التهذيب في اختصار المدونة
المؤلف : أبي سعيد خلف بن أبي القاسم القيرواني

3117 - ومن وكل رجلاً يكري داره فأكراها بغير العين، أو حابى في الكراء، فهو كالبيع لا يجوز، ولو أعارها أو تصدق بها أو وهبها أو أسكنها أو حابى فيها رجع ربها على الوكيل بالكراء في ملائه، ثم لا رجوع للوكيل على الساكن. وإن كان الوكيل عديماً رجع ربها على الساكن بالكراء، ثم لا رجوع للساكن على الوكيل.
3118 - ومن اكترى داراً سنة فسكن فيها ستة أشهر ثم فلس، فربها أحق ببقية السكنى إلا أن يدفع إليه الغرماء حصة باقي الشهور من الكراء بالتقويم، فإن أبوا خير في الحصاص بجميع الكراء وإسلام الدار، أو أخذ باقي السكنى بحصته من الكراء، والحصاص بحصة كراء ما مضى.
3119 - ومن اكترى أرضاً ثلاث سنين فزرعها سنة أو سنتين ثم تهَوَّر بئرها، أو انقطعت عينها، قوّم العام الأول على قدر نفاقه، وتشاح الناس فيه، وليس كراء الأرض في الشتاء والصيف واحداً، وكذلك يحسب كراء الدور في الهدم، ولا يحسب على عدد الشهور والأعوام، وقد تكرى سنة لأشهر فيها كدور بمصر وبمكة، تكثر عمارتها في المواسم.
3120 - ومن اكترى أرضاً ليزرعها فغرق بعضها قبل الزراعة أو عطش، فإن كان أكثرها ردّ جميعها، وإن كان تافهاً حط عنه بقدر حصته من الكراء في كرمه ورداءته، لا بقدر مساحته منه إذا كانت مختلفة، ولزمه ما بقي من الأرض بحصته من الكراء، وكذلك في استحقاق بعض الأرض فيما يقل ويكثر.(1)
3121 - ولا بأس بكراء أرض المطر عشر سنين إن لم ينقد، فإن اشترط النقد فسد الكراء.
وإن كان اكتراها سنين، وقد أمكنت للحرث، جاز نقد حصة عامه هذا، فإن اكتراها قرب الحرث، وحين توقع الغيث، لم يجز النقد حتى تروى ويتمكن من الحرث.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (11/528)، والتاج والإكليل (5/444).

قال غيره: لا تكرى أرض المطر التي تروى مرة وتعطش أخرى، إلا قرب الحرث وتوقع الغيث، إذا لم ينقد، ولا يجوز كراؤها بالنقد حتى تروى رياً [مأموناً] متوالياً مبلغاً للزرع أو لأكثره، مع رجاء مطر غيره، ولا يجوز كراؤها إلا عاماً واحداً، إلا أن تكون مأمونة كأمن النيل في سقيها فلا بأس بكرائها قرب إبان شربها، بالنقد أو بغير النقد.
3122 - قال ابن القاسم: ومن اكترى أرضاً ليزرعها فقحطت السماء فلم يقدر على الحرث وقد أمكن من الأرض، أو غرقت أو لم يقدر أن يزرع أو كان لها بئر أو عين، فانهارت قبل تمام الزرع، فهلك الزرع لذلك، أو امتنع الماء الذي يحيا به الزرع من السماء أو من بئر أو عين حتى هلك الزرع فلا كراء على الزارع، وإن نقده رجع به، فإن جاءه بما] كفى بعضه أو هلك بعضه فإن حصد ماله بال، وله فيه نفع، فعليه من الكراء بقدره، ولا شيء عليه إن حصد ما لا بال له، ولا نفع له فيه.
وأما إن هلك زرعه ببرد أو جليد أو جائحة فالكراء عليه، وأما إن أتى مطر بعدما زرع فغرق زرعه أياماً، أو شهراً فأماته، فإن كان غرقه بعد مضي إبان الحرث، كان كالجليد والجراد والبرد، وإن كان غرقه في إبان لو انكشف الماء عن الأرض أدرك زرعها ثانية، فلم ينكشف حتى فات الإبان، فذلك كغرقها في الإبان قبل أن تزرع حتى فات الحرث فلا كراء عليه، ولو انكشف الماء في إبان يدرك فيه الحرث لزمه الكراء، وإن لم يحرث.
3123 - ويجوز النقد في أرض النيل قبل ريّها لأمنها.

قيل لمالك: فإن كانت أرض المطر فيما اختبر منها لا تخلف، أيجوز النقد فيها؟ قال: النيل أبين شاناً، وأرجو جواز النقد فيها إن كانت هكذا، بخلاف التي تخلف من أرض المطر، أو ذات بئر قل ماؤها، يخاف أن لا يقوم بها، فالنقد في هاتين خطر، لغلبة الغرر في أن يكفي ماؤها، فيغبن المكتري رب الأرض، أو لا يكون فيها ما يكفي، فيكون المكتري مغبوناً، ويصير النقد لهذا الغرر تارة ثمناً، وتارة سلفاً، كالنقد في المواضعة والخيار وبيع العهدة، ولم يدخلا في الماء المأمون في غرر، وإن انقطع الماء بأمر حادث فللمكتري إنفاق كراء سنته في غور بئر، أو عين، وليس له [ذلك] في غير المأمونة، إن أبى ربها.
3124 - ومن زرع في أرض الخراج بكراء مثل أرض مصر فغرقت أو عطشت فلا كراء عليه إذا لم يتم الزرع من العطش.
وأما أرض الصلح التي صالحوا عليها، إذا زرعوا فعطش زرعهم فعليهم الخراج. قال غيره: هذا إذا كان الصلح وظيفة عليهم، فأما إن صولحوا على خراج على الأرض معروف فلا شيء عليهم.
3125 - ومن اكترى أرضاً ليزرعا عشر سنين، فأراد أن يغرس فيها شجراً، فإن كان ذلك أضر بها منع، وإلا فله ذلك، كحمله على الراحلة غير ما اكتراها له.
وإن اكتريت أرضاً سنين مسماة، فغرست فيها شجراً فانقضت المدة، وفيها شجرك فلا بأس أن تكتريها من ربها سنين مستقبلة، ولو اكتريت أرضاً فأكريتها من غيرك فغرسها ثم انقضت مدة الكراء وفيها غرسه، فلك أن تكريها من ربها سنين مؤتنفة، ثم إن أرضاك الغارس وإلا قلع غرسه.
قال غيره: لا ينبغي ذلك حتى يتعامل الغارس ورب الأرض على ما يجوز، ثم يكري أرضه إن شاء، إلا أن يكريك أرضه على أن يقلع عنك الشجر.

3126 - قال ابن القاسم: ولو كان موضع الشجر زرعاً أخضر لم يكن لرب الأرض أن يكريها ما دام زرع هذا فيها، لأن الزرع إذا انقضت الإجارة لم يكن لرب الأرض قلعه، وإنما له كراء أرضه، وله أن يقلع الشجر فافترقا، إلا أن يكريها إلى تمام الزرع فلا بأس بذلك. قال سحنون: إن كانت الأرض مأمونة.
وإذا انقضت السنون وفي الأرض للمكتري زرع لم يبد صلاحه لم يجز لرب الأرض شراؤه، وإنما يجوز بيع زرع أخضر يشترط مع الأرض في صفقة، وكذلك الأصول بثمرها، وإن لم يشترطه المبتاع كان ما أثبر من الثمر أو ما ظهر في الأرض من الزرع للبائع، وإن لم تؤبر الثمرة ولم يظهر الزرع [في الأرض] فذلك للمبتاع.
3127 - ومن اكترى أرضاً فغرسها شجراً، ثم انقضت المدة فصالح ربها على بقاء الغرس في أرضه عشر سنين على أن له نصف الشجر، لم يجز، لأنه أكراه نصف الشجر يقبضها إلى عشر سنين، وقد تسلم أو لا تسلم. ولو بتل له الآن نصف الشجر جاز. وقال غيره: لا يجوز، لأنه فسخ دين في دين.
ومن اكترى أرضاً عشر سنين على أن يغرسها المكتري شجراً سماها، على أن الثمرة للغارس، فإذا انقضت المدة فالشجر لرب الأرض، لم يجز، لأنه أكراها بشجر لا يدري أيسلم أم لا؟.
ومن اكترى أرضاً يزرعها كل سنة بكذا، ولم يسم سنين بأعيانها، جاز ذلك، ولكل واحد منهما أن يترك متى شاء، ما لم يزرع المكتري، فحينئذ لا ترك لأحدهما تلك السنة خاصة، ويلزمه كراؤها، ويترك بعد ذلك إن شاء.
وإن قال المكتري: أنا أقلع زرعي، وأؤدي حصة ما مضى، لم يكن له ذلك، كان في إبان الحرث أو بعده، نه حين زرع فقد رضي بأخذ الأرض سنة.
وإن اكتريت من رجل أرضه قابلاً، وفيها الآن زرع له أو لمكتري عامه جاز، فإن كانت مأمونة كأرض النيل جاز شرط النقد فيها، وإلا لم يجز شرطه.

ومن اكترى داراً على أن لا يقبضها [إلا] إلى سنة، جاز ذلك، وجاز النقد فيها لا منها، فإن بَعُد الأجل جاز الكراء، ولا أحب النقد فيه، ولم يجز في سائر العروض والحيوان شراؤه على أن لا يقبض [إلا] إلى أجل، لغلبة الغرر في تغيره.(1)
3128 - ومن اكترى أرضاً سنة فحصد زرعه قبل تمام السنة، فأما أرض المطر فمحمل السنة فيها الحصاد، ويقضى بذلك فيها، وأما ذات السقي التي تكترى على أمد الشهور والسنين، فللمكتري العمل إلى إتمام سنته، وإن تمت وله فيها زرع أخضر أو بقل، فليس لرب الأرض قلعه، وعليه تركه إلى تمامه، وله فيما بقي كراء مثلها على حساب ما أكراها منه.
قال غيره: إن بقي من السنة بعد حصاده ما لا يتم فيه زرع فلا ينبغي أن يزرع، فإن فعل فعليه في زيادة المدة الأكثر من الكراء الأول، إذ كأنه رضيه أو كراء المثل.
3129 - ومن اكترى أرضاً ليزرعها شعيراً فأراد أن يزرعها حنطة، فإن كان ذلك أضر بالأرض منع، وله أن يزرع ما ضرره مثل ضرر الشعير فأدنى.
3130 - وإذا قال المكتري: اكتريت الأرض عشر سنين بخمسين، فقال ربها: بل خمس سنين بمائة. فإن كان بحضرة الكراء تحالفا [وتفاسخا] وإن كان قد زرعها سنة أو سنتين ولم ينقد فلربها فيما مضى ما أقر به المكتري إن أشبه تغابن الناس ويحلف، وإن لم يشبه فعلى قول ربها إن أشبه مع يمينه، فإن لم يشبه فله كراء المثل فيما مضى، ويفسخ باقي المدة على كل حال، وإنما فسخنا الكراء بقية الخمس سنين، وإن أقر بها رب الأرض لدعواه في كرائها أكثر من دعوى المكتري، وهذا إذا لم ينتقد، ومن قول مالك - رحمه الله - : إن رب الأرض والدابة والدار مصدق في الغاية [والمدة] فيما يشبه، وإن لم ينتقد.
__________
(1) انظر: منح الجليل (8/58).

قال غيره: إذا انتقد فالقول قول ربها مع يمينه فيما يشبه من المدة، فإن لم يأت بما يشبه، وأتى المكتري بما يشبه صدق فيما سكن على ما أقر به، ويرجع ببقية المال على ربها بعد يمين ربها [على ما ادعى عليه]، ويمين [المكتري] فيما ادعى عليه من طول المدة، وإن لم يشبه ما قال واحد منهما تحالفا وفسخ الكراء، وعلى المكتري قيمة كراء ما سكن، وإن أتيا بما يشبه صدق رب الدار، لأنه انتقد مع يمينه، ولم يسكن المكتري إلا ما أقر به المكري.
قال سحنون: وروى نحوه ابن وهب عن مالك: وهذا هو الأصل في الدور والرواحل والعبيد وغيرها، فرد إليه ما خالفه.
3131 - قال ابن القاسم: ومن زرع أرض رجل، وادعى أنه اكتراها منه، وربها منكر، فربها مصدق مع يمينه، إلا أن يعلم به ربها حين زرع، ولم ينكر عليه، فإن قامت بذلك بينة أو لم تقم بينة، فأحلف عليه فنكل، فليس له إلا ما أقر به المكتري مع يمينه إلا أن يأتي بما لا يشبه.
قال غيره: علم به أو لم يعلم، فله الأكثر من كراء المثل، أو ما أقر به المكتري مع يمينه على دعوى المكتري إن كان كراء المثل أكثر من دعواه.
قال ابن القاسم: وإن لم يعلم وقد مضى إبان الزراعة، فله كراء المثل ولا يقلعه وإن لم يفت الإبان ولم تقم [له] بينة أنه علم به فتركه، ولا أنه أكراه، حلف على ذلك ثم خُيّر بين أن يأخذ من المكتري ما أقر به، قال غيره: أو كراء المثل.
قالا: فإن أبى فله أن يأمره أن يقلع زرعه، إلا أن يتراضيا على ما يجوز فينقد بينهما، ولو تركه لرب الأرض جاز ذلك إن رضي بها، وإن لم يكن للمكتري في الزرع نفع إذا قلعه، لم يكن له قلعه، وبقي لرب الأرض، إلا أن يأباه فيأمره بقلعه.

3132 - ومن اكترى من رجل أرضاً فتشاحا في النقد، فإن كان لأهل البلد سنة في كراء الأرض حملا عليها، وإلا نظر، فإن كانت كأرض النيل التي تروى في مرة، لزم المكتري النقد إذا رويت، وإن كانت لا يتم زرعها إلا بالسقي أو المطر فيما يستقبل بعد الزراعة، لم ينقده إلا بعد تمام ذلك.(1)
قال غيره: إن كانت من أرض السقي وكان السقي مأموناً، وجب له كراؤه نقداً.
قال ابن القاسم: وإن كانت تزرع بطوناً كالقصب والبقول نقده لكل بطن حصته بعد أن يسلم. قال غيره: عليه بقدر حصة أول بطن.
والفرق بين النقد في الدور والرواحل، وبينه في الأرض غير المأمونة، أنه ليس له في الأرض بحساب ما يمضي إذ لا كراء له إذا عطش الزرع، وفي تينك في كل وقت يمضي قد وجب كراؤه وتم نفعه، فإذا لم يكن للنقد فيها سنة وجب له كراء ما مضى.
3133 - ومن اكتريت منه أرضه الغرقة بكذا إن انكشف عنها الماء، وإلا فلا كراء بينكما، جاز إن لم تنقد، ولا يجوز النقد إلا أن يوقن بانكشافه، قال غيره: إن خيف أن لا ينكشف لم يجز وإن لم ينقد.
3134 - ومن اكترى أرضاً أو داراً كراءً فاسداً وقبض ذلك، فلم يسكن ولم يزرع حتى مضت المدة، فعليه كراء المثل، ولو لم يقبض الأرض، ولا الدار، لم يلزمه كراء، وكذلك الدابة. وكل كراء فاسد ففيه إن سكن كراء المثل، كان أقل من التسمية أو أكثر، ولا ينتقض الكراء بموت المتكاريين أو أحدهما.
ومن اكترى داراً أو أرضاً فلم يجد بذراً، أو سجنه سلطان باقي المدة، فالكراء يلزمه، ولا يعذر بهذا، ولكن يكريها إن لم يقدر هو على أن يزرعها.
3135 - ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة والمحاقلة.(2)
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/393)، ومواهب الجليل (5/394).
(2) رواه مالك في الموطأ (2/624، 625)، والبخاري (2381)، ومسلم (1536)، وأبو داود (3304)، والترمذي (1290)، وابن ماجة (2266)، وأحمد في المسند (3/360)، وأبو عوانة (3/307، 321)، والشافعي في مسنده (ص146).

والمزابنة: اشتراء الرطب بالتمر، والمحاقلة: اشتراء الزرع بالحنطة، واكتراء الأرض بالحنطة.(1)
قال ابن القاسم: ومن المحاقلة اكتراؤها بشيء مما تنبته، كمن اكترى الأرض بكتان فزرعها كتاناً، وفي حديث آخر أنه عليه السلام نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها، وهي المخابرة التي نهى عنها في حديث آخر، فلا يجوز كراء الأرض بشيء مما تنبت بفيما] قل أو كثر، ولا بطعام تنبت مثله، أو لا تنبته، ولا بما تنبته من غير الطعام، من قطن أو كتان أو أصطبة، إذ قد يزرع ذلك فيها فيصير محاقلة، ولا بقضب أو قرظ أو تبن أو علف، ولا بلبن محلوب أو في ضروعه، ولا بخبز أو سمن أو عسل أو تمر أو صير أو ملح، ولا بسائر الأشربة والأنبذة.
وإذا خيف في اكترائها ببعض ما تنبت من الطعام أن يدخله طعام بمثله إلى أجل خيف في اكترائها بطعام لا تنبته أن يكون طعاماً بطعام خلافه إلى أجل، ولا تكتري بفلفل ولا بزيت زريعة الكتان، أو بزيت الجلجلان، ولا بالسمك ولا بطير الماء الذي هو للسكين، ولا بشاة لحم، لأن هذا من الطعام، ولا بزعفران، لأنه مما تنبته، ولا بطيب يشبه الزعفران، ولا بعصفر.
ولا بأس بكرائها بالعود والصندل والحطب والخشب والجذوع، ويجوز كراؤها بالعين، وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقاله عدد من الصحابة والتابعين.
ومن أكرى أرضه بدنانير مؤجلة، فحلّت، فلا يأخذ بها طعاماً ولا إداماً، وليأخذ ما يجوز أن يبتديا به كراها.
ويجوز أن تكري أرضك بشجر بأصولها، وتأخذها من المكتري، إن لم يكن فيها يومئذ ثمر، فإن كان فيها [يومئذ] ثمر لم يجز، كما كره مالك شراء [شجر] فيها ثمر، بطعام عاجل أو آجل، ويجوز بيع رقبة الأرض بشجر فيها ثمر، كما تباع بطعام عاجل أو آجل.
3136 - ولا باس ببيع نخل بتمر إلى أجل يثمر النخل إليه، كشاة لا لبن فيها في لبن إلى أجل يصير إليه فيها اللبن.
__________
(1) انظر: شرح الزرقاني (3/345، 346)، والتمهيد (2/313)، (6/441، 443).

3137 - ولا يباع كتان بثوب كتان إلى أجل، لأنه يخرج منه، إلا أن يكون أجلاً قريباً لا يعمل في مثله من الكتان ثوب، فلا بأس به، كالقصيل يُسلم فيه شعير.
وأما القصيل بالشعير إلى أجل قريب أو بعيد فلا باس به، ولا بأس بكراء دار بدار أو أرض بأرض.
3138 - ويجوز أن تكتري من رجل أرضه تزرعها أنت العام بأرضك عاماً قابلاً ليزرعها هو، إن كانت أرضك مأمونة، يجوز النقد فيها، لأن أرضه كعرض انتقدته في أرضك.
ومن اكترى أرضاً يقبضها قابلاً بألف درهم، إلى عشر سنين [جاز ذلك]، وكذلك شراء الغائب بثمن إلى أجل أبعد من مسافته جائز، وليس ديناً بدين.
ومن أكرى أرضه بدنانير معلومة على أن يأخذ لكل دينار عشرين درهماً جاز، وكذلك بدراهم [على أن] يأخذ لكل عشرين منها ديناراً، والتعاقد واقع على المقبوض واللفظ لغو، ولو ثبت الكراء بدراهم مؤجلة لم يجز أن يأخذ بها دنانير معجلة أو مؤجلة حتى تحل، فيأخذ بها دنانير نقداً.
3139 - ومن اكترى أرضاً بدراهم وخمر في صفقة، فسد جميعها ولم تجز حصة الدراهم، وإن رضي المكري بترك الخمر لم يجز، وليس كالبيع والسلف.
ولا بأس بكراء الأرض بصوف على ظهور الغنم إن شرع في الجزّ مكانه أو إلى ما قرب من خمسة أيام أو عشرة.
ومن أكرى أرضه بدراهم إلى أجل، فلما حلّ الأجل فسخها في ثياب بعينها على أن يقبضها إلى ثلاثة أيام، لم يجز، إلا أن يقبض الثياب قبل أن يفترقا، لأنه من وجه الدين بالدين [ويجوز كراؤها بثياب موصوفة إذا ضرب لها أجلاً].
ويجوز الكراء بالخيار لأحدكما أو لكما، وإن لم تؤجلاه جاز، وأجله الإمام إلا أن يكون قد مضى مقداره، فيوقف الآن من له الخيار. وإن كانا بالخيار فاختلفا في الأخذ والرد، فالقول قول من أراد المرد.(1)
__________
(1) انظر: منح الجليل (9/590).

ومن اكترى أرضاً على أنه إن زرع حنطة فبكذا، أو شعيراً فبكذا، أو اكتراها بهذا الثوب أو بهذا العبد لم يجز، وكذلك إن قال: [أكريك هذه الدار] بقفيز حنطة، أو قفيزين شعيراً أيهما شاء المكري أو المكتري، وذلك كله معين أو مضمون قد لزمهما، أو أحدهما لم يجز، وذلك من بيعتين في بيعة، فأما على غير الإلزام لأحدهما ومن شاء ردّ، فذلك جائز.
3140 - ومن أكرى أرضه من رجل [على أن] يزرعها قصباً أو قصيلاً أو بقلاً أو قمحاً أو شعيراً أو قطنية، على أن ما أنبتت بينهما، أو هو مع الأرض بينهما لم يجز، وإن قال له: اغرسها شجراً، أو قال: نخلاً فإذا بلغت النخل كذا أو كذا سعفة، والشجر قدر كذا، فالأصول والشجر بينهما نصفين، فذلك جائز. وإن قال: فالأصول بيننا فقط، فإن كان مع مواضعها من الأرض جاز، وإن لم يشترط ذلك، وشرط له ترك الأصول في أرضه حتى تبلى لم يجز.
وإن أعطيت لرجل أرضك فليزرع لك فيها حنطة من عنده بطائفة من أرضك يزرعها لنفسه لم يجز، لأنك أكريته الأرض بما تنبت الأرض، وإن دفعت إليه أرضك يزرعها بحبك، على أن له طائفة أخرى من أرضك غير مزروعة جاز ذلك.
وإن قلت له: اغرس لي أرضي هذه نخلاً أو شجراً بطائفة أخرى من أرضي، جاز ذلك، وهذا ككراء الأرض بالخشب.
3141 - ومن اكترى ربع أرض ليزرعها أو جزءاً شائعاً قلّ أو كثر جاز ذلك كالشراء. ومن اكترى من رجل مائة ذراع من أرضه التي بموضع كذا جاز ذلك [كالشراء] إذا كانت متساوية، ولا يجوز في المختلفة حتى يسمي من أي موضع منها. قال غيره: فإن استوت لم يجز حتى يسمي الموضع.
3142 - ومن اكترى أرضاً على أن يكريها ثلاث مرات ويزرعها في الكراء الرابع جاز ذلك، وكذلك على أن يزبلها إن كان الذي يزبلها به شيئاً معروفاً، وإن شرط على أن يحرثها له ربها جاز ذلك، ولا بأس بالبيع والكراء في صفقة.

3143 - ولا بأس بكراء أرض أو دار غائبة ببلد قريب أو بعيد، على صفة أو رؤية متقدمة وينقده كالبيع، ثم لا رد له إن وجدها على الصفة، وإنما يجوز ذلك على رؤية متقدمة منذ أمد لا تتغير في مثله.
3144 - وللرجل بيع مراعي أرضه إذا بلغ خصبها أن يرعى، لا قبل ذلك فيبيع مرعاها سنة لا أزيد. وليس للرجل أن يكري ربع زوجته إلا بإذنها.
ولا أحب للوصي أن يشتري لنفسه شيئاً من مال يتيمه أو يكتري أرضاً له من نفسه، فإن نزل أعيد ما اشترى إلى السوق، فإن زيد عليه بيع، وإلا لزم الوصي ما سمى، وكذلك الكراء، إلا أن يكون إبّان الكراء قد مات، فيسأل أهل المعرفة عن الكراء، فإن كان فيه فضل غرمه الوصي، وإلا أدى ما عليه، و[لا] يرجع بالفضل إن كان له.
3145 - وإذا انتشر للمكتري في حصاده حب في الأرض، فنبت قابلاً فهو لرب الأرض، وكذلك من زرع زرعاً فحمل السيل زرعه إلى أرض غيره فنبت فيها. قال مالك: فالزرع لمن جره السيل إلى أرضه ولا شيء للزارع.
3146 - ومن ابتاع زرعاً أخضر على أن يحصده الآن، ثم أذن له رب الأرض في بقائه بكراء، أو بغير كراء، لم يجز، إلا أن يشتري الأرض بعد شرائه للزرع، فيجوز أن يبقيه فيها.
3147 - ومن اكترى أرضاً بعبد أو بثوب بعينه، فاستحق بعد الحرث أو الزراعة، فعليه كراء مثلها، وكذلك إن اكتراها بحديد أو رصاص أو نحاس بعينه، وقد عرفا وزنه فاستحق فالكراء ينتقض، إلا أن يكون قد زرعها أو حرثها أو أحدث فيها عملاً فعليه كراء المثل.
ومن أكرى أرضه من رجل سنة ثم اكتراها من غيره سنة أخرى بعد الأولى جاز ذلك.
3148 - ولا بأس أن يكري المسلم أرضه من ذمي إذا كان لا يغرس فيها ما يعصر منه خمراً. وأكره للمسلم كراء أرض الجزية ذات الخراج، وإن اكتريتها فجار السلطان عليك فأخذ منك الخراج، فإن لم يكن الذمي أداه رجعت عليه بالخراج المعلوم لا بما جار وزاد عليك السلطان، وإن كان الذمي قد أداه لم ترجع عليه بشيء.

3149 - وإذا فلس المكتري أو مات بعد أن زرع ولم ينقد، فربها أحق [بالزرع في الفلس وهو في الموت أسوة الغرماء، وكذلك رب الدار في فلس المكتري أحق] بالسكنى كلها إن لم يسكن المكتري، وإن سكن شيئاً فكلام غير هذا، وقد ذكرناه.
وإن فلس الجمال فالمكتري أحق بالجمال حتى يتم حمله، إلا أن يضمن له الغرماء حِملانه ويكتروا له من أملياء ثم يأخذون الإبل ويبيعونها في دَينهم. وقال غيره: لا يجوز أن يضمنوا حملانه.
وإن فلس المكتري أو مات فالجمال أولى بالمتاع، حتى يقبض كراءه، ويكري الغرماء الإبل في مثل ما اكترى، وجميع الصناع أحق بما في أيديهم في الموت والفَلَس.
وإن اكتريت أرضاً بدراهم، ثم أقالك ربها، على إن زدته دراهم فذلك جائز.
* * *

(كتاب القراض)
3150 - ولا تصلح المقارضة إلا بالدنانير والدراهم لا بالفلوس، لأنها تحول إلى الفساد والكساد، وليست عند مالك بالسكة البينة كالعين، وقد أخبرني عبد الرحيم أن مالكاً كان يجيز شراءها بالدنانير والدراهم، ثم رجع فكرهه.
وقد ذكر بعض أصحابنا أن مالكاً سهل في القراض بنقر الذهب والفضة، فسالت مالكاً عن ذلك، فقال: لا يجوز.(1)
3151 - قال ابن القاسم: ولا خير في القراض بطعام أو عرض، كان مما يكال أو يوزن أم لا، للغرر بتغير الأسواق عند المفاصلة، ويفسخ ذلك، وإن بيع ما لم يعمل بالثمن، فإن عمل به فله أجر مثله في بيعه، وقراض مثله في الثمن، ولا ينظر إلى ما شرط له من الربح.
وكذلك إن دفعت إليه مالاً [قراضاً] على النصف على أن يشتري عبد فلان ثم يشتري بعدما يبيعه ما شاء، فهو أجير في شرائه وبيعه، وفيما بعد ذلك له قراض المثل، وكذلك إن دفعت إليه دنانير على أن يصرفها ثم يعمل بها، أو على أن يقبض من غريمك ديناً ثم يعمل به فله أجر الصرف أو التقاضي وقراض مثله إن عمل.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/87).

ولا تدفع إليه وديعة لك عنده، أو ديناً لك عليه قراضاً، إلا أن تقبضه [منه] ثم تعيده إليه، لأن هذا اغتزاء الزيادة بتأخير الدين، ولعله أنفق الوديعة فيصير كالدين.
قال عبد العزيز: ولا تدفع إليه سلعتك وتقول: قامت عليّ بكذا، فما كان من ربح بعد ذلك فبيني وبينك، وهذا له أجر مثله فيما عمل، وما كان في سلعتك من ربح أو وضيعة فلك أو عليك.
3152 - ولا يجوز اشتراط عمل يد العامل لخفاف أو صناعة أو غيرها، فإن نزل كان أجيراً، والربح والوضيعة لرب المال أو عليه.
3153 - وتجوز المقارضة على النصف [والثلث والربع] والخمس أو أكثر من ذلك أو أقل، قلت: فإن أعطيته مالاً قراضاً على أن الربح كله للعامل؟ [قال:] قال مالك - رحمه الله - فيمن أعطى لرجل مالاً يعمل به على أن الربح للعامل، ولا ضمان عليه أنه لا بأس به، وكذلك المساقاة.
وإن قارضه ولم يسمّ ما له من الربح، وتصادقا على ذلك، أو على أن له شِرْكَاً في المال لم يسمه، كان على قراض مثله إن عمل.
وقال غيره: إذا قال: لك شرك في المال ولم يسمه وتصادقا، فذلك على النصف. وإن أعطيته قراضاً على النصف، ثم تراضيتما بعد أن عمل أن [تجعلاه] على الثلثين له أو لك جاز ذلك.
وإن قارضت رجلين على أن لك نصف الربح ولأحدهما الثلث وللآخر السدس لم يجز، كما لو اشتراه العاملان على مثل هذا، لم يجز، لأن أحدهما يأخذ بعض ربح صاحبه بغير شيء.
3154 - وإذا اختلف المتقارضان في أجزاء الربح قبل العمل، رد المال، إلا أن يرضى بقول ربه، وإن اختلفا بعد العمل فالقول قول العامل، كالصانع إذا جاء بما يشبه، وإلا رد إلى قراض مثله، وكذلك المساقاة، وإن ادعى أحدهما ما لا يجوز، مثل أن يدعي أن له من الربح مائة درهم ونصف ما بقي أو ثلثه، وادعى الآخر أن له الثلث أو النصف من الجميع، صدق مدعي الحلال منهما إذا أتى بما يشبه.

وإذا اشترط المتقارضان عند معاملتهما ثلث الربح للمساكين، جاز ذلك، ولا أحب لهما أن يرجعا فيه، ولا يقضى بذلك عليهما.
3155 - وإذا كان العامل مقيماً في أهله فلا نفقة له من المال ولا كسوة. قال الليث: إلا أن يشغله البيع فيتغدى بالأفلُس.
ولا ينفق منه في تجهزه في سفره حتى يظعن، فإذا شخص [به] من بلده كانت نفقته من المال في طعامه، وفيما يصلحه بالمعروف من غير صرف، ذاهباً وراجعاً إن كان المال يحمل ذلك، ولا يحاسب بذلك في ربحه، ولكن يلغى، وسواء [في ذلك] قرب السفر أو بعد، وإن لم يشتر شيئاً، وله أن يرد ما بقي بعد النفقة إلى صاحبه، فإذا رجع إلى مصره لم يأكل منه، وله أن يكتسي منه في بعيد السفر، إن كان المال يحمل ذلك، ولا يكتسي في قريبه، إلا أن يكون مقيماً بموضع إقامة يحتاج فيه إلى الكسوة.
3156 - ومن قدم إلى الفسطاط وأخذ مالاً قراضاً على أن يقيم يتجر به بالفسطاط وليست ببلده، فلينفق في مقامه، لأن المال حبسه بها، إلا أن يوطئها، أو ينتقل لسكناها، وإن لم يكن [له] بها أهل فلا نفقة له، ولو خرج بالمال إلى بلد فنكح [بها] وأوطنها فمن يومئذ تكون نفقته على نفسه.
ولو أخذ مالاً قراضاً بالفسطاط، وله بها أهل، فخرج به إلى بلد له بها أهلن فلا نفقة له في ذهابه ولا في رجوعه، لأنه ذهب إلى أهله، ورجع إلى أهله.
ولو أخذه في بلد ليس فيه أهله، ثم خرج إلى البلد الذي فيه أهله، فاتجر هناك فلا نفقة له في ذهابه إلى أهله، ولا في إقامته عندهم، وله النفقة في رجوعه.
وللعامل أن يؤاجر من مال القراض من يخدمه في سفره، إن كان المال كثيراً، وكان مثله لا يخدم نفسه، وله أن يؤاجر أُجراء للأعمال التي لا بد له من ذلك فيها ويكتري البيوت والدواب لما يحمل أو يخزن.

3157 - ولا ينبغي للعامل أن يهب منه شيئاً ولا يولي ولا يعطي عليه ولا يكافئ [فيه] أحداً، فأما أن يأتي بطعام إلى قوم، ويأتون بمثله، فأرجو أن يكون ذلك واسعاً، إذا لم يتعمد أن يتفضل عليهم، فإن تعمد ذلك بغير إذن صاحبه فليتحلل صاحبه، فإن حلله فلا بأس، وإن أبى فليكافئه بمثله إن كان ذلك شيئاً له مكافأة.
قيل لمالك: إن عندنا تجاراً يأخذون المال قراضاً فيشترون به متاعاً يشهدون به الموسم، ولولا ذلك ما خرجوا، هل لهم في المال نفقة؟ فقال: لا نفقة لحاج ولا لغاز في مال القراض في ذهاب ولا رجوع.(1)
3158 - ومن تجهز لسفر بمال أخذه قراضاً من رجل، فاكترى وتزود ثم أخذ [مالاً] قراضاً ثانياً من غيره، فليحسب نفقته وركوبه على المالين بالحصص، وكذلك من أخذ مالاً قراضاً فسافر به وبمال لنفسه، فالنفقة على المالين.
وإن خرج في حاجة لنفسه فأعطاه رجل قراضاً فله أن يفُضّ النفقة على مبلغ قيمة نفقته في سفره، ومبلغ القراض، فيأخذ من القراض حصته ويكون باقي النفقة عليه.
3160 - وإذا أنفق العامل في السفر من مال نفسه رجع به في مال القراض، فإن هلك المال لم يلزم رب المال شيء، وكذلك إن اشترى بجميع مال القراض سلعاً واكترى لها دواب من ماله، فإن أدى ذلك رب المال وإلا كان للعامل أن يأخذ من ثمن المتاع كراءه وإن اغترقه، وإن لم يف بحقه فلا شيء له، ولا يكون بالكراء شريكاً في السلع.
3161 - وأما إن صبغ الثياب أو قصرها بمال من عنده، فذلك كزيادة في ثمن السلعة على السلف لرب المال، فإما دفع إليه رب المال ما أدى وكان على قراضه وإلا كان العامل شريكاً له بما أدى من ماله، لأن هذا عين قائمة بخلاف الكراء.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/368).

قال غيره: إن دفع إليه رب المال قيمة الصبغ لم يكن الصبغ على القراض [الأول]، لأنه كقراض ثان، على أن يخلط بالأول بعد أن عمل، بخلاف زيادة العامل على رأس المال في ثمن السلعة عند الشراء على السلف، لأن هذا كقراض ثان قبل انشغال الأول، وذلك إنما صبغ الثياب بعد الشراء، فإن أعطاه رب المال قيمة الصبغ لم يكن على القراض، وله أن لا يعطيه ذلك، وأن يضمنه قيمة الثياب، فإن كان في القيمة فضل فللعامل حصته منه، وإن أبى أن يضمنه، كان العامل شريكاً في الثياب بقيمة الصبغ من قيمة الثياب.(1)
3162 - ولا يزكي العامل رأس المال ولا ربحه، وإن أقام في يده أحوالاً حتى ينض ويحضر ربه ويقتسمان، فإن كان العامل يدير زَكيّاً لكل سنة بقدر ما كان المال فيه من عين أو قيمة عرض، فإن كان أول سنة قيمة المتاع مائة، والسنة الثانية مائتين، والسنة الثالثة ثلاثمائة، زكى لكل سنة قيمة ما كان يسوى المتاع فيها، إلا ما نقصت الزكاة كل عام، [قال ابن القاسم:] وإن أخذ تسعة عشر ديناراً فعمل بها شهراً فكان تمام حول رب المال، ثم افترقا وقد ربحا ديناراً فلا زكاة عليهما، لأن رب المال لم يكمل له في رأس ماله وربحه ما فيه الزكاة.
ولو أخذ قراضاً بعد ستة أشهر من يوم زكاه ربه فعمل به أربعة أشهر ثم تفاصلا، زكى رب المال لتمام حوله، ولا يزكي العامل حصة ربحه حتى يتم الحول من يوم اقتسما، وفي ربحه عشرون ديناراً، أو كان له مال قبل ربحه إذا أضافه إلى ربحه بلغ ما تجب فيه الزكاة، فليزكه لتمام حول من يوم اقتسما، لأن الفائدة الأولى تضم إلى حول الثانية.
__________
(1) انظر: منح الجليل (7/327).

3163 - وإذا ضاع بعض المال بيد العامل قبل العمل أو بعده أو خسره أو أخذه اللصوص أو العاشر ظلماً، لم يضمنه العامل إلا أنه إن عمل ببقية المال أجبر بما ربح فيه أصل المال، فما بقي بعد تمام رأس المال الأول، كان بينهما على ما شرطا، ولو كان العامل قد قال لرب المال: لا أعمل حتى تجعل ما بقي رأس المال، ففعلا وأسقطا الخسارة فهو أبداً على القراض الأول، وإن حاسبه وأحضره ما لم يقبضه منه، وليس ما استهلك العامل منه مثل ما ذهب أو خسر، لأن ما استهلك قد ضمنه، ولا حصة لذلك من الربح، إلا أنه تمام رأس المال.
3164 - وإن تسلف العامل نصف المال أو أكله، فالنصف الباقي رأس المال، وربحه على ما شرطا، وعلى العامل غرم النصف فقط، ولا ربح لذلك النصف.
ومن أخذ مائة قراضاً، فربح فيها مائة، ثم أكل منها مائة، ثم اتجر في المائة الباقية فربح مالاً، فالمائة في ضمانه، [وما بقي في يده] وما ربح بعد ذلك فهو بينهما على ما شرطا، ولو ضاع ذلك فلم يبق إلا المائة التي في ذمته ضمنها لرب المال، ولا تعد ربحاً، إذ لا ربح إلا بعد [تمام] رأس المال.
3165 - وإن اشترى بالقراض وهو مائة [دينار] عبداً يساوي مائتين، فجنى عليه رب المال جناية نقصته مائة وخمسين ثم باعه العامل بخمسين، فعمل فيها فربح مالاً أو وضع لم يكن ذلك من رب المال قبضاً من رأس ماله وربحه حتى يحاسبه ويفاصله ويحسبه عليه، فإذا لم يفعل فذلك دين على رب المال مضاف إلى هذا المال.
3166 - وإذا اشترى العامل سلعة ثم ضاع المال خيّر ربه في دفع ثمنها [وتكون] على القراض، فإن أبى لزم العامل الثمن، وكانت له خاصة، وإن لم يكن له مال بيعت عليه، فما ربح فله، وما وضع فعليه.(1)
وإن نقد فيها رب المال كان ما نقد فيها، لأن رأس ماله دون الذاهب، وإن ضاعت السلعة والمال قبل النقد، فلا شيء على رب المال، ويغرم العامل.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/367)، والشرح الكبير (3/529).

3167 - وإذا خاف العامل إن قدم ماله على مال القراض، أو أخّره [وقع] الرخص في ماله، فالصواب أن يخلطهما، ويكون ما اشترى بهما من السلع على القراض، وعلى ما نقد فيها، فحصة القراض بعلى] رأس مال القراض، وحصة العامل على ما نقد فيها، ولا يضمن العامل إذا خلطهما بغير شرط، ولا يجوز أن يقارضه على أن يخلطا ذلك بشرط.
ولا يجوز للعامل أن يشارك بمال القراض أحداً، وإن عملا جميعاً، فإن فعل ضمن، ولا يجوز له أن يشارك عاملاً آخر لرب المال، كما لا يستودع المودع الوديعة عند من لربها عنده وديعة، ولا عند غيره.
ولا يبيع أحدهما من الآخر بيعاً يحابيه فيه، وإن كان في المال فضل، فإن فعل لم يجز، لأنه قد يجبر ما يخسر بذلك [وينتفع به فيه]، ولا يبضع العامل من المال بضاعة، فإن فعل ضمن، ولو أذن له رب المال في ذلك جاز، ما لم يأخذه على ذلك.
ولا يبضع مع عبد لرب المال اشترط معونته، ولا يوجه أيضاً مع عبد نفسه بعض المال إلى بلد يتجر فيه، فإن فعل ضمن.
3168 - ولو أذن رب المال للعامل أن يبيع بالنقد والنسيئة فلا يودع أحداً شيئاً إلا لعذر كالمودع، فإن كان لغير عذر ضمن، ويعذر بالسفر أو بمنزل خرب، إذ ليس بحرز أو ليس عنده من يثق به، ولا يضمن في هذا، ولا يشارك بالمال أو يقارض به إلا بإذن ربه.(1)
وإن أخذه على النصف فتعدى فدفعه إلى غيره قراضاً على الثلثين ضمن، فإن عمل هب الثاني فربح، كان لرب المال نصف الربح، وللعامل الثاني نصفه، ثم يرجع الثاني ببقية شرطه وهو السدس على العامل الأول، وكذلك المساقاة، ولو كانت ثمانين ديناراً فخسر الأول أربعين ثم دفع أربعين إلى الثاني على النصف، فصارت مائة، ولم يكن الثاني علم بذلك، فرب المال أحق بأخذ الثمانين، رأس ماله ونصف ما بقي وهو عشرة، ويأخذ الثاني عشرة، ويرجع على الأول بعشرين ديناراً، وهي تمام نصف ربحه على الأربعين.
__________
(1) انظر: الكافي (1/385)، والقوانين الفقهية (ص186)، والتاج والإكليل (5/365).

قال أشهب: لا يحسب رب المال على الثاني إلا أربعين، رأس ماله فيأخذها ثم يأخذ نصف الربح، وهو ثلاثون، فإن كان الأول أتلف الأربعين الأولى تعدياً رجع عليه رب المال بتمام عشرة ومائة إلى ما أخذه، وإن هلكت بأمر من الله رجع عليه بتمام التسعين، وذلك عشرون ديناراً، عشرة بقية رأس ماله، وعشرة حصته من الربح، ولا يأخذ ذلك من الثاني فيظلمه [في] عمله، وأرجعناه على الأول، لأنه ضامن بتعديه.
قال ابن القاسم: وإن أمر العامل من يقتضي ديونه بغير إذن رب المال ضمن ما تلف بيد الوكيل مما قبض.
3169 - وإذا باع العامل سلعة من القراض، فأخر رب المال المبتاع بالثمن، جاز ذلك في حظ رب المال خاصة، فإن توى حظ رب المال، وقد قبض العامل حصته لم يرجع عليه رب المال بشيء، وكذلك ما وهب يجوز في حظه.
وللمأذون [له] دفع القراض وأخذه، ولا يضمنه، وللعامل أن يأخذ قراضاً من رجل آخر، إن لم يكن الأول كثيراً يشغله الثاني عنه، فلا يأخذ حينئذ من غيره شيئاً، فإن أخذهما وهو يحتمل العمل بهما، فله أن يخلطهما، ولا يضمن، ولا يجوز أن يكون ذلك بشرط من الأول أو الثاني.
3170 - ولا بأس أن يقارض الرجل عبده أو أجيره للخدمة إن كان مثل العبد. قال سحنون: ليس الأجير كالعبد، وللمكاتب أن يبضع أو يدفع قراضاً أو يأخذه على ابتغاء الفضل.
3171 - ولا أحب مقارضة من يستحل الحرام، أو من لا يعرف الحلال من الحرام، وإن كان مسلماً.
3172 - وأكره للمسلم أخذ قراض من ذمي، أو مساقاة [من ذمي] أو يؤاجر منه نفسه للمذلة، وليس بحرام، ولا بأس أن يدفع المسلم كرمه مساقاة إلى ذمي إن كان الذمي لا يعصر حصته خمراً.

