التهذيب في اختصار المدونة
المؤلف : أبي سعيد خلف بن أبي القاسم القيرواني

ومن ابتاع نخلاً لا تمر فيها، أو فيها تمر لم يؤبر، ثم استحق رجل نصفها واستشفع، فإن قام [المستحق] يوم البيع أخذ النصف بملكه والنصف بشفعته، بنصف الثمن، ورجع المبتاع على بائعه بنصف الثمن، وإن لم يقم حتى عمل فيها المبتاع، فأبرت وفيها الآن بلح أو فهيا ثمرة قد أزهت، ولم تيبس، فكما ذكرنا ويأخذ الأصل بثمره، و[يكون] عليه للمبتاع [قدر] قيمة ما سقى وعالج، فيما استحق واستشفع، وإن لم يستشفع، فذلك عليه يما استحق فقط، فإن أبى أن يغرم ذلك فيما استحق، فليس له أخذه وليرجع بالثمن إن شاء على البائع ويجيز البيع، فإن قام بعد يبس الثمرة أو جذاذها لم يكن له في الثمرة شفعة، وله أن يأخذ نصف الأصول بالشفعة بنصف الثمن، ولا يحط عنه للثمر شيء، إذ لم يقع عليها من الثمن يوم البيع حصة.
وقال بعض المدنيين: إذا قام الشفيع وقد أبرت النخل، فهي للمبتاع دونه، وأباه مالك وقال: وإذا ابتاع النخل والثمرة مأبورة أو مزهية فاشترطها، ثم استحق رجل نصفها واستشفع، فله نصف النخل ونصف الثمرة باستحقاقه، [يريد في هذا: وإن جزت].
[قال ابن القاسم:] وعليه للمبتاع في ذلك قيمة ما سقى وعالج، ويرجع المبتاع بنصف الثمن على بائعه، فإن شاء المستحق الشفعة في النصف الباقي، فذلك له ويكون له أخذ الثمرة بالشفعة مع الأصل ما لم تجذ أو تيبس، ويغرم قيمة العلاج أيضاً.
وإن قام بعد اليبس أو الجذاذ، فلا شفعة له في الثمرة، كما لو بيعت حينئذ، ويأخذ الأصل بالشفعة بحصته من الثمن بقيمته من قيمة الثمرة يوم الصفقة، لأن الثمرة وقع لها حصة من الثمن.
3646 - وأما من ابتاع نخلاً لا ثمر فيها، أو فيها ثمر قد أبر أو لم يؤبر، ثم فلس وفي النخل ثمرة قد حل بيعها، فالبائع أحق بالأصل والثمرة ما لم تجذ، إلا أن يعطيه الغرماء الثمن [بخلاف البيع.

3647 - ومن ابتاع أرضاً بزرعها الأخضر ثم قام شفيع بعد طيبه، فإنما له الشفعة في الأرض] دون الزرع بما ينوبها من الثمن بقيمتها من قيمة الزرع على غرره يوم الصفقة، لأن الزرع وقعت له حصة من الثمن في الصفقة، وليس كنخل بيعت وفيها ثمر لم يؤبر، ثم قام شفيع بعد يبس الثمرة، هذا لا شيء له من الثمرة، ولا ينقص لذلك من الثمن شيء، لأن الثمرة لم يقع لها حصة من الثمن، ولأن النخل إذا بيعت وفيها طلع لم يؤبر فاستثناه البائع، لم يجز استثناؤه، والأرض إذا بيعت وفيها زرع لم يبد صلاحه، كان الزرع للبائع فافترقا.
ولو كانت الثمرة يوم البيع مأبورة وقام بعد يبسها لسقط عنه حصاصها من الثمن، فظهور الزرع من الأرض كإبار الثمرة في النخل في هذا، وفي أن ذلك للبائع إلا أن يشترطه المبتاع، فيصير له بالاشتراط حصة من الثمن، ولم يكن للشفيع في الزرع شفعة، لأنه غير ولادة، وليس له منه شيء، والثمرة ولادة وللشفيع نصفها، فإذا قام قبل يبسها كانت له الشفعة.
ومن ابتاع نخلاً لا ثمر فيها فاغتلها سنين، فلا شيء للشفيع إن قام من الغلة، ومن ابتاع ودياً صغاراً، ثم قام شفيع بعد أن صارت بواسق، فإنه يأخذها ويدفع إلى المبتاع قيمة ما عمل.
وفي كتاب المرابحة مسألة من ابتاع نخلاً فاغتلها، هل تباع مرابحة [أم لا]؟.
3648 - وليس في رحا الماء شفعة، وليست من البناء، وهي كحجر ملقى، ولو بيعت معها الأرض أو البيت التي نصبت فيه ففيهما الشفعة دون الرحا بحصة ذلك، وسواء أجراها الماء أو الدواب. وفي الحمام الشفعة.(1)
ولا شفعة في بئر لا بياض لها، ولا نخل لها وإن سُقي بها زرع أو نخل، والنهر والعين مثلها، ولو أن لها أرضاً أو نخلاً لم تقسم، فباع [أحدهما] حصته من البئر أو العين خاصة، ففيه الشفعة، بخلاف بيعه [لمشاع] البئر بعد قسم الأصول أو الأرض.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (4/424)، والفواكه الدواني (2/151)، والتاج والإكليل (5/320).

3650 - ولا بأس بشراء شرب يوم، أو شهر، أو شهرين، يسقي به زرعه في أرضه دون شراء [أصل] العين.
قال مالك - رحمه الله - : فإن غار الماء فنقص قدر ثلث الشرب الذي ابتاع، وضع عنه كجوائح الثمار.
قال ابن القاسم: وأنا أرى أنه مثل ما أصاب الثمرة من قبل الماء فإنه، يوضع عنه إن نقص شربه ما عليه فيه ضرر بين، وإن كان أقل من الثلث، إلا ما قل مما لا خطب له، فلا يوضع لذلك شيء.
ومن ابتاع أرضاً ولم يذكر شجرها، فهي داخلة في البيع كبناء الدار، إلا أن يقول البائع: أبيعك الأرض بلا شجر، وأما إن كان فيها زرع، فهو للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.
ولو تصدق بالشجر ولم يذكر الأرض، أو تصدق بالأرض ولم يذكر الشجر كانت الأرض داخلة مع الشجر في الصدقة.
ومن ابتاع أرضاً بعبد فاستحق نصف الأرض قبل تغير سوق العبد فله رد بقية الأرض وأخذ عبده، فإن شاء المستحق أن يأخذ بقيتها بالشفعة بنصف قيمة العبد فذلك له، وعهدته على المبتاع.
3651 - ومن ابتاع نخلاً ليقلعها ثم ابتاع الأرض فأقر النخل فيها، ثم استحق رجل نصف جميع ذلك، فله أ{ذ نصف النخل والأرض بنصف ثمنها، لا بالقيمة في أحدهما.
وليس للمبتاع حجة في النخل أنه ابتاعها للقلع، فإن لم يستشفع خير المبتاع بين التماسك بما بقي أو رده.
3652 - وقال في باب بعد هذا، فيمن اشترى عرصة [بشقص] من دار فيها بنيان، على أن النقض لرب الدار، ثم اشترى بعد ذلك النقض، أو اشترى التقض أولاً، ثم اشترى العرصة بعد ذلك، فقام شفيع، فله أخذ العرصة والنقض جميعاً بشفعته يأخذ العرصة بالثمن، والنقض بقيمته قائماً.
[قال ابن القاسم:] ومن ابتاع نقض شقص شائع من رجل أو حصته من نخل على أن يقلع ذلك المبتاع وشريك البائع غائب، لم يجز، إذ لا يقدر هذا البائع على القلع إلا بعد القسم، وإذ لو شاء البائع أن يقاسم شريكه النخل خاصة ليقلعها، لم يكن ذلك له إلا مع الأرض.

3653 - ومن ابتاع نقض دار قائماً على أن يقلعه، ثم استحق رجل نصف الدار، فللمبتاع رد بقية النقض، ولا شفعة فيه للمستحق، لأنه بيع على القلع، ولم يبع الأرض، وأما إن استحق جميع الأرض دون النقض، أو كانت نخلاً بيعت للقلع فاستحق رجل الأرض دون النخل، كان البيع تاماً في النقض والنخل، وكان للمستحق أخذ ذلك من المبتاع [بقيمته مقلوعاً لا بالثمن، لأنه ليس بمعنى الشفعة، ولكن للضرر، وليس للمبتاع أن يمنعه من ذلك،] لأنه في امتناعه من ذلك مضار، فإن أبى المستحق من أخذ ذلك بقيمته، قيل للمبتاع: اقلعه.
وكذلك من غرس في أرض اكتراها فانقضت المدة.
3654 - ومن بنى أو غرس في أرض يظنها له فاستحقت، فعلى المستحق في هذه قيمة ذلك قائماً للشبهة فإن أبى دفع إليه الذي عمر قيمة أرضه، فإن أبيا كانا شريكين على القيم بخلاف المكتري، لأنه غرس إلى مدة.
ومن ابتاع عبداً فوهبه لرجل ثم استحق، قيل للمستحق: إن شئت فاتبع البائع بالثمن، وإلا فاطلب العبد، فإن وجدته أخذته، ولا شيء لك على الواهب.
3655 - ومن وهب شقصاً من دار لثواب، أو تصدق به على عوض، أو أوصى به على عوض، فهو بيع وفيه الشفعة، فإن سمى العوض فالشفعة بقيمة العوض إن كان مما له قيمة من العروض، أو بمثله في المقدار والصفة إن كان عيناً، أو طعاماً، أو إداماً، كانت الهبة بيد الواهب أو قد دفعها.(1)
وإن وهبه على عوض يرجوه لم يسمه، فلا قيام للشفيع إلا بعد العوض، ولا يجبر الموهوب على ثواب إذا لم تتغير الهبة في بدن، وللواهب ردها إن لم يثبه الموهوب فإن أثابه مثل القيمة لزم الواهب، وإن أثابه أقل، لم يلزمه إلا أن يشاء، وله أخذ هبته، إلا أن تتغير في البدن، فلا يأخذها، ويقضى له على الموهوب [بقيمتها يوم قبضها، ويقال للشفيع: خذه الآن أو دع، إذا قضي على الموهوب] بالقيمة.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/437).

ولو أثابه بعد تغيرها أضعاف القيمة قبل قيام الشفيع، ثم قام، لم يأخذها الشفيع إلا بذلك، كالثمن الغالي، وإنما يهب الناس ليعاضوا أكثر، ومن أوصى أن يباع شقصه من فلان بكذا، فلم يقبل، فليس للشفيع أخذه بذلك.
وكذلك إن قال: اشهدوا أني بعت شقصي من فلان بكذا وكذا إن قبل فإن لم يقبل، فلا شفعة للشفيع، ومن باع شقصاً على خيار له أو للمبتاع، فلا شفعة فيه حتى يتم البيع.
3656 - ومن وهب شقصاً لغير ثواب، فعُوض فيه فقبل، فإن رأى أنه لصداقة أو صلة رحم، فلا شفعة فيه.
ومن عوض من صدقة وقال: ظننته يلزمني، فليرجع في العوض إن كان قائماً، فإن فات، فلا شيء له.
ومن وهب شقصاً من دار لابنه الصغير على عوض، جاز وفيه الشفعة.
ولا تجوز محاباة في قبول الثواب، ولا ما وهب، أو أعتق، أو تصدق من مال ابنه الصغير، ويرد ذلك كله، إلا أن يكون الأب موسراً فيجوز ذلك على الابن [في العتق]، ويضمن قيمته في ماله، ولا تجوز في الهبة وإن كان موسراً، وإنما يجوز بيع الأب مال ابنه [الصغير] على وجه النظر.
3657 - وهبة الوصي لشقص اليتيم، كبيع ربعه، لا يجوز ذلك إلا لنظر كثمن يرغبه فيه، [مثل] ملك يجاوره، أو ملي يصاقبه، وليس في غلته ما يكفيه، أو لوجه نظر، فيجوز، وفيه الشفعة، وهبة المكاتب والمأذون على عوض تجوز بلا محاباة، وفي ذلك الشفعة.
3658 - ومن ابتاع شقصاً بخيار وله شفيع، فباع الشفيع شقصه قبل تمام الخيار بيعاً بتلاً فإن تم بيع الخيار، فالشفعة للمبتاع، وإن رُدّ، فهو لبائعه، ومن ابتاع شقصاً على خيار له فانهدم [قبل أن يختار]، فله رده ولا شيء عليه، كما كان له الرد وهو قائم، ولا شفعة فيه حتى يتم البيع.
3659 - ومن نكح، أو خالع، أو صالح من دم عمد على شقص، ففيه الشفعة بقيمته، إذ لا ثمن معلوم لعوضه.

وإن أخذه من دم خطأ، ففيه الشفعة بالدية. فإن كانت العاقلة أهل إبل، أخذه بقيمة الإبل، أو أهل ورق أو ذهب، فبذهب أو ورق، ينجم ذلك على الشفيع كالتنجيم على العاقلة، الدية في ثلاثة أعوام: ثلثها في عام، وثلثاها في عامين، والنصف [قال مرة: يؤجل عامين، وقال] مرة: يجتهد فيه الإمام [على قدر ما يرى، ولم يحد فيه حداً.
قال ابن القاسم:] ثم كذلك يؤجل به الشفيع، ويأول قوله - إن نصف الدية يقطع في عامين - أقول.
3660 - ومن اكترى إبلاً إلى مكة بشقص، ففيه الشفعة بمثل كراء الإبل إلى مكة، ولو آجر به أجيراً سنة فبقيمة الإجارة. ولو اكترى به داراً، فبقيمة كرائها.
ومن تمفل بنفس رجل فغاب، فصالح الطالب الكفيل على شقص، فجائز إن عرفا مبلغ الدين، وفيه الشفعة بمثل الدين، ويرجع الكفيل على المطلوب بالأقل من المال الذي عليه، أو قيمة الشقص. وإن لم يعرف كم الدين، فلا يجوز الصلح فيه.
3661 - ومن تكفل بنفس رجل ولم يذكر ما عليه، جاز، فإن غاب المطلوب، قيل للطالب: أثبت حقك ببينة وخذه من الكفيل، فإن لم تقم بينة وادعى أن له على المطلوب ألف درهم، فله أن يُحلِّف الكفيل على علمه، فإن نكل حلف الطالب واستحق.
3662 - ومن صالح من قذف على شقص أو مال، لم يجز، ورد ولا شفعة فيه، بلغ الإمام أو لا، وللمقذوف أن يعفو ما لم يبلغ الإمام، فإذا بلغه أقيم الحد [إلا أن يريد ستراً].
3663 - ومن قتل قتيلاً في حرابة، ثم أخذ قبل أن يتوب، لم يجز فيه عفو الأولياء وإن بلغوا الإمام، ولا صلح لهم على مال، وذلك مردود.
ومسألة الصلح من الموضحتين على شقص، مذكورة في كتاب الصلح.
3664 - والشفعة في الغياض والآجام إن كانت الأرض بينهما.

ومن ابتاع داراً فهدمها وبناها، ثم استحق رجل نصفها واستشفع، فإن دفع إليه في حصة الشفعة قيمة نصف بنيانه وإلا فلا شفعة له، ويقال له في النصف الذي استحق: ادفع إليه قيمة نصف بنيانه أيضاً، فإن أبى، قيل للآخر: ادفع إليه قيمة نصف الأرض بغير بنيان إن كان قد هدم جميع بنيانها أيضاً، فإن أبيا كانا شريكين بقيمة ما لكل واحد منهما.
قال مالك: ومن ابتاع داراً فاستحق رجل منها شقصاً، فله أن يأخذ بقية الدار بالشفعة، فإن اصطلحوا على أن يأخذ المستحق بالشفعة بيتاً ن الدار بما يصيبه من الثمن بعد تقويم جميع الدار، فذلك جائز.(1)
3665 - وليس لأحد المتفاوضين فيما باع الآخر شفعة، لأن بيع أحدهما يلزم صاحبه. قيل: فإن تفاوضا في الدور؟ قال: ما أعرف المفاوضة في الدور، فإن نزل ذلك فلا شفعة للآخر. وليس لرب المال أن يبيع شيئاً مما بيد العامل بغير أمره.
3666 - وإذا اشترى المقارض من المال شقصاً هو شفيعه، فله الشفعة، ولا يمنعه رب المال، ولو كان رب المال هو الشفيع، فله القيام أيضاً.
3667 - ولأم الولد والمكاتب الشفعة، وللعبد المأذون [الشفعة]، وإن لم يكن مأذوناً فذلك لسيده، إن أحب أخذ الشفعة لعبده أو ترك، وإن سلّمها المأذون، فلا قيام لسيده، ولو أراد أخذها المأذون وسلمها السيد، فإن لم يكن العبد مدياناً، جاز تسليم السيد، [وإن كان مدياناً وله فيه فضل، فلا تسليم للسيد]، ولو سلمها المكاتب لزمه ولا أخذ للسيد.
ولذات الزوج تسليم شفعتها ولها الشراء والبيع، ولا يمنعها الزوج من ذلك، ولا من أن تتجر، فإن حابت في الشراء والبيع، فذلك في ثلثها، فإن جاوزته، بطل جميعه إن لم يجزه الزوج، وليس لأحد رد محاباتها إذا لم تكن سفيهة في عقلها ولم يول عليها غير الزوج. وفي كتاب الكفالة [شيء] من هذا. وتورث الشفعة عن الميت.
__________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/81).

3668 - ومن أعمر عمرى على عوض، لم يجز، ورُدّ ولا شفعة فيه، لأنه كراء فاسد، ويرد المعمر الدار [الذي أُعمرها]، وإن استغلها رد غلتها، وعليه إجارة ما سكن، لأن ضمانها من ربها، ويأخذ عوضه.
ومن تصدق على رجل بدار على أن ينفق عليه حياته، فهذا بيع فاسد، والغلة للمتصدق عليه، لأنها في ضمانه، ويرجع بما أنفق ويرد الدار.
ولو هلكت الدار بيده بغرق أو غيره، ضمن قيمتها يوم قبضها، وتجوز الهبة غير مقسومة.
3669 - والشفعة في دور القرى، كهي في دور المدائن.
وإن أقر رجل أنه ابتاع هذا الشقص من فلان الغائب، فقام الشفيع، فلا يقضى له بالشفعة بإقرار هذا حتى تقوم بينة على الشراء، لأن الغائب إذا قدم فأنكر البيع [كان له] أن يأخذ داره ويرجع على مدعي الشراء إذا قدم بكراء ما سكن، وإذا قضى بها قاض للشفيع بإقرار [هذا]، لم يرجع عليه الغائب بذلك، ولا على مدعي الشراء، فيبطل حق الغائب في الغلة [والدار] بلا بينة.
3670 - ومن لا تجوز شهادته من القرابة لقريبه، فلا يجوز [له] أن يشهد له أن فلاناً وكله على شيء، ويجوز أن يشهد أنه وكل غيره.
وما لا تجوز فيه شهادة النساء من عتق، أو طلاق، أو قتل، فلا تجوز شهادتهن على الوكالة فيه. وتجوز شهادتهن في الأموال أو في الوكالة عليها.
وتجوز شهادتهن في الوكالة على أخذ الشفعة، أو تسليمها، أو على أنه شفيع، أو يشهدن على المبتاع أنه أقر بأن فلاناً شفيع هذه الدار، فذلك جائز، لأنه مال، فكل ما جازت فيه شهادتهن، جاز أن يشهدن على الوكالة فيه.
ولا تجوز تزكيتهن على حال للرجال ولا للنساء في شهادة مال ولا غيره.
3671 - ولا يأخذ الوصي للحمل بالشفعة حتى يولد ويستهل، إذ لا ميراث له حتى يولد ويستهل. وفي كتاب التجارة بأرض الحرب، ذكر العبد يسلم والزوجة والسيد والزوج غائب.

3672 - ومن بنى مسجداً على ظهر بيته، أو في أرضه على وجه الصدقة، والإباحة، أو حبس عرصة له، أو بيتاً في المساكين، أو على المسلمين، لم يجز له بيع ذلك.
3673 - وإذا كان حائط بين رجلين فباع أحدهما حظه منه، فالشفعة [فيه] لشريكه، وإن ملكه أحدهما وللآخر فيه حمل خشب، فلا شفعة فيه لمن له الحمل. ومن له علو دار ولآخر سفلها فلا شفعة لأحدهما فيما باع الآخر منها. ولا شفعة في أرض العنوة ولا يجوز بيعها.
وأما أرض الصلح تباع، فإن كان على أن خراج الأرض باق على الذمي البائع، فجائز وفيه الشفعة إن شركه مسلم، فإن شرط الخراج على المبتاع المسلم، لم يجز، إذ بإسلام الذمي ينقطع الخراج عنه وعن الأرض، فهذا غرر مجهول.
3674 - ولا ينبغي لرجل أن يبيع أرضاً من رجل، على أن على المبتاع كل عام شيئاً يدفعه.
3675 - ومن اشترى أرضاً ونخلاً في صفقة، والأرض أرض النخل فاستُحق من النخل شيء [يسير]، وضع عنه حصته من الثمن، ولزمه البيع في الباقي.
وإن استُحق من النخل كثير، فله رد جميع ذلك، أو التماسك بما بقي في يديه، ويأخذ من الثمن بقدر ما استحق، وإن كانت الأرض على حدة، والنخل على حدة فابتاعهما في صفقة [واحدة]، ثم استحق بعض النخل، فإن كان ما استحق منها وجه صفقته، وفيه رجاء الفضل، فله رد جميع ذلك، وإن لم يكن وجه الصفقة، كان له رد جميع النخل خاصة إن كان المستحق منها أكثرها، وإن كان تافهاً فإنما ينتقض من الصفقة [بقدر] حصة ذلك، ويرجع بما يصيبه من الثمن، وتصح بقية الصفقة.

وإن ابتاع دارين في صفقة، فاستحق بعض واحدة، وهي ليست بوجه ما اشترى، فإن كان ما استحق من هذه الدار تافهاً منها، رجع بحصته من الثمن فقط، وإن كان أكثر تلك الدار وهو ضرر، رد تلك الدار فقط بحصتها من الثمن، ولا يرد الأخرى، فإن كانت وجه الدارين فاستحق جلها أو ما فيه ضرر، رد الدارين بذلك، وإن استحق منها تافهاً لا ضرر فيه، رجع بحصته من ثمن الدارين فقط.(1)
3676 - ومن ادعى حقاً في دار بيد رجل فصالحه منه، فإن جهلاه جميعاً جاز ذلك.
وإن عرف المدعي دعواه منها فليسمه، فإن لم يسمه بطل الصلح ولا شفعة فيه، [لأن الصلح لا يجوز فيه المجهول].
[وكذلك] الزوجة إذا صالحت الورثة على ميراثها، فإن عرفت هي وجميع الورثة مبلغ التركة، جاز الصلح، وإن لم يعرفوه، لم يجز.
وإن ادعيت سدس دار بيد رجل فأنكر، فصالحك منه على شقص من دار له أخرى دفعه إليك، فالشفعة في الشقص الذي دعوى فيه بقيمة المدعى فيه، لأن قابضه مقر أنه اشتراه، ودفع في ثمنه السدس المدعى فيه.
ولا شفعة في الشقص المدعى فيه، لأن قابضه يقول: إنما أخذت حقي وافتديته بما دفعت فيه، ولم أشتره.
3677 - ومن ادعيت عليه أنه قتل دابتك، فصالحك على شقص، ففيه الشفعة بقيمة الدابة، والقول قولك في قيمتها ولا تكلف صفتها، لأن مالكاً قال في الذي يشتري داراً بعرض فيفوت العرض: إن القول فيه قول المشتري، ويقال للشفيع: خذ بذلك أو دع، ولم يقل مالك: يقال له: صف، فإن ادعى في قيمة ذلك العرض ما لا يشبه، صدق الشفيع فيما يشبه.
3678 - قيل: فما وُهِب للقيط أو تُصدق به عليه، أيكون الذي [هو] في حجره قابضاً له ولم يجعله له السلطان ناظراً ولا وصياً؟ قال: نعم، لأن مالكاً قال: من تصدق على غائب بصدقة ودفعها إلى أجنبي ليحوزها له والغائب غير عالم بالصدقة، إن ذلك جائز.
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/327).

3679 - ومن غصب عبداً فابتاع [به] شقصاً، فلا قيام للشفيع ما دام العبد لم يفت، فإن فات فوتاً يجب به على الغاصب قيمته فللشفيع الأخذ بقيمة العبد يوم اشترى به الدار.
3680 - ولو غصب ألف درهم، فابتاع بها شقصاً، فالشراء جائز، وللشفيع الشفعة مكانه وعلى الغاصب مثلها، وإن وجدها المغصوب منه بعينها بيد البائع وأقام عليها بينة أخذها ورجع البائع على المبتاع بمثلها، والبيع تام.(1)
3681 - وإذا ادعى المبتاع أنه بنى في الدار [بناءً]، فأكذبه الشفيع، فالمبتاع مدع، وعليه البينة.
والموهوب له الشقص والمتصدق به عليه يقول له الشفيع: أخاف أنك ابتعته منه أو عاوضته فيه سراً، وأردتما قطع الشفعة بما أظهرتما، فاحلف، فإن كان ممن يتهم أحلفه وإلا لم يحلفه.
3682 - وإذا كانت دار بين رجلين بنصفين، فباع أحدهما نصفاً منها بعينه قبل القسم بغير أمر شريكه، ثم قدم الشرك، فله نصف المبيع، إما أجاز بيعه وإلا أخذ منه حصته وأخذ باقيه بشفعته إن شاء، ودفع نصف الثمن إلى المشتري، ويرجع المشتري بنصف الثمن الباقي إن شاء على البائع، ثم يقاسم الشفيع شريكه النصف الباقي إن شاء، قيل: فلم لا يقاسم هذا الذي لم يبع شريكه الذي باع، فإن وقع النصف المبيع في حصة بائعه مضى عليه؟ قال: لا، ولكن يفعل كما ذكرنا.
والنخلة بين الرجلين يبيع أحدهما حصته منها، فلا شفعة لصاحبه فيها.
3683 - ومن تزوج امرأة على امرأة له أخرى، فحلف للأولى بطلاق الثانية إن آثر الثانية عليها، ثم طلق الأولى، فإن الثانية تطلق عليه، لأنه لما طلق الأولى فقد آثر الثانية عليها.
3684 - وقال مالك في دار بين رجلين، حبس أحدهما نصيبه على رجل، وولده [وولد ولده]، فباع شريكه في الدار نصيبه، فليس للذي حبس ولا للمحبس عليهم أخذه بالشفعة، إلا أن يأخذه المحبس فيجعله في مثل ما جعل نصيبه الأول.
* * *
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (4/326).

(كتاب القَسْم)(1)
3685 - قال مالك: ومن باع من رجل مورثه من هذه الدار، فإن عرفا مبلغه جاز وإن لم يسمياه، وإن جهله أحدهما أو كلاهما، لم يجز. وإن تصدق بذلك أو وهبه، جاز وإن لم يسمه.
3686 - وإن ورث رجلان دارين، فباع كل واحد منهما من صاحبه نصيبه في إحداهما بنصيب الآخر في الأخرى، فإن عرف كل واحد نصيبه ما هو من نصيب صاحبه، جاز وإن لم يسمياه.
وكذلك إن رضيا بأن يأخذ أحدهما بمورثه نصف إحدى الدارين وثلث الأخرى، ويسلم بقيتهما لصاحبه، فإن جهل أحدهما مبلغ حقه منهما، لم يجز، كما لا يجوز صلح الزوجة على مورث لها في دار لا تعلم مبلغه.
3687 - ولو أن داراً بين ثلاثة رجال رضوا بأن يأخذ أحدهم بيتاً من الدار على أن يكون للآخرين بقية الدار، جاز ذلك، وإنما لا يجمع بين رجلين في القسم بالسهم، ومن اشترى من رجل ممراً في داره من غير أن يشتري من رقبة البنيان شيئاً، [جاز ذلك].
3688 - وإن اقتسم رجلان داراً بينهما، فأخذ هذا طائفة وهذا طائفة، على أن الطريق لأحدهما وللآخر فيه الممر، أو اقتسماها على أن يأخذ أحدهما الغرف والآخر السّفل، أو على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة من الدار، فذلك كله جائز ولهما لازم، ولا رجوع لأحدهما وإن لم تنصَّب الحدود، لأن هذا بيع من البيوع.
وإذا كان بين قوم دور أو قرى، أو حوائط، أو أقرحة - وهي الفدادين - فشاء بعضهم جمع كل صنف من ذلك في القسم ليجتمع له حظه في موضع، وقال آخرون: بل نقسم كل دار أو حائط أو قريح على حدة، فإن كانت الدور في النفاق والرغبة في مواضعها والتشاح فيها سواء وكان بعضها قريباً من بعض، جمعت في القسم، وإن اختلفت مواضعها قسمت كل دار على حدتها، إلا أن تتفق [داران منها أو ثلاث في الصفة والنفاق لا في مواضعها، فتجمع المتفقة] في القسم، ويقسم باقيها كل دار على حدة.
__________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/87).

وكذلك الداران في المصر، فواحدة بناحية منه وأخرى بناحية [أخرى]، فإن تساوى الموضعان في الرغبة والتشاح، جمعا في القسم، وإن اختلفا أو كان بين الدارين مسيرة يوم أو يومين وتساوى الموضعان في الرغبة [والتشاح] والنفاق، لم يجمعا في القسم.
3689 - وإذا تشاح الورثة في دار من دور الميت كانوا يسكنونها، فأراد كل وارث أخذ حظه منها، وترك الميت [دوراً] غيرها [بالبلد، ودوره في المواضع] والتشاح فيها سواء، وهذه [الدار] في موضع غير موضع بقية دوره، [فلتقسم هذه الدار بينهم وحدها، فيأخذ كل واحد منهم نصيبه فيها، ثم يجمع في القسم بقية دوره] المتفقة في النفاق والتشاح على مواضعها، وبعضها قريب من بعض.
3690 - قال: وأما القرى والأرضون فما تقارب [منها] في أماكنه وتساوى في كرمه من قرى كثيرة، أو حوائط، أو أقرحة، جمع في القسم. والمِيْل وشبهه بين ذلك، قريب.
3691 - وإن تباعد ما بين كل قرية، أو حائط، أو قريح، فكان بينهم مثل اليوم واليومين، لم يجمع في القسم، وإن اتفقت في الكرم والنفاق، وتقسم كل قرية [أو حائط] أو قريح على حدة، وإن تقاربت الأماكن واختلف النفاق، لم تجمع.
وإن كانت قرية ذات دور، وأرض بيضاء وشجر، فليقتسموا الدور والأرض على ما وصفنا، وأما الأشجار فإن كانت مختلفة، مثل: تفاح ورمان وأُترج وغيرها، وكلها في جنان واحد، فإنه يقسم كله مجتمعاً بالقيمة، كالحائط يكون في البرني، والصيحاني، والجعرور، وأصناف التمر، فإنه يقسم على القيمة ويجمع لكل واحد حظه من الحائط في موضع.
وإن كان كل صنف من تفاح ورمان وغيره في جنان على حدة، قسم بينهم كل جنان على حدة، بالقيمة إن انقسم.

3692 - وإذا ورث قوم أراضي وعيوناً كثيرة، فأراد أحدهم قسمة [كل عين وأرض]، وأراد غيره اجتمع حصته من ذلك، فإن استوت الأرض في الكرم وتقاربت أماكنها، واستوت العيون في سقيها الأرض، جُمعت في القسم، وإن اختلفت الأرض في الكرم، والعيون في الغور، قسمت كل أرض وعيونها على حدة.
وإن ورثوا أرضاً فيها شجر متفرقة، فليقتسموا الأرض والشجر جميعاً. ولو أفردنا قسمة الأصول، وقعت أصول الرجل في أرض غيره.
وإن ورثوا قرية على أجزاء مختلفة، ولها ماء ومجرى ماء، ورثوا أرضها وماءها وشجرها وشربها، قسمت الأرض بينهم على قدر مواريثهم منها، ولا يقسم [مجرى] الماء، ويكون لهم من الماء على قدر مواريثهم [منه].
3693 - وكل شركاء في قلد [من الأقلاد] يبيع أحدهم نصيبه منه، فشركاؤه دِنْية أحق به بالشفعة دون [سائر] شركائهم في الماء، والدنية: هم أهل وراثة يتوارثون [بالشفعة] دون شركائهم، وإن قسموا الأرض خاصة ثم باع أحدهم حظه من الماء، فلا شفعة فيه. وقد تقدم هذا في الشفعة.
قيل: [فمن] ادعى في دار بيد غائب أنه وارثها مع الغائب، أو أنها لأبيه لا حق للغائب فيها، وأقام بينة؟ قال: سمعت من يذكر عن مالك أنه لا يقضى على الغائب في الدور.
قال ابن القاسم: وهو رأيي إلا في البعيد الغيبة، مثل: الأندلس أو طنجة، وما بَعُد فليقض عليه السلطان. وإن كانت الغيبة [قريبة] مثل ما يسافر الناس إليه ويقدمون مما ليس بالمنقطع بالغيبة]، فليكتب إليه الإمام فليوكل أو يَقْدُم. ولا يقيم الإمام لغائب أو طفل وكيلاً يقوم بحجته.(1)
__________
(1) انظر: منح الجليل (7/373).

3694 - وإذا ورث قوم [أرضاً و] شجراً ونخلاً، وفيها ثمر [وزرع]، فلا يقسموا الثمر مع الأصل، وإن كان الثمر بلحاً أو طلعاً، ولا يقسم الزرع مع الأرض، ولكن تقسم الأرض والأصول، ويترك الثمر والزرع حتى يحل بيعهما، فيقسموا ذلك حينئذ كيلاً، أو يبيعوه ويقتسموا ثمنه على فرائض الله، ولا يقسم الزرع [الذي طاب] فدادين ولا مذارعة ولا قتاً، ولكن كيلاً، ويدخل في قسم الزرع مع الأرض طعام وأرض بطعام وأرض. وإنما يجوز بيع الزرع مع الأرض بعين أو عرض لا بطعام، كان الزرع أقل من ثلث قيمة الأرض أو أكثر.
3695 - وأما ثمر النخل والعنب فإنه إذا طاب وحل بيعه واحتاجوا إلى قسمته، فإن كانت حاجتهم إليه واحدة، مثل أن يريدوا كلهم أكله أو بيعه رطباً، فلا يقسم بالخرص ولكن كيلاً، وإن اختلفت حاجتهم [إليه]: فأراد بعضهم بيعه، و[أراد] آخر أكله رطباً، وآخر تَيْبيسه، قُسّم بينهم بالخرص إن وجدوا من يعرف الخرص، وعلى كل واحد سقي نخله وإن كان ثمرها لغيره، إذا كانوا قد اقتسموا الأصل قبل الثمرة، لأن على صاحب الأصل سقيه إذا باع ثمرته، وإن لم يطب ثمر النخل والعنب، فلا يقسم بالخرص، ولكن يجذونه فيقسمونه كيلاً.
3696 - قال ابن القاسم: ولا يقسم البقل القائم بالخرص، وليقسم ثمنه، ولا يقسم شيء مما في رؤوس الشجر من الفواكه والثمار بالخرص، وإن اختلفت فيه الحاجة، إلا في النخل والعنب إذا حل بيعهما واختلفت حاجة أهلهما كما ذكرنا، لأن أمر الناس إنما مضى على الخرص فيهما خاصة. وسألت مالكاً عما روي عنه من إجازة ذلك في غيرهما من الفواكه، [فقال: لا أرى ذلك، ثم سألته غير مرة فأبى أن يرخص لي فيه].
ولا خير في بيع فدان كراث بفداني كراث، أو سريس، أو خس، أو سلق، إلا أن يجذ الجميع قبل التفرق.
وكذلك لا خير في بيع ثمرة قد طابت في رؤوس النخل، بثمرة مخالفة لها يابسة، أو هي في شجرها مزهية، إلا أن يجذا ما في الشجر من ذلك قبل أن يتفرقا.

وإن جذ أحدهما وتفرقا قبل أن يجذ الآخر، لم يجز، وكذلك لو اشترى ما في رؤوس النخل بحنطة، فدفعها وتفرقا قبل الجذاذ، [لم يجز].
3696 - ومن باع حائط نخل بمثله ولا ثمر فيهما، أو في أحدهما ثمر مزه أو غير مزه ولا شيء في الآخر، فذلك جائز، وإن كان فيهما طلع قد أُبر، أو بلح، أو تمر قد أزهى، أو رطب، فلا خير في أن يشترط كل واحد ثمرة صاحبه مع أصلها، فإن تبايعا الأصلين دون ثمرتهما واشترط أحدهما ثمرة الآخر ولم يشترط الآخر شيئاً، جاز ذلك فيهما [إذا كانت ثمرتاهما مأبورة]، وإن لم تؤبر لم يجز التبادل فيهما بحال، لأن الثمرة إن استثناها بائعها، لم يجز، وإن لم يستثنها وبقيت تبعاً دخله التأخير في بيع الطعامين. وإن أبرت ثمرة أحدهما ولم تؤبر ثمرة الآخر، جاز أن يبيع أحدهما لصاحبه إن بقيت المأبورة خاصة لربها، وإن اشترطها الذي لم تؤبر ثمرته، لم يجز.
وأصل ما كره مالك من هذا أن النخل إذا كان فيها بلح، أو طلع، أو رطب، أو تمر، لم يصلح بيعها بما في رؤوسها بشيء من الطعام، إلا أن يجذ ذلك ويتقابضا قبل التفرق، فيجوز إذا كان الطعام مخالفاً لثمر النخل. ويجوز بيعها مع ثمرها بعين أو عرض.
3697 - ولا بأس بقسمة الزرع قبل أن يبدو صلاحه بالتحري، على أن يجذاه مكانهما إن كان يستطاع أن يعدل بينهما في قسمته تحرياً، وكذلك القضب والتين.
وإن ترك الزرع حتى صار حباً انتقض القسم، وقسما ذلك كله كيلاً، وإن حصد أحدهما حصته، وترك الآخر [حصته] حتى تحبب الزرع، انتقض القسم، إذ لا يجوز بيع ذلك على أن يترك إلى طيبه، وليرد الذي حصد قيمة ما حصد.
[قال ابن القاسم:] فتكون تلك القيمة مع الزرع القائم بينهما، لأن القسمة ههنا بيع من البيوع.
والبلح الكبير إن اختلفت حاجتهما فيه في أن يأكل هذا بلحاً، ويبيع الآخر بلحاً، جاز قسمه بالخرص، وهو كالبسر في تحريم التفاضل فيه.

ومن عرف ما صار له منه، فهو قبض فيه وإن لم يجذه، وإن جذه بعد يوم أو يومين، أو ثلاثة، أو أكثر من ذلك، جاز ما لم يتركه حتى يُزهي، فإن ترك أحدهما حصته أو تركاه جميعاً حتى أزهى، بطل القسم، إذ لا يجوز بيع ذلك على أن يترك حتى يزهي.
3698 - وأما الذين يقتسمون الرطب بالخرص لاختلاف حاجتهم، فللذي يأكل رطباً أن يجذ كل يوم حاجته منه، وإن تركاه أو أحدهما حتى أتمر، لم يبطل القسم، وكذلك في بيعه.
ولا بأس بقسمة البسر أو الرطب - بعد أن يجذ - كيلاً، وإن كان يختلف نقصانه إذا يبس، فلا يضره ذلك.
ولا بأس بقسمة البلح الصغير بالتحري، على أن يجذاه مكانهما إذا اجتهدا حتى يخرجا من وجه الخطر، وإن لم تختلف حاجتهما إليه، وإن اقتسماه وفضل أحدهما صاحبه بأمر يعرف فضله، جاز ذلك، كما يجوز [التفاضل] في البلح الصغير، بلح نخلة ببلح نخلتين على أن يجذاه مكانهما، وإنما هو بمنزلة البقل والعلف.
وإن تركاه حتى صار بلحاً كبيراً، فإن كان اقتسماه على تفاضل انتقض القسم، وإن اقتسماه على تساو وكان إذا كبر تفاضل [في] الكيل انتقض أيضاً، وإلا لم ينتقض إلا أن يزهي قبل أن يجذاه، أو قبل أن يجذ أحدهما، أو يكونا قد جذا إلا أن أحدهما [قد] بقي له شيء في رؤوس النخل حتى أزهى، فإن أكل أحدهما جميع ما صار له، وأكل الآخر نصف حظه وبقي نصفه حتى أزهى، بطل القسم فيما أزهى ورد الآكل قيمة جميع حظه مع نصف قيمة ما جذ [صاحبه]، فيقتسمان ذلك مع ما أزهى.
3699 - [قال ابن القاسم:] ولا يجوز قسم اللبن في الضروع، لأن هذا مخاطرة، وأما إن فضل أحدهما الآخر بأمر بيّن على المعروف، وكانا إن هلك ما بيد هذا من الغنم رجع فيما بيد صاحبه، فذلك جائز، لأن أحدهما ترك للآخر فضلاً بغير معنى القسم.(1)
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/343)، والمدونة الكبرى (14/472).

3700 - قال ابن القاسم: ولا بأس بقسمة الصوف على ظهور الغنم إن جزّاه الآن، أو إلى أيام قريبة يجوز بيعه إليها، ولا يجوز ما بَعُد.
ويقسم العبيد إذا انقسموا وإن أبى ذلك بعضهم.
3701 - ويجمع في القسم البز كله، من ديباج، [وحرير،] وخز، وثياب كتان، ويجمع مع ذلك ثياب الصوف والأبرية إذا لم يكن في كل صنف من ذلك ما يحمل القسم في انفراده، وإن كان في كل صنف من ذلك ما يحمل القسم في انفراده، قسم منفرداً.
وقال في باب آخر بعد هذا: فيمن ترك ثياب خز، وحرير، وقطن، وكتان، وجباب، وأكسية، أيقسم كل نوع على حدة، أم يجعل ذلك كله في القسم كنوع واحد؟ قال: أرى أن يجعل ذلك كله في القسم كنوع واحد، فيقسم على القيمة، كما يجمع الرقيق وفيها: صغير، وكبير، ودني، وفاره.
وكذلك تقسم الإبل وفيها أصناف، والبقر وفيها أصناف.
ولو ترك قُمصاً وجباباً وأردية وسراويلات، جمع ذلك كله في القسم على القيمة، ولا يجمع مع الأمتعة والثياب، بسط أو وسائد.
قال ابن القاسم: ولا يجمع في القسم بالسهاد الخيل، والبغال، والحمير، والبراذين، ولكن يقسم كل صنف على حدة، فالخيل والبراذين صنف، والحمير صنف، والبغال صنف، والجذع يكون بين الرجلين، والثوب الواحد والثوب الملفق قطعتين من العدني وغيره، والباب، والمصراعان، والخفان، والنعلان، والرحا، لا يقسم شيء من ذلك إلا بالتراضي، والساعدان، والساقان، والفص، والياقوتة، واللؤلؤة، والخاتم، هذا كله لا يقسم، فإن اجتمع من كل صنف من ذلك عدد يحمله القسم، قسم كل صنف على حدة، ولا يجمع من ذلك صنفان في القسم، والغرارتان إن لم تكن في قسمتهما فساد، قسمتا، وإلا لم تقسما.
والحبل والخرج إذا أبى أحدهما قسمته لم يقسم.
والمحمل إذا كان في قسمته ضرر ونقص ثمن، لم يقسم، إلا أن يجتمعا على ذلك. وتقسم الجبنة وإن أبى أحدهم كالطعام.

3702 - ومن هلك وترك عروضاً حاضرة وديوناً على رجال شتى، فاقتسم الورثة، فأخذ أحدهم العروض، وأخذ آخر الديون على أن يتبع الغرماء، فإن كان الغرماء حضوراً [مقرين] وجمع بينه وبينهم، جاز، وإن كانوا غُيّباً، لم يجز، إذ لا يجوز شراء دين على غريم غائب.
وإن ترك ديوناً على رجال، لم يجز للورثة أن يقتسموا الرجال فتصير ذمة بذمة، وليقتسموا ما على كل واحد.
3703 - وإذا ادعى أحد الشركاء بعد القسم غلطاً، مضى القسم ويحلف المنكر، إلا أن تقوم للمدعي بينة، أو يتفاحش الغلط فينقض، كمن باع ثوباً مرابحة ثم ادعى وهماً، فلا يقبل منه إلا ببينة، أو يأتي من رقم الثوب ما يدل على الغلط فيصدق مع يمينه، وكذلك في القسم، ولو قسما عشرة أثواب فأخذ هذا ستة وهذا أربعة، ثم ادعى صاحب الأربعة ثوباً من الستة في قسمه، لم ينتقض القسم إذا شبه قسم الناس، وحلف حائز الستة، وكذلك إن أقاما جميعاً البينة فتكافأت، وكذلك الغنم.
وليس هذا كمن باع عشرة أثواب من رجل فقبضها المبتاع ثم قال البائع: لم أبع إلا تسعة وغلطت بالعاشر، وقال المبتاع: بل اشتريت العشرة، هذا إذا كانت الثياب قائمة انتقض البيع فيها بعد أيمانها بخلاف القسم.
3704 - ولو اقتسما داراً فتداعيا بيتاً منها، وليس ذلك البيت بيد أحدهما، تحالفا وتفاسخا، ومن حاز البيت وأقام بينة، صدق.
ومن لزمته منهما لصاحبه يمين فنكل، لم يقض لصاحبه حتى يرد اليمين عليه.
ولو قال كل واحد [منهما]: حد الساحة من ههنا، ودفع إلى جانب صاحبه، فإن كانا اقتسما البيوت على حدة [والساحة على حدة]، تحالفا إن لم تكن بينهما بينة، وفسخ قسم الساحة وحدها. ولو جمعاهما في القسم تراضياً بذلك، فسخ الجميع إذا حلفا.
وإن قسما أرضاً على أن لا طريق لأحدهما على الآخر، وهو لا يجد طريقاً إلا عليه، لم يجز بالقسم]، وليس هذا من قسم المسلمين.

