في تلك الساعة دخل البيت ثم صلى بالمسلمين صلاة الظهر في المسجد و لا يجب الحاق الفرض به لانه صلى الله عليه و سلم صلى داخل البيت ركعتين ثم خرج فصلى إلى البيت ركعتين ثم

قال هذه القبلة فيشبه و الله اعلم ان يكون ذكره لهذا الكلام في عقب الصلاة خارج البيت بيانا لأن القبلة المأمور باستقبالها هي البنية كلها لئلا يتوهم متوهم ان استقبال بعضها كاف في الفرض لاجل أنه صلى التطوع في البيت و الا فقد علم الناس كلهم ان الكعبة في الجملة هي القبلة فلا بد ان يكون لهذا الكلام فائدة و علم شيء قد يخفى و يقع في محل الشبهة و ابن عباس روى هذا الحديث و فهم منه هذا المعنى و هو اعلم بما سمع لكن لم يبلغه حديث بلال أنه صلى الله عليه و سلم صلى داخل الكعبة فحمل الحديث على العموم في المكتوبة و التطوع فالواجب ان يوضع حديث ابن عباس موضعه و حديث ابن عمر موضعه و يعمل بكلا الحديثين يبين ذلك أنه صلى الله عليه و سلم لما صلى داخله اغلق عليه الباب و كانت الفرائض كلها إنما يصليها خارج البيت و لو كانت المكتوبة جائزة في البيت لكان يمكنه ان يصلي المكتوبة بالناس في الحجر تحصيلا لفضيلة اداء الفرض في الكعبة فلما لم يفعل شيئا من ذلك دل على ان ذلك خاص بالتطوع
و هذا لأن الشارع يوسع في تجويزه على احوال شتى لا تجوز في المكتوبة خصوصا في امر القبلة فانه جوز التطوع للمسافر السائر إلى أي جهة توجه لقوله تعالى و لله المشرق و المغرب فاينما تولوا فثم وجه الله لئلا يكون الاستقبال مانعا له من الصلاة فكذلك من دخل بيت

ربه و احب الصلاة لربه فيه لا يمكنه ذلك مع الاستقبال التام فعفي له عن كمال الاستقبال إذا اتى بالممكن منه تحصيلا لمقصود الزيادة و تحية البيت اذ كان هذا المقصود لا يمكنه فعله الا في البيت و كان فرض كمال الاستقبال لا يمكن معه تحية البيت و الصلاة فيه لله و ذلك امر مطلوب كما قلنا في صلاة المسافر سواء فاما الفرض فلا اختصاص له بمكان دون مكان فكانت المحافظة عى كمال الاستقبال الذي هو شرط اولى من فعله في نفس البيت و لا حاجة إلى فعله في البيت فلم يسقط فرض الاستقبال بحال و لهذا مضت سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنة خلفائه الراشدين بذلك الا ترى ان الفرض لو كان مشروعا في البيت لكان ينبغي ان يقف الامام في الحجر ليحصل فضل الصلاة فيه و الصلاة اليه فان ذلك اكمل لو كان ممكنا من الصلاة اليه فقط و معلوم ان هذا خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و سنة المسلمين اجمعين

فصل
قال اكثر اصحابنا لا تكره الصلاة في الكنيسة و البيعة النظيفة
و ذكر ابن عقيل فيهما روايتان
احداهما كذلك
و الثانية تكره و اختارها لأن فيه تعظيما لها و تكثيرا لجمعهم و لانهم

ربما كرهوا دخولنا اليها فيكون غصبا ولانها مواضع الكفر و محل الشياطين فكرهت الصلاة فيها كما كرهت في المكان الذي حضرهم فيه الشيطان
و وجه الاول ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى في كنيسة بالشام رواه حرب و عن ابن عباس أنه لم يكن يرى بأسا بالصلاة في البيع إذا استقبل القبلة و عن أبي موسى أنه صلى بحمص في كنيسة تدعى كنيسة حنا ثم خطبهم ثم قال ايها الناس انكم في زمان لعامل الله فيه اجر واحد و انكم سيكون بعدكم زمان يكون لعامل الله فيه اجران و عن أبي راشد التنوخي قال صلى المسلمون حين فتح حمص في كنيسة النصارى حتى بنوا المسجد رواهن سعيد و لم يبلغنا عن صحابي خلاف ذلك مع أن هذه الأقوال و الافعال في مظنة الشهرة و لانه صلى الله عليه و سلم قال جعلت لي الارض مسجدا و لم يستثن البيع و الكنائس فيما

استثناه و لأن الكفار لو استولوا على مساجد الله و اتخذوها معابد لدينهم الذي لم يأذن به الله لم تكره الصلاة فيها لذلك
فاما ان كان فيها صور فمن اصحابنا من لم يكره الصلاة فيها ايضا قال لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما كان يوم الفتح دخل إلى البيت فصلى فيه و كانت فيه تماثيل
و المذهب الذي نص عليه عامة الاصحاب كراهة الصلاة فيها بلا كراهة الدخول إلى كل موضع فيه تصاوير فالصلاة فيه أشد كراهة من دخوله
فان كانت الصورة قد مثلت في بيوت العبادة فالصلاة هناك اقبح و أشد كراهة حتى قد قال احمد فيمن صلى و في كمه منديل حرير فيه صور اكرهه قال القاضي لأن التصاوير في الثوب المحرم فكأنه حامل لشيء محرم فجرى مجرى جلوسه في بيت فيه صور و ذلك مكروه و هذا هو الصواب الذي لا ريب فيه و لا ينبغي ان يشك فيه لظهوره في دين الاسلام فان الذين نقل عنهم الرخصة في الصلاة في الكنائس من الصحابة شرطوا ذلك بأن لا تكون بها تماثيل و قد ذكرناه عن ابن عباس و ذكر ابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لنصراني انا لا ندخل بيعكم من اجل الصور التي فيها و عن مقسم قال كان ابن عباس لا يصلي في بيت فيه تماثيل و عنه عن ابن عباس أنه قال لا يصلي فى كنيسة فيها

تماثيل و ان صار ان يخرج فيصلي في المطر رواهما سعيد و لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكرت له الكنيسة التي بارض الحبشة و ما فيها من التصاوير قال اولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا و صوروا فيه تلك التصاوير اولئك شرار الخلق عند الله و كل واحد من اتخاذ القبور مساجد و من التصاوير فيها محرم فالصلاة فيها تشبه الصلاة في المسجد على القبر و لانه بعث عليا رضي الله عنه على ان لا يدع تمثالا الا طمسه و لا قبرا مشرفا الا سواه فاذا كان طمسها واجبا لانها بمنزلة الاوثان فالصلاة في المكان الذي فيه الصور كالصلاة في بيوت الأوثان فهل يقول أحد ان هذا جائز بلا كراهة من غير ضرورة و قد قال صلى الله عليه و سلم لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة فكيف لا تكره الصلاة في مكان تمنع الملائكة من الدخول اليه دائما و لأن الصور قد تعبد من دون الله و فيها مضاهاة لخلق الله فالصلاة عندها تشبه بمن يعبدها و يعظمها لا سيما ان كانت الصورة في جهة القبلة فان السجود إلى جهتها يشبه السجود لغير الله
و اما صلاة النبي صلى الله عليه و سلم في الكعبة فهو حجة ايضا قوية لما روى عن ابن عباس قال دخل النبي صلى الله عليه و سلم البيت فوجد فيه صورة ابراهيم و صورة مريم فقال اما هم فقد سمعوا ان الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة هذا ابراهيم

مصور فما له يستقسم و في رواية لما راى الصور في البيت لم يدخل حتى امر بها فمحيت و راى ابراهيم و اسماعيل بايديهما الازلام فقال قاتلهم الله و الله ان استقسما بالازلام قط و في رواية لما قدم أبى ان يدخل البيت و فيه الآلهة فامر بها فاخرجت و اخرجوا صورة ابراهيم و اسماعيل في ايديهما الازلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم قاتلهم الله و الله قد علموا انهما لم يستقسما بها قط فدخل البيت فكبر في نواحيه و لم يصل رواه البخاري
فهذا نص في أنه امتنع من الدخول حتى محيت الصور فكيف يقال أنه صلى الله عليه و سلم صلى في الكعبة و التماثيل فيها و قد روى الازرقي أنه صلى الله عليه و سلم لما دخل البيت ارسل الفضل بن عباس فجاء بماء زمزم ثم امر بثوب فبل بالماء و امر بطمس تلك الصور فطمست و روي من غير وجه أنه لم يدخل حتى محيت الصور ثم لو قدر أنه قد دخل قبل الطمس فانه لم يدخل حتى طمست أو شرع في طمسها كما يدل عليه ظاهر بعض الروايات و لو كان قد صلى بعد الامر بطمسها فهو قد شرع في إزالة المنكر فلا يشبه هذا من صلى في موضع الصور فيه مستقرة و لهذا جاز للرجل ان يحضر الوليمة التي فيها منكر إذا قصد ان ينكر و ان كان الحضور قبل الانكار

فصل
و لا يصلى في مواضع الخسف نص عليه في رواية عبد الله و احتج بما رواه باسناده عن حجر بن عنبس الحضرمي قال خرجنا مع علي بن أبي طالب إلى النهروان حتى إذا كنا ببابل حضرت صلاة العصر فقلت الصلاة فسكت مرتين فلما خرج منها صلى ثم قال ما كنت اصلي بارض خسف بها ثلاث مرات
و روى أبو داود في سننه عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري ان عليا رضي الله عنه مر ببابل و هو يسير فجاءه المؤذن يؤذن بصلاة العصر فلما برز منها امر المؤذن فاقام الصلاة فلما فرغ قال ان حبيبي نهاني ان اصلي في المقبرة و نهاني ان اصلي في ارض بابل فانها ملعونة و لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الدخول إلى المساكن الذين ظلموا

انفسهم و سن ان اجتزنا بها الاسراع فروى ابن عمر ان النبي صلى الله عليه و سلم لما مر بالحجر قال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا انفسهم الا ان تكونوا باكين فان لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ان يصيبكم مثل الذي اصابهم ثم قنع رسول الله صلى الله عليه و سلم راسه و اسرع السير حتى اجاز الوادي متفق عليه
و قد قيل أنه صلى الله عليه و سلم اسرع السير بوادي محسر صبيحة مزدلفة وسن للحجيج الاسراع فيه لانه المكان الذي نزل على اهل الفيل فيه العذاب و حسر فيلهم فيه أي انقطع عن الحركة إلى جهة مكة و يقال أنه يخسف بقوم فيه فاذا كان المكث في مواقع العذاب و الدخول اليها لغير حاجة منهي عنه فالصلاة بها اولى و لا يقال فقد استثنى ما اذ كان الرجل باكيا لأن هذا الاستثناء من نفس الدخول فقط فاما المكث بها و المقام و الصلاة فلم ياذن فيه بدليل حديث علي و لأن مواضع السخط و العذاب قد اكتسبت السخط بما نزل ساكنيها و صارت الارض ملعونة كما صارت مساجد الانبياء مثل مسجد ابراهيم و محمد و سليمان صلى الله عليهم مكرمة لاجل من عبد الله فيها و اسسها على التقوى فعلى هذا كل بقعة نزل عليها عذاب لا يصلى فيها مثل ارض الحجر و ارض بابل المذكورة و مثل مسجد الضرار لقوله تعالى لا تقم فيه ابدا

فان صلى فهل تصح صلاته فعلى ما ذكره طائفة من اصحابنا تصح لانهم جعلوا هذا من القسم الذي تكره الصلاة فيه و لا تحرم لأن احمد كره ذلك و لانهم لم يستثنوه من الامكنة التي لا يجوز الصلاة فيها و لاصحابنا في الكراهة المطلقة من أبي عبد الله وجهان
احدهما أنه محمول على التحريم و هذا اشبه بكلامه و اقيس بمذهبه لانه قد قال في الصلاة في مواضع نهي النبي صلى الله عليه و سلم عنها يعيد الصلاة و كذلك عند القاضي و الشريف أبي جعفر و غيرهما طرد الباب في ذلك بان كل بقعة نهي عن الصلاة فيها مطلقا لم تصح الصلاة فيها كالارض النجسة
و هذا ظاهر فان الواجب الحاق هذا بمواضع النهي لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنه كما نهى عن الصلاة في المقبرة و نهى الله نبيه ان يقوم في مسجد الضرار و نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الدخول إلى مساكن المعذبين عموما فاذا

كان الله نهى عن الصلاة في الاماكن الملعونة خصوصا و نهى عن الدخول اليها خصوصا و عمل بذلك خلفاؤه الراشدون و اصحابه مع ان الاصل في النهي التحريم و الفساد لم يبق للعدول عن ذلك بغير موجب وجه لا سيما و النهي هنا كان مؤكدا و لهذا لما عجنوا دقيقهم بماء ال ثمود امرهم ان يعلفوه النواضح و لا يطعموه فاي تحريم ابين من هذا قوم مجاهدون في سبيل الله في غزوة العسرة التي غلب عليهم فيها الحاجة و هي غزوة تبوك التي لم يكن يحصي عددهم فيها ديوان حافظ و خرجوا في شدة من العيش و قلة من المال و مع هذا يامرهم ان لا ياكلوا عجينهم الذي اعز اطعمتهم عندهم فلو كان إلى الاباحة سبيل لكان اولئك القوم احق الناس بالاباحة فعلم ان النهي عن الدخول والاستقاء كان نهي تحريم ثم أنه قد قرن بين الصلاة في الارض الملعونة و الصلاة في المقبرة ثم جميع الاماكن التي نهى عن الصلاة فيها إذا صلي فيها لم تصح صلاته فما بال هذا المكان يستثنى من غير موجب الا عدم العلم بالسنة فيه

فصل
قال الآمدي و غيره تكره الصلاة في الرحا و لا فرق بين علوها و اسفلها و السطح هكذا روى جماعة من السلف هكذا ذكروا لعل هذا

لما فيها من الصوت الذي يلهي المصلي و يشغله و لذلك كره رفع الصوت في المسجد و كانوا يكرهون رفع الصوت في الذكر
فصل
السنة ان يكون موضع الصلاة مستقرا مع القدرة فان لم يصل على مكان مستقر مثل ان يقوم على الارجوحة التي ترجحه و هو يصلي و هو معلق بالهواء أو يسجد على متن الماء أو الطين أو على منتن الهواء بان يقف على سطح و يسجد على الهواء المسامت له أو يسجد على ثلج أو قطن أو حشيش و نحو ذلك من الاجسام المنتفشة و لا يجد حجمه لم تصح صلاته لأن القيام و القعود و الركوع و السجود واجب و إنما تتم هذه الاركان على المكان المستقر و لهذا لا يجوز ان يسجد بالايماء و ان بلغ إلى حد يجزيه لو كان هناك ما يسجد عليه فعلم ان المقصود لا يتم الا بالاستقرار
فان وضع يديه أو رجليه على غير مستقر فان قلنا السجود على الاعضاء السبعة واجب و هو المشهور فهو كالجبهة وإما ان كانت اعضاؤه على مكان مستقر و تحته هواء لم يضر ذلك
فان صلى في سفينة و اتى بجميع اركان الصلاة من القيام و الاستقبال و غيرهما أو على راحلة بان تكون معقولة و فوقها مقعد واسع أو يكون في

محفة كبيرة أو محمل واسع فهل تصح صلاة الفرض لغير عذر على روايتين
اشهرهما عند اصحابنا انها تصح قالوا و سواء كانت الدابة و السفينة سائرتين أو واقفتين
و في الاخرى لا تصح لأن مكانه ليس بمستقر لانها ان كانت سائرة فهو تابع لها في الحركة و ان لم يكن في نفسه متحركا فهو كالمصلي في الارجوحة و ان كانت واقفة فهي في مظنة الحركة
و من اصحابنا من حكى الروايتين في السفينة و قال في الراحلة لا تجوز الصلاة عليها رواية واحدة الا لعذر كما سياتي ان شاء الله تعالى
و وجه الاول ما روى عبد الله بن عتبة قال سافرت مع أبي الدرداء و أبي سعيد الخدري و جابر بن عبد الله و أبي هريرة و ناس من اصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فصلوا من السفينة قياما و امهم بعضهم بمقدمهم قال و لو شئنا ان نخرج إلى الحد الاخر خرجنا و الحد هو الشاطىء رواه سعيد و لانه مكان معتاد للتمكن عليه اتى فيه بجميع الشرائط و الاركان فصحت صلاته عليه كالسرير
وأما كون المصلي متحركا فليس بصحيح لانه في نفسه ساكن مستقر و انما يوصف بالحركة على سبيل التبع لأن مستقره متحرك لكن تلك الحركة لا اثر لها في صلاته فانه لا فرق بين الجلوس في السفينة و الجلوس

على الارض
و اما الصلاة على العجلة فقال ابن عقيل لا تصح الصلاة على العجلة قال و هي خشبة على بكر تسير على تلك البكر لأن ذلك ليس بمكان مستقر عليه فاشبه الارجوحة و عد غيره من اصحابنا الصلاة فيها كالصلاة في السفينة تصح في ظاهر المذهب و هذا اجود

فصل
فاما المعذور فمن لم يمكنه الخروج من السفينة اما لبعده عن الساحل أو لخوفه من عدو أو نحو ذلك فانه يصلي فيها على حسب حاله فان امكنه القيام و الاستقبال لزمه ذلك سواء كانت سائرة أو واقفة لما روى ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف اصلي في السفينة قال صل فيها قائما الا ان تخاف الغرق رواه الدارقطني و الحاكم في صحيحه و لأن اركان الصلاة يجب فعلها مع القدرة عليها لما نذكره ان شاء الله من ادلة وجوبها
و إذا دارت السفينة فقال ابن أبي موسى و غيره يستقبل القبلة في الفرض و يدور اليها كلما دارت السفينة و يعذر في النفل ان لا يدور إلى

القبلة إذا دارت السفينة و هذا يشبه الراكب في العمارية و المحمل و نحوهما
و في وجوب الاستدارة عليه في النفل إذا امكنه وجهان
و ان لم يمكنه القيام في السفينة بان يخاف الغرق أو يهيج به الموج فيمرض و نحو ذلك لصغرها و سيرها أو تكون مسقوفة و لا يمكنه الصعود إلى الطبقة العليا أو يخاف ان يراه عدو يؤذيه و نحو ذلك صلى جالسا و سجد على ما فيها من الاحمال و الثياب و الامتعة و غيرها ان امكنه و لا بد من استعلاء عجيزته على رأسه مع القدرة فان عجز اوما ايماء
فان امكنهم ان يصلوا قياما فرادى واحد بعد واحد و لم يمكنهم ان يصلوا جميعا الا بجلوس بعضهم فقال جماعة من اصحابنا يصلون وحدانا مع اتساع الوقت و لا يسقط القيام هنا للجماعة بخلاف المريض الذي لا يمكنه القيام في الجماعة و يمكنه في الانفراد فانه يصلي في الجماعة ان شاء لأن حكم العجز لا يثبت لغير معين و لهذا قلنا في العراة انهم يصلون في الثوب واحد بعد واحد و على هذا فاذا خافوا خروج الوقت بالصلاة قياما صلى بعضهم قاعدا كما في العراة و قال ابن أبي موسى لم يختلف قوله أنه ان قدر جميعهم على القيام جاز ان يصلوا جماعة في السفينة فان عجزوا عن القيام فهل يصلون جماعة ام لا على