3173 - ومن دفعت إليه مائتين قراضاً، على أن يعمل بكل مائة على حدة، وربح مائة لأحدكما وربح الأخرى بينكما، أو ربح مائة بعينها لك، وربح الأخرى للعامل لم يجز [للغرر]، ويكون العامل أجيراً في المائتين. وكذلك على أن مائة على النصف ومائة على الثلث، ويعمل بكل مائة على حدة فلا خير فيه إذا كان لا يخلطهما، وكذلك في مساقاة الحائطين حتى يكونا على جزء واحد.
3174 - وإن أخذ المال على أن لرب المال درهماً من الربح ثم ما بقي بينهما فسد القراض والربح كله لرب المال، والوضيعة عليه، وللعامل أجر مثله، [لا ضمان عليه]، وإن ضاع المال فهو بأجره أسوة الغرماء في المال وفي غيره.
3175 - وإن أخذ قراضاً على أن يسلفه رب المال سلفاً كان أجيراً، والربح كله لرب المال، لأن السلف زيادة ازدادها العامل، وما لم يشترط فيه زيادة لأحدهما من القراض الفاسد، ففيه إن نزل قراض مثله، [كالقراض على ضمان، أو إلى أجل]، فإنه يرد إلى قراض مثله، ولا ضمان عليه، وإن اشترطت على العامل إخراج مثل المال من عنده يعمل به مع مالك وله ثلاثة أرباع الربح، لم يجز، لأنه نفع اشترطته لكثرة المال، وكذلك إن اشترطت عليه أن يخرج من عنده أقل من مالك أو أكثر على ما ذكرنا.
3176 - ومن أخذ قراضاً على أن يعمل معه رب المال في المال، لم يجز، فإن نزل كان العامل أجيراً، وإن عمل رب المال بغير شرط كرهته، إلا العمل اليسير.
ولا يبيع رب المال عبداً من القراض بغير إذن العامل، [فإن فعل] فللعامل رده أو إجازته.
3177 - ويجوز للعامل أن يشترط على رب المال أن يعينه بعبده أو دابته في المال خاصة لا في غيره، ولم يجزه عبد العزيز في الغلام. قال ابن القاسم: ولا يصلح لرب المال أن يشترط معونة عبد العامل أو دابته.

3178 - ومن أخذ قراضاً على أن يخرج به إلى بلد يشتري منه تجارة فلا خير فيه، قال مالك: يعطيه المال ويقوده كما يقاد البعير؟ّ، وإنما كره مالك من هذا أنه قال: يحجر عليه أن لا يشتري إلى أن يبلغ ذلك الموضع. وقد تقدم ذكر من أخذ قراضاً على أن يبتاع عبد فلان. وفي كتاب المساقاة مسألة من طابت ثمرة نخله فدفعها مساقاة سنين.
3179 - ولا يجوز أن تقارض رجلاً على أن يشتري هو وتنقد أنت وتقبض ثمن ما باع، أو تجعل معه غيرك لمثل ذلك أميناً عليه، وإنما القراض أن تسلم إليه المال.
ولا خير في أن يجعل رب المال ابنه مع العامل ليبصّره التجارة، لأنه نفع ازداده رب المال في تبصرة ولده، وكذلك إن جعل معه أجنبياً أراد نفع الأجنبي بذلك كصديق ملاطف أفسدت به القراض.
3180 - وإن قارضت رجلاً على النصف فلم يعمل حتى زدته مالاً آخر على النصف على أن يخلطهما فهو جائز. قيل: فإن زدته مالاً على الثلث؟ قال: لم يجز مالك دفع المالين [إليه] أحدهما على النصف والآخر على الثلث إذا كان لا يخلطهما.
3181 - وإن أخذ الأول على النصف فابتاع به سلعة، ثم أخذ الثاني على مثل جزء الأول أو اقل أو أكثر على أن يخلطه بالأول لم يعجبني، إذ قد يخسر في الثاني فيلزمه جبره بما ربح في الأول.
وإن كانت قيمة سلع الأول كرأس المال الأول فإن الأسواق قد تحول، وأما على أن لا يخلطه فجائز، فإن خسر في الأول وربح في الآخر، فليس عليه أن يجبر هذا بهذا، وإن اتجر في الأول وباع فنضّ في يديه ثم أخذ الثاني، فإن كان باع [بمثل] رأس مال [الأول] سواء، جاز أخذه للثاني على مثل جزء الأول، لا أقل ولا أكثر، وإن نضّ الأول وفيه ربح أو وضيعة، لم يجز أخذ الثاني عل مثل جزء الأول، أو أقل أو أكثر، لا على الخلط ولا على غير الخلط.
وقال غيره: إن ربح في الأول جاز أخذه الثاني على مثل القراض الأول في الربح على أن لا يخلطه.

3182 - وإن دفعت إليه قراضاً على أن يبيع بالنسيئة فباع بالنقد، لم يجز هذا القراضز
وقال غيره: فإن باع بالنقد تعدى، كمن قارض رجلاً على أن لا يشتري إلا صنف كذا غير موجود، كان قراضاً لا يجوز، فإن اشترى غير ما أمر به [فقد] تعدى، فإن ربح فله فيما ربح قراض مثله، وإن خسر ضمن، ولا أجر له في الوضيعة، ولا أعطيه إن ربح إجارته، إذ لعلها تغترق [الربح] وتزيد فيصل بتعديه إلى ما يريده. وقد قال ربيعة في المتعدي في القراض إن وضع ضمن الوضيعة، ويكون له في الربح قدر شرطه، وكذلك المتعدي في القراض الفاسد.(1)
3183 - قال مالك: ولا يجوز للعامل أن يبيع بالنسيئة إلا بإذن رب المال، فإن فعل بغير إذنه ضمن.
ولا ينبغي أن يقارض رجلاً على أن لا يشتري إلا البزّ، إلا أن يكون موجوداً في الشتاء والصيف فيجوز، ثم لا يعدوه إلى غيره، ولا يبيع البز بعرض سواه، فيصير مبتاعاً لغير البز.
وإن قلت له بعد أخذه المال وقبل أن يشغله في شيء لا تتجر به إلا في البز، فذلك لك إن كان البزّ موجوداً في الشتاء والصيف - كما ذكرنا - .
3184 - ويجوز أن تشترط عليه أن لا ينزل به وادياً، ولا يسري به بليل، ولا يبتاع به سلعة كذا، ولا يحمله في بحر، فإن فعل شيئاً من ذلك ضمن المال، وقاله السبعة رحمة الله عليهم أجمعين.
وإن نهيته عن شراء سلعة في عقد القراض الصحيح أو بعد العقدة وقبل أن يعمل ثم اشتراها فهو متعد، ويضمن، ولك تركها على القراض أو تضمينه المال، ولو كان قد باعها كان الربح بينكما على شرطكما، والوضيعة عليه خاصة، وكذلك إن تسلف من المال ما ابتاع به سلعة لنفسه ضمن ما خسر، وكان [ما] ربح بينكما.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/115)، والتاج والإكليل (5/360).

3185 - وإن ابتاع مُقارضك سلعة نهيته عنها، فأتى بها وفيها وضيعة، أو اتجر بما تعدى فيه فخسر، فجاء ومعه سلع لا وفاء فيها، أو عين لا وفاء فيه برأس المال فأردت تضمينه فقام غرماؤه، فقالوا: أنت أسوتنا إن ضمنته، فإن كان معه عين فأنت أحق به [منهم] وإن كان معه سلع فأنت مخير بين أن تشركه فيها، أو تسلمها وتضمنه رأس المال، فإن أسلمتها كنت أسوة الغرماء.
3186 - ومن نهيته عن الخروج بالمال من مصر، فخرج به إلى إفريقية عيناً ورجع به عيناً قبل أن يتجر فيه، ثم اتجر به بمصر فخسر أو ضاع منه بمصر، لم يضمن، لأنه رده قبل أن يحركه، كمن أخذ وديعة بمصر فليس له أن يخرجها من مصر، فإن فعل ضمنها إن تلفت، فإن ردها إلى مصر لم يضمن، وكذلك إن أنفق وديعة عنده أو بعضها ثم رد ذلك مكانه فضاعت لم يضمن.
وللعامل أن يتجر بالمال في الحضر والسفر حيث شاء، إلا أن يقول له رب المال حين دفعه إليه بالفسطاط: لا تخرج من أرض مصر، أو من الفسطاط، فلا ينبغي له أن يخرج، فإن لم يشترط ذلك فليس له أن ينهاه عن السفر إذا أشغل [المال]، ولو هلك رب المال بعد تجهزه به كان له النفوذ [به] إلى البلد الذي تجهز إليه.
3187 - وإن قارضته على أن يجلس به ههنا في حانوت في البزازين والسقاطين، يعمل فيه ولا يعمل في غيره، أو على أن يجلس في القيسارية، أو على أن لا يشتري لا من فلان أو من سلعة فلان، أو على أن لا يتجر إلا في سلعة كذا، وليس وجودها بمأمون، أو على أن يزرع فلا ينبغي ذلك، فإن نزل ذلك [كله] كان للعامل أجره، وما كان من زرع أو فضل أو خسارة، فلرب المال وعليه، ولو علم رب المال أنه يجلس في حانوت فهو جائز، ما لم يشترطه عليه.
3188 - ولو زرع العامل من غير شرط في أرض اشتراها من مال القراض، أو اكتراها، جاز ذلك إن كان بموضع أمن وعدل، ولا يضمن. وأما إن خاطر به في موضع ظلم وغرر يدري أنه خطر، فإنه ضامن.

ولو أخذ العامل نخلاً وأنفق عليها من مال القراض، كان كالزرع، ولم يكن متعدياً.(1)
3189 - وإن أخذ العامل ألف درهم قراضاً، فابتاع بها سلعة، فلم ينقد حتى ابتاع أخرى على القراض بألف، أو ابتاع سلعة بأكثر من رأس المال ليضمن ما زاد ديناً ويكون في القراض، لم ينبغ ذلك أن يضمن العامل الدين، ويأخذ رب المال ربحه، [هذا لا يجوز].
وإن أخذ مائة قراضاً فاشترى سلعة بمائتين نقداً كان فيها شريكاً لرب المال، يكون نصفها على القراض ونصفها للعامل، وإن كانت المائة الثانية مؤجلة على العامل، قومت المائة المؤجلة بالنقد، فإن ساوت خمسين كان العامل شريكاً بالثلث.
3190 - ومن اشترى سلعة فعجز عن بعض ثمنها فأخذ من رجل قراضاً ونقده فيها، لم أحب ذلك، وأخاف أن يكون قد استغلى، وإن ابتاع سلعة ثم سأل رجلاً ليدفع إليه مالاً ينقده فيها، ويكون قراضاً بينهما، فلا خير فيه، فإن نزل لزمه ردّ [ذلك] المال إلى ربه، وما كان فيها من ربح أو وضيعة فله وعليه، وهو كمن أسلفه رجل ثمن سلعة على أن له نصف ربحها.
3191 - وإن باع العامل سلعة فطعن عليه بعيب فحط من الثمن أكثر من قيمة العيب أو أقل، أو اشترى سلعة من والده أو ولده فما كان من هذا نظراً بغير محاباة جاز.
3192 - وإن اشترى بجميع المال عبداً، ثم رده بعيب فرضيه رب المال، فليس ذلك لرب المال، لأن العالم إن أخذه كذلك جبر ما خسر فيه بربحه، إلا أن يقول له رب المال: إن أبيت فاترك القراض واخرج، لأنك إنما تريد رده، فأنا أقبله، فذلك له، ولو رضي العامل بالعيب على وجه النظر جاز، وإن حابى فهو متعد، ولا تجوز محاباته في البيع إلا في حصته من ربح تلك السلعة.
3193 - وإن باع العامل سلعة من القراض فاحتال بالثمن على مليء أو معدم إلى أجل ضمن، كبيعه بالدين بغير أمر رب المال.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/362).

3194 - وإذا دفع العامل ثمن سلعة بغير بينة، فجحده البائع وحبس السلعة، فالعامل ضامن، وكذلك الوكيل على شراء سلعة بعينها، أو بغير عينها، يدفع الثمن فيجحده البائع، فهو ضامن، ولرب المال أن يغرمه [إياها] وإن علم بقبض البائع الثمن بإقراره عنده ثم جحده أو بغير ذلك، ويطيب له ما يقضى له به من ذلك، إلا أن يدفع الوكيل الثمن بحضرة رب المال، فلا يضمن.(1)
3195 - وإن اشترى لك رجل سلعة ودفعها إليك، ثم دفعت إليه ثمنها لينقده فضاع بيده، فعليك غرمه ثانية، ولا يغرم المأمور، لأنه رسول مؤتمن، وقال بعض المدنيين: لا يغرم رب المال شيئاً.
وأكره أن يشتري العامل من رب المال سلعة، وإن صح منهما لم يصح من غيرهما، لأن رأس المال قد رجع إلى ربه، وصار القراض بهذا العرض.
3196 - وإذا اشترى العامل أباه أو من يعتق عليه، فإن كان قد علم وهو مليء عتقوا عليه، وغرم لرب المال رأس ماله وحصة ربحه على ما قارضه، [وإن لم يعلم وكان فيهم فضل فكذلك أيضاً، وإن لم يكن فيهم فضل لم يعتقوا وبيعوا، وإن كان فيهم فضل ولا مال للعامل] بيع منهم لرب المال بقدر رأس ماله وحصة ربحه، وعتق ما بقي على العامل علم أو لم يعلم.
3197 - وإن اشترى أباً لرب المال، ولم يعلم عتق على الابن وكان له ولاؤه، وعليه للعامل حصة ربحه [فيه] إن كان فيه فضل، وإن علم العامل وهو مليء عتق عليه لضمانه بالتعمد، والولاء للابن، ويغرم العامل ثمنه للابن، فإن لم يكن له مال بيع منه بقدر رأس مال الابن، وحصة ربحه، وعتق على العامل ما بقي منه، وقد اختلف في هذه المسألة، وهذا أحسن ما فيها من الاختلاف.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/123).

3198 - وإن وطئ العامل أمة من المال فحملت وله مال ضمن قيمتها، فجبر به راس المال، وإن أعتق العامل عبداً من المال وهو مليء، جاز وغرم لرب المال رأس ماله، وحصة ربحه إن كان فيه ربح، وإن كان عديماً بيع منه بقدر رأس ماله وحصة ربحه وعتق حصة العامل، ولو أعتقد رب المال جاز، وضمن للعامل ربحه إن كان فيه ربح.
3199 - وإذا قتل عبد لرجل عبداً من القراض فاختار العامل أو رب المال القصاص واختار الآخر العفو على أخذ الجاني، فالقول قول العافي على أخذ العبد وجعله على القراض كما كان المقتول، وكذلك إن قتله سيده فقيمة العبد في القراض.
3200 - وإذا باع العامل سلعة بثمن إلى أجل بإذن رب المال لم يجز لرب المال أن يبتاعها بأقل من الثمن نقداً.
ومن أخذ من رجل مالاً فقال: هو في يدي وديعة أو قراض، وقال ربه: بل أسلفتكه، فالقول قول رب المال مع يمينه، وإن قال العامل قراضاً، وقال رب المال: بل أبضعتكه لتعمل به، فالقول قول رب المال مع يمينه، وعليه للعامل أجر مثله. قال سحنون: إلا أن يكون ما ادعى العامل من الربح أقل من أجر مثله فليأخذ الأقل، وإن نكل رب المال صدق العامل مع يمينه إذا كان مثله يستعمل في القراض.(1)
3201 - وإن قال رب المال: أودعتكه، وقال العامل أخذته قراضاً، صدق ربه، والعامل مدع لطرح الضمان عن نفسه، وإن قال ربه: قراض، وقال العامل: قرض، صدق العامل، لأن ربه ههنا مدع في الربح، ولا يلتفت إلى قول هذا: أخذت منك أو أخذت مني.
وإن قال العامل: راس المال ألف، وقال ربه: ألفان، صدق العامل، لأنه أمين.
ولو خسر في البُرّ فادعى رب المال أنه نهاه عنه فتعدى، فالقول قول العامل أنه لم ينهه.
3202 - وإن قال العامل: رددت إليك رأس مالك والذي بيد ربح، وقال ربه: لم تدفع إليّ شيئاً، صدق رب المال ما دام في المال ربح وعلى العامل البينة.
__________
(1) انظر: منح الجليل (7/380).

وإن قال العامل: أنفقت في سفري من مالي مائة درهم لأرجع بها في مال القراض، صدق، ربح أو خسر، ويرجع بها في المال إن أشبه ذلك نفقة مثله، وإن ادعى ذلك بعد المقاسمة لم يصدق.
3203 - ولرب المال ردّ المال ما لم يعمل به العامل أو يظعن لسفر، وليس له أن يقول بعد ظعنه: ارجع، وأنا أنفق عليك، وإن ابتاع به سلعاً لم يكن لرب المال أن يجبره على بيعها ليرد القراض، ولينظر السلطان [في ذلك] فيؤخر منها ما يرجى له سوق، فإن لم يكن لتأخيرها وجه بيعت، واقتسما ربحها إن كان.
وإذا لم يشغل العامل المال حتى نهاه ربه أن يتجر به، فتعدى فاشترى به سلعة، لم يكن قراضاً، وضمن المال والربح له، كمن تعدى على وديعة عنده فاشترى بها سلعة، فهو ضامن للوديعة والربح له، بخلاف الذي نهاه رب المال عن شراء سلعة فابتاعها، وقد ذكرناه.
3204 - وإذا باع العامل بالديون بإذن رب المال، فأراد أن يحيله بها ويبرأ وفي المال وضيعة، فلربه أن يجبره على التقاضي أو يدعه، وكذلك إن كان فيه ربح، فعليه التقاضي، إلا أن يدعه رب المال ويسلم له العامل ربحه، وإذا شخص [العامل] في اقتضاء الديون أنفق من المال، وإن كانت فيه وضيعة.
وإن اشترى العامل بجميع المال سلعاً يرجو بها الأسواق، فقال رب المال: أنا آخذ قيمة رأس مالي سلعاً وأقاسمك باقيها على ما شرطنا، وأبى العامل، فذلك للعامل، لأنه يرجو الزيادة فيما يأخذه رب المال إذا جاءت أسواقها، وإن أراد العامل بيع ما معه، وأراد رب المال أخذه بما يسوى، فهو فيه والأجنبي سواء.
3205 - وإذا مات العامل قيل للورثة: تقاضوا الدين وبيعوا السلع، وإن لم يؤتمنوا أتوا بأمين وكانوا على سهم وليهم، وإن لم يأتوا بأمين ولم يكونوا مأمونين أسلموا ذلك إلى ربه ولا ربح لهم، وكذلك في موت العاملين.(1)
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/370)، ومواهب الجليل (6/405)، والمدونة (12/130).

3206 - وإن مات رب المال فالعامل على قراضه، فإن أراد الورثة أخذ المال فذلك لهم إن كان المال عيناً وليس ذلك لهم إن كان سلعاً، وهم في هذا كوليهم سواء، فإن علم العامل بموت رب المال، والمال بيده عيناً فلا يعمل به، وإن لم يعلم بموته حتى ابتاع به سلعاً مضى ذلك على القراض.
3206 - ومن هلك وقبله قراض وودائع لم توجد، ولم يوص بشيء فذلك في ماله، ويحاص به غرماؤه، وإن أقر بوديعة بعينها أو قراض بعينه في مرضه، وعليه دين ببينة في صحته، أو بإقرار في مرضه هذا قبل إقراره بذلك أو بعد، فلرب الوديعة والقراض أخذ ذلك بعينه دون غرمائه، وإن لم يكن بعينها وجب الحصاص فيها مع غرمائه. والله الموفق للصواب.
* * *

(كتاب الشركة)
3207 - ولا تجوز الشركة إلا بالأموال أو على عمل الأبدان إذا كانت صنعة واحدة، فأما بالذمم بغير مال على أن يضمنا ما ابتاع كل واحد منهما فلا يجوز، كانا في بلد واحد، أو في بلدين يجهز كل واحد منهما على صاحبه تفاوضا، كذلك في تجارة الرقيق وفي جميع التجارات أو في بعضها.
وكذلك إن اشتركا بمال قليل على أن يتداينا، لأن أحدهما يقول لصاحبه: تحمّل عني بنصف ما اشتريت على أن أتحمل عنك بنصف ما اشتريت، إلا أن يجتمعا في شراء سلعة معينة حاضرة أو غائبة فيبتاعاها بدين، فيجوز ذلك إذا كانا حاضرين، لأن العهدة وقعت عليهما، وإن ضمن أحدهما عن صاحبه فذلك جائز.
وإذا أقعدت صانعاً في حانوت على أن تتقبل عليه المتاع ويعمل هو، فما رزق الله بينكما نصفان، لم يجز.
3208 - ولا تجوز الشركة في عمل الأيدي إلا أن يكون عملها نوعاً واحداً، كالصباغين والخياطين ويعملان في حانوت واحد، وإن فضل أحدهما الآخر في العمل، وهذا ما لا بد منه.
ولا يجوز أن يشتركا على أن يفترقا في قريتين أو حانوتين، وإن اتفقت الصنعة، ولا يشترك ذوا صنعتين وإن كانا في موضع واحد كحداد مع قصار ونحوه.

وإن اشترك ذوا صنعة عل عمل أيديهما ولا يحتاجا إلى رأس مال على أن على أحدهما ثلث العمل وله ثلث الكسب، وعليه ثلث الضياع، وثلثا ذلك على صاحبه، وله ثلثا الكسب، فذلك جائز كالأموال، وكذلك شركة الجماعة على ما وصفنا.
3209 - وما احتاج شريكا الصنعة من رأس المال أخرجاه بينهما بالسوية وعملاً جميعاً، وإن أخرج أحدهما ثلث رأس المال، والآخر الثلثين، على أن العمل عليهما جميعاً، والربح بينهما نصفان، لم تجز هذه الشركة، وإن كان بقدر ما يخرج كل واحد من رأس ماله في عدد أو وزن يكون له من الربح وعليه من العمل والوضيعة فذلك جائز.
3210 - وإن اشترك قصّاران لأحدهما الحانوت وللآخر الأداة، والكسب بينهما، أو أتى رجل بدابة والآخر برحا، فاشتركا يعملان كذلك، على أن ما أصابا فبينهما نصفان، لم يجز ذلك إذا كانت الإجارة مختلفة، فإن تطول أحد القصارين على صاحبه بشيء تافه من الماعون لا قدر له في الكراء، كالقصرية ومدقة جاز، فأما إن تطول أحدهما على صاحبه بأداة لا يلغى مثلها لكثرتها، لم يجز حتى يشتركا في ملكها، أو يكري من الآخر نصفها كالمتزارعين يشتركان فيخرج أحدهما أرضاً لها قدر من الكراء فيلغيها لصاحبه ويعتدلان فيما بعد ذلك من العمل والبذر، فلا يجوز إلا [على] أن يخرج صاحبه نصف كراء الأرض، ويكون جميع العمل والبذر بينهما بالسوية، أو تكون أرضاً لا خطب لها في الكراء كأرض المغرب وشبهها، فيجوز أن يلغي كراءها لصاحبه ويخرجان ما بعد ذلك بينهما بالسوية.()(1)
3211 - وقد اختلف عن مالك في [الشركة] في الحرث، فروى عنه بعض الرواة أنه لا يجوز الشركة حتى يشتركا في رقاب الدواب والآلة، ليضمنا ما هلك، وروى غيرهم أنه إن ساوى كراء ما يخرج هذا من البقر والأداة كراء ما يخرج الآخر من الأرض والعمل، جاز ذلك بعد أن يعتدلا في الزريعة.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/44).

وإذا اشترك ثلاثة [نفر] أتى أحدهم برحا والآخر بدابة والثالث بالبيت على أن يعملوا بأيديهم والكسب بينهم أثلاثاً فعملوا على ذلك، وجهلوا أنه لا يجوز، فإن ما أصابوا يقسم بينهم أثلاثاً إن كان كراء البيت والرحا والدابة معتدلاً، وتصح الشركة، لأن كل واحد منهم أكرى متاعه بمتاع صاحبه، ألا ترى أن الرحا والبيت والدابة لو كان ذلك لأحدهم فأكرى ثلثي ذلك من صاحبيه وعملوا جازت الشركة.
وإن كان كراء ما أخرجوه مختلفاً قسم لمال بينهم أثلاثاً، لأن رؤوس أموالهم عمل أيديهم، وقد تكافؤوا فيه، ويرجع من له فضل كراء على صاحبه فيترادون ذلك فيما بينهم وإن لم يصيبوا شيئاً، لأن ما أخرجوه مما يكرى، وقد اكترى كراءً فاسداً ولم يتراجعوا في عمل أيديهم، لتساويهم فيه.
وإن اشترط صاحب البيت والرحا أن العمل على رب البغل فعمل على هذا كان الربح والوضيعة لصاحب الدابة، لأن عمله كأنه رأس المال، وعليه أجر الرحا والبيت، وإن لم يصب شيئاً كالدابة يعمل عليها الرجل على نصف ما يكسب.
3212 - وإذا مرض أحد شريكي الصنعة أو غاب يوماً أو يومين فعمل صاحبه فالعمل بينهما، لأن هذا أمر جائز بين الشركاء، إلا ما تفاحش من ذلك وطال، فإن العامل إن أحب أن يعطي لصاحبه نصف ما عمل جاز ذلك إن لم يعقدا في أصل الشركة أن من مرض منهما أو غاب غيبة بعيدة فما عمل الآخر فبينهما، فإن عقدا على هذا لم تجز الشركة، فإن نزل ذلك كان ما اجتمعا فيه من العمل بينهما على قدر عملهما، وما انفرد به أحدهما له خاصة، وما عمل أحد شريكي الصنعة لزم الآخر عمله وضمانه ويؤخذ بذلك وإن افترقا.
3213 - وتجوز شركة المعلمين في مكتب واحد لا في موضعين، وكذلك الأطباء إذا كان [ثمن] ما يشترون به الدواء بينهما.

ولا تجوز شركة الحمالين على رؤوسهم ودوابهم، لافتراقهم فيما يحملونه، كصانعين في حانوتين، إلا أن يجتمعا في حمل شيء بعينه إلى غاية واحدة، فجائز على الرؤوس والدواب، وإن جمعا دابتيهما على أن يكرياهما ممن أصابا، والكراء بينهما لم يعجبني ذلك، إذ لا يدوم ذلك، وقد يكري هذا ويبقى هذا، وكذلك على رقابهما وقد تختلف الغايات، إلا فيما لا يفترقان فيه فيجوز.
3214 - ومن استأجر نصف دابة رجل ثم اشتركا في العمل عليها فجائز، وإن اشتركا ليحتطبا أو ليحتشّا ثمار البرية [أو بقلها ويحملانه] على رقابهما أو دوابهما، فأما من موضع واحد فجائز، ولا يجوز إن افترقا.
3215 - ولا بأس أن يشتركا في صيد السمك والطير والوحش بنصب الشرك والشباك إذا عملا جميعاً لا يفترقان في التعاون بالنصب وغيره.(1)
ولا يجوز أن يشتركا على أن يصيدا ببازيهما أو كلبيهما، إلا أن يملكا رقابهما أو يكون الكلبان أو البازيان طلبهما وأخذهما واحد لا يفترقان.
3216 - قال ابن القاسم: ولا باس أن يشتركا في حفر القبور والمعادن والآبار والعيون، والبنيان وعمل الطين وضرب اللَّبِن وطبخ القراميد وقطع الحجارة إذا لم يفترقا في ذلك. ولا يجوز في موضعين، ولا هذا في غار وهذا في غار من المعدن، وإن عملا في المعدن معاً فأدركا نيلاً كان بينهما.
قلت: فمن مات منهما بعد إدراكه النيل؟ قال: قال مالك في المعادن: لا يجوز بيعها، لأنها إذا مات صاحبها الذي عملها أقطعها الإمام غيره، فأرى المعادن لا تورث. وإذا مات صاحبها فالسلطان يقطعها لمن يرى وينظر في ذلك للمسلمين.
ومعادن الرصاص والنحاس والكحل والزرنيخ مثله.
ولا بأس أن يشتركا في إخراج اللؤلؤ من البحر والعنبر بصفته وجميع ما يقذف به البحر، وما يغاص عليه فيه، إذا عملا جميعاً كتعاون صيادي الحوت، وكذلك في طلب الكنوز والدفائن والركاز، إذا كانا بموضع واحد.
__________
(1) انظر: المدونة (12/51).

وكره مالك الطلب في قبور الجاهلية وبيوتهم وآثارهم وقال: لا أراه حراماً، وأجازه ابن القاسم واستخف غسل ترابهم.
3217 - ولا تصلح الشركة في الزرع إلا أن يخرجا البذر بينهما نصفين ويتساويا في قيمة [أكرية] ما يتخارجانه بعد ذلك، مثل أن يكون لأحدهما الأرض وللآخر البقر والعمل عليهما، أو على أحدهما إذا تساويا. ولا أحب أن يفضل أحدهما الآخر في كراء أرض ولا بقر، إلا أرضاً لا بال لها إنما تمنح، فلا بأس أن تلغى بينهما ويتساويا فيما سوى ذلك من البذر والعمل، وإن أخرج أحدهما الأرض والآخر البذر، والعمل بينهما وقيمة البذر وكراء الأرض سواء، لم يجز، لأنه أكرى نصف أرضه بنصف طعام لصاحبه.
3218 - ولو اكتريا أرضاً من أجنبي جاز أن يخرج أحدهما البذر كله، والآخر البقر والعمل وكراء ذلك، وقيمة البذر سواء، وإن اشتركا على أن البذر والعمل بينهما بالثلث والثلثين جاز ذلك.
3219 - وإن تساويا في الزريعة، والأرض لأحدهما والعمل على الآخر، على أن متولي العمل يكرب الأرض العام ويزرع قابلاً، لم يجز ذلك إلا في أرض مأمون رواؤها في كل عام للغرر إن لم ترو، وانتفاع صاحب الأرض بعمل الآخر باطلاً.
وإن اشترك ثلاثة فأخرج أحدهما الأرض والآخر البقر والآخر العمل، وتساووا [في الكراء] وفي إخراج الزريعة جاز، فإن كان البذر من عند رجلين، ومن عند الآخر الأرض وجميع العمل، لم يجز، ويقضى بالزرع لصاحب الأرض ولهذين عليه مثل بذرهما. وروى ابن غانم عن مالك أن الزرع لصاحبي الزريعة، ولهذا كراء أرضه وعمله كقراض فاسد، وإنما يجعل الربح لما لا يؤاجر، وفيه الخسارة كالمال.

3220 - ولا باس أن يشتركا بعرضين مختلفين أو متفقين أو طعام عروض، على قيمة ما أخرج كل واحد [منهما] يومئذ، فبقدره الربح والعمل، وإن اتفق قيمة العرضين المختلفين وعرفا ذلك في العقدة واشتركا بهما جاز، وهذا بيع لنصف عرض هذا بنصف عرض الآخر، [فإن قوما وأشهدا على الشركة جاز،] وإن لم يذكرا بيعاً ولو شرطا التساوي في الشركة بالسلع، فلما قوما سلعتيهما تفاضلت القيمة، فإن لم يعملا أخذ كل واحد سلعته وزالت الشركة.
وإن فاتت السلعتان وعملا على ذلك، كان رأس مال كل واحد منهما ما بيعت به سلعته وبقدر ذلك ربحه ووضيعته، ويرجع من قبل ماله بفضل عمله على صاحبه، ولا يكون على صاحب السلعة القليلة ضمان في فضل سلعة صاحبه، لأن فضل سلعته لم يقع فيه بينهما بيع.(1)
3221 - وإذا وقعت الشركة بالعروض فاسدة فرأس مال كل واحد [منهما] ما بيعت به سلعته لا ما قومت به، ويقتسمان الربح على قدر ذلك، فأما في الشركة الصحيحة فرؤوس أموالهما ما قوما به سلعتيهما يوم اشتركا، ولا ينظر إلى ما بيعتا به كان أكثر مما قوما به أو أقل، لأنهما حين قوّما صار كل واحد منهما قد باع نصف سلعته بنصف سلعة صاحبه، وصار ضمانهما منهما، وفي الفاسد لم يقع لأحدهما في سلعة الآخر ملك ولا ضمان.
3222 - وتجوز الشركة بما سوى الطعام والشراب من سائر العروض ومما يكال أو يوزن أو لا يكال ولا يوزن من مسك وعنبر وحناء وكتان وغيره، كانت من صنف واحد أو من صنفين إذا اتفقت القيم.
3223 - وتجوز الشركة بالطعام ودراهم أو بعين وعروض على ما ذكرنا من القيم، وبقدر ذلك يكون الربح والعمل.
3224 - ولا تجوز الشركة عند مالك بشيء من الطعام والشراب، كان مما يكال أو يوزن أم لا، من صنف واحد أو صنفين.
وأجاز ابن القاسم الشركة بطعام متفق في الصفة والجودة من نوع واحد على الكيل.
__________
(1) انظر: الكافي (1/391).

قال: ورجع مالك عن إجارة الشركة بالطعام وإن تكافأ، ولم يجزه لنا منذ لقيناه، ولا أعلم لكراهيته فيه وجهاً.
قال ابن القاسم: وأما إن أخرج أحدهما محمولة والآخر سمراء أو أخرج هذا قمحاً والآخر شعيراً، وقيمة ذلك متفقة أو مختلفة، وباع هذا نصف طعامه بنصف [طعام] الآخر، لم يجز على حال كيفما شرطا، كما لا أجيز الشركة بدنانير ودراهم متفقة قيمتها.
3225 - وإذا وقعت الشركة بالطعام فاسدة، فرأس مال كل واحد ما بيع به طعامه، إذ هو في ضمانه حتى يباع، ولو خلطاه قبل البيع جعلت رأس [المال] قيمة طعام كل واحد يوم خلطاه.(1)
3226 - قال ابن القاسم: وتجوز الشركة بالعين، وصفة ذلك أن يخرجا دنانير ودنانير، ودراهم ودراهم متفقة النفاق والعين، بقدر ما يخرج كل واحد من رأس ماله في عدد أو وزن يكون له من الربح، وعليه من العمل أو الوضيعة.
وإن تساويا في المال والأعمال على أن يتفاضلا في الربح لم يجز، وإن تفاضلا في المال على أن يتساويا في ربح أو عمل، لم يجز، ولو أن العمل على أحدهما وتساويا في المال والربح أو تفاضلاً، لم يجز، فإن نزل ذلك كله فالربح والخسارة على قدر رؤوس الأموال.
وكذلك لو لحقهما دين من تجارتهما بعد أن خسر المال كله وذهب، فيرجع من له فضل عمل بفضل عمله على الآخر، ويبطل ما شرطا، ولا يضمن القليل المال لصاحبه نصف ما فضله به، وليس بسلف، لأن ربحه لربه.
3227 - ولو صح عقد المتفاضلين في المال ثم تطوع الذي له الأقل فعمل في الجميع جاز، ولا أجر له، وإن تساويا في المال والربح على أن يمسك أحدهما راس المال معه، فإن كان ليتولى التجارة دون الآخر لم يجز، وإن تولياها جميعاً جاز.
وتجوز الشركة في المال الغائب إن أخرج ذلك المال.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/58)، ومواهب الجليل (5/125)، والكافي (ص391).

وإن أخرج أحدهما ألفاً والآخر ألفاً، منها خمسمائة غائبة، ثم خرج ربها ليأتي بها، وخرج بجميع المال الحاضر فلم يجدها فاشترى بما معه تجارة، فإنما له ثلث الفضل، ولا يرجع بأجر في فضل المال كشريكين على التفاضل طاع أحدهما بالعمل.
وإن أخرج هذا دنانير هاشمية، وأخرج الآخر دنانير مثل وزنها دمشقية، أو أخرج هذا دراهم يزيدية، والآخر مثل وزنها محمدية، وصرفهما مختلف، لم يجز، إلا في اختلاف يسير لا بال له فيجوز [وهذا] فيما كثر، كتفاضل المالين.
ولو جعلا الربح والعمل بينهما بقدر فضل ما بين السكتين لم يجز، إذ صرفاهما إلى القيم، وحكمهما الوزن في البيع والشركة، وإن كانت السكتان متفقتي الصرف يوم الشركة جاز.
فإن افترقا وقد حال الصرف لم ينظر إلى ذلك، ويقتسمان ما في أيديهما بالسوية، عرضاً كان أو عيناً أو طعاماً، وإن أخرج أحدهما دنانير والآخر دراهم لم يجز، وإن باع نصف ذهبه بنصف فضة صاحبه، لأنه صرف وشركة.
3228 - ولا يصلح مع الشركة صرف ولا قراض، وهما أيضاً نوعان مما لا يقوّمان، فإن عملا فلكل واحد مثل رأس ماله، ويقتسمان الربح لكل عشرة دنانير ديناراً، ولكل عشرة دراهم درهماً، وكذلك الوضيعة، وكذلك إن عرف كل واحد السلعة التي اشتريت بماله فإن السلع تباع ويقسم الثمن كله كما ذكرنا.(1)
وقال غيره: لكل واحد السلعة التي اشتريت بماله إن عرفت، ولا شركة له في سلعة الآخر، وإن تفاضل المال فلأقلهما مالاً أجرة في عون صاحبه، وإن لم تعلم السلعة فالربح والخسارة بينهما على قيمة الدراهم من الدنانير يوم اشتركا ولأقلهما مالاً أجره في عون صاحبه [لشركة فاسدة بطعام خلطاه ثم باعاه].
__________
(1) انظر: التقييد (5/236).

قال ابن القاسم: ولا باس أن يخرج هذا ذهباً وفضة، وهذا مثله من ذهب وفضة، وإن اشتركا بمالين سواء، فأخرج كل واحد ذهبه فصرّها على حدة وجعلا الصرتين بيد أحدهما أو في تابوته أو خرجه فضاعت واحدة، فالذاهبة، منهما، وإن بقيت صرة كل واحد منهما بيده فضياعها منه حتى يخلطا أو يجعلا الصرتين عند أحدهما، وكذلك إن كانتا فيما ذكرنا مختلفتي السكة، إلا أن الصرف واحد، ولو تفاضل الصرف فسدت الشركة وكانت الذاهبة من ربها.
وإن بقيت كل صرة بيد ربها حتى ابتاع بها أحدهما أمة على الشركة وتلفت الصرة الأخرى والمالان متفقان فالأمة بينهما والصرة من ربها. وقال غيره: لا تنعقد بينهما شركة حتى يختلطا.
3229 - ولا بأس أن يشتركا بمال كثير يتفاوضان فيه، وهما في بلدين، على أن يجهز كل واحد منهما على صاحبه، ويلغيان نفقتهما، كانا في بلد واحد أو بلدين، وإن اختلف سعراهما كانا ذوي عيال أو لا عيال لهما، وإن كان لأحدهما عيال وولد، وليس للآخر أهل ولا ولد، حسب كل واحد [منهما] ما أنفق، وما ابتاع أحدهما مما يلغى من طعام أو كسوة له أو لعياله فللبائع أن يتبع أيهما شاء بالثمن، لأن النفقة والكسوة لهما أو لعيالهما مما يلغى، وهي من مال التجارة إلا كسوة لا يبتذلها العيال، كوشي أو قصبي ونحوه، فهذا لا يلغى، وإن ابتاع أحدهما طعاماً أو كسوة له أو لعياله لم يدخل فيه الآخر، إذ لا بد لهما من ذلك وعليه عقدا.
3230 - والمفاوضة على وجهين: إما في جميع الأشياء، وإما في نوع واحد من المتاجر يتفاوضان فيه كشراء الرقيق يتفاوضان فيه إذا اشتركا على أصل مال.
قال ابن القاسم: وأما شركة عنان فلا أعرفه من قول مالك، ولا رأيت أحداً من أهل الحجاز يعرفه.
3231 - ومن أقام البينة على رجل أنه مفاوضه على الثلث أو على الثلثين جاز ذلك وكانا متفاوضين، ويكونان متفاوضين ولأحدهما هين أو عرض دون صاحبه، ولا يفسد ذلك المفاوضة بينهما.(1)
__________
(1) انظر: منح الجليل (6/254).

3232 - ومن أقام بينة أن فلاناً مفاوضه، كان جميع ما في أيديهما بينهما، إلا ما قامت فيه بينة أنه لأحدهما بميراث أو هبة أو صدقة عليه، أو كان له قبل التفاوض، وأنه لم يفاوض عليه فيكون له خاصة، والمفاوضة فيما سواه قائمة، وما ابتاع أحد المتفاوضين من بيع صحيح أو فاسد لزم الآخر، ويتبع البائع بالثمن أو القيمة في فوت الفاسد أيهما شاء، ومن عليه دين لأحدهما فقضاه لشريكه جاز.
3233 - ويجوز للمأذون له مفاوضة الحر، [كما يجوز له أن يدفع قراضاً،].وتجوز شركة العبيد إذا أُذن لهم في التجارة.
ولا يصلح لمسلم أن يشارك ذمياً إلا أن لا يغيب الذمي على بيع ولا شراء ولا قضاء ولا اقتضاء إلا بحضرة المسلم. وتجوز الشركة بين النساء أو بين النساء والرجال.
وأكره أن يخرجا مالاً على أن يتجرا به، وبالدين مفاوضة، فإن فعلا فما اشترى كل واحد منهما فبينهما وإن جاوز رأس ماليهما، وإن تفاوضا بالمالين ولم يذكرا في أصل شركتهما أن يبيعا بدين فباع أحدهما بدين، فذلك جائز على شريكه.
3234 - وإن تفاوضا بأموالهما في جميع التجارات، وليس لأحدهما مال دون صاحبه، فاشترى أحدهما من مال الشركة جارية لنفسه، وأشهد على ذلك، خيّر شريكه بين أن يجيز له ذلك، أو يردها في الشركة، قيل: فإن ابتاعها للوطء، أو للخدمة من مال الشركة، أتكون له أم في الشركة؟ قال: قيل لمالك: إذا كان كل واحد منهما يشتري الأمة [من مال الشركة] فيطؤها ثم يبيعها ويرد ثمنها في رأس المال؟ قال: لا خير في ذلك، قيل: فما يصنعان بما في أيديهما من الجواري مما قد اشتريا على هذا الشراء؟ قال: يتقاومانهن فيما بينهما، فمن صارت له الأمة كانت له بثمن معلوم وحلّ له الوطء.

قال ابن القاسم: وإن شاء الشريك أنفذها لشريكه الذي وطئها بالثمن الذي اشتراها به، وليس من فعل ذلك من أحد المتفاوضين كغاصب للثمن، أو متعد في وديعة ابتاع بها سلعة، هذا ليس عليه لرب الدنانير إلا مثل دنانيره، ولكنه كمبضع معه في شراء سلعة أو مقارض تعدى، فرب المال مخير في أخذ ما اشترى أو تركه، لأن هؤلاء أذن لهم في تحريك المال، فلكل متعد سُنّة يحمل عليها، إلا أن الذي ابتاع الأمة ووطئها من المتفاوضين إذا لم يسلمها له الشريك بالثمن وقال: لا أقاومه ولكن أردها في الشركة، لم يكن له ذلك، وقال غيره: له ذلك.
3235 - وإذا أخر أحد المتفاوضين غريماً بدين أو وضع له منه نظراً واستيلافاً في التجارة ليشتري منه في المستقبل جاز. وكذلك الوكيل على البيع إذا كان مفوضاً إليه، وما صنعه مفوض إليه من شريك أو وكيل على وجه المعروف لم يلزم، ولكن يلزم الشريك في حصته، ويرد صنيع الوكيل إلا أن يهلك ما صنع الوكيل من ذلك فيضمنه الوكيل.
وإن باع أحدهما سلعة بثمن إلى أجل لم يصلح لشريكه أن يبتاعها بأقل من ذلك [الثمن] نقداً، لكن يبتاعها بما يجوز لبائعها أن يشتريها به.
وإن أبضع أحدهما مع رجل دنانير من الشركة ليشتري بها شيئاً [ثم علم الرجل بموت الذي بعثها معه، أو بموت شريكه، فإن علم أنها من الشركة فلا يشتر بها شيئاً] وليردها على الباقي وعلى الورثة، وإن بلغه افتراقهما فله أن يشتري، لأن ذلك لهما بعد، وفي الموت يقع للورثة بعضه، وهم لم يأمروه بذلك. ولأحد المتفاوضين أن يبضع أو يقارض دون إذن الآخر.
3236 - وأما إيداعه فإن كان لوجه عذر لنزوله ببلد فيرى أن يودع، إذ منزله الفنادق وما لا أمن فيه، فذلك له. وما أودع لغير عذر ضمنه.