3705 - وإذا انقلعت نخلة لك في أرض رجل من الربح، أو قلعتها أنت، فلك أن تغرس مكانها نخلة أو شجرة من سائر الشجر، تعلم أنها لا تكون أكثر انتشاراً ولا أكثر ضرراً في الأرض من النخلة [الأولى]، ولا تغرس مكانها نخلتين، وإن كانت لك في أرض رجل نخلة، فليس له منعك من الدخول إليها، لإصلاحها ولجذاذها، أنت ومن يلي ذلك لك، وإن كانت أرضه مزروعة، فلك السلوك فيها من غير ضرر له مع من يجذها لك.(1)
وليس لك أن تجمع لذلك نفراً يطؤون زرعه، ولو كان لك في وسط أرضه المزروعة أرض لك فيها رعي، لم يكن لك السلوك بماشيتك فيها إليه لترعاها، ولك الدخول لاحتشاشه.
وإذا كان لك نهر ممرُّه في أرض قوم، فليس لك منعهم أن يغرسوا في حافتيه شجراً، فإذا كنست نهرك حملت على سنّة البلد في طرح الكناسة، فإن كان الطرح بضفتيه، لم تطرح ذلك على شجرهم إن أصبت دونها من ضفتيه متسعاً، فإن لم يكن فبين الشجر، فإن ضاق عن ذلك طرحت فوق شجرهم إذا كان سنة بلدهم طرح طين النهر على حافتيه.
3706 - ومن هلك وعليه دين وترك داراً بيع منها بقدر الدين، ثم قسَّم الورثة باقيها، إلا أن يخرج الورثة الدين من أموالهم، فتبقى لهم الدار فيقتسمونها، وإن هلك وعليه دين وترك دوراً ورقيقاً، وصاحب الدين غائب، فجهل الورثة أن الدين قبل القسمة، أو لم يعلموا بالدين، فاقتسموا ميراثه، ثم علموا بالدين، فالقسمة ترد حتى يُوفى الدين إن كان ما اقتسموا قائماً، فإن أتلف بعضهم حظه وبقي حظ بعضهم بيده، فلرب الدين أخذ دينه مما بيده، فإن كان دينه أقل مما بيده، أخذ قدر دينه وضم ما [بقي] بيد هذا الوارث بعد الدين إلى ما أتلف بقية الورثة، فكان هو التركة، فما بقي بيد الغارم كان له، ويتبع جميع الورثة بتمام مورثه من مال الميت بعد الدين إن بقي له شيء.
ويضمن كل وارث ما أكل أو استهلك مما أخذ، وما باع فعليه ثمنه لا قيمته إن لم يجاب.
__________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/101).

قال مالك: وما مات بأيديهم من حيوان أو هلك بأمر من الله عز وجل من عرض أو غيره، فلا ضمان على من هلك ذلك بيده، وضمانه من جميعهم. [قال] ابن القاسم: لأن القسمة كانت بينهم باطلة، للدين الذي على الميت.
وإذا جُني على الرقيق بعد القسم قبل لحوق الدين، فإن جميعهم يتبع الجاني لانتقاض القسم بلحوق الدين.
وإذا قسم القاضي بينهم، لم يأخذ منهم كفيلاً بما لحق من دين.
فإن قسم القاضي بينهم ثم طرأ دين، انتقضت القسمة، كقسمتهم بغير أمر القاضي وهم رجال.
وإذا أقر أحد الورثة بعد القسمة بدين على الميت، فإن كان عدلاً حلف الطالب معه واستحق، فإن قال الورثة: إنما أقر لينقض القسم، قيل لهم: فادفعوا أنتم وهو الدين، ويتم القسم، وإلا أبطلنا القسم وأعطينا هذا دينه وقسمنا بينكم ما بقي. فإن أخرجوا مَنابَتَهم من الدين وأبى المقر إلا نقض القسم قيل له: إما أخرجت منابتك من الدين، وإلا بعنا عليك فيه ما صار لك بالقسم.
ولو أقر قبل القسم وحلف معه الطالب، لم يجز لهم أن يقتسموا حتى يأخذ رب الدين دينه.
وإذا طرأ [على الورثة] وارث أو موصى له بالثلث بعد القسم، والتركة عين أو عرض، فإنما يتبع كل وارث بقدر ما صار إليه من حقه إن قدر على قسم ما بيده من ذلك.
ولا [يكون لهذا الوارث الذي طرأ على ورثة الميت أن] يتبع المليئ منهم بما على المعدم، وليس كغريم طرأ على ورثة، ولكن كغريم طرأ على غرماء وقد قسموا مال الميت أجمع وأَعْدَم بعضهم، فلا يتبع المليئ إلا بما عنده من حصته في الحصاص. وهذا مذكور في كتاب المديان.
وإن كانت التركة دوراً ليس فيها عين، فاقتسمها الورثة، ثم قدم وارث أو موصى له بالثلث، نقض القسم، كانوا قد جمعوا الدور في القسم أو قسموا كل دار على حدة.

ولو قدم موصى له بدنانير أو دراهم يحملها الثلث، كان كلحوق الدين، إما أدّوه أو نقض القسم، ولا يجبرون على أدائه من أموالهم، ومال الميت قائم، وما هلك بأيديهم مما أخذوه من مال الميت بغير سببهم، لم يضمنوه.
ولو طاع أكثرهم بأداء الوصية أو الدين، وأبى أحدهم، وقال: انقضوا القسم وبيعوا لذلك واقسموا ما بقي، فذلك له، وهذا إذا كان ما في يد الذي أبى قد تغير بانهدام مساكن، أو بحوالة سوق الحيوان، أو بنقص دخلها في أبدانها.
فأما إذا مات ما أخذ من [الحيوان و] الرقيق، أو صارت المساكن خرباً، أو نحو هذا من التلف، فلا يرجع عليه بشيء من قبل الدين.
ولا يرجع هو على من قاسمه بشيء، ويقال للذين بقوا: إما أديتم جميع الدين وتبقى قسمتكم بحالها، وإلا نقض القسم بينكم وأديتم الدين مما [بقي] في أيديكم خاصة.
ولو دعوا إلى نقض القسم إلا واحداً قال: أنا أؤدي جميع الدين، والوصية عيناً كانت أو طعاماً، ولا أتبعكم بشيء ولا تنقضوا القسم، لرغبته في حظه، وقد قسموا ربعاً أو حيواناً، فذلك له.
3707 - وإذا ورث قوم نصف دار والشريك غائب، فأحبوا القسم، فالقاضي يلي ذلك على الغائب ويعزل حظه، وكذلك هذا في الرقيق وجميع الأشياء.
وإنما يتوقف في الحكم على الغائب ويستأنى إذا ادعي في ربعه، وكذلك إن كان الشريك حاضراً وغاب بعض الورثة فقام الحاضرون، أو قام موصى له بالثلث والورثة غياب، فطلب القائم القسم، فالقاضي يلي ذلك ويوكل من يقسم بينهم، ويعزل نصيب الغائب، فإن رفعوا ذلك إلى صاحب الشرطة، فسمع منهم وقسم بينهم، لم يجز ذلك إلا بأمر القاضي.
3708 - ولا تقسم أصناف مختلفة بالسهم، مثل أن يجعلوا [[البقر حظاً]، والعروض، حظاً و]الدور حظاً، والرقيق حظاً، ويستهموا، وإن اتفق قيم ذلك، لأنه خطر، وإنما تقسم هذه الأشياء كل نوع على حدة، [والبقر على] [حدة،] والغنم على حدة، والعروض على حدة، إلا أن يتراضوا على شيء بغير سهم، [فيجوز].

وكذلك لا يجوز أن يجعلوا دنانير ناحية، وما قيمته مثلها ناحية من ربع أو عرض أو حيوان، ويقترعون. وأما بالتراضي بغير قرعة، فجائز.(1)
وأما داران في موضع [واحد] وإن تفاضلتا في البناء، كواحدة جديدة وأخرى قديمة، أو دار بعضها رثيث وباقيها جديد، فذلك يجمع في القسم، لأنه صنف واحد، منه جيد ودون بالقيم، كقسمة الرقيق على تباينها.
وكل صنف لا بد من ذلك فيه، فإن كان كل صنف من ذلك لا يحمله القسم، بيع عليهم الجميع، إلا أن يتراضوا على شيء بغير سهم، فيجوز.
3709 - ومن هلك وترك متاعاً وحلياً، قسم المتاع بين الورثة بالقيمة، والحلي بالوزن، فإن قال أحدهم: أعطوني حظكم من الحلي بوزنه ذهباً يداً بيد، فرضوا، جاز ذلك.
وإذا كان في الحلي جوهر لا يبين منه، فإن كانت الفضة أو الذهب فيه قدر الثلث فأدنى، أو كانت سيوفاً محلاة كذلك، حلية كل سيف منها الثلث فأدنى، جاز قسم ذلك بالقيمة كالعروض، إذ يجوز بيع السيف فضته الثلث فأقل بفضة نقداً، أقل مما فيه أو أكثر. [ويجوز أن يباع] بفضة وعرض، أو بسيف فضته أكثر من الثلث أو أدنى، وكذلك القسمة.
فأما إن كان فضة كل سيف أكثر من الثلث، لم يجز قسمتها بالقيمة، وكذلك الحلي، 3710 - وإذا قسم القاسم بين قوم فلم يرض أحدهم بما أخرج السهم له أو لغيره، وقال: لم أظن هذا يخرج لي، فقد لزمه، وقسم القاسم ماض، كان في ربع أو حيوان أو غيره.
وكذلك إن قالوا له: غلطت، أو لم تعدل، مضت قسمته ونظر الإمام في ذلك، فإن كان قد عدل في القسمة أمضاه، وإلا رده، ولم ير مالك قسمة القاسم بمنزلة حكم القاضي.
ولا يجوز لأجنبي أن يشتري [من] أحدهم ما يخرج له بالسهم من الثياب، إذ لا شركة له فيها، وإنما جاز ما أخرج السهم في تمييز حظ الشريك خاصة، لأن القسمة عند مالك بالقرعة ليست من البيوع.
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/337).

والقسمة تفارق البيوع في بعض الحالات، وإذا دعا أحد الشريكين إلى قسمة ثوب بينهما، لم يقسم، وقيل لهما: تقاوياه فيما بينكما أو بيعا، فإذا استقرا على ثمن فلمن أبى البيع أخذه، وإلا بيع.
3711 - وإذا ورثا نخلاً وكرماً، لم يعرفاه ولم يرياه، أو عرف ذلك أحدهما، فرضيا أن يأخذ أحدهما الكرم والآخر النخل، لم يجز ذلك إلا أن يكونا رأيا [ذلك]، أو وصف لهما.
ولا بأس أن يقتسما داراً غائبة على ما وصف لهما من بيوتها وساحتها، ويميزا حصتيهما منها بالصفة، كبيعها على الصفة، ولو قسما على أن لأحدهما الخيار أياماً يجوز مثلها في البيع في ذلك الشيء، فجائز، وليس لمن لا خيار له منهما رد، وذلك لمشترطه.
وإذا بنى من له الخيار، أو هدم، أو ساوم للبيع، فذلك رضى كالبيوع.
3712 - ويجوز أن يقاسم على الصغير أبوه، أو وصيه، الدور والعقار وغيره، ملك ذلك بمورث عن أمه أو بغير ذلك، ولا يقسم الوصي بين الأصاغر حتى يرفع [ذلك] إلى الإمام ويراه نظراً.
وإن كان معهم [إخوة] أكابر، أحببت له أن يرفع [أمرهم] إلى الإمام، فإن قاسم الكبار [وصي] للصغار دون الإمام، جاز إذا اجتهد، حضر الأصاغر أو غابوا، وما صار لكل صغير منهم بقسم وصي أو قاض مع أكابر، بقي بحاله لا تخلط أنصباؤهم بعد ذلك، ولو غاب أحد الأكابر، لم تجز قسمة الوصي عليه، ولا يقسم لغائب إلا الإمام، ويوكل بذلك ويجعل ما صار له بيد أمين. وليس لوصي الأصاغر أن يقول: ابقوا حظ الغائب بيدي. وقال في الجالفة: لتقاسمنّ أخوتها أحب إليّ أن يرفعوا ذلك إلى القاضي، فيأمر من يقسم بينهم خوفاً من الدلسة فتحنث.
وإذا قاسم على الصغير أبوه فحابى، لم تجز محاباته في ذلك، ولا هبته، ولا صدقته بمال ابنه الصغير، ويرد ذلك إن وجده بعينه.

قال: وترد الصدقة وإن كان الأب موسراً، فإن فات لك عند المعطى وتلف ضمنه الأب إن كان موسراً، يوم يختصمون دون المعطى، فإذا غرم الأب في ملائه، لم يكن للأب ولا للابن على الأجنبي شيء، وإن كان الأب عديماً رجع الولد على المعطى، فإن كان الأب والمعطى عديمين اتبع الولد أولهما يسراً بالقيمة، ومن أدى منهما لم يرجع على صاحبه بشيء.
ولو أيسر الأب أولهما، لم يكن للابن تركه واتباع الأجنبي، كما ليس له ذلك في ملائهما.
وإن أعتق الأب غلام ابنه الصغير، جاز ذلك إن كان الأب موسراً يوم أعتق، وعليه الثمن في ملائه. وإن كان معسراً يوم أعتق لم يجز عتقه ورُدّ، قال مالك: إلا أن يتطاول زمان ذلك، وينكح الحرائر وتجوز شهادته فلا يرد عتقه ويتبع الأب بقيمته. وفي كتاب الشفعة ذكر بيع الوصي عقار اليتامى.(1)
3713 - وإذا أسند مسلم وصيته إلى ذمي أو مسخوط، لم يجز ذلك ولا يكون وصياً.
وإذا هلكت امرأة وتركت ولداً صغيراً يتيماً لا وصي له، فأوصت بالصبي وبمالها إلى رجل، لم يجز ذلك ولا يكون وصياً، ولا تجوز مقاسمته عليه، إلا أن المال الذي ورث الولد من أمه لا ينزع من الوصي إن كان يسيراً نحو ستين ديناراً، استحسنه مالك وليس بقياس.
وإن أوصت إليه بتنفيذ ثلثها، جاز [وله] تنفيذه، ولا يكون وصي العم، أو الجد، أو الأخ وصياً في يسير مال ولا كثيره، والأم بخلافهم إذ لها اعتصار ما وهبت لولدها.
وهذا المال الذي أوصوا به، ينظر فيه السلطان ويحوزه على الصغير والغائب.
3714 - ولا تجوز قسمة الأب على ابنه الكبير وإن غاب، ولا الأم على ابنها الصغير إلا أن تكون وصية، ولا الكافر على ابنته المسلمة البكر، كما لا [يجوز له] تزويجها. ويجوز قسم ملتقط اللقيط عليه.(2)
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (14/494)، ومواهب الجليل (5/74).
(2) انظر: المدونة الكبرى (14/493).

ومن كنف أخاً له صغيراً، أو ابن أخ له احتساباً، فأوصى له أحد بمال فقام عليه، لم يجز بيعه له ولا قسمه.
وكذلك لو وثب على تركة أخيه وولده بغير إيصائه، فهو كالأجنبي، ولا يجوز قسم الزوج لزوجته البكر ولا قبض مالها، والأب أو وصيها أولى بذلك وإن دخلت حتى يؤنس رشدها بعد الدخول، فيدفع إليها مالها حينئذ.
وليس للزوج قضاء في مالها قبل البناء ولا بعده، وإن مات الأب ولم يوص، لم يجز للزوج أن يقسم لها إلا بأمر قاض.
3715 - [قال ابن القاسم:] وإذا اقتسم شريكان دوراً، أو أرضين، أو رقيقاً، أو عروضاً، فوجد أحدهما ببعض ما أخذ عيباً، فإن كان وجه ما نابه أو أكثره ردّ الجميع وابتديا بالقسم إلا أن يفوت بيد صاحبه ببيع، أو هبة، أو حبس، أو صدقة، أو هدم، أو بناء، فيرد قيمته يوم قبضه، فيقتسمان تلك القيمة مع الحاضر المردود، وليس حوالة الأسواق في الدور فوتاً، وإن كان المعيب الأقل، رده ولم يرجع فيما بيد شريكه وإن لم يفت، إذ لم ينقض القسم، ولكن ينظر فإن كان المعيب قدر سُبع ما بيده، رجع على صاحبه بقيمة نصف سبع ما أخذ ثمناً، ثم يقتسمان هذا المعيب.
وكذلك إن اقتسما داراً واحدة ثم وجد أحدهما عيباً يسيراً أو كثيراً، أو اقتسما على التراضي، فأخذ أحدهما نخلاً ودوراً ورقيقاً وحيواناً، وأخذ الآخر بزاً وعطراً وجوهراً، فأصاب أحدهما بصنف مما أخذ عيباً فعلى ما ذكرنا، ولو بنى أحدهما في حصته من الدار وهدم بعد القسمة، ثم وجد عيباً، فذلك فوت، ويرجع بنصف قيمة العيب ثمناً على ما فسرنا.
3716 - ومن ابتاع داراً عظمى أو نخلاً فاستحق بعضها، أو وجد بها عيباً، فأما اليسير كبيت من دار عظمى، أو نخلات يسيرة من كثيرة، فإن ذلك يرجع بحصته من الثمن، ويلزمه البيع فيما بقي، وإن كان كثيراً رد البيع. وكذلك القسمة.

3717 - وإذا اقتسم رجلان حنطة، فأصاب أحدهما بما أخذ عيباً بعد أن طحنها، رد قيمتها، ويرد الآخر الطعام أو مكيلته إن فات، ثم يقتسمان ذلك، وليس له أن يرجع بنصف قيمة العيب في حنطة صاحبه فيدخله التفاضل في الطعام، ولا عليه أن يأتي بحنطة معيبة مثلها، إذ لا يحاط بمعرفته.
وكذلك من ابتاع عرضاً أو حيواناً أو غيره، فوجد به عيباً بعد أن فات عنده، فليس عليه ولا له أن يأتي بسلعة معيبة مثلها، إذ لا يحاط بذلك ولا بمعرفته، ولو كان يحاط بمعرفته، كان له أن يخرج مثلها فيما يكال أو يوزن.
3718 - وإذا تبادلا قمحاً عفناً بعفن مثله، فإن اشتبها في العفن فلا بأس بذلك وإن تباعدا لم يجز، وإن كانا مغشوشين، أو كان أحدهما أو كلاهما كثير التبن أو التراب حتى يصير خطراً، لم يجز أن يتبادلا إلا في الغلث الخفيف، أو يكونا نقيين.
وكذلك سمراء مغلوثة بشعير مغلوث، لا يجوز إلا أن يكون ذلك شيئاً خفيفاً.
وليس حشف التمر بمنزلة غلث الطعام، لأن الحشف من التمر، والغلث في الطعام من غير الطعام.
ولو كان الطعام المغلوث صبرة واحدة، جاز أن يقتسماها، وإن كانا صبرتين مختلفتين، لم يجز ذلك، للغرر في موضع غلث هذه من غلث هذه.
والذي أجيز من القمح بالقمح أو بالشعير، أن يكونا نقيين ويكونا مشتبهين، ولا يكون أحدهما مغلوثاً والآخر نقياً.
قال مالك: ويغربل القمح للبيع، وهو الحق الذي لا شك فيه.
ومن اشترى عبداً فباع نصفه، ثم استحق [رجل ربع] جميع العبد، فقد جرى الاستحقاق فيما بيع وفيما بقي.
ومن قول مالك فيمن ابتاع عبداً كاملاً، فاستحق أيسره، أن له رده كله لضرر الشركة، أو يحبس ما بقي من العبد بحصته من الثمن.
[قال ابن القاسم:] فالمستحق في مسألتك يأخذ الربع من جميع ما باع المبتاع ومما أبقى، ثم للمبتاع الثاني أن يرجع من ثمنه على بائعه بقدر ما استحق من العبد من حصته، أو يرد بقية صفقته إن شاء، ويخير المشتري الأول أيضاً كما وصفنا.

ولو اطلع المبتاع على عيب به بعد أن باع نصفه، فرضي به المبتاع الثاني، فأراد المشتري الأول رده، فالخيار ههنا للبائع في أن يغرم له نصف قيمة العيب، أو يقبل نصف العبد بنصف الثمن.
3719 - وإن اقتسما عبدين فأخذ هذا عبداً وهذا عبداً، فاستُحق نصف أحدهما، فللذي استُحق ذلك من يديه أن يرجع على صاحبه بربع العبد الذي في يديه إن كان قائماً، وإن فات ببيع أو حوالة سوق فأعلى، رجع على صاحبه بربع قيمته يوم قبضه، ولا خيار له في [غير] هذا.
وأما إن ابتاع عبداً، فله رده باستحقاق أيسره، لضرر الشركة فيه من منع السفر أو الوطء في الأمة، بخلاف مبتاع عبدين متكافئين يستحق أحدهما، أو مبتاع لدور أو سلع، لا ترد في تلك الصفقة إلا باستحقاق أكثرها. وقد تقدم كثير من هذا المعنى في كتاب الاستحقاق، و[في كتاب] العيوب.
3720 - وإن اقتسما داراً، فأخذ هذا ربعها من مقدمها، وأخذ الآخر ثلاثة أرباعها من مؤخرها، جاز ذلك، فإن استُحق نصف نصيب أحدهما، رجع على صاحبه بربع قيمة ما بيده، ولا تنقض القسمة في هذا إذا [كان الذي] استحق من يد كل واحد منهما تافهاً يسيراً، وإن استحق جل ما بيده انتقضت القسمة ورد ما بقي بيده وابتدأ بالقسم، إلا أن يفوت نصيب صاحبه، فيخرج قيمته بحال ما وصفنا.
3721 - وإن اقتسما عشرين شاة، فوقع لهذا خمسة عشر، ولهذا خمسة بالقيمة والسهم، جاز [ذلك].
فإن استحقت شاة من يد أحدهما، لم ينتقض القسم، ونُظر فإن كانت قدر خمس ما بيده، رجع على صاحبه بعشر قيمة ما بيده، وإن استحق جُلّ ما صار لأحدهما، انتقض القسم، ولا يجوز في قسم ثمر الحائط تفضيل أحد في الكيل، لرداءة حظه، ولا [على] التساوي في المقدار على أن يودي آخذ الجيد ثمناً لصاحبه.
ولا يجوز بيع حنطة ودراهم، [بحنطة] مثلها.

ولو اقتسما ثلاثين قفيزاً من قمح، وثلاثين درهماً، فأخذ أحدهما الدراهم وعشرة أقفزة، وأخذ الآخر عشرين قفيزاً، فإن كان القمح مختلفاً سمراء ومحمولة، أو نقياً ومغلوثاً لم يجز.
وإن تساوى القمح في النقاء والجودة والجنس، أو كان من صبرة يتفق أعلاها وأسفلها، فذلك جائز بخلاف المتبايعين، لأن هاهنا لم يأت أحدهما بطعام [وأتى] الآخر بطعام ودراهم، فيكون فاسداً.
ولو اقتسما مائة قفيز من قمح، ومائة من شعير، فأخذ هذا ستين قمحاً وأربعين شعيراً، وأخذ الآخر ستين شعيراً وأربعين قمحاً، فذلك جائز.
وإن اقتسما حنطة وقطنية، فأخذ هذا الحنطة، [وأخذ] هذا القطنية يداً بيد، جاز.
ولو كان الصنفان زرعاً قد يبس، لم يجز إلا على أن يحصداه مكانهما.
[قال مالك:] ولو كان الزرع كله صنفاً واحداً، لم تجز قسمته وإن يبس حتى يحصد ويدرس ويقسم كيلاً.
3722 - وإن اقتسما داراً أو أرضاً فبنى أحدهما أو غرس، ثم استحق نصف نصيبه، فذلك فوت، وكذلك إن استحق نصف نصيب الذي لم يبن، فليرد الذي لم يبن ما بقي، ويرد الذي [غرس أو] بنى قيمة جميع حظه لفوته بالعمارة، ويقتسمان ذلك كله إن كان ما استحق كثيراً، وإن كان يسيراً تُركت القسمة ونظر إلى ما قابل ذلك مما بيد صاحبه، فيرجع عليه بنصف قيمته.
ولو كان الاستحقاق في نصيب الذي عمَّر، فإما دفع إليه المستحق قيمة ما عمَّر قائماً، وإلا دفع إليه هذا قيمة أرضه [براحاً]، إذ ليس بغاصب، ونظر، فإن كان الذي استحق قليلاً قدر ربع ما بقي في يديه، لم ينتقض القسم ورجع على صاحبه بثمن قيمة ما في يديه، ولا يرجع بذلك في حظ شريكه وإن كان قائماً.
قال ابن القاسم: وأنْظُر أبداً إلى ما استحق، فإن كان كثيراً كان له أن يرجع بقدر نصف ذلك فيما بيد صاحبه شريكاً فيه إن لم يفت، وفي اليسير يرجع بنصف قيمة ذلك ثمناً من دنانير أو دراهم. وكذلك في العبيد.

3723 - [قال مالك:] ومن اشترى مائة إردب [قمح]، فاستحق منها خمسون، خُيّر المبتاع بين أخذ ما بقي بحصته من الثمن أو رده.
وإن أصاب بخمسين إردباً منها عيباً، أو بثلث الطعام، أو بربعه، فإنما له أخذ الجميع أو رده، وليس له رد المعيب وأخذ الجيد خاصة، وإن اقتسما عشرين داراً بالسهم أو التراضي، فوقع لكل واحد عشر دور فاستحقت واحدة، أو وُجد بها عيب، فإن كان جل ما بيد من وقعت له أو أكثره ثمناً، انتقض القسم، وإن لم يكن جله فإن كانت قدر عشر نصيبه وقد استحقت، رجع بنصف عشر قيمة ما بيد الآخر ثمناً، ولا يرجع فيه وإن كان قائماً.
وإن كان [إنما] وجد بها عيباً فيردها، وليرد الآخر عشر قيمة ما بيده، ثم يكون ذلك مع الدار المعيبة بينهما، إذا لم ينتقض القسم.
واستحقاق دار من دور في البيوع بخلاف الدار الواحدة يبتاعها، ثم يستحق بعضها لما يدخل عليه من الضرر فيها فيما يريد أن يبني أو يسكن، إلا أن لا يضره ذلك في بقيتها فيكون كالدور، واستحقاق النصف أو الثلث فيها كثير، يوجب له رد بقيتها أو حبسه بحصته من الثمن.
3724 - وإن اقتسما جاريتين فأخذ كل واحد منهما واحدة، فاستحقت جارية أحدهما بعد أن أولدها، فلربها أخذها وقيمة ولدها، ويرجع هذا على صاحبه بنصف الجارية الأخرى إن لم تفت، فإن فاتت بتغير سوق فأعلى، أخذ منه نصف قيمتها يوم قبضها.
وقد قال مالك فيمن استحق أمة وقد ولدت من مبتاعها: إنه يأخذها وقيمة ولدها يوم الاستحقاق، وأخذ به ابن القاسم، ثم رجع مالك فقال: لا يأخذها، لأن في ذلك على المبتاع ضرراً لما يلحقه من العار ويلحق ولده إذا أخذت منه، ولكن يأخذ المستحق قيمتها وقيمة ولدها.
قال ابن القاسم: ولو رضي المستحق بأخذ قيمتها، لم يكن للذي أولدها أن يأبى ذلك، ويجيز حينئذ في قولي مالك جميعاً على غرم قيمتها وقيمة ولدها يوم الاستحقاق.

[قال مالك:] وإنما يأخذ قيمتها يوم يستحقها، لأنها لو ماتت عند المبتاع قبل أن يستحقها ربها، لم تلزم المبتاع قيمتها، [ولو لزمته قيمتها] إذا هلكت ما لزمه من قيمة ولدها شيء، فليس لربها إلا قيمتها وقيمة ولدها يوم الاستحقاق.
ومن باع أمة في سوق المسلمين بعين، أو عرض، أو حيوان، ثم استحقت من يد المبتاع بعد أن حالت بيده في سوق أو بدن بأمر من الله، وحال الثمن الذي بيعت به إن كان عرضاً، بزيادة أو نقص في سوق أو بدن بأمر من الله تعالى، فليس لربها إلا أن يأخذها بحالها، أو يجيز البيع ويأخذ من بائعها ما بيعت به على ما هو [به] من نقص أو نماء، لأن من باع عرضاً بعرض فوجد أحدهما بالعرض الذي أخذ عيباً وقد حال سوقه، فليرده ويأخذ عرضه ما لم يفت بحوالة سوق، [فإن فات]، فلا يكون له إلا قيمته.
والموصى له بالثلث إذا قاسم الورثة فأخذ ثلث الربع فبناه، ثم استحق ما بيده فللمستحق أن يعطيه قيمة بنائه، وإلا أعطاه هذا قيمة أرضه براحاً، فإن دفع إليه المستحق قيمة البناء وكان ذلك أقل مما أنفق فيه بحوالة سوق النقض، لم يرجع بنقض ذلك على الورثة ولا [على] غيرهم، وينتقض القسم، ويرجع فيقاسم الورثة ما في أيديهم من الربع إلا أن يفوت ببناء أو بيع، فيرجع عليهم بقيمة الرباع يوم قبضوها، فيقتسمون تلك القيمة.
وإن فات ذلك بهدم، لم يكن له غير ثلث ذلك مهدوماً مع ثلث النقض.
وإن بيع من النقض شيء، فله ثلث ثمنه فقط ولا قيمة له عليهم، لأن من ابتاع داراً فهدمها، أو احترقت في يديه، ثم استحقت، فللمستحق إن شاء اتباع البائع بالثمن أو أخذ داره مهدومة، ولا تباعة له على المبتاع إلا أن يكون باع من النقض شيئاً، فعليه الثمن الذي قبض فيه.
وكذلك إن ابتاع جارية فعميت عنده، ثم استحقت، فلا شيء عليه، وإنما لربها أخذها بحالها، أو أخذ ثمنها من البائع.

3725 - وإذا كان بين رجلين نقض دون القاعة، جاز أن يقتسماه على تراض، أو بالقيمة والسهم، ويجبر من أباه منهم لمن أراده، فإن أراد هدم النقض ورب العرصة غائب، رفعا ذلك إلى الأمام، فإن رأى شراء ذلك للغائب بقيمة النقض منقوضاً، فعل، وإلا تركهم ولزم الغائب ما فعل السلطان، قيل: فمن أين يدفع الإمام الثمن عن الغائب؟ قال: هو أعلم بذلك.
فإن نقضا البناء دون الإمام، فلا شيء عليهما ويقتسمان النقض.
وفي كتاب العارية ذكر [أمدٍ] ما يقيم النقض في العرصة المعارة.
وإذا بنيا في عرصة رجل بإذنه، فأقام بناؤهما [في العرصة] قدر ما يعار إلى مثله، ثم أراد ربها إخراج أحدهما، فإن قدر على قسمة البناء قسم وخُير في المُخْرَج، فإما أعطاه قيمة حصته أو أمره بقلعه، وإن لم ينقسم قيل للشريكين: لا بد أن يقلع هذا الذي قال له رب العرصة: اقلع نقضك، فاصطلحا، إما تقاوياه أو بِيعاه، فإن باعا وبلغ ثمناً فللمقيم في العرصة أخذ ذلك بشفعته ما بلغ.
ولا يقسم الطريق في الدار إذا امتنع بعضهم، ويقسم الجدار إن لم يكن فيه ضرر وكان ينقسم، فإن كان فيه ضرر لم يقسم، وإن كان لكل واحد عليه جذوع لم يقسم وتقاوماه.
وتأول مالك قول الله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء: 7]، فرأى أن يقسم البيت الصغير وإن لم يقع لأحدهم ما ينتفع به، والأرض القليلة، والدكان الصغير في السوق وإن كان أصل العرصة بينهم، والحمام والماجل، وكل شيء عنده [يقسم].
3728 - قال ابن القاسم: وإنما لم يقسم الطريق والجدار إذا كان في ذلك ضرر، لأنه لا كبير عرصة لهما، فلا يقسمان إلا بتراض أو على غير ضرر.

وأنا أرى أن [كل] ما لا ينقسم إلا بضرر ولا يكون فيما يقسم منه منتفع من دار، أو أرض، أو حمام، فإنه لا يقسم، ويباع فيقسم ثمنه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: “لا ضرر ولا ضرار”.(1)
وكذلك الماجل، إلا أن يصير لكل واحد ماجل ينتفع به، فليقسم.
3729 - ولا يقسم أصل العيون ولا الآبار، ولكن يقسم شربها بالقِلْد، قيل: فإن كانت نخلة وزيتونة بين رجلين هل يقسمانهما؟ قال: إن اعتدلتا في القسم وتراضيا [بذلك] بينهما قسماهما، فأخذ هذا واحدة وهذا واحدة، فإن كرها لم يجبرا، وإن لم يعتدلا في القسم تقاوماهما، أو باعاهما مثل ما لا ينقسم من ثوب أو عبد أو غيره، ومن دعا منهما إلى البيع أُجبر عليه من أباه، فإذا استقر على ثمن فلمن أبى البيع أخذ ذلك بما بلغ ولا بيع.
وإذا كانت دار داخلها لقوم، وخارجها لقوم، وللداخلين الممر على أهل خارجها، فأراد أهل خارجها تحويل بابها إلى موضع قريب من مكانه، لا ضرر على الداخلين فيه، فذلك لهم، وإن لم يقرب موضعه فللداخلين منعهم، ولهم منعهم من تضييق باب الدار.(2)
3730 - ولو اقتسم أهل الداخلة، فأراد أهل كل نصيب [منهم] فتح باب لنصيبه إلى الخارجة لممره، فللخارجين منعهم ألا يدخلوها إلا من الباب الأول.
[قال مالك - رحمه الله - : وليس العمل على حديث عمر - رضي الله عنه - في الخليج الذي أمرَّه في أرض رجل بغير رضاه].
وإذا كانت دار بين رجلين لأحدهما دار تلاصقها، فأراد أن يفتح في المشتركة باباً يدخل منه إلى داره، فللشريك منعه لشركته معه في موضع الفتح.
__________
(1) رواه ابن ماجة (2/784)، والشافعي في مسنده (1/224)، والحاكم في المستدرك (2/66)، ومالك (2/745)، والدارقطني في سننه (3/77)، (4/227)، وانظر: نيل الأوطار (5/387)، وبداية المجتهد (2/200)، والمدونة (14/436)، ومواهب الجليل (5/171).
(2) انظر: منح الجليل (7/283).

فإن قسّما فقال: اجعلوا نصيبي إلى جنب داري حتى أفتح فيه باباً، لم يقبل منه ذلك، وقسمت الدار بالقيمة، فحيث وقع سهمه أخذه وإن كان في الناحية الأخرى.
وإن اقتسما هذه الدار فاشترى أحد النصيبين رجل يلاصق داره، ففتح إلى النصيب من داره باباً وجعل يمر من داره إلى طريق هذا النصيب هو ومن اكترى منه، أو سكن معه، فذلك له إن أراد ارتفاقاً، ولا يمنع.
وإن أراد أن يجعل ذلك فيه، كسكة نافذة لممر الناس يدخلون من باب داره ويخرجون كالزقاق، فليس له ذلك.
وإن قسما داراً على أن يأخذ كل واحد طائفة، فإن من صارت الأجنحة في حظه، فهي له ولا تعد من الفناء، وإن كانت في هوى الأفنية، وهي تُعد من البناء.
قال: وفناء الدار لهم أجمعين، للمرفق به، ولا بأس بالتفاضل في قسمة التراضي، أو يزيد أحدهما الآخر عرضاً أو حيواناً بعينه، نقداً أو موصوفاً إلى أجل معلوم، أو عيناً نقداً أو مؤجلاً، أو [على] هبة، [أو هدية] أو صدقة معلومة كذلك. ولا يجوز على دين مسمى إلا أن يضربا أجلاً.
3731 - ولا بأس بأرزاق القضاة والعمال إذا عملوا على حق، وكل عامل للمسلمين على حق، وما بعث فيه الإمام من أمور الناس، فالرزق فيه من بيت المال.
وأكره لقسام القاضي والمغنم أن يأخذوا على القسم أجراً، لأنه إنما يفرض لهم من أموال الناس اليتامى وسائر الناس، كما أكره ارتزاق صاحب السوق من أمول الناس، وإن كانت أرزاق القسام من بيت المال، جاز.(1)
ولا بأس أن يستأجر أهل مورث، أو مغنم قاسماً برضاهم، وأجر القاسم على جميعهم ممن طلب القسم أو أباه.
وكذلك أجر [كاتب] الوثيقة، قال مالك في قوم أرادوا أخذ مال لهم عند رجل، فيستأجرون من يكتب بينهم كتاباً يتوثق لهم وله، فأجره عليهم وعليه. وقد تقدم في كتاب العتق ذكر من أعتق أو دبر في مرضه.
__________
(1) انظر: الشرح الكبير (3/510).

3732 - وإذا اقتسما داراً مذارعة بالسهم، فإن كانت الدار كلها سواء، جاز، وإن كان بعضها أجود من بعض أو كانت كلها سواء وجعلا في ناحية أكثر من ناحية، لم يجز، إلا أن يتراضوا [بذلك] بغير سهم فيجوز.
ولا بأس أن يقتسما البناء بالقيمة، والساحة بالذرع، إذا تساوت الساحة في القيمة والذرع، وإن كانت متفاضلة، لم يجز.
وإذا تداعوا إلى قسم البناء والساحة معاً، وكان يصير لكل واحد في حصته من الساحة ما ينتفع به في مدخل، أو مخرج، أو مربط دابة، أو غيره، قسمت الساحة مع البناء، وإن صار منها تلك المنافع لبعضهم ويصير لأقلهم نصيباً من الساحة ما لا ينتفع به أو ما لا ينتفع به إلا في دخوله وخروجه فقط، قسم البناء وتركت الساحة لانتفاعهم، وللأقل نصيباً من الانتفاع بالساحة ما للأكثر نصيباً، سكن معهم أو لم يسكن، ولهم منع من بيني في الساحة منهم.
وإذا كانت بين قوم دار فيها بيوت وساحة، ولها غرف وسطوح بين يديها، فقسموا البناء على القيمة وأبقوا الساحة، فالسطح يقوم مع البناء، تقوم الغرفة بما بين يديها من المرتفق، ولصاحب العلو أن يرتفق بساحة السفل [كارتفاق صاحب السفل]، ولا ارتفاق لصاحب السفل في سطح الأعلى، إذ ليس من الأفنية، ويضيف القاسم قيمة خشب السطح والغرف، مع قيمة البيوت التي تحت ذلك.
وما رَث من خشب العلو [الذي] هو أرض الغرف والسطح، فإصلاحه على رب الأسفل وله ملكه، كما عليه إصلاح ما وهى ورث من جدار السفل.
3733 - [وإذا سقط العلو الذي على السفل فهدمه، جبر رب السفل] على أن يبنيه، أو يبيع ممن يبنيه حتى يبني رب العلو علوه، فإن باعه ممن يبنيه فامتنع من بنائه أُجبر المبتاع أيضاً على أن يبنيه، أو يبيع ممن يبنيه.(1)
__________
(1) انظر: التقييد (6/112).

3734 - وإذا اقتسم قوم داراً وتركوا الساحة مرتفقاً، فكل واحد منهما أولى بما بين يدي [باب] بيته من الساحة في الارتفاق، وإن أراد بعضهم أن يطرح بين يدي [باب] غيره العلف والحطب، لم يكن له ذلك إن كان في الدار سعة عن ذلك، وإن احتاج إلى طرح ذلك في الساحة، ويقع بعض ذلك على باب غيره طرحه، إلا أن يكون في ذلك ضرر على من يطرحه على بابه، فيمنع أن يضر به.
وإذا اقتسموا البناء والساحة رفعوا الطريق، ولا يعرض فيها أحدهم لصاحبه.
وإن اقتسموا على أن يصرف كل واحد منهم بابه لناحية أخرى، ولا يدعوا طريقاً بتراض، جاز، ولا ترفع لهم طريق، وليصرف كل واحد طريقه حيث شاء إن كان له حيث يصرفه.
وإن اقتسموا البناء ثم قسموا الساحة ولم يذكروا رفع الطريق، فوقع باب الدار في حظ أحدهم ورضي بذلك صاحبه، فإن لم يشترطوا في أصل القسم أن طريق كل حصة ومدخلها فيها خاصة، فإن الطريق بينهما عل حالها، وملك باب الدار لمن وقع في حظه، ولباقيهم فيه الممر.
وإن قسموا الساحة وهي واسعة يقع لكل واحد ما يرتفق به إذا قسمت بينهم، ليس لهم طريق ولا مخرج إلا من باب الدار، فاختلفوا في سعة الطريق، فقال بعضهم: اجعلها ثلاثة أذرع، وقال بعضهم: أكثر من ذلك، جعلت بقدر دخول الحمولة ودخولهم، ولا أعرف عرض باب الدار.
فإن قسما داراً [بتراض]، فأخذ أحدهما دبر الدار وأعطي الآخر مقدمها على ألا طريق لصاحب المؤخر على المقدم، جاز ذلك على ما شرطا ورضيا إن كان له موضع يصرف إليه بابه، وإلا لم يجز.
وكذلك إن اقتسموا داراً على أن أخذ أحدهم الغرف، على ألا طريق له في الأسفل، فعلى ما ذكرنا.

3735 - وإن دعا أحد الأشراك إلى قسم ما يقسم من ربع أو حيوان أو عرض، وشركتهم بمورث أو غيره، أجبر على القسم من أباه، فإن لم ينقسم ذلك، فمن دعا إلى البيع أجبر عليه من أباه، ثم للآبي أخذ الجميع بما يعطى فيه، وكل ما قسم من ربع أو غيره فعلى قيمة عدل، ثم يضرب بالسهم، فمن خرج سهمه لزمه، ووجه قسم الربع بالسهم، وإن اختلفت الأنصباء: لواحد خمس، ولآخر ربع، ولآخر سدس، أن يقسم على أقلهم سهماً.
وكذلك من ترك زوجة وأماً وأختاً، إلا أن من خرج له سهم [في ناحية] جمع له تمام باقي حصته [فيها] ولا يفرق، وإذا تشاحوا على أي الطرفين يضرب، أسهم بأيهم يبدأ، فما خرج عرفه، ثم أسهم للقسم، فمن خرج سهمه أعطاه من ذلك الطرف، وضم إليه فيه سهمانه مجتمعة.
وإن كثرت يضرب الفريضة في الانكسار، ثم يضرب أيضاً بسهام من بقي، فيضرب على أقلهم سهماً، فإن تشاحوا على أي الطرفين يضرب، فعلى ما ذكرنا أولاً، فإذا بقي منهم اثنان فتشاحا على أي الطرفين يضرب، لم ينظر إلى قول واحد منهما وضرب القاسم على أي الطرفين شاء.
وإن ترك زوجة وابناً، أو عصبة، لم يسهد للزوجة إلا على أحد الطرفين لا في الوسط، فأي الطرفين خرج لها أخذته وكان الباقي للولد أو للعصبة، وكذلك إن كان الولد أو العصبة عدداً.
ولا يجمع حظ رجلين في القسم وإن أراد ذلك الباقون، إلا في مثل هذا.
3736 - وما أحدثه الرجل في عرصته من فرن، أو حمام، أو أرحية ماء، أو غيرها، أو كير للحديد، أو أفران لتسييل الذهب والفضة، أو آبار، أو كُنُف، فكل ما أضر بجدار جاره من ذلك منع منه، واستخف اتخاذ التنور.

وليس لك أن تفتح في سكة غير نافذة، باباً يقابل باب جارك أو يقاربه، ولا تحول باباً لك هنالك إذا منعك، لأنه يقول: الموضع الذي تريد أن تفتح فيه بابك، لي فيه مرفق أفتح فيه بابي، وأنا في سترة، ولا أدعك أن تفتح قبالة بابي أو قربه، فتتخذ علي فيه المجالس وشبه هذا، فإذا كان هذا ضرراً فلا يجوز أن تحدث على جارك ما يضر به.
وأما في السكة النافذة، فلك أن تفتح ما شئت، وتحول بابك حيث شئت منها.
ومن رفع بنيانه فتجاوز به بنيان جاره ليشرف عليه، لم يمنع من رفع بنيانه، ومنع من الضرر.
وإن رفع بنيانه فسد على جاره كواه، أو أظلمت أبواب غرفه وكواها، ومنعه الشمس أن تدخل في حجرته، لم يمنع من هذا البناء.
* * *

(كتاب الوصايا)
3738 - قال: ومن أوصى بعتق عبد من عبيده فماتوا كلهم، بطلت الوصية، وكذلك من أوصي له بعبد فمات العبد، فلا حق [له] في مال الميت.
قال غيره: لأن ما مات أو هلك قبل النظر في الثلث، فكأن الميت لم يتركه، وكأنه لم يوص [فيه] بشيء، لأنه لا يقوّم ميت ولا يقوّّم على ميت.(1)
ومن أوصى بعتق عشرة من عبيده ولم يعينهم وعدد عبيده خمسون، فمات منهم عشرون قبل التقويم، عتق ممن بقي منهم عشرة أجزاء من ثلاثين جزءاً بالسهم، خرج عدد ذلك أقل من عشرة أو أكثر، [ولو هلكوا كلهم إلا عشرين، عتق نصفهم في ثلث الميت]، ولو هلكوا إلا خمسة عشر عتق ثلثاهم.
ولو هلكوا إلا عشرة إن حملهم الثلث، [وإن لم يحملهم الثلث عتق منهم مبلغه بالقرعة ورق ما بقي]، وكذلك من أوصى لرجل بعدد من رقيقه، أو أوصى بعشرة من إبله في سبيل الله وله إبل كثيرة فهلك بعضها، فعلى ما وصفنا.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/2)، والكافي (1/553).