روايتين اجاز ذلك في احداهما و منع منه في الاخرى و اختياري ان ذلك جائز
و قال غيره ان امكن ان يقوم بعضهم دون بعض صلى من امكنه القيام ثم قعدوا أو صلى الاخرون و ان ضاق بهم الوقت صلى كل واحد بحسب امكانه
و ان عجزوا عن القيام فهل يصلون جماعة على روايتين
و ظاهر ما اختاره ابن أبي موسى من الروايتين هو قياس المذهب و هو ان يصلوا جماعة مع قعودهم أو قعود بعضهم ثم ان كان موضع القيام واحدا قام فيه الامام و ان كان اكثر من واحد صلوا على المقاعد التي كانوا عليها قبل الصلاة لأن من اصلنا جواز القعود خلف الامام إذا صلى قاعدا لأن فضل الجماعة اسقط القيام و كذلك المريض له ان يصلي جماعة مع قعوده و ان امكنه الصلاة وحده قائما و لأن الجماعة مع الخوف فيها مما يفسد الصلاة في الجملة اعظم من ترك القيام ثم احتمل ذلك لاجل الجماعة و من تأمل الشريعة علم ان الشارع يحافظ على صلاة الجماعة كيفما امكن و لا يبالي ما فات في ضمن الجماعة و لأن من أصلنا أن الجماعة واجبة والقيام واجب أيضا لكن القيام ركن خفيف يسقط في النوافل مطلقا و يسقط في الفرائض في مواضع و اما الجماعة فلم نجد الشارع اسقطها إذا امكنت من غير ضرر قط

فصل
واما العذر في الراحلة فثلاثة اسباب الخوف و الوحل و المرض
فاما الخوف فمثل الذي يخاف في نزوله من عدو أو من انقطاعه عن الرفقة الذين لا يحتبسون له أو لا يمكنه النزول لكونه على مركوب لا ينزله عنه الا انسان و ليس هناك من ينزله عنه أو يمكنه النزول و لا يمكنه الصعود و لا يقدر على المشي أو يخاف انفلات الدابة بنزوله و نحو ذلك مما يخاف في نزوله ضررا في نفسه أو ماله فانه يصلي على حسب حاله كما يصلي الخائف من العدو على ما سنذكره ان شاء الله تعالى لعموم قوله سبحانه فان خفتم فرجالا أو ركبانا
و في حديث ابن عمر فان كان خوف أشد من ذلك صلوا ركبانا و رجالا مستقبلي القبلة و غير مستقبليها لا سيما إذا قلنا ان طالب العدو يصلي على الدابة إذا خاف من فوته فان ما يخافه في هذه المواضع قد يكون أشد ضررا مما يخافه من فوت العدو يخاف في النزول ضررا فجاز أن يصلي على الدابة كالخائف نم العدو و لأن القيام و الاستقبال من اخف فروض الصلاة يسقطان في التطوع فاذا كانت الطهارة و السترة تسقط بمثل هذا الخوف فسقوط القيام و التوجه اولى هكذا ذكر طائفة من اصحابنا

و قال ابن أبي موسى لم يختلف قوله ان التوجه إلى القبلة في المكتوبة في سائر الاحوال من شرط صحة الصلاة الا في حال المسايفة خاصة
السبب الثاني الوحل فاذا خاف التأذي في بدنه او ثيابه بالوحل و المطر و الثلج بان لا يمكنه بسط شيء عليه اما لكثرته و اذاه للبسط أو لعدم البسط و لا يمكنه الوقوف عليه الا بضرر فانه يصلي على الراحلة بان يستقبل القبلة و يقف ان كان مسيره إلى غير قبلة
و ان كان جهة مسيره إلى القبلة فقال اصحابنا يصلي في حال سير الدابة كما يصلي في السفينة هذه احدى الروايتين
و عنه يلزمه النزول إلى الارض و السجود على متن الطين نقلها حنبل
و كذلك الروايتان فيمن كان في ماء أو طين فعلى الرواية الاولى يومىء إلى الحد الذي لو زاد عليه تلوث و هذه الرواية اختيار الخرقي و اكثر اصحابنا
و على الرواية الاخرى يسجد على متن الماء أو الطين و هو اختيار أبي بكر

و قال ابن أبي موسى اختلف قوله في الغريق يصلي في الماء و الطين على روايتين قال في احداهما يومىء بالركوع و السجود
و قال في الاخرى يسجد على متن الماء
و القائم في الماء و الطين العاجز عن الخروج عنه يصلي و يومىء في الركوع و السجود في ماء قولا واحدا و فرق بين الماء و الطين و هو فرق حسن فان قلنا يجب النزول و يجب السجود على الطين فلما روى أبو سعيد قال رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في الماء و الطين حتى رأيت اثر الطين في جبهته
و عن عطاء قال سالت عائشة هل رخص للنساء ان يصلين على الدواب قالت ما رخص لهن في شدة و لا رخاء رواه أبو داود
و وجه الاول ما روى يعلى ابن امية ان النبي صلى الله عليه و سلم انتهى إلى مضيق هو و اصحابه و هو على راحلته و السماء من فوقهم و البلة من اسفل منهم فحضرت الصلاة فامر المؤذن فاذن و اقام ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم على راحلته فصلى بهم يومئ ايماء يجعل السجود اخفض من الركوع رواه احمد و الترمذي و عن انس بن مالك أنه صلى بهم المكتوبة على

دابته و الارض طين ذكره احمد و غيره و قد رواه الدارقطني مرفوعا الا أنه قال المحفوظ عن انس فعله غير مرفوع و لم ينقل عن صحابي خلافه
السبب الثالث المرض فعنه أنه ليس بعذر في الصلاة على الراحلة نص عليه مفرقا بينه و بين الوحل لأن ابن عمر رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يوتر على راحلته و يسبح عليها و لا يصلي عليها المكتوبة متفق عليه
و كان ابن عمر ينزل مرضاه فيصلون بالارض ذكره احمد فعلم أنه فهم من فعل النبي صلى الله عليه و سلم استواء الصحيح و المريض في هذا الحكم و لأن المريض لا ضرر عليه في صلاته بالارض بل ذلك اهون عليه من صلاته على الدابة و إنما قد يشق عليه حركة النزول فقط و هذا يعارضه حركة هز الدابة
و عنه ان المريض يصلي على الدابة لأن المشقة عليه في نزوله اعظم من مشقة التلوث بالطين ثم من اصحابنا من اطلق الروايتين و على هذه الطريقة فقد اختار جدي رحمه الله ان تضرر بنزول أو لم يكن له من ينزله فانه يصلي على الدابة و ان لم يتضرر فهو كالصحيح
و من اصحابنا من جوز ذلك فقال ان كان النزول يزيد في مرضه أو لا

يقدر على الركوب إذا نزل أو لا يجد من ينزله جازت صلاته على الراحلة رواية واحدة و ان لم يكن عليه مشقة في النزول وجب عليه النزول رواية واحدة و ان شق عليه النزول من غير زيادة في المرض فهو على الروايتين و هذه الطريقة اصوب و الله اعلم

مسالة الشرط الخامس استقبال القبلة الا في النافلة على الراحلة للمسافر فانه يصلي حيث كان وجهه و العاجز عن الاستقبال لخوف أو غيره فانه يصلي كيف ما امكنه و من عداهما لا تصح صلاته الا مستقبل الكعبة
الكلام في فصلين
احدهما ان استقبال الكعبة البيت الحرام شرط لجواز الصلاة و صحتها و هذا مما اجمعت الامة عليه
و الاصل فيه قوله سبحانه و تعالى سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها إلى قوله فول وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره الآيات و استدل بعض اصحابنا من القران على ذلك بقوله ايضا جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و قوله تعالى و اتخذوا من مقام ابراهيم مصلى
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم و المسلمون يصلون إلى بيت المقدس و كان صلى الله عليه و سلم يجعل الكعبة بينه و بينها محبة منه لقبلة ابراهيم فلما هاجر صلوا إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا و بعض اخر ثم حولت القبلة إلى الكعبة فعن

ابن عمر رضي الله عنهما قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح اذ جاءهم ات فقال ان النبي صلى الله عليه و سلم قد انزل عليه الليلة قران و قد امر ان يستقبل القبلة فاستقبلوها و كانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة
و الاحاديث في ذلك مشهورة متواترة و قال صلى الله عليه و سلم للاعرابي المسيء في صلاته إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر متفق عليه و عن انس بن مالك قال قال رسول اله صلى الله عليه و سلم من صلى صلاتنا و استقبل قبلتنا و اكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ذمة الله و رسوله فلا تخفروا الله في ذمته رواه البخاري

الفصل الثاني
ان استقبال القبلة يسقط مع العلم بجهتها في موضعين
احدهما إذا عجز عن استقبالها لخوفه ان استقبلها من عدو أو سيل أو سبع بان يهرب من العدو المباح هربه منه
أو يسايفه العدو الذي يباح له ان يسايفه
واما ان يكون مربوطا إلى غير القبلة
أو يكون بين حائطين و لا يمكنه الاستدارة إلى القبلة

واما بان يكون مريضا لا يجد من يديره فانه في هذه الحال لا يتعين عليه استقبال جهة الكعبة بل أي جهة قدر على الصلاة اليها فهي قبلته لأن في حديث ابن عمر فان كان خوف و أشد من ذلك صلوا قياما على اقدامهم أو ركبائهم مستقبلي القبلة و غير مستقبليها قال نافع لا ارى عبد الله ابن عمر ذكر ذلك الا عن النبي صلى الله عليه و سلم هكذا رواه البخاري و رواه ابن ماجة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم من غير تردد و لأن عبد الله بن انيس لما بعثه النبي صلى الله عليه و سلم لقتل خالد بن سفيان الهذلي صلى ماشيا بالايماء إلى غير الكعببة و هذا لأن الله سبحانه و تعالى يقول و لله المشرق و المغرب فاينما تولوا فثم وجه الله و هذه الاية تعم جميع المصلين لكن نسخ منها أو خص منها القادر فيبقى حكمها في العاجز كما جاء في الحديث و لأن الله لا يكلف نفسا الا وسعها فاذا تضرر باستقبال القبلة الكعبة كان ان يصلي إلى جهة اخرى اولى من تفويت الصلاة
فان قيل فهلا اوجبتم الاعادة على المربط و نحوه لانه ترك الشرط لعذر نادر غير متصل كمن صلى بلا ماء و لا رتاب و كالعاجز عن إزالة النجاسة
قلنا قد قال ابن أبي موسى من كان مصلوبا على خشبة مستدبر

القبلة أو محبوستا في موضع نجس لا يجد وضوءا و لا يقدر على التيمم صلى على حاله يومىء ايماء و يعيد إذا قدر على الوضوء في احدى الروايتين فقد جعلهما سواء
و اما غيره فلم يوجب الاعادة بحال اما على احدى الروايتين فان جميع الشرائط تسقط بالعجز من غير اعادة و اما على الرواية الاخرى فان القبلة اشبه بالسترة منها بالطهارة و لهذا فرق فيها بين الفرض و النفل كما فرق في السترة عندنا فاذا سقطت السترة فالقبلة الاولى لانها اخف فان سائر الجهات عوض عن جهة الكعبة عند العجز عنها بدليل قوله تعالى فاينما تولوا فثم وجه الله و الشرط إذا كان له بدل لم تجب الإعادة بالعجز عنه كالوضوء ولأن الطهارة اوكد الشروط و استقبال الكعبة اخف الشروط لهذا سقطت في النافلة على الراحلة فصارت بمنزلة القيام في الاركان فلا يصح الحاق احدهما بالاخر
الموضع الثاني في صلاة النافلة في السفر و هو مجمع عليه لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسبح على راحلته قبل أي وجه توجه و يوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة متفق عليه و عن ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي على راحلته تطوعا اينما توجهت به و هو جآي من مكة إلى المدينة و قرا ابن عمر هذه الاية و لله المشرق و المغرب فاينما تولوا فثم وجه الله و قال ابن عمر في هذا انزلت هذه

الاية رواه احمد و مسلم و النسائي و الترمذي صححه
و عن عامر بن ربيعة قال رايت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو على راحلته يسبح يومىء برأسه قبل أي وجه توجه و لم يكن يصنع ذلك في الصلاة المكتوبة متفق عليه و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه و سلم كان يصلي على راحلته تطوعا حيث توجهت به في السفر فاذا اراد ان يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة رواه أحمد والبخاري وهذا في الحقيقة يعود إلى المعنى الأول لأن المسافر اكثر اوقاته سائر و إذا كان سائراا لا يمكنه التنفل إلى جهة قصده أو ان يبطل سفره و في ابطال السفر ضرر عليه فصار عاجزا عن النافلة الا على هذا الوجه بخلاف المكتوبة فان زمنها يسير و لا فرق في ذلك بين السفر الطويل و القصير لأن احتياج الانسان إلى التطوع في السفر القصسير كالحتياجه اليه في الطويل
فاما الراكب السائر في المصر فلا يجوز ذلك في المشهور عنه
و عنه يجوز له ذلك كما يجوز له في السفر
و وجه الاول ان ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا هو في معنى المنقول

عنه لأن المسافر لو لم يجز له التطوع لافضى إلى ترك التنفل فان اغلب اوقاته يكون سائرا بخلاف المقيم في الحضر فان اغلب اوقاته المكث فلا يفضي منعه إلى تعطيل التطوع في حقه

فصل
و يجوز التنفل على الدابة سواء كانت بعيرا أو فرسا أو بغلا أو حجمارا أو فيلا أو غير ذلك من المراكب و سواء كان طاهرا أو نجسا إذا كان ما يلاقي المصلي طاهرا هذه احدى الطريقتين لاصحابنا
و منهم من قال إذا كانت الدابة نجسة نجاسة عينية أو عارضة خرج فيه الروايتيان فيمن فرش طاهرا على نجس لانه كذلك
و من فرق بينهما قال ابدان الدواب غالبا لا تسلم من نجاسة لا سيما و البغل و الحمار إذا قلنا هما نجسان فان الحاجة ماسة إلى ركوبهما فعفي عن ذلك للحاجة و قد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم انه كان يصلي على حماره و قد تقدم ذلك فلا وجه لخلاف السنة و لا يجوز ان يجعل في هذه الصور خلاف في المذهب لكن يكون من اشترط الطهارة يقول بطهارة الحمار أو يفرق بين الدواب و غيرها أو يفرق بين الفرش على نجاسة رطبة أو يابسة و اما مخالفة عين ما جاءت به السنة فلا يحل بوجه من الوجوه و لذلك لم

يختلف نص احمد في جواز التطوع على الحمار و البعير و غيرها
فصل
و هل يجوز التطوع إلى غير القبلة للماشي حيث يجوز للراكب على روايتين
احداهما لا يجوز و هو مقتضى ما ذكره الخرقي و الشيخ المصنف و غيرهما لان ذلك لم ينقل عن النبي الا في حال الركوب و ليس الماشي كالراكب لأن الماشي متحرك بنفسه فهو يعمل في الصلاة عملا كثيرا و ذلك مبطل للصلاة الا إذا كان لضروروة مثل صلاة الخوف و لا ضرورة هنا و لأن اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ما زالوا يسافرون مشاة و النبي صلى الله عليه و سلم قد كان احيانا يتعقب هو و بعض اصحابه على بعير واحد و مع ذلك لم ينقل انهم صلوا مشاة
و الثانية يجوز اختارها القاضي و أبو الخطاب وكثير من أصحابنا و ذكره عن احمد عن عطاء لعموم قوله تعالى فاينما تولوا فثم وجه الله و قد ذكر ابن عمر انها نزلت في التطوع في السفر لأن راكبها لا اثر له كما سياتي و ذلك المعنى الذي ابيح للراكب الذي يصلي لاجله موجود في

الماشي لانه مسافر سائر فاما ان يترك التطوع حال سيره أو يترك الاستقبال فقط و كونه يعمل عملا كثيرا يقابله ان الراكب ليس على مكان مستقر فإن كليهما مبطل و يقابله ان الراكب بمنزلة الجالس و الماشي قائم و القائم صلاته افضل من صلاة القاعد
و يجوز ان يصلي ماشيا طالبا للعدو في المكتوبة كما فعل عبد الله بن انيس رضي الله عنه فكذلك في النافلة في عموم السفر

فصل
و يلزم الماشي ان يستقبل الكعبة حين الافتتاح و هو واقف ثم يسير إلى جهة قصده فاذا اراد ان يركع و يسجد ففيه وجهان
احدهما يلزمه ان يقف و يركع و يسجد إلى الكعبة و يسجد بالارض قاله القاضي و غيره لأن ذلك متيسر عليه فاشبه الافتتاح
و الثاني له ان يركع و يسجد موميا ماشيا إلى جهة قصده كما في القيام قاله الامدي و غيره و هو الاظهر لأن الركوع و السجود و ما بينهما مكرر في ركعة ففي الوقوقف له و فعله بالارض قطع لسيره فاشبه الوقوف حالة القيام

و اما الراكب فان كان يشق عليه استقبال القبلة حين الاستفتاح مثل ان تكون دابته مقطورة بغيرها و يشق عليه ان يستدبر أو تكون الدابة مستعصية يشق ادارتها إلى الكعبة لم يجب عليه في المشهور في المذهب
و قد قيل أنه يجب عليه ذلك
فاما ان تعذر ذلك عليه فلا ينبغي ان يكون فيه خلاف
و ان تيسر ذلك عليه وجب عليه في احدى الروايتين المنصوصتين
و في الاخرى لا يجب كسائر اجزاء الصلاة لكن يستحب و هذا قول أبي بكر و ابن أبي موسى
وجه الاول و هو اختيار اكثر اصحابنا ما روى انس بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا سافر فاراد ان يتطزع استقبل القبلة بناقته فكبر ثم صلى حيث كان وجه ركابه رواه احمد و أبو داود و مدار تطوع الراكب على فعله صلى الله عليه و سلم فاذا كان إنما كان يفتتح الصلاة مستقبلا للكعبة و جب اتباعه في ذلك و حديث انس قد فسر فعله و سائر الاحاديث لم يتعرض لذلك بنفي و لا اثبات و لانه قد تيسر عليه الاستقبال حيث الافتتاح فاشبه الماشي
و ايضا فان الاستقبال شرط من شروط الصلاة فمتى اتى به في اوله جاز ان يستصحب حكمه إلى اخرها إذا شق استصحاب حقيقته كالنية و إذا

استفتح الصلاة إلى القبلة ثم الصلاة إلى جهة مسيره فان كان سيره يختلف فينحرف فيه تارة إلى جهة ثم ينحرف عنها إلى جهة اخرى كان على صلاته لأن قبلته جهة سيره فأيهما و لى سيره اليه فذاك قبلته هكذا ذكره القاضي و غيره من اصحابنا و على هذا فلا فرق بين راكب التعاسيف و غيره
ومن اصحابنا من قال لا تباح الصلاة لراكب التعاسيف لانه ليس له صوب معين
و إذا عدل راحلته عن جهة سيره فان كان إلى جهة القبلة لم تبطل صلاته لانها القبلة الاصلية
و ان عدل إلى غيرها فقال اصحابنا تبطل صلاته سواء عدلها هو أو عدلت هي فلم يرددها مع قدرته على ذلك لأن جهة سيره هي قبلته و قد تركها عمدا
وان عدلت لغفلته أو نومه أو عجز عن ضبطها أو عدلها ظنا انها جهة سيره لم تبطل صلاته سواء تمادى بهخ به أولم يتماد به الا ان يتمادى به بعد زوال العذر و لا يرددها فانه تبطل صلاته هذا اشهر الوجهين و لانه معذور في ذلك قال القاضي و غيره و يسجد للسهو ان تمادى به لانه ادخل في الصلاة ما ليس منها
و في الاخر ان تمادى به ذلك بطلت صلاته بكل حال لانه عمل كثير في الصلاة لغير ضرورة