وإن أودعك أحدهما وديعة فزعمت أنك رددتها إليه فأنكر، فأنت مصدق، إلا أن يودعك ببينة، فلا تبرأ إلا ببينة، فإن زعمت أنها هلكت فأنت مصدق وإن أخذتها ببينة، وإن رددتها إلى الآخر منهما [بغير بينة] برئت إن صدقك القابض وإن أنكر لم تبرأ إلا ببينة ودفعك لثمن ما ابتعت منهما، أو من أحدهما إلى أحدهما، مبايعك أو غيره، فذلك يبرؤك إن صدقك القابض، وإلا لم تبرأ إلا ببينة.
3237 - وإن أودع أحد المتفاوضين وديعة لرجل فأودعها ذلك الرجل لشريكه المفاوض ضمن، إلا أن يكون ذلك لعذر من عورة بيت أو سفر أراده.
ومن دفعت إليه منهما وديعة كانت بيده دون صاحبه، فإن مات ولم تعرف الوديعة بعينها، كانت في حصته ديناً دون حصة شريكه إذ ليست من التجارة.
وإذا أودع رجل لأحدهما وديعة فعمل بالوديعة تعدياً فربح، فإن علم شريكه بالعداء ورضي بالتجارة بها بينهما، فلهما الربح والضمان عليهما، وإن لم يعلم فالربح للمتعدي وعليه الضمان خاصة.
وقال غيره: إن رضي الشريك وعمل معه فإنما له أجر مثله فيما أعانه، وهو ضامن، وإن رضي ولم يعمل معه فلا شيء له ولا ضمان عليه، ولا يوجب الرضا بذلك دون بسط اليد ضماناً ولا ربحاً، إلا من وجه قول الرجل للرجل: لك نصف ما أربح في هذه السلعة، فله طلبه بذلك ما لم يفلس أو يمت.
ولا يجوز لأحدهما أن يفاوض شريكاً إلا بإذن شريكه، وأما إن شاركه في سلعة بعينها غير شركة مفاوضة فجائز.(1)
وإن أخذ أحدهما قراضاً فلا ربح للآخر فيه، ولا ضمان عليه فيما تعدى فيه الآخذ له، لأن المقارضة ليست من التجارة وإنما هو أجير أجر نفسه فلا شيء لشريكه في ذلك.
وإن استعار أحدهما بغير إذن الآخر ما حمل عليه لنفسه أو لمال الشركة [فتلف] فضمانه من المستعير، ولا شيء على شريكه، لأن شريكه يقول: كنت أستأجر لئلا أضمن.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/128)، ومواهب الجليل (5/118).

قال غيره: لا يضمن الدابة في العارية إلا بالتعدي، وإن استعاراها جميعاً فتعدى عليها أحدهما ضمن المتعدي خاصة في ماله، [وإن استعارها أحدهما لحمل طعام من الشركة فحمله شريكه الآخر عليها بغير أمر شريكه] فعطبت، لم يضمن، إذ فعل بها [شريكه] ما استعيرت له وشريكه كوكيله، ولو استعار رجل دابة ليحمل عليها غلاماً له فربطها في داره وأتى أجنبي فحمل عليها ذلك الغلام نفسه فعطبت، كان ضامناً إذ لم يأذن له ربها ولا وكله المستعير.
3238 - وليس لأحد المتفاوضين أن يعير من مال الشركة إلا أن يوسع له في ذلك شريكه أو يكون شيئاً خفيفاً كعارية غلام يسقي دابة أو نحوه، فأرجو أن لا يكون به بأس، والعارية من المعروف الذي لا يجوز لأحدهما أن يفعله في مال الشركة إلا بإذن صاحبه إلا أن يكون أراد به استيلاف التجارة.
وإن وهب أحدهما أو أعار على المعروف ضمن حصة شريكه، إلا أن يفعل ذلك لاستيلاف التجارة فلا يضمن، وإن باع أحدهما جارية ثم وهب ثمنها لم يجز ذلك، إلا في حصته.
وعبد المتفاوضين ليس لأحدهما أن يأذن له في التجارة، ولا يكاتبه ولا يعتقه على مال يتعجله منه بغير إذن شريكه، إلا أن يأخذ مالاً من أجنبي على عتقه مثل قيمته فأكثر فيجوز، وهو كبيعه.
3239 - ولا يلزم أحدهما كفالة الآخر، لأنهما معروف، وما جنى أحدهما أو غصب أو استهلك أو أصدق أو آجر فيه نفسه، فلا يلزم شريكه منه شيء.

3240 - ومن ابتاع من أحدهما عبداً فظهر على عيب فله رده بالعيب على بائعه [إن كان حاضراً] وإن كان غائباً غيبة قريبة كاليوم ونحوه فلينتظر لعل له حجة، وإن كانت غيبته بعيدة فأقام المشتري بينة أنه ابتاع [منه] بيع الإسلام وعهدته، نظر في العيب، فإن كان قديماً لا يحدث مثله، رُدّ العبد على الشريك الآخر، وإن كان يحدث مثله فعلى المبتاع البينة أن هذا العيب كان عند البائع، وإلا حلف الشريك الآخر بالله: ما أعلم أن هذا العيب كان عندنا، وبرئ، فإن نكل حلف المبتاع [على البتّ] أنه ما حدث عنده ثم رده عليه.
3241 - ومن ابتاع سلعة من أحد المتفاوضين بثمن إلى أجل فقضى الثمن بعد افتراقهما للذي باع منه أو لشريكه، فإن لم يعلم بافتراقهما فلا شيء عليه، وإن علم ضمن حصة الآخر.
3242 - وأما من كان له وكيل قد فوض إليه في البيع والشراء واقتضاء الديون وأشهد له بذلك ثم خلعه وأشهد على خلعه، ولم يعلم بذلك غرماؤه فلا يبرأ غريم مما دفع إليه بعد خلعه، كان ذلك من ثمن شيء باعه الوكيل أم لا. وقال غيره: إن لم يعلم الوكيل ولا الغريم بالحجر فالغريم بريء، وإن علم بذلك أحدهما والآخر عالم أم لا، لم يبرأ الغريم.
ولا بأس أن يشتري أحد المتفاوضين من الآخر سلعة من تجارتهما لنفسه لقنية أو لتجارة.(1)
3243 - وإن اشترى أحدهما عبداً فوجد به عيباً فرضيه هو أو شريكه لزم ذلك الآخر، فإن رده مبتاعه ورضيه شريكه لزمه رضاه، لأن مشتريه لو رده ثم اشتراه شريكه وقد علم بالرد وبالعيب لزم ذلك شريكه.
__________
(1) انظر: منح الجليل (6/415).

وإقالة أحدهما فيما باعه هو أو شريكه وتوليته لازمة كبيعه، ما لم تكن محاباة، فيكون كالمعروف لا يلزم إلا ما جرّ به إلى التجارة نفعاً، وإلا لزمه قدر حصته منه وإقالته لخوف عُدْم الغريم [ونحوه] من النظر، فهو كشراء حادث. وإن أقرّ أحدهما بدين من شركتهما لأبويه أو لولده أو لجده [أو لجدته] أو لزوجه أو صديق ملاطف ومن يتهم عليه، لم يجز ذلك على شريكه، ويجوز إقراره بذلك لأجنبي ممن لا يتهم عليه ويلزم شريكه.
ولو أن شريكين في دار أو متاع أو غير ذلك من العروض أقر أحدهما لأجنبي بنصف ما في أيديهما، حلف المدعي [معه] واستحق لأنه شاهد كإقرار وارث بدين على الميت.
3244 - وإن مات أحد الشريكين لم يكن للباقي أن يحدث في المال ولا في السلع قليلاً ولا كثيراً، إلا برضى الورثة لانقطاع الشركة. وإن اشتركا شركة صحيحة فادعى أحدهما أنه ابتاع سلعة وضاعت منه صدق، لأنه أمين فيما يلي.
3245 - وإن مات أحد المتفاوضين فأقر الحيّ منهما أنهما رهنا متاعاً من الشركة عند فلان، وقال ورثة الهالك: بل أودعته أنت إياه بعد موت وليّنا، فللمرتهن أن يحلف مع شاهده الحي ويستحق الجميع رهناً، فإن أبى فله حصة المقر رهناً، لأن مالكاً قال في أحد الورثة يقر بدين على الميت: إن صاحب الدين يحلف معه ويستحق جميع حقه من مال الميت، وإن نكل أخذ من المقر ما ينوبه من الدين، ولا يأخذ من حصته دينه كله.
وإن جحد أحد المتفاوضين الشركة فأقام عليه الآخر البينة فهلك المال بيد الجاحد في الخصومة فإنه ضامن لحصة الآخر، لأنه كالغاصب يمنعه.
3246 - وإن مات أحد الشريكين فأقام صاحبه بينة أن مائة دينار من الشركة كانت عند الميت فلم توجد، ولا علم مسقطها، فإن كان موته قريباً من أخذها فيما يظن أن مثله لم يشغلها في تجارة، فهي في حصته، وما تطاول وقته لم يلزمه، أرأيت لو قالت البينة: إنه قبضها منذ سنة، وهما يتجران أيلزمه؟ أي [أنه] لا شيء عليه.
* * *

كتاب الأقضية
3247 - وإذا قضى القاضي بقضية فيها اختلاف بين العلماء، ثم تبين له أن الحق غير ما قضى به، رجع فيه، وإنما لا ينقض ما حكم فيه غيره مما فيه اختلاف. ولا ينبغي للقاضي أن يكثر الجلوس جداً، وإذا دخله هم أو نعاس أو ضجر فليقم.
قال مالك: والقضاء في المسجد من الحق، وهو من الأمر القديم، ولأنه يرضى فيه بالدون من المجلس، وتصل إليه المرأة والضعيف، وإذا احتجب لم يصل إليه الناس.(1)
ولا يقيم في المسجد الحدود وشبهها، ولا بأس فيه بخفيف الأدب، ولا بأس أن يضرب الخصم إذا تبين لدده وظلمه.
3248 - ولا يقضي بشهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السر، فإن زُكوا في السر أو في العلانية اكتفى بذلك، ولا يقبل في التزكية أقل من رجلين، ويزكى الشاهد وهو غائب عن القاضي، ومن الناس من لا يسأل عنه ولا يطلب فيه تزكية لشهرة عدالته عند القاضي والناس، وإذا استقال الشاهد بعد الحكم لم يقل.
ولا تجوز شهادته فيما يُستقبل، وإن استقال قبل الحكم وادعى وهماً وجاء بشبهة أُقيل، ولا تبطل شهادته إلا أن يعرف كذبه فيما شهد به، فترد شهادته في هذا وفي غيره.
وإذا عرف الشاهد خطه في كتاب فيه شهادته، فلا يشهد حتى يذكر الشهادة ويوقن بها، ولكن يؤدي ذلك كما علم ثم لا تنفع الطالب.
3249 - وإذا مات القاضي أو عزل وفي ديوانه شهادة البينات وعدالتها، لم ينظر فيه من ولي بعده ولم يجزه إلا أن تقوم عليه بينة، وإن قال المعزول: ما في ديواني قد شهدت به البينة عندي، لم يقبل قوله، ولا أراه شاهداً، فإن لم تقد بينة على ذلك أمرهم القاضي المحدث بإعادة البينة.
وللطالب أن يحلِّف المطلوب بالله أن هذه الشهادة التي في ديوان القاضي ما شهد عليه بها أحد، فإن نكل حلف الطالب وثبتت له الشهادة ثم نظر فيها الذي ولي بما كان ينظر المعزول، ولا تجوز شهادة المعزول على ما حكم به.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/144).

3250 - ولا يتخذ القاضي كاتباً من أهل الذمة ولا قاسماً ولا عبداً [ولا مكاتباً] ولا يتخذ في شيء من أمور المسلمين إلا العدول المسلمين.
3251 - وإذا كتب قاض إلى قاض، فمات الذي كتب الكتاب أو عزل قبل أن يصل الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه، أو مات المكتوب إليه أو عزل، ووصل الكتاب إلى من ولي بعده، فالكتاب جائز ينفذه من وصل إليه، وإن كان إنما كتب إلى غيره.(1)
3252 - وتجوز كتب القضاة إلى القضاة في القصاص والحدود وغيرها، لجواز الشهادة على ذلك.
ومن أقام بينة على غائب ثم قدم قبل الحكم لم تعد البينة بحضوره، ألا ترى أنه يقضى عليه في غيبته، ولكن يخبر بمن شهد عليه وبالشهادة، فلعل له حجة، فإن كانت عنده حجة وإلا حكم عليه.
3253 - وسُئل مالك عن أشياء قضت فيها ولاة المياه، فرأى أن تجوز إلا في جور بيّن، وكذلك والي الفسطاط أمير الصلاة إن حكم، وكذلك والي الإسكندرية إن قضى بقضية أو استقضى قاضياً فقضى، فإنما يُنقض من ذلك الجور البين.
ولو أن رجلين حكّما بينهما رجلاً فحكم بينهما، فليمضه القاضي ولا يرده، إلا أن يكون جوراً بيناً. ومسألة من اعتُرفت في يده دابة [أو غيرها، فسأل وضع قيمتها ليخرج بها إلى بلد بائعه] قد تقدم ذكرها في كتاب تضمين الصناع.
3254 - وكره مالك إجارة قسام القاضي، وأنا أرى إن وقع ذلك أن يكون على عدد الرؤوس لا على قدر الأنصباء إذا لم يشترطوا بينهم شيئاً.
ولا تجوز شهادة القُسّام على ما قسموا، وإذا اقتسم الورثة ثم ادعى أحدهما الغلط فذلك مذكور في كتاب القسم.
وإذا دفع القاضي مالاً إلى رجل فأمره أن يدفعه إلى فلان، فقال: دفعته إليه، وكذبه فلان، فالرسول ضامن إلا أن يقيم بينة.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/146)، والتاج والإكليل (6/142).

3255 - وإذا وجد السلطان أحداً على حدّ من حدود الله تعالى رفع ذلك إلى من فوقه، وإن رآه السلطان الأعلى الذي ليس فوقه سلطان فليرفعه إلى القاضي، فإن رآه مثل أمير مصر رفعه إلى القاضي، وكان شاهداً، دون أن يرفعه إلى أمير المؤمنين.
وإن سمع السلطان قذفاً، فإن كان معه شهود لم يجز فيه عفو الطالب، إلا أن يريد ستراً، مثل أن يخاف أن يثبت ذلك عليه إن لم يعف، قيل لمالك: فكيف يعرف ذلك؟ قال: يسأل الإمام عن ذلك سراً، فإن أخبر أن ذلك أمر قد سمع أجاز عفوه.
3256 - ولا يقضي القاضي بعلمه قبل أن يلي أو بعد، ولو أقرّ أحد الخصمين عند القاضي بشيء وليس عنده أحد، ثم يعود [المقر] إليه فيجحد ذلك الإقرار، فإنه لا يقضي عليه به إلا ببينة سواه، فإن لم تكن عنده بينة شهد هو بذلك عند من فوقه، وكذلك ما اطلع عليه من حد لله عز وجل أو رأى من غصب، أو سمع من قذف، فليرفعه إلى من فوقه ويكون شاهداً.
وفرق أهل العراق بين الحدود والإقرارات، وقالوا يحكم من الإقرار بما سمع في ولايته لا بما علم قبل أن يلي، ورأى مالك ذلك كله سواء.
3257 - ولا عهدة على قاضٍ أو على وصي فيما وليا بيعه، وعهدة المبتاع في مال اليتامى فإن هلك مال الأيتام ثم استحقت السلعة فلا شيء على الأيتام.
3258 - وإذا عزل القاضي [وقد حكم بأحكام] فادعى من حكم عليه جوره، لم ينظر في قوله، ولا خصومة بينهما، وقضاؤه نافذ، إلا أن يرى الذي ولي بعده جوراً بيّناً فيرده، ولا شيء على الأول، ولا يتعرض الذي ولي قضاء من كان قبله إلا في الجور البين.
3259 - قال مالك: ولا يستقضى من ليس بفقيه(1). وقال عمر بن عبد العزيز: لا يستقضى حتى يكون عارفاً بآثار من مضى مستشيراً لذوي الرأي.
__________
(1) انظر: المدونة (12/149، 150).

قال مالك: ولا ينبغي لطالب العلم أن يفتي حتى يراه الناس أهلاً للفتيا. قال سحنون: الناس هاهنا العلماء. قال ابن هرمز: ويرى هو نفسه أهلاً لذلك. قال مالك: وليس علم القضاء كغيره من العلم، ولم يكن بهذا البلد أحد أعلم بالقضاء من أبي بكر بن عبد الرحمن، وكان قد أخذ شيئاً من علم القضاء من أبان بن عثمان وأخذ ذلك أبان من أبيه عثمان.
3260 - وإذا أدلى الخصمان بحجتهما ففهم القاضي عنهما وأراد أن يحكم بينهما فليقل لهما: أبَقِيت لكما حجةظ فإن قالا: لا، حكم بينهما، ثم لا يقبل من المطلوب حجة إلا أن يأتي بما له وجه، مثل بينة لم يعلم بها، أو يكون أتى بشاهد عند من لا يقضي بشاهد ويمين، فحكم عليه، ثم وجد شاهداً آخر بعد الحكم، وقال: لم أعلم به، فليقض بهذا الآخر.(1)
* * *

(كتاب الشهادات)
3261 - ولا تجوز شهادة من هو في عيال رجل له، وكذلك الأخ والأجير إذا كانا في عياله، فإن لم يكونا في عياله جازت شهادتهما إذا كانا مبرزين في العدالة في الأموال والتعديل. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جارٍّ لنفسه ولا دافعٍ لها.(2)
3262 - ولا تجوز شهادة السؤال إلا في التافه اليسير فتجوز إذا كان عدلاً، ولا تجوز شهادة المغنّي والنائحة إذا عرفوا بذلك.(3)
3263 - قال مالك: ولا تجوز شهادة الشاعر الذي يمدح من أعطاه ويهجو من منعه، وإن كان لا يهجو أحداً، [ويأخذ ممن أعطاه] قُبِل إذا كان عدلاً.
__________
(1) انظر: تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لبدر الدين بن جماعة الشافعي - بتحقيقنا - ط دار الكتب العلمية، وكذلك مثله: رسائل في السياسة الشرعية.
(2) انظر الآثار المروية في ذلك: مصنف ابن أبي شيبة (7/258)، والسنن الكبرى للبيهقي (10/150)، والموطأ (2/720).
(3) انظر: المدونة (12/138)، (13/153)، والتاج والإكليل (6/167)، والقوانين (ص203).

3264 - ومن أدمن على اللعب بالشطرنج لم تجز شهادته [وإن كان إنما هو المرة بعد المرة فشهادته جائزة] إذا كان عدلاً، وكره مالك اللعب بها وإن قلّ، وقال: هي أشر من النرد.
3265 - وتجوز شهادة المولى لمن أعتقه، ما لم يدفع بها عن نفسه شيئاً أو يجره إليها. ولا تجوز شهادة الرجل لمكاتبه ولا لعبد ابنه، وإن شهد لأمة بالعتق زوجها ورجل أجنبي لم تجز شهادة الزوج.
3266 - وإذا شهد صبي أو عبد أو نصراني شهادة، ثم أدوها بعد الحلم أو العتق أو الإسلام جازت الشهادة، ولو أدوها في حالتهم الأولى فردت لم تجز أبداً، وروي ذلك عن عثمان وغيره.
3267 - ولا تجوز شهادة الأبوية أو أحدهما للولد، ولا الولد لهما، ولا أحد الزوجين لصاحبه، ولا الجد لابن ابنه ولا الرجل لجده، ولا تجوز في [أحد من] هؤلاء شهادة للآخر في حق أو تزكية أو في تجريح من شهد عليه.
وتجوز شهادة الأخ لأخيه، والرجل لمولاه ولصديقه الملاطف، إلا أن يكون في عياله أحد من هؤلاء يمونه، فلا تجوز شهادته له.(1)
وتجوز شهادة الرجل لشريكه المفاوض إذا شهد له في غير التجارة إذا كان لا يجرّ بذلك إلى نفسه شيئاً.
3268 - ولا تجوز شهادة أهل الكفر على مسلم أو كافر من أهل ملتهم أو من غيرها، ولا على وصية ميت [مات] في سفر، وإن لم يحضره مسلمون، وتجوز شهادة المسلمين عليهم.
3269 - ولا تجوز شهادة نساء أهل الكفر في الاستهلال أو الولادة، وتجوز في ذلك شهادة امرأتين مسلمتين، وكل شيء تقبل فيه شهادة النساء وحدهن، فلا يقبل فيه أقل من امرأتين، ولا تجوز شهادة امرأة واحدة في شيء من الشهادات.
3270 - وتجوز شهادة من تاب ممن حُدّ في القذف، وحسنت حاله وزاد على ما عرف به من حسن الحال، في الحقوق والطلاق.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/155)، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص203)، والتاج والإكليل (6/155)، ومنح الجليل (8/394).

3271 - وتجوز الشهادة على الشهادة في الحد والطلاق والولاء، وفي كل شيء. وشهادة رجلين تجوز على شهادة عدد كثير. ولا ينقل أقل من اثنين في الحقوق عن واحد فأكثر.
3272 - ولا يجوز نقل واحد عن واحد مع يمين الطالب في مال، لأنها بعض شهادة شاهد، والنقل بعينه ليس بمال فيحلف عليه من الناقل، ولو أجيز ذلك لم يصل إلى قبض المال إلا بيمين، وإنما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأموال بشاهد ويمين واحدة.(1)
3273 - ولا تجوز شهادة النساء في الحدود والقصاص والطلاق والنكاح والنسب والعتاق والولاء، شهدن في ذلك على علمهن أو على السماع، كنّ وحدهن أو مع رجل [قال مالك:] ولا تجوز شهادتهن إلا حيث ذكرها الله في الدين وما لا يطلع عليه أحد إلا هن للضرورة إلى ذلك.
3274 - ويحلف الطالب مع شهادة امرأتين في الأموال ويقضى له، وتجوز شهادتهن على الشهادات في الأموال أو في الوكالة على الأموال إذا كان معهن رجل، وهنّ وإن كثرن كرجل [واحد]، ولا ينقلن شهادة إلا مع رجل، نقلن عن رجل أو امرأة وقاله أشهب. وقال غيره: لا تجوز شهادتهن على شهادة، ولا على وكالة في مال. قال ابن القاسم: وما لا تجوز فيه شهادتهن فلا يجوز أن يشهدن فيه على شهادة غيرهن، كان معهن رجل أم لا.
3275 - قال مالك: وتجوز شهادتهن في المواريث إذا ثبت النسب بغيرهن، وإنما جازت في اختلافهم في الميراث، لأنه مال، والنسب معروف بغير شهادتهن.
وتجوز في قتل الخطأ لأنه مال، قال ربيعة وسحنون: إنما أُجزن في قتل الخطأ والاستهلال ضرورة لفواتهما، وأما الجسد فهو يبقى، فإن شهد رجلان على رؤية جسد القتيل والجنين، وإلا لم تجز شهادتهن.
__________
(1) رواه مسلم (1712)، وأبو داود (3608)، ومالك في الموطأ (2/721)، وابن ماجة (2369).

3276 - قال مالك: وتجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض في القتل والجراح ما لم يفترقوا أو يخيبوا، ولا تجوز إلا شهادة اثنين منهم فأكثر، بعضهم على بعض إذا كانوا صبياناً كلهم. ولا تجوز فيه شهادة واحد، ولا تجوز شهادة الإناث من الصبيان في الجراح فيما بينهم.
ولا تجوز شهادة الصبيان في الجراح لكبير على صغير أو كبير، وإذا شهدت بينة على قول صبي أن فلاناً الصبي قتله، لم ينفع هذا إلا ببينة على القتل، ولا يقسم بذلك وإن اعترف القاتل، وليس في الصبيان قسامة فيما بين بعضهم لبعض إلا أن يشهد كبير أن كبيراً قتل صغيراً، فيقسم ولاته على ما شهد به الشاهد من عمد أو خطأ.
قال أشهب أو غيره: لا تجوز شهادة الصبيان في القتل، ولا تجوز شهادة الإناث. وقال المخزومي: إن الإناث تجوز شهادتهن وإن شهادة الصبيان في القتل جائزة. وقال ابن نافع وغيره في صبي شهد عليه صبيان أنه جرح صبياً ثم نزى في جرحه فمات، أن ولاته يقسمون لَمِنْ ضَرْبه مات، ويستحقون الدية.
3276 - وتجوز شهادة الوصيين أو الوارثين بدين على الميت، وإن شهد لصاحب الدين بذلك واحد من الورثة، فإنه يحلف معه إن كان عدلاً ويستحق حقه، فإن نكل أخذ من شاهده قدر ما يصيبه من الدين، وإن كان سفيهاً لم تجز شهادته، ولم يرجع عليه في حصته بقليل ولا كثير.
وشهادة الوصيين أن الميت أوصى لفلان معهما جائزة، وقال غيره: إذا ادعى ذلك فلان، ولم يجرا بذلك إلى أنفسهما نفعاً وكذلك الوارثان.
3277 - وتجوز شهادة الوارثين على نسب يلحقانه بالميت، أو دين أو وصية أو أن فلاناً وصي، وإن شهدا أن أباهما أعتق هذا العبد ومعهما أخوات أو زوجة للأب، فإن لم يتهما في ولائه لدناءته جازت شهادتهما، وإن كان يُرغب في ولائه ويتهمان على جره لم تجز شهادتهما.
3278 - ولا تجوز شهادة وصي بدين للميت، إلا أن يكون الورثة كباراً [عدولاً] وكان لا يجرّ بشهادته شيئاً يأخذه فشهادته جائزة.

قال مالك: فإن شهد الوصي لورثة الميت بدين لهم على الناس، لم تجز شهادته، لأنه الناظر لهم، إلا أن يكونوا كباراً عدولاً يلون أنفسهم فتجوز شهادته لهم، لأنه لا يقبض لهم شيئاً وهم يقبضون لأنفسهم إذا كانت حالهم مرضية.(1)
3279 - ولا تجوز شهادة النساء وحدهن أو مع رجل أن فلاناً وصى، إذا كان في الوصية عتق وأبضاع نساء.
وقال غيره: لا تجوز في الوصي بحال، لأن ذلك ليس بمال.
قال سحنون: الوصية والوكالة ليستا بمال، إذ لا يحلف وصي أو وكيل مع شاهد رب المال إذ المال لغيرهما. وإن شهدن لرجل أن فلاناً أوصى له بكذا جازت شهادتهن مع يمينه، وامرأتان في ذلك، ومائة امرأة سواء، يحلف معهن ويستحق، ولا يحلف مع امرأة واحدة، فإن شهدن لعبد أو لامرأة أو لذمي فإنه يحلف ويستحق.
وأما إن شهدن لصبي فإنه لا يحلف حتى يبلغ، وإن كان في الورثة كبار أو أصاغر حلفوا وأخذوا مقدار حقهم، فإن نكلوا وبلغ الصغار، كان لهم أن يحلفوا ويستحقوا حقهم.
3280 - وإن شهد رجل وامرأتان على رجل بالسرقة ضمن المال ولم يقطع، ولو شهد عليه بالسرقة رجل واحد حلف الطالب وضمن له السارق ولم يقطع، كما لو أقام شاهداً أن عبد فلان قتل عبده عمداً أو خطأ، فإنه يحلف معه يميناً واحدة، ويستحق العبد ولا يقتله وإن كان عمداً.
وكل جرح لا قصاص فيه مما هو متلف كالجائفة والمأمومة وشبهها، فالشاهد واليمين فيه جائز، لأن العمد والخطأ فيه إنما هو مال.
3281 - ومن أقام شاهداً بمائة دينار ديناً، وشاهداً بخمسين، فإن شاء حلف مع شاهد المائة وقُضي له بها، وإلا أخذ خمسين بغير يمين.
3282 - وإذا شهد وارثان أن فلاناً تكفل لفلان ولوالدهما بمال، أو شهد رجلان أن لهما أو لفلان على فلان مائة دينار، لم يجز شيء من ذلك.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/164، 165)، ومواهب الجليل (6/172)، والكافي لابن عبد البر (ص461، 462)، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص212).

وقال مالك فيمن شهد على وصية أُوصي له فيها بشيء تافه لا يتهم فيه جازت له ولغيره إذ لا يصح بعض الشهادة ويرد بعضها.
وقال غيره عن مالك: إذا اتهم لم تجز شهادته له ولا لغيره.
قال سحنون: وفي هذا الأصل اختلاف عن مالك [وغيره]، قال يحيى بن سعيد: إن كان معه شاهد غيره جازت له ولغيره، وإن كان وحده جازت لغيره ولم تجز له، وروى ابن وهب عن مالك أنها لا تجوز له ولا لغيره.
3283 - [وقال يحيى بن سعيد في قوم مسافرين في قبائل شتى، توفي أحدهم فأوصى لهم بوصية ولم يشهد على الوصية [غيرهم]: إن شهادة بعضهم لبعض في الوصية لا تجوز، إلا أن يشهد لهم من ليس له في الوصية حق].
3284 - وإن شهد شاهد على وصية فيها عتق، ووصايا لقوم لم تجز شهادته في العتق، وتجوز في الوصايا للقوم مع أيمانهم، فإن ضاق الثلث فإنما لهم من الثلث ما فضل عن العتق، وإنما تبطل كلها لو شهد لنفسه فيها.
3285 - ومن أودعك وديعة فشهدت عليه أنه تصدق بها على فلان، أو أقرّ بها له، حلف فلان مع شهادتك واستحقها إن كان حاضراً، وإن غاب لم تجز شهادتك إن كانت غيبة تنتفع أنت بمثلها في المال.
3286 - ومن سمع رجلاً يذكر شهادته أن لفلان [على فلان] كذا، أو يقول: سمعت فلاناً يقذف فلاناً، أو يطلق زوجته، فلا يشهد على شهادته حتى يقول له: اشهد على شهادتي، وإن سمع رجلاً يطلق زوجته أو يقذف رجلاً فليشهد بذلك، وإن لم يشهده وعليه أن يشهد ويخبر بذلك من له الشهادة.
3287 - وقال مالك في الحدود: إنه يشهد بما سمع إن كان معه غيره، وسمعته قبل ذلك يقول فيمن مرّ برجلين يتكلمان في أمر فسمع منهما شيئاً ولم يشهداه، ثم يطلب أحدهما تلك الشهادة، قال: فلا يشهد له. قال ابن القاسم: إلا أن يستوعب كلامهما من أوله [إلى آخره] فليشهد وإلا فلا، إذ قد يكون قبله كلام يبطله أو بعده.(1)
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (12/133)، (13/169)، والشرح الكبير (4/179)، وحاشية الدسوقي (4/179).

3288 - وإن شهد شاهدان أنهما سمعا أن هذا الميت مولى فلان هذا لا يعلمان له وارثاً غير هذا، أو شهد شاهد واحد أنه مولاه اعتقه، استوني بالمال، فإن لم يستحقه أحد غيره قضي له به مع يمينه، ولا يجر بذلك الولاء.
3289 - وإن كان شاهد واحد على السماع، لم يقض له بالمال وإن حلف، لأن السماع نقل شهادة، ولا تجوز شهادة واحد على شهادة غيره، وكثير من هذا المعنى في كتاب الولاء أتم مما ههنا فأغنى عن إعادته.
وإن شهد لرجل أعمامه أن فلاناً الميت مولى أبيه أعتقه، فإن لم يدّعِ ولداً ولا مولى وإنما ترك مالاً جازت الشهادة لارتفاع التهمة، وإن ترك ولداً ومولى يتهمون بذلك على جرّ ولائهم يوماً ما لقُعْدُدهم، لم يجز.
وقد قال مالك في ابني عمٍ شهدا لابن عمهما على عتق: إنه إن كان ممن يتهمان لقربهما منه في جر الولاء لم يجز ذلك، وإن لم يتهما الآن في جر الولاء لبعدهما منه جازت الشهادة، وإن كان الولاء قد يرجع إليهما يوماً ما.
3290 - والشهادة على السماع في الأحباس جائزة لطول زمانها يشهدون أنا لم نزل نسمع أن هذه الدار حبس، تحاز بحوز الأحباس، وإن لم ينقلوا عن بينة معينين إلا قولهم سمعنا وبلغنا، ولو نقلوا عن قوم عدول أشهدوهم لم يكن سماعاً وكانت شهادة.
قال مالك: وليس عندنا أحد ممن شهد على أحباس الصحابة إلا على السماع.
3291 - وسئل مالك عن قوم شهدوا على السماع في حبس على قوم وأنه يعرف أن من مات منهم لا يدخل في نصيبه زوجته، وتهلك ابنة الميت، فلا يدخل فيه ولدها ولا زوجها. قال: أراه حبساً ثابتاً وإن لم يشهدوا على أصل الحبس، ولم يذكروا ذلك كله وذكروا من السماع ما يستدل به فذلك جائز.

ومن أقامت في يده دار خمسين سنة أو ستين ثم قدم رجل كان غائباً فادعاها، وثبت الأصل له، وأقام بينة أنها لأبيه أو جده، وثبتت المواريث حتى صارت له، فقال الذي بيده الدار: اشتريتها من قوم، وقد انقرضوا وانقرضت البينة وأتى ببينة يشهدون على السماع، فالذي ينفعه من ذلك أن يشهد قوم أنهم سمعوا أن الذي في يديه الدار أو أحد من آبائه ابتاعها من القادم أو من أحد آبائه أو ممن ورثها القادم عنه، أو ممن ابتاعها من أحد ممن ذكرنا، فذلك يقطع حق القادم منها.
قال مالك: وها هنا دور يعرف لمن أصلها بالمدينة قد تداولتها الأملاك فشهادة السماع على مثل هذا جائزة، وإن أتى الذي في يديه الدار ببينة يشهدون أنهم سمعوا أن هذا الذي في يديه الدار أو أحد من آبائه ابتاعها ولا يدرون ممن [ابتاعها] فلا ينفعه ذلك، ولو أقام بينة يشهدون على السماع أن أباه ابتاعها ممن ذكرنا منذ خمس سنين ونحوها، لم ينفعه ذلك، ولا يقبل في مثل هذا القرب إلا بينة تقطع على الشراء، فإن لم يأت الحائز ببينة يشهدون على علم الشراء في قريب الزمان أو على السماع في بعيده قضي بها للقادم الذي استحقها.
3292 - ومن أقرّ أنه كان تسلف من فلان الميت مالاً وقضاه إياه فإن كان ما يذكر من ذلك حديثاً لم يطل زمانه لم ينفعه قوله: قضيته، وغرم لورثته إلا أن يقيم بينة قاطعة على القضاء، وإن طال الزمان حلف المقرّ وبرئ، إلا أن يذكر ذلك على معنى الشكر، يقول: جزى الله فلاناً خيراً أسلفني وقضيته، فلا يلزمه في هذا شيء مما أقر به، قرب الزمان أو بعد.
3293 - ومن أقام شاهداً على رجل أنه تكفل له بماله على فلان حلف مع شاهده واستحق الكفالة [بماله] قِبَلَه، ويحاص من قضى له في دينه بشاهد ويمين مع من قضى له بشاهدين.

وإن أقام الطالب شاهداً وأبى أن يحلف معه فله يمين المطلوب فإن نكل غرم، ولا يرد اليمين على الطالب، لأنه هو ردها، وإذا ثبتت الخلطة ولم يأت الطالب بشاهد واستحلف المطلوب فنكل لم يقض الإمام للطالب حتى يرد اليمين عليه، وإن جهل المطلوب أن يسأله ردها، فعليه أن يعلمه بذلك، ولا يقضي حتى يردها، وإن نكل الطالب فلا شيء له.(1)
3294 - وإن حلف المطلوب ثم وجد الطالب بينة فإن لم يكن علم بها قضي له بها، وإن استحلفه بعد علمه ببينته تاركاً لها، وهي حاضرة أو غائبة فلا حق له، وإن قدمت بينته.
وإن قال الطالب للإمام بينتي غائبة فأحلفه لي، فإذا قدمت بينتي قمت بها نظر الإمام، فإن كانت بينته بعيدة الغيبة وخاف تطاول الأمر وذهاب الغريم أحلفه له وكان له القيام ببينته إذا قدمت، وإن كانت بينته قريبة الغيبة على مثل اليومين والثلاثة، لم يحلفه إلا على إسقاطها.
3295 - ومن ادعى قبل رجل كفالة ولا خلطة بينهما فلا يمين له عليه. ومن باع سلعة من رجلين فقبض من أحدهما حصته ثم لقي الآخر فقال له: قد دفعت إلى صاحبي يدفع إليك، فسأل البائع صاحبه فأنكر، فأراد يمينه، فلم ير مالك هذه خلطة توجب اليمين.
3296 - ومن ادعى قبل رجل ديناً أو غصباً أو استهلاكاً فإن [كان] عُرِف بمخالطته في معاملته أو علمت تهمته فيما ادعى قبله من التعدي والغصب، نظر فيه الإمام، فإما أحلفه أو أخذ له كفيلاً حتى يأتي بالبينة، وإن لم تعلم خلطته أو تهمته فيما ذكر لم يعرض له، ولا تجب اليمين حتى تثبت الخلطة، وكذلك قال السبعة من فقهاء التابعين.
3297 - وقد قال مالك في امرأة ادعت أن فلاناً استكرهها أنه إن كان ممن [لا] يشار إليه بذلك حُدّت، وإن كان ممن يشار إليه بذلك نظر الإمام في ذلك، وقد تركت هنا مسائل كثيرة قد تقدم ذكرها في كتب النساء والعبيد مستوعبة فأغنى عن إعادته.
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/265)، والكافي لابن عبد البر (1/414).

3298 - ومن ادعى على رجل أنه ولده أو والده [فأنكر] فلا يمين عليه. ومن ادعى قبل رجل حداً فقدمه إلى القاضي وادعى بينة قريبة يأتي بها في يومه أو غده، فليوقفه القاضي ولا يحبسه.
ولو أقام الطالب شاهداً عدلاً حبسه القاضي له، ولا يؤخذ في هذا كفيل، وكذلك في الجراح، وما يكون في الأبدان لا يؤخذ به كفيل.
3299 - ومن ادعى عبداً بيد رجل وأقام شاهداً عدلاً يشهد على القطع أنه عبده، أو أقام بينة تشهد أنهم سمعوا أن عبداً سرق له مثل ما يدعي، وإن لم تكن شهادة قاطعة وله بينة ببلد آخر فسأل وضع [قيمة] العبد ليذهب به إلى بينته لتشهد على عينه عند قاضي تلك البلدة فذلك له، وإن لم يقم شاهداً ولا بينة على سماع ذلك، وادعى بينة قريبة بمنزلة اليومين والثلاثة فسأل وضع قيمة العبد ليذهب به إلى بينته لم يكن ذلك له.
فإن قال: أوقفوا العبد حتى آتي ببينتي، لم يكن له ذلك، إلا أن يدعي بينة حاضرة على الحق، أو سماعاً يثبت له به دعواه، فإن القاضي يوقف العبد ويوكل به حتى يأتيه ببينته، [أو بما يثبت به دعواه] فيما قرب من يوم ونحوه، فإن جاء بشاهد أو بسماع وسأل إيقاف العبد ليأتي ببينته، فإن كانت بعيدة وفي إيقافه ضرر استحلف القاضي المدعى عليه وسلمه إليه بغير كفيل، وإن ادعى شهوداً حضوراً على حقه أوقف له نحو الخمسة الأيام والجمعة وهذا التحديد لغير ابن القاسم.
ورأى ابن القاسم أن يوقف له، لأن الجائي بشاهد أو بسماع له وضع القيمة عند مالك، والذهاب به إلى بينته، فهذا كالإيقاف، ونفقة العبد في الإيقاف على من يُقضى له به.
وقال غيره: وإنما يوقف مثل ما يشهد على عينه من الرقيق والحيوان والعروض، لأن ذلك يحول وتزول عينه.
3300 - قال ابن القاسم: يوقف ما لا يؤمن تغيره وزواله، فأما المأمون كالرباع والعقار وماله من ذلك الغلة فإنما يوقف وقفاً يمنع فيه من الإحداث فيها، والغلة أبداً إنما هي للذي هي بيده، لأن ضمانها منه حتى يُقضى بها للطالب.

قال سحنون: هذا إذا كان مبتاعاً أو صارت إليه من مبتاع.
قال غيره: وإن ادعى عليه ديناً أو شيئاً مستهلكاً وطلب كفيلاً، سأله القاضي بيّنة على خلطة أو معاملة أو ظنة، فإن ادعى على الخلطة بيّنة قريبة وُكّل بالمطلوب حتى يأتي بما يوجب اللطخ ما بينه وبين يوم وشبهه، فإن جاء بذلك وادعى على الحق بينة بعيدة استُحلِف المطلوب وأطلقه بغير كفيل، وإن ادعى قربها أخذه بكفيل بنفسه ما بينه وبين خمسة أيام إلى الجمعة، ولا يأخذه بكفيل بالمال، وإنما يأخذ الكفيل بنفسه ليحضره فتشهد عليه البينة، كما يوقف الحيوان والعروض، لأنه يحتاج إلى إحضاره لتشهد البينة على عينه، وأما ما لا يحتاج إلى إحضاره لتشهد البينة على عينه، فلا يؤخذ فيه كفيل.(1)
3301 - وإن كانت الدعوى فيما يفسد من اللحم ورَطِب الفواكه، وقد أقام لطخاً أو شاهداً على الحق، وأبى أن يحلف وادعى بينة قريبة على الحق، أجّله القاضي بإحضار شاهدين أو شاهد إن أتى بشاهد قبله، ولم يحلف معه، ما لم يخف فساد ذلك الشيء، فإن أتى بما ينتفع وإلا أسلم ذلك الشيء إلى المطلوب، ونهي المدعي عن التعرض له، فإن كان الطالب قد أقام شاهدين، فأوقف القاضي ذلك الشيء إلى الكشف عنهما، فإن خاف فساده باعه وأوقف ثمنه، فإن زكيت بينة المدعي وهو مبتاع أخذه وأدى الثم الذي قالت بينته، كان أقل من ذلك أو أكثر، ويقال للبائع إذا كان يأخذ أكثر من الثمن الموقوف: أنت أعلم بالمُخْرَج عن الزيادة، وإن لم تُزكّ البينة أخذ المدعى عليه الثمن من الموقوف، لأنه عليه بيع نظراً، ولو ضاع الثمن قبل القضاء أو بعده كان ممن قضي له به.
3302 - قال ابن القاسم: ومن بعث بمال صلة لرجل أو هبة أو صدقة مع رجل فقال: قد دفعته إليه وأنكر القابض، فعلى الرسول البينة وإلا غرم، وكذلك إن أمره بصدقته، على مساكين بأعيانهم، فإن لم يكونوا معينين فهو مصدق.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/184).

وإن أمرت غريمك أن يدفع دينك إلى رجل بعينه فقال: قد دفعته، وأنكر القابض لم يبرأ المأمور إلا ببينة، وإن قال القابض: قبضته وضاع مني، لم يبرأ الدافع إلا ببينة.
وكذلك من وكلته على قبض مال من يد رجل فقال: قبضته وضاع، فلا يبرأ الدافع إلا ببينة، ولو قال الوكيل: قبضت المال، أو قال: برئ إلي من المال، لم يبرأ الدافع إلا ببينة أنه دفع إليه المال، أو يأتي الوكيل بالمال [إلا أن يكون الوكيل] مفوضاً إليه فهو مصدق بخلاف وكيل مخصوص.
3303 - ومن كانت في يديه دور أو عبيد أو عروض أو دنانير أو دراهم أو غير ذلك من الأشياء، فادعى ذلك رجل وأقام بينة أن ذلك له، وأقام من ذلك بيده بينة أنها له، قضي بشهادة أعدلهما وإن كانت أقل عدداً، فإن تكافأتا في العدالة سقطتا، وبقي الشيء بيد حائزه ويحلف، ولا أقضي بأكثرهما، لأن التكافؤ في العدالة لا في العدد، حتى لو كانت بينة أحدهما رجلين أو رجلاً وامرأتين، فيما تجوز فيه شهادة النساء، وبينة الآخر مائة رجل فاستووا كلهم في العدالة سقطوا وبقي الشيء بيد حائزه ويحلف، [وكذلك إن كانت دار بيد رجل يدعيها لنفسه فادعاها رجلان وأقام كل واحد منهما بينة أنها له وتكافأت بينتهما، فإن الدار تبقى بيد الذي هي في يديه] وذلك أن كل بينة قد كذبت الأخرى وجرحتها فسقطتا.
قال غيره: ليس هذا بتجريح، ولكن البينة لما تكافأت صارت كأنها لم تأت بشيء، ويقران على الدعوى.
3304 - قال مالك: وإن تداعيا في شيء وليس هو بيد واحد منهما وأقام كل واحد بينة أنه له، قضي باعدل الشهود وإن قلّوا، فإن تكافئوا في العدالة وكان الذي شهدوا فيه مما يرى الإمام منعهما منه، فعل حتى يأتيا ببينة أعدل منهما، وإن كان مما لا ينبغي للإمام أن يقره [ولا] يرى أنه لأحدهما قسّمه بينهما بعد أيمانهما كشيء لا شهادة لهما فيه.

قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك في القوم يتنازعون عفواً من الأرض فيأتي هؤلاء ببينة وهؤلاء ببينة، فإنه يقضى في ذلك بأعدل البينتين، وإن كانت أقل عدداً، ويحلف أصحابها مع شهادتهم، فإن تكافأت البينتان سقطتا، وبقيت الأرض كغيرها من عفو بلاد المسلمين، حتى تستحق بأثبت من هذا. قال ابن القاسم: مثل أن يأتي أحدهما ببينة هي أعدل من الأولى.
وقال ابن القاسم عن مالك في باب بعد هذا: إن كل ما تكافأت فيه البينتان وليس هو في يد واحد منهما، وكان مما لا يخاف عليه، مثل الدور والأرضين ترك حتى يأتي أحدهما بأعدل مما أتى به صاحبه، فيُقضى له به، إلا أن يطول الزمان، ولا يأتيا بشيء غير ما أتيا به أولاً، [فإنه يقسّم بينهما، قال ابن القاسم: لأن ترك ذلك ووقفه يصير إلى الضرر.
قال مالك:] وما كان يخشى تغيره مثل الحيوان والرقيق والعروض والطعام، فإنه يستأنى به قليلاً، لعل أحدهما يأتي بأثبت مما أتى به صاحبه فيقضى له به، فإن لم يأتيا بشيء وخيف عليه قسّمه بينهما.(1)
قال ابن القاسم: وكذلك زرع ادعياه في أرض رجل لا يدعيه، ولو ادعاه رب الأرض كان أحقّ به في تكافؤ بينتيهما، ولو كان الزرع في يد أحدهما، كان أولى به إذا أقام البينة.
3305 - ومن أقام بينة في دار أنه ابتاعها من فلان وأنه باعه ما ملك، فأقام من هي بيده بينة أنه يملكها قضي بأعدلهما، وإن تكافأتا سقطتا وبقيت الدار بيد حائزها، كما لو ادعاها الذي يزعم هذا المدعي أنه ابتاعها منه لقضي بها لحائزها عند تكافؤ البينتين، وإن لم يقم الحائز بينة قضي بها للمدعي إلا أن تكون طالت حيازة الحائز بحال ما وصفنا في الحيازة، والمدعي حاضر، فذلك قطع لدعواه، وإذا أقام كل واحد من المدعي والحائز بينة على نتاج أو نسج، كان ذلك لمن هو بيده منهما.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/211).

ولو أن أمة ليست بيد أحدهما، فأتى أحدهما ببينة أنها له، لا يعلمونها خرجت من ملكه حتى سرقت له، وأقام الآخر بينة أنها له، ولدت عنده، ولا يعلمونها خرجت من ملكه بشيء، قضي بها لصاحب الولادة.
قال غيره: إذا كانت البينة الناتج عدولاً وإن كانت الأخرى أعدل، وليس هذا من التهاتر، ولكن لما زادت بقدم المالك كانت أولى، كما لو شهدت بينة أن هذا يملكها منذ عام، وبينة الآخر أنه يملكها منذ عامين فإني أقضي ببينة أبعد التاريخين إن عُدِّلت، وإن كانت الأخرى أعدل، ولا أبالي بيد من كانت الأمة منهما، إلا أن يحوزها الأقرب تاريخاً بالوطء والخدمة والادعاء لها بمحضر الآخر، فهذا يقطع دعواه.
3306 - قال ابن القاسم: ومن مات وترك ولدين مسلماً ونصرانياً، كلاهما يدعي أن الأب مات على دينه، وأقاما على ذلك بينة مسلمين، فتكافأت في العدالة أو لم تكن لهما بينة، فالميراث يقسم بينهما، كمالٍ تداعياه، فإن كان قد صلّى هذا المسلم على أبيه ودفنه في مقبرة المسلمين، فليس الصلاة بشهادة، ولو لم يأتيا ببينة وقد كان يعرف بالنصرانية فهو على ذلك، وابنه النصراني أحث بميراثه حتى يقيم المسلم بينة على ما ذكر.(1)
وقال غيره: إذا تكافأت البينتان قضى بالمال للمسلم بعد أن يحلف على دعوى النصراني، لأن بينة المسلم زادت حين زعمت أنه مسلم.
3307 - قال مالك: ومن أقامت بيده دار سنين ذوات عدد يحوزها ويمنعها ويكريها ويهدم ويبني، فأقام رجل بينة أن الدار داره، أو أنها لأبيه أو لجده وأثبت المواريث، فإن كان هذا المدعي حاضراً يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له، وذلك يقطع دعواه، وإن كان غائباً ثم قدم فادعاها فقد تقدم الجواب في ذلك.
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/89).

قال ابن القاسم: وكذلك من حاز على حاضر عروضاً أو حيواناً أو رقيقاً فذلك كالحيازة في الرباع إذا كانت الثياب تلبس وتمتهن، والدواب تركب وتكرى، والأمة توطأ، ولم يحد لي مالك في الحيازة في الرباع عشر سنين ولا غير ذلك.
وقال ربيعة: حوز عشر سنين يقطع دعوى الحاضر، إلا أن يقيم بينة أنه إنما أكرى أو أسكن أو أعار ونحوه، ولا حيازة على غائب.
وذكر ابن المسيب وزيد بن أسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: “من حاز شيئاً عشر سنين فهو له”.(1)
قيل لابن القاسم: أرأيت لو أن داراً في يدي ورثْتُها عن أبي ثم أقام ابن عمي بينة أنها دار جده، وطلب مورثه؟ قال: هذا من وجه الحيازة التي أخبرتك.
3311 - ومن قامت له بينة أنه ابن فلان الميت، لم يستحق ميراثه حتى يقولوا: لا نعلم له وارثاً غيره، وكذلك إن شهدوا مع ذلك بأن هذه الدار لأبيه أو جده، فلا تتم الشهادة حتى يقولوا: لا نعلم أنها خرجت من ملكه إلى أن مات وتركها ميراثاً لهذا، وإنا لا نعلم به وارثاً غيره، فإن شهدوا أن هذا وارث أبيه أو جده مع ورثة له آخرين، لم يعط هذا منها إلا مقدار حظه، ويترك القاضي باقيها في يد المدعى عليه حتى يأتي من يستحقها.
قال سحنون: وقد كان يقول غير هذا، وروي عن مالك أنه قال: تنزع من يد المطلوب، وتوقف.
قال ابن القاسم: وإن قالت البينة: لا نعرف كم الورثة، لم يقض لهذا بشيء من الدار ولا ينظر إلى تسمية المدعي للورثة، وتبقى الدار للذي هي في يده حتى يثبت عدد الورثة [ببينة].
3312 - قال مالك: ومن ادعى أرضاً وتبين لدعواه وجه، والذي هي في يديه يحفر فيها عيناً فإنه يمنع ويوقف، وليس له أن يقول: دعوني أعمل، فإن ثبتت له هدَمْت ذلك.
__________
(1) رواه أبو داود في المراسيل (394)، وانظر: التاج والإكليل (6/210)، والفواكه الدواني (2/245)، والشرح الكبير (4/234)، ومواهب الجليل (6/221، 223، 225)، والمدونة الكبرى (13/192).

وقال غيره: ومن أقام بينة غير قاطعة في أرض فليس للذي هي في يديه أن يبيع، لأن البيع حينئذ غرر.
[قال ابن القاسم: له أن يبيع ويصنع ما شاء وليس بيعه بالذي يبطل حق المدعي].
3313 - ومن ادعى عيناً قائمة من رقيق أو حيوان أو طعام أو عروض أو ناض أو غير ذلك بيد رجل، وأتى ببينة على ملكه لذلك، فمن تمام شهادتهم أن يقولوا: وما علمناه باع ولا وهب ولا خرج من ملكه، ثم لا يقضى له به حتى يحلف على البت أنه ما باع، ولا وهب ولا خرج من ملكه بوجه من الوجوه، فإن قال: أعرتها أو استودعتها، لم يكن ذلك خروجاً من ملكه.
قال مالك: وليس عليه أن يأتي ببينة يشهدون على البت أنه ما باع ولا وهب ولو شهدت البينة بذلك كانت زوراً، وإن أقام بما ذكرنا شاهداً واحداً حلف [معه] وقضي له.
3314 - ومن أقام شاهدين على حق له، فليس عليه أن يحلف مع شاهديه، إلا أن يدعي المديان أنه قد قضاه فيما بينه وبينه فإنه يُحلفه، فإن نكل حلف المطلوب وبرئ.
3315 - ومن قُضى له بمورّث أو غيره لم يؤخذ منه كفيل، وذلك جزر ممن فعله.
3316 - ومن اشترى منك ثوباً ونقدك الثمن فقبضته وجحدت الاقتضاء وطلبت يمينه فأراد هو أن يحلف أنه لا حق لك قبله، فليس له ذلك. قال مالك - رحمه الله - : ولك أن تحلفه أنه ما اشترى منك سلعة كذا بكذا، لأن هذا يريد أن يورّك. قال ابن القاسم: يريد بقوله: “يورك”: الإلغاز.
3317 - وإن ادعى أحد المتفاوضين على رجل ديناً من شركتهما فجحده، فليس للمطلوب أن يقول لهذا المفاوض: لا أحلف إلا على حصتك وليحلف على حصته وحصة صاحبه، لأن فعل أحدهما كفعلهما، فإن حلف لهذا ثم أتى صاحبه لم يكن له أن يحلفه، لأنه قد حلف لشريكه.
وكذلك لو وكّلت رجلاً يقبض مالك على فلان فجحده، فحلّفه الوكيل ثم لقيته أنت لم يكن لك أن تحلفه.

3318 - ويحلف المدعى عليه، أو من حلف مع شاهده بالله الذي لا إله إلا هو، لا يزيد على هذا، وكل شيء له بال فإنما يحلف عليه في جامع بلده في أعظم مواضعه وليس عليه أن يستقبل القبلة، ولا يعرف مالك اليمين عند المنبر إلا منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ربع دينار فأكثر.(1)
3319 - وتخرج المرأة فيما له بال من الحقوق فتحلف في المسجد، فإن كانت ممن لا تخرج نهاراً فلتخرج ليلاً، وتحلف في اليسير في بيتها إن لم تكن ممن تخرج، ويبعث إليها القاضي من يحلفها لصاحب الحق ويجزيه رجل واحد. وأم الولد مثل الحرة فيمن تخرج أو لا تخرج. والعبد ومن فيه بقية رق فهو كالحر في اليمين. ولا يحلف الصبيان إذا ادعي عليهم، ولا مع شاهد يقوم لهم حتى يبلغوا.
3320 - وإذا قامت بينة لميت بدين فادعى المطلوب أنه قضى الميت حقه لم ينفعه ذلك، وله اليمين على من يظن به أنه علم ذلك من بالغي ورثته على العلم، ولا يمين على من لا يظن به علم ذلك ولا على صغير، ومن نكل ممن لزمته اليمين منهم سقط من الدين حصته فقط.
3321 - ولا يحلف اليهودي والنصراني في حق أو لعان أو غيره إلا بالله، ولا يزاد عليهم الذي أنزل التوراة والإنجيل، ويحلفون في كنائسهم وحيث يعظمون، ويحلف المجوسي في بيت نارهم وحيث يعظمون.
3322 - ولا يقضي القاضي بشهادة الشهود حتى يكشف عنهم، وهذا مستوعب في كتاب الأقضية.
ومما يجرح به الشاهد أن تشهد عليه بينة أنه [شاهد زور]، أو شارب خمر [أو آكل خنزير] أو آكل ربا، أو صاحب قيان، أو كذاب في غير شيء واحد ونحو هذا. ولا يجرحه إلا اثنان عدلان.
3323 - قال ربيعة: ترد شهادة الخصم الذي يجر إلى نفسه، والظنين وهو المغموص عليه في خلائقه وشكله، ومخالفته حال العدل، وإن لم يظهر منه قبيح عمل، وترد شهادة العدو الذي لا يؤمن ما شهد عليه.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/198).

قال مالك: وإذا ظهر الإمام على شاهد الزور ضربه بقدر رأيه وطاف به في المجالس. قال ابن القاسم: يريد [بقوله] في المجالس: المسجد الجامع، ولا تقبل له شهادة أبداً وإن تاب وحسنت حاله.
3324 - وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عامله بالشام إذا أخذتم شاهد الزور فاجلدوه أربعين جلدة وسخموا وجهه وطوفوا به حتى يعرفه الناس ويطال حبسه ويحلق رأسه ولحيته.(1)
* * *

(كتاب المديان)
3325 - قال مالك: ولا يحبس في الدين حر ولا عبد إذا لم يتبين [لدده]، ولا اتهم أن يكون غيب ماله، ولكن يستبرأ أمره، إلا أن يحبسه قدر تلومه في اختباره وكشف حاله، أو يأخذ عليه حميلاً لذاك، فإذا لم يجد له شيئاً ولا غيّب شيئاً لم يحبسه، ويحبس من اتهمه أن يكون غيب مالاً. ومثل من يقعد من التجار بأموال الناس ويقول: ذهبت مني، ولا يعلم أهل موضعه أنه أجيح بحريق أو سرقة ونحو ذلك فإنهم يحبسون.
وإذا حبس لتهمة أو لدد، لم يكن لطول ذلك حد، ولكن يحبس حتى يقضي أو يتبين عُدْمه، فإن تبين عدمه أطلق. ثم ليس لرب الدين ملازمته ومنعه من تصرفه، ولا أن يوكل به من يلازمه.(2)
وروي أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا يستحلفانه أنه ما يجد قضاءً من قرض ولا عرض، وأنه إن وجد ليقضيَّن.(3)
ويحبس فيما ذكرنا أحد الزوجين لصاحبه، والولد [يحبس] في دين الأبوين، ولا يحبسان في دينه.
وقد قال مالك: لا أرى أن يحلف الأب للابن في دعواه. [وإن استحلفه فهي جرحة على الابن]، وإن لم أحبس الأبوين للولد فلا أظلم الولد لهما.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/203)، والتاج والإكليل (6/270)، ومنح الجليل (8/303)، والأثر رواه البيهقي في الكبرى (10/142)، وابن أبي شيبة في المصنف (28713)، وكذا عبد الرزاق (15392).
(2) انظر: المدونة الكبرى (13/204).
(3) رواه البيهقي في الكبرى (6/53)، وانظر: التاج والإكليل (5/48)، ومختصر خليل (ص204)، والتقييد (5/287).

قال: ويحبس له من سواهما من الجدود والأقارب.
وتحبس النساء والعبيد ومن فيه بقية رق، وأهل الذمة وهم في هذا مثل الأحرار سواء، ويحبس النساء في القصاص والحدود.
3326 - قال مالك: ولا يؤجَّر الحر إذا أفلس. قال ابن القاسم: ولا يستعمل لقول الله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].ويُحبس السيد في دين مكاتبه إن لدّ به، ولا يحبس المكاتب لعجز عن كتابته، إذ ليست بدين ثابت في ذمته ولكن يتلوم له.
3327 - قال مالك: وإن هلك رجل وعليه دين للناس وترك مالاً ليس فيه وفاء بديونه، فأخذه الوارث أو الوصي فقضاه بعض غرمائه، فإن لم يعلموا ببقية الغرماء ولم يكن الميت موصوفاً بالدين فلا شيء عليهم، ويرجع الغرماء القادمون على الذي اقتضوا بما كان ينوبهم في المحاصة من المال، فإن علموا بدينه أو كان موصوفاً بالدين، رجع الغرماء القادمون على الورثة أو الوصي بحصصهم، ويرجع الورثة أو الوصي بذلك على الغرماء الذين اقتضوا أولاً. قال ابن القاسم [في باب بعد هذا]: إذا قضى الورثة من حضرهم وهم يعلمون بدين القادم، فإنه إن وجد الغرماء معدومين رجع على الورثة بما ينوبه من ذلك، ثم يرجع الورثة بما أدوا من ذلك على الغرماء الأولين.
وإن مات وترك وفاءً بديونه فقضى الوصي أو الورثة بعض غرمائه ثم تلف ما بقي، فليس للباقين رجوع على من قبض من الغرماء شيء، إذ فيما بقي وفاء لدين الباقين.

3328 - وإن باع الورثة مال الميت وقضوا ديونه وفضلت فضلة بأيديهم، ثم قدم غريم، فإنما يتبع الورثة ولا يتبع الغرماء إن كان في الفضلة كفاف دينه، وجد الورثة أملياء أو عدماء، فإن لم يكن فيما فضل كفاف دين القادم فله اتباع الورثة بمثل الفضلة في ملائهم وعدمهم. فإن كان لو حضر نابه في الحصاص أكثر من الفضلة فليتبع الغرماء ببقية ما نابه. وتفسير ذلك أن تكون التركة مائتين وخمسين، والدين ثلاثمائة لثلاثة رجال، لكل واحد مائة، وأحدهم غائب لم يعلم به، فأخذ الحاضر مائتين والورثة الخمسين، ثم قدم الغائب، فقد علمت أنه لو حضر لنابه في الحصاص ثلاثة وثمانون وثلث، فله خمسون منها في ذمة الورثة، ويبقى له ثلاثة وثلاثون وثلث يرجع بها على الغريمين بينهما نصفين.
ولو كانت التركة كفاف دينهما فقبضاه، لرجع عليهما بحصاصة فيها، وإن ألفاهما عديمين اتبع ذمتيهما، ولم يتبع من قضاهما من ورثة أو وصي بشيء إن قضوهما ولم يعلموا بدينه.
3329 - وإذا باع الورثة التركة فأكلوا ذلك واستهلكوه، ثم طرأت ديون على الميت، فإن كان الميت يُعرف بالدين فباعوا [ماله] مبادرة، لم يجز بيعهم، وللغرماء انتزاع عروضه ممن هي في يديه، ويتبع المشتري الورثة بالثمن. وإن لم يعرف الميت بالدين وباعوا على ما يبيع الناس اتبع الغرماء الورثة بالثمن، كان فيه وفاء أو لم يكن، ولا تباعة على من ذلك المال بيده.
بشيء، والقول الأول أعجب إليّ، وعليه جماعة الناس. وله أن يقضي بعض غرمائه دون بعض، وسواء قام غرماؤه بإثر ذلك أو تأخر قيامهم إذا كان يبيع ويتاجر الناس، فبيعه وقضاؤه ورهنه جائز.
3330 - وإذا كان لرجلين دين على رجل فأخّره أحدهما بحصته، لزمه ذلك، فإن أعدم الغريم وقد اقتضى الآخر حصته فلا رجوع لصاحبه عليه.
وأما صلح أحدهما للغريم على شيء من حقه، فقد جرى مستوعباً في كتاب الصلح.

3331 - وإذا عزل الورثة دين الغريم واقتسموا ما بقي ثم ضاع ما عزلوا، لم يضمنه الغريم، ويرجع عليهم فيما قبضوا، ولو عزله القاضي وقسم الباقي بين ورثته أو غرمائه، كان ضياع ذلك ممن أوقف له.
3332 - ومن أوصى بتأخير دين له على رجل وقد حلّ ولا يحمله الثلث أو هو جميع ماله، خُيّر الورثة بين التأخير أو القطع له بثلث جميع التركة.
3333 - ويجوز إقرار المريض بقبض الدين، إلا من وارث أو ممن يتهم بالتأليج إليه، وكذلك لا يجوز إقرار الزوجة بقبض المهر المؤجل من زوجها في مرضها، [ولا يجوز إقرار المريض لبعض ورثته بدين، وأما إن أقرّ لزوجته في مرضه] بدين أو مهر، فإن لم يعرف منه إليها انقطاع وناحية [محاباة] وله ولد من غيرها، فذلك جائز، وإن عرف بانقطاع إليها ومودة، وقد كان بينه وبين ولده من غيرها تفاقم - ولعل لها منه ولداً صغيراً - فلا يجوز إقراره، قيل: أفغيرها من الورثة بهذه المنزلة فيمن له منه انقطاع أو بُعْد؟ قال: لا، وإنما رأى ذلك مالك للزوجة، لأنه لا يتهم إذا لم يكن له ولد منها، ولا يعرف بانقطاع مودة إليها، أن يفرّ إليها بماله عن ولده، فأما إن [كان] ورثته إخوته أو بنوه فلا يجوز إقراره لبعضهم. ولو ترك ابنة وعصبة يرثونه لقرابة أو ولاء، فأقرّ لهم بمال فذلك جائز، ولا يتهم أن يفر إلى العصبة [بماله] دون الابنة، وأصل هذا قيام التهمة.
فإذا لم يتهم بمن يفر إليه دون من يرث معه، جاز إقراره، فهذا أصل ذلك.
3334 - ومن كان عليه دين لأجنبي ببينة يغترق ماله، فلا يجوز إقراره بدين لصديق ملاطف، أو لزوجته، أو لغيرها من ورثته.

3335 - وإذا مرض رجل وعليه دين، فليس له أن يقضي بعض غرمائه، لأن قضاءه الساعة على وجه التأليج(1)، فإن فعل لم يجز ذلك إذا كان الدين يغترق ماله. وقال غيره: المريض لم يحجر عليه في التجارة، وهو كالصحيح في تجارته وفي إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه.
3336 - ورهن من أحاط الدين بماله جائز ما لم يفلس، ويكون المرتهن أحق بالرهن من الغرماء.
وقد كان روي مرة عن مالك أن الغرماء يدخلون معه [في الرهن] وليس ذلك وقد قال مالك فيمن عليه دين فأقر لأخت له بدين، فلا شيء لها إلا ببينة على أصل الدين، أو تقيم بينة أنها كانت تقتضيه في حياته. قال سحنون: يعني فيلزمه إقراره لها.
3337 - وإن هلك رجل وترك ولدين وترك مائتين، فأقرّ أحدهما أن لفلان على أبيه مائة وأنكر الآخر، فإن كان المقر عدلاً حلف معه المقرّ له وأخذ المائة، وإن أبى أن يحلف رجع على المقر بنصف المائة التي في يديه، لأنه إنما يلزمه إقراره في حقه دون حق أخيه، وإن كان سفيها لم تقبل شهادته [في] هذا، ولا يؤخذ من ماله شيء. وإن أقر رجلان من الورثة له بذلك قضى بهما إن كانا عدلين.
3338 - ومن أقرّ أن لفلان بضعة عشر درهماً، فالبضع ما بين الثلاث إلى التسع، فإن اختلفا في البضع لم يقض له إلا بثلاثة، إلا أن يزيد المقر عليها، ويحاص من قضي له [في دينه] بشاهد ويمين مع من قضي له بشاهدين.
3339 - ومن قال لرجل لا شيء له عنده: ادفع إلى فلان مائة درهم صلة مني له، فمات الآمر قبل دفع المأمور إياها، أو بعث لرجل بهدية فمات الباعث قبل وصولها إلى الموهوب [له]، فإن [كان] أشهد في الوجهين فهي نافذة، وإن لم يشهد فهي رد.
__________
(1) بعض المحاباة والدخول، وانظر: التاج والإكليل (4/69).

وكذلك إن تصدق على رجل بدين له على آخر وأشهد، كقول مالك فيمن ساق عن ناكح صداقاً، فمات السائق قبل قبض الزوجة الصداق، فهو لازم للميت، [يؤخذ من رأس ماله]. وقال غيره: إذا مات الذي وصل الرجل بالصلة قبل قبض الموصول إياها حتى تصير بالقبض ديناً على الواصل، فلا شيء للمعطى.
3340 - وإن أمرت من لك عليه دراهم يدفعها إلى من استقرضكها فأعطاه بها دنانير برضاه فذلك جائز، وليس لك منعه، وأستحبُّ لك اتباع الآخر بدراهم، والقول فيه من مالك مختلف. ولو قبض فيها عرضاً لم تتبعه إلا بالدراهم. وإن استقرضك دنانير فأمرت من لك عليه دنانير يدفعها إليه، وله [هو] على المستقرض دراهم، فأراد مقاصاته بها، جاز ذلك إن حلا. وإن أمرت رجلا يقضي عنك ألف درهم فدفع فيها دنانير أو طعاماً أو عرضاً، فإنما يتبعك بمثل ما أمرته، لأنه سلف منه لك.
وقد ذكر فيه اختلاف عن مالك، وأنه لا يربح في السلف.
3341 - ومن سأل رجلاً أن يقضي عنه لفلان ألف درهم، فأنعم له فمات الآمر قبل القضاء، فإن كان الطالب [رب الدين] اتعد من المأمور على وعدٍ ورضيا بذلك وانصرفا عليه، لزمه الغرم، وهذه حمالة.
3342 - وإن كان لك على رجل دين دنانير أو دراهم إلى أجل وعجلها لك قبل الأجل، أُجبرت على أخذها، كانت من بيع أو قرض.
ولو كان دينك عرضاً أو طعاماً أو حيواناً من قرض، فعجله لك قبل الأجل، أجبرت على أخذه، ولو كان ذلك من بيع لم تجبر على أخذه قبل الأجل.

3344 - ومن مات وعليه دين، فتبرع رجل فضمن دينه، فذلك لازم له ولا رجوع له عن ذلك، فإن كان للميت مال رجع فيه بما أدى، إن قال: إنما أديت لأرجع في ماله، وإن لم يكن له مال والضامن بذلك عالم، فإنه لا يرجع في مال إن ثاب للميت، لأنه بمعنى الحسبة. ومن ضمن لرجل ماله على ميت، ثم بدا له فقد لزمه ذلك، لأن المعروف كله إذا أشهد به الرجل على نفسه لزمه. ومن أدى عن رجل ديناً عليه بغير أمره أو دفع عنه مهراً لزوجته، جاز ذلك إن فعله رفقاً بالمطلوب، وأما إن أراد الضرر بطلبه وإعناته، أو أراد سجنه لعُدْمه لعداوة بينه وبينه، منع من ذلك.
وكذلك إن اشترى ديناً عليه تعنتاً له، لم يجز البيع، ورُدّ إن علم بذلك.
3345 - ومن وكل وكيلاً يقبض ديناً له على رجل، فقال: قبضته وضاع مني، أو قال: قد برئ إليّ من المال، وقال الرجل: دفعته إليه، لم يبرأ الدافع إلا أن يقيم بينة أنه دفعه إليه، أو يأتي الوكيل بالمال، إلا أن يكون الوكيل مفوضاً إليه أو وصياً، فهو مصدق، بخلاف الوكيل المخصوص. وإن قال الوصي: قبضت من غرماء الميت ما عليهم، لم يكن لليتامى إن بلغوا الرشد اتباعهم، وذلك يبرئهم. وكذلك إن قال: قبضته وضاع مني، صدق وبرئوا.
قال ابن هرمز: فإن ادعى الغرماء أنهم دفعوا المال إلى الوصي، وأنكر ذلك الوصي، حلف، وإن نكل ضمن. وأما مالك فضمنه بنكوله في اليسير، وتوقف في الكثير، قال ابن القاسم: ورأيي على قول ابن هرمز أنه يضمن في القليل والكثير.
وإذا قضى الوصي غرماء الميت بغير بينة فأنكروا، ضمن إن لم يأت ببينة.

3346 - قال الله تبارك وتعالى: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. فاشترط الرشد مع البلوغ. قال ابن القاسم: فلا يخرج المولّى عليه بأب أو وصي من الولاية، وإن حاضت الجارية وتزوجت ودخلت بيتها واحتلم الغلام أو خضب بالحناء، ولا يدفع إليه ماله إلا برشد الحال.(1)
3347 - ولا يجوز للمولّى عليه عتق ولا بيع ولا هبة ولا صدقة، ولا يلزمه ذلك بعد بلوغه ورشده إلا أن يجيزه الآن. وأستحبّ له إمضاءه ولا أجبره عليه. وما ليس فيه إلا المتعة ففعله فيه جائز، فيجوز طلاقه زوجته وعتقه أم ولده، وأما النكاح فلا، إلا بإذن وليه، وما وُهب له من مال فإنه يدخل تحت الحجر.
وكذلك إن اتجر فربح. ولا يجوز شراؤه أيضاً إلا فيما لا بد له منه من عيشه، مثل الدراهم يبتاع به لحماً، ومثل خبز أو بقل ونحوه، يشتري ذلك لنفسه مما يُدفع إليه من نفقته.
3348 - وللرجل منع أم ولده من التجارة في مالها كما له انتزاعه، وليس له منع زوجته من التجارة، وله منعها من الخروج.
وإذا عقل الصبي التجارة ولم يؤنس رشده فأذن له أبوه أو وصيه أن يتجر، لم يجز ذلك الإذن، لأنه مولّى عليه، ولو دفع الوصي إلى المولّى عليه بعد الحلم بعض المال يختبره به فلحقه [فيه] دين، فلا يلزمه الدين فيما دفع إليه ولا فيما أبقى، لأنه لم يخرج من الولاية بذلك، وهو بخلاف العبد يأذن له سيده في التجارة، لأن العبد لم يمنع لسفه فيه وإنما منع من البيع والنكاح وغيره، لأن ملكه بيد غيره، فإذا أذن له جاز، والصبي والسفيه ليس ملكه بيد أحد، فليس الإذن مزيلاً للسفه.
__________
(1) انظر: شرح الرزقاني (3/161)، والتاج والإكليل (5/75)، والمدونة الكبرى (15/132)، والفتح (9/383)، واختلاف الفقهاء (ص255)، وبداية المجتهد (2/211).

وقال غيره في اليتيم المختبر بالمال: يلحقه ما ادّان فيه خاصة. قال ابن القاسم: ولو دفع أجنبي إلى محجور عليه من يتيم أو عبد مالاً يتجر فيه، فما لحقهما من دين فيه كان في ذلك المال خاصة، بخلاف دفع الوصي، ولا يلزم ذمتهما ولا ذمة الدافع شيء.
وصفة من يحجر عليه من الأحرار أن يكون يبذر ماله سرفاً في لذاته من الشراب والفسق وغيره، ويقسط فيه سقوط من لا يعد المال شيئاً.
وأما من أحرز ماله ونمّاه وهو فاسق في حاله غير مبذر لماله، فلا يحجر عليه، وإن كان له مال عند وصي قبضه.
3349 - ويحجر على البالغ السفيه في ماله وإن كان شيخاً، ولا يتولى الحجر إلا القاضي، قيل: فصاحب الشُّرط؟ قال: القاضي أحب إليّ.
3350 - ومن أراد الحجر على ولده أتى به إلى الإمام ليحجر عليه ويشهر ذلك في الجامع والأسواق ويشهد على ذلك، فمن باعه أو ابتاع منه بعد ذلك فهو مردود.
ومن أمر رجلاً أن يدفع لفلان ألف درهم، قال: عني، أو لم يقل، ففعل ثم قال الآمر: كانت لي ديناً على المأمور، وأنكر المأمور وقال: بل أسلفته إياها، فالقول قول المأمور.
* * *

(كتاب التفليس)
3351 - وإذا أقام رجل واحد بالمديان، فله أن يفلسه كقيام الجماعة، وإن أقرّ حينئذ بدين لغائب لم يصدق إلا أن يقر قبل التفليس، أو تقوم بينة للمقر له، فيحاص للغائب وتعزل حصته.

وإذا فلس رجل فاقتسم غرماؤه ماله، ثم طرأ غريم له لم يُعلم به، رجع على الغرماء بقدر ما [كان] ينوبه في المحاصة، فيتبع ذامة كل واحد منهم بحصاصه في ملائه أو عُدْمه، والموت والفَلَس بمنزلة واحدة. قال ابن وهب: قال مالك: ومن قام بدين على غائب - ولعله كثير المداينة لغير من حضر - فأرى أن تباع عروضه لمن حضر، ويقضى، وليس كالميت في الاستيناء(1) لاجتماع من يطرأ من غرمائه لبقاء ذمة هذا وزوال ذمة الميت، وجعله غيره كالميت، ويستأنى بأمره إن كان معروفاً بالدين.
قال مالك: يُستأنى بقسم مال الميت المعروف بالدين لاجتماع بقية غرمائه، وكذلك إن مات في غيبته، وإن لم يعرف بالدين قضى لمن حضر ولم ينتظر به. قال ابن القاسم: ومن كان من غرماء الحي حاضراً عالماً بتفليسه، فلم يقم مع من قام، فلا رجوع له على الغرماء، وذلك رضاً منه ببقاء دينه في ذمة الغريم، كعلمهم بعتقه وسكوتهم عنه، فلا يرد لهم العتق إن قاموا بعد ذلك. وقيل: توقف لهم حقوقهم كالغائب، إلا أن يتبين من الحاضر تركاً لدينه في ذمة الغريم، ورضاً بما قبض غيره.
3353 - ومن كان عليه دين في صحته ببينة أو بإقرار منه، فأقر في مرضه بدين لوارث أو لذي قرابة أو لصديق ملاطف، لم يقبل قوله إلا ببينة. وإن أقرّ في مرضه لأجنبي جاز، وحاصص من له دين ببينة أو من أقر له في الصحة.
__________
(1) هو بمعنى التربص والإمهال وانظر: حاشية الدسوقي (4/128)، والتاج والإكليل (6/316)، والمدونة الكبرى (14/364)، (15/59)، ومنح الجليل (6/35).

3354 - ومن أقر لرجل قبل التفليس بمال فإنه يدخل مع من ديّنه ببينة، وإن أقرّ له بعد التفليس فلا يدخل فيما بيده من مال، ويتحاص فيه أهل دينه دون هذا المُقرّ له [وإن أفاد مالاً بعد ذلك دخل فيه هذا المقر له] حين التفليس ومن بقي له من الأولين شيء، لأن التهمة إنما كانت في المال الأول، فإن أفاد مالاً بعدما فلسوه فلم يقم [فيه] الغرماء الأولون ببقية دينهم ولا المقر له حتى أقر بدين لرجل آخر، فإقراره له جائز، ما لم يقر له عند قيام الأولين، لتفليسه ثانية، فإذا أُقر له قبل قيامهم جاز له ذلك.
3355 - وإذا أفلس ثانية كان المقر له آخراً، أولى بما في يديه من الغرماء الأولين، إلا أن يفضل شيء عن دينه، لأن ما بيده هو من المعاملة الثانية، إذا كان قد عومل بعد التفليس وباع واشترى، لأن مالكاً قال: إذا داين الناس بعد التفليس ثم فلّس ثانية، فالذين داينوه آخراً أولى من الغرماء الأولين، لأنه مال لهم.
فإن كان المال الذي أفاد بعد التفليس، إنما أفاده بموروث أو صلة أو أرش جناية أو نحوه، فإن الغرماء الأولين والآخرين يدخلون فيه.
3356 - قال مالك: وما دام قائم الوجه فإقراره جائز. ولا يجوز له عتق ولا صدقة ولا هبة إذا أحاط الدين بماله، وأما رهنه وقضاؤه لبعض غرمائه دون بعض، فجائز ما لم يفلس.
وقد كان مالك يقول: إذا تبين فَلَسه فليس له ذلك، وإن لم يقم به غرماؤه، ثم رجع عنه. قيل: وإذا حبسه أهل دينه فأقرّ في الحبس بدين لرجل آخر أيجوز إقراره؟ قال: إذا صنعوا به هذا ورفعوه إلى السلطان حتى حبسوه، فهذا وجه التفليس، فلا يجوز إقراره إلا ببينة، ويبيع الإمام ما ظهر له من مال فيتوزعه غرماؤه ويحبس فيما بقي إن تبين لدَدُه أو اتهم. وينبغي للقاضي أن يعزل لمن غاب من غرماء المفلس حصته، ثم إن هلك ما عزل كان ممن عزل له.

3357 - وإذا اقتسم الغرماء المال في فلس أو موت، ثم قدم غريم لم يعلم به، فليرجع على جميعهم بما يجب له في الحصاص إن لو حضر، يتبع كل واحد بما صار بيده من ذلك، ولا يأخذ مليئاً أو حاضراً عمن مات أو أعدم، وليتبع ذمة كل واحد، مثل أن يكون ثلاثة لكل واحد مائة، غاب أحدهم فلم يعلم به وبيد المفلس مائة فاقتسمها الحاضران، فإن القادم يتبع كل واحد بسبعة عشر إلا ثلثاً.
3358 - ومن أقرّ في مرضه لأجنبي بمائة ولابنه بمائة ولم يترك إلا مائة، فليتحاصّا فيها، فما صار للأجنبي أخذه، وما صار للابن دخل فيه بقية الورثة، إلا أن يجيزوه له، ولا حجة للأجنبي أنه أقرّ لوارث، لأن الأجنبي إنما أخذ بإقراره.
3359 - ولو كان دين الأجنبي ببينة كانت له حجة، ولم يدخل مع الوارث بحصاص.

وإذا أراد واحد من الغرماء تفليس الغريم وحبسه، وقال الباقون: ندعه يسعى، حبس لمن أراد حبسه إن تبين لدده، ثم إن شاء الآخرون محاصّة القائم في ماله فذلك لهم، ثم لهم قبض ما نابهم أو إبقاؤه [بيده]، فإن أقروه بيده لم يكن للقائم أن يأخذ منه شيئاً في بقية دينه إلا أن يربح فيه أو يفيد فائدة من غيره، فيضرب في الربح أو الفائدة للقائم بما بقي له، وهؤلاء بما بقي لهم بعد الذي أبقوا بيده، لأنهم فيما ردوا إليه كمن عامله بعد التفليس، فيكون من عامله آخراً أولى بما في يده بقدر ما داينوه به، ثم يتحاصون مع القائم في الربح أو الفائدة كما وصفنا. وإن كان فيما أبقوا بيده وضيعة، وطرأت له فائدة من غير الربح، ضربوا فيها من الوضيعة، وبما بقي لهم أولاً وضرب فيها القائم بما بقي له. وإن كان ما بيده الآن عرض قوم فما فضل فيه من ربح عن قدر ما أبقوا بيده تحاص في ذلك الربح القائم بما بقي له وهؤلاء بما بقي لهم بعد الذي أبقوا بيده، وإن هلك جميع ما أبقوا بيده وطرأت له فائدة، ضرب فيها القائم بما بقي له وهؤلاء بجميع دينهم ما ردّوا إليه وما بقي لهم، ولم يزد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرماء معاذ على أن خلع لهم ماله ولم يأمر ببيعه.(1)
3360 - وإن أسلفت رجلاً سلفاً بلا رهن أو برهن، [ثم] أسلفته بعده سلفاً آخر، على أن أخذت منه رهناً بالسلف الأول والثاني، وجهلتما أن الرهن الثاني فاسد، فقامت الغرماء [على الراهن] في فَلَس أو موت، فالرهن الأول في السلف الأول، والرهن الثاني في السلف الثاني، ولا يكون الثاني رهناً في شيء من السلف الأول، لأنه سلف جرّ منفعة.
__________
(1) رواه ابن ماجة (2357)، (2/789)، وانظر: مصباح الزجاجة للبوصيري (3/52).

3361 - ومن فلس ولعبده دين فلا يضرب العبد مع غرماء سيده بدينه، لأنه يباع لغرماء سيده، إلا أن يكون على العبد دين لأجنبي، فإن العبد يضرب بدينه ويكون غرماؤه أحق بما وقع له، أو بما في يديه ويتبعون ذمته بما بقي لهم، وتباع رقبته لغرماء سيده.
3362 - ومن جنى جناية [خطأ] لا تحملها العاقلة وعليه دين يحيط بماله، فرهن في الجناية رهناً قبل قيام الغرماء عليه، ثم فُلس، فصاحب الجناية أحق بالرهن، ولو لم يرهنه شيئاً كان للمجني عليه محاصة غرمائه، ولا حجة لهم أن يقولوا: إن ذلك ليس من ابتياع أو تجارة.
3363 - وما كان على مفلس أو ميت من دين مؤجّل فإنه يحل حينئذ، وما كان له من دين مؤجل فإنه إلى أجله، وللغرماء تأخيره إن شاؤوا إلى أجله أو بيعه الآن.
3364 - ومن فلس أو مات وقد ارتهن منه رجل زرعاً لم يبد صلاحه، وهو مما لا يباع حين الحصاص، فإن المرتهن يحاصص [الغرماء] بجميع دينه الآن ويترك الزرع، فإذا حلّ بيعه بيع، فإن كان ثمنه مثل دينه أو أزيد منه، قبض منه دينه، ورد الزيادة إن كانت مع ما كان أخذ في الحصاص فكان بين الغرماء، وإن كان ثمنه أقل من دينه نظرت [إلى] ما بقي له من دينه بعد مبلغ ثمن الزرع فعلمت أن بمثله كان له الحصاص أو لام، فما وقع له على ذلك فليحبسه مما كان قبض، ويرد ما بقي فيتحاص فيه الغرماء.
3365 - وليس للمفلس أن يتزوج في المال الذي فلس فيه، وله أن يتزوج فيما أفاده بعده، وإذا تغيرت الهبة للثواب بيد الموهوب بزيادة أو نقص بدن وقد فلس، فللواهب أخذها إلا أن يرضى الغرماء بدفع قيمة الهبة إليه فذلك لهم.(1)
3366 - ومن ابتاع من رجل سلعة فمات المبتاع قبل أن يدفع ثمنها وهي قائمة بيده فالبائع أسوة الغرماء في ثمنها، وإن فلس المبتاع وهي قائمة بيده كان البائع أحق بها وإن لم يكن للمفلس مال غيرها إلا أن يرضى الغرماء بدفع ثمنها إليه فذلك لهم.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/42).

3367 - ومن ابتاع أمة فولدت عنده ثم ماتت فبقي ولدها ثم فلس، فللبائع المحاصة إن شاء بجميع الثمن أو أخذ الولد بجميع دينه، إلا أن يعطيه الغرماء جميع الثمن ويأخذوا الولد فذلك لهم.
وأما إن ابتاع أمة أو غنماً، ثم فلس فوجد البائع الأمة قد ولدت والغنم قد تناسلت، فله أخذ الأمهات والأولاد كالرد بالعيب.
وأما ما كان من غلة أو صوف جزه أو لبن حلبه فذلك للمبتاع.
وكذلك النخل يجني ثمرها فهو كالغلة إلا أن يكون يوم الشراء على ظهور الغنم صوف قديم، وفي النخل ثمر قد أُبر واشترط ذلك الثمر، فليس كالغلة.
وقال غيره: إن جذ الثمرة وجز الصوف فهما كالغلة.
3370 - والأجير على سقي زرع أو نخل أو أصل، فإن سقاه فهو أحق به في الفلس حتى يستوفي حقه وهو في الموت أسوة الغرماء.
وأما الأجير على رعاية الإبل أو رحلتها أو علف الدواب فهو أسوة الغرماء الموت والفلس.
وأرباب الحوانيت والدور أسوة غرماء مكتريها في الموت والفلس وليسوا أحق بما فيها من متاع.
وجميع الصناع أحق بما أسلم إليهم في الموت والفلس، وكذلك المكرى على حمل متاع إلى بلد فهو أحق بما حمل على دوابه في الموت والفلس، كان قد أسلم دوابه إلى المكتري أو كان معها، ورب المتاع معه أو لا، وهو كالرهن، ولأنه على دوابه وصل إلى البلد.
3371 - وليس للغرماء أن يجبروا المفلس على انتزاع مال أم ولده أو مدبره، وله هو انتزاعه إن شاء لقضاء دينه، أو ينتزعه إن شاء على غير هذا الوجه لنفسه، وأما إن مرض ولا دين عليه فليس له انتزاعه، لأنه إنما ينتزعه لورثته وفي الفلس ينتزعه لنفسه. وله انتزاع مال عبده المعتق إلى سنين ما لم يتقارب الأجل.
قيل له: فإن بقيت سنة؟ قال أرى أن يأخذ ماله ما لم يتقارب، ولم ير السنة قرباً. وإن فلس المريض لم يكن له أن يأخذ مال مدبره للغرماء، فإن مات بيع المدبر بماله إن أحاط الدين بماله.

3372 - ولا بأس للسيد بمبايعة عبده المأذون له، ويضرب بدينه مع غرمائه، وكذلك يضرب بدينه مع مكاتبه من غير الكتابة، ولا يضرب بالكتابة في فلس ولا موت.
3373 - وإن ارتد رجل ولحق بدار الحرب وعليه دين ثم قاتل فقتل وفتحت البلاد وظفر [المسلمون] بماله فغرماؤه أحق بماله، ولا يكون في المقاسم إلا ما فضل عن دينهم.(1)
* * *

(كتاب المأذون له في التجارة)
3374 - ومن خلّى بين عبده وبين التجارة اتجر فيما شاء، ولزم ذمته ما داين به الناس من جميع أنواع التجارات، لأنه أقعده للناس ولا يدري الناس لأي أنواع التجارات أقعده.
وأما إن أقعده ذا صنعة مثل قصار وأمره بعمل القصارة فلا يكون ذلك إذناً في التجارة ولا في المداينة فيها.
3375 - وإذا أخّر المأذون غريماً له بدين أو حطه [عنه] نظراً واستيلافاً، جاز. ولا تجوز على غير ذلك كالوكيل [المفوض]، وأما الوكيل المخصوص على بيع سلعة يضع من ثمنها بعد البيع فلا يلزم ذلك ربها.
3376 - وليس للعبد الواسع المال أن يعق عن ولده ويطعم لذلك الطعام إلا أن يعلم أن سيده لا يكره ذلك، ولا له أن يصنع طعاماً ويدعو إليه الناس إلا أن يأذن سيده، إلا أن يفعل ذلك المأذون استيلافاً للتجارة، فيجوز.
ولا له أن يعطي من ماله شيئاً بغير إذن سيده، كان مأذوناً أو غير مأذون، وكذلك العارية.
3377 - وما استدان العبد ولم يؤذن له في التجارة فلا يتبع بشيء من ذلك إلا أن يعتق يوماً ما فيتبع بذلك في ذمته، إلا أن يفسخه عنه سيده أو السلطان، لأن ذلك يعيبه، وليس لمن داينه بغير إذن سيده أن يوجب في رقبته عيباً فإذا فسخه عنه سيده أو السلطان برئت ذمته ولم يتبع به إن عتق.
وكل ما صار بيد المأذون على الطوع من معطيه من دين أو وديعة أو أمانة فاستهلكه، [فذلك] في ذمته لا في رقبته، وليس للسيد فسخه عنه.
__________
(1) انظر: التمهيد لابن عبد البر (2/18).