ومن قال: ثلث رقيقي أحرار، عتق ثلثهم بالسهم لا من كل واحد ثلثه، فإن قال: ثلثهم لفلان وهلك بعضهم، أو أوصى له بثلث غنمه فاستحق ثلثاها، فإنما للموصى له ثلث ما بقي من العبيد أو الغنم إن حمل ذلك الثلث، وسواء بقي ثلثهم أو أقل، فإن لم ينقسموا كان شريكاً بثلثهم.
وإن أوصى له بجميع غنمه فهلك بعضها أو استحق، فللموصى له ما بقي إن حمله الثلث.
وإن أوصى له بعشرة من غنمه وله مائة شاة، فللموصى له عشرها [بالسهم]، يدخل فيه ما دخل، فإن هلكت الغنم كلها إلا عشرة، فهي للموصى له، وإن كانت تعدل نصف الغنم إذا حملها الثلث، وإن أوصى له بعشر غنمه وهي مائة، فهلكت كلها إلا عشرة لم يكن للموصى له إلا عشرها.
ومن أوصى بنسمة تشترى فتعتق، لم تكن بالشراء حرة حتى تعتق، لأنه لو قتله رجل أدى قيمته عبداً، وأحكامه في جميع أحواله أحكام عبد حتى يعتق، فإن مات بعد الشراء وقبل العتق، كان عليهم أن يشتروا رقبة أخرى ما بينهم وبين مبلغ الثلث.
3739 - ومن أوصى بعتق نسمة تشترى [فتعتق] ولم يسم ثمناً، أُخرجت بالاجتهاد بقدر قلة المال وكثرته، وكذلك إن قال: عن ظهاري، وإن سمى ثمناً لا يسعه الثلث اشتري بثلثه إن كان فيه ما يشترى به رقبة، فإن لم يبلغ شورك به في رقبة، فإن لم يبلغ أعين به مكاتب في آخر كتابته.
وإن سمى ثمناً فيه كفاف الثلث فاشترى الوصي به قبة فأعتقها، ثم لحق الميت دين يغترق جميع المال رد العبد رقاً، وإن لم يغترق الدين جميع ماله، ردّ العبد وأعطي صاحب الدين دينه، ثم عتق من العبد مقدار ثلث ما بقي من مال الميت بعد قضاء الدين. [قال مالك - رحمه الله - :] ولا يضمن الوصي إذا لم يعلم [بالدين].

3740 - ومن قال في وصيته: اشتروا عبد فلان لفلان، أو فأعتقوه، أو بيعوا عبدي من فلان، أو ممن أحب، أو ممن يعتقه، فامتنع المشتري أن يشتريه بمثل ثمنه، أو امتنع الذي يبتاع منه أن يبيعه بمثل الثمن، فإنه يزاد في المشترى، وينقص في المبيع ما بينك وبين ثلث ثمنه لا ثلث الميت، وإن لم يذكر الميت أن يزاد أو ينقص، فإن أبى المشتري أن يأخذه إلا بأقل من ثلثي ثمنه، أو أبى الذي يبتاع منه أن يبيعه إلا بأكثر من ثمنه وثلث ثمنه، فذلك يختلف، أما الموصى أن يشترى فيعتق، [قال ابن القاسم:] يستأنى بثمنه، فإن بيع وإلا رد ثمنه ميراثاً، وفي رواية ابن وهب وغيره عن [مالك] أن الثمن يوقف ما رجي بيع العبد إلا أن يفوت بعتق أو موت. [قال سحنون:] وعليه أكثر الرواة.
[قال ابن القاسم:] وأما الذي يُشترى لفلان إن امتنع سيده من بيعه ليزداد ثمناً دفع ثمنه وزيادة ثلث ثمنه إلى الموصى له، فإن امتنع [سيده] من بيعه أصلاً ضناً منه بالعبد عاد ذلك ميراثاً وبطلت الوصية.(1)
وقال غيره: إن امتنع [سيده أن يبيعه] لزيادة، أو ضناً به، لم يلزم الورثة أكثر من زيادة ثلث الثمن، وليكن ثمنه موقوفاً حتى يؤيس من العبد، فإذا يئس منه رجع المال ميراثاً ولا شيء للموصى له، لأن الميت إنما أوصى له برقبة لا بمال.
قال ابن القاسم: وأما الذي قال: بيعوه من فلان، فطلب المشتري وضيعة أكثر من ثلث ثمنه، فإنه يخير الورثة بين بيعه بما سئلوا، أو يقطعوا له بثلث العبد بتلاً.
وأما الذي يباع ممن أحب [وليس من رجل بعينه] فيطلب المشتري وضيعة أكثر من ثلث ثمنه، فإنه يخير الورثة بين بيعه بما سئلوا، أو يعتقوا ثلث العبد بتلاً.
[قال سحنون:] وروى غير واحد عن مالك أن الورثة إذا بذلوه لمن أحب بوضيعة الثلث فلم يجدوا من يشتريه إلا بأقل، فليس عليهم غير ذلك.
وقال ابن وهب: قال مالك - رحمه الله - : وذلك الأمر عندنا.
__________
(1) انظر: منح الجليل لعليش (9/536).

وقال ابن القاسم عن مالك: وأما الذي يباع ممن يعتقه فيخير الورثة بين بيعه بمنه] بما أعطاهم، أو يعتقوا ثلث العبد، وهذا مما لم يختلف فيه قول مالك.
قال سحنون: وقد بينا هذا الأصل باختلاف الرواة [فيه] قبل هذا.
[مالك: وإذا لم يذكر حطيطة فإنه يحط عن المشتري، لأنها وصية].
3741 - قال [مالك]: ومن أوصى [في مرضه] بعتق عبده فلم يقبل [العبد]، فلا قول له، ويخرج إذا مات سيده من الثلث إن حمله [الثلث]، أو ما حمل [الثلث] منه.
وإن أوصى أن تباع جاريته ممن يعتقها فأبت، فإن كانت من جواري الوطء، فذلك لها، وإلا بيعت ممن يعتقها، وقيل: لا يلتفت إلى قولها وتباع للعتق، إلا أن لا يوجد من يشتريها بوضيعة ثلث الثمن إن كان للميت مال يحمل [ثلث] الجارية.
3742 - [قال مالك - رحمه الله - :] ومن اشترى ابنه في مرضه، جاز إن حمله الثلث وعتق، وورث باقي المال إن انفرد أو حصته مع غيره.
[قال ابن القاسم:] وإن أعتق عبداً له، واشترى ابنه فأعتقه وقيمته الثلث، فالابن يُبدّأ إذا حمله الثلث [ويكون وارثاً].
ومن أوصى أن يشترى أبوه بعد موته، فإنه يشترى ويعتق في ثلث وإن لم يقل: أعتقوه.
3743 - ومن قال لعبده لفظاً بغير كتاب: إن مت من مرضي هذا، أو في سفري هذا، فأنت حر، أو قال: لفلان كذا، فهي وصية [له]، وله أن يغيرها [ببيع أو غيره]، فإن مات قبل أن يغيرها، جازت من ثلثه إن مات من مرضه أو في سفره، وإن برئ من مرضه أو قدم من سفره فلم يغيرها حتى مات، فذلك باطل ولا ينفذ منه شيء، إلا أن يكون كتب بذلك كتاباً ووضعه على يدي رجل، فلم يغيره بعد قدومه أو إفاقته وأقره حتى مات، فهي وصية تنفذ.(1)
وإن كتب وصيته عند سفره أو عند مرضه، ووضعها على يدي رجل [أمين]، ثم قدم من سفره أو برئ من مرضه، فقبضها ممن هي عنده وأقرها بيده حتى مات، فهي باطل وإن أشهد عليها، وإنما تنفذ إذا جعلها على يدي رجل [أمين].
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/370).

3744 - وإن كتب وصيته في مرض أو صحة أو عند سفر، إلا أنه لم يقل فيها: إن مِتّ في سفري أو في مرضي هذا، وإنما كتب فيها متى حدث [بي حدث الموت]، [أو إن حدث بي حدث الموت]، وأقرها عند نفسه أو أخرجها من يده، فهي جائزة، مات في ذلك [المرض] أو بعده [إذا شهدت عليه بينة].
[قال ابن القاسم: هذا إذا كانت وصيته مبهمة، لم يذكر فيها موته من مرضه أو من سفره، وإنما كتب فيها]: متى حدث [بي] حدث الموت، [وأقرها عند نفسه]، أو أخرجها من يده، [أو كانت على يديه]، فهي جائزة، مات في ذلك أو بعده إذا شهدت عليه بينة، وإنما اختلف الناس في السفر والمرض، [وروى مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: “ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة”].(1)
3745 - قال مالك: ومن كتب وصيته، فليقدم ذكر التشهد [قبل الوصية]. قال ابن القاسم: ولم يذكر لنا مالك كيف هو.
[وروى ابن وهب أن مالك بن أنس قال: كانوا يوصون أن يشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا شريك له]، وأن محمداً عبده ورسوله، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله ربهم، ويصلحوا ذات بينهم إن كانوا مسلمين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}]، وأوصى إن مات في مرضه هذا.
قال مالك - رحمه الله - : وإن كتبها بغير محضر البينة ولا قرأها عليهم، دفعها إليهم وأشهدهم على ما فيها، فإن عرفوا الكتاب بعينه فليشهدوا بما فيه.
قال عنه ابن وهب: ولو طبعها ثم دفعها إليهم وأشهدهم [أن ما فيها منه، وأمرهم] أن لا يفضوا خاتمها حتى يموت، جاز أن يشهدوا بما فيها بعد موته.
__________
(1) رواه مسلم (1627)، (3/1250)، ومالك في الموطأ (2/761)، والبخاري (2738)، والنسائي (6/239)، وفي الكبرى (4/100)، وانظر: المدونة (15/10، 15)، والتمهيد (14/290)، وشرح الزرقاني (4/76).

قال عنه ابن القاسم: وللموصي أن يغير وصيته، ويرجع ويزيد وينقص، أوصى في صحة أو في مرض، بعتق أو غيره.
3746 - وإن قال في وصيته: إن مت [من مرضي] فكل مملوك مسلم لي، حر، وله عبيد مسلمون ونصارى، ثم أسلم بعضهم قبل موته، لم يعتق منهم إلا من كان يوم الوصية مسلماً، لأني لا أراه أراد غيرهم.
وإن قال: أعتقوا عبدي بعد موتي بشهر، أو قال: هو حر بعد موتي بشهر، فذلك سواء، [وهو قول مالك]، فإن لم يحمله الثلث خير الورثة بين أن يجيزوا أو يعتقوا، لأن محمل الثلث [منه] بتلاً، فإن أجازوا الوصية خدمهم تمام الشهر ثم خرج جميعه حراً.
3747 - ومن قال: اشهدوا على أن فلاناً وصيي، ولم يزد على هذا، فهو وصيه في جميع الأشياء، وإنكاح صغار بنيه ومن بلغ من أبكار بناته بإذنهن، والثيب بإذنها، وفي النكاح إيعاب هذا.
وإن قال: فلان وصيي على كذا، لشيء خصه، فإنما هو وصي على ما سمى فقط، وإن قال: [فلان] وصي على قبض ديوني وبيع تركتي، ولم يذكر غير هذا. قال مالك: فأحب إليّ أن لا يزوج بناته [حتى] يرفع إلى السلطان، فإن لم يرفع رجوت أن يجوز. ولو قال: فلان وصيي على اقتضاء ديني أو قضائه، وفلان وصيي على مالي، وفلان وصيي على بضع بناتي، أو قال: فلان وصيي حتى يقدم فلان فيكون وصيي، فذلك جائز، ويكون كما قال.
3748 - وإن مات الوصي فأوصى إلى غيره، جاز ذلك، وكان وصي الوصي مكان الوصي في النكاح وغيره.
قال يحيى بن سعيد: وإن كانا وصيين أو ثلاثة، فأوصى أحدهم عند موته بما أوصى به إليه من تلك الوصية إلى غير شريكه في الوصية، جاز ذلك، وأباه سحنون.

3749 - وللمرأة أن توصي في مالها في إنفاذ وصاياها وعلى قضاء دينها، وإن لم يكن عليها [دين]، فلا يجوز إيصاؤها بمال ولدها الطفل إلا أن تكون وصية من [قيل] أب، وإلا لم يجز إذا كان المال كثيراً، وينظر فيه الإمام، وإن كان يسيراً نحو ستين ديناراً فجائز إسنادها فيه إلى العدل، وذلك فيمن لا أب له ولا وصي. وقال غيره: لا يجوز للمرأة أن توصي بمال ولدها.
ولا تجوز وصية الجد بولد الولد، ولا أخ بأخ له صغير، وإن لم يكن لهم أب ولا وصي وإن قل المال، إلا أن يكون وصياً بخلاف الأم.(1)
3750 - وإذا قبل الوصي الوصية في حياة الموصي، فلا رجوع له بعد موته، ولا تجوز الوصية إلى ذمي أو مسخوط أو من ليس بعدل، ويعزل إن أوصي إليه.
وإن أوصى ذمي إلى مسلم، فإن لم يكن في تركته خمر أو خنازير ولم يخف أن يلزم بالجزية، فلا بأس بذلك.
3751 - ومن أوصى إلى وصيين، فليس لأحدهما بيع، ولا شراء، ولا إنكاح، ولا غيره دون صاحبه إلا أن يوكله. قال غيره: لأن إلى كل واحد منهما [ما إلى] صاحبه.
قال ابن القاسم: وإن اختلفا [في مال الميت] نظر السلطان، ولا يقسم المال بينهما، وليكن عند أعدلهما، فإن استويا في العدالة جعله الإمام عند أكفئهما.
ولو اقتسما الصبيان، فلا يأخذ كل واحد حصة من عنده من الصبيان، ولا يخاصم أحد الوصيين خصماً للميت إلا مع صاحبه. ومن ادعى على الميت دعوى وأحدهم حاضر، خاصمه ويقضى له، ويكون الغائب إذا قدم على حجة الميت.
3752 - ومن أسند وصية إلى مكاتبه أو عبده، جاز ذلك، فإن كان في الورثة أصاغر وأراد الأكابر بيع نصيبهم من العبد، اشترى للأصاغر حصة الأكابر منه إن كان لهم مال يحمل ذلك، فإن لم يحمل ذلك نصيبهم وأضر بهم بيعه، باع الأكابر حصتهم منه خاصة، إلا أن يضر ذلك بالأكابر ويأبوا، فيقضى على الأصاغر بالبيع معهم.
__________
(1) انظر: منح الجليل (9/586).

3753 - ولا يبيع الوصي عقار اليتامى، ولا العبد الذي أحسن القيام بهم، إلا أن يكون لبيع العقار وجه من ملك يجاوره يرغبه في الثمن، أو ما لا كفاية في غلته وليس لهم مال ينفق منه عليهم، فيجوز بيعه، ولا يشتري الوصي لنفسه من تركة الميت ولا يدس أو يوكل من يشتري [له]، فإن فعل تعقب ذلك، فإن كان فيه فضل [كان] لليتامى وإلا مضى.
وأرخص مالك لوصيّ سأله عن حمارين [من حمر الأعراب] في تركة الميت، ثمنهما ثلاثة دنانير، تسوق بهما الوصي في المدينة والبادية [واجتهد]، فأراد أخذهما لنفسه بما أُعطي، فأجاز ذلك واستخفه لقلة الثمن.
ولا يبيع الوصي على الأصاغر التركة إلا بحضرة الأكابر، وإن كانوا بأرض نائية وذلك حيوان أو عروض، رفع ذلك إلى الإمام فأمر من يلي معه البيع للغائب.
ولا يجوز للوصي أن يؤخر الغريم بالدين إن كان الورثة كباراً، وإن كانوا صغاراً جاز ذلك على وجه النظر لهم، ولم يجز ذلك غيره. وفي كتاب النذور من هذا.
3754 - وإذا قال الميت: قد كتبت وصيتي وجعلتها عند فلان فأنفذوها وصدقوه، فإنه يصدق وينفذ ما فيها. وكذلك إن قال: قد أوصيته بثلث [مالي] فصدقوه، جاز ذلك وأنفذ ما قال. فإن قال الوصي: إنما أوصي بالثلث لابني، فقال أشهب: يصدق، وقال ابن القاسم: لا يصدق، لأن مالكاً قال فيمن أوصى فقال: اجعل فلان ثلثي حيث تراه: إنه إن أعطاه لولد نفسه أو لقرابة له، لم يجز إلا أن يكون لذلك وجه يظهر صوابه.(1)
3755 - وإن شهد وارثان أن أباهما أوصى إلى فلان، جاز ذلك. قال غيره: إن لم يجرا بذلك نفعاً إلى أنفسهما، وإن جرا بذلك نفعاً إلى أنفسهما لم يجز.
فإن شهدت امرأتان مع رجل على موت ميت، فإن لم تكن له زوجة ولا أوصى بعتق عبد ونحوه وليس إلا قسمة المال، فشهادتهن جائزة. وقال غيره: لا تجوز.
وتركت [ذكر] شهادة الوصي [أو الوارث] أو النساء في وصية أو دين أو غيره، وذلك كله مذكور في كتاب الشهادات.
__________
(1) انظر: منح الجليل (9/576).

3756 - ومن أسند وصيته إلى أم ولده على أن لا تتزوج، جاز، فإن تزوجت عزلت.
وكذلك لو أوصى لها بألف درهم على أن لا تتزوج فأخذتها، فإن تزوجت أخذت منها.
ومن أوصى لحمل امرأة فأسقطته بعد موت الموصي، فلا شيء له إلا أن يستهل صارخاً.
3757 - وإذا قال الوصي: قد دفعت إلى الأيتام أموالهم بعد البلوغ والرشد، فأنكروا، لم يصدق إلا ببينة وإلا غرم، وقد قال الله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 6].
قال مالك - رحمه الله - : ويصدق في الإنفاق عليهم إن كانوا في حجره إن لم يأت بسرف، وإن ولي النفقة غيره ممن يحضنهم من أم أو غيرها، لم يصدق على دفع النفقة إلى من يليهم إلا ببينة.
3758 - وإن شهد وارث بوصية لرجل، حلف معه إن كان عدلاً وقضي له، وإن نكل أخذ من حصة المقر ما يصير عليه من ذلك إن لم يول على المقر.
وكذلك إن أقر أن هذا الشيء أو العبد لفلان عند أبيه وديعة، فإن نكل فلان فله نصيب المقر فقط من ذلك الشيء.
ومن أوصى بعتق أمته بعد موته بسنة، والثلث يحملها، فما ولدت بعد موته وقبل مضي السنة، فهم بمنزلتها يعتقون بعتقها. وأرش جراحها وقيمتها إن قتلت قبل السنة للورثة، وتقوم كالأمة. وما أفادت بعطية أو اكتسبت من الأموال، فهو لها مقر بيدها لا ينتزعونه، وقيل: ينتزعونه ما لم يقرب الأجل.
وإن جنت خير الورثة، فإما فدوا الخدمة بجميع الجناية أو أسلموا الخدمة للمجني عليه، ويقاص بها في الجناية، فإن أوفت قبل السنة رجعت تخدم الورثة بقية السنة. وإن مضت السنة وقد بقي من أرش الجناية شيء، عتقت وأتبعت بما بقي في ذمتها.

ومن أوصى بعتق أمته إلى أجل والثلث يحملها، فعجل الوارث عتقها قبل الأجل، جاز لا رجوع له، وهو وضع خدمة، والولاء للميت. وإن كانا وارثين فأعتقها أحدهما، فعتقه هاهنا وضع خدمة، فيوضع عن الأمة حق هذا من الخدمة، ويكون نصيبه منها حراً، ولا يضمن لصاحبه قيمة خدمته منها، وتخدم هي الآخر نصف خدمتها إلى تمام الأجل، ثم تخدم حرة.
3759 - قال مالك - رحمه الله - : ومن أوصى لعبد بثلث ماله وقيمته الثلث، عتق جميعه، وما فضل من الثلث كان للعبد، [وإن لم يحمله الثلث عتق منه محمله، قال ابن القاسم: وإذا لم يحمله الثلث وكان مع العبد مال استتم عتقه، ولو لم يعتق فيما بيده من مال، عتق فيما بقي من ثلث سيده الذي بيده رقبته، وكذلك إن أوصى له بسدس وقيمته سدس، فإنه يعتق، وقاله ربيعة والليث، وقال ابن وهب عن مالك: إنه إذا أوصى لعبده بثلث ماله أو سدسه جعل ذلك في رقبة العبد، وإن كان قيمة العبد السدس خرج حراً، قال مالك:] وإن لم يترك غير العبد وأوصى له بثلث ماله وبيد العبد ألف دينار، فلا يعتق من العبد إلا ثلثه، [ولا يعتق فيما بيده من المال]، ويوقف المال بيده، وقاله بعض كبار أصحاب مالك.
3760 - قال ربيعة: وإن كان للعبد امرأة حرة وولده منها أحرار، فأوصى سيد العبد لجميعهم بثلث ماله، عتق العبد في ذلك، لأن ولده ملكوا منه بعضه، وملك [هو] من نفسه البعض.
3761 - ومن أوصى لرجل بخدمة عبده سنة، لم يجز للورثة بيعه على أن يقبضه المشتري إلى سنة، وإن أوصى له بخدمة عبده أو سكنى داره سنة، جعل في ثلث قيمة الرقاب، فإن حملها الثلث نفذت الوصايا، وإن لم يحمل [الثلث] ذلك خير الورثة في إجازة ذلك، أو القطع للموصى له بثلث الميت من كل شيء بتلاً، والوصية في العبد بالخدمة أو بالغة سواء.(1)
__________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/127).

وما ولدت بالأمة] الموصى بعتقها قبل موت سيدها، فهم رقيق، وما ولدت بعد موته، فهم بمنزلتها يعتقون [بعتقها] معها في الثلث أو ما حمل [الثلث] منهم بغير قرعة.
وما ولدت المدبرة بعد التدبير، فهو بمنزلتها يكون مدبراً معها.
ومن وهب حمل أمته، أو تصدق به، أو أوصى به ثم أعتقها هو أو ورثته، عتقت بما في بطنها وبطلت الوصية والعطية، ألا ترى أنه لو وهب ما في بطنها لرجل ثم فلس، بيعت وكان ما في بطنها لمن اشتراها.
3762 - ومن أخدم عبده رجلاً سنين، ثم بعد ذلك وهبه لرجل آخر فقبضه المخدم، ثم مات السيد في الأجل، فقَبْض المخدم للعبد قَبض لنفسه وللموهوب له، وسواء كانت الهبة والخدمة معاً أو وهبه بعد الخدمة وقبضه المخدم في صحة السيد، فالعبد بعد الأجل للموهوب له.
ومن قال في مرضه: يخدم عبدي فلاناً سنة ثم هو حر، فلم يقبل فلان الخدمة، خدم العبد ورثة الميت سنة ثم يعتق، ولو وهبها للعبد أو باعها منه عتق مكانه.
وإن كان الموصى له غائباً ببلد ناء، أجره له السلطان وأُعتق للأجل، إلا إن كان أريد به وجه الكفالة والحضانة، فينتظر به ويكتب إليه أو يخرج العبد إليه، فإن انقضت السنة فيما بين ذلك ولم يجده، كان حراً خدم فيها أو لا، ولا شيء عليه، كمن أبق أو مرض في الأجل الذي أعتق إليه.
ومن قال في وصيته وهو صحيح: عبدي حر بعد موتي بخمس سنين، فإنما يحسب له من يوم موته لا من يوم وصيته.
3763 - والأمة الموصى بخدمتها لرجل حياته أو أجلاً مسمى، وبرقبتها لآخر بعد الخدمة إذا ولدت في الخدمة، فولدها يخدم معها. وكذلك ولد العبد المخدم من أمته يولد في الخدمة، ونفقة الموصى بخدمته في الخدمة على المخدم.
ومن أوصى لوارث بخدمة عبده سنة، ثم هو حر والثلث يحمله، دخل بقية الورثة مع ذلك الوارث في الخدمة على المواريث إن لم يجيزوا له الخدمة، فإذا مضت السنة فهو حر.

3763 - وتجوز وصية المحجور عليه والسفيه والمصاب في حال إفاقته، ولا تجوز [في حال] خبله، ولا وصية مغلوب عل عقله.
3764 - وتجوز وصية صبي ابن عشر سنين وأقل مما يقاربها إذا أصاب وجه الوصية وذلك إذا لم يكن فيها اختلاط.
وروى ابن وهب أن أبان بن عثمان، أجاز وصية جارية ابنة ثمان سنين [أو تسع].(1)
3765 - ومن أوصى أن يشترى عبد أبيه فيعتق، لم يزد على قيمته بخلاف الأجنبي.
ولا تجوز وصية رجل لعبد وارثه إلا بالتافه، كالثوب ونحوه مما يريد به ناحية العبد لا نفع سيده، كعبد كان قد خدمه ونحوه، ومن أوصى لعبد ابنه ولا وارث له غيره، جاز، ولا ينزع ذلك منه الابن.
وإن أوصى لعبد نفسه بمال، كان للعبد إن حمله الثلث، وليس للوارث انتزاعه، ويباع بماله، ولمن اشتراه انتزاعه. وإن أوصى بمال لعبد أجنبي، فلسيده انتزاعه. وإن أوصى لمكاتب نفسه بوصية، جاز ذلك.
3766 - والموصى له إذا قتل الموصي خطأ، جازت الوصية في ماله دون الدية، وإن قتله عمداً، فلا وصية له في مال ولا في دية، كمن قتله وارثه خطأ، فإنما يرث من المال دون الدية، وإن قتله عمداً، لم يرث من مال ولا دية.
ولو أوصى له بعد أن ضربه وعلم به، فإن كانت الضربة خطأ، جازت الوصية في المال والدية. وأما في العمد، فتجوز في ماله دون الدية، لأن قبول الدية فيه كمال لم يعلم به.
وإذا مات الموصى له بعد موت الموصي، فالوصية لورثة الموصى له، علم بها أو لا، ولهم ألا يقبلوها، كشفعة له أو خيار في بيع ورثوه.
3768 - ومن أوصى لوارث، لم تجز وصيته، وإن أوصى له ثم حدث من يحجبه، جازت الوصية إن مات [بعد علمه بمن يحجبه]، لأن تركه لها بعد علمه بمن يحجبه إجازة [لها]. قال أشهب: يجوز، علم بمن يحجبه أو لم يعلم.
3769 - ومن أوصى لامرأة، ثم تزوجها في صحته، ثم مات عنها، بطلت الوصية.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ (2/762).

3770 - وتجوز الوصية للصديق الملاطف بالثلث فأقل منه، وإن زاد على الثلث، لم يجز منه إلا الثلث إلا أن يجيزه الورثة.
وإن أقر له في المرض بدين، جاز إن ورثه ولد، أو ولد ولد.
وأما إن كان ورثته أبوين أو زوجة أو عصبة ونحوه لم يجز [إقراره له].
3771 - ومن أوصى في مرضه، فَعَال على ثلثه، جاز منه الثلث. وأما ذات الزوج إذا عالت على ثلثها في عطاياها في الصحة فرده الزوج، لم يجز منه شيء عند مالك، [لأن المريض لا يريد الضرر، وإنما يريد البر لنفسه، فيجوز من فعله الثلث. والمرأة إذا زادت على ثلثها، فذلك ضرر عند مالك فيرد كله، ولا ينبغي أن يجاز بعض الضرر ويترك بعضه].
3772 - ومن أوصى لرجل بعبد له قيمته أل [درهم، ولآخر بدار قيمتها ألف] وترك ألفاً، فلم تجز الورثة، فالثلث بين الموصى لهم في الأعيان، فيكون لهذا نصف العبد ولهذا نصف الدار، وكل وصية فلا تدخل إلا فيما علم به الميت.
3773 - وأما المدبر في الصحة فيدخل فيما علم به أو لم يعلم، من غائب أو حاضر. فمن أوصى بثلثه أو بعتق أو بغيره ولا مال له يومئذ، أو كان له مال ثم هلك عن مال بفائدة أو مورث، فإن علم بالمال المستفاد قبل موته في صحته أو مرضه، دخلت فيه الوصايا، وإن لم يعلم به لم يدخل فيه إلا المدبر في الصحة، وكل دار ترجع بعد موته من عمري أو [من] حبس هو من ناحية التعمير، فالوصايا تدخل فيه، ويرجع فيه من انتقض من وصية، وإن بعد عشرين سنة.
وأما الحبس المبتّل، فلا يرجع ميراثاً ولا ترجع فيه الوصايا.
3774 - ومن أوصى بعتق كل مملوك له، وقد ورث رقيقاً لم يعلم بهم، فلا يعتق منهم إلا من علمه [منهم]، والدين مبدأ على الوصايا، والإجماع على ذلك.

وأول من يبدأ في الثلث، المدبر في الصحة على كل وصية وعلى العتق الواجب وغيره، وليس للميت أن يرجع في تدبيره قبل موته، وله أن يرجع في الوصية بالعتق قبل موته، بخلاف ما بتل في مرضه. ويبدأ المدبر في الصحة على ما بتل في المرض أو ما أوصى به مما فرط فيه، من زكاة أو كفارة أو نذر. وما أوصى به من زكاة فرط فيها أو كفارة أو نذر فهو في الثلث.
فأما المريض يحل حول زكاته، أو يقدم عليه مال حلّ حوله، فما عرف من هذا فأخرجها في مرضه أو أمر بذلك ثم مات، فإنها خارجة من رأس ماله، فإن لم يأمر بها لم يقض بها على الورثة، وأمروا بغير قضاء.(1)
وإذا أقر المريض بدين، وأوصى بزكاة فرط فيها، وبتل في المرض [ودبّر فيه]، وأوصى بعتق عبد له بعينه، وبشراء عبد بعينه ليعتق، وأوصى بكتابة عبد له [بعينه]، وبحجة الإسلام، وبعتق نسمة بغير عينها، فالديون تخرج من رأس ماله وإن كانت لمن يتهم فيه. وهذا الذي ذكرنا في ثلث ما بقي، فإن كان الدين لمن يجوز إقراره له أخذه. وإن كان لمن لا يجوز إقراره له، رجع ميراثاً ثم يبدأ بالزكاة فيما ذكرنا، ثم المبتاع والمدبر في المرض معاً، ثم الموصى له بالعتق [بعينه] والمشترى بعينه معاً، ثم المكاتب بعينه ثم النسمة بغير عينها مع الحج معاً. وقد قال: يبدأ بالرقبة لضعف أمر الحج.
ومن قال: أعتقوا عبدي فلاناً بعد موتي واشتروا نسمة فأعتقوها عني، بدئ بالعبد الذي بعينه.
ومن أوصى بشيء في السبيل، بدئ بأهل الحاجة منهم، وإن قال: ثلث مالي لفلان وللمساكين، أو في السبيل والفقراء واليتامى، قسم بينهم بالاجتهاد لا أثلاثاً ولا أنصافاً.
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (6/379).

ومن أوصى بعتق عبده بعد موته بسنة، ولفلان بثلثه أو بمائة دينار، والعبد هو الثلث بدئ بالعبد ولم يعتق إلا بعد سنة، وخُيّر الورثة: [بين] أن يعطوا المائة أو الثلث للموصى له بالثلث ويأخذوا الخدمة، وبين أن يسلموا هذه الخدمة للموصى له، لأنها بقية الثلث، فإن أسلموها إليه فمات العبد قبل السنة عن مال، فهو لأهل الوصايا، وإن لم يحمل العبد الثلث خير الورثة في إجازة الوصية أو العتق من العبد مبلغ الثلث بتلاً وتسقط [جميع] الوصايا، [لأن العتق مبدأ على الوصايا]. وقاله جميع الرواة إلا أشهب.
قال مالك: ومن دبّر عبداً في مرضه وقال لآخر: إن حدث بي حدث الموت فأنت حر، فالمدبر مبدأ. [قال سحنون:] وكذلك عند جميع الرواة إلا أشهب.
3775 - ومن باع في مرضه عبداً أو حابى فيه، وقيمة العبد الثلث، وأعتق عبداً له آخر وقيمة المعتق الثلث، بُدئ بالمعتق، كما لو أعتق عبداً وأوصى بوصية، كان العتق مبدأ.
وإن قال: إن مت فمرزوق حر، وميمون حر على أن يؤدي إلى ورثتي مائة دينار، فإن عجل ميمون المائة تحاصا، وإلا بُدئ مرزوق. فإن بقي من الثلث ما لا يحمل ميموناً خُيّر الورثة بين إمضاء الوصية أو يعجلوا فيه عتق بقية الثلث.
وقيل: يبدأ الموصى بعتقه على الذي قال يؤخذ منه مال ويعتق. [وإن أوصى بعتق هذا وبكتابة هذا، بدئ العتق].
وإن أوصى بعتق عبد معجل وآخر إلى شهر، تحاصّا لقرب الأجل، ولو بعد الأجل كالسنة ونحوها بُدئ بالمعجل في الثلث.
وإن أوصى بمال وأوصى بحج، تحاصا. وكذلك إن أوصى بمال وأوصى بعتق نسمة بغير عينها، تحاصا.
والموصي برقبة وبحج، وثلثه يحمل الرقبة وبعض الحجة، فبدّينا بالرقبة، فإنه يُحج عنه ببقية الثلث من حيثما بلغ ولو من مكة.
وإن أوصى أن يحج عنه، فلم يبلغ ثلثه ما يحج [به] عنه إلا من المدينة أو من مكة، فلتنفذ وصيته، وإن لم يوص فلا يحج عنه.
وكره مالك أن يتطوع الولد من مال نفسه فيحج عن أبيه، وكان يقول: لا يعمل أحد عن أحد.

ومن أعتق في مرضه عبداً بعينه يملكه، أو أوصى بعتقه بعد موته وأوصى بوصايا، فالعبد إذا كان بعينه يبدأ. وكذلك إن أوصى بشراء رقبة بعينها فتعتق، فهي أيضاً مبدأة.
وإن أوصى بدنانير في رقبة، فهو يحاص أهل الوصايا.
3776 - وروى [ابن وهب] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتبدية العتق على الوصايا، وفعل ذلك أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - .(1)
ولا يقدم ما قدم الميت في لفظ أو كتاب ولا يؤخر ما أخر وليقدم الأوكد إلا أن ينص على تبدئة غير الأوكد فيقول: ابدءوا عتق النسمة بغير عينها على التي بعينها فينفذ.
[ولو] لم يبدّه الميت لكان المعتق بعينه أولى بالثلث، فإن فضل شيء كان للآخر، [ولا يلتفت إلى اللفظ في كلام الموصي إلا أن يبديه الميت كما وصفنا.
وقد قال الله تبارك وتعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، فأجمع أهل العلم أن الدين يُبدّا على الوصايا].
3777 - [قال مالك:] ومن أوصى [لرجل] بخدمة عبده سنة، أو سكنى داره سنة، وليس له مال غير ما أوصى فيه، [أو له مال لا يخرج ما أوصى به من الثلث]، خيّر الورثة في إجازة ذلك أو القطع بثلث الميت من كل شيء للموصى له.
[قال سحنون: وهذا قول الرواة كلهم لا أعلم بينهم فيه اختلافاً].
قال مالك: وأما إن أوصى له برقبة عبد أو دار، والثلث لا يحمل ذلك، فإنه يقطع لذلك محمل الثلث في تلك الأعيان.
[قال سحنون: وهذا في الوصية بالخدمة والسكنى قول الرواة كلهم، لا أعلم بينهم فيه اختلافاً، وهو أصل من أصول قولهم.
وكذلك قال ابن أبي سلمة إذا أوصى بسكنى داره ولا مال له غيرها: إن الورثة يخيرون في إجازة ذلك أو يقطعون له بثلثها بتلاً].
__________
(1) رواه الدرامي (2/506)، والبيهقي في الكبرى (6/276، 277)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/223، 224)، وانظر: المدونة الكبرى (15/43)، والمحلي (9/333)، وتلخيص الحبير (3/96).

3778 - ومن أوصى لرجل بخدمة عبده سنة، أو حياته ثم هو لفلان، فإن حمله الثلث بُدئت الخدمة، فإذا انقضت [الخدمة] أخذه صاحب الرقبة، زادت قيمته [الآن] أو نقصت عن القيمة التي نفذت في الثلث، وإن حمل الثلث بعضه، خدم ذلك البعض، إن كان نصفه، خدم الموصى له بالخدمة يوماً وللورثة يوماً، فإذا انقضى أجل الخدمة صار نصفه لصاحب الرقبة، وللورثة بيع حصتهم قبل السنة.(1)
3779 - ومن هلك ولم يدع غير ثلاثة أعُبد قيمتهم سواء، فأوصى بأحدهم لرجل، وبخدمة الآخر لآخر حياته، فإن لم يجز الورثة أسلموا الثلث، فضرب فيه صاحب الرقبة بقيمتها، وصاحب الخدمة بقيمتها على غررها على أقل العمرين: عمر العبد [أو عمر] المُخْدَم، [يقال: بكم يتكارى هذا العبد إلى انقضاء أقلهما عمراً، المخدوم أو العبد، إن حيي إلى ذلك فهو لكم، وإن مات [قبل ذلك] بطل حقكم، فما صار لصاحب الرقبة أخذه فيها، وما صار لصاحب الخدمة كان به شريكاً في سائر التركة بتلاً.
وكذلك إن أوصى مع ذلك لآخر بالثلث فإنهم يتحاصون في ثلث الميت، إذا لم يجز الورثة كما ذكرنا.
3780 - ومن أوصى لرجل بمائة دينار، ولآخر بخدمة عبده حياته ثم هو حر، والعبد كفاف الثلث. قال مالك - رحمه الله - : يعمر الموصى له بالخدمة حياته، أو العبد إن كان أقصرهما عمراً، فتقوم خدمة العبد تلك السنين ذهباً، ثم يتحاص هو والموصى له بالمائة في خدمة العبد، فإذا هلك الموصى له بالخدمة، خرج العبد حراً.
وإن لم يحمل العبد الثلث ولم يجز الورثة، عتق من العبد مبلغ الثلث، وسقطت الوصايا بالخدمة وغيرها.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/46).

وإن قال في وصيته: لفلان مائة دينار، ولفلان خدمة عبدي [هذا] حياته، ثم هو لفلان، والثلث لا يحمل وصيته، فإن لم يجز الورثة، أسلموا الثلث فضرب فيه صاحب المائة بمائة، ولا يضرب معه صاحب الرقبة وصاحب الخدمة إلا بقيمة الرقبة فقط، فما صار لهما في المحاصة من الثلث أخذاه في [العبد]، وما صار لهما من العبد بُدئ فيه المخدم [بالخدمة]، فإن مات المخدم، رجع ما كان من العبد [في] الخدمة لصاحب الرقبة، وما صار لصاحب المائة، كان به شريكاً للورثة في جميع التركة، ولا يعمر المخدم في هذه المسألة، ويعمر في التي قبلها.
وإن قال في وصيته: عبدي يخدم فلاناً، ولم يقل: حياته ولا أجلاً، وأوصى أن رقبته لفلان، ولم يقل: من بعده، قومت الرقبة وقومت الخدمة على غررها حياة الذي أخدم، ثم تحاصا في رقبة العبد بقدر ذلك.
وقال أشهب: بل هي وصية واحدة، والخدمة حياة فلان، ثم يرجع إلى صاحب الرقبة.
وإن أخدمت عبدك رجلاً أجلاً مسمى، فمات الرجل قبل انقضاء الأجل، خدم العبد ورثته بقية الأجل إذا لم يكن من عبيد الحضانة والكفالة، وإنما هو من عبيد الخدمة.
ومن قال: قد وهبت خدمة عبدي لفلان، ثم مات فلان، فإن لورثته خدمة العبد ما بقي، إلا أن يستدل من قوله: [إنه] إنما أراد حياة المخدم. وقال أشهب: يحمل على أنه [أراد] حياة فلان، ولو كانت حياة العبد كانت هبة لرقبته.
ومن أوصى بخدمة عبده لرجل حياته، وقال: ما بقي من ثلثي فلفلان، فكان العبد هو الثلث، بدئ بالخدمة، فإذا انقضت كانت الرقبة لصاحب باقي الثلث، زادت قيمته الآن أو نقصت.
وكذلك من قال: داري حبس على فلان حياته، وما بقي من ثلثي فلفلان، والدار كفاف الثلث، فإذا رجعت الدار، كانت لصاحب [باقي] الثلث.
3781 - [ومن أوصى بشيء] يخرج كل يوم إلى غير أمد، من وقيد في مسجد، أو سقي ماء، أو بخبز كل يوم بكذا وكذا أبداً، وأوصى مع ذلك بوصايا، فإنه يحاص بها المجهول في الثلث، وتوقف حصته لذلك، [وهو قول أكثر الرواة].

3782 - [قال مالك - رحمه الله - :] ومن أوصى بسكنى داره لرجل [حياته] ولا مال له غيرها، قيل للورثة: أسلموا إليه سكناها وإلا فاقطعوا له بثلثها بتلاً. وقاله ابن أبي سلمة وجميع الرواة.
وإن أوصى أن يؤاجر أرضه منه سنين مسماة، بثمن معلوم، وقيمة الأرض أكثر من الثلث، فلم يجز الورثة، قيل لهم: فأخرجوا له من ثلث الميت بتلاً بغير ثمن.
3783 - ومن أوصى بوصايا وله مال حاضر ومال غائب، ولا تخرج الوصايا مما حضر، خُيّر الورثة بين إخراجها مما حضر، أو إسلام ثلث الحاضر والغائب لأهل الوصايا يتحاصون فيه، وكذلك إن أوصى لرجل بمائة دينار، وهي لا تخرج من ثلث ما حضر، خُيّر الورثة بين تعجيلها مما حضر أو يقطعوا له بثلث الميت في الحاضر والغائب، وإن لم يترك إلا مائة عيناً ومائة عيناً، فأوصى لرجل بثلث العين ولآخر بثلث الدين، فذلك نافذ، ولكل واحد ثلث مائته بلا حصاص.(1)
3784 - وإن أوصى لهذا بخمسين من العين، ولآخر بأربعين من الدين، فإن لم يجز الورثة أسلموا ثلث العين والدين إليهما، ونظر كم قيمة الأربعين الدين نقداً، فإن قيل: عشرون، كان ثلث الدين والعين بينهما على سبعة أجزاء للموصى له بخمسين خمسة أجزاء، وللموصى له بأربعين جزآن.
3785 - ومن أوصى لرجل بدين لا يحمله الثلث وله عين حاضرة، فإما أجازه الورثة، أو قطعوا له بثلث العين والدين، وكذلك إن أوصى من العين بأكثر من ثلث العين وله عقار وعروض كثيرة، فقال الورثة: لا نسلم العين ونأخذ العروض، فإما أعطوه ذلك من النقد، وإلا قطعوا له [بثلث] ما ترك الميت من عرض، أو دين، أو عين، أو عقار، أو غيره إلا في خصلة واحدة، فإن مالكاً اختلف فيها قوله، فقال مرة: إذا أوصى له بعبد بعينه أو بدابة بعينها، وضاق الثلث، فإن لم يجز الورثة قطعوا له بالثلث من كل شيء.
وقال مرة: بمبلغ الثلث من جميع التركة في ذلك الشيء بعينه، وهذا أحب إليّ.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/51).

3786 - ومن أوصى بعتق عبده وهو لا يخرج مما حضر، وله مال غائب يخرج فيه، فإن العبد يوقف لاجتماع المال، فإذا اجتمع قوّم حينئذ في ثلثه، وليس له أن يقول: أعتقوا مني ثلث الحاضر الساعة. قال سحنون: إلا أن يضر ذلك بالموصى له وبالورثة فيما يعسر جمعه ويطول.
ومن ردّ ما أوصي له به، رجع ميراثاً بعد أن يحاص به أهل الوصايا، مثل أن يوصي لثلاثة نفر بعشرة عشرة، وثلثه عشرة، فيرد أحدهم وصيته، فللباقين ثلثا الثلث. وهذا قول جميع الرواة لا اختلاف بينهم فيه.
3787 - ومن أوصى لرجل بماله، ولآخر بنصفه، ولآخر بثلثه، ولآخر بعشرين ديناراً، والتركة ستون، فخُذْ لصاحب الكل ستة أجزاء، ولصاحب النصف ثلاثة [أجزاء]، ولصاحب الثلث اثنين، ولصاحب العشرين سهمين، لأن عشرين هي الثلث، فذلك ثلاثة عشر جزءاً يقسم عليها الثلث فيأخذ كل واحد ما سميناه له.
وكذلك إن أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بربعه، ولآخر بسدسه أو خمسه، ولم يجز الورثة تحاصوا في الثلث من عين ودين وغيره على الأجزاء، وهذا على حساب عول الفرائض.
قال مالك - رحمه الله - : وما أدركت الناس إلا على هذا. قال سحنون: وهو قول جميع الرواة لا اختلاف بينهم فيه.
ومن أوصى لرجل بثلثه، ولآخر بعبده، وقيمته الثلث، فهلك العبد بعد موت السيد وقبل النظر في الثلث، فإن ثلث ما بقي للموصى له بالثلث، وكأن الميت لم يوص إلا بثلثه لهذا فقط.
ومن أوصى بثلث ماله لرجل، وبربع ماله لآخر، وأوصى بأشياء بعينها لقوم، نظر إلى قيمة هذه المعينات وإلى ما أوصى له من ثلث وربع، فيضربون في ثلث الميت بمبلغ وصاياهم، فما صار لأصحاب الأعيان من ذلك أخذوه في ذلك، وما صار للآخرين كانوا به شركاء مع الورثة.
وإن هلكت الأعيان بطلت الوصايا فيها، وكان ثلث ما بقي بين أصحاب الثلث والربع، يتحاصون فيه.