فصل
و إذا امكنه السجود على ظهر الدابة بان يكون في محمل و غيره لزمه لانه ركن مقدور عليه فان تعسر ذلك عليه أو اذى الدابة اوما و جعل ايماءه بالسجود اخفض من ايمائه بالركوع و قد نص احمد على ذلك
و عنه ما يدل على ان السجود في المحمل و نحوه مستحب و ليس بواجب
و قال ابن أبي موسى ان كان في محمل و قدر على الركوع و السجود بحيث لا يشق على البعير ركع و سجد و لم يجزه الايماء و ان كان ذلك يشق على البعير اوما في الاظهر من قوله و انما جاز الايماء لما تقدم من حديث عامر بن ربيعة ان النبي صلى الله عليه و سلم كان يومىء برأسه قبل أي وجهة توجه و عن جابر رضي الله عنه قال رايت النبي صلى الله عليه و سلم يصلي و هو على راحلته النوافل في كل جهة و لكن يخفض السجود من الركعة و يومىء ايماء رواه احمد و أبو داود و الترمذي و صححه
و ان امكن الراكب الاستقبال في جميع الصلاة كالراكب في المحفة

الواسعة و العمارية لزمه الاستقبال و ان استدبر جهة سيره نص عليه ا ل مشقة عليه في ذلك على ما تقدم لانه ركن يقدر عليه فلزمه فعله كالمصلي في السفينة فانه يجب عليه ان يستقبل القبلة إذا امكنه ثم ان قدر على الركوع و السجود لزمه و الا اوما
و عنه ما يدل على ان ذلك مستحب و ليس بواجب
و قال ابن أبي موسى في راكب السفينة يستقبل القبلة في الفرض و يدور اليها كلما دارت السفينة و يعذر في النفل ان لا يدور إلى القبلة إذا دارت السفينة فاذا لم يلزمه الاستدارة إلى القبلة في السفينة فعلى الراحلة اولى و ان شق ذلك على البعير فهو كما لو شق عليه السجود على ظهر الدابة على ما تقدم من الروايتين

فصل
و متى عزم على الاقامة في اثناء صلاته أو صار مقيما بحصوله في وطنه وجب عليه اتمام صلاة مقيم بأن ينزل و يستقبل فان اجتاز بمدينة و لم يصر مقيما فله التطوع ما دام سائرا فمتى وصل إلى منزله الذي يريد نزوله نزل و اتم الصلاة على الارض مستقبلا لأن الصلاة على الراحلة إلى غير القبلة إنما تجوز ما دام مسافرا سائرا

فأما المسافر الراكب الذي ليس بسائر و هو الواقف على الدابة فهذا تجوز له الصلاة عليها لكن عليه استقبال القبلة في جميع صلاته هكذا ذكره القاضي الآمدي و غيرهما من اصحابنا لانه محتاج الى التطوع عليها لأن ركوبه عليها مظنة حاجته اليه و ليس بمحتاج إلى الاعراض عن جهة القبلة فيلزمه استقبالها و متى لم يمكنه ان يديرها صلى كيف كان و متى وقفت به الدابة في اثناء سيره لزمه ان يلوي بالزمام أو اللجام إلى جهة القبلة ان امكنه
قال الامدي و من اصحابنا من قال لا يجوز التطوع على الراحلة إلا للسائر فاما الواقف فلا
و ان كان يصلي نازلا إلى القبلة ثم عرض له السفر فهل يجوز ان يركب و يتم صلاة مسافر على وجهين ذكرهما الامدي و غيره
احدهما يجوز و هو قول القاضي لانه بمنزلة الامن إذا خاف
و الثاني لا يجوز و هو اظهر لانه يمكنه ان يتم الصلاة بالارض من غير مشقة بخلاف الخائف فانه مضطر إلى الركوب
فصل
و لا فرق في هذا بين جميع النوافل من الرواتب و ركعتي الفجر و الوتر و غير ذلك نص عليه في مواضع و قد توقف في موضع عن ركعتي الفجر

قال ابن أبي موسى اختلف قوله في المسافر هل يصلي ركعتي الفجر على الظهر ام لا على روايتين
اظهرهما ان ذلك جائز قال و له ان يوتر على الراحلة قولا واحدا
و وجه الفرق أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يصليهما إلا بالارض و لانه يتوكد فعلهما في السفر و يفعلان تبعا للفرض فينزل لهما بالنزول له و يفعلان معه على وجه الارض و بهذا يظهر الفرق بينهما و بين سائر التطوعات لانها اما ان لا تتوكد في السفر كسنة الظهر و المغرب أو تفعل منفردة كالوتر
و الصحيح التسوية بين الجميع لعموم المعنى لذلك فانها من جملة التطوع و يجوز ان يصليهما قاعدا فكذلك على الراحلة

مسألة فان كان قريبا منها لزمته الصلاة إلى عينها و ان كان بعيدا فالى جهتها
و جملة ذلك ان الناس في القبلة على قسمين
احدهما من يمكنه استقبال عين الكعبة و ذلك على ثلاثة اوجه
احدها ان يكون بحيث يراها مثل أن يكون داخل المسجد أو خارجا عنه و هو ينظرها فعليه ان يستقبلها بجميع بدنه حتى لا يخرج شيء منه عنها و ان خرج شيء منه عنها لم تصح صلاته نص عليه
الثاني ان يعلم ذلك لكونه من اهل البلد وقد نشأ فيه سواء كان بينه وبينها حوائل حادثة أو لم يكن فإنه من طال مقامه بمكان نم مكة علم أين تكون القبلة منه الثالث أن يخبره بذلك ثقة من أهل البلد لكونه غريبا أو بينه و بينها حائل و على الحائل من يخبره بذلك فإن الإخبار بالأخبار كالإخبار بدخول الوقت عن علم فإن هذا الخبر لا يدخله الخطا و جواز الكذب من الثقة غير ملتفت اليه في مثل هذا
قال اصحابنا و حكم من كان بمدينة النبي صلى الله عليه و سلم حكم من كان بمكة

لأن قبلته متيقنة الصحة لانه لا يقر على الخطا
القسم الثاني البعيد فهذا فرضه الاستدلال و الاجتهاد لكن هل الواجب عليه طلب العين أو طلب الجهة على روايتين
احداهما ان فرضه طلب العين فمتى غلب على ظنه أنه مستقبل العين اجزاه ذلك و ان تبين له أنه اخطأها فيما بعد ذلك أو انحرف عنها انحرافا يسيرا و هذا اختيار أبي الخطاب لأن الله سبحانه و تعالى قال و طهر بيتي للطائفين و القائمين و قال جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و قد روى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه و سلم دخل البيت ثم خرج فركع ركعتين في قبل الكعبة و قال هذه القبلة متفق عليه و في حديث اخر أنه عد الكبائر وذكر منها استحلال الكعبة البيت الحرام قبلتكم احياء و امواتا و إذا كان نفس الكعبة هي القبلة فيجب عليه ان يستدل على قبلته بحسب الامكان و لا يكفيه مجرد التوجه إلى جهتها لأن المستقبل لجهتها قد لا يكون مستقبلا لها و لانه مخاطب باستقبال الكعبة فوجب عليه ان يقصد عينها حسب الطاقة كالقريب و ذلك لانهما لا يفترقان في

فرض استقبال الكعبة و إنما يفترقان في أن ذلك متيقن للصواب على التحديد و هذا مجتهد في الاصابة على التقريب
و لأن المسافر يلزمه حين اشتباه الجهات تحري جهة الكعبة فكذلك العالم بجهة الكعبة يلزمه تحري جهة سمت الكعبة حسب الطاقه و ان كان على وجه التقريب والتخمين و على هذه الوراية متى تيامن أو تياسر عن صوب اجتهاده لم تصح صلاته لانه يغلب على ظنه أنه منحرف عن قبلته فاشبه القريب بخلاف ما إذا توسط الجهة و تحرى نفس البيت
و الرواية الثانية ما ذكره الشيخ رحمه الله ان فرضه اصابة الجهة فلو تيامن أو تياسر شيئا يسيرا و لم يخرج عن الجهة جاز و اكثر الروآيات عن احمد تدل على هذا و لهذا انكر وجوب الاستدلال بالجدي و قال إنما الحديث ما بين المشرق و المغرب و هذا اختيار الخرقي و جماهير اصحابنا لأن الله سبحانه قال فول وجهك شطر المسجد الحرام و المسجد الحرام اسم للحرم كله و شطره نحوه و اتجاهه فعلم ان الواجب تولية الوجه إلى نحو الحرم و النحو هو الجهة بعينها ثم قال بعد ذلك و لكل وجهة هو موليها و الوجهة الجهة فعلم ان الواجب تولي جهة المسجد الحرام و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول

الله صلى الله عليه و سلم ما بين المشرق و المغرب قبلة رواه ابن ماجة و الترمذي و قال حديث صحيح و روي ذلك من حديث أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه و سلم و روي ايضا مسندا من حديث ابن عمر و غيره و قال صلى الله عليه و سلم لا تستقبلوا القبلة بغائط و لا بول و لا تستدبروها و لكن شرقوا أو غربوا
و هذا بيان لأن ما سوى التشريق و التغريب استقبال للقبلة أو استدبار لها و هذا خطاب لاهل المدينة و من كان على سمتهم و قريبا من سمتهم اهل الشام و العراق و اليمن و نحوهم دون من كانت إلى الركن الاسود أو الركن الغربي و ما يقرب منهما من اهل المشرق و المغرب الذين مساكنهم بين شام الارض و يمنها على مسامتة مكة و ما يقارب ذلك و لأن ذلك اجماع الصحابة رضي الله عنهم قال عمر ما بين المشرق و المغرب قبلة كله الا عند البيت رواه أبو حفص و ذكره احمد و قال ما بين المشرق و المغرب قبلة الا عند البيت فهذا لا يكون ثم لأنه يأتم بالبيت كيف دار و ان صلى قريبا من الركن فزال عن الركن قليلا ترك القبلة فمكة غير

البلدان و في رواية إذا توجهت قبل البيت وروى الاثرم عن عمر و علي و ابن عباس انهم قالوا ما بين المشرق و المغرب قبلة و عن عثمان أنه قال كيف يخطي الرجل الصلاة و ما بين المشرق و المغرب قبلة ما لم يتحر المشرق عمدا و روى أبو حفص عن ابن عمر قال إذا جعلت المغرب عن يمينك و المشرق عن يسارك فما بينهما قبلة لاهل المشرق يعني به اهل العراق و نحوهم
و روى أبو حفص عن المطلب بن حنطب ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما بين المشرق و المغرب قبلة إذا وجهت وجهك نحو البيت الحرام يعني و الله اعلم إذا وجهت وجهك قبله و تجاهه و ذلك يحصل باستقبال جهته كما في قوله تعالى فولوا وجوهكم شطره أي نحوه و تلقاءه و اراد ان يبين صلى الله عليه و سلم أنه لا بد من قصد جهتها و ايضا فانهم اجمعوا على صحة صلاة الصف المستطيل الزائد طوله على سمة الكعبة مع استقامته بل على صحة صلاة اهل البلد الذي فيه مساجد كثيرة تصلى كلها إلى جهة واحدة مع انها يمتنع ان تكون قبلتها على خط مستقيم و هي كلها

على سمت عين الكعبة
فان قيل مع البعد تحصل المواجهة و المحاذاة لكل واحد مع كثرة المحاذين و طول صفهم لأن المحاذي مع البعد و ان احتاج إلى تقوس و انحناء فهو مع البعد شيء يسير لا يظبط مثله
قلنا لو كان المفروض محاذاة نفس العين لوجب مراعاة ذلك الشيء اليسير من الانحناء مع القدرة و ان لا يتعمد تركه كما في القريب فمتى سلم جواز تعمد تركه فلا يعني باستقبال جهة الكعبة الا ذلك فيرتفع الخلاف و هذا المعنى هو الفارق بين القريب و البعيد فان البعد إذا طال يكون المستقبل للجهة و العين متقاربين جدا حتى لا يكاد يميز بينهما و مثل هذا يعفى عنه كما عفونا عن سائر الشرائط عما يشق مراعاته مثل يسير النجاسة و يسير العورة و التقدم اليسير بالنية و شبه ذلك فان الدين ايسر من تكلف هذا
و قد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجهين فيهما أنه قال البيت قبلة لاهل المسجد و المسجد قبلة لاهل الحرم و الحرم قبلة لاهل الارض في مشارقها و مغاربها من أمتي

مسألة و ان خفيت القبلة في الحضر سأل و استدل بمحاريب المسلمين فان اخطا فعليه الاعادة و ان خفيت في السفر اجتهد و صلى و لا اعادة عليه و ان اخطا
اما الاستدلال بمحاريب المسلمين فلان أهل الخبرة و العلم بجهة الكعبة نصبوها على ذلك و ليس فيها خطا و ان فرض فهو شيء يسير لا يجب مراعاته مع قولنا باستقبال الجهة
و إذا قلنا يجب استقبال العين فإنه يعفى عن الخطا اليسير مع الجهل
و كذلك إذا اخبره مخبر ثقة بجهة القبلة عن علم فانه يقبل خبره و ذلك لأن الاخبار عن جهة القبلة و نصب المحراب اليها ليس هو من باب الاجتهاد حتى يكون الرجوع إلى المخبر و الثاني فيه الرجوع إلى تقليد مجتهد و إنما هو من باب الاخبار عن الأمور المعلومة لأن اهل الامصار يعلمون الجهات و لا يخفى ذلك على أحد اصحاء السماء و يعلمون ايضا مكة من جهاتهم فصار ذلك كالعلم بدخول الوقت و العلم بطلوع الشمس من بعض الجهات و الراجع إلى المخبر بذلك كالراجع إلى المخبر بدخول الوقت عن علم و بطلوع الشمس من جهة من الجهات
فان اخطا في الحضر بان تبين خطا المخبر أو كذبه أو فساد بناء المحراب أو غير ذلك فعليه الاعادة في المشهور من المذهب و قد نص عليه احمد فيمن هو في مدينة فتحرى فصلى لغير القبلة يعيد لأن عليه

ان يسأل و قال القاضي في خلافه ظاهر كلام احمد حكم المكي و حكم غيره سواء في أنه لا يجب عليه الاعادة فانه قال في رواية صالح قد تحرى فجعل العلة في الاجزاء وجود التحري و هذا موجود في المكي و غيره و إذا كان هذا في المكي ففي المقيم بسائر الامصار اولى
و وجه المشهور أنه كان قادرا على اليقين فلم يعذر بالجهل و ان جاز له العمل بغالب الظن كمن افطر بخبر انسان عند غروب الشمس ثم تبين انها طالعة أو صلى بخبره عن دخول الوقت ثم تبين أنه لم يدخل و لقد كان القياس يقتضي انه لا يجوز له العمل بدليل تدخله الشبهة ولو على بعد مع الاقتدار على الاستيقان و إنما جاز لأن احتمال الخطا في ذلك نادر جدا لا يكاد يقع فجعل كالمعدوم فاذا تبين خطا الدليل لزمته الاعادة في الوقت إلى اخبار المخبر الواحد إذا امكنه العلم و هذا الباب مثله فعلى ذلك الوجه لا يرجع إلى اخبار واحد بالجهة مع قدرته على اليقين لكن العلم هنا بالجهة لا يمكن بالعيان لمن لم يسافر إلى مكة و يعلم اين هي من بلده و إنما يمكن بالسماع المتواتر و هو مثل العيان و لذلك جاز الرجوع إلى المحاريب

فصل
و اما إذا خفيت في السفر فانه يجتهد بالاستدلال عليها بالادلة المنصوبة و لا اعادة عليه و ان تبين له الخطا فيما بعد قال أبو بكر لا

يختلف قول أبي عبد الله رحمه الله في ذلك
و كذلك ان صلى بتقليد من فرضه ذلك ثم تبين أنه اخطا فلا اعادة عليه
و ذكر الامام أبو بكر الدنيوري صاحب أبي الخطاب ان بعض المتأخرين قال يجب عند الاشتباه ان يصلي اربع صلوات إلى الجهات الاربع و زعم أنه رواية عن احمد قال الدنيوري و هو قياس المذهب كما إذا كان معه ثياب طاهرة و نجسة قال الدنيوري و هذا صحيح فانه قادر على اداء فرضه بيقين من غير ضرر يلحقه في بدنه و ماله فيلزمه ذلك كما لو نسي صلاته من يوم لا يعلم عينها و ذلك لانه اشتبه الواجب بغيره فوجب فعل ما يتيقن به فعل الواجب و كما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها و كما لو اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة أو اشتبه الموضع الطاهر من ثوبه بالنجس
و هذا قول شاذ مسبوق الاجماع على خلافه و الصواب و المنصوص لأن الله سبحانه قال و لله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ان الله واسع عليم و هذه الاية تدل على جواز استقبال جميع الجهات نسخ ذلك في حق العالم القادر في صلاة الفرد فيبقى في حق الجاهل بالقبلة و العاجز عن استقبالها لخوف و نحوه في حق المتنفل في السفر لم

ينسخ و هذا لأن الاصل جواز استقبال الوجه إلى جميع الجهات لكن إذا لم يكن بد من الصلاة إلى واحدة منها عين الله سبحانه لنا استقبال احب الوجوه اليه و اوجب ذلك فاذا تعذر ذلك بالجهل و بالعجز سقط هذا الوجوب حينئذ لأن الايجاب حينئذ محال
و ايضا ما روى عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ابيه قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في السفر في ليلة مظلمة فلم يدر اين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله فلما اصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فنزل فأينما تولوا فثم وجه الله رواه ابن ماجة و الترمذي و قال حديث حسن ليس اسناده بذلك لا نعرفه الا من حديث اشعث السمان و اشعث يضعف في الحديث قلت و قد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن اشعث بن سعيد وعمر بن قيس عن عاصم بن عبيد الله و هو يقوي رواية اشعث و يزيل تفرده به

و قد روي هذا المتن من حديث جابر من حديث محمد بن سالم و محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء عن جابر قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسير فاصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على حدة و جعل احدنا يخط بين يديه لنعلم امكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فلم يامرنا بالاعادة و قال قد اجزات صلاتكم رواه الدارقطني و غيره و قال هما ضعيفان
و رواه الباغندي و الحسن بن علي المعمري و غيرهما عن احمد ابن عبيد الله بن الحسن العنبري قال وجدت في كتاب أبي ثنا عبد الملك ابن أبي سليمان العرزمي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية كنت فيها فاصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فقالت طائفة منا القبلة ههنا قبل الشمال فصلوا و خطوا خطا وقال بعضنا القبلة ها هنا قبل الجنوب و خطوا خطا فلما اصبحنا و طلعت الشمس اصبحت