3378 - قيل لمالك(1): أيبيع المأذون أم ولده؟ قال: إن أذن له سيده [فله أن يبيعها]. قال ابن القاسم: وأما فيما عليه من دين فإنها تباع، لأنها مال له ولا حرية فيها ولم يدخلها من الحرية ما دخل أم ولد الحر، وأما ولده منها فلا يباع في دينه، لأن ولده ليس بمال له. ولو اشترى المأذون ولده وعليه دين فإنهم يباعون [عليه] في دينه، لأنه أتلف أموال غرمائه وهم في هذا الموضع ملكه.
3379 - وللسيد رد ما وهب العبد والمكاتب والمدبر وأم الولد لو تصدقوا به، وإن استهلك ذلك من أخذه غرم القيمة لهم، إلا أن يكون ذلك من السيد انتزاعاً من غير المكاتب، فيقبض هو القيمة، ولو رده ولم ينتزعه وأقره لهم ثم مات السيد أو فلس فذلك لهم، ولو أعتقهم تبعهم ذلك.
ولو كان إذ رده استثناه لنفسه كان ذلك له، إلا في المكاتب فإنه للمكاتب إذ لا ينتزع ماله، أو يكون إنما رده في مرضه، فإنّ رده جائز، ولكن يبقى ذلك للمدبر وأم الولد، ولا ينتزعه إذ لا ينتزع أموالهما في المرض.
3380 - ومن استتجر عبده بمال دفعه إليه فلحق العبد دين، كان دينه فيما دفع إليه سيده وفي مال العبد، ويكون بقية الدين في ذمة العبد، لا في رقبته، ولا يكون في ذمة السيد من ذلك الدين شيء.
3381 - ولا يحاص السيد غرماء عبده بما دفع إليه من مال استتجره به، إلا أن يكون عامله بعد ذلك فأسلفه أو باعه بيعاً صحيحاً بغير محاباة، فإنه يضرب بذلك فيما دفع إليه من المال ليتّجر به وفي مال العبد، وإن دفع العبد إلى سيده في ذلك رهناً كان السيد أحق به.
3382 - وإن ابتاع من سيده سلعة بثمن كثير لا يشبه الثمن مما يعلم أنه توليج لسيده، فالغرماء أحق بما في يد العبد، إلا أن يبيعه بيعاً يشبه الثمن، فهو يحاص به الغرماء.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/77)، ومنح الجليل (6/61).

3383 - وما وُهِب للمأذون وقد اغترقه دين، فغرماؤه أحق به من سيده، والسيد أحق بكسبه وعمل يده وأرش جراحه وقيمته إن قُتل، وإن خارجه سيده لم يكن للغرماء من [عمل] يده شيء، ولا من خراجه ولا مما يبقى في يد العبد بعد خراجه، وإنما يكون لهم ذلك في مال إن وُهب للعبد أو تصدق به عليه أو أوصى به فقبله العبد، فإن أعتق العبد يوماً ما، بقي الدين في ذمته.(1)
3384 - ولو باعه السيد سلعة بعينها ففلس العبد وهي قائمة في يده فسيده أحق بها، إلا أن يرضى الغرماء بدفع ثمنها إلى السيد فذلك لهم.
3385 - وإن أسلمت إلى عبدك المأذون أو إلى أجنبي دنانير في طعام ثم فلس والدنانير قائمة بيده لم تفت، فإن شهدت عليها بينة لم تفارقه أنها بعينها، فأنت أحق بها من الغرماء.
3386 - قال ابن وهب عن مالك: ومن ابتاع زيتاً فصبّه على زيت له بمحضر بينة، ثم فلس المبتاع، فالبائع أحق بمقدار زيته منه، وهو كعين قائمة، وليس خلط المبتاع إياه يمنع البائع من أخذه، وكذلك إن دفع إلى صرّاف دنانير فصبها في كيسه بمحضر بينة ثم بان فلسه.
والرجل يشتري بزاً فيرقمه ويخلطه ببز عنده فليس هذا وشبهه بالذي يمنع الناس من أخذ ما وجدوا من متاعهم إذا فلس المبتاع.
قال أشهب: هو أحق بالعرض، وأما العين فهو فيه أسوة الغرماء.
3387 - وإقرار المأذون في صحته أو في مضره بدين لمن لا يتهم عليه جائز، إلا أن يقر بعد قيام غرمائه، فلا يجوز ذلك كالحر في الوجهين. ويجوز إقراره بالدين فيما بيده من المال، وإن حجر عليه سيده فيه ما لم يفلس.
ولا تلزم السيد عهدة فيما يشتري المأذون إلا أن يكون قال للناس: بايعوه وأنا له ضامن، فيلزم ذلك ذمة السيد وذمة العبد أيضاً، ويباع العبد عليه في ذلك إن لم يوف عنه سيده.
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/77)، وحاشية الدسوقي (3/305).

3388 - قال مالك: ولا أرى للمسلم أن يستتجر عبده النصراني ولا يأمره ببيع شيء لقول الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} [النساء: 161].
3389 - ولا يجوز لأحد الشريكين في العبد أن يأذن له في التجارة دون صاحبه وكذلك قسمة ماله، ولا يلزم ذلك من أبى منهما، لأنه ينقص العبد.
ومن دعا إلى بيعه منهما فذلك له، إلا أن يتقاوماه بينهما.
3390 - وإذا كان على المأذون دين يحيط بماله فادعى السيد في مال بيد العبد أنه له، وقال العبد: بل هو لي، فالقول قول العبد، ولو كان محجوراً عليه كان القول قول السيد، كقول مالك في ثوب بيد العبد يقول: فلان أودعنيه، وسيده يدعيهن فالسيد مصدق إلا أن يقيم فلان بينة.
3391 - ومن أراد أن يحجر على ولده فلا يحجر عليه إلا عند السلطان فيوقفه السلطان للناس ويسمع به في مجلسه ويشهد على ذلك، فمن باعه أو ابتاع منه بعد ذلك فهو مردود عليه.
وكذلك المأذون له لا ينبغي للسيد أن يحجر عليه إلا عند السلطان فيوقفه السلطان للناس، ويأمر به فيطاف به حتى يعلم ذلك منه.
3392 - ولا يجوز للعبد المحجور عليه في ماله بيع [ولا شراء] ولا إجارة ولا أن يؤجر عبداً له إلا بإذن سيده في ذلك كله.
3393 - وإذا لحق المأذون دين يغترق ماله فلسيده أن يحجر عليه ويمنعه من التجارة، ودَيْنه في ماله، ولا شيء لسيده في ماله، إلا أن يفضل عن دينه شيء، أو يكون السيد داينه، فيكون أسوة الغرماء، وليس للغرماء أن يحجروا عليه، وإنما لهم أن يقوموا [عليه] فيفلسوه وهو كالحر في هذا.(1)
* * *

(كتاب الحمالة)(2)
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/77).
(2) ويقال: الضمان كما في جامع الأمهات لابن الحاجب (ص391) ط اليمامة-دمشق. ويقال أيضاً: الكفالة والزعامة والإذانة والقبالة وجميعها بمعنى واحد. وانظر: شرح حدود ابن عرفة (445).

3394 - ومن قال لرجل: أنا حميل لك بفلان أو زعيم أو كفيل أو ضامن أو قبيل أو هو لك عندي أو عليّ أو إليّ أو قبلي، فذلك كله حمالة لازمة إن أراد الوجه لزمه، وإن أراد المال لزمه ما شرط، فإن شرط بالمال فأتى بالغريم عند الأجل عديماً لم يبرأ وغرم.
وأما إن تكفل برجل أو بنفسه أو بعينه أو بوجهه إلى أجل، ولم يذكر مالاً، فإنه إذا أتى بالرجل عند الأجل مليّاً أو معدماً [برئ]، فإن لم يأت به حينئذ والغريم حاضر أو غائب، قريب الغيبة مثل اليوم وشبهه، تلوّم السلطان للحميل، فإن أتى به بعد التلوم فلا شيء عليه وإلا غرم.
3395 - وإن بعدت غيبة المكفول به غرم الحميل مكانه، ولو شرط حميل الوجه أني أطلبه فإن لم أجده برئت من المال، ولكن عليّ طلبه حتى آتي به، لم يلزمه إلا ما شرط.
قال غيره: لا يلزمه من المال شيء جاء بالرجل، أو لم يأت به، إلا أن يمكنه بعد الأجل إحضاره ففرّط فيه حتى أعوزه، فهذا قد غره.
وإذا مات الغريم برئ حميل الوجه، لأن النفس المكفولة قد ذهبت، ولو غرم الحميل ثم أتى ببينة أن الغريم مات في غيبته قبل القضاء، رجع الحميل بما أدى على رب الدين، لأنه لو علم أنه ميت حين أخذ به الحميل لم يكن عليه شيء، وإنما تقع الحمالة بالنفس ما كان حياً، ولو قدم الغريم [أو أتى به بعد غرم الحميل] لم يرجع إلا عليه.
قال: وإن أخذ به فلم يقض عليه الحاكم بالغرم حتى أحضره برئ، ولو كان قد حكم عليه بالمال بعد التلوم لزمه المال ومضى الحكم.
3396 - وإذا حبس المحمول بعينه فدفعه الحميل إلى الطالب وهو في السجن برئ الحميل، لأن الطالب يقدر على أخذه في السجن، ويحبس له في حقه، بعد تمام ما سجن فيه. وكذلك إن دفعه إليه بموضع فيه حكم وسلطان وإن لم يكن ببلده، فيبرأ.

وإن دفعه إليه بموضع لا سلطان فيه أو في حال فتنة أو بمفازة أو بمكان يقدر الغريم على الامتناع منه، لم يبرأ منه الحميل حتى يدفعه إليه بموضع يصل إليه وفيه سلطان فيبرأ، وإن أمكن الغريم الطالب من نفسه وأشهد أني قد دفعت نفسي إليك براءة للحميل، لم يبرأ بذلك الحميل، وإن كان بموضع تُنفّذ فيه الأحكام، حتى يدفعه الحميل بنفسه أو وكيله إلىالطالب، فإن لم يقبل ذلك الطالب أشهد عليه وكان ذلك له براءة.
3397 - قال ابن القاسم: ومن ادعى على رجل حقاً فأنكره فقال له رجل: أنا به حميل إلى غد، فإن لم أوفّك به في غد فأنا ضامن للمال، فلم يأت به في غد فلا يلزم الحميل شيء حتى يثبت الحق ببينة فيكون حميلاً بذلك، وإن أنكر المدعى عليه ثم قال للطالب: أجلني اليوم فإن لم أوفك غداً فالذي تدعيه، قبلي، فهذا مخاطرة ولا شيء عليه.
{فقال له رجل: أنا بها كفيل، فأتى فلان فأنكرها، لم يلزم الكفيل شيء حتى يثبت ذلك ببينة.
3398 - ومن أدى عن رجل حقاً بغير أمره فله أن يرجع به عليه.
وكذلك من تكفل عن صبي بحق قضي به عليه، فإن أداه عنه بغير أمر وليه فله أن يرجع في مال الصبي.
وكذلك لو أدى عنه ما لزمه من متاع كسره أو أفسده أو اختلسه، لأن ما فعل الصبي من ذلك يضمنه.
3399 - ومن له على رجل ألف درهم من قرض، وألف من كفالة فقضاه [الغريم] ألفاً، ثم ادعى أنها القرض، وقال المقتضي: بل هي الكفالة، قُضي بنصفها عن القرض ونصفها عن الكفالة.(1)
وقال غيره: القول قول المقتضي مع يمينه، لأنه مؤتمن مدعى عليه، وورثة الدافع في قوليهما كالدافع.
3400 - قال مالك: ومن تحمل برجل أو بمال عليه فليس للذي له الحق إذا كان الغريم حاضراً مليئاً أن يأخذ من الكفيل شيئاً إلا ما عجز عنه الغريم. وكان مالك يقول: يتبع أيهما شاء في ملاء الغريم، ثم رجع إلى هذا وأخذ به ابن القاسم ورواه ابن وهب.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/102).

3401 - قال مالك: ولو كان الغريم غائباً مليئاً أو مدياناً حاضراً يخاف الطالب إن أقام عليه المحاصة، فله اتباع الحميل، إلا أن يكون للغائب مال حاضر يعدى فيه، فلا يتبع الحميل.
قال غيره: إلا أن يكون في تثبيت ذلك وفي النظر فيه بُعد فيؤخذ من الحميل.
3402 - وإذا مات الكفيل قبل الأجل فللطالب تعجيل الدين من تركته، ثم لا رجوع لورثته على الغريم حتى يحل الأجل، وله محاصة غرمائه أيضاً.
وإن مات الغريم تعجّل الطالب دينه من ماله، فإن لم يدع مالاً لم يتبع الكفيل حتى يحل الأجل.
3403 - وإن مات الغريم مليئاً والطالب وارثه برئ الحميل، لأنه إن غرم للطالب شيئاً رجع عليه بمثله في تركة الميت، والتركة في يده فصارت كمقاصة.
3404 - وإن مات الغريم معدماً ضمن الكفيل، وأما في الحوالة فذلك على المحال عليه بأصل الدّين، مات الغريم الموروث مليئاً أو معدماً.(1)
3405 - ومن تكفل لرجلين بحق لهما، فغاب أحدهما وأخذ الحاضر من الكفيل حصته من الدين، فللغائب إذا قدم أن يدخل معه فيما قبض إن كان الدين بكتاب واحد.
[وكذلك] قال مالك في رجلين لهما دين [على رجل] بصك واحد، فاقتضى أحدهما نصيبه دون صاحبه، فإن صاحبه يشاركه فيما اقتضى، إلا أن يكون المقتضي أعذر إلى صاحبه عند السلطان، أو أشهد على ذلك دون السلطان، فلم يخرج معه، ولا وكل، فحينئذ يكون له ما قبض خاصة، وهذا في التفليس مذكور، ولو رفع ذلك إلى الإمام وشريكه غائب والغريم مليء بحقيهما، فقضى للحاضر بأخذ حقه لم يدخل الغائب عليه فيه وإن أعدم الغريم.
ولو قام الحاضر على الغريم فلم يجد عنده إلا قدر حقه، قضى له الإمام بما ينويه في المحاصة لو كان صاحبه معه، فإن جهل الإمام فقضى له بجميع حقه، كان للقادم أن يدخل معه فيه، لأنه كالتفليس.
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/338)، والتاج والإكليل (5/104)، ومواهب الجليل (5/98)، والمدونة (13/254).

وقال غيره: يدخل عليه القادم، قُضي له بذلك كله أو بنصفه كالتفليس.
3406 - ومن قال لرجل: ما ثبت لك قِبَل فلان الذي تخاصمه فأنا له [به] كفيل، فاستحق قبله مالاً كان هذا الكفيل ضامناً له.
وكل من تبرع بكفالة لزمته، فإن مات هذا الكفيل قبل ثبات الحق، ثم ثبت الحق بعد موته، لزم ذلك في مال الكفيل.(1)
ومن قال لرجل: احلف أن الدين الذي تدعي قِبل أخي حق وأنا له ضامن، ثم رجع، لم ينفعه رجوعه، ولزمه ذلك إن حلف الطالب، وإن مات كان ذلك في ماله.
3407 - وإن أشهد رجل على نفسه أنه ضامن بما قُضي لفلان على فلان، أو قال: أنا كفيل لفلان بماله على فلان، وهما حاضران أو غائبان، أو أحدهما غائب، لزمه ما أوجب على نفسه من الكفالة والضمان، لأن ذلك معروف، والمعروف من أوجبه على نفسه لزمه.
ومن قال لرجل: بايع فلاناً أو داينه، فما بايعته به من شيء أو داينته به، فأنا له ضامن، لزمه ذلك إذا ثبت مبلغه.
قال غيره: إنما يلزمه من ذلك ما كان يشبه أن يداين بمثله المحمول عنه ويبايع به. قال ابن القاسم: ولو لم يداينه حتى أتاه الحميل فقال له: لا تفعل فقد بدا لي في الحمالة، فذلك له، بخلاف قوله: احلف وأنا ضامن، ثم يرجع قبل اليمين هذا، لا ينفعه رجوعه، لأنه حق وجب.
3408 - وإذا تكفل رجلان بمال، وكل واحد ضامن عن صاحبه، فغاب أحدهما وغاب الغريم وغرم الحاضر الجميع، ثم قدم الغائب والغريم وهما مليئان، فللكفيل اتباع الغريم بالجميع، وإن شاء أتبعه بالنصف ثم أتبع الكفيل الآخر بما أدى عنه، لأنه كدين له قبله لا كغريم حضر مع كفيل.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/259).

3409 - وإذا تكفل ثلاثة رجال بمال على رجل، فأعدم الغريم، لم يكن للطالب على من لقي من الحملاء إلا ثلث الحق، إلا أن يشترط في أصل الكفالة أن بعضهم حميل ببعض فحينئذ إن غاب أحدهم أو أعدم أخذ من وجد منهم مليئاً بجميع الحق، فإن لقيهم أملياء لم يأخذ من كل واحد إلا ثلث الحق، إذ لا يُتبع الكفيل في حضور المكفول به وملائه، ولو شرط أيكم شئت أخذت بحقي، ولم يقل: بعضكم كفيل لبعض، فله أخذ أحدهم بجميع الحق، وإن كانوا حضوراً أملياء، ثم لا رجوع للغارم على صاحبيه، إذ لم يؤد بالحمالة عنهم، ولكن على الغريم.
قال: [ولو] قال: بعضكم كفيل ببعض، وقال مع ذلك: أيكم شئت أخذت بحقي، أو لم يقل فإنه إن أخذ من أحدهم في هذا جميع المال رجع الغارم على صاحبيه إذا لقيهما بالثلثين، وإن لقي أحدهما رجع عليه بالنصف.(1)
3410 - قال ابن وهب: قال مالك: إن من أمر الناس الجائز عندهم أن يكتب الرجل حقه على الرجلين، ويشترط أن حيكما عن ميتكما ومليكما عن معدمكما، وذلك كحمالة أحدهما عن الآخر.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/111).

3411 - قال غيره: وإذا كان لرجل ستمائة درهم على ستة رجال على أن بعضهم حميل عن بعض بجميع المال، أو على أن كل واحد منهم حميل [بجميع المال، قال عن أصحابه أو لم يقل، أو قال: على أن كل واحد منهم حميل] عن واحد أو اثنين أو ثلاثة منهم أو أكثر أو عن جميعهم، إلا أنه قال: بجميع المال، قال في ذلك: ولا براءة له إلا بأدائها، أو لم يقل، فإن قال مع ذلك: أيكم شئت أخذت بحقي، فله أخذ أحدهم بالجميع، كان الباقون حضوراً أملياء أم لا، وإن لم يذكر أيكم شئت أخذت بحقي، فإنه إن لقيهم مياسير أخذ كل واحد بمائة، ولم يكن له أن يأخذ بعضهم ببعض، لأن الحميل لا يؤخذ بالحق في حضور الغريم وملائه، وإنما يؤخذ به إذا كان الغريم عديماً أو غائباً أو مُلِدّاً ظالماً، فأما إن لقي أحدهم فليأخذه بستمائة [درهم]، ثم إن لقي الغارم للستمائة أحد أصحابه، أخذه بمائة أداها عنه، وبنصف الأربعمائة [التي] أدى عن الباقين، لأنه حميل معه بهم، فذلك ثلاثمائة، ثم إن لقي أحدهما أحد الأربعة [الباقين]، أخذه بخمسين عن نفسه، وبخمسة وسبعين بالحمالة. وكذلك إذا لقي الرابع المأخوذ منه المال الثالث من الباقين فإنه يأخذه بما أدى عنه من أصل الدين، وبنصف ما أدى عن أصحابه، فإن لقي الرابع المأخوذ منه المال الآخر من الأولين الذي لم يرجع على الرابع، فقال له: بقي لي مما أديت بالحمالة مائتان عن أربعة أنت أحدهم فعليك خمسون في خاصتك، فيأخذها منه، ثم يقول له: بقيت لي خمسون ومائة أديتها عن أصحابك، وأنت معي بهم حميل، فيقول له: هذا الرابع قد أديت عنهم أنا بالحمالة خمسة وسبعين أيضاً لغيرك ساويتك في مثلها بقيت لك خمسة وسبعون لك [عليّ] نصفها، فيدفع إليه سبعة وثلاثين ونصفاً، وهكذا تراجعهم إن لقي بعضهم بعضاً حتى يؤدي كل واحد منهم مائة، لأن كل واحد منهم كان عليه من أصل الدين مائة.

وأما إن تحمل بعضهم عن بعض، على أن كل اثنين حميلان أو ضامنان بجميع المال، قالا في ذلك عن أصحابهم أو عن اثنين أو عن واحد، أو على أن كل واحد حميل بنصف جميع المال فذلك كله سواء، فإن لقي رب المال اثنين منهم أخذ كل واحد بثلاثمائة، وإن لم يلق إلا واحداً أخذه بثلاثمائة وخمسين، مائة منها عليه من أصل الدين ومائتان وخمسون بالحمالة، لأنه بنصف ما بقي تكفل، ثم إن لقي هذا الغارم أحد الباقين، أخذه بخمسين عن نفسه وبنصف المائتين التي أداها بالحمالة عن [أصحابه]، [ثم] إن لقي هذا الغارم الثاني [أحداً] ممن لم يغرم، قال له: أديت مائة بالحمالة عن أربعة أنت أحدهم، فهلُمّ خمسة وعشرين عن نفسك ونصف ما بقي بالحمالة، فهكذا تراجعهم حتى يستوون في الغرم، وأما إن تحمل بعضهم عن بعض على أن كل ثلاثة حملاء [عن جميع المال، أو على أن كل ثلاثة حملاء] عن ثلاثة أو اثنين، أو عن واحد بجميع المال، أو على أن كل واحد حميل بثلث المال فذلك سواء، فإن لقي ثلاثة أخذهم بالجميع، وإن لقي واحداً أخذه بمائة عنه وبثلث ما بقي، وذلك مائة وستة وستون وثلثان، وإن لقي اثنين أخذهما بمائة عنهما ثم بثلثي ما بقي، وذلك مائتان وستة وستون وثلثان.

3412 - وإذا لقي ثلاثة فأخذ منهم جميع المال، ثم لقي أحدهم أخذ الذين لم يغرموا، فإنه يقول: أديت مائة بالحمالة عن ثلاثة أنت أحدهم، فلهم ثلثها عن حصتك ونصف باقيها بالحمالة عن الباقين، ثم إن لقي الآخذ لذلك أحد الثلاثة الغارمين معه رجع عليه بنصف ما فضله به، حتى يكونا في الغرم سواء، فإن اقتسما ذلك ثم لقيا الباقي الذي غرم معهما أولاً، دخل عليهما فيما بأيديهما من قبل الثالث المرجوع عليه حتى يصير ما أخذ من الثالث بينهم أثلاثاً، ثم إن لقي أحدهم أحداً ممن لم يغرم شيئاً فأخذ منه ما يجب له، فلا بد أن يشارك فيه من لقي من الاثنين الغارمين معه أولاً حتى يكون ما أخذ كل واحد منهم بالسوية، لأنهم حملاء عن أصحابهم فهكذا تراجعهم.
3413 - قال ابن القاسم: ومن أخذ من غريمه كفيلاً بعد كفيل، فله في عُدم الغريم أن يأخذ بجميع حقه أي الكفيلين شاء، بخلاف كفيلين في صفقة لا يشترط حمالة بعضهما ببعض، وليس أخذ الحميل الثاني إبراء للحميل الأول، ولكن كل واحد منهم حميل بالجميع.(1)
ومن أخذ من الكفيل كفيلاً لزمه ما لزم الكفيل.
قال غيره: وكذلك لو تحمل رجل بنفس رجل وتحمل آخر بنفس الحميل، فذلك جائز.
وكذلك لو تحمل ثلاثة رجال بنفس رجل، وكل واحد منهم حميل بصاحبه، جاز.
ومن جاء به منهم برئ هو والباقيان، لأنه كوكيلهما في إحضاره، وإن لم يكن بعضهم حميلاً ببعض، فإن جاء به أحدهم برئ [هو] وحده، ولم يبرأ صاحباه.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/111).

3414 - قال ابن القاسم: وإذا أخر الطالب الحميل بعد محلّ الحق فذلك تأخير للغريم، إلا أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما كان ذلك مني تأخيراً للغريم، فيكون له طلبه، لأنه لو وضع الحمالة بعنه] كان له طلب الغريم إن قال: وضعت الحمالة دون الحق، فإن نكل لزمه تأخيره، ولو أخّر الغريم كان تأخيراً للكفيل، ثم للكفيل أن لا يرضى بذلك خوفاً من إعدام الغريم، فإن لم يرض خُيّر الطالب، فإما أبرأ الحميل من حمالته ويصح التأخير، وإلا لم يكن له ذلك إلا برضى الحميل.
وإن سكت الحميل وقد علم بذلك لزمته الحمالة، وإن لم يعلم حتى حلّ أجل التأخير حلف الطالب ما أخّره ليُبرئ الحميل وتثبت الحمالة.
قال غيره: إذا كان الغريم مليئاً فأخره تأخيراً بيناً سقطت الحمالة، وإن أخره ولا شيء عنده فلا حجة للكفيل، وله طلب الكفيل أو تركه.
3415 - قال ابن القاسم: ومن تكفل بمائة دينار هاشمية، فأداها دمشقية وهي دونها برضى الطالب رجع بمثل ما أدى. ولو دفع فيها عروضاً أو طعاماً فالغريم مخير في دفع مثل الطعام، أو قيمة العرض، أو ما لزمه من أصل الدين، ولو دفع ذهباً عن ورق لم يجز ذلك، ورجع الكفيل بما أدى وكان للطالب أصل دينه، والحميل به حميل، وهو بخلاف المأمور يدفع خلاف ما أمر به من العين، وذلك مذكور في كتاب المديان.
[وقد]ٍ قال ابن القاسم وغيره: إن المأمور والكفيل إذا دفعا ذهباً عن ورق أو طعاماً أو عرضاً، أن الغريم والآمر مخير إن شاء دفع ما عليه أو ما دفع هذا عنه، لأنه تعدى فيما دفع، وهذا أصل، التنازع فيه كثير.
3416 - قال ابن القاسم: ومن تكفل عن رجل بألف درهم، فأخذ الكفيل من الغريم سلعة على أن يدفع عنه الألف ثم أغرمها الطالب للغريم، فللغريم الرجوع بالألف على الكفيل، لأنه باعه السلعة [بها].

ومن تكفل لك بمائة حالة، فأبرأته من خمسين، على أن دفع إليك خمسين، فلا يرجع [هو] إلا بما أدى، ولك اتباع الغريم بخمسين، لأن تلك البراءة براءة من الحمالة فقط، وإن تكفل رجلان بألف فأخذ أحدهما من الآخر مائة على أن يدفع الألف عنه وعن نفسه، فإن حل الأجل والطالب حاضر فقبضها مكانه، جاز، وإن اغتزى نفعاً بسلف لتأجيل الدين أو لغيبة الطالب أو لغير ذلك، لم يجز.
قال غيره: فإن أخذ المائة على أمر جائز ثم صالح الطالب على خمسين، جاز، ورد إلى صاحبه خمسة وسبعين، ثم رجعا على الغريم بخمسين بينهما نصفين، [وإن صالحه على خمسين ومائة، جاز، ورد إلى صاحبه خمسة وعشرين، ورجعا على الغريم بخمسين ومائة بينهما].
وإن صالحه على مائتين جاز، ورجعا على الغريم، كل واحد منهما بمائة.
وإن صالحه على خمسمائة جاز، ورجعا على الغريم بما أديا، مُخرج المائة بمائة، والآخر بالأربع مائة، فإن ألفياه عديماً لم يكن للذي أدى أربع مائة أن يرجع على صاحبه بشيء، ويتبعان جميعاً الغريم بما أديا عنه.(1)
3417 - ومن تكفل لرجل بما أدركه من درك في جارية ابتاعها من رجل أو دار أو غيرها، جاز ذلك، ولزمه الثمن حين الدرك في غيبة البائع وعدمه.
ولو شرط خلاص السلعة لم تجز الكفالة ولم تلزم. وقال غيره: يلزمه، وهو أدخل المشتري في غُرم ماله، فعليه الأقل من قيمة السلعة يوم تستحق، أو الثمن الذي أدى، إلا أن يكون الغريم مليئاً حاضراً، فيبرأ.
قال ابن القاسم: ولو شرط المبتاع على البائع خلاص السلعة في الدرك وأخذ منه بذلك كفيلاً، بطل البيع والكفالة، كمن باع ما ليس له وشرط خلاصه، ولولا أن الناس يكتبون ذلك في وثائق الأشرية، لا يريدون به الخلاص، ولكن تشديداً في التوثيق لنقضت به البيع، ولو عقد البيع على اشتراطه فسد البيع.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (1.3/269).

3418 - وما ابتعت من شيء بعينه، لم يجز أن تأخذ به كفيلاً، كان حاضراً، أو غائباً على صفة، قربت الغيبة أو بعدت، كما لا يجوز للبائع ضمان مثله إن هلك.
3419 - ولا تجوز الكفالة بكتابة المكاتب، وأما من عجل عتق عبده على مال، جازت الكفالة بذلك، وكذلك من قال لرجل: عجل عتق مكاتبك وأنا بباقي كتابته كفيل، جاز [له، وله] الرجوع بذلك على المكاتب.
3420 - ومن له دين على رجل إلى أجل، فأخذ به منه قبل الأجل حميلاً أو رهناً على أن يوفيه حقه إلى الأجل أو إلى دونه، فذلك جائز.
وإن أخره به بعد الأجل برهن أو حميل جاز، لأنه ملك قبض دينه مكانه، فتأخيره به كابتداء سلف على حميل أو رهن، وإن لم يحل الأجل فأخره به إلى أبعد من الأجل بحميل أو رهن، لم يجز، لأنه سلف بنفع.
قال غيره: ولا يلزم الحميل شيء ولا يكون الرهن به رهناً، وإن قبض في فلس الغريم أو موته.
3421 - ومن قال لرجل: إن لم أوفك بغريمك غداً فأنا ضامن لما عليه، فمضى الغد وادعى الحميل أنه أوفاه به، فالبينة عليه وإلا غرم، إلا أن بوافيه به الآن قبل الحكم عليه فيبرأ من المال.
3422 - ومن كان بينه وبين رجل خلطة في معاملة، فادعى عليه حقاً، لم يجب له عليه كفيل بوجهه حتى يثبت حقه.
وقال غيره: إذا ثبت الخلطة بينهمان فله عليه [كفيل] بنفسه، ليوقع البينة على عينه.
قال ابن القاسم: وإن سأله وكيلاً بالخصومة حتى يقيم البينة عند القاضي، لم يلزم المطلوب ذلك، إلا أن يشاء، لأنا نسمع البينة في غيبة المطلوب، وإن سأله كفيلاً بالحق حتى يقيم البينة، لم يكن ذلك له إلا أن يقيم شاهداً، فله أخذ كفيل وإلا فلا، إلا أن يدعي بينة [قريبة] يحضرها من السوق أو من بعض القبائل فليوقف القاضي المطلوب عنده لمجيء البينة، فإن جاء بها وإلا خلي سبيله.
ومن قُضي له برَبع أو غيره أنه وارثه فلا يؤخذ بذلك من المقضي له كفيل، وهذا جور ممن فعله من القضاة.

وكذلك من استحق ديناً قِبَل غائب وله رباع أو عروض حاضرة، فإن القاضي يبيعها ويوفي دينه، ولا يؤخذ من المقضي له بذلك كفيل.
3423 - ومن تكفل لك بطعام من سلم أو قرض، فلا يجوز ذلك أن تصالح الكفيل أو الغريم قبل الأجل على بعض الطعام، وتترك باقيه، وإن حلّ الأجل جاز ذلك منهما، ويرجع الكفيل بما أدى.
ولا يجوز ذلك قبل الأجل أن تصالح الغريم أو الكفيل على حنطة، مثل [كيل] حنطتك إلا أنها أجود منها أو أدنى.
ولا يجوز لك صلح الكفيل بعد محل أجل السلم على مثل الكيل، والجنس أجود صفة أو أدنى، ولا على أقل كيلاً وأجود صفة.
ويجوز أن تأخذ من الغريم بعد الأجل مثل الكيل، أجود صفة أو أدنى، لأن ذلك بدل، وتبرأ ذمته.
3424 - وفي الكفيل يدخله بيع الطعام قبل قبضه، لأن المطلوب مخير، عليه إن شاء أعطاه مثل ما أدى، أو ما كان عليه، وأما في القرض فجائز أن يأخذ من الكفيل بعد الأجل مثل المكيلة أجود صفة أو أدنى.
3425 - وإن اشترى ثلاثة رجال سلعة من رجل، وتحمّل بعضهم ببعض في الثمن على أن يأخذ البائع أيهم شاء بحقه، فمات أحدهم، فادعى ورثته أن الميت دفع جميع الثمن إلى البائع، وأقاموا شاهداً، فإنهم يحلفون معه ويبرأ وليهم ويرجعون على الشريكين بما ينوبهما، فإن نكل الورثة لم يحلف الشريكان، لأنهما يغرمان، إلا أن يقولا: نحن أمرناه ووكلناه بالدفع عنه وعنا ودفعنا ذلك إليه، وإنما هو حق علينا، والشاهد لنا فيحلفان ويبرآن.
3426 - ولا تجوز الكفالة في الحدود ولا في الأدب والتعزير ولا تلزم.
قال بكير: ولا في دم أو زناً أو سرقة أو شرب خمر. ولا في شيء من الحدود.
3427 - وما فهم عن الأخرس أنه فهمه من كفالة أو غيرها، لزمه.(1)
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (3/419).

3428 - ومن تكفل في مرضه فذلك في ثلثه، وإن تداين بعد ذلك في مرضه كان دينه من رأس ماله مبدأً، فإن اغترق الدين ماله سقطت الكفالة، ولا يحاص بها الغرماء، لأنها من الثلث، وما كان من رأس المال أولى، كمن أوصى لرجل بثلث ماله ثم اغترق الدين جميع ماله، فالوصية تبطل.
3429 - ومن تكفل في مرضه لوارث أو غير وارث ثم صح لزمه ذلك، كما لو بتل صدقة في مرضه لوارث أو غير وارث ثم صح، لزمته الصدقة إذا لم تكن على وجه وصية.
3430 - ومن أقر في مرضه أنه تكفل في مرضه هذا، فإن كان [ذلك] لوارث لم يجز، وإن كان لأجنبي أو لصديق ملاطف جاز إقراره في ثلثه، إلا أن يكون عليه دين يغترق ماله، فلا يجوز.
وكذلك لو أقر للصديق الملاطف بدين في مرضه، فإنما يرد إقراره إذا كان عليه دين يغتر قماله، فإن لم يكن عليه دين [يغترق]، جاز إقراره إن ورثه ولده، وتجوز الوصية له في الثلث ورث بولد أو كلالة، وما أقرّ المريض أنه فعله في مرضه ذلك من عتق [أو غيره، فهي وصية، وما أقر به الصحيح أنه فعله فللذين أقر لهم أخذ ذلك ما لم يمرض المقر أو يمت، فإن مرض أو مات فلا شيء لهم، وإن قامت لهم بذلك بينة إلا العتق والكفالة، فإنه إذا قامت بعد موته بينة أنه أقرّ في صحته بعتق عبد أو كفالة أو جبس أو صدقة أو غيرها لوارث أو غير وارث، كان ذلك في رأس ماله، لأنه دين قد ثبت في ماله في صحته]. وما أقر به المريض أنه فعله في صحته من عتق أو كفالة أو حبس أو صدقة أو غيرها لوارث، فإقراره باطل، ولا يجوز ذلك في ثلث ولا غيره، ويكون ميراثاً، وإن أوصى بذلك مع وصايا، كانت الوصايا في ثلث ما بقي بعد ذلك، فإن قصر الثلث عن وصيته لم تدخل الوصايا في شيء مما أقرّ به.
3431 - ومن أجرته لخدمتك شهراً، لم يجز أن تأخذ منه حميلاً بالخدمة، وإن مات عبد في إجارتك فأعطاك سيده عبداً يعمل كعمله، لم يجز، وهو دين في دين.

والحمالة أيضاً في هذا لا تجوز، لأن الغلام إن مات لم يلزم الحميل أن يأتي بغيره يخدم. ومن أجرته يخيط ثوبك بنفسه جاز [ذلك].
3432 - ولا تجوز الحمالة بذلك العمل في حياة الصانع أو مماته، ولا كفيل به حتى يعمله، ولا بأس بأخذ حميل بالحمولة المضمونة.
ولا تجوز في دابة بعينها، إلا أن يتكفل برد بقية الكراء عند موتها، فيجوز.
وكذلك أجير الخياطة والخدمة، وإن فرّ الكريّ في المضمون فأكري الكفيل للطالب بضعف الكراء، وجب للكفيل الرجوع بذلك على الكري، ولا ينظر إلى الكراء الأول، وهذا مذكور في كراء الرواحل.
3433 - ولا يجوز لعبد أو مكاتب أو مدبر أو أم ولد، عتق ولا هبة ولا صدقة ولا غير ذلك مما هو معروف عند الناس إلا بإذن السيد.
فإن فعلوا ذلك بغير إذنه لم يجز إن رده السيد، فإن رده لم يلزم وإن عتقوا، وإن لم يرده حتى عتقوا لزمهم ذلك، علم به السيد قبل عتقهم أو لم يعلم.
وقال غيره: لا يجوز ذلك للمكاتب وإن أذن له سيده، لأنه داعية إلى رقه.
3434 - ولا تجوز كفالة المأذون إلا بإذن سيده، وإن كان عليه دين يغترق ماله، لم تجز كفالته وإن أذن له السيد، كما لا تجوز كفالة الحر ومعروفه إذا اغترق الدين ماله.
3435 - وتجوز حمالة العبيد ووكالتهم في الخصومة وغيرها بإذن السيد، لأن من وكل عبده لقضاء دينه فقام للعبد شاهد أنه قد قضى، حلف العبد وبرئ [السيد]، كالحر سواء، ولا يحلف السيد.
وإن تحمل عبد بدين على سيده بإذن السيد، [ثم فلس السيد أو مات، فإن أتبع الطالب بدينه ذمة السيد بيع العبد في ذلك، وإن رضي باتباع العبد دون السيد كان ذلك في ذمة العبد].
قال غيره: ليس له أن يتبع ذمة العبد إلا بما عجز عنه مال السيد.
قال ابن القاسم: وإن تحمل بالدين عن أجنبي بأمر سيده كان ذلك في ذمته لا في رقبته.
3436 - وتجوز كفالة العبد أو من فيه بقية رق لسيده، ولا يجبره السيد على ذلك، ولا يلزمه إن أجبره.

قال ابن القاسم: وإن أبى العبد أن يتكفل وقال: أخاف إن عتقت لزمتني هذه الكفالة، فأشهد السيد أنه ألزمه الكفالة عنه، لم تلزم العبد إلا برضاه.
3437 - وقال مالك في الرجل يعتق عبده وعليه مائة دينار: إن ذلك لازم للعبد وإن كره العبد ذلك.
3438 - ومن باع من عبده سلعة بدين إلى أجل، أو تكفل عنه بدين، فأداه عنه ثم باعه أو أعتقه فإن ذلك باق في ذمته، إلا أن ذلك عيب في البيع إن لم يبينه، فالمبتاع مخير في الرضى بذلك أو رد البيع.
3439 - ومن له على عبده دين فأخذ به منه كفيلاً، لزم ذلك الكفيل، لأن السيد يحاص به غرماء عبده.
3440 - ومن قال لرجل: إن لم يوفك فلان حقك فهو علي، ولم يضرب لذلك أجلاً، تلوم له السلطان بقدر مات يرى، ثم ألزمه المال، إلا أن يكون الغريم حاضراً مليئاً، فإن قال له: إن لم يوفك حقك حتى يموت فهو عليّ، فلا شيء على الكفيل حتى يموت الغريم.
3441 - ولا بأس أن يتكفل بمال إلى خروج العطاء، وإن كان العطاء مجهولاً، إن كان في قرض أو تأخير في ثمن بيع صحت عقدته، وإن كان في أصل بيع، لم يجز.
3442 - وليس للكفيل أخذ الغريم بالمال قبل أن يؤخذ منه، إلا أن يتطوع [الغريم]، لأنه لو أخذه منه ثم أعدم الحميل أو فلس، كان للذي له الحق أن يتبع الغريم.
3443 - وإذا دفع الغريم الحق إلى الكفيل فضاع فإن كان على الاقتضاء فهو من الكفيل، عيناً كان أو عرضاً.
3444 - وإذا عنست الجارية البكر في بيت أبيها، أو أنس منها الرشد، جاز عتقها وهبتها وكفالتها، وإن كره الوالد. قيل: أهذا قول مالك؟ قال: هذا رأيي، وقوله: إن ذلك ليس بجائز، هو الذي يعرف.
3445 - قال ابن القاسم: وقد سئل مالك - رحمه الله - عن الجارية المعنسة تعتق أجائز؟ قال: إن أجازه الوالد [جاز].
وسئل ابن القاسم في باب آخر عن البكر التي عنست في بيت أهلها، أتجوز كفالتها؟ قال: قال مالك في هبتها وصدقتها: لا تجوز، فكذلك كفالتها في هذا لا تجوز، لأن بضعها بيد أبيها.

وكان مالك مرة يقول - فيما وجدت في كتاب عبد الرحيم - : إنها إذا عنست جاز أمرها.
قال ابن القاسم: وأما البكر التي في بيت أهلها وقد حاضت إلا أنها لم تعنس، فلا تجوز كفالتها، ولا بيعها، ولا صدقتها، ولا هبتها، ولا عتقها، ولا شيء من معروفها، وإن أجازه الوالد لم ينبغ للسلطان أن يجيزه، وهي في هذا كالصبي والمولى عليه.
وإن أعطت لأبويها شيئاً من مالها، لم يجز ذلك لها، كما لو أعطت ذلك لأجنبي.
ولا يجوز لها بعد البناء في مالها بيع ولا شراء ولا شيء من المعروف، أجاز ذلك زوجها أو لم يجزه، حتى يتبين رشدها، وإذا عُرف بعد البناء رشدها وصلاح حالها، جاز بيعها وشراؤها في مالها كله، وإن كره الزوج إذا لم تحاب. فإن حابت أو تكفلت أو أعتقت أو وهبت أو تصدقت أو صنعت شيئاً من المعروف، فإن حمل ذلك ثلثها وهي لا يؤلى عليها جاز، وإن كره الزوج.(1)
وإن جاوز الثلث فللزوج رد الجميع أو إجازته، وإن جاوز الثلث فللزوج رد الجميع أو إجازته، إلا أن يزيد على الثلث كالدينار وما خفّ، فهذا يعلم أنها لم ترد ضرراً، فيمضي الثلث مع ما زادت.
3446 - قال مالك فيمن أوصى بجارية له أن تُعتق إن حملها الثلث [وإلا فلا]، فزاد ثمنها على الثلث ديناراً أو دينارين، قال: لا تحرم العتق بمثل هذا.
قال ابن القاسم: وتغرم الجارية ما زاد على الثلث إذا كان يسيراً، فإن لم يكن معها أتبعها به الولد ديناً.
3447 - ولو حلفت ذات زوج بعتق رقيقها فحنثت، والثلث يحملهم، عتقوا، فإن كانوا أكثر من ثلثها فللزوج رد ذلك، ولا يعتق منه شيء، فإن مات زوجها أو طلقها رأيت أن تعتقهم بغير قضاء، وهي في عطيتها لأبويها [وولدها] كعطيتها الأجنبي.
وقال المغيرة في ذات الزوج تزيد على ثلثها: إنه يجوز منه الثلث كالوصايا.
__________
(1) انظر: منح الجليل للشيخ عليش (6/222)، وجامع الأمهات لابن الحاجب (ص385) ط اليمامة-دمشق.

وقال غيره: ليس كالوصايا، إذ قد تجوز وصية من لم يبلغ الحلم، ولا يجوز صنيعه في صحته في ثلث ماله ولا غيره.
3448 - قال ابن القاسم: وإذا أجاز الزوج كفالة زوجته الرشيدة في أكثر من الثلث جاز، تكفلت عنه أو عن غيره، وإن تكفلت عنه بما يغترق جميع مالها فلم يرض، لم يجز من ذلك ثلث ولا غيره.
وتجوز عطيتها لزوجها جميع مالها إذا لم تكن سفيهة.
وإن تكفلت بزوجها ثم ادعت أنه أكرهها، لم تصدق إلا ببينة، ويلزمها ذلك وإن أحاط بمالها إذا كانت مريضة.
وإذا كانت المرأة أيّماً لا زوج لها فلها أن تتكفل بمالها كله وتعطيه إذا لم يولّ عليها.(1)
* * *

(كتاب الحوالة)(2)
3449 - وإذا أحالك غريمك على من له عليه دين، فرضيت باتباعه، برئت ذمة غريمك، ولا ترجع عليه في غيبة المحال عليه أو عدمه، ولو غرك من عدم يعلمه بغريمه أو تفليس فلك طلب المحيل، وإن لم يغرك كانت الحوالة لازمة لك، وإن لم تقبض ما أحالك به حتى أفلس المحيل أو مات، فلا دخول لغرمائه معك في ذلك الدين، لأنه كبيع نفذ.
وإن أحالك على من ليس له قِبَله دين، فليست حوالة، وهي حمالة سبيلها سبيل ما وصفنا في الحمالة.
قال ابن القاسم: ولو علمت حين أحالك عليه أنه لا شيء للمحيل عليه، وشرط عليك المحيل براءته من دينك فرضيت لزمك، ولا رجوع لك على المحيل إذا كنت قد علمت، وإن كنت لم تعلم فلك الرجوع.
وروى ابن وهب عن مالك فيمن قال لرجل: حرِّق صحيفتك [التي لك] على فلان واتبعني بما فيها، من غير حوالة بدين كان له عليه، فأتبعه حتى فلس الضامن أو مات ولا وفاء له، أن للطالب الرجوع على الأول، وإنما يثبت من الحوالة ما أحيل به على أصل دين.
__________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (5/332)، والمقدمات لابن رشد (2/352).
(2) انظر: صحيح البخاري (2287)، ومسلم (1564)، حيث إثبات أصل مشروعيتها، ومنح الجليل لعليش (6/178)، وجامع الأمهات لابن الحاجب (ص390)، ومواهب الجليل (5/94)، والتاج والإكليل (5/95).