ومن أوصى لرجل بعبده، ولآخر بسدس ماله، والعبد هو الثلث، فللموصى له بالعبد ثلث الثلث في العبد، والآخر شريك للورثة بسبع ما بقي من بقية العبد وسائر التركة.
وإن كان العبد السدس، كان جميعه للموصى له بالعبد، والآخر شريك للورثة بخمس بقية التركة، وقاله علي بن زياد [ورواه] عن مالك.(1)
3788 - وروى ابن وهب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تجوز وصية لوارث، إلا أن يشاء الورثة.(2)
ومن أوصى لوارث وأجنبي، تحاصا، وعاد حظ الوارث موروثاً إلا أن يجيز الورثة، ولو لم يدع إلا هذا الوارث الموصى له، لم يحاص الأجنبي في ضيق الثلث وبُدئ الأجنبي.
قال يحيى بن سعيد فيمن أوصى بثلثه في السبيل، فإن وليّه يضعه في السبيل، فإن أراد أن يغزو به وله ورثة غيره يريدون الغزو، فإنهم يغزون به بالحصص، فإن لم يرثه غيره، فلا بأس باستنفاقه منه فيما وضع فيه.
قال ربيعة: وإن أوصت امرأة لبعض ورثتها بوصية، وفي السبيل بوصية، فأجاز الزوج ذلك ثم قال: إنما أجزت رجاء أن يعطوني الوصية التي في السبيل، لأنه غاز، فليس ذلك له، ويلزمه ما أجاز.
3789 - ومن أوصى عند موته أن يحج عنه، أنفذ ذلك، ويحج عنه من قد حج [عن نفسه] أحب إليّ. وإن استؤجر من لم يحج، أجزأ، وتحج المرأة عن الرجل والرجل عن المرأة، ولا يجزئ أن يحج عنه صبي، أو عبد، أو من فيه علقة رق، إذ لا حج عليهم، ويضمن الدافع إليهم، إلا أن يظن أن العبد حر وقد اجتهد ولم يعلم، فإنه لا يضمن.
قاله سحنون: وقال غيره: لا يزول عنه الضمان بجهله.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/54).
(2) رواه الترمذي (4/433)، والبخاري (3/1008)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/208)، وعبد الرزاق (9/68، 70)، وابن ماجة (2/905)، والبيهقي في الكبرى (6/85)، وابن الجارود (238)، وانظر: الزرقاني (4/86)، والشرح الكبير (4/437)، والمواهب (4/368)، والمدونة (6/36)، والتمهيد (23/442).

وإن أوصى أن يحج عنه عبد، أو صبي بمال، فذلك [جائز] نافذ، ويدفع ذلك إليه ليحج به عنه إن أذن السيد لعبده والوالد لولده، وذلك أنه كتطوع أوصى به، فهو لو لم يكن صرورة فأوصى بحجة تطوعاً، أنفذت ولم ترد، فهذا مثله.
وإن لم يكن للصبي أب، فأذن له الوصي في ذلك، فإن كان على الصبي فيه مشقة وضرر، وخيف عليه في ذلك ضيعة، فلا يجوز إذنه له، وإن كان الصبي قوياً على الذهاب وكان ذلك نظراً له جاز إذنه، لأن الولي لو أذن له أن يتجر وأمره بذلك، جاز. ولو خرج في تجارة من موضع إلى موضع بإذن الولي، لم بكن به بأس، فكذلك يجوز إذنه له في الحج على ما وصفنا. وقال غيره: لا يجوز للوصي أن يأذن له في هذا.
قال ابن القاسم: فإن لم يأذن له وليه، وقف المال لبلوغه، فإن حج به وإلا رجع ميراثاً، لأنه حين أوصى بحج الصبي والعبد، أراد التطوع لا الفريضة، ولو كان صرورة فسمى رجلاً بعينه يحج عنه، فأبى ذلك الرجل فيحج عنه غيره، بخلاف المتطوع الذي قد حج إذا أوصى أن يحج عنه رجل [بعينه] تطوعاً، هذا إن أبى الرجل أن يحج عنه رجعت ميراثاً، كمن أوصى لمسكين بعينه بمال من ثلثه، فمات المسكين قبل الموصي أو أبى أن يقبل، فذلك يرجع ميراثاً، وكمن أوصى لرجل بشراء عبد بعينه للعتق في غير عتق عليه واجب، فأبى أهله أن يبيعوه، فالوصية ترجع ميراثاً بعد الاستيناء واليأس من العبد.
وقال غيره في الموصي بحجة تطوعاً إذا أبى الرجل أن يحج عنه: لا يرجع ميراثاً. والصرورة في هذا وغير الصرورة سواء، لأن الحج إنما أراد به نفسه، بخلاف الوصية لمسكين بعينه بشيء يرده أو شراء عبد بعينه للعتق.
قال ابن القاسم: ومن قال في وصيته: أحجوا فلاناً، ولم يقل: عني، أُعطي من الثلث قدر ما يحج به، فإن أبى أن يحج، فلا شيء له، وإن أخذ شيئاً رده، إلا أن يحج به.
وإن أوصى أن يحج عنه وارث في فرض أو تطوع، أنفذت وصيته، ولم يزد الوارث على النفقة والكراء شيئاً.

وكان مالك يكره الوصية بهذا، فإن نزل أمضاه، وإن قال: ادفعوا ثلثي لفلان يحج به عني، فإن كان وارثاً لم يدفع إليه إلا قدر نفقته، وكراه ويرد ما بقي من الثلث، وإن كان أجنبياً كان له ما فضل من الثلث كالأجير، وأما الذي يحج على البلاغ، فهو كرسول لهم ويرد ما فضل [من الثلث].
والبلاغ قولهم: تحج بهذه الدنانير عن فلان، وعلينا ما نقص عن البلاغ، أو: خذها فحج منها عن فلان.
والإجارة: أن يستأجره بمال على أن يحج عن فلان، فهذا يلزمه الحج، وله ما زاد وعليه ما نقص، وقد عرف الناس الإجارة والبلاغ.
3790 - ومن أوصى لرجل بدينار من غلة داره كل سنة، أو بخمسة أوسق من غلة حائطه كل عام، والثلث يحمل الدار والحائط، فأخذ ذلك عاماً ثم بار ذلك أعواماً، فللموصى له أخذ وصيته كل عام ما بقي من غلة العام الأول شيء، فإذا لم يبق منه شيء، فإذا غل [ذلك]، أخذ ذلك منه لكل عام مضى [لم] يأخذ له شيئاً.
ولو أكرى الدار في أول سنة بعشرة دنانير، فضاعت إلا ديناراً، كان ذلك الدينار للموصى له، لأن كراء الدار لا شيء لورثة منه إلا بعد أخذ الموصى له منه وصيته، وكذلك غلة الجنان.
ولو قال: أعظه من غلة كل سنة خمسة أوسق، أو من كراء كل سنة ديناراً، لم يكن له أن يأخذ من غلة سنة عن سنة أخرى لم تغل.
ولو أكريت الدار أول عام بأقل من دينار، وجاءت النخل بأقل من خمسة أوسق، لم يرجع بتمام ذلك في عام بعده.
ومن أوصى بغلة داره أو بغلة جنانه للمساكين، جاز ذلك.
3791 - وإن أعمرك رجل حياتك خدمة عبد، أو سكنى دار، أو ثمرة حائط، جاز أن يشتري ذلك منك هو أو ورثته، أو يصالحوك على مال، وإن لم تثمر النخل.
وإن أوصى لك بذلك حياتك، جاز شراؤه للورثة بنقد أو دين، كما يجوز للمعطي، وكالمعري يبيع باقي الحائط، فيجوز للمشتري شراء العرية بخرصها، ولم تختلف الرواة في سكنى الدار فيما ذكرنا.(1)
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/434).

ولو صالحوك من الخدمة على مال، ثم مات العبد وأنت حي، فليس لهم رجوع عليك، ولا يجوز لك أن تبيع هذه الخدمة من أجنبي، أو تؤاجره العبد إلا مدة قريبة كسنة وسنتين وأمد مأمون، ولا تكريه إلى أجل غير مأمون، وأما لو أوصى لك بخدمة العبد عشر سنين فأكريته فيها، جاز، كمن واجر عبده عشر سنين.
قال مالك: ولم أر من فعله، ولو فعل جاز، وهذا خلاف المخدم حياته، لأنه إذا مات المخدم سقطت الخدمة، والمؤجل يلزمه باقيها لورثة الميت.
وللرجل أن يؤاجر ما أوصى به له من سكنى دار، أو خدمة عبد، إلا أن يكون عبداً قال له: اخدم ابني ما عاش، أو حتى يبلغ [أو ينكح] أو أجلاً مسمى، ثم أنت حر، وعلم أنه أراد ناحية الحضانة، فليس للابن أن يؤاجره، ولو مات الابن قبل ذلك عتق مكانه، إلا أن يكون من عبيد الخدمة، [أو] ممن أريد به الخدمة، فإنه يخدم ورثته بقية الأجل إن كان أجلاً.
قال ربيعة: وإن قال: إذا تزوج ابني فأنت حر، فبلغ الابن النكاح وهو موسر، فأبى أن ينكح وتسرر، فإن العبد يعتق الآن، لأنه أراد بلوغ رشده وأن يستعين بالعبد فيما قبل ذلك من السنين.
3792 - ومن أوصى لرجل برقبة جنانه، أو بأمته، أو بعتقها، فأثمر الجنان عاماً أو عامين، أو ولدت الأمة، وذلك كله قبل موت الموصي، والثلث يحمل الجنان وما أثمر، أو الأمة وولدها، فإن الولد والثمرة للورثة دون الموصى له.
وكذلك إذا أبرت النخل وألقحت الشجر قبل موت الموصي، فالثمرة للورثة دون الموصى له، وما أثمر الجنان بعد موته قبل النظر في الثلث، فتلك الثمرة للموصى له.
ولا تقوم الثمرة مع الأصل، وإنما تقوم مع الأصل بعد موت الموصي في الولادة وشبهها، والثمرة هاهنا كالغلة والخراج، لا كولادة الأمة، وكذلك ما أفاد المدبر والموصى بعتقه، والموصى به لرجل من فوائد بعد موت الموصي قبل النظر في الثلث، فلا يقوّم معهم في الثلث، وإنما يقوم معهم من أموالهم ما مات السيد وهو بأيديهم، أو ما نما من ربحه بعد موته.

وليس لهم أن يتجروا فيه بعد موته، فإن فعلوا فالربح بمنزلة رأس المال، وكذلك لا يقوم مع المبتل في المرض، ما أفاد بعد عتقه قبل موت السيد أو بعد موته.
فهذه فوائد لهم وللموصى له بالعبد إن حمل الثلث رقابهم، وإن حمل بعض الرقاب، وقف المال بأيديهم.
واستحداث الميت للدين في المرض يرد ما بتل من العتق في مرضه، ويضر العبد، كما يضره ما تلف من المال.
قال سحنون: وقد قال غير هذا، وهو قول أكثر الرواة: إن ما اجتمع في الإيقاف بعد الموت لاجتماع المال للمدبر، أو للموصى له بعتقه، أو برقبته لرجل من مال تقدم [لهم]، أو ما ربحوا فيه من تجارة، أو من عمل أيديهم، أو بهبة، أو بغيرها من الفوائد، فإن ذلك يقوم في الثلث معهم، خلا أرش ما جنى على المدبر، فليس له، وذلك للسيد كبعض تركته.
وكذلك المبتل في المرض يقوم معه ماله، وما أفاد من ذلك كله بعد العتق قبل موت السيد أو بعده.
وكذلك الجنان الموصى بها لرجل، أن ما أثمرت بعد موت الموصي، يقوم مع الأصول في الثلث، وإن حمل الثلث جميع العبيد الذين ذكرنا، كان المال لهم وللموصى له بالعبد.
وكذلك النخل إذا حملها الثلث بثمرها كانت الثمرة للموصى له، وإن حمل الثلث نصف ما ذكرنا، وقف المال بأيدي العبيد ولا ينزع ممن جرت فيه حرية منهم، ويكون للموصى له بالجنان نصف النخل ونصف الثمرة. قال سحنون: وهذا أعدل أقوال أصحابنا.
3792 - ومن قال في صحته: غلة داري للمساكين، وأنا ألي غلتها وأفرقها ما دمت حياً، فإن ردها ورثتي بعد موتي، فهي وصية في ثلثي، تباع ويتصدق بثمنها، فذلك نافذ كما قال.
ولو قال: هي لبعض ورثتي، وألي أنا قسمتها، فإن رد ذلك ورثتي بعد موتي، بيعت، وتصدق بثمنها من ثلثي، لم يجز ووُرثت. وإذا أوصى بثلثه لوارث وقال: فإن لم يجزه باقي الورثة فهو في السبيل، لم يجز ذلك، وهو من باب الضرر. وكذلك بعبد، فإن لم يجيزوا فهو حر، فإنه يورث إن لم يجيزوا.

ولو قال: هو حر أو في السبيل، أو قال: داري أو فرسي في السبيل إلا أن يشاء ورثتي أن ينفذوا ذلك لابني، فذلك نافذ على ما أوصى [به].
3793 - ومن أوصى لرجل بثلاثين ديناراً، ثم أوصى له تارة أخرى بالثلث، فله أن يضرب مع أهل الوصايا بالأكثر.
قال مالك: ومن أوصي له بمبذر عشرين مدياً من أرضه، فإن كانت الأرض مبذرها مائة، فله خمسها بالسهم، وقع له أقل من عشرين أو أكثر لكرم الأرض أو رداءتها، وإن أوصى له بدار ثم أوصى له بعشرة دور، وللميت عشرون داراً، فله الأكثر إن حمله الثلث، أو ما حمل الثلث إلا أن يجيز الورثة، وإن كانت الدور في بلدان شتى أخذ النصف من كل دار بالسهم.
ومن أوصى بوصية بعد أخرى فإن لم تتناقضا أنفذتا جميعاً، وإن كانتا من صنف واحد فزادت إحداهما، أنفذت الزائدة فقط، وإذا تناقضتا، أخذ بالآخرة وبطلت الأولى، كمن أوصى لرجل بشيء بعينه من صنف، ذكر منه كيلاً، أو وزناً، أو عدداً من طعام، أو عرض، أو عين، أو غيره، أو بعدد بغير عينه من رقيق عنده، أو غنم، ثم أوصى له من ذلك الصنف بأكثر من تلك التسمية أو أقل، فله أكثر الوصيتين كانت الأولى أو الآخرة. وإن كان أوصى له آخراً بنصف آخر، فله الوصيتان جميعاً.
3794 - ومن أوصى بشيء بعينه من دار، أو ثوب، أو عبد، أو دابة لرجل، ثم أوصى بذلك لرجل آخر، [فهو بينهما، وكذلك لو أوصى بثلثه، ثم أوصى لرجل آخر] بجميع ماله، لم يعدّ رجوعاً، وكان الثلث بينهما على أربعة أسهم.
3795 - ومن له ثلاثة دور أوصى بثلثهن لرجل، فاستُحق منها داران، أو أوصى بثلث داره فاستُحق ثلثاها، فللموصى له ثلث ما بقي، وإن قال: العبد الذي أوصيت به لزيد، هو [وصية] لعمرو، فذلك رجوع.
وإن أوصى بعتق عبد بعينه، ثم أوصى به لرجل، أو أوصى به أولاً لرجل، ثم أوصى به للعتق، فالآخرة تنقض الأولى، إذ لا يشترك في العتق.
3796 - ومن أوصى لرجل بمثل مصاب أحد بنيه فإن كانوا ثلاثة، فله الثلث.

قال مالك - رحمه الله - : وإذا قال: لفلان مثل ما يصيب أحد ورثتي، وترك رجالاً ونساء، فليقسم المال على عدد رؤوسهم فيعطى جزءاً منه، ثم يقتسم ما بقي بين الورثة إن كانوا ولده، للذكر مثل حظ الأنثيين.
3797 - ومن أوصى لولد ولده بثلثه ولا يرثونه، فذلك جائز، قيل: فإن مات أحدهم وولد غيرهم بعد موت الموصي قبل قسمة المال؟ قال: [فإن] ذلك كقول مالك في الموصي لأخواله وأولادهم أو لمواليهم. قال ابن القاسم: أو لبني عمه أو لبني فلان بثلثه، فذلك لمن حضر القسم، لا يحسب من مات بعد موت الموصي ولا يحرم من ولد، لأنه لم يسم قوماً بأعيانهم.
وقال ابن القاسم في باب بعد هذا، فيمن أوصى بثلثه لموالي فلان، فمات بعضهم، وولد لبعضهم، وعتق آخرون قبل القسم: إن ذلك لمن حضر القسم كالوصية لولد الولد.
وإن قال: ثلثي لهؤلاء النفر، وهم عشرة، فإن من مات منهم يرث نصيبه وارثوه. قيل له: فإن قال: ثلثي لولد فلان، وولد [فلان] ذلك الرجل عشرة ذكور وإناث؟ قال: الذي سمعت من مالك أنه إذا أوصى بحبس داره أو ثمرة حائطه على ولد فلان، أو على ولد ولده، أو على بني فلان، فإنه يؤثر أهل الحاجة [منهم] في السكنى والغلة، وأما الوصايا فلا أحفظ قول مالك فيها، ولكني أراها بينهم بالسوية. قال سحنون: فهذه المسألة أحسن من المسألة التي قال فيمن أوصى لأخواله وأولادهم.
وقد روى ابن وهب في الأخوال مثل رواية ابن القاسم، إلا أن قول عبد الرحمن ابن القاسم في هذه المسألة أحسن، وكذلك يقول غيره.
وليس وصيته لأخواله، أو ولد فلان بشيء ناجز، كوصيته لهم بغلة موقوفة تقسم إذا حضرت كل عام، فهذا قد علم أنه أراد بها غير معين، فهي على مجهول ممن يأتي، فإنما تكون الغلة لمن حضر قسمتها كل عام، فأما وصيته لأخواله، أو ولد فلان بمال ناجز وهم معروفون لقلتهم، وتعلم عدتهم، فكالوصية لقوم مسمّين.(1)
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/72)، والتاج والإكليل (6/374).

3798 - وإذا كانت الوصية لقوم مجهولين لا تعرف عدتهم لكثرتهم، مثل قوله على بني تميم، أو بني زهرة، أو المساكين، فهذا لم يرد قوماً بأعيانهم، لأن ذلك لا يحصى ولا يعرف، فإنما يكون ذلك لمن حضر القسم، وتركت مسألة من حبس داراً على قوم حبساً صدقة، لأنها مذكورة في آخر كتاب الهبات أتم مما هنا.
3799 - ومن قال: ثلثي لولد فلان. وقد علم أنه لا ولد له، جاز، وينتظر أيولد له أم لا، ويساوى فيها بين الذكر والأنثى. وإن لم يعلم أنه لا ولد له، فذلك باطل.
وكذلك وصيته لميت ولا يعلم بموته، فوصيته باطلة، وإن علم بموته، نفذت الوصية لورثة الموصى له وقضى بها دينه.
3800 - وإذا مات الموصى له بعد موت الموصي، فالوصية لورثة الموصى له، علم بها أو لا، وإن مات قبل موت الموصي، بطلت الوصية، علم الموصي بموته أم لا.
قال مالك: ويحاص بها ورثة الموصي أهل الوصايا في ضيق الثلث، ثم تورث تلك الحصة. [وقد قال مالك - رحمه الله - : إذا علم الموصي بموت الموصى له، بطلت الوصية، ولا يحاص بها أهل الوصايا.
[قال سحنون: وعلى هذا قول الرواة، وإنما تحاص الورثة أهل الوصايا]بوصية الموصى له، إذا مات الموصى له قبل موت الموصي، والموصي لا يعلم أن الموصى له مات، والأمر عنده أن وصيته لمن أوصى له جائزة، فلما بطلت بموت الموصى له، رجع ما كان له إلى مال الميت ودخل الورثة، فحاصوا أهل الوصايا بوصيته، لأنه هو كان كذلك، كان يحاصهم بوصيته].
وأكثر الرواة على أنهم يتحاصون بها إن لم يعلم بموته ولا يتحاصون بها إن علم، وقاله أيضاً مالك.
3801 - مالك: ومن أوصى بثلثه لبني تميم أو لقيس، جاز وقسم على الاجتهاد، قال: ولقد نزلت أن رجلاً أوصى لخولان بوصية، فأجازها مالك ولم ير فيها شيئاً للموالى.
ومن أوصى بثلثه لموالى فلان، كان لمواليه الأسفلين دون الأعلين.

ومن قال: ثلثي لفلان وفلان، أحدهما غني والآخر فقير، فالثلث بينهما نصفين، فإن مات أحدهما بعد موت الموصي ورث نصيبه ورثته، وإن مات قبله فللباقي نصف الثلث، ولا شيء لورثة الآخر، ويرجع نصيبه إلى ورثة الموصي.
3802 - وإن أوصى لفلان بعشرة، ولفلان بعشرة، والثلث عشرة، فمات أحدهما قبل موت الموصي، فكان مالك يقول: إن علم الموصي بموته فالعشرة للباقي، وإن لم يعلم حوصص بينهما، فيصير للحي خمسة، وترجع الخمسة التي وقعت للميت لورثة الموصي ميراثاً، وعليه أكثر الرواة. ثم قال مالك: تكون العشرة للباقي علم الموصي بموته أم لا. ثم قال [آخر زمانه]: أرى أن يحاص بها الباقي، علم الموصي بموت الآخر أم لا.
قال ابن القاسم: وبه آخذ، [وقد ذكر ابن دينار أن قوله هذا الآخر هو الذي يعرف من قوله قديماً.
قال ابن القاسم:] وكذلك قوله: ثلث مالي لفلان، وثلثا مالي لفلان، فيموت أحدهما [قبل الموصي] على اختلاف القول في صاحبي العشرة سواء. فإن كان الميت منهما صاحب الثلث كان للباقي منهما ثلثا الثلث في قول مالك الآخر، [ويحاصه الورثة، علم الموصي بموت الآخر أم لا، وبه أقول].
وفي قول مالك الأول يختلف، إن علم أو لم يعلم بحال ما وصفنا.
وفي قوله الأوسط يكون للباقي جميع الثلث، فعلى هذا فقس ما يرد عليك.
3803 - قلت: فمن أوصى في مرضه بأكثر من ثلثه، فأجاز ورثته ذلك قبل موته من غير أن يطلبهم الميت بذلك، أو طلبهم فأجازوا، ثم رجعوا بعد موته.

قال: قال مالك - رحمه الله - : إذا استأذنهم في مرضه فأذنوا له، ثم رجعوا بعد موته، فمن كان عنه بائناً من ولد، أو أخ، أو ابن عم، فليس ذلك لهم. ومن كان في عياله من ولد قد احتلم، أو بناته، أو زوجاته، فذلك لهم، وكذلك ابن العم الوارث إن كان ذا حاجة إليه، ويخاف إن منعه، وصح أن يضربه في منع رفده إلا أن يجيزوا بعد الموت، فلا رجوع لهم بعد ذلك. ولا يجوز إذن البكر والابن السفيه وإن لم يرجعا، ومن أوصى بجميع ماله وليس له إلا وارث واحد مديان، فأجاز ذلك، فلغرمائه رد الثلثين وأخذه في دينهم.
3804 - وإن أقر الولد أن أباه أوصى لرجل بثلث ماله، وعلى الولد دين يغترق مورثه، وأنكر غرماؤه الوصية، فإقراره قبل القيام عليه بالدين جائز.
ولا يجوز إقراره بعد القيام عليه، وكذلك إقراره بدين على أبيه، أو بوديعة عند أبيه، فإقراره بعد قيام الغرماء عليه، لا يقبل إلا ببينة، وإقراره قبل أن يقام [عليه] جائز.
فإن كان المقر له حاضراً، حلف واستحق، كمن شهد أن هذا الذي في يديه تصدق به فلان على فلان وتركه له في يدي، وأنكر الذي هو له، فإن حضر المشهود له، جاز ذلك مع يمينه، وإن كان غائباً لم يجز، لأن المقر يتهم على بقاء ذلك الشيء بيده.
* * *

(كتاب الوديعة)(1)
3805 - ومن أودعته مالاً فدفعه إلى زوجته أو خادمه، لترفعه له في بيته، ومن شأنه أن ترفع له، لم يضمن ما هلك من ذلك، وهذا [ما] لا بد منه. وكذلك إن دفعه إلى عبده أو أجيره الذي في عياله، أو رفعه في صندوقه أو بيته ونحوه، لم يضمن، ويصدق أنه دفعه إلى أهله، أو أنه أودعه على هذه الوجوه التي ذكرنا أنه لا يضمن فيها، وإن لم تقم له بينة.
__________
(1) انظر: منح الجليل (7/3)، والتاج والإكليل (4/249)، ومواهب الجليل (5/259)، والكافي (ص403)، والمدونة الكبرى (15/144).

وإن أراد سفراً أو خاف عورة منزله ولم يكن صاحبها حاضراً، فيردها عليه، فليودعها ثقة ولا يُعرِّضها للتلف، ثم لا يضمن، وإن أودعها لغير هذا الذي يعذر به ضمن، إلا أنه لا يصدق إن أراد سفراً أو خاف عورة منزله فأودعها، إلا أن يعلم سفره وعورة منزله، فيصدق، وإن سافر فحمل الوديعة معه، ضمن.
وإن أودعت المسافر مالاً فأودعه في سفره فضاع، ضمن، [بخلاف الحاضر يسافر].
3806 - قال مالك - رحمه الله في امرأة ماتت بالإسكندرية فكتب وَصِيُّها إلى ورثتها وهم بالمدينة، فلم يأته منهم خبر، فخرج بتركتها إليهم فهلكت في الطريق، فهو لها ضامن حين خرج بها بغير أمر أربابها.
ومن أودعته دنانير ودراهم فخلطها بمثلها ثم ضاع المال كله، لم يضمن، وإن ضاع بعضه كان ما ضاع وما بقي بينكما، لأن دراهمك لا تعرف من دراهمه، ولو عرفت بعينها كانت مصيبة دراهم كل واحد منه، ولا يغيرها الخلط.
وإن أودعته حنطة فخلطها بحنطة، فإن كانت مثلها وفعل ذلك بها على الإحراز لها والرفع، فهلك الجميع لم يضمن، وإن كانت مختلفة ضمن، وكذلك إن خلط حنطتك بشعير ثم ضاع الجميع، فهو ضامن، لأنه قد أفاتها بالخلط قبل هلاكها.
وإن أودعته حنطة فخلطها صبي أجنبي بشعير للمودع، ضمن الصبي ذلك في ماله، وإن لم يكن له مال ففي ذمته، لهذا مثل حنطته ولهذا مثل شعيره، وإن اختارا ترك الصبي ويكونان في المخلوطين شريكين بقدر طعام كل واحد بعد العلم بكيله فَعَلا، ولو أعطى أحدهما الآخر مثل طعامه على أن يدع له جميع المخلوط، لم يجز، [لأنه بيع]، إلا أن يكون هو المتعدي في خلطه، فيجوز ذلك، لأنه قضاء لما لزمه.

ومن أودعته دراهم أو حنطة أو ما يكال أو يوزن، فاستهلك بعضها ثم هلك بقيتها، لم يضمن إلا ما استهلك [أولاً]. ولو كان قد ردّ ما استهلك، لم يضمن شيئاً، وهو مصدق أنه رد فيها ما أخذ، كما يصدق في ردها إليك وفي تلفها. وكذلك إن تسلف جميعها ثم رد مثلها مكانها لبرئ، كان أخذه إياها على السلف أو على غيره، فلا شيء عليه إن هلكت بعد أن ردها. ولو كانت ثياباً فلبسها حتى بليت، أو استهلكها ثم رد مثلها، لم تبرأ ذمته من قيمتها، لأنه إنما لزمته قيمتها.
3807 - ومن بيده وديعة أو قراض لرجل، فقال له: رددت ذلك إليك، فهو مصدق، إلا أن يكون قبض ذلك ببينة، فلا يبرأ إلا ببينة، ولو قبضه ببينة فقال: ضاع مني أو سرق، صدق.
وإن دفعت إليه مالاً ليدفعه إلى رجل، فقال: دفعته إليه، وأنكر ذلك الرجل، فإن لم يأت الدافع إليه ببينة، ضمن، قبض [ذلك منه] ببينة أو بغير بينة.
ولو شرط الرسول أن يدفع المال إلى من أمرته بغير بينة، لم يضمن، وإن لم تقم له بينة بالدفع إذا ثبت هذا الشرط. وإن قال الرسول: لم أجد الرجل فرددت المال إليك صدق، إلا أن يكون قبضه ببينة [فلا يبرأ إلا ببينة].
3808 - ولو قال في الوديعة والقراض: قد رددت ذلك إلى ربه مع رسولي، ضمن، إلا أن يكون رب المال أمره بذلك.
3809 - وإن بعثت بمال إلى رجل بلد فقدمها الرسول ثم مات بها، وزعم الرجل أن الرسول لم يدفع إليه شيئاً، فلا شيء لك في تركة الرسول ولك اليمين على من يجوز أمره من ورثته أنه ما يعلم لك شيئاً. ولو مات الرسول قبل أن يبلغ البلد فلم يوجد للمال أثر، فإنه يضمن ويؤخذ من تركته.
3810 - ومن هلك وقبله قراض وودائع لم توجد ولم يوص بشيء، فذلك في ماله ويحاص بذلك غرماؤه، وإن قال عند موته: هذا قراض [فلان] وهذه وديعة فلان، فإن لم يتهم صدق، وذلك للذي سمى له.

ومن بعثت معه بمال ليدفعه إلى رجل صدقة أو صلة أو سلفاً، أو من ثمن بيع، أو ليبتاع لك به سلعة، فقال: دفعته إليه وأكذبه الرجل، لم يبرأ الرسول إلا ببينة، وكذلك إن أمرته بصدقته على قوم معينين، فإن صدقه بعضهم وكذّبه بعضهم، ضمن حصة من كذبه، ولو أمرته بصدقته على غير معينين صدق مع يمينه [و]إن لم يأت ببينة.
3811 - ومن أودع وديعة بيده لغير عذر، ثم استردها فهلكت عنده، لم يضمن، كرده لما تسلف منها.
[ومن أودعته] وديعة فجحدك إياها وأقمت عليه بينة، فإنه يضمن.
3812 - ومن قال لرجل: أقرضتك كذا وكذا، وقال الرجل: بل أودعتنيه وتلف، صدق رب المال، ولو قال ربه: بل غصبتنيه وسرقته مني، فهو مدع، لأنه من معنى التلصص، فلا يصدق عليه، ولا يضمن له الرجل شيئاً.
ومن أخذ من رجل مالاً فقال الدافع: إنما قضيتكه من دينك [الذي] لك عليّ، أو رددته [إليك] من القراض الذي لك عندي، وقال الآخر: بل أودعتنيه فضاع عندي، صدق الدافع مع يمينه.
3813 - وإن كانت لك عند رجل ألف درهم قرضاً وألف درهم وديعة، فأعطاك ألفاً أو بعث بها إليك، ثم زعم أنها القرض وأن الوديعة قد تلفت، وقلت أنت: بل الذي قبضت الوديعة، فالقول قول المستودع كما يصدق في ذهاب الوديعة.
3814 - ومن أودع صبياً صغيراً وديعة بإذن أهله أو بغير إذنهم فضاعت، لم يضمن.
ومن باع منه سلعة فأتلفها فليس له اتباعه بثمن ولا قيمة.(1)
ولو ابتاع من الصبي سلعة ودفع الثمن إليه فأتلفه، فالمبتاع ضامن للسلعة ولا شيء له قبل الصبي من الثمن.
وإن أودعت عبداً محجوراً عليه وديعة فأتلفها، فهي في ذمته إن عتق يوماً ما، إلا أن يفسخها عنه السيد في الرق، فذلك له، لأن ذلك يعيبه فيسقط ذلك عن العبد في رقه وبعد عتقه.
__________
(1) انظر: مختصر خليل (1/227)، ومواهب الجليل (5/567)، والفواكه الدواني (2/116)، والتاج والإكليل (5/267)، وحاشية الدسوقي (3/296).

3815 - وما أتلف المأذون [له] من وديعة بيده فذلك في ذمته لا في رقبته، لأن الذي أودعه متطوع بالإيداع، وليس للسيد أن يفسخ ذلك عنه. وكذلك ما أفسد العبد الصانع المأذون له في الصناعة مما دفع إليه ليعمله أو يبيعه فأتلفه. وكذلك من ائتمنه على شيء أو أسلفه فإن ذلك في ذمته، لا في رقبته ولا فيما في يديه من مال السيد، وليس للسيد فسخ ذلك عنه.
وما قبضه العبد والمكاتب وأم الولد والمدبر من وديعة بإذن ساداتهم فاستهلكوها، فذلك دين في ذممهم لا في رقابهم، بخلاف الصبي يقبض وديعة بإذن أبيه فيتلفها هذا، لا يلزمه شيء ولا ينبغي ذلك لأبيه.
ومن أودعته وديعة فاستهلكها ابنه الصغير، فذلك في مال الابن، فإن لم يكن له مال فذلك في ذمته.
ومن أودعته وديعة فاستهلكها عبده فهي جناية في رقبته، فإما فداه بذلك أو أسلمه، ومن قتل عبداً فقيمته في ماله حالّة ولا تحملها العاقلة.
3816 - ومن أودعته وديعة فادعى أنك أمرته أن يدفعها إلى فلان ففعل، وأنكرت أنت أن تكون أمرته، فهو ضامن، إلا أن تقوم له بينة أنك أمرته بذلك.
وإن بعثت إليه بمال فقال: [قد] تصدقت به [عليّ]، وصدقه الرسول وأنت منكر للصدقة، فالرسول شاهد يحلف معه المبعوث إليه ويكون المال صدقة عليه. قيل: كيف يحلف ولم يحضر؟ قال: كما يحلف الصبي إذا كبر مع شاهده في دين أبيه.
3817 - وإن بعت من رجل ثوباً وبعثت معه عبدك أو أجيرك ليقبض الثمن فقال: قبضته وضاع مني، فإن لم يقم المشتري بينة بالدفع إلى رسولك ضمن بخلاف من دفعت إليه مالاً ليدفعه إلى رجل فقال: دفعته إليه بغير بينة، وصدقه الرجل، هذا لا يضمن.
3818 - ومن أودعته أمة فوطئها، فعليه الحد والولد عبد لك.
ومن أودعته وديعة فأتى رجل فزعم أنك أمرته بأخذها، فصدقه ودفعها إليه فضاعت، فالدافع ضامن، فإن ضمّنته كان له الرجوع على آخذها منه.

ومن أودع رجلين وديعة أو استبضعهما فليكن ذلك عند أعدلهما كالمال بيد الوصيين، وإذا لم يكن في الوصيين عدل خلعهما السلطان ووضع المال عند غيرهما.
[قال ابن القاسم: ولم أسمع من مالك في الوديعة والبضاعة شيئاً وأراه مثله].
3819 - ومن استودعك دابة وغاب فأنفقت عليها بغير أمر السلطان، فإنك إن أقمت بينة أنه أودعكها منذ وقت كذا فإن الإمام يبيعها ويقضيك ما ادعيت من النفقة وإن لم يشهدوا بها إذا لم تدع شططاً.
ومن أودعته بقراً أو أًتناً أو نوقاً فأنزى عليهن فحملن فمتن من الولادة أو كانت أمة فزوجها فحملت وماتت من الولادة، فهو ضامن. وكذلك لو عطبت تحت الفحل.(1)
وقد روي عن مالك - رحمة الله عليه - فيمن رهن جارية عند رجل فزوّجها المرتهن بغير أمر صاحبها، فحملت وماتت من النفاس، أن ضمانها من الراهن. وقال ابن القاسم: ضمانها من المرتهن.
3820 - ومن أودعته إبلاً فأكراها إلى مكة ورجعت بحالها إلا أنه حبسها عن أسواقها ومنافعك فيها فأنت مخير في تضمينه قيمتها يوم تعديه ولا كراء لك، أو [تأخذها] وتأخذ كراها، وكذلك المستعير يزيد في المسافة أو المكترى.
3821 - ومن أودعته وديعة فقال: أنفقتها على أهلك وولدك وصدقوه في ذلك، فهو ضامن إلا أن يقيم بينة ويكون ما أنفق يشبه نفقتهم ولم تكن أنت تبعث إليهم بالنفقة، فيبرأ.
ومن أودعته أمة فزوجها بغير إذنك فهو ضامن لما نقصها التزويج، وإن ولدت وكان في الولد ما يجبر به نقص النكاح لم يغرم لنقص النكاح شيئاً، وربها مخير إن شاء أخذها وولدها وإن شاء ضمّنه قيمتها بلا ولد.
__________
(1) انظر: التقييد (6/212).

وقاله مالك - رحمه الله - فيمن رد أمة ابتاعها بعيب وقد زوجها وولدت أنه يجبر نقص النكاح بالولد، كما يجبره بزيادة قيمتها، والنكاح ثابت، زوّجها من عبد أو من حر، لأنه زوجها وهي في ملكه كما لو أعتقها جاز عتقه، وإن أعتقها بعد علمه بالعيب لم يرجع بشيء، وإن لم يعلم رجع بحصته، ولو تسوق بها بعد علمه بالعيب لزمته ولم يردها.
3822 - ومن أودعته مالاً فتجر فيه فالربح له، وليس عليه أن يتصدق بالربح.
[وتكره التجارة بالوديعة] ومن لك عليه مال من وديعة أو قراض أو بيع [فجحدك ثم صار بيدك مثله بإيداع أو بيع] أو غيره. قال مالك - رحمه الله - : فلا يعجبني أن تجحده.(1)
وقد روي: “أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك”.(2)
3823 - ومن أودعك وديعة ثم غاب فلم تدر أين موضعه، أحي هو أم ميت، ولا مَنْ ورثته، فإنك تستأني بها، فإن طال الزمان ويئست منه، فينبغي أن تتصدق بها عنه.
وإن أودعته وديعة فاستهلكها ثم ادعى أنك وهبتها له وأنكرت، فالقول قولك.
3824 - ومن أودعك عبداً فبعثته في سفر أو في أمر يعطب في مثله فهلك، ضمنته.
وأما إن بعثته لشراء بقل أو غيره من حاجة تقرب من منزلك، لم تضمن، لأن الغلام لو خرج في مثل هذا لم يمنع منه.
وإن أودعك عبد وديعة وهو مأذون أو غير مأذون ثم غاب فقام سيده ليأخذها، فله ذلك.
__________
(1) انظر: منح الجليل (7/22)، وحاشية الدسوقي (3/425).
(2) رواه الترمذي (3/564)، (1264)، وأبو داود (3535)، والدارمي (2/343)، والحاكم في المستدرك (2/46)، والدارقطني (3/35)، والبيهقي (10/270، 271)، وانظر: كفاية الطالب (2/359)، وحاشية الدسوقي (3/431)، والفواكه الدواني (2/170)، والمدونة (15/160)، وحاشية العدوي (2/359)، والتمهيد (20/159)، وشرح الزرقاني (4/40).

وقاله مالك - رحمه الله - فيمن ادعى متاعاً بيد عبد غير مأذون وصدّقه العبد وقال رب العبد: بل المتاع لي، أو قال: لعبدي، فالقول قول السيد، ولو كان العبد مأذوناً كان القول قول العبد. وكذلك في إقراره بدين.
* * *

(كتاب العارية)
3825 - ومن استعار دابة ليركبها حيث شاء وهو في الفسطاط، فركبها إلى الشام أو إفريقية، فإن كان وجه عاريته إلى مثل ذلك فلا شيء عليه، وإلا ضمن، والذي يسأل رجلاً يسرج له دابته ليركبها في حاجة له، فيقول له ربها: اركبها حيث أحببت، فهذا يعلم الناس أنه لم يسرجها له إلى الشام ولا إلى إفريقية.
قال ابن القاسم: وقد وجدت في مسائل عبد الرحيم.
وقال مالك - رحمه الله - فيمن استعار دابة ليركبها إلى موضع، فلما رجع زعم ربها أنه أعارها إياه إلى دون ما ركبها إليه، أو إلى بلد آخر: فالقول قول المستعير إن ادعى ما يشبه مع يمينه، ويكون عليه فضل ما بين كراء الموضع الذي [أقر المعير أنه أعار إليه، وبين كراء الموضع الذي] ركب إليه المستعير [إذا ادعى ما لا يشبه].
وكذلك إن اختلفا فيما حمل عليها، [صُدّق المستعير فيما يشبه].
3826 - ومن استعار مهراً فحمل عليها حمل بز، لم يصدق أنه استعاره لذلك، وإن كان بعيراً، صُدّق.
ومن استعار دابة ليحمل عليها حنطة، فحمل عليها حجارة، فكل ما حمل عليها مما - صلى الله عليه وسلم -و أضر بها مما استعارها له فعطبت به، فهو ضامن.
وإن كان مثله في لضرر لم يضمن، كحمله عدساً في مكان حنطة أو كتاناً أو قطناً في مكان بز.
وكذلك من اكتراها لحمل أو ركوب، فأكراها من غيره في مثل ما اكتراها له فعطبت، لم يضمن.
وإن استعارها لحمل حنطة فركبها فعطبت، فإن كان ذلك أضر بها وأثقل ضمن، وإلا لم يضمن. وإن استعارها ليركبها إلى موضع فركب وأردف رديفاً تعطب في مثله فعطبت، فربها مخير في أخذ كراء الرديف فقط، أو يضمنه قيمة الدابة يوم أردفه.
وفي كتاب الأكرية ذكر المكتري يزيد في الحمل ما تعطب الدابة في مثله أو لا.

3827 - وإن استعارها إلى مسافة فجاوزها بها فتلفت، فربها مخير في أن يضمنه قيمتها يوم التعدي أو كراء التعدي فقط.
ومن استعار ما يغاب عليه من ثوب أو غيره فكسره أو خرقه أو ادعى أنه سرق منه أو احترق، فهو له ضامن وعليه فيما أفسده إفساداً يسيراً ما نقصه، وإن كان كثيراً ضمن قيمته كلها إلا أن يقيم بينة أن ذلك هلك بغير سببه، فلا يضمن إلا أن يكون منه تضييع أو تفريط فيضمن.
قال ابن القاسم: وكذلك وجدت هذه المسألة في مسائل عبد الرحيم.
ولا يضمن ما لا يغاب عليه من حيوان [أو غيره]، وهو مصدق في تلفه، ولا يضمن شيئاً مما أصابه عنده إلا أن يكون بتعديه.
3828 - وإن أمرت من يضرب عبدك عشرة أسواط ففعل، فمات العبد منها، فلا شيء لك عليه، واستحب له أن يكفر كفارة الخطأ. وإن ضربه أحد عشر سوطاً أو عشرين سوطاً، فمات من ذلك، فإن زاد زيادة أعانت على قتله، ضمن.
3829 - ومن أذنت له أن يبني في أرضك أو يغرس، فلما فعل أردت إخراجه، فأما بقرب إذنك له مما لا يشبه أن تعيره إلى مثل تلك المدة القريبة، فليس لك إخراجه إلا أن تعطيه ما أنفق. وقد قال في باب بعد هذا: قيمة ما أنفق وإلا تركته إلى مثل ما يرى الناس أنك أعرته إلى مثله من الأمد.
وإذا أردت إخراجه بعد أمد يشبه أنك أعرته إلى مثله فلك أن تعطيه قيمة البناء والغرس مقلوعاً وإلا أمرته بقلعه إلا أن يكون مما لا قيمة له ولا نفع فيه من جص ونحوه فلا شيء للباني فيه، وكذلك لو ضربت لعاريته أجلاً فبلغه، وليس لك ههنا إخراجه قبل الأجل، وإن أعطيته قيمة ذلك قائماً، وكذلك لو لم يبن ولم يغرس حتى أردت إخراجه، فليس ذلك لك قبل الأجل، ولو لم تضرب أجلاً كان ذلك لك.

وإذا سميت له أجلاً ولم يسم ما يبنى [فيه] ويغرس، فليس لك منعه مما يبني ويغرس إلا فيما يعلم أنه يضر فيه بأرضك، وإن [ضربا أجلاً] فأراد الباني أن يخرج قبل الأجل، فله قلع بنائه أو غرسه إلا أن تشاء أنت أخذه بقيمته مقلوعاً إن كان إذا قلع فيه منفعة، وإن لم تكن فيه منفعة، فلا شيء له عليك.
وإن أعرته أرضك للزرع فزرعها، فليس لك إخراجه حتى يتم الزرع، إذ ليس مما يباع حتى يطيب، فتكون فيه القيمة، وليس لك أخذه بكراء من يوم رمت إخراجه، ولا فيما مضى، إلا أن تكون إنما أعرته للثواب، فهذا بمنزلة الكراء، وإن أعرته أرضك يبني فيها ويسكن عشر سنين، ثم يخرج ويدع البناء، فإن بيّن صفة البناء ومبلغه وضرب لذلك أجلاً، فهو جائز، وهي إجارة، وإن لم يصفه لم يجز، وإن وصفه وقال: أسكن ما بدا لي، ولم يؤجّل، فمتى خرجت فالبناء لك، لم يجز ذلك، فإن بنى على هذا وسكن، فله قلع بنائه ولك عليه كراء أرضك، ولك أن تعطيه قيمته مقلوعاً ولا ينقضه.
وإن أعرته أرضك عشر سنين على أن يغرسها أصولاً، على أن يكون لك بعد المدة شجرها، لم يجز، إذ ليس للشجر حد معروف، والمغارسة من ناحية الجعل، وإنما يجوز أن تعطيه أرضك يغرسها أصولاً نخلاً وكرماً أو فرسكاً أو تيناً أو شبه ذلك، فإن بلغت شباباً كذا، فالشجر والأرض بينكما على النصف أو الثلث أو ما سميتما.
وإن أعطيتها له سنتين أو ثلاثاً يغرسها شجراً كذا، فإذا خرجت من الأرض فهي لك، لم يجز، بخلاف البناء، لغرر الغراسة، إذ لا يدرى ما ينبت منها، كما لو استأجرته يغرس لك كذا وكذا شجرة مضمونة عليه إلى أجل، لم يجز، ولو كان بناء معلوماً يوفيكه إلى أجل معلوم، جاز.(1)
3830 - ومن استعار مسكناً عشر سنين ثم مات، فورثته بمثابته، كان قد قبضه أو لم يقبضه، وإن مات المعير قبل القبض بطلت العارية. وإن مات بعد القبض نفذ ذلك كله إلى أجله.
__________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/299).