تلك الخطوط لغير القبلة فقدمنا من سفرنا فاتينا النبي صلى الله عليه و سلم فسالناه عن ذلك فسكت و انزل الله عز و جل و لله المشرق و المغرب فاينما تولوا فثم وجه الله و هو اسناد مقارب
و بعض هذه الطرق مما يغلب على القلب ان الحديث له اصل و هو محفوظ فان المحدث إذا كان إنما يخاف عليه من سوء حفظه لا من جهة التهمة بالكذب فاذا عضده محدث اخر أو محدثان من جنسه قويت روايته حتى يكاد احيانا يعلم أنه قد حفظ ذلك الحديث لا سيما إذا جاء به محدث اخر عن صحابي اخر فان تطرق سوء الحفظ في مثل ذلك إلى جماعة بعيد لا يلتفت اليه الا ان يعارض حديثهم ما هو اصح منه و قد روى اصحاب التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج نفر من اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر و ذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فاصابهم الضباب و حضرت الصلاة فتحروا القبلة و صلوا فمنهم من صلى قبل المشرق و منهم من صلى قبل المغرب فلما ذهب الضباب استبان لهم انهم لم يصيبوا فلما قدموا سالوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فنزلت هذه الاية فهذا و ان لم يكن مما يحتج به منفردا فانه يشد تلك الروآيات و يقويها و قد استدل احمد بهذه الاية و تاولها على ذلك قال إذا تحرى القبلة ثم صلى فعلم بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة مضت فتأول بعض

قول اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فاينما تولوا فثم وجه الله
و قال في موضع اخر في الرجل يصلي لغير القبلة لا يعيد فاينما تولوا فثم وجه الله وهذا دليل على ان الصحابة تأولوها على حال التحري كما ذكرنا و يشبه و الله اعلم ان النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن معهم تلك الليلة و إنما كان قد سراهم سرية فلما اصبحوا لقوه و قد قفلوا من وجوههم ذلك هكذا تدل عليه الروآيات
فان قيل ففي حديث ابن عمر ان هذه الاية نزلت في صلاة التطوع في السفر
قلنا لا منافاة بين هذين فان الاية الجامعة العامة تنزل في اشياء كثيرة إما أن يراد به جميع تلك المعاني بإنزال واحد وإما أن يتعدد الإنزال إما بتعدد عرض النبي صلى الله عليه و سلم القران على جبريل عليه السلام أو غير ذلك و في كل مرة تنزل في شيء غير الاول لصلاح لفظها لذلك كله على ان قول الصحابة نزلت الآية في ذلك قد لا يعنون به سبب النزول و إنما يعنون به أنه اريد ذلك المعنى منها و قصد بها و هذا كثير في كلامهم و ايضا فان المصلي استقبل غير القبلة جاهلا بها جهلا يعذر به فلم تجب عليه الاعادة كاهل قباء فانهم لما بلغهم الخبر في اثناء الصلاة استداروا إلى جهة الكعبة و لم يستانفوا الصلاة إلى الكعبة و لم يامرهم النبي صلى الله عليه و سلم بالاعادة مع ان القبلة كانت قد حولت بعد دخولهم في الصلاة و لا فرق بين عدم العلم

بوجود الاستقبال لتجدد النسخ و عدم العلم بالجهة الواجبة إذا كان في كلا الأمرين معذورا و لا يكلف الله نفسا الا وسعها و هذه الدلالة اعتمدها احمد رضي الله عنه في غير موضع من مسائله
و قد ذكر عن عطاء و قتادة ان النجاشي كان يصلي إلى بيت المقدس إلى ان مات و قد مات بعد نسخ القبلة بسنين متعددة فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه و سلم بقي في انفس الناس لانه كان يصلي إلى غير الكعبة حتى انزل الله هذه الاية و هذا و الله اعلم بانه قد كان بلغه ان النبي صلى الله عليه و سلم يصلي إلى بيت المقدس فصلى اليه و لهذا لم يصل إلى المشرق الذي هو قبلة النصارى ثم لم يبلغه خبر النسخ لبعد البلاد فعذر بها كما عذر اهل قباء و غيرهم فان القبلة لما حولت لم يبلغ الخبر إلى من بمكة من المسلمين و من كان بارض الحبشة من المهاجرين مثل جعفر و اصحابه و من كان قد اسلم ممن هو بعيد عن المدينة إلى مدة طويلة أو قصيرة و لم يامر النبي صلى الله عليه و سلم احدا منهم باعادة ما صلاه إلى بيت المقدس قبل علمه بالناسخ و ما ذلك الا لانه معذور لعدم العلم و أنه كان متمسكا بشريعة فلما لم يبلغه نسخها لم يثبت في حقه حكم النسخ لأن الله لا يكلفه علم الغيب فكذلك من اجتهد و استفرغ وسعه أو عميت عليه الادلة لا يكلفه الله الا وسعه و لأن القبلة المعينة تسقط بالعجز حال المسايفة و كذلك بالجهل حال الاشتباه لأن كلاهما معذور في ذلك و لانه فعل ما امر به كما أمر به فلم تلزمه الاعادة كالمصلي إلى القبلة و ذلك ان السماء إذا اطبقت بالغيوم و هو

في صحراء من الارض قد عميت عليه سبل الادلة و انحسمت مسالك الاجتهاد فمن المحال ان يؤمر باستقبال جهة الكعبة
و لأن الطهارة ابلغ من الاستقبال و لو اجتهد في طلب الماء ثم تبين أنه كان مدفونا تحت الارض التي هو عليها لم تجب عليه الاعادة حيث لم يقصر في الطلب فالمجتهد في القبلة اولى و لهذا حيث اوجبنا الاعادة على من اخل ببعض الشرائط ناسيا أو جاهلا اوجبناها لانه في مظنة التقصير
فصل
و اما دلائل القبلة فقد جرد الناس التصنيف فيها من اهل الفقه و الحساب فانها تختلف باختلاف البلاد فاهل كل ناحية يخالف وجه استدلالهم وجه استدلال الناحية الاخرى و الاشتباه له سببان
احدهما ان لا تعرف الجهات لغيم السماء و نحو ذلك و لو علم الجهات لعلم اين مكة منه لعلمه بانها يماني بلده أو شامي بلده و نحو ذلك و هذا هو الاشتباه الذي يعرض كثيرا فمتى قدر هذا على معرفة جهة القبلة فقد اجزاته صلاته و ان قلنا ان الفرض تحري عينها مع القدرة لانه عاجز عن ذلك في هذه الحالة
الثاني ان يعلم الجهات لكن لا يدري اين مكة منه فهذا لا يكاد يشتبه عليه جهة القبلة و إنما يشتبه عليه عينها و صلاته ايضا مجزئة إلى الجهة إذا لم يمكنه اكثر من ذلك قولا واحدا و قد يقع هذا كثيرا لمن قرب

من مكة و هو سائر لا يعرف الارض إذا وقع في طرقات مشيه
و الادلة العامة ثلاثة اصناف سمائية و هوائية و ارضية كل منها مبني على مقدمتين
احداهما ان يعلم النسبة التي بين مكان الصلاة التي يريد معرفة قبلته و بين الكعبة ان قصدت الاستدلال على العين أو بينه و بين جهة الكعبة ان قصدت الاستدلال على الجهة
و الثانية ان يعلم النسبة التي بين الدليل أو بين الكعبة أو جهتها فاذا علمت هاتين المقدمتين علمت النسبة التي يجب ان يكون المصلي إلى ذلك الدليل
مثال ذلك إذا اردت الاستدلال على قبلة اهل الشام و العراق و ما بينهما من الجزيرة فقد علمت ان جهة الكعبة من هؤلاء الجهة اليمانية و اما العين فان اهل الشام يستقبلون ما بين الركن الشامي و الميزاب و أهل العراق يستقبلون ما بين الركن الشامي و الباب و اهل نجران و نحوهم يستقبلون نفس الركن الشامي والعلم بهذا و نحوه من مسامتات الارض بعضها بعضا تحريره لاهل الحساب
و المقدمة الثانية العلم بجهة المشرق و المغرب و هذا ظاهر و اما العين فان تعلم ان القطب يحاذي الركن الشامي ويواجهه وحينئذ تعلم أن الشامي إذا جعل القطب بين اذنه اليسرى و نقرة القفا فقد استقبل ما بين الركن الشامي و الميزاب و ان العراقي إذا جعل القطب بين اذنه اليمنى و نقرة القفا فقد استقبل قبلته
فاما دلائل السماء فمنها الشمس إذ هي اظهر و الاستدلال بها أيسر

فانها تطلع من المشرق و تغرب في المغرب فمن كانت قبلته الركن الذي يلي الحجر من ناحية المشرق و يسمى الركن الشامي و الركن الاخر الذي يلي الحجر الركن الغربي و يسميان جميعا الركنين الشاميين و قد يسمى الاول الركن العراقي و الثاني الركن الشامي و ركن الحجر الاسود الركن البصري و اما الركن الرابع فانه يسمى اليماني بلا اختلاف في العبارة و يسمى هو وركن الحجر الاسود الركنين اليمانيين فمن كانت قبلته هذا الركن الذي يسمى العراقي و الشامي و ما يليه من ناحية الباب و ما يليه من ناحية الحجر من اهل لمدينة والشام و الجزيرة و العراق و خراسان و ما وراء هذه البلاد إذا جعلوا المغرب عن ايمانهم و المشرق عن شمائلهم فقد استقبلوا جهة القبلة و في ذلك جاءت الاثار المتقدمة
قال أبو عبد الله رحمه الله بين المشرق و المغرب قبلة و لا يبالي مغرب الصيف و لا مغرب الشتاء إذا صلى بينهما فصلاته جائزة الا انا نستحب ان يستقبل القبلة و يجعل المغرب عن يمينه و المشرق عن يساره فيكون وسطا من ذلك و ان هو صلى فيما بينهما و كان إلى أحد الشقين اميل فصلاته جائزة إذا كان بين المشرق و المغرب و لم يخرج من بينهما
و منها القمر فانه يستدل بطلوعه في النصف الاخر من الشهر فانه يطلع من المشرق لا سيما اواخر الشهر فانه يطلع اخر الليل من المشرق و اما النصف الاول فانه يستدل بغروبه فانه يغرب في ناحية المغرب لا سيما ليالي الاهلال فانه يغرب و يطلع في المغرب و ليلة السابع يكون أول الليل

في وسط السماء بين المشرق و المغرب و ليلة احدى و عشرين يكون اخر الليل في وسط السماء
و يستدل ايضا باستواء الشمس وقت الزوال لمن يعرفه بزيادة الظل فانها تكون حينئذ بين المشرق و المغرب و الظل بعد يميل إلى جهة المشرق فمتى جعلها على رأسه أو تجاهه و الفيء عن يساره كان مستقبلا جهة القبلة و كذلك القمر ليلة سابعة وقت المغرب و ليلة احدى و عشرين و قت المشرق يكون في وسط الفلك فمن جعله فوق راسه أو تجاهه فقد استقبل القبلة

فصل
ومنها النجوم قال الله تعالى و هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر و البحر و قال تعالى و علامات و بالنجم هم يهتدون و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة و الطريق في رواية عنه تعلموا من النجوم ما تهتدون في بركم و بحركم ثم امسكوا رواه حرب
و عن علي رضي الله عنه قال ايها الناس اياكم و تعلم النجوم الا ما

تهتدون بها في ظلمات البر و البحر رواه أبو حفص و لذلك استحسن احمد معرفة منازل القمر و ان يتعلم بها كم مضى من الليل و كم بقي و ذكر أنه تعلمها من اهل مكة
و النجوم اقسام
احداها منازل القمر الثمانية و العشرون فالاستدلال بها كالاستدلال بالشمس و القمر سواء لانها تطلع من المشرق و تغرب في المغرب و هي السرطان و البطين و الثريا و الدبران و الهقعة و الهنعة و الذراع و النثرة و الطرف و الجبهة و الزبرة و الصرفة و العواء و السماك و الغفر و الزباني و الاكليل و القلب و الشولة و النعايم و البلدة و سعد الذابح و سعد بلع و سعد الاحبية و سعد السعود و الفرع المتقدم و الفرع المؤخر و بطن الحوت فمن عرف كل منزل منها بعينه امكنه الاستدلال بها فان الاربعة عشر الاول هي شامية تميل في طلوعها إلى جهة الشمال و الاربعة عشر الاواخر يمانية تميل في طلوعها إلى ناحية الجنوب و من عرف المتوسط منها وقت طلوع الفجر و راه متوسطا استدل به كما يستدل بتوسط الشمس و القمر
و اثبت الادلة على نفس الكعبة القطبان الشمال و الجنوبي و القطب الشمالي هو الظاهر في عامة المسكون من الارض مثل ارض الشام و العراق و خراسان و المشرق و مصر و المغرب و هذان القطبان هما قطبا الفلك المذكور في قوله سبحانه و هو الذي خلق الليل و النهار و الشمس و القمر كل في فلك يسبحون

قالوا فلكه مثل فلكة المغزل و يقرب من القطب الشمالي نجم صغير يسميه الفقهاء القطب و هو كوكب خفي يمتحن الناس به ابصارهم يرى إذا لم يكن في السماء قمر و حوله انجم دائرة كفراشة الرحا في أحد طرفيها الفرقدان و في الاخر الجدي و هو كوكب نير معروف إذا جله المصلي خلفه كان مستقبلا القبلة في الشام و الجزيرة العراق و خراسان
و قال أبو عبد الله في غير موضع الجدي يكون على قفاه و يطلع من قبل المشرق و قال ايضا قبلتنا نحن و قبلة اهل المشرق كلهم و اهل خراسان الباب و قد قال مرة اخرى و قيل له اين تحب ان يكون الجدي من الانسان إذا قام إلى القبلة فقال اما الجدي فلم يرد في الجدي شيء إنما يروى إذا جعلت المشرق عن يسارك و المغرب عن يمينك فما بينهما قبلة و قيل له ايضا قبلة اهل بغداد على الجدي فجعل ينكر الجدي و قال ليس الجدي و لكن على حديث ابن عمر ما بين المشرق و المغرب قبلة و معنى كلامه هذا أنه لا يجب على المصلي ان يتحرى الجدي و لا القبلة معلقة باستدباره كما يقول من يعتبر استقبال العين و إنما الواجب استقبال الجهة و يكفي في ذلك ما بين المشرق و المغرب لأن السائل كان غرضه ان ذلك كان واجبا فانكر احمد رضي الله عنه ذلك فاما المستحب فهو تحري الجدي كما نص عليه في موضع اخر لانه اقوم استقبالا و به يخرج من الشبهة و الخلاف ثم ان اهل الشام ينحرفون إلى

الشرق قليلا فيكون القطب بين الاذن اليسرى و صفحة العنق و كلما امعن في المغرب كان الانحراف اكثر
و اهل العراق ينحرفون إلى المغرب اكثر من ذلك فيكون القطب محاذيا لظهر الاذن اليمنى و كلما امعن في المشرق كان الانحراف اكثر و ما كان بحران و سميساط و ما كان على سمتها بين المشرق و المغرب محاذيا لمكة شرفها الله فانه يجعل القطب خلف نقرة القفاء و لهذا يقولون اعدل القبل قبلة حران لكون القطب الذي هو اثبت الدلائل و ابينها يجعل خلق القفا بلا انحراف فيتيقن اصابة العين لكون البلدة محاذية للركن الشامي بعدها عن المشرق و المغرب كبعد مكة و لهذا يجعل الشام من المغرب حتى فسروا قول النبي صلى الله عليه و سلم لا يزال اهل الغرب ظاهرين بأنهم اهل الشام و يجعل العراقي من المشرق لأن الارض إذا قسمت قسمين قسما شرقي مكة و قسما غربي مكة كانت الشام في الجانب الغربي و العراق في الجانب الشرقي و حران و ما كان على سمتها على مسامته مكة بين الجانب الشرقي و الجانب الغربي فالمستقبل لعين الكعبة في البلاد الشرقية و الغربية لا بد له من انحراف و قد لا ينضبط ذلك غاية الضبط لما

في رعايته من الكلفة و لأن قدر الانحراف قد لا يتحقق و الا فلا بد لكل بلاد من قبلة معتدلة و ان شق ضبطها و هذا القدر من الإنحراف معفو عنه بالاجماع و ان قلنا يجب استقبال العين
و متى كان الجدي عاليا و الفرقدان تحته أو بالعكس فالقطب بينهما فاستدبارهما كاستدباره و ان كان احدهما في المشرق و الاخر في المغرب فالقطب بينهما و هو إلى الجدي اقرب و بكل حال فإذا استدبر الجدي أو الفرقدين أو بنات نعش فهو مستقبل للجهة بكل حال و هو كافيه فاذا اراد مراعاة التحديد انحرف إلى ناحية القطب قليلا
فصل
و اما الدلائل الهوائية فهي الرياح و مهابها اربع تخرج من زوايا الارض الاربعة و يقال ان الكعبة مبنية على مهابها فجدر الكعبة الاربعة مستقبلة لمهاب الريح و اركان الكعبة مستقبلة بجهات الارض الاربعة
احداهن الصبا سميت بذلك لانها تصبو إلى الكعبة و هي تهب إلى وجهها ما بين مطلع الثريا و مطلع الجدي
و الدبور تجاهها تهب إلى دبر الكعبة ما بين مطلع سهيل و مغرب الثريا
و الجنوب تهب إلى جانب الكعبة اليماني ما بين مطلع الثريا و مطلع سهيل
و الشمال تجاهها ما بين مطلع الجدي و مغرب الثريا فهذه الرياح من عرف خواصها و صفاتها امكنه ان يستدل بها إذا كان في فضاء من

الارض حيث تجري الريح على سنها ثم نسبة المصلي اليها تختلف باختلاف مكانه و لهذا تختلف عبارة اصحابنا العراقيين و الشاميين و غيرهم في نسبة الرياح و الشمس و القمر و الجدي إلى المصلي لأن كل قوم وصفوا دلائل قبلة ارضهم خاصة على سبيل التحديد

فصل
واما دلائل الارض فقد قال بعض اصحابنا ان ذلك لا ينضبط انضباطا عاما لكن من كان في موضع قد علم جهات ما فيه من الجبال و الانهار و الابنية و نحو ذلك امكنه الاستدلال
فاما بدون ذلك فان الجبال و الانهار ليست كلها على وجهة واحدة حتى يحكم عليها بحكم عام
و قال كثير من اصحابنا يستدل بالجبال و الانهار الكبار
اما الجبال فان لها وجوها يعرفها سكانها و لذلك لكل شيء وجه يعرف بالمشاهدة قالوا و وجوه الجبال جميعها إلى جهة بيت الله سبحانه و تعالى
اما الانهار فقالوا اكثر الانهار الكبار التي خلقها الله سبحانه و تعالى لم يحتفرها الناس لاغراضهم تجري من مهب الريح الشمال إلى مهب الريح

الجنوب مثل الفرات و دجلة قالوا الا نهرين احدهما بالشام يسمى العاصي و الاخر بخراسان يسمى جيحون يسمى كل واحد منهما المقلوب فاذا كانت هذه الانهار تجري من يمنة المصلي إلى يسرته و قرب كتفه الايمن من الماء و بعدها اليسرى منه إذا كان الماء امامه و ان كان الماء خلفه فبالعكس فقد استقبل جهة الكعبة و النهران المقلوبات يجعلهما بالعكس جاريين من ميسرته إلى ميمنته و هذا و الله اعلم في قبلة اهل العراق و خراسان و من قاربهم من اهل الشام و نحوهم و الا فنيل مصر يجري من الجنوب إلى الشمال و نهر الاردن بالشام يجري إلى ناحية الجنوب و هي ناحية القبلة