3450 - قال ابن القاسم: ومن اكترى من رجل داراً سنة بعشرة دنانير على أن يحيله بها على رجل ليس له عليه دين، جاز، وكانت حمالة جائزة، وليس للمكري طلب الحميل إلا في فلس المكتري أو موته عديماً، وإن أحاله بالدنانير قبل السكنى على رجل له عليه دين، جاز ذلك إن كان الكراء عندهم بالنقد أو شرطوه، وإن لم يشرط ولا كان سنتهم النقد، لم يجز، لأنه فسخ دين لم يحل في دين حل أو لم يحل.
3451 - ولا بأس بأن تكتري من رجل عبده أو داره، بدين لك حال أو مؤجل على رجل آخر مقر حاضر، وتحيله عليه إن شرعت في السكنى أو الخدمة.
3452 - وإن بعت من رجل عبداً بمائة دينار، ولرجل عليك مائة دينار، فأحلته بها على المبتاع فرضي، ثم استحق العبد، فعلى مبتاعه أداء ثمنه لغريمك، لأنه شيء لزم ذمته، ثم يرجع هو بالثمن عليك.
3453 - وإن أحالك مكاتبك بالكتابة على مكاتب له، وله عليه مقدار ما على الأعلى، فلا يجوز ذلك إلا على أن تَبُتّ أنت عتق الأعلى فيجوز، ثم إن عجز الأسفل كان لك رقاً، ولا ترجع على المكاتب الأعلى بشيء، لأن الحوالة كالبيع، وقد تمت حرمته.
3454 - ولا تجوز حمالة بكتابة، فأما الحوالة فإن أحالك على من لا دين له قِبَلَه، لم يجز، لأنها حمالة، وإن كان [على من] له عليه دين حل أو لم يحل، جازت الحوالة إن كانت الكتابة قد حلت، ويعتق مكانه. وكذلك إن حلّ عليه نجم فلا بأس أن يحيلك به على من له عليه دين حل أو لم يحل، ويبرأ المكاتب من ذلك النجم، وإن كان آخر نجومه كان حراً مكانه، وإن لم يحل النجم لم يجز أن يحيلك به على من له عليه دين حال، لأن هذا ذمة بذمة، ورباً بين السيد ومكاتبه، وكذلك إن لم تحل الكتابة لم تجز الحوالة بها وإن حل الدين، لأنه فسخ دين لم يحل في دين حل أو لم يحل.

وقال غيره: تجوز الحوالة ويعتق مكانه، لأن ما على المكاتب ليس بدين ثابت وكأنه قد عجل عتقه على دراهم نقداً، أو مؤجلة، والكتابة دنانير لم تحل، وكمن قال لعبده: إن جئتني بألف درهم فأنت حر، ثم قال: إن جئت بخمس مائة درهم أو بعشرة دنانير فأنت حر، فإن جاء بها كان حراً، ولم يكن بيع فضة بذهب، ولا فسخاً لدين في أقل منه، وكأن لم يكن قبله إلا ما أدى.
قال ابن القاسم: ذلك لا ينبغي، لأن مالكاً كره للسيد بيع الكتابة من أجنبي بعرض أو غيره إلى أجل، ووسع في هذا بين السيد ومكاتبه، فلما كره ذلك مالك بين السيد والأجنبي من قِبل أنه دين بدين، كرهنا الحوالة أيضاً، إذا لم تحل الكتابة، لأنه دين بدين.
قال مالك: وسمعت بعض أهل العلم يقولون: الذمة بالذمة من وجه الدين بالدين.
* * *

(كتاب الرهون)(1)
3455 - ولا بأس برهن [جزء] مشاع غير مقسوم من رَبْع أو حيوان أو عَرَض، وقبضه أن يحوزه المرتهن دون صاحبه، والحوز في ارتهان نصف ما يملك الراهن جميعه من عبد أو دابة أو ثوب قبض جميعه، فإن كان النصف الآخر من هذه الأشياء لغير الراهن، فإن المرتهن يقبض حصة الراهن، فيحل محله، ولا بأس أن يضعاه على يدي الشريك.
وكذلك الدار المشتركة إن حل المرتهن محل الراهن، وحاز نصيبه وكان يكريه ويليه مع من له فيه شريك، فتلك حيازة.
وإن كان مما يقسم من طعام ونحوه، فرهن حصته منه، جاز ذلك إذا حازه المرتهن، فإن شاء الشريك البيع قاسمه ذلك الراهن، وهو في يد المرتهن، فإن غاب الراهن أقام الإمام من يقسم له، ثم تبقى حصة الراهن بيد المرتهن رهناً ويطبع على ما لا يعرف بعينه.
__________
(1) انظر: الأصل في مشرعيته البخاري (2069)، والترمذي (1215)، وانظر: منح الجليل (5/417).

3456 - ومن رهن حصته من دار ثم اكترى حصة شريكه وسكن، بطل حوز الرهن إن لم يقم المرتهن من يقبض حصة الراهن من الدار ويقاسمه، لأنه لما سكن نصف الدار وهي غير مقسومة، صار المرتهن غير حائز لما ارتهن، ولا أمنع الشريك أن يكري نصيبه من الراهن، ولكن تقسم الدار فيحوز المرتهن رهنه، ويكري الشريك نصيبه ممن شاء.
3457 - ومن ارتهن نصف ثوب فقبض جميعه فهلك عنده، لم يضمن إلا نصفه، كالمعطي لغريمه ديناراً ليستوفي منه نصف دينار له عليه ويرد ما بقي، فزعم أنه ضاع، فضمان النصف من المقتضي وهو مؤتمن في النصف الآخر، ولا يمين عليه إلا أن يتهم فيحلف.
3458 - ومن ارتهن دابة أو داراً أو ثياباً واستحق نصف ذلك من يد المرتهن، فباقيه رهن بجميع الحق، فإن شاء المستحق البيع، قيل للراهن وللمرتهن: بيعا معه، وقيل للمرتهن: لا تسلم رهنك ولكن يباع وهو بيدك، وتصير حصة الراهن من الثمن رهناً بيد المرتهن بجميع حقه أو بيد ن كان الرهن على يديه.
3459 - ولو ترك المستحق حصته بيد المرتهن وهو ثوب، ثم ضاع، لم يضمن المرتهن إلا نصف قيمته للراهن، فإن كان الراهن والمرتهن قد وضعها على يدي المستحق أو غيره ثم ضاع، لم يضمنه المرتهن وبقي دينه بحاله.
3460 - وما وضع من رهن يغاب عليه أم لا، على يدي عدل فضمانه من الراهن.
وما قبضه المرتهن من رهن لا يغاب عليه من ربع أو حيوان أو رقيق، فالمرتهن مُصدّق فيه ولا يضمن ما زعم أنه هلك أو عطب أو أبق أو دخله عيب.
وأما ما يغاب عليه فالمرتهن يضمنه إذا قبضه، إلا أن يقيم بينة على هلاكه من غير سببه بأمر من الله، أو بتعدي أجنبي، فذلك من الراهن، وله طلب المتعدي، فإذا غرم المتعدي القيمة، فأحب ما فيه إليّ - إن أتى الراهن برهن ثقة مكان ذلك - أخْذ القيمة، وإلا جعلت هذه القيمة رهناً.

3461 - وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن لم يجز بيعه، فإن أجازه المرتهن جاز البيع وعُجّل للمرتهن حقه، شاء الراهن أو أبى.(1)
وإن باعه بإذن المرتهن فقال المرتهن: لم آذن له في البيع إلا لإحياء الرهن لا ليأخذ الراهن الثمن، خلف على ذلك، وقيل للراهن: إن أتيت برهن ثقة يشبه الرهن الذي بعت وتكون قيمته كقيمة الرهن الأول فلك أخذ الثمن، وإلا بقي الثمن رهناً إلى الأجل، ولم يُعجَّل للمرتهن حقه، وخذا إذا بيع بإذن المرتهن، ولم يسلمه من يده إلا إلى المبتاع، وأخذ منه الثمن.
وأما إن أسلمه إلى الراهن فباعه خرج من الرهن، وإن تعدى المرتهن فباع الرهن أو وهبه، فلربه رده حيث وجده، فيأخذه ويدفع ما عليه فيه، ويتبع المبتاع بائعه بالثمن.
3462 - ومن ارتهن ثمرة نخل أو زرعاً قبل بدو صلاحهما أو بعده جاز ذلك، إن حازه المرتهن، أو عدل يرضيان به، ويتولى من يحوزه سقيه وعمله، وأجر السقي في ذلك على الراهن، كما أن عليه نفقة الدابة والعبد الرهن، وعليه كسوة العبد وكفنه إن مات ودفنه، وللذي ارتهن الثمرة أن يأخذ النخل معها، وله قبض الأرض مع الزرع ليتم له الحوز، ثم لا يكون رهناً في قيام الغرماء، إلا الثمر أو الزرع خاصة والنخل والأرض للغرماء.
3463 - ومن ارتهن أمة حاملاً كان ما في بطنها وما تلد بعد ذلك رهناً [معها]، وكذلك نتاج الحيوان كله.
3464 - ومن ارتهن نخلاً لم يدخل في الرهن ما فيها من ثمر، أُبِّر أو لم يؤبّر، أزهى أو لم يزه، ولا ما يثمر بعد ذلك إلا أن يشترط ذلك.
وولد الأمة في هذا بخلاف ما تثمره الأصول، لأن من باع أمة حاملاً كان ما في بطنها للمبتاع.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/13، 19)، والشرح الكبير (3/248)، ومواهب الجليل (5/20).

3465 - ومن باع نخلاً قد أُبّر ثمرها فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، [وكذلك] الثمرة وكراء الدور وإجارة العبيد كل ذلك للراهن، ولا يكون في الرهن إلا أن يشترطه المرتهن، وكذلك صوف الغنم وألبانها، إلا صوفاً كمل نباته يوم الرهن فإنه رهن معها.
ولا يكون مال العبد الرهن رهناً إلا أن يشترطه المرتهن كالبيع، فيدخل في البيع والرهن، كان ماله معلوماً أو مجهولاً.
وما وهب له فليس برهن، وهو كماله موقوف بيده إلا أن ينتزعه سيده.(1)
3466 - وإن تكفلت لرجل بدين وأعطيته به رهناً جاز ذلك، فإن هلك الرهن عند المرتهن وهو مما يغاب عليه ضمنه، فإن كانت قيمته كفاف الدين فقد استوفى المرتهن حقه، وترجع أنت على الذي عليه الحق بقيمة رهنك، وسواء في هذا تكفلت عن المطلوب بأمره أو بغير أمره، أو أعطيت الرهن بأمره أو بغير أمره، فأما إن رهنته بأمر المطلوب وقيمة الرهن أكثر من الدين رجعت على المطلوب خاصة بمبلغ الدين من رهنك، ويسقط دين المرتهن، وترجع بفضل قيمة رهنك على المرتهن إن شئت، أو على المطلوب، فإن أغرمت المطلوب الزيادة رجع هو بها على المرتهن.
وإن كنت رهنته بغير أمر المطلوب رجعت على المطلوب بالدين فقط، ولا يتبع بالزيادة إلا المرتهن خاصة.
3467 - ويجوز الرهن في دم الخطأ إن علم الراهن أن الدية على العاقلة، ولو ظن أن ذلك يلزمه وحده لم يجز، وله رد الرهن، وكذلك الكفالة فيه.
3468 - وإن استعرت من رجل دابة على أنها مضمونة عليك لم تضمنها، وإن رهنته بها رهناً فمصيبتها من ربها والرهن فيها لا يجوز، فإن ضاع الرهن عنده ضمنه، إذ لم يأخذه على الأمانة.
3469 - ومن ارتهن ما يغاب عليه، وشرط أن لا ضمان عليه فيه، وأنه مصدق لم ينفعه شرطه، وضمن إن ادعى أنه ضاع.
ويجوز الرهن بالعارية التي يغاب عليها، لأنها مضمونة.(2)
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (13/221).
(2) انظر: مواهب الجليل (5/16).

3470 - ومن استأجر عبدَ رجلٍ وأعطاه بالإجارة رهناً جاز.
3471 - ومن ادعى قبل رجل ديناً فأعطاه به رهناً يغاب عليه، فضاع الرهن عنده وتصادقا أن دعواه باطل، وكان قد اقتضاه ولم يعلم فهو ضامن للرهن إذا لم يأخذه على الأمانة، وكذلك إن أعطاه دراهم حتى يصارفه بها من دنانير له عليه ديناً فزعم أن الدراهم ضاعت.
وكذلك ما عمله الصناع بغير أجر، فضمانه منهم، وكذلك لو قبض [المرتهن] دينه أو وهبه للراهن، ثم ضاع الرهن بعد ذلك ضمنه المرتهن وإن زادت قيمته على الدين، وإن صرف دراهم بدنانير فقبض الدراهم وأعطاه بالدنانير رهناً، وجهلا، فالرهن إن ضاع من المرتهن، فإن كانت قيمة الرهن مثل الدراهم برئ الراهن، وإن زادت أو نقصت ترادّا الفضل.
3472 - ومن أخذ رهناً بقراض لم يجز، إلا أنه إن ضاع ضمنه، إذ لم يأخذه على الأمانة.
وإن دفعت إلى رجل رهناً بكل ما أقرض لفلان جاز ذلك.
3473 - ومن ارتهن رهناً وجعلاه على يد عدل أو على يد المرتهن، إلى أجل كذا وشرطا إن جاء الراهن بحقه إلى ذلك الأجل، وإلا فلمن على يديه الرهن بيعه، فلا يباع إلا بإذن السلطان وإن شرط ذلك، فإن بيع نفذ بيعه ولم يرد، وإن لم يأذن له في بيعه رفعه المرتهن إذا حل الأجل إلى السلطان، فإن أوفاه حقه وإلا باع له الرهن فأوفاه حقه.
3474 - وإذا قبض الرهن وكيل المرتهن بأمر من الراهن فهلك بيده وهو مما يغاب عليه، فهو من المرتهن، لأن قبض وكيله كقبضه، وليس كالعدل الذي تراضيا عليه.
3475 - وإن تعدى العدل في رهن في يديه فدفعه إلى الراهن أو إلى المرتهن فضاه، وهو مما يغاب عليه، فإن دفعه إلى الراهن ضمن للمرتهن، وإن دفعه للمرتهن ضمنه للراهن، فإن كان الرهن كفاف الدين سقط دين المرتهن لهلاكه بيده، فإن كان فيه فضل ضمن العدل الفضل للراهن.
وإذا مات العدل وبيده رهن فليس له أن يوصي عند موته بوضعه عند غيره، وذلك إلى المتراهنين.(1)
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/23).

3476 - وإذا أمر السلطان رجلاً ببيع الرهن ليقضي المرتهن حقه فباعه، ثم ضاع الثمن من يده لم يضمنه المأمور وصُدّق في ضياعه، فإن اتهم حلف، وكان الثمن من الذي له الدين كقول مالك في ضياع ثمن ما باعه السلطان لغرماء المفلس أنه من الغرماء.
وإن قال المأمور: قد بعت الرهن بمائة وقبضها المرتهن، وقال المرتهن: ما أخذت شيئاً، صدق المرتهن، ولو قال المرتهن: إنما باعه بخمسين وقضانيها، ضمن المأمور الخمسين الباقية بإقراره أنه باعه بمائة، كمأمور يدفع مائة دينار إلى رجل يدعي أنه دفعها وقال الرجل: لم أقبض إلا خمسين، فالمأمور ضامن للخمسين.
وإذا باع السلطان الرهن ودفع ثمنه إلى المرتهن، ثم استحق الرهن وقد فات عند المبتاع، أو غاب المبتاع فلم يوجد، فللمستحق إجازة البيع وأخذ الثمن من المرتهن، ويرجع المرتهن بحقه على الراهن. وقاله مالك فيمن باع سلعة فاستحقها صاحبها وقد دارت في أيدي رجال، أنه يأخذ الثمن من أيهم شاء.
وإن باع المأمور الرهن بحنطة أو شعير أو عرض لم يجز، ثم إن ضاع ما قبضه منه ضمنه المأمور بتعديه.
ولو باع بالعين لم يضمن. وكذلك الوكيل على بيع سلعة يبيعها بغير العين.
وإن قال الراهن: لم يحلّ الأجل، وقال المرتهن: قد حل، صدق الراهن، لأن المرتهن مقر بأجل يدعي حلوله، وهذا إذا أتى الراهن بأمر لا يستنكر وادعى أجلاً يشبه، وإلا لم يصدق.
3477 - قال مالك: وإذا قال مبتاع السلعة بعد أن فاتت عنده: ابتعتها بثمن إلى أجل، وقال البائع: بل بثمن حال، فإن ادعى المبتاع أجلاً قريباً صُدق، وإن ادعى أجلاً بعيداً لم يصدق. قال ابن القاسم: لا يصدق في الأجل، ويؤخذ بما أقر به من المال حالاً، إلا أن يقر بأكثر مما ادعاه البائع، فلا يكون للبائع إلا ما ادعاه.
3478 - ومن ارتهن رهناً فقبضه، ثم أودعه للراهن أو أجره منه أو أعاره إياه أو رده إليه بأي وجه كان حتى يكون الراهن هو الحائز له، فقد خرج من الرهن.

وليس للمرتهن إن أعاره إياه رده في الرهن، إلا أن يعيره [إياه] على ذلك، فإن أعاره على ذلك ثم لم يرتجعه حتى قامت الغرماء [على الراهن] أو مات، كان أسوة الغرماء.
وكذلك إن ارتهنت أرضاً فزرعها الراهن بإذنك وهي بيدك، كان خروجاً من الرهن.
3479 - وإذا أجر المرتهن الرهن، أو أعاره بإذن الراهن، وولي المرتهن ذلك ولم يسلمه إلى الراهن، لم يكن ذلك خروجاً من الرهن، وهو على حاله، فإن ضاع الرهن عند المستأجر، وهو مما يغاب عليه فضياعه على الراهن، لإذنه فيه، وإن لم يقبض المرتهن الرهن حتى مات الراهن أو فلس، كان أسوة الغرماء في الرهن.
وإذا كان الحق إلى أجل وأخذ به رهناً، فمات الراهن قبل الأجل بِيع [الرهن] وقضي المرتهن حقه، لأن من مات فقد حلت ديونه.
3480 - ومن رهن لامرأته رهناً قبل البناء بجميع الصداق جاز ذلك، لأن عقد النكاح يوجب لها الصداق كله، إلا أن يطلق قبل البناء، فإن طلق قبل البناء لم يكن له أخذ نصف الرهن، والرهن أجمع رهن بنصف الصداق، كمن قضى بعض الدين أو وُهِب له، فالرهن رهن بما بقي له، فإن هلك الرهن وهو مما يغاب عليه ضمن المرتهن جميعه، وقد اختلف قول مالك في رهن [من] أحاط الدين بماله، وقد ذكرناه في كتاب المديان.(1)
3481 - وإذا كان لك على رجل مائتان فرهنك بمائة منها رهناً، ثم قضاك مائة وقال: هي التي فيها الرهن، وقلت أنت: هي التي لا رهن فيها، وقامت الغرماء أو لم يقوموا، فإن المائة يكون نصفها لمائة الرهن، ونصفها للمائة الأخرى، وإن أسلمت في طعام إلى أجل وأخذت به رهناً، ثم تقايلتما بعد ذلك الأجل أو قبله، ولم تقبض رأس المال مكان الرهن الذي في يديك، لم تجز الإقالة، إلا أن تقبض رأس المال مكانك قبل أن تفترقا، وإلا دخله بيع الطعام قبل قبضه.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/309).

3482 - ومن ارتهن عبداً فجنى العبد جناية خُيّر السيد أولاً، فإن فداه كان على رهنه، وإن أسلمه خير المرتهن أيضاً، فإن أسلمه كان لأهل الجناية بماله، قل أو كثر، وبقي دين المرتهن بحاله، وإن فداه المرتهن لم يكن لسيده أخذه حتى يدفع ما فداه به مع الدين.
ولا يكون ماله رهناً بأرش ولا دين، إذ لم يشترط في الدين أولاً.
وإن أبى سيده أن يأخذه بِيع العبد بعد حلول [أجل] الدين، لا قبله، وبدئ بما فداه به المرتهن من الجناية، فإن ساوت رقبته أقل مما فداه به، لم يتبع السيد بما بقي من ذلك، لأنه فداه بغير أمره، وأتبعه بدينه الأول.
وإن كان فيه فضل كان الفضل من رقبته في الدين، وإن افتداه المرتهن بأمر الراهن، أتبعه المرتهن بما فداه به وبالدين جميعاً.
3483 - ولو أقر الراهن أن العبد الرهن جنى جناية، أو استهلك مالاً وهو عند المرتهن، ولم تقم بذلك بينة، فإن كان الراهن معدماً لم يصدّق، وإن كان مليئاً قيل له: أتفديه أم تسلمه؟ فإن فداه بقي رهناً على حاله، وإن أسلمه لم يكن له ذلك حتى يحل الأجل، فإذا حل [الأجل] أدى الدين ودفع العبد بجنايته التي أقر بها، وإن فلس قبل الأجل فالمرتهن أحق به من أهل الجناية، وليس ذلك كثبوت الجناية ببينة.
3484 - وإذا أخذت من رجل رهناً بدين لك عليه ثم استقرضك دراهم أخرى على ذلك الرهن، [جاز]، وكان بالدينين [جميعاً] رهناً.
3485 - وإذا ارتهنت ثوباً قيمته مائة دينار في خمسين ديناراً ثم رهن رب الثوب فضلته لغيرك، لم يجز، إلا أن يكون ذلك بإذنك فيجوز، وتكون حائزاً للمرتهن الثاني، فإن هلك الثوب بيدك بعدما ارتهن الثاني فضلته ضمنت منه مبلغ دينك، وكنت في الباقي أميناً، ويرجع المرتهن الثاني بدينه، لأن فضلة الرهن على يدي عدل، وهو المرتهن الأول.

3486 - وإن أنفق المرتهن على الرهن بأمر ربه أو بغير أمره، رجع بما أنفق على الراهن، ولا يكون ما أنفق في الرهن إذا أنفق بأمر ربه، لأن ذلك سلف إلا أن يقول له: أنفق على أن نفقتك في الرهن، فله حبسه بنفقته وبما رهنه فيه، إلا أن تقوم الغرماء على الراهن، فلا يكون المرتهن أحق منهم بفضله عن دينه لأجل نفقته، أُذن له في ذلك أو لم يؤذن، إلا أن يقول له: أنفق والرهن بما أنفقت رهناً.(1)
فأما المنفق على الضالة فهو أحق بها من الغرماء حتى يستوفي نفقته، إذ لا يقدر على صاحبها، ولا بد من النفقة عليها، والرهن يأخذه راهنه بنفقته، فإن غاب رفع ذلك إلى الإمام.
3487 - وللوصي أن يرهن من متاع اليتيم رهناً فيما يبتاع له من كسوة أو طعام، كما يتسلف لليتيم حتى يبيع له بعض متاعه، وذلك لازم لليتيم.
وللوصي أن يعطي مال اليتيم مضاربة.
ولا يعجبني أن يعمل به الوصي لنفسه، إلا أن يتجر لليتيم فيه أو يقارض له به غيره.
وللوصي أن يسلف الأيتام ويرجع عليهم إن كان لهم يوم السلف عرض أو عقار، ثم يبيع ويستوفي، وإن لم يكن لهم يوم السلف مال فقال الوصي: أنا أسلفهم فإن أفادوا مالاً رجعت عليهم، لم يكن له ذلك. والنفقة عليه حينئذ على وجه الحسبة ولا يرجع [عليهم] بشيء [وإن أفاد اليتيم مالاً].
وليس للوصي أن يأخذ عروض اليتيم بما أسلفه رهناً، إلا أن يكون تسلف لليتيم مالاً من غيره أنفقه عليه، ولا يكون أحق بالرهن من الغرماء، لأنه حائز لنفسه من نفسه، وهو والغرماء في ذلك سواء.
3488 - ومن قال: لله عليّ أن أصوم شهراً متتابعاً أجزأه التبييت لأول ليلة ولا يحتاج أن يبيّت الصوم كل ليلة.
3489 - ولا يدفع أحد الوصيين رهناً من التركة إلا بإذن صاحبه، وإن اختلفا نظر الإمام، وكذلك البيع والنكاح.
وإذا عزل الورثة دين الغريم فضاع، فمذكور في كتاب المديان.
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (4/193).

3490 - ومن زوج أمته وأخذ مهرها قبل البناء بها فاستهلكه وأعتقها، ثم طلقها الزوج قبل البناء ولا مال للسيد، لم يُردّ عتقها، لأن الدين إنما لزم السيد حين طلق الزوج لا يوم العتق.
قال مالك - رحمه الله - : وليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز، ولكن يجهزها به كالحرة.
وإذا رهن الأب من متاع ابنه الصغير في دين على الأب ولم يستدنه للولد، لم يجز الرهن، لأنه لا يجوز له أخذ مال ولده من غير حاجة، وإنما يجوز بيع الأب عليه على وجه النظر وكذلك الوصي.
ولا بأس أن يشتري الأب أو الوصي لبعض من يليان عليه من بعض.
3491 - وإذا اشترط المرتهن منفعة الرهن فإن كان الدين من قرض لم يجز ذلك، لأنه سلف جر منفعة.
وإن كان الدين من بيع، وشرط منفعة الرهن إلى أجل مسمى، قال مالك: لا باس به في الدور والأرضين وكرهه في الحيوان والثياب، إذ لا يدري كيف يرجع إليه، وأجاز ذلك كله ابن القاسم إذا سميا أجلاً كالإجارة، وهذه إجارة وبيع.
3492 - ولا بأس برهن المصحف، ولا يقرأ فيه، فإن لم يشترط في أصل السلف أن يقرأ فيه فوسع له رب المصحف أن يقرأ فيه لم يعجبني، كان الرهن من بيع أو قرض.
3493 - ولا يجوز لمسلم أن يؤجر نفسه في شيء مما حرم الله عز وجل، وهذا مذكور في كتاب الجعل والإجارة.
3494 - ولا ترهن الدنانير والدراهم والفلوس، وما لا يعرف بعينه من طعام أو إدام، وما يكال أو يوزن، إلا أن يطبع على ذلك، ليمنع المرتهن من النفع به، ويرد مثله.
وأما الحلي فلا يطبع عليه، حذر اللبس، كما لا يفعل ذلك في سائر العروض، لأن ذلك يعرف بعينه.
3495 - ولا يجوز لمسلم أن يرتهن من ذمي خمراً أو خنازير.
وإذا ولدت الأمة الرهن ثم ماتت، كان ولدها رهناً بجميع الدين.

وإن رهنك خلخالين من ذهب في مائة درهم فاستهلكتهما قبل الأجل أو كسرتهما، وقيمتهما مائة درهم، لم أجعل ذلك قَصَاصاً بدينك، ولكن تؤخذ القيمة منك دراهم فتوضع بيد عدل مطبوع عليها رهناً، فإذا حل الأجل أخذتها في حقك، وكذلك إن كان من فضة فلزمتك قيمتها دنانير، كانت رهناً كما ذكرنا إلى الأجل، فإن وفاك حقك أخذ الدنانير، وإلا صُرفت لك، وأخذت منها حقك.
وكان ابن القاسم يقول: إذا كسر الخلخالين فإنما عليه ما نقص الصناعة، ثم رجع إلى أن يغرم قيمتها، ويكونان له، ولا يكون الرهن بما فيه ولكن المرتهن ضامن لجميع قيمته.(1)
3496 - ومن لك عليه دين إلى أجل من بيع أو قرض، فرهنك به رهناً على أنه إن لم يفتكه منك إلى الأجل، فالرهن لك بدينك، لم يجز ذلك، وينقض هذا الرهن، ولا ينتظر به الأجل، ولك أن تحبس الرهن حتى تأخذ حقك، وأنت أحق به من الغرماء، وإن حلّ الأجل والرهن بيدك أو بيد أمين، فقبضته أنت لأجل شرطك ذلك، لم يتم لك ملك الرهن فيما شرطت فيه، ولكن ترده إلى ربه ما لم يفت، وتأخذ دينك، ولك أن تحبسه حتى تأخذ دينك، وأنت أحق به من الغرماء، فإن فات الرهن بيدك بما يفوت به البيع الفاسد من حوالة سوق فأعلى في الحيوان والسلع، وأما الدور والأرضون فلا يفيتهما حوالة سوق ولا طول زمان، وإنما يفيتهما الغرس والبناء والهدم، وسواء هدمتها أنت أو انهدمت بأمر من الله، فذلك فوت، فحينئذ لا ترد الرهن ويلزمك بقيمته يوم حل الأجل، لأنه بيع فاسد وقع يوم حل الأجل، وأنت للسلعة يومئذ قابض وتقاضيه بدينك وتترادان الفضل.
3497 - ومن أسلفته فلوساً وأخذت به رهناً، ففسدت الفلوس، فليس لك عليه إلا مثل فلوسك، ويأخذ رهنه.
وإن بعته سلعة بفلوس إلى أجل، فإنما لك نقد الفلوس يوم البيع، ولا يلتفت إلى كسادها، وكذلك إن أقرضته دراهم فلوساً وهي يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم صارت مائتي فلس بدرهم فإنما يرد إليك ما أخذ لا غير ذلك.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (4/319).

3498 - وإذا أخذت رهناً يغاب عليه في ثمن شيء بعته، أو قرض عين أو عرض أو حيوان أو طعام، فهلك الرهن بيدك وقامت عليك الغرماء ولا مال لك غير الدين الذي لك على غريمك، فعلى غريمك غرم دينك، وله محاصة غرمائك بقيمة رهنه، ولا يكون دينك عليه رهناً له بذلك، ولا له المقاصة بذلك، لأنك لم ترهنه إياه.
وكذلك إن أسلفته مالاً، ثم ابتعت منه سلعة بثمن ولم تذكر أن ذلك من دينك، ثم قامت الغرماء على أحدكما، فلا يكون ما في ذمته له رهناً بما في ذمة الآخر، ولكنه يغرم ويحاص.
وإن تكلفت عن رجل بحق عليه، وأخذت منه بذلك رهناً فذلك جائز.
3499 - وإذا اختلف الراهن والمرتهن في مبلغ الدين، فالرهن كشاهد للمرتهن، إذ حيازته وثيقة له، فإذا كانت قيمته يوم الحكم والتداعي لا يوم الرهن مثل دعوى المرتهن فأكثر، صدق المرتهن مع يمينه.
وإن تصادقا على أن قيمته يوم التراهن أقل من ذلك فزاد سوقه، لم أنظر إلا إلى قيمته الآن، زادت أو نقصت.(1)
فإن قال الراهن: هو في مائة، وقال المرتهن: في مائتين، صُدّق المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن يوم الحكم ويحلف.
فإن ادعى أكثر من قيمة الرهن الآن، لم يصدق فيما زاد عليها، وحلف الراهن على ما قال، فإن حلف فإنما يبرأ من الزيادة على قيمة الرهن، ويؤدي مبلغ قيمته ويأخذه إن أحب، وإلا فليس له أخذه.
3500 - وإن قال المرتهن: ارتهنته في مائة دينار، وقال الراهن: المائة لك عليّ ولم ارهنك إلا بخمسين، فالقول قول المرتهن إلى مبلغ قيمة الرهن، فإن لم يساو إلا خمسين فعجل الراهن الخمسين قبل الأجل ليأخذ رهنه، وقال المرتهن: لا أسلمه حتى آخذ المائة، فللراهن أخذ رهنه إذا عجل الخمسين قبل أجلها، وتبقى عليه خمسون بغير رهن، فكما لو أنكرها لم تلزمه، فكذلك لا تلزمه بما رهنه في أكثر من قيمته.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/30).

3501 - وإذا ضاع الرهن عند المرتهن فاختلفا في قيمته تواصفاه، ويكون القول في الصفة قول المرتهن مع يمينه، ثم يدعى لتلك الصفة المقوِّمون، ثم إن اختلفا في الدين صدق المرتهن إلى مبلغ قيمة تلك الصفة.
3501 - وإن رهنه ثوبين فضاع عنده أحدهما فاختلفا في قيمته صدق المرتهن مع يمينه في قيمته يسقط من الدين مبلغ قيمة الثوب الذاهب.
3502 - وإذا كان بيد المرتهن عبدان، فادعى أنهما رهن بألف، وقال الراهن: رهنتك بالألف أحدهما، وأودعتك الآخر فالقول قول الراهن، [لأن] من ادعى في سلعة بيده أو عبد أن ذلك رهن وقال ربه: بل عارية أو وديعة صدق ربه، ولو كانا نمطا وجُبّة فهلك النمط فقال المرتهن: أودعتنيه والجبة رهن، وقال الراهن: النمط هو الرهن، والجبة وديعة، فكل واحد مدع على صاحبه، فلا يصدق الراهن في تضمين المرتهن لما هلك، ولا يصدق المرتهن أن الجبة رهن، ويأخذها ربها.(1)
3503 - وإن بعت من رجل سلعة على أن يرهنك عبده ميموناً بحقك وفارقته قبل قبضه، لم يبطل الرهن، ولك أخذه منه رهناً، ما لم تقم عليه الغرماء، فتكون أسوتهم.
وإن باعه قبل أن تقبضه منه، مضى البيع، وليس لك أخذه برهن غيره، لأن تركك إياه حتى باعه كتسليمك إياه لذلك، وبيعك الأول غير منتقض.
وإن بعت منه سلعة بثمن إلى أجل على أن تأخذ به رهناً ثقة من حقك، فلم تجد عنده رهناً، فلك نقض البيع وأخذ سلعتك أو تركه بلا رهن.
3504 - ومن ارتهن عصيراً فصارت خمراً، فليدفعها إلى الإمام لتهراق بأمره، وكذلك الوصي يجد في التركة خمراً خوفاً من أن يتعقب بأمر.
وإذا ملك المسلم خمراً أهريقت عليه، ولا يخللها، فإن أصلحها فصارت خلاً فقد أساء، ويأكله.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/29).

3506 - ولا بأس برهن جلود السباع المذكّاة وبيعها دبغت أو لا، ولا يجوز رهن جلود الميتة ولا بيعها دبغت أم لا، ويجوز ارتهان ما لا يجوز بيعه في وقت، وقد يجوز بيعه بعد ذلك، مثل زرع أو ثمر، لم يبد صلاحه، فإن ارتهنت ذلك منه، ثم مات الراهن قبل أجل الدين، ولم يبد صلاح الزرع أو الثمر، حل الدين الذي لك عليه بموته، وتعجلت دينك من ماله، وسلّمت الرهن لورثته، وإن لم يدع مالاً انتظرت أن يحل بيع ما ذكرنا، فيباع وتأخذ دينك من ثمنه، فإن فلّس الراهن أو مات، فقام عليه غرماؤه، والذي بيدك من الرهن لم يبد صلاحه، فمذكور في كتاب التفليس.
ويحكم بين أهل الذمة في تظالمهم في الرهان.
3507 - وإذا رهن المكاتب أو ارتهن، جاز ذلك إن أصاب وجه الرهن، لأنه جائز البيع والشراء، وكذلك المأذون.
3508 - وإذا وجد السيد مع المكاتب قبل حلول أجل الكتابة مالاً فيه وفاء بالكتابة أو أقل منها، فليس له أخذه.
3509 - وإذا أعطاك أجنبي رهناً بكتابة مكاتبك لم يجز ذلك، كما لا تجوز الحمالة بها، وإن خاف المكاتب العجز، جاز أن يرهن أم ولده، فأما ولده فلا، وذلك كالبيع.
3510 - ومن رهن عبداً ثم أعتقه أو كاتبه جاز ذلك إن كان ملياً وعجل الدين، وأما إن دبره جاز، وبقي رهناً على حاله، لأن الرجل يرهن مدبره.
وروى ابن وهب عن مالك أن التدبير مثل العتق سواء فليعجل له دينه.
وإذا أعتقه السيد قبل محل الدين فليس له أن يرهنه سواه حتى يحل الأجل، وليعجل له حقه في ملائه.
وإن أعتقه وهو عديم بقي العبد رهناً فإن أفاد ربه قبل الأجل مالاً أخذ منه الدين ونفذ العتق.

3511 - ومن رهن أمته ثم وطئها الراهن فأحبلها، فإن وطئها بإذن المرتهن أو كانت مُخْلاة تذهب [حيث شاءت] وتجيء في حوائج المرتهن فهي أم ولد للراهن، ولا رهن للمرتهن فيها، وإن وطئها على وجه الغصب والتسور بغير إذن المرتهن عجل ربها الحق إن كان ملياً وكانت له أم ولد، وإن لم يكن له مال بيعت الجارية بعد الوضع، ولا يباع ولدها وهو حر لاحق النسب، فإن نقص ثمنها عن دين المرتهن أتبع السيد بذلك، فإن وطئها المرتهن فولدت منه حُدّ ولم يلحق به الولد وكان مع الأم رهناً وعليه للراهن ما نقصها الوطء، بكراً كانت أو ثيباً إن كرهها، وكذلك إن طاوعته وهي بكر، فأما إن كانت ثيباً فلا شيء عليه والمرتهن وغيره في ذلك سواء.
فإن اشترى المرتهن هذه الأمة وولدها لم يعتق عليه ولدها لأنه لم يثبت نسبه منه.
3512 - وإذا أعتق المديان عبده فأراد الغرماء رد العتق وبيع العبد فقال لهم العبد خذوا دينكم بمني] ولا تردوا العتق، أو تبرع بذلك لهم أجنبي، فذلك للعبد.
3513 - ومن استعار سلعة ليرهنها جاز ذلك، ويقضى للمرتهن ببيعها إن لم يؤد الغريم ما عليه، ويتبع المعير المستعير بما أدى عنه من ثمن سلعته، ولو هلكت السلعة عند المرتهن وهي مما يغاب عليه لأتبع المعير المستعير بقيمتها. وإن كانت مما لا يغاب عليه لم يضمنها المستعير ولا المرتهن.
3514 - ومن أعرته سلعة ليرهنها في دراهم مسماة فرهنها في طعام فقد خالف، وأراه ضامناً.
3515 - ومن استعار عبداً ليرهنه فرهنه ثم أعتقه المعير، فإن كان المعير ملياً جاز العتق، وقيل له: عجّل الدين إلى ربه إذ أفسدت رهنه، إلا أن تكون قيمة العبد أقل من الدين فلا يلزمه إلا قيمته ويرجع المعير على المستعير بذلك بعد محل أجل الدين لا قبله.
3516 - ومن رهن عبداً ثم أقر أنه لغيره لم يجز إقراره في هذا.
3517 - ومن رهن رهناً على أنه إن مضت سنة خرج من الرهن فلا أعرف هذا من رهون الناس، ولا يكون هذا رهناً.

3518 - ومن قال لعبده: أدّ إليّ الغلة، لم يكن بهذا مأذوناً له.
وإذا اشترى المأذون من قرابة سيده من لو ملكهم سيده عُتقوا عليه وهو يعلم، لم يجز ذلك، كما لو أعطاه سيده مالاً يشتري له عبداً فاشترى من يعتق على سيده لم يجز، وليس له أن يتلف مال سيده.(1)
ومن أمرته أن يبيع لك سلعة فباعها وأخذ [لك] بثمنها رهناً، لم يجز ذلك عليك، كما ليس له بيعها بالدين إلا بأمرك، فإن أمرته أن يبيع بالدين فباع وأخذ رهناً فأنت مخير في قبوله ويكون ضمانه منك إن تلف، وإلا رددت الرهن إلى ربه وبقي البيع على حاله، فإن تلف الرهن قبل علمك به فضمانه من المأمور.
3519 - ولا يجوز للمقارض الشراء بالدين على القراض، فإن اشترى بجميع المال عبداً ثم اشترى عبداً ثانياً بدين فرهن فيه الأول لم يجز ذلك، ولو أمره رب المال أن يشتري بالدين على المضاربة كانت مضاربة لا تحل، ولو جاز هذا جاز أن يقارضه بغير مال.
3520 - ومن ارتهن نخلاً ببئرها أو زرعاً أخضر ببئره فانهارت البئر فأبى الراهن أن يصلح فأصلح المرتهن لخوف هلاك الزرع والنخل، فلا رجوع له بما أفق على الراهن، ولكن يكون له ذلك في الزرع، وفي رقاب النخل يبدأ فيه بنفقته، فما فضل كان في دينه، فإن بقي بعد ذلك شيء كان لربه، كالمكتري سنين أو المساقي ينفق في مثل ذلك، فليس له أن ينفق ما زاد على كراء تلك السنة خاصة في الكراء، أو على حظ رب النخل من ثمرة تلك السنة في المساقاة، وهذا مذكور في كتاب الأكرية.
وإن أخذ الراهن مالاً من أجنبي فأنفقه في ذلك الزرع لخوف هلاكه فالأجنبي أحق بمبلغ نفقته من ثمن الزرع من المرتهن، فما فضل كان للمرتهن، فإن لم يفضل [منه] شيء رجع المرتهن على الراهن بدينه.
3521 - ومن رهن أرضاً ذات نخل لم يسمها أو رهن النخل ولم يسم الأرض، فذلك موجب لكون الأرض والنخل رهناً، وكذلك [هذا] في الوصية والبيع.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/330).

3522 - ون ارتهنت أرضاً فأخذ منك السلطان خراجها لم ترجع به على الراهن إلا أن يكون ذلك الخراج حقاً وإلا فلا.
3523 - وإذا ارتهن رجلان ثوباً فرضيا، ورضي الراهن كونه بيد أحدهما جاز، فإن هلك ضمن الذي هو في يديه حصته، ولا يضمن الآخر شيئاً، وضمان حصته من الراهن، وإن لم يجعله ربه بيد أحدهما جعلاه حيث شاء، وهما ضامنان [له].
3524 - وإذا كان لرجلين على رجل دين مفترق، لهذا مال ولهذا طعام، أو لهذا قرض ولهذا سلم، فأخذا به رهناً واحداً جاز ذلك، إلا أن يكون أحدهما أقرضه قرضاً على أن يبيعه الرجل الآخر بيعاً ويأخذا بذلك جميعاً رهناً، فلا يجوز، لأنه قرض جرّ منفعة.(1)
وأما إن وجب الدين من بيع أو [من] قرض بغير هذا الشرط فذلك جائز، ولو أقرضاه جميعاً معاً واشترطا أن يرهنهما فلا بأس به. قيل: فإن قضى أحدهما دينه هل له أخذ حصته من الرهن؟ قال: قال مالك في رجلين رهنا داراً لهما في دين فقضى أحدهما حصته من الدين فإن له أخذ حصته من الدار، فكذلك مسألتك إلا أن في مسألتك إن كتبا دينهما في كتاب واحد وكان دينهما واحداً فليس لأحدهما أن يقبض شيئاً دون صاحبه، وإن كان دينهما مفترقاً شيئين لهذا مال وللآخر قمح فلا يدخل أحدهما فيما اقتضى الآخر، كتبا الصنفين في كتاب واحد أم لا، وإنما الذي ليس لأحدهما أن يقبض دون الآخر أن يكتبا كتاباً بينهما بشيء واحد يكون ذلك لشيء بينهما أو يكون الرهن لهما في شيء واحد، وإن لم يكتبا به كتاباً - مثل أن تكون دنانير كلها أو قمحاً كله أو نوعاً واحداً - فليس لواحد [منهما] أن يقبض دون صاحبه، وفي كتاب التفليس ذكر من جنى جناية لا تحملها العاقلة فرهن فيها رهناً.
3525 - وإن ارتهنت عبدين فقتل أحدهما صاحبه فالباقي رهن بجميع الدين، لأن مصيبة العبد من الراهن.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/335).