ومن أعمر رجلاً داراً حياته، رجعت بعد موته إلى المعطي، والناس عند شروطهم، وتكون العمرى في الرقيق والحيوان كله، ولم أسمع ذلك في الثياب، وهي عندي على ما أعارها عليه من شروط.
3831 - ولم يعرف مالك الرقبى، وفُسّرت له فلم يجزها، وهي أن تكون دار بين رجلين فيحبسانها على أن من مات منهما [أولاً] فنصيبه حبس على الآخر، وسألته عن العبد بينهما يحبسانه على أن من مات أولاً فنصيبه يخدم آخرهما موتاً حياته، ثم يكون العبد حراً بعده، فلم يجزه مالك، إلا أنه ألزمهما العتق إلى موتهما، ومن مات منهما فنصيبه يخدم ورثته دون صاحبه ويبطل ما أوصى به في الخدمة، لأنه خطر. وإذا مات آخرهما كان نصيب كل واحد حراً من ثلثه، كمن قال: إذا مت فعبدي يخدم فلاناً حياته، ثم هو حر. ولو قال: عبدي حر بعد موت فلان، كان من رأس ماله. وكذلك لو كان ذلك في العبد الذي بين الرجلين، فمات أحدهما لكان نصيب الحي حراً من راس ماله في قوله: نصيبي منه بعد موت فلان حر.
3832 - ومن استعار دنانير أو دراهم أو فلوساً أو طعاماً، فذلك سلف مضمون لا عارية.
وقال مالك فيمن حبس على رجل مائة دينار يتجر بها أمداً معلوماً، فإنه ضامن لما نقصت، وهي كالسلف، وذلك جائز، فإن شاء قبلها على ذلك أو ردها، فترجع ميراثاً.
وقال في امرأة حبست دنانير على ابنة ابنتها على أن تنفق منها إذا أرادت الحج أو نفست، فذلك نافذ فيما شرطت، وليس للابنة أن تتعجلها قبل [ذلك على] أن تضمنها.
3833 - ومن اعترف دابة فأقام البينة أنها له، سألهم القاضي عن علمهم، فإن شهدوا أنهم لا يعلمون أنه باع ولا وهب، قُضي له بها بعد يمينه على البت أنه ما باع ولا وهب ولا خرجت عن ملكه بوجه من الوجوه، فإن شهدوا أن الدابة له ولم يقولوا: لا نعلم أنه باع ولا وهب ولا تصدق، حلف على البت كما ذكرنا ويقضى له، [قال أشهب: هذا إذا لم يقدر على كشف الشهود].
وإن شهدوا على البت أنه ما باع ولا وهب كانت شهادتهم زوراً.

3834 - ومن استأجر دابة فعطبت [تحته] [ثم استحقت]، فليس لمستحقها أن يُضمّنه قيمتها، بخلاف من ابتاع طعاماً فأكله، وإنما يضمن المبتاع ما هلك بانتفاعه.
وليس للعبد أن يعير شيئاً من متاعه أو يدعو إلى طعام إلا بإذن سيده، وهذا مذكور في كتاب المأذون.
3835 - ومن استعار سيفاً ليقاتل به فضرب به [فانكسر]، لم يضمن، لأنه فعل ما أذن له فيه، وهذا إذا كانت له بينة أو عرف أنه كان معه في اللقاء، وإلا ضمن.
قلت: فمن استعار دابة إلى مسافة فجاوزها بميل ونحوه، ثم رجع بها إلى الموضع الذي استعارها إليه، ثم رجع بها ليردها إلى ربها فعطبت في الطريق، وقد رجع إلى الطريق الذي أذن له فيه، هل يضمن؟ [قال: قال مالك: هو ضامن إلا أن يكون مثل منازل الناس، فلا شيء عليه].
3836 - قال: [وسمعت مالكاً] يُسأل عمن تكارى دابة إلى ذي الحليفة فتعداها، ثم رجع فعطبت بعد أن رجع إلى ذي الحليفة، فقال: إن كان تعدى إلى مثل منازل الناس فلا شيء عليه، وإن جاوز ذلك بمثل الميل والميلين، ضمن.
قال ابن القاسم: ومن بعث رسولاً إلى رجل يعيره دابة إلى برقة، فقال له الرسول: يسألك فلان أن تعيره إياها إلى فلسطين فأعاره، فركبها المستعير ولا يدري فعطبت، فإن أقر الرسول بالكذب ضمنها، وإن قال: بذلك أمرتني، وأكذبه المستعير فلا يكون الرسول ههنا شاهداً، لأنه خصم، [والمستعير ضامن إلا أن يأتي ببينة أنه أمره إلى برقة.
3837 - قال ابن القاسم:] ومن ركب دابة لرجل إلى بلد وادعى أنه أعاره إياها، وقال ربها: بل أكريتها منه، فالقول قول ربها، إلا أن يكون ليس مثله يكري الدواب لشرفه وقدره.(1)
* * *

(كتاب الحبس)
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (5/271).

3838 - قال: ومن حبّس في سبيل الله فرساً أو متاعاً، فذلك في الغزو، ويجوز أن يصرف في مواحيز الرباط، كالإسكندرية ونحوها، وأمر مالك في مال جُعل في السبيل أن يُفرَّق في السواحل من الشام ومصر [وتونس بالغرب] ولم يَرَ جُدَّة من ذلك. قيل: قد نزل بها العدو. قال: كان ذلك أمراً خفيفاً.(1)
[وسأله قوم: أيام كان من دهلك ما كان، وقد تجهزوا يريدون الغزو إلى عسقلان وإلى الإسكندرية أو بعض السواحل، فاستشاره قوم أن ينصرفوا إلى جدة فنهاهم عن ذلك وقال لهم: الحقوا بالسواحل].
3839 - قال ربيعة: كل ما جعل حبساً أو حبساً صدقة، فذلك يصرف في مواضع الصدقة على نحو النفع به، إن كانت دواب ففي الجهاد، وإن كانت غلة أموال فرأي الإمام في [أي وجه] الصدقة [يضعها].
ومن قال: داري حبس فقط، ولم يجعل لها مخرجاً في وصيته، فهي حبس على الفقراء [والمساكين] إلا أن يُرى لذلك وجه يصرف إليه، مثل أن يكون بموضع رباط كالإسكندرية، وجُلّ ما حبس الناس بها في السبيل فيجتهد فيها الإمام.(2)
3840 - ومن حبس رقيقاً أو دواب في السبيل، استعملوا في ذلك ولم يباعوا، ولا بأس أن يحبس الرجل الثياب والسروج.
وما ضعف من الدواب المحبسة في السبيل، وما بلي من الثياب حتى لا ينتفع به، بيع فاشتُري بثمن الدواب فرس أو برذون أو هجين، فإن لم يبلغ أُعين به في فرس.
ابن وهب عن مالك: وكذلك الفرس يكْلِب أو يخبث، فلا باس أن يباع ويشترى فرس مكانه.
قال ابن القاسم: وأما الثياب فيشترى بثمنها ثياباً ينتفع بها، فإن لم يبلغ، تصدق بها في السبيل.
وقد روى غيره أنه لا يُباع ما حبس من عبد أو ثوب، كما لا تباع الرباع الداثرة [الحبس إذا خربت، وبقاء أحباس السلف خراباً دليل على أن بيعه غير مستقيم]، وإن كان قد روي عن ربيعة في الرباع والحيوان خلاف هذا، إذا رأى ذلك الإمام.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/32)، والتقييد (6/157).
(2) انظر: منح الجليل لعليش (8/145).

3841 - مالك: ومن قال: هذه الدار حبس على فلان وعقبه، أو عليه وعلى ولده وولد ولده، أو قال: حبس على ولدي، ولم يجعل لها مرجعاً، فهي موقوفة لا تباع ولا توهب، وترجع بعد انقراضهم حبساً على أولى الناس، بالذي حبس يوم المرجع وإن كان حياً.
قال مالك: وإن تصدق بدار له على رجل وولده ما عاشوا، ولم يذكر شرطاً ولا مرجعاً فانقرضوا، فإنها ترجع حبساً في فقراء أقارب الذي حبس ولا تورث.
قال غير ابن القاسم: كل حبس أو صدقة لا مرجع لها على مجهول [يأتي] فهو الحبس الموقوف، مثل أن يقول: على ولدي، ولم يسمهم، [هذا مجهول]، ألا ترى أن من حدث من ولده بعد هذا القول يدخل فيه؟.
وكذلك لو قال: على ولدي وعلى من يحدث لي بعدهم، فإنها لا ترجع ملكاً.
قال ربيعة: وكذلك على قوم لا يحاط بعددهم.
قال ربيعة: فأما الصدقة على قوم بأعيانهم - ومعناه: ما عاشوا ولم يذكر تعقيباً - فهو تعمير ترجع إليه إذا ماتوا مُلْكاً.(1)
3842 - [قال مخرمة بن بكير: أو لورثته إن مات ملكاً].
وأصل قول مالك أنه إذا قال: حبساً، ولم يقل: صدقة، فهي حبس إذا كانت على غير قوم بأعيانهم، وإن كانت على قوم بأعيانهم فقال: حبس، ولم يقل: صدقة، لا تباع ولا توهب، فقد اختلف قوله فيه، فمرة قال: ترجع بعد انقراضهم إلى ربها إن كان حياً، أو إلى ورثته بعد موته ملكاً تباع. وقال مرة: لا ترجع ملكاً، وتكون حبساً، كقوله: لا تباع.
وإن قال في المعينين حبساً صدقة، أو قال: لا تباع، فانقرضوا، فلم يختلف قوله أنها لا تباع وترجع إلى أولى الناس به يوم المرجع حبساً، ولا ترجع إليه وإن كان حياً، وعليه أكثر الرواة.
3843 - وقال ربيعة: ومن حبس داره على ولده وولد غيره، فليسكنوها بقدر مرافقهم، فإن انقرضوا فهي لولاته دون ولاة من ضم مع ولده.
__________
(1) انظر: المقدمات لابن رشد (2/420)، والتقييد (6/160).

قال يحيى بن سعيد: من حبس داره على ولده، فهي على ولده وولد ولده: ذكرهم وأنثاهم، إلا أن ولده أحق من أبنائهم ما عاشوا، إلا أن يكون فضل فيكون لولد الولد.
وقال مالك: من قال حبس على ولدي فإن ولد الولد يدخلون مع الآباء، ويؤثر الآباء.
وإن قال: على ولدي وولد ولدي، دخلوا أيضاً ويبدأ بالولد، فإن كان فضل كان لهم وكان المغيرة وغيره يساوي بينهم.
3844 - قال مالك: ولا شيء لولد البنات، للإجماع أنهم لم يدخلوا في قول الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11].
[ابن القاسم:] ومن حبس في مرضه داراً على ولده وولد ولده والثلث يحملها، ثم مات وترك [أماً] وزوجة، فإنها تقسم على عدد الولد وولد الولد، فما صار لولد الولد نفذ لهم في الحبس، وما صار للأعيان كان بينهم وبين الأم والزوجة على الفرائض موقوفاً بأيديهم حتى ينقرض ولد الأعيان، فتخلص الدار كلها لولد الولد حبساً، [ولو ماتت الأم أو الزوجة كان ما بيدهما لورثتهما موقوفاً، وكذلك يورث نفع ذلك عن وارثهما [أبداً] ما بقي أحد من ولد الأعيان]، فإن مات أحد ولد الأعيان قسم نصيبه [بالتحبيس] على من بقي من ولد الأعيان وعلى ولد الولد، [لأنهم هم الذين حبس عليهم]، ثم تدخل الأم والزوجة وورثة الميت من ولد الأعيان في الذي أصاب ولد الأعيان من ذلك على فرائض الله تعالى، فإن هلكت الأم أو الزوجة أو هلكتا جميعاً، دخل ورثتهما في حظوظهما ما دام أحد من ولد الأعيان حياً.
فإذا انقرضت الأم أو الزوجة أولاً دخل ورثتهما مكانهما.

فإن انقرض أحد ولد الأعيان بعد ذلك، قسم نصيبه على من بقي من ولد الأعيان [وعلى ولد الولد، ورجع من بقي من ورثة ذلك الهالك من ولد الأعيان] وورثة الزوجة وورثة الأم في الذي أصاب ولد الأعيان، فيكون بينهم على الفرائض، فإن مات ورثة الزوجة والأم وبقي ورثة ورثتهم دخل في ذلك ورثة ورثتهم، وورثة من هلك من ولد الأعيان أبداً، ما بقي من [ولد الأعيان أحد بحال ما وصفنا، فإن انقرض ولد الأعيان و]ولد الولد، رجعت الدار حبساً على أقرب الناس بالمحبس.
3845 - ومن حبس داراً على رجل وعلى [ولده و]ولد ولده، واشترط على الذي حبس عليه إصلاح ما رثّ منها من ماله، لم يجز، وهو كراء مجهول، ولكن يمضي [ذلك] ولا مرمة عليه، وترم من غلتها، وقد فاتت في سبيل الله ولا يشبه البيوع.
3846 - وقال مالك في الفرس يحبس على الرجل ويشترط على المحبس عليه حبسه سنة وعلفه فيها: إنه لا خير فيه، إذ قد يهلك الفرس قبلها فيذهب علفها باطلاً.
3847 - قال ابن القاسم: وأرى إن لم يمض الأجل أن يخير الذي حبس الفرس، فإما ترك الشرط وبتل الفرس للرجل، أو أخذه وأدى للرجل ما أنفق عليه، وإن مضى الأجل لم يؤد، وكان للذي بتل له بعد السنة بغير قيمة.(1)
3848 - وأما بائع العبد على أنه مدبر على المبتاع، فلا خير فيه، إلا أنه لا يفسخ، لأنه بيع [قد] فات بالتدبير، ويرجع البائع على المبتاع بتمام الثمن، إن كان البائع هضم له من الثمن [لذلك] شيئاً.
3849 - ويكره لمن حبس أن يخرج البنات من حبسه، [ولا يخرج من الحبس أحد لأحد].
__________
(1) انظر: البيان والتحصيل لابن رشد (12/204).

[وروى ابن وهب أن عائشة - رضي الله عنها - كانت إذا ذكرت صدقات الناس اليوم وإخراج الناس بناتهم منها، تقول: ما وجدت للناس مثلاً اليوم في صدقاتهم إلا ما قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء} [الأنعام: 139].
قال سحنون: فهذا من قول عائشة يدل أن الصدقات فيما مضى إنما كانت على البنين والبنات، ولقد كتب عمر بن عبد العزيز أن ترد صدقات [الناس] التي أخرجوا منها البنات. ولا يخرج من الحبس أحد لأحد].
ومن لم يجد مسكناً فلا كراء له، ومن مات أو غاب غيبة انتقال استحق الحاضر مكانه، وأما من سافر لا يريد مقاماً، فهو على حقه إذا رجع.
قال عطاء: لا يخرج أحد لأحد إلا أن يكون بيده فضل مسكن.
3850 - قال مالك: ومن حبس على ولده وأعقابهم ولا عقب له يومئذ، فأنفذه في صحته ثم هلك هو وولده وبقي ولد ولده وبنوهم، فذلك بين جميعهم إن تساووا في الحال، والمؤنة سواء بينهم إلا أن الأولاد ما داموا صغاراً لم يبلغوا أو ينكحوا أو تعظم مؤنتهم، فإنه لا يقسم لهم، ولكن يعطى الأب بقدر ما يمون، وإذا نكح الأبناء وعظمت مؤونتهم كانوا بقسم واحد مع آبائهم.
وقد قال مالك: وإذا بنى بعض أهل الحبس فيه، أو أدخل خشبة، أو أصلح ثم مات ولم يذكر لما أدخل في ذلك ذِكْراً، فلا شيء لورثته فيه.
قال ابن القاسم: وإن كان قد أوصى به أو قال: هو لورثتي، فذلك لهم، وإن لم يذكر ذلك، فلا شيء لهم، قلّ أو كثر.
وقال المغيرة: لا يكون من ذلك صدقة محرمة إلا فيما لا بال له من الميازيب والسُّتَر، وأما ما له خطر، فإنه مال له يورث عنه ويقضى به دينه.

3851 - ومن حبس نخل حائط على المساكين في مرضه والثلث يحمله فلم يخرجه من يده حتى مات، فذلك نافذ، لأنها وصية، وأما من حبس في صحته مالاً غلة له مثل السلاح والخيل وشبه ذلك، فلم ينفذها ولا أخرجها من يده حتى مات، فهي ميراث، وإن كان يخرجه في وجوهه ويرجع إليه، فهو نافذ من رأس ماله.
وإن أخرج بعضه وبقي بعضه فما أخرج فهو نافذ وما لم يخرج فهو ميراث.
وكذلك ما حبس صحته أو تصدق به على المساكين من حائط أو دار أو شيء له على، فكان يكريه ويفرق غلته كل عام على المساكين، ولم يخرجه من يده حتى مات لم يجز ذلك، لأن هذا غير وصية إلا أن يخرج ذلك من يده قبل موته أو يوصي بإنفاذه في مرضه لغير وارث، فينفذ من ثلثه.
ولا يجوز من فعل الصحيح إلا ما قُبِض وحيز قبل أن يموت أو يفلس.
وكذلك إن وهب أو تصدق على من يقبض لنفسه من وارث أو غيره فلم يقبض ذلك المعطى حتى مات المعطي، لم يكن للمعطى قبضها الآن، وكانت إن مات مال وارث، وكذلك الحبس والعمرى والعطايا والنحل.
[وروي أن أبا بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم أجمعين - وغيرهم قالوا: لا تجوز صدقة حتى تقبض].
وقال عثمان بن عفان: إلا أن ينحل ولده الصغير الذي لم يبلغ أن يحوز [نحلته]، فيعلن بها ويشهد، فيجوز وإن وليه الأب.
3852 - ومن حبس ثمرة حائطه على رجل بعينه حياته فكان يغتلها، ثم مات المعطي وفيه ثمرة قد طابت، فهي لورثته، وإن لم تطب فهي لرب الحائط، كما قال مالك فيمن حبس حائطاً على قوم معينين فكانوا يلونه ويسقونه، فمات أحدهم بعد طيب الثمرة، فإن نصيبه لورثته، وإن أُبرت ولم تطب فجميع الثمرة لبقية أصحابه يقوون بها على العمل. قال: وإن لم يلوا عملها وإنما تقسم عليهم الغلة، فنصيب الميت ها هنا لرب النخل. ثم رجع مالك فقال: بل يرد ذلك على من بقي من أصحابه.
وبهذا أخذ ابن القاسم أن ذلك يرجع على من بقي منهم كان مما تنقسم غلته أو كانوا يلونه بأنفسهم.

وروى الرواة كلهم عن مالك: ابن القاسم وأشهب وابن وهب وابن نافع وعلي والمغيرة، أنه قال فيمن حبس على قوم بأعيانهم ما يقسم من غلة دار أو غلة عبد أو ثمرة: إن من مات منهم رجع نصيبه إلى الذي حبسه، [لأن هذا مما يقسم عليهم]، وأما دار يسكنونها أو عبد يخدمهم، فنصيب الميت لباقيهم، لأن سكناهم الدار سكناً واحداً، واستخدامهم العبد كذلك.(1)
فثبت الرواة [كلهم] عن مالك على هذا، وقاله المغيرة على هذا فيما يقسم وفيما لا يقسم، على ما وصفنا، إلا ابن القاسم فإنه أخذ برجوع مالك في هذا بعينه، فقال: يرجع على من بقي، كان مما ينقسم أو لا ينقسم، وهذا ما اجتمعوا عليه.
فإن مات منهم ميت والثمرة قد أبرت، فحقه فيها ثابت، قاله غير واحد من الرواة.
3853 - ومن أسكن رجلاً داراً سنين مسماة، أو حياته على أن عليه مرمتها، لم يجز، وهو كراء مجهول.
وأما إن أعطاه رقبتها على أن ينفق على ربها حياته فهو بيع فاسد، والغلة للمعطي بالضمان، وترد الدار على ربها ويتبعه بما أنفق عليه.(2)
* * *

(كتاب الصدقة)
3854 - ومن تصدق على رجل بدار، فلم يقبضها المعطى حتى باعها المعطي، فإن علم المعطى بالصدقة فلم يقبضها حتى بيعت، تم البيع وكان الثمن للمعطى، وإن لم يعلم فله نقض البيع في حياة البائع وأخذها، فإن مات المعطي قبل أن يقبضها المعطى فلا شيء له، بيعت أو لم تبع.(3)
__________
(1) انظر: منح الجليل (8/140).
(2) انظر: البيان والتحصيل (12/187).
(3) انظر: منح الجليل (8/186).

قال أشهب: إن خرجت من ملك المعطي بوجه ما وحيزت عليه، فليس للمعطى شيء، وكل صدقة أو حبس أو هبة أو عطية بتلها مريض لرجل بعينه أو للمساكين، فلم تخرج من يده حتى مات، فذلك نافذ في ثلثه كوصاياه، لأن حكم ذلك وحكم ما أعتق الإيقاف ليصح المريض فيتم ذلك أو يموت، فيكون في الثلث، ولا يتم فيه للقابض في المرض قبض. ولو قبضه كان للورثة إيقافه، وليس لمن قبضه أكل غلته إن كانت له، ولا أكله إن كان مما يؤكل، ولا رجوع للمريض فيه، لأنه بتل بخلاف الوصية، ولا يتعجل الموهوب قبضه إلا على أحد قولي مالك في المريض له مال مأمون، فينفذ ما بتل من عتق أو غيره.
3855 - ومن تصدق على ابنه الصغير بجارية فتبعتها نفسه، فلا باس أن يقومها على نفسه، ويشهد ويستقضى للابن.
3856 - ومن تصدق على أجنبي بصدقة، لم يجز له أن يأكل من ثمرتها ولا يركبها ولا ينتفع بشيء منها.
وأما الأب والأم إذا احتاجا، أُنفق عليهما مما تصدقا [به] على الولد.ولا يشتري الرجل صدقته من المتصدق عليه ولا من غيره.
3857 - وإن تصدقت على رجل بدراهم وجعلتها على يدي غيره، والموهوب له حاضر عالم جائز الأمر، فلم يقم [ولا قبض] حتى مت أنت، فذلك نافذ إن لم تكن أنت نهيت الذي هي على يديه عن دفعها إليه إلا بأمرك. فإن كنت نهيته فذلك لورثتك، وإن لم تنهه فللمعطى أخذها بعد موتك، لأنه إنما تركها في يدي رجل قد حازها له، ولو شاء أخذها منه في حياتك ولا رجوع لك فيها، ولو دفعت في الصحة مالاً لمن يفرقه في الفقراء وفي السبيل ثم مت قبل إنفاذه، فإن كنت شهدت فإنه ينفذ ما فات وما بقي وهي من رأس المال. وإن لم تشهد فالباقي لورثتك، وإن فرق باقيه بعد موتك ضمن البقية لورثتك.

3858 - وما اشترى الرجل من هدية لأهله في سفره من كسوة ونحوها، ثم مات قبل أن يصل إلى بلده، فإن كان أشهد على ذلك فهو لمن اشتراه له، وإن لم يشهد فهو ميراث. وإن بعث [رجل] بهدية أو صلة لرجل غائب، ثم مات المعطي أو المعطى قبل وصولها، فإن كان أشهد فهي للمعطى أو لورثته، وإن لم يشهد فهي للذي أعطى أو لورثته.
3859 - ومن تصدق بحائط على رجل وفيه ثمرة فزعم أنه لم يتصدق عليه بثمرها، فإن كانت الثمرة يوم الصدقة لم تؤبّر فهي للمعطى، وإن كانت مأبورة فهي للمعطي، ويقبل قوله ولا يمين عليه، وكذلك الهبة.
قال: ويحوز المعطى الرقاب، والسقي على المعطي، لمكان ثمرته، [و]يتولى ذلك المعطى فيتم الحوز.
3860 - ومن وهب لرجل نخلاً واستثنى ثمرتها لنفسه عشر سنين، فإن كان الموهوب له يسقيها بمائه لم يجز، وهو غرر.
وقد قال مالك فيمن دفع فرسه إلى رجل يغزو عليه سنتين أو ثلاثاً وينفق عليه المدفوع إليه الفرس من عنده ثم هو للمدفوع إليه الفرس بعد الأجل، واشترط عليه أن لا يبيعه قبل الأجل: [إنه لا خير فيه، إذ قد يهلك الفرس قبل الأجل] فتذهب نفقته باطلاً، فهو غرر.
قال ابن القاسم: ولو كانت النخل بيد الواهب يسقيها ويقوم عليها جاز، وكأنه وهبها له بعد عشر سنين، فإن سلمت النخل إلى ذلك الأجل ولم يمت ربها ولم يلحقه دين فله أخذها، وإن مات ربها أو لحقه دين فلا حق له فيها.(1)
قال أشهب في الفرس إن شرطه: ليس مما يبطل العطية، وهو كمن أعاره لرجل يركبه سنة ثم هو لفلان فترك المعار عاريته لصاحب البتل أنه يتعجل قبضه فإذا [جعله عارية له و]كان مرجعه إليه من نفسه كان أحرى أن يتعجله ويزول الخطر.
3861 - وإذا تزوجت الجارية ولم تدخل بيتها فلا يجوز عتقها ولا صدقتها في ثلث ولا غيره حتى تدخل بيتها وتكون رشيدة، فذلك لها حينئذ في ثلثها، وليس بعد الدخول حد مؤقت يجوز إليه صنيعها، وحدها الدخول إن كانت مصلحة.
__________
(1) انظر: الكافي (1/354).

قال ربيعة: ثم لها رد ما أعطت قبل جواز أمرها.
* * *

(كتاب الهبة)(1)
3862 - ومن وهب من مال ابنه [الصغير] شيئاً، لم يجز، فإن تلفت الهبة ضمنها الأب.
ومن تصدق على رجل أو وهبه شقصاً له في دار أو عبد، فذلك جائز، ويحل المعطى فيه محله، فيكون ذلك حوزاً.
3863 - وإن وهبت رجلاً عشرة أقساط زيت من زيت جلجلانك هذا، جاز ذلك كهبتك له ثمرة نخلك قابلاً ويلزمك عصره. ولا ينبغي أن تعطيه من زيت غيره مثله لخوف التأخير في طعام بمثله، ولعل الجلجلان الذي وهبته من زيته يهلك قبل ذلك فتكون قد أعطيته زيتك باطلاً.
3864 - ربيعة: ومن قال: [اشهدوا] أن لفلان في مالي صدقة مائة دينار، لزمه ذلك إن حملها ماله، وإلا لم يتبع بما عجز.
ورأى ابن شهاب أن من وهب لرجل من عطائه وكتب له به كتاباً، فلا رجوع له فيما أعطى، ومن وهب لرجل نصيباً من دار ولم يسمه، [قيل للواهب: أقر بما شئت مما يكون نصيباً].
وإن وهبه مورثه من فلان وهو لا يدري كم هو ربع أو سدس أو وهبه نصيبه من دار أو جدار، ولا يدري كم ذلك، فهو جائز.
والغرر في الهبة لغير الثواب يجوز، لا في البيع.
وإذا وهبت دينك لأحد ورثة غريمك، كان له دونهم.
وإن وهبت هبة لحر أو عبد فلم يقبض حتى مات، فلورثة الحر وسيد العبد قبضها، وليس لك أن تمتنع من ذلك.
3865 - ومن وهب عبداً له مأذوناً قد اغترقه الدين، جاز، ويجوز بيعه إياه إذا تبين أن عليه ديناً.
ومن باع عبداً له، أو وهبه، أو تصدق به بعد أن جنى جناية وهو بجنايته عالم، لم يجز ذلك إلا أن يتحمل الجناية، فإن أبى حلف ما أراد حملها ورد، وكانت الجناية أولى به في رقبته.
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/248)، ومواهب الجليل (4/380)، والمدونة الكبرى (15/118)، وأنيس الفقهاء (ص255)، والمطلع (11/591)، وشرح حدود ابن عرفة (597).

3866 - ومن باع عبده بيعاً فاسداً، ثم وهبه لرجل قبل تغيره في سوق أو بدن، جازت الهبة إن قام بها الموهوب، ويرد البائع الثمن، ولو مات الواهب قبل تغير سوقه وقبل قبض الموهوب إياه، بطلت هبته، ولو وهبه بعد تغيره في سوق أو بدن، لم تجز الهبة، لأنه لزم المبتاع بقيمته.
وكذلك إن أعتقه قبل تغيره في سوق أو بدن، جاز عتقه إذا ردّ الثمن، لأن البيع بينهما مفسوخ ما لم يفت العبد.
وإن وهبت لرجل عبداً قد رهنته، جاز، ويقضى له عليك بافتكاكه إن كان لك مال، وإن لم يقم عليك حتى فديته، فله أخذه ما لم تمت أنت فتبطل الهبة، وليس قبض المرتهن قبضاً للموهوب له إن مات الواهب، لأن للمرتهن حقاً في رقبة العبد بخلاف المخدم، وإن وهبته عبدك المغصوب، جاز ذلك إن قبضه قبل موتك، وليس حوز الغاصب حوزاً للموهوب.
[قلت]: ولِمَ والهبة ليست في يد الواهب؟ قال: لأن الغاصب لم يقبض للموهوب له، ولم يأمره الواهب أن يحوزها الموهوب له، فيحوزها إن كان غائباً، وإن كان الموهوب له حاضراً غير سفيه وأمر الواهب رجلاً يقبض له [ذلك] ويحوزه له، لم يجز هذا، فالغاصب ليس بحائز. وكذلك خليفتك على دار ليس حوزه حوزاً للموهوب له.
ولو وهبته عبداً وأجّرته من رجل، فليس حوز المستأجر حوزاً للموهوب له إلا أن يسلم إليه إجارته معه، فيتم الحوز.
وأما العبد المخدم أو المعار إلى أجل، فقبض المستعير والمخدم له قبض للموهوب، وهو في رأس المال إن مات الواهب قبل ذلك.
3867 - ويقضى بين المسلم والذمي في هبة أحدهما للآخر بحكم المسلمين، وإن كانا ذميين فامتنع الواهب من دفع الهبة لم أعرض لهما، وليس هذا من التظالم الذي أمنعهم منه.

3868 - ولا باس بهبة ما لم يبد صلاحه من زرع أو ثمر، أو ما تلد أمته أو غنمه، أو ما في ضروعها من لبن أو ما على ظهورها من صوف أو ثمر قد طاب في شجره، والحوز في ذلك كله حوز الأرض أو رقاب النخل أو الأمهات، وعلى الواهب تسليم ذلك إليه بالقضاء والسقي فيما يسقى على الموهوب، وحيازة من أسكنته أو أخدمته حوز للدار أو العبد.
3869 - ومن وهب لرجل ما تلد أمته أو ثمر نخله عشرين سنة، جاز ذلك إذا حاز الأصل أو الأمة، أو حاز ذلك أجنبي، وإن لم يخرج ذلك من يده حتى مات، بطل، ولا يقضى بالحيازة إلا بمعاينة بينة لحوزه في حبس، أو رهن، أو هبة، أو صدقة.
3870 - ولو أقر المعطي في صحته أن المعطى قد حاز وقبض، وشهدت عليه بإقراره بينة، ثم مات، لم يقض بذلك إن أنكر ورثته حتى تعاين البينة الحوز.
3871 - قال ابن القاسم: ومن وهب عبداً لابنه الصغير ولأجنبي، فلم يقبض الأجنبي حتى مات الواهب، فذلك كله باطل، كقول مالك فيمن حبس على ولده الصغار والكبار فمات قبل أن يقبض الكبار: إنه يبطل كله، بخلاف ما حبس عليهم وهم صغار كلهم، هذا إن مات كان الحبس لهم جائزاً.
وروى ابن نافع وعلي عن مالك فيمن تصدق على ولده الصغير مع كبير أو أجنبي، أن نصيب الصغار جائز ويبطل ما سواه، ولو كان حبساً بطل جميع الحبس، لأنه لا يقسم أصله. والصدقة يملكونها وتقسم بينهم، وقد حازها للصغير من يحوز حوزه.
3872 - ومن وهبك ديناً له عليك فقولك: قد قبلت، قبض، فإذا قبلت سقط، وإن قلت: لا أقبل، [سقطت الهبة و]بقي الدين بحاله، وإن كان الدين على غيرك فوهبه لك، فإن أشهد لك وجمع بينك وبين غريمه، ودفع إليك ذكر الحق إن كان عنده، فهذا قبض، وإن لم يكن كتب عليه ذكر حق فأشهد لك وأحالك عليه، كان ذلك قبضاً، وكذلك إن أحالك [به] عليه في غيبته فأشهد لك وقبضت ذكر الحق، فهكذا قبض الديون.

3873 - ومن تصدق عليه رجل بأرض، فقَبْضُها حيازتها، فإن كان لها وجه تحاز به من كراء يكريه، أو حرث يحرثه، أو غلق يغلق عليها، فإن أمكنه شيء من ذلك فلم يفعله حتى مات المعطي، فلا شيء له، وإن كانت أرضاً قفاراً مما لا تحاز بغلق، ولا فيها كراء يكرى، ولا أتى لها إبان تزرع فيه، أو تمنح، أو يحوزها بوجه يعرف حتى مات المعطي، فهي نافذة للمعطى، وحوز هذه [الأرض] الإشهاد.
وإن كانت داراً حاضرة أو غائبة فلم يحزها حتى مات المعطي، بطلت، وإن لم يفرط، لأن لها وجهاً تحاز به. وإذا قل في الأرض الغائبة: قد قبلت وقبضت، لم يكن ذلك حوزاً، وذلك كالإشهاد على الإقرار بالحوز، إلا أن يكون له في يديك أرض، أو دار، أو رقيق بكراء، أو عارية، أو وديعة وذلك ببلد آخر، فوهبك ذلك، فإن قولك: قبلت، حوز، وإن لم تقل: قبلت، حتى مات الواهب، فذلك لورثته.
وقال غيره: ذلك حوز لمن ذلك في يديه.
3874 - والواهب إذا اشترط الثواب، أو رُئي أنه أراد الثواب فلم يثب، فله أخذ هبته إن لم تتغير في بدنها بنماء أو نقصان، والهبة في هذا الوجه بخلاف البيع، وكذلك إن أثابه أقل من قيمتها، فإما رضي الواهب بذلك أو أخذها إن كانت قائمة، ولا يجبر الموهوب على ثواب إذا لم تتغير الهبة عنده، إلا أن يرضى بدفع قيمتها، فيلزم الواهب أخذها، ولا كلام له في الهبة، وإن فاتت [الهبة] عند الموهوب بزيادة بدن أو نقصان، لزمته قيمتها. قال عمر بن عبد العزيز وغيره: يوم قبضها.
3875 - قال ابن القاسم: وليس للموهوب ردها في الزيادة إلا أن يرضى الواهب، ولا للواهب أخذها في نقص البدن إلا أن يرضى الموهوب.(1)
[قال ابن القاسم:] ولا يفيتها عند الموهوب حوالة سوق.
[[قال ابن وهب:] قال مالك - رحمه الله - : وله أن يمسكها أو يردها].
__________
(1) انظر: المقدمات لابن رشد (2/447، 448).

[قال ابن القاسم:] وإذا عوض الموهوب للواهب أقل من قيمة الهبة، ثم قام الواهب بعد ذلك يطلب، فليحلف بالله ما قبل ذلك، ولا سكت إلا انتظاراً لتمام الثواب، ثم إما أتم له الموهوب القيمة، وإما رد الهبة إن لم تفت، وأخذ عوضه.
ومن تصدق بصدقة على ثواب فهي كالهبة.
ومن وهب لرجل ديناً له على آخر لغير ثواب، جاز، ولا رجوع له فيه، وإن وهبه إياه لثواب لم يجز أن يثيبه إلا يداً بيد.
3876 - ومن وهب لحاضر وغائب أرضاً، فقبض الحاضر جميعها، فقبضه حوز للغائب وإن لم يعلم ولا وكله.
وكذلك إن وهب لغائب، أو تصدق عليه بشيء فأخرجه من يده وجعل من يحوزه له حتى يقدم فيأخذه، فذلك نافذ. ألا ترى أن أحباس السلف كان قابضها يحوز قبضه على الغائب والحاضر الكبير المالك لأمره، وعلى الصغير ومن لم يولد بعد، قيل: فالعبيد، والحيوان، والعروض، والحلي كيف يكون قبضه؟ قال: بالحيازة.
قال ابن القاسم: ومن وهب لصغير هبة، وجعل من يحوزها له إلى أن يبلغ وترضى حاله فتدفع إليه وأشهد له بذلك، فذلك حوز، وإن كان له أب أو وصي حاضر، فإذا بلغ فله أن يقبض.
وأما إن وهب لحاضر غير صغير ولا سفيه ولا عبد، وجعل من يحوز له، وأمره أن لا يدفعها إليه، لم تكن هذه حيازة إن لم يقبضها الموهوب حتى مات الواهب، لأن الموهوب له جائز الأمر وهو حاضر، فلم يسلمها إليه، فعلى أي وجه حازها هذا له، وإلى أي أجل يدفعها إليه؟ وهذا بخلاف الصغير، لأنه أراد في الصغير ارتقاب بلوغ رشده، أو لئلا يأكله الأب، ولا يرتقب في كبير حاضر شيئاً، ولا يكون حوز غيره له حوزاً إلا أن يحبس عليه غلة نخل، ويجعل ذلك بيد من يجري عليه الغلة ويتولاه، فذلك جائز. وكذلك كانت أحباس الماضين.

وقال غيره: الصغير والسفيه لهما وقت يقبضان إليه [الهبة]، وهو البلوغ في الصغير مع حسن الحال، وحسن الحال في السفيه وهذا البالغ الذي أعطي عطية، تكون له مالاً تراثاً لما منع من قبضها لغير شيء عقده فيها [مما مثله يعقد في الصدقات]، يدل على أنه لم يرد أن يبتلها له ويعطيه إياها.
3877 - ومن وهب لرجل هبة على أن لا يبيع ولا يهب، لم يجز، إلا أن يكون سفيهاً أو صغيراً فيشترط ذلك عليه ما دام في ولاية، فيجوز.
وإن اشترط ذلك عليه بعد زوال الولاية لم يجز، كان ولداً للواهب أو أجنبياً، ولا تكون الأم حائزة لما وهبت لصغار بنيها وإن أشهدت، ولا لما تصدقت به عليهم، بخلاف الأب، إلا أن تكون وصية للوالد أو وصية وصي للوالد، فيتم حوزها لهم ولابنتها البكر وإن حاضت، والأب يحوز لصغار ولده ولمن بلغ من أبكار بناته ما وهبهم هو وأشهد [لهم] عليه، ولا يزول حوزه حتى يبلغ الذكور ويدخل بالبنات أزواجهن بعد المحيض، ويؤنس من جميعهم مع ذلك رشد، فإن مات الأب قبل رشدهم، فذلك لهم نافذ، وإن بلغوا مبلغاً تجوز حيازتهم فلم يقبضوا حتى مات الأب، بطلت هبة الأب من ذلك.
وليس للابنة وإن ولدت أولاداً وهي سفيهة، ولا للابن البالغ السفيه، حوز ولا أمر، وكذلك إن كانت الابنة بالغة مرضية، لم تبرز إلى زوجها، وذلك على الأب والوصي.
3878 - ومن وهب لابنه الصغير - وهو عبد لرجل - هبة وأشهد، لم يكن حائزاً له، لأن سيده يحوز ماله دون الأب، فإن جعل الأب هذه الهبة بيد أجنبي يحوزها للصبي، جاز ذلك، وكان حوزاً رضي سيده أو كره.
3879 - وما وهب الزوج لزوجته [البكر] قبل البناء، أو تصدق به عليها وأشهد، ولم يخرج ذلك من يده حتى مات، فليس ذلك لها بحوز، إلا أن يجعله بيد من يحوزه لها، وكذلك بعد دخوله بها وهي سفيهة أو مجنونة.(1)
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (15/134)، والتاج والإكليل (6/59)، وحاشية الدسوقي (2/435).

ولا يكون واهب حائزاً للموهوب إلا والد، أو وصي، أو من يجوز أمره عليه.
والزوج لا يجوز أمره عليها ولا بيعه ما لها، وأبوها: الحائز بلها] وإن دخل بها زوجها، ما دامت سفيهة وفي حال لا يجوز لها أمر.
3880 - وللأم أن تعتصر ما وهبت أو نحلت لولدها الصغير في حياة أبيه، أو ولدها الكبار، إلا أن ينكحوا أو يتداينوا، فإن لم يكن للصغير أب حين وهبته أو نحلته، فليس لها أن تعتصر، لأنه يتيم ولا يعتصر من يتيم، وتعد كالصدقة عليه.
وإن وهبتهم وهم صغار لا أب لهم ثم بلغوا ولم يحدثوا في الهبة شيئاً، فليس لها أن تعتصر، لأنها وهبت في حال اليتم، [وهي بمنزلة الصدقة].
وإن وهبتهم وهم صغار والأب مجنون جنوناً مطبقاً، فهو كالصحيح في وجوب الاعتصار لها.
وللأب اعتصار ما وهب أو نحل لبنيه الصغار والكبار، وكذلك إن بلغ الصغار ما لم ينكحوا، [أو يحدثوا ديناً]، أو يحدثوا في الهبة حدثاً، أو تتغير الهبة عن حالها.
وللأب أن يعتصر من الأصاغر وإن لم تكن لهم أم، لأن اليتم من قبل الأب.
ولو وهب لولده الكبير أمه فقبضها الولد، ثم وطئها، لم يكن للأب أن يعتصرها بعد الوطء. ولا يعتصر الأب ما وهب أجنبي لولده.
ولا يعتصر الأبوان ما تصدقا به على [ولدهما]، صغيراً كان أو كبيراً. وأما الهبة، والعطية، والعُمر، والنحل، فلهما الاعتصار في ذلك.
وأما الحبس فإن كان بمعنى الصدقة لم يُعتصر، وإن كان بمعنى الهبة، يكون سكنى أو عمرى إلى شهر أو شهرين، ثم مرجعهما إليه، فإنه يعتصر.
وقضى عمر بن عبد العزيز فيمن نحل ابنه أو ابنته بعد أن نكحا، أن له أن يعتصر، إلا أن يتداينا أو يموتا.
[قال - أيضاً - عمر بن عبد العزيز: ما وهب الأب لابنه أو لابنته، فله أن يعتصر ذلك ما لم ينكحا أو يموتا].
قال ربيعة ومالك: ولا يعتصر الصدقة من ابنه وإن عقه.
وليس لغير الأبوين أن يعتصر هبة، لا جد، ولا جدة، ولا غيرهما، إلا الأبوان من الولد.
قال ربيعة: وليس للولد أن يعتصر من والده شيئاً.

3881 - ومن وهب لرجل هبة لغير ثواب فقبضها الموهوب بغير أمر الواهب، جاز قبضه، إذ يقضى على الواهب بذلك إذا منعه إياها، فأما هبة الثواب، فللواهب منعها حتى يقبض العوض كالبيع، ولو قبضها الموهوب قبل الثواب وقف، فإما أثابه أو ردها. ويتلوم لهما تلوماً لا يضر بهما فيه، فإن مات الواهب للثواب والهبة بيده، فهي نافذة كالبيع، وللموهوب قبضها إن دفع العوض للورثة.
3882 - وإن مات الموهوب قبل أن يثيب الواهب، فلورثته ما كان له.
ولا ثواب في هبة الدنانير والدراهم، وإن وهبها فقير لغني، إلا أن يشترط الثواب، فيثاب عرضاً أو طعاماً، وإن وهب حلياً للثواب، فله عوضه عرضاً، ولا يعوض عيناً ولا من حلي فضة ذهباً.
3882 - وإذا قدم غني من سفره فأهدى له جاره الفقير الفواكه والرطب وشبهها، ثم قام يطلب الثواب، فلا شيء له، ولا له أخذ هبته وإن كانت قائمة بعينها.
3883 - ولا يقضى بين الزوجين بثواب، ولا بين ولد ووالده، إلا أن يظهر ابتغاء الثواب بينهم كالزوجة تهب لزوجها الموسر جارية فارهة يسألها إياها لما تستجلب من صلته، أو الزوج يهبها لذلك، والابن لما يستغزر من أبيه، فلذلك حُكم الثواب، ولو شرطا ثواباً لزمهما.
3884 - وما وهبت لقرابتك أو ذوي رحمك وعلم أنك أردت ثواباً، فذلك لك، إن أثابوك، وإلا رجعت فيها.
وما علم أنه ليس للثواب كصلتك لفقيرهم وأنت غني، فلا ثواب لك ولا تصدق أنك أردته ولا رجعة لك في هبتك. وكذلك هبة غني لأجنبي فقير، أو فقير لفقير ثم يدعي أنه أراد الثواب، فلا يصدق إذا لم يشترط في أصل الهبة ثواباً، ولا رجعة له في هبته، وأما إن وهب فقير لغني، أو غني لغني، فهو مصدق أنه أراد الثواب، فإن أثابوه وإلا رجع في هبته.