مسألة و ان اختلف مجتهدان لم يتبع احدهما صاحبه و تبع الاعمى و العامي اوثقهما في نفسه
و جملة ذلك ان المجتهد في القبلة هو العالم بدلائلها القادر على الاستدلال بها سواء كان فقيها أو لم يكن
فاما الاعمى أو البصير الذي لا يعلم ادلتها أو يعلمها اسما و وصفا و لا يعلمها عينا فليس بمجتهد سواء كان فقيها أو لم يكن لأن المجتهد في كل فن هو القادر على الاستدلال على مطالبه بسهولة فاما المجتهد ففرضه العمل بما اداه اجتهاده اليه سواء خالفه غيره أو وافقه وسواء كان أعلم منه أو لم يكن وسواء اجتهد أو لم يجتهد إذا كان الوقت متسعا للاجتهاد كما قلنا في المفتي و القاضي و كما في الاجتهاد في امور الدنيا و غيرها
قال اصحابنا و ان امكنه ان يتعلم دلائل القبلة و يستدل بها قبل ان يضيق الوقت لزمه ذلك لانه قادر على التوجه بالاجتهاد فلم يجز له التقليد كالعالم بالادلة و ذلك لأن مؤنة تعلم ادلة القبلة يسيرة لا تشغل الانسان عن مصالحه فاشبه تعلم الفاتحة و صفة الوضوء و غيرها من فرائض الصلاة بخلاف تعلم ادلة الإحكام الشرعية و طريق الاجتهاد فيها فان تكليف العامة ذلك يشغلهم عن كثير من مصالحهم التي لا بد منها لهم منها
فان ضاق الوقت عن تعلم الادلة و الاستدلال بها فهو بمنزلة العاجز عن

تعلم الادلة يقلد غيره فان تعذر عليه الاجتهاد مع قدرته عليه لكونه محبوسا في ظلمة صار فرضه التقليد بمنزلة المقلد الذي لا يحسن الاستدلال هكذا ذكر القاضي و غيره من اصحابنا و ذكروا ان احمد اوما اليه و من اصحابنا من قال هذا بمنزلة المقلد الذي لا يجد من يقلده يصلي على حسب حاله
و الصواب ان هذا الاطلاق يجب ان يحمل على ما إذا لم يجد من يقلده و الا فلا فرق بين المحبوس في ظلمة و بين الأعمى
و ان ضاق الوقت عن الجتهاد مع علمه بالادلة فخاف ان اشتغل به ان يفوته الوقت فانه يصلي بالتقليد عند جماهير اصحابنا
و منهم من قال يصلي على حسب حاله و هو كالذي قبله و قال أبو محمد المقدسي صاحب الكتاب رحمه الله بل يجتهد لأن الاجتهاد في حقه شرط صحة الصلاة فلم يسقط بخروج الوقت كسائر الشرائط و لانه مجتهد لا يجوز له التقليد مع سعة الوقت فلا يجوز له مع ضيقه كالمجتهد في الاحكام الشرعية مفتيا و قاضيا
و الاول هو الصواب لأن الصلاة في الوقت بالتقليد خير من الصلاة بعد خروج الوقت بالاجتهاد كمن يقدر على تعلم الادلة لكن يخاف ان اشتغل بتعلمها فوات الوقت و لأن الصلاة في الوقت الحاضر فرض فلم يجز

تفويتها للاشتغال باسباب الشرائط كمن يعلم أنه يقدر على الماء أو على الثوب بعد الوقت و لأن الاجتهاد ليس هو الشرط و إنما هو الطريق إلى معرفة الشرط فلم يجز تفويت الصلاة بسببه كطلب الماء و لأن التقليد طريق صحيح و هو يدل على الاجتهاد فوجب العمل به عند خشية الفوات كالتيمم عند الماء و لا نسلم ان الاجتهاد هو الشرط كما تقدم ثم ينتقض بمن يعلم أنه يجد الماء بعد الوقت او تتبين له القبلة او يجد السترة أو يقدر على إزالة النجاسة بعد الوقت و لانه لو ادركته الصلاة حال المسايفة وجب عليه ان يصلي في الحال الى غير القبلة و ان كان بقتاله مجتهدا في الامن الذي يقدر به على استقبال القبلة
فان قيل اما ان كان زمن الاجتهاد يطول فما ذكرتموه ظاهر أنه قد تقدم ان الشروط كلها متى كان الاشتغال بتحصيلها من أول الوقت تفوت معه الصلاة لم يجز تفويت الصلاة لاجلها و اما ان كان زمن الاجتهاد قريبا مثل رجل استيقظ قبيل طلوع الشمس فقد قلتم في مثل هذا أنه يشتغل باسباب التوضىء و اللبس و ان فات الوقت لأن ذلك وقته
قلنا الخلاف في هذه الصورة اقرب و الفرق بين القبلة و غيرها ان امرها خفيف يسقط في حال الخوف و في صلاة التطوع في السفر من غير اعادة بالاجماع و يسقط بالجهل كاهل قباء و من تحرى فاخطا و لأن المقلد عامل بطريق و ان كان اضعف الطريقين و لله المشرق و المغرب فاينما تولوا فثم وجه الله و اما المفتي و الحاكم فليس للاجتهاد به وقت

محدود في الشرع و لم يتعين على هذا الحاكم و المفتي و متى تبين له أنه خالف النص نقض حكمه و فتياه ولا يجوز له العمل بخلاف النص في وقت من الاوقات و استقبال الكعبة يسقط بالجهل و العجز من غير اعادة و في القبلة إذا استوت عنده الجهات صلى إلى أي جهة شاء و العالم إذا استوت عنده الاقوال لم يجز له ان يفتي أو يحكم بشيء و ذلك لأن العالم قد اخذ عليه ان لا يقول الا بعلم و التقليد له طريق إلى العلم الذي امر به فيسكت كما لو لم يكن مجتهدا و الصلاة لا بد له من فعلها اما باجتهاد أو تقليد
و في الحقيقة لا فرق بين الموضعين لأن الوقت إذا ضاق عن الاجتهاد صار المجتهد كالقاضي في الموضعين و العامي يصلي بالتقليد في الموضعين و يحرم عليه ان يفتي أو يقضي بالتقليد
فصل
و ان استوت الجهات كلها في نظر المجتهد لتعارض الادلة في نظره أو لعدمها بان تكون السماء مطبقة بالغيوم و لا دليل له يستدل به فهذا ايضا كالعاجز عن الاستدلال لكونه محبوسا في ظلمه و نحوه
قال بعض اصحابنا يصلي على حسب حاله إلى أي جهة شاء
و على ما ذكره سائر اصحابنا فانه يقلد غيره ان وجد من يقلده لأن استواء الجهات في نظره تلحقه بالعامي فيقلد كما يقلد العامي

فاما إذا تعذر التحري على المجتهد لاستواء الجهات في نظره أو لكونه ممنوعا من رؤية العلامات أو لضيق الوقت على المشهور أو ضاق الوقت عن التعلم على من يمكنه التعلم و تعذر عليهم التقليد ايضا كالجاهل بدلائل القبلة إذا تعذر عليه التقليد و كالاعمى إذا تعذر عليه التقليد و جماع ذلك ان تستوي الجهات عند المكلف فلا يترجح بعضها على بعض باجتهاد و لا تقليد فهذا يصلي على حسب حاله إلى أي جهة شاء و يسقط عنه فرض استقبال جهة معينة هذا هو المذهب
و على الوجه الذي ذكره أبو بكر الدينوري عليه ان يصلي اربع صلوات إلى اربع جهات
و على المذهب هل يستحب ان يصلي اربع صلوات قال ابن عقيل الاحوط ان يصلي اربع صلوات و ظاهر كلام احمد و اكثر اصحابنا ان هذا لا يستحب بل يعيد قال أبو بكر فيه قولان يعني روايتين
احدهما لا يعيد لانه لم يكلف غير هذا
و الثاني يعيد لانه دخل في الصلاة بغير دليل و لذلك خرجها القاضي على الروايتين فيمن عدم الماء و التراب و قال ابن حامد ان اخطا اعاد و ان اصاب فعلى وجهين

فان قلنا يعيد مطلقا فلانه ترك المفروض عليه في الاستقبال بعذر نادر غير متصل فاشبه الحائض إذا تركت الصوم و من عدم الماء و التراب لانه و ان اصاب فذاك على وجه البحث و الاتفاق و ذلك لا يكفي
وان قلنا يعيد ان اخطا فقط فلان المقصود استقبال القبلة وقد حصل وانما يعيد إذا قدر على التحري وصلى بغير تحر وان اصاب لانه ترك المفروض عليه وهذا فعل ما امر به
وان قلنا لا يعيد مطلقا وهو الصحيح وهو الذي يدل عليه كلام احمد واستدلاله قال في رواية محمد في الرجل يصلي لغير القبلة لا يعيد فاينما تولوا فثم وجه الله وهو الذي تقتضيه اصوله خصوصا في مسائل القبلة
والقولان الاخران بعيدان على المذهب فان القبلة إذا لم يمكن العلم بها صارت جميع الجهات له قبلة كما نص عليه احمد ولهذا لم يختلف قوله أنه لا اعادة على المخطىء وذلك لأن الله سبحانه قال ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه الله وقد تقدم انها نزلت في الجاهل بالقبلة والعاجز عنها وكذلك الحديث المذكور ظاهره ان القوم لا يترجح عندهم جهة القبلة فصلى كل رجل على حسب حاله وجميع الادلة المذكورة في مسالة من اجتهد فاخطا يعم هذا الموضع لأن سقوط الاصابة عن المجتهد والمقلد لكونه غير قادر عليها كسقوط

الاجتهاد و التقليد عن العاجز عنهما ولأن القبلة شرط من الشروط فسقط بالجهل به على وجه يعذر به كسائر الشروط و التعليل بالندرة ضعيف كما تقدم و بتقدير صحته فالقبلة اخف من غيرها كما تقدم و سر المسألة ان المصلي إلى أي الجهات توجه فثم وجه الله و قبلته لكنه سبحانه عين اشرف الجهات عند العلم و القدرة فاذا تعذر ذلك استوت الجهات كلها و الله سبحانه اعلم هذا فيمن كان بدار الاسلام
فاما من كان بدار الحرب و لا طريق له الا إلى العلم بالقبلة فقال أبو بكر لا اعادة عليه هنا قولا واحدا بخلاف من هو في دار الاسلام لأن العذر يكثر و يطول في اسارى المسلمين المحبوسين في مطامير الكفار و قصة النجاشي تؤيد هذا

فصل
فان ترك الاجتهاد مع قدرته عليه أو التقليد مع قدرته عليه أو صلى إلى غير الجهة التي امر من قلده بها فانه يعيد بكل حال اصاب أو اخطا في ظاهر المذهب لأنه فعل ما لم يؤمر به فلم تنفعه الاصابة اتفاقا كمن افتى بغير علم أو قضى للناس على جهل أو قال في القران برايه أو شهد بما لا يعلم فان هؤلاء لا ينفعهم الاصابة في نفس الامر لانهم لم يعلموا انهم مصيبون و عكس هؤلاء من اجتهد فاخطا في قضاه أو فتياه أو حلف على

شيء يظنه كما حلف عليه أو اجتهد أو قلد في القبلة فأخطا فان الخطأ عن هؤلاء محطوط لانهم فعلوا ما يقدرون عليه
فصل
واما الاعمى و الجاهل بادلة القبلة الذي لا يمكنه التعلم أو الذي يضيق وقته عن التعلم فانه إذا اختلف عليه مجتهدان فانه يتبع اوثقهما عنده علما بدلائل القبلة وورعا في تحريها و ذلك واجب عند اكثر اصحابنا فان قلد المفضول لم تصح صلاته
وقال بعض اصحابنا يجوز تخريجا على ان للعامي ان يقلد من شاء من المفتين فان فيه روايتين اشهرهما جوازه لانه اخذ بدليل يجوز العمل به منفردا فكذلك إذا كان معه غيره كما لو استويا فانهما إذا استويا قلد من شاء منهما و حكى الحلواني في هذه المسالة روايتين ايضا و قدم رواية التخيير كالروايتين في الاستفتاء
و الاول اقيس لانه إنما جاز له ان يقلده حال النفراد لعدم المعارض كما يعمل في خبر الواحد و القياس و العموم مع عدم المعارض فان غلبة الظن بمعرفة المجتهد تزول إذا خالفه من هو اعلم منه و لأن امر

القبلة مبني على العمل بالاقوى فلم يجز العمل بالاضعف كما لو تعارضت الادلة عند المجتهد فانه يجب عليه العمل باقواها و كما لو اخبر المحبوس و الاعمى رجلان كل مهما يزعم أنه يخبره عن علم بجهة القبلة و اختلفا فانه يجب عليه أن يعمل باصدقهما و اوثقهما و لأنه عمل بالمرجوح فيما لم يبن على التوسعة و الرخصة فلم يجز كالعمل بالدلالة الضعيفة
و اما تقليد المفتين فان ابن عقيل و غيره سووا بينهما في وجوب تقليد اوثقهما في نفسه و هو احدى الروايتين طردا للقياس قالوا لأن الحق في جهة واحدة و على المكلف ان يطلبه باقوى الادلة في نفسه و اقوال المفتين للعامي كالادلة الخاصة للمجتهد و له نوع اجتهاد فيمن يقلده فكما وجب على المجتهد رايه في ادلة الاحكام ان يتبع اقوى الدلالتين كذلك يجب على المجتهد رايه في اقوال المفتين ان يتبع اوثق القائلين و اكثر اصحابنا جوزوا له تقليد من شاء و هو اشهر الروايتين إذا لم يكن من أحد الجانبين نص و نحوه
ثم ان طائفة من اصحابنا منهم ابن عقيل و أبو بكر الدينوري ذكروا رواية عن احمد ان كل مجتهد مصيب بناء على اذنه لبعض من استفتاه ان يقلد غيره من المفتين إذا افتاه بخلاف قوله و صنف رجل كتابا سماه كتاب الاختلاف فقال سمه كتاب السعة و لا تسمه كتاب الاختلاف و قال لا ينبغي للفقيه ان يحمل الناس على مذهبه قال و لو كان يعتقد انهم على خطا لما دل عليهم و امر بالاستفتاء لهم و بنى الدينوري على

هذا ان المصلي إلى القبلة باجتهاده مصيب لما عند الله و ان استقبل غير جهة الكعبة و على هذا فيظهر تخيير العامي في تقليد من شاء في القبلة و ايضا فلا فرق بل يقال التخيير في القبلة اولى من التخيير بين اعيان المفتين لأن من استوت عنده الجهات صلى إلى حيث شاء و من تكافات عنده الدلالات امسك عن الفتيا حتى يتبين له الحق و ذلك لأن لله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثم وجه الله و لا يجوز ان يقال أي شيء قلتم فهو حكم الله و لأن التخيير بين الجهات لا تناقض فيه بل هو كالتخيير بين انواع القراءات في التشهد بخلاف التخيير بين اعتقاد التحليل و التحريم و نحو ذلك فانه متناقض و المنصوص عنه في غير موضع و هو مذهب معروف ان الحق عند الله واحد و على المكلف ان يطلبه و المصيب له واحد و ليس هذا موضع استقصاء في ذلك و لا ريب ان كون الحق عند الله واحدا في باب الاحكام ابلغ في باب الاستقبال و نحوه لأن المختلفين في القبلة و ان كان يعلم ان بعضهم مستقبل غير القبلة فجعل جهة غير القبلة قبلة امر معهود في الشرع في حال الخوف و التطوع على الراحلة وهو في هذه الحال مستقبل القبلة التي شرعها الله له ظاهرا و باطنا فكذلك في حال الجهل بها للاشتباه أي جهة ولاها فثم وجه الله بخلاف حكم غير الحكم الذي حكم الله فانه لا يجوز ان يكون هو حكم الله ظاهرا و باطنا بالنسبة إلى أحد من المكلفين كما هو مقرر في موضعه و ان قلنا هو مصيب في اجتهاده مخطىء بحكم الله أو قلنا هو مخطئ فيهما جميعا لكن الفرق بين التقليد في القبلة و التقليد في الاحكام ان تقليد الاوثق فيه

القبلة ليس فيه عسر و لا حرج اذ الجهات بالنسبة إلى المصلي سواء فيبقى تقليد المرجوح لا وجه له بخلاف الاحكام فان الزام العامة بقول واحد بعينه في جميع الاحكام فيه عسر و حرج عظيم منفي بقوله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج و قد جعل اختلاف العلماء رحمة و توسعة على الامة و ما زال المسلمون في كل عصر و مصر يقلدون من العلماء من علم عندهم بالعلم و قد كان الصحابة يعلمون فضل بعضهم على بعض في بعض انواع العلم ثم لم يقصروا العامة على استفتاء ذلك الافضل في ذلك النوع و ايضا فانه يجب الرجوع إلى قول اوثق الطبيبين و القائفين و المقومين فكذلك في قول اوثق المجتهدين في القبلة لانها امكور جزئية و لا يشق تعيين الاقوى منها بخلاف الاحكام الشرعية فانها كثيرة و متسعة و لربما كان المفضول في كثير من المسائل اوثق من الفاضل ختلاف المطلوبات فيها و المسألة محتملة
هذا إذا اختلف مجتهدان و علم اختلافها فاما إذا كانت هناك عدة مجتهدين و لم يدر ايتفقون ام يختلفون
مثل ان يكون في جيش عظيم أو ركب عظيم فهل له ان يقلد من تيسر عليه منهم أم يجب عليه ان يسال اوثقهم لاصحابنا في الاستفتاء وجهان فكذلك يخرج هنا مثله لكن ظاهر كلامهم هنا ان ذلك لا يجب عليه لانهم قصروا اتباع الاوثق على حال الاختلاف و لانه لو كان قريبا منه امارة تدل على القبلة جاز له اتباعها و لم يجب عليه ان يقطع مسافة إلى

امارة اخرى لجواز ان تخالفها و لأن الاصل عدم الاختلاف

فصل
و إذا اختلف اجتهاد رجلين لم يجز ان يأتم احدهما بصاحبه في المنصوص المشهور و متى ائتم احدهما بالاخر فصلاة الماموم باطلة و في صلاة الامام وجهان
و قال بعض اصحابنا قياس المذهب جوازه كما لو ائتم بمن يخالف اجتهاده في بعض شروط الصلاة كمن يصلي خلف من يصلي في جلود السباع فانه تصح صلاته في المنصوص عنه و لأن خطا الامام هنا لا يمنع صحة الصلاة ظاهرا و لا باطنا لأن الامام لا يعيد إذا تبين له الخطا بخلاف ما لو اعتقد الماموم ان الامام محدث
و وجه الاول ما تقدم من الحديث المذكور فان الصحابة ضوان الله عليهم حينئذ صلى كل واحد منهم على حدته و لم يصلوا جماعة واحدة و لو كان ذلك جائزا لفعلوا لأن الجماعة واجبة أو سنة مؤكدة و لأن الماموم يعتقد ان الامام يترك شرطا من شرائط الصلاة للعجز عنه فاشبه ما لو كان الامام عاريا أو محدثا و عدم الماء و التراب أو مربوطا إلى غير القبلة أو حاملا لنجاسة لا يقدر على ازالتها أو اميا أو اقطع و ايضا فانه هنا يتيقن ان