3526 - ومن حبس على صغار ولده داراً، أو وهبها لهم، أو تصدق بها عليهم، فذلك جائز، وحوزه لهم حوز، إلا أن يكون ساكناً في كلها أو جلها حتى مات، فتبطل جميعها وتورث على فرائض الله عز وجل، وأما الدار الكبيرة ذات المساكن يسكن أقلها وأكرى لهم باقيها، فذلك نافذ لهم فيما سكن وفيما لم يسكن، ولو سكن الجل وأكرى الأقل بطل الجميع.
وكذلك دور يسكن واحدة منها هي أقل حُبُسه أو أكثره على ما ذكرنا.
3527 - ومن غصبك عبداً فجنى عنده [جناية] ثم رده إليك والجناية في رقبته فأنت مخير في إسلامه وتأخذ قيمته من الغاصب أو تفتكه بدية الجناية ولا ترجع على الغاصب بشيء.
3528 - ومن ارتهن عبداً فأعاره لرجل بغير أمر الراهن فهلك عند المعار بأمر من الله، لم يضمن هو ولا المستعير. وكذلك إن استودعه رجلاً، إلا أن يستعمله المودع أو المستعير عملاً، أو يبعثه مبعثاً يعطب في مثله، فيضمن.
3529 - ومن ارتهن جارية لها زوج، أو ابتاعها لم يمنع زوجها من وطئها، ومن رهن أمة عبده أو رهنهما معاً فليس للعبد وطؤها في الرهن، ثم هي في الوجهين بعد فداء الرهن للعبد كما كانت، وافتكاكهما جميعاً أبين.
ومن رهن أمته ثم زوجها لم يجز تزويجه، لأن ذلك عيب إلا برضا المرتهن.
3530 - ومن أقرضته مائة درهم وأخذت منه بها رهناً قيمته مائة درهم، ثم استقرضك مائة أخرى ففعلت على أن يرهنك بالمائتين رهناً آخر قيمته مائتان، لم يجز، لأنك انتفعت بزيادة وثيقة في المائة الأولى. وكذلك لو كانت المائة الأولى بغير رهن ثم استقرضك مائة أخرى على أن يرهنك بها وبالمائة الأولى رهنا فلا خير فيه.
قال: فإن نزل ذلك وقامت الغرماء على المتسلف في فلس أو موت فالرهن الثاني رهن بالدين الآخر خاصة دون الأول.(1)
* * *
تم الكتاب بحمد الله وعونه
* * *

(كتاب الغصب)
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/11)، ومواهب الجليل (5/12).

3531 - ومن تعدى على صحفة، أو عصا لرجل [بعينه] فكسرها، أو خرّق ثوباً، فإن أفسد ذلك فساداً كثيراً خير ربه في أخذ قيمة جميعه، أو أخذه بعينه، وأخذ ما نقصه من المتعدي، وإن كان الفساد يسيراً فلا خيار لربه وإنما له ما نقصه بعد رفء المتعدي للثوب.
وقد كان مالك يقول: يغرم ما نقصه، ولا يفصل بين قليل ولا كثير، ثم قال هكذا. وكذلك من تعدى على دابة رجل فقطع لها عضواً، أو فعل بها ما أفسدها فساداً يسيراً أو كثيراً، فهي كالثوب فيما وصفنا، وكذلك سائر الحيوان.
3532 - وأما من تعدى على عبد رجل ففقأ عينه، أو قطع له جارحة أو جارحتين، فما كان من ذلك فساداً فاحشاً حتى لم يبق فيه كبير منفعة، فإنه يضمن قيمته ويعتق عليه، وكذلك الأمة.
3533 - ومن غصب أمة فزادت قيمتها عنده أو نقصت، ثم قتلها أو وهبها أو تصدق بها، ففاتت بعنده]، فإنما عليه قيمتها يوم الغصب فقط، ولو غصبها وقيمتها مائة، ثم باعها وقيمتها مائتان، بخمسين ومائة، ثم لم يعلم للأمة موضع، فإنما لربها على الغاصب إن شاء الثمن الذي قبض فيها أو قيمتها يوم الغصب، ولو قتلها عند الغاصب أجنبي وقيمتها يومئذ أكثر من قيمتها يوم الغصب، فلربها أخذ القاتل بقيمتها يوم القتل بخلاف الغاصب، فإن كانت قيمتها يومئذ أقل من قيمتها يوم الغصب، كان له الرجوع بتمام القيمة على الغاصب.
وما أصاب السلعة بيد الغاصب من عيب قل أو كثر بأمر من الله تعالى، فربها مخير في أخذها معيبة، أو يضمنه قيمتها يوم الغصب.
وإن كانت جارية فأصابها عنده عور، أو عمى، أو ذهاب يد [بأمر] من الله تعالى بغير سببه، فليس لربها أن يأخذها، وما نقصها عند الغاصب إنما له أخذها ناقصة، أو قيمتها يوم الغصب.
وليس للغاصب أن يلزم ربها أخذها، ويعطيه [قيمة] ما نقصها إذا اختار ربها أخذ قيمتها، ولو ماتت عند الغاصب ضمن قيمتها.
ولو كان الغاصب هو الذي قطع يدها، فلربها أن يأخذها وما نقصها، أو يدعها ويأخذ قيمتها يوم الغصب.

ولو قطع يدها أجنبي، ثم ذهب فلم يقدر عليه، فليس لربها أخذ الغاصب بما نقصها، وله أن يضمنه قيمتها يوم الغصب، ثم للغاصب اتباع الجاني بما جنى عليها، وإن شاء ربها أخذها وأتبع الجاني بما نقصها دون الغاصب.
3534 - ومن غصب أمة شابة فهرمت عنده، فذلك فوت يوجب لربها قيمتها.
[قال:] وإن غصبها صغيرة وهي تساوي مائة، فكبرت عنده حتى نهدت فصارت تساوي ألفاً ثم ماتت، فإنما يضمن مائة، ولو ولدت عند الغاصب ثم مات الولد، لم يضمنهم، ولو قتلهم الغاصب ضمن قيمتهم، ولو باعها الغاصب من رجل لم يعلم بالغصب فماتت عند المبتاع، فلا شيء عليه، ولربها أخذ الغاصب بقيمتها يوم الغصب لا يوم البيع أو الثمن الذي أخذه فيها، [و]لو قتلت عند المبتاع فأخذ لها أرشاً ثم استحقت، فلربها إن شاء أخذ قيمتها يوم الغصب من الغاصب، وإن شاء أخذ منه الثمن وأجاز البيع، وإن شاء أخذ من المبتاع ما قبض فيها من القاتل، ثم يرجع المبتاع على الغاصب بالثمن.
ولو كان المبتاع هو الذي قتلها، فلربها أخذه بقيمتها يوم القتل، ثم يرجع المبتاع على الغاصب بالثمن.
قال ابن القاسم: وإنما ضمن المبتاع قيمتها، لأن مالكاً قال فيمن ابتاع طعاماً فأكله، أو ثياباً فلبسها حتى أبلاها، ثم استحق ذلك [مستحق]: إن المستحق يأخذ من المبتاع مثل طعامه وقيمة الثياب، وإنما وضع عن المبتاع موت الجارية، لأنه من أمر الله تعالى [يعرف].(1)
وكذلك ما عرف هلاكه من [أمر] الله تعالى من الثياب والطعام، فلا يضمنه المبتاع.
وكذلك إن قطع المبتاع يدها أو فقأ عينها، فلربها أخذها ويضمن المبتاع ما نقصها ويرجع المبتاع بالثمن على الغاصب، وإن شاء ربها أجاز البيع وأخذ الثمن من الغاصب، أو أغرمه القيمة يوم الغصب.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/277، 290).

وكذلك من اشترى ثوباً من غاصب ولم يعلم، فلبسه لبساً ينقصه ثم استحق، فالجواب [فيه] كما ذكرنا في قطع المبتاع يد الأمة، ولو كان ذهاب عين الجارية، أو قطع يدها عند المبتاع بأمر من الله تعالى من غير سببه، لم يضمن المبتاع ذلك، والمغصوب منه مخير في أخذ جاريته ناقصة، ولا شيء له على المبتاع ولا على الغاصب، أو يأخذ من الغاصب الثمن أو القيمة يوم الغصب. ومن غصب عبداً أو دابة فباعها ثم استحقها رجل وهي بحالها، فليس له تضمين الغاصب قيمتها وإن حالت الأسواق، وإنما له أن يأخذها أو يأخذ الثمن من الغاصب، كما لو وجدها بيد الغاصب قد حال سوقها، فليس له تضمينه قيمتها إلا أن تتغير في بدنها، وإن أجاز ربها البيع بعد أن هلك الثمن بيد الغاصب، فإن الغاصب يغرمه.
وليس الرضا ببيعه، يوجب له حكم الأمانة في الثمن.
3535 - وإذا باع الغاصب الأمة، فولدت عند المبتاع أو ماتت، ثم أجاز ربها البيع، فذلك جائز.
وإن أقمْت شاهداً أن فلاناً غصبك هذه الأمة، وشاهداً آخر على إقرار الغاصب أنه غصبكها، تمت الشهادة، ولو شهد أحدهما أنها لك وشهد الآخر أنه غصبكها، فقد اجتمعا على إيجاب ملكك لها، فيقضى لك بها، ولم يجتمعا على إيجاب الغصب.
فإن دخل الجارية نقص، كان لك أن تحلف مع الشاهد بالغصب، ويضمن الغاصب القيمة.
3536 - ومن أقام شاهداً أن هذه الأرض له، وشاهداً آخر أنها [في] حيزه، قضي له بها، لأنهما قد اجتمعا على الشهادة، ومعنى حيزه كقولك: هذا حيز فلان، [وهذا حيز فلان].
3537 - ومن غصب أمة بعينها بياض فباعها، ثم ذهب البياض عند المبتاع، فأجاز ربها البيع، ثم علم بذهاب البياض فقال: إنما أجزت ولم أعلم بذهابه وأما الآن فلا أجيزه، لم يلتفت إلى قوله ولزمه البيع.
وقد قال مالك في المكتري: يتعدى [في] المسافة، فتضل الدابة فيغرم قيمتها ثم توجد: فهي للمتعدي، ولا شيء لربها فيها، ولو شاء لم يَعْجَل.

ومن غصب أمة فباعها، فقام ربها وقد أعتقها المبتاع، فله أخذها ونقض العتق، نقصت أو زادت، وله أن يجيز البيع، فإن أجازه تم العتق بالعقد الأول، والعتق منعقد بظاهر الشراء، والبيع لم يزل جائزاً إلا أن للمستحق فيه الخيار.
3536 - ومن باع أمة ثم أقر أنه غصبها من فلان، لم يصدق على المبتاع، ويضمن لربها قيمتها يوم غصبها، إلا أن يشاء ربها أخذه بالثمن، فذلك له.
3537 - ومن ابتاع أمة من غاصب ولم يعلم [به]، ثم ابتاعها الغاصب من ربها، فليس للغاصب نقض ما باع، لأنه تحلل صنيعه وكأنه غرم القيمة له.
ولو باعها ربها من رجل غير الغاصب ممن رآها وعرفها، كان نقضاً لبيع الغاصب، وللمبتاع أخذها من الذي اشتراها من الغاصب.
3538 - وإن باع الغاصب ما غصب، ثم علم المبتاع بالغصب والمغصوب منه غائب، فللمبتاع رد البيع بحجة أنه يضمنه، ويصير ربه مخيراً عليه إذا قدم. وليس للغاصب أن يقول: أنا أستأْني رأي صاحبها.
ولو حضر المغصوب منه فأجاز البيع، لم يكن للمبتاع رده، وكذلك من افتيت عليه في بيع سلعته في غيبة ربها أو حضوره.
وإن أقمت بينة على رجل أنه غصبك جارية لا يدرون قيمتها وقد هلكت، قيل لهم: صفوها! وتُقوّم تلك الصفة.
وإن شهدت البينة أنه غصبك ثوباً أو جارية، لا يدرون لمن تلك الجارية أو الثوب، فذلك تمليك، ويقضى عليه برد ذلك إليك.
3539 - وإذا ادعى الغاصب هلاك ما غصب من أمة أو سلعة، واختلفا في صفتها، صدق الغاصب في الصفة مع يمينه، فإن جاء بما لا يشبه صدق المغصوب منه في الصفة مع يمينه، ولو قضينا بقول الغاصب في القيمة ثم ظهرت السلعة، أو الأمة عنده بعد الحكم، فإن علم أنه أخفاها، فلربها أخذها ورد ما أخذ، وإن لم يعلم ذلك لم يأخذها [ربها، قال ابن القاسم:] إلا أن يظهر أفضل من تلك الصفة بأمر بين، فلربها الرجوع بتمام القيمة، وكأن الغاصب لزمته القيمة فجحد بعضها.(1)
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/299).

3540 - ومن غصب أو انتهب صرة ببينة، ثم قال: كان فيها كذا، والمغصوب يدعي أكثر، فالقول قول الغاصب مع يمينه.
3541 - وإذا ولدت الأمة بيد الغاصب من وطئه، أو من زوج تزوجها علم أنها أمة ولم يعلم بالغصب، أو ولدت من زناً، فلربها أخذها وأخذ الولد رقاً، ويحد الغاصب في وطئه إن أقر بالوطء، ولا يثبت نسب ولده، ويثبت نسب ولد الزوج ويكون رقاً، إلا أن يتزوجها أنها حرة، فيكون عليه لربها قيمة الولد ويكون حراً.
3542 - ومن ابتاع أمة [من غاصب] فأعتقها، فليأخذها ربها، وينتقض العتق إن قامت له بينة أنها غُصبت منه أو سرقت، أو أنها له ولم تذكر البينة غير ذلك، وإذا ولدت من المبتاع فمذكور في كتاب الاستحقاق.
3543 - ومن ابتاع ثوباً من غاصب ولم يعلم فلبسه حتى أبلاه ثم استحق، غرم المبتاع لربه قيمته يوم لبسه، وإن شاء ربه ضمن الغاصب قيمته يوم غصبه، أو أجاز البيع وأخذ الثمن.
ولو تلف الثوب من عند المبتاع [بأمر من الله تعالى، لم يضمنه، ولو تلف عند الغاصب] بأمر من الله، ضمنه.
ومن غصب من رجل طعاماً أو إداماً فاستهلكه، فعليه مثله بموضع غصبه، فإن لم يجد هناك مثلاً، لزمه أن يأتي بمثله، إلا أن يصطلحا على أمر جائز.
فإن لقيه ربه بغير البلد الذي غصبه فيه لم يقض عليه هناك بمثله ولا بقيمته، وإنما له عليه مثله بموضع غصبه فيه.
3544 - وأما العروض والرقيق والحيوان، فله قيمة ذلك ببلد الغصب يوم الغصب يأخذه بتلك القيمة أينما لقيه من البلدان، نقصت القيمة في غير البلد أو زادت.
وما أثمر عند الغاصب من نخل أو شجر، أو تناسل من الحيوان، أو جز من الصوف، أو حلب من اللبن، فإنه يرد ذلك كله مع ما اغتصب لمستحقه، وما أكل رد المثل فيما له مثل، والقيمة فيما لا يقضى بمثله.

وليس له اتباع المستحق بما أنفق في ذلك، وسقى، وعالج، ورعى، ولكن له المقاصة بذلك فيما بيده من غلة، وإن عجزت الغلة عن ذلك، لم يرجع على المستحق بشيء، وإن ماتت الأمهات وبقي الولد، أو ما جز منها وحلب، خير ربها: فإما أخذ قيمة الأمهات ولا شيء له فيما بقي من ولد، أو صوف، أو لبن [ونحوه] ولا في ثمنه إن بيع، وإن شاء أخذ الولد إن كان ولد، أو ثمن ما بيع من صوف، أو لبن ونحوه.
وما أكل الغاصب أو انتفع به من ذلك، فعليه المثل فيما له المثل، والقيمة فيما يقوّم، ولا شيء عليه من قبل الأمهات، ألا ترى أن من غصب أمة ثم باعها فولدت عند المبتاع ثم ماتت، فليس لربها أن يأخذ أولادها، وقيمة الأمة من الغاصب، وإنما له أخذ الثمن من الغاصب أو قيمتها يوم الغصب أو يأخذ الولد من المبتاع، ثم لا شيء له عليه [ولا على الغاصب] من قيمة الأم، ولكن للمبتاع الرجوع على الغاصب بالثمن. ولا يجتمع على الغاصب غرم ثمنها وقيمتها.
3545 - وكل ربع اغتصبه غاصب فسكنه أو اغتله، أو أرضاً فزرعها، فعليه كراء ما سكن أو زرع لنفسه، وغرم ما أكراها به من غيره ما لم يحاب، وإن لم يسكنها ولا انتفع بها ولا اغتلها، فلا شيء عليه.(1)
3546 - وما اغتصب أو سرق من دواب أو رقيق، فاستغلها شهوراً، أو طال مكثها بيده، أو أكراها وقبض كراها، فلا شيء عليه في ذلك، وله ما قبض من كرائها، وإنما لربها عين شيئه، وليس له أن يلزمه قيمتها إذا كانت على حالها لم تتغير في بدن، ولا ينظر إلى تغير سوق.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/28).

3547 - ولو استعمل الدابة حتى أعجفها أو أدبرها، فتغيرت في بدنها، فلربها أن يضمنه قيمتها يوم غصبها أو سرقها، وإلا أخذها ولا كراء له، ولم يكن على الغاصب أو السارق كراء ما ركب من الدواب، بخلاف ما سكن من الربع أو زرع، لأنه أنفق عيهم، وهو لو أنفق على الصغير من رقيق أو حيوان حتى كبر، كان لمستحقه أخذه بزيادته، ولم يكن له ما أنفق أو أعلف أو كسا، ولو كان ذلك ربعاً وأحدث فيه عملاً، كان له أخذ ما أحدث فيه، فهذه وجوه مفترقة.
وأما المكتري أو المستعير يتعدى المسافة تعدياً بعيداً، أو يحبسها أياماً كثيرة ولم يركبها ثم يردها بحالها، فربها مخير في أخذ قيمتها يوم التعدي، أو يأخذها مع كراء حبسه إياها بعد المسافة، وله في الوجهين على المكتري الكراء الأول.
والغاصب أو السارق ليس عليه في مثل هذا قيمة ولا كراء إذا ردها بحالها.
ابن القاسم: ولولا ما قاله مالك لجعلت على السارق كراء ركوبه [إياها]، وأضمنه قيمتها إذا حبسها عن أسواقها كالمكتري، ولكن آخذ فيها بقول مالك.
ولقد قال جُلّ الناس إن الغاصب والسارق والمكتري والمستعير، بمنزلة واحدة لا كراء عليهم، [وليس عليهم] إلا القيمة، أو يأخذ دابته.
قال ابن القاسم: وإذا زاد مكتري الدابة أو مستعيرها في المسافة ميلاً أو أكثر، فعطبت، ضمن وخيّر ربها، فإما ضمّنه قيمتها يوم التعدي ولا كراء له في الزيادة، وإما ضمّنه كراء الزيادة ولا شيء له من قيمتها، وله على المكتري الكراء الأول على كل حال.
ولو ردها بحالها والزيادة يسيرة، مثل البريد أو اليوم وشبهه، لم يلزمه قيمتها، ولا يضمن إلا كراء الزيادة فقط.
3548 - وما مات من الحيوان، أو انهدم من الربع بيد غاصبه بقرب الغصب، أو بغير قربه بغير سبب الغاصب، فإنه يضمن قيمة ذلك يوم الغصب.

3549 - ومن استعار دابة ليشيع عليها رجلاً إلى ذي الحليفة فبلغها، ثم تنحى قريباً، فنزل ثم رجع، فهلكت في رجوعه، فإن كان الذي تنحى إليه مثل منازل الناس، لم يضمن، وإن جاوز منازلهم ضمن.
ولا تحمل العاقلة دم العبد، عمداً كان قتله أو خطأ.
3550 - ومن وهب لرجل طعاماً، أو إداماً فأكله، أو ثياباً فلبسها حتى أبلاها، ثم استحق ذلك رجل، فليرجع بذلك على الواهب إن كان ملياً، فإن كان عديماً أو لم يقدر عليه رجع بذلك على الموهوب، ثم لا يرجع الموهوب على الواهب بشيء. وكذلك لو أعاره الغاصب هذه الثياب فلبسها لبساً ينقصها، فعلى ما ذكرنا، ثم لا يرجع المستعير بما يغرم من نقص الثوب على المعير، وأما إن كرى منه الثوب فلبسه لبساً ينقصه، فلربه أن يأخذ ثوبه من اللابس ويضمّنه ما نقص اللبس، ثم للمكتري الرجوع على الغاصب بجميع الكراء ويصير كالمشتري.
3551 - ومن ادعى على رجل غصباً وهو ممن لا يتهم بهذا عوقب المدعي، وإن كان متهماً بذلك نظر فيه الإمام وأحلفه، فإن [حلف برئ، وإن] نكل لم يقض عليه حتى ترد اليمين على المدعي كسائر الحقوق.
وفي كتاب الشهادات ذكر المرأة تدعي أن فلاناً استكرهها.
3552 - وإذا قال الغاصب: غصبت الثوب خَلِقاّ، وقال رب الثوب: بل كان جديداً، صدق الغاصب مع يمينه، فإن حلف أدى قيمته خلقاً، فإن قامت بينة تشهد أنه غصبه جديداً، فإن كان ربه عالماً بالبينة فلا شيء له، وإن لم يكن عالماً رجع بتمام القيمة، وهذا في كل الحقوق، [و]حلف عند السلطان أو عند غيره.
3553 - ومن غصب ثوباً فصبغه، خُيّر صاحبه في أن يأخذ من الغاصب قيمته يوم غصبه، أو يعطيه قيمة صبغه ويأخذ الثوب، [ولا يكونان شريكين في الغصب].
3554 - ومن غصب حنطة فطحنها دقيقاً، فأحب ما فيه إلي أن يضمن مثل الحنطة.

ومن غصب لرجل سوارين من ذهب فاستهلكهما، فعليه قيمتهما مصوغين من الدراهم، وله أن يؤخره بتلك القيمة، وكذلك من غصب لرجل ثوباً فحكم عليه بقيمته، فلا بأس أن يؤخره بها، وأما من كسر لرجل سوارين، فإنما عليه قيمة الصياغة، لأنه إنما أفسد له صنعة.(1)
ومن بيده [سلعة] وديعة [أو عارية] أو بإجارة، وربها غائب، فادعاها رجل وأقام بينة أنها له، فليقض له بها، لأن الغائب يقضى عليه بعد الاستيناء، إلا أن يكون ربها بموضع قريب، فيتلوم له القاضي ويأمر أن يكتب إليه حتى يقدم.
3555 - ومن غصب لرجل قمحاً، ولآخر شعيراً فخلطهما، فعليه لكل واحد مثل طعامه.
ومن غصب خشبة أو حجراً فبنى عليها، فلربه أخذها وهدم البناء.
وكذلك إن غصب ثوباً فجعله ظهارة لجبة، فلربه أن يأخذها أو يضمنه قيمة الثوب، ولو عمل الغاصب من الخشبة باباً، أو غصب تراباً فعمله بلاطاً، أو حنطة فزرعها فحصد منها [حباً] كثيراً، أو سويقاً فلته بسمن، أو غصب فضة فصاغها حلياً، أو ضربها دراهم، أو غصب حديداً، أو نحاساً، أو رصاصاً فعمل منه قدوراً أو سيوفاً، أو أتلفه، فعليه في ذلك كله مثل ما غصب في صفته ووزنه وكيله، أو القيمة فيما لا يكال ولا يوزن.(2)
وكذلك في السرقة، لأن من ابتاع ما يكال أو يوزن بيعاً حراماً فأتلفه، فإنما عليه مثل صفته ووزنه أو كيله، فكذلك الغصب.
3556 - ومن غصب ودياً صغاراً من نخل، أو شجراً صغاراً فقلعها وغرسها في أرض فصارت بواسق، فلربها أخذها، [كصغير من الحيوان يكبر، وإن غصب مسلم خمراً من مسلم فخللها، فلربها أخذها].
ومن ملك من المسلمين خمراً فليهرقها، فإن اجترأ فخللها فليأكلها.
3557 - ومن غصب جلد ميتة غير مدبوغ فعليه - إن أتلفه - قيمته، كما لا يباع كلب ماشية أو زرع أو صيد، وعلى قاتله قيمته ما بلغت.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/85).
(2) انظر: المدونة (14/363)، والتاج والإكليل (5/280).

ولم يؤقت مالك أن في كلب الماشية شاة، وفي كلب الصيد أربعين درهماً، وفي كلب الزرع فرقاً من طعام، وإنما على قاتله قيمته.
وكره مالك بيع جلود الميتة والصلاة فيها أو عليها، دبغت أو لم تدبغ، ولكن إذا دبغت جاز الجلوس عليها، وتفرش وتمتهن للمنافع، ولا تلبس.
قيل لمالك: أيستقى بها؟ قال: أما أنا فأتقيها في خاصة نفسي، ولا أحب أن أضيق على الناس، وغيرها أعجب إلي منها.
وإذا ذكيت جلود السباع، جاز أن تلبس وتباع ويصلى عليها، دبغت أو لم تدبغ.
3558 - وليس كل غاصب محارباً، لأن السلطان يغصب فلا يعد محارباً.
والمحارب: القاطع للطريق، أو من دخل على رجل بيته فكابره على ماله، أو كابره عليه في طريق بعصاً أو بسيف أو بغير ذلك.
3559 - ومن غصب شيئاً ثم أودعه فهلك عند المودع، فليس لربه تضمين المودع إلا أن يتعدى.
3560 - قيل لمالك: يا أبا عبد الله! إنا نكن في ثغورنا بالإسكندرية، فيقال لنا: إن الإمام يقول: لا تحرسوا إلا بإذني، [قال مالك:] ويقول أيضاً: لا تصلوا إلا بإذني، فلا يلتفت إلى قوله وليحرس الناس.
3561 - ومن أقر أنه غصبك هذا الخاتم، ثم قال: وفصه لي، أو أقر لك بجبة، ثم قال: وبطانتها لي، أو أقر [لك] بدار، ثم قال: وبناؤها لي، لم يصدق إلا أن يكون كلامه نسقاً.
ومن غصب أرضاً فغرس فيها غرساً، أو بنى [بناءً] ثم استحقها رجل، قيل للغاصب: اقلع البناء والأصول، إن كان لك فيه منفعة، إلا أن يشاء رب الأرض أن يعطيه قيمة البناء والأصل مقلوعاً.
وكل ما لا منفعة فيه للغاصب بعد القلع كالجص والنقش، فلا شيء له فيه.
وكذلك [كل] ما حُفِر من بئر أو مطمر، فلا شيء له في ذلك.
ومن غصب لذمي خمراً فأتلفها، فعليه قيمتها يقومها من يعرف القيمة من المسلمين.

3561 - وإذا تظالم أهل الذمة في غصب الخمر أو فسادها، قضينا بينهم فيها، إذ هي من أموالهم، ولا أقضي بينهم في تظالمهم في الربا، وترك الحكم بينهم في الربا أحب إلي لقول الله عز وجل: {فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42].
3562 - وإذا دُفن رجل وامرأة في قبر، جعل الرجل مما يلي القبلة، قيل: فهل يجعل بينهما حاجز من الصعيد، أو يدفنان في قبر واحد من غير ضرورة؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئاً [إلا ما أخبرتك].
وعصبة المرأة أولى بالصلاة عليها من زوجها، وزوجها أحق منهم بغسلها وإدخالها في قبرها، ويُدخلها [أيضاً] في قبرها ذوو محارمها، فإن اضطر إلى الأجنبيين، جاز أن يُدخلوها في قبرها.(1)
3563 - ومن اشترى أرضاً فحفر فيها مطامر أو آباراً، أو بنى فيها، ثم استحقها رجل، قيل له: ادفع إلى المبتاع قيمة العمارة والبناء وخذ أرضك بما فيها، فإن أبى، قيل للمبتاع: اغرم له قيمة أرضه وخذها واتبع من اشتريت منه بالثمن، فإن أبى كانا شريكين [فيها]، هذا بقيمة أرضه والمبتاع بقيمة ما أحدث، وكذلك من أحيا أرضاً وهو يظن أنها مواتاً ليست لأحد، ثم استحقها رجل، قيل له: ادفع قيمة العمارة، فإن أبى قيل لهذا: أعطه قيمة الأرض، فإن أبى كانا شريكين في الأرض والعمارة، هذا بقيمة أرضه، وهذا بقيمة العمارة.
وقد اختلف في هذه المسألة، قال ابن القاسم: وهذا أحسن ما سمعت.
__________
(1) انظر: منح الخليل (7/168).

3566 - وإن حفر المبتاع في الأرض بئراً، أو عمرها بأصل جعله فيها، ثم استحق رجل نصف الأرض وأراد الأخذ بالشفعة، قيل له: ادفع إلى المبتاع قيمة نصف ما عمر وخذ نصف الأرض باستحقاقك، ولا شفعة لك في النصف الآخر حتى تدفع للمبتاع نصف قيمة ما عمر، فإن أبى من دفع ذلك فيما استحق واستشفع قيل للمبتاع: ادفع [إليه] نصف [قيمة] الأرض الذي استحق، وارجع على البائع بنصف الثمن، فإن أبى كانا شريكين في [ذلك] النصف، للمستحق فيه بقدر ما استحق وللمبتاع بقدر ما عمر، ويكون للمبتاع النصف الآخر ونصف ما أحدث. قال ابن القاسم: وهذا أحسن ما سمعت فيها.
3567 - ومن مات وعليه دين وترك دنانير أو دراهم، فشهد قوم أن الميت غصب هذه الدنانير أو هذه الدراهم بأعيانها من فلان، فإن عرفوها بأعيانها، فهو أحق بها من غرماء الميت.
* * *

(كتاب الاستحقاق)
3568 - ومن اكترى أرضاً سنين، للبناء، والغرس، والزرع، فبنى فيها أو غرس أو زرع، وكانت تزرع السنة كلها، ثم قام مستحق قبل تمام المدة، فإن كان الذي أكراها مبتاعاً، فالغلة له بالضمان إلى يوم الاستحقاق، وللمستحق أن يجيز كراء بقية المدة أو يفسخ، فإن أجاز فله حصة الكراء من يومئذ، ثم له بعد تمام المدة أن يدفع إلى المكتري قيمة البناء والغرس مقلوعاً، أو يأمره بقلعه.(1)
3569 - وإن فسخ الكراء قبل تمام المدة، لم يكن له قلعه، ولا أخذه بقيمته مقلوعاً، ولكن يقال له: ادفع قيمة البناء والغرس قائماً، فإن أبى قيل للمكتري: أعطه قيمة أرضه، فإن أبى كانا شريكين، وكان عليه في الزرع إذا فسخ الكراء، الصبر إلى انقضاء البطن الذي أدرك، وله فيها الكراء من يومئذ على حساب السنة.
وإن كانت أرضاً تزرع في السنة مرة، فاستحقها وهي مزروعة قبل فوات إبان الزريعة، فكراء تلك السنة للمستحق، وليس له قلع زرعه، لأن المكتري زرع بوجه شبهة.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/368)، والكافي (1/370)، ومواهب الجليل (6/12).

ولو كان الزارع غاصباً، كان لرب الأرض قلعه إن كان في إبان الزراعة.
وإن استحقها بعد إبان الزراعة وقد زرعها مشتريها أو مكتري منه، فلا كراء للمستحق في تلك السنة، وكراؤها للذي أكراها إن لم يكن غاصباً، وكانت بيده بشراء أو ميراث.
وكذلك إن سكن الدار مشتريها، أو أكراها أمداً، ثم استحقها رجل بعد الأمد، فلا كراء له وكراؤها للمبتاع.
وإذا كان مكري الأرض لا يُعلم أغاصب هو أم مبتاع، فزرعها المكتري منه ثم استحقت، فمكريها كالمشتري حتى يُعلم أنه غاصب.
وإن كان مكري الأرض وارثاً ثم طرأ له أخ شريكه لم يعلم به أو علم به، فإنه يرجع على أخيه بحصته من الكراء إن لم يحاب، فإن حابى في الكراء رجع على أخيه بالمحاباة إن كان ملياً، وإن لم يكن له مال رجع على المكتري.
وقال غيره: بل يرجع في المحاباة على المكتري في ملائه وعدمه، كان أخوه ملياً أو معدماً، إلا أن يعلم الأخ أن معه وارثاً فيرجع عليه أخوه في عدم المكتري.
قال ابن القاسم: وأما إن سكنها الوارث أو زرع فيها لنفسه، ثم طرأ له أخ لم يعلم به، فالاستحسان أن لا رجوع لأخيه عليه بشيء، بخلاف الكراء إلا أن يكون به عالماً، فيغرم له نصف كرائها.
وقد روى [علي بن زياد] عن مالك أن له [عليه كراء] نصف ما سكن، ولو كان إنما ورث الأرض عن أخيه فأكراها ممن زرعها ثم قدم ولد للميت حجبه، فليس له قلع الزرع وله الكراء، قدم في إبان الحرث أو بعده، لأنها لو عطبت كانت في ضمان القادم، وإنما الذي يدخل مع الورثة فيشاركهم في الكراء والغلة من دخل معهم في الميراث بسبب واحد.
3570 - فأما من استحق داراً بوراثة أو بغير وراثة من يد من ابتاعها أو ورثها من أبيه، فإنما له الكراء من يوم استحق، ولا كراء له فيما مضى إلا أن تكون الدار بيد غاصب.(1)
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (6/210).

3571 - ومن اكترى أرضاً بعبد أو بثوب فاستحق، أو بما يوزن من نحاس أو حديد بعينه يعرفان وزنه فاستحق ذلك، فإن كان استحق قبل أن يزرع أو يحرث انفسخ الكراء، وإن كان بعدما زرع أو أحدث فيها عملاً، فعليه قيمة كراء الأرض.
3572 - ومن ابتاع من رجل طعاماً بعينه، ففارقه قبل أن يكتاله، فتعدى البائع على الطعام فباعه، فعليه أن يأتي بطعام مثله، ولا خيار للمبتاع في أخذ دنانيره.
ولو هلك الطعام بأمر من الله تعالى انتقض البيع، وليس للبائع أن يأتي بطعام مثله ولا ذلك عليه.
3573 - ومن اكترى داراً سنة من غير غاصب، فلم ينقده الكراء حتى استحقت الدار في نصف السنة، فكراء ما مضى للأول، وللمستحق فسخ ما بقي أو الرضا به، فيكون له بقية كراء السنة، فإن أجاز الكراء، فليس للمكتري أن يفسخ الكراء فراراً من عهدته إذ لا ضرر عليه، لأنه يسكن، فإن انهدمت الدار أدى بحساب ما سكن.
ولو انتقد الأول كراء السنة كلها، لدفع إلى المستحق حصة باقي المدة إن كان مأموناً، ولم يخف من دين أحاط به ونحوهن ولا يرد باقي الكراء على المكتري.
ومن اكترى داراً فهدمها تعدياً ثم قام مستحق، فله أخذ النقض إن وجده، وقيمة الهدم من الهادم، ولو كان المكري قد ترك للمكتري قيمة الهدم قبل الاستحقاق لرجع بها المستحق على الهادم، كان ملياً أو معدماً، لأن ذلك لزم ذمته بالتعدي، ولا يرجع على المكري، إذ لم يتعد، وفعل ما يجوز له، وهو كمن ابتاع عبداً فسرقه منه رجل [ثم هلك بيده] فترك له قيمته، ثم قام [مستحقه]، فإنما يتبع السارق خاصة.
ولو باع النقض هادمه، كان عليه للطالب إن شاء الثمن الذي قبض فيه أو قيمته.
ولو هدمها المكري، لم يلزمه لربها قيمته، وإنما له النقض بعينه إن وجده، وإن بيع فله ثمنه.

3574 - ومن ابتاع داراً فاستحق منها بيتاً بعينه، فإن كان اليسير من الدار مثل دار عظمى لا يضرها ذلك، لزم البيع في بقيتها، ورجع بحصة ما استحق منها. وكذلك النخل الكثيرة يستحق منها النخلات اليسيرة.
وأما إن استحق نصف الدار، أو جلها، أو دون النصف مما يضر بالمشتري، فهو مخير في ردها كلها وأخذ الثمن، أو التمسك بما لم يستحق منها بحصته من الثمن، إن كان الذي استحق النصف رجع بنصف الثمن، وإن كان الثلث رجع بثلث الثمن.(1)
والذي يكتري داراً فيستحق منها شيء، فهو مثل ما وصفنا في البيوع.
وقال غيره: ليس الكراء كالشراء في هذا، وليس للمكتري التماسك بما بقي إن استحق نصف الدار أو جلها، لأن ما بقي مجهول.
[وقال سحنون: يعني إن اختلف قيمة كراء الشهور، وأما إن لم يختلف فليس ذلك بمجهول].
3575 - ومن ابتاع داراً أو عبيداً من غاصب ولم يعلم، فاستغلهم زماناً ثم استحقوا، فالغلة للمبتاع بضمانه، وكذلك إن ورثهم عن أبيه ولم يدر بما كانوا لأبيه، فاستغلهم ثم استحقوا، فالغلة للوارث، ولو وهب ذلك لأبيه رجل، فإن علم أن الواهب لأبيه هو الذي غصب هذه الأشياء من المستحق، أو من رجل هذا المستحق وارثه، فغلة ما مضى للمستحق، فإن جهل أمر الواهب أغاصب هو أم لا؟ فهو على الشراء حتى يعلم أنه غاصب.
3576 - ومن غصب داراً أو عبيداً فوهبهم لرجل فاغتلهم وأخذ كراهم، ثم قام مستحق فإن كان الموهوب له عالماً بالغصب، فللمستحق الرجوع بالغلة على أيهما شاء وإن لم يعلم الموهوب بالغصب، فإن المستحق يرجع أولاً بالغلة على الغاصب، فإن كان عديماً رجع بها على الموهوب.(2)
وكذلك من غصب ثوباً أو طعاماً فوهبه لرجل فأكله، أو لبس الثوب فأبلاه، أو كانت دابة فباعها وأكل ثمنها، ثم استحقت هذه الأشياء بعد فواتها بيد الموهوب، فعلى ما ذكرنا.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/376).
(2) انظر: التاج والإكليل (5/291).

ولو أن الغاصب نفسه استغل العبد، أو أخذ كراء الدار، لزمه أن يرد الغلة والكراء للمستحق.
3577 - ولو مات الغاصب وترك هذه الأشياء ميراثاً فاستغلها ولده، كانت هذه الأشياء وغلتها للمستحق، [ويرجع على الولد بما استغل أو استأجر].
[قال ابن القاسم:] والموهوب لا يكون في عدم الواهب أحسن حالاً من الوارث، ألا ترى أن من ابتاع قمحاً فأكله، أو ثياباً فلبسها حتى أبلاها، أو شاة فذبحها وأكل لحمها، ثم استحق ذلك رجل أن له على المبتاع مثل طعامه، أو قيمة ما لا مثل له ن الثياب وغيرها، ولا يضع ذلك عنه أنه اشتراه، فإن هلك ذلك بيد المبتاع بغير سببه وانتفاعه، فإن لم يعلم بالغصب وقامت بهلاك ما يغاب عليه من ذلك بينة، فلا شيء عليه، ولا يضمن ما هلك من الحيوان، أو الربع، أو انهدم بغير سببه، فكما كان المشتري حين أكل ولبس لم يضع عنه الاشتراء الضمان، كان من وهبه غاصب، فاستغل أحرى أن يرد ما استغل في عدم الواهب، لأنه أخذ هذه الأشياء بغير ثمن.
3578 - ولو نزل عبد ببلد فادعى الحرية فاستعمله رجل [في عمل]، فعمل له عملاً له بال من بناء أو غيره بغير أجر، أو وهبه مالاً، فلربه إذا استحقه أخذ قيمة عمله ممن استعمله، إلا أن يكون عملاً لا بال له كسقي الدابة، ويأخذ من [ذلك] الموهوب ما وهب له، وما أكله الموهوب، أو باعه فأخذ ثمنه فعليه غرمه، وما هلك من ذلك بيد الموهوب بغير سببه، فلا شيء له عليه بخلاف الغاصب، لأن الغاصب لو هلكت هذه الأشياء عنده بغير سببه ضمنها، ولو اغتلها رد الغلة، والموهوب لو اغتلها ولم يعلم بالغصب، لم يلزمه رد الغلة إلا في عدم الواهب.
ولو هلكت عنده بغير سببه لم يضمن، لأنه لم يتعد إلا أن يغتلها وقد علم بالغصب، فيصير كالغاصب سواء.

3579 - ومن ابتاع من غاصب - ولم يعلم - دوراً، أو أرضين، أو ثياباً، أو حيواناً، أو ماله غلة، أو نخلاً، فأثمرت عنده، فالغلة والثمرة للمبتاع بضمانه إلى يوم يستحقها ربها، ولو كان الغاصب إنما وهبه ذلك لرجع المستحق بالغلة على الموهوب في عدم الغاصب، لأن الموهوب لم يضمن في ذلك ثمناً أداه، ويكون للموهوب من الغلة قيمة عمله وعلاجه.
3580 - ومن ابتاع سلعة بدنانير فدفع فيها دراهم، ثم استحقت السلعة أو ردها بعيب، فإنما يرجع بما دفع من العين بعضه عن بعض، ولو دفع في الدنانير عرضاً لم يرجع على البائع إلا بالدنانير، ولو استحق هذا العرض من يد البائع رجع على المبتاع بالدنانير، لأن أخذه لهذا العرض لم يكن ثمناً للسلعة التي باع، وإنما هي صفقة ثانية، كما لو قبض الدنانير من المبتاع ثم ابتاع بها منه سلعة أخرى فاستحقت من يده فإنما يرجع عليه بالدنانير.
3581 - ومن ابتاع أمة فوطئها وهي ثيب، أو بكر فافتضها، ثم استحقت بملك أو حرية، فلا شيء عليه للوطء، ولا صداق ولا ما نقصها، فإن أولدها المبتاع فلمستحقها بالملك أخذها إن شاء مع قيمة ولدها يوم الحكم عبيداً، وعلى هذا جماعة الناس، وقاله مالك، وأخذ به ابن القاسم ثم رجع عنه مالك فقال: يأخذ قيمتها، لأن في ذلك ضرراً على المبتاع، ويأخذ قيمة الولد أيضاً [يومئذ]ٍ، فإن أُخذت الأمة من المبتاع على أحد قولي مالك رجع بالثمن على بائعه، ولا يرجع بما أدى من قيمة الولد، كما لو باع من رجل عبداً سارقاً ودلس له به فسرق متاعه، لم يضمن البائع ذلك، فإن أخذ منه المستحق الأمة وألفاه عديماً أتبعه بقيمة الولد ديناً، وإن كان الولد ملياً أدى القيمة، ثم لا يرجع بها على أبيه إن أيسر، وإن كانا مليين فذلك على الأب، ولا يرجع به الأب على الولد، وإن كانا عديمين أتبع أولهما يسراً، ولا يؤخذ من الابن قيمة الأم في عدم الأب أو يسره، [وقال غيره: لا شيء على الابن من قيمة نفسه في عدم الأب أو يسره].

قال ابن القاسم: وليس للمستحق فيمن مات من الولد قيمة، وولدها لاحق النسب، له حكم الحر في النفس وفي الجراح وفي الغرة قبل الاستحقاق أو بعده، ولا يضع القصاص عن القاتل استحقاق هذه الأمة، لأنه حر، ومن قتل من الولد خطأ فديته كاملة للأب، وعليه لسيد الأمة الأقل من قيمة الولد يوم القتل عبداً، أو ما أخذ من ديته، وإن قتل عمداً فاقتص الأب من قاتله، لم يكن على الأب فيهم قيمة، ويغرم قيمة الولد الحي وإن جاوزت الدية.
ولو قطعت يد الولد خطأ فأخذ الأب ديتها ثم استحقت أمه، فعلى الأب للمستحق قيمة الولد أقطع اليد يوم الحكم فيه، وينظر كم قيمة الولد صحيحاً وقيمته أقطع اليد يوم جني عليه، فيغرم الأب الأقل مما بين القيمتين أو ما قبض في دية اليد، فإن كان ما بين القيمتين أقل، كان ما فضل من دية اليد للأب.
ولو ضرب رجل بطن هذه الأمة وهي حامل من سيدها فألقت جنيناً ميتاً، فللأب عليه غرة [عبد أو وليدة] كالحر، ثم للمستحق على الأب الأقل من ذلك أو من عشر قيمة أمه يوم ضرب بطنها، وليس على المبتاع ما نقصتها الولادة، لأنها لو ماتت لم تلزمه قيمتها، لأنه مبتاع. وقد تقدم في كتاب الغصب ذكر الأمة تلد من الغاصب، وفي كتاب النكاح ذكر الأمة تزوج نفسها أو يزوجها أجنبي على أنها حرة.
3582 - ومن بنى داره مسجداً ثم استحقها رجل، فله هدمه، كمن ابتاع عبداً فأعتقه ثم استحق، فلربه رد العتق.