3885 - وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ومن وهب هبة يُرى أنه أراد [بها] الثواب، فهو على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها، فإن هلكت، فله شَرْواها بعد أن يحلف بالله ما وهبها إلا رجاء أن يثيبه عليها.(1)
3886 - قال ابن القاسم: وإن وهبت [لرجل] [هبة] فعوضك، منها فلا رجوع لأحدكما في شيء مما أعطى.
ومن وهب عبداً لرجلين، فعوضه أحدهما من حصته، فله الرجوع في حصة الآخر إن لم يعوضه، كمن باع عبداً من رجلين في صفقة واحدة، فنقده أحدهما وفلس الآخر، كان أحق بنصيب الآخر من الغرماء، وإذا عوض الواهب أجنبي عن الموهوب بغير أمره، لم يرجع على الواهب [له] به، ولكن إن رئي أنه أراد ثواباً من الموهوب، رجع عليه بقيمة العوض إلا أن يكون العوض دنانير أو دراهم، فلا يرجع عليه بشيء إلا أن يريد به سلفاً، فله اتباعه، فإن لم يرد ثواباً ولا سلفاً فلا شيء له.
وباقي مسائل هذا الكتاب قد تقدمت قبل هذا، وفي كتاب الاستحقاق ذكر العوض في الهبة يستحق.
* * *

(كتاب الهبات)(2)
3887 - قال: وإذا تغيرت الهبة عند الموهوب في بدنها بزيادة أو نقصان، لزمته قيمتها، وليس له ردها، ولا تفيتها حوالة الأسواق، ومن وهبك حنطة، أو تمراً، أو غيره من مكيل الطعام أو موزونه، إلا أن تعوضه قبل التفرق طعاماً من كعام، فإنه يجوز، لأن هبة الثواب بيع.
__________
(1) روى مالك في الموطأ (2/754)، أثر عمر رضي الله عنه.
(2) انظر: حاشية الدسوقي (4/108)، والتاج والإكليل (4/482)، ومواهب الجليل (4/83)، والمدونة (15/79)، والتقييد (6/184)، والقوانين الفقهية لابن جزي (ص9)، وشرح حدود ابن عرفة (ص605).

قال: إلا أن تعوضه طعاماً مثل طعامه صفة وجنساً ومقداراً، فذلك جائز. ولا تعوضه دقيقاً من حنطة ولا من جميع الحبي [إلا] عرضاً. وإن وهبك ثياباً فسطاطية، فعوضته بعد ذلك أثواباً فسطاطية أكثر منها، لم يجز. وإن وهبته داراً أو عرضاً، فعوضك بعد تغير الهبة في بدنها سكنى دار، أو خدمة عبد، أو عرضاً له موصوفاً على رجل إلى أجل، لم يجز ذلك لفسخك ما وجب لك من القيمة فيما لا تتعجله من خلافها.
ولو لم تتغير الهبة أو تغيرت بحوالة سوق فقط، جاز ذلك إن كانت الهبة مما يسلم في ذلك العرض المؤجل، وكأنك بعتها بذلك. وإن عوضك بعد تغير الهبة في بدنها ديناً له حل أو لم يحل، جاز ذلك إذا كان مثل القيمة في العين والوزن، ومثل العدد فأقل، لأنها حوالة ومعروف صَنَعْته بالموهوب. وإن كان الدين المؤجل أكثر من قمية الهبة، لم يجز، لأنك أخرته بزيادة، ولو لم تتغير الهبة، جاز ذلك.
3888 - وقد قال مالك: افسخ ما حلّ من دينك، فيما قد حل وفيما لم يحل، إذا فسخته في مثل دينك من عين أو عرض صفة ومقداراً. ومن لك عليه دراهم [حالة]، فأحالك على دنانير له على رجل، وهي كصرف دراهمك، وقد حلت أو لم تحل لم يجز. وكذلك لو فسخت دراهمك في طعام ولم تقبضه.
وإن كان لك عليه عرض من بيع، أو قرض قد حل، فلا بأس أن تفسخه في عرض له على رجل آخر من بيع أو قرض إذا كان مثل عرضك الذي لك عليه، وإن كان مخالفاً له، لم يجز، لأنه دين بدين، وكذلك إن كان لك عليه طعام من قرض قد حلّ فأحالك على طعام له من قرض قد حل أو لم يحل، جاز. وإن أحالك على طعام له من سلك لم يحل وهو مثل طعامك، لم يجز، لأنه يدخله بيع الطعام قبل قبضه. وإن حلّ أجل الطعامين، جاز. وكذلك إن كان الذي لك من سلم والذي له [من] قرض قد حلا، فلا بأس في الوجهين أن يؤخر المحال من أحيل عليه. وإن كان الطعام الذي لك من سلم، فلا يجوز أن يحيلك على طعام له من سلم وإن حلا.

وكل دين لك من عين أو عرض، فلك بيعه من غير غريمك قبل محله، أو بعد بثمن يتعجله.
فإن كان دنانير أو دراهم، بعته بعرض، وإن كان عرضاً، بعته بعين أو بعرض يخالفه نقداً.
قال مالك - رحمه الله - : وهذا إذا كان الذي لك عليه الدين حاضراً مقراً، وإن كان لك عليه ثوب فسطاطي من بيع أو قرض إلى أجل، فبعته من غيره قبل الأجل بثوب مثله في صفته نقداً وأحلته به، فليس ببيع، ولكنه قضاك عن الرجل على أن أحلته عليه. فإن كان النفع لك، جاز، وإن اغتزى هو نفع نفسه لسوق يرجوه ونحوه، لم يجز.
ولو بعته من غيره أيضاً قبل الأجل بثوب مثله إلى أجل من الآجال، لم يجز، لأنه دين بدين، وإن كان دينك دنانير فعجله لك رجل على أن أحلته عليه، لم يجز، كان النفع ههنا له أو لك دونه، لأنه بيع الذهب بالذهب إلى أجل.
قال سحنون: وقد قال ابن القاسم: لا بأس بهذا إذا كانت المنفعة لقابض الدنانير، وهو أسهل - إن شاء الله - ، وهذا حسن.
3889 - وللمأذون أن يهب للثواب كالبيع، ويقضى عليه أن يعوض من وهبه.
ومن وهب لعبد هبة فأخذها منه سيده، قضي على العبد بقيمتها في ماله.
وللأب أن يهب من مال ابنه الصغير للثواب ويعوض عنه واهبه للثواب، وبيع الأب جائز على ابنه الصغير.
3890 - وإذا وجد الموهوب بالهبة عيباً، فله ردها وأخذ العوض.
وإن وجد الواهب عيباً بالعوض، فإن كان عيباً فادحاً لا يتعاوض بمثله كالجذام والبرص، فله رده وأخذ الهبة إن لم تفت، إلا أن يعوضه، وإن لم يكن فادحاً نظر إلى قيمته بالعيب، فإن كان كقيمة الهبة فأكثر لم يجب له غيره، لأن ما زاده على القيمة تطوع غير لازم، وإن كان دون قيمتها فأتم له القيمة برئ.

وليس للواهب رد العوض إلا أن يأبى الموهوب أن يتم له قيمة هبته، لأن كل ما عوضه مما يجري بين الناس في الأعواض لزم الواهب قبوله، وإن كان معيباً وفيه وفاء بالقيمة، فذلك لازم له قبوله، وإن عوضته تبناً، أو حطباً، لم يلزمه أخذه، إذ ليس مما يتعاوضه الناس، وفي كتاب الشفعة مسألة من وهب شقصاً من دار للثواب، هل فيه شفعة؟.
3891 - ومن وهب هبة لغير الثواب، فامتنع من دفعها، قضي بها عليه للموهوب.
ولو خاصمه فيها الموهوب في صحة الواهب، وأقام بينة، وأوقفت الهبة والسلطان ينظر فيها حتى مات الواهب قبل قبض الموهوب، فإنه يقضى بها للموهوب إن عُدّلت بينته، كالمفلس يخاصمه الرجل في عين سلعته، وتوقف السلعة ثم يموت المفلس، إن ربها أحق بها إن ثبتت ببينة.
ولو لم يقم الموهوب فيها حتى مرض الواهب، فلا شيء له إلا أن يصح.
3892 - ومن لزمه دين لرجل، أو ضمان عارية يغاب عليها، فحلف بالطلاق ثلاثاً ليؤدين ذلك، وحلف الطالب بالطلاق ثلاثاً أن قبله، فأما الدين فيجبر الطالب على قبضه ويحنث، ولا يجبر في أخذ قيمة العارية، ويحنث المستعير إن أراد ليأخذنه مني، فإن أراد ليغرمنّه له، قبله أو لم يقبله، لم يحنث واحد منهما. والفرق أن الدين لزم ذمته والعارية إنما ضمنها لغيبة أمرها، فإنما يقضى بالقيمة لمن طلبها في ظاهر الحكم وله تركها، وقد تسقط أن لو قامت بينة بهلاكها، وفوات الهبة عند الموهوب يوجب عليه قيمتها.
والفوت فيها في العروض والحيوان خروجها من يده.
3894 - وحدوث العيوب والهلاك، وتغير الأبدان، والعتق وشبهه، وليس حوالة الأسواق في ذلك فوتاً.
ولو باع الموهوب الهبة ثم اشتراها، فذلك يفيتها وإن لم تحل. وولادة الأمة عند الموهوب فوت يوجب عليه قيمتها. قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : يوم الهبة.
3895 - قال ابن القاسم: وجناية العبد عند الموهوب فوت، وتلزمه القيمة، [لأنه نقص دخله].

قال ابن القاسم: وإن كانت الهبة عبداً بعينه بياض، أو به صمم، فبرئ عند الموهوب وزال صممه وبياض عينه، فذلك فوت، لأنه نماء وتلزمه القيمة، والهدم والبناء في الدار والغرس في الأرض، فوت يوجب القيمة. وليس له أن يقول: أقلع بنياني وشجري وأردها، والبيع حرام مثله، وإحالتها عن حالها رضىً بالثواب.
[قال ابن القاسم:] وإن وهبه ثوباً فصبغة بعصفر، أو قطعه قميصاً ولم يخطه، فذلك فوت.
وإن كان عبداً فأعتقه، أو دبره، أو كاتبه، أو وهبه، أو تصدق به، فإن كان ملياً جاز ولزمته القيمة، وإلا منع من ذلك.
ولو كانت بدنة فقلّدها وأشعرها ولا مال له، فللواهب أخذها، ولو ابتاعها ففعل ذلك بها، فإنها ترد وتحل قلائدها وتباع على المشتري في الثمن، [وبيع الهبة فوت].
وإن كانت داراً، فباع نصفها، قيل له: اغرم القيمة، فإن أبى خُير الواهب، فإما أخذ نصف الدار ونصف قيمتها، وإما أخذ قيمة جميعها.
وإن كانا عبدين فباع أحدهما وأبى أن يثيب قيمتهما، فإن باع وجههما [وفيه كثرة الثمن]، لزمته قيمتهما.
وإن لم يكن وجه الهبة، غرم قيمته يوم قبضه ورد الباقي، وإن وهبه عبدين فأثابه من أحدهما ورد عليه الآخر، فللواهب أن يأخذ العبدين، إلا [أن] يثيبه منهما جميعاً، لأنها صفقة واحدة.
3896 - ومن وهب لرجل هبة لغير الثواب، ثم ادعى رجل أنه ابتاعها من الواهب وجاء ببينة، فقام الموهوب يريد قبضها، فالمبتاع أحق.
وكذلك قول مالك في الذي حبس على ولد له صغار حبساً، ومات وعليه دين لا يدري اقبل الحبس أو بعده؟ فقال البنون: قد حُزْناه بحوز الأب علينا، فإن أقاموا البينة أن الحبس كان قبل الدين، فالحبس لهم، وإلا بيع للغرماء، فكذلك الهبة لغير ثواب.
3897 - ومن قال: داري صدقة على المساكين أو على رجل بعينه في يمين، فحنث، لم يقض عليه بشيء، وإن قال: لك في غير يمين بتلاً، فليقض عليه إن كان لرجل بعينه.

وإن قال: كل مال أملكه صدقة على المساكين، لم أجبره على صدقة ثلث ماله، وأما المكاتبون فيخرج ثلث قيمة كتابتهم، فإن رقوا يوماً نظر إلى قيمة رقابهم، فإن كان ذلك أكثر من قيمة كتابتهم، يوم أخرج ذلك، فليخرج ثلث الفضل.
قال: وإن لم يخرج ثلث ماله حتى ضاع ماله كله، فلا شيء عليه، فرّط أو لم يفرط.
وكذلك إن قال ذلك في يمين فحنث، فلم يخرج ثلثه حتى تلف جل ماله، فليس عليه [إلا إخراج ثلث ما بقي بيده].
3898 - ومن قال لرجل: قد أعمرتك هذه الدار حياتك، أو قال: هذا العبد، أو هذه الدابة، جاز ذلك. وترجع بعد موته إلى الذي أعمرها أو إلى ورثته. قيل: فإن أعمر ثياباً أو حلياً؟ قال: لم أسمع من مالك في الثياب شيئاً، وأما الحلي فأراه بمنزلة الدور.
ومن قال لرجلين: عبدي هذا حبس عليكما وهو للآخر منكما، جاز، وهو للآخر يبيعه ويصنع به ما شاء.
ومن قال لرجل: داري هذه لك صدقة سكناها، فإنما له السكنى دون رقبتها.
وإن قال له: قد أسكنتك هذه الدار وعقبك من بعدك، أو قال: هذه الدار لك ولعقبك سكناها، فإنها ترجع إليه ملكاً له بعد انقراضهم، فإن مات فإلى أولى الناس به [يوم مات]، أو إلى ورثتهم، لأنهم هم ورثته، وأما إن قال: حبس عليك وعلى عقبك، قال مع ذلك: صدقة، أو لم يقل، فإنها ترجع بعد انقراضهم إلى أولى الناس بالمحبس يوم المرجع من ولد أو عصبة، ذكورهم وإناثهم سواء، يدخلون في ذلك حبساً، ولو لم تكن إلا ابنة واحدة كانت لها حبساً، ولا ترجع إلى المحبس وإن كان حياً، وهي لذوي الحاجة من أهل المرجع دون الأغنياء، فإن كانوا كلهم أغنياء، فهي لأقرب الناس بهم من الفقراء.
3899 - وهبة المريض عبداً للثواب، تجوز كبيعه، فإن قبض منه الموهوب أو المبتاع ذلك فأعتق ولا مال له، لم يجز ذلك، ولو باعه كان لورثة الواهب منعه حتى يأخذوا العوض.(1)
__________
(1) انظر: الكافي (1/545).

ومن أوصى لرجل بدار وثلثه يحملها فقال الورثة: نعطيك ثلث جميع ماله ولا نعطيك الدار، فليس ذلك لهم، وله أخذ الدار، لأنها لو غرقت فصارت بحراً بطلت الوصية فيها، ويقضى بين المسلم والذمي فيما وهب أحدهما للآخر أو تصدق عليه بحكم الإسلام، لأن كل أمر يكون بين مسلم وذمي، فإنما يحكم بينهما بحكم الإسلام، وقد بقي من هذا الكتاب مسائل يسيرة، تقدم ذكرها في كتاب الأحباس وفي الوصايا فأغنى عن إعادتها.
* * *

(كتاب اللقطة والضوال)
3900 - قال: ومن التقط دنانير، أو دراهم، أو حلياً مصوغاً، أو عروضاً، أو شيئاً من متاع أهل الإسلام، فليعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا لم آمره بأكلها، كثرت أو قلّت، درهماً فصاعداً، إلا أن يحب بعد السنة أن يتصدق بها، ويخير صاحبها إن جاء في أن يكون له ثوابها أو يغرمها له، فعل. وأكره له أن يتصدق بها قبل السنة، إلا أن يكون الشيء التافه.(1)
3901 - وإن التقط العبد لقطة فاستهلكها قبل السنة كانت في رقبته، وإن استهلكها بعد السنة لم تكن إلا في ذمته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للسائل عن القطة: “اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرّفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها”(2)، فاختلف الناس في قوله: فشأنك بها].
3902 - ويُعرِّف باللقطة حيث وجدها، وعلى أبواب المساجد، وحيث يظن أن ربها هنالك أو خبره، ولا يحتاج في ذلك إلى أمر الإمام.
وما وجد على وجه الأرض مما يعلم أنه من مال [أهل] الجاهلية، ففيه الخمس كالركاز.
وكذلك ما وجد بساحل البحر من تصاوير الذهب والفضة، [ففيه الخمس.
__________
(1) انظر: كفاية الطالب (1/624)، ومواهب الجليل (6/73)، والقوانين الفقهية (ص224).
(2) رواه مسلم (1722)، (3/1347)، والبخاري (2429)، (2/836)، وابن حبان (11/250، 252، 261)، ومالك في الموطأ (2/757)، والبيهقي في الكبرى (3/419، 420)، وابن ماجة (2/836)، (2504)، وأبو عاونة (4/181)، وعبد الرزاق (10/130).

وأما التراب يوجد بساحل البحار فيغسل فيخرج فيه ذهب أو فضة]، ففيه الزكاة كالمعدن. ومن التقط لقطة فإن أتى رجل فوصف عفاصها ووكاءها وعدتها، لزمه أن يدفعها إليه ويجبره السلطان على ذلك، فإن جاء آخر فوصف مثل ما وصف الأول وأقام بينة أن تلك اللقطة كانت له، فلا شيء له على الملتقط، لأنه دفعها بأمر يجوز له.
ولا يتجر باللقطة في السنة ولا بعد السنة أيضاً، كالوديعة.
3904 - ومن التقط ما لا يبقى من الطعام فأعجب إلي أن يتصدق به، قلّ أو كثر.
ولم يوقت مالك في التعريف به وقتاً، فإن أكله أو تصدق به، لم يضمنه لربه، كالشاة يجدها في الفلاة، إلا أن يجدها في غير فلاة.
3905 - ومن وجد ضالة الغنم بقرب العمران عرف بها في أقرب القرى إليه، ولا يأكلها، وإن كانت في فلوات الأرض والمهامه، أكلها، ولا يعرف بها، ولا يضمن لربها شيئاً، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: “[هي] لك أو لأخيك أو للذئب”.(1)
وضالة البقر إن كانت بموضع يخاف عليها، فهي كذلك، وإن كانت بموضع يؤمن عليها من السباع والذئب، فهي كالإبل، وإن وجد ضالة الإبل في الفلاة تركها، فإن أخذها عرف بها سنة، وليس له أكلها ولا بيعها، فإن لم يجد ربها فليخلها بالموضع الذي وجدها فيه.
وإن رفعت إلى الإمام، فلا يبعها، وليفعل بها هكذا، وكذلك فعل عمر.
وكان عثمان يبيعها ويوقف أثمانها لأربابها.
وإن وجد الخيل والبغال والحمير، فليعرفها، فإن جاء ربها أخذها، وإن لم يأت تصدق بها.
__________
(1) رواه البخاري (2429)، ومسلم (3/1347، 1348)، والترمذي (3/655)، وأبو داود (2/135، 137)، والنسائي في الكبرى (3/416)، وابن ماجة (2/836)، والدارقطني (3/194)، (4/235).

وما أنفق على هذه الدواب، أو أنفق على ما التقط من عبد أو أمة، أو على إبل قد كان ربها أسلمها، أو على بقر، أو على غنم، أو متاع أكرى عليه فحمله من موضع إلى موضع بأمر سلطان أو بغير أمره، فليس لرب ذلك أخذه حتى يدفع إليه ما أنفق فيأخذه إلا أن يسلمها إليه، فلا شيء عليه.
3906 - ومن أخذ آبقاً رفعه إلى الإمام، فالإمام يوقفه سنة وينفق عليه، ويكون فيما أنفق عليه كالأجنبي، فإن جاء صاحبه وإلا باعه وأخذ من ثمنه ما أنفق، وحبس بقية الثمن لربه في بيت المال.
وأمر مالك ببيع الأُبّاق بعد السنة، ولم يأمر بإطلاقهم يعملون ويأكلون، ولم يجعلهم كضوال الإبل، لأنهم يأبقون ثانية. قيل: هل لمن وجد آبقاً خارج المصر أو داخله جعْل إن طلبه؟ [قال:] قال مالك فيه، ولم يذكر خارج المصر أو داخله، إن كان ذلك شأنه يطلب الضوال لذلك [ويردها] فله الجعل بقدر بعد الموضع الذي أخذه فيه أو قربه، وإن لم يكن ذلك شأنه، وإنما وجده فأخذه، فلا جعل له وله نفتقه.
3907 - ومن أخذ متاعاً مما عطب بساحل البحر فهو لربه ولا شيء عليه لمن وجده.
وإذا بيعت اللقطة بعد السنة، فليس لربها إن جاء أن يفسخ البيع وإن بيعت دون أمر الإمام، ولربها أخذ الثمن ممن قبضه، وإن ضاعت اللقطة من الملتقط، لم يضمن.
وإن قال له ربها: أخذتها لتذهب بها، وقال هو: بل لأعرفها، صُدق الملتقط. ومن التقط لقطة فبعد أن حازها وبان بها ردها بموضعها أو بغيره، ضمنها، فأما إن ردها في موضعها مكانه من ساعته، كمن مرّ في إثر رجل فوجد شيئاً فأخذه وصاح به: أهذا لك؟ فيقول: لا، فتركه فلا شيء عليه.
قال مالك في واجد الكساء بإثر رفقة فأخذه وصاح: أهذا لكم، فقالوا: لا، فرده، قال: قد أحسن في رده ولا يضمن.
3910 - ومن حل دواباً من مرابطها فذهبت، ضمنها، كالسارق [يسرق و]يدع باب الحانوت مفتوحاً، وليس فيه ربه، فيذهب ما في الحانوت، فالسارق يضمنه، [ولو كان فيها ربها قائماً، لم يضمن].

3911 - ومن فتح باب دار فيها دواب فذهبت، فإن كانت الدار مسكونة فيها أهلها لم يضمن، وإن لم يكن فيها أربابها ضمن، ولو كان فيها ربها نائماً، لم يضمن.
وكذلك السارق يدع الباب مفتوحاً وأهل الدار فيها نيام [أو غير نيام]، فلا يضمن ما ذهب بعد ذلك، وإنما يضمن إذا ترك البيت مفتوحاً وليس أرباب البيت فيه.
ولو خرجت امرأة من بيتها لزيارة جارة لها وأغلقت على متاع لها الباب، فسرق منه سارق وتركه مفتوحاً، فسرق ما بقي في البيت [بعده]، ضمنه. وكذلك الحوانيت يتركها مفتوحة وليست بمسكونة.
ومن فتح باب قفص فيه طير فذهبت الطير، ضمن.
ومن حل عبداً من قيد قُيّد به لخوف إباقه، فذهب العبد، ضمن.
3912 - وإذا تصدق باللقطة بعد السنة، ثم جاء ربها، فإن كانت قائمة بأيدي المساكين، فله أخذها وإن أكلوها فليس له تضمينهم، لأنه قد قيل في اللقطة: يعرّفها سنة ثم شأنه بها، بخلاف الموهوب يأكل الهبة ثم تستحق هذا، لربها أن يضمنه إياها.
* * *

(كتاب الآبق)
3913 - ومن وجد آبقاً فأبق منه، فلا شيء عليه، وإن أرسله بعد أن أخذه، ضمنه.(1)
ومن اعترف آبقاً عند السلطان وأتى بشاهد، حلف معه، وأخذ العبد، ولا يستحلف طالب الحق مع شاهدين.
وإذا ادعى أن هذا الآبق عبده ولم يقم بينة، فإن صدقه العبد دفع إليه.
وكذلك متاع يوجد مع لصوص يدعيه قوم لا يعرف ذلك إلا بقولهم، فليتلوم الإمام فيه، فإن لم يأت سواهم دفعه إليهم.
3914 - وإذا جاء رب الآبق بعد أن باعه الإمام بعد السنة والعبد قائم، فليس له إلا الثمن، ولا يرد البيع، ولو قال ربه: كنت أعتقته، أو دبرته بعدما أبق، [أو قبل أن يأبق]، لم يقبل قوله على نقض البيع إلا ببينة، لأنه لو باعه هو نفسه ثم قال: كنت أعتقته، لم يقبل قوله. ولو كانت أمة فباعها الإمام بعد السنة ثم جاء سيدها فقال: قد كانت ولدت مني وولدها قائم، فإنها ترد إليه إن كان ممن لا يتهم.
__________
(1) انظر: مختصر اختلاف العلماء (4/348).

وقاله مالك فيمن باع جارية له وولدها ثم استلحق الولد، أنه إن كان ممن لا يتهم على مثلها، رُدّت عليه. ولو قال: كنت قد أعتقتها، لم يصدق ولم ترد عليه إلا ببينة. قيل: فإن لم يكن معها ولد فقال بعد ما باعها: كانت ولدت مني؟ قال: أرى أن يصدق وترد إن لم يتهم فيها.
3915 - ويجوز لسيد الآبق عتقه وتدبيره وهبته لغير ثواب، ولا يجوز [له] بيعه ولا هبته لثواب.
وإذا زنى الآبق، أو سرق، أو قذف، أقيم عليه الحد في ذلك كله.
3916 - وإذا أتى رجل بكتاب من قاض إلى قاض، يذكر أنه شهد عندي قوم، أن فلاناً صاحب كتابي هذا إليك قد هرب منه عبد صفته كذا، فوصفه ولاجه في الكتاب، وعند هذا القاضي عبد آبق محبوس على هذه الصفة، فليقبل كتاب القاضي والبينة التي شهدت فيه على الصفة، ويدفع إليه العبد.(1)
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/142).

قال: وترى للقاضي الأول أن يقبل منه البينة على الصفة ويكتب [بها] إلى قاضٍ آخر؟ قال: نعم، لأن مالكاً قال في المتاع الذي يسرق بمكة إذا اعترفه رجل ووصفه [بصفة] ولا بينة له أن يستأنى الإمام فيه، فإن جاء من يطلبه وإلا دفعه إليه، فالعبد الذي أقام البينة على صفته، أحرى أن يدفع إليه، فإن ادعى العبد ووصفه ولم تقم البينة عليه فأرى أنه مثل المتاع ينتظر به الإمام ويتلوم، فإن جاء أحد يطلبه وإلا دفعه إليه وضمنه إياه. قيل: ولا يلتفت ههنا إلى العبد إن أنكر أن هذا هو مولاه، إلا أنه يقر أنه عبد لفلان ببلد آخر، قال: يكتب السلطان إلى ذلك الموضع وينظر في قول العبد، فإن كان كما قال وإلا ضمنه هذا وأسلمه إليه كالأمتعة، ومن اعترفت من يده دابة وقضي عليه، فادعى أنه اشتراها من بعض البلدان وأراد أن لا يذهب حقه، فله وضع قيمتها بيد عدل ويمكنه القاضي من الدابة ليخرج بها إلى بلد البائع منه لتشهد البينة على عينها، فإن قال مستحقها: أنا أريد سفراً وإنما يريد أن يعوقني عنه، قيل له: فاستخلف من يقوم بأمرك، ويمكن المطلوب من الخروج بها، ويطبع له في عنقها ويكتب له كتاباً إلى قاضي ذلك البلد: [إني] قد حكمت بهذه الدابة لفلان، فاستخرج له ماله من بائعه إلا أن يكون للبائع حجة، فإن تلفت الدابة في ذهابه أو مجيئه، أو اعورت أو انكسرت أو نقصها في ذهابه أو مجيئه فهي من الذاهب بها، والقيمة للذي اعترفها إلا أن يرد [إليه] الدابة بحالها.
وكذلك الرقيق إلا أن تكون جارية، فإنه إن كان أميناً دفعت إليه، وإلا فعليه أن يستأجر أميناً يذهب بها معه وإلا لم تدفع إليه. قيل: فإذا وصل كتاب القاضي إلى القاضي وثبت عنده بشاهدين، هل يكلف الذي جاء بالبغل [أن يقيم بينة] أن هذا البغل هو الذي حكم به عليه؟ قال: إن كان البغل موافقاً لما في كتاب القاضي من صفته وخاتم القاضي في عتقه، لم يكلف ذلك.

3917 - وإذا شهد قوم غرباء في بلد لا يعرفون [به]، لم يقبلوا إلا بعدالة، لأن البينة لا تقبل إلا بعدالة، [وإن شهد قوم على حق، فعدَّلهم قوم غير معروفين، فعدَّل المعدلين آخرون]، فإن كان الشهود غرباء، جاز ذلك، وإن كانوا من أهل البلد، لم يجز ذلك، لأن القاضي لا يقبل عدالة على عدالة إذا كانوا من أهل البلد، حتى تكون العدالة على الشهود أنفسهم عند القاضي.
3918 - قال مالك: لم أزل أسمع أن الآبق يحبس على ربه سنة، ثم يباع.
ومن وجد آبقاً فلا يأخذه، إلا أن يكون لقريبه أو جاره أو لمن يعرفه، فأحب إلي أن يأخذه، وهو من أخذه في سعة.
والآبق إذا اعترفه ربه بيدك ولم تعرفه، فأرى أن ترفعه إلى الإمام إن لم تخف ظلمه.
3919 - ومن استأجر آبقاً فعطب في عمله ولم يعلم أنه آبق، ضمنه لربه.(1)
وقاله مالك فيمن أجر عبداً على تبليغ كتاب إلى بلد ولم يعرف أنه عبد، فعطب في الطريق، إنه يضمنه، لأن من ابتاع سلعة من السوق فأتلفها هو نفسه، إنه يضمنها [إن استحقت]، وإن أجرت الآبق فالإجارة لربه، وإن استعملته لزمتك قيمة عمله لربه، لأن ضمانه منه ونفقته عليه، وإنما يضمن الآبق إذا استعمله في عمل يعطب في مثله، فهلك فيه.
وإن استعملته في شيء فسلم، فلربه الأجر فيما له بال من الأعمال. وكذلك من استعمل عبداً لرجل.
3920 - وإذا أبق المكاتب لم يكن فسخاً لكتابته إلا بعد حلول النجم، وبعد تلوم الإمام له.
ومن أعتق عبداً آبقاً عن ظهاره، لم يجزه، إذ لا يدري أحيّ هو أم ميت، أو معيب أو سليم، إلا أن يعرف في الوقت موضعه وسلامته من العيوب، فيجزيه، [أو لم] يعلم ذلك إلا بعد العتق، فيجزيه وإن جهله أولاً.
وإذا عرف أن الآبق عند رجل، جاز أن يباع منه أو من غيره ممن يوصف له إذا وصف أيضاً للسيد حاله الآن وصفته، ولا يجوز النقد فيه إذا كان بعيداً، وهو كعبد غائب لرجل باعه.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/85).

3921 - وإذا أبق العبد الرهن، لم يضمنه المرتهن وصدق في إباقه وأُحلف وكان على حقه، وإن وجده سيده وقامت الغرماء عليه، فالراهن أولى به إذا كان قد حازه المرتهن، لكونه بيده قبل الإباق، إلا أن يعلم المرتهن بكونه بيد الراهن فتركه حتى فلس، فهو أسوة الغرماء.
3922 - وإن أبق عبد مسلم إلى بلد الحرب فدخل إليهم مسلم فاشتراه، لم يأخذه ربه منه إلا بالثمن الذي [ودّى]، اشتراه بأمره أو بغير أمره، وكذلك عبيد أهل الذمة.
3923 - وإذا أسر العدو ذمياً فظفرنا به، رُدّ إلى جزيته، وقع في المقاسم أو لم يقع، لأنه لم ينقض عهداً ولم يحارب.(1)
فإن فات العبد بعتق عند الذي اشتراه ببلد الحرب، أو كانت أمة فأولدها مشتريها، مضى ذلك ولم ترد، بخلاف من ابتاع عبداً في سوق المسلمين ولا يعلم أن له سيداً غير بائعه، فأعتقه ثم استحقه سيده، إنه يأخذه، لأن هذا أخذه بغير ثمن، والأول لا يأخذه إن شاء إلا بالثمن، ما لم يفت بعتق - كما ذكرنا - .
* * *

(كتاب تحريم الآبار)
3924 - وليس لبئر ماشية أو لبئر زرع، حريم محدود، ولا للعيون إلا ما يضر بها.
ومن الآبار آبار تكون في أرض رخوة، وأخرى في أرض صلبة أو في صفا، فإنما ذلك على قدر الضرر بالبئر، ولأهل البئر منه من أراد أن يبني أو يحفر بئراً في ذلك الحريم، لأنه حق للبئر وضرر بهم.
وكذلك لو لم يكن على البئر من حَفْر بئر أخرى ضرر لصلابة الأرض، كان لهم منعه لما يضر بهم في مناخ الإبل ومرابض المواشي عند وردها.
3925 - وكل من حفر في أرضه أو داره بئراً، فله منعها وبيع مائها، وله منع المارة من مائها إلا بالثمن، إلا قوم لا ثمن معهم وإن تركوا إلى أن يردوا إلى ماء غيره هلكوا، فلا يمنعون ولهم جهاد من منعهم.
__________
(1) انظر: مختصر خليل (242).

فأما من حفر في غير ملكه بئراً لماشية أو شفة، فلا يمنع فضلها من أحد، وإن منعوه حل قتالهم، فإن لم يقو المسافرون على دفعهم حتى ماتوا عطشاً، فدياتهم على عواقل المانعين، والكفارة عن كل نفس منهم على كل رجل من أهل الماء مع وجيع الأدب، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: “لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ”.(1)
قال ابن القاسم: و[ذلك] في الصحاري، وأما في القرى والأرض المحوزة، فللرجل منع كلئه - عند مالك - إن احتاج إليه، وإلا فليخل بين الناس وبينه.
وإذا حرث جارك على غير أصل ماء، فلك أن تمنعه أن يسقي بفضل ماء بئرك التي في أرضك إلا بثمن إن شئت.
وأما إن حرث ولأرضه بئر فانهارت، فخاف على زرعه، فإنه يقضى له عليك بفضل ماء بئرك بغير ثمن. وإن لم يكن في مائك فضل، فلا شيء له.
وسئل مالك عن ماء الأعراب يرد عليهم أهل المواشي يسقون منها فيمنعونهم؟ فقال: أهل ذلك الماء أحق بمائهم حتى يرووا، فإن كان فضل، سقى هؤلاء، والحديث: “لا يمنع فضل الماء”(2) هو ما يفضل عنهم.
وكذلك بئر الماشية، الناس أولى بفضلها، وأما بئر الزرع، فصاحب الزرع أولى بالفضل.
3926 - ولا بأس بشرائك شرب يوم أو يومين، من عين أو بئر دون الأصل، أو شراء أصل شرب يوم أو يومين من كل شهر، ولا شفعة في ذلك إن كانت الأرض قد قسمت.
وإذا قُسمت الأرض وترك الماء فباع أحدهم نصيبه من الأرض بغير ماء أو باع نصيبه من الماء فلا شفعة في ذلك، وإنما الشفعة في الماء إذا لم تقسم الأرض.
وإذا باع أحدهم حصته من الماء، ثم باع آخر بعده حصته من الماء، لم يضرب البائع الأول معهم في الشفعة في الماء بحصته من الأرض.
__________
(1) رواه مسلم (3/1198)، وأبو عوانة (3/350)، والترمذي (3/572)، ومالك في الموطأ (2/744)، والبخاري (2/830)، والبيهقي (6/15، 151، 152)، والشافعي في المسند (1/382)، وأبو داود (3/277)، والنسائي في الكبرى (3/407)، وابن حبان (11/329).
(2) تقدم تخريجه.

وكذلك لو باع حصته من الأرض، ثم باع آخر حصته من الأرض، لم يكن للأول فيها شفعة، لمكان ما بقي له من الماء.
وإذا كانوا شركاء في أرض [وماء]، فاقتسموا الأرض، ثم باع أحدهم حصته من الماء، فلا شفعة له فيما باع بحصته نم الأرض.
3927 - وإن كان لرجل ماء خلف أرضك، وله أرض دون أرضك، فأراد أن يجري ماءه في أرضك لأرضه، فلك منعه من ذلك.
وكذلك لو كان له في أرضك مجرى ماء أراد أن يحوله في أرضك إلى موضع أقرب إليه، فلك منعه. وليس العمل على ما روي عن عمر في هذا.
3928 - وإن اكتريت من رجل شرب يوم من كل شهر، أو من هذه السنة من قناته بأرضك هذه يزرعها سنته هذه، جاز ذلك، لأنك لو أكريت أرضك بدين، جاز.
3929 - وإن كانت بئر بين رجلين فانهارت، أو عين فانقطعت، فعملها أحدهما وأبى الآخر أن يعمل، لم يكن للذي لم يعمل من الماء قليل ولا كثير، وإن كان فيه فضل إلا أن يعطي شريكه نصف ما أنفق.
وإذا احتاجت قناة أو بئر بين شركاء لسقي أرضهم إلى الكنس لقلة مائها، فأراد بعضهم الكنس وأبى الآخرون - وفي ترك الكنس ضرر بالماء وانتقاص، والماء يكفيهم ولا يكفي الذين شاءوا الكنس [خاصة - فللذين شاءوا الكنس خاصة] أن يكنسوا، ثم يكونون أولى بما زاد في الماء كنسهم دون من لم يكنس حتى يؤدوا حصتهم من النفقة، فيرجعون إلى أخذ حصتهم من جميع الماء.
وكذلك بئر الماشية إذا قل ماؤها فأراد بعضهم الكنس وأبى الآخرون، فهي كبئر الزرع، فإن كنسها بعضهم كان جميعهم فيما كان من الماء قبل الكنس على قدر حقوقهم [فيه]، ثم يكون الذين كنسوا أحق بما زاد الماء بكنسهم، فإذا رووا كان الناس وأُباة الكنس في الفضل سواء، حتى يؤدوا حصتهم من النفقة، فإذا أدوه كان جميع الماء بينهم على قدر ما كان لهم، ثم الناس في الفضل [شرعاً] سواء، ولا شفعة في بئر ماشية، ولا تباع [و]إن احتاج أهلها إلى بيعها.
ولا بأس ببيع بئر الزرع وفيها الشفعة إذا لم تقسم الأرض.

3930 - ومن أرسل في أرضه ماءً أو ناراً، فوصل إلى أرض جاره فأفسد زرعه، فإن كانت أرض جاره بعيدة يؤمن أن يصل ذلك إليها، فتحاملت النار بريح أو غيرها فأحرقت، فلا شيء عليه، وإن لم يؤمن وصول ذلك لقربها، فهو ضامن، وكذلك الماء، وما قتلت تلك النار من نفس، فعلى عاقلة مرسلها.
قيل: فمن كانت له أرض وإلى جانبها أرض لغيره، وله عين خلف أرض جاره، وليس له ممر إلا في أرض جاره، فمنعه من الممر إلى العين؟ قال: سئل مالك عن رجل له أرض وحواليها زرع للناس في أرضهم، فأراد أن يمر بماشيته إلى أرضه في زرع القوم، فقال: إن كان ذلك يفسد زرعهم فلهم منعه.
3931 - وإن كانت بركة أو غدير أو بحيرة في أرضك وفيها سمك، فلا تمنع من الصيد فيها ممن ليس له فيها حق، ولا تبع سمكها ممن يصيد فيها سنة، لأنها تقل وتكثر.
ولا بأس أن تبيع خصباً في أرضك ممن يرعاه عامه ذلك، ولا تبعه عامين ولا ثلاثة، وإنما يجوز بيعه بعد ما ينبت.
3932 - ومن أحيا أرضاً ميتة بغير إذن الإمام، فهي له، وإحياؤها شق العيون، وحفر الآبار، وغرس الشجر، والبناء، والحرث، فما فعل من ذلك فهو إحياء.
وتفسير الحديث الذي جاء: “من أحيا أرضاً ميتة فهي له”(1)، إنما ذلك في الصحاري [والبراري]، وأما ما قرب من العمران، وما يتشاح الناس فيه، فليس له أن يحييه إلا بقطيعة من الإمام.
قيل: هل كان مالك يعرف هذا الذي يحجر الأرض، أنه يترك ثلاث سنين فإن أحياها وإلا فهي لمن أحياها؟ قال: ما سمعت من مالك في التحجير شيئاً، وإنما الإحياء عند مالك ما وصفت لك.
__________
(1) رواه أبو داود (3073)، والترمذي (1378)، ومالك في الموطأ (2/743)، وابن أبي شيبة (4/466)، والطحاوي في شرح المعاني (3/268، 270)، والبيهقي (6/99، 141، 142)، والدارقطني (3/35)، والشافعي في المسند (1/224)، والنسائي في الكبرى (3/404، 405).

3933 - ومن أحيا أرضاً مواتاً ثم تركها حتى دثرت وطال زمانها وهلكت أشجارها، وتهدمت آبارها، وعادت كأول مرة، ثم أحياها غيره، فهي لمحييها آخراً، وهذا إذا أحيا في غير أصل كان له، فأما من ملك أرضاً بخطة أو شراء ثم أسلمها فهي له، وليس لأحد أن يحييها.
3934 - ولو نزل قوم أرضاً من أرض البرية فرعوا ما حولها أو حفروا بئراً لمواشيهم، لم يكن هذا إحياء لمرعاهم، [و]هم والناس في المرعى سواء، ولا يمنع الكلأ إلا رجل له أرض قد عرفت له، فهذا الذي يمنع كلأها، أو يبيعه إن احتاج إليه، وهؤلاء أحق ببئرهم حتى يرووا ثم يكون فضلها للناس، وليس لهم بيعها ولا منع فضل مائها.
3935 - ومن سيّل ماءً عن أرض غَرِقَة، أو نزل بغيضة فقطع شجرها، فذلك إحياء.
ومن حفر بئراً بعيدة من بئرك، فانقطع ماء بئرك من حفر بئره وعُلم ذلك، فلك ردمها عليه.
3936 - ومن حفر بئراً حيث لا يجوز له، ضمن ما عطب فيها من دابة أو إنسان.
وإن حفرت بئراً في وسط دارك أو إلى جنب جدارك، فحفر جارك خلفها في داره بئراً أو حفرة في وسط داره، فإن كان ذلك مضراً ببئرك منع من ذلك.
وكذلك لو أحدث كنيفاً يضر ببئرك منع من ذلك، ومن رفع بناه ففتح كوى يشرف منها على جاره، منع من ذلك.
وكتب عمر - رضي الله عنه - في هذا أن يوقف على سرير فإن نظر إلى ما في دار جاره منع، وإلا لم تمنع [من ذلك].(1)
قال مالك: يمنع من ذلك ما فيه ضرر، وأما ما لا ينال منه النظر [إليه]، فلا يمنع.
وإن رفع بناءه ولم يفتح فيه كوة فستر جاره من الشمس وهبوب الريح، لم يمنع.
3937 - وإن كانت بين قوم أرض وعين فاقتسموا الأرض وبقيت العين، فأراد أحدهم أن يسقي بحصته من الماء أرضاً له أخرى، أو يؤجر ذلك ممن يسقي له أو يبيعه، [فله ذلك]، ثم لا شفعة فيه لشركائه.
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (5/160).

3938 - ومن غصبك أرضاً فزرعها، أو داراً فسكنها، أو بئراً فسقى بها أرضه، فعليه كراء ذلك. وإن غصبك دابة فركبها، فلا كراء عليه.
3939 - ومن ارتهن عيناً أو قناة، أو جزءاً من شرب بئر أو عين أو نهر، جاز ذلك إذا قبضه المرتهن وحازه وحال بين صاحبه وبينه.
وليس للراهن أن يكري ذلك، ولا للمرتهن أن يكريه بغير أمر ربه، فإن أمره بذلك أكراه المرتهن وكان الكراء للراهن.
وكذلك من ارتهن داراً، فليس لرب الدار أن يكريها، ولكن يتولى المرتهن كراها بأمره، ويكون الكراء لرب الدار، ولا يكون رهناً إلا أن يشترطه.
وإن اشترط أن يكريها ويأخذ كراها في حقه، فإن كان دينه من قرض، جاز، وإن كان من بيع، [لم يجز] إلا أن [يكون] ذلك الشرط بعد عقد البيع، فجائز، وإن عقد البيع على هذا، لم يجز، إذ لا يدري ما يقتضي أيقل أم يكثر، إذ لعل الدار تنهدم قبل أن يقتضي. وللمرتهن أن يمنع الراهن أن يسقي زرعه بما ارتهن منه من بئر أو قناة.
وإن أذن له أن يسقي [بها] زرعه، خرجت من الرهن.
[وكذلك من ارتهن داراً فأذن لربها أن يسكن أو يكري، فقد خرجت من الرهن] حين أذن له، وإن لم يسكن ولم يكر.
ومسألة إنخساف البئر في أيام الخيار وما بعدها إلى آخر الكتاب، قد تقدم ذكره في كتاب بيع الخيار، فأغنى عن إعادتها ههنا.
* * *

(كتاب الحدود في الزنا)
3940 - وينبغي للقاضي إذا شهدت عنده بينة على رجل بالزنا، أن يكشف عن شهادتهم: كيف رأوه؟ وكيف صنع؟ فإن رأى في شهادتهم ما تبطل به الشهادة، أبطلها. وإذا عدلت البينة والقاضي لا يعرف أبكر هو أم ثيب؟ فينبغي له أن يقبل قول الزاني: إنه بكر، ويجلده مائة جلدة، إلا أن يشهد على الزاني شاهدان بالإحصان، فيرجم.
3941 - ولا يجوز في الإحصان شهادة النساء مع الرجال ولا وحدهن، ولا في النكاح.