صلاته اشتملت على ترك استقبال القبلة و كل صلاة تيقن أنه ترك فيها استقبال القبلة فهي باطلة لانه ان كان هو المصيب فصلاته مبنية على صلاة امامه و صلاة امامه على هذا التقدير الى غير القبلة فتكون صلاته إلى غير القبلة مع القدرة على ترك ذلك
و ان كان امامه هو المصيب فصلاته هو إلى غير القبلة و بهذا يظهر فقه المسألة فان العفو عما يجوز ان يكون صوابا أو خطا إذا ضم اليه ما يتيقن باجتماعهما حصول الخطا لم يحصل العفو عنهما جميعا كما لو احدث أحد رجلين و لم يعلم عينه و قلنا لكل منهما ان يصلي فليس لاحدهما ان يأتم بالاخر و كما لو قال رجل ان كان هذا الطائر غرابا فعبدي حر و قال اخر ان لم يكن غرابا فعبدي حر فاذا اجتمع العبدان في ملك واحد حكمنا بعتق احدهما و بهذا يظهر الفرق بينه و بينما إذا ترك الامام ما يعتقده الماموم ركنا أو شرطا لانه لا يتيقن اشتمال الصلاتين على مبطل لجواز ان يكون اعتقاد امامه صوابا و حينئذ فتكون صلاة الامام صحيحة في الباطن و كذلك صلاته لانه لم يترك شيئا و مجرد اعتقاد ايمانه لا يؤثر في صلاته نعم نظير مسألة القبلة ان يفعل احدهما شيئا و يتركه الاخر و هو عند احدهما واجب فعله و عند الاخر مبطل فانه هنا ان كان واجبا فقد تركه احدهما و ان كان مبطلا فقد فعله احدهما فالصلاة مشتملة على ترك واجب أو فعل محرم بيقين على ان القياس على مسائل الاجتهاد الفقهية قد فرق بينهما إذا سلم بما تقدم في التي قبلها و ذلك ان مسائل الاجتهاد إذا لم يخالف الرجل فيها كتابا و لا سنة و لا اجماعا فانه لا ينقض حكمه و لا حكم بخطاه و لا يحكم ببطلان صلاته و لا ينهى عن

استفتائه و لا ينهاه ان يعمل باجتهاده بل قد يؤمر باستفتائه اما لأن الحكم يختلف باختلاف الاجتهادات كما يقوله من يعتقد كل مجتهد مصييب و لأن الناس لم يكلفوا الا ما يقتضيه رأيهم و ان كان في الباطن اشبه كما يقول اصحاب الشبه أو لم يكلفوا الا طلب ما هو الحق في الباطن سواء اصابوه أو اخطاوه و قد عفي عنهم إذا اخطاوه
أو لانه و ان كان مخطئا في اجتهاده و حكمه فان الله تعالى رفع الحرج فيها عن المخطىء و جعل له اجرا على اجتهاده اقرارا لكل ذي راي على رأيه مع ان الحق عند الله واحد بخفاء مدركها و خفة امرها و مشقة اصابة الحق فيها و عموم الرحمة و المصلحة في تيسير ذلك و تفاقم الفساد من هدم بعض الاجتهادات ببعض و هذان القولان هما اللذان يقولهما اصحابنا و ان كان الاول قد حكي في المذهب ايضا و هذا الواقع في احكام الشريعة لا يلزم مثله في قبله يقع في الدهور مرة و لا يلزم العفو فيما تعم به البلوى العفو عما لا تعم به البلوى
فان اتفقا على الجهة و اختلفا في العين فقال احدهما تنحرف يمينا و قال الآخر تنحرف شمالا فقال القاضي في الجامع ان قلنا المطلوب العين لم يجز له ان يتبعه و ان قلنا المطلوب الجهة و هو الصحيح من قوله جاز له ان يتبعه و قال في المجرد و غيره من اصحابنا من يجوز الائتمام هنا مطلقا و هذا اصح لانا ان قلنا المطلوب العين فان الانحراف اليسير مع الخطا معفو عنه بكل حال بالاجماع و الصلاة إلى قبلة واحدة في مثل هذه الحال

فصل
إذا صلى بالاجتهاد ثم تبين له في اثناء الصلاة ان جهة القبلة خلاف ذلك عن يقين استقبل القبلة ويبني على صلاته كاهل قباء لأن اولى صلاته كانت صحيحه ظاهرا و باطنا فهو كالعاري إذا وجد السترة في اثناء صلاته
و ان تبين له ذلك باجتهاد انحرف إلى الجهة التي تبين له انها القبلة نص عليه و هو قول اكثر الاصحاب و قال ابن أبي موسى و الامدي و غيرهما يبنى على صلاته لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد
و الاول اصح لاننا لا ننقض الاجتهاد الاول و إنما نامر ان يتم الصلاة إلى الجهة الاخرى كما لو علم القبلة يقينا و هذا ممكن هنا دون القضايا و الفتاوى فان ذلك لا يمكن فيها الا في حادثتين ثم ان كان امام فارقه المامومون إذا لم يتغير اجتهادهم و اتموا جماعة و فرادى
و ان كان ماموما فارق امامه و بنى و لم يبق اجتهاده إلى تلك الجهة و لم يؤده اجتهاده إلى جهة اخرى و بنى على جهته لانه لم يتبين له خطاه و قد دخل دخولا صحيحا
و ان صلى بتقليد ثم اخبره في اثناء صلاته مخبر ان القبلة في جهة اخرى فان كان الثاني ممن لا يقبل خبره و لا اجتهاده أو اخبره باجتهاده و هو عنده مثل الاول لم ينصرف عن قبلته و ان كان الاول اخبره باجتهاده و الثاني عن علم انحرف إلى الجهة التي اخبره بها و ان كان الثاني اخبره

باجتهاد و هو اوثق من الاول فهو كما لو تغير اجتهاده و هو من اهل الاجتهاد فهل ينحرف على وجهين

فصل
و إذا صلى بالاجتهاد ثم حضر صلاة اخرى جدد الاجتهاد فان تغير اجتهاده صلى بالثاني و لم يعد ما صلى بالاول كالمفتي و الحاكم يجدد اجتهاده في قضاياه و فتاويه و الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد لانه لم يتيقن الخطا فيما فعله اولا مع أنه لو يتيقن ذلك في القبلة لم يعد فاولى ان لا يعيد مع استمرار الشك في الجملة
فصل
و لا يتبع دلالة مشرك بحال مثل ان يدخل بلدا فيه محاريب هل هي بناء المسلمين أو المشركين أو يخبره الكفار انها مبنية إلى القبلة و نحو ذلك
و لو راى على المحراب اثار المسلمين و هو في بلد كفار أو في بلد خراب لا يعلم هل هو بلد مسلم أو كافر لم يصل اليه لإحتمال ان يكون الباني له كافرا مستهزئا غارا للمسلمين الا ان يكون مما يعلم أنه من

محاريب المسلمين
قال بعض اصحابنا لو علم قبلة الكفار فله ان يستدل بها على قبلة المسلمين مثل ان يرى قبلة النصارى في كنائسهم و قد علم انهم يصلون إلى الشرق فانه يستدل بها على القبلة فيجعله عن يساره و ان كانت هذه قبلته لأن خبرهم عن قبلتهم بمنزلة التواتر و هم لا يتهمون فيه

مسألة الشرط السادس النية للصلاة بعينها
النية لها ركنان
احدهما ان ينوي العبادة و العمل
و الثاني ان ينوي المعبود المعمول له فهو المقصود بذلك العمل و المراد به الذي عمل العمل من اجله كما بينه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله إنما الاعمال بالنيات و إنما لكل امرء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر اليه فميز صلى الله عليه و سلم بين من كان عمله لله و من كان عمله لمال أو نكاح و الذي يجب ان يكون العمل له هو الله سبحانه وحده لا شريك له فان هذه النية فرض في جميع العبادات بل هذه النية اصل جميع الاعمال و منزلتها منها منزلة القلب من البدن و لا بد في جميع العبادات ان تكون خالصة لله سبحانه كما قال تعالى انا انزلنا اليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين الا لله الدين الخالص
و قال تعالى قل اني امرت ان اعبد الله مخلصا له الدين و قال

تعالى قل الله اعبد مخلصا له ديني و قال تعالى الا الذين تابوا و اصلحوا و اعتصموا بالله و اخلصوا دينهم لله و قال سبحانه فادعوه مخلصين له الدين و قال الا عباد الله المخلصين في عدة مواضع و قال تعالى و ما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة و ذلك دين القيمة و هذه الآيات كما دلت على فرض العبادة ففرضت العبادة و ان تكون لله خالصة و هذه حقيقة الاسلام و ما في القران من قوله اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و قوله و ما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون و قوله تعالى اياك نعبد و اياك نستعين إلى غير ذلك من الآيات كلها تدل على هذا الاصل بل جماع مقصود الكتاب و الرسالة هو هذا و هو معنى قول لا اله الا الله و هو دين الله الذي بعث به جميع المرسلين
و ضد هذه النية الرياء و السمعة و هو ارادة ان يرى الناس عمله و ان يسمعوا ذكره و هؤلاء الذين ذمهم الله تعالى في قوله فويل للمصلين

الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون و قال و إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس و من صلى بهذه النية فعمله باطل يجعله الله هباء منثورا و كذلك من ادى شيئا من الفرائض
و الكلام في هذه النية و تفاصيلها لا يختص بعبادة دون عبادة اذ الفعل بدون هذه النية ليس عبادة اصلا
الركن الثاني ان ينوي ما تتميز به عبادة عن عبادة فينوي الصلاة لتتميز عن سائر اجناس العبادات وينوي صلاة الظهر مثلا لتتميز عن صلوات سائر الاوقات و هكذا في كل ما يميز تلك العبادة من غيرها سواء كانت مفروضة ام مستحبة و هذه النية هي التي يتكلم عليها في هذه المواضع اذ الكلام هنا في فروع الدين و شرائعه و تلك النية متعلقة باصل الدين و جماعه و الفقه في شرائع الدين و فروعه إنما هو بعد تحقيق اصوله اذ الفروع كمال الاصول و اتمامها
إذا تبين هذا فيجب على المصلي ان ينوي الفعل وهو الصلاة ليتميز قيامه عن قام العادة و كذلك سائر افعاله
و يجب ان يعين الصلاة مثل ان ينوي صلاة الظهر أو العصر ان كانت ظهرا أو عصرا و نحو ذلك هذا ظاهر المذهب

و عنه ما يدل على أنه يكفيه نية مطلقة إذا تعذر تعيين الصلاة و امكن الاكتفاء بنية مطلقة بان ينوي فرض الوقت أو تكون عليه فائتة رباعية اما الظهر و اما العصر ينوي الواجب عليه كما قلنا في الزكاة
و الاول المذهب لأن مقصود كل صلاة و اسمها و وقتها يخالف الاخرى فلا بد من تمييزها بالنية
و لهذا لو كانت عليه فوائت فصلى رباعية ينويها عما عليه لم يجزه اجماعا و لو كانت عليه شياه عن ذود و غنم أو صيعان من طعام من صدقة فطر و عشر فاخرج شاة أو صاعا مما عليه اجزاه لأن الواجب ثم لم يختلف اسمه و لا مقصوده و إنما اختلف سبب وجوبه فان مواقيت الصلاة حدود للصلوات صارت صفات لها فالعبادة المفعولة على غير ذلك الحد و الصفة لا تسد مسدها معها كالبعير بالنسبة إلى البقرة و لهذا كانت الصلوات الخمس لا بد ان تخالف كل صلاة الاخرى في بعض واجباتها أو في بعض مستحباتها كما خالفتها في الوقت

فصل
و هل يجب عليه في المكتوبة انها فرض على وجهين
احدهما يجب عليه قاله ابن حامد لأن الظهر قد تكون نفلا كظهر الصبي و الظهر المعادة و كما لو صلى الظهر اولا تطوعا قبل ان يصلي

المكتوبة
و الثاني لا يجب و هو قول الاكثرين لأن الظهر المطلق ممن في ذمته ظهر لا يقع الا فرضا فاذا نوى الظهر و اطلق لم تكن الا فرضا كما ان الزكاة المطلقة لما لم تقع الا فرضا لم يجب ان ينوي الفرض و كذلك الوضوء من الحدث و غسل الميت و غسل الجنابة و ان كان مع التقييد قد تكون الزكاة نافلة كما يقال زكاة الحلي عاريته و كما قال صلى الله عليه و سلم ليس فيما دون خمسة اوسق صدقة الا ان يشاء ربها و كما قد يستحب له إخراج الزكاة في مواضع تذكر ان شاء الله تعالى في مواضعها
و سبب ذلك ان نية صفات العبادة تندرج في نية العبادة فاذا نوى الظهر اندرج في ذلك اربع ركعات و انها واجبة و نحو ذلك إذا كانت تلك العبادة لا تقع الا على تلك الصفة أو تنصرف عند الاطلاق إلى تلك الصفة و علل القاضي و غيره من اصحابنا ذلك بان الظهر الاولى من المكلف لا تقع الا فرضا فلم يحتمل الفعل وجهين لتميز النية بينهما الا ان هذا يشكل بمن نوى ظهرا تطوعا قبل المكتوبة كما حملوا عليه حديث معاذ بن جبل فانهم قالوا كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه و سلم تطوعا ثم يصلي بقومه المكتوبة و هذا جائز بل مستحب إذا كان لغرض صحيح مثل ان

يكون امام مسجد راتب فتقام الصلاة اولا في غير مسجده فيصلي الظهر معهم و التعليل بالاطلاق اجود
فاما نية الوجوب في ابعاض الصلاة مثل ان ينوي وجوب قراءة الفاتحة و وجوب الركوع و السجود و نحو ذلك فلا يجب بل يكفي ان ياتي بالواجبات مع اعتقاد وجوب الصلاة في الجملة هكذا ذكره اصحابنا لأن تمييز الواجبات من غيرها إنما يدرك بالظن في كثير من المواضع و فيه من الخلاف و الاشتباه ما لا خفاء به فلو كانت هذه النية واجبة لكان لا يصلي أحد صلاة متيقنة الصحة و لا صلاة مجمعا على صحتها و لأن ذلك لو كان واجبا لبينه النبي صلى الله عليه و سلم بيانا قاطعا للعذر كما بين لهم وجوب الصلوات الخمس دون غيرها فلما لم يكن ذلك علم ان هذا ليس واجبا
فصل
و هل يحتاج ان ينوي في الحاضرة إنها الحاضرة أو المؤداة أو فرض الوقت و ينوي في الفائتة انها الفائتة أو المقضية أو فرض الوقت الفائت على ثلاثة اوجه
احدها يجب عليه لأن احكام الفائتة تخالف احكام الحاضرة فانها واجبة في وقت محدود يقتل بتركها و يحرم تأخيرها عن وقتها اجماعا و يشرع لها من الاذان و الاجتماع و غير ذلك ما لا يشرع للفائتة و بنى

القاضي هذا الوجه على قول من لا يجيز ائتمام المؤدي بالقاضي فعلى هذا لو كان عليه ظهران فائتة و حاضرة فصلى ظهرا مطلقة لم تجزه عن واحدة منهما و ان لم يكن عليه الا ظهرا فائتة أو حاضرة و صلى ظهرا لم يخطر بقلبه هل هي صلاة الوقت الحاضرة أو صلاة الوقت الفائتة لم يجزه
و الثاني لا يجب ذلك بناء على انهما صلاتان من جنس واحد و لهذا جوز اقتداء المؤدي بالقاضي من لم يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل و لأن حاصل ذلك يرجع إلى تعيين الوقت و هو غير واجب لانه لو كان عليه فائتة لم يحتج ان ينوي يومها اتفاقا و كذلك لو كان عليه فائتتان من جنس كفاه ان يصلي احداهما ينوي انها السابقة وان لم يعين يومها فعلى هذا يجزئه في الصورة الثانية و يجزئه في الصورة الاولى و يقع عن الفائتة إذا كان ذاكرا لها لأن فعلها قبل الحاضرة واجب الا ان يكون الوقت قد ضاق فيقع عن الحاضرة
و الوجه الثالث تعتبر النية للفائتة دون الحاضرة لأن وقت الحاضرة يوجب انصراف النية اليها و ان جاز ان يفعل غيرها بخلاف الفائتة
فاما ان نوى ظهر يومه معتقدا بقاء الوقت فتبين فواته أو معتقدا فواته فتبين بقاؤه أو غير معتقد شيئا ناويا ظهر يومه من غير ان يخطر بقلبه وصف القضاء أو الاداء اجزاه قولا واحدا و كذلك لو نوى الظهر التي عليه قبل اليوم في الفائتة وشبه ذلك لانه قد عين الصلاة التي وجبت عليه في وجه

لا تشتبه بغيرها وذلك كاف فان نية القضاء والاداء تلزم ذلك وكل صفة لازمة لما نواه لا يجب ان ينويها
ولهذا قلنا لا يجب ان ينوي كونها اربع ركعات إذا كانت حاضرة ولا ان ينوي وصف الاداء إذا قصد فعلها في وقتها ولا أن ينوي وصف القضاء إذا قصد فعلها بعد خروج وقتها قولا واحدا لأن ذلك تابع لازم لما نواه
ولو كان عليه ظهران فائتة وحاضرة فصلاهما ثم ذكر أنه ترك شرطا من احداهما لا يعلم عينها اجزاته صلاة واحدة ينوي بها ما عليه على الوجه الثاني وعلى الاول والثالث تلزمه صلاتان
ولو كانتا فائتتين اجزاته صلاة واحدة قولا واحدا
وعلى الاقوال الثلاثة إذا نوى صلاة بعينها اداء أو قضاء لم تجزه عن غيرها مثل ان ينوي ظهرا حاضرا وتكون عليه فائتة فانه لا يجزئه عن الفائتة أو ينوي ظهر امس يعتقد انها عليه ثم تبين انها ليست عليه فانها لا تجزئه ظهر اليوم سواء كانت فائتة أو حاضرة
ومن اصحابنا من خرج وجها بالاجزاء الغاء لوصف التعيين كما الغينا وصف القضاء والاداء عند الاشتباه لانهما من جنس واحد وهذا ضعيف لأن هذا نوى الصلاة لم تكن عليه فكيف تجزئه عما هو عليه خلاف وصف القضاء والاداء فانه لا يخل بعين المكتوبة ولانه لم يقصد

امتثال الامر فيما يحكيه فيبقى في عهدته و لانه لا يلزم من انصراف النية اليه عند الاطلاق انصرافها اليه إذا نوى غيرها كنية الفريضة و لانه لو اخرج زكاة ماله الغائب فبان تالفا لم يجزه عن الحاضر و لو كفر عن يمين عينه بنيته ثم بان أنه لم يحنث لم يجزه عن يمين اخرى إذا كان الواجب عليه كفارتين ففي الصلاة اولى و لو كان عليه فائدتان من جنس فنوى احداهما لا بعينها اجزاه في أحد الوجهين لاتحاد الجنس كالزكوات و الكفارات و هذا اختيار الامدي و غيره
و في الاخر لا تجزئه حتى ينوي الاولى منهما لأن الترتيب شرط و هو قادر عليه