3583 - ومن ابتاع ثياباً كثيرة، أو صالح بها من دعواه، فاستحق بعضها أو وجد بها عيباً قبل قبضها أو بعد، فإن كان ذلك أقلها رجع بحصته من الثمن فقط، وإن كان وجه الصفقة، انتقض ذلك كله ورد ما بقي، ثم لا يجوز أن يتماسك بما بقي بحصته من الثمن وإن رضي البائع، إذ لا يعرف حتى يقوّم وقد وجب الرد، فصار بيعاً مؤتنفاً بثمن مجهول، ولو كان ما ابتاع مكيلاً أو موزوناً، فإن استحق القليل [منه] رجع بحصته من الثمن ولزمه ما بقي، وإن كان كثيراً فهو مخير في أن يحبس ما بقي بحصته من الثمن أو يرده، وكذلك في جزء شائع مما لا ينقسم، لأن حصته من الثمن [معلومة قبل الرضا به، ومن ابتاع سلعاً كثيرة في صفقة واحدة، فإنما يقع لكل سلعة منها حصتها من الثمن] يوم وقعت الصفقة.
3584 - ومن ابتاع صبرة قمح وصبرة شعير جزافاً في صفقة بمائة دينار، على أن لكل صبرة خمسين ديناراً، أو ثياباً أو رقيقاً، على أن لكل عبد أو ثوب من الثمن كذا وكذا، فاستحقت إحدى الصبرتين أو أحد العبيد أو الثياب، فإن الثمن ينقسم على جميع الصفقة، فما أصاب الذي استحق من الثمن وضع عن المبتاع، ولا ينظر إلى ما سميا من الثمن.
ولو اشترى صبرة القمح وصبرة الشعير على الكيل، على أن كل قفيز بدينار لم يجز البيع.
3585 - ومن ابتاع عبدين في صفقة، فاستحق أحدهما بحرية بعد أن قبضه أو قبل، فإن كان وجه الصفقة، فله رد الباقي، وإن لم يكن وجهها لزمه الباقي بحصته من الثمن، وإنما يقوّم المستحق قيمته أن لو كان عبداً، وكذلك لو كان المستحق مكاتباً أو مدبراً أو أم ولد.(1)
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/85)، ومواهب الجليل (5/305)، والتاج والإكليل (5/305).

3586 - ومن ادعى شيئاً بيد رجل، ثم اصطلحا على الإقرار على عرض، فاستحق ما أخذ المدعي، فليرجع على صاحبه ويأخذ منه ما أقر له به إن لم يفت، فإن فات بتغير سوق أو بدن، وهو عرض أو حيوان أخذ قيمته، وإن كان الصلح على الإنكار فاستحق ما بيد المدعى عليه، فليرجع بما دفع إن لم يفت، فإن فات بتغير سوق أو بدن، رجع بقيمته.
ومن كان له على رجل مائتان، فصالحه على أن يترك له مائة، وعلى أن يأخذ منه بالمائة الباقية عبده ميموناً، فذلك جائز، وإن استحق العبد فإنه يرجع بالمائتين، لأنه من باع سلعة بثمن سماه، على أن يأخذ بذلك الثمن سلعة بعينها نقداً أو مضمونة مؤجلة، فإنما وقع البيع بتلك السلعة، ولا ينظر إلى اللفظ، ولكن إلى ما انعقد [من] الفعل.
3587 - ومن صالح من دم عمد وجب له على رجل بعبد، جاز ذلك، فإن استحق العبد رجع بقيمته ولا سبيل إلى القتل.
وكذلك من نكح بعبد فاستحق، أو وجدت به المرأة عيباً، فإنها ترده وترجع على الزوج بقيمة العبد وتبقى زوجة له على حالها، والخلع بهذه المنزلة.(1)
ومن اشترى عبداً فأصاب به عيباً، فصالحه البائع من العيب على عبد آخر دفعه إليه، جاز ذلك، وكأنهما في صفقة [واحدة]، فإن استحق أحدهما فليفضّ الثمن عليهما، وينظر هل هو وجه الصفقة [أم لا] على ما ذكرنا.
ومن باع عبداً بعبد فاستحق أحدهما من يد مبتاعه أو رده بعيب، فإنه يرجع في عبده الذي أعطي فيأخذه إن وجده، وإن فات بتغير سوق أو بدن، لم يكن له إلا قيمته يوم الصفقة، ولا يجتمع لأحد في مثل هذا خيار في أخذ سلعته أو تضمينها.
3588 - وإن بعت عبداً بثوب فاستحق الثوب وقد عتق العبد، فإنك ترجع بقيمة العبد، وإن ابتعت جارية بعبد فحال سوقها عندك أو ولدت أولاداً، ثم استحق [العبد] بملك أو حرية، فإنما عليك قيمة الجارية يوم الصفقة.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/308).

وكذلك إن زوجت الأمة ثم استحق العبد أو وجد به عيب، فذلك في الجارية فوت أخذت لها مهراً أو لم تأخذ، وعليك قيمتها يوم الصفقة، لأن التزويج عيب.
وقد قال مالك - رحمه الله - : إن التزويج ينقصها وإن كانت وخشاً، ولا يردها مبتاعها بعيب إذا زوجها إلا ومعها ما نقصها.
3589 - ومن كاتب عبده على عرض موصوف، أو حيوان، أو طعام، فقبضه وعتق العبد ثم استحق ما دفع العبد من ذلك، [قال:] فأحب إليّ أن لا يرد العتق، ولكن يرجع عليه بمثل ذلك، فإن أعتقه على شيء مما ذكرنا بعينه وهو عبد غير مكاتب، ثم استحق ذلك، فالعتق ماض ولا يرد، وكأنه انتزعه منه ثم أعتقه.
3590 - ومن وهب لرجل هبة فعوضه فاستحق العوض، فإنه يرجع في هبته إن كانت قائمة، إلا أن يعوضه قيمتها فيلزمه، وليس للواهب قيمة العوض وإن كان أكثر من الهبة، لأن الذي زاده أولاً في عوضه على قيمة هبته إنما كان تطولاً، وإن استحقت الهبة رجع في العوض إلا أن يفوت في بدن [أو تغير] سوق، فيأخذ قيمته.(1)
3591 - ومن باع جارية بعبد فقبضه ثم أعتقه، ثم استحق نصف الجارية قبل حوالة سوق، فلمبتاعها حبس نصفها الباقي والرجوع بنصف قيمة عبده، أو رد باقيها وأخذ قيمة عبده لفوته بالعتق، وكذلك إن كان الغلام هو الذي استحق نصفه والجارية هي المعتقة على ما ذكرنا.
3592 - ومن أوصى بحج أو غيره، ثم مات فبيعت تركته وأنفذت وصيته، ثم استحقت رقبته، فإن كان معروفاً بالحرية، لم يضمن الوصي ولا متولي الحج شيئاً، ويأخذ السيد ما كان قائماً من التركة لم يُبع، وما بيع وهو قائم بيد مبتاعه، فلا يأخذه السيد إلا بالثمن ويرجع بذلك الثمن على البائع.
__________
(1) انظر: المدونة (14/391)، (15/141).

3593 - وكذلك قال مالك - رحمه الله - فيمن شهدت بينة بموته، فبيعت تركته وتزوجت زوجته ثم قدم حياً، فإن كان الشهود عدولاً وذكروا ما يعذرون به في دفع تعمد الكذب، مثل أن يروه في معركة القتل فظنوا أنه ميت، أو طعن فلم يتبين لهم أن به حياة، أو شهدوا على شهادة غيرهم، فهذا ترد إليه زوجته وليس له من متاعه إلا ما وجده لم يبع، وما بيع فهو أحق به بالثمن إن وجده قائماً لم يتغير عن حاله.
قال ابن القاسم: والذي أراد مالك تغير البدن وليس له أخذ ذلك حتى يدفع الثمن إلى من ابتاعه، وما وجده قد فاتت عينه عند مبتاعه، أو تغير عن حاله في بدنه، أو فات بعتق، أو تدبير، أو كتابة، أو أمة تحمل من السيد، أو صغير يكبر، فإنما له الرجوع بالثمن على من باع ذلك كله، فإن لم تأت البينة بما تعذر به من شبهة دخلت عليهم، فذلك كتعمدهم للزور، فيأخذ متاعه حيث وجده إن شاء بالثمن الذي بيع به وترد إليه زوجته، وله أخذ ما أُعتق من عبد، أو كوتب، أو دُبر، أو صغير كبر، أو أمة اتخذت أم ولد، فيأخذها وقيمة ولدها من المبتاع يوم الحكم، كالمغصوبة يجدها بيد مشتر.
3594 - وإن أسلمت دنانير في طعام أو غيره، فاستحقت بيد المسلم إليه قبل أن تقبض ما سلمت فيه أو بعد [ذلك]، فالسلم تام وعليك مثلها، وكذلك الدراهم والفلوس، وكذلك في البيعالناجز.
ولو أسلمت عرضاً، أو حيواناً، أو رقيقاً، أو شيئاً مما يكال أو يوزن، من طعام أو عرض فيما يجوز أن تسلمه فيه، فاستحق ما دفعت، أو وجد به عيباً [يرده] به، فرده قبل أن تقبض ما أسلمت فيه أو بعد قبضه، فالسلم ينتقض.
وكذلك ينتقض البيع الناجز، وترد ما قبضت إن كان قائماً أو مثله إن كنت استهلكته.
ومن أسلف في طعام مضمون فلما قبضه استحق من يده، فإنه يرجع بمثله ولا ينتقض السلف.
3595 - ومن ابتاع طعاماً كيلاً أو وزناً فتلف قبل أن يقبضه، انتقض البيع، وليس على البائع أن يأتي بمثله.

3596 - ومن ابتاع سلعة على أن يهبه البائع، أو يتصدق عليه، فإن كان شيئاً معلوماً، جاز ذلك، فإن استحقت السلعة وفاتت الهبة فإن الثمن يفض على قيمتها من قيمة الهبة، فيرجع من الثمن بحصة السلعة.
3597 - ومن قال لرجل: أبيعك عبدي هذا بخمسة أثواب موصوفة إلى أجل، فالعبد رأس المال، ولو قال: أشتري منك عبدك هذا بعشرة أثواب [موصوفة] إلى أجل، فالعبد رأس المال، فإن استحق العبد بطل السلم.
3598 - ومن أسلم ثوباً في عشرة أرادب حنطة إلى أجل، وفي عشرة دراهم إلى أجل أبعد منه، جاز ذلك، فإن استحق نصف الثوب قبل أن يدفعه أو بعد، فالمسلم إليه يخير في رد باقي الثوب وينتقض السلم، أو التماسك بنصفه، ويلزمه نصف الطعام ونصف الدراهم، لأن من ابتاع عبداً أو ثوباً بثمن فاستحق نصف ذلك، خير المبتاع في رد باقيه أو يتماسك به ويرجع على البائع بنصف الثمن وإن كره.
3599 - ومن أسلم ثوبين في فرس موصوف، فاستحق أحدهما، فإن كان وجه الثوبين بطل السلم، وإن كان الأدنى رده ورجع بقيمته وثبت السلم، وهذا وما بيع يداً بيد سواء، ما يفسخ في بيع يد بيد يفسخ في السلم.
وما أسلمت فيه من الحيوان إلى أجل فقبضته، ثم استحق، فإنك ترجع بمثله في صفته التي شرطت، ولا تنظر زاد عندك أم نقص.
ومسألة من ابتاع إناء فضة بدراهم فاستحقت، مذكورة في كتاب الصرف، وفيه مسألة الخلخالين موعبة. والله الموفق.
* * *

(كتاب الشُّفْعة)
3600 - قال: وإذا كانت دار بين مسلم وذمي، فباع المسلم حصته من مسلم أو ذمي، فلشريكه الذمي الشفعة كما لو كان مسلماً، ولو كانت بين ذميين فباع أحدهما، لم أقض بالشفعة بينهما إلا أن يتحاكما إلينا.(1)
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/453)، ومواهب الجليل (5/311)، والتاج والإكليل (5/310).

3601 - ومن هلك وترك ثلاثة بنين: اثنان شقيقان والآخر لأب، وترك بينهم داراً، فباع أحد الشقيقين حصته قبل القسم فالشفعة بين الشقيقين والأخ للأب سواء، إذ بالبنوة ورثوا، ولا ينظر إلى الأقعد بالبائع.
ولو ولد لأحدهم أولاد ثم مات، فباع بعض ولده حصته، فبقية ولده أشفع من أعمامهم، لأنهم أهل مورث ثان، فإن سلّموا فالشفعة لأعمامهم. وإن باع أحد الأعمام، فالشفعة لبقية الأعمام مع بني أخيهم لدخولهم مدخل أبيهم.
وإن ترك ابنتين وعصبة، فباعت إحدى الابنتين، فأختها أحق من العصبة، لأنهما أهل سهم واحد، فإن سلّمت فالعصبة أحق ممن شركهم بملك.
ولو باع أحد العصبة فالشفعة لبقية العصبة والبنات، وكذلك الأخوات مع البنات [حكمهن] حكم العصبة، لأن العصبة ليس لهم فرائض مسماة.
ولو ترك داراً بينه وبين رجل وورثته عصبة فباع أحدهم حصته قبل القسمة، فبقيتهم أحق بالشفعة من الشريك الأجنبي، لأنهم أهل مورثه، [فإن سلّموا فللشريك الآخذ].
33602 - وإن ترك أختاً شقيقة وأختين لأب، فأخذت الشقيقة النصف وأخذ الأختان للب السدس تكملة الثلثين، فباعت إحدى الأخوات للأب، فالشفعة بين الأخت الأخرى للأب وبين الشقيقة، إذ هن أهل سهم.
وإذا ورثت الجدتان السدس، فباعت إحداهما، فالشفعة [أيضاً] لصاحبتها دون ورثة الميت، لأنهما أهل سهم واحد.
ولا يرث عند مالك من الجدات أكثر من جدتين، وكذلك الإخوة للأم إذا ورثوا الثلث، فباع أحدهم حصته من الدار، فالشفعة لبقيتهم دون غيرهم من الورثة، لأنهم أهل سهم.
3603 - وإذا وجبت الشفعة للشركاء، قسمت بينهم على قدر أنصبائهم لا على عددهم.
وإذا اقتسم قوم داراً وتركوا الساحة لم يقتسموها، فباع أحدهم ما صار له من الدار، فلا شفعة بينهم، وإن كانت الساحة واسعة وأرادوا قسمتها ليحوز كل إنسان حصته إلى منزله فيرتفق به، فإن لم يكن ضرر، فلا بأس به.
ولا شفعة بالجوار والملاصقة في سكة أو غيرها، ولا بالشركة في الطريق.

ومن له طريق في دار رجل فبيعت الدار، فلا شفعة له فيها، ولا شفعة في شيء سوى الدور، والأرضين، والنخل، والشجر، وما يتصل بذلك من بناء أو ثمرة. ولا شفعة في دين، ولا حيوان، ولا سفن، ولا بز، ولا طعام، ولا عرض، ولا غيره مما ينقسم أو لا ينقسم.
3604 - وإذا بنى قوم في دار حبست عليهم ثم مات أحدهم فأراد أحد ورثته بيع نصيبه من البناء، فللآخرين فيه الشفعة، واستحسنه مالك وقال: ما سمعت فيه شيئاً.
3605 - ومن بنى في عرصة رجل بإذنه ثم أراد الخروج منها، فلرب العرصة أن يعطيه قيمة النقض أو يأمره بقلعه. وإن بنى رجلان في عرصة رجل بإذنه، ثم باع أحدهما حصته من النقض، فلرب الأرض أخذ ذلك النقض بالأقل من قيمته، أو من الثمن الذي باعه به، فإن أبى فللشريك الشفعة للضرر، والضرر أصل الشفعة.
هكذا يحلف: ما كان وقوفه تركاً لشفعته، وإذا جاوز السنة بما يعد به تاركاً، فلا شفعة له.
وإن كانت الدار بغير البلد الذي هما فيه، فهو كالحاضر مع الدار [الحاضرة] فيما تنقطع إليه الشفعة.(1)
ولا حجة للشفيع أنه لا ينقد حتى يقبضها، لجواز النقد في الرَّبع الغائب.
والغائب على شفعته وإن طالت غيبته وهو عالم بالشراء، وإن لم يعلم، فذلك أحرى ولو كان حاضراً.
3606 - ومن اشترى داراً وشفيعها حاضر، ثم سافر الشفيع بحدثان الشراء، فأقام سنين كثيرة ثم قدم فطلب الشفعة، فإن كان سفره يعلم أنه لا يؤوب منه إلا بعد أمد تنقطع في مثله شفعة الحاضر فجاوزه، فلا شفعة له، وإن كان سفراً يؤوب منه قبل ذلك فعاقبه أمر بعذر به فتخلف له، فهو على شفعته ويحلف بالله ما كان تاركاً لشفعته، أشهد عند خروجه أنه على شفعته أم لا.
وإذا اكترى الشفيع الشقص من المبتاع، أو ساومه ليشتريه، أو ساقاه في النخل فذلك قطع للشفعة.
3607 - وإذا اختلف الشفيع والمبتاع في الثمن، صدق المبتاع، لأنه مدعىّ عليه، إلا أن
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/323).

3608 - وللصغير الشفعة يقوم بها أبوه أو وصيه، فإن لم يكونا فالإمام ينظر له.
ولو كان له جد لم يأخذه له، ولكن يرفع ذلك إلى الإمام، وإن لم يكن له أب ولا وصي وهو بموضع لا سلطان فيه، فهو على شفعته إذا بلغ.
ولو سلّم من ذكرنا من أب أو وصي أو سلطان شفعة الصبي، لزمه ذلك، ولا قيام له إن كبر.
فإن كان له أب، فلم يأخذ له بالشفعة ولم يترك، حتى بلغ الصبي، وقد مضى لذلك عشر سنين، فلا شفعة للصبي، لأن والده بمنزلته، ألا ترى أن الصغير لو بلغ فترك أخذ شفعته عشر سنين، كان ذلك قطعاً لشفعته.
3609 - قال مالك - رحمه الله - : والشفيع على شفعته حتى يترك، أو يأتي من طول الزمان ما يُعلم أنه تارك لشفعته، وإذا علم بالاشتراء، فلم يطلب شفعته سنة، فلا يقطع ذلك شفعته، وإن كان قد كتب شهادته في الاشتراء، ولم ير مالك التسعة الأشهر ولا السنة بكثير، إلا أنه إذا تباعد يأتي بما لا يشبه مما لا يتغابن الناس بمثله، فلا يصدق إلا أن يكون مثل هؤلاء الملوك يرغب أحدهم في الدار اللاصقة بداره فيثمنه، فالقول قوله إذا أتى بما يشبه، وإن أقاما بينة وتكافأت في العدالة كانا كمن لا بينة لهما ويصدق المبتاع، لأن الدار في يده، وعهدة الشفيع على المبتاع خاصة، وإليه يدفع الثمن، كان بائعه قد قبض الثمن أم لا.
ولو غاب المبتاع قبل أن ينقد الثمن ولم يقبض الدار، نظر الإمام في ذلك.
وللبائع له منه الشقص حتى يقبض الثمن، فإن شاء الشفيع أن ينقده [الثمن]، فذلك له، ويقبض الشقص وعهدته على المبتاع، لأنه عنه أدى.

وإن كان على مبتاع الشقص دين، فلم يقبض الشقص ولا دفع الثمن حتى قام غرماؤه وقام الشفيع، قيل للشفيع: ادفع الثمن إلى البائع قضاء عن المبتاع واقبض الدار ولا شيء للغرماء، لأن للبائع منع الشقص حتى يقبض الثمن، ولأن الشفيع لو سلمها بيعت الدار، فأعطى البائع الثمن الذي باع به، وكان أحق به الغرماء، إلا أن يقوم غرماء المبتاع فيفلسوه، فيكون البائع أولى بداره، إلا أن يضمن له الغرماء الثمن، ويقضى للشفيع بالشفعة في غيبة المبتاع كالقضاء عليه به حاضراً، ويكون على حجته.
3610 - ومن ابتاع شقصاً بثمن إلى أجل، فللشفيع أخذه بالثمن إلى ذلك الأجل إن كان ملياً أو أتى بضامن ثقة مليء.
وإن قال البائع للمبتاع: أنا أرضى أن يكون مالي على الشفيع إلى الأجل، لم يجز، لأنه فسخ ما لم يحل من دينه، في شيء [لم يتعجله، فصار ديناً في دين].
وإن عجل الشفيع الثمن، فللمبتاع قبضه، ثم ليس عليه أن يعجله للبائع، وليس للبائع أن يمنعه من قبض الدار.
3611 - ومن ابتاع شقصاً من دار لها شفيعان، فسلم أحدهما، فليس للآخر أن يأخذ بقدر حصته إذا أبى عليه المبتاع، فإما أخذ الجميع أو ترك، وإن شاء هذا القائم أخذ الجميع، فليس للمبتاع أن يقول: لا تأخذ إلا بقدر حصتك.
3612 - ومن ابتاع شقصاً من دارين في صفقة واحدة، وشفيع كل دار على حدة فسلم أحدهما، فللآخر أن يأخذ شفعته في التي هو شفيعها دون الأخرى.
ولو اشترى ثلاثة أشقاص من دار، أو من دور في بلد، أو في بلدان من رجل، أو رجال وذلك في صفقة واحدة وشفيع ذلك كله واحد، فليس له أن يأخذ [إلا] الجميع أو يسلم.
وكذلك إن اشترى من أحدهم حصته في نخل، ومن آخر حصته في قرية، ومن آخر في دار، في صفقة واحدة، أو كان بائع ذلك كله واحد، أو شفيع ذلك كله واحد، فإما أخذ الجميع أو سلم.
ولو ابتاع ثلاثة ما ذكرنا من واحد، أو من ثلاثة في صفقة، والشفيع واحد، فليس له أن يأخذ من أحدهم دون الآخر، وليأخذ الجميع أو ليدع.

3613 - ومن اشترى حظ ثلاثة رجال من دار في ثلاث صفقات، فللشفيع أن يأخذ ذلك [أو] يأخذ أي صفقة شاء، فإن أخذ الأولى، لم يستشفع معه فيها المبتاع، وإن أخذ الثانية، كان للمبتاع معه الشفعة فيها بقدر صفقته الأولى فقط، وإن أخذ الثالثة خاصة، شفع فيها بالأولى والثانية.
3614 - ومن ابتاع شقصاً هو شفيعه مع شفيع آخر، تحاصّا فيه بقدر حصتيهما، يضرب فيه المبتاع بقدر نصيبه من الدار قبل الشراء، ولا يضرب ما اشترى.
ومن ابتاع شقصاً من دار لها شفعاء غُيَّب إلا واحد حاضر فأراد أخذ الجميع، فمنعه المبتاع أخذ حظوظ الغياب، أو قال له المبتاع: خذ الجميع، وقال الشفيع: لا آخذ إلا حصتي، فإنما للشفيع في الوجهين أن يأخذ الجميع أو يترك، وإن قال: أنا آخذ حصتي فإذا قدم أصحابي فإن أخذوا شفعتهم وإلا أخذت، لم يكن ذلك له، إما أن يأخذ الجميع أو يدع، [فإن سلم، فلا أخذ له مع أصحابه إن قدموا، ولهم أن يأخذوا الجميع أو يدعوا]، فإن سلموا إلا واحداً قيل له: خذ الجميع أو دع.
ولو أخذ الحاضر الجميع ثم قدموا، فلهم أن يدخلوا معه كلهم إن أحبوا فيأخذوا بقدر ما كان لهم من شفعتهم، وإن أخذ بعضهم وأبى البعض لم يكن للآخذ أن يأخذ بقدر حصته فقط، ولكن يساوي الآخذ قبله فيما أخذ أو يدع.
3615 - ومن ابتاع شقصاً من دار وعرضاً في صفقة واحدة بثمن، فالشفعة في الشقص خاصة بحصته من الثمن، بقيمته من قيمة العرض يوم الصفقة، تغيرت الدار بسكنى أو لم تتغير، وليس للشفيع أخذ العرض ولا ذلك عليه إن أباه.
3616 - وإذا أُخبر الشفيع بالثمن فسلم، ثم ظهر أن الثمن دون ذلك، فله الأخذ بالشفعة، ويحلف ما سلم إلا لكثرة الثمن.
وإن قيل له: قد ابتاع فلان نصف نصيب شريكك، [فسلم]، ثم ظهر أنه ابتاع جميع النصيب، فله القيام أيضاً بشفعته، فإن قيل له: ابتاعه فلان فسلم، ثم ظهر أنه ابتاعه مع آخر، فله القيام [أيضاً بشفعته] وأخذ حصتهما.

3617 - وإن قال الشفيع بعد الشراء: اشهدوا أني أخذت بشفعتي، ثم رجع فإن علم بالثمن قبل الأخذ لزمه، وإن لم يعلم به، فله أن يرجع، وإذا سلم الشفيع الشفعة بعد البيع، فلا قيام له.
ولو قال للمبتاع قبل الشراء: اشتر فقد سلمت لك الشفعة، وأشهد بذلك، فله القيام بعد الشراء، لأنه سلم ما لم يجب له بعد.
وإن سلم بعد الشراء على مال أخذه، جاز، وإن كان قبل الشراء، بطل وردّ المال وكان على شفعته.
3618 - وإن قال البائع: بعت الشقص بمائتين، وقال المبتاع: بمائة، وقال الشفيع: بخمسين، أو لم يدع شيئاً، فإن لم تفت الدار بطول زمان [أو تغير أسواق]، أو تهدُّم الدار، أو تغير المساكن، أو بيع أو هبة ونحوه وهي بيد المبتاع أو البائع، فالقول قول البائع، ويترادان بعد التحالف، ثم ليس للشفيع أن يقول: إنما آخذها بمائتين، ولا يردوا البيع.
ولا شفعة حتى يتم البيع فتصير العهدة على المبتاع، وههنا هي على البائع.
وإن تغيرت الدار بما ذكرنا وهي بيد المبتاع، صدق مع يمينه وأخذها الشفيع بذلك.
ولا شفعة في هبة الثواب إلا بعد العوض، وإنما جازت [الهبة] على غير عوض مسمى، لأنه على وجه التفويض في النكاح.(1)
وفي القياس لا ينبغي أن يجوز، ولكن قد أجازه الناس.
3619 - ومن اشترى شقصاً بألف درهم، ثم وضع عنه البائع تسع مائة [درهم] بعد أخذ الشفيع أو قبل، نظر، فإن أشبه أن يكون ثمن الشقص عند الناس مائة درهم إذا تغابنوا بينهم أو اشتروا بغير تغابن، وضع ذلك عن الشفيع، لأن ما أزهرا من الثمن الأول إنما كان سبباً لقطع الشفعة، وإن لم يشبه ثمنه أن يكون مائة، لم يحط الشفيع شيئاً وكانت الوضيعة هبة للمبتاع.
وقال في موضع آخر: إن حط عن المبتاع ما يشبه أن يحط في البيوع، وضع ذلك عن الشفيع، وإن كان مما لا يحط مثله، فهي هبة، ولا يحط للشفيع شيء.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/315).

3620 - ومن ابتاع شقصاً من دار له شفيع غائب، فقاسم شريكه، ثم جاء الشفيع، فله نقض القسم وأخذه، إذ لو باعه المشتري كان للشفيع رد بيعه، ولو بنى فيه المشتري بعد القسم مسجداً، فللشفيع أخذه وهدم المسجد.
3621 - ولو وهب المبتاع ما اشترى من الدار أو تصدق [به] كان للشفيع إذا قدم نقض ذلك وأخذه والثمن للموهوب [له] أو المتصدق عليه، لأن الواهب علم أن له شفيعاً، فكأنه وهبه الثمن، ومن ابتاع شقصاً ثم باعه، فتداولته الأملاك فللشفيع أخذه بأي صفقة شاء، وينتقض ما بعدها، وإن شاء أخذه بالبيع الآخر، وثبتت البيوع كلها.
وكذلك إن بيع الشقص على المبتاع في دين لغرمائه، في حياته أو بعد وفاته، فللشفيع الأخذ بالبيع الأول وينقض الثاني، [وإن شاء أخذ بالثاني].
3622 - وإذا زاد المبتاع البائع في الثمن بعد البيع، فللشفيع الأخذ بالثمن الأول، لأنه بيع قد وجب.
ولو أقال منه فالشفعة للشفيع وتبطل الإقالة، وليس له أخذه بعهدة الإقالة، والإقالة عند مالك: بيع حادث في كل شيء إلا في هذا، فإن سلّم الشفيع صحت الإقالة.
3623 - وإن اشترت المرأة شقصاً فخالعت به، فإن شاء الشفيع أخذه وتكون عهدته على الزوجة، فليأخذه بالثمن الذي اشترته به، وإن شاء كانت عهدته على الزوج، فليأخذه منه بقيمته يوم الخلع، فإن أخذه من الزوجة بالثمن رجع عليها الزوج بقيمته يوم الخلع.
ومن اشترى شقصاً فنكح به فمثل هذا سواء، يكون الزوج في النكاح كالزوجة في الخلع.
3624 - ومن قام بالشفعة ولم يحضره الثمن، تلوم له [اليوم و]اليومين والثلاثة.
وإن أخذ بالشفعة ثم لم يقبض الشقص حتى انهدمت الدار، فضمان الشقص من الشفيع.
وكذلك في البيوع ما أصاب الدار بعد الصفقة، فمن المشتري.
3625 - ولك أن توكل بأخذ الشفعة غبت أو حضرت، ولا يلزمك تسليم الوكيل إلا أن تفوض إليه في الأخذ أو الترك.

ولو أقر الوكيل أنك سلمتها، فهو كشاهد يحلف معه المبتاع، فإن نكل حلفت أنت وأخذت، وإن أقام الوكيل بينة أن فلاناً الغائب وكّله على طلب شفعته في هذه الدار، مُكِّن من ذلك.
3626 - ومن اشترى شقصاً من دار لرجل غائب، كان للشفيع أن يأخذ بالشفعة، ولا يضمن المبتاع للشفيع ما حدث عنده في الشقص من هدم، أو حرق، أو غرق، أو ما غار من عين أو بئر.
ولا يحط الشفيع لذلك من الثمن شيئاً، فإما أخذ بجميع الثمن أو ترك.
وكذلك لو هدم المبتاع البناء ليبنيه أو ليتوسع فيه، فإما أخذ ذلك الشفيع مهدوماً مع نقضه بجميع الثمن أو ترك.
3627 - ولو هدم المبتاع ثم بنى قيل للشفيع: خذ بجميع الثمن وقيمة ما عمّر فيها، وإلا فلا شفعة لك.
3628 - ومن اشترى داراً فهدمها وباع النقض، ثم استحق رجل نصفها وقد فات النقض عند مبتاعه، فإن أبى المستحق أن يجيز البيع في نصيبه من الدار، أخذ نصفها ونصف ثمن القض باستحقاقه، ثم إن شاء أخذ بقيتها بشفعته، فإن أخذه قسم ثمن نصف الدار [باستحقاقه الدار] على قيمة نصف الأرض، وقيمة نصف النقض يوم الصفقة، ثم أخذ نصف الأرض بما ينوبها ولا ينظر إلى ثمن ما باع منه.(1)
وأما ما قابل ذلك [من النقض]، فلا شفعة فيه لفواته وثمن ذلك للمبتاع.
ولو وجد المستحق النقض لم يبع، أو وجده قد بيع وهو حاضر عند مبتاعه لم يفت، فله أخذ نصفه ونصف العرصة بالاستحقاق وباقيها بالشفعة، ولا يضمن المبتاع في الوجهين لهدمه شيئاً، فإن أبى أن يأخذ ما استحق من الدار مهدوماً، قيل له: فارجع على البائع بالثمن الذي باع به حصتك إن أحببت.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (4/437).

3628 - ولو هدم الدار أجنبي تعدياً وأتلف النقض، فلم يقم عليه المبتاع حتى قام المستحق فاستشفع، فله الشفعة فيما بقي بحصته بالتقويم ثم يقضي الثمن على قيمة ما هدم وما بقي، فيأخذ ذلك بحصته من الثمن، ثم يتبع المشتري الهادم بنصف قيمة ما هدم، فكان له، وكان بمنزلة ما باع، ويتبعه المستحق بمثل ذلك.
ولو كان المبتاع قد ترك للهادم قيمة ما هدم، فللمستحق طلب الهادم بنصف قيمة ذلك من النصف المستحق، وتسقط عنه حصة المبتاع.
وإن كان الهادم عديماً أتبعه المستحق دون المبتاع، ومن اشترى داراً فوهبها لرجل فهدمها، أو وهب نصفها لرجل فهدمها، ثم استحق رجل نصفها، فلا شيء على الهادم فيما هدم، وهو كالمشتري، ولو وهب الدار مبتاعها لرجل، ثم استحق رجل نصفها وأخذ باقيها فالشفعة بثمن النصف المستشفع للواهب، بخلاف من وهب شقصاً ابتاعه وهو يعلم أن به شفيعاً فهذا ثمنه للموهوب إذا أخذه الشفيع.
3629 - ومن وهب لرجل أمة فاستحقت بحرية أو أنها مسروقة، فما رجع به من ثمنها فللواهب أو لورثته دون الموهوب.
* * *

(كتاب الوصايا)
3630 - وإذا شهد ولدان للميت أن أباهما أعتق هذا العبد، وشهد أجنبيان أنه أوصى بالثلث لرجل، والعبد هو الثلث، فإن كان عبداً يتهمان في جر ولائه، لم تجز شهادتهما وجازت الشهادة بالوصية، وإن لم يتهما، فهي جائزة، وهذا كشهادتهما بذلك ومعهما من الورثة نساء، فما يتهمان فيه مع النساء يتهمان فيه مع الموصى له.
[ابن القاسم:] ومن قال في وصيته: يخدم عبدي فلاناً سنة ثم هو حر، ولم يدع سواه، فإن لم يجز الورثة، بُدئ بالعتق، فعتق ثلث العبد بتلاً وتسقط الخدمة.
[قال سحنون: وعلى هذا أكثر الرواة].

3631 - ويفسخ البيع الفاسد في الدور وغيرها إذا لم يفت، ولا شفعة فيه، ولو علم به بعد أخذ الشفيع [بالشفعة] فسخ بيع الشفعة والبيع الأول، لأن الشفيع دخل مدخل المشتري، وكذلك لو باعها المبتاع من غيره بيعاً فاسداً لرد البيع الأول والآخر جميعاً إلا أن يفوت، وتجب في ذلك القيمة فلا يرد.
وإذا لم يفسخ البيع الأول حتى فات ولزمت المبتاع قيمته يوم قبضه، ففيه حينئذ الشفعة بتلك القيمة.
ويفيت الرَّبع في البيع الفاسد، الهدم والبناء والغرس وبناء البيوت أو عطب الغرس، وليس تغير سوق الرباع فوتاً، ولا أعرف أن تغير البناء فوت أو طول المدة السنتين والثلاثة.
وإذا فاتت الدار ببنيان زاده المبتاع فيها، لم يأخذها الشفيع حتى يدفع إلى المبتاع قيمة ما أنفق مع القيمة التي لزمته، وإن انهدمت الدار لم ينقص الشفيع الهدم شيئاً وقيل له: خذها بجميع القيمة التي لزمت [المبتاع] أو دع.
وإن باعها المشتري من غيره بيعاً صحيحاً فذلك فوت أيضاً، وللشفيع الأخذ بثمن البيع الصحيح ويتراد الأولان القيمة.
وكذلك من ابتاع شيئاً من جميع الأشياء بيعاً فاسداً، ثم باعه بيعاً صحيحاً قبل أن يفوت عنده، نفذ البيع الثاني، ويتراد الأولان القيمة.
قال: وليس للشفيع الأخذ بالبيع الأول الفاسد، لأنا نُزيل البيع الذي أفاته، ويعود بيعاً فاسداً لا فوت فيه، وهذا إذا لم يفت ببناء أو هدم، فأما إن فاتت بذلك فليأخذ الشفيع إن شاء بالثمن الصحيح أو بالقيمة في الفاسد، وإن لم يفت بهذا إلا أن المتبايعين يترادان القيمة بعد البيع الثاني، فللشفيع أن يأخذ بأي ذلك شاء لتمام البيع بأخذ القيمة، ترادّاها بقضية أو بغير قضية، لأن مبتاع الصحة لو ردّ ذلك بعيب وجده بعد أن تراد الأولان القيمة، لم يكن له الرد بالعيب، ويأخذ القيمة التي دفع.
وقد قال مالك في المكتري يتعدى الموضع فيتلف الدابة فيغرم القيمة ثم توجد بحالها، فليس لربها أخذها، لأنه قد أخذ قيمتها.

3632 - ولا تجوز التولية في البيع الفاسد وترد، لأن المبتاع إن كان ابتاع على أن أسلف فقد دخل الثاني مدخله.
ولو قال له: هذه السلعة قامت عليّ بمائة دينار وأنا أبيعكها بذلك، كان كاذباً، لأنه إن كان اشتراها بمائة [دينار] على أن أسلفه عشرة دنانير، وقيمة السلعة خمسون ديناراً، فلم تقم عليه بمائة، ويخير المبتاع في أخذ السلعة بمائة أو ردها. فإن فاتت بيده قبل أن يختار، لزمه الأقل من قيمتها أو من المائة.
3633 - ومن ابتاع شقصاً فيه فضل فقام غرماؤه في فَلَسه أو موته، فللشفيع إن قام أخذ الشقص دونهم.
وإن ترك من أحاط الدين بماله القيام بشفعته، فليس لغرمائه أخذها ولا أن يجبروه على أخذها، وذلك إليه أخذ أو سلم.
3634 - ولا يجوز للشفيع أن يعطيه أجنبي مالاً، على أن يقوم الشفيع بشفعته ويربحه ذلك المال.
ولا يجوز بيع الشقص قبل أخذه إياه بشفعته، ولا يجوز له أن يأخذ شفعته لغيره.(1)
ومن وكل رجلاً يبيع له شقصاً أو يشتريه له والوكيل شفيعه، ففعل، لم يقطع ذلك شفعته، وإذا كانت دار بيد أحد رجلين، فأقام كل واحد منهما بينة أنه ابتاعها من الآخر، قضيت بأعدلهما، فإن تكافأتا، بقيت الدار لمن هي في يديه.
3635 - ومن ابتاع داراً وأخذ من البائع كفيلاً بما أدركه من درك، فبنى في الدار، ثم استحقت، لم يلزم الكفيل من قيمة البناء شيء، ولكن يقال للمستحق: ادفع إلى المبتاع قيمة ما بنى أو خذ قيمة دارك، فإن دفع ذلك وأخذ الدار، رجع المبتاع بالثمن على البائع، فإن كان غائباً أو عديماً، رجع به على الحميل.
3636 - ومن ابتاع شقصاً من دار بعبد بعينه، فمات بيده قبل دفعه، فمصيبته من البائع، وللشفيع الأخذ بقيمة العبد، وعهدته على المبتاع، لأن الشفعة وجبت له بعقد البيع.
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/479)، والتاج والإكليل (5/331)، والمدونة الكبرى (14/407).

3637 - وإن أخذ الشفيع بقيمة العبد، ثم وجد بائع الشقص بالعبد عيباً، فله رده ويأخذ من المبتاع قيمة الشقص وقد مضى الشقص للشفيع بشفعته، بخلاف البيع الفاسد الذي تبطل فيه الشفعة في ذلك، لأن البيع فسد بعيبه، وفي العيب لو رضيه البائع لزمه، فإن استحق العبد قبل قيام الشفيع، بطل البيع ولا شفعة في ذلك.
فإن استحق [العبد] بعد أن أخذ الشفيع، فقد مضت الدار للشفيع، ويرجع بائع الشقص على مبتاعه بقيمة الشقص كاملاً، كان ذلك أكثر مما أخذ [فيه] من الشفيع أو أقل، ثم لا تراجع بينه وبين الشفيع، إذ الشفعة كبيع ثانٍ.
3638 - ومن ابتاع شقصاً بحنطة بعينها، فاستحقت الحنطة قبل أخذ الشفيع، فسخ البيع، ولا شفعة في ذلك.
وكذلك إن ابتاع الحنطة بثمن فاستحقت، بطل البيع ويرجع بالثمن، وليس على البائع أن يأتي بمثلها.
3639 - ومن ابتاع شقصاً من دار بعرض، فاختلف المبتاع مع الشفيع في قيمته، وقد فات في يد البائع أو لم يفت، فإنما ينظر إلى قيمته يوم الصفقة لا اليوم، فإن كان مستهلكاً صُدّق المبتاع في قيمته مع يمينه، فإن جاء بما لا يشبه، صدق الشفيع فيما يشبه، فإن جاء بما لا يشبه، وصفه المبتاع وحلف على صفته، وأخذ الشفيع بقيمة تلك الصفة يوم الصفقة أو ترك، فإن نكل المبتاع حلف الشفيع على ما يصف هو، وأخذ بقيمة صفته.
وإذا أنكر المشتري الشراء وادعاه البائع تحالفا وتفاسخا، وليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة بإقرار البائع، لأن عهدته على المشتري، فإذا لم يثبت للمشتري شراء، فلا شفعة للشفيع.
3640 - ومن باع عبداً قيمته ألف درهم، بألف درهم وبشقص قيمته ألف درهم، ففي الشقص الشفعة بنصف قيمة العبد، وذلك خمسمائة.
3641 - ومن كان بينه وبين رجل عرض مما لا ينقسم، فأراد بيع حصته، قيل لشريكه: بِعْ معه أو خذها بما يعطى، فإن رضي فباع حصته مشاعة، فلا شفعة لشريكه.

3642 - وإن كانت بينهما أرض ونخل ولها عين، فاقتسما الأرض والنخل خاصة، ثم باع أحدهما نصيبه من العين، فلا شفعة فيه، وهو الذي جاء فيه ما جاء: “لا شفعة في بئر”.(1)
وإن لم يقتسموا ولكن باع أحدهم حصته من العين، أو البئر خاصة، أو باع حظه من الأرض والعين جميعاً، ففي ذلك الشفعة، ويقسم شرب العين بالقِلد، وهو القدر.
وإن كان بينهما أرض ونخل فاقتسما النخل خاصة، فلا شفعة لأحدهما فيما باع الآخر من النخل، [لأن ما قسم عند مالك، فلا شفعة فيه].
3643 - ومن باع نخلة في جنان رجل، فلا شفعة لرب الجنان فيها.
ومن اشترى شقصاً من أرض فزرعها، فللشفيع أخذها بالشفعة ولا كراء له، والزرع للزارعز
ولو غرسها المبتاع شجراً أو نخلاً، فإما أدى الشفيع قيمة ذلك قائماً مع ثمن الأرض، وإلا فلا شفعة له.
3644 - ومن ابتاع أرضاً فزرعها، ثم استحقها رجل، فلا شيء له في الزرع ولا كراء له، إلا أن يقوم في إبان الزراعة على ما [وصفنا]، فيكون له كراء مثلها، وإن استحق نصف الأرض خاصة واستشفع، فله كراء ما استحق إن قام في إبان الزراعة على ما وصفنا، ولا كراء له فيما استشفع.
ومن ابتاع أرضاً بزرعها الأخضر، فاستحق رجل نصف الأرض [خاصة] واستشفع، فالبيع في النصف المستحق باطل، ويبطل في نصف الزرع خاصة، لانفراده بالأرض، [لأنه صار بيع الزرع قبل بدو صلاحه]، ويرد البائع نصف الثمن، ويصير له نصف الزرع وللمستحق نصف الأرض، ثم يبتدئ الشفيع بالخيار في نصف الأرض الباقي، فإن أحب، أخذه بالشفعة، ولم يكن له في نصف الزرع شفعة.
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (4/454، 520)، وعبد الرزاق في المصنف (8/88)، والبيهقي في الكبرى (6/105)، وانظر: بداية المجتهد (2/194)، والتحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (2/217)، والمحلي (9/83)، والمدونة الكبرى (14/424)، والفواكه الدواني (2/151)، والتاج والإكليل (5/319).

[قال ابن القاسم:] فإن لم يستشفع خُيّر المبتاع بين رد ما بقي في يديه من الصفقة وأخذ جميع الثمن، لأنه قد استحق من صفقته ما له بال وعليه فيه الضرر، وبين أن يتماسك بنصف الأرض ونصف الزرع، ويرجع بنصف الثمن.
3645 - ومن ابتاع أرضاً ذات زرع أخضر دون زرعها، ثم ابتاع الزرع في صفقة أخرى، أو ابتاع الجميع في صفقة ثم استحق رجل جميع الأرض خاصة، بطل البيع في الزرع لانفراده، وإنما أجيز بيعه أخضر مع أرضه في صفقة [واحدة]، أو ابتياعه بعد ابتياعه الأرض، فيبقيه فيها ويحل محل البائع، ثم له بيع الأرض دون الزرع، ولا يبطل البيع في الزرع، لأن شراءه الأرض لم ينتقض، وفي الاستحقاق قد انتقض.
وإذا كان بين قوم ثمر في شجرة قد أزهى، فباع أحدهم حصته منه قبل قسمته، والأصل لهم أو بأيديهم في مساقاة أو حبس، فاستحسن مالك لشركائه فيه الشفعة ما لم ييبس قبل قيام الشفيع، أو تباع وهي يابسة، وقال: ما علمت أن أحداً قاله قبلي.
وأما الزرع يبيع أحدهم حصته منه بعد يبسه فلا شفعة فيه، وهذا لا يباع حتى ييبس.
وكل ما بيع من سائر الثمار قبل يبسه مما فيه الشفعة، مثل التمر والعنب مما ييبس في شجره، فبيع بعد اليبس في شجره، فلا شفعة فيه كالزرع، كما لا جائحة فيه حينئذ ولا في زرع.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8