3942 - ومن تزوج امرأة وتادم مكثه معها بعد الدخول [بها]، فشهد عليه بالزنا فقال: ما جامعتها مذ دخلت عليها، فإن لم يعلم وطؤه: بولد يظهر أو بإقرار، لم يرجم، وإن علم منه إقرار بالوطء قبل ذلك، رُجم.
ولا يجتمع الرجم والجلد في الزنا على الثيب، والثيب حده الرجم بغير جلد، والبكر حده الجلد بغير رجم، بذلك مضت السنة، ولا نفي على النساء ولا على العبيد، ولا تغريب.(1)
ولا يُنفى الرجل الحر إلا في الزنا، أو في حرابة، ويسجنان جميعاً في الموضع الذي ينفيان إليه: يسجن الزاني سنة، والمحارب حتى تعرف له توبة.
والرجم على من أُحصن بنكاح يصح عقده ويصح الوطء فيه. وقد ذكرنا مسائل الإحصان في كتاب النكاح.
3943 - ومن خاصم في قذف، فمات قبل إيقاع البينة، فلورثته القيام بذلك، ويحدّ لهم القاذف إن أتوا ببينة.
ولو لم يقم المقذوف بقذفه حتى مت سنة، أو أقل أو أكثر، ولم يسمع منه عفو ثم مات فقام بذلك وارثه، فإن لم يمض من [طول] الزمان ما يعدّ به المقذوف تاركاً، فلورثته القيام، وإن مضى من طول الزمان ما يُرى أنه تارك، فلا قيام لهم، فأما لو قام المقذوف نفسه بعد طول الزمان لَحَلَف بالله ما كان تاركاً لذلك، ولا كان وقوفه إلا أن يقوم بحقه إن بدا له، حُدّ له بخلاف ورثته.
ومن قتل وله أم وعصبة، فماتت الأم، فورثتها مكانها، إن أحبوا أن يقتلوا قتلوا، ولا عفو للعصبة دونهم، كما لو كانت الأم باقية.
3944 - ومن افترى على رجل مجلود في الزنا، أو مرجوم في الزنا، فلا حد عليه.
ومن قال لرجل: يا ابن الزانية، وقال: أردت جدة من جداته لأمه، فإن كانت جدة له لأمه قد عرفت بذلك، حلف أنه ما أراد غيرها، ولا حد عليه، وعليه العقوبة. قيل: فهل يُنكل في قذف هؤلاء الزناة؟ قال: إذا آذى مسلماً نكل.
__________
(1) انظر: سبل السلام (4/77)، وفتح الباري (12/165)، والتمهيد لابن عبد البر (9/88، 89).

3945 - وإذا شهد أربعة على رجل بالزنا، فرجع أحدهم قبل إقامة الحد، أو وُجد عبداً، أو مسخوطاً، فإنهم يحدون كلهم حد الفرية.
وإن رجع شهود الزنا بعد الرجم حُدوا، وكانت الدية في أموالهم.
وإن رجع واحد بعد قيام الحد، جلد الراجع وحده دون الثلاثة الذين بقوا.
وإن علم بعد الرجم والجلد أن أحدهم عبد، حُدّ الشهود أجمعون. وإن كان مسخوطاً لم يحد واحد منهم، لأن شهادتهم قد تمت باجتهاد الإمام في عدالتهم، ولم تتم في العبد، ويصير من خطأ الإمام، فإن لم يعلم الشهود كانت الدية في الرجم على عاقلة الإمام، وإن علموا فذلك على الشهود في أموالهم، ولا شيء على العبد في الوجهين.
وما أخطأ به الإمام من حد [هو] لله، يبلغ به ثلث الدية فأكثر فعلى عاقلته، وما كان دون الثلث ففي ماله خاصة.
ولا تجوز شهادة الأعمى في الزنا، ويُحدّ.
3946 - وإذا حكم القاضي بشاهدين في مال، ثم تبين أن أحدهما عبد، أو ممن لا تجوز شهادته، حلف الطالب مع شاهده الباقي ونفذ الحكم، فإن نكل حلف المطلوب واسترجع المال.
وإن شهدا عليه بقطع يد [أو] رجل عمداً، فاقتص منه، ثم تبين أن أحدهما عبد، أو ممن لا تجوز شهادته، لم يكن على متولي القطع شيء، وهذا من خطأ الإمام.
وإن شهد أربعة على رجل بالزنا، فرجمه الإمام، ثم أصابوه مجبوباً، لم يحد الشهود، إذ لا يحد من قال لمجبوب: يا زاني، وعليهم الدية في أموالهم مع وجيع الأدب وطول السَّجن.(1)
وإذا شهدوا على الحدود فماتوا، أو غابوا، أو عموا، أو أُخرسوا، [أو جنوا]، ثم زكوا بعد ذلك، فليقم الإمام الحد إذا كان قد استقصى شهادتهم، وكذلك الحقوق.
3947 - ولم يكن مالك يعرف أن البينة تبدأ بالرجم، ثم الإمام، ثم الناس، وأنه في الإقرار والحمل يبدأ الإمام ثم الناس.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/200)، والكافي (1/573)، والمدونة (16/244)، ومواهب الجليل (4/30).

قال: وليأمر الإمام بالرجم في ذلك كله كسائر الحدود، ولا يربط المرجوم ولا يحفر له، وكذلك المرأة. وفي الحديث: فرأيت الرجل يحني على المرأة ولو كان في حفرة ما حنى عليها.(1)
ويغسل المرجوم ويكفن ويصلى عليه ويدفن، ولا يصلي عليه الإمام.
3950 - وإذا قالت امرأة: زنيت مع هذا الرجل، وقال الرجل: هي زوجتي، وقد وطئها، أو وجدا في بيت فأقرا بالوطء وادعيا النكاح، فإن لم يأتيا ببينة حُدا.
3951 - ومن زنا بصغيرة يوطأ مثلها ولم يحصن، فعليه الحد.
3952 - وإن زنت امرأة بصبي مثله يجامع إلا أنه لم يحتلم، فلا حد عليها. وإن زنت بمجنون، فعليها الحد. ويحد قاذف المجنون.
3953 - وإن زنى مسلم بذمية، حُدّ، وردت هي إلى أهل دينها، وإن شاءوا رجمها لم أمنعهم.
3954 - ومن زنى بمجنونة لا تعقل، أو أتى نائمة، أو اغتصب امرأة، فعليه الحد والصداق لكل واحدة منهن.
3955 - ومن وطئ أمة بيده رهناً، وقال: ظننتها تحل لي، حُدّ، ولا يعذر بذلك أحد، ولا العجم إذا ادعوا الجهالة.
ولم يأخذ مالك بالحديث الذي قالت: “زنيت بمرغوس بدرهمين” وأرى أن يقام الحد في هذا.
3956 - ومن اشترى حرة وهو يعلم بها، فأقر أنه وطئها، حُدّ.
ويضرب المحدود في الزنا والخمر والقذف [على ظهره، ويجرد الرجل في الحد والنكال، ويكشف ظهره بغير ثوب، ويقعد ولا يقام ولا يمد]، وتجلد المرأة وتقعد، ولا تجرد مما لا يقيها الضرب، وإن جعلت على ظهرها ما يقيها الضرب، من لَبد ونحوه، نُزع.
وبلغ مالكاً أن بعض الأئمة أقعد امرأة للجلد في قفة، فأعجبه ذلك.
وصفة الجلد في الزنا والشرب والفرية والتعزير واحد، ضرباً بين الضربين، ليس بالمبرح ولا بالخفيف. ولم يحد مالك ضم الضارب يده إلى جنبه.
ولا يجزئ في الحدود الضرب بقضيب، ولا بشراك، ولا درة، ولكن بالسوط. وإنما كانت درة عمر للأدب. فإذا وقعت الحدود، قَرّب السوط.
__________
(1) رواه أبو داود (4440)، والنسائي (7197).

3957 - وإذا دعاك إمام عادل عارف بالسنة، إلى قطع يد رجل، أو رجله، في سرقة، أو إلى قطع أو قتل في حرابة، أو إلى رجم في زنا، وأنت لا تعلم صحة ما قضى به إلا بقوله، فعليك طاعته، فأما الجائر فلا، إلا أن تعلم صحة ما أنفذ، وعدالة البينة، فعليك طاعته لئلا تضيع الحدود.
3958 - ووجه الشهادة في الزنا: أن يأتي الأربعة الشهداء في وقت واحد، فيشهدوا على وطء واحد، في موضع واحد، بصفة واحدة، فبهذا تتم الشهادة.
قال: ويسألهم الإمام كيف رأوه؟ فإن وصف ثلاثة الزنا، وقال الرابع: رأيته بين فخذيها، حُدّ الثلاثة للقذف وعوقب الرابع، ولو لم يبينوا كيف رأوه، وقالوا: لا نزيدك على هذا، لم يحد الشهود عليه، وحُدّ الشهود حد القذف، وإن شهد رجلان أنه زنى بها في قرية كذا، وشهد اثنان أنه زنى بها في قرية أخرى، لم يجز ذلك، ويحد الأربعة للقذف، وكذلك كل ما شهدوا به في الزنا من فعلين مختلفين.
3959 - وتجوز الشهادة على الشهادة في الزنا، مثل أن يشهد أربعة على شهادة أربعة، أو اثنان على شهادة اثنين، واثنان على شهادة اثنين [آخرين]، فتتم الشهادة.
ولو شهد اثنان أو ثلاثة على شهادة أربعة، لم يجز ذلك، ويحد الشهود للقذف، إلا أن يقيموا أربعة سواهم على شهادة أربعة أشهدوهم، فلا يحدوا ويحد الزاني أو يرجم.
3960 - ولو شهد ثلاثة على شهادة ثلاثة، وواحد على شهادة واحد، لم يجز حتى يشهد على الواحد اثنان. وكذلك إن شهد ثلاثة على رؤية أنفسهم، وواحد على شهادة واحد، لم تتم الشهادة، ويحد الشهود للقذف حتى يشهد اثنان على شهادة الرابع، فتتم الشهادة حينئذ، ويحد المشهود عليه إذا كانت شهادتهم كلها على وطء واحد، في موضع واحد كما وصفنا.
ومن قال لرجل: سمعت فلاناً يشهد أنك زان، أو يقول لك فلان: يا زاني، فإنه يحد إلا أن يقيم بينة على قول فلان.
ومن سمع رجلاً يقذف رجلاً غائباً، فليشهد له إن كان معه غيره.

قال مالك - رحمه الله - : ومن مرّ برجلين يتكلمان في أمر، فسمع منهما شيئاً ولم يشهداه، ثم طلب أحدهما تلك الشهادة، فلا يشهد له.
قال ابن القاسم: إذ قد يكون قبله أو بعده كلام لا تتم الشهادة أو تسقط إلا به، ولا يجيز القاضي شهادة مثل هذا إلا أن يستوعب كلامهما من أوله [إلى آخره]، فليشهد وإن لم يشهداه. قيل لمالك - رحمه الله - : فمن شهد بين رجلين في حق فنسي بعض الشهادة وذكر بعضها؟ فقال: إن لم يذكرها كلها فلا يشهد. قيل له: فرجلان تنازعا في أمر فأدخلا بينهما رجلين على ألا يشهدا بما سمعا منهما فيتقارران ثم يفترقان فيتجاحدان؟ قال: فليعذر الشاهدان إليهما ولا يعجلا، فإن تماديا على الجحد فليشهدا عليهما.
3961 - ومن قذف رجلاً، فلما ضرب أسواطاً قذف آخر، أو قذف الذي يُجلد له، ابتدئ الجلد عليه ثمانين من حين يقذفه، ولا يعتد بما مضى من السياط.
ومن قذف رجلاً، حُدّ له، ثم إن قذفه، حد له ثانية.
ومن عفى عن قاذفه، جاز عفوه ما لم يبلغ الإمام، فإن عفى عنه على أنه متى شاء قام بحده، وكتب بذلك كتاباً، وأشهد على ذلك، فذلك له متى قام به، فإن مات كان لولده أن يقوم عليه بذلك الكتاب.
ولا تبطل شهادة القاذف حتى يحد. وكذلك إن عفى عنه، فإذا ضرب، سقطت شهادته حتى يحدث توبة [وخيراً].
3962 - ومن قذف وشرب خمراً سكر منه أو لم يسكر، جُلد حداً واحداً.
وإذا اجتمع على الرجل مع حد الزنا حد قذف، أو شرب خمر، أُقيما عليه جميعاً، ويجمع ذلك الإمام عليه، إلا أن يخاف عليه فيرى أن يفرق عليه الحدين، فذلك إلى اجتهاده، وكذلك المريض إذا خيف عليه من إقامة الحد، فليؤخر.
قال مالك - رحمه الله - : وكذلك إذا خيف على السارق إن قطع في البرد، فليؤخر.
قال ابن القاسم: والذي يضرب الحد في البرد عندي، بمنزلة القطع في البرد إذا خيف عليه، فليؤخره ويحبس. والحر بمنزلة البرد في ذلك.

وأحب إليّ أن يُبدأ بحد الزنا، إذ لا عفو فيه، واختلف في العفو في حد القذف بعد بلوغ الإمام، فأجازه مالك مرة، ثم رجع عنه.
3963 - ومن عفا عن قاذفه، لم يكن لغيره أن يقوم بحده، وإن رفع القاذف إلى الإمام أجنبي غير المقذوف، لم يمكّن من ذلك ولا يحد له، لأن هذا لا يقوم به عند الإمام إلا صاحبه.
3964 - ولا تجلد البكر الحامل في الزنا حتى تضع وتستقل من نفاسها، لأنه مرض.
ولو كانت محصنة أمهلت حتى تضع، فإذا وضعت حُدّت ولم تؤخر، وهذا إذا وجد للمولود من يرضعه، وإن لم يوجد [أو لم يقبل غيرها]، أُخّرت حتى ترضع ولدها لخوف هلاكه.
3965 - وإذا زنت امرأة، فقالت: إني حامل، فكيف إن قالت البينة: [إنا] رأيناها تزني منذ شهرين، أو ثلاثة أشهر، أو أربعة فإنه ينظر إليها النساء، فإن صدقتها لم يعجل عليها، وإلا حُدّت.
وإذا شهد عليها بالزنا أربعة عدول، فقالت: إني عذراء، أو رتقاء، ونظر النساء إليها فصدقنها، لم ينظر إلى قولهن، وأقيم عليها الحد، لأنه قد وجب، ألا ترى أن البكر إذا أنكر زوجها الوطء بعد إرخاء الستر، وادعته، وشهد النساء أنها بكر، أن قولهن لا يقبل وتصدق المرأة. ولا يُكشف الحرائر على مثل هذا.

وإذا شهدت بينة على امرأة أنها زنت منذ أربعة أشهر، والزوج غائب منذ أربعة أشهر، وادعت هي الحمل وصدقها النساء في الحمل، فاخرت حتى وضعت، ثم رجمت، ثم قدم الزوج فنفى الولد وادعى الاستبراء، فإن كانت المرأة [قالت] قبل أن ترجم: ليس الولد منه، وقد استبرأني، نفى الولد بلا لعان، لأن مالكاً قال فيمن ظهر بامرأته حمل قبل البناء فنفاه، وصدقته هي أنه من زنا، وأنه لم يطأها، فإنه ينفي بلا لعان وتحد هي، وإن كانت بكراً جُلدت وبقيت له زوجة إن شاء طلق أو أمسك، وإن لم تذكر المرأة قبل موتها الاستبراء في المسألة الأولى، ولم تقل شيئاً، وادعى الزوج الاستبراء ونفى الولد، فلا ينفيه هاهنا إلا بلعان. وكذلك لو نفاه ولم يدع الاستبراء، فإنه يلتعن وينفي الولد.
قيل: أليس من قول مالك: من لم يدع الاستبراء فنفى الولد، ضرب الحد وألحق به الولد؟ قال: لا، ولكن قال مالك: إذا رأى الرجل امرأته تزني وقد كان يطؤها قبل الرؤية، لاعن ونفى الولد، إلا أن يطأ بعد الرؤية فيلحق به الولد، ويحد، وإن لم يطأ بعد الرؤية إلا أنها كانت حاملاً يوم قال: رأيتها تزني، فإنه يلاعن ويلحق به الولد إذا كان حملها يومئذ بيناً مشهوداً عليه، أو مقراً به قبل ذلك، لأنه لم ينتف من الحمل، فإن لم يلتعن صار قاذفاً ولحق به الولد.
3966 - وحد العبد في الخمر والسكر والفرية، أربعون جلدة، وإذا زنى العبد، أو قذف، أو شرب خمراً، ثم قامت بينة أنه أعتق قبل ذلك، فإنه يكون له وعليه حكم الحر في ذلك كله، وفي القصاص بينه وبين الحر.(1)
وإن قد كان طلق زوجته تطليقتين بعد العتق، جعلت له عليها الثالثة، علم العبد في ذلك كله بعتقه، أو لم يعلم، كان السيد مقراً بالعتق أو منكراً.
وأما القول في خدمته وغلته، فمذكور في كتاب العتق.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/252).

3967 - وما تظالم أهل الذمة فيه بينهم من قطع جارحة، أخذ ذلك من بعضهم لبعض وإن قتل ذمي ذمياً، قُتل به، وإن سرق ذمي من مسلم أو ذمي، قطع، ولا يقبل في شيء من ذلك إلا شهادة المسلمين.
3968 - ومن دخل بزوجته البكر، فأفضاها ومثلها يوطأ، فماتت من جماعه، [فإن علم أنها ماتت من جماعه] فديتها على عاقلته، وإن لم تمت فعليه ما شانها بالاجتهاد في ماله، وتبقى له زوجة، إن شاء طلق أو أمسك. فإن بلغ الاجتهاد في ذلك ثلث الدية فأكثر، كان على العاقلة، وقد جعل فيها بعض الفقهاء ثلث الدية على عاقلته، ونحا ناحية الجائفة.
3969 - وإن وطئ أمته فأفضاها، لم تعتق عليه إذ لم يقصد به إلى المثلة، كالأدب يؤول إلى المثلة.
وإن زنى بامرأة فأفضها، فلا شيء لها إن أمكنته من نفسها، وإن اغتصبها، فلها الصداق مع ما شانها جميعاً، كمن أوضح رجلاً فسقطت عينه من ذلك، فعليه دية الموضحة ودية العين جميعاً، ولا يدخل بعض ذلك في بعض.
3970 - ومن وطئ امرأة في دبرها [زناً]، ففيه الحد، وهو وطء يغتسل منه، وقد جعله الله وطئاً، فقال تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [العنكبوت: 28].(1)
ومن زنى بصغيرة لم تحض طائعة، ومثلها يوطأ، فحد ثم قذفها رجل بعد أن بلغت، فإنه يحد، لأن ما فعلته في الصبا لم يكن زناً.
ومن قذفها [بالزنا] وهي لم تبلغ المحيض ومثلها يوطأ، فعليه الحد.
ولا يحد من قذف صبياً لم يحتلم، وإن كان مثله يطأ.
3971 - ومن آلى من امرأته فجامعها في دبرها، [فقد] حنث وسقط عنه الإيلاء، وتلزمه الكفارة. قيل: أيسقط عنه الإيلاء وهو لم يكفر؟ قال: نعم، لأن هذا عند مالك جماع لا شك فيه، إلا أن يكون نوى الفرج بعينه حين حلف، فلا تلزمه كفارة في الدبر، وهو مول بحاله.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/213).

وإن وطئها المولي فيما دون الفرج ولا نية له، فعليه الكفارة، ويسقط عنه الإيلاء إذا كفّر، لأنه لو كفّر قبل أن يطأ لسقط عنه الإيلاء، فكيف إذا كفّر للإيلاء. وفي كتاب الإيلاء هذا المعنى.
3972 - وإذا زنا الكافران، لم يحدّا، ورُدّا إلى أهل دينهما.(1)
وإن أعلنوا الزنا وشرب الخمر فلينكلوا، فأما إن وجدوا على ذلك ولم يعلنوه، فلا.
3973 - قيل: فإن شهد أربعة على رجل بالزنا، فقالوا: تعمدنا النظر إليهما لتثبت الشهادة؟ فقال: وكيف يشهد الشهود إلا كذا.
فإن قال المشهود عليه: هم عبيد، وقال الشهود: نحن أحرار، فهم على قولهم أنهم أحرار، والبينة عليه.
وأصل الناس عند مالك الحرية حتى يثبت رقهم.
ومن قذف رجلاً لا يعرف برق وهو يدعي الحرية، وقال القاذف: بل هو عبد، فهو على الحرية، ومن يعرف الشامي والبصري والإفريقي في المدينة؟ فأرى أن يحد له، إلا أن يأتي ببينة على رقه، فإن ادعى بذلك بينة قريبة، لم يعجل عليه، وإن كانت بعيدة جلد الحد ولم يلتفت إلى قوله، ثم إن أقام تلك البينة بعد الضرب زالت عنه جرحة الحد، وجازت شهادته، ولا يكون له من أرش الضرب شيء.
3974 - وإن أقر القاضي أنه رجم، أو قطع الأيدي، [أو زنى] تعمداً للجور، أقيد منه.
3975 - ولا بأس أن يقيم السيد على مملوكه حد الزنا والقذف وحد الخمر. وأما السرقة فلا، وإن شهد بها عند السيد عدلان سواه، ولا يقيمها على العبد إلا الوالي.
فإن قطعه السيد دون الوالي، وكانت البينة عادلة وأصاب وجه القطع، عوقب، ولا يحد السيد عبده في الزنا إلا بأربعة شهداء سوى السيد، فإن كان السيد رابعهم، فلا يحده، وليرفعه إلى الإمام، فيقيم الإمام عليه الحد، ويكون السيد شاهداً، ألا ترى أن الإمام إذا شهد على حد فلم تتم الشهادة إلا به، أنه لا يقيم الحد في ذلك، ولكن يرفعه إلى من فوقه، فيقيمه ويكون هو شاهداً.
__________
(1) انظر: منح الجليل (9/123).

وإن شهد على العبد سيده وأجنبي أنه سرق، وهما عدلان، قطع الإمام يده، ولا يقطعه سيده دون الإمام.
3976 - ومن زنت جاريته ولها زوج، فلا يقيم عليها الحد، وإن شهد عليها أربعة سواه حتى يرفع ذلك إلى الإمام.
ولا يقيم الرجل على عبده قصاصاً، حتى يرفعه إلى الإمام.
[وكذلك إذا كان له عبدان فجرح أحدهما صاحبه، فلا يقتص منه حتى يرفعه إلى الإمام].
وقال ناس: إذا كان العبدان له، فلا قصاص بينهما، لأن ماله جرح ماله، وأبى ذلك مالك.
3977 - ولا تجوز شهادة آكل الربا، أو شارب الخمر، أو لاعب بالحمام إذا كان يقامر عليها، ولا شهادة من يعصر الخمر ويبيعها، وإن كان لا يشربها.
وإذا طلب المشهود عليه تجريح البينة، أُمكن من ذلك، فمن أقام البينة عليه بشيء أنه فيه، مما لو شُهد عند القاضي [ابتداءً فعلمه القاضي] منه، أبطل به شهادته، كان ذلك له تجريحاً.
وإذا ادعى الخصم بينة بعيدة في التجريح، لم ينتظر، لأن الحق قد وجب [عليه].
وإنما يتلوم له القاضي في التجريح بقدر ما يرى، فإن جرحهم وإلا أمضى الحكم عليه.
3978 - وإن جرح واحداً من شهود الزنا وهم أربعة، حُدّ جميعهم حد الفرية.
ومن شهدت عليه بينة بالزنا فقذفهم، حُدّ للزنا، وحُد لقذفهم حد القذف، ولا تبطل شهادتهم بالزنا لطلبهم حد القذف منه.
3979 - وإذا شهد الإمام على حد، رفعه إلى من فوقه، فإن لم ينك فوقه أحد، رفعه إلى قاضيه وشهد عنده.
3980 - وإذا كتب قاض [إلى قاض] بما ثبت عنده من شهادة على رجل في حد، أو قصاص، أو حق سواه، [أو بقضاء] أنفذه في ذلك كله، فثبت عند المكتوب إليه أن هذا كتاب القاضي الذي كتب إليه وطابعه، أو كان فيه طابع فانكسر، أو ثبت [أنه] كتابه ولا طابع فيه، فذلك سواء، وينبغي لهذا الذي جاءه الكتاب إنفاذ ما فيه، فإن عُزل المكتوب إليه، أو مات ووصل الكتاب إلى من ولي بعده، فلينفذه، وكذلك إن عُزل الذي كتب به [إليه]، أو مات قبل وصوله أو بعده، فلينفذه من وصل إليه.

وإن لم تشهد البينة على ما في كتاب القاضي، لم يلتفت إلى طابعه.
و ينبغي أن يقيم الحدود في القتل ولاة المياه، وليجلب إلى الأمصار، ومصر كلها لا يقام القتل فيها إلا بالفسطاط، أو يكتب إلى والي الفسطاط، فيكتب إليه [يأمره بإقامة ذلك]. والله الموفق.
* * *

(كتاب القطع في السرقة)
3981 - وينبغي للإمام إذا شهدت عنده بينة على رجل، أنه سرق ما يقطع في مثله، أن يسألهم عن السرقة ما هي؟ وكيف هي؟ ومن أين أخذها؟ وإلى أين أخرجها؟ كما يكشفهم عن شهادتهم على رجل بالزنا، فإن كان في ذلك ما يدرأ الحد به، درأه.
3982 - ومن سرق ذهباً وزنه ربع دينار، قُطع وإن كانت قيمته درهماً واحداً، وإن لم يبلغ وزنه ربع دينار، لم يقطع وإن ساوى ثلاثة دراهم فأكثر، وكذلك من سرق فضة نظر إلى وزنها دون قيمتها من الذهب، وإنما يقوّم غير الذهب والفضة من سائر الأشياء، فمن سرق عرضاً قيمته ثلاثة دراهم قُطع وإن لم يساو من الذهب ربع دينار. ولو ساوى ربع دينار ولم يساو ثلاثة دراهم، لم يُقطع.
وإنما تُقوّم الأشياء بالدراهم، وصرف الدينار في حد القطع والدية اثنا عشر درهماً، ارتفع الصرف أو انخفض.
3983 - ومن سرق متاعاً سراً لرجل غائب فقام به أجنبي، قُطع.
ولو قال السارق: رب المتاع أرسلني، قُطع السارق وإن صدّقه ربه أنه بعثه، كان معه في بلد أو لم يكن.
وإن أُخذ في جوف الليل ومعه متاع، فقال: فلان أرسلني إلى منزله فأخذت له هذا المتاع، فإن عرف منه إليه انقطاع وأشبه ما قال، لم يقطع، وإلا قطع ولم يصدق. وإذا لم يقم رب المتاع على السارق وتركه بعد أن أخذ منه السرقة، أو لم يأخذها، أو عفا عنه، ثم رفعه بعد ذلك [بزمان] هو أو غيره إلى السلطان، قطع.(1)
وليس للوالي أن يعفو إذا انتهت إليه الحدود.
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/341)، والتاج والإكليل (6/307، 310)، والمدونة (16/269، 274)، ومنح الجليل (9/309).

ولو قال رب المتاع: ما سرق مني شيئاً، وشهدت بينة أنه سرق، قُطع.
ويحبس السارق حتى تزكى البينة.
3984 - ولا يؤخذ في الحدود والقصاص كفيل، فإن زُكّوا أقام الحد، غاب الشهود أو رب السرقة، أو حضروا، وكذلك إن زكوا بعد أن ماتوا أو عموا أو جنّوا أو خرسوا أنفذ الإمام الحد الذي شهدوا به من زنا أو سرقة. وكذلك الحقوق.
وإن ارتدوا أو فسقوا قبل الحكم، لم يحكم بما شهدوا فيه وسقطوا.
وإذا ظهر منهم فسق، أو أخذوا يشربون خمراً، وذلك بعد أن حكم الإمام بإقامة الحدود أو القصاص إلا أن ذلك لم يقم [بعد]، فإن ذلك ينفذ ويقام الحد والقصاص، وكذلك هذا في الحقوق، لأنه حكم نفذ بالأمر به.
3985 - وإذا شهدت البينة في الحدود، لم يفرقهم الإمام إذا كانوا عدولاً مبرزين، إلا أن يستنكر شيئاً.
ولا تجوز شهادة أهل الكفر في سرقة أو غيرها، على مسلم أو كافر.
3986 - وإن سرق جماعة ما تعاونوا في إخراجه من الحرز لثقله، قُطعوا كلهم، وإن لم تكن قيمته إلا ثلاثة دراهم فأكثر. وكذلك إن حملوه على ظهر أحدهم في الحرز ثم خرج به إذا لم يقدر على إخراجه إلا برفعهم معه، ويصيرون كأنهم حملوه على دابة، فيقطعون إذا تعاونوا على رفعه عليها لثقله أو لكثرته.
وإن حملوه على ظهر أحدهم وهو قادر على حمله دونهم، كالثوب والصرة، لم يقطع إلا الخارج [به]ن كما لو خرج به دون عونهم، ولا يقطع من أعانه، ولو خرج كل واحد منهم حاملاً لشيء دون الآخر، وهم شركاء فيما أخرجوا لم يقطع إلا من أخرج منهم ما قيمته ثلاثة دراهم.
3986 - ومن سرق عرضاً قيمته ثلاثة دراهم وهو لرجلين، قُطع.
وإن سرق متاعاً ممن هو بيده وديعة أو عارية أو بإجارة، قُطع، لأنه حرز له.
[ومن سرق متاعاً، فسرقه منه سارق، ثم سرقه من السارق سارق ثالث، قُطعوا كلهم].
ومن سرق متاعاً، فقطع فيه، ثم سرقه ثانية، قُطع أيضاً.

3987 - ومن قام من الناس بسارق أو زان إلى الإمام، أقام عليه الحد إذا ثبت ذلك عنده، بخلاف القاذف يرفعه غير المقذوف هذا لا يحده حتى يحضر الطالب.
ولو سمع الإمام رجلاً يقذف رجلاً ومعه من تثبت شهادته عليه، أقام عليه الإمام الحد.
3988 - ومن عفا عن قاذفه قبل بلوغ [الإمام]، لزمه ولا رجوع له في ذلك، وكان مالك يقول: في القذف العفو وإن بلغ الإمام، وقاله عمر بن عبد العزيز، ثم رجع مالك، فقال: لا عفو له إذا بلغ الإمام إلا أن يريد ستراً.
3989 - وإذا سرق الذمي قُطع، لأن السرقة من الفساد في الأرض، فلا يقروا عليها.
وأما إن زنى، فلا يقام عليه الحد، ويرد إلى أهل دينه، ولا أمنعهم رجمه إن شاءوا.
ولا قطع في سرقة خمر أو نبيذ مسكر أو خنزير، وإن كان لذمي سرقه مسلم أو ذمي، إلا أن للذمي المعاهد قيمته على المسلم، وكذلك على الذمي إذا حكمنا بينهما.
3990 - ولا يحل للبينة الكف عن الشهادة على السرقة إذا رفع السارق إلى الإمام، ولا بأس بالشفاعة [للسارق] إذا لم يعرف منه أذى للناس، إذا كانت [تلك] منه زلة ما لم يبلغ الإمام أو الشرط أو الحرس، فإذا بلغهم لم تجز الشفاعة.
وأما المعروف بالفساد فلا ينبغي أن يتشفع له أحد، ويترك حتى يحد.
وإذا عاينت البينة إخراج المتاع من البيت ولا يدرون لمن هو، فلا يشهدوا بملكه لرب البيت، ولكن يؤدّون ما عاينوا وعلموا. وتقطع يد السارق ويقضى بالمتاع لرب الدار، وكذلك إن عاينوا أنه غصبه ثوباً. وكذلك يشهدون لبائع السلعة في فلس المبتاع أنه باعها منه، ولا يقولوا: أنها له حين باعها، ولا يشهدوا في ذلك إلا بما عاينوا أو علموا.
3991 - وإذا جمع السارق المتاع وحمله، فأُدرك في الحرز قبل أن يخرجه، لم يقطع.
قيل: فإن أخرجه من البيت إلى الدار، والدار مشتركة مأذون فيها، والبيت محجور عن الناس؟ قال: قال مالك - رحمه الله - : يقطع إذا أخرجه من البيت إلى الدار والدار مشتركة، لأنه قد صيره إلى غير حرزه.

3992 - [قيل:] فإن كانت داراً مأذوناً فيها، وفيها تابوت فيه متاع لرجل قد أغلقه، فأتى رجل ممن أُذن له فكسره أو فتحه، فاخرج المتاع منه، فأُخذ بحضرة ما أخرج المتاع من التابوت قبل أن يبرح به. قال: لا يقطع هذا، وإن كان ممن لم يؤذن له لم يقطع أيضاً، لنه لم يبرح بالمتاع ولم يخرجه من حرزه.
وقد سئل مالك - رحمه الله - عن الضيف يسرق من بعض منازل الدار المغلقة عنه؟ فقال: لا يقطع، لأنه ائتمنه حين أدخله داره.
وقال مالك - رحمه الله - في بيت مغلق في دار مأذون فيها: إن السارق إذا أخرج نم البيت شيئاً فأُخذ في الدار، لم يقطع، فكذلك التابوت.
قال ابن القاسم: والدار المشتركة المأذون فيها إذا سرق رجل منها دواب من مرابطها، قطع. وكذلك لو كان لها مرابط معروفة في السكة، فسرقها رجل من ذلك الموضع قطع، لأن ذلك حرزها.
ومن احتلها من مرابطها المعروفة لها فأخذها، قُطع.
ولو نشر أحد - من أهل دار مشتركة مأذون فيها - ثوبه على ظهر بيته، وبيته محجور عن الناس، وإن نشره في صحن الدار، لم يقطع إن كان سارقه من أهل الدار، وإن كان من غيرها قُطع، إلا أن تكون الدار مباحة لا يمنع منها أحد، فلا يقطع سارقه، كان من أهل الدار أو من غيرها.
3993 - وإذا نقب السارق فأدخل يده فأخرج الثوب بقصبة أو عود، قطع.
وإن دخل الحرز فأخذ متاعاً، فناوله رجلاً [آخر] خارجاً من الحرز، قُطع الداخل وحده، أُخذ في الحرز أو بعد أن خرج. ولو خرج بالمتاع من حرزه إلى خارجه، قُطع.
قال ابن القاسم: ولو أُخذ في الحرز بعد أن ألقى المتاع خارجاً منه، فقد شك فيه مالك بعد أن قال لي: يُقطع، وأنا أرى أن يقطع.
ولو ربطه الداخل بحبل وجره الخارج، قُطعا جميعاً. وإن ناول أحدهما المتاع لصاحبه وهما في الدار، لم يقطع إلا من خرج به.

ولو قربه [أحدهما] إلى باب الحرز أو النقب، فتناوله الخارج، قُطع الخارج وحده، إذ هو أخرجه، ولا يقطع الداخل. ولو التقت أيديهما في المناولة في وسط النقب، قُطعا جميعاً.
3994 - ومن شهدت عليه بينة أنه سرق هذا المتاع من يد هذا، فقال السارق: حلّفوه انه ليس لي، فإنه يُقطع ويحلف له الطالب ويأخذه، فإن نكل حلف السارق وأخذه.
3995 - ويقطع من سرق ما وضع في أفنية الحوانيت [للبيع]، أو في الموقف للبيع وإن لم يكن هناك حانوت، كان ربه معه أو لا، سرقه في ليل أو نهار. وكذلك إن سرق شاة أوقفها ربها في سوق الغنم للبيع، وهي مربوطة أو غير مربوطة، فعليه القطع.
3996 - ويُقطع من سرق من الحوانيت، والمنازل والبيوت والدور حرز لما فيها، غاب أهلها أو حضروا. وكذلك ظهور الدواب.(1)
وإذا اجتمع في الجرين الحب أو التمر، وغاب ربه وليس عليه باب أو حائط ولا غلق، قُطع من سرق منه.
3997 - ولا قطع في شيء من المواشي في مراعيها حتى يأويها المراح، فإذا آواها المراح وإن كان مراحها إلى غير الدور وليس عليها حيطان ولا أغلاق - فعلى من سرق منها القطع وإن لم يبت معها أهلها، كالدواب في مرابطها المعروفة، وإن لم يكن دونها أبواب ولا غلق. والمتاع في الأفنية للبيع ولا غلق على ذلك ولا معه أهله، ففي ذلك القطع.
3998 - ومن سرق متاعاً من الحمام فإن كان معه من يحرزه، قطع وإلا لم يقطع، إلا أن يسرقه أحد لم يدخل الحمام [من] مدخل الناس من بابه، مثل أن يتسور أو ينقب ونحو ذلك، فإنه يقطع وإن لم يكن مع المتاع حارس.
ومن جر ثوباً منشوراً على حائط، بعضه في الدار وبعضه خارج منها إلى لطريق، أو سرق متاعاً من صنيع، لم يقطع.
ومن أذنت له في دخول بيتك أو دعوته إلى طعامك فسرقك، فلا قطع فيه، وهذه خيانة.
3999 - ومن كابر رجلاً بسلاح أو غيره على مال له في زقاق، أو دخل عليه حريمه في المصر، حكم عليه بحكم الحرابة.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/308).

وإذا سرقت الحرة أو من فيها علقة رق أو ذمية، قُطعت.
وإذا دخل الحربي بأمان فسرق قُطع، لأنه لو قَتَل قتلته، ولو تلصص قضي عليه بحكم الحرابة.
4000 - ولا يقطع الصبي إذا سرق ولا المجنون ولا المطبق، وأما الذي يجن ويفيق: فإن سرق [في حال جنونه لم يقطع وإن سرق] في حال إفاقته قُطع [إلا أنه إن سرق في حال إفاقته فأُخذ] في حال جنونه، استؤني به حتى يفيق.
4001 - وإذا سرق أحد الأبوين من مال الولد، لم يُقطع، وكذلك الأجداد من قبل الأب والأم، أحب إلي أن لا يُقطعوا، لأنهم آباء، ولأن الدية تغلظ على أب الأب إذا قتل ابن ابنه ولا يقتل. فإن قيل: إن الجد يقطع، لأن نفقة ولد ولده لا تلزمه، قيل له: فالأب لا تلزمه نفقة ابنه الكبير ولا ابنته الثيب، وهو لا يقطع فيما سرق من أموالهما ولا يحد فيما وطئ من جواريهما فكذلك الجد لا حد عليه ولا قطع ولا نفقة.
4002 - وإن سرق الابن من مال أبيه، قُطع، وإن زنى بجارية أبيه حُد.
وتقطع المرأة إذا سرقت من مال زوجها من غير بيتها التي تسكنه، وكذلك إن سرق خادمها من مال الزوج من بيت قد حجره عليهم، أو سرق خادم الزوج من مال المرأة من بيت حجرته عليهم.
4003 - وإن سرق الأب مع أجنبي من مال الولد ما قيمته ثلاثة دراهم، لم يقطع واحد منهما. وكذلك إن سرق منك رجل أجنبي مع عبدك، أو مع أجيرك الذي ائتمنته على دخول بيتك، لم يقطع واحد منهما، وإن تعاونا في السرقة.
4004 - وإذا سرق رجل مع صبي صغير أو مجنون ما قيمته ثلاثة دراهم، قُطع الرجل.
4005 - وإذا سرق الشريك من متاع الشركة مما قد أغلق عليه، لم يقطع، وإن كانا أودعاه لرجل فسرقه أحدهما منه، قُطع إن كان فيما سرق من حصة شريكه فضلٌ عن حصته ربع دينار.(1)
وشهادة الأخوين لأخيهما أن هذا الرجل سرق متاعه، جائزة إذا كانا عدلين، كالحقوق.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/308).

4006 - وإذا سرق المكاتب من مال سيده، أو سرق السيد من مال مكاتبه أو من مال مكاتب ابنه أو من عبد، لم يقطع.
4007 - ومن سرق ما قيمته ثلاثة دراهم من الطعام الذي لا يبقى في أيدي الناس، مثل: اللحم والبطيخ والقثاء وشبهه، قُطع. والأترجة التي قطع فيها عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - ، كانت تؤكل.
4008 - وإذا كان في الحائط نخلة زال رأسها فقطعها رجل من أصلها فسرقها أو قلع نخلة بثمرها لم يقطع. وكذلك جميع الشجر.
ولو قطع هذا الجذع ربه ووضعه في الحائط فكان ذلك حرزاً له، فسرقه رجل، قُطع.
ويقطع سارق البقل إذا آواه حرزه، ما لم يكن قائماً.
ويقطع سارق الزرنيخ والنطرون والنورة والحجارة والماء، إذا بلغت قيمته ثلاثة دراهم.
4009 - ومن سرق شيئاً من الطير بازياً أو غيره، قُطع. وأما سباع الوحش التي لا يؤكل لحمها إذا سرقها، فإذا كان في قيمة جلودها إذا ذكيت دون أن تدبغ ثلاثة دراهم، قُطع، لأن لصاحبا بيع جلودها ما ذكى منها، والصلاة عليها وإن لم تدبغ.
4010 - ولا قطع في جلد ميتة لم يدبغ، فأما إن دبغ ثم سُرق فإن كان قيمة ما فيه من الصنعة دون الجلد ثلاثة دراهم، قُطع.
ومن سرق كلباً صائداً أو غير صائد، لم يقطع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرّم ثمنه.(1)
4011 - وإذا وضع المسافر متاعه في خبائه أو خارجاً من خبائه، وذهب لحاجته، فسرقه رجل، أو سرق لمسافر فسطاطاً مضروباً بالأرض، أو احتل بعيراً من القطار في سيره وبان به، أو سرق مصحفاً، أو باب دار، أو كفناً من قبر، أو حلّ الطرّار من داخل الكم أو من خارجه، أو أخرج من الخف ما قيمته ثلاثة دراهم، أو سرق من محمل شيئاً مستسرّاً، أو أخذ من على البعير غرائر، أو شقها فأخذ منها متاعاً، أو أخذ ثوباً من على ظهر البعير [مستسراً] قُطع في ذلك كله إن بلغ ثمنه ما فيه القطع.
__________
(1) رواه مسلم (1569)، والنسائي (4668).

4012 - وإن أخذ الثوب غير مستتر فهو خلسة، ولا قطع على مختلس، والرفقة في السفر ينزل كل واحد على حدته، فإذا سرق أحدهم من الآخر، قُطع، كأهل الدار ذات المقاصير يسرق أحدهم من بعضها.
ومن ألقى ثوبه في الصحراء، وذهب لحاجته وهو يريد الرجعة [إليه] ليأخذه، فسرقه رجل سراً، فإن كان منزلاً نزله، قُطع سارقه وإلا لم يقطع.
4013 - ومن سرق صبياً حراً أو عبداً من حرزه، قُطع، وإن سرق عبداً [كبيراً] فصيحاً، لم يقطع، وإن كان عجمياً، قُطع.
4014 - ومن سرق ثوباً لا يساوي ثلاثة دراهم، فيه دراهم أو دنانير مصرورة ولم يعلم أن ذلك فيه، قال مالك - رحمه الله - : أما الثوب وشبهه مما يعلم الناس أنه يرفع ذلك في مثله، فإنه يقطع وإن لم يدر ما فيه.
4015 - ولو سرق شيئاً لا يرفع ذلك فيه، كالحجر والخشبة والعصا، لم يقطع إلا في قيمة ذلك دون ما رفع فيه من فضة أو ذهب.
4016 - وإذا شهد على رجل شاهد [عدل] أنه سرق نعجة، وشهد آخر أنه سرق كبشاً، لم يقطع. وكذلك إن قال هذا: سرق يوم الخميس، وقال هذا: [سرق] يوم الجمعة، لم يقطع إذا لم يشهدا على عمل واحد.
4017 - وإذا دخل السارق الحرز فأكل الطعام فيه ثم خرج، لم يقطع وضمنه.
وإن دهن رأسه ولحيته في الحرز بدهن ثم خرج، فإن كان بما] في رأسه من الدهن إن سُلت بلغ ربع دينار، قُطع، وإلا لم يقطع.
وإذا ذبح شاة في الحرز أو خرق ثوباً أو أفسد طعاماً ثم خرج بذلك، فإن كانت قيمة ذلك بعد خروجه به بتلك الحال ثلاثة دراهم، قُطع، ولا ينظر إلى قيمته داخل الحرز وإنما ينظر إلى قيمة السرقة يوم سرقها [السارق]، ولا تبالي زادت قيمتها يوم القيام به أو نقصت.
4018 - ومن سرق مرة بعد مرة قُطعت يده اليمنى، ثم رجله اليسرى، ثم يده اليسرى، ثم رجله اليمنى.

وإن سرق ولا يمين له أو له يمين شلاّء، قُطعت رجله [اليسرى]، قاله مالك، ثم عرضتها عليه فمحاها، وقال: تقطع يده اليسرى، و[أراه] تأول قول الله عز وجل: {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. وقوله في الرجل: أحبّ إلي وبه آخذ.(1)
ومن سرق ولا يدان له ولا رجلان، أو كان أشلّ اليدين والرجلين فاستهلكها وهو عديم، لم يقطع منه شيء، ولكن يضرب ويحبس ويضمن قيمة السرقة.
وإن سرق وقد ذهبت من يده اليمنى أصبع، قطعت يده، كما لو قطع يمين رجل وإبهام يده مقطوعة، فإن يده تقطع، وإن لم يبق من يمنى يده إلا أصبع أو أصبعان قطعت رجله اليسرى، فإن كانت يداه ورجلاه كلها كذلك، لم يقطع وضُرب وسُجن وضمن قيمة السرقة.
4019 - ومن سرق فأُخذ مكانه، أو بعد ذلك ويُسْره متصل، فقطع وقد استهلك السرقة، ضمنها، فإن كان معسراً يوم قطعت يده، أو كان يسره ذلك قد ذهب ثم أعسر، ثم قطعت يده وقد أيسر ثانية، أو سرق وهو معسر ثم أُخذ وهو موسر، فقطعت يده، لم يضمن السرقة إن كان قد استهلكها، وإنما يضمنها إذا سرق وهو موسر فتمادى يسره إلى أن قُطع.
4020 - وإذا شهد رجلان على رجل بالسرقة، ثم قالا قبل القطع: أوهمنا، بل هو هذا الآخر، لم يقطع واحد منهما.
وما بلغ من خطأ الإمام ثلث الدية فأكثر، فعلى عاقلته مثل خطأ الطبيب والمعلم والخاتن.
قال ابن القاسم: وأبى مالك أن يجيبنا في خطأ الإمام بشيء.
4021 - وإذا رجع الشاهدان قبل الحكم ولهما عذر بين يُعرف به صدقهما، وكانا بيّني العدالة، أُقيلا وجازت شهادتهما بعد ذلك، وإن لم يتبين صدقهما لم يقبلا فيما يستقبلان، ولو أُدّبا لكانا لذلك أهلاً.
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/332)، وشرح الزرقاني (4/192)، وموطأ مالك (2/834)، والتمهيد (4/153)، والمدونة (16/288)، ومنح الجليل (9/293).