فصل
و لا يستحب ان يقصد في نيته أو لفظه نية اليوم الذي يصلي فيه و لا استقبال القبلة ذكره الامدي و كذلك نية العدد ان كان مقيما أو مسافرا لأن هذا من شرط صحة الصلاة فلو شرع ذكره لشرع ذكر جميع الشرائط و الاركان و لان المصلي و ان كان ينقسم الى مستقبل و غيره كالخائف و نحوه و الصلاة و ان كانت تنقسم إلى رباعية كصلاة المقيم و ثنائية كصلاة المسافر فان

الحالة التي هو عليها تميز بين الواجب عليه و غيره و تميز بين الواقع و غيره
فصل
و المنذورة كالمكتوبة في افتقارها إلى التعيين و إلى نية القضاء و الاداء ان كانت كذلك عند من يقول به
فاما التطوع فان كان مقيدا لوقت أو سبب كالسنن الرواتب والضحى و صلاة الكسوف و الاستسقاء و التراويح فانه يفتقر إلى التعيين و إلى نية القضاء أو الاداء عند من يقول به و كذلك تفتقر صلاة العيد و الجنازة إلى نية الفرض على الكفاية عند من يقول باشتراط نية الفرضية فيما ذكره بعد اصحابنا

مسألة و يجوز تقديمها على التكبير بالزمن اليسير إذا لم يفسخها
لا نعلم خلافا في المذهب أنه يجوز ان تتقدم النية على التكبير و يكفي استصحاب حكمها لأن التكبير جزء من اجزاء الصلاة فجاز ان تكون النية مستصحبة فيه حكما و ان لم تكن مذكورة كسائر اجزاء الصلاة ولأن ايجاب مقارنة النية للتكبير يعسر و يشق على كثير من الناس و يفتح باب الوسواس المخرج لهم عن الصلاة إلى العبث و اللغو من القول
و لأن المقصود بالنية تمييز عمل عن عمل و هذا يحصل بالنية المقترنة و المتقدمة و لأن المعروف من صلاة النبي صلى الله عليه و سلم و اصحابه انهم كانوا يكبرون بيسر و سهولة من غير تعمق و تكلف و تعسير و تصعيب و لو كانت المقرانة واجبة لاحتاجوا إلى ذلك و لأن المصلي يحتاج ان ينوي الصلاة و عينها و وقتها و كونها فرضا عند من يقول بذلك و حضور هذه الارادات فيي قلبه لا يكون الا في زمن فان اراد احضار هذه الارادات في قلبه عند أول حرف من التكبير لم يمكن ذلك و ان بسط هذه الارادات على حروف التكبير خلى أول التكبير عن تمام النية الواجبة و لم يقارن اخره لبعض النية فعلم ان مقارنة النية المعتبرة للتكبير أو لبعض اجزائه محال و إنما الممكن ايقاع التكبير عقب النية المعتبرة فعلم ان الموجود حال التكبير حكم النية المعتبر ذكرها و إذا كان حكمها كافيا فلا فرق فيه بين التقدم و التأخر و لأن التكبير كلام له معنى فلا بد ان يتدبره و يتصوره و يفهمه لانه لم يتعبد بلفظ

لا يتدبر معناه بل اكثر المقصود فهمه و تصوره و ذلك إنما يكون حال النطق باللسان فلو كلف ان يحضر بقلبه ارادة تلك الامور حينئذ لم يمكن ذلك فعلم أنه حين التكلم إنما يستحضر معنى التكبير و نحوه من الاقوال و ان النية المعتبرة لذلك القول لا بد ان تسبقه سواء كان بينهما فعل أو لم يكن
إذا تبين ذلك فقال كثير من اصحابنا إنما يجوز تقديمها بالزمن اليسير لأن ذلك هو الذي تدعو الحاجة اليه و لأن النية مرتبطة بالمنوي ارتباط القبول بالايجاب و ارتباط ما يوصل بالكلام من الاستثناء و نحوه به فلا بد ان يتقارب ما بينهما من الزمن لأن طول الفصل يقطع الارتباط
و قال الخرقي و ان تقدمت النية قبل التكبير و بعد دخول الوقت ما لم يفسخها اجزاه و هذا كالنص في جواز التقديم بعد دخول الوقت و حمل القاضي و غيره ذلك على التقديم بالزمن اليسير
و الصواب اقراره على ظاهره و قد صرح أبو الحسن الامدي بمثل ذلك فقال يجوز تقديم النية على الصلاة بالزمن الكثير كما يجوز بالزمن اليسير ما لم يفسخها لانه إذا لم يفسخها لا يزال له فسخها فهو مستصحب بحكمها
و المنصوص عن احمد يشبه ذلك فانه سئل عن الذي يخرج من بيته يوم الجمعة ينوي قال خروجه من بيته نية و قال إذا خرج الرجل من بيته

فهو نيته افتراه كبر و هو لا ينوي الصلاة
و وجه ذلك انها عبادة مؤقتة فجاز تقديمها في أول الوقت المضاف اليها كالصوم و اولى لأن الصلاة تجب باول وقتها و الصوم إذا غربت الشمس فانما تدخل الليلة المضافة إلى اليوم و لانه إذا نوى من حين الوجوب فقد قصد امتثال الامر بعد توجهه اليه و لم يفسخ هذا القصد فكان قصدا صحيحا كالمقارن و لأن من اصلنا إن ما يتقدم العقود من الشروط والصفات فان العقد يقع على موجبه ما لم يفسخه المتعاقد ان فكذلك ما يتقدم عقود العبادات و اولى فانه إذا لم يكن فرق بين الشرط المقترن بالعقد و المتقدم عليه بزمن طويل أو قصير إذا لم يفسخ ذلك الشرط فكذلك لا فرق بين القصد المقترن بفعل العبادة و المتقدم عليها لأن بقاء القصد هنا ثابت بلاريب و هناك بقاء الحكم المشروط قد يرجع عنه أحد المتعاقدين لأن حكم الارادات المعتقدة لا يزول الا بفسخ تلك الاعقادات بل يترتب عليها الثواب و العقاب في كل وقت كما ان حكم المعلوم المعتقد كذلك و لذلك يوصف الرجل بالاعتقاد للعلم و الاعتقاد للعمل حتى يقال هو محب و مبغض و عالم و نحو ذلك مع غروب هذه الاشياء عن قلبه إذا لم ينفسخ و اذا لم يزل حكمها فيجب اعتباره

فصل
قال القاضي و غيره و يستحب ان تقارن النية التكبير ذكرا إلى اخر جزء

منه بان ينوي قبل التكبير ما يريده من الصلاة و يديم استحضار ذلك في قلبه إلى اخر التكبير ليخرج بذلك من الاختلاف و لانه يستحب له اصطحاب ذكر النية إلى اخر الصلاة فاصطحابه إلى اخر التكبير اولى وليس لهذا اصل في كلام احمد و اكثر اصحابه و كلام بعضهم يدل على أنه إنما يستحب له اصطحاب ذكر النية إلى حين التكبير و هذا هو المقارنة المستحبة على هذا القول لانه بعد ذلك ينبغي ان يشتغل بالتكبير و تدبره و في ذلك شغل عن غيره و كذلك اصطحاب ذكر النية المعتبرة في جميع الصلاة لا يؤمر به على هذا لأن الصلاة فيها ذكر مشروع في جميعها من قراءة و تكبير و تسبيح و دعاء و غير ذلك ففي تدبره شغل عن تصور غيره و لانا قد بينا ان استحضار النية حين النطق بالتكبير بغيره من الاذكار متعذر أو متعسر فيجب تقديم استحضار معنى التكبير لثلاثة اوجه
احدها أنه هو المقصود و إنما النية وسيلة اليه
الثاني ان استحضار معناه لا يتقدم النطق به و لا يتأخر عنه فان معنى اللفظ مقارن له بخلاف النية فان تقدمها واجب لأن ارادة القول و الفعل لا بد ان تسبق المراد
الثالث ان الكلام إذا لم يتصور معناه و لم يتدبره كان لفظا بلا معنى و ذلك تشبيه له بالمهمل و إخراج له عن حقيقته حتى يصير كجسد لا روح فيه و اما النية فان استحضارها عند ارادة التكبير كاف و هذا الكلام إنما يرد إذا كانت العبادة قولا من الاقوال كالتكبير فاما إذا كانت فعلا كالوضوء و الغسل فان استدامة ذكر النية في أول جزء من الفعل سهل متيسر لأن استحضار النية لا يشغل عن الفعل و قد يقوى القلب عن استحضار النية

مع استحضار معنى القول في حالة واحدة لكن هذا يكون في قليل من الناس
فان قيل فقد قال تعالى و ما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين و هذا يقتضي وجود الاخلاص حين العبادة لأن الحال في الامر يجب ان تكون مقارنة للفعل العامل فيها
قلنا اولا هذا في نية الاخلاص لا في نية العمل المييزة له عن غيره و هما نيتان كما تقدم لأن هذه حقيقة المقصود و تلك تكملة له
و ثانيا ان النية المستصحبة حكما نية صحيحة و بها يكون الانسان مخلصا و ناويا بدليل الاجماع على جواز الذهول عن ذكر النية في اثناء الصلاة
فصل
و محل النية القلب فلو تلفظ بخلاف ما نواه فالاعتبار بما نواه لا بما لفظ به لأن الفظ النية ليس من الصلاة
و ان لفظ بما نواه فقال القاضي و خلائق من اصحابنا هو اوكد و افضل ليجمع بين القلب و اللسان و قال ابن عقيل ان كان ممن يعتريه الوسواس و لا تحصل له نية بقلبه الا ان يستنهضها بلسانه فعل ذلك

لأن عليه تحصيل العقد باي شيء يحصل له كما يجب عليه تحصيل الماء بالشراء و السعي اليه إذا بعد و استعاره إذا كان في قعر بئر و غير ذلك من التسبب إلى العبادات و قد قال احمد في رواية أبو داود و سأله هو قبل التكبير تقول شيئا قال لا و حمله بعض اصحابنا على أنه ليس قبل التكبير ذكر مشروع و كلام احمد عام في الذكر و اللفظ بالنية و ذلك لأن النية محض عمل القلب فلم يشرع اظهارها باللسان لقوله سبحانه قل اتعلمون الله بدينكم و الله يعلم ما في السماوات و ما في الارض و الله بكل شيء عليم و فاعل ذلك يعلم الله بدينه الذي في قلبه و لهذا قال العلماء في قوله إنما نطعمكم لوجه الله لم يقولوه بالسنتهم و إنما علمه الله من قلوبهم و لهذا لم يستحبوا ان يتلفظ بنية الاخلاص
و لأن التلفظ بذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم و لا عن اصحابه و لا عن أحد من التابعين لهم باحسان و معلوم ان ذلك لو كان مستحبا لفعلوه وعلموه و امروا به و لو كان ذلك لنقل كما نقل سائر الاذكار و إذا لم يكن كذلك كان من محدثات الامور و لأن النية مشروعة في جميع الواجبات و المستحبات

بل يستحب ان تكون جميع حركات العبد و سكناته بنية صالحة فلو كان اللفظ بها مستحبا لاستحب لمن يشيع جنازة ان يقول اتبعها ايمانا و احتسابا و لمن جاهد في سبيل الله ان يقول نويت بجهادي ان تكون كلمة الله هي العليا و إذا انفق نفقة ان يقول ابتغي بهذه النفقة وجه الله إلى سائر الاعمال و معلوم يقينا ان النبي صلى الله عليه و سلم و السابقين و التابعين لم يكونوا يتكلمون بهذه النيات مع وجودها في قلوبهم و لأن حصول النية في القلب امر ضروري للفعل حتى لو اراد ان يفعله بلا نية لم يمكن
و إذا حضرت النية فلو عبر عنها بما يدل على خلافها لم يؤثر ذلك لانها مما يعرض للقلب بمنزلة الفرح و الحزن و الحب و البغض و الرضى و السخط و الشهوة و النفرة و معلوم ان قصد تحقيق هذه الاشياء بالتعبير عنها قبيح و لأن ذلك تكثير لكلام لا اصل له و فتح لباب اللغو من القول فكان حسمه اولى و القول في الطهارة و الصيام مثل هذا
فان قيل قد استحببتم ان يتكلم بما ينوي في الحج و قد نص احمد على ذلك و روي عن جماعة من السلف
قلنا الفرق بينهما من ثلاثة اوجه
احدهما ان التكلم في الحج ماثور عن النبي صلى الله عليه و سلم و مأثور عن الصحابة و التابعين قبل التلبية و في اثناء التلبية
الثاني ان الحج ليس في اوله ذكر واجب عند اصحابنا و لا له حد من الافعال الظاهرة يدخل به فيه فاستحب ان يتكلم بالنية ليبين أول الاحرام
الثالث ان اكثر الناس لا يعلمون ما يقصدون بالاحرام حتى يتكلموا به بخلاف الصلاة و الصوم فان المقصود معلوم لهم و النية تتبع العلم و بكل

حال فلا يستحب الجهر بشيء من اللفظ بالنية بل يكره الجهر به في الامام و المأموم كدعاء الاستفتاح و تسبيح الركوع و السجود و اولى

فصل
إذا قطع النية في الصلاة بطلت لفوات اصطحاب النية لأن جزءا من الصلاة خلا عن النية فلم يصح بدون النية و متى بطل بعضها بطل جميعها و لانه شرط من شرائط الصلاة فوجب استدانته إلى اخر الصلاة كالاستقبال و السترة
و ان عزم ان يقطعها فيما بعد أو تردد هل يقطعها ام لا ففيه ثلاثة اوجه
احدها انها تبطل قاله القاضي و غيره لأن الواجب عليه استدامة النية و لم يستدمها فاشبه ما لو احرم بالنية قبل الاحرام ثم تردد حين الاحرام أو نوى حينئذ سيقطعها و لأن القياس كان يقتضي استدامة ذكر النية و إنما سقط لمشقته و لا مشقة في الامساك عن التردد
و الثاني لا تبطل قاله ابن حامد لأن في حديث ابن مسعود قال صليت مع النبي صلى الله عليه و سلم ليلة فأطال حتى هممت بأمر شر قيل له و ما

هممت به قال هممت ان اجلس و ادعه متفق عليه
و عن انس ان ابا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي صلى الله عليه و سلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين و هم صفوف في الصلاة فكشف النبي صلى الله عليه و سلم ستر الحجرة لينظر الينا و هو قائم فكأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم فضحك فههمنا ان نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه و سلم فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف و ظن ان النبي صلى الله عليه و سلم خارج إلى الصلاة فاشار الينا النبي صلى الله عليه و سلم ان اتموا صلاتكم و ارخى الستر متفق عليه و لأن المبطل إنما افسد النية و هذا لم يوجد و إنما تردد في فعله أو عزم عليه فاشبه ما لو نوى ان يتكلم فانه لو نوى ان يفعل ما يبطل الصلاة غير قاصد لابطالها لم تبطل بلا تردد
والثالث يبطل بالعزم على قطعها دون التردد في قطعها لأن التردد لا يقطع نية جازمة بخلاف العزم الجازم
فصل
و ان شك في اثناء الصلاة هل نوى ام لا أو شك هل كبر للافتتاح ابتدا الصلاة لأن الاصل عدم ما شك فيه فان ذكر أنه كان نوى أو كبر قبل ان يقطعها بنيته أو ياخذ في عمل منها بنى على ما مضى لانه لم يوجد مبطل فان الشك وحده غير مبطل كما لو شك هل صلى ركعة ثم ذكر أنه

كان صلاها و ان ذكر بعد ان فعل شيئا منها فقال ابن حامد يبني ايضا و هو الذي ذكره القاضي في المجلد و الجامع الكبير لأن الشك لا يزيل حكم النية كما لو لم يحدث عملا و ذلك لأن كل جزء من اجزاء الصلاة يجب فيه اصطحاب النية و مع هذا فلو شك و بقي ساعة يفكر ثم ذكر بنى على صلاته و لو كان ذلك الجزء في حكم غير المنوي لم تصح الصلاة فكذلك العمل
و حكي عن القاضي ان ذلك يبطل لأن هذا العمل من الصلاة فاذا خلا عن النية لم تصح و متى بطلت بعضها بطل جميعها و لأن عليه ان يفعل شيئا من الصلاة حال الشك فمتى خالف و فعل لم تصح صلاته و ان كان مصيبا في الباطن كما في نظائره
و قال جدي أبو البركات ما فعل مع الشك كما فعل بغير نية فلا يعتد به و يكون زيادة في الصلاة فاذا كان مما لا تبطل الصلاة زيادته كالقراءة و التسبيح فله ان يبني على ما قبله و ان كان مما يبطل الصلاة زيادته كالركوع و السجود بطلت به
و إذا شك هل احرم بنفل أو فرض اتمها نفلا إلى ان يذكر أنه نوى الفرض قبل ان يحدث عملا و ان ذكره بعد عمل اخذ فيه فعلى الوجهين
و ان شك هل احرم بظهر أو عصر فهل هو كما لو شك في اصل النية أو في نية الفرض على الوجهين

باب ادب المشي إلى الصلاة
مسألة يستحب المشي إلى الصلاة بسكينة و وقار و يقارب بين خطاه و لا يشبك اصابعه
قال أبو عبد الله رحمه الله في رواية مهنى و يستحب للرجل إذا اقبل إلى المسجد ان يقبل بخوف و وجل و خشوع و خضوع و ان تكون عليه السكينة و الوقار ما ادرك صلى و ما فات قضى بذلك جاء الاثر عن النبي صلى الله عليه و سلم يعني و جاء عنه أنه كان يأمر باثقال الخطى يعني قرب الخطى إلى المسجد
و لا بأس إذا طمع ان يدرك التكبيرة الاولى ان يسرع شيئا ما لم يكن عجلة تقبح جاء الحديث عن اصحاب النبي صلى الله عليه و سلم انهم كانوا يعجلون شيئا إذا تخوفوا فوت التكبيرة الاولى و طمعوا في ادراكها و ذلك لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا سمعتم الاقامة فامشوا و عليكم السكينة و لا تسرعوا فما ادركتم فصلوا و ما فاتكم فاتموا و عن أبي قتادة قال بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم اذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال ما شانكم قالوا استعجلنا إلى الصلاة قال فلا تفعلوا إذا اتيتم الصلاة فعليكم السكينة فما ادركتم فصلوا و ما فاتكم فاتموا متفق

عليهما
فعلى هذا يكره الاسراع الشديد مطلقا و ان فاته بعض الصلاة لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك
و يكره الاسراع اليسير إلا إذا خاف فوت تكبيرة الافتتاح و طمع في ادراكها لما ذكره الامام احمد عن اصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم انهم كانوا يعجلون شيئا إذا تخوفوا فوت التكبيرة و طمعوا في ادراكها و قد روى سعيد في سننه عن رجل من طيء قال كان عبد الله ينهانا عن السعي إلى الصلاة فخرجت ليلة فرأيته يشتد الى الصلاة فقلت يا ابا عبد الرحمن كيف تنهانا عن السعي إلى الصلاة فرأيتك الليلة اشتددت اليها قال اني و ابيك بادرت حد الصلاة يعني التكبيرة الاولى و هذا يدل على ان هذا الموضع غير داخل في نهي النبي صلى الله عليه و سلم لأن اصحابه اعلم بمعنى ما سمعوه منه فان ابن مسعود من جملة رواة هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم وسياق الحديث يدل على ان النهي إنما هو لمن فاتته تكبيرة الافتتاح لانه في اناس سمع جلبتهم و هو في الصلاة و هذا بعد التحريم و في الحديث الاخر إذا سمعتم الاقامة فامشوا إلى الصلاة فغالب من يكون بعيد الدار عن المسجد إذا اتى حين يسمع الاقامة تفوته التكبيرة و الفرق بين هذا الموضع و غيره أنه جاء فضل عظيم فيمن يدرك حد الصلاة و ادراك

الحد ان يدرك اولها و هو ان يدرك الصلاة قبل تكبيرة الامام ليكون خلف الامام إذا كبر للإفتتاح و هذا القدر لا ينجبر إذا فات لانه يكون مدركا للركعة و لو ادرك الامام في الركوع بخلاف ما إذا فاتته الركعة فانه يمكن ان يقضي ما فاته و بخلاف ما إذا فاته حد الصلاة فانه قد ايس من ادراك الحد فاذا كان هذا المقصود العظيم الذي لا ينجبر فواته يحصل باسراع يسير لم يكره ذلك
فاما الاسراع لادراك الركعة فباق على عموم الحديث بل هو المقصود منه لأن الفوات إنما يكون بفوات الركعة لانه صلى الله عليه و سلم قال لابي بكرة لما اسرع لادراك الركوع زادك الله حرصا و لا تعد
و ان خشي فوات الجماعة أو الجمعة بالكلية فلا ينبغي ان يكره له الاسراع هنا لأن ذلك لا ينجبر إذا فات و قد علل رسول الله صلى الله عليه و سلم الامر بالسكينة لقوله فما ادركتم فصلوا و ما فاتكم فاتموا فمن لا يرجوا ادراك شيء إذا مشى عليه السكينة يدخل في هذا الحديث و قد قيده في الحديث الاخر إذا سمعتم الاقامة فعلم ان الخطاب لمن ياتي الصلاة طامعا في ادراكها و لا فرق فيما ذكرناه من كراهة الاسراع لمن رجى الادراك بين الجمعة و غيرها لعموم الحديث و قد روى الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الاناة من الله و العجلة من الشيطان و قال صلى الله عليه و سلم ان فيك لخلتين

يحبهما الله الحلم و الأناة رواه مسلم و كان قد استأنى في دخوله على النبي صلى الله عليه و سلم دون رجال قومه و اصل ذلك في قوله تعالى و عباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا قال الحسن و غيره سكينة و وقار و قال لقمان في وصيته لابنه و اقصد في مشيك و اغضض من صوتك
و لأن الاسراع الشديد يذهب بالحلم و يغير العقل و الراي فكره لما فيه من هذه المفاسد و غيرها و لانه إذا استانى و صلى البعض في الجماعة و البعض منفردا كان اصلح و ابلغ في اجتماع همه على الصلاة من الاسراع الشديد الذي تتعقبه الصلاة و لهذا قال صلى الله عليه و سلم لابي بكرة زادك الله حرصا و لا تعد و لهذا امر صلى الله عليه و سلم بتقديم العشاء و الخلاء على الصلاة ليجمع القلب عليها
فان قيل فقد قال تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع
قلنا السعي في كتاب الله لمعنى الفعل و العمل دون العدو قال

تعالى ان سعيكم لشتى وقال و من اراد الاخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا و قال و إذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها و قال تعالى عن فرعون ثم ادبر يسعى و قال و اما من جاءك يسعى وقال إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الارض فسادا و منه يقال السعي على الصدقات كما يقال العامل عليها و قد كان عمر رضي الله عنه يقول فامضوا إلى ذكر الله و ذروا البيع و يقول لو قرأتها فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي فقد اتفقوا على أنه ليس المراد بالعدو و لكن من فهم من السعي أنه العدو كما في الحديث اختار الحرف الاخر و اما حرف العامة فقد تبين معناه
و إنما استحببنا المقاربة بين الخطأ لما روى أبو هريرة عن الني صلى الله عليه و سلم قال إذا تطهر الرجل ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه الا الصلاة لم يخط خطوة الا رفعت له بها درجة و حطت عنه بها خطيئة متفق عليه
و عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا تطهر

الرجل ثم اتى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات و القاعد يرعى الصلاة كالقانت و يكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع اليه رواه احمد و عن زيد ابن ثابت رضي الله عنه قال اقيمت الصلاة فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يمشي و انا معه فقارب الخطى ثم قال تدري لم فعلت هذا لتكثر خطاي في طلب الصلاة رواه عبد ابن حميد
و اما التشبيك بين الاصابع فيكره من حين يخرج و هو في المسجد أشد كراهة و في الصلاة أشد واشد لما روى كعب بن عجرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إذا توضا احدكم ثم خرج عامدا إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه فانه في صلاة رواه احمد و أبو داود و الترمذي و عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم راى رجلا يشبك اصابعه في الصلاة ففرج

رسول الله صلى الله عليه و سلم بين اصابعه رواه ابن ماجة و عن أبي سعيد رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا كان احدكم في المسجد فلا يشبكن فان التشبيك من الشيطان و ان احدكم لا يزال في الصلاة ما دام في المسجد حتى يخرج منه رواه احمد
قال أبو عبد الله في رسالته و اعلموا ان العبد إذا خرج من منزله يريد المسجد يأتي الله الجبار الواحد القهار العزيز الغفار وإن ان كان لا يغيب عن الله تعالى حيث كان و لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل و لا اصغر من ذلك و لا اكبر في الارضين السبع و لا في السماوات السبع و لا في البحار السبع و لا في الجبال الصم الصلاب الشوامخ البواذخ و إنما يأتي بيتا من بيوت الله يريد الله و توجه إلى الله و إلى بيت من البيوت التي اذن الله ان ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الاصال رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله فاذا خرج من منزله فليحدد لنفسه تفكرا و ادبا غير ما كان عليه و غير ما كان فيه قبل ذلك من حالات الدنيا و اشغالها و ان يخرج بسكينة و وقار فان النبي صلى الله عليه و سلم بذلك امر و ليخرج برغبة و رهبة و بخوف و وجل و خضوع و ذل و تواضع لله عز و جل فانه كلما تواضع لله عز و جل و خشع وذل لله عز و جل كان ازكى لصلاته و احرى لقبولها و اشرف للعبد و اقرب له من الرب و إذا تكبر قصمه الله و رد عمله و ليس يقبل من المتكبر عملا جاء الحديث عن ابراهيم عليه السلام خليل الله عز و جل أنه احيا ليلة

فلما اصبح اعجب بقيام ليلته فقال نعم الرب رب ابراهيم و نعم العبد ابراهيم فلما كان غداؤه لم يجد احدا ياكل معه فنزل ملكان من السماء فاقبلا نحوه فدعاهما ابراهيم إلى الغداء فاجاباه فقال لهما تقدما بنا إلى هذه الروضة فان فيها عينا و فيها ماء فنتغذى عندها فتقدموا الى الروضة فاذا العين قد غارت فليس فيها ماء فاشتد ذلك على ابراهيم و استحيا مما قال اذ رأى غير ما قال فقالا له يا ابراهيم ادع ربك و اساله ان يعيد الماء في العين فدعا الله عز و جل فلم يرى شيئا و فاشتد ذلك عليه فقال لهما ادعوا الله فدعا احدهما فرجع و هو بالماء في العين ثم دعا الاخر فاقبلت العين فاخبراه انهما ملكان و ان اعجابه بقيام ليلة رد دعاءه عليه و لم يستجب له

مسألة ثم يقول بسم الله الذي خلقني فهو يهدين الآيات إلى قوله الا من اتى الله بقلب سليم ويقول اللهم اني اسالك بحق السائلين عليك إلى آخره ويستحب لكل من خرج من بيته إلى الصلاة و غيرها ان يقول ما روي انس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من قال إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلى بالله قيل له هديت و كفيت و وقيت وتنحى عنه شيطان فيلقاه شيطان اخر فيقول مالك برجل قد هدي و كفي و وقي رواه و قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه الا في هذا الوجه و عن ام سلمة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا خرج من بيته قال بسم الله توكلت على الله اللهم انا نعوذ بك من ان نزل أو نضل أو نظلم أو نظلم أو نجهل أو يجهل علينا هذا لفظ الترمذي و قال حديث حسن صحيح

و اما الخارج إلى الصلاة خصوصا فقد روي أنه يقول بسم الله الذي خلقني فهو يهدين إلى قوله الا من اتى الله بقلب سليم
و الدعاء الاخر رواه فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج الرجل من بيته إلى الصلاة و قال اللهم اني اسالك بحق السائلين عليك و بحق ممشاي هذا فإني لم اخرج اشرا و لا بطرا و لا رياء و لا سمعة خرجت اتقاء سخطك و ابتغاء مرضاتك اسالك ان تنقذني من النار و ان تغفر لي ذنوبي أنه لا يغفر الذنوب الا انت رواه احمد و ابن ماجة و الطبراني

مسألة فان سمع الاقامة لم يسع اليها
قد تقدمت هذه المسألة
مسألة إذا اقيمت الصلاة فلا صلاة الا المكتوبة
وجملة ذلك أنه إذا شرع المؤذن في الاقامة فلا يشتغل عن المكتوبة بتطوع سواء خشي ان تفوته مع الامام الركعة أو لم يخش و سواء كان التطوع سنة راتبة أو غير راتبة و سواء في ذلك ركعتا الفجر و غيرهما و سواء كان يريد ان يصلي التطوع في بيته أو في المسجد الا ان يكون يريد ان يصلي في مسجد اخر أو جماعة اخرى حيث يشرع ذلك و صرح بعض اصحابنا بان ذلك لا يجوز فان خالف و صلى ففي انعقاد صلاته وجهان و ذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن ان النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا اقيمت الصلاة فلا صلاة الا المكتوبة رواه الجماعة الا البخاري و في رواية لاحمد إذا اقيمت الصلاة فلا صلاة الا التي اقيمت و عن عبد الله بن بحينة ان الرسول صلى الله عليه و سلم راى رجلا و قد اقيمت الصلاة يصلي ركعتين فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم لاث به الناس فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم آلصبح

اربعا آلصبح اربعا متفق عليه و عن عبد الله بن سرجس قال دخل رجل والنبي صلى الله عليه و سلم في صلاة الغداة فصلى ركعتين في جانب المسجد ثم دخل مع النبي صلى الله عليه و سلم فلما سلم النبي صلى الله عليه و سلم قال يا فلان أي الصلاتين اعتددت ابصلاتك وحدك أو صلاتك معنا رواه مسلم و النسائي و أبو داود و ابن ماجة
و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال اقيمت صلاة الصبح و فقام رجل يصلي الركعتين فجذب النبي صلى الله عليه و سلم بثوبه و قال اتصلي الصبح اربعا رواه احمد و ذلك لأن المؤذن إذا اخذ في الاقامة فقد وجب الدخول في الصلاة معه و لأن الجماعة واجبة فلا يجوز ان يشتغل عن ذلك بما هو دونه لانه من اخذه في الإقامة تعين وقت فعل الصلاة لأن الوقت الذي تفعل فيه الصلاة من وقتها المحدود شرعا الذي اجيزت فيه الصلاة ليس هو مؤقتا من جهة الشارع و إنما هو مفوض إلى الامام فهو الذي يعين الوقت الذي يصلي فيه الناس بتعيينه و تقدر صلاة المامومين بتقديره و لهذا كان الامام املك بالإقامة فاذا اقيمت الصلاة فقد دخل الوقت الذي عينه الامام و هو وقت مضيق لانه حين فعل الصلاة لا يمكن الاشتغال بعبادة اخرى فايما

صلاة صليت بعد الاقامة كانت كانها هي الصلاة المأمور بها المشروعة حينئذ لأن ذلك الوقت لا يتسع لغير ما امر به فمن صلى بعد ذلك غير المكتوبة فكانه زاد في المكتوبة أو صلاها مرتين و لهذا و الله اعلم اشار صلى الله عليه و سلم بقوله آلصبح اربعا و بقوله باي صلاة اعتددت بصلاتك وحدك أو بصلاتك معنا اذ لا صلاة بعد الاقامة الا ما دعي اليه بالاقامة و ايضا فان السنن يمكن ان تفعل بعد الفريضة قضاء و ما يفوته من إدراك حد الصلاة وما يفوته من الصلاة خلف الامام و لو بعد ركعة جماعة لا يستدرك بالقضاء فكانت المحافظة على ما لا يستدرك اولى من المحافظة على ما يمكن استدراكه
و لأن ما يدركه من تكبيرة الافتتاح و التامين و الركوع افضل من جميع التطوعات لما ورد في فضل من ادرك حد الصلاة و من ادرك التامين مع الامام و لأن الاشتغال باجابة المؤذن اولى من الاشتغال بالنافلة على ما تقدم لكون ذلك وقت الاجابة فلان يكون الاشتغال بما دعي اليه اولى من النافلة بطريق الاولى
فان كان قد شرع في النافلة و اقيمت الصلاة اتمها ان رجى اتمامها و ادراك الجماعة و ان خشي إذا اتمها ان تفوته الجماعة قطعها في احدى الروايتين لأن الفرائض اهم فان الجماعة واجبة و اتمام النافلة ليس واجبا في المشهور

و في الاخرى يتمها لقوله تعالى و لا تبطلوا اعمالكم
لكن ان علم ان الصلاة تقام قريبا فهل ينبغي ان يشرع في نافلة ينبغي ان يقال أنه لا يستحب ان يشرع في نافلة يغلب على ظنه ان حد الصلاة يفوته بسببها بل يكون تركها لادراك أول الصلاة مع الامام و اجابة المؤذن هو المشروع بما تقدم من ان رعاية جانب المكتوبة بحدودها اولى من سنة يمكن قضاؤها أو لا يمكن

مسالة و إذا اتى المسجد قدم رجله اليمنى في الدخول و قال بسم الله و الصلاة و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي و افتح لي ابواب رحمتك و إذا خرج قدم رجله اليسرى و قال ذلك الا أنه يقول و افتح لي ابواب فضلك
اما تقديم اليمنى فلما ذكره البخاري عن ابن عمر أنه كان يبدأ برجله اليمنى فاذا خرج بدأ برجله اليسرى و لأن ما اشتركت فيه اليدان أو الرجلان و كان من باب الكرامة قدمت فيه اليمنى و ان كان خلاف ذلك قدمت فيه اليسرى
و لهذا يقدم في الانتعال اليمنى و في الخلع اليسى كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم و يقدم في دخول الخلاء اليسرى دخولا و اليمنى خروجا كما تقدم
فان كان خلع نعله على باب المسجد بحيث يخلع النعل و يدخل قدمه فينبغي ان يقال هنا أنه يخلع اليسرى و يضعها على النعل ثم يخلع اليمنى و يضعها على النعل كذلك ثم يدخل اليمنى ثم يدخل اليسرى ليكون مؤخرا لليمنى في الخلع مقدما لها في الدخول
و اما الذكر فلما روت فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة بنت

رسول الله صلى الله عليه و سلم قالت كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل المسجد قال بسم الله و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي ابواب رحمتك و إذا خرج قال بسم الله و السلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي ابواب فضلك رواه احمد و ابن ماجة و الترمذي و قال فيه صلى على محمد و سلم بدل قوله بسم الله والسلام على رسول الله و قال حديث حسن و ليس اسناده بمتصل و فاطمة بنت الحسن لم تدرك فاطمة الكبرى إنما عاشت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم اشهرا و قد روي هذا الحديث من وجوه متعددة بهذا الاسناد و اتفقت جميعها على أنه كان يقول إذا دخل اللهم اغفر لي ذنوبي و افتح لي ابواب رحمتك
و إذا خرج يقول مثل ذلك الا أنه يقول ابواب فضلك رواه احمد والنسائي و رواه مسلم و أبو داود و قالا عن ابن حميد أو أبي اسيد و رواه ابن ماجة و قال عن أبي حميد و رواه الطبراني و قال في اوله

فليسلم على النبي صلى الله عليه و سلم و قال في آخره و افتح لي ابواب فضلك و قد روى عبد الرزاق في تفسيره باسناد صحيح عن ابن عباس في قوله تعالى فاذا دخلتم بيوتا فسلموا على انفسكم قال إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا و على عباد الله الصالحين

فصل
و لا يجلس إذا دخل المسجد حتى يصلي ركعتين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا دخل احدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين رواه الجماعة الا النسائي
فصل
و يستحب إذا جلس لانتظار الصلاة ان يجلس مستقبلا القبلة لأن

خير المجالس ما استقبل به القبلة و لأن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة و من سنة المصلي أن يكون مستقبل القبلة قال القاضي و يكره الاستناد إلى القبلة و قد نص احمد على أنه مكروه قبل صلاة الغداة قال احمد ابن احرم رأيت أبا عبد الله دخل المسجد لصلاة الصبح فإذا رجل مسند ظهره إلى القبلة و وجه إلى غير القبلة قبل صلاة الغداة فأمره أن يتحول إلى القبلة و قال هذا مكروه و ذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه رأى رجالا قد اسندوا ظهورهم بين أذان الفجر و الإقامة إلى القبلة فقال عبد الله لا تحولوا بين الملائكة و بين صلاتهم و في لفظ تحولوا عن القبلة لا تحولوا بين الملائكة و بينها فان هذه الركعتين تطوع و قال إبراهيم كانوا يكرهون أن يتساندوا إلى القبلة قبل صلاة الفجر رواهن النجاد و عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله نهى أن تستدبر القبلة في مواقيت الصلاة رواه أبو حفص و لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن التشبيك في المسجد و علله بأن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة فكره لمن ينتظر الصلاة ما يكره للمصلي إلا ما تدعو إليه الحاجة و لأنه في مواقيت الصلاة يدخل الناس إلى المسجد ففي استدبار القبلة استقبال للمصلي من الملائكة و ذلك مكروه كراهية شديدة و إلى هذا المعنى أومأ عبد الله بن مسعود
و يستحب أن يتقدم في أوقات الصلوات إلى مقدم المسجد لأن السنة أن يكمل الصف الأول فالأول و لا بأس في ذلك في كل وقت

فأما وقت السحر فقد روي عن أبي النعمان قال حججت في خلافة عمر رضي الله عنه فقدمت المدينة فدخلت مسجد النبي صلى الله عليه و سلم فتقدمت إلى مقدم المسجد اصلي إذ دخل عمر رضي الله عنه فرآني فاخذ برأسي و جعل يضرب به الحائط و يقول ألم أنهكم أن تقدموا في مقدم المسجد بالسحر أن له عوامر و عن عبد الله بن عامر قال دخل حابس بن سعد الطائي المسجد من السحر و كانت له صحبة فإذا أناس في صدر المسجد يصلون فقال أرعبوهم فمن أرعبهم فقد أطاع الله و رسوله قال جرير بن عثمان كنا نسمع أن الملائكة تكون قبل الصبح في الصف الأول رواهما جعفر الفريابي قال القاضي و هذا يدل على كراهة التقدم في صدر المسجد وقت السحر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9