وإن رجعا بعد الحكم وقد شهدا على دين أو طلاق أو حد أو عتق أو غير ذلك، فإنهما يضمنان الدين، ويضمنان العقل في القصاص في أموالهما، ويضمنان قيمة المعتق.
4022 - وفي الطلاق إن دخل بالزوجة، فلا شيء عليهما، وإن لم يدخل ضمنا نصف الصداق للزوج، ولا يقضي القاضي ببينة حتى يُزكّوا عنده، ولو لم يطعن فيهم الخصم. ويكشف عنهم إن شاء في السر أو في العلانية، ولا يقبل إلا تزكية رجلين عدلين لا أبالي فيم كانت الشهادة: في حق الله أو للناس، من حد أو قصاص.
4023 - وإذا ارتضى القاضي رجلاً للكشف، جاز أن يقبل منه ما نقل إليه من التزكية عن رجلين لا أقل من ذلك، فإذا زكت البينة والمطلوب يجهل وجه التجريح [هو] من جهلة الرجال أو من ضعفة النساء، فليخبره القاضي بماله من ذلك، ويبينه له، لعل بينه وبينهم عداوة أو شوكة مما لا يعلمه المعدلون.
وإن كان مثله لا يجهل التجريح لم يدعه إليه، وليس كرد اليمين، لأن الحكم لا يتم إلا بردها.
4024 - وإن أقام المشهود عليه بينة على الشهود بعد أن زكوا أنهم شربة خمر، أو أكلة ربا، أو فجار، أو أنهم يلعبون بالشطرنج أو النرد، أو بالحمام، فذلك مما تجرح به شهادتهم، وإن ثبت أنهم حدوا في قذف، فمن تاب ممن حُد في القذف وحسنت حاله وزاد على ما عرف منه من حسن حاله، جازت شهادته.
4025 - ولو حد نصراني في قذف ثم أسلم بالقرب، قُبلت شهادته.
4026 - ولا تجوز شهادة العبد في شيء من الأشياء. وإن شهد رجل وامرأتان على رجل بالسرقة، لم يقطع، وضمن قيمة ذلك، ولا يمين على صاحب المتاع. وإن شهد بذلك رجل [واحد] حلف الطالب مع شاهده وأخذ المتاع إن كان قائماً بعينه، ولا يقطع السارق.
وإن كان المتاع مستهلكاً، ضمن السارق قيمته وإن كان عديماً.
4027 - وتجوز الشهادة على الشهادة في السرقة وغيرها، إذا شهد رجلان على شهادة رجل.

وإذا شهدت بينة على رجل غائب بسرقة ثم قدم، فإنه يقطع ولا تعاد البينة، حضروا أم غابوا، إذا كان الإمام قد استكمل تمام الشهادة.
4028 - وإذا لم يقم بالسرقة حتى طال الزمان وحسنت حال السارق، ثم اعترف، أو قامت بينة بذلك، فإنه يقطع.
وكذلك حد الخمر والزنا، ولا يحد السكران حتى يصحو.
4029 - وإن باع السارق السرقة، فقُطع ولا مال له، ثم أُلفيت عند المبتاع قائمة، فلربها أخذها ويتبع المبتاع السارق بالثمن. وكذلك لو كانت غنماً فتوالدت عند المبتاع لأخذها ربها وأولادها، فإن هلكت السرقة عند المبتاع بسببه أو باعها، فلربها أن يرجع على المبتاع بقيمتها. وإن هلكت عنده بأمر من الله سبحانه، فلا شيء عليه.(1)
ومن سرق ثوباً فصبغه، ثم قُطع ولا مال له غيره، فلرب الثوب أن يعطيه قيمة الصبغ ويأخذ ثوبه، فإن أبى بيع الثوب وأخذ ربه من الثمن قيمته يوم السرقة، وكان الفضل للسارق. وإن عجز ثمنه لم يتبع السارق بشيء لِعُدْمه. وإن قطعه السارق وجعله ظهارة لجبة أو لقلانس وأراد ربه فتقه وأخذه مقطوعاً فذلك له كما لو سرق خشبة فبنى عليها كان له أخذها، وإن أخرب بنيانه بذلك.
فإن أبى أن يأخذ ثوبه مقطوعاً والسارق عديم، صنع به كما وصفنا في الصبغ.
ومن سرق حنطة فطحنها سويقاً ولتها، ثم قُطع ولا مال له غيره، فأبى رب الحنطة أخذ السويق، فهو مثل ما وصفنا: يباع السويق ويشترى له من ثمنه مثل حنطته.
وإن سرق فضة فصاغها حلياً أو ضربها دراهم، ثم قُطع ولا مال له غيرها، فليس لربها إلا وزن فضته، لأني إن أجزت له [أخذها] بلا شيء، ظلمت السارق، وإن أمرته بأخذها ودفع أجرة الصياغة، كانت فضة بفضة وزيادة، فهذا ربا.
وإن سرق نحاساً فعمل منه قمقماً فعليه مثل وزنه، وهذا في كتاب الغصب مذكور.
__________
(1) انظر: التقييد (6/251).

4030 - ومن شهدت عليه بينة زكية أنه سرق، فحبسه القاضي حتى يقطعه، فقطع رجل يمينه في السجن، لم يقتص منه ونُكّل، وأجزأ ذلك من [قطع] السرقة، ولو فعل به ذلك قبل عدالة البينة أرجئ، فإن عدلت كان الأمر كذلك، وإن لم تعدل البينة اقتص منه.
وإذا أمر القاضي بقطع يمين السارق، فغلط القاطع فقطع يساره، أجزأه، ولا يقطع يمينه، ولا شيء على القاطع.
وإذا قُطعت يمين السارق كان ذلك لكل سرقة تقدمت، أو قصاص وجب في تلك اليد، وإذا ضرب في شرب الخمر، أو أقيم عليه حد الزنى، فهذا [كله] لما كان قبله من ذلك. وإن فعل بعد ذلك شيئاً، أقيم عليه ذلك.
4031 - ومن سرق فقطعت يده ولا مال عنده إلا قدر قيمة السرقة فغرمها، ثم قام قوم سرق منهم قبل ذلك، فإن كان من وقت سرق منهم لم يزل ملياً بمثل هذا الذي غرم الآن، تحاصوا فيه كلهم، وإن أعدم في خلال ذلك ثم أيسر، فكل سرقة سرق من يوم يسره المتصل إلى الآن، فأهلها يتحاصون في ذلك دون من قبلهم، وإن لم يحضروا يوم القطع كلهم فلمن غاب الدخول عليهم فيما أخذوا، كغرماء المفلس.
4032 - ويقوم السرقة أهل النظر والعدل، قيل: فإن اختلف المقومون؟ قال: إذا اجتمع عدلان بصيران أن قيمتها ثلاثة دراهم، وجب القطع، ولا يقطع بقيمة رجل واحد.
4033 - ومن سرق من سفينة، قُطع. وإن سرق السفينة [نفسها]، فهي كالدابة تحبس وتربط وإلا ذهبت. فإن كان معها من يمسكها قُطع سارقها، كالدابة بباب المسجد أو في السوق، فإن كان معها من يمسكها قُطع سارقها وإلا فلا.
وإن نزلوا بالسفينة في سفرهم منزلاً فربطوها، فإنه يقطع سارقها، كان معها ربها أو ذهب لحاجته، وكلما درأت به الحد في السرقة، ضمنت السارق قيمة السرقة وإن كان عديماً.
4034 - وإن سرق مسلم من حربي دخل بأمان، قُطع. وإن سرق الحربي وقد دخل بأمان، قُطع.

4035 - ويقيم أمير الجيش الحدود ببلد الحرب على أهل الجيش في السرقة وغيرها، وذلك أقوى له على الحق. وإن دخل المسلمون دار الحرب بأمان، فسرق بعضهم من بعض، أو زنى أو شرب الخمر، ثم قدموا فشهد بعضهم على من فعل ذلك، فإنه يُحد.
وإذا أكل المسلم لحم خنزير عوقب.
وإن شرب خمراً في رمضان جُلد للخمر ثمانين، ثم يضرب للإفطار في رمضان، وللإمام أن يجمع ذلك عليه أو يفرقه.
4036 - ومن شهدت عليه بينة أنه أقر بالسرقة أو بالزنى فأنكر، فإن ذكر أنه [إنما] أقر لأمر يعذر به، أو جحد ذلك الإقرار أصلاً، أُقيل.
وإذا أقر عبد أو مدبر أو مكاتب أو أم ولد بسرقة، قُطعوا إذا عينوا السرقة وأظهروها، فإن ادعى السيد أنها له، صُدّق مع يمينه.(1)
4037 - وقاله مالك - رحمه الله - في أمة ادعى رجل في ثوب بيدها فصدقته، وادعاه السيد [لنفسه]، أنه يقضى به للسيد مع يمينه، إلا أن يقيم المدعي بينة.
ولا يجب على الصبيان حد في سرقة أو زنا، حتى يحتلم الغلام وتحيض الجارية، أو يبلغوا سناً لا يبلغه أحد إلا بلغ ذلك: من احتلام أو حيض. قيل: فإن أنبت الشعر قبل ذلك؟ قال: قد قال مالك - رحمه الله - : يُحد إذا أنبت، وأحبّ إليّ أن لا يحكم بالإنبات. وقد أصغى مالك إلى الاحتلام حين كلمته في الإنبات.
4038 - ومن أقر بشيء من الحدود بوعيد، أو سجن، أو قيد، أو ضرب، أو قتل، وذلك كله إكراه، فإن تمادى [على إقراره بعد زوال الإكراه، فإنه يحبس حتى يُسْتَبْرأ أمره، فإن تمادى] على إقراره بعد أمن، أقيم عليه الحد إذا أتى بأمر يعرف به صدقه [مثل أن] يعين السرقة ونحو ذلك، فإنه يحد، وإلا لم يحد في قطع ولا غيره، لأن الذي كان من إقراره أول مرة قد انقطع، وهذا كأنه إقرار حادث.
وإن أخرج السرقة أو القتيل في حال التهديد لم أقطعه ولم أقتله حتى يقر بعد ذلك آمناً.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/313).

ولو جاء ببعض المتاع وأتلف بعضه، لم أضمنه ما بقي إن جاء بأمر يعذر به في إقراره، وكذلك لا أضمنه الدية في القتل إذا جاء بوجه يعذر به.
ومن قامت عليه بينة بسرقة، لم أر للإمام أن يقول له: قل ما سرقت.
4039 - قال: قال مالك - رحمه الله - : ومن سرق في شدة البرد، فخيف عليه الموت إن قُطعت يده، فليؤخره الإمام إلى بعد ذلك.
قال ابن القاسم: وإن كان [في] الحر أمر يعرف [به] خوفه كالبرد، فأراه مثله.
4040 - ومن سرق وقتل عمداً، فإنه يقتل ولا يقطع، والقطع داخل في النفس.
ولو عفا عنه ولي المقتول، قطعته للسرقة.
وإن سرق وقطع يمين رجل، قطع للسرقة فقط، إذ هي أوكد، إذ لا عفو فيها، ولا شيء للذي قطعت يده، كما لو ذهبت يد القاطع بأمر من الله تعالى.
ولو سرق وقطع شمال رجل، قطعت يمينه للسرقة، وشماله قصاصاً، وللإمام أن يجمع ذلك عليه أو يفرق، بقدر ما يخاف عليه أو يأمن. وكذلك الحد والنكال يجتمعان على رجل.
4041 - وإذا اجتمع عليه حد لله تعالى وحد للعباد بدئ بالحد الذي هو لله تعالى، إذ لا عفو فيه. فإن عاش أخذ منه حد العباد، وإن مات بطل ذلك، ويجمع الإمام ذلك كله عليه، إلا أن يخاف عليه الموت، فيفرق ذلك عليه.
4042 - وإن أقر أنه سرق من فلان شيئاً، وكذبه فلان، فإنه يقطع بإقراره ويبقى المتاع له، إلا أن يدعيه ربه فيأخذه.
ولو قال [فلان] إن المتاع الذي أُخذ متاعه، أو قال: كان استودعنيه أو بعثه معي إليه رجل، لم يقبل ذلك، وقطع بإقراره.
4043 - ومن سرق من بيت المال أو من المغنم، وهو من أهل [ذلك] المغنم، قُطع. قيل: أليس له في المغنم حصة؟ قال: قال مالك: وكم تلك الحصة؟ٍ!.
ولا تقطع أم الولد إذا سرقت من مال سيدها، وكذلك العبد والمكاتب. والقطع في السرقة في الرجل والمرأة سواء.
4044 - وإذا شُهد على الأخرس بسرقة، قُطع، وكذلك إن أقر بوجه يعرف به إقراره وعين، قُطع وإلا لم يقطع.

ومن سرق سرقة فلم يقطع حتى ورثها، أو اشتراها، أو وُهبت له أو تُصدق بها عليه، فلا بد من قطعه.
وإن سرق متاعاً كان أودعه رجلاً فجحده إياه، فإن أقام بينة أنه كان استودعه هذا المتاع نفسه، لم يقطع.
4045 - ومن سرق سرقة لرجلين وأحدهما غائب، فإنه يقطع إن كانت قيمتها ثلاثة دراهم فأكثر، ويقضى للحاضر بنصف قيمتها إن كانت مستهلكة، ثم إن قدم الغالب والسارق عديم: فإن كان يوم القطع ملياً بجميع القيمة، رجع على الشريك بنصف ما أخذ واتبعا جميعاً السارق بنصف القيمة، وإن لم يكن معه يوم القطع إلا ما أخذ الشريك، رجع على الشريك بنصف ما أخذ ولم يتبعا السارق بشيء.
وهذا مثل ما قال مالك في الشريكين لهما دين على رجل، يقبض منه أحدهما حصته وصاحبه غائب ثم يقدم الغائب فيجد الغريم عديماً: فإنه يدخل مع صاحبه فيما كان أخذ.(1)
4046 - ومن ادعى على رجل أنه سرقه، لم أُحلّفه إلا أن يكون متهماً يوصف بذلك، فإنه يُحلف ويُهدد ويُسجن وإلا لم يعرض له، فإن كان من أهل الفضل وممن لا يشار إليه بهذا، أُدب الذي ادعى ذلك عليه. وقد تقدم في الشهادات ذكر المرأة تدعي أن فلاناً أكرهها.
ومن أقر أنه سرق من رجل ألف درهم بغير محنة ثم جحد، لم يقطع، ويغرم الألف لمدعيها. والله الموفق.
* * *

(كتاب المحاربين)(2)
4047 - [قال:] ومن حارب من أهل الذمة أو المسلمين، فأخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً ولم يقتلوا، فإن الإمام مخير: إن شاء قتل وإن شاء قطع.
قال مالك: ورب محارب لم يقتل، هو أخوف وأعظم فساداً في خوفه ممن قتل، فإذا نصب، وعلا أمره، وأخاف، وحارب ولم يقتل، وأخذ المال أو لم يأخذ مالاً، كان الإمام مخيراً [فيه]، إن شاء قتله أو قطع يده ورجله. ولا يجتمع مع القتل قطع ولا ضرب. ولا يضرب إذا قطعت يده ورجله.
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (3/241).
(2) انظر: جامع الأمهات لابن الحاجب المالكي (ص523)، ومختصر خليل (275).

قال مالك - رحمه الله - : وليس كل المحاربين سواءً منهم من يخرج بعصاً أو بخشبة وشبه ذلك، فيوجد على تلك الحال بحضرة الخروج، ولم يخف بالسبيل] ولم يأخذ المال، فهذا لو أخذ فيه بأيسر الحكم، لم أر به بأساً، وذلك الضرب والنفي ويسجن في الموضع الذي نفي إليه.
وليس للإمام أن يعفو عنه ولا عن أحد من المحاربين، ولكن يجتهد الإمام في ضربه ونفيه. وقد نفى عمر بن عبد العزيز محارباً أخذ بمصر، إلى شغب.
قال مالك - رحمه الله - : وقد كان يُنفى عندنا إلى فدك وخيبر، ويسجن في الموضع الذي نفي إليه، حتى تعرف له توبة.
قال: وإذا أخذه الإمام وقد قَتَل وأخذ المال وأخاف السبيل، فليقتله، ولا يقطع يده ولا رجله، والقتل يأتي على ذلك كله، وأما الصلب مع القتل، فذلك إلى الإمام [يصنع فيه] بأشنع ما يراه.
4048 - قال مالك: ولم أسمع أن أحداً صلب إلا عبد الملك بن مروان، فإنه صلب الحارث - الذي تنبأ - وهو حي، وطعنه بالحربة بيده. وكذلك يفعل بمن صُلب من المحاربين.
وحكم العبيد في الحرابة، مثل ما وصفنا في الأحرار، إلا أنه لا نفي على العبيد.
وحكم لمحارب فيما أخذ من المال من قليل أو كثير سواء، وإن كان أقل من ربع دينار، وإن قطعوا على المسلمين أو على أهل الذمة، فهم سواء، وقد قتل عثمان بن عفان مسلماً، قتل ذمياً على وجه الحرابة على مال كان معه.
4049 - وإذا أتى المحارب تائباً قبل أن يقدر عليه، سقط عنه ما يجب لله تعالى من حد الحرابة، وثبت ما للناس بعليه] من نفس أو جرح أو مال، ثم للأولياء القتل أو العفو فيمن قتل، وكذلك للمجروح في القصاص، وإن كانوا جماعة فقتلوا رجلاً، ولي أحدهم قتله وباقيهم عون له، فأُخذوا على تلك الحال، قُتلوا كلهم.
وإن تابوا قبل أن يؤخذوا، دُفعوا إلى أولياء المقتول، فقتلوا من شاءوا وعفوا عمن شاءوا، وأخذوا الدية ممن شاءوا. وقد قتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ربيئة كان ناظوراً للباقين.

وإذا ولي أحدهم أخذ المال وكان الباقون له قوة، ثم اقتسموا فتاب أحدهم ممن لم يل أخذ المال، فإنه يضمن جميع المال، ما أخذ في سهمه وما أخذ أصحابه.
وإذا أخذوا المال ثم تابوا وهم عُدم، فذلك عليهم دين. وإن أخذوا قبل أن يتوبوا فأقيم عليهم الحد، قُطعوا أو قتلوا ولهم أموال، أُخذت أموال الناس من أموالهم، وإن لم يكن لهم يومئذ مال، لم يتبعوا بشيء مما أخذوا كالسرقة.
4050 - وإن أخذهم الإمام وقد قتلوا وجرحوا وأخذوا الأموال، فعفى عنهم أولياء القتلى و[أهل] الجراح والأموال، لم يجز العفو ها هنا لأحد ولا للإمام، ولا يصلح لأحد أن يشفع فيه، لأنه حد لله تعالى بلغ الإمام.(1)
وإن تابوا قبل أن يقدر عليهم وقد قتلوا ذمياً، فعليهم ديته لأوليائه، إذ لا يقتل مسلم بذمي، ولو كانوا أهل ذمة أقيد منهم به، لأن النصراني يقتل بالنصراني، وتعرف توبة المحاربين من أهل الذمة، بترك ما كانوا فيه قبل أن يقدر عليهم.
4051 - وإن كان فيهم نساء، فلهم حكم الرجال في ذلك.
وأما الصبيان فلا يكونون محاربين حتى يحتلموا، وإن قطعوا الطريق إلى مدينتهم التي خرجوا منها فاخذوا، فهم محاربون.
4052 - وإذا قطع الإمام يد المحارب ورجله، ثم حارب ثانية فأخذه الإمام فرأى أن يقطعه، فليقطع يده الأخرى ورجله.
وإذا أخذ الإمام محارباً وهو أقطع اليد اليمنى، فأراد قطعه، فليقطع يده اليسرى ورجله اليمنى.
وإذا خرج محارب بغير سلاح ففعل فعل المحارب من التلصص وأخذ المال مكابرة، فهو محارب، ويكون الرجل الواحد محارباً.(2)
4053 - وتجوز على المحاربين شهادة من حاربوه إن كانوا عدولاً، لا سبيل إلى غير ذلك، شهدوا بقتل أو بأخذ مال أو غيره. ولا تقبل شهادة أحد منهم في نفسه، وتقبل شهادة بعضهم لبعض.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/301).
(2) انظر: المدونة الكبرى (15/152)، والتمهيد (14/391).

4054 - والمحاربون إذا أُخذوا ومعهم أموال، فادعاها قوم لا بينة لهم، فلتدفع إليهم بعد الاستناء في استبراء ذلك من غير طول، فإن لم يأت من يدعيها، دفعت إليهم بعد أيمانهم بغير حميل، ولكن يُضَمِّنَهم الإمام إياها إن جاء لذلك طالب ويُشهِد عليهم.
4055 - وإذا خرج تجار إلى أرض الحرب، فقطع بعضهم الطريق على بعض ببلد الحرب، أو قطعوها على أهل الذمة، [أو] دخلوا دار الحرب بأمان، فهم محاربون.
والخناقون والذين يسقون الناس السيكران ليأخذوا أموالهم محاربون.
ومن قتل أحداً قَتْل غيلة، فرفع إلى قاض يرى أن لا يقتله، وقضى بأن أسلمه إلى أولياء المقتول فعفوا عنه، فذلك حكم قد مضى، ولا يغيره من ولي بعده لما فيه من الاختلاف.
4056 - ومن دخل عل رجل في حريمه ليأخذ ماله، فهو كالمحارب.
وإن قامت بينة على محارب، فقتله رجل قبل أن تزكى البينة، فإن زُكيت أدبه الإمام، وإن لم تزكّ قُتل به.(1)
قال مالك: وجهاد المحاربين جهاد. والله الموفق.
* * *

(كتاب القذف)(2)
4057 - ومن شهد عليه أربعة أنه وطئ هذه المرأة ولا يدرون ما هي منه، فعليه الحد إلا أن يقيم بينة أنها زوجته أو أمته، أو يكونا طارئين، فلا شيء عليه، إذا قال: هي امرأتي أو أمتي، وأقرت له بذلك، إلا أن تقوم بينة بخلاف ما قال.
4058 - وإذا افترى ذمي على مسلم، حُد ثمانين.
ومن تزوج خامسة، أو امرأة طلقها ثلاثاً البتة قبل أن تنكح زوجاً غيره، أو أخته من الرضاعة أو النسب، أو شيئاً من ذوات المحارم [عليه]، عامداً عارفاً بالتحريم، أُقيم عليه الحد، ولم يلحق به الولد، إذ لا يجتمع الحد وثبات النسب.
4059 - وإن تزوج امرأة في عدتها، [أو على عمتها] أو خالتها، أو نكح نكاح متعة عامداً، لم يحد في ذلك وعُوقب.
وكل وطء درأت فيه الحد عن الرجل - وإن كان ذلك الوطء لا يحل - فعلى من قذفه الحد.
__________
(1) انظر: التقييد للزرويلي (6/262).
(2) انظر: جامع الأمهات (ص517)، ومنح الجليل (9/269).

4060 - ومن أقر أنه وطئ أمة رجل، أو قامت عليه بينة بذلك وادعى أنه ابتاعها منه وأنكر ذلك ربها، فإن لم يأت بالبينة على الشراء، حَدَدْته وحَدَدْت الأمة.
وإن أتى بامرأة تشهد على الشراء، لم يزل عنه الحد بذلك. وإن طلب الواطئ يمين السيد أنه لم يبعها منه، أحلفته له، فإن نكل حلف الواطيء، وقُضي له بها، ودرئ عنه الحد.
ومن وطئ امرأة وادعى نكاحها، وصدقته هي ووليها، وقالوا: عقدنا النكاح ولم نشهد، ونحن نريد أن نشهد الآن، فعلى الرجل والمرأة الحد، إلا أن تقوم بينة غير الولي.
وإن حددتهما وهما بكران، وأرادا أن يحدثا إشهاداً على ذلك النكاح ويقيما عليه، لم يجز حتى تُستبرأ من ذلك الماء، ثم يأتنفا نكاحاً إن أحبّا.
4061 - قال مالك - رحمه الله - : ومن دفع إلى امرأته نفقة سنة أو كسوتها، بفريضة قاض أو بغير فريضة، ثم مات أحدهما بعد يوم أو يومين، أو شهر أو شهرين، فلترد من بقية النفقة بقدر ما بقي من السنة.
وأستحسن في الكسوة أن لا ترد إذا مات أحدهما بعد أشهر، ولا تتبع المرأة فيها بشيء.
قال ابن القاسم: وأما إن ماتت بعد عشرة أيام ونحوها فهذا قريب، ووجه ما قال [مالك]، إذا مضى الأشهر.
4062 - وإذا وطئ أحد الشريكين أمة بينهما وهو عالم بتحريم ذلك، لم يحد لشبهة الملك، وعليه الأدب إن لم يعذر بجهل، ويخير الشريك إن لم تحمل بين أن تقوّم عليه أو يتماسك بحصته منها، فإن قومها عليه فلا صداق له، وإن تماسك فلا صداق له أيضاً ولا ما نقصها، لأن القيمة وجبت له فتركها [وتمسك] بنصيبه ناقصاً.
وإن حملت والواطيء مليء، فلا بد أن تقوم عليه يوم حملت، ولا شيء عليه من قيمة ولده، وتكون له أم ولد.

وإن كان معسراً خُير شريكه، فإن شاء تماسك بنصيبه واتبعه بنصف قيمة الولد، ولحق [الولد] بأبيه، وإن شاء أخذه بنصف قيمتها يوم حملت، وبيع ذلك النصف على الواطئ بعد أن تضع فيما لزمه من نصف قيمتها يوم حملت، فيأخذه شريكه [إن كان كفافاً لما لزم الواطئ]، ويتبعه بنصف قيمة الولد ديناً.
[قال:] وإن كان نقص ذلك من نصف قيمتها يوم حملت، أتبعه بالنقصان مع نصف قيمة الولد، ولو ماتت هذه الأمة قبل أن يحكم فيها، كان عليه نصف قيمتها مع نصف قيمة ولدها.
وإذا أعتق أحد الشريكين في الأمة حصته منها وهو مليء، ثم وطئها المتمسك بالرق قبل التقويم، لم يحد، لأن حصته في ضمانه قبل التقويم، ولا صداق عليه إن طاوعته ولا ما نقصها.
وإن أكرهها فعليه نصف ما نقص من قيمتها بلا صداق، لأن من اغتصب أمة فوطئها إنما عليه ما نقصها مع الحد.
وإن كان نصفها حراً فوطئها رجل مكرهة، فعليه الحد وعليه ما نقصها، يكون بينها وبين السيد، وكذلك أرش جراحها وأحكامها أحكام أمة.(1)
وإن جنت هي، خُيّر السيد: بين أن يسلم نصفها أو يفديه بنصف الأرش.
وأما مهرها الذي تتزوج به بإذن سيدها، فجميعه يكون موقوفاً بيدها كالفوائد. ويزوجها المتمسك بالرق برضاها دون الآخر.
4063 - قال مالك: وإن أعتق الشريكين في الأمة جميعها وهو مليء، لزم ذلك شريكه. قال ابن القاسم: ثم ليس لشريكه عتق حصته.
ولو وطئها الآخر بعد علمه بعتق المليء [لجميعها]، لحُدّ إن لم يعذر بجهل، فإن جهل أن عتق الشريك يلزمه، فلا حد عليه.
وإن كان المعتق لجميعها عديماً، لم يحد الواطئ بحال، ولو كان ملياً، ولم يؤخذ بالقيمة حتى أعدم، فإن علم الآخر بعتقه فتركه ولو شاء قام عليه فأخذه بذلك، فالعتق ماض، ويلزمه نصف القيمة ديناً، وإن كان غائباً أو لم يعلم بالعتق حتى أعسر المعتق، فهو على حقه منها.
__________
(1) انظر: المدونة (16/205).

4064 - ومن وطئ مكاتبته، فلا حد عليه: غصبها أو طاوعته، وينكل إن لم يعذر بجهل، وعليه ما نقصها إن اغتصبها، ولا صداق لها، وإن وطي مكاتبة بينه وبين رجل، فلا حد عليه.
4065 - ومن طلق امرأته قبل البناء طلقة [واحدة]، ثم وطئها بعد التطليقة، وقال: ظننت أنه لا يبينها مني إلا الثلاث، فلها صداق واحد، ولا حد عليه إن عذر بالجهالة.
ولو طلّقها بعد البناء ثلاثاً، ثم وطئها في العدة [أو أعتق أم ولده، ثم وطئها في العدة]، وقال: ظننت ذلك يحل لي، فإن عُذر بالجهالة لم يحد.
وكذلك من تزوج خامسة، أو أخته من الرضاعة وعذر بالجهالة في التحريم، لم يحد.
وليس على الذي وطئ في العدة بعد الطلاق البائن، أو العتق البتل، صداق مؤتنف، وذلك داخل في الملك الأول، كمن وطئ بعد حنثه فيهما ناسياً ليمينه أو لم يعلم بحنثه.
4066 - ومن ارتدت أم ولده، فوطئها وهو عالم أنها لا تحل له في حال ردتها، لم يحد.
ولو وطئ بملك يمينه من ذوات محارمه من يعتق عليه إذا ملكه، وهو عالم بتحريم ذلك، لم يحد للملك الذي له في ذلك، ويلحق به الولد، ولكن ينكل عقوبة موجعة، وتعتق ساعتئذ.(1)
4067 - وإذا شهد على امرأة بالزنا أربعة، أحدهم زوجها، ضُرب الثلاثة ولاعن الزوج، لأنه قاذف.
وقد تقدم في كتاب الحد في الزنا ذكر الشهادة على الشهادة في الزنا.
4068 - ومن قذف رجلاً بالزنا، فقال القاذف حين رفع إلى القاضي: أنا آتي بالبينة أنه زان، أُمكن من ذلك، ولا يجوز في ذلك إلا أربعة شهود.
ومن قال عند الإمام أو عند غيره: زنيت بفلانة، فإن أقام على قوله حُدّ للزنا وللقذف، وإن رجع [عن ذلك] حُد للقذف، وسقط عنه حد الزنا، ويقبل رجوعه، قال: أقررت لوجه كذا، أو لم يقل.
والمعترف بالزنا لا يكشف كما تكشف البينة، ويلزمه الحد رجماً كان أو جلداً، بإقراره مرة واحدة، ولا يقر أربع مرات، فإذا رجع أُقيل.
__________
(1) انظر: حاشية الدسوقي (4/414).

وكذلك إن رجع بعد ما أخذت الحجارة مأخذها، أو بعد أن ضُرب بعض الحد [أو أكثره] ثم رجع، فإنه يقال.
4069 - وإن ظهر بامرأة حمل، فقالت: تزوجني فلان، وهذا الحمل منه، فإن لم تقم بينة بالنكاح، حُدّت، ويحد الزوج إن صدقها ولا يلحق به الولد.
4070 - ومن زنى بأمه، أو أخته، أو بعمته، أو خالته، أو بذات [رحم] [محرم] منه، فعليه الحد، ولا يحد الأب إذا وطئ أمة ولده. وكذلك الجد لا يحد في أمة ولد ولده، لأنه كالأب في رفع القود وتغليظ الدية.
4071 - وكل من أُحلت له جارية أحلها له أجنبي، أو أحد من أقاربه، أو امرأته، فإنها ترد أبداً إلى سيدها إلا أن يطأها الذي أحلت له، فيدرأ عنه الحد بالشبهة، كان جاهلاً أو عالماً، وتلزمه قيمتها، حملت أو لم تحمل، وليس لربها التماسك بها بعد الوطء، بخلاف وطء الشريك، فإن كان له مال أخذ منه قيمتها، وإن كان عديماً وقد حملت كانت القيمة في ذمته، وإن لم تحمل بيعت عليه في ذلك، فكان له الفضل [وعليه] النقصان.
4072 - ومن أسلم ثم أقر أنه زنى في حال كفره، لم يحد، لأن ذلك زنا لا حد فيه.
وإن زنى مسلم بذمية، حُدّ وردت هي إلى أهل دينها.
وإن دخل مسلم دار الحرب بأمان، فزنى بحربية فقامت [عليه] بينة من المسلمين أو أقر بذلك، فعليه الحد.
4073 - وما أقر به العبد من قصاص أو حد لله تعالى يحكم به في بدنه، أقامه عليه الإمام بإقراره.
وإن أقر أنه جرح عبداً، فليس لسيد العبد المجروح إلا القصاص، وليس له أن يعفو عن العبد على أن يأخذه، لأن العبد يتهم حينئذ أنه أراد الخروج من يد سيده إلى هذا.
وكذلك إن أقر أنه قتل عبداً أو حراً، فإنما لسيد العبد وأولياء الحر القصاص، وليس لهم أن يستحيوه ويأخذوه.
4074 - ومن اجتمع عليه قصاص في بدنه للناس وحدود [لله]، بدئ بما هو لله تعالى، فإن كان فيه محمل، أقيم عليه ما للناس مكانه، وإن خيف عليه، أُخّر حتى يبرأ أو يقوى. وقد تقدم هذا.

4075 - وإن سرق وزنى وهو محصن، رجم ولم تقطع سيده، لأن القطع يدخل في القتل، ولا يتبع بقيمة السرقة إن كان معدماً.
وإن طرأ له ما لعلم أنه أفاده بعد السرقة بهبة أو غيرها، لم يأخذ منه المسروق شيئاً في قيمة سرقته، إلا أن يعلم أن هذا المال كان له يوم سرق، لأن اليد لم يترك قطعها وإنما دخل قطعها في القتل.
ومن أقر أو شهدت عليه بينة أنه زنى بعشر نسوة، أجزأه حد واحد.
وإن شهدوا عليه أنه زنى وهو بكر، ثم زنى بعد أن أحصن فإنما عليه الرجم ولا يجلد.
ومن حد لله أو قصاص اجتمع مع قتل، فالقتل يأتي على ذلك كله، إلا حد القذف فإنه يقام [عليه] قبل القتل، وذلك لحجة المقذوف من لحوق عار القذف به إن لم يحد له.
4076 - ومن عمل عمل قوم لوط، فعلى الفاعل والمفعول به الرجم، أُحصنا أو لم يحصنا، ولا صداق في ذلك في طوع أو إكراه.
4077 - وإن كان المفعول به مكرهاً أو صبياً طائعاً، لم يرجم، ورجم الفاعل، والشهادة فيه كالشهادة على الزنا.
4078 - وإن أتى امرأة أجنبية في دبرها، وليست له بزوجة ولا ملك يمين، أقيم عليه حد الزنا، وإن أكرهها فعليه المهر مع الحد.(1)
4079 - وإن أتى بهيمة، لم يحد ونكل، ولا تحرق البهيمة ولا يضمنها، ولا باس بأكل لحمها. وأنكر مالك الحديث: “إن غلّ أحرق رحله”.
ومن قال لرجل: يا لوطي، أو: يا عامل عمل قوم لوط، فعليه حد الفرية.
وإن قذفه ببهيمة أُدّب موجعاً ولم يحد، إذ لا يحد من أتى بهيمة.
وكل ما لا يقام فيه الحد، فليس على من رمى رجلاً بذلك حد الفرية.
ومن قذف رجلاً بالزنى، فعليه الحد، وليس له أن يحلف المقذوف أنه ليس بزان، وإن علم المقذوف من نفسه أنه كان [قد] زنى، فحلال له أن يحده.
4080 - ومن شهد عليه شاهد أنه قال يوم الخميس لفلان: يا زان، وشهد آخر أنه قال [له] يوم الجمعة: يا زان، فعليه الحد. وكذلك الطلاق والعتاق.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/291)، والقوانين الفقهية لابن جزي (233).

وإن شهد عليه رجل أنه قال يوم السبت: إن دخلت دار فلان فامرأتي طالق البتة، وشهد عليه آخر أنه حلف بتلك اليمين يوم الاثنين، فإنه إن حنث طلقت عليه بشهادتهما، ولو شهد واحد أنه طلق [عنده] امرأته في رمضان، وآخر في رجب، طلقت عليه.
وإن شهد واحد أنه قال: إن دخل دار فلان فامرأته طالق البتة، وشهد آخر أنه حلف: إن ركب دابة فلان فامرأته طالق البتة، وشهدت عليه بينة أنه دخل الدار وركب الدابة، لم تطلق عليه. والعتق [في] مثل هذا سواء.
ولو شهد شاهد على رجل أنه شج فلاناً موضحة، وشهد عليه آخر أنه أقر أنه شجه موضحة، قضي بشهادتهما، لأن الإقرار والفعل ههنا شيء واحد، ولو اختلف الفعل والإقرار، لم يقض بشهادتهما.
ولو شهد عليه رجل أنه ذبح فلاناً ذبحاً، وقال آخر: أشهد أنه أقر عندي أنه أحرقه بالنار، فالشهادة باطلة.
4081 - ومن قذف جماعة في مجلس، أو مفترقين في مجالس شتى، فعليه حد واحد.
فإن قام به أحدهم فضرب له، كان ذلك الضرب لكل قذف كان قبله، ولا يحد لمن قام به منه بعد ذلك، وليس في حد القذف عفو إذا بلغ الإمام، أو صاحب الشرط أو الحرس، إلا أن يريد المقذوف ستراً.
وأما النكال والتعزير، فيجوز فيه العفو والشفاعة وإن بلغ الإمام.
وقد قال مالك - رحمه الله - فيمن يجب عليه التعزير أو النكال، وانتهى إلى الإمام، قال: إن كان من أهل العفاف والمروءة وإنما هي طائرة منه، تجافى السلطان عن عقوبته، وإن عرف بالأذى ضربه النكال.
4082 - ومن عفا عن قاذفه قبل بلوغ الإمام ولم يكتب عليه بذلك كتاباً، فلا قيام له بعد ذلك، وكذلك إن عفا في النكال.
4083 - ويجوز العفو في القصاص الذي للناس بعد بلوغ الإمام.
ومن قال لرجل: يا مخنث، فرفعه إلى الإمام حُدّ، إلا أن يحلف أنه لم يرد قذفاً، فإن حلف أُدّب ولم يحد.
4084 - ولا يقوم بالقذف إلا المقذوف.

وإن شهد قوم على رجل أنه قذف فلاناً وفلان يكذبهم، ويقول: ما قذفني، لم تجز شهادتهم، إلا أن يكون المقذوف هو الذي أتى بهم وادعى ذلك، ثم أكذبهم بعد أن شهدوا عند السلطان، أو قال: ما قذفني، فإنه حَدّ وجب لا يزيله هذا، بمنزلة عفوه، ويضرب القاذف الحد، وإن قالت البينة بعد ما وجب الحد: ما شهدنا إلا بزور، دُرئ الحد [عنه].(1)
4085 - وإذا شهد رجل على رجل بشرب الخمر أو بالزنا، وقال للقاضي: أنا آتيك بشهود على ذلك، فإن ادعى أمراً قريباً في الحضر، حُبس هو والمشهود عليه، ولا يؤخذ في هذا كفيل، وقيل له: ابعث إلى من يشهد معك، فإن أتى بمن يشهد معه أقيم على المشهود عليه الحد في الخمر، وإن لم يأت به أو ادعى شهادة بعيدة، لم ينتظر ونُكّل. وأما في الزنا فلا يخرجه من حد القذف، إلا أن يأتي بأربعة سواه.
وكذلك لو قذفه بالزنا قاذف، ثم جاء هو وثلاثة يشهدون، فإنهم يحدون [أجمعون].
4086 - ومن قال لرجل: يا سارق، على وجه المشاتمة، نُكل. فأما إن قال له: سرقت متاعي، ولا بينة له، وكان الذي قيل له ذلك من أهل التهم، فلا شيء عليه، وإن شهد عليه [شاهد] أنه سرق متاع فلان، حلف صاحب المتاع واستحقه، ولم يقطع السارق بشهادة واحد، وإن لم يكن للسرقة طالب، مثل أن يقول: رأيته دخل داراً فأخذ منها شيئاً، فإن كان الشاهد عدلاً، لم يعاقب وإلا عوقب، إلا أن يأتي بالمخرج من ذلك.
4087 - وتجوز كتب القضاة إلى القضاة في الحدود والقصاص والأموال.
4088 - ومن قال لأجنبية: زنيت [وأنت صبية، أو زنيت] وأنت نصرانية، أو قال ذلك لرجل، فعليه الحد، لأنه لا يخلو أن يكون قاذفاً أو معرضاً.
__________
(1) انظر: مواهب الجليل (6/305)، والمدونة الكبرى (16/216).

4089 - وكذلك لو قال لهما: رأيتكما تزنيان في حال الصبا، أو في حال كفر تقدم، أو قذفهما بالزنا قذفاً، [ثم] أقام بينة أنهما زنيا في حال الصبا، أو في حال كفر تقدم [منهما، لم ينفعه ذلك] ويحد، لأن هذا لا يقع عليه اسم زنا.
ومن قال لعبد وأمة قد عتقا: زنيتما في حال رقكما، أو قال لهما: يا زانيان، ثم أقام بينة أنهما زنيا في حال الرق، لم يحد، لأن اسم الزنا في الرق لازم لهما، وإن لم يُقم البينة، حُد.
4090 - ومن قال لزوجته: زنيت وأنت مستكرهة، أو قال ذلك لأجنبية، فإنه يلاعن الزوجة، ويحد للأجنبية.
ولو جاء في هذا ببينة، لم يحد وإن لم يلحقها بالاستكراه اسم الزنا، لأنه علم أنه لم يرد إلا أن يخبر بأنها قد وُطئت غصباً.
ومن عرض بالزنا لامرأته ولم يصرح بالقذف، ضرب الحد إن لم يلتعن. ويكون الذي قذف التي أسلمت أو التي أعتقت، أو الصغيرة التي قد بلغت، أو امرأته، قاذفاً حين تكلم بذلك.
ومن قال لامرأة قد أسلمت: كنت [قد] قذفتك في نصرانيتك بالزنا، فإن كان إنما سألها العفو متمخياً، أو أخبر بذلك أحداً على وجه الندم على ما مضى من ذلك، فلا شيء عليه، وإن لم يقل ذلك لوجه يعذر به، فعليه الحد.
4091 - ومن قذف ميتاً كان لولده، وولد ولده، ولأبيه، وجده لأبيه أن يقوموا بذلك، ومن قام منهم أخذه بحده، وإن كان ثم من هو أقرب منه،لأنه عيب يلزمهم.(1)
وليس للإخوة وسائر العصبة قيام مع هؤلاء، فإن لم يكن من هؤلاء أحد، فللعصبة القيام، وللأخوات وللجدات القيام بالحد، إلا أن يكون له ولد.
وإن لم يكن لهذا المقذوف وارث، فليس للأجنبي أن يقوم بحده، وأما الغائب فليس لولد ولا لغيره، القيام بقذفه إلا أن يموت، وإن مات ولا وارث له فأوصى بالقيام بقذفه، فلوصيه القيام به.
__________
(1) انظر: التاج والإكليل (6/305).

4092 - وإذا قذفت امرأة ميتة أو غائبة، فقام بحدها ولد، أو ولد ولد، أو أخ، أو أخت، أو ابن أخ، أو عم، أو أب، فأما في الموت فيمكن من ذلك، وأما في الغيبة فلا.
4093 - ومن وطئ أمة له مجوسية، أو امرأته وهي حائض، فقذفه رجل، فعليه الحد.
4094 - ومن قذف بالزنا صبياً لم يحتلم، فلا حد عليه، وإن كان مثله يطأ.
وإن قذف بذلك صبية لم تبلغ المحيض ومثلها يوطأ، فعليه الحد.
ولا يحد الصبي والصبية في الزنا أو غيره من الحدود، حتى يحتلم الغلام وتحيض الجارية، أو يتأخر ذلك حتى يبلغا سناً لا يبلغه أحد إلا رأى ذلك، من احتلام أو حيض، فإن أنبت الغلام، وقال: لم أحتلم، ويمكن فيمن بلغ سنه أن [لا] يحتلم، فلا يحد حتى يحتلم أو يبلغ سناً لا يبلغه أحد لا احتلم.
4095 - ومن قذف عبداً أو أم ولد، أُدّب.
ومن قذف ذمياً، زُجر عن أذى الناس [كلهم].
ومن قذف نصرانية، ولها بنون مسلمون أو زوج مسلم، نكل بإذايته المسلمين.
وكل من فيه علقة رق إذا زنا أو قذف، فحده حد العبيد.(1)
4096 - ويؤخذ المحارب إذا تاب، بما قذف في حال حرابته وبحقوق الناس.
وإذا قذف حربي في دار الحرب مسلماً، ثم أسلم الحربي بعد ذلك أو أسر فصار عبداً، لم يحد للقذف، ألا ترى أن القتل موضوع عنه.
ويقطع الذمي إذا سرق، ولا يحد إذا زنى. وقد تقدم هذا.
وإذا أتى حربي بأمان فقذف مسلماً، فإنه يحد.
4097 - ومن قال لامرأته: يا زانية، فقالت له: زنيت بك، حُدت للزنا وللقذف، إلا أن ترجع عن الزنا فتحد للقذف فقط، ولا يحد الرجل، لأنها صدّقته.
ومن قال لرجل: يا فاجر، [أو] يا فاسق، أو قال [له]: يا ابن الفاجرة أو يا ابن الفاسقة، فعليه في ذلك النكال.
وإن قال له: يا خبيث، حلف ما أراد [بذلك] القذف ونكل، فإن لم يحلف، لم يحد ونكل.
__________
(1) انظر: المدونة الكبرى (16/221)، ومواهب الجليل (6/302)، والتاج والإكليل (6/298).

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8